فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال)) . رواه البخاري. وسنذكر حديث جابر بن سمرة في باب الضحك إن شاء الله تعالى.
{الفصل الثاني}
956- (11) عن معاذ بن جبل، قال: ((أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لأحبك يا معاذ! فقلت:
وأنا أحبك يا رسول الله! قال: فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام. وسيأتي الكلام في ذلك. وفي الحديث أنه لا بأس بحضور النساء الجماعة في المسجد. (رواه البخاري) باللفظ المذكور في "باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس". وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة. قوله: (وسنذكر حديث جابر بن سمرة) يعني الذي ذكره صاحب المصابيح هنا بلفظ: كان يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى يطلع الشمس، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية. (أي يتحدثون بما جرى قبل الإسلام) فيضحكون ويبتسم. (في باب الضحك) قال القاري: لا يخفى أن إبقاءه في هذا الباب أولى من تغيير المصنف المفتقر إلى الاعتذار المتضمن للاعتراض، فإن الحديث الطويل إذا كان مشتملاً على أمور مختلفة يصلح لكل باب إيراده فيه لمناسبة أمر ما، ولهذا أورد البخاري حديثاً واحداً في أبواب كثيرة في كتابه، مع أن أول هذا الحديث أولى بهذا المقام-انتهى. قلت: صنيع المصنف أي تغييره وإيراده حديث جابر بن سمرة في باب الضحك أولى من صنيع البغوي، فإنه لا تعلق له بالدعاء في التشهد صراحة بخلاف الضحك، فإنه مذكور فيه صريحاً فهو أنسب وأولى بباب الضحك.
956- قوله: (إني لأحبك يا معاذ) فيه مزيد تشريف منه - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه، وترغيب له فيما يريد أن يلقى عليه من الذكر. (قال فلا تدع) نهى عن ودعه إلا أنه هجر ماضيه في الأكثر استغناء عنه بترك، وقد ورد قليلاً، وقرئ: {ما ودعك ربك} [93: 3] أي إذا كنت تحبني، أو إذا كان بيني وبينك محاببة، أو إذا أردت ثبات هذه المحبة فلا تترك، والنهي أصله التحريم، فيدل على وجوب الدعاء بهذه الكلمات، وقيل: إنه نهي إرشاد. (أن تقول في دبر كل صلاة) أي في آخرها قبل الخروج منها؛ لأن دبر الحيوان منه. وقيل: أي عقبها وخلفها؛ لأن دبر الصلاة بعدها قال في القاموس: الدبر- بضمتين- نقيض القبل ومن كل شيء عقبه. وإيراد المصنف هذا الحديث في الباب المشتمل على الدعاء في التشهد يدل على أنه أراد المعنى الأول، ويؤيده رواية أحمد بلفظ: "إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل(3/305)
رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) . رواه أحمد وأبو داود والنسائي، إلا أن أباداود لم يذكر: قال معاذ: وأنا أحبك.
957- (12) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه: السلام عليكم
ورحمة الله، حتى يرى بياض خده الأيمن، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صلاة"، ورواية النسائي بلفظ: "فلا تدع ن تقول في كل صلاة"، لكن يشكل عليه إيراده لأدعية وأذكار مقيدة بذلك في باب الذكر بعد الصلاة كحديث المغيرة، وحديث أبي هريرة، وحديث كعب بن عجرة، ونحو ذلك. (رب أعني على ذكرك) قال الطيبي: هو قريب من معنى حديث ربيعة بن كعب في باب السجود حين سأل مرافقته - صلى الله عليه وسلم -، فقال "أعني على نفسك بكثرة السجود"، حيث على المحبة به بملازمة الذكر، والمرافقة بكثرة السجود، فقوله: "أعني على ذكرك" المطلوب منه شرح الصدر، وتيسير الأمر، وإطلاق اللسان، وإليه يلمح قول الكليم عليه الصلاة والسلام: {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي} [20: 25- 27] إلى قوله: {كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً} [20: 33، 34] ، وقوله: (وشكرك) المطلوب منه توالي النعم المستجلبة لتوالي الشكر، وإنما طلب المعاونة عليه؛ لأنه عسر جداً، ولذلك قال تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} [34: 13] . وقوله: (وحسن عبادتك) المطلوب منه التجرد عما يشغله عن الله، ويلهيه عن ذكر الله وعن عبادته ليتفرغ لمناجاة الله كما أشار إليه سيد المرسلين صلوات الله عليه: "وقرة عيني في الصلاة" وأخبر عن هذا المقام بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه"-انتهى. ووجه تخصيص الوصية بهذه الكلمات أنها مشتملة على جميع خير الدنيا والآخرة. (رواه أحمد) (ج5: ص244، 245، 247) . (وأبوداود والنسائي) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحافظ في بلوغ المرام: سنده قوي. وقال النووي: إسناده صحيح، ذكره ميرك. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. قال الشوكاني: وهذا الحديث مسلسل بالمحبة كما ذكرته في إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر.
957- قوله: (كان يسلم عن يمينه) أي مجاوزاً نظره عن يمينه كما يسلم على من في يمينه. (السلام عليكم ورحمة الله) إما حال مؤكده، أي يسلم قائلاً: "السلام عليكم" أو جملة استئنافية على تقدير "ماذا كان يقول". (حتى يرى بياض خده الأيمن) بضم الياء المثناة من تحت من قوله: "يرى" مبنياً للمجهول، و"بياض" بالرفع على النيابة و"الأيمن" بالجر على أنه صفة لخده. (وعن يساره) فيه مشروعية تسليمتين للخروج عن الصلاة، وأن يكون التسليم أولاً إلى جهة اليمين ثم إلى جهة اليسار. (السلام عليكم ورحمة الله) قال الحافظ في التلخيص (ص104) : وقع في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود زيادة: "وبركاته"، وهي عند ابن ماجه أيضاً، وهي عند أبي داود أيضاً في حديث وائل بن حجر فيتعجب من ابن الصلاح(3/306)
حتى يرى بياض خده الأيسر)) . رواه أبوداود والنسائي والترمذي، ولم يذكر الترمذي: حتى
يرى بياض خده.
958- (13) ورواه ابن ماجه، عن عمار بن ياسر.
959- (14) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كان أكثر انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته إلى شقه الأيسر إلى حجرته))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حيث يقول: إن هذه الزيادة ليست في شيء من كتب الحديث-انتهى. قلت: حديث وائل بن حجر بزيادة "وبركاته" قد سكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في بلوغ المرام بعد ذكره: "رواه أبوداود بإسناد صحيح" ولكن ليس فيه زيادة "وبركاته" إلا في اليمين فقط. وأما رواية ابن ماجه لحديث ابن مسعود بزيادة "وبركاته" فليست موجودة في نسخ السنن التي بأيدينا من طبعات الهند ومصر، فكلها خالية عن هذه الزيادة. ونقل الأمير اليماني عن الحافظ: أن ابن رسلان قال في شرح السنن: لم أجدها في ابن ماجه. وهذا يؤيد النسخ الموجودة الحاضرة عندنا إلا أنه قال الأمير اليماني: راجعنا سنن ابن ماجه من نسخة صحيحة مقروءة فوجدنا فيه ما لفظه: باب التسليم حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير: حدثنا عمر بن عبيد، عن ابن إسحاق، عن الأحوص، عن عبد الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته-انتهى بلفظه. وهذا يؤيد ما ذكره الحافظ في التلخيص من رواية ابن ماجه لهذه الزيادة في حديث ابن مسعود، وهذا كله يدل على اختلاف نسخ ابن ماجه في ذكر هذه الزيادة، وكيف ما كان الأمر لا عذر عن القول بها بعد صحة إسناد حديث وائل، وثبوتها عند ابن حبان، إذ هي زيادة عدل غير منافية، وعدم ذكرها في رواية غيره ليست رواية لعدمها، ولما ذكر النووي أن زيادة "وبركاته" فردة، ساق الحافظ في "تلقيح الأفكار تخريج الأذكار" طرقاً كثيرة لهذه الزيادة، وقال بعد أن ساق تلك الطرق: فهذه عدة طرق تثبت بها "وبركاته"، بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ أنها رواية فردة-انتهى. (رواه أبوداود والنسائي والترمذي) وصححه وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والدارقطني وابن حبان، وله ألفاظ، وأصله في صحيح مسلم. قال العقيلي: الأسانيد صحاح ثابتة في حديث ابن مسعود في تسليمتين، ولا يصح في تسليمة واحدة شيء. (ولم يذكر الترمذي حتى يرى بياض خده) أي في الوجهين.
958- قوله: (ورواه ابن ماجه عن عمار بن ياسر) أي لا عن ابن مسعود، وهذا من أوهام المصنف، فإن ابن ماجه رواه عن ابن مسعود وعمار كلتيهما، وحديث عمار أخرجه أيضاً الدارقطني، قال السندي: إسناده حسن.
959- قوله: (كان أكثر انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته إلى شقه الأيسر إلى حجرته) قال الطيبي: كان باب(3/307)
رواه في شرح السنة.
960- (15) وعن عطاء الخراساني، عن المغيرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلي الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حجرته مفتوحاً إلى المسجد عن يسار المحراب، فهو ينصرف إلى جانب يساره ويدخل حجرته. (رواه) أي البغوي. (في شرح السنة) قال ميرك نقلاً عن التصحيح: حديث ابن مسعود هذا ليس من الكتب، ورواه صاحب المصابيح في شرح السنة، ولكن يؤيده ما قدمنا من حديث ابن مسعود عند مسلم بلفظ: أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله. زاد أبوداود في روايته: قال عمارة. (أي ابن عمير راوي الحديث عن الأسود عن عبد الله) : أتيت المدينة بعد. (أي بعد سماع الحديث من الأسود) فرأيت منازل النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أي بيوته) عن يساره. (أي عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال أداء الصلاة، فقد بين عمارة وجه انصرافه إلى جانب اليسار، بأن حاجته كانت إلى جهة اليسار.
960- قوله: (عن عطاء الخراساني) هو عطاء بن أبي مسلم أبوأيوب أو أبوعثمان نزيل الشام، واسم أبيه ميسرة. وقيل: عبد الله، صدوق يهم كثيراً، ويرسل، ويدلس، قال الطبراني: لم يسمع من الصحابة إلا من أنس، فهو من صغار التابعين. مات سنة خمس وثلاثين ومائة، لم يصح أن البخاري أخرج له، كذا في التقريب، وقد وثقه ابن معين، وأبوحاتم والدارقطني، وقال النسائي: ليس به بأس، روى عنه مالك وغيره. (عن المغيرة) بن شعبة. (لا يصلي) نفي بمعنى النهي. (الإمام) ليس التقييد بالإمام لتخصيصه بذلك بل يعم المأموم والمنفرد، والدليل على ذلك ما رواه أحمد وأبوداود وابن ماجه عن أبي هريرة رفعه: أيعجز أحدكم أن يتقدم أو يتأخر، أو عن يمينه أو عن شماله في الصلاة يعني في السبحة. فسوق هذا الحديث يقتضي العموم، كيف والخطاب مع المقتدين، وكان - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام يومئذٍ. (في الموضع الذي صلى) أي الفرض. (فيه حتى يتحول) أي ينتقل إلى موضع، وهذا جاء للتأكيد، فإن قوله: "لا يصلي في موضع صلى فيه" أفاد ما أفاده. وعند ابن ماجه: لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه. وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي، قال: من السنة: أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه. قيل: نهى عن ذلك لئلا يتوهم أنه بعد في المكتوبة، يعني أنه كره ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة كما يشير إليه حديث معاوية عند مسلم، وسنذكر لفظه، وقيل: العلة في ذلك أن يشهد له الموضعان بالطاعة، ولذلك يستحب تكثير محال العبادة، فإن مواضع السجود تشهد له كما في قوله تعالى: {يومئذ تحدث أخبارها} [99: 4] أي تخبر بما عمل عليها، وهذه العلة تقتضى أن ينتقل إلى الفرض من موضع نفله، وأن ينتقل لكل صلاة يفتحها من أفراد النوافل، فإن لم ينتقل فينبغي أن يفصل بالكلام لما روى مسلم عن السائب: أنه صلى مع معاوية الجمعة، فتنفل بعدها في مقامه، فقال له معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو(3/308)
رواه أبوداود، وقال: عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة.
961- (16) وعن أنس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضهم على الصلاة، ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من
الصلاة)) رواه أبوداود.
{الفصل الثالث}
962- (17) عن شداد بن أوس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في صلاته:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تخرج، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج. (رواه أبوداود) . وأخرجه أيضاً ابن ماجه. (وقال) أي أبوداود. (عطاء الخراساني) مبتدأ، خبره قوله: (لم يدرك المغيرة) بن شعبة أي فسنده منقطع. قال المنذري: وما قاله أبوداود ظاهر، فإن عطاء الخراساني ولد في السنة التي مات فيها المغيرة بن شعبة، وهي سنة خمسين من الهجرة على المشهور، أو يكون ولد قبل وفاته بسنة على القول الآخر-انتهى. وقال البخاري في صحيحه: قال لنا آدم حدثنا شعبة، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي في مكان الذي صلى فيه الفريضة، وفعله القاسم ويذكر عن أبي هريرة رفعه: لا يتطوع الإمام في مكانه، ولم يصح-انتهى. قال الحافظ: ذكر البخاري حديث أبي هريرة بالمعنى، ولفظه عند أبي داود: أيعجز أحدكم؟ ... فذكر مثل ما ذكرنا. قال: وقوله: "لم يصح" هو كلام البخاري، وذلك لضعف إسناده واضطرابه، تفرد به ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، واختلف عليه فيه، وقد ذكر البخاري الاختلاف فيه في تاريخه، وقال: ولم يثبت هذا الحديث –انتهى. قلت: قد ثبت التنحي في حديث معاوية عند مسلم بقوله "أو نخرج" وفي حديث على عند ابن أبي شيبة بقوله: من السنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه. وهذا يكفي لإثبات استحباب التطوع في غير موضع المكتوبة.
961- قوله: (حضهم) أي حثهم. (على الصلاة) أي على ملازمة صلاة الجماعة أو مطلق الصلاة والإكثار منها. (ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة) قال الطيبي: علة نهيه عليه الصلاة والسلام أصحابه عن انصرافهم قبله أن تذهب النساء اللاتي يصلين خلفه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يثبت في مكانه حتى ينصرف النساء، ثم يقوم، ويقوم الرجال، قال ميرك: ويحتمل أن المراد من الانصراف هو الخروج من الصلاة قبل خروجه بالسلام-انتهى. قلت: ويؤيد ما ذكره الطيبي في بيان العلة حديث أم سلمة آخر أحاديث الفصل الأول، فهو المتعين والمعتمد. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، ورواه أحمد (ج3:ص240) من غير طريق أبي داود بأتم منه، وكذا رواه أبوعوانة في صحيحه (ج2:ص251) بتمامه.
962-قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في صلاته) أي بعد التشهد، قاله القاري. وقال ابن حجر: أي في(3/309)
اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن
عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذبك من
شر ما تعلم. وأستغفرك لما تعلم)) رواه النسائي. وروى أحمد نحوه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آخرها. وقال الشوكاني: هذا الدعاء ورد مطلقاً في الصلاة غير مقيد بمكان مخصوص-انتهى. قلت: وعند أحمد في رواية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا كلمات ندعو بهن في صلاتنا، أو قال: في دبر صلاتنا. (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر) أي الدوام على جميع أمور الدين ولزوم الاستقامة عليها. قال الشوكاني: سؤال الثبات في الأمر من جوامع الكلم النبوية؛ لأن من ثبته الله في أموره عصم عن الوقوع في الموبقات ولم يصدر منه أمر خلاف ما يرضاه الله. (والعزيمة على الرشد) العظيمة عقد القلب على إمضاء الأمر، يقال "عزم الأمر وعليه" عقد ضميره على فعله، وعزم الرجل، جد في الأمر، و"الرشد" بضم الراء المهملة وإسكان الشين المعجمة-بمعنى الصلاح، والفلاح، والصواب، والاستقامة على طريق الحق. قيل: المراد لزوم الرشد ودوامها وفي رواية الترمذي: أسألك عزيمة الرشد، يعنيي الجد في أمر الرشد بحيث ينجز كل ما هو رشد من أموره. (وأسألك شكر نعمتك) أي التوفيق لشكر إنعامك. (وحسن عبادتك) أي إيقاعها على الوجه الحسن المرضى. (وأسألك قلباً سليماً) أي من العقائد الفاسدة، والميل إلى الشهوات العاجلة ولذاتها ويبلغ ذلك الأعمال الصالحات، إذ من علامة سلامة القلب تأثيرها إلى الجوارح، كما أن صحة البدن عبارة عن حصول ما ينبغي من استقامة المزاج، والتركيب، والاتصال، ومرضه عبارة عن زوال أحدهما. وقيل: المراد سليماً من الغل، والغش، والحقد، والإحن وسائر الصفات الرديئة، والأحوال الدنية. (ولساناً صادقاً) أي محفوظاً من الكذب ونسبة الصدق إلى اللسان مجاز بأن لا يبرز عنه إلا الحق المطابق في الواقع. (وأسألك من خير ما تعلم) قال الطيبي: "ما" موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف، ومن يجوز أن تكون زائدة على مذهب من يزيدها في الإثبات، أو بيانية والمبين محذوف، أي أسألك شيئاً هو خير ما تعلم، أو تبعيضية سأله إظهاراً لهضم النفس، وأنه لا يستحق إلا يسيرا من الخير. (وأستغفرك لما تعلم) أي لأجل ما تعلمه من الذنوب، والتقصيرات. وفي الترمذي "مما تعلم" أي مني من تفريط، وزاد الترمذي: إنك أنت علام الغيوب. قال الشوكاني: قوله "من خير ما تعلم" هو سؤال لخير الأمور على الإطلاق؛ لأن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء، وكذلك التعوذ من شرما يعلم، والاستغفار لما يعلم، فكأنه قال: أسألك من خير كل شيء، وأعوذ بك من شر كل شيء، وأستغفرك لكل ذنب. (رواه النسائي) من طريق سعيد بن أياس الجريري، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن شداد بن أوس. قال الشوكاني في النيل: رجال إسناده ثقات. (وروى أحمد نحوه) (ج4:ص125) أي من طريق الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن الحنظلي، عن شداد بن(3/310)
963- (18) وعن جابر، قال. ((كان رسول الله يقول في صلاته بعد التشهد: أحسن الكلام كلام
الله، وأحسن الهدى هدي محمد))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أوس، ومن هذا الطريق رواه الترمذي في الدعوات، وفي طريقهما رجل حنظلي وهو مجهول، وقد أورده الحافظ في "فصل من أبهم ولكن ذكر نسبه" من "التعجيل" (ص535) لهذه الرواية ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وزيادة الرجل الحنظلي بين أبي العلاء وبين شداد بن أوس يدل على أن في سند النسائي انقطاعاً، وقد رواه أيضاً أحمد من طريق الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن شداد بن أوس، والحاكم من طريق عكرمة بن عمار، عن شداد أبي عمار، عن شداد بن أوس. وهذا الطريقان كما ترى ليس فيهما انقطاع، ولا رجل مجهول، ولذلك قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين: وصححه أيضاً ابن حبان: فلا وجه لما قاله العراقي: أنه منقطع وضعيف، بعد تصحيح هذين الإمامين له-انتهى.
963- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) أي أحياناً. (أحسن الهدي هدى محمد) الهدي- بفتح فسكون- السيرة والطريقة والهيئة، والحديث ظاهر في معناه، وأن الذكر المذكور فيه مشروع في الصلاة بعد التشهد قبل السلام وهو الذي فهمه النسائي حيث أورد الحديث في باب "نوع آخر من الذكر بعد التشهد"، وتبعه الجزري في "جامع الأصول"، لكن أبدي الشيخ الألباني احتمال أن المراد به الذكر الوارد في خطبة الحاجة المعروفة بعد الشهادتين، حيث قال في تعليقه: قوله: "في صلاته" أي دعائه وثنائه على الله، وقوله "بعد التشهد" أي في خطبته، قال: ويبدو لي أنه أي هذا الحديث مختصر من حديث جابر الذي رواه مسلم بهذا الإسناد الذي في النسائي: عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، ويقول: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد" الحديث. ورواية له بلفظ: كان يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: " من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله" الحديث. فقوله "يحمد الله" الخ. إشارة إلى خطبة الحاجة المعروفة "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ... من يهده الله فلا مضل له ... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" فهذا هو التشهد الذي عناه الراوي في حديث جابر هذا، وذلك من الاختصار المخل. والله أعلم- انتهى. واعلم أنه قد ورد في الدعاء بعد التشهد ألفاظ وأدعية غير ما ذكر كما لا يخفى على من له إطلاع على أحاديث الباب، وللرجل أن يدعوا بأي لفظ شاء من مأثور وغيره مما أحب من مطالب الدنيا والآخرة، ولا حرج عليه بما شاء دعا ما لم يكن إثم أو قطيعة رحم، ولا يدعوا بدنياه إلا على تثبت من الجواز، هذا هو الصحيح إن شاء الله لظاهر الأحاديث، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم ليتخير من الدعاء. وقال: ثم يدعوا لنفسه بما بدأ له. وقال: ثم يدعو بعد بما شاء.(3/311)
رواه النسائي.
964- (19) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم في الصلاة تسليمة
تلقاء وجهه، ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئاً)) رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإليه ذهب مالك، والشافعي، قالا: يجوز أن يدعوا بكل شيء من أمور الدين والدنيا مما يشبه كلام الناس ما لم يكن إثماً، ولا يبطل صلاته بشيء من ذلك. واحتج لهما بحديث: سلوا الله حوائجكم حتى الشسع لنعالكم، والملح لقدوركم. وقال أحمد وأبوحنيفة: لا يدعوا إلا بالأدعية المأثورة، أو الموافقة للقرآن العظيم، أو التي شابهت الألفاظ المأثورة. قال ابن قدامة: والخبر محمول على أنه يتخير من الدعاء المأثورة وما أشبه- انتهى. قلت: لا دليل على هذا التقييد لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، ولا من قول صحابي فلا يلتفت إليه. (رواه النسائي) ورجاله ثقات.
946- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم في الصلاة تسليمة تلقاء وجهه) أي يبتدئ بها وهو مستقبل القبلة، قاله ابن حجر. وقال القاري: أي يبدأ بالتسليم محاذاة وجهه ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئاً أي يسيراً. والحديث فيه دليل على مشروعية التسليمة الواحدة في الصلاة، وقد تقدم ذكر من ذهب إلى ذلك. والحديث ضعيف كما ستعرف. والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن المشروع والمسنون تسليمتان لكثرة الأحاديث الواردة بالتسليمتين، وصحة بعضها، وحسن بعضها، واشتمالها على الزيادة، وكونها مثبتة، بخلاف الأحاديث الواردة بالتسليمة الواحدة، فإنها مع قلتها ضعيفة لا تنتهض للاحتجاج، ولو سلم انتهاضها لم تصلح لمعارضة أحاديث التسليمتين لما عرفت من اشتمالها على الزيادة، مع أنه يحتمل أن يكون المقصود من أحاديث التسليمة الواحدة بيان أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالتسليمة الواحدة ورفع بها صوته ويسمعهم التسليمة الواحدة، لا أنه يقتصر على التسليمة الواحدة. فمعنى هذه الأحاديث يرجع إلى أنه يسمعهم التسليمة الواحدة يدل على ذلك ما وقع في رواية لأحمد في قصة صلاة الليل: ثم يسلم تسليمة واحدة "السلام عليكم" يرفع بها صوته حتى يوقظنا. وما وقع في حديث ابن عمر عند أحمد: قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفصل بين الشفع والوتر بتسليمة يسمعناها. وقيل: إن التسليمة الواحدة كانت منه - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان في صلاة الليل، والصحابة الذين رووا عنه التسليمتين إنما يحكون التسليم الذي رأوه في صلاته في المسجد وفي الجماعة، قيل: يمكن أنه اقتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على التسليمة الواحدة في بعض الأحيان في صلاته بالجماعة في المسجد لبيان الجواز، فيجوز أنه فعل الأمرين ليبين الجائز والمسنون. وقيل: في حديث عائشة الذي ذكره المصنف: أنه ليس المقصود منه بيان عدد التسليم بل بيان كيفية التسليم بأنه كان يبتدئ به محاذاة وجهه، ثم يميل إلى الشق الأيمن شيئاً يسيراً، وترك بيان كيفية التسليم الثاني اكتفاء بالأول. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم، والبيهقي كلهم من طريق عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن زهير بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة.(3/312)
965- (20) وعن سمرة، قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرد على الإمام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قلت: عمرو بن أبي سلمة التنيسي شامي، ورواية أهل الشام عن زهير بن محمد ضعيفة. قال الحافظ في مقدمة الفتح: أما رواية عمرو بن أبي سلمة التنيسي يعني عن زهير بن محمد، فبواطيل- انتهى. وقال في التهذيب: قال أحمد: روى أي عمرو أبي بن سلمة التنيسي عن زهير أحاديث بواطيل، كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله فغلط، فقلبها عن زهير، وساق الساجي منها حديثه عن زهير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم تسليمة- انتهى. وقال صاحب التنقيح: وزهير بن محمد وإن كان من رجال الصحيحين لكن له مناكير، وهذا الحديث منها. قال أبوحاتم: هو حديث منكر. والحديث أصله الوقف على عائشة هكذا رواه الحفاظ-انتهى. وكذا رجح الوقف الدارقطني والترمذي والبزار. وقال ابن عبد البر: لا يصح مرفوعاً. وقال النووي في الخلاصة: هو حديث ضعيف، ولا يقبل تصحيح الحاكم له. قيل: انفراد زهير برفع هذا الحديث حين وقفه غيره على عائشة لا يكون علة له، والرفع زيادة من ثقة فتقبل، ومع ذلك فإنه لم ينفرد برفعه، فقد رواه ابن ماجه: حدثنا هشام بن عمار: حدثنا عبد الملك بن محمد الصنعاني: حدثنا زهير بن محمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه. وعبد الملك بن محمد الصنعاني لين الحديث. قاله الحافظ في التقريب. وقال أبوحاتم: يكتب حديثه. وقال أبوأيوب: هو ثقة من أصحاب الأوزاعي. ومثل هذا يصلح للمتابعة. قلت: عبد الملك بن محمد الصنعاني من صنعاء دمشق شامي، ورواية الشاميين عن زهير بن محمد ضعيفة كما عرفت. وقال الحافظ في التلخيص (ص104) : روى ابن حبان في صحيحه، وأبوالعباس السراج في مسنده عن عائشة من وجه آخر شيء من هذا. أخرجاه من طريق زرارة بن أوفي، عن سعد بن هشام، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوتر أوتر بتسع ركعات لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره، ثم يدعو، ثم ينهض، ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة فيجلس، ويذكر الله ويدعو، ثم يسلم تسليمة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس-الحديث. وإسناده على شرط مسلم، ولم يستدركه الحاكم مع أنه أخرج حديث زهير بن محمد، عن هشام- انتهى. وفي الباب عن سهل بن سعد، وسلمة بن الأكواع كلاهما عند ابن ماجه. وفي إسناده الأول عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، وقد قال البخاري: إنه منكر الحديث. وقال النسائي: متروك، وفي إسناد الثاني يحيى بن راشد البصري، قال ابن معين: ليس بشئ. وقال النسائي: ضعيف. وفي الباب أحاديث أخرى كلها ضعيفة، ذكرها الزيلعي في نصب الراية مع بيان ضعفها.
965- قوله: (أن نرد على الإمام) أي ننوي الرد على الإمام بالتسليمة الثانية من على يمينه، وبالأولى من على يساره، وبهما من على محاذاته كما هو مذهب الحنفية، قاله القاري. وقال الشوكاني: قال أصحاب الشافعي: إن كان المأموم عن يمين الإمام فينوي الرد عليه بالثانية، وإن كان عن يساره فينوي الرد عليه بالأولى، وإن حاذاه فبما شاء، وهو في(3/313)
ونتحاب، وأن يسلم بعضنا على بعض)) رواه أبوداود.
(18) باب الذكر بعد الصلاة
{الفصل الأول}
966- (1) عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتكبير
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأولى أحب. ولفظ ابن ماجه: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نسلم على أئمتنا. (ونتحاب) كذا في النسخ الموجودة عندنا، ولفظ أبي داود "وأن نتحاب" أي بزيادة "أن" و"نتحاب"-بتشديد الباء الموحدة- من التحابب وهو التوادد، وتحابوا أحب كل واحد منهم صاحبه. قال القاري: أي وأن نتحاب مع المصلين وسائر المؤمنين بأن يفعل كل منا من الأخلاق الحسنة والأفعال الصالحة، والأقوال الصادقة، والنصائح الخالصة ما يؤدي إلى المحبة والمودة. (وأن يسلم بعضنا على بعض) ظاهره شامل للصلاة وغيرها لكنه قيده البزار بالصلاة، ولفظه: وأن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، أي ينوي المصلي من عن يمينه وشماله من البشر، وكذا من الملك، فإنه أحق بالتسليم المشعر بالتعظيم. وقال الشوكاني: ويدخل في ذلك سلام الإمام على المأمومين، والمأمومين على الإمام، وسلام المقتدين بعضهم على بعض-انتهى. قال الطيبي: هذا عطف الخاص على العام؛ لأن التحابب أشمل معنى من التسليم ليؤذن بأنه فتح باب المحبة ومقدمتها. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه، والبزار مختصراً، وزاد البزار: في الصلاة. وأخرجه الحاكم بلفظ أبي داود (ج1:ص270) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وسعيد بن بشير. (أى الأزدي الشامي راوي الحديث عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة) إمام أهل الشام في عصره، إلا أن الشيخين لم يخرجاه بما وصفه أبومسهر من سوء حفظه، ومثله لا ينزل بهذا القدر-انتهى. وقال الحافظ: إسناده حسن، وسكت عنه أبوداود، ولكنه من رواية الحسن عن سمرة. وقد تقدم الكلام في سماع الحسن منه، وقد أخرج أبوداود من وجه آخر عن سمرة: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في وسط الصلاة أو حين انقضائها: فابدوا قبل السلام، فقولوا: التحيات الطيبات الصلوات والملك لله، ثم سلموا على اليمين، ثم سلموا على قاربكم، وعلى أنفسكم. لكنه ضعيف لما في من المجاهيل.
(باب الذكر بعد الصلاة) أي بعد الفراغ من الصلاة المكتوبة. والمراد بالذكر أعم من الدعاء وغيره.
966- قوله: (كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي انتهاءها. (بالتكبير) متعلق بأعرف، ووقع في رواية لمسلم بصيغة الحصر ولفظه: "ماكنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالتكبير"، واختلفوا في بيان المراد(3/314)
بالتكبير، فقيل: المراد به قوله "الله أكبر" مرة أو ثلاثاً بعد السلام فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول "الله أكبر" مرة أو مكرراً إذا فرغ من الصلاة، والمعنى: كنت أعرف بسماع "الله أكبر" انصرافه وفراغه من الصلاة. وقيل: المراد التكبير الذي ورد مع التسبيح والتحميد عشراً أو أكثر فيحتمل أنه كان بدءه بالتكبير قبل التسبيح والتحميد لما ورد: لا يضرك بأيهن بدأت. وقيل: المراد التكبيرات التي في الصلاة عند كل خفض ورفع، والمعنى كنت أعرف انقضاء كل هيئة من الصلاة إلى أخرى بتكبيره أسمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: المراد كنت أعرف انقضاء الصلاة بانقضاء التكبيرات، وهذان التأويلان يخالفان الباب، ويخالفان أيضاً رواية الشيخين لحديث ابن عباس هذا ومن وجه آخر بلفظ: إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته. قال العيني: أي كنت أعلم انصرافهم بسماع الذكر-انتهى. وهذه الرواية تؤيد بل تعين القول الأول فهو المعتمد، لكن قوله "التكبير" أخص من هذه الرواية؛ لأنه الذكر أعم من التكبير، فيحتمل أنهم كانوا يرفعون الصوت بالتكبير والذكر كليهما، فيكون الحديث دليلاً على استحباب رفع الصوت بقول "الله اكبر" مرة أو مكرراً، وبأذكار أخرى عقب المكتوبة، ويحتمل أن يكون قوله "التكبير" مفسراً لهذه الرواية، فكأن المراد أن رفع الصوت بالذكر أي بالتكبير، وكأنهم كانوا يبدؤن بالتكبير مرة أو مكرراً قبل الأذكار الأخرى. ويحتمل أن يكون المراد بالتكبير مطلق الذكر بعد الصلاة. وظاهر الحديث أن ابن عباس لم يكن يحضر الجماعة؛ لأنه كان صغيراً ممن لا يواظب على ذلك، ولا يلزم به، فكان يعرف انقضاء الصلاة بما ذكر، ويحتمل أن يكون حاضراً في أواخر الصفوف، فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرفه بالتكبير، قال ابن دقيق العيد: ويؤخذ منه أنه لم يكن هناك مبلغ جهير الصوت يسمع من بعد-انتهى. قال النووي: هذا الحديث دليل لما قاله بعض السلف: أنه يستحب رفع الصوت بالتكبير والذكر عقب المكتوبة، وممن يستحبه من المتأخرين ابن حزم الظاهري، ونقل ابن بطال وآخرون أن أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر، وحمله الشافعي على أنه جهر وقتاً يسيراً حتى يعلمهم صفة الذكر، لا أنهم جهروا به دائماً. قال: فاختار للإمام والمأموم أن يذكر الله بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك إلا أن يكون إماماً يريد أن يتعلم منه، فيجهر حتى يعلم أنه قد تعلم منه ثم يسر، وحمل الحديث على هذا-انتهى. قلت: ما ذهب إليه بعض السلف، وابن حزم من المتأخرين من استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر أثر كل صلاة مكتوبة هو القول الراجح عندي، وإن لم يقل به الأئمة الأربعة ومقلدوهم؛ لأن حديث ابن عباس باللفظين نص في ذلك، ويدل على ذلك أيضاً حديث عبد الله بن الزبير الآتي، والحق يدور مع الدليل لا مع الادعاء أو الرجال، نعم لا يبالغ في رفع الصوت، ولا يجهر جهرا مفرطا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: اربعوا على أنفسكم،(3/315)
متفق عليه.
967- (2) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت. ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما
يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً-الحديث. ولا دليل لمن حمل حديث ابن عباس على أن الجهر كان أحياناً أو وقتاً يسيراً لأجل تعليم المأمومين صفة الذكر والتكبير كما لا دليل لمن حمل حديث الجهر بالتسمية في الصلاة، وحديث الجهر بالتأمين، على أنه كان أحياناً للتعليم، ولا يثبت شيء بالادعاء والتحكم، والراوي وهو ابن عباس لم يقيد رفع الصوت بوقت دون وقت، بل أطلقه وعممه، وفيه أيضاً لفظه "كان" وهي تشعر بالمواظبة، فدل ذلك على أن أكثر عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قد كان على رفع الصوت بالتكبير، فالحق أن رفع الصوت بذلك أثر كل صلاة مكتوبة حسن كما صرح به ابن حزم في المحلى (ج4:ص260) . (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي.
967- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم) أى من الصلاة المكتوبة. (لم يقعد) أي في بعض الأحيان فإنه قد ثبت قعوده - صلى الله عليه وسلم - بعد السلام أزيد من هذا المقدار. وقيل: المراد لم يقعد مستقبل القبلة إلا مقدار قوله ذلك، ثم يلتفت يمنة أويسرة، أو يستقبل المؤتمين. قال السندي: الظاهر أن المراد لم يقعد على هيئة إلا هذا المقدار ثم ينصرف عن جهة القبلة، وإلا فقد جاء أنه كان يقعد بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشمس وغير ذلك، فلا دلالة في هذا الحديث على أن المصلي لا يشتغل بالأوراد الواردة بعد الصلاة بل يشتغل بالسنن الرواتب ثم يأتي بالأوراد كما قال بعض العلماء –انتهى. وقيل: المراد لم يقعد بين الفرض والسنة إلا هذا المقدار. قال الطيبي: إنما ذلك في صلاة بعدها راتبة، وأما التي لا راتبة بعدها كصلاة الصبح فلا-انتهى. (اللهم أنت السلام) هو من أسماء الله تعالى، أي أنت السليم من المعائب والآفات، ومن كل نقص، وقال الأمير اليماني: المراد ذو السلامة من كل نقص وآفة، مصدر وصف به للمبالغة. (ومنك السلام) هذا بمعنى السلامة، أي أنت الذي تعطي السلامة وتمنعها، أو منك نطلب السلامة من شرور الدنيا والآخرة، أو منك يرجى السلام ويستوهب ويستفاد، أو السلامة من المعائب والآفات مطلوبة منك، أو حاصلة من عندك، فالسالم من سلمته، قال الشيخ الجزري: وأما ما يزاد بعد قوله "ومنك السلام" من نحو "وإليك يرجع السلام فحينا ربنا بالسلام" وأدخلنا دار السلام، فلا أصل له، بل مختلق من بعض القصاص. (تباركت) تفاعلت من البركة وهي الكثرة والنماء، ومعناه تعاظمت إذ كثرت صفات جلالك وكمالك. (يا ذالجلال) أي ذا العظمة. (والإكرام) أي الإحسان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.(3/316)
968- (3) وعن ثوبان، رضي الله عنه، قال. ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) رواه مسلم.
969- (4) وعن المغيرة بن شعبة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
968- قوله: (إذا انصرف من صلاته) أي سلم منها. قال النووي: المراد بالانصراف السلام. (استغفر ثلاثاً) قال مسلم في صحيحه بعد رواية هذا الحديث: قال الوليد، فقلت للأوزاعي: كيف الاستغفار؟ قال: يقول: أستغفر الله، أستغفر الله –انتهى. وقيل: أقله أستغفر الله، والأكمل زيادة العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، والاستغفار إشارة إلى أن العبد لا يقوم بحق عبادة مولاه لما يعرض له من الوسواس والخواطر، فشرع له الاستغفار تداركا لذلك، وقال السندي: استغفر - صلى الله عليه وسلم - تحقيراً لعمله وتعظيماً لجناب ربه. وكذلك ينبغي أن يكون حال العابد، فينبغي أن يلاحظ عظمة جلال به وحقارة نفسه وعمله لديه، فيزداد تضرعاً واستغفاراً كلما يزداد عملا، وقد مدح الله عباده فقال. {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [51: 17، 18] . وقال ابن سيد الناس: هو وفاء بحق المعبودية، وقيام بوظيفة الشكر كما قال: أفلا أكون عبداً شكوراً. وليبين للمؤمنين سننه فعلا كما بينها قولاً في الدعاء والضراعة ليقتدي به. (وقال) أي بعد الاستغفار. (أنت السلام) أي المختص بالتنزه عن النقائص والعيوب لا غيرك. (ومنك السلام) أي منك السلامة، منها لمن أردت له ذلك لا من غيرك. (يا ذا الجلال والإكرام) بزيادة "يا" في جميع نسخ المشكاة الحاضرة عندنا، وفي صحيح مسلم "ذا الجلال والإكرام" بحذف "يا". وهذا من عظائم صفاته تعالى لا يستعمل في غير الله تعالى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
969- قوله: (كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة) أي عقب كل صلاة فريضة. (لا إله إلا الله وحده) أي منفرداً في ذاته. (لا شريك له) أي في أفعاله، وصفاته، وعبادته، وقال ابن حجر: تأكيد بعد تأكيد لمزيد الاعتناء بمقام التوحيد. (له الملك) أي لا لغيره. (وله الحمد) في الأولى والآخرة. قال الحافظ في الفتح: زاد الطبراني من طريق أخرى، عن المغيرة "يحيى ويميت" وهو حي لا يموت، بيده الخير، إلى "قدير". ورواته موثقون. (اللهم لا مانع لما أعطيت) أي من قضيت له بقضاء من رزق أو غيره لا يمنعه أحد عنه. (ولا معطي لما منعت) أي من قضيت له بحرمان لا معطي له. (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) بفتح الجيم وهو الحفظ، والغنى، والعظمة، والسلطان، وأبو الأب والأم، و"من " في قوله "منك" بمعنى البدل، قال الشاعر:(3/317)
متفق عليه.
970- (5) وعن عبد الله بن الزبير، قال. ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من صلاته يقول بصوته
الأعلى: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فليت لنا من ماء زمزم شربه ... ... مبردة باتت على الظمآن
يريد ليت لنا بدل ماء زمزم. وقيل: "منك" بمعنى عندك؛ وقيل: هو صفة الجد أي الكائن منك. وقيل: المضاف فيه مقدر أي من عذابك، وسطوتك، وقضائك، والمعنى: لا ينفع صاحب الغنى والحظ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان عندك، أو من عذابك، أو بدل لطفك غناه وحظه، أي لا ينجيه حظه منك، وإنما ينفعه وينجه فضلك ورحمتك، أو لا ينفع ذا نسب نسبه، وإنما ينفعه العمل الصالح. وروي "الجد" بكسر الجيم، والمعنى: لا ينفع صاحب الجد والاجتهاد في العلم والعمل مجرد اجتهاده في ذلك ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته. والحديث دليل على استحباب هذا الذكر عقب الصلوات لما أشتمل عليه من ألفاظ التوحيد، ونسبة الأمر كله إليه، والمنع والإعطاء، وتمام القدرة، وظاهره أن يقول ذلك مرة، وفي رواية للنسائي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول هذا التهليل وحده أولاً ثلاث مرات. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي.
970- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى) حديث عبد الله بن الزبير هذا أخرجه مسلم من طرق، ولكن ليس في طريق منها قوله "بصوته الأعلى". وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي ولم تقع هذه اللفظة عندهم أيضاً، ولفظ مسلم في طريق الحجاج بن أبي عثمان، عن أبي الزبير، عن عبد الله بن الزبير: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا سلم في دبر الصلاة أو الصلوات "لا إله إلا الله وحده" الخ. وفي طريق موسى بن عقبة عن أبي الزبير أنه سمع عبد الله بن الزبير، وهو يقول في أثر الصلاة إذا سلم ... وكان يذكر ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما السياق الذي ذكره المصنف تبعاً للبغوي فهو للشافعي في كتاب الأم (ج1:ص110) قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: حدثني موسى بن عقبة، عن أبي الزبير، أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له" الخ. إلا أنه ليس عنده كلمة "لا إله إلا الله" بين قوله " لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقوله "ولا نعبد إلا إياه"، وقوله "إذا سلم" فيه أنه ينبغي أن يكون هذا الذكر تالياً للسلام مقدما على غيره لتقييد القول به بوقت التسليم، ولا يعارض ذلك ما تقدم من حديث عائشة وثوبان، فإنه يحمل على أوقات مختلفة فيقول بعد السلام تارة ما وقع في حديث عائشة وثوبان، وتارة ما وقع في حديث ابن الزبير والمغيرة، وعلى هذا فالسنة أن يأتي بهذه الأذكار على سبيل البدل لا الجمع. وقيل: يجوز الجمع بينها؛ لأنه يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بينها(3/318)
لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون)) رواه مسلم.
971- (6) وعن سعد، أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات، ويقول. ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: اللهم إني أعوذبك من الجبن، وأعوذ بك من البخل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وروى كل واحد ما سمعه منه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يخفى بعده. والحديث يدل على مشروعية هذا الذكر بعد الصلاة مرة لعدم ما يدل على التكرار. (لا حول) أي لا تحول عن معصية الله. (ولا قوة) على طاعة الله. (إلا بالله) أي بعصمته وإعانته. (ولا نعبد إلا إياه) إذ لا يستحق العبادة سواه. (له النعمة) أي جنسها. قال تعالى. {وما بكم من نعمة فمن الله} [16: 53] . أو له نعمة التوفيق. (وله الفضل) بالقبول أو التفضل على عبادة. (وله الثناء الحسن) على ذاته وصفاته وأفعاله ونعمه وعلى كل حال. (مخلصين له الدين) أي للطاعة. (ولو كره الكافرون) أي كوننا مخلصين دين الله، وكوننا عابدين وموحدين الله. قال الطيبي: قوله "مخلصين" حال عامله محذوف وهو الدال على مفعول "كره"، أي نقول "لا إله إلا الله" حال كوننا مخلصين ولو كره الكافرون قولنا. و"الدين" مفعول به لمخلصين، و"له" ظرف قدم على المفعول به للاهتمام به. قال ابن حجر: وفيه تكلف، والأولى جعله حالاً من فاعل "نعبد" المذكور-انتهى. (رواه مسلم) أي أصل الحديث، وإلا فقوله "بصوته الأعلى" ليس عند مسلم بل هو للشافعي كما عرفت، وكان على البغوي أن يذكر ههنا سياق مسلم لا سياق الشافعي لما اشترط أنه يورد في الصحاح ما أخرجه الشيخان أو أحدهما، وكان على المصنف أن ينبه على تسامح البغوي في ذلك. وفي سنده عند الشافعي إبراهيم بن محمد شيخ الشافعي، وهو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي أبوإسحاق المدني ضعيف متروك عند جمهور المحدثين، وكان الشافعي حسن الرأي فيه، وارجع إلى التهذيب (ج1: ص158- 161) والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص4، 5) وأبوداود والنسائي.
971-قوله: (وعن سعد) أي ابن أبي وقاص. (أنه كان يعلم بنيه) أي أولاده، وفيه تغليب، وقد ذكر ابن سعد في الطبقات أولاد سعد، فذكر من الذكور أربعة عشر نفساً، والإناث سبع عشرة، وروى عنه الحديث منهم خمسة عامر، ومحمد، ومصعب، وعائشة، وعمر. (هؤلاء الكلمات) أي الآتية كما يعلم المعلم الغلمان الكتابة. (دبر الصلاة) أي عقب الصلاة المكتوبة. فالمراد بالصلاة عند الإطلاق المكتوبة. (اللهم إني أعوذ بك) أي ألتجىء إليك. (من الجبن) بضم الجيم وسكون الباء، وتضم، هو المهابة للأشياء، والتأخر عن فعلها، والمتعوذ منه هو التأخر عن الإقدام بالنفس إلى الجهاد الواجب، والتأخر عن الصدع بالحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونحو ذلك. (وأعوذ بك من البخل) بضم الباء الموحدة، وإسكان الخاء المعجمة، وبفتحهما، وبضمهما، وبفتح الباء وإسكان الخاء ضد الكرم أي من عدم(3/319)
وأعوذ بك من أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر)) . رواه البخاري.
972- (7) وعن أبي هريرة، قال: ((إن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم. فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النفع إلى الغير بالمال، أو العلم، أو غيرهما، ولو بالنصيحة. قال الطيبي: الجود إما بالنفس وهو الشجاعة، ويقابله الجبن، وإما بالمال وهو السخاوة، ويقابله البخل، ولا تجتمع الشجاعة والسخاوة إلا في نفس كاملة، ولا ينعدمان إلا من متناه في النقص. (وأعوذ بك من أرذل العمر) بضم الميم وسكونها لغتان، أي رديئة، وهو ما ينتقص فيه القوى الظاهرة والباطنة، فيصير كالطفل في سخف العقل، وقلة الفهم، وضعف القوة، وفي رواية البخاري: وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر. قال العيني: أي عن الرد، وكلمة "أن" مصدرية، و"أرذل العمر" هو الخرف، يعني يعود كهيئة الأولى في أو أن الطفولية، ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم، ويقال أرذل العمر أردأه، وهو حالة الهرم والضعف عن أداء الفرائض، وعن خدمة نفسه فيما يتنظف فيه، فيكون كلاً على أهله، ثقيلا بينهم يتمنون موته، فإن لم يكن له أهل فالمصيبة أعظم. (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) بأن تتزين للسالك، وتغره، وتنسيه الآخرة، ويأخذ منها زيادة على قدر الحاجة، وقال الأمير اليماني: فتنة الدنيا هي الافتتان بشهواتها، وزخارفها حتى تلهيه عن القيام بالواجبات التي خلق لها العبد. (وعذاب القبر) أي من موجبات عذابه، وإنما خص - صلى الله عليه وسلم - هذه المذكورات بالتعوذ منها؛ لأنها من أعظم الأسباب المؤدية إلى أنواع الشرور والمعاصي، وترك العبادات الظاهرة والباطنة، وأما طول العمر مع سلامة القوي والحواس فسعادة عظيمة للمؤمن المطيع. (رواه البخاري) في الجهاد، وفي الدعوات، وأخرجه أيضاً الترمذي في الدعوات، والنسائي في الاستعاذة.
972- قوله: (إن فقراء المهاجرين) فيهم أبوذر كما عند أبي داود. (قد ذهب أهل الدثور) بضم الدال المهملة والمثلثة، جمع دثر-بفتح الدال وسكون المثلثة- أي أهل الأموال، والدثر يجيء بمعنى المال الكثير وبمعنى الكثير من كل شيء. (بالدرجات العلى) بضم العين جمع العلياء، وهي تأنيث الأعلى، والباء للتعدية، وقال الطيبي: للمصاحبة، يعني ذهب أهل الأموال بالدرجات العلى، واستصحبوها معهم في الدنيا والآخرة، ومضوا بها ولم يتركوا لنا شيئاً منها، فما حالنا؟ يا رسول الله! والدرجات يحتمل أن يكون حسية، والمراد الدرجات العالية في الجنة، أو معنوية، والمراد علو القدر عند الله تعالى. (والنعيم المقيم) أي وبالعيش الدائم المستحق بالصدقة. قال الطيبي: فيه تعريض بالنعيم العاجل، فإنه على وشك الزوال. (فقال: وما ذاك؟) أي ما سبب سؤالكم هذا؟ أو ما سبب فوزهم وحيازهم دونكم؟. (ويصومون كما نصوم) زاد في حديث أبي الدرداء عند النسائي في عمل اليوم والليلة "ويذكرون كما نذكر" وللبزار من(3/320)
ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حديث ابن عمر: وصدقوا تصديقنا وآمنوا إيماننا. (ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق) ؛ لأنهما يتعلقان بالمال ولا مال لنا، فلهم علينا بزيادة العبادات المالية. وفي رواية للبخاري: ولهم فضل أموال يحجون بها، ويعتمرون ويجاهدون، ويتصدقون. (أفلا أعلمكم) قدمت الهمزة للصدارة، والتقدير: ألا أسليكم فلا أعلمكم. (تدركون به) أي بذلك الشيء. (من سبقكم) أي من أهل الأموال الذين امتازوا بالصدقة والاعتاق عليكم، والجملة في موضع نصب، مفعول "تدركون". والمراد بالسبق السبق رتبة أي من حيث كثرة الأعمال بسبب المال، ورجحه الشيخ تقي الدين على السبق زماناً، وعلى هذا ينبغي حمل البعدية في قوله: (وتسبقون به من بعدكم) على البعدية رتبة أيضاً، أي تسبقون به أمثالكم الذين لا يقولون هذه الأذكار، فتكون البعدية معنوية، أي بحسب الرتبة لا حسية. (ولا يكون أحد) أي من الأغنياء؛ لأن الكلام فيهم. (أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم) قيل: الاستثناء متعلق بهذه الجملة الأخيرة فقط، وقيل: يصح جعله متعلقاً بالجمل الثلاث كلها، على معنى يحصل لكم الأحوال الثلاث بالنظر إلى الطوائف إلا من عمل من الطوائف الثلاث مثله. قال الطيبي: فإن قلت: ما معنى الأفضلية في قوله "لا يكون أحد أفضل منكم" مع قوله "إلا من صنع مثل ما صنعتم"، فإن الأفضلية تقتضى الزيادة، والمثلية تقتضي المساواة، قلت: هو من باب قوله:
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
يعني إن قدر المثلية تقتضي الأفضلية فتحصل الأفضلية، وقد علم أنها لا تقتضيها فإذا لا يكون أحد أفضل منكم، هذا على مذهب التميمي. ويحتمل أن يكون المعنى: ليس أحد أفضل منكم إلا هؤلاء فإنهم يساوونكم، وأن يكون المعنى بأحد الأغنياء أي ليس أحد من الأغنياء أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم-انتهى. واستشكل تساوي فضل هذا الذكر بفضل التقرب بالمال مع شدة المشقة فيه. وأجيب بأنه لا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة في كل حال، فإن ثواب كلمة الشهادتين مع سهولتها أكثر من العبادات الشاقة. (قالوا بلى) أي علمنا ذلك. (قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون) أخبار بمعنى الأوامر، أو من قبيل "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". وقد وقع في هذه الرواية تقديم التكبير على التحميد خاصة، وفيه أيضاً قول أبي صالح: يقول: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ومثله لأبي داود من حديث أم الحكم، وله من حديث أبي هريرة: تكبر، وتحمد، وتسبح، وكذا في حديث ابن عمر، ووقع في أكثر الأحاديث تسبحون، وتحمدون، وتكبرون، وهذا الاختلاف يدل على أن لا ترتيب فيها ويستأنس لذلك بقوله في حديث: الباقيات الصالحات لا يضرك(3/321)
دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة. قال أبوصالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأيهن بدأت، لكن الترتيب الذي وقع في أكثر الأحاديث أولى. قال الحافظ: الأولى البداءة بالتسبيح؛ لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد؛ لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائص إثبات الكمال، ثم التكبير إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال نفي أن يكون هناك كبير آخر، ثم يختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك. (دبر كل صلاة) وفي رواية للبخاري "خلف كل صلاة". ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة، فلو تأخر ذلك عن الفراغ فإن كان يسيراً بحيث لا يعد معرضا أو كان ناسياً أو متشاغلاً بما ورد أيضاً، وكآية الكرسي فلا يضر، وظاهر قوله "كل صلاة" يشمل الفرض والنفل، لكن حمله أكثر العلماء على الفرض، وقد وقع في حديث كعب بن عجرة الآتي التقييد بالمكتوبة، وكأنهم حملوا المطلقات عليها، وعلى هذا يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلاً بين المكتوبة والذكر، والله أعلم. (ثلاثاً وثلاثين مرة) يحتمل أن يكون المجموع للجميع، فإذا وزع لكل واحد من الثلاثة إحدى عشرة، وهو الذي فهمه سهيل بن صالح كما رواه مسلم، لكن لم يتابع سهيل على ذلك، والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد، والأفعال الثلاثة تنازعت في الظرف، وهو "دبر" وفي "ثلاثاً وثلاثين" وهو مفعول مطلق، والتقدير: تسبحون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون كذلك. وتحمدون كذلك ثم ظاهر هذه الرواية أن يقول ذلك مجموعاً، ورجحه بعضهم للإتيان فيه بواو العطف، والمختار أن الإفراد أولى لتميزه باحتياجه إلى العدد، وله كل حركة لذلك سواء كان بأصابعه أو بغيرها ثواب لا يحصل لصاحب الجمع منه إلا الثلاث. (قال أبوصالح) وهو راوي الحديث عن أبي هريرة، وهو ذكوان- بفتح المعجمة وسكون الكاف- أبوصالح السمان الزيات المدني مولى جويرية بنت الأحمس الغطفاني، شهد الدار زمن عثمان، ثقة ثبت، من أوساط التابعين، كان يجلب الزيت إلى الكوفة، مات سنة. (101) . (فرجع فقراء المهاجرين) الخ. قول أبي صالح هذا مدرج في حديث أبي هريرة، قال الحافظ في الفتح: هذه الزيادة مرسلة، وقد روى الحديث البزار من حديث ابن عمر، وفيه "فرجع الفقراء" فذكره موصولاً لكن إسناده ضعيف، وروى جعفر الفريابي من رواية حرام بن حكيم عن أبي ذر، وقال: فيه، قال أبوذر: يا رسول الله! إنهم قد قالوا مثل ما نقول، فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ونقل الخطيب أن حرام بن حكيم يرسل الرواية عن أبي ذر، فعلى هذا لم يصح بهذه الزيادة إسناد إلا أن هذين الطريقين يقوي بهما مرسل أبي صالح-انتهى.. (سمع إخواننا أهل الأموال) بدل، وفائدة البدل إشعار بأن ذلك غبطة لا حسد. (بما فعلنا) ضمن سمع معنى الإخبار فعدى بالباء. (ففعلوا مثله) أي مثل ما فعلنا، وإطلاق الفعل على القول شائع سائغ. (ذلك) أي الزائد من الثواب الذي(3/322)
فضل الله يؤتيه من يشاء)) . متفق عليه. وليس قول أبي صالح إلى آخره إلا عند مسلم. وفي رواية للبخاري: تسبحون في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً، بدل "ثلاثاً وثلاثين".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حصل لهم على الجود بأموالهم منضماً إلى فعلهم ما فعله الفقراء. (فضل الله يؤتيه من يشاء) قال الطيبي: إشارة إلى أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر، نعم لا يخلوا الغني عن أنواع من الخطر، والفقير الصابر آمن-انتهى. قلت: المسألة ذات خلاف مشهور بين السلف والخلف من الطوائف، بسطه الغزالي في إحياء العلوم، والحافظ في الفتح في كتاب الأطعمة، وأما ما ورد من أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة سنة من أيام الدنيا، ففيه أن دخول الفقراء قبل الأغنياء لا ينافي فضل الأغنياء، وعلو درجاتهم، وكثرة ثواب أعمالهم؛ لأن ذلك من جهة كون حساب الفقراء يسيراً، سهلاً سريع الانقضاء، والله أعلم. والحديث يدل على فضل الذكر عقب الصلاة، واستدل به البخاري على فضل الدعاء عقيب الصلاة؛ لأنه في معناها، فإن الذاكر يحصل له ما يحصل للداعي إذا شغله الذكر عن الطلب كما في حديث ابن عمر: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، أخرجه الطبراني بسند لين، وحديث أبي سعيد بلفظ: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي-الحديث، أخرجه الترمذي وحسنه. ولأنها أوقات فاضلة ترجى فيها إجابة الدعاء. (متفق عليه) واللفظ المذكور لمسلم، والمراد أنه اتفق الشيخان على أصل هذا الحديث، وإلا فقوله: يتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق، من أفراد مسلم. والحديث أخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة. (وليس قول أبي صالح إلى آخره إلا عند مسلم) . الأحسن أن يقول المصنف بعد قوله "وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين" متفق عليه، وزاد مسلم: قال أبوصالح، الخ. (وفي رواية للبخاري) أي في الدعوات. (تسبحون في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً، بدل ثلاثاً) نصب على الحكاية. (وثلاثين) قال الحافظ في الفتح: وقع في رواية ورقاء عن سمي عند المصنف في الدعوات في هذا الحديث "تسبحون عشراً، وتحمدون عشراً، وتكبرون عشراً". ولم أقف في شيء من طريق حديث أبي هريرة على من تابع ورقاء على ذلك، لا عن سمي، ولا عن غيره، ويحتمل أن يكون تأول ما تأول سهيل من التوزيع ثم ألقى الكسر، ويعكر عليه أن السياق صريح في كونه كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: وأظن سبب الوهم أنه وقع في رواية ابن عجلان "تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة" فحمله بعضهم على أن العدد المذكور مقسوم على الأذكار الثلاثة، فروى الحديث بلفظ إحدى عشرة، وألغى بعضهم الكسر فقال "عشراً" والله أعلم. قال: وقد وجدت لرواية العشر شواهد: منها عن علي عند أحمد، وعن سعد بن أبي وقاص عند النسائي، وعن عبد الله بن عمرو عنده، وعند أبي داود والترمذي، وعن أم سلمة عند البزار، وعن أم مالك الأنصارية عند الطبراني، وجمع البغوي في شرح السنة بين هذا الاختلاف باحتمال أن يكون صدر ذلك في أوقات متعددة، أولها عشراً عشراً، ثم(3/323)
973- (8) وعن كعب بن عجرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((معقبات لا يخيب قائلهن- أو فاعلهن- دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة)) .رواه مسلم.
974- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إحدى عشرة، إحدى عشرة، ثم ثلاثاً وثلاثين، ثلاثاً وثلاثين، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال.
973- قوله: (معقبات) بضم الميم وفتح المهملة وكسر القاف المشددة، أي كلمات معقبات، وهو مبتدأ خبره ثلاث وثلاثون، أو قوله: لا يخيب، الخ. قال الجزري: سميت معقبات؛ لأنها عادت مرة بعد أخرى، أو لأنها تقال عقيب الصلاة، والمعقب من كل شيء ما جاء عقيب ما قبله. (لا يخيب) من الخيبة، أي لا يحرم من أجرهن أي كيفما كان ولو عن غفلة، هذا هو ظاهر هذا اللفظ، والله تعالى أعلم. وقد ذكر بعضهم أنه لا أجر في الأذكار إذا كانت عن غفلة سوى القراءة. (قائلهن، أو فاعلهن) أو للشك من الراوي. (دبر كل صلاة) ظرف القول. (ثلاث وثلاثون تسبيحة) قال الطيبي: قوله: معقبات إما صفة مبتدأ أقيمت أي في الابتدائية مقام الموصوف، أي كلمات معقبات، و"لا يخيب" خبره، و"دبر" ظرف، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون متعلقًا بقائلهن، وإما مبتدأ و"لا يخيب" صفته، و"دبر" صفة أخرى و"ثلاث وثلاثون" خبر، ويحتمل أن يكون "ثلاث وثلاثون" خبر مبتدأ محذوف، أي هن أو هي ثلاث وثلاثون إلى غير ذلك من الاحتمالات. (رواه مسلم وأخرجه أيضاً الترمذي في الدعوات، وحسنه، وذكر الاختلاف في رفعه ووقفه، وأخرجه النسائي في الصلاة. قال النووي في شرح مسلم: ذكر الدارقطني هذا الحديث في استدراكاته على مسلم، وقال: الصواب أنه موقوف على كعب؛ لأن من رفعه لا يقاومون من وقفه في الحفظ، وهذا الذي قاله الدارقطني مردود؛ لأن مسلماً رواه من طرق كلها مرفوعة، وذكره الدارقطني أيضاً من طرق أخرى مرفوعة، وإنما روي موقوفاً من جهة منصور وشعبة، وقد اختلفوا عليهما أيضاً في رفعه ووقفه، وبين الدارقطني ذلك، وقد قدمنا أن الحديث الذي روي موقوفاً ومرفوعاً يحكم بأنه مرفوع على المذهب الصحيح الذي عليه الأصوليون والفقهاء والمحققون من المحدثين، منهم البخاري، وآخرون، حتى لو كان الواقفون أكثر من الرافعين حكم بالرفع، كيف، والأمر هنا بالعكس؟ ودليله أن هذه زيادة ثقة، فوجب قبولها، ولا ترد لنسيان أو تقصير حصل ممن وقفه-انتهى.
974- قوله: (من سبح الله) أي قال: سبحان الله. (في دبر كل صلاة) أي فريضة. (وحمد الله) بكسر الميم(3/324)
ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المخففة، أي قال: الحمد لله. (وكبر الله) أي قال: الله أكبر. (ثلاثاً وثلاثين) أي في دبر كل صلاة، وحذفه في هذا وما قبله للعلم به من الأول. (فتلك) أي التسبيحات والتحميدات والتكبيرات. (تسعة وتسعون) علم العدد بعد التفصيل، ويسمى فذلكة ليحاط به من جهتين فيتأكد العلم، إذ علمان خير من علم فهو نظير قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [2: 196] . بعد ذكر ثلاثة وسبعة، وليترتب عليه قوله: (وقال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: ذلك القائل، يعني ذكر. (تمام المائة) بالنصب على المفعولية، وقيل: مرفوع على أنه مبتدأ خبره. (لا إله إلا الله) قال القاري: تفصيل الكلام في هذا المقام أن لفظ "تمام" إما منصوب على أنه مفعول به لقال؛ لأنه في المعنى جملة، إذ ما بعده عطف بيان، أو بدل، أو خبر محذوف، فصح كونه مقول القول، والمراد من "تمام المائة" ما تتم به المائة، ويجوز أن يكون نصبه بالظرفية أي في وقت تمام المائة، أي عند إرادة تمامها، والعامل فيه لفظ قال. قال ابن الملك: فلفظه "قال" للرسول - صلى الله عليه وسلم - بدل من سبح، وقال زين العرب، والأبهري: فيه ضمير يعود إلى من سبح، أو مرفوع على أنه مبتدأ وخبره لا إله إلا الله، الخ. فيكون تمام مع خبره حالاً من ضمير سبح، والعائد محذوف، أي حال كونه تمام مائة عليها أو عليه، فلفظه "قال" على هذا تكون للراوي، وضميره عائد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن الملك: والأول أولى، وعليهما الجزاء إنما يترتب على الشرط إذا وقع تمام المائة التهليل المذكور-انتهى. وكون التهليل المذكور تمام المائة يخالف ما ورد في عدة من الروايات أنه يكبر أربعاً وثلاثين، فإنه يدل على كون تمام المائة التكبير. قال النووي: يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعاً وثلاثين، ويقول معها "لا إله إلا الله وحده" إلى آخره. وقال غيره: بل يجمع بأن يختم مرة بزيادة تكبيرة، ومرة بلا إله إلا الله، على وفق ما وردت به الأحاديث. (وحده) جوز الكوفية كون الحال معرفة، والبصرية أولوها بالنكرة، وقالوا معناه منفرداً أي في ذاته. (لا شريك له) أي في أفعاله وصفاته نقلاً وعقلاً. (له الملك) أي أصناف المخلوقات له خاصة لا لغيره. (وله الحمد) المصدرية الشاملة لمعنى الفاعلية والمفعولية، فهو الحامد والمحمود. (غفرت خطاياه) هذا جزاء الشرط وهو "من سبح الله". والمراد بالخطايا الذنوب الصغائر. قال القاري: ويحتمل الكبائر. (وإن كانت) أي في الكثرة. (مثل زبد البحر) وهو ما يعلو على وجهه عند هيجانه وتموجه. وأعلم أنه قد ورد في كل من تلك الكلمات الثلاث روايات مختلفة. قال ابن حجر المكي: ورد التسبيح ثلاثاً وثلاثين، وخمساً وعشرين، وإحدى عشرة، وعشرة، وثلاثاً، ومرة واحدة. وسبعين، ومائة، وورد التحميد ثلاثاً وثلاثين، وخمساً وعشرين، وإحدى عشرة، وعشرة، ومائة، وورد التهليل عشرة، وخمساً وعشرين، ومائة. قال الحافظ الزين العراقي: وكل ذلك حسن، وما زاد فهو أحب إلى الله تعالى. وتقدم عن البغوي أنه جمع بأنه(3/325)
رواه مسلم.
{الفصل الثاني}
975- (10) عن أبي أمامة، قال: ((قيل يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) . رواه الترمذي.
976- (11) وعن عقبة بن عامر، قال: ((أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يحتمل صدور ذلك في أوقات متعددة، وأن يكون على سبيل التخيير، أو يفترق بافتراق الأحوال-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي، والبيهقي في الدعوات كلهم من طريق عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة، قاله السيوطي. وأخرجه مالك في الموطأ من هذا الطريق موقوفاً على أبي هريرة.
975- قوله: (أي الدعاء أسمع) أي أوفق إلى السماع، أو أقرب إلى الإجابة، فإن السمع قد يجيء بمعنى الإجابة، يقال: سمع الأمير قوله، أي إجابة وأعطى سؤاله. (جوف الليل) روى بالرفع وهو الأكثر على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مرفوعاً، أي دعاء جوف الليل أسمع، وروي بنصب "جوف" عل الظرفية أي في جوفه. (الآخر) صفة جوف فيتبعه في الإعراب. قيل: والجوف الآخر من الليل هو وسط النصف الآخر من الليل- بسكون السين لا بالتحريك- (دبر الصلوات المكتوبات) عطف على "جوف" تابع له في الأعراب. والحديث فيه تصريح بأن جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات من أوقات الإجابة، وسيأتي هذا الحديث في باب التحريض على قيام الليل. (رواه الترمذي) أي في الدعوات من طريق ابن جريح، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة، وقال: حديث حسن- انتهى. قلت: رجاله ثقات، إلا أن ابن جريح مدلس، وقد رواه عن عبد الرحمن بالعنعنة، وأيضاً في سماع عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة كلام، قال الحافظ في الإصابة (ج3: ص148) في القسم الرابع من حرف العين: أما هو أي عبد الرحمن بن سابط فتابعي، كثير الإرسال، ويقال: لا يصح له سماع من صحابي، أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً، وعن معاذ وعباس بن أبي ربيعة، وسعد بن أبي وقاص، والعباس بن عبد المطلب، وأبي ثعلبة، فيقال: إنه لم يدرك أحداً منهم. قال الدوري: سئل ابن معين هل سمع من سعد؟ فقال: لا. قيل: من أبي أمامة؟ قال: لا. قيل: من جابر؟ قال: لا. قلت: وقد أدرك هذين –انتهى.
976- قوله: (أن أقرأ بالمعوذات) بكسر الواو المشددة وتفتح. (في دبر كل صلاة) أي فريضة. والحديث في(3/326)
رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي في "الدعوات الكبير".
977- (12) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس، أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل. ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مسند أحمد (ج4: ص155، 204) وفي سنن أبي داود والنسائي والمستدرك للحاكم (ج1: ص253) والدعوات الكبير للبيهقي بلفظ المعوذات، وفي فضائل القرآن من جامع الترمذي وصحيح ابن حبان كما في الحصن بلفظ المعوذتين، فعلى الأول إما أن نذهب إلى أن أقل الجمع اثنان، وإما أن يدخل سورة الإخلاص وحدها، أو مع الكافرين في المعوذتين، إما تغليباً، أو؛ لأن كلتيهما براءة من الشرك، والتجاء إلى الله تعالى، ففيهما التبرئ عن الشرك، والتعوذ به منه. وقيل المراد بالمعوذات الآيات المتضمنة للاستعاذة لفظاً أو معنى، فيدخل فيها سورة الإخلاص، وسورة الكافرون أيضاً، فإن فيهما معنى التعوذ، وقيل: المراد الكلمات المعوذة. (رواه أحمد) (ج4: ص155، 201) . (وأبو داود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) الخ. وأخرجه أيضاً الترمذي في فضائل القرآن، وقال: حسن غريب. وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1: ص253) وقال صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
977- قوله: (لأن أقعد) بفتح الهمزة أي لقعودي، واللام للابتداء، وقيل: للقسم. (مع قوم يذكرون الله) لم يقل ذاكراً معهم لإفادة أن ذلك لا يتوقف على ما إذا ذكر معهم، بل الاستماع يقوم مقام الذكر، فما بالك بما إذا ذكر معهم؛ لأنهم القوم لا يشقى جليسهم، والذكر يعم الدعاء، وتلاوة القرآن، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويلحق به ما في معناه، كدرس العلوم الشرعية. (من صلاة الغداة) أي الصبح. (من أن أعتق) بضم الهمزة وكسر التاء. (أربعة) أنفس. (من ولد إسماعيل) خص بني إسماعيل لشرفهم على غيرهم من العرب، والعرب أفضل الأمم، ولقربهم منه عليه الصلاة والسلام، لكونه - صلى الله عليه وسلم - من أولاد إسماعيل. وفي الحديث أوضح دليل لما ذهب إليه الشافعي من أنه يجوز ضرب الرق على العرب، إذ لو امتنع رقهم لم يقل - صلى الله عليه وسلم - أن هذا أحب إليه من عتقهم. وتأويل الحنفية هذا الحديث بأن إطلاق الأرقاء والعتق عليهم على الفرض والتقدير، وبأنه يمكن أن يسبى بالاشتباه، وأن المراد بالعتق إنقاذهم من الشدائد والمهالك، بعيد خلاف الظاهر، فلا يلتفت إليه. قال التوربشتي: معرفة وجه التخصيص في الرقاب على الأربعة يقيناً لا يوجد تلقينه إلا من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلينا التسليم، عرفنا ذلك أو لم نعرف، ويحتمل أن يكون ذلك؛ لانقسام العمل الموعود عليه على أربعة أقسام: ذكر الله تعالى، والقعود له، والاجتماع عليه، وحبس النفس من حين يصلي إلى أن تطلع الشمس. وقال ابن الملك: الأربعة هي القعود أي لذكر الله، وكونه مع قوم يذكرون الله، وكون ذلك من الغدوة أو العصر، واستمراره إلى الطلوع أو الغروب، وقيل: خص الأربعة؛ لأن فيه ذكر القعود، والذكر، والاستمرار إلى طلوع الشمس(3/327)
من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، أحب إليّ من أن أعتق أربعة)) . رواه أبوداود.
978- (13) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تامة، تامة، تامة)) . رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وصلاة ركعتين أو أربع كما في رواية. (من صلاة العصر) أي من بعد صلاة العصر. (من أن أعتق أربعة) أي من ولد إسماعيل، فإن الحديث رواه أبويعلى أيضاً، وزاد في الموضعين " أربعة من ولد إسماعيل، دية كل رجل منهم اثنا عشر ألفاً". والحديث دليل على أن الذكر أفضل من العتق والصدقة. (رواه أبوداود) في العلم وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده موسى بن خلف العمي البصري، وقد استشهد به البخاري، وأثنى عليه غير واحد من المتقدمين، وتكلم فيه ابن حبان البستي-انتهى. وقال الحافظ العراقي: إسناده حسن. والحديث أخرجه أبويعلى أيضاً. وقال في الموضعين: أحب إليّ من أعتق أربعة من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفاً. قال الهيثمي بعد ذكره: وفيه محتسب أبوعائذ، وثقة ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات-انتهى.
978- قوله: (ثم قعد يذكر الله) أي استمر في مكانه ومسجده الذي صلى فيه مشتغلاً بالذكر. (ثم صلى ركعتين) قال الطيبي: أي ثم صلى بعد أن ترتفع الشمس قدر رمح حتى يخرج وقت الكراهة، وهذه الصلاة تسمى صلاة الإشراق، وهي أول الضحى-انتهى. قلت: وقع في حديث معاذ عند أبي داود: حتى يسبح ركعتي الضحى، وكذا وقع في حديث أبي أمامة، وعتبة بن عبد عند الطبراني. (كانت) أي المثوبة. (قال) أي أنس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تامة تامة تامة) صفة لحجة وعمرة، كررها ثلاثاً للتأكيد، وقيل: أعاد القول لئلا يتوهم أن التأكيد بالتمام، وتكراره من قول أنس، قال الطيبي: هذا التشبيه من باب إلحاق الناقص بالكامل ترغيباً للعامل، أو شبه استيفاء أجر المصلي تاماً بالنسبة إليه باستيفاء أجر الحاج تاماً بالنسبة إليه. وأما وصف الحج والعمرة بالتمام فإشارة إلى المبالغة-انتهى. (رواه الترمذي) وحسنه، وفي سنده أبوظلال هلال بن أبي هلال، ويقال: هلال بن أبي مالك. واختلف أيضاً في اسم أبيه القسملى البصري الأعمى، ضعفه أكثرهم، وجعله البخاري مقارب الحديث فيما رواه الترمذي عنه، وقال الذهبي في الميزان، والحافظ في تهذيب التهذيب: قال البخاري: عنده مناكير. وقال الذهبي في الكنى: واهٍ بمرة. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف مشهور بكنيته-انتهى. وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده، منها: حديث أبي أمامة عند الطبراني، قال المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج10: ص104) : إسناده جيد، ومنها: حديث أبي أمامة، وعتبة بن عبد عند الطبراني أيضاً. قال المنذري: وبعض رواته مختلف فيه. قال: وللحديث شواهد كثيرة-انتهى. وقال الهيثمي بعد(3/328)
{الفصل الثالث}
979- (14) عن الأزرق بن قيس، قال صلى بنا إمام لنا يكنى أبا رمثة، قال: ((صليت هذه الصلاة، ومثل هذه الصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وكان أبوبكر وعمر يقومان في الصف المقدم عن يمينه، وكان رجل قد شهد التكبيرة الأولى من الصلاة فصلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم سلم عن يمينه وعن يساره، حتى رأينا بياض خديه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذكره: رواه الطبراني، وفيه الأحوص بن حكيم وثقه العجلي وغيره، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف لا يضر-انتهى. وفي الباب أحاديث عديدة ذكرها المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص104) .
979- قوله: (عن الأزرق) بفتح الهمزة وتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة آخره قاف. (بن قيس) الحارثي البصري، ثقة من أوساط التابعين، مات بعد العشرين والمائة. (يكنى) بالتخفيف ويشدد. (أبا رمثة) بكسر أوله وسكون الميم، بعدها مثلثة البلوي التيمي من تيم الرباب، ويقال: التميمي. ويقال: هما اثنان، قيل: اسمه رفاعة بن يثربي، ويقال: عكسه. ويقال: يثربي بن عوف. ويقال: عمارة بن يثربي، وقيل: حيان بن وهيب. وقيل: حبيب بن حبان. وقيل: جندب. وقيل: خشخاش. صحابي له أحاديث، قال ابن سعد: مات بإفريقية. قال في الإصابة (ج4: ص70) : روى عنه إياد بن لقيط، وثابت بن منقذ. روى له أصحاب السنن الثلاثة، وصحح حديثه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم. (قال) أي أبورمثة. وفي أبي داود "فقال" أي بزيادة الفاء (صليت هذه الصلاة) قال القاري: الإشارة هنا ليست للخارج؛ لأن عين المشار إليه الواقع في الخارج لم يصله معه عليه السلام، وإنما الذي صلاه معه نظيره، فتعينت الإشارة للحقيقة الذهنية الموجودة في ضمن هذه الخارجية وغيرها، ولذا قال: (أو مثل هذه الصلاة) على الشك. (قال) أي أبورمثة. (وكان أبوبكر، وعمر يقومان في الصف المقدم عن يمينه) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ليلني منكم أولو الأحلام والنهى. وقوله: "إن الله وملائكة يصلون على ميامن الصفوف". وفيه إفادة الحث على أنه يسن تحري الصف الأول، ثم تحري يمين الإمام؛ لأنه أفضل. (قد شهد التكبيرة الأولى) أي تكبيرة التحريمة، فإنها الأولى حقيقة. (من الصلاة) احتراز من التكبير المعتاد بعد الصلاة، ووجه ذكر التكبيرة الأولى أي تكبير التحريمة التنبيه على أن مدركها إنما قام عقب صلاته لصلاة السنة، لا لكونه مسبوقاً بقي عليه شيء يقوم لإكماله. (ثم سلم عن يمينه وعن يساره) أي سلم مجاوزاً نظره عن يمينه وعن يساره، كما يسلم أحد على من في يمينه ويساره. (حتى رأينا) متعلق بالمقدر المذكور. (بياض خديه) أي من طرفي وجهه أي خده(3/329)
ثم انفتل كانفتال أبي رمثة- يعني نفسه- فقام الرجل الذي أدرك معه التكبيرة الأولى من الصلاة يشفع، فوثب عمر، فأخذ بمنكبيه، فهزه، ثم قال: اجلس، فإنه لن يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن بين صلاتهم فصل. فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - بصره، فقال: أصاب الله بك يا ابن الخطاب)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأيمن في الأولى، والأيسر في الثانية. (ثم انفتل) أي انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -. (كانفتال أبي رمثة) أي كانفتالي جرد عن نفسه أبا رمثة، ووضعه موضع ضميره مزيداً للبيان، واستحضاراً لتلك الحال في مشاهدة السامع، كما قاله الطيبي. ولذا قال الراوي. (يعني) أي يريد أبورمثة بقوله: أبي رمثة. (نفسه) أي ذاته لا غيره. (يشفع) بالتخفيف ويشدد، قال الطيبي: الشفع ضم الشيء إلى مثله يعني قام الرجل يشفع الصلاة بصلاة أخرى. (فوثب عمر) أي قام بسرعة، وفي أبي داود " فوثب إليه عمر". (بمنكبيه) بالتثنية. (فهزّه) بالتشديد أي فحركة بعنف. (فإنه) أي الشأن. (لن يهلك) كذا في جميع النسخ للمشكاة، وفي سنن أبي داود "لم يهلك". والظاهر أن ما في المشكاة خطأ من المصنف أو من الناسخ وهو بضم الياء. (أهل الكتاب) بالنصب ويجوز فتح الياء ورفع أهل. (إلا أنه) أي الشأن، وفي بعض النسخ لأبي داود "إلا أنهم". (لم يكن بين صلاتهم) أي بين صلواتهم إذ "بين" لا يدخل إلا على متعدد. (فصل) الفصل بين الفريضة والسنة قد يكون بالتنحي والتحول أي التقدم أو التأخر، وقد يكون بالزمان سواء اشتغل فيه بالذكر أو كان ساكتاً عنه، والظاهر أن المراد بالفصل ههنا الفصل بالزمان لا الفصل بالتقدم أو التأخر؛ لأنه قال عمر للرجل الذي قام يشفع بعد السلام: اجلس، ولم يقل تقدم أو تأخر. وإيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب يدل على أنه فهم من عدم الفصل فيه ترك الذكر بعد الصلاة، يعني فينبغي للمصلي أن يشتغل بعد السلام بالذكر الوارد ثم يصلي الراتبة، ففيه دليل على عدم وصل التطوع بالفريضة. قال الطيبي: يحتمل أن يراد بعدم الفصل ترك الذكر بعد السلام، والتقدير: لن يهلكهم شيء إلا عدم الفصل، واستعمل "لن" في الماضي معنى ليدل على استمرار هلاكهم في جميع الأزمنة، قال الجوهري: هلكه يهلكه وهلك بنفسه هلاكاً-انتهى. وفي القاموس: هلك كضرب ومنع وعلم هلكاً- بالضم- ومهلكة وتهلكة- مثلثي اللام- مات، وأهلكه واستهلكه وهلكه يهلكه لازم ومتعدٍ-انتهى. وعلى تقدير كونه لازماً في الحديث فالتقدير: ما هلكوا إلا لعدم كون الفصل بين صلاتهم. وقال ابن حجر: أي ما هلك أهل الكتاب بشيء فعلوه عقب صلاتهم فإنهم هلكوا بأشياء كثيرة غير هذا، فتعين رعاية خصوص ما قدرت، خلافاً لمن قدر عاماً بسائر أحواله-انتهى. قال القاري: يريد به ابن حجر الاعتراض على الطيبي، والظاهر أن هذا الهلاك مختص بمصليهم بخلاف سائر أسباب الهلاك، أو الحصر ادعائي للمبالغة والله أعلم- انتهى. (فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - بصره) أي إليهما. (أصاب الله بك) قيل: الباء زائدة، وقيل: الباء للتعدية والمفعول محذوف، أي أصاب الله بك الرشد. وقال الطيبي: من باب القلب أي أصيبت الرشد فيما فعلت بتوفيق الله وتسديده، ونظيره: "عرضت الناقة على الحوض"، أي عرضت الحوض على الناقة، وهو باب واسع في البلاغة. وقال ابن حجر: الهمزة للتعدية، والباء(3/330)
رواه أبوداود.
980- (15) وعن زيد بن ثابت، قال: ((أمرنا أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين، ونكبر أربعاً وثلاثين، فأتى رجل في المنام من الأنصار، فقيل له: أمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسبحوا في دبر كل صلاة كذا وكذا؟ قال الأنصاري في منامه: نعم. قال: فاجعلوها خمساً وعشرين، خمساً وعشرين، واجعلوا فيها التهليل. فلما أصبح غدا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فافعلوا)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زائدة للتأكيد، والتقدير: أصابك الله الحق، أي جعلك الله مصيباً له في سائر أقوالك وأفعالك. (رواه أبوداود) وسكت عنه، وقال المنذري: في إسناده أشعث بن شعبة، والمنهال بن خليفة، وفيهما مقال-انتهى. ويشهد له ما روى أحمد وأبويعلى، عن عبد الله بن رباح، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر، فقام رجل يصلي، فرآه عمر، فقال له: اجلس، فإنما هلك أهل الكتاب أنه لم يكن لصلاتهم فصل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحسن ابن الخطاب. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص234) وقال: رجال أحمد رجال صحيح.
980- قوله: (أمرنا) بصيغة المجهول أي أمر ندب. (في دبر كل صلاة) أي عقب كل فريضة، ورواية النسائي بلفظ: قال. (أي زيد بن ثابت) : أمروا أن يسبحوا دبر كل صلاة، الخ. (ونحمد ثلاثاً وثلاثين) أي في دبر كل صلاة. (ونكبر أربعاً وثلاثين) أي تكملة للمائة. (فأتى) بضم الهمزة مبنياً للمفعول. (رجل في المنام من الأنصار) أي فأتاه ملك في منامه. قال الطيبي: لعل هذا الآتي من قبيل الإلهام بنحو ما كان يأتي لتعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، ولذا قرره بقوله يعني الآتي "فافعلوا" وهذه الصورة أجمع لاشتمالها على التهليل أيضاً، والعدد العدد-انتهى. وفيه أن الإلهام يغاير المنام كما لا يخفى. (فقيل له) أي فقال الآتي في المنام للرجل الأنصاري النائم. (أمركم) بتقدير الاستفهام. (كذا وكذا) أي من العدد، والإبهام من المصنف؛ لأن العدد المذكور قبل موجود ههنا عند الثلاثة. (قال) أي الآتي: إذا كنتم تأتون بمائة ولا بد. (فاجعلوها) أي الأذكار الثلاثة. (واجعلوا فيها) أي في الأذكار. (التهليل) أي لا إله إلا الله خمساً وعشرين أيضاً؛ لأنه أفضل الأذكار وفي حديث ابن عمر: وهللوا خمساً وعشرين، فيكون مجموع هذه الأذكار مائة أيضاً، قال الطيبي: الفاء للتسبب مقررة من وجه ومغيرة من وجه، أي إذا كانت التسبيحات هذه، والعدد مائة فقرروا العدد، وأدخلوا فيها التهليل-انتهى. والظاهر أن يكون التهليل قبل التكبير مراعاة للترتيب المشهور الوارد في سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ويؤيده لفظه "فيها". (فلما أصبح) أي الأنصاري. (غدا على النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي ذهب إليه في الغدو أي أول النهار. (فأخبره) بما رأى في المنام. (فافعلوا) لعل المراد فاعملوا به أيضاً. وقال ابن حجر: إن رأيتم ذلك ولا بد، فافعلوا، ومر أن ذلك(3/331)
رواه أحمد والنسائي والدارمي.
981- (16) وعن علي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أعواد هذا المنبر يقول: ((من قرأ آية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أعني الخمس والعشرين من الأنواع الأربعة سنة، والحجة على ذلك هي قوله عليه السلام "فافعلوا" لا مجرد ذلك المنام؛ لأنه لا عبرة بخواطر من ليس بمعصوم لا في اليقظة ولا في النوم، كذا في المرقاة. قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فافعلوا" تقرير لرؤيا الأنصاري لكونها صالحة صحيحة، والرؤيا الصالحة من الله فصار هذا بتقريره - صلى الله عليه وسلم - أحد طرق هذا الذكر، وإن لم يقرره - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حجة، ورواية النسائي بلفظ "اجعلوها كذلك" قال السندي: هذا يقتضى أنه الأولى لكن العمل على الأول لشهرة أحاديثه، والله أعلم. وليس هذا من العمل برؤيا غير الأنبياء بل هو من العمل بقوله - صلى الله عليه وسلم -، فيمكن أنه علم بحقيقة الرؤيا بوحي أو إلهام، أو بأي وجه كان-انتهى. (رواه أحمد) (ج5: ص184، 190) . (والنسائي) قال ميرك: واللفظ له. قلت: اللفظ الذي ذكره المصنف هو لأحمد (ج5: ص184) وليس للنسائي ولا للدارمي، وبين ألفاظ هؤلاء الأئمة الثلاثة اختلاف يسير، كما لا يخفى على من جعل ألفاظ الثلاثة نصب عينه. (والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في المستدرك (ج1: ص253) وصححه ووافقه الذهبي، وأخرج النسائي، وجعفر الفريابي عن ابن عمر بنحو حديث زيد بن ثابت. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر لفظيهما: واستنبط من هذا أن مراعاة العدد المخصوص في الأذكار معتبرة، وإلا لكان يمكن أن يقال لهم أضيفوا لها التهليل ثلاثاً وثلاثين، وقد كان بعض العلماء يقول: إن الأعداد الواردة- كالذكر عقب الصلوات- إذا رتب عليها ثواب مخصوص فزاد الآتي بها على العدد المذكور، لا يحصل له ذلك الثواب المخصوص، لاحتمال أن يكون لتلك الأعداد حكمة وخاصية تفوت بمجاوزة ذلك العدد. قال: شيخنا الحافظ أبوالفضل العراقي في شرح الترمذي: وفيه نظر؛ لأنه أتى بالمقدار الذي رتب الثواب على الإتيان به فحصل له الثواب بذلك، فإذا زاد عليه من جنسه كيف تكون الزيادة مزيلة لذلك الثواب بعد حصوله-انتهى. وبمكن أن يفترق الحال فيه بالنية، فإن نوى عند الانتهاء إليه امتثال الأمر الوارد، ثم أتى بالزيادة فالأمر كما قال شيخنا لا محالة، وإن زاد بغير نية بأن يكون الثواب رتب على عشرة مثلاً فرتبة هو على مائة فيتجه القول الماضي. وقد بالغ القرافي في القواعد، فقال: من البدع المكروهة الزيادة في المندوبات المحدودة شرعاً؛ لأن شأن العظماء إذا حددوا شيئاً أن يوقف عنده، ويعد الخارج عنه مسيئاً للأدب-انتهى. وقد مثله بعض العلماء بالدواء يكون فيه مثلاً أوقية سكر فلو زيد فيه أوقية أخرى لتخلف الانتفاع به، فلو اقتصر على الأوقية في الدواء ثم استعمل من السكر بعد ذلك ما شاء لم يتخلف الانتفاع، ويؤيد ذلك أن الأذكار المتغايرة إذا ورد لكل منها عدد مخصوص مع طلب الإتيان بجميعها متوالية لم تحسن الزيادة على العدد المخصوص. لما في ذلك من قطع الموالاة، لاحتمال أن يكون للموالاة في ذلك حكمة خاصة تفوت بفواتها- انتهى كلام الحافظ.
981- قوله: (وعن علي) بن أبي طالب. (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) حال كونه. (على أعواد هذا المنبر) ذكر هذا(3/332)
الكرسي في دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ومن قرأها حين يأخذ مضجعه آمنه الله على داره ودار جاره، وأهل دويرات حوله)) . رواه البيهقي في شعب الإيمان، وقال: إسناده ضعيف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للدلالة به على مزيد البيان والاستحضار لتلك الواقعة. (دبر كل صلاة) أي مكتوبة كما في رواية أبي أمامة عند الطبراني، والنسائي، وابن حبان. (لم يمنعه من دخول الجنة) أي مانع. (إلا الموت) الحديث بظاهره مشكل؛ لأن الموت ليس بمانع من دخول الجنة، بل هو موصل إلى دخولها فكان الظاهر أن يقول: لم يمنعه من دخول الجنة إلا الحياة، فإن استمرار الحياة وبقاء الإنسان في هذا العالم هو الذي يمنعه من دخولها، فما دام الرجل حياً لا يدخل الجنة. وأجيب عنه بأن المضاف فيه محذوف، أي لا يمنعه من دخولها إلا عدم موته، حذف لدلالة المعنى عليه، واختصت آية الكرسي بذلك لما اشتملت عليه من أصول الأسماء والصفات الإلهية، والوحدانية، والحيوة، والقيومية، والعلم، والملك، والقدرة، والإرادة. وقيل: المعنى لم يمنعه من دخول الجنة معجلاً إلا حصول الموت وكونه شرطاً لدخولها، ولو لم يكن الموت شرطاً لدخولها لدخل الجنة معجلاً وبالفعل، ويقرب منه ما قال التفتازاني من أن معنى الحديث: أنه لم يبق من شرائط دخول الجنة إلا الموت، فكأن الموت يمنع، ويقول لا بد من حضوري أولا ليدخل الجنة. وقيل: المراد من الموت في الحديث كون العبد في البرزخ قبل البعث فإذا بعث يوم القيامة يدخل الجنة من غير توقف. وقيل: المقصود أنه لا يمنع من دخول الجنة شيء من الأشياء البته، فإن الموت ليس بمانع من دخول الجنة بل قد يكون موجباً لدخولها، فهو من قبيل:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وهذا ليس بعيب فلا عيب فيهم أصلاً، فيكون من باب تأكد المدح بما يشبه الذم. وقال الطيبي: أي الموت حاجز بينه وبين دخول الجنة، فإذا تحقق وانقضى حصل دخوله، ومنه قوله عليه السلام: الموت قبل لقاء الله-انتهى. (مضجعة) أي مكانه للنوم. (آمنه الله) أي جعله آمناً أي أمن خوفه من كل مكروه. (على داره) أي على ما في داره. (ودار جاره) أي مالاً ونفساً، وغيرهما. (وأهل دويرات) جمع دويرة تصغير دار. (حوله) بالنصب ظرف. قال ابن حجر: أي وإن لم يلاصق داره، فأريد بالجار هنا حقيقته وهو الملاصق، وإن كان عرفاً يشمله وغيره إلى أربعين دارا من كل جهة من الجهات الأربع. قال الطيبي: عبر عن عدم الخوف بالأمن وعداه بعلى، أي لم يخوفه على أهل داره وهو أهله، ودويرات حوله أن يصيبهم مكروه أو سوء كقوله تعالى. {ما لك لا تأمنا على يوسف} [12: 11] . قال صاحب الكشاف: لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير؟ -انتهى. والحديث يدل على فضيلة آية الكرسي، واستحباب قراءتها دبر كل صلاة مكتوبة، وعند النوم. (رواه البيهقي) . (وقال إسناده ضعيف) قلت: هو ضعيف جداً فإن فيه ضعيفاً وآخر كذاباً، ولذلك أورده ابن الجوزي في الموضوعات من(3/333)
982- (17) وعن عبد الرحمن بن غنم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رواية الحاكم، وعنه رواه البيهقي، ثم قال ابن الجوزي: حبة ضعيف، ونهشل كذاب-انتهى. نعم للشطر الأول من الحديث شاهد قوي، رواه النسائي وابن حبان والطبراني من حديث أبي أمامة بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت. قال الحافظ في بلوغ المرام: رواه النسائي، وصححه ابن حبان، وزاد فيه الطبراني. {قل هو الله أحد} [1:112] انتهى. وقال المنذري في الترغيب: رواه النسائي والطبراني بأسانيد أحدها صحيح. وقال شيخنا أبوالحسن: هو على شرط البخاري، وابن حبان في كتاب الصلاة وصححه، وزاد الطبراني في بعض طرقه "وقل هو الله أحد"، وإسناده بهذه الزيادة جيد أيضاً –انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10:ص102) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط بأسانيد أحدها جيد-انتهى. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص117) : وقد أخرج هذا الحديث الدمياطي من حديث أبي أمامة، وعلي، وعبد الله بن عمرو، والمغيرة، وجابر وأنس رضي الله عنهم، وقال: وإذا انضمت هذه الأحاديث بعضها إلى بعض أحدثت قوة-انتهى. قلت: اختلاف طرق الحديث وتعدد مخارجه يدل على أن للحديث أصلاً صحيحاً، ويؤيده ما روي عن الحسن بن علي مرفوعاً بلفظ: من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى، قال المنذري والهيثمي: رواه الطبراني بإسناد حسن.
982- قوله: (وعن عبد الرحمن بن غنم) بفتح الغين المعجمة وسكون النون. أشعري، مختلف في صحبته، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين، وهذا هو الحق. قال ابن عبد البر: عبد الرحمن بن غنم الأشعري جاهلي، كان مسلماً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، ولازم معاذ بن جبل منذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن إلى أن مات معاذ، وكان من أفقه أهل الشام. وهو الذي فقّه عامة التابعين بالشام، وكانت له جلالة، وقد روى عن قدماء الصحابة مثل عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل. مات سنة. (78) وذكره الحافظ في الإصابة (ج3:ص97، 98) في القسم الثالث من حرف العين؛ وقال: تابعي شهير، له إدراك وهاجر في زمن عمر، واختص هذا القسم للمخضرمين الذين أدركوا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يروه، سواء أسلموا في حياته أم لا: قال: وهؤلاء ليسوا أصحابه باتفاق أهل العلم بالحديث، وإن كان بعضهم قد ذكر بعضهم في كتب معرفة الصحابة فقد أفصحوا بأنهم لم يذكروهم إلا لمقاربتهم لتلك الطبقة، لا أنهم من أهلها، وممن أفصح بذلك ابن عبد البر، وقبله أبوحفص ابن شاهين، وأحاديث هؤلاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلة بالاتفاق بين أهل العلم بالحديث، وقد صرح ابن عبد البر نفسه بذلك في التمهيد وغيره من كتبه. (قبل أن ينصرف) أي من مكان صلاة. (ويثني) بفتح الياء أي وقبل أن يثني. (رجليه) بالتثنية أي يعطفهما ويغيرهما عن هيئة التشهد، وفي المسند (ج4:ص227) "رجله" بالإفراد، وكذا في مجمع الزوائد (ج1:ص107) .(3/334)
من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، كتب له بكل واحدة عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكانت له حرزاً من كل مكروه، وحرزاً من الشيطان الرجيم، ولم يحل لذنب أن يدركه إلا الشرك، وكان من أفضل الناس عملاً، إلا رجلاً يفضله، يقول أفضل مما قال) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(من صلاة المغرب والصبح) تنازع فيه الفعلان، وفي حديث عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر عند الترمذي: من قال في دبر صلاة الفجر وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم. قال الجزري: أي عاطف رجليه في التشهد قبل أن ينهض. وقوله: "من قال قبل أن يثنى رجليه" هذا ضد الأول في الأول ومثله في المعنى؛ لأنه أراد قبل أن يصرف رجله عن حالته التي هو عليها في التشهد. (كتب له بكل واحدة) أي من المرات أو من الكلمات. (ومحيت عنه عشر سيئات) والمحو أبلغ من الغفران. (ورفع له عشر درجات) يجوز في مثل هذا تذكير الفعل وتأنيثه، ولذا ذكر الفعل فيها وفي القرينة الأولى، أما التأنيث فلاكتساب لفظ عشر التأنيث من الإضافة، وأما التذكير فبظاهر اللفظ. (وكانت) أي الكلمات. (له) أي للقائل وليس هذا اللفظ في المسند. (حرزاً) حفظاً. (من كل مكروه) من الآفات. (وحرزاً من الشيطان الرجيم) تخصيص بعد تعميم لكمال الاعتناء به، وفي حديث أبي ذر: وكان. (أى القائل) يومه ذلك كله في حرز من كل مكروه، وحرس من الشيطان. (ولم يحل) بكسر الحاء المهملة وتشديد اللام، وفي حديث أبي ذر: لم ينبغ أي لم يجز. (لذنب أن يدركه) أي يهلكه ويبطل عمله، زاد في حديث أبي ذر: في ذلك اليوم. (إلا الشرك) أي إن وقع منه، وهو بالرفع، قال الطيبي: فيه استعارة ما أحسن موقعها فإن الداعي إذا دعا بكلمة التوحيد فقد أدخل نفسه حرماً آمناً فلا يستقيم للذنب أن يحل ويهتك حرمة الله، فإذا خرج عن حرم التوحيد أدركه الشرك لا محالة، والمعنى لا ينبغي لذنب أي ذنب كان أن يدرك الداعي ويحيط به من جوانبه، ويستأصله سوى الشرك كما قال تعالى. {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} [81:2] يعني استولت عليه، وشملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها، لا يخلو عنها شيء من جوانبه، وهذا إنما يصح في شأن المشرك؛ لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم يحط به –انتهى. وقيل: المعنى لم يؤاخذ بذنبه إلا بذميمة الشرك. قال الله تعالى. {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [116:4] . (إلا رجلاً يفضله) فيه دليل على أن الزيادة على العدد المذكور لا تكون مزيلة لذلك الثواب، بل تكون سبباً لزيادة الأجر. (يقول) بدل أو بيان لقوله "يفضله" وقوله: (أفضل مما قال) يحتمل أنه يدعو به أكثر، وأنه يأتي بدعاء أو قراءة أكثر منه، قاله الطيبي.(3/335)
رواه أحمد.
983- (18) وروى الترمذي نحوه عن أبي ذر إلى قوله: "إلا الشرك" ولم يذكر "صلاة المغرب" ولا "بيده الخير"، وقال: هذا حديث حسن، صحيح، غريب.
984- (19) وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،. ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث قبل نجد فغنموا غنائم كثيرة، وأسرعوا الرجعة. فقال: فقال رجل منا: لم يخرج ما رأينا بعثاً أسرع رجعة ولا أفضل غنيمة من هذا البعث. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(رواه أحمد) (ج4:ص227) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10:ص108) : رجاله رجال الصحيح غير شهر ابن حوشب، وحديثه حسن-انتهى. قلت: رواية أحمد هذه مرسلة؛ لأن عبد الرحمن بن غنم تابعي على القول الصحيح، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يروه، ولم يسمع منه، والظاهر أنه أخذ هذا الحديث من أبي ذر كما يدل عليه رواية الترمذي.
983- قوله: (وروى الترمذي نحوه) أي في الدعوات من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم. (عن أبي ذر) الخ. وحديث أبي ذر هذا أخرجه أيضاً النسائي، والطبراني في الأوسط. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج10:ص107، 108) تنبيه: ظاهر أحاديث الباب أن هذه الفضائل لكل ذاكر، وذكر القاضي عن بعض العلماء أن الفضل الوارد في مثل هذه الأعمال الصالحة والأذكار إنما هو لأهل الفضل في الدين، والطهارة من الجرائم العظام، وليس من أصر على شهواته، وانتهك دين الله وحرماته بلا حق بالأفاضل المطهرين من ذلك، ويشهد له قوله تعالى. {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية [21:45] ، ونحو ذلك نقل الزرقاني عن ابن بطال، ولا يتوهم من هذا أن ذلك يذهب ضائعاً بلا فائدة، بل المراد أن من كان هذا شأنه لا يحصل له ما وعد على هذه الأذكار من الأجر والثواب ولا يلتحق بأهل الفضل والكمال في الدين بإدمان الذكر مع الإصرار على الشهوات والمعاصي، وإن كان ذلك لا يخلو عن فائدة ونفع.
984- قوله: (بعث بعثاً) أي أرسل جماعة، قال الطيبي: البعث بمعنى السرية من باب تسمية المفعول بالمصدر. (قبل نجد) بكسر القاف وفتح الموحدة، أي إلى جهته، قال في النهاية: والنجد ما ارتفع من الأرض، وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما يلي العراق-انتهى. وقد يراد به العراق نفسها كما في حديث: هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان. (وأسرعوا الرجعة) أي الرجوع إلى المدينة. (فقال رجل منا) بطريق الغبطة على وجه التعجب، وقيل: تحسراً على ما فاته من المال. (لم يخرج) صفة رجل. (ولا أفضل) أي أكثر أو أنفس. (فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي مزهداً لهم في الدنيا، مرغباً(3/336)
ألا أدلكم على قوم أفضل غنيمة وأفضل رجعة؟ قوماً شهدوا صلاة الصبح، ثم جلسوا يذكرون الله حتى طلعت الشمس، فأولئك أسرع رجعة، وأفضل غنيمة)) رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب، وحماد بن أبي حميد الراوي هو ضعيف في الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لهم في العقبى، منها على أن الذكر أفضل من كثير من العبادات الشاقة الصعبة، وأن ثواب الآخرة أفضل مما فاتهم من المال. (ألا أدلكم على قوم أفضل غنيمة) أي لبقاء هذه ودوامها، وفناء تلك وسرعة انقضاءها. (وأفضل رجعة) كذا في أكثر نسخ المشكاة ووقع في بعضها "أسرع رجعة" وكذلك وقع في جامع الترمذي، وهكذا نقله المنذري في الترغيب (ج2:ص39) والجزري في جامع الأصول (ج5:ص343) ونسبا الحديث للترمذي، والظاهر أن ما وقع في أكثر نسخ المشكاة خطأ من النساخ، والله أعلم. (قوماً) أي أعنى أو أذكر قوماً على المدح، وفي بعض النسخ "قوم" وكذا وقع في جامع الترمذي أي هم قوم. (شهدوا صلاة الصبح) أي حضروا جماعتها. (فأولئك أسرع رجعة) أي إلى أهلهم ومعايشهم؛ لانتهاء عملهم الموعود عليه بذلك الثواب العظيم بعد مضي نحو ساعة زمانية، وأهل الجهاد لا ينتهي عملهم غالباً إلا بعد أيام كثيرة. (رواه الترمذي) أي في الدعوات من جامعه. قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث وعزوه للترمذي: ورواه البزار وأبويعلى وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة بنحوه، وذكر البزار فيه أن القائل "ما رأينا" هو أبوبكر رضي الله عنه، وقال في آخره. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر! ألا أدلك على ما هو أسرع إياباً وأفضل مغنماً؟ من صلى الغداة في جماعة، ثم ذكر الله حتى تطلع الشمس. وقال: ورجال إسناد أبي يعلى رجال الصحيح. (وحماد بن أبي حميد) هو محمد ابن أبي حميد المدني أبوإبراهيم الأنصاري، فلقبه حماد، واسمه محمد، وكنيته أبوإبراهيم. (الراوي) بسكون الياء. (هو ضعيف في الحديث) أي ضعيف عند أهل الحديث، أو ضعيف في حديثه. وقال البخاري فيه: أنه منكر الحديث، وكذا قال أبوحاتم وابن معين والساجي، وقال الدوري عن ابن معين: ضعيف ليس حديثه بشيء، وقال الجوزجاني: واهي الحديث ضعيف. وقال أبوزرعة: ضعيف الحديث.(3/337)
(19) باب مالا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه
{الفصل الأول}
985- (1) عن معاوية بن الحكم، قال. ((بينا أنا أصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أُمياه!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(باب مالا يجوز من العمل في الصلاة) يعم المحرمات والمكروهات والمفسدرات وغيرها. (وما يباح منه) أي من العمل فيها.
985- قوله: (عن معاوية بن الحكم) بفتحتين، السلمي، صحابي، قال ابن عبد البر: كان ينزل المدينة ويسكن في بنى سليم له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث واحد في الكهانة والطيرة والخط وتشميت العاطس وعتق الجارية. أحسن الناس له سياقة يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء عنه، ومنهم من يقطعه فيجعله أحاديث. قال الحافظ: وله حديث آخر من طريق ابنه كثير بن معاوية عنه-انتهى. يعني بذلك ما أخرجه البغوي والطبراني وابن السكن وابن مندة من طريق كثير بن معاوية بن الحكم السلمي عن أبيه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزى أخي علي بن الحكم فرساً له خندقاً-الحديث. وقد ذكره الحافظ في ترجمة علي بن الحكم في القسم الأول من حرف العين من الإصابة (ج2:ص506-507) وقال الخزرجي في الخلاصة: له ثلاثة عشر حديثاً، انفرد له مسلم بحديث. (إذا عطس) بفتح الطاء من نصر وضرب. (فقلت) أي وأنا في الصلاة. (يرحمك الله) ظاهره أنه في جواب قوله الحمدلله. (فرماني القوم بأبصارهم) أي نظروا إليّ حديداً انكاراً وزجراً وتشديداً كما يرمي بالسهم. قال الطيبي: المعنى أشاروا إلى بأعينهم من غير كلام ونظروا إلى نظر زجر كيلا أتكلم في الصلاة. (واثكل أمياه) "وا" حرف للندبة، و"ثكل" بضم المثلثة وإسكان الكاف وبفتحهما جميعاً، لغتان كالبخل والبخل حكاهما الجوهري وغيره، وهو فقدان المرأة ولدها وحزنها عليه لفقده، و"أمياه" بكسر الميم أصله أمي، والثكل مضاف إلى أم المضاف إلى يا المتكلم زيدت عليه ألف الندبة لمد الصوت وأردفت بهاء السكت، نحو وا أمير المؤمنيناه، يستعمله العرب عند التعجب من أمر واستبعاده.(3/338)
ما شأنكم تنظرون إلى؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شمتني قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والمعنى: وافقدها لي فاني هلكت، وفي بعض الروايات: وأثكل أماه أي من غير زيادة الياء. (ما شأنكم) أي ما حالكم وأمركم. (تنظرون إلى) نظر الغضب. (فجعلوا) أي شرعوا. (يضربون بأيديهم على أفخاذهم) أى زيادة في الإنكار علي، وهذا محمول على أنه كان قبل أن يشرع التسبيح لمن نابه شيء في صلاته للرجال والتصفيق للنساء، وفيه دليل على أن الفعل في الصلاة لا تبطل به الصلاة. (يصمتونني) بتشديد الميم من التصميت أي يسكتونني يعني يأمرونني بالصمت والسكوت ويشيرونني إليه. (لكني سكت) لا بد من تقدير جواب لما ومستدرك لكن ليستقيم المعنى، فالتقدير: فلما رأيتهم يصمتونني غضبت وتغيرت ولكن سكت ولم أعمل بمقتضى الغضب، قاله الطيبي: وقيل: المعنى لما عرفت أنهم يأمرونني بالصمت عجبت لجهلي بقبح ما ارتكبت ومبالغتهم في الإنكار على وأردت أن أخاصمهم لكن سكت امتثالاً؛ لأنهم أعلم مني، ولم أعمل بمقتضى غضبي ولم أسأل عن السبب. (فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أى فرغ من الصلاة، وجوابه قوله قال إن هذه الصلاة، وقوله: فيأبى وأمي إلى قوله: قال معترضة بين لما وجوابه، والفاء فيه كما في قوله تعالى. {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه، وجعلناه هدى لبنى إسرائيل} [32: 23] ، فإنه عطف وجعلناه على أتينا وأوقعها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، كذا قاله الطيبي: وتبعه ابن حجر، وقال: واعترض بينهما بما فيه غاية الإلتئام والمناسبة لهما. وقال ميرك: الأولى أن يقال جواب قوله "فلما صلى" محذوف، وهو ما دل عليه جملة. (فبأبى هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه) أي أشتغل بتعليمي بالرفق وحسن الكلام، تم كلامه. وضمير "هو" يعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي هو مفدى بهما، وفي رواية: فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاني بأبي وأمي هو ما ضربني الخ. (فوالله ما كهرني) أي ما انتهرني وزجرني، أو ما استقبلني بوجه عبوس. قال الطيبي: الكهر والقهر والنهر أخوات. وقال الجزري: يقال كهره إذا زبره واستقبله بوجه عبوس. (ولا ضربني ولا شتمني) أي لا أغلط لي في القول. قال القاري: أراد نفي أنواع الزجر والعنف واثبات كمال الإحسان واللطف. (قال) جواب لما، على ما قاله الطيبي، واستئناف مبين لحسن التعليم، على مختار غيره. (إن هذه الصلاة) إشارة إلى جنس الصلاة فيشمل الفرائض وغيرها. (لا يصلح) وفي رواية لا يحل. (فيها شيء من كلام الناس) أي ما يجري في مخاطباتهم ومحاوراتهم. قال الشوكاني: الظاهر أن المراد بكلام الناس ههنا التكليم للغير، وهو الخطاب للناس بشهادة السبب وقال القاضي: أضاف الكلام إلى الناس ليخرج منه الدعاء والتسبيح والذكر فإنه لا يراد بها خطاب الناس(3/339)
إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني حديث عهد بجاهلية وقد جاءنا الله بالإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأفهامهم، واستدل بإطلاق الحديث على تحريم الكلام في الصلاة مطلقاً، أي سواء كان لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها وسواء كان عمداً أو نسياناً أو جهلاً وسواء كان قليلاً أو كثيراً، وإليه ذهبت الحنفية، قالوا: لا فرق بين كلام العامد والناسي والجاهل، والحق ما ذهب إليه مالك من الفرق بين كلام العامد لغير مصلحة الصلاة وبين كلام العامد لمصلحة الصلاة وكلام الناسي والجاهل فيحرم الأول ويفسد الصلاة به، وهذا هو محمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وأما كلام العامد لمصلحة الصلاة وكلام الناسي والجاهل فلا يفسد الصلاة به لحديث ذي اليدين المشهور، ولحديث معاوية هذا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بإعادة الصلاة لكن علمه تحريم الكلام فيما يستقبل، فيكون حديث ذي اليدين وحديث معاوية هذا وما في معناهما مخصصين لعموم قوله: لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وبناء العام على الخاص متعين، وسيأتي بسط الكلام في هذه المسألة في شرح حديث ذي اليدين إن شاء الله، وفي الحديث النهي عن تشميت العاطس في الصلاة، وأنه من كلام الناس الذي يحرم في الصلاة وتفسد به إذا أتى به عالماً عامداً، وأن من فعله جاهلاً لم تبطل صلاته حيث لم يأمره بالإعادة، وأما الحمد للعاطس في الصلاة فيجوز؛ لأنه ليس من كلام الناس. (إنما هي) أي الصلاة، وفي رواية: إنما هو، أي ما يحل فيها من الكلام. (التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) قال النووي: معناه هذا ونحوه، فإن التشهد والدعاء والتسليم من الصلاة، وغير ذلك من الأذكار مشروع فيها، فمعناه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ومخاطباتهم، وإنما هي التسبيح وما في معناه من الذكر والدعاء وأشباههما مما ورد به الشرع. وفيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن تكبيرة الاحرام فرض من فروض الصلاة وجزء منها. وقد تمسك بالحديث الحنفية والحنابلة على منع الدعاء في الصلاة بما لم يشبه المأثور من القرآن والسنة من ملاذ الدنيا وحوائجها الجائزة المباحة، قالوا: لأن ذلك من كلام الناس. وفيه أن المراد بكلام الناس في الحديث مخاطبتهم بتوجيه الكلام إليهم، لا مخاطبة الله تعالى بالدعاء المأذون به في الأحاديث الصحيحة بدليل سبب الحديث، وإن سلمنا أنه يدخل في عمومه ما ذكروا خلافاً للظاهر المتبادر كان لنا أن نقول إن الأحاديث الصحيحة بالأدعية المعينة والمطلقة وبتخيير الدعاء قد خصصت هذا العموم، وقد كان تحريم الكلام بمكة، وأكثر الأدعية وكذا الأمر بتخيير الدعاء كان في المدينة. (أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) للشك من الراوي، أي عين هذا الكلام قال أو مثله. (إني حديث عهد) أي جديدة. (بجاهلية) متعلق بعهد، وما قبل ورود الشرع يسمى جاهلية لكثرة جهالاتهم وفحشها، يعني انتقلت عن الكفر إلى الإسلام ولم أعرف بعد أحكام الدين. (وقد جاءنا الله بالإسلام) هذا لا يتعلق بما قبله، بل شروع في ابتداء سؤال منه عليه السلام، كما يدل عليه رواية النسائي وبعض(3/340)
وإن منا رجالاً يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم، قلت: ومنا رجال يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
روايات أحمد (ج5:ص448) . (وإن منا رجالاً يأتون الكهان) بضم الكاف جمع كاهن، وهو من يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدعي معرفة الأسرار، ومن الكهنة من يزعم أن له تابعاً من الجن يلقي عليه الأخبار، ومنهم من يدعي إدراك الغيب بفهم أعطيه، ومنهم من يدعي معرفة الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا القسم يسمى عرافاً، كمن يدعي معرفة المسروق ومكان السرقة والضالة ونحوهما، والمنجم من ينظر في النجوم أي الكواكب ويحسب سيرها ومواقيتها ليعلم بها أحوال العالم، ومنهم من يسمي المنجم كاهناً. وقوله: (فلا تأتهم) يشمل النهي عن إتيان هؤلاء كلهم والرجوع إليهم وتصديقهم فيما يدعونه. قال العلماء: وإنما نهى عن إتيان الكهان؛ لأنهم يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب بذلك، ولأنهم يلبسون على الناس كثيراً من الشرائع، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم فيما يقولون. (ومنا رجال يتطيرون) التطير أخذ الفأل الشؤم، من الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن. قال في القاموس: الطيرة والطيرة الطورة ما يتشاءم به من الفأل الردئ-انتهى. وأصله أنهم كانوا يأتون الطير أو الظبي فينفرونه، فإن أخذ ذات اليمين مضوا إلى ما قصدوا وعدوه حسناً، وإن أخذ ذات الشمال انتهوا عن ذلك وتشاءموا به، وكذا إن عرض في طريقهم، فإن مر عن يمينهم إلى الشمال تشاءموا، وإن مر من الشمال إلى اليمين مضوا، والتفاؤل يجيء للتطير وغيره، وأكثر ما يستعمل في الفأل الحسن، وهو غير ممنوع جداً. قال الجزري في النهاية: الطيرة هي التشاءم بالشيء، وهي مصدر تطير طيرة، كما تقول تخير خيرة، ولم يجئ من المصادر غيرهما، وأصل التطير التفاؤل بالطير، واستعمل لكل ما يتفاءل ويتشأم به، وقد كانوا في الجاهلية يتطيرون بالصيد كالطير والظبي فيتيمنون بالسوانح ويتشأمون بالبوارح، والبوارح على ما في القاموس من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك، والسوانح ضدها. وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، ويمنع السير إلى مطالبهم، فنفاه الشرع وأبطله ونهاهم عنه. (قال: ذاك) أي التطير. (شيء يجدونه في صدورهم) أي ليس له أصل يستند إليه، ولا له برهان يعتمد عليه، ولا هو في كتاب نازل من لديه. وقيل: معناه أنه معفو؛ لأنه يوجد في النفس بلا اختيار، نعم المشي على وقفه منهي عنه، لذلك قال. (فلا يصدنهم) أي لا يمنعهم عما هم فيه، ولا يخفى أن التفريع على هذا المعنى يكون بعيداً، قاله السندي. قلت: المعنى الثاني هو الذي ذكره عامة العلماء. قال النووي: قال العلماء معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورة، ولا عتب عليكم في ذلك؛ لأنه غير مكتسب لكم فلا تكليف به، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم، فهو الذي تقدرون عليه وهو مكتسب لكم فيقع به التكليف. فنهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن العمل بالطيرة ولامتناع من تصرفاتهم(3/341)
قال قلت: ومنا رجال يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك)) رواه مسلم.
قوله: لكني سكت، هكذا وجدت في صحيح مسلم وكتاب الحميدي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسببها. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في النهي عن التطير والطيرة، وهي محمولة على العمل بها لا على ما يوجد في النفس من غير عمل على مقتضاه- انتهى. وقال القاري: يعني هذا وهم ينشأ من نفوسهم ليس له تأثير في اجتلاب نفع وضر، وإنما هو شيء يسوله الشيطان ويزينه حتى يعملوا بقضيته ليجرهم بذلك إلى اعتقاد مؤثر غير الله تعالى، وهو كفر صراح، فلا يمنعهم التطير من مقاصدهم؛ لأنه لا يضرهم ولا ينفعهم ما يتوهمونه. وقال الطيبي: أي لا يمنعهم عما يتوجهون إليه من المقاصد أو من سواء السبيل ما يجدون في صدورهم من الوهم، فالنهي وارد على ما يتوهمونه ظاهراً، وهم منهيون في الحقيقة عن مزاولة ما يوقعهم من الوهم في الصد. (ومنا رجال يخطون) يشير إلى علم الرمل والخط عند العرب، فيما فسره ابن الأعرابي، أن يأتي الرجل العراف وبين يديه غلام، فيأمره بأن يخط في الرمل خطوطاً كثيرة وهو يقول: ابني عيان أسرعا البيان، ثم يأمره أن يمحو منها اثنين اثنين، ثم ينظر إلى أخر ما يبقى من تلك الخطوط، فإن كان الباقي منها زوجاً فهو دليل الفلج والظفر، وإن كان فردا فهو دليل الخيبة والبأس، وقد طول الكلام في ذلك في لسان العرب. (كان نبي من الأنبياء يخط) قيل: هو إدريس أو دانيال عليهما الصلاة والسلام. (فمن وافق) ضمير الفاعل راجع إلى "من"، أي فمن وافق فيما يخطه. (خطه) بالنصب على الأصح المشهور، وروي مرفوعاً، فيكون المفعول محذوفاً أي من وافق خطه، خطه أي خط ذلك النبي في الصورة والحالة. (فذاك) أي هو المصيب، وهو كالتعليق بالمحال. قال النووي: اختلف العلماء في معناه، فالصحيح أن معناه من وافق خطه فهو مباح له، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يباح إلا بيقين بالموافقة، وليس لنا يقين بها. وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فمن وافق خطه فذاك، ولم يقل حرام بغير تعليق على الموافقة، لئلا يتوهم متوهم إن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخط، فحافظ النبي - صلى الله عليه وسلم - على حرمة ذاك النبي، مع بيان الحكم في حقنا، فالمعنى أن ذلك النبي لا منع في حقه، وكذا لو علمتم موافقته، ولكن لا علم لكم بها. وقال الخطابي في المعالم (ج1ص222) : يشبه أن يكون أراد به الزجر عنه وترك التعاطي له، إذ كانوا لا يصادفون معنى خط ذلك النبي؛ لأن خطه كان علماً، أي معجزة لنبوته وقد تقطعت نبوته فذهبت معالمها-انتهى. وقال ابن حجر: قال المحرمون لعلم الرمل - وهم أكثر العلماء - لا يستدل بهذا الحديث على إباحته؛ لأنه علق الأذن فيه على موافقة خط ذلك النبي، وموافقته غير معلومة، إذ لا تعلم إلا من تواتر ونص منه عليها الصلاة السلام أو من أصحابه أن الأشكال التي لأهل علم الرمل كانت كذلك، ولم يوجد ذلك، فاتضح تحريمه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص447- 448) وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص249) . (قوله: لكني سكت، هكذا وجدت في صحيح مسلم وكتاب الحميدي) أي الجمع بين الصحيحين.(3/342)
وصحح في جامع الأصول بلفظه كذا فوق لكني.
986- (2) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وصحح في جامع الأصول) لابن الأثير الجزري. (بلفظه كذا) أي بكتابة لفظه كذا. (فوق لكني) قال القاري: أي كذا في الرواية لفظ لكني مسطور، دفعاً لوهم أنه ليس في الحديث بمذكور، والحاصل أن لكني ثابت في الأصول، لكنه ساقط في المصابيح-انتهى. قلت: غرض المصنف من هذا الكلام أن لفظه لكني في قوله: لكني سكت، صحيحة رواية ومعنى، ثابتة في الأصول، لا ينبغي الشك في صحتها وثبوتها، ولفظه كذا علامة للتصحيح، فإنهم كما يكتبون لفظ صح على كلام صح رواية ومعنى، وهو عرضة للشك أو الخلاف، هكذا يكتبون لفظه كذا فوق اللفظ الذي هو محل الشك أو الخلاف ومظنة لعدم الصحة، ويعنون به أن هذا اللفظ صحيح ثابت في الأصول، فلفظه كذا تصحيح لمثل هذا اللفظ، كما أن قولهم "صح" علامة ورمز للتصحيح، وسبب كون لفظه لكني، في قوله: لكني سكت، عرضة للشك في صحته أن في ذكرها ههنا إشكالاً، كما لا يخفى، وأيضاً لم تقع هذه اللفظة في بعض روايات أحمد، ولفظها: فلما رأيتهم يصمتونني سكت حتى صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني.
986- قوله: (كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا) أي السلام بالقول واللفظ حين كان الكلام مباحاً في الصلاة. وفي رواية لأبي داود: كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا. (فلما رجعنا من عند النجاشي) بفتح النون وتكسر وتخفيف الجيم وبالشين المعجمة وتخفيف الياء وتشدد كياء النسب، في القاموس: النجاشي بتشديد الجيم، وتخفيفها أفصح وبكسر النون وقيل: هو أفصح، وقال الجزري: الياء مشددة، وقيل: الصواب تخفيفها، وأفاد ابن التين أنه بسكون الياء، يعني أنها أصلية لا ياء النسبة، وحكى غيره تشديد الياء أيضاً، وحكى ابن دحية كسر نونه، وهو لقب لملك الحبشة، كقيصر لملك الروم، وكسرى لملك فارس، وفرعون لملك مصر. واسمه أصحمة، أسلم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومات سنة تسع من الهجرة عند الأكثر، وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه بالمدينة اعلم أن جماعة من الصحابة كانت هاجرت من مكة إلى أرض الحبشة، حين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فراراً بدينهم من الفتنة، ثم بلغهم أن المشركين أسلموا فرجعوا إلى مكة فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، واشتد الأذى عليهم فخرجوا إليها أيضاً، فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى، وكان ابن مسعود مع الفرقتين، ولما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وبلغهم مهاجرته إليها رجعوا من الحبشة إلى المدينة، حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجهز لغزوة بدر. واختلف في مراد قول ابن مسعود: فلما رجعنا هل أراد الرجوع الأول أي إلى مكة من الهجرة الأولى، أو الرجوع الثاني أي إلى المدينة من الهجرة الثانية، فمال إلى كل منها فرقة، والراجح أن ابن مسعود أراد رجوعه الثاني. وقد ورد(3/343)
سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: إن في الصلاة لشغلاً))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنه قدم المدينة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يتجهز لبدر. وفي مستدرك الحاكم عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي ثمانين رجلاً، فذكر الحديث بطوله، وفي آخره: فتعجل عبد الله بن مسعود فشهد بدراً، وفي السير لابن إسحاق: أن المسلمين بالحبشة لما بلغهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلاً، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس منهم سبعة، وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلاً، فشهدوا بدراً، فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء، فظهر أن اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد رجوعه كان بالمدينة قبل بدر، وعلى هذا لا يكون في حديث ابن مسعود دلالة على أن نسخ الكلام في الصلاة كان بمكة قبل الهجرة، بل هو يتفق مع حديث زيد بن أرقم على أن النهي عن الكلام في الصلاة كان بالمدينة بعد الهجرة بمدة يسيرة، ولفظه قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {وقوموا لله قانتين} [2: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وأبوداود والنسائي، وللترمذي: كنا نتكلم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، وحديث زيد هذا ظاهر في أن نسخ الكلام في الصلاة وقع بهذه الآية، فيقتضى أن النسخ وقع بالمدينة؛ لأن الآية مدنية بالاتفاق، وصحبة زيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت بالمدينة فإنه ممن لم يدخل مكة قط، مع أنه يروي أنه وجد زمان جواز الكلام في الصلاة ونسخه كليهما، فدل على أن الكلام كان جائزا بالمدينة أيضاً إلى زمن أدركه زيد بن أرقم ثم أنه نسخ، كما رواه هو، فلو كان نسخ الكلام بمكة لم يكن لزيد بن أرقم أن يدرك جوازه ويرويه ويروي نسخه أيضاً. ويقوي ذلك ما زاد في رواية كلثوم الخزاعي عن ابن مسعود عند النسائي: أن الله أحدث في الصلاة أن لا تكلموا إلا بذكر الله وما ينبغي لكم فقوموا لله قانتين، فأمرنا بالسكوت، فإن هذه الرواية ظاهرة في أن كلاً من ابن مسعود وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} وقال: من مال إلى أن المراد بقوله فلما رجعنا الرجوع الأول: إن تحريم الكلام كان بمكة، وحمل حديث زيد بن أرقم على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ، وقال لا مانع أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوفقه. وفيه أن قول زيد بن أرقم يكلم الرجل منا صاحبه وأن ذلك كان خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يرد هذا التأويل؛ لأن تكليم بعضهم بعضاً في الصلاة لا يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - لما قد صح عنه أنه كان يراهم في الصلاة من خلفه. (سلمنا عليه) أي وهو في الصلاة. (فلم يرد) بفتح الدال ويجوز ضمها وكسرها. (علينا) أي السلام باللفظ فيها، فقد روى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد على ابن مسعود في هذه القصة السلام بالإشارة. (فقلنا) أي بعد الصلاة. (إن في الصلاة لشغلاً) بضم الشين وسكون الغين وبضمهما، قال الشوكاني: ههنا صفة محذوفة، والتقدير: لشغلاً كافياً عن غيره من الكلام. أو مانعاً من الكلام، وقال الطيبي: التنكير فيه للتنويع، أي بقراءة القرآن والذكر والدعاء لا الكلام، أو للتعظيم أي شغلاً وأي شغل؛ لأنها مناجاة مع الله تعالى، تستدعي(3/344)
متفق عليه.
987- (3) وعن معيقيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل يسوى التراب حيث يسجد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الاستغراق بخدمته فلا تصلح للاشتغال بالغير، وقال النووي: معناه أن وظيفة المصلي الاشتغال بصلاته وتدبر ما يقوله، فلا ينبغي أن يعرج على غيرها من رد السلام ونحوه. وزاد في الرواية الآتية في الفصل الثاني: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة. والحديث استدل به على كراهة ابتداء السلام على المصلي، لكونه ربما شغل بذلك فكره واستدعى منه الرد، وهو ممنوع منه، وبذلك قال جابر وعطاء والشعبي ومالك في رواية ابن وهب. وقال في المدونة: لا يكره، وبه قال أحمد والجمهور. ثم اختلف هؤلاء فرخصت طائفة للمصلي في رد السلام قولاً ونطقاً، وهم سعيد بن المسيب والحسن البصري وقتادة وأبوهريرة، والحديث حجة عليهم لنفي الرد فيه صراحة، وقال أكثر الفقهاء لا يرد السلام لفظاً، قالوا يرد إذا فرغ من الصلاة باللفظ أو هو فيها بالإشارة. قال في شرح السنة: أكثر الفقهاء على أنه لا يرد بلسانه، ولو رد بطلت صلاته، ويشير بيده أو إصبعه-انتهى. وقال الخطابي: رد السلام في الصلاة قولاً ونطقاً محظور، ورده بعد الخروج من الصلاة سنة، والإشارة حسنة. وقال الشوكاني: مذهب الشافعي والجمهور أن المستحب أن يرد السلام في الصلاة بالإشارة، واستدلوا بحديث ابن عمر وصهيب في الفصل الثاني، وبما روي في معناه. وقال أبوحنيفة: لا يرد في الصلاة مطلقاً لا باللفظ ولا بالإشارة، واستدل له بحديث ابن مسعود هذا. وفيه أنه قد تقدم أن المراد بنفي الرد فيه نفي الرد بالكلام واللفظ، لما روى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين أنه صلى الله عليه وسلم رد على ابن مسعود في هذه القصة السلام بالإشارة، ولو لم ترد هذه الرواية لكان الواجب هو، ذلك جمعاً بينه وبين الأحاديث الصحيحة التي تدل على جواز رد السلام بالإشارة، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص248) .
987- قوله: (وعن معيقيب) بضم الميم وفتح المهملة وسكون المثناة التحتية وكسر القاف بعدها مثناة تحتية ساكنة ثم موحدة، هو ابن أبي فاطمة الدوسي حليف بني عبد الشمس، شهد بدراً وكان أسلم قديماً بمكة وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وأقام بها حتى قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، بالمدينة، وكان على خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستعمله أبوبكر وعمر على بيت المال. قال ابن عبد البر: كان قد نزل به داء الجذام فعولج منه بأمر عمر بن الخطاب بالحنظل فتوقف، وتوفي في خلافة عثمان، وقيل: بل في خلافة علي سنة أربعين. له أحاديث اتفقا على هذا الحديث وانفرد مسلم بآخر. (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل) ولفظ الشيخين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل أي في شأن الرجل حال كونه. (يسوى التراب) أي في الصلاة. (حيث) أي في المكان الذي. (يسجد) فيه، والحديث أخرجه الترمذي بلفظ سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مسح(3/345)
قال: إن كنت فاعلاً فواحدة)) متفق عليه.
988- (4) وعن أبي هريرة: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخصر في الصلاة)) متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحصى في الصلاة، قال الحافظ: التقييد بالحصى وبالتراب خرج للغالب لكونه كان الموجود في فرش المساجد إذ ذاك، فلا يدل تعليق الحكم به على نفيه عن غيره مما يصلى عليه من الرمل والقذى وغير ذلك. وكذا ذكر الرجل للغالب وإلا فالحكم جار في جميع المكلفين. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن كنت فاعلاً) أي لذلك ولا بد. (فواحدة) بالنصب بتقدير فامسح مسحة واحدة أو افعل فعلة واحدة أو فليكن واحدة، أو بالرفع مبتدأ وحذف خبره أي فمرة واحدة تكفيك، أو خبر مبتدأ محذوف أي المشروع فعلة واحدة، أو فالجائز واحدة أي لئلا يلزم العمل الكثير المبطل، أو عدم المحافظة على الخشوع، أو لئلا يجعل بينه وبين الرحمة التي تواجه حائلاً، وأبيح له المرة لئلا يتأذى به في سجوده. وروى ابن أبي شيبة عن أبي صالح السمان قال: إذا سجدت فلا تمسح الحصى فإن كل حصاة تحب أن يسجد عليها. فهذا تعليل آخر غير ما تقدم. وفي الحديث كراهة مسح الحصى والتراب في الصلاة مع الإذن بمسحة واحدة عند الحاجة. وحكى النووي اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصى وغيره في الصلاة، وفيه نظر؛ فقد حكى الخطابي في المعالم وابن العربي في شرح الترمذي عن مالك: أنه لم ير به بأساً وكان يفعله، فكأنه لم يبلغه الخبر، وأفرط بعض أهل الظاهر فقال: أنه حرام إذا زاد على واحدة لظاهر النهي، ولم يفرق بين ما إذا توالى أولا مع أنه لم يقل بوجوب الخشوع، كذا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص284) .
988- قوله: (نهى عن الخصر) بفتح الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة من الخاصرة. (في الصلاة) قال التوربشتي: فسر الخصر بوضع اليد على الخاصرة وهو صنع اليهود، والخصر لم يفسر على هذا الوجه في شيء من كتب اللغة، ولم أطلع عليه إلى الآن، والحديث على هذا الوجه أخرجه البخاري، ولعل بعض الرواة ظن أن الخصر يرد بمعنى الاختصار، وهو وضع اليد على الخاصرة، وفي رواية أخرى له: نهى أن يصلي الرجل مختصراً، وكذا رواه مسلم والدارمي والترمذي والنسائي، وفي رواية لأبي داود: نهى عن الاختصار في الصلاة، فتبين أن المعتبر هو الاختصار لا الخصر، قال الطيبي: رده هذه الرواية على مثل هذه الأئمة المحدثين بقوله: لم يفسر الخصر بهذا الوجه في شيء من كتب اللغة، لا وجه له؛ لأن ارتكاب المجاز والكناية لم يتوقف على السماع بل على العلاقة المعتبرة، وبيانه: أن الخصر وسط الإنسان والنهي لما ورد عليه علم أن النهي عن أمر يتعلق به، ولما اتفقت الروايات على أن المراد وضع اليد على الخاصرة وجب حمله عليه وهو من الكناية، فإن نفي الذات أقوى من نفي الصفة ابتداء-انتهى. قلت: وقع في رواية للبخاري: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل متخصراً،(3/346)
989- (5) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي من التخصر، قال الحافظ: وفي رواية الكشمهيني مخصراً بتشديد الصاد، وللنسائي مختصراً بزيادة المثناة، قال النووي: اختلف العلماء في معنى الاختصار، فالصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والغريب والمحدثين: 1- أن المختصر هو الذي يصلي ويده على خاصرته، وقال الهروي: قيل: 2- هو أن يأخذ بيده عصا يتوكأ عليها، وقيل: 3- أن يختصر سورة فيقرأ من آخرها آية أو آيتين، وقيل: 4- هو أن يحذف الطمأنينة فلا يمد قيامها وركوعها وسجودها وحدودها، وقيل: 5- الاختصار أن يحذف الآية التي فيها السجدة إذا مر بها في قراءته حتى لا يسجد في الصلاة لتلاوتها، وهذه الأقوال الثلاثة الأخيرة وإن كان أخذها ممكنا من الاختصار لكن رواية التخصر والخصر تأباها، قال النووي: والصحيح الأول، وقال العراقي: والقول الأول هو الصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والحديث والفقه، والحديث يدل على تحريم الاختصار في الصلاة، وقد ذهب إلى ذلك أهل الظاهر، وذهب ابن عمر وابن عباس وعائشة ومالك والشافعي وأبوحنيفة والأوزاعي وآخرون إلى أنه مكروه، والظاهر ما قاله أهل الظاهر لعدم قيام قرينة تصرف النهي عن التحريم الذي هو معناه الحق كما هو الحق. واختلف في حكمة النهي عن ذلك، فقيل: لأن إبليس أهبط متخصراً، قاله حميد بن هلال في رواية ابن أبي شيبة عنه، وقال الترمذي: يروى أن إبليس إذا مشى يمشي مختصراً، وقيل: لأن اليهود تكثر من فعله فنهى عنه كراهة للتشبه بهم، أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل عن عائشة، وقيل: إنه راحة أهل النار، كما سيأتي في الفصل الثالث، وقيل: إنه فعل المختالين والمتكبرين، وقيل: لأنه شكل من أشكال أهل المصائب يضعون أيديهم على الخواصر إذا قاموا في المآتم، وقيل: لأنها صفة الراجز حين ينشد، قال الحافظ بعد سرد هذه الأقوال والعزو إلى قائليها: وقول عائشة أعلى ما ورد في ذلك، ولا منافاة بين الجمع. (متفق عليه) . قال ميرك: الأولى أن يقال رواه البخاري فإن الحديث من أفراده عن مسلم، قلت: لما كانت رواية مسلم موافقة لرواية البخاري معنى كما تقدم صح إسناد الحديث إليهما، فالمراد بقوله "متفق عليه" أي على أصل الحديث ومعناه لا على اللفظ المذكور، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والحاكم والبيهقي (ج2 ص287) .
989- قوله: (سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة) أي بالرأس يميناً وشمالاً من غير حاجة، والالتفات في الصلاة على ثلاثة أنحاء، الأول: الالتفات بطرف الوجه يميناً وشمالاً بلا حاجة من غير أن يتحول صدره عن القبلة، وهذا مكروه عند الجمهور، حرام عند الظاهرية، والثاني: الالتفات بطرف(3/347)
فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) متفق عليه.
990- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العين، وهذا لا بأس به، وإن كان خلاف الأولى، والثالث: الالتفات بحيث أن يتحول صدره عن القبلة، وهذا مبطل الصلاة بالاتفاق، والمراد في الحديث هو الأول. (فقال) - صلى الله عليه وسلم - (هو) أي الالتفات. (اختلاس) افتعال من الخلس، وهو السلب أي استلاب وأخذ بسرعة، وقيل: شيء يختلس به. (يختلسه الشيطان) قال القسطلاني: بإبراز الضمير المنصوب، وهو رواية الكشمهيني، وللأكثر يختلس الشيطان- انتهى. (من صلاة العبد) أي يحمله الشيطان على هذا الفعل لأجل نقصان صلاة العبد، أو يسلبه الشيطان من كمال صلاة العبد، وضمير يختلسه منصوب على المصدر، قال الطيبي: المعنى من التفت يميناً وشمالاً ذهب عنه الخشوع المطلوب بقوله تعالى. {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [23: 2] فاستعير لذهاب الخشوع اختلاس الشيطان تصويراً لقبح تلك الغفلة، أو أن المصلي حينئذٍ مستغرق في مناجاة ربه، وأنه تعالى مقبل عليه، والشيطان كالراصد ينتظر فوات تلك الحالة عنه، فإذا التفت المصلي اغتنم الفرصة فيختلسها منه- انتهى. والحديث يدل على كراهة الالتفات في الصلاة، وهو إجماع، لكن الجمهور على أنها كراهة تنزيه، مالا يبلغ إلى حد استدبار القبلة بالصدر. وقال المتولي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر، وسبب الكراهة والتنفير عنه ما فيه من نقص الخشوع أو ترك استقبال القبلة ببعض البدن. (متفق عليه) فيه نظر، فإن الحديث لم يروه مسلم، وقد ذكر الحاكم في المستدرك (ج1 ص237) أيضاً أن الشيخين اتفقا على إخراجه، وكذا نسبه الجزري إليهما في جامع الأصول (ج6 ص325) . وهو سهو منهم جميعاً، فإن مسلما لم يروه، فلم أجده فيه، وكذلك نص العيني والحافظ في الفتح على انه من أفراد البخاري، ويدل عليه أيضاً أن المجد ابن تيمية في المنتقى والمنذري في الترغيب وتلخيص السنن نسباه إلى البخاري فقط، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة والبيهقي وغيرهم.
990- قوله: (لينتهين) اللام جواب قسم محذوف، وقيل للتأكيد، وهو خبر بمعنى أمر. (عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء) قال القاري: أي خصوصاً وقت الدعاء، وإلا فرفع الأبصار مطلقاً في الصلاة مكروه. قلت: التقييد بقوله عند الدعاء في الصلاة يقتضي اختصاص الكراهة بالدعاء الواقع في الصلاة، لكن أخرجه البخاري وأبوداود والنسائي وابن ماجه من حديث أنس بغير تقييد، ولفظه: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن عن ذلك أو ليخطفن أبصارهم، وأخرجه بغير(3/348)
أو لتخطفن أبصارهم)) رواه مسلم.
991- (7) وعن أبي قتادة، قال: ((رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقييد أيضاً ابن ماجه وابن حبان والطبراني من حديث ابن عمر، ولفظه: لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء أن تلتمع يعني في الصلاة، وأخرجه أيضاً بغير تقييد مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث جابر بن سمرة، والطبراني من حديث أبي سعيد الخدري وكعب بن مالك، وأخرج ابن أبي شيبة من رواية هشام بن حسان عن محمد بن سيرين: كانوا يلتفتون في صلاتهم حتى نزلت: {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون} [23: 1، 2] فاقبلوا على صلاتهم، ونظروا أمامهم، وكانوا يستحبون أن لا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده، وصله الحاكم بذكر أبي هريرة فيه، ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال في آخره: فطأطأ رأسه. وإطلاق هذه الأحاديث يقضي بأنه لا فرق بين أن يكون عند الدعاء أو عند غيره إذا كان في الصلاة، والعلة في ذلك أنه إذا رفع بصره إلى السماء خرج عن سمت القبلة وأعرض عنها وخرج عن هيئة الصلاة. (أو لتخطفن) بضم الفوقية وفتح الفاء على البناء للمفعول، أي لتسلبن بسرعة. (أبصارهم) إن لم ينتهوا عن ذلك، أي أن أحد الأمرين واقع لا محالة، إما الانتهاء منهم أو خطف أبصارهم من الله تعالى عقوبة على فعلهم، قال الطيبي: كلمة "أو "ههنا للتخيير تهديداً، أي ليكونن أحد الأمرين، كما في قوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} أي يكون أحد الأمرين، أما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، وكما في قوله تعالى: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} [7: 88] أي ليكونن أحد الأمرين، أما إخراجكم وإما عودكم في الكفر، والمعنى ليكونن منكم الانتهاء عن الرفع أو خطف الأبصار من الله تعالى- انتهى. وفيه وعيد عظيم وتهديد شديد، وهو يدل على أن رفع البصر إلى السماء حال الصلاة حرام؛ لأن العقوبة بالعمى لا تكون إلا عن محرم، والمشهور عند الشافعية أنه مكروه، وبالغ ابن حزم فقال: تبطل الصلاة به، واختلف في رفع البصر إلى السماء حال الدعاء خارج الصلاة، فكرهه القاضي شريح وآخرون، وجوزه الأكثرون؛ لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص282)
991- قوله: (يؤم الناس) الجملة حال؛ لأن رأيت بمعنى النظر لا العلم، قاله الطيبي. (وأُمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين: وهي ابنة زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانت صغيرة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتزوجها علي بعد موت فاطمة بوصية منها. وقيل: كان أبوها أبوالعاص قد أوصى بها إلى الزبير بن العوام، فزوجها من علي، فلما قتل علي، وانقضت عدتها تزوجها المغيرة بن نوفل بن الحارث، زوجها منه الحسن بن علي، وماتت عند المغيرة. (بنت أبي العاص) بن الربيع بن عبد العزى بن عبدشمس بن عبدمناف بن قصي. اختلف في اسم أبي العاص اسمه لقيط، وقيل: مقسم، وقيل: القاسم، وقيل: مهشم، وقيل: هشيم، وقيل: ياسر، وهو مشهور بكنيته، وهو(3/349)
على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ختن النبي - صلى الله عليه وسلم -، زوج ابنته زينب أكبر بناته، رضي الله عنهن. وأمه هالة بنت خويلد بن أسد أخت خديجة لأبيها وأمها، أسلم قبل الفتح، وهاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان أسر يوم بدر كافراً، ورد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب بالنكاح الأول، وماتت معه، وأثنى عليه في مصاهرته. وكانت وفاته في خلافة أبي بكر الصديق في ذي الحجة سنة اثني عشرة من الهجرة، وقد بسط قصة أسره يوم بدر وإسلامه ابن عبد البر والحافظ نقلاً عن ابن إسحاق. (على عاتقه) بكسر التاء وهو ما بين المنكبين إلى أصل العنق. وفي رواية لأحمد على رقبته. (فإذا ركع وضعها) هكذا في صحيح مسلم والنسائي وأحمد وابن حبان، ورواية البخاري: فإذا سجد وضعها. ولأبي داود: حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها، وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه - صلى الله عليه وسلم -، لا أنها كانت تنزل وتركب بنفسها. وهذا يرد تأويل الخطابي، حيث قال: يشبه أن تكون الصبية قد ألفته، فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته، فينهض من سجوده فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها. (وإذا رفع) أي رأسه. (من السجود أعادها) ولأحمد: فإذا قام حملها فوضعها على رقبته. والحديث فيه دليل لصحة صلاة من حمل آدميا أو حيواناً طاهراً، وأن ثياب الصبيان وأجسادهم طاهرة حتى يتحقق نجاستها، وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة، وأن الأفعال إذا تعددت ولم تتوال بل تفرقت لا تبطل الصلاة. وفيه تواضع مع الصبيان وسائر الضعفة، ورحمتهم وملاطفتهم. وفيه دليل على جواز إدخال الصبيان في المساجد، وعلى أنه يجوز حمل الصبي والصبية في الصلاة من غير فوق بين الفريضة والنافلة والمنفرد والمؤتم والإمام؛ لأن قوله: يؤم الناس صريح، أو كالصريح في أنه كان في الفريضة. وأصرح من هذا ما أخرجه أبوداود بلفظ: بينما نحن ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج علينا، وأمامة على عاتقه، فقام في مصلاه، فقمنا خلفه فكبر فكبرنا وهي في مكانها. وإذا جاز ذلك في حال الإمامة في صلاة الفريضة جاز في غيرها بالأولى. وإليه ذهب الشافعي وأحمد. قال في الشرح الكبير (ج1 ص672) : وإن كان، أي العمل الذي من غير جنس الصلاة، متفرقاً لم تبطل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل أمامة في الصلاة، إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها، وهذا لو اجتمع كان كثيراً، وإن كان يسيراً لم يبطلها-انتهى. وذهب مالك إلى عدم جواز الحمل مطلقاً، وأجاب عن الحديث بأنه كان في النافلة، وهو مردود، لما تقدم من رواية أبي داود. ويرده أيضاً رواية مسلم؛ لأن إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة. وأجاب أيضاً بأن ذلك كان للضرورة حيث لم يجد من يكفيه أمرها، وقال بعض أصحابه: لأنه لو تركها لبكت وشغلت سره أكثر من شغله بحملها. وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما. وهذا أيضاً مردود؛ لأنه دعوى مجردة لا دليل(3/350)
عليها ولا ضرورة إليها. وأجاب أيضاً بأنه منسوخ، قال ابن عبد البر: لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة. وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن هذه القصة كانت بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن في الصلاة لشغلاً؛ لأن ذلك قبل الهجرة أو بعدها بمدة يسيرة، وهذه القصة كانت بعد الهجرة قطعاً بمدة مديدة. وأجاب بعض المالكية بأن ذلك كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - لكونه معصوماً من أن تبول وهو حاملها. ورد بأن الأصل عدم الاختصاص، وبأنه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في مثل ذلك. وقال أبوحنيفة: بجوازه عند الضرورة، وبكراهته عند عدم الحاجة. وحمل الحديث على حال الضرورة كما حمل عليها مالك. وأول بعض الحنفية بأنه عليه السلام كان يشير بها بالنزول عند الركوع وبتعلقها بنفسها عند القيام، فلم يكن منه - صلى الله عليه وسلم - إلا الإشارة، فعبر الراوي عن تعلقها بنفسها وعن إشارته بالنزول والتعلق بأنه صلى وهو حامل لها وإذا ركع وضعها وإذا قام حملها، فهذا توسع من الراوي لا غير. وهذا تأويل بعيد غاية البعد، يرده ظاهر ألفاظ الحديث وطرقه وهو في الحقيقة تحريف للحديث لا توجيه له فلا يلتفت إليه. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص217) : بعد تأويل الحديث بنحو ذلك، وإذا كان علم الخميصة يشغله عن صلاته حتى يستبدل بها الأنبجانية فكيف لا يشتغل عنها بما هذا صفته من الأمر-انتهى. وتعقبه النووي فقال: وأما قضية الخميصة فلأنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل إمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد، وبيان قواعد مما ذكرنا وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة. فالصواب الذي لا معدل عنه أن الحديث كان لبيان الجواز، والتنبيه على هذه الفوائد، فهو جائز لنا، وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين-انتهى. قلت: هذا هو الصواب الذي لا يجوز العدول عنه، أن الحديث محمول على بيان الشرع والجواز. وإليه ذهب بعض الحنفية. قال في رد المحتار (ج1ص 612) : قد أطال المحقق ابن أمير حاج في الحلية في هذا المحل ثم قال: إن كونه للتشريع بالفعل هو الصواب الذي لا يعدل عنه، كما ذكره النووي فإنه ذكر بعضهم: أن البيان بالفعل أقوى من القول، ففعله ذلك لبيان الجواز، وأن الآدمي طاهر، وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدنه، ثم ذكر بقية كلام النووي، وسنذكر تمامه. قال الحافظ: حمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير متوال لوجود الطمأنينة في أركان الصلاة. وقال النووي بعد أن ذكر التأويلات المتقدمة ما لفظه: وكل هذه الدعاوي باطلة مردودة، فإنه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع؛ لأن الآدمي طاهر وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدنه، وثياب الأطفال وأجسامهم على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا،(3/351)
متفق عليه.
992- (8) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا بياناً للجواز-انتهى. وقال الفاكهاني: وكان السر في حمله أمامة في الصلاة دفعاً لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهن، فخالفهم في ذلك حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، والحديث أخرجه أيضاً مالك وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج2ص262) .
992- قوله: (إذا تثاءب أحدكم) بالهمزة، وقيل: بالواو، ونسب إلى الغلط. قال الحافظ في الفتح: قال شيخنا في شرح الترمذي: وقع في رواية المحبوبي عن الترمذي- أي لحديث أبي هريرة- بالواو، وفي رواية السبخي بالهمز، ووقع عند البخاري وأبي داود بالهمز، وكذا في حديث أبي سعيد- أي الذي نحن بصدد شرحه - عند أبي داود. وأما عند مسلم فبالواو. قال: وكذا هو في أكثر نسخ مسلم، وفي بعضها بالهمز، وقد أنكر الجوهري كونه بالواو. قال: تقول تثاءبت على وزن تفاعلت، ولا تقل تثاوبت. قال: والتثاؤب أيضاً مهموز، وقد يقلبون الهمز المضمومة واواً، والاسم الثؤباء بضم، ثم همز، على وزن الخيلاء. وجزم ابن دريد وثابت بن قاسم في الدلائل: بأن الذي بغير واو بوزن تيممت، فقال ثابت: لا يقال تثاءب بالمد مخففاً، بل يقال تثأب بالتشديد. وقال ابن دريد: أصله من ثئب فهو مثؤب، إذا استرخى وكسل. وقال غير واحد: إنهما لغتان، وبالمد والهمز أشهر-انتهى. والتثاؤب التنفس الذي ينفتح منه الفم لدفع البخارات المحتقنة في عضلات القلب، وينشأ من امتلاء المعدة وثقل البدن واسترخائه وكدورة الحواس، فيورث الغفلة وسوء الفهم والكسل والنوم الداعي إلى إعطاء النفس شهواتها، ولذا كرهه الله وأحبه الشيطان، كما في الحديث الصحيح. قال القاري: أي فتح فاه لكسل أو فترة أو امتلاء أو غلبة نوم، وكل ذلك غير مرضي؛ لأنه يكون سبباً للكسل عن الطاعة والحضور فيها. (في الصلاة) هكذا قيده بحالة الصلاة، وكذا أخرجه الترمذي في الصلاة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع. قال العراقي في شرح الترمذي: أكثر روايات الصحيحين فيها إطلاق التثاؤب، ووقع في الرواية الأخرى تقييده بحالة الصلاة، فيحتمل أن يحمل المطلق على المقيد، وللشيطان غرض قوي في التشويش على المصلي في صلاته، ويحتمل أن تكون كراهته في الصلاة أشد، ولا يلزم من ذلك أن لا يكره في غير حالة الصلاة، ويؤيد كراهته مطلقاً كونه من الشيطان، وبذلك صرح النووي. وقال ابن العربي: ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة؛ لأنها أولى الأحوال بدفعه لما فيه من الخروج من اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة. (فليكظم) بفتح ياء(3/352)
ما استطاع، فإن الشيطان يدخل)) رواه مسلم.
993- (9) وفي رواية البخاري عن أبي هريرة، قال: ((إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع ولا يقل: ها، فإنما ذلكم من الشيطان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المضارعة وكسر الظاء، أي ليحبس التثاؤب وليدفعه وليمسكه بضم الشفتين وتطبيق السن، وإن لم يقدر فبوضع اليد على الفم. (ما استطاع) أي ما أمكنه. وفي رواية لأبي داود: فليمسك على فيه. وفي حديث أبي هريرة عند البخاري: فليرده ما استطاع. قال الحافظ: أي يأخذ في أسباب رده، وليس المراد به أنه يملك دفعه؛ لأن الذي وقع لا يرد حقيقة. وقيل: معنى إذا تثاءب إذا أراد أن يتثاءب. وجوز الكرماني: أن يكون الماضي فيه بمعنى المضارع- انتهى. وفي رواية الترمذي: فليضع يده على فيه. وهذا يتناول ما إذا انفتح بالتثاؤب فيغطي بالكف ونحوه، وما إذا كان منطبقاً حفظاً له عن الانفتاح بسبب ذلك، وفي معنى وضع اليد على الفم وضع الثوب ونحوه ما يحصل ذلك المقصود، ويستثنى ذلك من النهي عن وضع المصلي يده على فمه. ومما يؤمر به المتثاءب في الصلاة أن يمسك عن القراءة حتى يذهب عنه، لئلا يتغير نظم قراءته. وأسند ابن أبي شيبة نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والتابعين المشهورين. (فإن الشيطان يدخل) أي فيه. قال الحافظ: يحتمل أن يراد به الدخول حقيقة، وهو وإن كان يجري من الإنسان مجرى الدم لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكر الله تعالى، والمتثاءب في تلك الحالة غير ذاكر، فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقة، ويحتمل أن يكون أطلق الدخول وأراد التمكن منه؛ لأن من شأن من دخل في شيء أن يكون متمكناً منه. (رواه مسلم) في كتاب الزهد في أواخر صحيحه، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الأدب، والبيهقي.
993- قوله: (وفي رواية البخاري) بالإضافة. (إذا تثاءب أحدكم) أي أحس بالتثاؤب. (فليكظم ما استطاع) أي بالضم أو الوضع. (ولا يقل: ها) بل يدفعه بالفعل. و"ها" مقصورة من غير همز حكاية صوت المتثاءب، والمعنى لا يصوت عند التثاؤب، كما يفعله بعض من لا يضبط حاله في التثاؤب. (فإنما ذلكم) أي التثاؤب وقيل: قولكم: "ها". (من الشيطان) أي من حمله عليه. قال ابن بطال: إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة، أي إن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائباً؛ لأنها حالة تتغير فيها صورته فيضحك منه، لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب. وقال ابن العربي: قد بينا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان؛ لأنه واسطته، وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك؛ لأنه واسطته. قال: والتثاؤب من الامتلاء، وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة الشيطان. وقال النووي: أضيف التثاؤب إلى الشيطان؛ لأنه يدعوا إلى الشهوات، إذ يكون عن ثقل البدن(3/353)
يضحك منه)) .
994- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن عفريتاً من الجن تفلّت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واسترخاءه وامتلاءه. والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك، وهو التوسع في المآكل. (يضحك) أي الشيطان، حقيقة أو كناية عن فرحه وسروره بكونه أغواه بتعاطي سبب التثاؤب، وهو كثرة الأكل فطاوعه واغتوى، والأصل الأول، إذ لا ضرورة تدعوا إلى العدول عن الحقيقة. (منه) أي من ذلك القول. قال الطيبي: أي يرضى بتلك الفعلة، والضمير في "منه" راجع إلى المشار إليه بذا "وكم" بيان لخطاب الجماعة، وليس بضمير. وقال ابن حجر: يضحك حال-انتهى. ويمكن أن يكون استئناف بيان. تنبيه: لم أجد حديث أبي هريرة عند البخاري باللفظ الذي ذكره المصنف، نعم روى أبوداود عن أبي هريرة بلفظ: إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، ولا يقل: هاه هاه، فإنما ذلكم من الشيطان، يضحك منه. ولفظه عند البخاري في رواية: وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع، فإذا قال: "ها" ضحك منه الشيطان، وفي أخرى: فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها ضحك الشيطان، وفي أخرى: فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان. والظاهر أن المصنف أخذ الطرف الأول من حديث أبي سعيد عند مسلم، أي قوله: إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع، وأخذ الطرف الآخر من حديث أبي داود، أي قوله: ولا يقل هاه، فإنما ذلكم الشيطان، يضحك منه. فجعل مجموعهما حديثاً واحداً من رواية أبي هريرة وعزاه للبخاري، ولا يخفى ما في هذا الصنيع. ثم رأيت جامع الأصول (ج7: ص398) للجزري وقد وقع فيه مثل ما في المشكاة، فلعل المصنف تبعه في ذلك. والله أعلم.
94- قوله: (إن عفريتاً) بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء، أي جنياً خبيثاً منكراً مبالغاً في المردودة، مع دهاء وخبث. فعليت من العفر بكسر فسكون، وهو الخبث، قاله القاري. (من الجن) بيان له. قال ابن عبد البر: الجن على مراتب، فالأصل جني، فإن خالط الإنس، قيل: عامر، ومن تعرض منهم للصبيان قيل: أرواح، ومن زاد في الخبث قيل: شيطان، فإن زاد على ذلك قيل: مارد، فأن زاد على ذلك قيل: عفريت. وقال الراغب: العفريت من الجن هو العارم الخبيث، وإذا بولغ فيه قيل: عفريت نفريت. وقال ابن قتيبة: العفريت الموثق الخلق. وقال الزجاج: العفريت النافذ في الأمر المبالغ فيه من خبث ودهاء. (تفلت) أي عليّ، كما في رواية. وهو بفتحات وتشديد اللام، أي تعرض لي فلتة، أي بغتة في سرعة. وقال القزاز: يعني توثب، وقيل: تخلص فجأة. قال ابن حجر: أي من أسر سليمان عليه الصلاة والسلام الذي حرق الله له به عادة الأنبياء والملوك، حتى مكنه مما أراد بهم. وفي رواية: عرض لي فشد علي. فإن قلت: قد ثبت أن الشيطان يفر من ظل عمر، وأنه يسلك في غير فجه، ففراره من النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى، فكيف شد عليه الصلاة والسلام وأراد قطع صلاته؟(3/354)
البارحة ليقطع صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أجيب بأنه ليس المراد حقيقة الفرار، بل بيان قوة عمر وصلابته على قهر الشيطان، وقد وقع التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - قهره وطرده، كما سيأتي. (البارحة) هي أقرب ليلة مضت، وفي المنتهى: كل زائل بارح، ومنه سميت البارحة لأدنى ليلة زالت عنك. وانتصابها على الظرفية، والمعنى تعرض في صلاتي الليلة الماضية. (ليقطع علي) بتشديد الياء (صلاتي) أي يبطلها ويفسدها، إما بمروره بين يديه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بقطع الصلاة من مرور الكلب الأسود، فقيل: ما بال الأحمر من الأبيض من الأسود؟ فقال: الكلب الأسود شيطان، والجن يتصورون بصورته، أو بإلجائه إلى العمل الكثير، بأن يصدر من العفريت أفعال يحتاج إلى دفعها بأفعال كثيرة منافية للصلاة فيقطعها بتلك الأفعال. وقيل: المراد بالقطع قطع وصلة المناجاة بمروره بين يديه. وقيل: المراد قطع الخشوع وكمال الصلاة. (فأمكنني الله منه) أي أعطاني مكنة منه وقدرة عليه. (فأردت أن أربطه) بكسر الباء أي أشده. (على سارية) أي أسطوانة. (من سواري المسجد) الظاهر أنه المسجد النبوي. وفيه دليل على إباحة ربط الأسير في المسجد، وقد بوب البخاري على هذا الحديث "باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد". ومن هذا قال المهلب: إن في الحديث جواز ربط من خشي هروبه بحق عليه، أو دين والتوثق منه في المسجد، أو غيره. والمراد بالربط في الصلاة: أن يربطه بوجه كان شغلاً يسيراً فلا تفسد به الصلاة. وقال السندي: لا يلزم منه أن أخذه وربطه غير مفسد، لجواز أن يكون مفسداً، ويحمل له ذلك لضرورة أو بلا ضرورة، نعم يلزم أن تكون إرادته غير مفسدة، فليفهم-انتهى. (حتى تنظروا) وفي رواية حتى تصبحوا فتنظروا. (إليه) أي إلى الشيطان في حالة المذلة نظرة عبرة. (كلكم) أي صغاركم وكباركم. وهو بالرفع توكيد للضمير المرفوع. فيه دليل على جواز رؤية الجن. قال الخطابي: في الحديث دليل على أن رؤية الجن للبشر غير مستحيلة، والجن أجسام لطيفة، والجسم وإن لطف فدركه غير ممتنع أصلاً. وأما قوله تعالى: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [7: 27] ، فإن ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم الله بذلك وابتلاهم ليفزعوا إليه ويستعيذوا به من شرهم ويطلبون الأمان من غائلتهم. ولا ينكر أن يكون حكم الخاص والنادر من المصطفين من عباده بخلاف ذلك. وقال الكرماني: لا حاجة إلى هذا التأويل، إذ ليس في الآية ما ينفي رؤيتنا إياهم مطلقاً، إذا المستفاد منها أن رؤيته إيانا مقيدة من هذه الحيثية، فلا نراهم في زمان رؤيتهم لنا قط، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت-انتهى. وفهم أكثر العلماء منها العموم، حتى قال الشافعي: من زعم أنه يرى الجن أي(3/355)
فذكرت دعوة أخي سليمان: {رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} ، فرددته خاسئاً)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على صورهم التي خلقوا عليها أبطلنا شهادته، واستدل بهذه الآية. وفيه دليل على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناري وإلا لأحرق إذا مس شيء من أعضاء ابن آدم، كما تحرق الآدمي النار الحقيقية بمجرد اللمس، فدل على أن تلك النارية انغمرت في سائر العناصر حتى صار إلى البرد، ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - عند النسائي من حديث عائشة: حتى وجدت برد لسانه على يدي. وفي رواية: برد لعابه. وقال ابن بطال: رؤيته - صلى الله عليه وسلم - للعفريت هو مما خص به، كما خص برؤية الملائكة، وقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشيطان في هذه الليلة وأقدره الله عليه، ولكن ألقى في روعه ما وهب سليمان فلم ينفذ ما قوي عليه من حبسه، رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصاً على إجابة الله تعالى دعوته، وأما غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الناس فلا يمكن منه، ولا يرى أحد الشيطان على صورته غيره - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {إنه يراكم} الآية [7: 27] ، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وجده في بيته على صورة حية فقتله، فمات الرجل به، رواه مالك في الموطأ. وفيما ادعى ابن بطال من الفرق بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين الناس في رؤية الشيطان على صورته الأصلية، عندي نظر، فإن هذه دعوى مجردة، فإن لم يصح لها مستند فهي مردودة. (فذكرت دعوة أخي) في النبوة. (سليمان) أي التي استجابها الله تعالى له. وهي قوله الآتي طلباً؛ لأن يميز بخصوصه لا يشاركه فيها غيره، كما وقع لغيره من الأنبياء، أو غيره على ملكه ونفوذ حكمه في الجن والإنس والهواء أن يناله غير نبي. (رب هب لي ملكاً) وقع في رواية البخاري: في باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد: رب اغفرلي وهب لي ملكاً، أي كما في التلاوة. قال الحافظ في الفتح: كذا في رواية أبي ذر، وفي بقية الروايات هنا: رب هب لي. قال الكرماني: لعله ذكره على طريق الاقتباس من القرآن لا على قصد التلاوة. قال الحافظ: ووقع عند مسلم، كما في رواية أبي ذر على نسق التلاوة، فالظاهر أنه تغير من بعض الرواة. (لا ينبغي لأحد من بعدي) من البشر مثله. (فرددته) أي دفعت العفريت حال كونه. (خاسئاً) أي مبعداً مطروداً صاغراً ذليلاً، كأنه - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى أن من أعظم ذلك الملك وأخصه التصرف في الشياطين والتمكين منهم، فيتوهم بربط الشياطين عدم خصوص ذلك الملك بسليمان، وعدم استجابة دعائه، لما فيه من المشاركة معه في جملة ما هو من أخص أمور ذلك الملك، فترك الربط خشية ذلك التوهم الباطل، ولم يرد أن ربط الشياطين يوجب المشاركة معه في تمام ملكه، ويفضي إلى عدم خصوص ذلك الملك بسليمان، فإن التمكن من شيطان واحد، بل من ألف شيطان، لا يقدح في الخصوص قطعاً، فإن الخصوص كان بالنسبة إلى تمام الملك، كما لا يخفى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات: من جملة ملك سليمان تسخير الريح والجن والشياطين، وهو مخصوص بسليمان عليه السلام، فيلزم عدم إجابة دعائه لو ربط(3/356)
متفق عليه.
995- (11) وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنما التصفيق
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العفريت، فتركه ليبقى دعاءه محفوظاً في حقه، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - كان له القدرة على ذلك على الوجه الأتم والأكمل، ولكن التصرف في الجن في الظاهر كان مخصوصاً بسليمان، فلم يظهره - صلى الله عليه وسلم - لأجل ذلك. وقيل: يمكن أن يكون عموم دعاء سليمان عليه السلام مخصوصاً بغير سيد الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، بدليل إقداره على أخذه ليفعل فيه ما يشاء، ومع ذلك تركه على ظاهره رعاية لجانب سليمان. والله أعلم. ويحتمل أن تكون خصوصية سليمان استخدام الجن في جميع ما يريده، لا في هذا القدر فقط. قال ابن الملك: إن قلت يفهم من هذا الحديث أنه عليه السلام تذكر دعوة سليمان بعد أخذه، ومن الحديث الآتي في آخر الباب أنه تذكر قبله فيتنافيان. قلت: لا منافاة؛ لأن الحديثين صدرا في وقتين. قال القاري: أو يكون الأخذ للربط، فإنه المنافي للدعوة، فلا منافاة، وإن قلنا بوحدة القضية. وفي أخذه - صلى الله عليه وسلم - العفريت ثم رده إياه دليل على جواز العمل القليل في الصلاة، وأنه لا تبطل به الصلاة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة في موضعين، وفي صفة إبليس، وفي أحاديث الأنبياء، وفي تفسير "ص"، وأخرجه مسلم في الصلاة، وأخرجه النسائي في التفسير من سننه الكبرى، واللفظ المذكور للبخاري في أحاديث الأنبياء.
995- قوله: (من نابه) أي من الرجال. قال الطيبي: النوب رجوع الشيء مرة بعد أخرى، ونابته نائبة أي حادثة من شأنها أن تنوب دائماً، ثم كثرت حتى استعمل في كل إصابة تصيب الإنسان، أي من أصابه. (شيء) أي عارض. (في صلاته) وفي بعض النسخ: في الصلاة، أي من عرض له ونزل به أمر في الصلاة، كتنبيه إمام على سهو، وإذن لمستأذن في الدخول، وإنذار أعمى أن يقع في بئر ونحوها. (فليسبح) أي فليقل سبحان الله، كما في رواية للبخاري زاد في رواية: فإنه إذا سبح التفت إليه. (فإنما التصفيق) بالقاف، وفي رواية مسلم وأبي داود وغيرهما: التصفيح بالحاء المهملة. قال العراقي: المشهور أن معناهما واحد. قال سهل بن سعد راوي الحديث: التصفيح هو التصفيق. وكذا قال عقبة وأبوعلي القالي والخطابي والجوهري وغيرهم. وادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك، وتعقب بما حكاه عياض في الإكمال. والقرطبي في المفهم: أنه بالحاء الضرب بظاهر إحدى اليدين على الأخرى، وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى. وقيل: بالحاء الضرب بإصبعين للإنذار والتنبيه. وبالقاف بجميعها للهو واللعب. وروى أبوداود في سننه عن عيسى بن أيوب: أن التصفيح الضرب بإصبعين من اليمين على باطن(3/357)
للنساء)) . وفي رواية، قال: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) متفق عليه.
{الفصل الثاني}
996- (12) عن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكف اليسرى. (للنساء) أي مشروع للنساء؛ لأن صوتهن عورة. قاله ابن الملك. وقال ابن حجر: أي لا للرجال، فإنه بعد أن غلب في النساء صار لا يليق بشهامة الرجال. (وفي رواية) أي للبخاري. (قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (التسبيح) بأن يقول من نابه شيء في صلاته سبحان الله، لا يكون إلا. (للرجال والتصفيق) بالصاد والقاف لا يكون إلا. (للنساء) إذا نابهن شيء في صلاتهن، وهذا مذهب الجمهور والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، وللأمر به في رواية البخاري في الأحكام بلفظ: إذا رابكم شيء فليسبح الرجال ولتصفح النساء. ولأبي داود: إذا نابكم شيء في الصلاة فليسبح الرجال وليصفح النساء، خلافاً لمالك حيث قال: المشروع في حق الرجال والنساء جميعاً التسبيح دون التصفيق، وأما قوله: والتصفيق للنساء، أي من شأنهن في غير الصلاة، وهو على جهة الذم له، ولا ينبغي فعله في الصلاة لرجل ولا إمرأة، أي لأنه من دأب النساء الناقصات ولهوهن خارج الصلاة. ورواية البخاري وأبي داود ترد هذا التأويل وتبطله، إذ هي نص فيما قاله الجمهور. قال القرطبي: القول بمشروعية التصفيق للنساء هو الصحيح خبراً ونظراً؛ لأنها مأمورة بخفض صوتها مطلقاً لما يخشى من الإفتان، ومن ثم منعت من الأذان مطلقاً، ومن الإقامة للرجال، ومنع الرجال من التصفيق؛ لأنه من شأن النساء. وقال ابن عبد البر بعد ذكر لفظ أبي داود: هذا قاطع في موضع الخلاف برفع الإشكال؛ لأنه فرق بين حكم الرجال والنساء-انتهى. وفي الحديث أنواع من الفقه: منها: أن الالتفات في الصلاة لا يبطلها ما لم يتحول المصلي عن القبلة بجميع بدنه. ومنها: أن التصفيق سنة النساء في الصلاة، والتسبيح سنة الرجال. ومنها: أن المأموم من الرجال إذا سبح ومن النساء إذا صفق يريد بذلك تنبيه الإمام وإعلامه لم يكن ذلك مفسداً للصلاة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي، وهو حديث طويل، هذا طرف منه، والرواية الثانية من أفراد البخاري، ورواها ابن ماجه والبيهقي أيضاً وفي الباب عن أبي هريرة أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
996- قوله: (كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة) وفي رواية لأحمد (ج1: ص435) : كنا نتكلم في الصلاة ويسلم بعضنا على بعض ويؤمن أحدنا بالحاجة. واعلم أن لفظ الحديث بالسياق الذي ذكره المصنف تبعاً للبغوي لم أجده في سنن أبي داود، والحديث أخرجه أحمد والنسائي وليس عندهما أيضاً هذا السياق، كما لا يخفى على المتتبع. وسياق أبي داود هكذا: كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا، فقدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي السلام، فأخذني ما قدم وما حدث، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3/358)
قبل أن نأتي أرض الحبشة فيرد علينا، فلما رجعنا من أرض الحبشة أتيته فوجدته يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي حتى إذا قضى صلاته، قال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة، فرد علي السلام، وقال: إنما الصلاة لقراءة القرآن وذكر الله، فإذا كنت فيها فليكن ذلك شأنك)) رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاة قال: إن الله عزوجل يحدث من أمره ما يشاء، وإن الله تعالى قد أحدث من أمره أن لا تكلموا في الصلاة، فرد علي السلام-انتهى. (قبل أن نأتي أرض الحبشة) أي نهاجر إليها من مكة. (فيرد علينا) أي السلام نطقاً وقولاً. (فلما رجعنا من أرض الحبشة) أي إلى المدينة على ما هو الراجح. (فسلمت عليه) استصحاباً لما كان من حل الكلام في الصلاة. (فلم يرد علي) أي السلام باللفظ. (حتى إذا قضى الصلاة) أي أداها وكملها. (إن الله يحدث) أي يظهر. (من أمره) أي شأنه أو أوامره. (وإن مما أحدث) أي جدد من الأحكام، بأن نسخ حل الكلام في الصلاة بقوله ناهياً عنه. (أن لا تتكلموا في الصلاة) ويحتمل كون الأحداث في تلك الصلاة أو قبلها، كذا قال القاري. (فرد علي) بتشديد الياء. (السلام) أي باللفظ بعد فراغه من الصلاة وفي الحديث دليل على أنه لا يجوز لمن سلم عليه في الصلاة أن يرد السلام فيها نطقاً وقولاً، وعلى أنه يستحب له أن يرد باللفظ بعد الفراغ من الصلاة، ولا دليل فيه على منع الرد في الصلاة بالإشارة، بل مرسل ابن سيرين عند ابن أبي شيبة يدل صريحاً على أنه - صلى الله عليه وسلم - رد السلام على ابن مسعود في هذه القصة بالإشارة كما تقدم. (إنما الصلاة) أي موضوعة. (لقراءة القرآن وذكر الله) أي الشامل للدعاء. قال القاري: وفي بعض النسخ بفتح اللام ورفع القراءة والذكر. وفي نسخة: إنما الصلاة قراءة القرآن وذكر الله. (فإذا كنت فيها) أي في الصلاة. (فليكن ذلك) إشارة إلى ما ذكر من القراءة وذكر الله وهو اسم فليكن، وخبره: (شأنك) بالنصب أي حالك المهم، لا غير ذلك من التكلم وغيره. قال الطيبي: الشأن الحال والأمر والخطب، والجمع شئون، ولا يقال إلا في ما يعظم من الأحوال والأمور. (رواه أبوداود) فيه نظر؛ لأن هذه الألفاظ ليست في أبي داود كما قدمنا. وفيه أيضاً ما قال ميرك: أن أبا داود لم يخرج قوله: إنما الصلاة لقراءة القرآن الخ من حديث عبد الله بن مسعود، بل أخرجه من حديث معاوية بن الحكم السلمي في حديث طويل، والذي أوقع صاحب المشكاة في هذا الخبط إيراد صاحب المصابيح بعد قول عبد الله بن مسعود: فرد علي السلام وقال: إنما الصلاة الخ فظن صاحب المشكاة أنه من تتمه حديث ابن مسعود عطفاً على قوله "فرد" وليس كذلك، ومقصود صاحب المصابيح إيراد حديث آخر كعادته، والله تعالى أعلم –انتهى.(3/359)
997- (13) وعن ابن عمر، قال: ((قلت لبلال: كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو في الصلاة؟ قال: كان يشير بيده))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قلت: الظاهر أن أصل الوهم من البغوي، يدل على ذلك تصرفه في ألفاظ الحديث، حيث ذكر للحديث سياقاً لا يوجد في أبي داود وفي غيره، كمسند أحمد وسنن النسائي والبيهقي، ويدل على ذلك أيضاً أنه لم يذكر اسم الصحابي كعادته قبل قوله: وقال إنما الصلاة الخ، فصنيعه هذا قرينة واضحة على أنه لم يقصد بقوله: إنما الصلاة الخ إيراد حديث آخر. والله أعلم. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري وأخرجه أيضاً أحمد (ج1: ص377، 415، 435) والنسائي وابن حبان في صحيحه والبيهقي (ج2: ص248) .
997- قوله: (كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد عليهم) أي على الصحابة. (حين كانوا يسلمون عليه) قال القاري: ظاهره أنه أراد قبل نسخ الكلام، ويحتمل أن يكون بعده، ويبعد- انتهى. وفيه: أن الظاهر أن ذلك كان بعد نسخ الكلام، كما قال الشيخ عبدلحق الدهلوي في أشعة اللمعات، بل هو المتعين عندي لما سيأتي. (كان يشير بيده) وفي حديث صهيب الآتي قال: لا أعلمه إلا أنه قال إشارة بإصبعه، ولا اختلاف بينهما، فيجوز أن يكون إشارة مرة بإصبعه، ومرة بجميع يده، ويحتمل أن يكون المراد باليد الإصبع حملاً للمطلق على المقيد. والحديث فيه دليل على جواز رد السلام في الصلاة بالإشارة، وهو مذهب الجمهور، واختلفت الحنفية، فمنهم من كرهه ومنهم الطحاوي، ومنهم من قال: لا بأس به. قلت: ما ذهب إليه الجمهور هو الحق، يدل عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة: 1- منها حديث بلال هذا. 2- ومنها حديث صهيب: مررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلمت عليه، فرد علي إشارة، وقال: لا أعلم أنه قال إشارة بإصبعه، أخرجه الترمذي وحسنه، وأبوداود والنسائي والبيهقي. 3- ومنها حديث ابن عمر قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد قباء ليصلي فيه، فدخل عليه رجال يسلمون عليه، فسألت صهيباً وكان معه، كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع إذا سلم عليه؟ قال: كان يشير بيده أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي والحاكم والبيهقي. 4- ومنها حديث عمار بن ياسر: أنه سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة وهو يصلي، فرد عليه، أخرجه النسائي وبوب عليه "باب رد السلام بالإشارة في الصلاة". 5- ومنها حديث ابن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثني لحاجة ثم أدركته وهو يسير، قال قتيبة: يصلي فسلمت عليه، فأشار إلي، أخرجه مسلم والنسائي والبيهقي. 6- ومنها حديث أبي سعيد: أن رجلاً سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه إشارة، وقال: كنا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك، أخرجه الطحاوي والبزار، وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر أحاديثهم الشوكاني في النيل. واستدل من منع رد السلام بالإشارة في الصلاة بحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (التسبيح للرجال، يعني في الصلاة، والتصفيق للنساء، من أشار في(3/360)
صلاته إشارة تفهم عنه فليعد لها، يعني الصلاة، أخرجه أبوداود. والجواب عنه: إن هذا الحديث ضعيف، لا يصلح للاحتجاج، فإن في سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس، ورواه عن يعقوب بن عتبة بالعنعنة. وقال أبوداود بعد روايته هذا الحديث: وهم. وقال الزيلعي في نصب الراية: قال إسحاق بن إبراهيم بن هانيء: سئل أحمد عن حديث: من أشار إشارة يفهم عنه فليعد الصلاة، فقال: لا يثبت، إسناده ليس بشيء-انتهى. وعلى فرض صلوحه للاحتجاج يجب أن تحمل الإشارة المذكورة فيه على الإشارة لغير رد السلام والحاجة، جمعاً بينه وبين الأحاديث الصحيحة التي فيها ذكر الإشارة لرد السلام، أو حاجة تعرض. واستدلوا أيضاً بأن الرد بالإشارة منسوخ؛ لأنه كلام معنى وقد نسخ الكلام في الصلاة. والجواب عنه: أنا لا نسلم أن رد السلام بالإشارة كلام معنى. قال الطحاوي في شرح الآثار (ص262) بعد ذكر حديث أبي هريرة الذي مر آنفاً: ذهب قوم إلى أن الإشارة التي تفهم إذا كانت من الرجل في الصلاة قطعت عليه صلاته، وحكموا لها بحكم الكلام، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا تقطع الإشارة في الصلاة، ثم ذكر ما احتج به هؤلاء من حديث ابن عمر وصهيب وأبي سعيد، ثم قال: ففي هذه الآثار ما قد دل أن الإشارة لا تقطع الصلاة، وقد جاءت مجيئاً متواتراً غير مجيء الحديث الذي خالفها، فهي أولى منه، وليست الإشارة في النظر من الكلام في شيء؛ لأن الإشارة إنما هي حركة عضو، وقد رأينا حركة سائر الأعضاء غير اليد في الصلاة لا تقطع الصلاة، فكذلك حركة اليد-انتهى كلام الطحاوي ملخصاً. ولو سلمنا أن رد السلام بالإشارة كلام معنى فلا نسلم كون الكلام في الصلاة منسوخاً مطلقاً، سواء كان حقيقة أو معنى، بل نقول إنما المنسوخ في الصلاة هو الكلام حقيقة دون الكلام معنى، ألا ترى أن الإشارات المفهمة قد ثبتت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة بعد نسخ الكلام فيها. وأجاب الحنفية عن أحاديث الجمهور أي أحاديث رد السلام بالإشارة: بأن تلك الإشارة لم تكن رداً للسلام، وإنما كانت نهياً عن السلام والكلام. قاله الطحاوي وغيره. وهذا مردود يرده حديث ابن عمر المذكور في الكتاب، وحديث صهيب عند الترمذي وغيره بلفظ: مررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلمت عليه، فرد علي إشارة، وحديث ابن عمر عند النسائي وابن ماجه والحاكم بلفظ: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد قباء ليصلي فيه، فدخل عليه رجال يسلمون عليه، فسألت صهيباً وكان معه كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع إذا سلم عليه، قال: كان يشير بيده، وحديث أبي سعيد عند الطحاوي والبزار بلفظ: أن رجلاً سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه إشارة الخ، وحديث عمار عند النسائي بلفظ: أنه سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فرد عليه. فإن هذه الأحاديث الصحيحة نصوص صريحة في أن إشارته - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة عند السلام عليه كانت رداً للسلام على من سلم عليه، لا نهياً عنه. قال ابن العربي في شرح الترمذي (ج2: ص162) : قد تكون الإشارة في الصلاة لرد السلام، وقد تكون لأمر ينزل بالصلاة، وقد تكون في(3/361)
رواه الترمذي.
998- (14) وفي رواية النسائي نحوه، وعوض بلال صهيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحاجة تعرض للمصلي، فإن كانت لرد السلام ففيها الآثار الصحيحة، كفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قباء وغيره، وقد كنت في مجلس الطرطوشي، وتذاكرنا المسألة، وقلنا الحديث، واحتججنا به، وعامي في آخر الحلقة، فقام وقال: ولعله كان يرد عليهم نهياً لئلا يشغلوه، فعجبنا من فقهه، ثم رأيت بعد ذلك أن فهم الراوي؛ لأنه كان رد السلام قطعي في الباب على حسب ما بيناه في أصول الفقه-انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص122) : وحملوا أي الحنفية الأحاديث على أن إشارته - صلى الله عليه وسلم - كان للنهي عن السلام لا لرده، وهو حمل يحتاج إلى دليل مع مخالفته لظاهر بعض الأخبار-انتهى. وأجابوا أيضاً بأن هذه الأحاديث منسوخة. قال النيموي: حديث ابن عمر أي المذكور في الكتاب قد يدل على أن رد السلام بالإشارة كان في الابتداء، ولذلك ما رآه ابن عمر وسأل عنه بلالاُ وصهيباُ. وقد رد شيخنا هذا الجواب في أبكار المنن (ص260) ، فقال: جواب النيموي هذا مردود عليه بوجهين: الأول: أن ابن عمر كان يجوز رد السلام بالإشارة في الصلاة، ثم ذكر الشيخ أثر ابن عمر الآتي في آخر الفصل الثالث عن موطأ محمد، قال: والثاني: أنه لو كان رد السلام بالإشارة في الصلاة في الابتداء قبل نسخ الكلام لرد السلام بالكلام، لا بالإشارة. قال الزيلعي في نصب الراية بعد ذكر هذه الأحاديث: قد يجاب عنها بأنه كان قبل نسخ الكلام في الصلاة، ويؤيده حديث ابن مسعود: كنا نسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، ولم يقل "فأشار إلينا"، وكذا حديث جابر: إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا إني كنت أصلي، فلو كان الرد بالإشارة جائزاً لفعله. وأجيب عن هذا بأن أحاديث الإشارة لو لم تكن بعد نسخه لرد باللفظ، إذ الرد باللفظ واجب إلا لمانع كالصلاة، فلما رد بالإشارة علم أنه ممنوع من الكلام، وأما حديث ابن مسعود وجابر فالمراد بنفي الرد فيه: الرد بالكلام بدليل لفظ ابن حبان في حديث ابن مسعود: وقد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة- انتهى كلام الزيلعي. وقال الحافظ في الدراية (ص108) : وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون ذلك قبل نسخ الكلام في الصلاة، ورد بأنه لو كان كذلك لرد باللفظ لوجوب الرد، فلما عدل عن الكلام دل على أنه كان بعد نسخ الكلام-انتهى. (رواه الترمذي) وقال حديث حسن صحيح. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وابن حبان والبيهقي وأبوداود، وسكت عنه هو والمنذري.
998- وفي. (رواية النسائي نحوه) أي نحو حديث الترمذي. (وعوض بلال صهيب) مبتدأ وخبر، وفي بعض النسخ بنصب "عوض" على الظرفية، ولا مانع من أن ابن عمر سأل كلاً منهما وأجابه بذلك. وقد ذكر(3/362)
999- (15) وعن رفاعة بن رافع، قال: ((صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعطست، فقلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرف فقال: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية، فلم يتكلم أحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الترمذي أن الحديثين جميعاً صحيحان، قال: احتمل أن يكون سمع منها جميعاً، وحديث ابن عمر عن صهيب أخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والدارمي وابن حبان والبيهقي والحاكم في المستدرك، وقال: على شرطهما. وصهيب هذا هو صهيب بن سنان أبويحيى النمري المعروف بالرومي؛ لأنه أخذ لسان الروم إذ سبوه وهو صغير، وأصله من العرب من النمر بن قاسط، كانت منازلهم بأرض الموصل في قرية على شط الفرات مما يلي الجزيرة والموصل، فأغارت الروم على تلك الناحية فسبت صهيباً وهو غلام صغير، فنشأ بالروم فصار الكن، فابتاعته منهم كلب، ثم قدمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جدعان التميمي فأعتقه فأقام معه بمكة إلى أن هلك ابن جدعان وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويقال: إنه لما كبر في الروم وعقل هرب منهم، وقدم مكة فحالف عبد الله بن جدعان وأقام معه حتى هلك، وأسلم قديماً بمكة، يقال: إنه أسلم هو وعمار بن ياسر في يوم واحد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدار الأرقم معه بضعة وثلاثون رجلاً، وكان من المستضعفين معذبين في الله بمكة، ثم هاجر إلى المدينة مع علي في النصف من ربيع الأول، فأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقباء، وشهد بدراً والمشاهد بعدها. قال أنس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صهيب سابق الروم وقيل: فيه نزلت: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} [2: 207] وإليه أوصى عمر أن يصلي بالناس حتى يجتمع أهل الشورى على رجل، وفضائله كثيرة، وله أحاديث انفرد البخاري بحديث، ومسلم بثلاثة، مات بالمدينة سنة (38) في شوال في خلافة علي، وقيل: سنة (39) وهو ابن 73 سنة، وقيل ابن 90 سنة. ودفن بالبقيع.
999- قوله: (صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الحافظ في الفتح: وأخرجه الطبراني، وبين أن الصلاة المذكورة المغرب، وسنده لا بأس به-انتهى. وهذه الزيادة ترد على من قال أنه في التطوع، على أن المعتاد في الصلاة جماعة هو الفرض لا النفل. (فعطست) بفتح الطاء وتكسر. (طيباً) أي خالصاً عن الرياء والسمعة. (مباركاً فيه مباركاً عليه) قال ابن الملك: كلاهما واحد، ولعل المراد أنواع البركة، وهي الزيادة عليه. وقال الطيبي: الضميران في "فيه" و"عليه" للحمد، ففي الأول البركة بمعنى الزائد من نفس الحمد أي المستلزم لزيادة ثوابه، وفي الثاني من الخارج لتعديتها بـ"ـعلى" للدلالة على معنى الإفاضة أي على الحمد، ثم على قائله من حضرة الحق. (كما يحب ربنا ويرضى) أي حمداً موصوفاً بما ذكر، وبأنه مماثل للحمد الذي يحبه الله ويرضاه. وفيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد. (انصرف) أي سلم، وانصرف عن جهة القبلة. (فلم يتكلم أحد) أي بالجواب، وهذا مسبب عن قوله: "من المتكلم في الصلاة" فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألهم سؤال مستفهم، فوهموا أنه سؤال(3/363)
ثم قالها الثالثة، فقال رفاعة: أنا يارسول الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكاً، أيهم يصعد بها)) رواه الترمذي وأبوداود والنسائي.
1000- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منكر، ظناً منهم أن هذا القول غير جائز في الصلاة، كان ذلك سبباً لعدم الإجابة هيبة وإجلالاً، فلما زال التوهم في المرة الثانية أجاب بقوله "أنا". (فقال رفاعة) فيه تجريد، وأصله فقلت. (أنا) أي المتكلم. (لقد ابتدرها) أي استبق إليها. (أيهم يصعد بها) أي يسبق بعضهم بعضاً؛ لأن يصعد بها، قاله ابن الملك. وقال الطيبي: الجملة سدت مسد مفعولي ينظرون المحذوف على التعليق. والحديث فيه دليل على أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة، ويؤيد ذلك عموم الأحاديث الواردة بمشروعيته، فإنها لم تفرق بين الصلاة وغيرها، وعلى جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور، وعلى جواز رفع الصوت بالذكر المذكور ما لم يشوش على من معه. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج2: ص95) وحسنه الترمذي، وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وأصل الحديث في صحيح البخاري، لكن ليس فيه ذكر العطاس، ولا زيادة "كما يحب ربنا ويرضى". ولم يعين فيه الرجل القائل بل أبهمه، وزاد فيه أن ذلك عند رفع الرأس من الركوع. وقد أورده المصنف في باب الركوع، وتقدم هناك شرحه، ويجمع بين الروايتين بأن الرجل المبهم في رواية البخاري هو رفاعة كما في حديث الباب، ولا مانع أن يكني عن نفسه إما لقصد إخفاء عمله، أو لنحو ذلك، ويجمع بأن عطاسه وقع عند رفع رأسه من الركوع، لكن إيراد المصنف رواية البخاري في باب الركوع، ورواية الترمذي هذه في باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه، يدل على أنه لم يذهب إلى اتحاد الواقعة في الروايتين، بل جعلهما قصتين، خلافاً لما جزم به الحافظ وابن بشكوال.
1000- قوله: (التثاؤب) بالهمز، وقيل: بالواو. (في الصلاة من الشيطان) أضافه إلى الشيطان؛ لأنه يحبه ويتوسل به إلى ما يرضاه من قطع الصلاة والمنع من العبادة. قال ابن حجر: التقييد بالصلاة ليس للتخصيص بل؛ لأن القبح فيها أكثر؛ لأن معنى كونه من الشيطان أن أسبابه من الامتلاء والثقل وقسوة القلب هي التي من الشيطان، وهذا يوجب كونه منه في الصلاة وخارجها. ومن ثم قال النووي وغيره: يكره التثاؤب بالأذكار في الصلاة وخارجها- انتهى. (فإذا تثاءب) أي شرع في التثاءب أو أراد أن يتثاءب أو يأخذ في أسبابه. (فليكظم) أي ليدفعه وليحبسه. (ما استطاع) أي ما أمكنه بضم الشفتين، وتطبيق السن، أو بوضع الثوب، أو اليد على الفم.(3/364)
رواه الترمذي. وفي أخرى له ولابن ماجه: ((فليضع يده على فيه)) .
1001- (17) عن كعب بن عجرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامداً إلى المسجد، فلا يشبكن بين أصابعه، فإنه في الصلاة))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(رواه الترمذي) في الصلاة، وقال: حديث حسن صحيح، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، نقله ميرك، وأخرجه مسلم بدون ذكر الصلاة. (وفي أخرى له) أي في رواية أخرى للترمذي أي في الأدب، وقد حسنها الترمذي. (ولابن ماجه) في سنده عبد الله بن سعيد المقبري. قال في الزوائد: اتفقوا على ضعفه. (فليضع يده على فيه) أي بدل "فليكظم ما استطاع". ولفظ ابن ماجه: إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه- أي إذا لم يدفعه بضم شفتيه-ولا يعوى، فإن الشيطان يضحك منه. وقوله: "لا يعوى" بالعين المهملة أي لا يصبح شبه التثاؤب الذي يسترسل معه بعواء الكلب تنفيراً عنه واستقباحاً له، فإن الكلب يرفع رأسه ويفتح فاه ويعوي، والمتثاءب إذا أفرط في التثاءب شابهه. ومن ههنا تظهر النكتة في كونه يضحك منه؛ لأنه صيره ملعبة له بتشويه خلقه في تلك الحالة.
1001- قوله: (فأحسن وضوءه) بمراعاة السنن وحضور القلب وتصحيح النية. (ثم خرج) أي من بيته. (عامداً إلى المسجد) أي قاصداً إليه. (فلا يشبكن بين أصابعه) أي لا يدخل بعضها في بعض من التشبيك، وهو إدخال الأصابع بعضها في بعض. (فإنه في الصلاة) أي حكماً. والحديث يدل على كراهة التشبيك من وقت الخروج إلى المسجد للصلاة. وفيه أنه يكتب لقاصد الصلاة أجر المصلي من حين يخرج من بيته إلى أن يعود إليه، ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن أبي هريرة مرفوعاً: من توضأ ثم خرج يريد الصلاة فهو في صلاة حتى يرجع إلى بيته، فلا تقولوا هكذا يعني يشبك بين أصابعه. أخرجه الدارمي والحاكم من طريق إسماعيل بن أمية عن سعيد عن أبي هريرة. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وما روي عن أبي سعيد مرفوعاً: إذا كان أحدكم في المسجد، فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان، وأن أحدكم لا يزال في الصلاة مادام في المسجد حتى يخرج منه. أخرجه أحمد (ج3: ص43) وابن أبي شيبة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص25) بعد عزوه إلى أحمد: إسناده حسن. وعزاه الحافظ في الفتح لابن أبي شيبة فقط، وقال بعد ذكر لفظه: في إسناده ضعيف ومجهول –انتهى. واختلف في حكمة النهي عن التشبيك في المسجد، كما في حديث أبي سعيد وفي غيره، كما في حديث كعب بن عجرة وأبي هريرة. فقيل: لما فيه من العبث. وقيل: لأنه ينافي الخشوع. وقيل: لأنه من الشطان، كما تقدم في رواية أحمد وابن أبي شيبة. وقيل: لأن التشبيك ربما يجلب النوم وهو من مظان الحديث. وقيل: لما في ذلك من الإيماء إلى تشبيك الأحوال والأمور على المراء وملابسة الخصومات والخوض فيها.(3/365)
رواه أحمد والترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وحين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفتن قال: واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه. وقيل: لأن صورة التشبيك تشبه صورة الاختلاف، كما نبه عليه في حديث ابن عمر عند البخاري، فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في المنهي عنه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - للمصلين: ولا تختلفوا فتخلف قلوبكم. قال العراقي: وفي معنى التشبيك بين الأصابع تفقيعها. فيكره أيضاً في الصلاة ولقاصد الصلاة. وروى أحمد والدارقطني والطبراني من حديث أنس بن معاذ مرفوعاً: إن الضاحك في الصلاة والملتفت والمفقع أصابعه بمنزلة واحدة. وفي إسناده ابن لهيعة وزبان بن فائد ورشدين بن سعد وسهل بن معاذ، وكلهم ضعفاء. ويؤيده ما روى ابن ماجه من حديث علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تفقع أصابعك في الصلاة. وفي سنده الحارث الأعور. والتفقيع هو غمز الأصابع حتى يسمع لها صوت، فإن قلت: أحاديث النهي عن التشبيك معارضة لحديث أبي موسى مرفوعاً: أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ولحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين: ووضع يده اليمنى على اليسرى ثم شبك بين أصابعه. أخرجهما الشيخان. ولحديث ابن عمر قال: شبك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابعه. أخرجه البخاري وترجم على هذه الأحاديث باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره. قلت: أحاديث النهي عن التشبيك لا تصلح لمعارضة أحاديث الجواز المروية في الصحيحين؛ لانتفاء شرط المعارضة والمقاومة، وهو المساواة في الصحة والقوة. وقيل: التحقيق أنه ليس بين هذه الأحاديث تعارض إذ المنهي عنه فعله على وجه العبث، وهو منهي عنه في الصلاة ومقدماتها ولواحقها من الجلوس في المسجد والمشي إليه. والذي في حديث أبي موسى وابن عمر إنما هو لمقصود التمثيل وتصوير المعنى في النفس بصورة الحس، وأما تشبيكه في قصة ذي اليدين فكان لاشتباه الحال عليه في السهو الذي وقع منه. ولذلك وقف كأنه غضبان. وقيل: يجمع بينها بأن النهي مقيد بما إذا كان في الصلاة أو قاصداً لها إذ منتظر الصلاة في حكم المصلي. والأحاديث الدالة على الجواز خالية عن ذلك. أما حديث أبي موسى وابن عمر فظاهران. وأما حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، فلأن تشبيكه إنما وقع بعد انقضاء الصلاة في ظنه، فهو في حكم المنصرف من الصلاة. والرواية التي فيها النهي عن ذلك مادام في المسجد ضعيفة، كما تقدم عن الحافظ. إن في إسناده ضعيفاً ومجهولاً، فهي غير معارضة لحديث أبي هريرة. وقيل: يجمع بينها بأن فعله - صلى الله عليه وسلم - يفيد عدم التحريم ولا يمنع الكراهة أي لغيره، لكونه فعله نادراً أي لبيان الجواز أو المعنى كما في حديث أبي موسى وابن عمر. (رواه أحمد) (ج4: ص241- 242) .. (والترمذي) ولم يحكم عليه بشيء من الصحة والحسن والضعف، واشتغل عنه بذكر الاختلاف في سنده.(3/366)
وأبوداود والنسائي والدارمي.
1002- (18) وعن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال الله عزوجل مقبلاً على العبد، وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وأبوداود) وسكت عنه. (والنسائي) كذا في النسخ الموجودة عندنا من طبعات الهند ومصر بذكر النسائي، والظاهر أنه خطأ، فإن الحديث لم أجده في سنن النسائي اللهم إلا أن يكون في الكبرى. ويدل على ذلك أيضاً عدم وجوده في نسخة القاري التي اعتمدها في شرحه، فإنه قال بعد ذكر قول المصنف رواه أحمد والترمذي وأبوداود ما لفظه، وفي نسخة والنسائي أيضاً. (والدارمي) الحديث في إسناده عند الترمذي رجل غير مسمى، وهو الراوي له عن كعب بن عجرة، وقد كنى أحمد في رواية وأبوداود والدارمي والبيهقي هذا الرجل المبهم، فرووه من طريق سعد بن إسحاق، قال: حدثني أبوثمامة الحناط -بالحاء المهملة والنون- عن كعب، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وأخرجه أيضاً أحمد والدارمي في رواية من حديث المقبري عن كعب، وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد المقبري عن كعب، ولم يذكر الثلاثة في رواياتهم الرجل، وأخرجه أيضاً أحمد من طريق سعيد المقبري عن رجل من بني سالم عن أبيه عن جده عن كعب بن عجرة، ومن طريق سعيد المقبري عن بعض بني كعب بن عجرة عن كعب، ومن طريق سعيد بن أبي سعيد عن كعب بن عجرة. وبسط البيهقي الاختلاف فيه على سعيد، وأخرجه ابن حبان والبيهقي أيضاً من حديث الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن كعب بن عجرة، ولأجل هذا الاختلاف ضعف بعضهم حديث كعب بن عجرة هذا. قال ابن بطال: قد وردت في النهي عن التشبيك مراسيل ومسنده من طرق غير ثابتة. قال الحافظ في الفتح وكأنه يشير إلى حديث كعب بن عجرة، فذكر لفظه، ثم قال: أخرجه أبوداود وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وفي إسناده اختلاف، ضعفه بعضهم بسببه-انتهى. قلت: الظاهر أن الحديث من طريق سعد بن إسحاق عن أبي ثمامة الحناط القماح عن كعب عند أحمد وأبي داود والدارمي والبيهقي، ومن طريق الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن كعب عند ابن حبان والبيهقي، لا ينحط عن درجة الحسن. وقد أيده ما تقدم من حديث أبي سعيد عند أحمد بإسناد حسن، ومن حديث أبي هريرة عند الدارمي والحاكم. والله أعلم.
1002- قوله: (لا يزال الله عزوجل مقبلاً على العبد) بالإحسان والغفران والعفو لا يقطع عنه ذلك. قال القاري: أي ناظراً إليه بالرحمة وإعطاء المثوبة، والمعنى: لم ينقطع أثر الرحمة عنه. (مالم يلتفت) أي مالم يتعمد الالتفات إلى مالا يتعلق بالصلاة. وقال الحافظ: المراد بالالتفات مالم يستدبر القبلة بصدره أو عنقه كله. وسبب كراهة الالتفات يحتمل أن يكون لنقص الخشوع أو لترك استقبال القبلة ببعض البدن- انتهى. (فإذا التفت)(3/367)
انصرف عنه)) رواه أحمد وأبوداود والنسائي والدارمي.
1003- (19) وعن أنس، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أنس اجعل بصرك حيث تسجد))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي رواية النسائي "فإذا صرف وجهه" أي بالالتفات إلى مالا يتعلق بالصلاة. (انصرف عنه) أي أعرض عنه بقطع الرحمة المسببة عن الإقبال على الصلاة. وقال ابن مالك: المراد منه قلة الثواب. (رواه أحمد) في (ج5 ص172) (وأبوداود) وسكت عنه. (والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي (ج2 ص281) ، والحاكم (ج1 ص236) ، وصححه كلهم من طريق الزهري عن أبي الأحوص عن أبي ذر. قال المنذري في الترغيب: وأبوالأحوص هذا لا يعرف اسمه ولم يرو عنه غير الزهري، وقد صحح له الترمذي وابن حبان وغيرهما- انتهى. وقال ابن عبد البر: هو مولى بني غفار، إمام مسجد بني ليث. قال ابن معين: أبوالأحوص الذي حدث عنه الزهري ليس بشيء، وذكره ابن حبان في الثقات، وليس لقول ابن معين هذا أصل إلا كونه انفرد الزهري بالرواية عنه. قال ابن عبد البر: قد تناقض ابن معين في هذا، فإنه سئل عن ابن أكيمة، وقيل له: إنه لم يرو عنه غير ابن شهاب، فقال: يكفيه قول ابن شهاب، حدثني ابن أكيمة، فيلزمه مثل هذا في أبي الأحوص؛ لأنه قال في حديث الباب سمعت أباالأحوص. وقال أبوأحمد الكرابيسي: ليس بالمتين عندهم. وذكره ابن حبان في الثقات، كذا في تهذيب التهذيب (ج12 ص5) وقال في التقريب: أبوالأحوص مولى بني ليث أو غفار مقبول من أوساط التابعين لم يرو عنه غير الزهري- انتهى. وقال النووي في الخلاصة: هو فيه جهالة لكن الحديث لم يضعفه أبوداود فهو حسن عنده- انتهى.
1003- قوله: (اجعل بصرك حيث تسجد) الحديث بظاهره يدل على استحباب النظر إلى موضع السجود في سائر الصلاة، وعليه عمل الشافعية، كما يدل عليه كلام البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [2:23] ، وهو مذهب أحمد كما في المغني (ج1 ص664) ، والشافعي، كما قاله ابن حجر وغيره. لكن قال الطيبي: يستحب للمصلي أن ينظر في القيام إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى ظهر قدميه، وفي السجود إلى أنفه، وفي التشهد إلى حجره- انتهى. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه مع زيادة أن ينظر في السلام إلى منكبيه كما في النهاية شرح الهداية. قلت: وذهب مالك إلى أن يكون نظر المصلي إلى جهة القبلة. وإليه يظهر ميل البخاري حيث قال في صحيحه: باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، وذكر فيه أحاديث تدل على ذلك. قال الحافظ في الفتح: قال الزين بن المنير: نظر المأموم إلى الإمام من مقاصد الائتمام، فإذا تمكن من مراقبته بغير التفات كان ذلك من إصلاح صلاته. وقال ابن بطال: فيه حجة لمالك في أن نظر المصلي يكون إلى جهة القبلة. وقال الشافعي والكوفيون: يستحب له أن ينظر إلى موضع سجوده؛ لأنه أقرب إلى الخشوع.(3/368)
رواه. . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال العيني في شرح البخاري (ج5 ص306) : قد اختلف العلماء في رفع البصر إلى أي موضع في صلاته، فقال أصحابنا والشافعي وأبوثور إلى موضع سجوده، وروي ذلك عن إبراهيم وابن سيرين، وفي التوضيح: واستثنى بعض أصحابنا إذا كان مشاهداً للكعبة، فإنه ينظر إليها. وقال القاضي حسين: ينظر إلى موضع سجوده في حال قيامه، وإلى قدميه في ركوعه، وإلى أنفه في سجوده، وإلى حجره في تشهده؛ لأن امتداد النظر يلهي، فإذا قصر كان أولى. وقال مالك: ينظر أمامه، وليس عليه أن ينظر إلى موضع سجوده وهو قائم. قال: وأحاديث الباب تشهد له؛ لأنهم لو لم ينظروا إليه عليه الصلاة والسلام ما رأوا تأخره حين عرضت عليه جهنم، ولا رأوا اضطراب لحيته، ولا استدلوا بذلك على قراءته ولا نقلوا ذلك، ولا رأوا تناوله فيما تناوله في قبلته حين مثلت له الجنة. ومثل هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ لأن الائتمام لا يكون إلا بمراعاة حركاته في خفضه ورفعه – انتهى. وقال الحافظ بعد ذكر ما تقدم من كلام ابن المنير وابن بطال: وورد في ذلك أي في النظر إلى موضع السجود حديث أخرجه سعيد بن منصور من مرسل محمد بن سيرين، ورجاله ثقات، وأخرجه البيهقي موصولاً، وقال: المرسل هو المحفوظ. قال الحافظ: ويمكن أن يفرق بين الإمام والمأموم، فيستحب للإمام النظر إلى موضع السجود، وكذا للمأموم إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه، وأما المنفرد فحكمه حكم الإمام. والله أعلم. قلت: كلام الحافظ هذا حسن جيد، ولم أجد حديثاً مرفوعاً أو موقوفاً يدل على التفصيل الذي ذكره الطيبي والقاضي حسين وصاحب النهاية، ويؤيد ما ذهب إليه الشافعي وأحمد ما رواه البيهقي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أنس اجعل بصرك حيث تسجد. وهو حديث الباب، وسيأتي الكلام فيه. وفي رواية: يا أنس ضع بصرك في الصلاة عند موضع سجودك، قال هذا شديد، قال ففي المكتوبة إذا، وما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. قال محمد بن سيرين: وكانوا يقولون لا يجاوز بصره مصلاه، فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض، كذا في تفسير ابن كثير، وما روي عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنها قالت: كان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام المصلي يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه، فتوفي أبوبكر وكان عمر فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، ثم توفي عمر وكان عثمان، فكانت الفتنة، فالتفتت الناس يميناً وشمالاً. قال المنذري في الترغيب: رواه ابن ماجه أي في الجنائز بإسناد حسن، إلا أن موسى بن عبد الله بن أبي أمية المخزومي لم يخرج له من أصحاب الكتب الستة غير ابن ماجه، ولا يحضرني فيه جرح ولا تعديل- انتهى. (رواه) . . . .ههنا بياض بالأصل، وألحق به- أي في الحاشية-(3/369)
1004- (20) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بني إياك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لابد ففي التطوع لا في الفريضة)) رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البيهقي في سننه الكبير من طريق الحسن عن أنس، وفي نسخة صحيحة يرفعه. قيل إنه من ملحقات الجزري. قال ابن حجر: وله طرق تقتضي حسنه، كذا في المرقاة. قلت: حديث أنس هذا أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (ج2 ص284) من طريق الربيع بن بدر عن عنطوانة عن الحسن عن أنس، قال البيهقي رواه جماعة عن الربيع بن بدر عن عنطوانة، والربيع بن بدر ضعيف- انتهى. وقال الحافظ في اللسان (ج4 ص385) : عنطوانة عن الحسن عن أنس مرفوعاً: يا أنس ضع بصرك حيث تسجد. لا يدرى من ذا. انفرد به عنه عليلة بن بدر- انتهى. وذكره العقيلي فقال: مجهول بصري، روى عنه الربيع بن بدر، وهو متروك ثم ساق حديثه المذكور. والربيع هو عليلة بالتصغير- انتهى.
1004- قوله: (يا بني إياك والالتفات في الصلاة) أي بتحويل الوجه. (فإن الالتفات في الصلاة) أظهر في موضع الضمير لمزيد الأيضاح والبيان في مقام التحذير. (هلكة) بفتحتين أي هلاك؛ لأنه طاعة الشيطان، وهو سبب الهلاك. قال الطيبي: الهلكة الهلاك وهو استحالة الشيء وفساده، لقوله تعالى: {ويهلك الحرث والنسل} [205:2] والصلاة بالالتفات تستحيل من الكمال إلى الاختلاس المذكور في الحديث الخامس من الفصل الأول. وقال الشوكاني: سمي الالتفات هلكة باعتبار كونه سبباً لنقصان الثوب الحاصل بالصلاة، أو لكونه نوعاً من تسويل الشيطان واختلاسه، فمن استكثر منه كان من المتبعين للشيطان، واتباع الشيطان هلكة، أو لأنه إعراض عن التوجه إلى الله، والإعراض عنه عزوجل هلكة. (فإن كان لابد) أي من الالتفات. (ففي التطوع لا في الفريضة) ؛ لأن مبنى التطوع على المساهلة، ألا ترى أنه يجوز قاعداً مع القدرة على القيام، وفيه الإذن بالالتفات للحاجة في التطوع، والمنع من ذلك في صلاة الفرض. (روا الترمذي) وقال: حديث حسن. ونقل ميرك أنه قال: حسن صحيح. وذكر الزيلعي الحديث في نصب الراية (ج2 ص89) عن الترمذي وقال: قال: حديث حسن صحيح. ونقل المجد بن تيمية الحديث في المنتقى وقال: رواه الترمذي وصححه. وقال المنذري في الترغيب بعد ذكره: رواه الترمذي من رواية علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أنس، وقال حديث حسن، وفي بعض النسخ صحيح. قال المنذري: وعلي بن زيد بن جدعان يأتي الكلام عليه، ورواية سعيد عن أنس غير مشهورة- انتهى. وقال في الفصل الذي ذكر فيه الرواة المختلف فيهم: علي بن زيد بن جدعان، قال البخاري وأبو حاتم: لا يحتج به، وضعفه ابن عيينة وأحمد وغيرهما، وروى عن يحيى ليس بشيء، وروى عنه ليس بذاك القوي، وقال أحمد العجلي: كان يتشيع وليس بالقوي، وقال الدارقطني: لا يزال عندي فيه لين، وقال الترمذي: صدوق،(3/370)
1005- (21) وعن عباس رضي الله عنهما، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يلوي عنقه خلف ظهره)) . رواه الترمذي والنسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وصحح له حديثاً في السلام، وحسن له غير ما حديث- انتهى.
1005- قوله: (كان يلحظ) بفتح الحاء المهملة وبالظاء أي ينظر بمؤخر عينيه من اللحظ، وهو النظر بطرف العين الذي يلي الصدغ، وفي رواية النسائي: كان يلتفت (في الصلاة) قيل: النافلة، ويحتمل الفرض أيضاً. والحاصل أن إلتفاته كان متضمناً لمصلحة بلا ريب مع دوام حضور القلب وتوجهه إلى الله تعالى على وجه الكمال، قاله السندي. (يميناً وشمالاً) أي تارة إلى جهة اليمين وأخرى إلى جهة الشمال. (ولا يلوى) أي لا يصرف ولا يميل (عنقه خلف ظهره) أي إلى جهته. وقال الطيبي: اللي فتل الحبل، يقال لويته الوية ليا، ولوى رأسه وبرأسه أماله. ولعل هذا الالتفات كان منه في التطوع، فإنه أسهل لما في الحديث السابق. وقال ابن الملك: قيل إلتفاته عليه الصلاة والسلام مرة أو مراراً قليلة لبيان أنه غير مبطل أو كان لشئ ضروري، فان كان أحد يلوى عنقه خلف ظهره أي ويحول صدره عن القبلة فهو مبطل للصلاة كذا في المرقاة قلت: الالتفات المذكور في حديث ابن عباس هذا هو أن يلحظ بعينيه يميناً وشمالاً لمراقبة أحوال المتقدمين، أو لمصلحة أخرى، وهو مباح عند الجميع في الفرض، وإن كان خلاف الأولى، وهو غير الإلتفات المذكور في حديث أنس السابق والحديث الخامس من الفصل الأول، فان المراد من الالتفات فيهما هو أن يلتفت بطرف الرأس والوجه من غير أن يحول صدره عن القبلة، وهو مكروه عند الجميع بلا حاجة بل حرام عند الظاهرية. (رواه الترمذي والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك (ج1:ص236-256) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً الدارقطني في سننه (ص195) والحازمي في كتاب الاعتبار (ص64) قال الترمذي حديث غريب يعني أنه تفرد بروايته متصلاً الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند. ونقل القاري في المرقاة عن ميرك أنه نقل عن الترمذي حسن غريب، ونقل عن النووي أنه صحح إسناده. وقال الترمذي في جامعه: وقد خالف وكيع الفضل بن موسى في روايته، ثم أخرجه عن وكيع عن عبد الله بن سعيد عن بعض أصحاب عكرمة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلحظ في الصلاة" فذكر نحوه. وقال في علله الكبير: ولا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد مسنداً مثل ما رواه الفضل بن موسى-انتهى. وقال الدارقطني بعد روايته: تفرد به الفضل بن موسى عن عبد الله بن سعيد به متصلاً وغيره يرسله، وكذا قال الحازمي في كتاب الاعتبار، وأراد الترمذي والدارقطني والحازمي بذلك تعليل الرواية المتصلة. وليست هذه علة، بل إسناد الحديث صحيح أو حسن، والرواية المتصلة زيادة من ثقة، فهي مقبولة.(3/371)
1006- (22) وعن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده رفعه، قال: ((العطاس والنعاس والتثاؤب في الصلاة، والحيض والقيء والرعاف من الشيطان)) رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والفضل بن موسى ثقة ثبت. قال ابن القطان في كتابه: هذا حديث صحيح، وإن كان غريباً، لا يعرف إلا من هذه الطريق. قال عبد الله بن سعيد وثور بن زيد ثقتان، وعكرمة احتج به البخاري. فالحديث صحيح-انتهى. والحديث أخرجه البزار في مسنده عن مندل بن علي العنزي عن الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى يلاحظ أصحابه في الصلاة يميناً وشمالاً، ولا يلتفت". ورواه ابن عدي في الكامل، وأعله بمندل وضعفه عن النسائي والسعدي وابن معين، ولينه هو، وقال: إنه ممن يكتب حديثه-انتهى. وفي الباب عن علي بن شيبان، قال: خرجنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلينا خلفه، فلمح بمؤخر عينيه رجلاً لم يقم صلبه في الركوع والسجود، فقال إنه لا صلاة لمن يقم يقم صلبه، أخرجه ابن ماجه وابن حبان.
1006- قوله: (رفعه) أي رفع جد عدي الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولولا هذا القيد لأوهم قوله: (العطاس) أن يكون من قول الصحابي، فيكون موقوفاً، قاله الطيبي، (والنعاس) هو النوم الخفيف أو مقدمة النوم، وهو سنة، (والتثاؤب في الصلاة) قال الطيبي: إنما فصل بين الثلاثة الأول والأخيرة بقوله: في الصلاة؛ لأن الثلاثة الأول مما لا يبطل الصلاة بخلاف الأخير. (والحيض والقيء والرعاف) بضم الراء، دم الأنف. (من الشيطان) قال القاضي: أضاف هذه الأشياء إلى الشيطان؛ لأنه يحبها ويتوسل بها إلى ما يبتغيه من قطع الصلاة، والمنع عن العبادة، ولأنها تغلب في غالب الأمر من شره الطعام الذي هو من أعمال الشيطان. وزاد التوربشتي ومن ابتغاء الشيطان الحيلولة بين العبد وبين ما ندب إليه من الحضور بين يدي الله، والاستغراق في لذة المناجاة، ذكره الطيبي. وقال ابن حجر: المراد من العطاس كثرته، فلا ينافيه الخبر: "إن الله يحب العطاس"؛ لأن محله في العطاس المعتدل، وهو الذي لا يبلغ الثلاث التوالي، بدليل أنه يسن تشميته حينئذٍ بـ"عافاك الله وشفاك" الدال على أن ذلك مرض-انتهى. قال القاري: والظاهر الجمع بين الحديثين بأن يحمل محبة الله تعالى العطاس مطلقاً على خارج الصلاة، وكراهته مطلقاً في داخل الصلاة؛ لأنه في الصلاة لا يخلو عن اشتغال بال به، وهذا الجمع كان متعيناً لو كان الحديثان مطلقين فكيف مع التقييد بها في هذا الحديث. وقال العراقي في شرح الترمذي: لا يعارض هذا حديث أبي هريرة: إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، لكونه مقيداً بحال الصلاة، فقد يتسبب الشيطان في حصول العطاس للمصلي ليشغله عن صلاته، ذكره الحافظ في الفتح. (رواه الترمذي) أي في الأدب، وقال حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك عن أبي اليقظان عن عدي-انتهى. وشريك هذا هو ابن عبد الله النخعي القاضي، وهو صدوق يخطيء كثيراً، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة. وأبواليقظان اسمه عثمان بن عمير الكوفي، الأعمى، ضعيف، واختلط، وكان يدلس، ويغلو في التشيع. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر(3/372)
1007- (23) وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: ((أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، يعني يبكي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث: وسنده ضعيف، وله شاهد عن ابن مسعود في الطبراني، لكن لم يذكر النعاس، وهو موقوف، وسنده ضعيف أيضاً-انتهى. والحديث أخرجه ابن ماجه من طريق شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: قال البزاق والمخاط والحيض والنعاس في الصلاة من الشيطان. قال في الزوائد: أبواليقظان أجمعوا على ضعفه.
1007- قوله: (وعن مطرف) بضم أوله وفتح ثانيه وتشديد الراء المكسورة. (بن عبد الله بن الشخير) بكسر الشين المعجمة وتشديد الخاء المعجمة المكسورة بعدها تحتانية ثم راء الحرشي العامري البصري، ثقة عابد فاضل من كبار التابعين، مات سنة 95هـ، وقد ذكر ابن سعد وغيره له مناقب كثيرة. (عن أبيه) عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب بن وقدان بن الحريش الحرشي العامري الصحابي ذكره ابن سعد في مسلمة الفتح. وقال ابن مندة: وفد في وفد بني عامر، له أحاديث انفرد له مسلم بحديث. (وهو يصلي) أي والحال أنه يصلي، فالجملة حالية، وكذلك جملة قوله: (ولجوفه أزيز) أي والحال أن لجوفه أزيزاً بزائين معجمتين ككريم، وهو صوت القدر إذا غلت. والمراد حنين من الخوف والخشية، وهو صوت البكاء. وقال الجزري: هو أن يحيش جوفه ويغلي من البكاء. (كأزيز المرجل) بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم، الإناء الذي يغلي فيه الماء سواء كان من حديد أو صفر أو حجارة أو خزف، والميم زائدة. قيل له ذلك؛ لأنه إذا نصب كأنه أقيم على أرجل. وقال القاري: المرجل القدر إذا غلى. قال الطيبي: أزيز المرجل صوت غليانه، ومنه الأز، وهو الإزعاج. وقيل: للمرجل القدر من حديد أو حجر أو خزف؛ لأنه إذا نصب كأنه أقيم على الرجل. (يعني يبكي) أي يريد الراوي بالعبارة المذكورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي بحيشان جوفه وغليانه. وقال الطيبي: فيه دليل على أن البكاء لا يبطل الصلاة. قال ابن حجر: وفيه نظر؛ لأن الصوت إنما سمع للجوف أو الصدر، لا اللسان، والمختلف في إبطاله إنما هو البكاء المشتمل على الحرف. وقال البيجوري في شرح الشمائل: يؤخذ من الحديث أنه إذا لم يكن الصوت مشتملاً على حرفين أو حرف مفهم لم يضر في الصلاة-انتهى. قلت: الحديث بظاهره وبإطلاقه دليل بين على أن البكاء غير مبطل للصلاة، سواء ظهر منه حرفان أم لا إذا كان من خشية الله تعالى، وهو الذي فهمه الترمذي وأبوداود والنسائي والمجد ابن تيمية، كما يظهر من تبويبهم على هذا الحديث، وليس في الحديث أدنى إشارة إلى القيد الذي ذكره ابن حجر والبيجوري تبعاً لمذهبهما. قال الشوكاني: في الحديث دليل على أن البكاء لا يبطل الصلاة، سواء ظهر منه حرفان أم لا. وقد قيل: إن كان البكاء من خشية الله لم يبطل، وهذا الحديث يدل عليه، ويدل عليه أيضاً ما رواه ابن حبان(3/373)
وفي رواية قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء)) رواه أحمد، وروى النسائي الرواية الأولى، وأبوداود الثانية.
1008- (24) وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بسنده إلى علي بن أبي طالب، قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الأسود، ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وبوب عليه ذكر الإباحة للمرأ أن يبكي من خشية الله، ويدل عليه أيضاً ما أخرجه البيهقي وسعيد بن منصور وابن المنذر أن عمر صلى صلاة الصبح وقرأ سورة يوسف حتى بلغ إلى قوله: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} [86:12] فسمع نشيجه. والنشيج على وزن فعيل أشد البكاء كما في المحكم، ويدل عليه أيضاً ما روي عن ابن عمر عند البخاري وعن عائشة عند البخاري ومسلم في تصميمه - صلى الله عليه وسلم - على استخلاف أبي بكر في الصلاة بعد أن أخبر أنه إذا قرأ غلبه البكاء، ويدل عليه أيضاً مدح الباكين بقوله تعالى: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً} [19: 85] وبقوله: {ويخرون للأذقان يبكون} [17: 109] ، فإنه يشمل المصلي وغيره. واختلف العلماء في البكاء والأنين والتأوه فعن الشعبي والنخعي يفسد الصلاة، وعن المالكية والحنابلة والحنفية: إن كان لذكر النار والجنة والخوف لم يفسد، وإن كان لغير الخوف كالمصيبة والوجع أفسد. وفي مذهب الشافعي ثلاثة أوجه: أصحها إن ظهر منه حرفان أو حرف مفهم أفسد وإلا فلا، ثانيها: وحكى عن نصه في الإملاء أنه لا يفسد مطلقاً؛ لأنه ليس من جنس الكلام، ولا يكاد يبين منه حرف محقق فأشبه الصوت الغفل، ثالثها: عن القفال إن كان فمه مطبقاً لم يفسد وإلا أفسد إن ظهر منه حرفان، وبه قطع المتولي. قال الحافظ: والوجه الثاني أقوى دليل. (وفي رواية) أخرى. (كأزيز الرحى) يعنى الطاحون. قال الخطابي: أزيز الرحى صوتها وحرحرتها. (من البكاء) بالمد أي من أجله. قال ابن حجر: هو بالقصر خروج الدمع مع الحزن، وبالمد خروجه مع رفع الصوت. (رواه أحمد) (ج4: ص25- 26) أي أصل الحديث عند أحمد مع قطع النظر عن خصوص اللفظ، وإلا فليس عنده الرواية الثانية. والحديث أخرجه أيضاً الترمذي في الشمائل، قال الحافظ في الفتح: وإسناده قوي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ووهم من زعم أن مسلماً أخرجه-انتهى.. (وروى النسائي الرواية الأولى الخ) ، وأخرج البيهقي الروايتين (ج2: ص251) .
1008- قوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة) أي إذا دخل فيها، إذ قبل التحريم لا يمنع. (فلا يمسح الحصى) أي فلا يعرض عن الصلاة لأدنى شيء، أي لما فيه من قطع التوجه للصلاة، فتفوته الرحمة المسببة عن الإقبال على الصلاة، وهذا إذا لم يكن لإصلاح محل السجود، وإلا فيجوز مرة بقدر الضرورة، كما تقدم. والحصى(3/374)
فإن الرحمة توجهه)) رواه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
1009- (25) وعن أم سلمة، قالت: ((رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاماً لنا، يقال له: أفلح، إذا سجد نفخ، فقال: يا أفلح ترب وجهك)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بفتحتين واحدتها حصاة، وهي الحجارة الصغيرة، والتقييد بالحصى خرج مخرج الغالب، لكونه كان الغالب على فرش مساجدهم، ولا فرق بينه وبين التراب والرمل على قول الجمهور. ويدل على ذلك قوله في حديث معيقيب المتقدم في الرجل يسوي التراب. (فإن الرحمة تواجهه) أي تنزل عليه وتقبل إليه. وهي علة للنهي، يعني فلا يليق لعاقل تلقي شكر تلك النعمة الخطيرة بهذه الفعلة الحقيرة، قاله الطيبي. وقال الشوكاني: هذا التعليل يدل على أن الحكمة في النهي عن المسح أن لا يشغل خاطره بشيء يلهيه عن الرحمة المواجهة له، فيفوته حظه منها. وقد روي أن حكمة ذلك أن لا يغطي شيئاً من الحصى يمسحه، فيفوته السجود عليه، كما تقدم في رواية ابن أبي شيبة عن أبي صالح السمان. قال ابن العربي: معناه الإقبال على الرحمة، وترك الاشتغال عنها بالحصباء وسواه إلا أن يكون لحاجة كتعديل موضع السجود أو إزالة شيء مضر، وقد كان مالك يفعله، وغيره يكرهه-انتهى. (رواه أحمد) (ج5: ص150- 163- 179) . (والترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه البيهقي أيضاً (ج2: ص284) كلهم من طريق الزهري عن أبي الأحوص عن أبي ذر. وقد تقدم الكلام في أبي الأحوص. وفي الباب أحاديث عديدة ذكرها الشوكاني في النيل.
1009- قوله: (وعن أم سلمة) أم المؤمنين. (يقال له: أفلح) وقيل: اسمه رباح، كما في رواية لأحمد (ج6: ص323) والترمذي، وقيل: يسار، كما في رواية أخرى لأحمد (ج6: ص301) . (إذا سجد) أي إذا أراد أن يسجد. (نفخ) أي في الأرض ليزول عنها التراب فيسجد. (ترب وجهك) أي في سجودك من التتريب، أي أوصل وجهك إلى التراب، وألقه به وضعه عليه، ولا تبعده عن موضع وجهك بالنفخ، فإنه أقرب إلى التواضع والتذليل والخضوع، فإن علوق التراب بالوجه الذي هو أفضل الأعضاء غاية التواضع. والحديث قد استدل به من اختار مباشرة المصلي للأرض من غير وقاية، روي ذلك عن ابن مسعود وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي خلافاً للجمهور، قال العراقي: والجواب عنه: أنه لم يأمره أن يصلي على التراب، وإنما أراد به تمكين الجبهة من الأرض، وكأنه رآه يصلي ولا يمكن جبهته من الأرض، فأمره بذلك. لا أنه رآه يصلي على شيء يستره من الأرض، فأمره بنزعه-انتهى. واستدل بالحديث أيضاً على كراهة النفخ في الصلاة. وقد اختلف العلماء فيه: فروي عن مالك كراهة النفخ في الصلاة ولا يقطعها كما يقطعها الكلام، وهو قول أحمد وإسحاق على ما ذكر الترمذي. وإليه ذهب أبويوسف وأشهب على ما قال ابن بطال. وفي المدونة:(3/375)
رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النفخ بمنزلة الكلام يقطع الصلاة. وعن أبي حنيفة ومحمد: إن كان يسمع فهو بمنزلة الكلام يبطل الصلاة، وإلا فلا، واستدل لهما بحديث أم سلمة وفيه أنه حديث ضعيف الإسناد. قال الحافظ في الفتح: ولو صح لم يكن فيه حجة على إبطال الصلاة بالنفخ؛ لأنه لم يأمره بإعادة الصلاة، وإنما استفاد من قوله: "ترب وجهك" استحباب السجود على الأرض، فهو نحو النهي عن مسح الحصى. قال: وفي الباب- أي في كراهة النفخ في الصلاة- عن أبي هريرة في الأوسط للطبراني، وعن زيد بن ثابت عند البيهقي، وعن أنس وبريدة عند البزار، وأسانيد الجميع ضعيفة جداً-انتهى. وقد ذكر الشوكاني في النيل: هذه الأحاديث مع بيان ما فيها من الضعف. واستدل لهما أيضاً بأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة بأن النفخ كلام يدل على ذلك ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن ابن عباس قال: النفخ في الصلاة كلام وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى ابن عباس أنه كان يخشى أن يكون النفخ كلاماً. وأجيب بمنع كون النفخ كلاماً؛ لأن الكلام يتركب من الحروف المعتمدة على المخارج ولا اعتماد في النفخ، وأيضاً الكلام المنهي عنه في الصلاة هو المكالمة، ولو سلم صدق اسم الكلام على النفخ كما قال ابن عباس لكان فعله - صلى الله عليه وسلم - لذلك في الصلاة مخصصاً لعموم النهي عن الكلام، كذا في النيل. والمصحح عند الشافعية والحنابلة أنه إن ظهر من النفخ حرفان بطلت الصلاة وإلا فلا. والراجح المعتمد عندنا هو عدم بطلان الصلاة بالنفخ مطلقاً، أي سواء ظهر منه حرفان أم لا، مسموعاً كان أو غير مسموع، لما رواه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي عن عبد الله بن عمرو "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفخ في صلاة الكسوف"، وقد ذكره البخاري تعليقاً. وأخرج أحمد هذا المعنى من حديث المغيرة بن شعبة. ولفظ أبي داود: ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف. وفيه رد صريح على ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة والحنفية؛ لأنه كان مسموعاً، وقد صرح فيه بظهور الحرفين وفي الحديث أيضاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: وعرضت على النار، فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرها، والنفخ لهذا الغرض لا يقع إلا بالقصد إليه، فانتفى قول من حمله على الغلبة. وأجاب الخطابي بأن "أف" لا تكون كلاماً حتى يشدد الفاء، قال: والنافخ في نفخه لا يخرج الفاء صادقة من خرجها. وتعقبه ابن الصلاح بأنه لا يستقيم على قول الشافعية أن الحرفين كلام مبطل، أفهما أولم يفهما، وأشار البيهقي إلى أن ذلك من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورد بأن الخصائص لا تثبت إلا بدليل، كذا في الفتح. قال ابن بطال: والقول الأول أي عدم قطع النفخ للصلاة أولى، وليس في النفخ من النطق بالهمزة والفاء أكثر مما في البصاق من النطق بالتاء والفاء، قال: وقد اتفقوا على جواز البصاق في الصلاة، فدل على جواز النفخ فيها، إذ لا فرق بينهما، ولذلك ذكره البخاري معه في الترجمة –انتهى. وقد روي الرخصة في النفخ في الصلاة عن قدامة بن عبد الله الصحابي، أخرجه البيهقي. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6: ص323) والبيهقي (ج2: ص252) كلهم من طريق ميمون أبي حمزة الأعور(3/376)
1010- (26) وعن ابن عمر رضي الله عنهما: الاختصار في الصلاة راحة أهل النار. رواه في شرح السنة.
1011- (27) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اقتلوا الأسودين في الصلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القصاب الكوفي الراعي عن أبي صالح عن أم سلمة. قال الترمذي: إسناده ليس بذاك، وميمون أبوحمزة قد ضعفه بعض أهل العلم-انتهى. قلت: ميمون أبوحمزة هذا ضعيف، لم يوثقه حد ولا قواه، بل ضعفه جميعهم أو أكثرهم، كما يظهر من تهذيب التهذيب والميزان. فالحديث ضعيف، لكن أخرجه أحمد من غير طريق أبي حمزة أيضاً، فقد رواه (ج6:ص 301) عن طلق بن غنام بن طلق عن سعيد بن عثمان الوراق عن أبي صالح عن أم سلمة، ورواه ابن حبان أيضاً في صحيحه من غير طريق أبي حمزة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة أبي صالح: ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج حديثه "هذا" في صحيحه من رواية غير أبي حمزة ميمون عنه-انتهى. ويؤيده أيضاً حديث حذيفة مرفوعاً: ما من حالة يكون العبد فيها أحب إلى الله من أن يراه ساجداً، يعفر وجهه في التراب. رواه الطبراني.
1010- قوله: (الاختصار) أي وضع اليد على الخاصرة، وهي جنب الإنسان فوق رأس الورك. (في الصلاة راحة أهل النار) قال القاضي: أي يتعب أهل النار من طول قيامهم أي في الموقف فيستريحون بالاختصار، وقيل: إنه من فعل اليهود والنصارى في صلاتهم، وهم المرادون بأهل النار أي مآلاً وعاقبة؛ لأن أهل النار لا راحة لهم لقوله تعالى: {لا يفتّر عنهم} [43: 75] . (رواه في شرح السنة) قال ميرك: أي بغير سند، فقال: وفي بعض الأحاديث: الاختصار راحة أهل النار-انتهى. قلت: فقول المصنف رواه في شرح السنة خطأ فإنه إنما يقال في مثل هذا ذكره، ولا يقال رواه. وقد صح النهي عن الاختصار في الصلاة، كما تقدم في الفصل الأول مع بيان حكمة النهي عنه مفصلاً. والحديث أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً، كما في الترغيب للمنذري. وقال الشوكاني في النيل: روى ذلك ابن أبي شيبة عن مجاهد، ورواه أيضاً عن عائشة، وروى البيهقي (ج2: ص287) عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الاختصار في الصلاة راحة أهل النار. قال العراقي: وظاهر إسناده الصحة، ورواه أيضاً الطبراني-انتهى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص85) بعد ذكره من رواية أبي هريرة: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الله بن الأزور، ضعفه الأزدي، وذكر له الحديث وضعفه به-انتهى. ولم أقف على من أخرجه من حديث ابن عمر.
1011- قوله: (اقتلوا الأسودين في الصلاة) أي ولو في الصلاة، ففي حديث ابن عباس عند الحاكم والطبراني بإسناد ضعيف مرفوعاً: اقتلوا الحية والعقرب، وإن كنتم في صلاتكم والأمر للندب وقيل: للرخصة(3/377)
الحية والعقرب)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والإباحة، وصرفه عن الوجوب ما رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط عن عائشة، قالت: دخل علي بن أبي طالب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فقام إلى جنبه فصلى بصلاته، فجاءت عقرب حتى انتهت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تركته، فذهبت نحو علي، فضربها بنعله حتى قتلها، فلم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلها بأساً. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص84) : رجال أبي يعلى رجال الصحيح غير معاوية بن يحيى الصدفي، وأحاديثه عن الزهري مستقيمة، كما قال البخاري، وهذا منها، وضعفه الجمهور. وفي طريق الطبراني: عبد الله بن صالح كاتب الليث. قال عبد الملك بن شعيب بن الليث ثقة مأمون، وضعفه الأئمة أحمد وغيره-انتهى. (الحية والعقرب) بيان للأسودين. وتسمية العقرب والحية بالأسودين إما لتغليب الحية على العقرب؛ لأنه لا يسمى بالأسود في الأصل إلا الحية، أو لأن عقرب المدينة يميل إلى السواد. وقيل: بل لأن بعض العقارب يكون أسود، و"ال" فيهما للجنس، فيشمل كل منهما الذكر والأنثى، ويلحق بهما كل ضرار مباح القتل كالزنابير والشبثان ونحوهما، وأما القمل فقال القاضي: الأولى التغافل عنه، فإن قتلها فلا بأس؛ لأن أنساً كان يقتل القمل والبراغيث في الصلاة، وكان الحسن يقتل القمل، وقال الأوزاعي: تركه أحب إليّ، وكان عمر يقتل القمل في الصلاة، رواه سعيد، كذا في المغني (ج1: ص667) . قال الشوكاني: والحديث يدل على جواز قتل الحية والعقرب في الصلاة من غير كراهة. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء، كما قال العراقي. وحكى الترمذي عن جماعة كراهة ذلك، منهم إبراهيم النخعي. وقال الخطابي في المعالم (ج1:ص218) : رخص عامة أهل العلم في قتل الأسودين إلا إبراهيم النخعي، والسنة أولى ما اتبع-انتهى. قال العراقي: وأما من قتلها في الصلاة، أو هم بقتلها فعلي بن أبي طالب وابن عمر روى ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح أنه رأى ريشة وهو يصلي فحسب أنها عقرب، فضربها بنعله، ورواه البيهقي أيضاً وقال: فضربها برجله، وقال: حسبت أنها عقرب. واعلم أن الأمر بقتل الحية والعقرب في الصلاة مطلق غير مقيد بضربة أو ضربتين، فيجوز قتلهما في الصلاة، وإن احتاج فيه إلى المشي الكثير والمعالجة الكثيرة لإطلاق الحديث. قال ابن الهمام: الحديث بإطلاقه يشمل ما إذا احتاج إلى عمل كثير-انتهى. ولا تفسد الصلاة بذلك؛ لأنه رخصة كالمشي والعمل في سبق الحديث عند الحنفية. وفي شرح المنية قالوا: أي بعض المشائخ هذا إذا لم يحتج إلى المشي الكثير كثلاث خطوات متواليات، ولا إلى المعالجة الكثيرة كثلاث ضربات متواليات، فأما إذا احتاج فمشى وعالج تفسد صلاته كما لو قاتل؛ لأنه عمل كثير، ذكره السروجي في المبسوط. ثم قال: والأظهر أنه لا تفصيل فيه؛ لأنه رخصة كالمشي في سبق الحدث، ويؤيد إطلاق الحديث، والأصح هو الفساد، إلا أنه يباح له إفسادها لقتلهما كما يباح لإغاثة ملهوف أو تخليص أحد من الهلاك كسقوط من سطح أو حرق أو غرق، ذكره القاري في المرقاة. والحق عندنا هو عدم التفصيل، فقتلهما لا يفسد الصلاة مطلقاً لإطلاق الحديث. ذكر شيخ الإسلام السرخسي: أن الأظهر أن لا تفسد صلاته؛ لأن هذا عمل رخص فيه للمصلي، فأشبه المشي بعد الحدث والاستقاء من البئر(3/378)
رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وللنسائي معناه.
1012- (28) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي تطوعا والباب عليه مغلق، فجئت فاستفتحت، فمشى ففتح لي، ثم رجع إلى مصلاه، وذكرت: أن الباب كان في القبلة))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والوضوء-انتهى. وقال الشوكاني: واستدل المانعون من ذلك إذا بلغ إلى حد الفعل الكثير، والكارهون له بحديث: إن في الصلاة لشغلاً، وبحديث: أسكنوا في الصلاة عند أبي داود. ويجاب عن ذلك بأن حديث الباب خاص، فلا يعارضه ما ذكروه، وهكذا يقال في كل فعل كثير ورد الإذن به، كحديث حمله - صلى الله عليه وسلم - لأمامة، وحديث خلعه للنعل، وحديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ونزوله للسجود ورجوعه بعد ذلك، وحديث أمره - صلى الله عليه وسلم - بدرء المار، وإن أفضى إلى المقاتلة، وحديث مشيه لفتح الباب. (الآتي بعد هذا الحديث) وكل ما كان كذلك ينبغي أن يكون مخصصاً لعموم أدلة المنع-انتهى. (رواه أحمد) في (ج2: ص333- 348) . (وأبوداود والترمذي) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والبيهقي (ج2:ص 266) والحاكم في المستدرك (ج1: ص256) ، وقال: حديث صحيح ولم يخرجاه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وفي الباب عن عائشة وابن عباس، كما تقدم، وعن أبي رافع عند ابن ماجه، بإسناد ضعيف، وعن رجل من بني عدي بن كعب عند أبي داود في مراسيله بإسناد منقطع.
1012- قوله: (والباب عليه مغلق) فيه أن المستحب لمن صلى في مكان بابه إلى القبلة أن يغلق الباب عليه ليكون سترة للمار بين يديه، وليكون أستر. وفيه إخفاء صلاة التطوع عن الآدميين. (فجئت فاستفتحت) أي طلبت فتح الباب، والظاهر أنها ظنت أنه ليس في الصلاة، وإلا لم تطلبه منه كما هو اللائق بأدبها وعلمها. (ثم رجع إلى مصلاه) أي على عقبيه. (وذكرت) أي عائشة. (أن الباب كان في القبلة) أي فلم يتحول - صلى الله عليه وسلم - عنها عند مجيئه إليه، ويكون رجوعه إلى مصلاه على عقبيه إلى خلف. قال الأشرف: هذا قطع وهم من يتوهم أن هذا الفعل يستلزم ترك استقبال القبلة، ولعل تلك الخطوات لم تكن متوالية؛ لأن الأفعال الكثيرة إذا تفاصلت ولم تكن على الولاء لم تبطل الصلاة، قال المظهر: ويشبه أن تكون تلك المشية لم تزد على خطوتين. قال القاري: الإشكال باق؛ لأن الخطوتين مع الفتح والرجوع عمل كثير، فالأولى أن يقال تلك الفعلات لم تكن متواليات –انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: هذا كله من التقييد بالمذهب. والظاهر أن أمثال هذه الأفعال في صلاة التطوع عند الحاجة لا تبطل الصلاة، وإن كانت متوالية. قال ابن الملك: مشيه عليه الصلاة والسلام وفتحه الباب ثم رجوعه إلى مصلاه يدل على أن الأفعال الكثيرة إذا تتوالى لا تبطل الصلاة. وإليه ذهب بعضهم-انتهى.(3/379)
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وروى النسائي نحوه.
1013- (29) وعن طلق بن علي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قلت: وهذا هو الراجح المعول عليه عندي لظاهر الحديث، لكن في صلاة التطوع عند الحاجة لا مطلقاً. (رواه أحمد وأبو داود والترمذي) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج2: ص265) . وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (وروى النسائي ونحوه) ولفظه: قالت استفتحت الباب، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي تطوعا، والباب على القبلة، فمشى عن يمينه أو عن يساره ففتح الباب، ثم رجع إلى مصلاه.
1013- قوله: (وعن طلق) بفتح الطاء وسكون اللام. (بن علي) كذا وقع في جميع النسخ الموجودة الحاضرة عندنا. ووقع في المصابيح عن علي بن طلق، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج8:ص108) وهذا هو الصواب؛ لأنه موافق لما وقع في جامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي والدارمي والدارقطني وابن حبان والبيهقي (ج2:ص255) ؛ ولأن هذا الحديث من مسند علي بن طلق كما يظهر من الاستيعاب والإصابة وتهذيب التهذيب، لا من مسند طلق بن علي، فإن له أحاديث أخرى غير ذلك، فما وقع ههنا لا شك عندي في كونه سهواً من صاحب المشكاة أو توهم هو وقوع القلب في روايات من ذكرنا من أصحاب الكتب. (كما رأى بعض الناس على ما قال البرقي، كما في تلقيح الفهوم (ص114، لابن الجوزي) ، فخالف صاحب المصابيح، وصحح على ما توهم، وأياما كان فالصحيح ههنا هو علي بن طلق لا طلق بن علي، وقد تقدم هذا الحديث في باب ما يوجب الوضوء بزيادة ونقصان من رواية الترمذي وأبي داود، وذكر المصنف هناك اسم الصحابي علي بن طلق على ما هو الصواب. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج7: ص341) علي بن طلق بن المنذر بن قيس بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزى بن سحيم، نسبه خليفة بن خياط الحنفي اليمامي، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء من الريح وغير ذلك-انتهى. وقال في الإصابة (ج2:ص510) بعد ذكر نسبه كما في التهذيب. قال ابن حبان: له صحبة. وقال ابن عبد البر: أظنه والد طلق بن علي، وبذلك جزم العسكري. وروى حديث أبوداود والترمذي والنسائي، وهو "إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أدبارهن" ونقل الترمذي عن البخاري قال: لا أعرف لعلي بن طلق غير هذا الحديث-انتهى. وقد قوي الحافظ ظن ابن عبد البر في تهذيب التهذيب حيث قال: وهو ظن قوي؛ لأن النسب الذي ذكره خليفة هنا هو النسب المتقدم في ترجمة طلق بن علي من غير مخالفة، وجزم به العسكري-انتهى. تنبيهان: الأول: ذكر بعض الرواة في روايته لهذا الحديث اسم الصحابي طلق بن علي، كعبدلرزاق عن معمر عن عاصم الأحول عن عيسى بن حطان، وأبي نعيم عن عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حطان، وسمى شعبة عن عاصم الأحول عند أحمد طلق(3/380)
ابن يزيد أو يزيد بن طلق على الشك. وكلاهما خطأ عندي، والصحيح هو علي بن طلق. قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر رواية شعبة عن عاصم الأحول: ورواه عبد الرزاق عن معمر عن عاصم الأحول عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن طلق بن علي. والأشبه أنه علي بن طلق، كما تقدم-انتهى. وقد ذكر الحديث قبل ذلك من رواية علي بن طلق، وعزاه لأحمد والترمذي، وسنذكره. وإنما قال الأشبه أي بالصواب؛ لأن أبا معاوية عند أحمد والترمذي، وسفيان في رواية عبد الرزاق عنه عند أحمد على ما ذكر ابن كثير، وعبد الواحد بن زياد عند الدارمي، وجرير بن عبد الحميد عند أبي داود، والدارقطني وابن حبان والبيهقي قد اتفقوا في روايتهم عن عاصم الأحول على تسمية الصحابي بعلي بن طلق. وكذا سماه به وكيع عند الترمذي وإبراهيم كلاهما عن عبد الملك بن مسلم، كما في أسد الغابة (ج3:ص64) . والثاني: وقع هذا الحديث في مسند أحمد في مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ج1:ص86) ، فظن الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1:ص243) و (ج4:ص299) أن هذا الحديث عند أحمد من مسند علي بن أبي طالب، لا من مسند علي بن طلق حيث بدأه بقوله: وعن علي يعني ابن أبي طالب، فذكر لفظه، ثم قال: رواه أحمد من حديث علي بن أبي طالب، ورجاله ثقات، ورواه أصحاب السنن من حديث علي بن طلق-انتهى. وكذا وقع في هذا الظن علي المتقي في كنز العمال حيث ذكر هذا الحديث في (ج5: ص116) في مسند علي بعد ذكر مسانيد أبي بكر وعمر وعثمان، وعزاه لأحمد والعدني، قال: ورجاله ثقات، ثم ذكره في (ج5:ص117) عن علي بن طلق وعزاه لابن جرير فقط. ويظهر من صنيع مجد الدين ابن تيمية الأكبر في المنتقى أن الحديث عنده في المسند عن علي بن أبي طالب وعلي بن طلق كليهما، حيث أورد في باب النهي عن إتيان المرأة في دبرها، ما يدل على النهي عن ذلك عن علي بن أبي طالب وعلي بن طلق وكليهما. وهذا ظاهر في أنه جعلهما حديثين منفصلين. ويظهر من كلام الأمير اليماني أن الحديث عنده مروي عن الصحابيين المذكورين، وعن طلق بن علي أيضاً، حيث قال في سبل السلام (ج3:ص136) : روى هذا الحديث. (أي حديث أبي هريرة المخرج في أبي داود والنسائي في منع إتيان النساء في أدبارهن) بلفظه من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب وعمر وخزيمة وعلي بن طلق وطلق بن علي وابن مسعود الخ. والظاهر عندي: أن الحديث من مسند علي بن طلق فقط. وأنه وقع السهو ممن رتب المسند وهذبه، حيث ذكر هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب، لما رأى في طريق وكيع عن عبد الملك لفظ علي من غير نسب أي من غير نص على أنه ابن طلق أو ابن أبي طالب، فظن أنه ابن أبي طالب. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (ج2: ص81) : قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن عاصم عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن علي بن طلق، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤتى النساء في أدبارهن، فإن الله لا يستحي من الحق. وأخرجه أحمد أيضاً عن أبي معاوية،(3/381)
وأبوعيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضاً عن عاصم الأحول به، وفيه زيادة، وقال: هو حديث حسن. ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب، كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل. والصحيح أنه علي بن طلق-انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص106) بعد ذكر الحديث ما لفظه: هكذا نسبه أي الرافعي، فقال: علي بن أبي طالب، وهو غلط، والصواب: علي بن طلق، وهو اليماني، كذا رواه من طريقة أحمد وأصحاب السنن والدارقطني وابن حبان-انتهى. وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد (ج2:ص64- 66) بعد ذكر كلام ابن كثير السابق. هكذا وافق الحافظ ابن كثير رأي الترمذي في أن علياً في هذا الإسناد هو ابن طلق؛ لأنه ذكر فيه من غير نسب، فلم ينص على أنه هذا أو ذاك وأنا أرجح أن رأى الترمذي ومن تبعه خطأ؛ لأنه من المستبعد جداً أن يخفى مثل هذا على الإمام أحمد وابنه عبد الله، ولأن علي بن طلق اشتبه أمره على البخاري فظن أنه شخص آخر غير طلق بن علي اليماني، فلم يعرف له غير هذا الحديث الواحد، وظن ابن عبد البر أن علي بن طلق هو والد طلق بن علي. وقوى حافظ في التهذيب هذا الظن لاتفاق نسبهما، ولو كان هذا صحيحاً لكان علي بن طلق صحابياً قديماً معمراً حتى يدركه مسلم بن سلام، بل حتى يدركه عيسى ابن حطان الرقاشي، فيما يزعم الحافظ في التهذيب (ج2:ص207) : أنه روى عنه على خلاف فيه. بل أنا ظن أن الحديث حديث علي بن أبي طالب، كما ذكره الإمام أحمد في مسنده. (أي علي بن أبي طالب) ، رواه عنه مسلم بن سلام، ورواه عن مسلم ابنه عبد الملك على الصواب، ثم رواه عن مسلم أيضاً عيسى بن حطان فأخطأ، فقال عنه "عن علي بن طلق"، قال: وأما رواية الإمام أحمد حديث "علي بن طلق" التي أشار الحافظ ابن كثير إلى أنه رواها بإسنادين فلم أجدها في المسند، بل لم أجد لعلي بن طلق فيه مسنداً خاصاً بما حصرت مسانيده في فهارسي، ولا فيما أتممت تحقيقة من هذا الديوان الأعظم، وهو أكثر من خمسة عشر ألف حديث، فلعله سيأتي في باقي الكتاب في أثناء مسند صحابي آخر، والله اعلم-انتهى. قلت: قد ظهر من هذا كله أن عيسى بن حطان ذكر علياً في روايته عن مسلم بن سلام منسوباً، فنص على أنه ابن طلق، وهذه الرواية عند أحمد على ما ذكر ابن كثير والترمذي وأبي داود والدارمي وابن حبان والدارقطني وابن الأثير الجزري في أسد الغابة (ج3:ص64) ، ورواه عبد الملك بن مسلم بن سلام عن أبيه مسلم، فذكره من غير نسب فلم ينص على أنه هذا أو ذاك، وتلك الرواية المقيدة قرينة واضحة على أن علياً في رواية عبد الملك هو ابن طلق، لا ابن أبي طالب. ومجرد ذكر الإمام أحمد أو ابنه أو غيرهما ممن رتب المسند وهذبه هذه الرواية المطلقة، أي رواية عبد الملك بن مسلم عن أبيه عن علي من غير نسب في مسند علي بن أبي طالب لا يدل على أن علياً هذا هو ابن أبي طالب؛ لأن هذا ليس مجرد الرأي والفهم، وهو ليس بحجة على غير صاحبه. وليس فيه أيضاً دليل على وقوع الخطأ من عيسى بن حطان في ذكر(3/382)
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف فليتوضأ، وليعد الصلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النسب، فنسبه الخطأ إلى عيسى تحكم محض عندي. وأي بعد في خفاء مثل هذا على الإمام أحمد وابنه فقد خفي ما هو دون ذلك على من هو أكبر وأعظم في هذا الشأن منهما، والله اعلم. (إذا فسا أحدكم) أي خرج من دبره ريح بلا صوت، سواء تعمد خروجه أو لم يتعمده، فعل ماض من فسا يفسوا فسوا وفساء. قال في المصباح: الفساء بالضم والهمزة والمد ريح يخرج بغير صوت يسمع. قال الطيبي: أي أحدث بخروج ريح من مسلكه المعتاد. (فلينصرف) أي عن صلاته. (فليتوضأ وليعد الصلاة) فيه دليل على أن الحدث ناقض للوضوء، وأنه تبطل به الصلاة ويجب عليه إعادتها، ولا يجوز البناء عليها، سواء كان الحدث عمداً أو سبقه من غير قصد لإطلاق الحديث، وبناء على أن الأمر بإعادة الصلاة للوجوب كما أن الأمر بالوضوء للوجوب اتفاقاً، وبه أخذ الشافعي في الجديد، فقال: إذا سبقه الحدث وهو في الصلاة من غير اختياره بطلت صلاته، كما تبطل في صورة خروج الحدث باختياره وقصده. وهذا هو الراجح عندي. وفرق الشافعي في القديم، وأحمد في رواية، ومالك وأبوحنيفة بين العمد والسبق من غير اختيار، فقالوا: يعيد الصلاة في الأول، ويبني في الثاني بالشروط المذكورة في الفروع، ولو استأنف فيه أيضاً لكان أفضل للبعد عن شبهة الخلاف، فعندهم الأمر بالإعادة في الحديث إذا كان الحدث عمداً، محمول على الوجوب، وأما إذا سبقه الحدث ولم يتعمده فمحمول على الاستحباب واختيار الأفضل. واستدل لهم على ذلك بما رواه ابن ماجه والدارقطني عن عائشة مرفوعاً: من أصابه قيء أو قلس أو مذي، فلينصرف فليتوضأ ثم ليبين على صلاته وهو لا يتكلم في ذلك. فجمع هؤلاء بين الحديثين بحمل حديث علي بن طلق على تعمد الحدث في الصلاة، وحديث عائشة هذا على سبق الحدث من غير تعمد، وفيه أن حديث عائشة ضعيف لا يقاوم حديث الباب، فقد أعله غير واحد من الأئمة بأنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وابن جريج حجازي، ورواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين ضعيفة. وقد خالفه الحفاظ من أصحاب ابن جريج، فرووه عن ابن جريج عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. وصحح هذه الطريقة المرسلة الذهلي والدارقطني في العلل وأبوحاتم، وقال رواية إسماعيل خطأ. وقال ابن معين حديث ضعيف. وقال أحمد الصواب عن ابن جريج عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي مرسلاً. والمرسل على القول الأصح ليس بحجة، فيترجح عليه حديث علي بن طلق، وأيضاً قد صححه ابن حبان وحسنه الترمذي، ولم يضعفه أحد غير ابن القطان، كما سيأتي، وأما حديث عائشة فلم يصححه أحد غير الزيلعي الحنفي بل ضعفه جمهور الأئمة الشافعي وأحمد وأبوحاتم وأبوزرعة والدارقطني وابن عدي والحازمي والبيهقي وابن معين والذهلي، كما في نصب الراية والتلخيص والدراية. وأما ما أجاب به الزيلعي في تخريجه، وابن التركماني في الجواهر النقي عن تضعيف هؤلاء الأئمة، فلا يخفى سخافته على من له أدنى بصيرة ودراية، فلا حاجة إلى ذكره ثم الرد عليه. وقد أشبع ابن حزم في المحلى (ج4: ص153- 156) الكلام في الرد على من قال بجواز(3/383)
رواه أبوداود، وروى الترمذي مع زيادة ونقصان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البناء، فارجع إليه إن شئت. (رواه أبوداود) في موضعين، في باب من يحدث في الصلاة، من كتاب الطهارة. وفي باب إذا أحدث في صلاته يستقبل، من كتاب الصلاة، لكن من حديث علي بن طلق لا من حديث طلق بن علي، وكذا رواه الترمذي وغيره من حديث علي بن طلق كما تقدم. (وروى الترمذي) أي نحوه في كتاب الرضاع لكن (مع زيادة ونقصان) وقد ذكر المصنف في باب ما يوجب الوضوء، وتقدم هناك شرحه، فارجع إليه. والحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حبان كما في التلخيص، وبلوغ المرام. وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال الترمذي: سمعت محمداً يقول: لا أعرف لعلي بن طلق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث الواحد، ولا أعرف هذا الحديث من حديث طلق بن علي السحيمي. وكأنه رأى أن هذا رجل آخر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقد نقل الحافظ عبارة الترمذي هذه في تهذيب التهذيب، وفيه: ولا أعرف هذا من حديث علي بن طلق السحيمي-انتهى. وهذا خطأ عندي، وهو ظاهر لمن تأمل فيما قدمنا من الكلام في ترجمة علي بن طلق، ويدل أيضاً على صحة ما وقع في نسخ الترمذي الحاضرة عندنا، ما نقل الحافظ في التلخيص (ص106) والمنذري في تلخيص السنن والشوكاني في النيل والقاري في المرقاة (ج1: ص277) عن ميرك عن جامع الترمذي بلفظ: لا أعرف هذا الحديث من حديث طلق بن علي السحيمي مثل ما وقع في نسخ الترمذي الموجودة عندنا، والحديث ضعفه ابن القطان بأن مسلم بن سلام الحنفي أبا عبد الملك الراوي عن علي بن طلق مجهول الحال. وأجيب عنه بأن ابن حبان وثقة، كما في الخلاصة. وقال الحافظ في التقريب: مقبول، ومن عرف حجة على من جهل وقال النيموي: زيادة قوله في الحديث "فليعد صلاته" ليست بمحفوظة؛ لأنه تفرد بها جرير بن عبد الحميد، كما صرح به ابن حبان في صحيحه، وجرير هذا قال أحمد بن حنبل فيه: لم يكن بالذكي في الحديث اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول حتى قدم عليه بهز فعرفه-انتهى. وهذا الحديث من طريق جرير بن عبد الحميد عن عاصم الأحول. وقال البيهقي في سننه في ثلاثين حديثاً لجرير: قد نسب في آخر عمره إلى سوء حفظه. قلت: قال الحافظ في الفتح: جرير بن عبد الحميد بن قرط الضبي الرازي، وكان منشأه بالكوفة، قال اللالكائي: أجمعوا على ثقته، وكذا قال الخليلي. وقال أبوخيثمة: لم يكن يدلس، وروى الشاذكوني عنه ما يدل على التدليس، لكن الشاذكوني فيه مقال. وقال ابن سعد: كان ثقة يرحل إليه. وقال أحمد وابن معين: هو أثبت من شريك، ووثقه العجلي والنسائي وأبوحاتم وقال: يحتج بحديثه. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالذكي. وقال البيهقي: نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، ولم أر ذلك لغيره بل احتج به الجماعة-انتهى. ما في مقدمة الفتح. فظهر أن جرير بن عبد الحميد الضبي مجمع على ثقته، ولم يعتمد على قول البيهقي: "نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ"، وكذلك لم يعتمد على قول(3/384)
1014- (30) وعن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ((قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف)) رواه أبوداود.
1015- (31) وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أحدث أحدكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد "لم يكن بالذكي"، بل احتج به الجماعة ولم يثبت أنه في رواية الزيادة المذكورة خالف الثقات أو أوثق منه، فكيف يكون ما زاده غير محفوظ؟ ولهذا الحديث شاهد ضعيف من حديث ابن عباس مرفوعاً أخرجه الدارقطني والطبراني، ذكره الحافظ في الدراية (ص102) والزيلعي في نصب الراية (ج1: ص62) وفي إسناده سليمان بن أرقم، وهو ضعيف كذا في أبكار المنن (ص262) .
1014- قوله: (إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه) ندباً، وفي رواية ابن ماجه "فليمسك على أنفه" والحديث فيه ندب لستر ما لا يحسن إظهاره بما لا يكون فيه كذب. وقد روى البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في الشعب والطبراني في الكبير عن عمران بن حصين موقوفاً: أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. قال البيهقي: وقد روى عنه مرفوعاً، والموقوف هو الصحيح. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص248) : إنما أمره أن يأخذ بأنفه ليوهم القوم أن به رعافاً. وفي هذا باب من الأخذ بالأدب في ستر العورة، وإخفاء القبيح من الأمر والتورية بما هو أحسن منه، وليس يدخل هذا في باب الرياء والكذب، وإنما هو من باب التجمل، واستعمال الحياء، وطلب السلامة من الناس-انتهى. وقال التوربشتي: أمره بأخذ الأنف ليخيل أنه مرعوف، وهذا ليس من قبيل الكذب، بل من المعاريض بالفعل، ورخص له فيها وهدى إليها لئلا يسول له الشيطان المضي أي في الصلاة استحياء من الناس. وفيه أيضاً تنبيه على إخفاء في تلك الحالة-انتهى. (ثم لينصرف) بكسر اللام وسكونها. (رواه أبوداود) في أبواب الجمعة من طريق ابن جريج عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة، وأخرجه ابن ماجه من طريق عمر بن علي المقدمي عن هشام ومن طريق عمر بن قيس عن هشام. قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. والطريق الثانية ضعيفة لاتفاقهم على ضعف عمر بن قيس. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان والدارقطني (ص57) والحاكم (ج1: ص184) وقال صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي والبيهقي (ج2:ص254) .
1015- قوله: (إذا أحدث أحدكم) كذا في جميع النسخ الحاضرة عندنا، وكذا وقع في المصابيح. والذي في الترمذي هو "إذا أحدث يعني الرجل"، وضمير "يعني" يرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا تفسير الضمير المستتر في "أحدث" من بعض الرواة. قال القاري: أي عمداً عند أبي حنيفة، ومطلقاً عند صاحبيه، بناء على أن الخروج من الصلاة بصنعه فرض عنده خلافاً لهما-انتهى. قال الشيخ: ليس في الحديث تقييد بالعمد، فالظاهر ما قال(3/385)
وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته)) ، رواه الترمذي، وقال هذا حديث إسناده ليس بالقوي وقد اضطربوا في إسناده.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صاحبا أبي حنيفة-انتهى. (وقد جلس في آخر صلاته) قال القاري: أي قدر التشهد-انتهى. قلت: ليس في الحديث بيان مقدار الجلوس. وأما ما روي في ذلك مما يدل على بيان قدر الجلوس، كحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود وغيرهما، وكحديث عطاء عند أبي نعيم، وكحديث علي عند البيهقي والدارقطني، فكله ضعيف لا يصلح للاحتجاج. أما حديث ابن مسعود فقد تقدم الكلام عليه. وأما حديث عطاء فهو مرسل، ومرسلات عطاء أضعف المراسيل، فإنه كان يأخذ عن كل أحد كما في التدريب وغيره. وأما حديث علي فهو موقوف. (فقد جازت صلاته) أي تمت وأجزأت. واستدل به لأبي حنيفة وأصحابه على أن المصلي إذا أحدث في آخر صلاته بعد ما جلس قد التشهد فقد جازت صلاته خلافاً للأئمة الثلاثة، فإن الصلاة: تبطل عندهم بذلك، لكون التسليم فرضاً عندهم وفي الاستدلال بهذا الحديث لما ذهب إليه أبوحنيفة نظر ظاهر؛ لأنه ضعيف، لا يصلح للاحتجاج، كما ستقف عليه. قال الخطابي في المعالم (ج1:ص175) : هذا الحديث ضعيف، وقد تكلم الناس في بعض نقلته، وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التسليم والتشهد، ولا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهره؛ لأن أصحاب الرأي لا يرون أن صلاته قد تمت بنفس القعود حتى يكون ذلك بقدر التشهد، على ما رووا عن ابن مسعود، ثم لم يقودوا قولهم في ذلك؛ لأنهم قالوا: إذا طلعت عليه الشمس، أو كان متيمماً فرأى الماء وقد قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم فسدت صلاته، وقالوا فيمن قهقه بعد الجلوس قدر التشهد: إن ذلك لا يفسد صلاته ويتوضأ، ومن مذهبهم أن القهقهة لا تنقض الوضوء إلا أن تكون في صلاة. والأمر في اختلاف هذه الأقاويل ومخالفتها الحديث بين –انتهى. وقد ذكر ابن حزم في المحلى (ج4:ص276، 277) مسائل نحو ما ذكر الخطابي، تناقض فيها أقوال أهل الرأي. والبحث نفيس جدا فارجع إليه، قال القاري: ووجه مناسبة هذا الحديث للباب: أنه وجد منه حدث في الصلاة، ولم يبطلها مع أن من شأنه إبطالها. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أبوداود والدارقطني والبيهقي (ج2:ص176) وأبوداود الطيالسي. (وقال) أي الترمذي: (هذا حديث، إسناده ليس بالقوى، وقد اضطربوا في إسناده) لم يبين الترمذي اضطراب إسناده، ولكنه ذكر في آخر الباب كلامهم في عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، الذي عليه مدار أسانيد هذا الحديث، وتضعيف بعض أهل العلم له، قال الحافظ في التقريب في ترجمته: ضعيف في حفظه. والظاهر أن هذا الحديث مما أخطأ فيه حفظه. وهو أيضاً مخالف للحديث الصحيح: "وتحليلها التسليم". وقد تقدم، فلا يقوى حديث عبد الله بن عمر وهذا لمعارضته. قال الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص62-63) بعد ذكر كلام الترمذي المتقدم: وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما.(3/386)
{الفصل الثالث}
1016- (32) عن أبي هريرة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصلاة، فلما كبر انصرف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الدارقطني: وعبد الرحمن بن زياد لا يحتج به. وقال البيهقي: وهذا الحديث إنما يعرف بعبد الرحمن الإفريقي، وقد ضعفه يحيى بن معين ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي، قال: وإن صح قائماً كان قبل أن يفرض التسليم، ثم روى بإسناده عن عطاء بن أبي رباح، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد آخر صلاته أقبل على الناس بوجهه. وذلك قبل أن ينزل التسليم-انتهى. وقال القاري بعد ذكر كلام الترمذي المذكور: قال ابن الصلاح: المضطرب هو الذي يروى على أوجه مختلفة متفاوتة والاضطراب قد يقع في السند أو المتن أو من راو أو من رواة. والمضطرب ضعيف لإشعاره بأنه لم يضبط، ذكره الطيبي. قال القاري: لهذا الحديث طرق ذكرها الطحاوي. وتعدد الطرق يبلغ الحديث الضعيف إلى حد الحسن-انتهى كلام القاري. وفيه أن تعدد طرق الحديث إنما يبلغه إلى حد الحسن إذا كانت تلك الطرق متباينة، ولم يكن مدار كلها على ضعيف لا يحتج به. وطرق هذا الحديث التي ذكرها الطحاوي ليست متباينة، بل مدار كلها على عبد الرحمن بن زياد الإفريقي.
1016- قوله: (خرج إلى الصلاة) أي قاصداً إليها. (فلما كبر) أي تكبيرة الإحرام. (انصرف) أي إلى حجرته. وفيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - انصرف بعد ما دخل في الصلاة وكبر للإحرام. ويدل عليه أيضاً رواية ابن ماجه والدارقطني والبيهقي (ج2:ص397) لحديث أبي هريرة هذا من طريق أسامة بن زيد عن عبد الله بن يزيد عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة. قال الحافظ بعد عزوه لابن ماجه: في إسناده نظر. وقال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف أسامة بن زياد-انتهى. قلت: لم يتعين لي أنه أسامة بن زيد أسلم العدوي أو أسامة بن زيد الليثي المدني. والأول ضعيف من قبل حفظه، والثاني صدوق يهم، كما في التقريب. ويدل عليه أيضاً ما رواه الدارقطني والبيهقي (ج2:ص399) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بلفظ: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته فكبر وكبرنا معه، ثم أشار إلى القوم. قال الحافظ: واختلف في إرساله ووصله-انتهى. ورواه الطبراني في الأوسط بنحوه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص69) : رجاله رجال الصحيح. وما رواه أحمد وأبوداود وابن حبان والبيهقي (ج2:ص397) من حديث الحسن عن أبي بكرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل في صلاة الفجر، فأومأ بيده أن مكانكم. قال الحافظ: صححه ابن حبان والبيهقي واختلف في وصله وإرساله. وما رواه الدارقطني عن بكر بن عبد الله المزني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل في صلاة فكبر وكبر من خلفه فانصرف، مرسل. وما رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط عن علي بن أبي طالب، قال: بينما نحن(3/387)
وأومى إليهم أن كما كنتم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصلي، إذا انصرف ونحن قيام الخ. وفيه ابن لهيعة، وما رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار مرسلاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار إليهم بيده أن امكثوا، فذهب ثم رجع وعلى جلده أثر الماء. وما رواه أبوداود عن محمد بن سيرين والربيع بن محمد مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر. وقد روى الشيخان عن أبي هريرة ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - انصرف قبل أن يدخل في الصلاة. ففي رواية للبخاري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف قال: على مكانكم. وفي رواية لمسلم: فأتى رسول الله حتى إذا قام في مصلاه قبل أن يكبر ذكر فانصرف وقال لنا: مكانكم، فرواية الصحيحين معارضة لما تقدم من أحاديث أنس وأبي بكرة وأبي هريرة وعلي، ومراسيل بكر وعطاء ومحمد بن سيرين والربيع بن محمد، ويمكن أن يجمع بينهما بأن يقال: إن معنى قوله "كبر" في حديث الباب وما يوافقه، أراد أن يكبر للإحرام، ومعنى دخل في الصلاة، أنه قام في مقامه للصلاة وتهيأ للإحرام بها، ويحتمل أنهما قصتان ذكر في الأولى قبل التكبير والتحرم بالصلاة، وهي رواية الصحيحين، وفي الثانية لم يذكر إلا بعد أن أحرم، كما في حديث أبي بكرة وما وافقه. قال الحافظ: في الفتح بعد ذكر رواية مسلم وحديث أبي بكرة وأثر عطاء: ويمكن الجمع بينهما يحمل قوله "كبر" على أراد أن يكبر، أو بأنهما واقعتان. أبداه عياض والقرطبي احتمالاً. وقال النووي: إنه الأظهر، وجزم به ابن حبان كعادته، فإن ثبت وإلا فما في الصحيح أصح-انتهى. واعلم أنه استدل بحديث أبي بكرة وما وافقه لمالك والشافعي وأحمد من وافقهم على أنه لا إعادة على من صلى خلف من نسي غسل الجنابة وصلى ثم تذكر، إنما الإعادة على الإمام فقط خلافاً لأبي حنيفة، فإنه قال: يجب الإعادة على المأمومين أيضاً. وفيه أنه لا يتم استدلال الأئمة الثلاثة إلا إذا قيل بتعدد القصة، ومع ذلك إذا ثبت أن القوم أيضاً كبروا ودخلوا في الصلاة، لكن لم يذكر ذلك إلا في حديث أنس عند الدارقطني والطبراني، وقد تقدم أنه اختلف في إرساله ووصله، فرواه معاذ بن معاذ عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مسنداً، ورواه عبد الوهاب الخفاف عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن بكر بن عبد الله المزني مرسلاً، أخرجهما الدارقطني. وأما إذا قيل بوحدة الواقعة في روايات الصحيحين وغيرهما، أو بأن القوم لم يدخلوا في الصلاة ولم يكبروا على القول بتعدد القصة، فلا يكون حديث أبي بكرة وما وافقه دليلاً على ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة. والظاهر عندي: توجد القضية ويحمل قوله: "كبر ودخل" على المجاز أي أراد أن يكبر للإحرام وتهيأ للدخول في الصلاة، وأن القوم لم يدخلوا في الصلاة، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل فيها، فإن كان كذلك، وإلا فما في الصحيح أصح. (وأومى إليهم) بالياء. وفي بعض النسخ بالهمزة. قال القاري: ويبدل الهمزة، فيكتب بالياء أي أشار. (أن) وفي رواية الدارقطني أي. (كما كنتم) وفي بعض النسخ: كما أنتم، أي على ما أنتم عليه من حال(3/388)
ثم خرج فاغتسل، ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم، فلما صلى قال: إني كنت جنباً، فنسيت أن أغتسل)) رواه أحمد.
1017- (33) وروى مالك عن عطاء بن يسار مرسلاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الاجتماع، وعدم التفرق. قال الطيبي: أي كونوا كما كنتم. و"أن" مفسرة لما في الإيماء من معنى القول. ويجوز أن تكون مصدرية، والجارة محذوفة أي أشار إليهم بالكون على حالهم-انتهى. (ثم خرج) أي من المسجد. (ورأسه يقطر) بضم الطاء أي شعر رأسه يقطر ماء بسبب الاغتسال يعني لم ينشف إما للعجلة، وإما؛ لأنه أفضل. (فصلى بهم) وفي رواية مسلم المتقدمة: فكبر وصلى بنا. وفي رواية للبخاري: فكبر فصلينا معه. (فلما صلى) أي فرغ من صلاته. (قال) مشيراً إلى السبب فيما وقع له. (إني كنت جنباً، فنسيت) بفتح النون وكسر السين المخففة، كذا في النسخ. ولعل الأولى ضم النون وتشديد السين، قاله القاري. (إن اغتسل) أي الاغتسال. وفي الحديث فوائد: منها: جواز النسيان على الأنبياء في أمر العبادة لأجل التشريع، ومنها: طهارة الماء المستعمل، ومنها: جواز الفصل بين الإقامة والصلاة؛ لأن قوله فصلى ظاهر في أن الإقامة لم تعد ولم تجدد، والظاهر أنه مقيد بالضرورة، وبأمن خروج الوقت. وعن مالك إذا بعدت الإقامة من الإحرام تعاد. وينبغي أن يحمل على ما إذا لم يكن عذر، ومنها: أنه لا حياء في أمر الدين، وسبيل من غلب أن يأتي بعذر موهم كأن يمسك بأنفه ليواهم أنه رعف، كما تقدم، ومنها: أنه لا يجب على من احتلم في المسجد فأراد الخروج منه أن يتيمم، ومنها: جواز الكلام بين الصلاة والإقامة. ومنها: جواز تأخير الجنب الغسل عن وقت الحدث. ومنها: خروج الإمام بعد الإقامة للغسل. (رواه أحمد) يعني موصولاً، وله عنده طرق وألفاظ، وأخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني والبيهقي (ج2:ص398) .
1017- (وروى مالك) في الموطأ، وكذا البيهقي عن إسماعيل بن أبي حكيم. (عن عطاء بن يسار) مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - (مرسلاً) وقد تقدم لفظه. قال ابن عبد البر: هذا مرسل، وقد روى متصلاً مسنداً من حديث أبي هريرة وأبي بكرة-انتهى. قال ميرك: لم يظهر وجه مناسبة هذا الحديث لباب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه، فتأمل. قال القاري: ولعل المصنف وهم أن قوله "فلما كبر" على ظاهره، فيكون دليلاً على عدم البناء مطابقا لمذهبه-انتهى. قلت: وذلك لأن حكم الحدث السابق واللاحق عند الشافعية والمالكية واحد، يعني إذا صلى الإمام ناسياً محدثاً أو جنباً ثم تذكر يفسد صلاته، ولا يجوز البناء عليها. وكذلك إذا أحدث في أثناء الصلاة. فلما حمل قوله "كبر" على ظاهره، دل الحديث على بطلان الصلاة. وعدم جواز البناء، ووجوب الإعادة. ولذلك بوب مالك على حديث عطاء إعادة الجنب الصلاة وغسله.(3/389)
1018- (34) وعن جابر، قال: ((كنت أصلي الظهر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ قبضة من الحصى لتبرد في كفى، أضعها لجبهتي، أسجد عليها لشدة الحر)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا صلى ولم يذكر. وهذا كما ترى حمله مالك على قصة الجنابة المذكورة في رواية أبي هريرة وعلي وأنس وأبي بكرة، وأما تلميذه محمد فحمله على سبق الحدث في الصلاة، كما هو ظاهر من تبويبه، واستنبط منه أن من سبقه الحدث في الصلاة فلا بأس أن ينصرف فيتوضأ ثم يبني على ما قد صلى، وفيه أن هذا الحمل والاستنباط إنما يصح إذا كان قصة حديث عطاء بن يسار غير ما وقع في أحاديث أبي هريرة وأنس وأبي بكرة وعلي ومرسل ابن سيرين، وهو خلاف الأصل. وأيضاً يؤدي ذلك إلى القول بتكرر القضية ثلاث مرات: الأولى ما في رواية الصحيحين. والثانية ما في رواية عطاء المرسلة، والثالثة ما في أحاديث علي وأبي هريرة وأبي بكرة وأنس ومرسل ابن سيرين. وهذا كما ترى بعيد جداً، ولذلك أورد الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص121) على هذا الاستنباط بخمسة وجوه، وقال في آخرها: وبالجملة إذا جمعت طرق حديث الباب، ونظر إلى ألفاظ رواياته، وحمل بعضها على بعض، علم قطعاً أنه لا يصلح لاستنباط ما استنبطه محمد. وبه يظهر أنه لا يصح إدخال هذا الحديث في باب الحدث في الصلاة؛ لأنه لم يكن هناك حدث في الصلاة-انتهى.
1018- قوله: (فأخذ) أي فأخذت. فجاء المضارع لحكاية الحال الماضية، قاله الطيبي. وتبعه ابن حجر. وهذا مبني منهما على أنه عطف على "كنت". والظاهر أنه عطف على "أصلي" قاله القاري. (قبضة) بفتح القاف وضمها ومعنى الفتح المرة من القبض، ثم أطلق على المقبوض كضرب الأمير، وهو معنى القبضة بضم القاف. قال الجوهري: القبضة هي ما قبضت عليه من شيء، قال وربما جاء بالفتح-انتهى. وقال في القاموس: القبضة وضمه أكثر ما قبضت عليه من شيء. (من الحصى) صفة لقبضة مبنية. (لتبرد) بضم الراء من باب نصر. (لجبهتي) أي لموضعها. (أسجد عليها) أي على الحصى الباردة. قال ابن حجر: بدل من أضعها التي هو نعت لقبضة، أو حال منها لتخصيصها-انتهى. قال القاري: والأخير هو الأظهر لوجود الفصل بالعلة المذكورة بينهما. (لشدة الحر) علة للأخذ. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص127) : فيه من الفقه تعجيل صلاة الظهر، وفيه أنه لا يجوز السجود إلا على الجبهة، ولو جاز السجود على ثوب هو لابسه أو الاقتصار من السجود على الأرنبة دون الجبهة لم يكن يحتاج إلى هذا الصنيع، وفيه أن العمل اليسير لا يقطع الصلاة-انتهى. قلت: في الاستدلال به على تعجيل صلاة الظهر نظر؛ لأن شدة الحر قد توجد مع الإبراد، وقد تبقى الحرارة في الحصى، وتستمر بعد الإبراد، فيحتاج إلى تبريده، أو السجود على الثوب، ويكون فائدة الإبراد وجود ظل يمشي فيه إلى المسجد أو يصلي فيه في المسجد. وأما قوله: لو جاز السجود على ثوب هو لابسه ففيه أيضاً نظر، لاحتمال أن يكون جابر لم يكن في ثوبه فضل يمكنه أن يسجد عليه. نعم لو ثبت أنه كان في ثوبه الذي هو لابسه فضل ولم يسجد عليه لتم(3/390)
رواه أبوداود، وروى النسائي نحوه.
1019- (35) وعن أبي الدرداء، قال: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك، ثم قال: ألعنك بلعنة الله ثلاثاً، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً، فلما فرغ من الصلاة، قلنا: يا رسول الله! قد سمعنا وتقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما قال الخطابي. وقد روى البخاري عن أنس: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود. وفي رواية: سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر. ورواه مسلم أيضاً ولفظه في رواية: فإذا لم يستطيع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه. فهذه الروايات تدل على جواز السجود على الثوب المتصل بالمصلي، وعلى جواز استعمال الثياب، وكذا غيرها في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض لاتقاء حرها، وكذا بردها، ومراعاة الخشوع فيها؛ لأن الظاهر أن صنيعهم ذلك كان لإزالة التشويش العارض من حرارة الأرض وحر الحصباء. (رواه أبوداود) أي بهذا اللفظ، وسكت عليه هو والمنذري. (وروى النسائي نحوه) أي بمعناه في باب تبريد الحصى للسجود عليه. ولفظه: قال كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر، فأخذ قبضة من حصى في كفي أبرده، ثم أحوله في كفي الآخر، فإذا سجدت وضعته لجبهتي. والحديث أخرجه البيهقي أيضاً (ج2:ص105) .
1019- قوله: (فسمعناه يقول أعوذ بالله منك) إظهار الغاية الخوف والافتقار إلى الله تعالى والاحتياج إلى دوام فضله وعصمته. (ثم قال: ألعنك بلعنة الله) أي إياك، والمعنى أسأل الله أن يلعنك بلعنته المخصوصة لك التي لا توازيها لعنة، أو أبعدك عني بإبعاد الله لك. فالباء للتعدية، أو للآلة، أو للسبية. (ثلاثاً) قيد لهما لما سيأتي. وفيه أن المخاطبة في الصلاة إذا كانت بمعنى الطلب من الله لا تعد كلاماً فلا يقطع الصلاة. قال القاضي: هذا دليل لجواز الدعاء لغيره، وعلى غيره بصيغة المخاطبة، خلافاً لابن شعبان من أصحاب مالك في قوله: إن الصلاة تبطل بذاك. قال النووي: وكذا قال أصحابنا، فيتأول هذا الحديث، أو يحمل على أنه كان قبل تحريم الكلام في الصلاة، أو غير ذلك-انتهى. وقيل: عموم عدم جواز الخطاب للغير مخصوص بإبليس عند تعرضه للمصلي بالوسوسة؛ لأنه لمصلحة الصلاة، ومحتاج إليه. وأما غير الشيطان فليس مثله في ذلك؛ لأنه لا يحتاج لخطابه. وقيل: هذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، قلت: الخصائص لا تثبت إلا بدليل، والظاهر ما قدمنا أن المخاطبة في الصلاة إذا كانت بمعنى الطلب من الله والدعاء، لا تعد كلاما، فلا يقطع الصلاة. (وبسط يده) أي مدها. (يتناول شيئاً) أي يأخذه من بعيد. (تقول في الصلاة شيئاً) من التعوذ، واللعن(3/391)
ورأيناك بسطت يدك. قال: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، فقلت: أعوذ بالله منك، ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يستأخر ثلاث مرات، ثم أردت أن أخذه، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به ولدان أهل المدينة)) رواه مسلم.
1020- (36) وعن نافع، قال: ((إن عبد الله بن عمر مر على رجل وهو يصلي، فسلم عليه، فرد الرجل كلاما، فرجع إليه عبد الله بن عمر، فقال له: إذا سلم على أحدكم وهو يصلي، فلا يتكلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالخطاب. (بسطت يدك) كأنك تتناول شيئاً (جاء بشهاب) بكسر الشين المعجمة، شعلة من نار ساطعة. (ألعنك بلعنة الله) قال القاضي: يحتمل تسميتها تامة، أي لا نقص فيها، ويحتمل الواجبة له المستحقة عليه، أو الموجبة عليه العذاب سرمداً. (ثلاث مرات) الظاهر أنه ظرف لـ"قلت" ويمكن أن يكون ظرفاً لقوله: "لم يستأخر" أي فلم يتأخر في ثلاث مرات من التعوذ واللعنات. (ثم أردت أن آخذه) كذا في النسخ الحاضرة عندنا بصيغة المتكلم، وزيادة "أن" قبلها. وكذا وقع في سنن النسائي، ووقع في بعض النسخ بغير "أن" مطابقاً لما في صحيح مسلم. وهو يحتمل أن يكون على صيغة المصدر، أو على صيغة المتكلم. (لولا دعوة أخينا) أي معشر الأنبياء. (سليمان) بدل، أو عطف بيان لـ"أخينا" ويمكن أن يكون منصوباً بتقدير "أعنى". (لأصبح) أي لأخذته وربطته. فدخل في الصباح. (موثقاً) حال، أو لصار موثقاً، أي مربوطاً بسارية من سواري المسجد، كما تقدم. والمراد: لولا توهم عدم استجابة هذه الدعوة لأخذته، لا أنه بالأخذ يلزم عدم استجابتها، إذ لا يبطل اختصاص تمام الملك لسليمان بهذا القدر. وقد مضى الكلام فيه مفصلاً، فتذكر. وفيه دليل على أن إبليس من الجن. والظاهر أن القضية متعددة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي (ج2: ص264) .
1020- قوله: (عن نافع) مولى ابن عمر. (مر علي رجل) أي الرجل. (يصلي فسلم) بفتح السين على بناء الفاعل، والضمير لابن عمر. (عليه) أي على الرجل المصلي. (فرد الرجل) المصلي السلام على ابن عمر. (كلاماً) أي نطقاً وقولاً. وقال القاري: أي رداً ذا كلام. والمعنى رد كلام لا رد إشارة. (إذا سلم) بضم السين على صيغة المجهول. (على أحدكم وهو يصلي) فيه دلالة على أنه لا يكره السلام على المصلي. وإليه ذهب أحمد كما في المغني، ومالك في رواية لحديث: إن الأنصار كانوا يدخلون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، ويسلمون، فيرد عليهم إشارة بيده. (فلا يتكلم) أي برد السلام؛ لأنه مفسد للصلاة. والظاهر أن ابن عمر أمره بإعادة الصلاة. لكن لم ينقل إلينا. وفيه إشارة إلى أن السلام ابتداء ورداً كلام؛ لأن فيه خطاباً ومواجهة بالغير، والكلام في الصلاة(3/392)
وليشير بيده)) رواه مالك.
(20) باب السهو
{الفصل الأول}
1021- (1) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا قام يصلي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منهي عنه. وقد دل عليه حديث ابن مسعود المتقدم في الفصل الأول والثاني. (وليشير بيده) أي لرد السلام لما قدمنا من الأحاديث المرفوعة الصحيحة الصريحة في رد السلام إشارة. وفيه أن ابن عمر كان ممن يجوز رد السلام بالإشارة في الصلاة. وأما ما قيل: إن المراد بالإشارة باليد الإشارة للمنع والنهي عن السلام، أو الإيماء إلى الاعتذار بأنه في الصلاة كما يشار للمار من غير قصد رد السلام، فهو مردود على قائله، فإنه ادعاء محض، واحتمال مجرد، ليس عليه أثاره من دليل، فلا يلتفت إليه. (رواه مالك) في موطئه عن نافع، وأخرجه البيهقي (ج2:ص259) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع.
20- (باب السهو) أي باب بيان حكم السهو الواقع في الصلاة. وفي المصابيح: باب سجود السهو. وهو لغة: الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب إلى غيره. قال في المحكم: السهو هو نسيان الشيء والغفلة عنه. وقضيته أن السهو والنسيان مترادفان. وقيل: بينهما فرق دقيق. وهو أن السهو أن ينعدم له شعور، والنسيان له فيه شعور. وفي المنطوق بين الفروق أن النسيان زوال الشيء عن الحافظة والمدركة، والسهو زواله عن الحافظة فقط. وقال الراغب: النسيان ترك الإنسان ضبط ما استودع إما عن غفلة، وإما عن ضعف قلبه، وإما عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره. وقال الجزري في النهاية: السهو في الشيء تركه من غير علم، والسهو عن الشيء تركه مع علم، وهذا فرق حسن دقيق. وبه يظهر الفرق بين السهو الذي وقع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة، وبين السهو عن الصلاة الذي ذمه الله تعالى بقوله: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [107: 5] واختلف في حكم سجود السهو: قال الشافعية: مسنون كله، وعن المالكية: السجود للنقص واجب دون الزيادة. وعن الحنابلة: التفصيل بين الواجبات غير الأركان، فيجب لتركها سهواً وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطلها عمده. وعن الحنفية واجب كله. وحجتهم قوله في حديث أبي هريرة الآتي "فليسجد سجدتين"، وقوله في حديثي ابن مسعود وأبي سعيد الآيتين "ثم ليسجد سجدتين". والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله في الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولا سيما مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، كذا في الفتح.
1021- قوله: (إن أحدكم إذا قام يصلي) فرضاً أو نفلاً، فإن قلت: قوله في الرواية الماضية، في باب(3/393)
جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فضل الأذان وإجابة المؤذن "إذا نودي بالصلاة" قرينة في أن المراد الفريضة، وكذا قوله "إذا ثوب"، أجيب بأن ذلك لا يمنع تناول النافلة؛ لأن الإتيان بها حينئذٍ مطلوب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بين كل أذانين صلاة". (جاءه الشيطان) الظاهر أن "ال" فيه للعهد الذهني. وهو شيطان الصلاة الذي يسمى خنزب، كما رواه مسلم من حديث عثمان بن أبي العاص. (فلبس عليه) من الثلاثي، أي خلط عليه أمر صلاته وشوش خاطره. مصدره اللبس واللبس. وهو اختلاط الأمر، يقال لبس عليه الأمر يلبسه فالتبس، إذا خلطه عليه، وجعله مشتبهاً بغيره، خافياً حتى لا يعرف جهته. وقد يشدد للمبالغة، فيقال: لبس تلبيساً، وأما اللباس فمن باب سمع. قال الجزري: لبست الأمر بالفتح ألبسه، إذا خلطت بعضه ببعض. ومنه قوله تعالى: {وللبسنا عليهم ما يلبسون} [6: 9] . وربما شدد للتكثير-انتهى. وقال النووي: هو بالتخفيف أي خلط عليه صلاته، وشبهها عليه، وشككه فيها. (حتى لا يدري كم صلى) أي ركعة أو ركعتين أو غيرهما. والمعنى حتى ينسى قدر ما صلى لاشتغال قلبه. (فإذا وجد ذلك) أي التردد، وعدم العلم. وقيل: السهو. (أحدكم) في صلاته. (فليسجد سجدتين) ترغيماً للشيطان حيث لبس عليه صلاته. وليس شيء أثقل على الشيطان من السجود لما لحقه ما لحقه من الامتناع عن السجود. وفيه دلالة على أنه لا زيادة على سجدتين وإن سها بأمور متعددة. (وهو جالس) زاد ابن إسحاق وابن أخي الزهري كلاهما عن الزهري في هذا الحديث عند أبي داود لفظ "قبل أن يسلم". وكذا وقعت هذه الزيادة عند ابن ماجه من رواياته ابن إسحاق عن الزهري، وسلمة بن صفوان بن سلمة كلاهما عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، لكن أعلها أبوداود وغيره بأن الحفاظ من أصحاب الزهري، ابن عيينة ومعمراً والليث ومالكاً لم يقولوا "قبل أن يسلم". وإنما ذكره ابن إسحاق وابن أخي الزهري، وليسا بحجة على من لم يذكروه، قاله الزرقاني. وقال الحافظ في الفتح: لم يقع في رواية الزهري تعيين محل السجود. وقد روى الدارقطني من طريق عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً إذا سها أحدكم فلم يدر أزاد أو نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس ثم يسلم. إسناده قوي ولأبي داود من طريق ابن أخي الزهري عن عمه نحوه بلفظ "وهو جالس قبل التسليم". وله من طريق ابن إسحاق قال حدثني الزهري بإسناده، وقال فيه "فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم يسلم". قال العلائي: سنده الزيادة في هذا الحديث بمجموع هذه الطرق، لا تنزل عن درجة الحسن المحتج به-انتهى. وهذا كما ترى لم يلتفت الحافظ والعلائي إلى ما أشار إليه أبوداود من إعلال هذه الزيادة، بل جعلاها حجة، وهذا هو الصواب عندي؛ لأنها زيادة ثقة غير معارضة لرواية الثقات، أو لرواية من هو أوثق منه فتقبل، ولا سيما قد(3/394)
تأيدت بالأحاديث الصحيحة الواردة في سجود السهو للشك، فإنها قاضية بأن سجود السهو لهذا السبب يكون قبل السلام، كحديث أبي سعيد التالي، وحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي مرفوعاً: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرأ واحدة صلى أم اثنتين فليجعلها واحدة، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثاً فليجعلهما ثنتين، وإذا لم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً فليجعلها ثلاثاً، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم سجدتين. نعم قد ورد ما يعارض ذلك، كحديث ابن مسعود الآتي، وحديث عبد الله بن جعفر عند أحمد وأبي داود والنسائي والبيهقي مرفوعاً بلفظ: "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم"، فيحمل الأمر في ذلك على التوسع، وإن الكل جائز، والله أعلم. وأما الأفضل في محل السجود فسيأتي بيانه في شرح حديث ابن مسعود الآتي عند ذكر اختلاف الأئمة. واعلم أن الأحاديث الواردة في السهو على خمسة أنحاء بالنظر إلى ما يجبر به الساهي صلاته وما يصنعه من الإتمام وعدمه. فبعضها يدل على أن المصلي إذا شك في صلاته فلم يدر زاد أو نقص، فليس عليه إلا سجدتان، كحديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد عند الترمذي وأبي داود، وحديث عبد الله بن جعفر. وبعضها يدل على أنه يعيد الصلاة، كحديث عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن رجل سها في صلاته فلم يدر كم صلى، فقال: ليعد صلاته، وليسجد سجدتين قاعداً. أخرجه الطبراني في الكبير من رواية إسحاق بن يحيى بن عبادة بن الصامت عن جده عبادة بن الصامت. قال الهيثمي والعراقي: لم يسمع إسحاق عن جده عبادة، وكحديث ميمونة بنت سعد أنها قالت: أفتنا يا رسول الله! في رجل سها في صلاته فلا يدري كم صلى قال ينصرف، ثم يقوم في صلاته حتى يعلم كم صلى، فإنما ذلك الوسواس يعرض، فيسهيه عن صلاته. أخرجه الطبراني في الكبير. وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي الجزري، مختلف فيه. وهو كبقية في الشاميين، يروي عن المجاهيل. وفي إسناده أيضاً عبد الحميد بن يزيد، وهو مجهول، كما قال العراقي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص151) : في إسناده مجاهيل. وبعضها يدل على أنه يبنى على ما استيقن، كحديث أبي سعيد التالي. وفي بعضها أنه يبنى على الأقل، كحديث عبد الرحمن بن عوف عند أحمد والترمذي وغيرهما. وقد ذكرنا لفظه. وبعضها يدل على أنه يتحرى الأقرب إلى الصواب، ويبنى عليه، كحديث ابن مسعود الآتي وغيره من الآثار المروية في ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأبي سعيد. واختلف الأئمة في العمل بهذه الأحاديث، فذهب الحسن البصري وطائفة من السلف إلى أن من دخل عليه الشك فلم يدر زاد أم نقص سجد سجدتين، ليس عليه غير ذلك. واستدل هؤلاء بظاهر حديث أبي هريرة، وحديث أبي سعيد، وحديث عبد الله بن جعفر، وأسقطوا وأهملوا أحاديث التحري والبناء على اليقين وغير ذلك. وهذا أضعف الأقوال، وخالف في ذلك الجمهور الأئمة الأربعة وغيرهم، قالوا: حديث أبي هريرة وما وافقه مجمل، والأحاديث المفسرة قاضية عليه، فلابد من(3/395)
اعتبارها. قال أبوعبد الملك: حديث أبي هريرة يحمل على كل ساهٍ وإن حكمه السجود، ويرجع في بيان حكم المصلي فيما يشك فيه، وفي موضع سجوده من صلاته إلى سائر الأحاديث المفسرة، قال الشوكاني: ليس في حديثي أبي هريرة وعبد الله بن جعفر أكثر من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بسجدتين عند السهو في الصلاة. وليس بيان ما يصنعه من وقع له ذلك. والأحاديث الآخرة قد اشتملت على زيادة، وهي بيان ما هي الواجب عليه عند ذلك من غير السجود، فالمصير إليها واجب-انتهى. وحاصله أن حديث أبي هريرة سبق لبيان حكم ما يجير به الساهي صلاته. والمقصود من أحاديث البناء وغيره، بيان ما يصنعه من الإتمام وعدمه، فلا بد من أخذها والعمل بها. وقيل: حديث أبي هريرة محمول على من طرأ عليه الشك، وقد فرغ قبل أن يسلم. فإنه لا يلتفت إلى ذلك الشك، ويسجد للسهو، كمن طرأ عليه بعد أن سلم، فلو طرأ عليه قبل ذلك بنى على اليقين كما في حديث أبي سعيد. وعلى هذا فقوله فيه "وهو جالس" يتعلق بقوله "إذا شك" لا بقوله "سجد". وقال ابن عبد البر: حديث أبي هريرة هذا محمول عند مالك على المستنكح الذي لا يكاد ينفك عنه، ويكثر عليه السهو، ويغلب علىظنه أنه قد أتم، لكن الشيطان يوسوس له، فيجزيه أن يسجد للسهو دون أن يأتي بركعة؛ لأنه لا يأمن أن ينويه مثل ذلك فيما يأتي به. وأما من غلب على ظنه أنه لم يكمل صلاته، فيبنى على يقينه، فإن اعتراه ذلك أيضاً فيما يبني لهى عنه أيضاً، كما قاله ابن القاسم وغيره، وقال ابن رشد في البداية: فأما مالك بن أنس حمل حديث أبي سعيد الخدري – يعني الذي يأتي – على الذي لم يستنكحه الشك، وحمل حديث أبي هريرة على الذي يغلب عليه الشك، ويستنكحه. وتأول حديث ابن مسعود على أن المراد بالتحري هنالك هو الرجوع إلى اليقين، فثبت على مذهبه الأحاديث كلها-انتهى. وحمل الشافعي حديث أبي هريرة هذا على أحاديث البناء على اليقين، وقال: إن الشاك يبني على اليقين أي المتيقن، وهو الأقل في جميع الصور كلها. والبناء على اليقين هو أن يشك في الواحدة والثنتين، أو الثنتين والثلاث، أو الثلاث والأربع. فإذا كان كذلك فعليه أن يبني على اليقين، وهو الأقل، وليتم صلاته ثم يسجد سجدتي السهو على ما في حديث أبي سعيد. وحمل التحري في حديث ابن مسعود على الأخذ باليقين، كما حمله مالك عليه. قال الشافعي ومن وافقه: والتحري هو القصد. ومنه قوله تعالى. {فأولئك تحروا رشداً} [14:72] ، فمعنى الحديث فليقصد الصواب، فيعمل به. وقصد الصواب هو ما بينه في حديث أبي سعيد وغيره. قال الشوكاني: قال الشافعي وداود وابن حزم: التحري هو البناء على اليقين. وحكاه النووي عن الجمهور-انتهى. وقيل: التحري غير البناء على اليقين. قال أحمد: ترك الشك على وجهين: أحدهما إلى اليقين والآخر إلى التحري. فمن رجع إلى اليقين فهو أن يلقى الشك، ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد. وإذا رجع إلى التحري، وهو أكبر الوهم سجد للسهو بعد السلام على حديث ابن مسعود، ذكره ابن عبد البر في التمهيد،(3/396)
والخطابي في المعالم (ج1:ص239) . وقال ابن حبان: قد يتوهم من لم يحكم صناعة الأخبار، ولا تفقه في صحيح الآثار أن التحري في الصلاة، والبناء على اليقين واحد وليس كذلك؛ لأن التحري هو أن يشك المرأ في صلاته فلا يدري ما صلى فإذا كان ذلك فعليه أن يتحري الصواب وليبن على الأغلب عنده على خبر ابن مسعود، والبناء على اليقين هو أن يشك في الثنتين والثلاث، أو الثلاث والأربع. فإذا كان كذلك فعليه أن يبنى على اليقين، وهو الأقل، وليتم صلاته على خبر عبد الرحمن بن عوف وأبي سعيد-انتهى مختصراً. وبهذا كله ظهر أن مالكا والشافعي أوّلا أحاديث التحري والبناء على الأقل إلى أحاديث البناء على اليقين. وأما حديث أبي هريرة فحمله مالك على المستنكح، وحمله الشافعي على أحاديث البناء على اليقين، واتفقا جميعاً على إهمال حديثي عبادة بن الصامت وميمونة بنت سعد الدالين على إعادة الصلاة. وذلك لعدم صلوحهما للاحتجاج. وأما أحمد فله في ذلك ثلاث روايات، كما في المغني (ج1:ص671-673) : إحداها البناء على اليقين أي الأقل مطلقاً للإمام والمنفرد كليهما. والثانية البناء على اليقين للإمام والمفرد إذا لم يكن لهما ظن، ومتى كان لهما غالب ظن عملا عليه. قال ابن قدامة: فعلى هذا يحمل حديث أبي سعيد على من استوى عنده الأمران، فلم يكن له ظن. وحديث ابن مسعود على من له رأي وظن. يعمل بظنه، جمعاً بين الحديثين، وعملا بهما، فيكون أولى، ولأن الظن دليل في الشرع، فيجب اتباعه، والثالثة التفريق بين المنفرد، فيبني على اليقين مطلقاً، والإمام فيبنى على غالب ظنه إذا كان له ظن. وإن لم يكن له ظن بل استوى الأمران عنده بنى على اليقين أيضاً، اختار هذه الرواية الخرقي، وهو الظاهر في المذهب. وقال الشعبي والأوزاعي وجماعة من السلف: إذا لم يدر كم صلى لزمه أن يعيد الصلاة مرة بعد أخرى حتى يستيقن. وقال بعضهم: يعيد ثلاث مرات، فإذا شك في الرابعة فلا إعادة عليه. واستدل هؤلاء بحديثي عبادة وميمونة. وقد عرفت أنهما لا يصلحان للاحتجاج لضعفهما. وأما الحنفية فقالوا بالتفصيل، وحالوا الجمع بين الأحاديث الواردة في المسألة، قالوا إذا شك وهو مبتدأ بالشك، لا بمتلى فيه استأنف الصلاة، والمراد بقولهم مبتدأ بالشك على ما في البدائع: أنه لم يصر عادة له، لا أنه لم يسه في عمره قط. فحملوا حديثي عبادة وميمونة الدالين على الإعادة على من لم يصر الشك عادة له، قالوا: وإن كان يعرض له الشك كثيراً تحرى وبنى على أكبر رأيه وأكثر ظنه على حديث ابن مسعود، ولم يمض على اليقين، أي الأقل، وإن لم يكن له رأي بنى على اليقين على حديث أبي سعيد، قالوا حديث أبي سعيد لا يخالفنا؛ لأنه ورد في الشك وهو ما استوى طرفاه، ومن شك ولم يترجح له أحد الطرفين يبني على الأقل بالإجماع، بخلاف من غلب على ظنه أنه صلى أربعاً مثلاً، وفيه أن تفسير الشك بمستوى الطرفين إنما هو اصطلاح طارئ للأصوليين. وأما في اللغة: فالتردد بين وجود الشيء وعدمه كله يسمى شكاً، سواء المستوي والراجح والمرجوح. والحديث يحمل على اللغة ما لم يكن هناك حقيقة شرعية أو عرفية.(3/397)
متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يجوز حمله على ما يطرأ للمتأخرين من الاصطلاح، قاله النووي. وقال الشوكاني: والذي يلوح لي أنه لا معارضة بين أحاديث البناء على الأقل والبناء على اليقين وتحري الصواب. وذلك؛ لأن التحري في اللغة: هو طلب ما هو أحرى إلى الصواب. قد أمر به - صلى الله عليه وسلم - وأمر بالبناء على اليقين. والبناء على الأقل عند عروض الشك. فإن أمكن الخروج بالتحري عن تاثرة الشك لغة، ولا يكون إلا بالاستيقان بأنه قد فعل من الصلاة كذا ركعات، فلا شك أنه مقدم على البناء على الأقل؛ لأن الشارع قد شرط في جواز البناء على الأقل عدم الدراية، كما في حديث عبد الرحمن بن عوف. وهذا المتحري قد حصلت له الدراية. وأمر الشاك بالبناء على ما استيقن، كما في حديث أبي سعيد، ومن بلغ به تحريه إلى اليقين قد بنى على ما استيقن. وبهذا تعلم أنه لا معارضة بين الأحاديث المذكورة، وأن التحري المذكور مقدم على البناء على الأقل. وقد أوقع الناس ظن التعارض بين هذه الأحاديث في مضائق ليس عليها أثارة من علم، كالفرق بين المبتدأ والمبتلى والركن والركعة-انتهى قلت: هذا تحقيق جيد حقيق بالقبول. وأما ما ذهب إليه الحنفية من البناء على أكبر الرأي وأكثر الظن وأغلبه، فلم أجد فيه حديثاً صريحاً مرفوعاً صحيحاً أو حسناً. وأيضاً هو مبنى على أخذ الشك الواقع في حديث أبي سعيد وغيره في المعنى المصطلح وقد عرفت ما فيه. وأما استدلالهم على ذلك بلفظ التحري في حديث ابن مسعود الآتي ففيه ما تقدم آنفاً، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك. ثم إن ظاهر قوله: إن أحدكم إذا قام يصلي، وقوله: إذا شك أحدكم في صلاته في حديثي أبي سعيد وابن مسعود، وقوله: من صلى صلاة في حديث عبد الرحمن بن عوف، يدل على ما ذهب إليه الجمهور من أن سجود السهو مشروع في صلاته النافلة، كما هو مشروع في صلاة الفريضة؛ لأن الجبران وإرغام الشيطان يحتاج إليه في النفل، كما يحتاج إليه في الفريضة. وذهب ابن سيرين وقتادة وعطاء إلى أن التطوع لا يسجد فيه. وهذا يبني على الخلاف في اسم الصلاة الذي هو حقيقة شرعية في الأفعال المخصوصة هل هو متواطئ فيكون مشتركاً معنوياً فيدخل تحته كل صلاة. أو هو مشترك لفظي بين صلاتي الفريضة والنافلة فذهب الفخر الرازي إلى الثاني، لما بين صلوتي الفرض والنفل من التباين في بعض الشروط كالقيام واستقبال القبلة وعدم اعتبار العدد المنوي وغير ذلك. قال العلائي: والذي يظهر أنه مشترك معنوي لوجود القدر الجامع بين كل ما يسمى صلاة، وهو التحريم والتحليل مع ما يشمل الكل من الشروط التي لا تنفك. قال الحافظ: وإلى كونه مشتركاً معنوياً ذهب جمهور أهل الأصول. قال ابن رسلان: وهو أولى لأن الاشتراك اللفظي على خلاف الأصل، والتواطؤ خير منه-انتهى. فمن قال إن لفظ الصلاة مشترك معنوي قال بمشروعية سجود السهو في صلاة التطوع. ومن قال بأنه مشترك لفظي فلا عموم له حينئذٍ إلا على قول الشافعي: أن المشترك يعم جميع مسمياته. وقد ترجم البخاري على حديث أبي هريرة هذا: باب السهو في الفرض والتطوع، وذكر عن ابن عباس أنه سجد سجدتين بعد وتره. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن(3/398)
1022- (2) وعن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثاً أو أربعاً فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ماجه والبيهقي. وأعلم أن المذكور في هذا الحديث وغيره من حديث أبي سعيد وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف، هو حكم الشك في الصلاة. والفرق بين السهو والشك أن السهو يكون فيه أحد الطرفين مجزوماً بخلاف الشك. ولما كان الشك في الصلاة كالسهو والنسيان في مشروعية السجود ذكر المصنف هذه الأحاديث في باب السهو. والله أعلم.
1022- قوله: (إذا شك أحدكم في صلاته) ليس المراد بالشك التردد مع التساوى، بل مطلق التردد في النفس وعدم اليقين على ما في اللغة، فيشمل الشك المصطلح عند الأصوليين والوهم والظن وغالب الظن. قال الحموي في حواشي الأشباه والنظائر: الشك لغة: مطلق التردد. وفي اصطلاح الأصول: استواء طرفي الشيء، وهو الوقوف بحيث لا يميل القلب إلى أحدهما، فان ترجح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو ظن، فإن طرحه فهو غالب الظن، وهو بمنزلة اليقين. وأما عند الفقهاء: فهو كاللغة لا فرق بين المساوي والراجح. وقال في فتح القدير نقلاً عن الحموي: اعلم أن مراد الفقهاء بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والطلاق وغيرها، هو التردد بين وجود الشيء وعدمه، سواء كان الطرفان سواء أو أحدهما راجحاً. فهذا معناه في اصطلاح الفقهاء. وأما أصحاب الأصول فإنهم فرقوا بين ذلك، فقالوا التردد إن كان على السواء فهو الشك، فإن كان أحدهما راجحاً فالراجح ظن والمرجوح وهم-انتهى. وعند الحنفية: المراد به التردد من غير رحجان. قال السندي: حمله علماؤنا على ما إذا لم يغلب ظنه على شيء، وإلا فعند غلبة الظن لم يبق شك، فمعنى "إذا شك أحدكم" أي إذا بقى شاكاً ولم يترجح عنده أحد الطرفين بالتحري وغيرهم، حملوا الشك على مطلق التردد في النفس وعدم اليقين-انتهى.. (فلم يدر كم صلى ثلاثاً) تمييز رافع لإبهام العدد في "كم". (أو أربعا) أي مثلاً. (فليطرح الشك) أي المشكوك فيه، وهو الأكثر أي ليطرح الزائد الذي هو محل الشك، ولا يأخذ به في البناء يعنى الركعة الرابعة يدل عليه قوله: (وليبن) بسكون اللام وكسره. (على ما استيقن) أي علم يقينا، وهو ثلاث ركعات وفي رواية أبي داود والنسائي وابن ماجه: وليبن على اليقين أي المتيقن به، وهو الأقل فلا يقال إنه لا يقين مع الشك؛ لأن المراد باليقين ههنا المتيقن، فالثلاث هو المتيقن، والشك والتردد إنما هو في الزيادة، فيبنى على المتيقن لا على الزائد الذي يشك فيه. (ثم يسجد سجدتين) قال القاري: بالجزم. وفي نسخة: بالرفع في الأزهار يجوز فيه الجزم عطفاً على "ليبن"، والرفع خبر لو بمعنى الأمر إشارة إلى المغايرة(3/399)
فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان)) رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الحكم وجوباً أو ندباً-انتهى. وهذا الحديث كما ترى مفصل للإجمال الوارد في حديث أبي هريرة المتقدم، وحديث عبد الله بن جعفر، وحديث أبي سعيد عند الترمذي وأبي داود. فعليه التعويل، ويجب إرجاع الإجمال إليه. وفيه رد على من فصل في الشك من كونه أول ما سهى أو ثانياً؛ لأن الحديث مطلق وهو أوفق بالناس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل رحمة ورأفة لهم. واحتج به للجمهور مالك والشافعي ومن تبعهما فيما ذهبوا إليه من وجوب طرح الشك والبناء على المتيقن أي الأقل، وعدم أجزاء التحرى، كما تقدم الإشارة إليه. (قبل أن يسلم) فيه دليل لمن قال إن السجود للسهو قبل السلام. وسيأتي الكلام فيه. (فإن كان صلى خمساً) أي في رباعية وهو تعليل للأمر بالسجود، أي فإن كان ما صلاه في الواقع أربعاُ فصار خمساُ بإضافة إليه ركعة أخرى. (شفعن) بتخفيف الفاء وتشديدها. (له صلاته) قال الطيبي: الضمير في "شفعن" للركعات الخمس وفي "له" للمصلي يعني شفعت الركعات الخمس صلاة أحدكم بالسجدتين، يدل عليه قوله الآتي: شفعها بهاتين السجدتين أي شفع المصلى الركعات الخمس بالسجدتين. وقال ابن حجر: أي الركعة الخامسة والسجدتان، لرواية أبي داود: كانت الركعة نافلة والسجدتان، أي وصارت صلاته شفعاً باقياً على حاله-انتهى. وفي رواية النسائي: شفعتا أي بصيغة التثنية. والمعنى ردت السجدتان صلاته إلى الشفع. قال السندي: أن السجدتان صارتا له كالركعة السادسة، فصارت الصلاة بهما ست ركعات، فصارت شفعاً-انتهى. وكان المطلوب من الرباعية الشفع وإن زادت على الأربع. (وإن كان صلى إتماماً لأربع) قيل: نصبه على أنه مفعول له، يعني إن كان صلى ما يشك فيه لإتمام أربع. وقيل: إنه حال أي إن صلى ما شك فيه حال كونه متمماً للأربع، فيكون قد أدى ما عليه من غير زيادة ولا نقصان. (كانتا ترغيماً للشيطان) أي وإن صارت صلاته بتلك الركعة أربعاً كانتا أي السجدتان ترغيماً أي سبباً لاغاظة الشيطان وإذلاله وإهانته له حيث تكلف في التلبيس، فجعل الله تعالى له طريق جبر بسجدتين فأضل سعيه حيث جعل وسوسته سبباً للتقرب بسجدة استحق هو بتركها الطرد. قال النووي: المعنى أن الشيطان لبس عليه صلاته وتعرض لإفسادها ونقصانها، فجعل الله للمصلي طريقاً إلى جبر صلاته، وتدارك ما لبسه عليه، وإرغام الشيطان ورده خاسئاً مبعداً عن مراده، وكملت صلاة ابن آدم لما امتثل أمر الله الذي عصى به إبليس من امتناعه من السجود-انتهى. قال القاضي: القياس أن لا يسجد، إذ الأصل أنه لم يزد شيئاً لكن صلاته لا تخلوا عن أحد خللين، إما أداء الزيادة، وإما أداء الرابعة على التردد، فيسجد جبراً للخلل، والتردد لما كان من تسويل الشيطان وتلبيسه سمى جبره ترغيماً له. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي (ج2:ص331) .(3/400)
1023- (3) ورواه مالك عن عطاء مرسلاً. وفي روايته، شفعها بهاتين السجدتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1023- قوله: (ورواه مالك عن عطاء مرسلاً) وأخرجه أبوداود والبيهقي أيضاً مرسلاً عن عطاء. قال الزرقاني في شرح الموطأ: هكذا مرسلاً عند جميع الرواة. (أي رواة الموطأ) وتابع مالكاً على إرساله الثوري وحفص بن ميسرة ومحمد بن جعفر وداود بن قيس في رواية. ووصله الوليد بن مسلم ويحيى بن راشد المازني كلاهما عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد الخدري. وقد وصله مسلم من طريق سليمان بن بلال وداود بن قيس كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد. وله طرق عند أبي داود والنسائي وابن ماجه عن زيد موصولاً، ولذا قال أبوعمر بن عبد البر: هذا الحديث وإن كان الصحيح فيه عن مالك الإرسال فإنه متصل من وجوه ثابتة من حديث من تقبل زيادته؛ لأنهم حفاظ فلا يضره تقصير من قصر في وصله إلا أن الصحيح أنه من مسند أبي سعيد الخدري. وما أخرجه النسائي من طريق عبد العزيز الدراوردي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس. قال ابن حبان: وهم عبد العزيز في قوله ابن عباس، وإنما هو عن أبي سعيد. وقال الأثرم لأحمد بن حنبل. أتذهب إلى حديث أبي سعيد،؟ قال: نعم. قلت: إنهم يختلفون في إسناده، قال: إنما قصر به مالك وقد أسنده عدة منهم ابن عجلان وعبد العزيز بن أبي سلمة - انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1: ص240) : قد ضعف حديث أبي سعيد الخدري قوم زعموا أن مالكاً أرسله عن عطاء بن يسار ولم يذكر فيه أباسعيد الخدري. وهذا مما لا يقدح في صحته، ومعلوم عن مالك أنه يرسل الأحاديث وهي عنده مسندة، وذلك معروف من عادته، وقد رواه أبوداود من طريق ابن عجلان عن زيد بن أسلم، وذكر أن هشام بن سعد أسنده فبلغ به أباسعيد، وقد أسنده أيضاً سليمان بن بلال - انتهى. قلت: رواية هشام بن سعد أخرجها البيهقي في السنن الكبرى وفي معرفة السنن. وأما رواية الدراوردي عن زيد عن عطاء عن ابن عباس، فلم أجدها في الصغرى من سنن النسائي. فلعلها في الكبرى، نعم ذكرها الخطابي في المعالم (ج1: ص240) قال: قال الشيخ: ورواه ابن عباس أيضاً حدثونا به عن محمد بن إسماعيل الصائغ قال: حدثنا ابن قعنب حدثنا عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا شك أحدكم، الحديث. قال الحافظ في التلخيص. (ص112) وروي عن ابن عباس وهو وهم. وقال ابن المنذر: حديث أبي سعيد أصح حديث في الباب - انتهى. (وفي روايته) أي رواية مالك المرسلة بدل "شفعن له صلاته". (شفعها) أي صيرها شفعاً. (بهاتين السجدتين) اللتين سجدهما للسهو، أي لما بنى على اليقين وصلى ركعة أخرى، فإن صارت صلاته خمساً شفعها أي جعل الخمس شفعاً بهاتين السجدتين؛ لأنها تصير ستاً بهما حيث أتى بمعظم أركان الركعة وهو السجود، فكأنه أتى بالركعة السادسة. وقال ابن رسلان: يعني لو لم يسجد للسهو لكانت الخامسة، لا يناسب أصل المشروعية، فلما سجد سجدتي السهو ارتفعت الوترية، وجاءت الشفعية المناسبة الأصل - انتهى.(3/401)
1024- (4) وعن عبد الله بن مسعود: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمساً، فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً، فسجد سجدتين بعد ما سلم)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1024- قوله: (صلى الظهر خمساً) أي خمس ركعات. (فقيل له) أي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سلم. (أزيد في الصلاة) بهمزة الإستفهام للإستخبار. (فقال وما ذاك) أي وما سؤالكم عن الزيادة في الصلاة. وفي رواية لمسلم: فلما انفتل توشوش القوم بينهم فقال: ما شأنكم، قالوا: يا رسول الله! هل زيد في الصلاة، قال: لا وقد تبين بهذه الرواية أن سؤالهم لذلك كان بعد استفساره لهم عن مشاورتهم. وهو دال على عظيم أدبهم معه - صلى الله عليه وسلم -. (فسجد سجدتين) أي للسهو. (بعد ما سلم) كلمة "ما" مصدرية أي بعد سلام الصلاة. وفي رواية للشيخين: فثنى رجليه واستقبل القبلة، وسجد سجدتين ثم سلم، أي من سجدتي السهو. وقد روى أحمد ومسلم وابن خزيمة وغيرهم هذا الحديث مختصراً أيضاً بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام. قال ابن خزيمة: إن كان المراد بالكلام قوله: وما ذاك، في جواب قولهم: "أزيد في الصلاة"، فهذا نظير ما وقع في قصة ذي اليدين. وسيأتي البحث فيه فيها. وإن كان المراد به قوله: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون. فقد اختلفت الرواة في الموضع الذي قالها فيه: ففي رواية منصور: أن ذلك كان بعد سلامه من سجدتي السهو. وفي رواية غيره أن ذلك كان قبل. ورواية منصور أرجح - انتهى. واحتج به من قال إن سجود السهو كله بعد السلام، وهم الحنفية، وتعقب بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه هل زيد في الصلاة. وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله لعدم علمه بالسهو. وأجاب بعضهم مما وقع في هذا الحديث من الزيادة الآتية القولية. وأجيب بأنه معارض بحديث أبي سعيد المتقدم. فالظاهر أن ذلك كان منه - صلى الله عليه وسلم - لبيان الجواز، والتوسع في الأمرين. كما تقدم، وقد رجح البيهقي: التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردي وغيره: الإجماع على الجواز. وإنما الخلاف في الأفضل. وكذا قال النووي، واستدل بالحديث على أن من صلى خمساً ساهياً ولم يجلس في الرابعة أن صلاته لا تفسد، خلافاً للكوفيين. وقولهم: يحمل هذا على أنه قعد في الرابعة يحتاج إلى دليل، بل السياق يرشد إلى خلافه. وعلى أن الزيادة في الصلاة على سبيل السهو لا تبطلها، وعلى أن من لم يعلم بسهوه إلا بعد السلام يسجد للسهو، وعلى أن الكلام العمد فيما يصلح به الصلاة لا يفسدها، وعلى أن من تحول عن القبلة ساهياً لا إعادة عليه. كذا في الفتح. قلت: ذهب الجمهور مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهوية وغيرهم إلى أنه إذا صلى الرجل الظهر خمساً فصلاته جائزة، وسجد سجدتي السهو. وإن لم يجلس في الرابعة. والحديث حجة لهم. ومسلك الحنفية في ذلك على ما في الهداية وحواشيه: أن من سها عن القعدة الأخيرة(3/402)
حتى قام إلى الخامسة رجع إلى القعدة ما لم يسجد؛ لأن فيه إصلاح صلاته، وأمكنه ذلك؛ لأن ما دون الركعة بمحل الرفض، وألغى الخامسة، وسجد للسهو لتأخير الفرض، وهي القعدة، وإن قيد الخامسة بسجدة بطل فرضه؛ لأنه تحقق شروعه في النافلة قبل إكمال الفرض، فإن القعدة الأخيرة فرض عندهم، وبترك الفرض تبطل الصلاة، وتحولت صلاته نفلاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وبطلت عند محمد، فيضم إليها ركعة، ولو لم يضم لا شيء عليه، ولو قعد في الرابعة، ثم قام، ولم يسلم عاد إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة وسلم، وإن قيد الخامسة بالسجدة، ثم تذكر ضم إليها ركعة أخرى، وتم فرضه؛ لأن الباقي إصابة لفظ السلام، وهي غير فرض عندهم، وإنما يضم إليها أخرى لتصير الركعتان نفلاً؛ لأن الركعة الواحدة لا تجزيه عندهم لحديث النهي عن البتيراء. وحملوا حديث ابن مسعود هذا على أنه جلس على الرابعة. وفيه: أنه محتاج إلى دليل، بل سياق الحديث يرشد إلى خلافه، قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص68) : الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجلس عقيب الرابعة؛ لأنه لم ينقل، ولأنه قام إلى الخامسة معتقداً أنه قام عن ثالثه، ولم تبطل صلاته بهذا، ولم يضف إلى الخامسة أخرى. وحديث أبي سعيد أيضاً حجة عليهم، فإنه جعل الزائدة نافلة من غير أن يفصل بينها وبين التي قبلها بجلوس، وجعل السجدتين يشفعانها، ولم يضم إليها ركعة أخرى. وهذا كله خلاف لما قالوه. فقد خالفوا الخبرين جميعاً. وقولنا يوافق الخبرين جميعاً - انتهى. وقال السندي: حمله علماؤنا الحنفية على أنه جلس على الرابعة، إذ ترك هذا الجلوس عندهم مفسد. ولا يخفى أن الجلوس على رأس الرابعة إما على ظن أنها رابعة أو على ظن أنها ثانية، وكل من الأمرين يفضي إلى اعتبار الواقعة منه أكثر من سهو واحد. وإثبات ذلك بلا دليل مشكل. والأصل عدمه. فالظاهر أنه ما جلس أصلاً. وذلك؛ لأنه إن ظن أنها رابعة فالقيام إلى الخامسة يحتاج إلى أنه نسي ذلك، وظهر له أنها ثالثة مثلاً، واعتقد أنه خطأ في جلوسه. وعند ذلك ينبغي أن يسجد للسهو فتركه لسجود السهو. أولا يحتاج إلى القول أنه نسي ذلك الاعتقاد أيضاً، ثم قوله: وما ذاك بعد إن قيل له، يقتضي أنه نسي بحيث ما تنبه له بتذكيرهم أيضاً. وهذا لا يخلو عن بُعد. وإن قلنا أنه ظن أنها ثانية سهواً ونسياناً فذاك النسيان مع بعده يقتضي أن لا يجلس على رأس الخامسة، بل يجلس على رأس السادسة، فالجلوس على رأس الخامسة يحتاج إلى اعتبار سهو آخر - انتهى. تنبيه: قال العيني في شرح البخاري (ج7: ص307) مستدلاً على وقوع الجلوس منه - صلى الله عليه وسلم - عقيب الرابعة: إن المذكور في الحديث "صلى الظهر خمساً" والظهر اسم للصلاة المعهودة في وقتها بجميع أركانها. وفيه: أن إطلاق لفظ الظهر لا يدل على أنه جلس في الرابعة بل قوله: خمساً يرشد إلى خلاف ذلك، وإنما هذا كقول الراوي في قصة ذي اليدين: "صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر، وفي رواية: العصر فسلم مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قد ترك الركعتين الأخيرتين نسياناً". وقال بعضهم حديث ابن مسعود واقعة حال، لا عموم لها، فلا(3/403)
وفي رواية: قال: ((إنما أنا بشر مثلكم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يشكل على الحنفية إلا بعد إثبات أنه عليه الصلاة والسلام لم يجلس على الرابعة وهو لم يثبت بعد، بل هو محتمل، ولا يحتاج الحنفية إلى إثبات القعدة، كما هو ظاهر؛ لأنهم قالوا إن القعدة فرض فلا يترك إلا بنص يخالفه لا بمحتمل. وفيه: أنه لم يقم دليل يثبت به كون القعدة الأخيرة فرضاً بالمعنى المصطلح عندهم. ولا بد لمن يدعي قعوده - صلى الله عليه وسلم - على الرابعة أن يأتي بدليل يدل صراحة على ذلك. ولا يكفي الاحتمال في مثل هذا. والحديث ليس بظاهر في ثبوت القعود، بل هو ظاهر في نفيه، كما يرشد السياق إليه. بل ذكر الشيخ محمد أنور الحنفي تصريح نفي الجلوس عقب الرابعة عن معجم الطبراني حيث قال: وفي المعجم للطبراني نفي القعدة على الرابعة صراحة، فأشكل الأمر علينا، ولا بد له من جواب - انتهى. (فيض الباري ج2: ص339) قال جامعه: ولم أسمع منه-يعني من شيخه محمد نور- جوابه، ولا اتفق لي السؤال عنه. والله تعالى يدري ما كان جوابه عنده. ولا ريب أن الأمر أمر - انتهى. قلت: لا شك أن الحديث مشكل جداً على الحنفية ولم أر لهم جواباً عنه إلا ادعاء القعود على الرابعة من غير دليل مع كونه مخالفاً لما في الطبراني من نفي القعدة صراحة على ما قال صاحب فيض الباري. ولو صرفنا النظر عن ذلك، وسلمنا أنه قعد في الرابعة أشكل عليهم أيضاً؛ لأنه لم يضم السادسة، بل اكتفى بسجدتي السهو. وضم الركعة السادسة مؤكد، بل واجب عندهم. وأما قول العيني: لا يضرنا ذلك؛ لأنا لا نلزمه بضم الركعة السادسة على طريق الوجوب حتى قال صاحب الهداية: ولو لم يضم لا شيء عليه؛ لأنه مظنون. وقال صاحب البدائع: والأولى أن يضيف إليها ركعة أخرى ليصيرا نفلاً إلا في العصر. ففيه: أن هذا مخالف لقولهم: لا بد من أن يضم سادسة؛ لأن الركعة الواحدة لا تجزيه لنهيه عليه السلام عن البتيراء، فإنه ظاهر في وجوب ضم السادسة في هذه الصورة- واعلم أن حديث النهي عن البتيراء أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بسنده من رواية أبي سعيد الخدري بلفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البتيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها، ذكره عبد الحق في أحكامه، وقال الغالب على حديث عثمان بن محمد بن ربيعة - أحد رواة هذا الحديث - الوهم. وقال ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام بعد ذكره من جهة ابن عبد البر: الحديث شاذ، لا يعرج عليه ما لم يعرف عدالة راويه. وعثمان بن محمد بن ربيعة الغالب على حديثه الوهم - انتهى. وقال ابن حزم: لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن البتيراء - انتهى. وهو أيضاً معارض بما ثبت. وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإيتار بركعته قولاً وفعلاً. (وفي رواية قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد سلامه من سجدتي السهو. (إنما أنا بشر مثلكم) أي في جميع الأمور البشرية إلا أنه يوحى إليّ. قال الشوكاني: هذا حصر له في البشرية باعتبار من أنكر ثبوت ذلك. ونازع فيه عناداً وجحوداً، وأما باعتبار غير ذلك مما هو فيه فلا ينحصر في وصف البشرية، إذ له صفات أخر ككونه جسماً حياً متحركاً، فيها(3/404)
أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم يسلم ثم يسجد سجدتين))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسولاً، بشيراً ونذيراً، سراجاً منيراً وغير ذلك. (أنسى كما تنسوني) زاد النسائي "وأذكر كما تذكرون". وفيه دليل على جواز السهو والنسيان عليه - صلى الله عليه وسلم - فيما طريقه التشريع. وقد نقل عياض الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال، لكنهم تعقبوه. نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه بل يقع له بيان ذلك إما متصلاً بالفعل أو بعد، كما في حديث ذي اليدين من قوله: لم أنس ولم تقصر، ثم تبين أنه نسي. وفائدة جواز السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي، إذا وقع مثله لغيره. (فإذا نسيت فذكروني) فكان حقهم أن يذكروه بالإشارة ونحوها عند إرادة قيامه إلى الخامسة. (فليتحر الصواب) قال الطيبي: التحري القصد والاجتهاد في الطلب. والعزم على تحصيل الشيء بالفعل. والضمير البارز في (فليتم عليه) راجع إلى ما دل عليه "فليتحر"، والمعنى فاليتم على ذلك ما بقي من صلاته بأن يضم إليه ركعة. ولمسلم في رواية: فأيكم شك في صلاته فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب. وله أيضاً: فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب. وفي لفظ له: فليتحر الذي يرى أنه الصواب. واستدل به من قال بالعمل بغالب الظن، وتقديمه على البناء على اليقين أي الأقل وهم الحنفية. قال القاري: معناه "فليطلب بغلبة ظنه واجتهاده الصواب. وقال السندي: أي فليطلب ما يغلب على ظنه ليخرج به عن الشك، فإن وجد فليبن عليه، وإلا فليبن على الأقل لحديث أبي سعيد السابق - انتهى. قال الحافظ: وهو أي كون التحري بمعنى الأخذ بغالب الظن ظاهر الروايات التي عند مسلم - انتهى. وحمله الجمهور على اليقين. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص239) ومعنى التحري في حديث ابن مسعود عند أصحاب الشافعي هو البناء على اليقين على ما جاء تفسيره في حديث أبي سعيد الخدري. وحقيقة التحري هو طلب أحرى الأمرين وأولاهما بالصواب. وأحراهما ما جاء في حديث أبي سعيد من البناء على اليقين لما كان فيه من كمال الصلاة والاحتياط لها ومما يدل على أن التحري قد يكون بمعنى اليقين قوله تعالى. {فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً} [72: 14] انتهى. وقال الشافعي: فليتحر الصواب معناه فليتحر الذي يظن أنه نقصه فيتمه، فيكون التحري أن يعيد ما شك فيه، ويبني على ما استيقن، وهو كلام عربي مطابق لحديث أبي سعيد إلا أن الألفاظ تختلف لسعة الكلام في الأمر الذي معناه واحد - انتهى. وقدمنا طرفاً من الخلاف في كون التحري والبناء على اليقين شيئاً واحداً أم لا. (ثم ليسلم ثم يسجد) بالجزم. وقيل: بالرفع. وثم لمجرد التعقيب، وفيه دليل لمن قال أن سجود السهو بعد السلام. وقد اختلف أهل العلم في ذلك على عشرة أقوال: الأول: أن سجود السهو كله بعد السلام. وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه عملاً يحدث ابن مسعود، وحديث ذي اليدين التالي، وحديث عمران بن حصين في الفصل الثالث، وحديث عبد الله بن جعفر(3/405)
المتقدم، وحديث ثوبان عند أبي داود وابن ماجه مرفوعاً: لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم. قال الحافظ: في سنده اختلاف، وقال العراقي: حديث مضطرب. الثاني: أنه كله قبل السلام. وبه قال الشافعي أخذاً بحديث أبي سعيد الخدري، وحديث عبد الرحمن بن عوف، وقد ذكرنا لفظه، وحديث عبد الله بن بحينة الآتي. الثالث: التفرقة بين الزيادة والنقصان فيسجد للزيادة بعد السلام أخذاً بحديث ذي اليدين وللنقص قبله أخذاً بحديث ابن بحينة. قيل: وهذا مذهب مالك. وفيه أن هذا الفرق غير صحيح؛ لأن قصة ذي اليدين وقع السجود فيها بعد السلام، وهي عن نقصان، وأيضاً من جمع عليه السهوان: أحدهما في الزيادة، والثاني، في النقصان، فلا يكون مساغ له. وما قالوا يسجد قبل السلام تغلباً لجانب النقص لا دليل عليه. الرابع: أنه يستعمل كل حديث، كما ورد ففي السلام من اثنتين بعد السلام لحديث ذي اليدين، وكذا إذا سلم من ثلاث لحديث عمران، وفي التحري بعد السلام لحديث ابن مسعود، وفي القيام من ثنتين قبل السلام لحديث ابن بحينة، وفي الشك يبني على اليقين، ويسجد قبل السلام لحديث أبي سعيد، وما عدا هذه المواضع يسجد كله قبل السلام. وإلى ذلك ذهب أحمد بن حنبل. الخامس: أنه يستعمل كل حديث، كما ورد، وما لم يرد فيه شيء مما كان نقصاً سجد له قبل السلام، وفي الزيادة بعد السلام. وبه قال إسحاق بن راهوية. وقد تبين بهذا بأن الشافعي وأبا حنيفة سلكا مسلك الترجيح، ومالكاً وأحمد وإسحاق سلكوا مسلك الجمع. السادس: أن الباني على الأقل عند شكه يسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد، والمتحري في الصلاة عند شكه يسجد بعد السلام على حديث ابن مسعود. وإلى ذلك ذهب أبوحاتم ابن حبان. السابع: أنه يتخير الساهي بين السجود قبل السلام وبعده، سواء كان لزيادة أو نقص، حكاه ابن أبي شيبة في المصنف عن علي، وحكاه الرافعي قولاً للشافعي. قال الحافظ: ورجح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده. ودليلهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صح عنه السجود قبل السلام وبعده فكان الكل سنة. الثامن: أن كله بعد السلام إلا في موضعين، فإن الساهي فيهما مخير، أحدهما من قام من ركعتين، ولم يجلس، ولم يتشهد. والثاني أن لا يدري أصلى ركعة أم ثلاثاً أم أربعاً فيبني على الأقل، ويخير في السجود. وإلى ذلك ذهب أهل الظاهر، وبه قال ابن حزم: التاسع: أنه لا يشرع سجود السهو إلا في المواضع التي سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها فقط. وهو مذهب داود الظاهري. العاشر: ما اختاره الشوكاني في النيل حيث قال: وأحسن ما يقال في المقام أنه يعمل على ما يقتضيه أقواله وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - من السجود قبل السلام وبعده، فما كان من أسباب السجود، مقيداً بقبل السلام سجد له قبله، وما كان مقيداً بعد السلام سجد له بعده، وما لم يرد تقييده(3/406)
متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بأحدهما كان مخيراً بين السجود قبل السلام وبعده من غير فرق بين الزيادة والنقص - انتهى. وهذا الخلاف إنما هو في الاختيار والأفضل، لا في الجواز وعدمه، قال عياض وجماعة من أصحاب الشافعي: ولا خلاف بين هؤلاء المختلفين وغيرهم من العلماء أنه لو سجد قبل السلام أو بعده للزيادة، أو للنقص أنه يجزئه، ولا تفسد صلاته وإنما اختلافهم في الأفضل. وفي الهداية: هذا الخلاف في الأولوية، وكذا قال الماوردي في الحاوي، وابن عبد البر وغيرهم، قاله العيني. وقال النووي: جميع العلماء قائلون بجواز التقديم وجواز التأخير، ونزاعهم في الأفضل - انتهى. والراجح عندي القول السابع أعني التخيير من غير تفصيل وترجيح، والله أعلم. تنبيه: المشهور في كتب شروح الحديث من مذهب أبي حنيفة أن سجود السهو كله بعد السلام، كما تقدم. وهذا صريح في أنه سلك مسلك الترجيح، وترك أحاديث السجود قبل السلام، لكن قال بعض الحنفية: إن فيما قاله الحنفية جمعاً بين روايات فعله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم قالوا إنه يسلم بعد التشهد عن يمينه فيسجد سجدتي السهو، فيتشهد ويصلي ثم يسلم. وهكذا ورد في بعض الروايات المفصلة في فعله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا أوجه ما يجمع به اختلاف الحديث. فالروايات التي ورد فيها سجوده - صلى الله عليه وسلم - قبل السلام فالمراد فيها من السلام سلام لانصراف عن الصلاة، وهو التسليم الثاني في قولنا، وما ورد فيه السجود بعد السلام فالمراد فيه سلام الفصل بين الصلاة والسجدتين، قال: وفيه العمل بكل من روايات القول والفعل، فهذا الجمع لشموله لجميع الروايات أولى - انتهى. قلت: هذا الجمع ليس بوجيه فضلاً عن أن يكون أولى بل هو بعيد جداً يرده ظاهر سياق الأحاديث الواردة في المسألة؛ لأن المراد من السلام المذكور في هذه الأحاديث هو التسليمتان؛ لأنه هو المعهود لا السلام الواحد. فالأحاديث التي ذكر فيها سجود السهو بعد السلام المراد من السلام فيها تسليمتا التحليل بعد التشهد وبعد الصلاة على النبي والأدعية المأثورة. وما ورد فيه السجود قبل السلام فالمراد منه أنه تشهد وصلى ثم سجد للسهو، ثم سلم السلام المعهود وهو التسليمتان. وهذا كله مخالف لما ذكره هذا البعض من تفصيل مذهب الحنفية. ففي قولهم هذا طرح لجميع الروايات الواردة في الباب، لا إعمالها، ولم يرد هذا التفصيل في حديث مرفوع صحيح أو ضعيف فهو مردود على قائله. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً البيهقي، وأخرج الرواية الأولى أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه أيضاً، والرواية الثانية أخرجها أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه. قال ابن حجر: صريح كلام المصنف أن قوله: "بعد ما سلم" رواه الشيخان، وليس كذلك إذ لم يروه مسلم، وإنما رواه البخاري. والمصنف كأصله يقع له ذلك كثيراً لكن عذره أنه يريد اتفاق الشيخين على أصل إخراجه وإن لم يتساويا في كل ألفاظه، فاستحضر ذلك فإنه ينفعك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب - انتهى.(3/407)
1025- (5) وعن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1025- قوله: (وعن ابن سيرين) بكسر السين والراء، قال القاري: إنه مضبوط في جميع النسخ المصححة والأصول الحاضرة بالفتح. (أي بفتح النون على أنه غير منصرف) ويوجه منع صرفه على رأي أبي على الفارسي في اعتبار مطلق الزائدين كحمدون وعليون على ما ذكره الجعبري - انتهى. وسيرين هو مولى أنس بن مالك من سبي عين التمر، أدرك الجاهلية، وسبي في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، كاتبه أنس على عشرين ألف درهم، فأداها وعتق، والمراد بابن سيرين محمد أبوبكر الأنصاري مولاهم البصري ثقة ثبت عابد كبير القدر من كبار التابعين، أخو أنس ومعبد ويحيى وحفصة وكريمة أولاد سيرين أبي عمرة. وإذا أطلق ابن سيرين فهو محمد هذا. وهؤلاء الستة كلهم تابعيون. قال ابن سعد: كان محمد ثقة مأموناً عالياً فقيهاً رفيعاً إماماً كثير العلم. وقال أبوعوانة: رأيت ابن سيرين في السوق، فما رآه أحد إلا ذكر الله. وروي: أنه اشترى بيتاً فأشرف فيه على ثمانين ألف دينار، فعرض في قلبه شيء، فتركه. قال الحافظ: كان لا يرى الرواية بالمعنى. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ومات لتسع مضين من شوال سنة 110هـ، وله سبع وسبعون سنة. (عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أمّنا، يدخل فيه حرف التعدية فيفيد معنى قولنا: أمنا فجعلنا من المؤتمين بصلاته. وفي رواية لمسلم وغيره: صلى لنا. واللام فيه قائم مقام الباء. ويصح أن يراد صلى من أجلنا لما يعود إليهم من فائدة الجماعة، ويصيب إليهم من البركة بسبب الإقتداء. واللفظان ظاهران، بل صريحان في أن أبا هريرة حضر قصة السهو. وحمله الطحاوي على المجاز فقال: إن المراد به صلى بالمسلمين. متمسكاً بما قاله الزهري أن القصة لذي الشمالين المستشهد ببدر قبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر لكن اتفق أئمة الحديث، كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم في ذلك، فالصواب أن القصة لذي اليدين وهو غير ذي الشمالين. نص على ذلك الشافعي في اختلاف الحديث وأبوعبد الله الحاكم والبيهقي وغيرهم. وقال النووي في الخلاصة: إنه قول الحافظ وسائر العلماء إلا الزهري، واتفقوا على تغليطه، وذو الشمالين هو الذي قتل ببدر وهو خزاعي، واسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة. وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بمدة؛ لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أخرجه الطبراني وغيره وهو سلمي، واسمه الخرباق. وقد جوز بعض الأئمة أن القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما، وهو قصة ذي الشمالين، وشاهد الآخر، وهي قصة ذي اليدين. وهذا محتمل من طريق الجمع. وقيل: يحمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضاً ذواليدين وبالعكس. فكان ذلك سبباً للاشتباه. قلت: قد وقع في رواية لمسلم عن أبي هريرة قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي صريحة في أن أبا هريرة كان حاضراً في الصلاة، وهي تبطل تأويل الطحاوي. قال الحافظ: ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي، ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما من طريق يحيى بن أبي كثير عن(3/408)
إحدى صلاتي العشي،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أبي سلمة في هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد. (ص104) : قال بعضهم: إن أبا هريرة لم يحضر القصة، وإنما رواه مرسلاً بدليل أن ذا الشمالين قتل يوم بدر، وهو صاحب القصة، وردوه بأن رواية مسلم وغيره صريحة في حضور أبي هريرة تلك القصة، والمقتول ببدر هو ذو الشمالين، وصاحب القصة هو ذو اليدين، وهو غيره - انتهى. وقال البيهقي في المعرفة: إن هذا ترك الظاهر على أنه رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلم يجز في هذا القول معناه صلى بالمسلمين - انتهى. قلت: رواية أحمد ومسلم والبيهقي بلفظ: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... نص صريح في حضور أبي هريرة قصة ذي اليدين، وليس عند من ادعى عدم حضوره عن هذه الرواية الصحيحة الصريحة جواب شاف. وقد اعترف به صاحب البحر الرائق من الحنفية، وقد اعترف به صاحب العرف الشذي أيضاً حيث قال: ولكن الطحاوي لم يجب عما في طريق مسلم عن أبي هريرة. بينما أنا أصلي الخ. وقال صاحب البحر: لم أجد جواباً شافياً عن هذه. وقال ابن عابدين ما قال، وتعجب من عدم جواب البحر. أقول: إن ابن عابدين غفل عما في مسلم، فإن الرواية ههنا: أنا أصلي ... رواها مسلم، وأما أنا فلم أجد جواباً شافياً أيضاً - انتهى. ثم إنه لما عجز الحنفية عن جواب هذه الرواية اعترف بعضهم بعدم وجدان الجواب الشافي وسعى بعضهم لإثبات الوهم فيها من الراوي، فقال النيموي ومن تبعه أخذاً عن العيني قوله: بينما أنا أصلي: ليس بمحفوظ، ولعل بعض رواة الحديث فهم من قول أبي هريرة "صلى بنا" أنه كان حاضراً فروى هذا الحديث بالمعنى على ما زعمه. وقد أخرجه مسلم من خمس طرق، فلفظه في طريقين: صلى بنا. وفي طريق: صلى لنا. وفي طريق: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين. وفي طريق: بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. تفرد به يحيى بن أبي كثير وخالفه غير واحد من أصحاب أبي سلمة وأبي هريرة، فكيف يقبل أن أبا هريرة قال في هذا الخبر: بينما أنا أصلي - انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي مجيباً عن كلام النيموي هذا ما لفظه: قلت يحيى بن أبي كثير ثقة ثبت متقن. قال الحافظ في مقدمة الفتح: أحد الأئمة الثقات الأثبات. قال شعبه: حديثه أحسن من حديث الزهري. وقال في تهذيب التهذيب: وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه يحيى من أثبت الناس. إنما يعد مع الزهري ويحيى بن سعيد، وإذا خالفه الزهري، فالقول قول يحيى - انتهى. فكيف لا يقبل ما تفرد به مثل هذا الثقة الثبت الذي هو من أثبت الناس، وإذا خالفه الزهري فالقول قوله، فقول النيموي قوله: بينما أنا أصلي. غير محفوظ مردود عليه. والحاصل أن رواية مسلم وأحمد بلفظ: بينما أنا أصلي. صحيحة محفوظة وهي نص صريح في شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين، وليس لمن أنكر ذلك جواب شاف عن هذه الرواية -انتهى كلام الشيخ. (إحدى صلاتي العشي) بفتح العين وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء. قال الأزهري: العشي عند العرب ما بين زوال(3/409)
قال ابن سيرين: قد سماها أبوهريرة، ولكن نسيت- أنا قال: فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشمس وغروبها. ويبين ذلك ما وقع في رواية لمسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر. وفي رواية للبخاري: صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر أو العصر. وفي رواية له أيضاً بلفظ: الظهر بغير شك. ولمسلم من طريق أبي سلمة المذكورة: صلاة الظهر. وله من طريق أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة: صلاة العصر من غير شك. قال الحافظ: الظاهر أن الاختلاف فيه من الرواة. وأبعد من قال (كالنووي وأبي حاتم بن حبان) يحمل على أن القصة وقعت مرتين. (مرة في صلاة الظهر ومرة في صلاة العصر) بل روى النسائي من طريق ابن عون عن ابن سيرين أن الشك فيه من أبي هريرة، ولفظه: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي. قال أبوهريرة: ولكني نسيت. فالظاهر أن أباهريرة رواه كثيراً على الشك، وكان ربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم بها، وتارة غلب على ظنه أنها العصر، فجزم بها، وطرأ الشك في تعيينها أيضاً على ابن سيرين. وكان السبب في ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام الشرعية، ولم تختلف الرواة في حديث عمران في قصة الخرباق. (الآتية في الفصل الثالث) أنها العصر. فإن قلنا: أنهما قصة واحدة، فيترجح رواية من عين العصر في حديث أبي هريرة - انتهى. وقال القاري: الأظهر أن القضية متحدة والصلاة هي العصر. فإنها مجزومة في جميع الروايات، وإنما التردد في غيرها، فيترك الشك، ويعمل بالمتيقن - انتهى. (قال ابن سيرين) محمد. (قد سماها أبوهريرة) أي تلك الصلاة بالخصوص. (ولكن نسيت أنا) أي هي الظهر أم العصر. وفي رواية للبخاري: قال محمد وأكثر ظني أنه العصر. قال القسطلاني: هذا شك آخر من ابن سيرين، وذلك أن أبا هريرة حدثه بها معينة، كما عينها لغيره، ويدل على أنه عينها له قول البخاري في بعض طرقه. قال ابن سيرين: قد سماها أبوهريرة ولكني نسيت. قال الحافظ: وإنما رجح كونها العصر عند ابن سيرين؛ لأن في حديث عمران الجزم بأنه العصر، كما تقدمت الإشارة إليه قبل. (قال) أي أبوهريرة. (فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام) أي من ذلك الموضع وأتى. (إلى خشبة معروضة) أي موضوعة بالعرض أو مطروحة. (في) ناحية (المسجد) وفي رواية للبخاري في مقدم المسجد. وفي رواية لمسلم: ثم أتى جذعاً في قبلة المسجد، يعني من جذوع النخل التي كان المسجد مسقوفاً عليها. قال الحافظ: ولا تنافي بين هذه الروايات؛ لأنها تحمل على أن الجذع قبل اتخاذ المنبر كان ممتداً بالعرض، وكأنه الجذع الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يستند إليه قبل اتخاذ المنبر، وبذلك جزم بعض الشراح - انتهى. قلت: ليس في شيء من روايات الحديث وطرقه ما يدل على أن المراد به الجذع الذي كان يستند إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الخطبة قبل اتخاذ المنبر، ولا حجة لمن يدعي أنه كان يرى من ذلك الجذع شيء بعد دفنه، وإليه استند النبي - صلى الله عليه وسلم - واتكأ عليه في هذه القصة ولا على أن(3/410)
فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت سرعان القوم من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبوبكر وعمر، رضي الله عنهما، فهاباه أن يكلماه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجذع دفن في قبلة المسجد ولا على أن عمل المنبر كان قبل بدر. (كأنه غضبان) قال القاري: لعل وجه الغضب تأثير التردد والشك في فعله أو كان غضبان، فوقع له الشك لأجل غضبه. (على اليسرى) أي على يده اليسرى. (وشبك بين أصابعه) أي أدخل بعضها في بعض من فوق الكف. (وخرجت سرعان القوم) وفي بعض النسخ الناس بدل القوم. ولفظ البخاري ههنا خرجت السرعان أي بالألف واللام وبدون الإضافة. نعم في رواية أخرى له ولمسلم: خرج سرعان الناس، وهو بفتح السين والراء المهملتين وضم النون فاعل خرجت. ومنهم من سكن الراء، والمراد بهم أوائل الناس خروجاً من المسجد. والمستعجلون منهم، وهم أهل الحاجات غالباً، قال الجزري: السرعان بفتح السين والراء: أوائل الناس الذي يتسارعون إلى الشيء ويقبلون عليه بسرعة، ويجوز تسكين الراء، قال عياض: وضبطه الأصيلي في البخاري بضم السين وإسكان الراء، ويكون جمع سريع كقفيز وقفزان وكثيب وكثبان وهو المسرع الخروج، ومن قال سرعان بكسر السين فهو خطأ؛ لأنه إنما هو في سرعان الذي هو اسم فعل أي سرع. (فقالوا قصرت الصلاة) كذا في جميع النسخ بدون همزة الاستفهام، وكذا وقع في رواية للبخاري، لكن وقع في رواية البخاري هذه، فقالوا: أقصرت أي بذكر همزة الاستفهام، قال الحافظ: فتحمل تلك على هذه، وفيه دليل على ورعهم إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم. وهابوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسألوه وإنما استفهموه؛ لأن الزمان زمان النسخ - انتهى. وقصرت بفتح القاف وضم الصاد على البناء للفاعل أي صارت قصيرة. وروي بضم القاف وكسر الصاد على البناء للمفعول، أي أن الله قصرها. قال النووي: كلاهما صحيح ولكن الأول أشهر وأصح. وقال ابن رسلان: الفعل لازم ومتعد فاللازم مضموم الصاد؛ لأنه من الأمور الخلقية كحسن وقبح، والمتعدي بفتح الصاد منه قصر الصلاة وقصرها بالتخفيف والتشديد وأقصرها على السواء، حكاهن الأزهري. (وفي القوم) أي المصلين. (فهاباه) من الهيبة وهو الخوف والإجلال، أي فخاف أبوبكر وعمر النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيماً وتبجيلاً وإجلالاً له. (أن يكلماه) بما وقع له أنه سهواً وعمداً، وبأنه سلم من ركعتين، فإن يكلماه بدل اشتمال من ضمير "هاباه" لبيان أن المقصود هيبة تكليمه، لا نحو نظره واتباعه. يروى "فهابا" بدون الضمير المنصوب، وأن مصدرية. والتقدير من التكليم. قال الطيبي: أي فخشيا أن يكلما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقصان الصلاة. والمعنى أنهما غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه. وأما ذو اليدين فغلب عليه حرصه على تعلم العلم. وقيل: خشيا أن(3/411)
وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يكلماه لما ظهر عليه من أثر الغضب. (وفي القوم رجل) هو الخرباق السلمي، وكان (في يديه طول) أي كانت يداه أطول من يدي القوم، وهو محمول على الحقيقة. ويحتمل أن يكون كناية عن طولهما بالعمل أو بالبذل، قاله القرطبي. وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعاً. (يقال له ذو اليدين) وفي رواية: يدعوه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا اليدين. وهذا لقبه، واسمه الخرباق، من بني سليم، وبقي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال السهيلي في الروض الأنف: مات ذو اليدين السلمي في خلافة معاوية. وقال أبوعوانه في صحيحه: ذو اليدين عاش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومات بذي خشب على عهد عمر. ويدل عليه ما رواه الحسن بن سفيان والطبراني وغيرهما من طريق شعيب بن مطير عن أبيه أنه لقي ذا اليدين بذي خشب، فحدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إحدى صلاتي العشي، وهي العصر، فصلى ركعتين، وخرج سرعان الناس، فذكر الحديث. وروى ابن أبي شيبة من طريق عمرو بن مهاجر أن محمد بن سويد أفطر قبل الناس بيوم، فأنكر عليه عمر بن عبد العزيز، فقال شهد عندي فلان أنه رأى الهلال، فقال عمر أو ذو اليدين هو. ذكره الحافظ في الإصابة (ج1: ص489) قلت: حديث ذي اليدين هذا رواه أيضاً عبد الله بن أحمد: في زيادات المسند (ج4: ص77) ، والبيهقي (ج2: ص366) من طريق معدي بن سليمان، وكان ثقة، كما في مجمع الزوائد (ج2: ص150) ، قال أتيت مطيراً لأسأله عن حديث ذي اليدين، فأتيته فسألته، فإذا هو شيخ كبير، لا ينفذ الحديث من الكبر. فقال ابنه شعيب: بلى، يا أبت! حدثني أنك لقيت ذا اليدين بذي خشب، فحدثك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إحدى صلاتي العشي، وهي العصر، ركعتين ثم سلم، فذكر الحديث. وفي رواية: حدثني شعيب بن مطير، ومطير حاضر، يصدق مقالته، قال كيف كنت أخبرتك؟ قال يا أبتاه أخبرتني أنك لقيت ذا اليدين بذي خشب الحديث. قال الهيثمي: رواهما عبد الله بن أحمد مما زاده في المسند. وفيه معدي بن سليمان. قال أبوحاتم شيخ، وضعفه النسائي - انتهى. قلت: معدي هذا من رجال الترمذي وابن ماجه. قال الشاذكوني: كان من أفضل الناس، وكان يعد من الأبدال، وقد صحح الترمذي حديثه، كذا في تهذيب التهذيب (ج10 ص229) ، وأما تضعيف النسائي وقول ابن حبان فيه: لا يجوز أن يحتج به فالظاهر أنه في روايته عن ابن عجلان خاصة. ففي تهذيب التهذيب قال أبوزرعة: واهي الحديث يحدث عن ابن عجلان بمناكير - انتهى. على أن النسائي وابن حبان من المتشددين، كما قال النيموى. وأما مطير فهو بالتصغير ابن سليم شيخ من أهل وادي القرى من رجال أبي داود، ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: لم يثبت حديثه. والظاهر أنه أراد حديثه الذي رواه عن ذي الزوائد، وهو صحابي آخر أخرج أبوداود حديثه في كتاب الخراج. وذو اليدين هو غير ذي الشمالين المستشهد ببدر، واسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة خزاعي حليف بني زهرة، قال الحافظ في الفتح: قد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا لشمالين غير ذي اليدين. ونص(3/412)
على ذلك الشافعي في اختلاف الحديث - انتهى. وقال بعد ورقة: وقد تقدم أن الصواب التفرقة بين ذي اليدين وذي الشمالين. وذهب الأكثر إلى أن ذي اليدين الخرباق بكسر المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة، وآخره قاف، اعتماداً على ما وقع في حديث عمران بن حصين. (الآتي في الفصل الثالث) عند مسلم: وهذا صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران. وهو الراجح في نظري، وإن كان ابن خزيمة ومن تبعه جنحوا إلى التعدد - انتهى. وقال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: وللناس خلاف فيما يتعلق بذي اليدين في موضعين: الأول: أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد أو اثنان، ولا خلاف بين أهل السير أن ذا الشمالين قتل ببدر، فالجمهور على أن ذا اليدين غيره لروايات أبي هريرة في شهوده القصة. قال العلائي: هذا هو الصحيح الراجح. وقال أبوبكر بن الأثرم: الذي قتل ببدر إنما هو ذو الشمالين ابن عبد عمرو حليف لبنى زهرة. واختار القاضي عياض في الإكمال بأنهما واقعتان: أحدهما كانت قبل بدر، والمتكلم فيها ذو الشمالين، ولم يشهدها أبوهريرة بل أرسل روايتها. والثانية كانت بعد إسلامه، وحضرها أبوهريرة، والمتكلم ذواليدين. والثاني: أن ذا اليدين هو الخرباق المتكلم في حديث عمران أو غيره، فالذي اختاره عياض وابن الأثير والنووي في غير موضع أنهما واحد. وأما ابن حبان فجعلهما اثنين، فقال في معجم الصحابة: الخرباق صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث سها، وهو غير ذي اليدين. وتوقف ابن عبد البر والقرطبي، فقالا يحتمل أن يكون الخرباق ذا اليدين، وأن يكون غيره. وقال ابن الجوزي: في اسم ذي اليدين قولان: أحدهما عمير بن عبد عمرو بن نضلة السلمي، ذكره الأكثرون. والثاني خرباق، ذكره أبوبكر الخطيب، قال وقد قيل: إنه ذوالشمالين، وليس بصحيح. قال العلائي: وعمير بن عبد عمرو بن نضلة هو ذوالشمالين لا ذو اليدين. وابن الجوزي وهم في هذه التسمية - انتهى. قلت: وادعى الحنفية أن ذا اليدين وذا الشمالين رجل واحد اسمه عمير بن عبد عمرو بن نضلة، ويقال له الخرباق أيضاً، وهو سلمي وخزاعي، واختاروا ذلك؛ لأنه ينفعهم في مسألة الكلام في الصلاة سهواً أو نسياناً أو عمداً لإصلاح الصلاة، وسنذكرها. واستدلوا على ذلك بما وقع عند النسائي من رواية الزهري عن أبي سلمة وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبي هريرة، ومن رواية عمران بن أبي أنس عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: ذي الشمالين مكان ذي اليدين. قال الصيني في شرح البخاري (ج4: ص264) وابن التركماني في الجوهر النقي بعد ذكر الروايتين، صرح فيهما بأن ذا الشمالين هو ذو اليدين، وقالا أيضاً فثبت أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد، وهذا أولى من جعله رجلين؛ لأنه خلاف الأصل في هذا الموضع - انتهى. قلت: في كون رواية الزهري وعمران بن أبي أنس بلفظ: ذي الشمالين محفوظة نظر؛ لأنه وقع في عامة روايات أبي هريرة(3/413)
قال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيحة لفظ: ذي اليدين دون ذي الشمالين. وكذلك وقع في حديث عمران بن حصين عند أحمد ومسلم وغيرهما، وحديث ابن عمر عند أبي داود لفظ: ذي اليدين، وقد ثبت شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين، وشهدها عمران بن حصين أيضاً، كما صرح به الحافظ في الفتح. وعمران بن حصين أسلم عام خيبر، كما نص عليه الحافظ في التقريب. وروى معاوية بن حديج عند أحمد وأبي داود، وغيرهما قصة أخرى في السهو، ووقع فيها الكلام ثم البناء، وكان إسلامه قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهرين، كما صرح به البيهقي والنووي والحافظ. وهذا كله يدل دلالة واضحة على أن من روى في حديث أبي هريرة ذا الشمالين فقد وهم. ولذلك قال الحاكم على ما نقل عنه البيهقي (ج2: ص367) : كل من قال ذلك فقد أخطأ - انتهى. فعلى هذا لا فائدة في ذكر متابعة عمران بن أبي أنس للزهري على ذكر ذي الشمالين. ويمكن أن يقال: إن ذا اليدين كان يقال له أيضاً ذو الشمالين، ويؤيده أنه وقع في رواية الزهري وعمران بن أبي أنس أولاً لفظ ذي الشمالين، ثم وقع فيها لفظ ذي اليدين. وعلى هذا فالمراد بذي الشمالين في روايتهما هو ذو اليدين لا ذو الشمالين الذي قتل ببدر. واستدل الحنفية أيضاً بأقوال بعض أهل العلم كابن سعد في الطبقات وغيره في غيرها مما يدل أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد. وفيه: أنها معارضة بما تقدم عن الحافظ أنه اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين، وقد ثبت شهود أبي هريرة قصة ذي اليدين، فهذا يرد قول من قال: أن ذا اليدين وذا الشمالين واحد. قال ابن عبد البر: ذو اليدين غير ذي الشمالين المقتول ببدر بدليل حضور أبي هريرة ومن ذكرنا قصة ذي اليدين، وأن المتكلم رجل من بني سليم، كما ذكر مسلم في صحيحه. وفي رواية عمران بن حصين اسمه الخرباق ذكره مسلم، فذو اليدين الذي شهد السهو في الصلاة سلمي، وذو الشمالين المقتول ببدر خزاعي، يخالفه في الاسم والنسب. وقد يمكن أن يكون رجلان وثلاثة يقال لكل واحد منهم ذو اليدين وذو الشمالين، لكن المقتول ببدر غير المذكور في حديث السهو. هذا قول أهل الحذق والفهم من أهل الحديث والفقه، ثم روى هذا بإسناده عن مسدد. قال ابن عبد البر: وقد اضطرب الزهري في حديث ذي اليدين اضطراباً أوجب عند أهل العلم بالنقل تركه من روايته خاصة، ثم ذكر طرقه، وبين اضطرابها في المتن والإسناد، وذكر أن مسلم بن الحجاج غلط الزهري في حديثه. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من أهل العلم بالحديث المصنفين فيه عول على حديث الزهري في قصة ذي اليدين، وكلهم تركوه لاضطرابه، وأنه لم يتم له إسناداً ولا متناً وإن كان إماماً عظيماً في هذا الشأن، فالغلط لا يسلم منه بشر، والكمال لله تعالى، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقول الزهري أن ذا اليدين قتل يوم بدر متروك لتحقق غلط فيه - انتهى كلامه ملخصاً مختصراً. (أنسيت) بالخطاب. (أم قصرت) بالفتح ثم الضم أو الضم ثم الكسر كالسابقة.(3/414)
الصلاة؟ قال لم أنس، ولم تقصر. فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(الصلاة) بالضم على الوجهين، وحصر في الأمرين؛ لأن السبب إما من الله، وهو القصر أو من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو النسيان. (فقال) - صلى الله عليه وسلم -: (لم أنس) أي في ظني أي لا في نفس الأمر، فخرج هذا الكلام على حسب الظن، ويعتبر الظن قيداً في الكلام، ترك ذكره بناء على أن الغالب في بيان أمثال هذه الأشياء أن يجري فيها الكلام بالنظر إلى الظن، فكأنه قال ما نسيت ولا قصرت في ظني، وهذا الكلام صادق لا غبار عليه، ولا يتوهم فيه شائبة كذب، وليس مبنى الجواب على كون الصدق المطابقة للظن، بل على أنه مطابقة الواقع، فافهم. (ولم تقصر) أي الصلاة وهو بفتح التاء وضم الصاد على بناء الفاعل، أو ضم التاء وفتح الصاد على بناء المفعول. وهذا صريح في نفي النسيان، ونفي القصر. وفيه تفسير للمراد بقوله في الرواية الآتية: كل ذلك لم يكن، وتأيد لما قاله أصحاب المعاني أن لفظ "كل" إذا تقدم وعقبها النفي كان نفياً لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت كأن يقول لم يكن كل ذلك، فإنه يفيد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد. (بخلاف الأول فإنه، يقتضى السلب عن كل فرد) ولهذا أجاب ذو اليدين بقوله قد كان بعض ذلك، وأجابه في بعض الروايات التي وقع فيها نفي النسيان، ونفي القصر صريحاً بقوله: "بلى قد نسيت"؛ لأنه لما نفي الأمرين، وكان مقرراً عند الصحابي أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا بالقصر، وهو حجة لمن قال: إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع، وقد تقدم الكلام في ذلك. (فقال) - صلى الله عليه وسلم - بعد تردده بقول ذي اليدين. (أكما يقول ذو اليدين) أي أتقولون كقوله، أو أكان كما يقول، أو الأمر كما يقول. وفي رواية بعد قوله: لم أنس ولم تقصر: فقال بل نسيت يا رسول الله، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القوم فقال: أصدق ذو اليدين، فلما جزم بالنسيان استثبت عليه السلام فقال أوقع مني أني تركت نصف الصلاة، كما يقول؟ وعدل عن قال لتصوير صورة للحال الماضية حتى يستحضر ويتأمل. (فقالوا: نعم) الأمر كما يقول. وفي رواية لمسلم: قالوا صدق، لم تصل إلا ركعتين. قال ابن حجر: فحينئذٍ تيقن عليه السلام أنه ترك ركعتين، إما لتذكره أو لكونهم عدد التواتر أو لإخبار الله له بالحال، كما في رواية أبي داود، ولم يسجد سجدتي السهو حتى يقنه الله ذلك، أي ألقى الله تعالى اليقين بوقوع النسيان في قلبه. (فتقدم) أي مشى إلى محل صلاته. ففي رواية لأبي داود: فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مقامه. (فصلى ما ترك) أي الذي تركه، وهو الركعتان. ففي رواية: فصلى ركعتين أخراوين. (ثم سلم) قال العلائي: جميع رواياته وطرقه لم يختلف فيه شيء منها أن السجود بعد السلام، كذا في شرح ابن رسلان لسنن أبي داود وهذا يهدم قاعدة المالكية ومن وافقهم أنه إذا كان السهو بالنقصان يسجد قبل(3/415)
ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه، ثم سلم)) . فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ((ثم سلم)) . متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السلام. (ثم كبر) أي بعد السلام للسجود. واختلف في سجود السهو بعد السلام هل يشترط له تكبيرة إحرام أو يكتفي بتكبير السجود؟ فالجمهور على الاكتفاء، وهو ظاهر غالب الأحاديث. وحكى القرطبي: أن قول مالك لم يختلف في وجوب السلام بعد سجدتي السهو، قال وما يتحلل منه بسلام لا بد له من تكبيرة إحرام كسائر الصلاة لكن لا تبطل بتركها. ويؤيده ما رواه أبوداود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين في هذا الحديث قال: فكبر ثم كبر وسجد للسهو. قال أبوداود: لم يقل فكبر ثم كبر إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الرواية. (وسجد) أي للسهو. (مثل سجوده) الذي للصلاة. والمثل الشبه. قال الراغب: المثل عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة، وذلك لأن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط، والشبه فيما يشاركه في الكيفية فقط، والمساوي فيما يشاركه في الكمية فقط، والمثل عام في جميع ذلك، ولذا قال تعالى:. {ليس كمثله شيء} [42: 11] . وأما نحو هذا فيقضي المشابهة مع التقريب - انتهى. (أو أطول) منه. (ثم رفع رأسه وكبر) أي للرفع من السجود. (ثم كبر) أي للسجود الثاني. (وسجد) أي ثانياً. (مثل سجوده) الأول أو مثل سجوده للصلاة والأول أقرب لفظاً، والثاني معنى. (ثم رفع رأسه) من السجدة الثانية. (فربما سألوه) أي سألوا ابن سيرين هل في الحديث. (ثم سلم) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سجدتي السهو. فالضمير المنصوب لابن سيرين والمسئول عنه قوله: ثم سلم. (فيقول) أي ابن سيرين في جواب سؤالهم. (نبئت) بضم النون أي أخبرت. (أن عمران بن حصين قال: ثم سلم) هذا يدل على أنه لم يسمع ذلك من عمران، وقد بين أشعث في روايته عن ابن سيرين الواسطة بينه وبين عمران، فقال قال ابن سيرين: حدثني خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمه أبي المهلب عن عمران بن حصين، أخرجه أبوداود، والترمذي والنسائي والبيهقي فظهر أن ابن سيرين أبهم ثلاثة، وروايته عن خالد من رواية الأكابر عن الأصاغر، كذا في الفتح. وقول ابن سيرين هذا، وهو راوي حديث ذي اليدين يدل، على أنه كان يرى التوحيد بين حديث أبي هريرة هذا، وحديث عمران بن حصين، وهو الذي رجحه الحافظ في الفتح، كما تقدم. ووقع عند البخاري من طريق حماد عن سلمة بن علقمة قال: قلت لمحمد في سجدتي السهو تشهد؟ فقال: ليس في حديث أبي هريرة. وقد يفهم منه أنه ورد في حديث غيره، وهو كذلك. فقد رواه الترمذي وغيره من حديث عمران بن حصين، وسيأتي الكلام في ذلك في الفصل الثاني. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي(3/416)
ولفظه للبخاري، وفي أخرى لهما: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدل: "لم أنس، ولم تقصر": "كل ذلك لم يكن"، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وغيرهم. قال ابن حجر: أي اتفقا على المقصود منه، فلا ينافيه خلو حديث مسلم عن ذكر وضع اليد على اليد، والتشبيك. قال الحافظ في التلخيص. (ص112) لهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ، وقد جمع جميع طرقه الحافظ صلاح الدين العلائي، وتكلم عليه كلاماً شافياً - انتهى. (ولفظه للبخاري) في باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره. (وفي أخرى) أي في رواية أخرى. (لهما) أي للشيخين. وفيه نظر؛ لأن هذه الرواية من إفراد مسلم، وليست للبخاري. (كل ذلك) أي كل من النسيان والقصر. (لم يكن) أي في ظني، أي لم يكن لا ذلك ولا ذا في ظني، بل ظني أني أكملت الصلاة أربعاً، فهو في معنى لا شيء منهما بكائن على شمول النفي وعمومه لثلاثة وجوه: أحدها الرواية المتقدمة لم أنس ولم تقصر. والثاني القاعدة المتقدمة عن علماء المعاني. والثالث أنه قال ذو اليدين في جوابه - صلى الله عليه وسلم - قد كان بعض ذلك. ومعلوم أن الثبوت للبعض أنما ينافي النفي عن كل فرد لا النفي عن المجموع. وقوله: قد كان بعض ذلك، موجبة جزئية ونقيضها السالبة الكلية، ولولا أن ذا اليدين فهم السلب الكلي لما ذكر في مقابلته الإيجاب الجزئي. (فقال) أي ذو اليدين. (قد كان بعض ذلك) يعني قصرت الصلاة، ولكن لا أدري قصرتها سهواً أو أمر الله تعالى بقصرها، قاله القاري. واعلم أن حديث ذي اليدين هذا فيه فوائد كثيرة وقواعد مهمة: منها جواز النسيان في الأفعال والعبادات على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأنهم لا يقرون عليه. ومنها أن الواحد إذا ادعى شيئاً جرى بحضرة جمع كثير لا يخفى عليهم سئلوا، ولا يعمل بقوله من غير سؤال. ومنها إثبات سجود السهو، وأنه سجدتان، وأنه يكبر لكل واحد منهما، وأنهما على هيئة سجود الصلاة، وأنه يسلم من سجود السهو. ومنها جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهواً وإن طال زمن الفصل. ومنها أن الباني لا يحتاج إلى تكبيرة الإحرام، وأن السلام ونية الخروج من الصلاة سهواً لا يقطع الصلاة. ومنها أنه يرجع الإمام لقول المأمومين إذا شك. ومنها جواز التقليب الذي سبيله التعريف دون التهجين. ومنها أن سجود السهو لا يتكرر بتكرر السهو، ولو اختلف الجنس؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - سلم وتكلم ومشى ناسياً ولم يسجد إلا سجدتين. وروى ابن أبي شيبة عن النخعي والشعبي: أن لكل سهو سجدتين، وورد على وفقه حديث ثوبان عند أحمد وأبي داود والبيهقي (ج2: ص337) . وحمل على أن معناه من سها بأي سهو كان شرع له السجود، أي لا يختص بالمواضع التي سها فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بالأنواع التي سها بها. فالحديث سيق للعموم لكل ساه لا لتعدد السجود عند تعدد مقتضيه. وروى البيهقي (ج2: ص346) من حديث عائشة سجدتا السهو تجزءان من كل زيادة ونقصان. ومنها أن من ظن أنه فعل شيئاً فقال فعلته أو قال: ما فعلته، وفي ظنه(3/417)
أنه لم يفعل، ثم تبين خلاف ما ظن لم يأثم؛ لأنه عليه السلام قال كل ذلك لم يكن وقد كان السهو. ومنها أن العمل الكثير والخطوات إذا كانت في الصلاة سهواً أو مع ظن التمام لا تفسد بها الصلاة، فإن في رواية: أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى منزله. وفي أخرى: يجر رداءه مغضباً. وفي أخرى: أنه مشى إلى الجذع، واستند إليه، وخرج السرعان. وفي أخرى: دخل الحجرة ثم خرج ورجع الناس وبني على صلاته. قال النووي: الحكم ببطلانها بما ذكر من الأفعال في حديث ذي اليدين مشكل، وتأويل الحديث صعب على من أبطلها - انتهى. ومنها أن من تحول عن القبلة سهواً لم تكن عليه الإعادة. ومنها أن الكلام سهواً، أو على ظن تمام الصلاة، لا يقطع الصلاة، خلافاً للحنفية. قالوا: إن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة. وفيه أن هذا مبني على قول الزهري: إنها قبل بدر. وقد قدمنا أنه إما وهم في ذلك أو تعددت القصة لذي الشمالين المقتول ببدر، ولذي اليدين الذي تأخرت وفاته بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة، كما تقدم، وشهدها عمران بن حصين، وإسلامه متأخر أيضاً. وروى معاوية بن حديج قصة أخرى في السهو، أي في صلاة المغرب، ووقع فيها الكلام ثم البناء، أخرجها أبوداود وابن خزيمة وغيرهما، وكان إسلامه قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهرين. قال السندي: من يقول بإبطال الكلام للصلاة مطلقاً يحمل الحديث على أنه قبل نسخ إباحة الكلام في الصلاة، لكن يشكل عليه أن النسخ كان قبل بدر، وهذه الواقعة قد حضرها أبوهريرة وكان إسلامه أيام خيبر. وقال صاحب البحر من علمائنا الحنفية: ولم أر لهذا إلا يراد جواباً شافياً - انتهى. وأما ما روى الطحاوي عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذي اليدين، فقال: كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين. ففيه: أن هذه الرواية ضعيفة منكرة مخالفة لروايات الصحيحين، تفرد بها عبد الله بن عمر بن حفص العمري، وهو ضعيف، كما في التقريب. وقال الذهبي: صدوق في حفظه شيء. وأما ما قيل: أن عمر كان حاضراً في حادثة ذي اليدين، وقد حدث به مثل تلك الحادثة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، وفعل فيها بخلاف ما عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذي اليدين، مع أنه كان حاضراً في قصته. وهذا يدل على أن قصة ذي اليدين كانت حين الكلام مباحاً في الصلاة، أخرج الطحاوي في معاني الآثار بإسناده عن عطاء قال: صلى عمر بن الخطاب بأصحابه فسلم في الركعتين، ثم انصرف، فقيل له في ذلك، فقال: إني جهزت عيراً من العراق بأحمالها وأحقابها حتى وردت المدينة، فصلى بهم أربع ركعات. ففيه أن رواية الطحاوي هذه مرسلة، ومع ذلك ضعيفة جداً؛ لأن مرسل عطاء أضعف المراسيل. قال أحمد: ليس في المرسل أضعف من مرسل الحسن وعطاء، يأخذان عن كل أحد - انتهى. فمرسل عطاء هذا لا يصلح للاستدلال، على أن قصة ذي اليدين كانت حين كان الكلام مباحاً. على أنه يحتمل أن عمر كان إذ ذاك قد ذهل عن قصة(3/418)
1026- (6) وعن عبد الله بن بحينة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى بهم الظهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذي اليدين، كما كان قد ذهل عن قصة التيمم، ولم يتذكر بتذكير عمار مع أنه حضر معه تلك القصة. وأيضاً يحتمل أن عمر كان يرى أن من حدث به هذه الحادثة فله أن يستأنف الصلاة، وله أن يبني ولم ير ما فعله - صلى الله عليه وسلم - واجباً، فإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. وقد بسط شيخنا الكلام في هذا الباب في أبكار المنن (ص247- 257) فعليك أن تطالعه. وأما ما توهم بعضهم أن حديث ذي اليدين مخالف لقول زيد بن أرقم: نهينا عن الكلام، فيحمل قصة ذي اليدين على أنها كانت قبل النهي والنسخ. ففيه أنه لا معارضة بينهما؛ لأن قول زيد بن أرقم عام يشمل كل نوع من الكلام، وحديث ذي اليدين خاص، كما لا يخفى ولا معارضة بين العام والخاص. قال ابن بطال: يحتمل أن يكون قول زيد بن أرقم ونهينا عن الكلام أي إلا إذا وقع سهواً وعمداً لمصلحة الصلاة فلا يعارض قصة ذي اليدين - انتهى. ومنها أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، وهو المشهور من مذهب مالك والأوزاعي أن التكلم عمداً على جهة إصلاح الصلاة وبيانها لا يفسدها، وهو رواية عن أحمد. وأجاب من لم يقل بذلك بأن كلامهم كان جواباً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وجوابه لا يقطع الصلاة. وتعقب بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة. وأجيب بأنه ثبت مخاطبته في التشهد، وهو حي بقولهم: السلام عليك أيها النبي، ولم تفسد الصلاة. والظاهر أن ذلك من خصائصه. ويحتمل أن يقال ما دام النبي - صلى الله عليه وسلم - يراجع المصلي فجائز له جوابه حتى تنقضي المراجعة، فلا يختص الجواز بالجواب لقول ذي اليدين: بلى قد نسيت، ولم تبطل صلاته. قلت الخصوصية لا تثبت بالادعاء والاحتمال، وأيضاً ما الجواب عن قول سرعان الناس: قصرت الصلاة، فاته لم يكن خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا جواباً له. والحق أن الحديث مشكل على المالكية أيضاً، والجواب عما ذكر في رواياته وطرقه من الأفعال والأقوال صعب على أصحاب المذاهب الأربعة، كما لا يخفى على من له وقوف على مذاهبهم، ولا عذر عندنا عن العمل بما ورد في الحديث لمن يتفق له مثل ذلك. وما أحسن كلام صاحب المنار حيث قال بعد الرد على من ادعى نسخه ما نصه: وأنا أقول أرجو الله للعبد إذا لقي الله عاملاً بذلك أن يثبته في الجواب بقوله صح لي ذلك عن رسولك، ولم أجد ما يمنعه، وأن ينجو بذلك ويثاب على العمل به، وأخاف على المتكلفين وعلى المجبرين على الخروج من الصلاة للاستئناف، فإنه ليس بأحوط، كما ترى؛ لأن الخروج بغير دليل ممنوع وإبطال للعمل - انتهى.
1026- قوله: (وعن عبد الله بن بحينة) هو عبد الله بن مالك بن القشب الأسدي أو الأزدي من أزد شنوءة، وأما بحينة فهي أمه، فاسم أبيه مالك، واسم أمه بحينة - مصغراً - بنت الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف. قيل: فينبغي كتابة ابن بحينة بالألف لئلا يلتبس بالأب، وإذا نسب إليهما، وكتب عبد الله بن مالك بن بحينة(3/419)
فقام في الركعتين الأوليين لم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة. وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ينبغي أن يكتب ألف ابن وينوّن مالك ليندفع الوهم، ويعرف أن ابن بحينة نعت لعبد الله لا لمالك. وينبغي أن يحفظ هذا الأصل، فيحتاج إليه في أسماء كثيرة مثل محمد بن علي ابن الحنفية، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية وغير ذلك. وعبد الله هذا صحابي مشهور. أسلم قديماً، كان ناسكاً فاضلاً صائم الدهر، وأمه بحينة أيضاً صحابية أسلمت وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأطعمها من خيبر ثلاثين وسقاً، قال في الإصابة: كان عبد الله ينزل ببطن ريم على ثلاثين ميلاً من المدينة، ومات به في إمارة مروان الأخيرة على المدينة، وأرخه ابن زبير سنة ست وخمسين. (فقام في الركعتين الأوليين) بالمثناتين التحتيتين يعني أنه قام إلى الركعة الثالثة حال كونه. (لم يجلس) أي عقب الركعتين للتشهد. ووقع في رواية ابن عساكر: ولم يجلس بزيادة الواو. وفي صحيح مسلم فلم يجلس بالفاء، وكذا في رواية للبخاري. وزاد في رواية ابن خزيمة: فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته. وفي حديث معاوية عند النسائي والبيهقي وعقبة بن عامر عند الحاكم والبيهقي جميعاً نحو هذه القصة بهذه الزيادة. وفيه دليل على أن تارك الجلوس الأول إذا قام لا يرجع له. (فقام الناس معه) إلى الثالثة اتباعاً لفعله - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليل على وجوب متابعة الإمام حيث تركوا القعود الأول وتشهده. (حتى إذا قضى الصلاة) أي فرغ منها، وقد استدل به لمن زعم أن السلام ليس من الصلاة حتى لو أحدث بعد أن جلس، وقبل أن يسلم تمت صلوته. وهو قول بعض الصحابة والتابعين، وبه قال أبوحنيفة، كما تقدم. وتعقب بأن السلام لما كان لتحليل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه إليه كمن فرغ من صلاته. ويدل على ذلك قوله في رواية ابن ماجه من طريق جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد عن الأعرج: حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم، فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه. والزيادة من الحافظ مقبولة، كذا في الفتح. وقيل: معناه قارب الفراغ من الصلاة. وقال الباجي: ويحتمل أن يراد بالصلاة الدعاء والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون لفظ: "قضى" على حقيقته - انتهى. (كبر وهو جالس) جملة حالية. (فسجد سجدتين) أي للسهو بعد التشهد. (قبل أن يسلم) وفي رواية: كبر قبل التسليم فسجد سجدتين، وهو جالس، أي أنشأ السجود جالساً. فهي جملة حالية. وفي أخرى لهما: يكبر في كل سجدة. وعند أحمد: فكبر فسجد، ثم كبر فسجد ثم سلم، قال الحافظ في الفتح: وفي رواية الأوزاعي فكبر ثم سجد، ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فرفع رأسه ثم سلم. أخرجه ابن ماجه. واستدل به على مشروعية التكبير في سجدتي السهو والجهر به، كما في غيرهما من سجود الصلاة وأن بينهما جلسة فاصلة. (ثم سلم) بعد ذلك للانصراف من الصلاة. واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام. ولا حجة فيه في كون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية، وتقدم ذكر مستندهم،(3/420)
متفق عليه.
{الفصل الثاني}
1027- (7) عن عمران بن حصين: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وما هو الأرجح في ذلك. وزاد في رواية للبخاري: وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس. وكأنه عرف الصحابي ذلك من قرينة الحال. وفي هذه الزيادة فوائد: منها أن السجود خاص بالسهو، فلو تعمد ترك شيء مما يجبر بسجود السهو لا يسجد. وهو قول الجمهور، ورجحه الغزالي، وناس من الشافعية. ومنها أن المأموم يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يسه المأموم. ونقل ابن حزم فيه الإجماع. وأما إذا سها المأموم دون إمامه فلا سجود عليه في قول عامة أهل العلم، كما في المغني (ج1: ص699) . ومنها أن السجود إنما هو لأجل ترك الجلوس لا لترك التشهد، حتى لو أنه جلس مقدار التشهد، ولم يتشهد لا يسجد. وجزم أصحاب الشافعي وغيرهم أنه يسجد لترك التشهد وإن أتى بالجلوس. والحديث فيه دليل على أن الجلوس الأول والتشهد فيه ليس بفرض؛ لأنه لو كان فرضاً لبطلت الصلاة بتركه، ولم يجبر بالسجود. ولم يكن بد من الإتيان به، كسائر الفروض، فجبرانه بالسجود عند تركه دل على عدم فرضيته، ولما احتاج إلى الجبران ظهر أنه مهم، وليس كالسنة التي لا يجب بتركها شيء، فإذا هو فوق السنة ودون الفرض، وهو المراد بالواجب عند من يقول به. والله اعلم. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب من لم ير التشهد الأول واجباً. والحديث أخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.
1027- قوله: (عن عمران بن حصين) بضم الحاء المهملة، ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبونجيد، أسلم عام خيبر، وصحب وغزا عدة غزوات، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح. قال ابن عبد البر: كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول عنه أهل البصرة إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى، أي قبل وفاته بسنتين، وكان قد اعتزل الفتنة، فلم يقاتل فيها، وقال أبونعيم: كان مجاب الدعوة. وتقدم شيء من ترجمته في باب الإيمان بالقدر. (فسجد سجدتين) أي بعد ما سلم، كما يشهد له حديثه الآتي. (ثم تشهد) المراد به التشهد المعهود في الصلاة. (ثم سلم) فيه دليل على مشروعية التشهد بعد سجدتي السهو. واختلف العلماء فيه: فقال أنس والحسن وعطاء: ليس فيهما تشهد ولا تسليم. وقال ابن سيرين وابن المنذر: فيهما تسليم بغير تشهد. قال ابن المنذر التسليم فيهما ثابت من غير وجه، وفي ثبوت التشهد نظر. وروى عن عطاء: إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل. وروى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه قال: أحب إليّ أن يتشهد فيهما. وحكى ابن عبد البر(3/421)
رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن غريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن يزيد بن قسيط أنه يتشهد بعدهما ولا يسلم. ورواه أيضاً عن النخعي وغيره. وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه إذا كان سجود السهو قبل السلام سلم عقبه، ولا يعيد التشهد، يعني أنه أجزأه التشهد الأول، ولم يحتج إلى إعادته بعد سجود السهو، واختلف فيه القول عن مالك. وأما إذا سجدهما بعد السلام فذهب الأئمة الأربعة إلى أنه يتشهد ثم يسلم، كما يظهر من كتب الفروع. والراجح عندنا: أنه مخير في التشهد إن شاء تشهد بعدهما وإن شاء لم يتشهد. وأما التسليم فلا بد منه، والله اعلم. (رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب) وأخرجه أيضاً أبوداود وابن حبان والحاكم (ج1: ص323) والبيهقي (ج2: ص355) وأخرجه النسائي بدون ذكر التشهد كلهم من رواية أشعث عن ابن سيرين عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين. وقد سكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. قال الحافظ في الفتح بعد نقل تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم: وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما. ووهموا رواية أشعث لمخالفة غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فإن المحفوظ عن ابن سيرين في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد. وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضاً في هذه القصة. (أي في قصة ذي اليدين المتقدمة) قلت: لابن سيرين فالتشهد؟ قال لم أسمع في التشهد شيئاً. وقد تقدم من طريق ابن عون عن ابن سيرين، قال: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم. وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد في حديث عمران. (يعني الذي يأتي في الفصل الثالث) ليس فيه ذكر التشهد كما أخرجه مسلم، فصارت زيادة أشعث شاذة. ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت، لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي. وفي إسنادهما ضعف. فقد يقال: إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن. قال العلائي: وليس ذلك ببعيد. وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله، أخرجه ابن أبي شيبة - انتهى. قلت: حديث ابن مسعود عند أبي داود والنسائي والبيهقي (ج2: ص356وص336) من طريق خصيف عن أبي عبيدة عن أبيه عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً بلفظ: إذا كنت في صلاة، فشككت في ثلاث أو أربع، وأكبر ظنك على أربع، تشهدت ثم سجدت سجدتين، وأنت جالس قبل أن تسلم. ثم تشهدت أيضاً، ثم تسلم. قال البيهقي في المعرفة: حديث مختلف في رفعه. وخصيف غير قوي. وأبوعبيدة عن أبيه مرسل، أي منقطع؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع عن أبيه عبد الله بن مسعود. ولفظ المغيرة عند البيهقي (ج2: ص355) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تشهد بعد أن رفع رأسه من سجدتي السهو. قال البيهقي: تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن الشعبي. ولا حجة فيما تفرد به لسوء حفظه وكثرة خطئه في الروايات - انتهى.(3/422)
1028- (8) وعن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام الإمام في الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائماً فليجلس، وإن استوى قائماً فلا يجلس، ويسجد سجدتي السهو)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1028- قوله: (إذا قام الإمام) أي شرع في القيام وفي معناه المنفرد. (في الركعتين) أي بعدهما من الثلاثية أو الرباعية قبل أن يقعد ويتشهد. (فإن ذكر) أي تذكر أن عليه بقية من الصلاة. (قبل أن يستوي قائماً) سواء يكون إلى القيام أقرب أو إلى القعود. قال القاري: وهو ظاهر الرواية، واختاره ابن الهمام، ويؤيده الحديث - انتهى. ومقابله ما في الهداية إن كان إلى القعود أقرب عاد، ولو إلى القيام فلا - انتهى. قلت: أخرج هذا الحديث أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي بألفاظ متقاربة. وليس فيها ما يدل على هذا التفصيل. فالصحيح هو الأول. وهو المختار عند الحنفية. (فليجلس) أي ليأتي بالتشهد الأول: زاد في رواية الدارقطني: ولا سهو عليه. وقد تمسك بها من قال إن سجود السهو إأنما هو لفوات التشهد الأول لا لفعل القيام. وإلى ذلك ذهب النخعي والأسود وعلقمة والشافعي في أحد قوليه. وذهب أحمد إلى أنه يجب السجود للسهو لفعل القيام؛ لما روي عن أنس أنه تحرك للقيام من الركعتين الأخريين من العصر على جهة السهو فسبحوا، فقعد ثم سجد للسهو. أخرجه البيهقي والدارقطني موقوفاً عليه إلا أن في بعض طرقه أنه قال: هذه السنة. قال الحافظ: ورجاله ثقات. وقد رجح حديث المغيرة لكونه مرفوعاً، ولأنه يؤيده حديث ابن عمر مرفوعاً: لا سهو إلا في قيام عن جلوس، أو جلوس عن قيام. أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي (ج2: ص345) وفيه ضعف. وقال ابن حجر: وظاهر الحديث أن قوله الآتي: ويسجد سجدتي السهو خاص بالقسم الثاني، فلا يسجد هنا للسهو. وإن كان إلى القيام أقرب، وهو الأصح عند جمهور أصحابنا، وصححه النووي في عدة من كتبه - انتهى. قلت: واختلف فيه فقهاء الحنفية أيضاً، والأصح هو عدم وجوب السجود؛ لأن فعله لم يعد قياماً، فكان قعوداً، كذا في شرح المنية. (وإن استوى قائماً) ولفظ أحمد وابن ماجه: وإن استتم قائماً. (فلا يجلس) لتلبسه بفرض، فلا يقطعه. (ويسجد) بالرفع. (سجدتي السهو) لتركه واجباً، وهو القعدة الأولى. وفي الحديث أنه لا يجوز العود إلى القعود، والتشهد بعد الانتصاب الكامل؛ لأنه قد تلبس بالفرض، فلا يقطعه لأجل ما ليس بفرض، ثم إذا رجع بعد استوائه قائماً هل تفسد صلاته؟ مختلف عند الأئمة. قال الحافظ في الفتح: فمن سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به - صلى الله عليه وسلم -، فلم يرجع. فلو تعمد المصلي الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعي خلافاً للجمهور - انتهى. واختلف فيه الحنفية. والراجح عندهم عدم الفساد، كما في الدر المختار. وقال الشوكاني: فإن عاد عالماً بالتحريم بطلت صلاته لظاهر النهي، ولأنه زاد قعوداً، وهذا إذا تعمد العود، فإن عاد(3/423)
رواه أبوداود وابن ماجه.
{الفصل الثالث}
1029- (9) عن عمران بن حصين: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر وسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله. فقام إليه رجل يقال له الخرباق،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ناسياً لم تبطل صلاته - انتهى. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص253، 254) والدارقطني والبيهقي (ج2: ص343) ومداره في جميع طرقه على جابر الجعفي، وهو ضعيف جداً. وقد قال أبوداود: ليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث. وقال المنذري: في إسناده جابر الجعفي، ولا يحتج به- انتهى. وأخرج أحمد (ج4: ص247- 253) والترمذي وصححه وأبوداود والبيهقي (ج2: ص338) عن زياد بن علاقة، قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين قام. ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم أن قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين وسلم. ثم قال: هكذا صنع بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه البيهقي (ج2: ص344) أيضاً من طريق عامر عن المغيرة.
1029- قوله: (صلى العصر) وفي رواية الطحاوي: صلى بهم الظهر. وفي رواية لأحمد والبيهقي: صلى الظهر أو العصر بالشك. قلت: الجزم قاض على الشك. ثم رواية العصر أرجح لتوافق أكثر الروايات عليها، ولأنها مخرجة في صحيح مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه ومسند أحمد. (وسلم في ثلاث ركعات) وفي رواية معتمر عن خالد الحذاء عند أحمد (ج4: ص431) : صلى ثلاث ركعات فسلم. وفي رواية شعبة عن خالد عند أحمد أيضاً: صلى ثلاث ركعات ثم سلم. ولفظ الكتاب أصح وأرجح لتوافق أكثر الرواة عن خالد الحذاء عليه. وهم: إسماعيل بن علية عند مسلم وأحمد، وعبد الوهاب الثقفي عند مسلم أيضاً وابن ماجه والبيهقي، ويزيد بن زريع عند أبي داود والنسائي والبيهقي. ومسلمة بن محمد عند أبي داود. (ثم دخل منزله) وفي رواية فدخل الحجرة. فيه أن ترك استقبال القبلة والمشي الكثير سهواً لا يبطل الصلاة. (فقام إليه) أي في أثناء دخول منزله. (رجل يقال له الخرباق) بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء بعدها موحدة، وفي آخره قاف، اسمه. قال ابن حجر: أسلم في أواخر زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعاش حتى روى عنه متأخروا التابعين، وهو ذو اليدين السابق، كما قاله المحققون، وغير ذي الشمالين خلافاً لمن وهم فيه، كالزهري والطيبي هنا - انتهى. قلت: ما ذكره ابن حجر من أن الخرباق اسم ذي اليدين السابق هو صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران، وإلى توحيد الحديثين ذهب الأكثر، وهو الذي رجحه الحافظ، وعده من الحنفية السندي الأظهر، وصاحب فيض الباري الأصوب، وقواه النيموي في تعليق(3/424)
وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله! فذكر له صنيعه، فخرج غضبان يجر رداءه، حتى انتهى إلى الناس، فقال: أصدق هذا؟ قالوا: نعم. فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آثار السنن، وهو الظاهر عندي أيضاً، لكن الخرباق ذا اليدين السلمي هذا غير ذي الشمالين عمير بن عبد عمرو ابن نضلة الخزاعي المستشهد ببدر، لا كما زعمه الحنفية أنهما رجل واحد. (وكان في يديه طول) أي بالنسبة إلى سائر الناس، ولذا كان يقال له ذو اليدين. وفي رواية لمسلم: فقام رجل بسيط اليدين. (فذكر له صنيعه) أي من تسليمه في ثلاث ركعات، وأن ذلك هل هو لنسيان أو لقصر الصلاة. (فخرج) أي من منزله. (غضبان) لأمر. (يجر رداءه) أي مستعجلاً يعني لكثرة اشتغاله بشأن الصلاة خرج يجر رداءه، ولم يتمهل ليلبسه. (ثم سلم) أي للتحلل من الصلاة. (ثم سجد سجدتين) أي للسهو بعد السلام. (ثم سلم) لسجود السهو. هذا، وقد تقدم أنه ذهب الأكثر إلى أن حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وحديث عمران هذا قضية واحدة. وجنح ابن خزيمة ومن تبعه كالنووي وأبي حاتم بن حبان إلى التعدد. قال الحافظ في الفتح: والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين. ففي حديث أبي هريرة إن السلام وقع من اثنتين، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قام إلى خشبة في المسجد. وفي حديث عمران أنه سلم من ثلاث ركعات وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة. فأما الأول فقد حكى العلائي أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الركعة الثالثة. (يعني في إرادة ابتداء الثالثة) واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفي فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، واستفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة عن صحة قوله. وأما الثاني فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله لكون الخشبة كانت في جهة منزله. فإن كان كذلك، وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه، كما أخرجه الشافعي وأبوداود وابن ماجه وابن خزيمة، ولموافقة ذي اليدين نفسه له على سياقه كما أخرجه أبوبكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، وأبوبكر بن أبي حثمة وغيرهم. وقد تقدم ما يدل على أن محمد بن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة كان يرى التوحيد بينهما، وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة: نبئت أن عمران بن حصين قال: "ثم سلم" - انتهى كلام الحافظ. وقال السندي: في حاشية النسائي كلام المصنف يشير إلى أن الواقعة متحدة، وهو أظهر. وعلى هذا كونه سلم من ركعتين أو ثلاث، وكذا كونه دخل البيت أو قعد في ناحية المسجد وغير ذلك مما اشتبه على الرواة لطول الزمان. ويحتمل تعدد الواقعة. وقال في حاشية ابن ماجه: الظاهر أن اختلاف الرواية ليس محمله اختلاف الواقعة، بل محمله نسيان بعض الرواة بعض الكيفيات بمضي الأزمنة، وهم ما كانوا يكتبون الوقائع، بل كانوا يحفظونها بالقلب. وهذا غير مستبعد عند من تتبع الأحاديث. قلت: وذهب بعض العلماء إلى ترجيح حديث أبي هريرة على حديث عمران(3/425)
رواه مسلم.
1030- (10) وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلى صلاة يشك في النقصان، فليصل حتى يشك في الزيادة)) . رواه أحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما رأيت في كلام الحافظ. ولعل الإمام البخاري جنح إليه كما يفهم من صنيعه، حيث أخرج حديث أبي هريرة في صحيحه، وأعرض عن حديث عمران بن حصين. والله اعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص427- 431- 441) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والطحاوي والبيهقي. وفي الباب عن ابن عباس عند البزار والطبراني في الكبير. وفي سنده إسماعيل بن أبان الغنوي العامري، وهو متروك. وله حديث آخر عندهما أيضاً مختصر من الأول. وفي سنده جابر الجعفي وثقه شعبة والثوري وضعفه الناس، كذا في مجمع الزوائد (ج2: ص152) .
1030- قوله: (من صلى صلاة يشك في النقصان) يعني أنه يشك في الرباعية مثلاً بأنه صلى ثلاثاً أو أربعاً. (فليصل) أي فليبن على الأقل المتيقن، فيجعلها في الصورة المذكورة ثلاثاً ويصلي ركعة أخرى. (حتى يشك في الزيادة) أي يشك في أنه صلى أربعاً أو خمساً لاحتمال أن يكون قد صلى في الواقع أربعاً، وتكون التي زادها ركعة خامسة. فمن بني على الثلاث وصلى ركعة أخرى فهو يشك الآن أنها رابعة أو خامسة، وهذا هو المراد بالشك في الزيادة. والحاصل أن جعل الشك في جانب الزيادة أولى من جعله في جانب النقصان. (رواه أحمد) في (ج1: ص195) عن محمد بن يزيد عن إسماعيل بن مسلم المكي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أنه كان يذاكر عمر شأن الصلاة، فانتهى إليهم عبد الرحمن بن عوف، فقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: بلى، قال: فأشهد إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صلى. الحديث. وإسماعيل بن مسلم المكي ضعيف. وهذه الرواية من زيادات أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، راوي المسند عن عبد الله بن أحمد. قال القطيعي: قال أبوعبد الرحمن، يعني عبد الله بن أحمد. وجدت هذا الحديث في كتاب أبي بخط يده ثنا محمد بن يزيد الخ. وأخرجه أيضاً إسحاق بن راهوية والهيثم بن كليب في مسنديهما، والبيهقي في سننه (ج2: ص333- 346) بلفظ: إذا كان أحدكم في شك من النقصان في صلاته فليصل حتى يكون في شك من الزيادة، وفي إسنادهم أيضاً إسماعيل بن مسلم المكي. وهذا حديث مختصر من حديث طويل أخرجه أحمد (ج1: ص190) والترمذي وصححه. وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج2: ص332) من حديث كريب عن عبد الله بن عباس عن عبد الرحمن بن عوف. وقد ذكرنا لفظه في شرح حديث أبي هريرة أول أحاديث الفصل الأول(3/426)
(21) باب سجود القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من هذا الباب. قال الحافظ في التلخيص (ص113) بعد عزوه للترمذي وابن ماجه: هو حديث معلول، فإنه من رواية ابن إسحاق عن مكحول عن كريب. وقد رواه أحمد في مسنده (ج1: ص193) ، وكذا البيهقي (ج2: ص332) عن ابن علية عن ابن إسحاق عن مكحول مرسلاً. قال ابن إسحاق فلقيت حسين بن عبد الله، فقال لي هل أسنده لك؟ قلت: لا، فقال: لكنه حدثني أن كريباً حدثه به، وحسين ضعيف جداً. ورواه إسحاق ابن راهوية والهيثم بن كليب في مسنديهما من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس مختصراً فذكر لفظه، قال: وفي إسنادهما إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف، وتابعه بحر بن كنيز السقاء فيما ذكر الدارقطني في العلل. وذكر الاختلاف فيه أيضاً على ابن إسحاق في الوصل والإرسال - انتهى.
(باب سجود القرآن) أي سجدة التلاوة، وهي سنة مؤكدة عند الشافعية والحنابلة، وسنة أو فضيلة قولان مشهوران للمالكية، وواجبة عند أبي حنيفة. قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص656) : سجود التلاوة سنة مؤكدة، وليس بواجب عند إمامنا (أحمد) ومالك والأوزاعي والشافعي، وهو مذهب عمر وابنه عبد الله، وأوجبه أبوحنيفة وأصحابه - انتهى. واستدل أبوحنيفة على الوجوب بما روى مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار، قالوا الأصل أن الحكيم إذا ذكر من غير الحكيم كلاماً، ولم يعقبه بالإنكار دل ذلك على أنه صواب، فكان في الحديث دليل على كون ابن آدم مأمور بالسجود. ومطلق الأمر للوجوب، مع أن آي سجدة تفيده أيضاً؛ لأنها ثلاثة أقسام: 1- قسم فيه الأمر الصريح به كقوله: {فاسجدوا لله واعبدوا} [53: 62] . {واسجد واقترب} [96: 19] . 2- وقسم تضمن حكاية استنكاف الكفرة حيث أمروا به، وهو قوله: {فمالهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [84: 20، 21] وقوله: {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً} [25: 60] 3- وقسم فيه حكاية فعل الأنبياء السجود، والثناء على الذين يخرون سجداُ عند سماع كلامه، وكل من الامتثال ومخالفة الكفرة والاقتداء واجب إلا أن يدل دليل على عدم لزومه، لكن دلالتها ظنية، فكان الثابت الوجوب لا الفرض، كذا في البرهان، وفتح القدير وغيرهما. وأجيب بأن كون الأمر في الآيتين، وفي قول إبليس للوجوب ممنوع، بل هو محمول على الندب. والدليل على ذلك حديث زيد بن ثابت الآتي قال: قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {والنجم} ، فلم يسجد. والظاهر أن ترك السجدة حينئذٍ كان لبيان الجواز كما جزم به الشافعي في اختلاف الحديث؛ لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود ولو بعد ذلك. ويدل عليه أيضاً ما رواه أبوداود وابن خزيمة(3/427)
والحاكم من الحديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو على المنبر "ص" فلما بلغ السجدة نزل، فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود، فنزل فسجد وسجدوا. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. قال بعض الحنفية: إن ذلك إنما كان حين لا يرى السجدة عزمة في سورة "ص"، بل كانت رخصة إذ ذاك، فلما عزم الأمر تحتم بالسجود - انتهى. وفيه أن هذا يحتاج إلى دليل ولا يثبت بالادعاء شيء فهو مردود على قائله، وأيضاً لو كان كذلك لما قال ابن عباس بعده - صلى الله عليه وسلم -: ص ليس من عزائم السجود، ولما سكت الصحابة الحاضرون في خطبة عمر عن قوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولا نكروا على منعهم من السجدة. ويدل على كون الأمر للندب أيضاً ما قاله ابن رشد: اتبع مالك والشافعي في مفهوم الأوامر الصحابة، إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية، وذلك كما ثبت عن عمر بن الخطاب بمحضر الصحابة، فلم ينقل عن أحد منهم خلافه، وهم أفهم بمغزى الشرع. قلت: يشير بذلك إلى ما رواه البخاري والبيهقي والأثرم عن عمر: أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاءت السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر. وزاد نافع عن ابن عمر: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وفي رواية الأثرم: فقال على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، فقرأها ولم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا. وهذا حديث مرفوع خلافاً لظاهره الذي أشبه على العيني وأمثاله؛ لأن عمر حكى أن الله لم يفرض السجود علينا الخ. ويقول ذلك بحضرة كبار الصحابة، وهو لا يريد من هذا اللفظ أن هذا رأيه واستنباطه، كما هو بين بديهي. قال الكرماني: قوله من لم يسجد فلا إثم عليه، دليل صريح في عدم الوجوب، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً سكوتياً على ذلك، وهو حجة عند الحنفية، وكذا قوله، لم يفرض: دليل آخر، ثم عدم سجوده ومنعه الناس من السجدة دليل ثالث، وقوله إلا أن نشاء دليل رابع؛ لأنه يدل على أن المرأ مخير في السجود، والتخيير ينافي الوجوب. قال صاحب التوضيح: ترك عمر مع من حضر السجود ومنعه لهم دليل على عدم الوجوب. ولا إنكار ولا مخالف، ولا يجوز أن يكون عند بعضهم أنه واجب ويسكت عن الإنكار على غيره في قوله ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وقال الحافظ: استدل بقوله إلا أن نشاء، على أن المرأ مخير في السجود، فيكون ليس بواجب - انتهى. وأجاب بعض الحنفية عن مخالفة الإجماع السكوتي بأنه ضعيف؛ لأن إنكار المختلف فيه غير لازم، سيما إن كان قائله إماماً، وفيه أنه لم يرد عمر بقوله: إن الله لم يفرض السجود علينا، أن هذا رأيه واجتهاده واستنباطه. وأيضاً لم يثبت عن أحد الصحابة أنه كان يرى سجدة التلاوة واجبة، حتى يكون ذلك مسألة اجتهادية مختلفاً فيها بينهم، ولو سلم(3/428)
فلا يجوز أن يكون عند بعضهم واجباً، ويسكت عن الإنكار على غيره في قوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، وكانوا ينكرون في ترك المستحبات فضلاً عن الواجبات، ولم ينقل عن أحد من الصحابة خلاف قول عمر وفعله. وأجابوا عن قوله لم يفرض، على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب. وتعقب بأنه اصطلاح لهم حادث. وما كان الصحابة يفرقون بينهما. ويغني عن هذا قول عمر: ومن لم يسجد فلا إثم عليه. قال بعضهم يمكن أن يقال: إن النفي في قوله من لم يسجد فلا إثم عليه، راجع إلى القيد والمعنى أن السجدة ليست واجبة بعينها، فمن لم يسجد فلا إثم عليه؛ لأن الركوع أيضاً ينوب عنها، وحينئذٍ معنى قوله: إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء، أي لم يفرض علينا السجود بخصوصه، بل يكفي عنه الركوع أيضاً إلا أن نشاء السجدة فنأتي بها. ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، على أنه لم ينقل أن عمر ومن معه ركعوا في هذه الواقعة لتلاوة آية السجدة نيابة عن السجدة. وفيه أيضاً أن سجدة التلاوة سجود مشروع، فلا ينوب عنه الركوع كسجود الصلاة. وأما قوله تعالى. {وخر راكعاً وأناب} [24: 38] فالمراد به السجود؛ لأنه قال: "خر" ولا يقال للراكع "خر"، وإنما روي عن داود عليه السلام السجود لا الركوع إلا أنه عبر عنه بالركوع، وقال بعضهم أراد عمر بقوله: فلا إثم عليه، أنه ليس على الفور، فلا إثم بتأخيره عن وقت السماع، فلا يدل ذلك على عدم الوجوب. وفيه أن هذا باطل مردود على قائله؛ لأنه لا دليل على هذا التأويل ويدل على بطلانه أيضاً قوله: لم يسجد عمر، ومنعهم أن يسجدوا، وما قيل: إنه يحتمل أنه لم يسجد في ذلك الوقت لعارض مثل انتقاض الوضوء، أو يكون ذلك منه إشارة إلى أنه ليس على الفور. ففيه أن هذا أيضاً يحتاج إلى دليل ولا يكفي فيه الاحتمال. والظاهر بل المتعين أن عمر لم يسجد أصلاً لبيان أن سجدة التلاوة ليست بواجبة؛ لأنه لم يكن هناك عذر أو مصلحة في تأخيرها عن وقت التلاوة. قال صاحب العرف الشذي: وأما قول أن تأخير السجدة؛ لأن الأداء لا يجب على الفور فبعيد؛ لأنه لا عذر ولا نكتة لترك السجدة الآن بخلاف ما مر من واقعة النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وأجابوا عن قوله إلا أن نشاء بأن المعنى إلا أن نشاء قراءتها فيجب. ولا يخفى بعده بل يرده تصريح عمر بقوله: ومن لم يسجد فلا إثم عليه، فإن انتفاء الإثم عمن يترك الفعل مختاراً يدل على عدم وجوبه. والحق أن الاستدلال بحديث عمر على عدم وجوب السجدة، وعلى كون الأوامر للندب استدلال صحيح بين لا خفاء فيه. وليس عند الحنفية جواب شاف عنه. وقد أنصف صاحب فيض الباري. حيث قال قصة عمر هذه أقوى ما يمكن أن يحتج به على سنية السجود، فإنه تلا سورة النحل يوم الجمعة، فسجد لها مرة ثم لم يسجد لها في الجمعة التالية، ثم قال: إنما نمر بالسجود. فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه. وذلك بمحضر الصحابة ولم أر عنه جواباً شافياً بعد - انتهى. وأجيب عن الآية التي تدل على ذم الكفرة بتركهم السجدة بأن الذم فيها(3/429)
إنما يتعلق بترك السجود إباء وإنكاراً واستكباراً واستنكافاً، كما يدل عليه قوله تعالى. {وإذا قيل لهم أسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفوراً} [25: 60] . وكما قال إبليس: أمرت بالسجود فأبيت، فمعنى قوله: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [84: 21] أي إباء واستكباراً ونفوراً عن الطاعة. قال ابن قدامة في المغني: فأما الآية فإنه ذمهم لترك السجود غير معتقدين فضله ومشروعيته - انتهى. فمن ترك سجدة التلاوة معتقداً مشروعيته وفضله لكونه ليس بلازم عنده لا استكباراً واستنكافاً عنه لا يقال إنه لم يخالف الكفرة، فلا يتعلق به الذم الذي تعلق بهم. وقال صاحب فيض الباري: وللشافعية أن يقولوا إن الوعيد معقول على ترك المستحب إذا قارن تركه ترك الواجبات أيضاً. ألا ترى أنه ينكر على المعصية من طالح ما لا ينكر على تلك المعصية إذا كانت من صالح، فتلك المعصية وإن تذكر في السياق لكن تراعي عند الوعيد أفعاله الأخر أيضاً وحينئذٍ يمكن أن يكون الوعيد على تركهم سجود التلاوة في الذكر فقط. ويكون محطه تركهم السجود الصلوية أيضاً، والحاصل أن الوعيد وإن كان على ترك سجود التلاوة لكنه نظراً إلى تركهم السجود الصلوية أيضاً انتهى كلامه بلفظه. وقد تبين بفعله - صلى الله عليه وسلم - وحديث أبي سعيد وحديث عمر المذكورين، وقول ابن عباس: "ص" ليس من عزائم السجود، أن سجود التلاوة غير واجب، وفيه دلالة واضحة على أن اقتداء الأنبياء في ذلك ليس على سبيل الوجوب واللزوم. ومن الأدلة على أن سجود التلاوة ليس بواجب ما أشار إليه الطحاوي من أن الآيات التي في سجود التلاوة: منها ما هو بصيغة الخبر. ومنها ما هو بصيغة الأمر. وقد وقع الخلاف في التي بصيغة الأمر هل هي فيها سجود أو لا. وهي ثانية الحج، وخاتمة النجم، واقرأ. فلو كان سجود التلاوة واجباً لكان ما ورد بصيغة الأمر أولى أن يتفق على السجود فيه ما ورد بصيغة الخبر- انتهى. واختلفوا في مواضع السجود، وفي أنه هل يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة وغيرها. أما الأول، فسيأتي الكلام فيه في شرح حديث عمرو بن العاص في الفصل الثاني: وأما الثاني فذهب الجمهور إلى أنه يشترط فيه ما يشترط في الصلاة. وقال جماعة: لا يشترط، منهم ابن عمر والشعبي وأبوعبد الرحمن السلمي. قال البخاري في صحيحه: كان ابن عمر يسجد على غير وضوء. وفي مسند ابن أبي شيبة كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيهريق الماء: ثم يركب، فيقرأ السجدة فيسجد وما يتوضأ، ووافقه الشعبي على ذلك، وأخرج عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كان يقرأ السجدة ثم يسجد وهو على غير وضوء إلى غير القبلة، وهو يمشي يومئ إيماء. وروى البيهقي (ج2 ص325) عن ابن عمر أنه لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر، وجمع بين قوله وفعله بأنه أراد بقوله طاهر الطهارة الكبرى، أو الثاني على حالة الاختيار، والأول على الضرورة، أو الثاني على الأولوية، والأول على الجواز والإباحة. وروى عثمان بن عفان في الحائض تسمع السجدة تومئ برأسها، وبه قال سعيد بن المسيب، قال:(3/430)
{الفصل الأول}
1031- (1) عن ابن عباس، قال: ((سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم، وسجد معه المسلمون، والمشركون،
والجن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويقول اللهم: لك سجدت. ذكره ابن قدامة. قال الأمير اليماني الأصل أنه لا يشترط الطهارة إلا بدليل. وأدلة وجوب الطهارة وردت للصلاة والسجدة فيها، فلا تشمل السجدة الفردة- انتهى. وقال الشوكاني ما ملخصه: ليس في أحاديث سجود التلاوة ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد متوضئاً، وهكذا ليس في الأحاديث ما يدل على اعتبار طهارة الثياب والمكان. وأما ستر العورة واستقبال القبلة مع الإمكان، فقيل إنه معتبر اتفاقاً- انتهى. وقال ابن حزم في المحلى (ج1 ص80) : السجود في القرآن ليس ركعة، أو ركعتين، فليس صلاة، وإذا كان ليس صلاة فهو جائز بلا وضوء، وللجنب والحائض وإلى غير القبلة كسائر الذكر. ولا فرق إذ لا يلزم الوضوء إلا للصلاة، ولم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، فإن قيل: السجود من الصلاة وبعض الصلاة صلاة. قلنا: والتكبير بعض الصلاة. والجلوس والقيام والسلام بعض الصلاة، فهل يلتزمون أن لا يفعل أحد شيئاً من هذه الأقوال والأفعال إلا وهو على وضوء؟ لا يقولونه ولا يقوله أحد- انتهى. قلت: عدم الاشتراط هو الأرجح والأقوى عندي، لكن الأحوط في العمل هو ما روي عن ابن عمر أنه لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر.
1031- قوله: (عن ابن عباس قال: سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم) أي بسورتها. زاد الطبراني في الأوسط: بمكة. فأفاد أن قصة ابن مسعود الآتية في الفصل الثالث. وقصة ابن عباس هذه متحدة، وإنما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه السجدة امتثالاً لأمر الله سبحانه بالسجود، وشكراً للنعم العظيمة المعدودة في أول السورة من أنه لا ينطق عن الهوى، وقربه من الله تعالى، وأراءته إياه من آياته الكبرى. وفيه دليل على مشروعية السجدة في المفصل، خلافاً لمالك في ظاهر الرواية عنه. (وسجد معه المسلمون) متابعة له - صلى الله عليه وسلم - في امتثال الأمر وإتيان الشكر. (والمشركون) أي الذين كانوا عنده. قال النووي: إنه محمول على من كان حاضراً قراءته. وفيه مشروعية السجود لمن حضر عند القاري للآية التي فيها السجدة. وإنما سجد المشركون لاستماع أسماء آلهتهم من اللات والعزى ومنات. أو لما ظهر من سطوة سلطان العز والجبروت وسطوع الأنوار والكبرياء من توحيد الله عزوجل، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق لهم شك ولا اختيار ولا أثر جحود واستكبار إلا من أشقى القوم وأطغاهم وأعتاهم، وهو الذي أخذ كفاً من الحصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا. وسيأتي مزيد الكلام فيه. (والجن) كان ابن عباس استند في ذلك إلى أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - إما مشافهة له وإما بواسطة؛ لأنه لم يحضر القصة لصغره. وأيضاً(3/431)
والإنس)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فهو من الأمور التي لا يطلع الإنسان عليها إلا بتوقيف، وتجويز أنه كشف له عن ذلك بعيد؛ لأنه لم يحضرها قطعاً، قاله الحافظ. وقال شيخه العراقي: الظاهر أن الحديث من مراسيل ابن عباس عن الصحابة، وإنه لم يشهد تلك القصة، خصوصاً إن كانت قبل فرض الصلاة، ومراسيل الصحابة مقبولة على الصحيح. والظاهر أن ابن عباس سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث به. (والإنس) إجمال بعد تفصيل نحو قوله تعالى: {تلك عشرة كاملة} [2: 196] قاله الكرماني. وزاد صاحب اللامع الصبيح: أو تفصيل بعد إجمال؛ لأن كلاً من المسلمين والمشركين شامل للإنس والجن. قال الكرماني: سجد المشركون مع المسلمين؛ لأنها أول سجدة نزلت، فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم، أو وقع ذلك منهم بلا قصد، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم- انتهى. وفي هذا الأخير نظر؛ لأن المسلمين حينئذٍ هم الذين كانوا خائفين من المشركين لا العكس، وقد ذكر المفسرون في هذه القصة. في تفسير قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} الآية [22: 52] . أنه جرى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - من قبل الشيطان الكلمات المشهورة، وهي: تلك الغرانيق (1) العلى. وإن شفاعتهن لترتجى، فلذلك سجد المشركون معه حيث زعموا أنه لا اختلاف بعد ذلك بيننا وبينه؛ لأنه يثني على آلهتنا، لكن لا أصل لهذه القصة عند المحدثين، بل الحق أن هذه الكلمات ما جرت على لسانه عليه السلام، والقصة موضوعة كما قال الذهبي وغيره من المحدثين. وكيف يظن مثل هذا بأكرم الرسل خير المخلوقات أنه تسلط عليه الشيطان. حاشا جنابه عن نسبة أمثال هذه الواهيات، ثم حاشا هذا، وقد قال تعالى في حق عامة الصلحاء: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [15: 42] . فأفاد نفيه بكل الوجوه، فما ظنك بسيد البشر والشفيع المشفع في المحشر، بل الحق أن المشركين إنما سجدوا لغلبة جلاله وجبروته عليه السلام، وسماع المواعظ البليغة في القرآن، فاضطروا إلى السجود ولم يبق اختيارهم في أيديهم. وكيف يستبعد ذلك، وقد قال الله تعالى: {كلما أضاء لهم مشوا فيه} [2: 20] وقال: {وجحدوا واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} [27: 14] . كذا في شرح تراجم أبواب صحيح البخاري للشاه ولي الله الدهلوي. قلت: جميع ما يذكر من الروايات في قصة الغرانيق إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها، كما قال البزار والبيهقي وابن خزيمة وابن كثير وغيرهم. فالحق أن هذه القصة مكذوبة باطلة لا يصح فيها شيء من جهة النقل، لأنه لم يروها أحد من أهل الصحة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل، وإنما رواها المفسرون والمؤرخون والمولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم. وقد دل على عدم ثبوت لهذه القصة اضطراب رواتها، وانقطاع سندها، واختلاف ألفاظها. والذي جاء في الصحيح من حديث ابن مسعود عند الشيخين، وحديث ابن
__________
(1) الغرانيق - بفتح الغين المعجمة - طيور الماء، شبهت الأصنام المعتقدون فيها أنه تشفع لهم بالطيور تعلو في السماء وترفع.(3/432)
عباس هذا لم يذكر فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها. والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة فقد رواه عنه الكلبي، وهو ضعيف جداً، بل متروك لا يعتمد عليه. وكذا أخرجه النحاس بسند آخر، فيه الواقدي. ولا يصح من جهة العقل أيضاً؛ لأن مدح إله غير الله تعالى كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن جوّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان، ولو جوز ذلك لارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، أي مما ألقاه الشيطان على لسانه. ويبطل قوله: {بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [5: 67] ، فإنه لا فرق عند العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه، هذا وقد حاول الحافظ في الفتح: أن يدعي أن للقصة أصلاً حيث قال بعد ذكر طرق عديدة لها أن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً، قال وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، قال وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لترتجى، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاءته من التوحيد لمكان عصمته، ثم ذكر تأويلات للعلماء، ورد على كل واحد منها إلا تأويلاً واحداً، فأقره وجعله أحسن الوجوه، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل القرآن، فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات، ونطق بتلك الكلمات محاكياً نغمته، بحيث سمعه من دنا إليه، فظنها من قوله وأشاعها. قلت. في هذا التأويل أيضاً نظر، فإن جواز ذلك أيضاً يخل بالوثوق بالقرآن، ويرفع الاعتماد على قوله عليه السلام والأمان من شرعه؛ لاحتمال أن يكون ذلك مما نطق به الشيطان في سكتة من سكتاته عليه السلام، محاكياً نغمته وصوته بحيث سمعه من دنا إليه، فظنه من قوله وأشاعه. وأما قوله: إن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها الخ. ففيه أن هذا ليس قاعدة كلية. قال الزيلعي في نصب الراية (ج ص) : وكم من حديث كثرت رواته وتعددت طرقه، وهو حديث ضعيف، كحديث الطير، وحديث الحاجم والمحجوم، وحديث: من كنت مولاه فعليّ مولاه، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفاً- انتهى كلام الزيلعي. واختلفوا في تفسير قوله تعالى في سورة الحج: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته والله عليم حكيم. ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} ، ومن أحسن ما قيل فيه: هو أن الله تعالى ما أرسل رسولاً ولا نبياً من الأنبياء إلى أمة من الأمم إلا وذلك الرسول يتمنى الإيمان لأمته، ويحبه لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ(3/433)
رواه البخاري.
1032- (2) وعن أبي هريرة، قال: ((سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في: {إذا السماء انشقت} و. {اقرأ باسم ربك}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويرغب فيه ويحرص عليه غاية الحرص، ويعالجهم أشد المعالجة في ذلك. ومن جملتهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي خاطبه الله تعالى بقوله: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [18: 6] وبقوله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [12: 103] ، وبقوله: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [10: 99] ، ثم الأمة تختلف كما قال تعالى: {ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [2: 253] ، فمن كفر فقد ألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة في الرسالة والنبوة الموجبة لكفره، وكذا المؤمن أيضاً لا يخلو عن وساوس؛ لأنها لازمة للإيمان بالغيب في الغالب، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة، وبحسب التعلقات. إذا تقرر هذا فمعنى تمنى أنه يتمنى الإيمان لأمته ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح، فهذه هي أمنية كل رسول ونبي، وإلقاء الشيطان فيها يكون بما يلقيه في قلوب أمة الدعوة من الوساوس الموجبة لكفر بعضهم، ثم يرحمهم الله فينسخ ذلك من قلوب المؤمنين، ويحكم فيها الآيات الدالة على الوحدانية والرسالة، ويبقى ذلك في قلوب المنافقين والكافرين، فيفتتنوا به، فخرج من هذا أن الوساوس تلقى أولاً في قلوب الفريقين معاً، غير أنها لا تستمر في قلوب المؤمنين ولا تبقى بل تزول وتنمحى بخلاف المنافقين والكافرين، فإنها تدوم وترسخ في قلوبهم. والله أعلم. وقد بسط العلامة الآلوسي الكلام في تفسير هذه الآية في روح المعاني (ج17 ص172-186) وأجاد فعليك أن تراجعه. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والبيهقي (ج2 ص314) .
1032- قوله: (سجدنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في {إذا السماء انشقت} ، و {إقرا باسم ربك} ) هما من المفصل فهو دليل صريح في ثبوت السجود في المفصل مثل الحديث السابق. وشرح الموطأ للزرقاني قال بالسجود في المفصل الخلفاء الأربعة والأئمة الثلاثة وجماعة. ورواه ابن وهب عن مالك وروى عنه ابن القاسم. والجمهور أن لا سجود فيها؛ لأن أبا سلمة قال لأبي هريرة لقد سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها، فدل هذا على أن الناس تركوه وجرى العمل بتركه. ورده ابن عبد البر. بأن أي عمل يدعى مع مخالفة المصطفى والخلفاء الراشدين بعده وسيأتي مزيد الكلام في ذلك. وروى البخاري وغيره عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة، فقرأ. {إذا السماء انشقت} [84: 1] فسجد فقلت ما هذه؟ قال سجدت فيها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. ورواه ابن خزيمة بلفظ: صليت خلف أبي القاسم فسجد بها، وكذلك أخرجه الجوزقي واستدل به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وفي نسخة "رسول الله "(3/434)
رواه مسلم.
1033- (3) وعن ابن عمر، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ "السجدة" ونحن عنده فيسجد، ونسجد معه، فنزدحم حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البخاري على قراءة السجدة في الصلاة المفروضة الجهرية. وإليه ذهب الشافعي، ولم يفرق بين الفريضة والنافلة والسرية والجهرية، وهو الحق لحديث أبي هريرة السابق، ولما روى أحمد وأبوداود والطحاوي والبيهقي والحاكم عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الظهر ثم قام فركع فرأينا أنه قرأ تنزيل السجدة. وروي عن عمر أنه صلى الصبح فقرأ "والنجم" فسجد فيها. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن الزبير أنه صلى الظهر أو العصر فقال له رجل: صليت خمساً، فقال: إني قرأت بسورة فيها سجدة. وهذا كله حجة على من كره ذلك في الصلاة المفروضة مطلقاً، وهو منقول عن مالك، وعنه كراهته في السرية دون الجهرية، وهو قول بعض الحنفية والحنابلة أيضاً لما أن فيه إيهاماً وتخليطاً على المأموم إن سجد. قال ابن قدامة في المغني: واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى - انتهى. وأما القول بأن المنع لعارض وهو شيوع الجهل فلا يشكل عليه بما ورد في الأحاديث من قراءة آية السجدة في الصلاة المفروضة الجهرية والسرية، ففيه أن الواجب حينئذٍ تعليم الناس السنة، ورفع جهلهم بالعمل بالسنة الثابتة لا تركها لجهلهم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.
1033- قوله: (يقرأ السجدة) أي آية سجدة متصلة بما قبلها أو بما بعدها أو منفردة لبيان الجواز. وقيل: التقدير يقرأ سورة السجدة، أي سورة فيها آية السجدة. ويؤيده ما في رواية للبخاري: يقرأ علينا السورة التي فيها السجدة. زاد في رواية لأبي داود في غير الصلاة. واحتج به بعضهم على أنه لا يسجد في الفرض. وهذا تمسك بالمفهوم، وهو لا يصلح للاحتجاج به؛ لأن القائل بذلك ذكر صفة الواقعة التي وقع فيها السجود المذكور. وذلك لا ينافي ما ثبت من سجوده - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، كما تقدم. (ونحن عنده) جملة حالية. (فيسجد) - صلى الله عليه وسلم -. (ونسجد) نحن. (معه فنزدحم) لضيق المكان، وكثرة الساجدين. وقال القاري: أي نجتمع حيث ضاق المكان بنا. (حتى ما يجد) بالرفع: وقيل: بالنصب. (أحدنا) أي بعضنا، وليس المراد كل واحد، ولا واحد معين، بل البعض غير المعين. (لجبهته موضعاً يسجد عليه) أي معهم لضيق الموضع، وشدة الزحام. واختلاط الناس. وقوله: يسجد عليه في محل النصب؛ لأنه وقع صفة لموضعاً المنصوب على المفعولية "ليجد". وقد اختلف فيمن لم يجد مكاناً يسجد عليه، فقال عمر يسجد على ظهر أخيه أخرجه البيهقي بسند صحيح. وبه قال الكوفيون وأحمد وإسحاق. وقال عطاء والزهري: يؤخر حتى يرفعوا. وبه قال مالك والجمهور. وهذا الخلاف في سجود الفريضة. قال(3/435)
الحافظ: وإذا كان هذا في سجود الفريضة فيجري مثله في سجود التلاوة. ولم يذكر ابن عمر في هذا الحديث ما كانوا يصنعون حينئذٍ، ولذلك وقع الخلاف المذكور. ووقع في الطبراني من طريق مصعب بن ثابت عن نافع في هذا الحديث أن ذلك كان بمكة لما قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - "النجم"، وزاد فيه: "حتى سجد الرجل على ظهر الرجل. قال الحافظ: الذي يظهر أن هذا الكلام وقع من ابن عمر على سبيل المبالغة في أنه لم يبق أحد إلا سجد، قال وسياق حديث الباب مشعر بأن ذلك وقع مراراً، فيحتمل أن تكون رواية الطبراني بينت مبدأ ذلك. ويؤيده ما رواه الطبراني أيضاً من رواية المسور بن مخرمة عن أبيه، قال: أظهر أهل مكة الإسلام، يعني في أول الأمر حتى إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ السجدة فيسجد، وما يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام، حتى قدم رؤساء مكة، وكانوا في الطائف، فرجعوهم عن الإسلام. والحديث يدل على مشروعية السجود لمن سمع الآية التي يشرع فيها السجود إذا سجد القاريء لها. واستدل به البخاري على السجود لسجود القاريء حيث بوب عليه باب من سجد لسجود القاريء، وقال ابن مسعود لتميم بن حذلم وهو غلام فقرأ عليه سجدة، فقال: اسجد، فإنك إمامنا فيها. قال الحافظ: في الترجمة. إشارة إلى أن القاريء إذا لم يسجد لم يسجد السامع. ويتأيد بما أخرجه ابن أبي شيبة مرفوعاً من رواية ابن عجلان عن زيد بن أسلم أن غلاماً قرأ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة، فانتظر الغلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد، فلما لم يسجد قال يا رسول الله! أليس في هذه السجدة سجود؟ قال: بلى. ولكنك كنت إمامنا فيها، ولو سجدت لسجدنا، رجاله ثقات إلا أنه مرسل. وقد روي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلاً مرفوعاً نحوه أخرجه الشافعي والبيهقي (ج2: ص324) وقال القسطلاني: معنى قوله: أنت إمامنا أي متبوعناً لتعلق السجدة بنا من جهتك، وليس معناه إن لم تسجد لم نسجد؛ لأن السجدة كما تتعلق بالقاري تتعلق بالسامع غير القاصد السماع والمستمع القاصد، لكنها في المستمع والسامع عند سجود القاريء، آكد منها عند عدم سجوده لما قيل: إن سجودهما يتوقف على سجوده، وإذا سجدا معه فلا يرتبطان به، ولا ينويان الاقتداء به، ولهما الرفع من السجود قبله - انتهى. وقال ابن قدامة: إذ لم يسجد التالي لم يسجد المستمع. (عند الحنابلة، وبه قالت المالكية) وقال الشافعي: يسجد - انتهى. وبه قالت الحنفية. والظاهر عندي ما ذهب إليه الحنابلة والمالكية من أنه إذا لم يسجد القاري لم يسجد السامع لحديث زيد بن أسلم وعطاء، ولأثر ابن مسعود. واختلفوا أيضاً في اشتراط قصد السماع قال ابن قدامة في المغني: يسن سجود للتالي والمستمع لا نعلم في هذا خلافاً. وقد دلت عليه الأحاديث، فأما السامع غير القاصد فلا يستحب له. روى ذلك عن عثمان وابن عباس وعمران، وبه قال مالك. وقال أصحاب الرأي عليه السجود، وروى نحو ذلك عن ابن عمر والنخعي وسعيد بن جبير ونافع وإسحاق؛ لأنه سامع للسجدة، فكان(3/436)
متفق عليه.
1034- (4) وعن زيد بن ثابت، قال: ((قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و"النجم" فلم يسجد فيها))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه السجدة كالمستمع. وقال الشافعي: لا أؤكد عليه السجود، وإن سجد فحسن. ولنا ما روى عن عثمان أنه قال: إنما السجدة على من استمع. وقال ابن مسعود وعمران: ما جلسنا لها، وقال سلمان: ما غدونا لها. ونحوه عن ابن عباس، ولا مخالف لهم في عصرهم، إلا قول ابن عمر: إنما السجدة على من سمعها، فيحتمل أنه أراد من سمع عن قصد جمعاً بين أقوالهم - انتهى. واختلفوا أيضاً في اشتراط ذكورة التالي، وكونه مكلفاً لسجود السامع. فذهب الشافعية والحنفية إلى عدم اشتراط ذلك لعموم ما ورد من السجود على السامع، وقالت الحنابلة والمالكية: يشترط لسجود المستمع أن يكون التالي ممن يصلح أن يكون إماماً يصح أن يقتدى به. واستدلوا بما تقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم - لتالٍ عنده لم يسجد: كنت أمامنا. وأجاب عنه في البرهان بأن المراد منه كنت حقيقا أن تسجد قبلنا لا حقيقة الإمامة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والبيهقي.
1034- قوله: (قرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنجم) أي سورتها إلى آخرها. (فلم يسجد فيها) لبيان الجواز؛ لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود. واستدل بالحديث من لا يرى السجود في المفصل كمالك، أو أن النجم بخصوصها لا سجود فيها كأبي ثور، وحمل ما جاء في سجود النجم على النسخ لكونه كان بمكة، ولأنه لو كان باقياً من غير نسخ ما عدل أهل المدينة عن العمل به. وأجيب بأن ترك السجود فيها في هذه الحالة لا يدل على تركه مطلقاً لاحتمال أن يكون السبب في الترك إذ ذاك إما لكونه كان بلا وضوء، أو لكون الوقت وقت كراهة فأخره، فظن زيد أنه ترك مطلقاً، أو لكون القارئ إماماً للسامع، فترك السجود إتباعاً لزيد؛ لأنه القارئ فهو إمام، وترك زيد لأجل صغره، أو لعل معنى كلام زيد أنه لم يسجد في الحال، أي على الفور بل أخره، ذكره العيني وغيره من الحنفية، أو ترك حينئذٍ لبيان الجواز. قال الحافظ: وهذا أرجح الاحتمالات، وبه جزم الشافعي؛ لأنه لو كان واجباً لأمره بالسجود ولو بعد ذلك. وقد تقدم حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة، وهما صريحان في السجود في المفصل: وكذا حديث ابن مسعود الآتي. وروى البزار والدارقطني عن أبي هريرة أنه قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في سورة النجم وسجدنا معه. قال الحافظ في الفتح: رجاله ثقات. وروى ابن مردويه في تفسيره بإسناد حسنه الحافظ عن أبي هريرة أنه سجد في خاتمة النجم، فسئل عن ذلك، فقال: إنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد فيها. وقد تقدم أن أبا هريرة إنما أسلم بالمدينة سنة سبع من الهجرة. قال الحافظ: وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن الأسود بن يزيد عن عمر أنه سجد في "إذ السماء انشقت"، ومن طريق نافع عن ابن عمر: إنه(3/437)
متفق عليه.
1035- (5) وعن ابن عباس، قال: ((سجدة "ص" ليس من عزائم السجود، وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -
يسجد فيها. وفي رواية: قال مجاهد: قلت لابن عباس: أأسجد في "ص" فقرأ: {ومن
ذريته داود وسليمان} حتى أتى. {فبهداهم اقتده}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سجد فيها. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمر: إنه قرأ النجم في الصلاة فسجد فيها، ثم قام فقرأ "إذا زلزلت". وفي هذا رد على من زعم أن عمل أهل المدينة استمر على ترك السجود في المفصل مطلقاً، أو في الصلاة خاصة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي.
1035- قوله: (سجدة ص) بسكون أو فتح أو كسر، بتنوين وبدونه. وقد تكتب ثلاثة أحرف باعتبار اسمها، ذكره ابن حجر. قال القاري: والأول أولى لما عليه الجمهور من القراء. (ليس) تذكيره؛ لأنها بمعنى السجود. وقال ابن حجر: أي ليس فعلها. (من عزائم السجود) أي ليست مما ورد في السجود فيها أمر ولا تحريض ولا تحضيض ولا حث، وإنما ورد بصيغة الإخبار عن داود عليه السلام بأنه فعلها، وسجد نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيها اقتداء به لقوله تعالى. {فبهداهم اقتده} [6: 90] . وفيه دلالة على أن المسنونات قد يكون بعضها آكد من بعض. قال الحافظ: المراد بالعزائم ما وردت العزيمة على فعله كصيغة الأمر مثلاً، بناء على أن بعض المندوبات آكد من بعض عند من لا يقول بالوجوب. وقد روى ابن المنذر وغيره عن علي بإسناد حسن أن العزائم "حم" و"النجم" وإقرأ" و"الم تنزيل". وكذا ثبت عن ابن عباس في الثلاثة الأخر. وقيل: "الإعراف" و"سبحان" و"حم" و"الم" أخرجه ابن أبي شيبة - انتهى. (وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها) أي في سجدة "ص" في الصلاة وغيرها. وفي البخاري في تفسير "ص" من طريق مجاهد، وكذا لابن خزيمة أنه سأل عن ابن عباس: من أين سجدت في "ص"، ولفظ ابن خزيمة من أين أخذت سجدة "ص" فقال من قوله تعالى. {ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله فبهداهم اقتده} ، ففي هذا أنه استنبط مشروعية السجود فيها من الآية. وفي رواية الباب أنه أخذه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تعارض بينهما لاحتمال أن يكون استفادة من الطريقين. قال الشوكاني: وإنما لم تكن السجدة في "ص" من العزائم؛ لأنها وردت بلفظ الركوع، فلولا التوقيف ما ظهر أن فيها سجدة. (وفي رواية) أي للبخاري في أحاديث الأنبياء. (فقرأ ومن ذريته) أي من ذرية نوح. {حتى أتي} أي وصل قوله تعالى أو حتى أتى على قوله تعالى. {أولئك الذين هدى الله} . (فبهداهم اقتده) بها السكت(3/438)
فقال نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ممن أمر أن يقتدى بهم)) رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للجمهور، وبها الضمير للشامي قصرا ومدا، أي افعل كما فعلوا من تبليغ الرسالة، وتحمل الأذى في سبيلي، قاله ابن الملك. والظاهر أن معناه اقتد بسيرهم السنية وأخلاقهم البيهية، كذا في المرقاة. (فقال) أي ابن عباس للإستدلال على إتيان السجدة، ولإستنباط وجه سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، من الآية. (نبيكم - صلى الله عليه وسلم -) مبتدأ، خبره. (ممن أمر أن يقتدى) بصيغة المعلوم. (بهم) أي بهؤلاء الأنبياء. ومن جملتهم داود، وهو قد سجد لله تعالى، فأنت أولى بالإقتداء بهم، أو به عليه السلام، فإنه اقتدى بداود، وسجد فيها. وهذا بإطلاقه أيضاً يشمل الصلاة وغيرها. قال الطيبي: الجواب من أسلوب الحكيم، أي إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مأموراً بالإقتداء بهم فأنت أولى، وإنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإقتداء بهم ليستكمل بجميع فضائلهم الجميلة، وخصائلهم الحميدة، وهي نعمة ليس وراءها نعمة، فيجب عليه الشكر لذلك. قال الرازي: الآية دالة على فضل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء؛ لأنه تعالى أمره بالإقتداء بهداهم، ولا بد من امتثاله بذلك، فوجب أن يجتمع فيه جميع خصائلهم وخلائقهم المتفرقة - انتهى هذا. وروي النسائي عن ابن عباس مرفوعاً "سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً، وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث. واستدل الشافعي: بقوله: شكراً على أنه لا يسجد فيها في الصلاة، لأن سجود الشاكر، لا يشرع داخل الصلاة. قال العيني: لا خلاف بين الحنفية والشافعية، في أن "ص" فيها سجدة تفعل، وهو أيضاً مذهب سفيان وابن المبارك وأحمد وإسحاق. غير أن الخلاف في كونها من العزائم، أم لا، فعند الشافعي، ليست من العزائم. وإنما هي سجدة شكر. تستحب في غير الصلاة، وتحرم فيها في الصحيح. وهذا هو المنصوص عنده، وبه قطع جمهور الشافعية. وعند أبي حنيفة وأصحابه، هي من العزائم. وهو قول مالك أيضاً. وعن أحمد كالمذهبين، والمشهور منهما، كقول الشافعي - انتهى. قلت: سجدة "ص" سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكراً، لما أنعم الله على داود من قبول التوبة. ومع ذلك فهي سجدة تلاوة أيضاً. لأن سجدة التلاوة ليس سبب مشروعيتها إلا التلاوة. وسبب مشروعية هذه السجدة، تلاوة هذه الآية، التي فيها الأخبار عن هذه النعم على داود. وإطماعنا في قيل مثله. فالحق عندي، أن يسجد في "ص" إتباعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، وخارج الصلاة، لإطلاق الأحاديث، ويرى أن هذه السجدة، ليست من عزائم السجود. كما قال ابن عباس. ولا منافاة بين فعله - صلى الله عليه وسلم - وبين قول ابن عباس. لأن ابن عباس لم ينف السجود في "ص" بل نفي كونه عزيمة، وفعله - صلى الله عليه وسلم - لا يدل على كونه من عزائم السجود. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي وفي الباب عن أبي سعيد عند أبي داود والحاكم وابن خزيمة وأبي هريرة عند الدارقطني والطبراني في الأوسط.(3/439)
{الفصل الثاني}
1036- (6) عن عمرو بن العاص، قال: ((اقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة "الحج" سجدتين))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1036- قوله (عن عمرو بن العاص قال اقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كذا في بعض النسخ بلفظ: اقرآني، وهكذا وقع في جامع الأصول (ج6: ص361) وفي بعض نسخ المشكوة، اقرأه أي عمراً. وفي المصابيح، عن عمرو بن العاص، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقرأه. وكذا وقع في سنن أبي داود وابن ماجه والبيهقي (ج2: ص316) . (خمس عشرة سجدة) قال الطيبي: أي حمله أن يجمع في قراءته خمس عشرة سجدة. (في القرآن) قال الجزري في النهاية: إذا قرأ الرجل القرآن، أو الحديث على الشيخ يقول اقرأني فلان، أي حملني أن أقرا عليه- انتهى. وفيه دليل على أن مواضع السجود، خمسة عشرة موضعاً. وإليه ذهب أحمد والليث وإسحاق وابن وهب من المالكية، وابن المنذر من الشافعية، وطائفة من أهل العلم. قال الطيبي: اختلفوا في عدة سجدات القرآن، فقال: أحمد خمس عشرة آخذاً، بظاهر حديث عمرو بن العاص، فادخل سجدة"ص" فيها. وقال الشافعي أربع عشرة سجدة، منها ثنتان في الحج، وثلاث في المفصل، وليست سجدة "ص" منهن، بل هي سجدة شكر. وقال أبوحنيفة: أربع عشرة، فأسقط الثانية من الحج، واثبت سجدة "ص". وقال مالك: إحدى عشرة، فأسقط سجدة "ص". وسجدات المفصل- انتهى. قال الشيخ في شرح الترمذي بعد نقل كلام الطيبي: الظاهر هو ما ذهب إليه الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي، أيضاً على ما حكاه الترمذي، وهو رواية عن مالك، ومذهب الليث وغيره، كما تقدم. واعلم أن أول مواضع السجود، خاتمة الأعراف. وثانيهما، عند قوله في الرعد: "بالغدو والآصال". وثالثها، عند قوله في النحل: "ويفعلون ما يؤمرون". ورابعها، عند قوله في بني إسرائيل: "ويزيدهم خشوعا". وخامسها، عند قوله في مريم: "خروا سجداً وبكياً". وسادسها عند قوله في الحج: "إن الله يفعل ما يشاء". وسابعها عند قوله في الفرقان: "وزادهم نفورا". وثامنها عند قوله في النحل: "رب العرش العظيم". وتاسعها عند قوله في الم تنزيل: "وهم لا يستكبرون". وعاشرها عند قوله في ص: "وخر راكعاً وأناب". وعند الحنفية، يسجد عقيب قوله "وحسن مآب". الحادي عشر عند قوله في حم السجدة: "إن كنتم إياه تعبدون". وقال أبوحنيفة والشافعي والجمهور عند قوله: "وهم لا يسأمون". والثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، سجدات المفصل. والخامس عشر السجدة الثانية من الحج. كذا في النيل. (منها ثلاث في المفصل) وهي "النجم" و"انشقت" و"إقرأ"، وقد علم محالها. (وفي سورة الحج سجدتين) أي
(1) وفي نسخة "إقراء"(3/440)
رواه أبوداود وابن ماجه.
1037- (7) وعن عقبة بن عامر، قال: ((قلت. يا رسول الله! فضلت سورة "الحج" بأن فيها سجدتين؟ قال نعم، ومن لم يسجدها فلا يقرأ هما))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي وذكر في الحج، أو اقرأه في الحج، سجدتين. أي عقب ما يشاء، وتفلحون. قال السندي: ومن لا يقول بالثانية يحملها على السجدة الصلاتية لقرانها بالركوع، ويعتذر عن هذا الحديث، بأن في إسناده ابن منين وهو مجهول، كما قاله ابن القطان، لكن قد جاء أحاديث متعددة في الباب، فيؤيد بعضها بعضاً، بحيث يصير الكل حجة - انتهى. قلت الظاهر: أن هذا الحديث حسن، كما ستعرف. وأما حمل السجدة الثانية على سجدة الصلاتية، فسيأتي جوابه مع بسط الكلام في المسألة. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم والبيهقي، كلهم من طريق الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال الحافظ في التلخيص: حسنه المنذري والنووي، وضعفه عبد الحق وابن القطان - انتهى. قال عبد الحق في أحكامه، وعبد الله ابن منين لا يحتج به، قال ابن القطان: وذلك لجهالته، فإنه لا يعرف. روى عنه غير الحارث بن سعيد، وهو رجل لا يعرف له حال، فالحديث من أجله لا يصح. كذا في نصب الراية (ج2: ص180) قلت: عبد الله بن منين بنون مصغراً، وثقه يعقوب بن سفيان، كما في تهذيب التهذيب والتقريب. والحارث بن سعيد العتقي، قال الحافظ في التقريب: إنه مقبول. فالظاهر أن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن.
1037- قوله: (فضلت) بتقدير همزة الاستفهام. ففي المسند "أفضلت" وهو بضم الفاء من التفضيل. (ومن لم يسجدهما) أي السجدتين. (فلا يقرأهما) أي آيتي السجدة. قال العلامة الشيخ أحمد شاكر، في تعليقه على الترمذي (ج2: ص471) : ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالحديث ظاهر اللفظ، وأن من أتى على آية السجدة، ولم يرد السجود ترك الآية. وعن ذلك استدل به بعضهم على وجوب سجود التلاوة. وأجاب بعض القائلين بأنها سنة، بأن ترك تلاوتها لئلا يتضرر القارئ بترك سنة السجود. وهذا كله عندي غير جيد. بل هو خطأ؛ لأن هذا الكلام من كلام العرب، لا يراد به ظاهره، إنما هو تقريغ وزجر كقوله - صلى الله عليه وسلم -:"إذا لم تستح فاصنع ما شئت" وأمثال ذلك، مما يعرف من قفة كلام العرب ومناحيهم. وإنما يريد - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، أن يحض القاري على السجود في الآيتين. فكما أنه لا ينبغي له أن يترك قراءتهما، لا ينبغي له إذا قرأ هما أن يدع السجود فيهما - انتهى. والحديث نص كالحديث السابق أن في سورة الحج سجدتين، وإليه ذهب أحمد والشافعي وإسحاق وأبوثور وابن المنذر، وهو قول عمر وعلي وعبد الله بن عمرو أبي موسى وأبي الدرداء وعمار وأبي عبد الرحمن السلمي(3/441)
رواه أبوداود والترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأبي العالية وزر. وقال ابن عباس: فضلت سورة الحج بسجدتين، قال ابن قدامة بعد ذكر هؤلاء الصحابة والتابعين: لم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم، فيكون إجماعاً. وقال أبوإسحاق: أدركت الناس منذ سبعين سنة، يسجدون في الحج سجدتين. وقال ابن عمر: لو كنت تاركاً إحداهما لتركت الأولى. وذلك لأن الأولى إخبار، والثانية أمر. واتباع الأمر أولى - انتهى. وروى البيهقي في المعرفة، وأبوداود في المراسيل عن خالد بن معدان قال: "فضلت سورة الحج بسجدتين". وفي هذا كله رد صريح على أبي حنيفة وغيره، ممكن أنكر السجدة الأخيرة من سورة الحج، محتجاً بأن آخر الحج السجود فيها، سجود الصلاة لاقترانه بالركوع بخلاف الأولى. فإن السجود فيها مجرد عن ذكر الركوع. ولهذا لم يكن قوله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} [43:3] من مواضع السجدات بالاتفاق. قال ابن الهمام: والسجدة الثانية في الحج، للصلاة عندنا، لأنها مقرونة بالأمر بالركوع. والمعهود في مثله من القرآن كونه من أوامر، ما هو ركن الصلاة بالاستقراء نحو {اسجدي واركعي مع الراكعين} انتهى. قلت: لا عبرة بمثل هذا الاستقراء، والرأي الفاسد بعد ما ثبت السجدة الأخيرة من سورة الحج بالأحاديث وآثار الصحابة. فالحق أن في سورة الحج سجدتين، كما ذهب إليه الشافعي وأحمد. قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (ج2: ص8) : فأما الرأي فيدخل على فساده وجوه. منها، أنه مردود بالنص. ومنها أن اقتران الركوع بالسجود في هذا الموضع لا يخرجه عن كونه موضع سجدة. كما أن اقترانه بالعبادة التي هي أعم من الركوع، لا يخرجه عن كونه سجدة، وقد صح سجوده في النجم، وقد قرن السجود فيها بالعبادة، كما قرنه بالعبادة في سورة الحج، والركوع لم يزده إلا تاكيداً. ومنها أن أكثر السجدات المذكورة في القرآن متناولة لسجود الصلاة، ثم بينها، ثم قال: فإرادة سجود الصلاة بآية السجدة لا تمنع كونها سجدة، بل تؤكدها وتقويها. ثم ذكر ما يوضح ذلك. ثم قال: وهذا السجود شرعه الله ورسوله عبودية عند تلاوة هذه الآيات وإستماعها، وقربة إليه، وخضوعاً لعظمته، وتذللاً بين يديه. واقتران الركوع ببعض آياته مما يؤكد ذلك ويقويه، لا يضعفه ويوهيه وأما قوله تعالى. {يا مريم اقنتي لربك} الخ، فإنما لم يكن موضع سجدة؛ لأنه خبر خاص عن قول الملائكة، لامرأة بعينها أن تديم العبادة لربها بالقنوت، وتصلي له بالركوع والسجود، فهو خير عن قول الملائكة لها ذلك، وإعلام من الله تعالى لنا، أن الملائكة قالت ذلك لمريم. فسياق ذلك غير سياق آيات السجدات - انتهى. (رواه أبوداود والترمذي) وأخرجه أيضاً ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص289) وأحمد في المسند (ج4: ص151-155) والدارقطني (ص157) ، والحاكم (ج1: ص221- ج2: ص290) والبيهقي (ج2: ص317) كلهم من طريق ابن لهيعة، عن مشرع بن هاعان عن عقبة بن عامر. وقد ذكر الحاكم، أنه تفرد به ابن لهيعة. وأكده الحاكم، بأن الرواية صحت فيه من قول عمر وابنه وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى وعمار. ثم(3/442)
وقال: هذا حديث ليس إسناده بالقوى. وفي المصابيح: "فلا يقرأها" كما في شرح السنة.
1038- (8) وعن ابن عمر: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الظهر، ثم قام فركع، فرأوا أنه قرأ "تنزيل" السجدة)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ساقها موقوفة عنهم. وأكده البيهقي، بما رواه في المعرفة من طريق خالد بن معدان مرسلاً. (وقال) أي الترمذي" (هذا حديث ليس إسناده بالقوي) أي للكلام الذي يذكر في ابن لهيعة وابن هاعان. والظاهر أن الحديث حسن، وإسناده قوي. قال ابن القيم: حديث ابن لهيعة يحتج منه، بما رواه عنه عبادلة كعبد الله بن وهب وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن يزيد المقرئ. قال أبوزرعة: كان ابن المبارك وابن وهب، يتبعان أصوله وقال عمرو بن علي: من كتب عنه قبل احتراق كتبه، مثل ابن المبارك وابن المقرئ، أصح ممن كتب بعد احتراقها. قال ابن وهب: كان ابن لهيعة صادقاً. وقد انتقى النسائي هذا الحديث من جملة حديثه، وأخرجه واعتمده، وقال ما أخرجت من حديث ابن لهيعة قط إلا حديثاً واحداً، يعني هذا الحديث، ثم ذكره - انتهى كلام ابن القيم مختصراً. وهذا الحديث، مما رواه عبد الله بن وهب وعبد الله بن يزيد المقرئ مع الآخرين، عن ابن لهيعة، فهو مما يحتج به من أحاديثه. وأما مشرح بن هاعان، فقال الحافظ في التقريب: إنه مقبول. وقال الذهبي في الميزان: صدوق لينه ابن حبان. وقال عثمان بن سعيد عن ابن معين: ثقة. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. فالظاهر أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن. وقد اعتضد بحديث عمرو بن العاص المتقدم، وبرواية خالد بن معدان المرسلة، وبآثار الصحابة. وقال ميرك: كما في المرقاة الحديث صحيح. (وفي المصابيح فلا يقرأها كما في شرح السنة) أي بإعادة الضمير إلى السورة. والمعنى أنه لا يقرأها بكمالها، وقيل: الضمير لآية السجدة. قال ميرك: نقلاً عن التصحيح، كذا وقع في أكثر نسخ المصابيح، فلا يقرأها بغير ميم، وهو غلط. والذي ثبت في أصول روايتنا، فلا يقرأهما بالتثنية - انتهى. وقال التوربشتي: كذا وجدناها في نسخ المصابيح، وهو غلط. والصواب فلا يقرأهما بإعادة الضمير إلى السجدتين، وكذا وجدنا في كتابي أبي داود والترمذي وغيرهما من كتب أهل الحديث. قلت: الأمر كما قال ميرك والتوربشتي.
1038- قوله: (سجد) أي سجدة التلاوة (في صلاة الظهر) وفي رواية أحمد، في الركعة الأولى من صلاة الظهر. (ثم قام فركع) قال ابن الملك: يعني لما قام من السجود إلى القيام ركع، ولم يقرأ شيئاً من باقي السورة، وإن كانت القرأة جائزة. قال القاري: بل القراءة أفضل، ولعلها كانت الصلاة تطول، أو تركها لبيان الجواز، مع أنه لا نص في عدم قراءته عليه السلام آخر السورة، ثم أنه لم يكتف بالركوع، وإن كان جائز أيضاً، كما هو مذهبنا اختيار للعمل بالأفضل - انتهى. قلت: لا بد للقول بالاكتفاء بالركوع عن السجود من دليل من كتاب أو سنة، ولا يكفي في مثل هذا القياس. (فرأوا) أي علموا. (أنه قرأ تنزيل السجدة) بنصب تنزيل على المفعولية،(3/443)
رواه أبوداود.
1039- (9) وعنه: ((أنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة، كبر وسجد وسجدنا معه)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبرفعه على الحكاية. والسجدة مجرورة. ويجوز نصبها بتقدير أعني، ورفعها بتقدير هو. والمعنى سمعوا بعض قراءته، لأنه كان قد يرفع صوته ببعض ما يقرأ به في الصلوات السرية، ليعلموا سنية قراءة تلك السورة. والحديث يدل على مشروعية سجود التلاوة في الصلاة السرية. وقد تقدم الكلام في ذلك. (رواه أبوداود) من طريق معتمر ويزيد بن هارون وهشيم عن سليمان التيمي عن أمية عن أبي مجلز عن ابن عمر. قال أبوداود: قال محمد بن عيسى يعني شيخه: لم يذكر أمية أحد إلا معتمر. وسكت عنه المنذري، والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص83) والطحاوي والحاكم (ج1: ص221) لكن بإسقاط أمية بين سليمان وأبي مجلز. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي (ج2: ص322) على الوجهين. قال الحافظ في التلخيص (ص114) بعد أن نسب الحديث لأبي داود والحاكم: وفيه أمية شيخ لسليمان التيمي، رواه له عن أبي مجلز، وهو لا يعرف، قاله أبوداود في رواية الرملي عنه. وفي رواية الطحاوي عن سليمان عن أبي مجلز، قال: ولم أسمعه منه، لكنه عند الحاكم بإسقاطه. ودلت رواية الطحاوي على أنه مدلس - انتهى. وقال الذهبي في الميزان (ج1: ص128) : أمية عن أبي مجلز لاحق لا يدرى من ذا. وعنه سليمان التيمي، والصواب إسقاطه من بينهما - انتهى. وفي تهذيب التهذيب (ج1: ص373) أمية عن أبي مجلز عن ابن عمر في الصلاة، قاله معتمر بن سليمان عن أبيه. ورواية غير واحد عن سليمان التيمي عن أبي مجلز، قال الحافظ بعد ذكر قول أبي داود المتقدم في رواية الرملي: ويحتمل أن هذا تصحيف من أحد الرواة، كان عن المعتمر عن أبيه، فظنه عن أمية، ثم كرر وذكر أبيه، والله أعلم. لكن وقع عند أحمد عن يزيد بن هارون عن سليمان عن أبي مجلز به ثم قال: قال سليمان: ولم أسمعه من أبي مجلز. وحكى الدارقطني: أن بعضهم رواه عن المعتمر. فقال عن أبيه، عن أبي أمية، وزيفه، ثم جوز إن كان محفوظاً أن يكون المراد به عبد الكريم بن أبي المخارق، فإنه يكنى أبا أمية، وهو بصري، والله أعلم - انتهى. قلت: قد تحصل من هذا كله أن أمية هذا مجهول، وأن معتمر بن سليمان تفرد بذكره، والصواب أن يكون سليمان عن أبي مجلز بإسقاط أمية بينهما، كما روى غير واحد من أصحاب سليمان. وكذا وقع عند أحمد والطحاوي والحاكم، وعند أبي داود والبيهقي أيضاً في رواية غير المعتمر. وأن سليمان لم يسمع هذا الحديث من أبي مجلز، كما صرح به في رواية أحمد والطحاوي والبيهقي. وأنه دلس في رواية الحاكم. وعلى هذا فالسند منقطع. وفي تصحيح الحاكم لهذا الحديث عندي كلام، والله أعلم.
1039- قوله: (فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه) فيه أن المستمع للقرآن إذا قرئ بحضرته(3/444)
السجدة، سجد مع القاري. وفيه أنه يشرع التكبير، لسجود التلاوة. وإليه ذهب الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي، سواء كان في الصلاة أو غيرها. وبه قال مالك: إذا سجد في الصلاة، واختلف عنه في غير الصلاة، وكان الثوري يعجبه هذا الحديث. قال أبوداود: يعجبه لأنه كبر. أي لأن فيه ذكر التكبير. ولم يرد ذكر التكبير لسجود التلاوة إلا في هذا الحديث. وهل هو تكبير الافتتاح أو النقل؟ قال الأمير اليماني: الأول أقرب، ولكنه يجتزئ بها عن تكبيرة النقل لعدم ذكر تكبيرة أخرى. وقيل: يكبر له. وعدم الذكر ليس دليلاً. وقال في الشرح الكبير (ج1: ص793) : لا يشرع في ابتداء السجود أكثر من تكبيرة. وقال الشافعي: إذا سجد خارج الصلاة كبر تكبيرتين للافتتاح والسجود، كما لو صلى ركعتين. ولنا حديث ابن عمر، وظاهره أنه كبر واحدة، ولأن معرفة ذلك من الشرع، ولم يرد به، ولأنه سجود منفرد، فلم يشرع فيه تكبيران كسجود السهو، وقياسهم يبطل بسجود السهو. وقياس هذا على سجود السهو أولى من قياسه على الركعتين لشبه به، ولأن الإحرام بركعتين يتخلل بينه وبين السجود أفعال كثيرة، فلذلك لم يكتف بتكبيرة الإحرام، عن تكبيرة السجود بخلاف هذا - انتهى. ويشرع أيضاً التكبير لرفع الرأس من سجود التلاوة عند الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي في الصلاة وغيرها. ولا دليل على ذلك إلا اعتباره بسجدة الصلاة، وبسجود السهو بعد السلام. واختلفوا في رفع اليدين مع تكبير السجود، فعند الحنفية لا يرفع سواء كان في الصلاة أو غيرها. وقال الشافعي وأحمد: يرفع يديه في تكبيرة الابتداء إن سجد خارج الصلاة؛ لأنه تكبيرة الإحرام، وإن كان في الصلاة فكذلك، نص عليه أحمد لما روى وائل بن حجر: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر إذا خفض، ويرفع يديه في التكبير. قال أحمد: هذا يدخل في هذا كله. ورواية أخرى عنه لا يرفع يديه في الصلاة، اختاره القاضي. قال في الشرح الكبير: وهو قياس المذهب لقول ابن عمر: وكان لا يفعل ذلك في السجود، متفق عليه. ويتعين تقديمه على حديث وائل بن حجر؛ لأنه أخص منه، ولذلك قدم عليه في سجود الصلاة كذلك ههنا - انتهى. واختلفوا أيضاً في التشهد والتسليم بعد سجود التلاوة والقيام قبله. فذهبت الحنفية إلى أنه لا تشهد فيه، ولا تسليم. واختلفوا في القيام، فقيل: يستحب أن يقوم فيسجد، روي ذلك عن عائشة، ولأن الخرور الذي مدح به أولئك فيه أكمل. وقيل: لا يستحب القيام. كذا في المرقاة. والمشهور عن أحمد أن التسليم واجب. وروي عنه أنه لا تسليم فيه، قال أحمد: أما التسليم فلا أدري ما هو؟ لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه سلام. واختلف قول الشافعي فيه. وأما التشهد فنص أحمد على أنه لا يفتقر إليه، لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من أصحابه. واختار أبوالخطاب أنه يفتقر إلى التشهد قياساً على الصلاة كذا في الشرح الكبير. والحق عندنا أنه لا يشرع الرفع مع تكبير السجود، سواء كان في الصلاة أو في غيرها، وكذا(3/445)
رواه أبوداود.
1040- (10) وعنه أنه قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ عام الفتح سجدة، فسجد الناس كلهم، منهم الراكب والساجد على الأرض، حتى إن الراكب ليسجد على يده)) رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يشرع فيه التشهد والتسليم والقيام؛ لأن معرفة ذلك من الشارع. ولم ينقل فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجزئ القياس فيه. (رواه أبوداود) وأخرجه البيهقي (ج2: ص325) من طريقه، وسنده لين، لأنه من رواية عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري. وقد تكلم فيه غير واحد. وقال الذهبي: صدوق في حفظه شيء. وأخرج له مسلم مقروناً بأخيه عبيد الله بن عمر. والحديث أخرجه الحاكم أيضاً، لكن من رواية أخيه عبيد الله المصغر، وهو ثقة، ولهذا قال: حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. قال الحافظ: وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر بلفظ آخر.
1040- قوله: (قرأ عام الفتح) أي فتح مكة. (سجدة) أي آية سجدة، بانضمام ما قبلها أو بعدها، أو منفرداً لبيان الجواز. (والساجد) أي ومنهم الساجد. (على الأرض) متعلق بالساجد، ولما كان الراكب لا يسجد على الأرض جعل غير الساجد عليها قسيماً له. ففيه إيماء إلى أن الراكب لا يلزمه النزول للسجود على الأرض. (حتى إن الراكب) بكسر إن وتفتح. (ليسجد على يده) أي الموضوعة على السرج أو غيره، ليجد الحجم حالة السجدة، قال القاري: والحديث نص في جواز سجود الراكب على يده، في سجود التلاوة. وهو يدل على جواز سجود التلاوة، لمن كان راكباً من دون نزول، لأن التطوعات على الراحلة جائزة. وهذا منها. قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص658) : إذا كان على الراحلة في السفر، جاز أن يومئ بالسجود، حيث كان وجهه كصلاة النافلة، فعل ذلك علي وسعيد بن زيد وابن عمر وابن الزبير والنخعي وعطاء. وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقد روى أبوداود عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ عام الفتح، الحديث. ولأنها لا تزيد على صلاة التطوع، وهي تفعل على الراحلة، وإن كان ماشياً سجد على الأرض. وبه قال أبوالعالية وأصحاب الرأي، لما ذكرنا من الحديث والقياس. وقال الأسود بن يزيد وعطاء ومجاهد: يومئ، وفعله علقمة وأبوعبد الرحمن السلمي - انتهى. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الحاكم والبيهقي، كلهم من طريق مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن نافع عن ابن عمر. وقد سكت عنه أبوداود. وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، فإنهما لم يخرجا عن مصعب بن ثابت، ولم يذكراه بجرح، وأقره الذهبي. وقال المنذري: في إسناده مصعب بن ثابت، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة - انتهى. قلت: ضعفه أحمد وابن معين. وقال النسائي والدارقطني: ليس بالقوي. وقال أبوحاتم: صدوق كثير الغلط ليس بالقوي. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث، وكان عابداً.(3/446)
1041- (11) وعن ابن عباس. ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة))
رواه أبوداود.
1043- (12) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن بالليل: "سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته"))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1041- قوله: (لم يسجد في شيء، من المفصل منذ تحول إلى المدينة) قد احتج به لمالك في ترك السجود في المفصل، وتعقب بأنه حديث ضعيف، لا يصلح للإحتجاج. كما ستعرف. وإن صح لم يلزم منه حجة، لأن الأحاديث المقدمة مثبتة، وهي مقدمة على النفي، ولا سيما مع إجماع العلماء، على أن إسلام أبي هريرة، كان سنة سبع من الهجرة، وهو يقول في حديثه السابق: سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في {إذا السماء انشقت} و {إقرأ باسم ربك} . (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن السكن في صحيحه، والبيهقي (ج2: ص33) وفي إسناده أبوقدامة الحارث بن عبيد الايادي البصري، عن مطر الوراق. وأبوقدامة قال أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث. وقال ابن معين: ضعيف. وقال النسائي: ليس بذاك القوي. وقال أبوحاتم: ليس بالقوي. يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان: كان ممن كثر وهمه، حتى خرج من جملة من يحتج بهم إذا انفردوا. وقال الساجي: صدوق عنده مناكير، واستشهد به البخاري متابعة في موضعين. ومطر الوراق كان سيء الحفظ، حتى كان يشبه في سوء الحفظ بمحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد عيب على مسلم إخراج حديثه، وقال المنذري: في إسناده أبوقدامة، لا يحتج بحديثه، وقد صح أن أبا هريرة سجد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة السابعة من الهجرة - انتهى. وقال ابن عبد البر: هذا حديث منكر. وأبوقدامة ليس بشيء. وأبوهريرة لم يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالمدينة، وقد رآه يسجد في "الانشقاق" و"العلق" – انتهى. وقال النووي: حديث ضعيف، لا يصح الاحتجاج به. وقال عبد الحق في أحكامه: إسناده ليس بالقوي، ويروى مرسلاً. والصحيح حديث أبي هريرة. (يعني الذي تقدم آنفاً) ، وإسلامه متأخر.
1042- قوله: (في سجود القرآن) أي في سجود التلاوة. (بالليل) حكاية للواقع لا للتقييد به. (سجد وجهي) بفتح الياء وسكونها. (الذي خلقه وشق سمعه وبصرة) تخصيص بعد تعميم، أي فتحهما وأعطاؤهما الإدراك وأثبت لهما الإمداد بعد الإيجاد. (بحوله) أي بصرفه الآفات عنهما. (وقوته) أي قدرته بالثبات، والإعانة عليهما. والحديث أخرجه الحاكم والبيهقي، وصححه ابن السكن، وقال في آخره: "ثلاثا"، وزاد الحاكم(3/447)
رواه أبوداود والترمذي والنسائي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
1043- (13) وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ((جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! رأيتني الليلة، وأنا نائم كأني أصلي خلف الشجرة، فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"فتبارك الله أحسن الخالقين" وزاد البيهقي "وصوره" بعد قوله: خلقه. ولمسلم نحوه من حديث علي في سجود الصلاة، وللنسائي أيضاً نحوه من حديث جابر في سجود الصلاة أيضاً. وفيه وفي الحديث الآتي دليل على مشروعية الذكر في سجود التلاوة بما اشتملا عليه، ويقول ذلك فيه، في الصلاة فريضة كانت أو نافلة وفي غير الصلاة. ولا حجة لمن حمله على خارج الصلاة، أو على النافلة. (رواه أبوداود والترمذي والنسائي) وأخرجه أيضاً الدارقطني والحاكم (ج1 ص220) ، والبيهقي (ج2 ص225) ، وابن السكن، وسكت عنه أبوداود، وقال الحاكم: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) نقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره.
1043- قوله: (جاء رجل) هو أبوسعيد الخدري، كما جاء مصرحاً به، من روايته، عند أبي يعلى والطبراني في الأوسط، ذكرها الهيثمي، في مجمع الزوائد (ج2 ص284-285) ، وقال: وفيه اليمان بن نصر، قال الذهبي: مجهول. (رأيتني ليلة) أي أبصرت ذاتي البارحة. (وأنا نائم) حال فاعل أو مفعول. وفي رواية البيهقي: رأيت البارحة فيما يرى النائم. (فسجدت) أي سجدة تلاوة في سورة "ص" كما في رواية البيهقي. (فسمعتها) أي الشجرة. (اكتب لي) أي أثبت لأجلي. (بها) أي بسبب هذه السجدة أو بمقابلتها. والضمير للسجدة المفهومة من سجدت. (عندك) ظرف لأكتب. (وضع) أي أحطط، كما في رواية ابن ماجه. وفي حديث أبي سعيد المذكور حط، ووقع في بعض نسخ المشكاة: حط، بدل وضع، وهو غلط، فإن الرواية بلفظ: ضع. وكذا وقع في المصابيح. (وزراً) أي ذنباً. (واجعلها لي عندك ذخراً) أي كنزاً. قيل: ذخراً بمعنى أجراً، وكرر لأن مقام الدعاء يناسب الإطناب. وقيل: الأول طلب كتابة الأجر، وهذا طلب بقائه سالماً من محبط ومبطل. قال القاري: هذا هو الأظهر. (كما تقبلتها من عبدك داود) فيه إيماء إلى أن سجدة "ص" للتلاوة. قال السيوطي في قوت المغتذي على جامع الترمذي: قال القاضي أبوبكر بن العربي: عسير علي في هذا الحديث أن يقول أحد ذلك، فإن فيه طلب قبول مثل ذلك القبول،(3/448)
قال ابن عباس: فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدة ثم سجد، فسمعته وهو يقول: مثل ما أخبره الرجل، عن قول الشجرة)) رواه الترمذي، وابن ماجه، إلا أنه لم يذكر: (وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) . وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأين ذلك اللسان، وأين تلك النية. قلت: ليس المراد المماثلة من كل وجه، بل في مطلق القبول، وقد ورد في دعاء الأضحية "وتقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك، ومحمد نبيك" وأين المقام من المقام، ما أريد بهذا إلا مطلق القبول. وفيه إيماء إلى الإيمان بهؤلاء الأنبياء. وإذا ورد الحديث بشيء اتبع، ولا إشكال- انتهى. قال السندي: ولا يخفى، أن اعتبار التشبيه في مطلق القبول، يجعل الكلام قليل الجدوى. ولو قيل: وتقبلها مني قبولاً، مثل ما تقبلتها من عبدك داود، في أن كلاً منهما فرد من أفراد مطلق القبول، لم يكن في التشبيه كثير فائدة، ولم يكن إلا تطويل بلا طائل. والأقرب أن يعتبر التشبيه في الكمال، ويعتبر الكمال في قبول، كل بحسب مرتبته- انتهى. (فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سجدة) أي آية سجدة سورة "ص"، كما في حديث أبي سعيد الخدري. قال ابن حجر: يحتمل أنه قصدها ليبين مشروعية ما سمعه أبوسعيد بالفعل، الذي هو أبلغ من القول، وأن يكون قراءته وقعت اتفاقاً، فبين مشروعية ذلك فيها. (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن حبان وابن خزيمة في صحيحهما، والحاكم (ج1 ص219-220) والبيهقي (ج2 ص320) . (وقال الترمذي: هذا حديث غريب) وفي نسخة الشيخ محمد عابد السندي: هذا حديث حسن غريب، كما ذكره الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي. وفي سنده محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد. ومحمد بن يزيد هذا مقبول، قاله الحافظ في التقريب. وقال أبوحاتم: كان شيخاً صالحاً كتبنا عنه بمكة. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من خيار الناس، ربما أخطا، يجب أن يعتبر بحديثه إذا بين السماع في خبره- انتهى. قلت: روى محمد بن يزيد هذا الحديث، عن الحسن بن محمد بلفظ التحديث عند الترمذي والحاكم. وأما الحسن بن محمد، فقال العقيلي لا يتابع على حديثه، وليس بمشهور النقل. وحكى الذهبي عمن لم يسمعه: أن فيه جهالة، ولم يرو عنه غير ابن خنيس. وذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج هو وابن خزيمة حديثه في صحيحهما. وقال الخليلي لما ذكر حديثه: هذا حديث غريب صحيح من حديث ابن جريج، قصد أحمد بن حنبل محمد بن يزيد بن خنيس وسأل عنه، وتفرد به الحسن بن محمد المكي، وهو ثقة، نقل ذلك الحافظ في تهذيب التهذيب (ج2 ص319) . وقال الحاكم بعد إخراجه: هذا حديث صحيح، رواته مكيون، لم يذكر واحد منهم يخرج، وهو من شرط الصحيح، ولم يخرجاه. وقال الذهبي: صحيح ما في رواته مجروح- انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن. وهو يدل على صحة ما في مخطوطة الشيخ محمد عابد السندي من قول الترمذي: هذا حديث حسن غريب.(3/449)
{الفصل الثالث}
1044- (14) عن ابن مسعود: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ "والنجم" فسجد فيها، وسجد من كان معه، غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى- أو تراب- فرفعه إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافراً)) متفق عليه. وزاد البخاري في روايته: وهو أمية بن خلف.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1044- قوله: (قرأ والنجم) أي سورة النجم إلى آخرها بمكة. (فسجد فيها) أي في آخرها، أو لما فرغ من قراءتها. (وسجد من كان معه) أي من كان حاضراً، قراءته من المسلمين والمشركين والجن والإنس، كما تقدم عن ابن عباس، حتى شاع أن أهل مكة أسلموا. (غير أن شيخاً من قريش) هو أمية بن خلف، كما يأتي. (أخذ كفاً من حصى) أي حجارة صغار. (أو تراب) شك ممن الراوي. (فرفعه) أي كفه. (إلى جبهته) وفي رواية للبخاري: فسجد عليه. (يكفيني) فإن المقصود من السجود، التواضع والانقياد والمذلة بين يدي الله، ووضع أشرف الأعضاء في أخس الأشياء، وهذا لما في رأسه من توهم الكبرياء والاستنكاف. (قال عبد الله) أي ابن مسعود. (فلقد رأيته) أي الشيخ المذكور. (بعد) أي بعد هذه القضية. (قتل كافراً) أي ببدر. والحديث فيه مشروعية السجود لمن حضر عند القاري للآية التي فيها السجدة: واستدل به على جواز السجود بلا وضوء، لأنه يبعد في العادة أن يكون جميع من حضر من المسلمين كانوا عند قراءته الآية على وضوء، لأنهم لم يتأهبوا لذلك، وإذا كان كذلك فمن بادر منهم إلى السجود بلا وضوء، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، دل ذلك على عدم وجوب الوضوء لسجود التلاوة. ويؤيده ما تقدم في رواية ابن عباس من التسوية، في السجود بين المسلمين والمشركين، وفيهم من لا يصح منه الوضوء، فيلزم أن يصح السجود ممن كان بوضوء، وممن لم يكن بوضوء. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والبيهقي. (وزاد البخاري وفي رواية) أي في تفسير سورة النجم. (وهو أمية بن خلف) أخو أبي بن خلف بن وهب. وقيل: الشيخ المذكور هو الوليد بن المغيرة، كما وقع في سيرة ابن إسحاق. وفيه نظر، لأنه لم يقتل. وقيل: هو عتبة بن ربيعة، كما في تفسير سنيد. وقيل: إنه أبوأحيحة سعيد بن العاص، رواه الطبري. وقيل: أبولهب، ذكره أبوحبان في تفسيره من غير مستند. وقيل: المطلب بن أبي وداعة، رواه النسائي والبيهقي (ج2 ص314) وفي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي هريرة، سجدوا في النجم، إلا رجلين من قريش، أرادا بذلك الشهرة. قال القسطلاني والمنذري: الأول أصح، وهو الذي ذكره البخاري. وقال الحافظ(3/450)
1045- (15) وعن ابن عباس، قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في "ص" وقال: سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً)) رواه النسائي.
(22) باب أوقات النهي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الفتح: ومهما ثبت من ذلك فلعل ابن مسعود لم يره، أو خص واحداً بذكره لاختصاصه بأخذ الكف من التراب دون غيره.
1045- قوله: (سجد في ص) أي في سورة "ص" مكان سجدتها وهو {أناب} وقيل: {حسن مآب} [38: 40] (توبة) أي لأجل التوبة. (ونسجدها شكراً) منا على قبول توبته، وتوفيق الله تعالى إياه عليها، فحين يجري في القرآن، ذكر من الله تعالى لتلك التوبة، نشكره تعالى على تلك النعمة. وكون السجدة للشكر. لا يلزم منه أن لا يكون سجدة تلاوة. لأن سجدة التلاوة، لا شك أنها تتعلق بقراءة آية السجدة أو سماعها، وتقع السجدة عند ثبوتهما. وهذا هو معنى سجدة التلاوة، سواء يكون السبب فيها أمراً بإيقاعها أو شكراً أو غير ذلك. والحاصل: أن غاية ما في هذا الحديث، أنه بين السبب في حق داود والسبب في حقنا. وكونها للشكر في حقنا، لا ينافي كونها سجدة التلاوة. فالحق أنه يسجد فيها في الصلاة وغير الصلاة، خلافاً للشافعي. وقد تقدم شيء من الكلام في ذلك. (رواه النسائي) من طريق حجاج بن محمد عن عمر بن ذر عن أبي سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الحافظ في الدراية: رواته ثقات. وقال ابن كثير: رجاله على شرط البخاري- انتهى. وأخرجه أيضاً الشافعي في الأم والدارقطني والبيهقي (ج2 ص319) ، وصححه ابن السكن، وقال البيهقي روي مرسلاً وموصولاً، والمرسل هو المحفوظ، والموصول ليس بقوي.
(باب أوقات النهي) مصدر بمعنى المنهي، أي باب الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. ومحصل ما ورد من الأخبار في تعيين الأوقات، التي نهى عن الصلاة فيها، أنها خمسة: 1- عند طلوع الشمس، 2- وعند غروبها، 3- وبعد الصلاة الصبح، 4- وبعد صلاة العصر، 5- وعند الاستواء. وترجح بالتحقيق إلى ثلاثة: 1- وقت استواء الشمس، 2- ومن بعد صلاة الصبح إلى أن ترتفع الشمس، فيدخل فيه الصلاة عند طلوع الشمس، 3- ومن بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، ويدخل فيه الصلاة عند غروب الشمس. واختلف العلماء من أوقات النهي في موضعين: أحدهما في عددها، والثاني في الصلوات التي يتعلق النهي عن فعلها فيها. وسبب الخلاف في الأول، أحد شيئين: إما معارضة أثر لأثر، وإما معارضة الأثر للعمل، عند من راعاه، أعني عمل أهل المدينة، وهو مالك بن أنس. وأما سبب الخلاف في الثاني فهو اختلافهم في الجمع، بين العمومات الواردة في ذلك، وأي يخص بأي. كما سنذكر ذلك مجملاً. وقد بسطه ابن الرشد في بداية المجتهد (ج1 ص79)(3/451)
أحسن بسط، وإن كان فيه نوع من القصور في بيان مسالك الأئمة، وسبب اختلافهم، مع عدم ذكر مذهب الحنابلة رأساً، كما لا يخفى على من له إطلاع على كتب الفروع. قال القاضي البيضاوي: اختلفوا في جواز الصلاة بعد الصبح والعصر، وعند الطلوع والغروب، وعند الاستواء. فذهب داود إلى الجواز مطلقاً. وقد روي عن جمع من الصحابة، فلعلهم لم يسمعوا نهيه عليه السلام، أو حملوه على التنزيه دون التحريم. قلت: المحكي عن داود أنه ادعى كون أحاديث النهي منسوخة، وبذلك جزم ابن حزم، قال: وخالفهم الأكثرون، فقال الشافعي: لا يجوز فيها فعل صلاة لا سبب لها من النوافل. وأما الذي له سبب أي متقدم كالمنذورة والجنازة وتحية المسجد وسجود التلاوة والشكر وصلاة العيد والكسوف وقضاء الفائتة، فرضاً كانت أو نفلاً. فجائز لحديث كريب عن أم سلمة الآتي، واستثني أيضاً مكة واستواء الجمعة لحديثي جبير بن مطعم وأبي هريرة الآتيين في الفصل الثاني. وقال أبوحنيفة: يحرم فعل كل صلاة في الأوقات الثلاثة، سوى عصر يومه، ويحرم المنذورة والنافلة بعد صلاة الصبح. والعصر دون المكتوبة الفائتة وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة. وقال مالك: يحرم وقت طلوع والغروب، وبعد صلاة الصبح وبعد العصر، النوافل مطلقاً ذات سبب كانت أو غير ذات سبب دون الفرائض، إلا صلاة الجنازة وسجدة التلاوة بعد صلاة الصبح قبل الإسفار، وبعد صلاة العصر قبل الاصفرار، واستثنى وقت الاستواء فالأوقات المنهي عنها عنده أربعة الطلوع والغروب، وبعد صلاة الصبح، وبعد العصر. وقال أحمد: الأوقات المنهي عنها خمسة. (كما هي عند الشافعي وأبي حنيفة) ، قال يحرم فيها النوافل دون الفرائض والصلاة المنذورة وتحية المسجد حال خطبة الجمعة وركعتي الطواف، فرضاً كان الطواف أو نفلاً - انتهى بزيادة وأيضاًح. والراجح عندي أن الأوقات المنهي عنها خمسة، كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبوحنيفة، ويستثنى منها استواء الجمعة ومكة، كما قال به الشافعي: قال الشوكاني في الدرر البهية: أوقات الكراهة في غير مكة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، وعند الزوال غير يوم الجمعة، وبعد العصر حتى تغرب- انتهى. وأما الصلوات التي يتعلق النهي عنها فيها، فسيأتي بيان ما هو الراجح في ذلك. تنبيه: قال بعض العلماء المراد بحصر الكراهة في الأوقات الخمسة انما هو بالنسبة إلى الأوقات الأصلية وإلا فقد ذكروا أنه يكره التنفل وقت إقامة الصلاة ووقت صعود الإمام لخطبة الجمعة، وفي حالة الصلاة المكتوبة، جماعة لمن لم يصلها، وعند المالكية كراهة التنفل بعد الجمعة حتى ينصرف الناس. وعند الحنفية كراهة التنفل قبل صلاة المغرب، وسيأتي ثبوت الأمر به. (في باب السنن) ، ذكره الحافظ في الفتح.(3/452)
{الفصل الأول}
1046- (1) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها)) وفي رواية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1046- قوله: (لا يتحرى) بثبوت حرف العلة المقتضية لخبرية الفعل، وكونه سابقة حرف نفي، لكنه بمعنى النهي. وقال في شرح التقريب (ج2 ص182) لا يتحرى بإثبات الألف في الصحيحين والموطأ والوجه حذفها لتكون علامة للجزم لكن الإثبات إشباع، فهو كقوله تعالى: {إنه من يتقي ويصبر} ، فيمن قرأ بإثبات الياء. (فيصلي) بالنصب جواباً للنهي المتضمن لئلا يتحرى كالمضارع المقرون بالفاء في قوله: ما تأتينا فتحدثنا، فالمراد النهي عن التحري والصلاة كليهما. ويجوز الرفع من جهة النحو، أي لا يتحرى أحدكم الصلاة في وقت كذا، فهو يصلي فيه. وقال الطيبي: لا يتحرى هو نفي بمعنى النهي. و"يصلي" هو منصوب بأنه جوابه. ويجوز أن يتعلق بالفعل المنهي أيضاً، فالفعل المنهي معلل في الأول والفعل المعلل منهى في الثاني. والمعنى على الثاني لا يتحرى أحدكم فعلاً ليكون سبباً لوقوع الصلاة في زمان الكراهة، وعلى الأول كأنه قيل لا يتحرى، فقيل: لم ينهانا عنه، فأجيب عنه خيفة أن يصلي أن الكراهة. وقال ابن خروف: يجوز في "فيصلي" ثلاثة أوجه: الجزم على العطف، أي لا يتحر ولا يصل، والرفع على القطع. أي لا يتحرى، فهو يصلي، والنصب على جواب النهي. والمعنى لا يتحرى مصلياً- انتهى. قال التوربشتي: يقال فلان يتحرى الأمر أي يتوخاه ويقصده، ومنه قوله تعالى: {فأولئك تحروا رشداً} ، أي توخوا وعمدوا، ويتحرى فلان الأمر إذا طلب ما هو الأحرى. والحديث يحتمل الوجهين، أي لا يقصد الوقت الذي تطلع فيه الشمس، أو تغرب فيصلي فيه، أو لا يصلي في هذا الوقت ظناً منه أنه قد عمل بالأحرى. والأول أبلغ وأوجه في المعنى المراد - انتهى. (عند طلوع الشمس ولا عند غروبها) قال الحافظ: اختلف في المراد بالحديث، فمنهم من جعله تفسيراً للحديث السابق. (أي لحديث عمر: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، وبعد العصر حتى تغرب) ومبيناً للمراد به، فقال: لا تكره الصلاة بعد الصبح ولا بعد العصر إلا لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها. وإلى ذلك جنح بعض أهل الظاهر، وقواه ابن المنذر، واحتج له بما رواه مسلم من طريق طاووس عن عائشة قالت: وهم ابن عمر، إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها. ويدل على ذلك أيضاً قول ابن عمر أصلي، كما رأيت أصحابي يصلون، لا أنهى أحداً يصلي بليل أو نهار ما شاء غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها. وربما قوى ذلك بعضهم بحديث: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليضف إليها الأخرى، فأمر بالصلاة حينئذٍ، فدل على أن الكراهة مختصة بمن قصد الصلاة في ذلك الوقت لا من وقع له ذلك اتفاقاً، ومنهم من جعله نهياً مستقلاً، وكره الصلاة في تلك الأوقات،(3/453)
قال: إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تبرز. وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب، ولا تحينوا بصلوتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني الشيطان)) متفق عليه.
1047- (2) وعن عقبة بن عامر، قال: ((ثلاث ساعات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سواء قصد لها أو لم يقصد. وهو قول الأكثر، قال البيهقي: إنما قالت عائشة ذلك؛ لأنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد العصر، فحملت نهيه على من قصد ذلك، لا على الإطلاق. وقد أجيب عن هذا بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى حينئذٍ قضاء. وأما النهي فهو ثابت من طريق جماعة من الصحابة غير عمر رضي الله عنه، فلا اختصاص له بالوهم- انتهى. (إذا طلع) أي ظهر. (حاجب الشمس) أي طرفها الأعلى من قرصها سمي به؛ لأنه أول ما يبدو منها، فيصير كحاجب الإنسان. (فدعوا) أي اتركوا. وفي رواية: فأخروا. (الصلاة) يحمل ذلك في الموضعين على ما عدا الفريضة المقضية أو المؤداة في هذين الوقتين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - من نام عن الصلاة أو سها عنها فوقتها حين يذكرها- الحديث. وقوله: من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس. ويستثنى منه أيضاً مكة لما سيأتي. (حتى) أي إلى أن (تبرز) أي تخرج وتظهر كلها، والمراد ترتفع، كما وقع في رواية للبخاري. قال النووي: المراد ببروز الشمس وكذا بطلوعها في الروايات الأخر هو ارتفاعها وإشراقها وإضاءتها، لا مجرد ظهور قرصها للجمع بين الروايات. (حتى تغيب) أي تغرب بالكلية. (ولا تحينوا) بحذف إحدى التائين من تحين بمعنى حين الشيء إذا جعل له حيناً، أي لا تجعلوا ذلك حيناً للصلاة بصلاتكم فيه، والمعنى لا تنتظروا بصلاتكم حين طلوع الشمس، ولا حين غروبها. (فإنها تطلع) بضم اللام. (بين قرني الشيطان) أي جانبي رأسه؛ لأنه ينتصب قائماً في محاذاة مطلع الشمس حتى إذا طلعت كان طلوعها بين قرنيه، أي جانبي رأسه، فتقع السجدة له إذا عبدت عبدة الشمس للشمس، فنهى عن الصلاة في ذلك الوقت لئلا يتشبه بهم في العبادة. قال الحافظ: فيه إشارة إلى علة النهي. وزاد في حديث عمرو بن عبسة الآتي وحينئذٍ: يسجد لها الكفار، فالنهي حينئذٍ لترك مشابهة الكفار، وقد اعتبر الشرع ذلك في أشياء كثيرة. وفي هذا تعقب على البغوي حيث قال: إن النهي عن ذلك لا يدرك معناه، وجعله من قبيل التعبد الذي يجب الإيمان به. (متفق عليه) فيه أن قوله: لا تحينوا الخ من إفراد البخاري، وليس عند مسلم، والرواية الأولى أخرجها أيضاً مالك وأخرج النسائي والبيهقي (ج2 ص453) الروايتين بنحو ما وقع في مسلم.
1047- قوله: (ثلاث ساعات) أي أوقات. (كان ينهانا أن نصلي فيهن) هو بإطلاقه يشمل صلاة الجنازة؛ لأنها صلاة. (أو نقبر فيهن) قال القرطبي: روي بأو وبالواو، وهي الأظهر. ويكون مراد النهي الصلاة على(3/454)
موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجنازة والدفن؛ لأنه أنما يكون أثر الصلاة عليها. وأما رواية أو ففيها إشكال إلا إذا قلنا إن أو بمعنى الواو، كما قاله الكوفي. كذا في زهر الربي. وقوله: نقبر من قبر الميت من باب نصر، وضرب لغة أي ندفن. وفيه دليل على أن دفن الموتى في الأوقات الثلاثة منهي عنه من غير فرق بين العابد وغيره. وإليه ذهب أحمد. وهو الحق لظاهر الحديث. قال السندي ظاهر الحديث كراهة الدفن في هذه الأوقات، وهو قول أحمد وغيره. ومن لا يقول به يؤول الحديث بأن المراد صلاة الجنازة على الميت بطريق الكناية للملازمة بين الدفن والصلاة. ولا يخفى أنه تأويل بعيد لا ينساق الذهن إليه من لفظ الحديث، يقال: قبره إذا دفنه، ولا يقال قبره إذا صلى عليه، قال والأقرب أن الحديث يميل إلى قول أحمد وغيره: إن الدفن مكروه في هذه الأوقات- انتهى. وقال البيهقي: نهيه عن القبر في هذه الساعات لا يتناول الصلاة على الجنازة، وهو عند كثير من أهل العلم محمول على كراهية الدفن في تلك الساعات- انتهى. قلت حمله أبوداود على الدفن الحقيقي حيث بوب عليه في الجنائز: باب الدفن عند طلوع الشمس وغروبها. وإليه يظهر ميل النسائي حيث عقد عليه في أثناء أبواب الدفن: باب الساعات التي نهى عن إقبار الموتى فيها، وحمله ابن ماجه على الصلاة والدفن كليهما، فقد بوب عليه في الجنائز: باب الأوقات التي لا يصلي فيها على الميت ولا يدفن. وحمله الترمذي على الصلاة، ولذلك بوب عليه: باب كراهية الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وأيده بما نقل عن ابن المبارك، قال: معنى هذا الحديث أو أن نقبر فيهن موتانا يعني الصلاة على الجنازة- انتهى. وقد ضعف النووي هذا التأويل وزيفه، كالسندي، هذا وقد علمت مما قدمنا إن صلاة الجنازة مكروهة في هذه الأوقات عند مالك وأحمد وأبي حنيفة. واستدل هؤلاء بحديث عقبة هذا وغيره من الأحاديث المطلقة الدالة على كراهة الصلاة في هذه الساعات خلافاً للشافعي. والقول الأول هو الظاهر. قال الخطابي: قول الجماعة أولى لموافقه الحديث. (حين تطلع) بيان للساعات. (بازغة) أي طالعة ظاهرة لا يخفى طلوعها، حال مؤكدة. (حتى ترتفع) أي قدر رمح، كما في حديث عمرو بن عبسة عند أبي داود والنسائي. (وحين يقوم قائم الظهيرة) هي شدة الحر. وقيل: حد انتصاف النهار، أي يقف ويستقر الظل الذي يقف عادة حسب ما يبدو، فإن الظل عند الظهيرة لا يظهر له سويعة حركة حتى يظهر بمرأى العين أنه واقف، وهو سائر حقيقة. قال في المجمع: إذا بلغ الشمس وسط السماء أبطأت حركتها إلى أن تزول، فيحسب الناظر المتأمل أنها وقفت، وهي سائرة. ولا شك إن الظل تابع لها. والحاصل: أن المراد وعند الاستواء. وقيل: المراد بقائم الظهيرة الشخص القائم في الظهيرة، فإن الناس في السفر يقفون في هذا الوقت لشدة الحر ليستريحوا. وقال النووي: الظهيرة حال استواء الشمس، ومعناه حين لا يبقى للقائم في الظهيرة ظل في المشرق ولا في المغرب. وقال ابن حجر: الظهيرة هي نصف النهار وقائمها، أما الظل وقيامه وقوفه من قامت به دابته وقفت، والمراد بوقوفه بطأ حركته(3/455)
حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب)) رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الناشيء عن بطئ حركة الشمس حينئذٍ باعتبار ما يظهر للناظر ببادي الرأي، وإلا فهي سائرة على حالها، وأما القائم فيها؛ لأنه حينئذٍ لا يميل له ظل إلى جهة الشرق، ولا إلى جهة المغرب. وذلك كله كناية عن وقت استواء الشمس في وسط السماء. (حتى تميل الشمس) أي من المشرق إلى المغرب، وتزول عن وسط السماء إلى الجانب الغربي. وميلها هذا هو الزوال. قال ابن حجر: ووقت الاستواء المذكور, وإن كان وقتا ضيقاً لا يسع صلاة إلا أنه يسع التحريمة، فيحرم تعمد التحريم فيه. (وحين تضيف) بتشديد الياء بعد الضاد المفتوحة وضم الفاء صيغة المضارع. أصله تتضيف بالتائين، حذفت إحداهما، أي تميل. وقيل: هو بسكون الياء بعد الضاد المكسورة، من ضافت تضيف إذا مالت. في القاموس ضاف مال كتضيف وضيف واضفته، أملته وضيفته- انتهى. وقال التوربشتي: أصل الضيف الميل، يقال: ضفت إلى كذا، ملت إليه وسمي الضيف ضيفا لميله إلى الذي نزل عليه. (للغروب) وتشرع فيه. (حتى تغرب) قال الأمير اليماني: النهي عن هذه الأوقات الثلاثة عام بلفظه لفرض الصلاة ونفلها، والنهي للتحريم، كما عرفت من أنه أصله. وكذا يحرم قبر الموتى فيها، ولكن فرض الصلاة أخرجه حديث: من نام عن صلاته الحديث، وفيه فوقتها حين يذكرها ففي أي وقت ذكرها أو استيقظ من نومه أتى بها، وكذا من أدرك ركعة قبل غروب الشمس وقبل طلوعها لا يحرم عليه، فيخص النهي بالنوافل دون الفرائض. وقيل: بل يعمها بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نام في الوادي عن صلاة الفجر ثم استيقظ لم يأت بالصلاة في ذلك الوقت، بل أخرها إلى أن خرج وقت المكروه. وأجيب عنه أولاً بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستيقظ هو وأصحابه إلا حين أصابهم حر الشمس كما ثبت في الحديث، ولا يوقظهم حرها إلا وقد ارتفعت وزال وقت الكراهة، وثانياً: بأنه قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه تأخير أدائها عند الاستيقاظ بأنهم في واد حضر فيه الشيطان، فخرج - صلى الله عليه وسلم - عنه وصلى في غيره. وهذا التعليل يشعر بأنه ليس التأخير لأجل وقت الكراهة، لو سلم أنهم استيقظوا، ولم يكن قد خرج الوقت. فتحصل من الأحاديث أنها تحرم النوافل في الأوقات الخمسة، وأنه يجوز أن تقضى النوافل بعد صلاة الفجر وصلاة العصر. أما صلاة العصر فلما سيأتي من صلاته - صلى الله عليه وسلم - قاضياً لنافلة الظهر بعد العصر إن لم نقل أنه خاص به. وأما صلاة الفجر فلتقريره لمن صلى نافلة الفجر بعد صلاته، وإنها يتصلى الفرائض في أي الأوقات الخمسة لنائم وناس ومؤخر عمداً وإن كان آثماً بالتأخير والصلاة أداء في الكل مالم يخرج وقت العامل فهي قضاء في حقه- انتهى. وقال الشوكاني في السيل الجرار نحو كلام الأمير اليماني مع زيادة البسط. (رواه مسلم) في الصلاة وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود في الجنائز والنسائي والبيهقي في الصلاة وفي الجنائز وابن ماجه في الجنائز.(3/456)
1048- (3) وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس)) متفق عليه.
1049- (4) وعن عمرو بن عبسة، قال: ((قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فقدمت المدينة، فدخلت عليه، فقلت: أخبرني عن الصلاة. فقال: صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حين تطلع الشمس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1048- قوله: (لا صلاة) أي صحيحة أو حاصلة. وقيل: النفي بمعنى النهي. والتقدير لا تصلوا. وقال ابن دقيق العيد: صيغة النفي إذا دخلت في ألفاظ الشارع على فعل كان الأولى حملها على نفى الفعل الشرعي لا الحسي؛ لأنا لو حملناه على نفي الفعل الحسي لاحتججنا في تصحيحه إلى إضمار، والأصل عدمه، وإذا حملناه على الشرعي لم نحتج إلى إضمار. فهذا وجه الأولوية وعلى هذا فهو نفي بمعنى النهي. والتقدير لا تصلوا كما ورد التصريح به في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني، وحديث على عند أبي داود والنسائي. (بعد الصبح) أي بعد صلاته؛ لأنه لا جائز أن يكون الحكم فيه معلقاً بالوقت، إذ لابد من أداء الصبح. فتعين التقدير المذكور. وأيضاً قد ورد التصريح بذلك في رواية مسلم، ولفظها: لا صلاة بعد صلاة الفجر (حتى ترتفع الشمس) قدر رمح في رأى العين. (ولا صلاة بعد العصر) أي بعد صلاته، كما في رواية مسلم (حتى تغيب الشمس) أي بالكلية. والحديث يدل على تحريم النفل في هذين الوقتين؛ لأن الأصل في النهي التحريم. وحمل الشافعية الحديث على غير ذات سبب، قالوا: تجوز ذات السبب في هذين الوقتين. وحمله الحنفية على العموم. واستثنوا منه الفريضة الفائتة وصلاة الجنازة وسجدة التلاوة كما تقدم. واعترض عليه ابن الهمام بأن النهي في هذين الوقتين أيضاً مطلق كما في الأوقات الثلاثة المذكورة في حديث عقبة. وتخصيص النص بالرأي لا يجوز ابتداء. (متفق عليه) واللفظ للبخاري وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكرهم الحافظ في التلخيص والشوكاني في النيل.
1049- قوله: (عن عمرو بن عبسة) بعين مهملة وموحدة وسين مهملة مفتوحات، ابن عامر بن خالد السلمي، له في صحيح مسلم هذا الحديث، وقد ذكر في أوله قصة إسلامه. (قدم - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فقدمت المدينة) أي على قصد اللحوق به - صلى الله عليه وسلم -. وفيه وضع الظاهر موضع الضمير، وإنما صار كذلك لاختصار الحديث. وهذا ظاهر عند من يرى سياقه عند مسلم. (أخبرني عن الصلاة) أي عن وقتها الجائزة فيه بدليل الجواب (صل صلاة الصبح) أي سننه وفرضه. (ثم أقصر عن الصلاة) من الإقصار أي انته عن الصلاة، وكف عنها. (حين تطلع الشمس)(3/457)
حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان. وحينئذٍ يسجد لها الكفار. ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي بعض نسخ مسلم "حتى: بدل حين. (حتى ترتفع) فيه أن النهي عن الصلاة بعد الصبح لا يزول بنفس الطلوع، بل لابد من الارتفاع فالمراد بالطلوع والبروز المذكورين في بعض الأحاديث الطلوع المخصوص، وهو الارتفاع لا مجرد الظهور، وقد ورد مفسراً في رواية أبي داود والنسائي بارتفاعها "قيس رمح". (بين قرني شيطان) بلا ألف ولام. وهكذا هو في أصول مسلم، كما صرح به النووي. وكذا وقع في رواية أحمد وأبي داود والنسائي والبيهقي. قيل: تنكيره للتحقير. وفي المصابيح بين قرني الشيطان بالألف واللام. وكذا وقع في بعض نسخ المشكاة، وفي ابن ماجه. واختلف في المعنى المراد بقرني الشيطان على أقوال، ذكرها الخطابي في المعالم (ج1 ص130) ، أقواها: أن المراد به ناحيتا الرأس، وأنه على ظاهره. ومعناه أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين لها في الصورة. (يسجد لها الكفار) أي الذين يعبدونها. (ثم) أي بعد ارتفاع الشمس قدر رمح (صل) أي ما شئت كما في رواية أبي داود. وفي ابن ماجه: ثم صل ما بدا لك. وقال القارئ: أي صلاة الإشراق فإنها مبدأ الضحى، أو صلاة الضحى فإنها منتهية إلى قرب الإستواء، أو صل ما شئت- انتهى. (فإن الصلاة) أي بعد ارتفاع الشمس، أو أن الصلاة المشروعة (مشهودة محضورة) قال النووي: أي تحضرها الملائكة، فهي أقرب إلى القبول، وحصول الرحمة. وقال القاري: أي يحضرها الملائكة ليكتبوا أجرها، ويشهدوا بها لمن صلاها. ويؤيده أن في رواية أبي داود مشهودة مكتوبة. وقال الطيبي: أي يحضرها أهل الطاعة من سكان السماء والأرض. وعلى معنيين فمحضورة تفسير مشهودة وتأكيد لها. ويمكن أن يحمل مشهودة على المعنى الأول، ومحضورة على الثاني، أو الأولى بمعنى الشهادة، والثانية بمعنى الحضور للتبرك، والتأسيس أولى من التأكيد- انتهى كلام القاري. (حتى يستقل الظل بالرمح) أي حتى يرتفع الظل مع الرمح أو في الرمح، ولم يبق على الأرض منه شيء من الاستقلال بمعنى الارتفاع. قال ابن الملك: يعني لم يبق ظل الرمح، وهذا بمكة والمدينة وحواليهما في أطول يوم في السنة، فإنه لا يبقى عند الزوال ظل على وجه الأرض، بل يرتفع عنها، ثم إذا مالت الشمس من جانب المشرق إلى جانب المغرب، وهو أول وقت الظهر يقع الظل على الأرض. وقيل: من القلة، يقال: استقله إذا رأه قليلاً، أي حتى يقل الظل الكائن بالرمح أدنى غاية القلة، وهو المسمى بظل الزوال. قال القاري: وروي: حتى يستقل الرمح بالظل، أي يرفع الرمح ظله. فالباء للتعدية. وعلى الروايتين هو مجاز عن عدم بقاء ظل الرمح على الأرض. وذلك يكون في وقت(3/458)
ثم أقصر عن الصلاة، فإن حينئذٍ تسجر جهنم. فإذا أقبل الفيء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإستواء. وتخصيص الرمح بالذكر؛ لأن العرب كانوا إذا أرادوا معرفة الوقت ركزوا رماحهم في الأرض، ثم نظروا إلى ظلها. وقال النووي: قوله: حتى يستقل الظل بالرمح أي يقوم مقابلة في جهة الشمال، ليس مائلاً إلى المغرب ولا إلى المشرق، وهو حالة الإستواء. وقال التوربشتي كذا في نسخ المصابيح، وفيه تحريف، وصوابه حتى يستقل الرمح بالظل، ووافقه صاحب النهاية حيث قال: حتى يبلغ ظل الرمح المغروز في الأرض أو في غاية القلة والنقص. فقوله: يستقل من القلة، لا من الإقلال والاستقلال الذي بمعنى الارتفاع والاستبداد. قال الطيبي: كيف ترد نسخ المصابيح مع موافقتها بعض نسخ مسلم وكتاب الحميدي، على أن لها محامل: منها أن معناه أن يرتفع الظل معه ولا يقع منه شيء على الأرض، من قولهم استقلت السماء ارتفعت. ومنها أن يقدر المضاف، أي يعلم قلة الظل بواسطة ظل الرمح. ومنها أن يكون من باب عرضت الناقة على الحوض، وطينت بالفدن السياعا. قال صاحب المفتاح: لا يشجع على القلب الإكمال البلاغة مع ما فيه من المبالغة من أن الرمح صار بمنزله الظل في القلة، والظل بمنزلة الرمح - انتهى. قلت: وقع في رواية لأحمد: حتى يستقل الرمح بالظل، وفي أخرى: حتى يقوم الظل قيام الرمح، وفي رواية أبي داود: حتى يعدل الرمح ظله. ولفظ النسائي حتى تعتدل الشمس اعتدال الرمح بنصف النهار. وفي رواية لأحمد، وهي عند ابن ماجه أيضاً: حتى يقوم العمود على ظله. قال السندي: العمود خشبة يقوم عليها البيت. والمراد حتى يبلغ الظل في القلة بحيث لا يظهر إلا تحت العمود قائم عليه، والمراد وقت الاستواء. (فإن حينئذٍ) أي حين يستقل الظل بالرمح. (تسجر جهنم) بالتشديد والتخفيف مجهولاً، أي يوقد عليها إيقاداً بليغاً، من سجرّ التنور بالتخفيف والتشديد، ملأه وقوداً وأحماه. قال ابن الملك: أي تملأ نيران جهنم وتوقد، ولعل تسجيرها حينئذٍ لمقارنة الشيطان الشمس وتهيئة عباد الشمس أن يسجدوا لها. وقال الخطابي في المعالم (ج1: ص276) : ذكر تسجير جهنم، وكون الشمس بين قرني الشيطان، وما أشبه ذلك من الأشياء التي تذكر على سبيل التعليل لتحريم شيء، أو لنهي عن شيء أمور لا تدرك معانيها من طريق الحس والعيان، وإنما يجب علينا الإيمان بها والتصديق بمخبوآتها، والانتهاء إلى أحكامها التي علقت بها - انتهى. قال ابن حجر: واسم "إن" أن المصدرية المقدرة على حد قوله تعالى: {ومن آياته يريكم البرق} [30: 24] أو ضمير الشأن. وما قيل إنه لا يحذف؛ لأن القصد به التعظيم، وهو يفوت بحذفه، مردود بأن سبب دلالته على التعظيم إبهامه، وحذفه أدل على الإبهام. ومن ثم حذف في قوله تعالى: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} [9: 117] . (فإذا أقبل الفيء) أي ظهر إلى جهة المشرق. والفيء مختص بما بعد الزوال. وأما الظل فيقع على ما قبل الزوال وما بعده، قاله النووي. وقال القاري: أي رجع بعد ذهابه من وجه الأرض، فهذا وقت الظهر. والفيء ما نسخ الشمس,(3/459)
فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار. قال: قلت: يا نبي الله! فالوضوء حدثني عنه. قال: ما منكم رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فيستنثر، إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك بالعشي. والظل ما نسخته الشمس وذلك بالغدوة. (فصل) أي صلاة تريدها. (حتى تصلي العصر) أي فرضه قال النووي: فيه دليل على أن النهي لا يدخل بدخول وقت العصر، ولا بصلاة غير المصلي، وإنما يكره لكل إنسان بعد صلاته العصر، حتى لو أخرها عن أول الوقت لم يكره التنفل قبلها. (حتى تغرب الشمس) أي بالكلية. (وحينئذٍ يسجد لها الكفار) أي فلا يشابه أهل النار في عبادتهم فضلاً عن غيرها. (فالوضوء) بالرفع. وقيل: بالنصب. (حدثني عنه) أي أخبرني عن فضله. (يقرب) بالتشديد على بناء الفاعل أو المفعول. (وضوءه) بفتح الواو، أي الماء الذي يتوضأ به. (فيمضمض) أي بعد غسل اليدين والتسمية والنية. (ويستنشق) أي يدخل الماء في الأنف. (فيستنثر) أي يخرج ما في الخيشوم من الأوساخ. (إلا خرت) استثناء مفرغ. قال الطيبي: قوله: إلا خرت خبر ما، والمستثنى منه مقدر، أي ما منكم رجل متصف بهذه الأوصاف، كائن على حال من الأحوال إلا على هذه الحالة. وعلى هذا المعنى ينزل سائر الاستثناءات وإن لم يصرح بالنفي فيها لكونها في سياق النفي بواسطة ثم العاطفة، أي سقطت. (خطايا وجهه) من الصغائر قال النووي: هكذا ضبطناه خرت بالخاء المعجمة. وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة إلا ابن أبي جعفر، فرواه جرت بالجيم - انتهى. أي جرت مع ماء الوضوء وذهبت ذنوب وجهه. (وفيه) أي خطايا فمه من جهة الكلام والطعام. (وخياشيمه) أي أنفه جمع خيشوم، وهو باطن الأنف من جهة رائحة طيب محرم على جهة القصد. والظاهر أن عطف "فيه" وما بعده على ما قبله تفسيري لقوله: (ثم إذا غسل وجهه) أي كله أو باقيه. (كما أمره الله) أن يبدأ بغسله. (إلا خرت خطايا وجهه) من ذنوب عينيه. (من أطراف لحيته) أي موضعها. (ثم يغسل يديه إلى المرفقين) أي منضمتين إليهما، أو إلى بمعنى مع. (من أنامله) هي رؤس أصابعه. (ثم يمسح رأسه) ظاهره الاستيعاب. (إلا خرت خطايا رأسه) ومنها(3/460)
من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين، إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء. فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه)) . رواه مسلم.
1050- (5) وعن كريب: أن ابن عباس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خطايا الأذنين، فيكون قوله: (من أطراف شعره) بفتح العين وسكونها نظراً إلى الأصل أو التغليب. (فإن) شرطية. (هو) أي الرجل ورافعه فعل مضمر يفسره. (قام) ولحذفه برز ضميره المستكن فيه، أي فإن قام بعد فراغ الوضوء. (وأثنى عليه) أي ذكر الله ذكراً كثيراً وقيل فائدته الإعلام بأن لفظ الحمد غير متعين. (ومجده) أي عظمه بالقلب واللسان، فهو تعميم بعد تعميم، أو بعد تخصيص. وجعله ابن حجر لمزيد التأكيد والإطناب. (بالذي) أي بالتحميد الذي. (هو له أهل) أي مما يليق بعظمته وجلاله وكماله. وقدم الجار لإفادة الاختصاص والاهتمام قال ابن الملك: ضمير "هو" عائد إلى الموصول، وضمير "له" إلى الله. (وفرغ قلبه) من التفريغ، أي جعله حاضراً لله وغائبا عما سواه، أي في صلاته وحالة مناجاته. (لله) أي لا لغيره. (إلا انصرف من خطيئته) قيل: "هو" في قوله فإن هو فاعل محذوف وعائد إلى الرجل المذكور وتقديره: إن قام الرجل المذكور ففعل كذا، وكذا فليس إلا انصرف من خطيئته. وقيل: الأولى أن تكون إن فيه نافية. وقال ابن حجر: وجواب "إن" فلا ينصرف خارجاً من شيء من الأشياء إلا انصرف خارجاً من خطيئته أي صغائره، فيصير متطهرا منها. وقال الطيبي: فإن هو قام، إن شرطية، والضمير المرفوع بعدها فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده، وجواب الشرط محذوف، وهو المستثنى منه، أي لا ينصرف في شيء من الأشياء إلا من خطيئته. وجاز تقدير النفي لما مر من أن الكلام في سياق النفي. وهذا على مذهب الزمخشري. وأما مذهب ابن الحاجب فيجوز في الإثبات نحو قرأت إلا يوم الجمعة. (كهيئتة) أي كصفته. (يوم ولدته أمه) بفتح ميم يوم. وفي نسخة: كهيئة يوم بالإضافة مع تنوين يوم وفتحه على البناء قاله القاري. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص112) والبيهقي. ولأبي داود وأحمد أيضاً نحوه. وأخرجه النسائي وابن ماجه مختصراً بمعنى ما روى أبوداود.
1050- قوله: (وعن كريب) بضم الكاف مصغراً، هو ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني، أبورشدين مولى ابن عباس ثقة من أوساط التابعين، مات بالمدينة سنة ثمان وتسعين في آخر خلافة سليمان بن عبد الملك. (أن ابن عباس) يعني عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه المراد عند الإطلاق.(3/461)
لمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن الأزهر، أرسلوه على عائشة، فقالوا: اقرأ عليها السلام، وسلها عن الركعتين بعد العصر. قال: فدخلت على عائشة، فبلغتها ما أرسلوني. فقالت: سل أم سلمة، فخرجت إليهم، فردوني إلى أم سلمة، فقالت أم سلمة: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنها، ثم رأيته يصليهما، ثم دخل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(والمسور) بكسر الميم. (بن مخرمة) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء، ابن نوفل الزهري الصحابي. قال في التقريب: له ولأبيه صحبة. وأمه الشفاء بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الأربعة وغيرهم، وكان ممن يلزم عمر بن الخطاب، وكان من أهل الفضل والدين، ولد بمكة بعد الهجرة بسنتين، وقدم به المدينة في ذي الحجة بعد الفتح سنة ثمان، وهو غلام أيفع ابن ست سنين، ومات سنة أربع وستين أصابه حجر من حجارة المنجنيق، وهو يصلي في الحجر في حصار ابن الزبير الأول من الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية، فمكث خمسة أيام، ومات يوم أتى نعى يزيد بن معاوية، وهو ابن ثلاث وستين. (وعبد الرحمن بن الأزهر) على وزن أفعل ابن عوف القرشي الزهري الصحابي، يكنى أبا جبير ابن عم عبد الرحمن بن عوف، شهد حنيناً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن سعد: هو نحو ابن عباس في السن، وبقي إلى فتنة ابن الزبير. وقال ابن مندة: مات قبل الحرة. (أرسلوه) أي كريباً. (إلى عائشة) أم المؤمنين. (اقرأ عليها السلام) أي منا جميعاً في القاموس: قرأ عليه السلام أبلغه كأقرأه. أو لا يقال أقرأه إلا إذا كان السلام مكتوباً. (وسلها) أصله اسألها. (عن الركعتين) أي صلاة الركعتين. زاد في رواية: وقل لهما إنا أخبرنا أنك تصليهما، وقد بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما. (قال) أي كريب. (فبلغتها ما أرسلوني) أي بتبليغه من السلام والكلام إليها. (سل أم سلمة) هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية. فيه أنه يستحب للعالم إذا طلب منه تحقيق أمر مهم، ويعلم إن غيره أعلم به أو أعرف بأصله أن يرشد إليه إذا أمكنه، وفيه الاعتراف لأهل الفضل بمزيتهم. (فخرجت إليهم) أي فأخبرتهم بقولها: فيه إشارة إلى أدب الرسول في حاجة وأنه لا يستقل فيها بتصرف لم يؤذن له فيه. ولهذا لم يستقل كريب بالذهاب إلى أم سلمة؛ لأنهم لم يرسلوه إليها. (فردوني إلى أم سلمة) أي بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة فجئت إليها فسألتها. (ينهى عنهما) أي عن الركعتين بعد العصر، تعني في ضمن نهيه عن الصلاة بعد صلاة العصر بقوله: لا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس، أو سمعت النهي بالخصوص عنهما، ويؤيد الأول ما في رواية للبخاري، وفي بعض نسخ مسلم "عنها" بضمير المفرد، فإنها تدل على أن الحديث عند أم سلمة هو الحديث العام فقط. (ثم رأيته يصليهما ثم دخل) وفي رواية للبخاري: ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر ثم دخل علي، قال الحافظ: أي فصلاهما(3/462)
فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قولي له: تقول أم سلمة: يا رسول الله! سمعتك تنهى عن هاتين الركعتين، وأراك تصليهما؟ قال: يا ابنة أبي أمية! سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حينئذٍ بعد الدخول. وفي رواية مسلم: ثم رأيته يصليهما أما حين صلاهما فإنه صلى العصر، ثم دخل عندي فصلاهما. (فأرسلت إليه الجارية) قال الحافظ: لم أقف على اسمها. ويحتمل أن تكون بنتها زينب، لكن في رواية البخاري في المغازي: فأرسلت إليه الخادم. وفيه قبول خبر الواحد رجلاً أو امرأة مع القدرة على اليقين بالسماع من لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاكتفاء أم سلمة بأخبار الجارية. (تقول أم سلمة) كنت عن نفسها، ولم تقل هند باسمها؛ لأنها معروفة بكنيتها. ولا بأس للإنسان أن يذكر نفسه بالكنية إذا لم يعرف إلا بها أو اشتهر بها بحيث لا يعرف غالباً إلا بها، وكنيت بابنها سلمة من أبي سلمة وكان صحابياً. (تنهى عن هاتين الركعتين) هكذا بذكر الركعتين في بعض النسخ. وكذا في المصابيح ومسلم وللبخاري في المغازي. ووقع في بعض نسخ المشكاة والبخاري في الصلاة عن هاتين فقط، أي بحذف الركعتين. (وأراك تصليهما) أي فما السر فيهما. فيه أنه ينبغي للتابع إذا رأى من المتبوع شيئاً يخالف المعروف من طريقته، والمعتاد من حاله أن يسأله بلطف عنه، فإن كان ناسياً رجع عنه، وإن كان عامداً، وله معنى مخصص عرفه التابع واستفاده، وإن كان مخصوصاً بحال يعلمها، ولم يتجاوزها. وفيه المبادرة إلى معرفة الحكم المشكل فراراً من الوسوسة؛ لأنه بالسوال يسلم من إرسال الظن السيء بتعارض الأفعال أو الأقوال وعدم الارتباط بطريق واحد. (قال) أي للجارية بأن تقول لها في جوابها أو مخاطباً لها. (يا ابنة أبي أمية) هو والد أم سلمة. واسمه سهيل أو حذيفة بن المغيرة المخزومي. ويلقب زاد الراكب؛ لأنه كان أحد الأجواد، فكان إذا سافر لا يترك أحداً يرافقه، ومعه زاد، بل يكفي رفقته من الزاد. (وإنه أتاني ناس من عبد القيس) بالإسلام من قومهم. (فشغلوني عن الركعتين) اللتين. (بعد الظهر) فيه أنه إذا تعارضت المصالح والمهمات بديء بأهمها. ولهذا بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث القوم في الإسلام، وترك سنة الظهر حتى فات وقتها؛ لأن الاشتغال بإرشادهم وهدايتهم إلى الإسلام أهم. (فهما هاتان) أي الركعتان اللتان صليتهما بعد العصر هما هاتان الركعتان اللتان كنت أصليهما بعد الظهر فشغلت عنهما، فصليتهما الآن، وقد كان من عادته عليه الصلاة والسلام أنه إذا فعل شيئاً من الطاعات لم يقطعه فيما بعد. فقد ثبت في مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عنهما فقالت: كان يصليهما قبل العصر، فشغل عنهما أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، أي داوم عليها. ومن طريق عروة عنها: ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط. وفيه دليل على(3/463)
متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جواز قضاء سنة الظهر بعد صلاة العصر. فإن قيل: هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - يدل عليه ما أخرجه أبوداود والبيهقي من طريقه عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد العصر، وينهى عنها، ويواصل، وينهى عن الوصال"، وما أخرجه أحمد (ج6: ص315) والطحاوي وابن حبان عن أم سلمة أنها قالت: فقلت: يا رسول الله! أنقضيهما إذا فاتتا؟ فقال لا. قلنا: الأصل الإقتداء به - صلى الله عليه وسلم -، وعدم الاختصاص، حتى يقوم دليل صحيح صريح في الاختصاص به. وأما حديث عائشة ففي سنده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، ورواه عن محمد بن عمرو بالعنعنة، على أن الظاهر أن عائشة كانت ترى مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما من خصوصياته، لا أصل قضاء الصلاة في ذلك الوقت. وأما حديث أم سلمة ففي الاستدلال به على التخصيص به نظر أيضاً. قال البيهقي: الذي اختص به - صلى الله عليه وسلم - المداومة على ذلك، لا أصل القضاء وأما ما روي عن ذكوان عن أم سلمة في هذه القصة أنها قالت: فقلت: يا رسول الله! أنقضيهما إذا فاتتا؟ فقال لا. فهي رواية ضعيفة لا تقوم بها حجة - انتهى. وقال الحافظ في الفتح: أخرجها الطحاوي، واحتج بها أن ذلك كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه ما فيه - انتهى. قلت: قد أفاض الكلام في تنقيد رواية ذكوان عن أم سلمة هذه العلامة العظيم آبادي في أعلام أهل العصر (ص54- 56) وحقق كونها ضعيفة، وأطال الكلام في هذه المسألة فأجاد، فعليك أن تراجعه. وقال الحافظ: ليس في رواية الإثبات معارضة للأحاديث الواردة في النهي؛ لأن رواية الإثبات لها سبب، فألحق بها ما له سبب، وبقي ما عدا ذلك على عمومه، والنهي فيه محمول على ما لا سبب له. وأما من يرى عموم النهي، ولا يخصه بما له سبب فيحمل الفعل على الخصوصية. ولا يخفى رجحان الأول - انتهى. وقال الشوكاني: واعلم أن الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة العصر والفجر عامة، فما كان أخص منها مطلقاً كحديث يزيد بن الأسود (الآتي في باب من صلى صلاة مرتين) وحديث ابن عباس (عند الدارقطني في استثناء الطواف والصلاة عند البيت عن النهي) ، وحديث علي (عند أبي داود، بلفظ لا تصلوا بعد الصبح، ولا بعد العصر إلا أن تكون الشمس مرتفعة) . وقضاء سنة الظهر بعد العصر، وسنة الفجر بعده فلا شك أنها مخصصة لهذا العموم، وما كان بينه وبين أحاديث النهي عموم وخصوص من وجه كأحاديث تحية المسجد وأحاديث قضاء الفوائت والصلاة على الجنازة لقوله: - صلى الله عليه وسلم - يا علي! ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت-الحديث. وقد تقدم. وصلاة الكسوف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة والركعتين عقب التطهر وصلاة الاستخارة وغير ذلك، فلا شك أنها أعم من أحاديث الباب وأخص منها من وجه، وليس أحد العمومين أولى من الآخر يجعله خاصاً لما في ذلك من التحكم والوقف هو المتعين حتى يقع الترجيح بأمر خارج - انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي.(3/464)
{الفصل الثاني}
1051- (6) عن محمد بن إبراهيم، عن قيس بن عمرو، قال: ((رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الصبح ركعتين. فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1051- قوله: (عن محمد بن إبراهيم) بن الحارث بن خالد التيمي المدني، ثقة من صغار التابعين، مات سنة عشرين ومائة. (عن قيس بن عمرو) بن سهل بن ثعلبة الأنصاري الصحابي المدني جد يحيى بن سعيد التابعي المشهور وأخوته، ويقال: قيس بن قهد بفتح القاف وسكون الهاء، قاله مصعب الزبيري، وخطأه ابن أبي خيثمة في ذلك وقال: هما اثنان، يعني أن قيس بن عمرو غير قيس بن قهد. وذهب ابن حبان إلى أنهما واحد، وأن قهداً لقب عمرو وكأنه أخذ من قول البخاري: قيس بن عمرو جد يحيى بن سعيد له صحبة، قال: وقال بعضهم قيس بن قهد، وأرجع إلى تهذيب التهذيب (ج8: ص401) والإصابة (ج3: ص255- 256) . (رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً) هو قيس بن عمرو، كما صرح به في رواية أحمد والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم. (يصلي بعد صلاة الصبح) أي بعد فرض الصبح. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الصبح) بالنصب. (ركعتين) أي اجعل أوصل صلاة الصبح ركعتين. وقال الطيبي: ركعتين منصوب بفعل مضمر تقديره: أتصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، وليس بعدها صلاة؟ وتبعه ابن حجر فقال: أي أتصلي صلاة الصبح وتصلي بعدها ركعتين، وقد علمت أنه لا صلاة بعدها؟ فالاستفهام المقدر للإنكار، أي هذه صلاة الصبح صليتها، فكيف تصلي بعدها؟ انتهى. قلت: ولفظ أبي داود في النسخ الموجودة كلها: "صلاة الصبح ركعتان"، وكذا رواه البيهقي من طريق أبي داود، ومعناه ظاهر. (إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما) بضمير التثنية، أي قبل ركعتي الصبح. ووقع في بعض النسخ قبلها أي قبل صلاة الصبح، والأول هو الأولى لكونه مطابقاً لما في داود. (فصليتهما الآن) اعتذر الرجل بأنه قد أتى بالفرض وترك السنة؛ لأنه جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الصبح، ولم يكن ركع ركعتي الفجر، فدخل معه في الصلاة، فأتى بهما حينئذٍ. (فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال السندي في حاشية ابن ماجه: هذا يدل على الإذن في الركعتين بعد صلاة الفجر لمن فاتهما قبل ذلك. وقال ابن الملك: سكوته يدل على قضاء سنة الصبح بعد فرضه لمن لم يصلها قبله. وبه قال الشافعي - انتهى. وكذا قال الشيخ حسين بن محمود الزيداني في المفاتيح حاشية المصابيح، والشيخ علي بن صلاح الدين في منهل الينابيع شرح المصابيح، والعلامة الزيني في شرح المصابيح. قلت: وزاد في رواية لأحمد(3/465)
رواه أبوداود. وروى الترمذي نحوه، وقال: إسناد هذا الحديث ليس بمتصل؛ لأن محمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس بن عمرو.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ج5: ص447) ومضى ولم يقل شيئاً، ورواه ابن حبان بلفظ: فلم ينكر عليه. ورواه ابن حزم في المحلي (ج3: ص112-113) بلفظ: فلم يقل له شيئاً. ورواه ابن أبي شيبة بلفظ: فلم يأمره ولم ينهه. ورواه الترمذي بلفظ: فلا أذن. ومعناه إذا كان كذلك فلا بأس عليك أن تصليهما حينئذٍ، يدل على ذلك الروايات المتقدمة، فإن الروايات يفسر بعضها بعضاً، وبذلك فسرة الحنفية. قال أبوالطيب السندي في شرح الترمذي في شرح قوله: فلا إذن أي فلا بأس عليك حينئذٍ ولا شيء عليك ولا لوم عليك. وقال الشيخ سراج أحمد السرهندي في شرح الترمذي في ترجمة هذا اللفظ: "بس نه اين وقت منع ميكنم ترا اركذا دن سنت"- انتهى. وتعريبه: فلا أمنعك الآن عن أداء السنة. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص275) : في الحديث بيان أن لمن فاتته الركعتان قبل الفريضة أن يصليهما بعدها قبل طلوع الشمس، وأن النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إنما هو فيما يتطوع به الإنسان إنشاء وابتداء، دون ما كان له تعلق بسبب. وقد اختلف الناس في وقت قضاء ركعتي الفجر، فروي عن ابن عمر أنه قال يقضيهما بعد صلاة الصبح، وبه قال عطاء وطاووس وابن جريج. وقالت طائفة يقضيها إذا طلعت الشمس، وبه قال القاسم بن محمد وهو مذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية. وقال أصحاب الرأي: إن أحب قضاهما إذا ارتفعت الشمس، فإن لم يفعل فلا شيء عليه؛ لأنه تطوع. وقال مالك: يقضيها ضحى إلى وقت زوال الشمس ولا يقضيهما بعد الزوال - انتهى. قلت: الصحيح من مذهب الشافعي أنهما يفعلان بعد الصبح ويكونان أداء، قاله العراقي. ومذهب الحنفية في ذلك أنه يستحسن قضاء سنة الفجر إذا فاتت مع الفرض، وأما إذا فاتت وحدها لا تقضى عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: تقضى إذا ارتفعت الشمس كذا في البدائع وغيره. والراجح عندنا هو قول الشافعي: أنها تقضى وإن فاتت وحدها، ويجوز قضاءها بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، لحديث الباب وهو حديث صحيح ثابت متصل السند، وله شواهد ومتابعات كما ستقف على ذلك. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص447) وابن ماجه والدارقطني (ص148) وابن أبي شيبة والحاكم (ج1: ص275) والبيهقي (ج2: ص483) كلهم من طريق عبد الله بن نمير عن سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن قيس بن عمرو، إلا أنه قال الحاكم: في روايته قيس بن قهد، وكذا قال الشافعي، ومن طريقه البيهقي في روايته عن سفيان عن سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن قيس بن قهد. (وروى الترمذي) أي من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن قيس جد سعد. (نحوه) بالنصب. (وقال: إسناد هذا الحديث ليس بمتصل؛ لأن محمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس بن عمرو) وقال أيضاً:(3/466)
وإنما يروى هذا الحديث مرسلاً. قال: وروى بعضهم هذا الحديث عن سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج قرأى قيساً، وهذا أصح من حديث عبد العزيز عن سعد بن سعيد - انتهى. وكذا أعله أبوداود بالإرسال، وادعى بعضهم لذلك أن هذا الحديث ضعيف لا يصلح للاستدلال لعلة الإرسال والانقطاع. قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات في ترجمة قيس بن قهد: ذكروا حديثه في الركعتين بعد الصبح، وهو حديث ضعيف، اتفقوا على ضعف حديثه المذكور. ورواه أبوداود والترمذي وغيرهما وضعفوه - انتهى. ملخصاً مختصراً. قلت: للحديث طريق آخر متصل، رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والدارقطني (ص148) والحاكم (ج1: ص274-275) والبيهقي (ج2: ص483) ، كلهم من طريق الربيع بن سليمان عن أسد بن موسى عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس، وهذا إسناد صحيح جداً، رجاله كلهم ثقات. قال الحاكم بعد روايته: قيس بن قهد الأنصاري صحابي، والطريق إليه صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي على تصحيحه. وقال الشوكاني في النيل: قول الترمذي: إنه مرسل ومنقطع ليس بجيد، فقد جاء متصلاً من رواية يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس، رواه ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان من طريقه وطريق غيره، والبيهقي في سننه عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس المذكور، وقد قيل: إن سعيد بن قيس لم يسمع من أبيه. (كما في تهذيب التهذيب) فيصح ما قاله الترمذي من الانقطاع. وأجيب عن ذلك بأنه لم يعرف القائل بذلك - انتهى. فان قلت: قال الحافظ في الإصابة (ج3: ص256) : وأخرجه ابن مندة من طريق أسد بن موسى عن الليث عن يحيى عن أبيه عن جده، وقال: غريب تفرد به أسد موصولاً. وقال غيره عن الليث عن يحيى أن حديثه مرسل - انتهى. قلت: هذا التعليل لا يضعف به الإسناد؛ لأن أسد بن موسى ثقة، خلافاً لمن تكلم فيه بغير حجة، فتفرده لا يقدح في صحة الحديث. قال النووي في مقدمة شرح مسلم: إذا رواه بعض الثقات الضابطين متصلاً وبعضهم مرسلاً أو بعضهم موقوفاً وبعضهم مرفوعاً، أو وصله هو أو رفعه في وقت، وأرسله أو وقفه في وقت، فالصحيح الذي قاله المحققون من المحدثين وقاله الفقهاء وأصحاب الأصول وصححه الخطيب البغدادي أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر أو أحفظ؛ لأنه زيادة ثقة، وهي مقبولة - انتهى. هذا، وقد ظهر بما ذكرنا أن المراد بقول الترمذي أنه مرسل منقطع هو الإرسال والانقطاع في السند المخصوص الذي ساقه بذلك السند لا مطلقاً، وإلا فقد جاء متصلاً بسند صحيح كما عرفت، ولا وجه لتضعيف الإسناد المتصل الصحيح بالمنقطع والمرسل، على أن للحديث شواهد. منها ما رواه الطبراني في الكبير من طريق أيوب بن سويد عن ابن جريج عن عطاء أن قيس بن سهل حدثه أنه دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، ولم يكن صلى الركعتين(3/467)
وفي "شرح السنة" ونسخ "المصابيح" عن قيس بن قهد نحوه.
1052- (7) وعن جبير بن مطعم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا بني عبدمناف!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وفيه أيوب بن سويد الرملي، قال ابن حبان: رديء الحفظ. وقال النسائي: ليس بثقة. ومنها ما رواه ابن عبد البر في كتاب التمهيد بسنده عن سهل بن سعد قال: دخلت المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، ولم أكن صليت الركعتين-الحديث. وفيه عمر بن قيس المعروف بسندل، قال ابن عبد البر: وهو ضعيف لا يحتج بمثله. ومنها ما رواه ابن حزم في المحلى (ج3: ص112- 113) عن الحسن بن ذكوان عن عطاء بن أبي رباح عن رجل من الأنصار قال رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بعد الغداة-الحديث. قال العراقي: إسناده حسن. ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن ثابت بن قيس بن شماس قال أتيت المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة-الحديث. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص228) : فيه راويان لم يسميا، وبقية بن الوليد عن الجراح بن منهال بالعنعنة، والجراح منكر الحديث، قاله البخاري - انتهى. ومنها ما رواه ابن أبي شيبة عن هشيم عن عبد الملك عن عطاء أن رجلاً صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح- الحديث. وهذه الروايات كلها تؤيد حديث قيس بن عمرو، فلا شبهة في صحته ولا التفات إلى تعليل من أعله. هذا، وأرجع لمزيد التفصيل إلى أعلام أهل العصر (ص59-62) فإنه قد أفاض القول في هذا وأجاد. (وفي شرح السنة ونسخ المصابيح عن قيس بن قهد) بالقاف المفتوحة والهاء الساكنة والدال المهملة. قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (ق1/2/63) : قيس بن قهد بفتح القاف وإسكان الهاء، الصحابي. ورواه أكثر المحدثين قيس بن عمرو، ولم يذكر أبوداود وآخرون من أهل السنن فيه إلا قيس بن عمرو، وذكر الترمذي الروايتين، ابن قهد وابن عمرو، وقال: الصحيح ابن عمرو. وهذا هو الصحيح عند جميع حفاظ الحديث. وذكروا حديثه في الركعتين بعد الصبح، قالوا: وهو جد يحيى بن سعيد الأنصاري: قال أحمد بن حنبل. ويحيى بن معين: والأكثرون قيس بن عمرو، وهو جد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري- انتهى ملخصاً. وقال الطيبي: أشار المؤلف إلى الاختلاف، وأن الصحيح هو الأول، وهو قيس بن عمرو الأنصاري النجاري وهو الصحابي. وقيل: هو قيس بن قهد من بني النجار. أيضاً- انتهى. (نحوه) بالنصب أي روى نحوه، وفي بعض النسخ نحوه بالرفع على أنه مبتدأ.
1052- قوله: (جبير) بجيم مضمومة فموحدة مفتوحة وسكون ياء. (بن مطعم) بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين المهملة. (يا بني عبد مناف) بفتح الميم. قال الطيبي: إنما خصهم بالخطاب دون سائر بطون قريش لعلمه بأن ولاية الأمر والخلافة سيؤول إليهم مع أنهم كانوا رؤساء مكة وساداتهم وفيهم كانت السدانة(3/468)
لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والحجابة والسقاية والرفادة- انتهى. قلت: يؤيد ذلك ما في رواية للدارقطني بلفظ: يا بني عبدمناف! إن وليتم من هذا الأمر شيئاً فلا تمنعن، وفي أخرى له يا بني عبد مناف يا بني هاشم إن وليتم هذا الأمر يوماً فلا تمنعن. وما في رواية ابن حبان في صحيحه: يا بني عبد المطلب! إن كان لكم من الأمر شيء فلا أعرفن أحد منكم يمنع من يصلي عند البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار. (لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت) يعني بيت الله. (وصلى) أي صلاة الطواف أو مطلقاً. قال البيهقي: يحتمل أن يكون المراد بهذه الصلاة صلاة الطواف خاصة، وهو الأشبه بالآثار، ويحتمل جميع الصلوات- انتهى. وقال الزيلعي: قال الشيخ في الإمام: وقد ورد ما يشعر بأن هذا الاستثناء بمكة إنما هو في ركعتي الطواف فأخرج ابن عدي. (والبيهقي من طريقه ج2 ص62) من طريق سعيد بن أبي راشد عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، وزاد في آخره: من طاف فليصل أي حين طاف. قال ابن عدي: وسعيد هذا يحدث عن عطاء وغيره بما لا يتابع عليه، وكذا قال البخاري- انتهى. وقال الأمير اليماني في السبل: وليس هذا (أي الاستثناء) خاصاً بركعتي الطواف، بل يعم كل نافلة، لرواية ابن حبان في صحيحه: يا بني عبد المطلب إن كان لكم من الأمر شيء فلا أعرفن أحداً منكم يمنع من يصلي عند البيت أية ساعة شاء من ليل أو نهار- انتهى. قلت: الظاهر أن في رواية ابن حبان هذه اختصاراً من الراوي، وأنه ترك ذكر الطواف، والراجح أن الاستثناء مختص بصلاة الطواف ولا يعم الصلوات. وقال الخطابي في المعالم (ج2 ص195) : وذهب بعضهم إلى تخصيص ركعتي الطواف من بين الصلوات، وقال إذا كان الطواف بالبيت غير محظور في شيء من الأوقات، وكان من سنة الطواف أن تصلى الركعتان بعده، فقد عقل أن النوع من الصلاة غير منهي عنه- انتهى. (أية ساعة شاء من ليل أو نهار) قال المظهر: فيه دليل على أن صلاة التطوع في أوقات الكراهة غير مكروهة بمكة لشرفها؛ لينال الناس من فصلها في جميع الأوقات، وبه قال الشافعي، وعند أبي حنيفة حكمها حكم سائر البلاد في الكراهة، ذكره الطيبي. قال الأمير اليماني في السبل: الحديث دال على أنه لا يكره الطواف بالبيت، ولا الصلاة فيه، في أية ساعة من ساعات الليل والنهار، وقد عارض ما سلف يعني أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات الخمسة فالجمهور. (أي مالك وأبوحنيفة ومن وافقهما) عملوا بأحاديث النهي ترجيحاً لجانب الكراهة، ولأن أحاديث النهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي أرجح من غيرها، وذهب الشافعي وغيره إلى العمل بهذا الحديث، قالوا: لأن أحاديث النهي قد دخلها التخصيص بالفائتة والمنوم عنها والنافلة التي تقضى، فضعفوا جانب عمومها فتخصص أيضاً بهذا الحديث ولا تكره النافلة بمكة في أي من الساعات- انتهى. وقال ابن عبد البر: في حديث جبير ما يقوي القول بالجواز مع قول جمهور العلماء من المسلمين به، وذلك أن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير والحسن(3/469)
رواه الترمذي وأبوداود، والنسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والحسين وطاؤساً ومجاهداً والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير كانوا يطوفون بعد العصر وبعضهم بعد الصبح أيضاً، ويصلون بأثر فراغهم من طوافهم ركعتين في ذلك الوقت. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبوثور وداود بن على- انتهى. قلت: وإليه ذهب الطحاوي من الأئمة الحنفية حيث قال في شرح معاني الآثار بعد البحث والكلام في هذا المسألة ما لفظه: وإليه نذهب، يعني إلى الجواز، وهو قول سفيان، وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص209) ما لفظه: ولعل المصنف المحيط بأبحاث الطرفين يعلم أن هذا يعني جواز ركعتي الطواف بعد العصر وبعد الصبح قبل الطلوع والغروب هو الأرجح الأصح. قال: وعليه كان عملي بمكة، قال: ولما طفت طواف الوداع حضرت المقام مقام إبراهيم لصلاة ركعتي الطواف فمنعني المطوفون من الحنفية، فقلت لهم: الأرجح الجواز في هذا الوقت، وهو مختار الطحاوي من أصحابنا، وهو كافٍ لنا، فقالوا لم نكن مطلعين على ذلك، وقد استفدنا منك ذلك- انتهى. (رواه الترمذي) في كتاب الحج في باب الصلاة بعد العصر وبعد الصبح في الطواف لمن يطوف. (وأبوداود) في المناسك في باب الطواف بعد العصر. (والنسائي) في المواقيت في إباحة الصلاة في الساعات كلها بمكة، وأخرجه أيضاً الشافعي وأحمد (ج4 ص80) وابن ماجه في الصلاة في باب الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والدارقطني (ص162) والطحاوي (ص395) والحاكم (ج1 ص448) والبيهقي (ج2 ص461) والدارمي (ص) كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن عبد الله بن باباه عن جبير بن مطعم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وسكت عنه أبوداود، ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قال الطيبي: قال المؤلف: ما ذكر في المصابيح بعد يا بني عبدمناف من قوله: من ولى منكم من أمر الناس شيئاً لم أجده في الترمذي ولا في أبي داود والنسائي- انتهى. وفي الباب عن ابن عباس أخرجه الدارقطني (ص162) والطحاوي (ص396) من طريق أبي الوليد العدني عن رجاء أبي سعيد عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً: يا بني عبد المطلب أو يا بني عبدمناف لا تمنعوا أحداً يطوف بالبيت ويصلي فإنه لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا عند هذا البيت يطوفون ويصلون. قال صاحب التنقيح: وأبوالوليد العدني لم أر له ذكراً في الكنى لأبي أحمد الحاكم، وأما رجاء بن الحارث أبوسعيد المكي فضعفه ابن معين- انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: ورواه الطبراني من رواية عطاء عن ابن عباس، ورواه أبونعيم في تاريخ أصبهان، والخطيب في التلخيص من طريق ثمامة بن عبيدة عن أبي الزبير عن على بن عبد الله عباس عن أبيه، وهو حديث معلول- انتهى. وعن أبي ذر وسيأتي، وعن جابر أخرجه الدارقطني (ص163) ، قال الحافظ: هو معلول فإن المحفوظ عن أبي الزبير عن عبد الله بن باباه(3/470)
1053- (8) وعن أبي هريرة: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة)) رواه الشافعي.
1054- (9) وعن أبي الخليل: عن أبي قتادة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن جبير بن مطعم لا عن جابر. وعن أبي هريرة أخرجه ابن عدي، وقد تقدم لفظه مع الكلام فيه. وعن ابن عمر أخرجه الطبراني في الأوسط من رواية عبد الكريم عن مجاهد. قال الهيثمي: فإن كان هو الجزري فهو ثقة وإن كان ابن أبي المخارق فهو ضعيف- انتهى.
1053- قوله: (نهى عن الصلاة نصف النهار) قال الطيبي: ظرف للصلاة على تأويل أن يصلي. (حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة) مستثنى من النهي، وعليه يحمل حديثا عقبة وعمرو بن عبسة المتقدمان وحديث عبد الله الصنابحي الآتي، ويقال: إن الاستثناء في هذه الأحاديث مقدر، وفيه دليل على أن صلاة النفل نصف النهار يوم الجمعة غير منهي عنها، وبه قال الشافعي وأبويوسف من الأئمة الحنفية لحديث أبي هريرة هذا، وهو وإن كان ضعيفاً لكن له شواهد إذا ضمت قوى الخبر، ويجوز به تخصيص أحاديث النهي وتقييدها به، ويأتي مزيد الكلام فيه في شرح حديث أبي قتادة الآتي. (رواه الشافعي) عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي عن اسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي (ج2 ص464) قال الحافظ في التلخيص: إسحاق وإبراهيم ضعيفان. ورواه البيهقي من طريق أبي خالد الأحمر عن عبد الله شيخ من أهل المدينة عن سعيد به. ورواه الأثرم بسند فيه الواقدي وهو متروك، ورواه البيهقي بسند آخر فيه عطاء بن عجلان وهو متروك أيضاً- انتهى. وفي الباب عن واثلة رواه الطبراني، قال الحافظ: بسند واهٍ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد _ج2 ص228) بعد عزوه إلى الطبراني في الكبير: وفيه بشير بن عون، قال ابن حبان: يروي مائة حديث كلها موضوعة- انتهى. وعن أبي سعيد رواه البيهقي، وفيه أيضاً عطاء بن عجلان وعن أبي قتادة وسيأتي.
1054- قوله: (وعن أبي الخليل) اسمه صالح بن أبي مريم الضبعي مولاهم البصري، من رواة الستة، وثقة ابن معين وأبوداود والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وأغرب ابن عبد البر فقال في التمهيد: لا يحتج به. قال في تهذيب التهذيب (ج4 ص402) بعد ذكر جماعة من التابعين: روى عنهم وأرسل عن أبي قتادة وأبي سعيد وسفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (عن أبي قتادة) بن ربعي الأنصاري الخزرجي السلمي، فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد أحداً وما بعدها ولم يصح شهوده بدراً، ومات سنة أربع وخمسين، قيل سنة ثمان(3/471)
قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة، وقال: إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة)) رواه أبوداود، وقال: أبوالخليل لم يلق أبا قتادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وثلاثين. والأول أصح وأشهر، كذا في التقريب. وقال في تهذيب التهذيب (ج12 ص204و205) قال الواقدي: توفي بالكوفة سنة أربع وخمسين وهو ابن سبعين سنة، ولم أر بين علمائنا اختلافاً في ذلك. قال وروى أهل الكوفة أنه مات بالكوفة وعلي بها وصلى عليه. حكى خليفة أن ذلك كان سنة ثمان وثلاثين، وهو شاذ، ولأكثر على أنه مات سنة أربع وخمسين، قال الحافظ: ومما يؤيد ذلك أن أن البخاري ذكره في الأوسط في فصل من مات بعد الخمسين إلى الستين. ثم روى بإسناده إلى مروان بن الحكم قال: كان والياً على المدينة من قبل معاوية، أرسل إلى أبي قتادة ليريه مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فانطلق معه فأراه. وقال البيهقي: أجمع أهل التاريخ على أن أبا قتادة بقي إلى بعد الخمسين. وقال في الاصابة (ج4 ص159) : ويدل على تأخره أيضاً ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن معاوية لما قدم المدينة تلقاه الناس، فقال لأبي قتادة تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار- انتهى. (قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كره الصلاة) في أبي داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كره الصلاة، وفي جامع الأصول (ج6 ص182) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره الصلاة. (نصف النهار حتى تزول الشمس) قال السيد جمال الدين: قوله حتى تزول الشمس كذا في أصل سماعنا، وليس في أبي داود ولا في المصابيح. (إلا يوم الجمعة) مستثنى من الكراهة يدل كالحديث السابق على أن الصلاة النافلة نصف النهار يوم الجمعة قبل الزوال غير مكروهة، وبه قال الشافعي، وهي رواية عن الأوزاعي وأهل الشام. قال الحافظ في الفتح: قد استثنى الشافعي ومن وافقه من ذلك يوم الجمعة، وحجتهم أنه - صلى الله عليه وسلم - ندب الناس إلى التكبير يوم الجمعة ورغب في الصلاة إلى خروج الإمام وجعل الغاية خروج الإمام وهو لا يخرج إلا بعد الزوال فدل على عدم الكراهة، وجاء فيه حديث عن أبي قتادة مرفوعاً يعني حديث الباب، وفي إسناده انقطاع، وقد ذكر له البيهقي شواهد ضعيفة إذا ضمت قوي الخبر- انتهى. واستدل به لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال، خلافاً للأئمة الثلاثة، ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله. (إن جهنم تسجر) مشدداً ومخففاً أي توقد. (إلا يوم الجمعة) أي فإنها لا تسجر فلا تكره النافلة يوم الجمعة وقت الاستواء قبل الزوال. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الأثرم والبيهقي (ج2 ص464) (ج3 ص193) قال أبوداود: هو مرسل أي منقطع، أبوالخليل لم يسمع من أبي قتادة. وفيه أيضاً ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، إلا أنه اعتضد بمجيئه من طريق أخرى موصولاً كما تقدم، وأيضاً أيده فعل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - حث على التكبير ثم رغب في الصلاة إلى خروج الإمام من غير تخصيص ولا استثناء. قال الحافظ في التلخيص: قال صاحب الإمام وقوى الشافعي(3/472)
{الفصل الثالث}
1055- (10) عن عبد الله الصنابحي قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس تطلع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك بما رواه عن ثعلبة بن أبي مالك عن عامة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة- انتهى. قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص103) في خصائص يوم الجمعة الحادي عشر: أنه لا يكره فعل الصلاة. فيه وقت الزوال عند الشافعي ومن وافقه، وهو اختيار شيخنا ابن تيمية، وحديث أبي قتادة هذا قال أبوداود: هو مرسل؛ لأن أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة، والمرسل إذا اتصل به عمل وعضده قياس أو قول صحابي أو كان مرسله معروفاً باختيار الشيوخ ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين ونحو ذلك مما يقتضي قوته عمل به- انتهى مختصراً. وقال البيهقي بعد ذكر رواية أبي قتادة هذا مرسل، أبوالخليل لم يسمع من أبي قتادة، ورواية أبي هريرة وأبي سعيد في إسنادهما من لا يحتج به، ولكنها إذا انضمت إلى رواية أبي قتادة أخذت بعض القوة، وروينا الرخصة في ذلك عن طاووس ومكحول- انتهى. وتقدم كلام الحافظ أن في إسناد حديث أبي قتادة، انقطاعاً، وقد ذكر له البيهقي شواهد ضعيفة، إذا ضمت قوي الخبر.
1055- قوله: (عن عبد الله الصنابحي) بضم الصاد المهملة وفتح النون وكسر الموحدة فحاء مهملة، نسبة إلى صنابح بطن من مراد، قال ابن عبد البر: هكذا قال جمهور الرواة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن الصنابحي أي بلا أداة الكنية. وقال مطرف وإسحاق بن الطباع وغيرهما عن مالك بهذا عن أبي عبد الله الصنابحي بزيادة أداة الكنية، وهو الصواب. وهو عبد الرحمن بن عسيلة، وهو تابعي كبير ثقة ليست له صحبة قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج6 ص91) : لكن المشهور عن مالك عبد الله أي بغير أداة الكنية. وقال في الإصابة (ج2 ص384) : رواية مطرف وإسحاق بن الطباع عن مالك بزيادة أداة الكنية شاذة، وعلى هذا فالمحفوظ في رواية مالك هو عبد الله بغير أداة الكنية، ونقل الترمذي عن البخاري أن مالكاً وهم في قوله: عن عبد الله الصنابحي، وإنما هو أبوعبد الله، وهو عبالرحمن بن عسيلة، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال يعقوب بن شيبة: هؤلاء الصنابحيون الذين يروى عنهم في العدد ستة، وإنما هما اثنان فقط. الصنابحي الأحمسي وهو الصنابح. (بن الأعسر) الأحمسي، هذان واحد من قال فيه الصنابحي فقد أخطأ، وهو الذي يروي عنه الكوفيون. والثاني عبد الرحمن بن عسيلة كنيته أبوعبد الله، لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - بل أرسل عنه، وروى عن أبي بكر وغيره. فمن قال عن عبد الرحمن الصنابحي فقد أصاب اسمه. ومن قال عن أبي عبد الله الصنابحي فقد أصاب كنيته، وهو رجل واحد، ومن قال عن أبي عبد الرحمن فقد أخطأ، قلب اسمه فجعله كنيته، ومن قال عن عبد الله الصنابحي فقد اخطأ، قلب كنيته فجعلها اسمه، هذا قول على بن المديني ومن تابعه. قال يعقوب: وهو(3/473)
ومعها قرن الشيطان،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصواب عندي، وظاهر أن عبد الله الصنابحي وهم عند البخاري ويعقوب بن شيبة وعلى بن المديني وابن عبد البر ومن تبعهم ولا وجود له عندهم، بل هو أبوعبد الله عبد الرحمن بن عسيلة التابعي، والرواية مرسلة. وفيه نظر؛ لأن مالكاً لم ينفرد بذلك بل تابعه حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الشمس تطلع الخ، وكذا زهير بن محمد عند أحمد (ج4 ص349) وابن مندة. قال ابن مندة وكذا تابعه محمد بن جعفر بن أبي كثير وخارجه بن مصعب الأربعة عن زيد بن أسلم بهذا. وأخرجه الدارقطني في غرائب مالك من طريق إسماعيل بن أبي الحارث، وابن مندة من طريق إسماعيل الصائغ كلاهما عن مالك وزهير بن محمد عن زيد بن أسلم بهذا مصرحاً فيه بالسماع، وكذا أخرجه أحمد (ج4 ص349) عن روح بن عبادة عن مالك وزهير عن زيد به مصرحاً بالسماع، وروى زهير بن محمد وأبوغسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء عن عبد الله الصنابحي عن عبادة حديثاً آخر في الوتر، أخرجه أبوداود. فورود عبد الله الصنابحي في حديث الوتر من رواية زهير وأبي غسان عن زيد بن أسلم شيخ مالك بمثل روايته، ومتابعة الأربعة أي حفص بن ميسرة وزهير ومحمد بن جعفر وخارجه لمالك وتصريح اثنين أي حفص بن ميسرة وزهير ابن محمد منهم بالسماع يدفع الجزم بوهم مالك فيه. وقال يحيى بن معين: عبد الله الصنابحي الذي روى عنه المدنيون يشبه أن يكون له صحبة. وقال ابن السكن: يقال له صحبة معدود في المدنيين، روى عنه عطاء بن يسار وأبوعبد الله الصنابحي مشهور روى عن أبي بكر ليست له صحبة، هذا ملخص ما ذكره الحافظ في الاصابة (ج2 ص384، 385) و (ج3 ص96) وفي تهذيب التهذيب (ص91) و (ج6 ص229) . وقد ظهر بما ذكرنا أن عبد الله الصنابحي مختلف في صحبته بل في وجوده، وأن الراجح وجود عبد الله الصنابحي الصحابي، وإليه ذهب الترمذي والحاكم، وإليه مال ابن معين وابن السكن كما عرفت، والذهبي في التجريد (ج1 ص342) حيث قال: عبد الله الصنابحي روى عنه عطاء بن يسار كذا سماه فلعله غير عبد الرحمن خرج له أبويعلى- انتهى. وابن ألأثير في رجال جامع الأصول، وكذا المصنف في الإكمال حيث ذكر عبد الله الصنابحي في فصل الصحابة وقال: الصنابحي الصحابي، قد أخرج حديثه مالك في الموطأ والنسائي في سننه- انتهى. وذكر المنذري في الترغيب قول الحاكم: عبد الله الصنابحي صحابي مشهور، وسكت عليه. وعلى هذا فلا وهم في السند، والحديث صحيح موصول لا مرسل، كما زعم ابن عبد البر ومن وافقه، وقد تقدم شيء من الكلام في هذا في كتاب الطهارة. (ومعها قرن الشيطان) جملة حالية أي اقترانه أو أن الشيطان يدنوا منها بحيث يكون طلوعها بين قرني الشيطان أي جانبي رأسه، وغرض اللعين أن يقع سجود من يسجد للشمس له فينبغي لمن يعبد ربه تعالى أن(3/474)
فإذا ارتفعت فارقها، ثم إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يصلي في هذه الساعات احتراز من التشبه بعبده الشيطان. (فإذا ارتفعت فارقها) بالقاف قبل الهاء. (ثم إذا استوت قارنها) بنون تليها الهاء، وهذا زائد على ما مر من أنه في الطلوع والغروب، وهي علة أخرى للنهي عن الصلاة عند استواء الشمس، فقد تقدم في حديث عمرو بن عبسة تعليل النهي بتسجير جهنم إذ ذاك، ولا منافاة بينهما، كما لا يخفى. قال الحافظ في الفتح تحت باب من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر بعد بيان الأوقات الأربعة ما لفظه: وبقى خامس وهو الصلاة وقت استواء الشمس، وكأنه لم يصح عند المؤلف أي البخاري على شرطه فترجم على نفيه وفيه أربعة أحاديث، حديث عقبة بن عامر، وحديث عمرو بن عبسة، كلاهما عند مسلم. (وقد تقدما) وحديث أبي هريرة وهو عند ابن ماجه والبيهقي، ولفظه: حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح فإذا زالت فصل. وحديث الصنابحي، وهو حديث مرسل مع قوة رجاله، وفي الباب أحاديث أخرى ضعيفة، وبقضية هذه الزيادة قال عمر بن الخطاب، فنهى عن الصلاة نصف النهار. وعن ابن مسعود قال: كنا ننهى عن ذلك. وعن أبي سعيد المقبري قال: أدركت الناس وهم يتقون ذلك. وهو مذهب الأئمة الثلاثة والجمهور، وخالف مالك فقال: ما أدركت أهل الفضل إلا وهم يجتهدون ويصلون نصف النهار. قال ابن عبد البر: وقد روى مالك حديث الصنابحي، فأما أنه لم يصح عنده، وأما أنه رده بالعمل الذي ذكره- انتهى. قال الزرقاني: والثاني أولى أو متعين، فإن الحديث صحيح بلا شك، ورواته ثقات مشاهير، وعلى تقدير أنه مرسل فقد اعتضد بأحاديث كثيرة- انتهى. وقال الباجي: أما عند الزوال فالظاهر من مذهب مالك وغيره من الفقهاء إباحة الصلاة في ذلك الوقت، وفي المبسوط عن ابن وهب سئل مالك عن الصلاة نصف النهار فقال: أدركت الناس وهم يصلون يوم الجمعة نصف النهار. وجاء في بعض الحديث نهي عن ذلك فأنا لا أنهى عنه للذي أدركت الناس عليه ولا أحبه للنهي عنه، فعلى هذا القول بعض الكراهة وجه القول الأول ما استدل به من صلاتهم يوم الجمعة والناس بين مصل وناظر إلى مصل وغير منكر، ومحمل النهي في الحديث يحتمل أن يراد به الأمر بإبراد الظهر، ويحتمل أن يتوجه النهي إلى تحرى تلك الأوقات بالنافلة، ويحتمل أن يكون النهي منسوخاً، هذا إن حملناه على النهي عن النافلة، وإن حملناه على الفريضة فله وجه صحيح، وذلك أنه لا خلاف في منع تأخير الصبح إلى أن تطلع، وفي منع تقديم الظهر قبل الزوال حين الاستواء، وفي صلاة المغرب حين الغروب حتى تغرب، ويحتمل أن يراد بذلك تحري تلك ألأوقات بالفريضة- انتهى. قلت: هذه التأويلات كلها بعيدة بل باطلة تردها الأحاديث الواردة في النهي فإنها نص في معناها. (فإذا دنت للغروب) بأن اصفرت وقربت من سقوط طرفها(3/475)
ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في تلك الساعات)) . رواه مالك، وأحمد، والنسائي.
1056- (11) وعن أبي بصرة الغفاري، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمخمص صلاة العصر، فقال: إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالأرض. (ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) نهى التحريم. (عن الصلاة) الفريضة أو النافلة على ما تقدم من اختلاف الأئمة. (في تلك الساعات) الثلاث كلها. (رواه مالك) في أواخر الصلاة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله الصنابحي. (وأحمد) (ج4 ص349) عن روح عن مالك وزهير عن زيد. (والنسائي) عن قتيبة عن مالك عن زيد، وأخرجه أيضاً الشافعي عن مالك والبيهقي (ج2 ص454) من طريق الشافعي وابن قعنب وابن بكير عن مالك والدارقطني في غرائب مالك من طريق إسماعيل بن أبي الحارث وابن مندة من طريق إسماعيل الصائغ كلاهما عن مالك وزهير بن محمد عن زيد عن عطاء عن عبد الله الصنابحي بلا أداة الكنية عند الجميع، وأخرجه أحمد في (ج4 ص348) وابن ماجه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن زيد عن عطاء عن أبي عبد الله الصنابحي بزيادة أداة الكنية، والمحفوظ هو الأول كما تقدم.
1056- قوله: (عن أبي بصرة) بفتح الموحدة وسكون الصاد المهملة. (الغفاري) بكسر الغين المعجمة نسبة إلى غفار، اختلف في اسمه فقيل حميل: بفتح الحاء المهملة، قاله الدراوردي في روايته. وذكر ابن المديني عن بعض الغفاريين أنه تصحيف، وذكر البخاري أنه وهم، وقيل: حميل بالضم وعليه الأكثر وصححه ابن المديني وابن حبان وابن عبد البر وابن ماكولا. ونقل الاتفاق عليه وغيرهم. وقيل: جميل بالجيم، قاله مالك في حديث أبي هريرة حين خرج إلى الطور، وذكر البخاري وابن حبان أنه وهم. وقيل: زيد حكاه الباوردي ابن بصرة ابن أبي بصرة بن وقاص بن حبيب بن غفار. قال مصعب الزبيري: الحميل وبصرة وجده أبي بصرة صحبة. قال ابن يونس شهد حميل فتح مصر واختط بها ومات بها ودفن في مقبرتها، كذا في تهذيب التهذيب (ج3 ص56) والإصابة (ج4 ص21) و (ج1 ص162) . (بالمخمص) بميم مضمومة وخاء معجمة مفتوحة ثم ميم مفتوحة مشددة، وقيل: بميم مفتوحة وخاء ساكنة وميم مكسورة بعدها وفي آخره صاد مهملة، اسم موضع. (فقال) أي بعد فراغه منها. (أن هذه) أي صلاة العصر. (على من كان قبلكم) أي من اليهود والنصارى، قاله القاري. (فضيعوها) أي ما قاموا بحقها وما حافظوا على مراعاتها. وفي رواية لأحمد: فتوانوا فيها وتركوها. (فمن حافظ عليها كان له أجره مرتين) إحداهما للمحافظة عليها خلافاً لمن قبلهم، وثانيتهما أجر عمله كسائر الصلوات، قاله(3/476)
ولا صلاة بعدها حتى تطلع الشاهد)) والشاهد: النجم. رواه مسلم.
1057- (12) وعن معاوية، قال: ((إنكم لتصلون صلاة، لقد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رأيناه يصليهما، ولقد نهي عنهما. يعني الركعتين بعد العصر)) رواه البخاري.
1058- (13) وعن أبي ذر، قال- وقد صعد على درجة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطيبي. (ولا صلاة بعدها) أي بعد صلاة العصر. (حتى يطلع الشاهد) كناية عن غروب الشمس؛ لأن بغروبها يظهر الشاهد. (والشاهد النجم) سمي شاهداً لأنه يشهد بالليل ويحضر، ومنه قيل لصلاة المغرب صلاة الشاهد. ويجوز أن يحمل على الاستعارة، شبه النجم عند طلوعه على وجود الليل بالشاهد الذي يثبت به الدعاوي، قاله الطيبي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص397) والنسائي والبيهقي.
1057- قوله: (إنكم لتصلون) بفتح اللام للتأكيد. (فما رأيناه يصليهما) أي الركعتين، وللحموي يصليها أي الصلاة. (ولقد نهى عنهما) بضمير التثنية، ولأبي ذر عنها بالضمير المفرد، أي عن الصلاة. قال الحافظ: وقع الخلاف بين الرواة في قوله: ولقد نهى عنها أو عنهما، كما وقع في قوله: يصليهما أو يصليها. قلت: وقع في رواية البيهقي يصليها وعنها بالضمير المفرد، وهي تدل على أنه ليس عند معاوية حديث مستقل في النهي عن خصوص هاتين الركعتين، بل هو الحديث العام فقط، فذكر النهي عنهما تمسكاً بالعموم، وأما رواية عنهما أي بتثنية الضمير فيحتمل أن يكون عنده حديث خاص في النهي عن الركعتين، ويحتمل أن يكون هو الحديث العام فقط، ثم أدخلهما هو في عمومه، وذكر النهي عنهما تمسكاً بالعموم، وهذا هو ظاهر لرواية عنها، فإنها نص في أنه ليس عنده إلا الحديث العام. قال الحافظ: وكلام معاوية مشعر بأن من خاطبهم كانوا يصلون بعد العصر ركعتين على سبيل التطوع الراتب لها كما يصلى بعد الظهر، وما نفاه من رؤية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما قد أثبته غيره، والمثبت مقدم على النافي، وسيأتي قول عائشة: كان لا يصليهما في المسجد، لكن ليس في رواية الإثبات معارضة للأحاديث الواردة في النهي؛ لأن رواية الإثبات لها سبب. (كما تقدم) فألحق بها ماله سبب وبقي ما عدا ذلك على عمومه، والنهي فيه محمول على ما لا سبب له، وأما من يرى عموم النهي ولا يخصه بما له سبب فيحمل إنكار معاوية على من يتطوع، ويحمل الفعل على الخصوصية، ولا يخفى رجحان الأول- انتهى. (يعني) أي يريد معاوية بهما. (الركعتين بعد العصر) أي بعد صلاة العصر. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص99، 100) والبيهقي.
1058- قوله: (قال) أي أبوذر. (وقد صعد) حال من ضمير قال، أي طلع أبوذر. (على درجة(3/477)
الكعبة-: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة، إلا بمكة، إلا بمكة)) رواه أحمد، ورزين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكعبة) قال القاري: الدرجة بفتحتين هي الآن خشب يلصق بباب الكعبة ليرقى فيه إليها من يريد دخولها، فإذا قفلت حول لمحل آخر قريب من الطواف بجنب زمزم، فيحتمل أن يكون في ذلك الزمان كذلك، ويحتمل أن يكون بكيفية أخرى، ولا يبعد أن يكون المراد بالدرجة عتبة الكعبة، ويؤيد هذا رواية البيهقي بلفظ: قام فأخذ بحلقة باب الكعبة. (من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب) بضم الدال وبفتح. قال الطيبي: اتحاد الشرط والجزاء للإشعار بشهرة صدق لهجته، والشرطية الثانية تستدعى مقدراً، أي ومن لم يعرفني فليعلم إني جندب. (لا صلاة بعد الصبح) أي بعد فرض الصبح. (ولا صلاة بعد العصر) أي فرضه. (إلا بمكة إلا بمكة إلا بمكة) ثلاث مرات للتأكيد. (رواه أحمد ورزين) بن معاوية العبدري، أخرجه أحمد (ج5: ص165) عن يزيد عن عبد الله بن المؤمل عن قيس بن سعد عن مجاهد عن أبي ذر، وأخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي كلاهما من طريقه عن عبد الله بن المؤمل عن حميد مولى عفراء عن قيس بن سعد عن مجاهد، فزادوا حميداً في سندهم، وأخرجه ابن عدي في الكامل وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي من حديث سعيد بن سالم عن عبد الله بن المؤمل عن حميد عن مجاهد عن أبي ذر فلم يذكروا فيه قيساً، وأخرجه ابن عدي والبيهقي من طريقه من حديث اليسع بن طلحة القرشي: سمعت مجاهداً يقول بلغنا أن أبا ذر فذكره. قال البيهقي واليسع بن طلحة ضعفوه، وعبد الله أيضاً ضعيف، والحديث منقطع، مجاهد لم يدرك أباذر. ويقال إن عبد الله تفرد به، ولكن تابعه إبراهيم بن طهمان في ذلك عن حميد، وأقام إسناده، ثم ساقه بسنده إلى خلاد بن يحيى، قال حدثنا إبراهيم بن طهمان ثنا حميد مولى عفراء عن قيس بن سعد عن مجاهد، قال: جاءنا أبوذر فأخذ بحلقة الباب-الحديث. قال البيهقي: وحميد الأعرج ليس بالقوى. قال أبوحاتم الرازي: لم يسمع مجاهد من أبي ذر، وكذا أطلق ذلك ابن عبد البر والبيهقي والمنذري وغير واحد. قال البيهقي: قوله في رواية ابن طهمان جاءنا أبوذر أي جاء بلدنا. قال الزيلعي: قال الشيخ في الإمام حديث أبي ذر هذا معلول بأربعة أشياء: أحدها انقطاع ما بين مجاهد وأبي ذر. والثاني اختلاف في إسناده. والثالث ضعف ابن المؤمل. ضعفه ابن معين والنسائي. وقال أحمد أحاديثه مناكير. والرابع ضعف حميد مولى عفراء - انتهى مختصراً. لكن قال ابن عبد البر في التمهيد: وهذا حديث وإن لم يكن بالقوي لضعف حميد مولى عفراء ولأن مجاهدا لم يسمع من أبي ذر. ففي حديث جبير بن مطعم. (المتقدم) ما يقويه مع قول جمهور العلماء من المسلمين به - انتهى. قلت: الظاهر أن حميد هذا هو حميد بن قيس الأعرج المكي أبوصفوان(3/478)
(23) باب الجماعة وفضلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القارئ الأسدي مولاهم، وقيل: مولى عفراء، من رجال الجماعة، وثقه الترمذي والبخاري وأحمد في رواية أبي طالب عنه وابن معين وأبوزرعة وأبوداود ويعقوب بن سفيان والعجلي وابن خراش. وقال أبوحاتم والنسائي وابن عدي: ليس به بأس: وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله: ليس بالقوى، فتعليل الحديث بضعف حميد ليس مما يلتفت إليه. وههنا حميد آخر، وهو حميد الأعرج الكوفي القاص الملائي، واختلف في اسم أبيه، فقيل: حميد بن عطاء وقيل. . . . . . . ابن علي، وقيل: ابن عبد الله، وقيل: ابن عبيد، وهو من رجال الترمذي ضعيف بالاتفاق.
(باب الجماعة) أي أحكامها وآدابها. (وفضلها) أي زيادة ثوابها. اعلم أنهم اختلفوا في بدأ مشروعية صلاة الجماعة، فجزم ابن حجر المكي في تحفة المحتاج في شرح المنهاج للنووي أنه شرعت بالمدينة، وفي روضة المحتاجين للشيخ رضوان العدل أصل مشروعيتها بمكة بدليل صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً بخديجة وبعلي، لكنها لم تظهر ولم يواظب عليها إلا بالمدينة، ولذا قيل إنها شرعت بالمدينة، وكانت الصحابة بمكة يصلون في بيوتهم لتسلط المشركين عليهم وقهرهم - انتهى. واختلفوا أيضاً في حكمها من الندب والوجوب، فقال الحافظ في الفتح: ذهب إلى القول بأنه فرض عين عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر، وبالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطاً لصحة الصلاة. (وروى مثل ذلك عن أحمد والمشهور عنه أنها واجبة غير شرط) وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه، وقال به كثير من الحنفية والمالكية، والمشهور عند الباقين أنه سنة مؤكدة - انتهى. وفي شرح الهداية: عامة مشائخنا أنها واجبة، وفي المفيد: الجماعة واجبة وتسميتها سنة لوجوبها بالسنة، وقيل: فرض كفاية، وهو اختيار الطحاوي والكرخي وغيرهما - انتهى. واختار البخاري وجوبها وجوب عين حيث بوب علي حديث أبي هريرة ثاني أحاديث الباب بقوله: باب وجوب صلاة الجماعة، وذكر فيه قول الحسن أن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة لم يطعها، وقد عرف من عادته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها وتعيين أحد الاحتمالات في حديث الباب، فأثر الحسن هذا يشعر بكونه يريد أن صلاة الجماعة واجبة وجوب عين. وأقرب الأقوال عندي أن صلاة الجماعة سنة مؤكدة قريبة من الواجب، وبهذا تجتمع الأحاديث المشعرة بالوجوب، والأحاديث المقتضية لعدم الوجوب. هذا، وقد ذكر الشاه ولي الله الدهلوي في حجته (ج2: ص19) كلاماً جيداً في حكمة تشريع الجمعة والجماعات، فارجع إليه.(3/479)
{الفصل الأول}
1059- (1) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1059- قوله: (صلاة الجماعة) الإضافة لأدنى ملابسة أي صلاة أحدكم مع الجماعة، أو بحذف المضاف أي صلاة آحاد الجماعة، وإلا فليس المطلوب تفضيل صلاة الجماعة كلها على صلاة الواحد، بل تفضيل صلاة الواحد على صلاته باعتبار الحالين؛ لأنه لا فائدة في كون صلاة الجماعة كلها فاضلة هذا الفضل. (تفضل) بفتح التاء والسكون الفاء وضم الضاد المعجمة، أي تزيد في الأجر والثواب (صلاة الفذ) بفتح الفاء وتشديد الذال المعجمة، أي الفرد بمعنى المنفرد، وفي رواية لمسلم: صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده. (بسبع وعشرين) ، قال الترمذي: عامة من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قالوا: خمس وعشرين إلا ابن عمر، فإنه قال بسبع وعشرين، قال الحافظ: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد الله العمري عن نافع فقال فيه خمس وعشرين، لكن العمري ضعيف، ووقع عند أبي عوانة في مستخرجه من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع فإنه قال بخمس وعشرين، وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع، وإن كان راويها ثقة، وأما ما وقع عند مسلم من رواية الضحاك بن عثمان عن نافع بلفظ: بضع وعشرين. فليست مغايرة لرواية الحفاظ، لصدق البضع على السبع، وأما غير ابن عمر فصح عن أبي سعيد وأبي هريرة كما في هذا الباب. (أى باب فضل الجماعة عند البخاري بلفظ خمس وعشرين) وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم وعن عائشة وأنس عند السراج، وورد أيضاً من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت، وكلها عند الطبراني، واتفق الجميع على خمس وعشرين، سوى رواية أبي فقال: ربع أو خمس على الشك، أو سوى رواية أبي هريرة عند أحمد قال فيها: سبع وعشرون، وفي إسنادها شريك القاضي، وفي حفظه ضعف، وفي رواية لأبي عوانة بضعا وعشرين، وليست مغائرة أيضاً لصدق البضع على الخمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع، إذ لا أثر للشك - انتهى. واختلف في توجيه هذا الاختلاف، فمنهم من حاول الترجيح فقيل: رواية الخمس أرجح لكثرة رواتها، وإليه مال الترمذي كما يشير إليه كلامه المتقدم، وقيل: رواية السبع؛ لأن فيها زيادة من عدل حافظ، ومنهم ما مال إلى الجمع بين هذين العددين، وذلك بوجوه: منها: أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، ومفهوم العدد غير مراد، فرواية الخمس داخلة تحت رواية السبع. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لعله أخبر بالخمس أولاً ثم أعلمه الله بزيادة الفضل، فالزائد متأخر عن(3/480)
درجة))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الناقص؛ لأن الله تعالى يزيد عباده من فضله ولا ينقصهم من الموعود شيئاً. ومنها: الفرق بقرب المسجد وبُعده. ومنها: الفرق بحال المصلى كأن يكون أعلم أو أخشع. ومنها: الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره. ومنها: الفرق بإدراك كلها أو بعضها. ومنها: الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم. ومنها: أن السبع مختصة بالفجر والعشاء، وقيل: بالفجر والعصر لاجتماع الملائكة، والخمس بما عدا ذلك. ومنها: أن السبع مختصة بالجهرية، والخمس بالسرية، ورجحه الحافظ في الفتح، ورجح الشوكاني الأول. واعلم أن التخصيص بهذا العدد من أسرار النبوة التي تقصر العقول عن إدراكها. قال التوربشتي: أما وجه قصر الفضيلة على خمس وعشرين تارة، وعلى سبع وعشرين أخرى، فمرجعه إلى العلوم النبوية التي لا يدركها العقلاء إجمالاً فضلاً عن التفصيل، ولعل الفائدة فيما كشف به حضرة النبوة هي اجتماع المسلمين على إظهار شعار الإسلام - انتهى. وقد تعرض جماعة منهم الكرماني والبلقيني للكلام على وجه الحكمة في هذا العدد الخاص، وذكروا مناسبات وتعليلات، وهي أقوال تخمينية ليس عليها نص، وقد طول الكلام في ذلك الحافظ في الفتح، من أحب الوقوف على ذلك رجع إليه. (درجة) هو مميز العدد المذكور، وفي الروايات كلها التعبير بقوله درجة، أو حذف المميز إلا طرق حديث أبي هريرة، ففي بعضها ضعاً، وفي بعضها جزء، وفي بعضها درجة، وفي بعضها صلاة، ووقع هذا الأخير في بعض طرق حديث أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة ويحتمل أن يكون ذلك من التفنن في العبارة. قال ابن سيد الناس: هل هذه الدرجات والأجزاء بمعنى الصلوات، فيكون صلاة الجماعة بمثابة خمس وعشرين أو سبع وعشرين صلاة؟ أو يقال إن لفظ الدرجة والجزء لا يلزم منهما أن يكون بمقدار الصلاة، الظاهر الأول، ففي حديث لأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الجماعة تعدل خمساً وعشرين صلاة من صلاة الفذ، رواه السرج. وفي لفظ له: صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده، إسنادهما صحيح، وفي حديث ابن مسعود بخمس وعشرين صلاة - انتهى. قلت: حديث أبي هريرة أخرجه أيضاً مسلم بكلا اللفظين، وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات. قال الحافظ: معنى الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للجمع، وقد أشار ابن دقيق العيد إلى أن بعضهم زعم خلاف ذلك، قال: والأول أظهر؛ لأنه قد ورد مبيناً في بعض الروايات - انتهى. وكأنه يشير إلى ما ذكرنا من الروايات. ثم ظاهر قوله: تفضل، وكذا قوله: تزيد في رواية لمسلم، وكذا قوله: تضعف في حديث أبي هريرة عند البخاري أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد وتزيد عليها العدد المذكور، فيكون لمصلي الجماعة ثواب ست أو ثمان وعشرين من صلاة الفذ. قال الباجي: يقتضي هذا أن صلاة المأموم تعدل ثمانية وعشرين درجة من صلاة الفذ؛ لأنه تزيد سبعاً وعشرين درجة - انتهى. وهل هذا التضعيف يختص بالتجمع في المسجد أو لا يختص به؟ الظاهر الأول، قال الحافظ: وهو الراجح في نظري.(3/481)
متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والحديث حث على الجماعة، وفيه دليل على عدم وجوبها وأنها ليست شرطاً لصحة الصلاة. قال الباجي: والاستدلال منه بمعنيين: الأول بلفظ: تفضل، فلو لم تكن صلاة الفذ مجزئة لما وصفت بأنها تفضل؛ لأنه لا تفاضل بين صلاة الجماعة وبين ما ليس بصلاة. والثاني بالدرجات، فلو لم تكن لصلاة الفذ درجة لما جاز أن يقال إن صلاة الجماعة تزيد عليها سبعاً وعشرين درجة- انتهى. ويدل عليه أيضاً ما ورد في رواية لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ، لاقتضاء صيغة أفعل الاشتراك في أصل الفضل، فإن ذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصح لا فضيلة فيه. وقال الشوكاني: والمشترك ههنا لابد أن يكون هو الإجزاء والصحة، وإلا فلا صلاة فضلاً عن الفضل. وقال السندي: استدلوا بهذا الحديث وأمثاله على عدم وجوب الجماعة؛ لأن تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بتلك الدرجات فرع صحة صلاة الفذ، وهذا ليس بشيء؛ لأن معنى وجوب الجماعة عند غالب من يقول به من العلماء هو أنها واجبة على المصلي حالة الصلاة يأتم المصلي بتركها بلا عذر، لا أنها من واجبات الصلاة، بمعنى أنها شرط في صحتها، تبطل الصلاة بانتفائها، فإنه ما قال بالمعنى الثاني إلا شرذمة قليلون- انتهى. وأجيب أيضاً بأن المراد من الحديث إنما هو الترغيب في الجماعة ببيان زيادة ثوابها على صلاة المنفرد لا غير، وأما الوجوب فله دليل آخر، والحاصل أن الحديث إنما سيق لبيان فضل الجماعة والترغيب فيها، لا لبيان السنية أو الوجوب، وإنما ذكر صلاة الفذ وقابل بها ليظهر فضل صلاة الجماعة، فهو لتعقل صورة الحساب فقط كما في حديث الزكاة عند أبي داود: في كل أربعين درهماً درهم، فإنه لم يرد به بيان النصاب ليجب درهم على من كان عنده أربعون درهماً، إنما أراد به بيان الحساب بأن الخمسة في المأتين كالدرهم في الأربعين. هكذا حديث ابن عمر هذا وما شابهه إنما سيق لبيان الحساب لا لصحة صلاة المنفرد بمعنى عدم نقصان فيها، فتأمل. وقال بعضهم: إن صيغة أفعل قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين، كقوله تعالى: {وأحسن مقيلاً} [25: 24] . وتعقب بأنه إنما يقال ذلك على قلة حيث ترد صيغة أفعل مطلقة غير مقيدة بعدد معين، فإذا قلنا هذا العدد أزيد من هذا بكذا فلابد من وجود أصل العدد. وقال بعضهم: يحمل الفذ في الحديث على المعذور أي المنفرد لعذر. وتعقب بأن قوله: صلاة الفذ، صيغة عموم، فيشمل من صلى منفردا بعذر وبغير عذر فحمله على المعذور يحتاج إلى دليل. وأيضاً ففضل الجماعة حاصل للمعذور؛ لأن الأحاديث قد دلت على أن أجره لا ينقص عما يفعله لولا العذر، فروى أبوموسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً. رواه أحمد والبخاري وأبوداود، وعن أبي هريرة مرفوعاً: من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي.(3/482)
1060- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب، فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال. وفي رواية: لا يشهدون الصلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1060- قوله: (والذي نفسي) أي ذاتي أو روحي. (بيده) هو قسم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يقسم به، والمعنى أن أمر نفوس العباد بيد الله، أو بتقديره وتدبيره أو في ملكه وتحت تصرفه، وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه، تنبيهاً على عظم شأنه. (لقد هممت) هو جواب القسم أكده باللام وقد، والهم العزم، وقيل دونه، والمعنى: لقد قصدت. وزاد مسلم في أوله أنه - صلى الله عليه وسلم - فقد ناساً في بعض الصلوات فقال: لقد هممت، فأفاد ذكر سبب الحديث. (أن آمر) بالمد وضم الميم، أي خدمي لما في رواية فتيتي. (بحطب) بفتحتين، ما أعد من الشجر وقوداً للنار. قال القاري: أي يجمع حطب عظيم. (فيحطب) بالفاء وضم المثناه التحتية مبنياً للمفعول منصوباً عطفاً على المنصوب المتقدم، وكذا الأفعال الواقعة بعده، أي فيجمع الحطب. قال الطيبي: يقال حطبت الحطب واحتطبته أي جمعته. قال المؤلف: فيحطب كذا وجدناه في صحيح البخاري والجمع للحميدى وجامع الأصول وشعب الإيمان. وفي المصابيح فيحتطب أي من الاحتطاب. قلت: وكذا وقع لأبي الوقت في رواية البخاري وللبيهقي (ج3 ص55) . وحطب واحتطب بمعنى واحد. (ثم آمر) بالمد وضم الميم. (بالصلاة) العشاء أو الفجر أو الجمعة أو مطلقاً، كلها روايات ولا تضاد لجواز تعدد الواقعة، قاله القسطلاني. قلت: عامة الروايات عن أبي هريرة على الإبهام، نعم يومئ آخر هذه الرواية أنها العشاء لقوله: لشهد العشاء. وفي رواية مسلم: لشهدها، يعني صلاة العشاء ولذلك فسرها القاري بالعشاء، قال: ويحتمل بقاءه على عمومه إن تعددت القصة. وقال النووي: جاء في رواية أن هذه الصلاة التي همّ بتحريقهم للتخلف عنها هي العشاء, وفي رواية أنها الجمعة، وفي رواية يتخلفون عن الصلاة مطلقاً، وكله صحيح، ولا منافاة بين ذلك أي لحمله على تعدد القضية. (فيؤذن) بفتح الذال المشددة. (لها) أي لأجلها. (ثم آمر رجلا فيؤم الناس) فيد دليل لجواز استخلاف الإمام وانصرافه لعذر. (ثم) أخالف إلى رجال أي آتيهم من خلفهم. وقال الجوهري: خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه، أو المعنى أخالف المشتغلين بالصلاة قاصداً إلى بيوت الذين لم يخرجوا عنها إلى الصلاة فأحرقها عليهم، وقيل: معناه: أذهب إليهم، وقيل: المعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة فأتركه وأسير إليهم، أو أخالف ظنهم في أنى مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم. والتقييد بالرجال يخرج النساء والصبيان، وهو منصوص في رواية لأحمد بلفظ: لولا ما في البيوت من النساء والذرية- الحديث. (وفي رواية) أي أخرى. (لا يشهدون الصلاة) أي لا يحضرون(3/483)
فأحرق عليهم بيوتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجماعة من غير عذر. قال المؤلف: وليس في الصحيح في هذه الرواية لا يشهدون الصلاة بل في رواية أخرى، نقله الطيبي. قلت: هذا اعتراض من صاحب المشكاة على البغوي حيث ذكر سياق الحديث في المصابيح بلفظ: ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة الخ، فإن الظاهر منه أن قوله: لا يشهدون الصلاة، موجود في الرواية التي ساق البغوي لفظها، مع أن هذا اللفظ ليس في هذه الرواية بل في رواية أخرى، فكان عليه أن ينبه على ذلك، ويقول بعد قوله إلى رجال. وفي رواية. لا يشهدون الصلاة، كما قال المؤلف. وهذا الاعتراض متجه عندي كما لا يخفى، وفي رواية لأي داود: ثم آتى قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة، فيكون الوعيد على ترك الجماعة بغير عذر لا على ترك الصلاة، وفيه دلالة على أن الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة، ولو قلنا إنها فرض، وكذا الجمعة. (فأحرق) بتشديد الراء وفتح القاف وضمها كسابقه، وهو مشعر بالتكثير والمبالغة في التحريق. (عليهم) أي على المتخلفين عن الجماعة. (بيوتهم) بالنار عقوبة لهم، وفيه إشعار بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين وبيوتهم، وفي رواية لمسلم: ثم تحرق بيوتاً على من فيها. والحديث قد استدل به لأحمد ومن وافقه على أن الجماعة واجبة وجوب عين، وهو من أوضح أدلة القائلين بالوجوب. قال الحافظ في الفتح: الحديث ظاهر في كون الجماعة فرض عين؛ لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه. وأجاب الجمهور عنه بأجوبة: الأول أن نفس الحديث يدل على خلاف المدعى وهو عدم الوجوب، لكونه - صلى الله عليه وسلم - هم بالتوجه إلى المتخلفين، فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه. وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه، وبأن تركها لحال التحريق لا يستلزم الترك مطلقاً؛ لإمكان أن يتداركها في جماعة آخرين قبل التحريق أو بعده. والثاني أن الخبر ورد مورد الزجر، وحقيقة غير مرادة، وإنما المراد المبالغة، ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك. وأجيب بأن ذلك وقع قبل تحريم التعذيب بالنار، فحمل التحديد على حقيقته غير ممتنع، على أنه لو فرض أن هذا التواعد وقع بعد التحريم لكان مخصصاً له، فيجوز التحريق في عقوبة تارك الصلاة بالجماعة. والثالث كونه - صلى الله عليه وسلم - ترك تحريقهم بعد التهديد، فلو كان واجباً ما عفا عنهم. وتعقب بأنه لا يهمّ إلا بما يجوز له فعله لو فعله، والترك لا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه جاء في رواية لأحمد بيان سبب الترك، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار، وسيأتي هذا الحديث. والرابع أن التهديد لقوم تركوا الصلاة رأساً لا مجرد الجماعة. وتعقب بما تقدم من رواية أبي داود بلفظ:(3/484)
ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة، وبقوله: لا يشهدون الصلاة بمعنى لا يحضرون الجماعة، وفي رواية عند أحمد: لا يشهدون العشاء في الجميع أي في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعاً: لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم. والخامس أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم، لا لخصوص ترك الجماعة، فلا يتم الدليل، وهو قريب من الوجه الثاني. والسادس أن الحديث ورد في حق المنافقين خاصة، فليس التهدد على ترك الجماعة بخصوصه، فلا يتم الدليل. وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة، مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - كان معرضاً عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم، وقال: لا يحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. وتعقب هذا التعقب بأنه لا يتم إلا أن ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجباً عليه ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخيراً فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم. قال الحافظ: والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين، لقوله في رواية من حديث أبي هريرة هذا عند الشيخين: ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر- الحديث. لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر، يدل على ذلك ما في رواية أبي داود: ويصلون في بيوتهم ليست بهم علة، ففيه دليل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر؛ لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، وأيضاً قوله في رواية أحمد: لولا ما في البيوت من النساء والذرية، يدل على أنهم لم يكونوا كفاراً؛ لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقاً إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته، وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدل على عدم الوجوب؛ لأنه يتضمن أن ترك الجماعة من صفات المنافقين، وقد نهينا عن التشبه بهم، وسياق الحديث يدل على عدم الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها. قال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم وعادتهم، وأنه مناف لأحوالهم؛ لأنه من صفات المنافقين، ولو دخلوا في هذا الوعيد ابتداء لم يكن بهذه المثابة. ويعضده ما روي عن ابن مسعود من قوله: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق قد علم نفاقه، رواه مسلم- انتهى كلامه. لا يقال: فهذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه. (السادس) لأنتفاء أن يكون المؤمن قد تخلف، وإنما ورد الوعيد في حق م تخلف؛ لأني أقول: بل هذا يقوي ما ظهر لي أولاً أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازاً لما دل عليه مجموع الأحاديث- انتهى كلام الحافظ. والسابع أن فريضة الجماعة كانت في أول(3/485)
والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ، حكاه عياض. قال الحافظ: ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم، وهو التحريق بالنار، وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال- انتهى. قال النووي: أجمع العلماء على منع العقوبة بالتحريق في غير المتخلف عن الصلاة والغال في الغنيمة، واختلف السلف فيهما، والجمهور على منع تحريق متاعهما- انتهى. هذا، وههنا وجوه أخرى للجواب عن هذا الحديث تركناها للاختصار، وأقرب الأجوبة عندي هو الوجه الثاني، يني أن الحديث خرج مخرج الزجر لا الحقيقة، وإنما المراد المبالغة بدليل أنه لم يفعله - صلى الله عليه وسلم -، ولا دليل على أنهم انزجروا وتركوا التخلف، وكان يمكن له - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق ما في بيوتهم بعد إخراج النساء والذرية منها. (والذي نفسي بيده) أعاد القسم للمبالغة في التأكيد. (لو يعلم أحدهم) أي الذين لا يشهدون الصلاة. (أنه يجد) أي في المسجد. (عرقاً) بفتح العين المهملة وسكون الراء وبالقاف، العظم الذي عليه بقية لحم. قال الطيبي: العرق بالسكون العظم الذي أخذ منه اللحم أي معظمه وبقي عليه لحم رقيق، يقال: عرقت العظم إذا أخذت أكثر ما عليه من الحم نهشاً. وفي المحكم عن الأصمعي: العرق بسكون الراء قطعة لحم، قيل هو اللائق هنا، وقيل: الأول لأنه أشد مبالغة في إظهار الخساسة المقصودة. ولفظ الموطأ والنسائي عظماً قيل هو أنسب للوصف بقوله: (سميناً) قال ابن حجر قيد به؛ لأن العظم السمين فيه دسومة قد يرغب في مضغه لأجلها. (أو مرماتين) تثنية مرماة بكسر الميم وقد تفتح، ظلف الشاة أو ما بين ظلفيها من اللحم، قاله الخليل. وكذا قال البخاري فيما نقله المستملي في روايته في كتاب الأحكام عن الفربري. قال عياض: فالميم على هذا أصلية، وقال الأخفش: المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنضال محددة يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب، وهي المرماة والمدحاة، قيل: ويبعد أن تكون هذه مراداً لحديث لأجل التثنية. وحكى الحربي عن الأصمعي: أن المرماة سهم الهدف، وقال ويؤيده ما روى عن أبي رافع عن أبي هريرة بلفظ: لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل. وقيل: المرماة سهم يتعلم عليه الرمي، وهو سهم دقيق مستو غير محدد، وهو أحقر السهام وأرذلها. قال الزين بن المنير: ويدل على ذلك التثنية فإنها مشعرة بتكرر الرمي، بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر رميها. وقال الزمخشري: تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه، ويدفعه ذكر العرق معه، ووجهه ابن الأثير بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين؛ لأنهما مما يتلهى به- انتهى. (حسنتين) بفتحتين أي جيدتين. قال الحافظ: إنما وصف العرق بالسمن والمرماة بالحسن ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما. (لشهد العشاء) أي صلاتها، فالمضاف محذوف، والمعنى لو علم أنه لو حضر الصلاة يجد نفعاً دنيوياً وإن كان خسيساً(3/486)
رواه البخاري. ولمسلم نحوه.
1061- (3) وعنه، قال: ((أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى، فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حقيراً لحضرها لقصور همته على الدنيا، ولا يحضرها لما لها من مثوبات الآخرة ونعيمها، ففيه توبيخ وإشارة إلى ذم المتخلفين بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به مع التفريط فيما يحصل به رفيع الدرجات ومنازل الكرامات. وفي الحديث من الفوائد تقديم التهديد والوعيد على العقوبة، وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزواجر اكتفى به عن الأعلى من العقوبة، فهو من باب الدفع بالأخف. وفيه جواز العقوبة بالمال، كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكية وغيرهم. وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - هم بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصلاة الجماعة، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد، وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل، وترجم عليه البخاري في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام: باب أخراج أهل المعاصي والريب من البيوت بعد المعرفة، يريد أن من طلب منهم بحق فاختفى أو امتنع في بيته لدداً ومطلاً أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها، كما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم. وفيه الرخصة للإمام أو نائبة في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفى في بيته ويتركها، ولا بعد أن يلحق بذلك الجمعة فقد ذكروا من الأعذار في التخلف عنها خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم في حق الإمام كالغرماء. واستدل به ابن العربي على جواز إعدام محل المعصية، كما هو مذهب مالك. قال العيني: وكذلك روي عن بعض أصحابنا، وادعى الجمهور النسخ. (رواه البخاري) في الصلاة وفي كتاب الأشخاص وكتاب الأحكام، وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والنسائي والبيهقي. (ولمسلم نحوه) وكذا للترمذي وأبي داود وابن ماجه.
1061- قوله: (رجل أعمى) قال النووي وغيره: هو ابن أم مكتوم كما جاء مفسراً في سنن أبي داود وغيره، يعني بذلك رواية أبي داود والنسائي الآتية في الفصل الثالث. (ليس لي قائد) القائد هو الذي يمسك يد الأعمى ويأخذها ويذهب به حيث شاء ويجرة، من القود وهو ضد السوق فهو من أمام، وذاك من خلف، والمراد نفي القائد الملائم أي الموافق المساعد، لا نفي القائد مطلقاً، جمعاً بينه وبين ما وقع في الرواية الآتية عند أبي داود: ولى قائد لا يلائمني، إذا كان الأعمى المذكور في حديث أبي هريرة هذا هو ابن أم مكتوم، وقيل: هما واقعتان. (يقودني) أي يمسكني ويأتي معي. (إلى المسجد) لصلاة الجماعة وفي رواية النسائي إلى الصلاة. (أن(3/487)
يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم. قال: فأجب)) رواه مسلم.
1062- (4) وعن ابن عمر: ((أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يرخص له) أي في ترك الجماعة في المسجد. (فيصلي في بيته) إما جماعة أو منفرداً. (فرخص له) أولا. (فلما ولى) أي رجع وأدبر (هل تسمع النداء بالصلاة) أي التأذين بها. (فأجب) أمر من الإجابة أي أجب النداء واتبعه بالفعل، يعني فأت الجماعة، قيل: الترخيص في أول الأمر اجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم -، والأمر بالإجابة بوحي جديد من الله تعالى نزل في الحال، أو أنه تغير اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - إذا قلنا بالصحيح، وقول الأكثرين أنه يجوز له الاجتهاد. وقيل: أطلق له الجواب أي رخص له أولاً مطلقاً ثم قيده بقيد عدم سماع النداء، ومفهومه أنه إذا لم يسمع النداء كان ذلك عذراً له، وإذا سمعه لم يكن له عذر من الحضور. وقيل الترخيص أولاً باعتبار العذر, والأمر بالإجابة للندب، فكأنه قال: الأفضل لك والأعظم لأجرك أن تجيب وتحضر فأجب، ويدل لكون الأمر للندب مع العذر حديث ابن عباس الآتي في الفصل الثاني، والحديث ظاهر في وجوب الجماعة وجوب عين، فيأثم المصلي بتركها. وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه سأل هل له رخصة في أن يصلي في بيته وتحصل له فضيلة الجماعة بسبب عذره، فقيل لا. ويؤيد ها أن حضور الجماعة يسقط بالعذر بإجماع المسلمين، ومن جملة العذر العمى إذا لم يجد قائداً، كما في حديث عتبان بن مالك في الصحيحين أنه رخص له حيث شكا بصره أن يصلي في بيته. وتعقب بأن هذا التأويل ضعيف، لما تقدم أن المعذور لا ينقص أجره عما يفعله لولا العذر، كما يدل عليه حديث أبي موسى. وما ادعى أحد أن الجماعة فرض عين مع وجود العذر أيضاً، فتدبر. وحمل بعضهم حديث العمى على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم منه أنه يمشي بلا قائد لحذقه وذكائه كما هو مشاهد في بعض العميان يمشي بلا قائد، لاسيما إذا كان يعرف المكان قبل العمي أو بتكرر المشي إليه يستغنى عن القائد. وأجاب بعضهم بأن الدعوى وجوب الجماعة في المسجد عيناً سمع النداء أو لم يسمع، والحديث إنما يدل على وجوب الجماعة عيناً على من سمع النداء فقط لا مطلقاً، وهو أخص من الدعوى، فلا يتم التقريب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي وغيرهما.
1062- قوله: (وعن ابن عمر أنه أذن) عبارة البخاري هنا عن نافع أن ابن عمر أذن، وفي باب الأذان للبخاري أيضاً قال: (أي نافع) أذن ابن عمر، وهذا صريح في أن أذن على صيغة المعروف. (في ليلة ذات برد) بسكون الراء. (وريح) وكان ابن عمر إذ ذاك مسافراً فأذن في ليلة باردة بضجنان كما في رواية للبخاري، وهو(3/488)
ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم وبينونين بينهما ألف على وزن فعلان، غير منصرف. قال الزمخشري في الفائق: جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلاً. (ثم قال) أي ابن عمر بعد فراغ الأذان. (ألا) بتخفيف اللام التنبيه (صلوا) بصيغة الأمر. (في الرحال) بكسر الراء بعدها حاء مهملة جمع رحل، وهو مسكن الرجل وما فيه من أثاثه، أي صلوا في منازلكم. (كان يأمر المؤذن إذا كانت) أي وقعت. (ليلة) بالرفع. (ذات برد) صفتها والمراد البرد الشديد. (ومطر) أي كثير، وفي رواية للبخاري: في الليلة الباردة أو المطيرة أي الماطرة. وفي صحيح أبي عوانة: ليلة باردة أو ذات مطر أو ذات ريح. وقوله أو ليس للشك، بل للتنويع، وفيه رد على من قال إن ابن عمر قاس الريح على المطر بجامع المشقة العامة؛ لأنه نص فيه على الريح، وفيه أيضاً أن كل واحد من البرد والمطر والريح عذر بانفراده في التأخر عن الجماعة، وبه قال الجمهور. ونقل ابن بطال فيه الإجماع، لكن المعروف عند الشافعية والمالكية والحنفية أن الريح عذر في الليل فقط، وأما المطر والبرد فقالوا إن كلا منهما عذر في الليل والنهار كليهما. وظاهر الحديث اختصاص الثلاثة بالليل، لكن في سنن أبي داود من طريق ابن إسحاق عن نافع في هذا الحديث: في الليلة والغداة القرة، وفيها بإسناد صحيح من حديث أبي المليح عن أبيه أنهم مطروا يوماً (أي يوم حنين) فرخص لهم، وكذا في حديث ابن عباس عند الشيخين أنه قال لمؤذنه في يوم مطير ... الحديث، قال الحافظ: ولم أر في شيء من الأحاديث الترخص بعذر الريح في النهار صريحاً لكن القياس يقتضى إلحاقه- انتهى. (يقول) أي بعد الفراغ من الأذان، ففي رواية للبخاري: كان يأمر مؤذناً يؤذن ثم يقول على أثره يعني أثر الأذان، فإنه صريح في أن قوله: ألا صلوا في الرحال. كان بعد فراغ الأذان. فإن قلت: في حديث ابن عباس عند الشيخين: فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة فأمره أن ينادي الصلاة في الرحال. وقال: فعل هذا من هو خير منه، وهو يقتضي أن ذلك يقال بدلاً عن الحيعلتين، وظاهر الحديث أنه يقال بعد الفراغ من الأذان، فما الجمع بينهما. أجيب بأن الأمرين جائزان، لأمره - صلى الله عليه وسلم - بكل منهما لكن بعده أحسن لئلا ينخرم نظام الأذان، وقد ورد الجمع بينهما في حديث آخر أخرجه عبد الرزاق وغيره بإسناد صحيح، عن نعيم بن النحام قال: أذن مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للصبح في ليلة باردة، فتمنيت لو قال: ومن قعد فلا حرج، فلما قال: الصلاة خير من النوم قالها، ولا منافاة بين الجمع بينهما، سواء زيد في أثناء الأذان بعد الحيعلتين أو زيد بعد فراغه؛ لأنه يمكن أن يقال أن المراد من قوله: الصلاة في الرحال الرخصة لمن أراد أن يترخص، ومعنى حي على صلاة أي هلموا إليها الندب لمن أراد أن يستكمل الفضيلة ولو بحمل المشقة. وفي حديث جابر عند مسلم ما يؤيد(3/489)
ألا صلوا في الرحال)) متفق عليه.
1063- (5) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك ولفظه: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فمطرنا فقال ليصل من شاء منكم في رحله، وقد تبين بقوله: من شاء أن أمره عليه السلام بقوله: ألا صلوا في الرحال، ليس أمر عزيمة، حتى لا يشرع له الخروج إلى الجماعة، وإنما هو راجع إلى مشيتهم، فمن شاء صلى في رحله، ومن شاء خرج إلى الجماعة. (ألا صلوا) أمر إباحة كما تقدم آنفاً. (في الرحال) العذر، والصلاة في الرحال أعم من أن تكون جماعة أو منفردة، لكنها مظنة الانفراد، والمقصود الأصلي في الجماعة إيقاعها في المسجد، وزاد البخاري في رواية: في السفر، قال الحافظ: ظاهره اختصاص ذلك بالسفر، ورواية مالك عن نافع الآتية يعني رواية الباب مطلقة، وبها أخذ الجمهور، لكن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي أن يختص ذلك بالمسافر مطلقاً، ويلحق به من تلحقه بذلك مشقة في الحضر دون من لا تلحقه- انتهى. قلت: في سنن أبي داود من طريق محمد بن إسحاق عن نافع في هذا الحديث: في المدينة في الليلة المطيرة والغداة القرة، فصرح بأن ذلك في المدينة ليس في سفر، لكن ابن إسحاق رواه عن نافع بالعنعنة، وهو مدلس، وقد خالفه الثقات، فإنهم قالوا فيه: في السفر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي، وفي الباب عن ابن عباس، وقد تقدم لفظه، وعن سمرة أخرجه أحمد وعن أبي المليح عن أبيه، وعن جابر وتقدم لفظهما، وعن عبد الرحمن بن سمرة أخرجه الحاكم وعبد الله بن أحمد، قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده وأكبر علمي أنى قد سمعته منه ثنا على بن عبد الله الخ (ج5 ص62) وعن نعيم بن النحام، وعن عمرو بن أوس عن صحابي لم يسم أخرج حديثهما أحمد.
1063- قوله: (إذا وضع) بصيغة المجهول. (عشاء أحدكم) بفتح العين في الموضعين، طعام آخر النهار، ويفهم منه أن تقديم الطعام إذا وضع بين يدي الآكل، لا إذا وجده مطبوخاً أو مغروفاً في الأوعية، ويدل عليه أيضاً ما في حديث أنس عند البخاري: إذا قدم العشاء، ولمسلم: إذا قرب العشاء، وعلى هذا فلا يناط الحكم بما إذا حضر العشاء، ولكنه لم يقرب للأكل كما لو لم يقرب. (وأقيمت الصلاة) قيل: الألف واللام للعهد، والمراد بالصلاة المغرب، لقوله: فابدؤوا بالعشاء، ولقوله في حديث أنس عند البخاري: فابدوؤا به قبل أن تصلوا المغرب. وفي رواية ابن حبان والطبراني: إذا وضع العشاء وأحدكم صائم. وقيل: اللام لتعريف الماهية، والمراد حقيقة الصلاة. قال الفاكهاني: ينبغي حمله على العموم نظراً إلى العلة، وهي التشويش المفضي إلى ترك الخشوع، وذكر المغرب لا يقتضي الحصر فيها؛ لأن الجائع غير الصائم قد يكون أشوق إلى الأكل من الصائم- انتهى. قال الحافظ بعد ذكر(3/490)
فابدؤوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه، وكان ابن عمر يوضع له الطعام، وتقام الصلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذين القولين: وحمله على العموم نظراً إلى العلة، إلحاقاً للجائع بالصائم وللغداء بالعشاء، لا بالنظر إلى اللفظ الوارد- انتهى. قلت: حديث عائشة الآتي يؤيد العموم. (فابدؤوا بالعشاء) أي بأكله، واختلفوا في هذا الأمر، فالجمهور على أنه للندب. وقيل: للوجوب، وبه قالت الظاهرية. واستدل الجمهور بفعله عليه السلام من كونه ألقى الكتف أثناء أكله منها حين دعي إلى الصلاة. أخرجه البخاري من حديث عمرو بن أمية؛ لأنه لو كان تقديم الأكل واجباً لما قام إلى الصلاة. وتعقب بأنه يحتمل أن يكون اتفق في تلك الحالة أنه قضى حاجته من الأكل فلا تتم الدلالة به، ثم اختلف الجمهور، فمنهم من قيده بمن إذا كان محتاجاً إلى الأكل شديد التوقان إليه، وهو المشهور عن الشافعية، وزاد الغزالي ما إذا خشي فساد المأكول. ومنهم من قيده بما إذا كان الطعام خفيفاً أو مما يؤتى عليه مرة واحدة كالسويق واللبن، وإلا يبدأ بالصلاة، نقله ابن المنذر عن مالك. ومنهم من لم يقيده، وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق، وعليه يدل فعل ابن عمر الآتي. وأفرط ابن حزم وقال: تبطل الصلاة. والراجح عندي ما قاله أحمد ومن وافقه، فيستحب تقديم العشاء مطلقاً أي سواء كان محتاجاً إليه أم لا، وسواء كان خفيفاً أم لا، وسواء خشي فساد المأكول أم لا. واستدل بعض الشافعية والحنابلة بقوله: فابدؤوا، على تخصيص ذلك بمن لم يشرع في الأكل، وأما من شرع فيه ثم أقيمت الصلاة فلا يتمادى بل يقوم إلى الصلاة، لكن صنيع ابن عمر يبطل ذلك. قال النووي: وهو الصواب. وتعقب بأن صنيع ابن عمر اختيار له، وإلا فالنظر إلى المعنى يقتضي ما ذكروه؛ لأنه يكون قد أخذ من الطعام ما يدفع به شغل البال، ويؤيد ذلك حديث عمرو بن أمية الذي أشرنا إليه، نعم ينبغي أن يدار الحكم مع العلة وجوداً أو عدماً، ولا يتقيد بكل ولا بعض. (ولا يعجل) أي أحدكم إلى الصلاة. (حتى يفرغ منه) أي من أكل العشاء. قال الطيبي: أفرد قوله: "يعجل" نظراً إلى لفظ "أحد" وجمع قوله "فابدؤوا" نظراً إلى لفظ "كم". قال: والمعنى إذا وضع عشاء أحدكم فابدؤوا أنتم بالعشاء، ولا يعجل هو حتى يفرغ معكم منه- انتهى. وأجاب البرماوي بأن النكرة في الشرط تعم فيحتمل أن الجمع لأجل عموم أحد- انتهى. وقال القاري: الظاهر أن الخطاب بالجمع لإفادة عموم الحكم، وأنه غير مختص بأحد دون أحد، أو المراد به الموافقة معه، ثم أداء الصلاة جماعة، لينال الفضيلة. والحديث دليل على أن تقريب الطعام ووضعه بين يدي الآكل من أعذار ترك الجماعة. (وكان ابن عمر) هو موصول عطفاً على المرفوع السابق، مقولة نافع. (يوضع له الطعام) هو أعم من العشاء. (وتقام الصلاة) أي جماعة مغرباً أو غيرها، لكن رواه البيهقي والسراج بسندهما عن نافع بلفظ: وكان ابن عمر إذا حضر عشاءه. ورواه ابن حبان بسنده عن نافع أن ابن عمر كان يصلي المغرب إذا غابت الشمس، وكان أحياناً يلقاه وهو صائم، فيقدم له عشاءه وقد نودي للصلاة، ثم تقام وهو يسمع، فلا يترك عشاءه ولا يعجل(3/491)
فلا يأتيها حتى يفرغ منه، وإنه ليسمع قراءة الإمام)) متفق عليه.
1064- (6) وعن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة بحضرة الطعام، ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حتى يقضي عشاءه ثم يخرج فيصلي. (فلا يأتيها) أي الصلاة في المسجد. (حتى يفرغ منه) أي من أكله. وليس في صحيح البخاري لفظ "منه". (وأنه) الواو للحال. (ليسمع) بلام التأكيد. (قراءة الإمام) أي من قربه من المسجد. واستنبط من الحديث كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله لما فيه من ذهاب كمال الخشوع. قال النووي: ويلتحق به ما في معناه مما يشغل القلب، وهذا إذا كان في الوقت سعة، فإن ضاق صلى على حاله محافظة على حرمة الوقت، ولا يجوز التأخير. وحكى المتولي وجهاً أنه يبدأ بالأكل وإن خرج الوقت؛ لأن مقصود الصلاة الخشوع فلا يفوته - انتهى. وهذا إنما يجيء على قول من يوجب الخشوع، ثم فيه نظر؛ لأن المفسدتين إذا تعارضتا اختصر على أخفها، وخروج الوقت أشد من ترك الخشوع، بدليل صلاة الخوف وغير ذلك، وإذا صلى لمحافظة الوقت صحت مع الكراهة، وتستحب الإعادة عند الجمهور. واستدل به القرطبي على أن شهود صلاة الجماعة ليس بواجب؛ لأن ظاهره أنه يشتغل بالأكل وإن فاتته الصلاة بالجماعة. وفيه نظر؛ لأن بعض من ذهب إلى الوجوب كابن حبان جعل حضور الطعام عذراً في ترك الجماعة، فلا دليل فيه حينئذٍ على إسقاط الوجوب مطلقاً. وفيه دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أول الوقت، فإنهما لما تزاحما قدم الشارع الوسيلة إلى حضور القلب على أداء الصلاة في أول الوقت. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والترمذي وابن ماجه والبيهقي، وليس في حديث مسلم القسم الموقوف على ابن عمر من فعله، بل هو عند البخاري فقط، وأخرج نحوه الترمذي وأبوداود وابن ماجه، وفي الباب عن عائشة وأنس عند الشيخين وعن أم سلمة عند أحمد وأبي يعلي والطبراني وعن سلمة بن الأكوع وابن عباس وأنس عند الطبراني.
1064- قوله: (لا صلاة) أي كاملة، وقيل: هو نفي بمعنى نهي، ويؤيده رواية أبي داود: لا يصلي الرجل بحضرة الطعام. (بحضرة الطعام) وفي بعض النسخ "بحضرة طعام" كما في صحيح مسلم، أي بحضور طعام بين يدي من يريد أكله، وفيه دليل على أن حمل الصلاة في قوله: أقيمت الصلاة، في الحديث السابق على العموم أولى؛ لأن لفظ صلاة في هذا الحديث نكرة في سياق النفي، ولا شك أنها من صيغ العموم، ولأن لفظ الطعام مطلق غير مقيد بالعشاء، فالظاهر أن ذكر المغرب في حديث أنس من التنصيص على بعض أفراد العام وليس بتخصيص. (ولا) أي ولا(3/492)
هو يدافعه الأخبثان)) رواه مسلم.
1065- (7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صلاة كاملة حاصلة. (هو يدافعه) ضمير "هو" مبتدأ خبره "يدافعه" والجملة وقعت حالاً بلا واو، وفي بعض النسخ: ولا وهو يدافعه، بالواو، كما في صحيح مسلم. (الأخبثان) وفي رواية أحمد والبيهقي: ولا وهو يدافع الأخبثين أي البول والغائط، ويلحق بهما ما كان في معناهما مما يشغل القلب، ويذهب كمال الخشوع، كالريح والقيء. قال الطيبي: أي ولا صلاة حاصلة للمصلي في حال يدافعه الأخبثان عنها، فاسم "لا" الثانية وخبرها محذوفان، وقوله: هو يدافعه الأخبثان، حال، ويؤيده رواية ابن حبان بلفظ: لا يصلي أحدكم وهو يدافع الأخبثين، وقيل في رواية الكتاب حذف تقديره: ولا صلاة حين هو يدافعه الأخبثان فيها، والمدافعة إما على حقيقتها، يعني الرجل يدفع الأخبثين حتى يؤدي الصلاة، والأخبثان يدفعانه عن الصلاة، وإما بمعنى الدفع مبالغة، وهذا مع المدافعة، وأما إذا كان يجد في نفسه ثقل ذلك، وليس هناك مدافعة فلا نهي عن الصلاة معه ومع المدافعة فهي مكروهة، قيل: تنزيهاً لنقصان الخشوع، فلو خشي خروج الوقت إن قدم التبرز وإخراج الأخبثين قدم الصلاة، وهي صحيحة مكروهة، ويستحب إعادتها. ولا تجب عند الجمهور، كما قال النووي: وعن الظاهرية أنها باطلة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي.
1065- قوله: (إذا أقيمت الصلاة) المراد بإقامة الصلاة الإقامة التي يقولها المؤذن عند إرادة الصلاة، وهو المعنى المتعارف. قال العراقي: وهو المتبادر إلى الأذهان من هذا الحديث، والأحاديث التي نذكرها في شرح الحديث تعين ذلك المعنى كما سيأتي. ثم المراد بإقامة المؤذن هو شروعه في الإقامة ليتهيأ المأمومون لإدراك التحريم مع الإمام. ومما يدل على ذلك رواية ابن حبان بلفظ: إذا أخذ المؤذن في الإقامة، وحديث أبي موسى عند الطبراني في الكبير والأوسط أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يقيم، فغمز النبي - صلى الله عليه وسلم - منكبه وقال: إلا كان هذا قبل هذا. قال: العراقي: إسناده جيد. وقال الهيثمي: رجاله موثقون. ويدل عليه أيضاً حديث ابن عباس قال: كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أتصلي الصبح أربعاً. أخرجه أبوداود الطيالسي والبيهقي والبزار وأبويعلي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، والطبراني في الكبير قال الهيثمي: رجاله ثقات. (فلا صلاة) يحتمل أن يتوجه النفي إلى الصحة أو إلى الكمال، والظاهر توجيهه إلى الصحة؛ لأنها أقرب المجازين إلى الحقيقة، ويحتمل أن يكون النفي بمعنى النهي، مثل قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جداًل في الحج} [2: 197] أي فلا تصلوا حينئذٍ،(3/493)
إلا المكتوبة)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويؤيده ما رواه البخاري في تاريخه والبزار وغيرهما عن أنس قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أقيمت الصلاة فرأى ناساً يصلون ركعتي الفجر فقال: صلاتان معاً؟ ونهى أن تصليا إذا أقيمت الصلاة، وهو من رواية شريك ابن عبد الله بن أبي نمر عنه، واختلف عليه في وصله وإرساله، والنهي المذكور للتحريم؛ لأنه أصل فيه. (إلا المكتوبة) أي تلك الصلاة المفروضة، فالألف واللام ليست لعموم المكتوبات وإنما هي راجعة إلى الصلاة التي أقيمت، وقد ورد التصريح بذلك في رواية لأحمد والطحاوي بلفظ: فلا صلاة إلا التي أقيمت، والمعنى: إذا شرع المؤذن في الإقامة للصلاة التي لم تؤدوها فلا تصلوا حينئذٍ إلا التي أقيمت لها، فالنهي متوجه إلى الاشتغال بصلاة غير تلك المكتوبة لمن عليه تلك المكتوبة، وأما الشروع خلف الإمام في النافلة لمن أدى المكتوبة قبل ذلك فلا يشمله النهي؛ لأن المأمور بهذا الحكم ليس إلا من عليه تلك المكتوبة، كما هو ظاهر السياق. والحديث فيه دليل على أن الاشتغال بالرواتب وغيرها وقت إقامة الصلاة أو بعد الإقامة والإمام في الصلاة التي أقيمت لها ممنوع، سواء كانت الراتبة سنة الصبح أو غيرها، وسواء كان في المسجد في زاوية منه أو إلى أسطوانة أو في الصف أو خلفه أو كان خارج المسجد في مكان عند بابه. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص274) : في هذا بيان أنه ممنوع من ركعتي الفجر ومن غيرها من الصلوات إلا المكتوبة. وقال النووي في شرح مسلم (ج1: ص247) : فيه النهي الصريح عن افتتاح نافلة بعد إقامة الصلاة، سواء كانت راتبة كسنة الصبح والظهر والعصر، أو غيرها - انتهى. وقال الحافظ في الفتح (ج3: ص368) : فيه منع التنفل بعد الشروع في إقامة الصلاة، سواء كانت راتبة أم لا؛ لأن المراد بالمكتوبة: المفروضة. وزاد مسلم بن خالد عن عمرو بن دينار في هذا الحديث "قيل يا رسول الله، ولا ركعتي الفجر، قال ولا ركعتي الفجر" أخرجه ابن عدي في ترجمة يحي بن نصر ابن حاجب، وإسناده حسن - انتهى. قلت: وأخرجه أيضاً البيهقي (ج2: ص483) وأما ما يذكر من زيادة الاستثناء في آخر الحديث بلفظ: إلا ركعتي الفجر فلا أصل لها، كما صرح به البيهقي. وقال الشوكاني في النيل (ج2: ص330) : الحديث يدل على أنه لا يجوز الشروع في النافلة عند إقامة الصلاة. من غير فرق بين ركعتي الفجر وغيرهما - انتهى. قال النووي: والحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقيب شروع الإمام، وإذا اشتغل بنافلة فاته الإحرام، وفاته بعض مكملات الفريضة، فالفريضة أولى بالمحافظة على إكمالها. واختلف العلماء فيمن لم يصل ركعتي الفجر، وقد أقيمت الصلاة: فذهب أهل الظاهر إلى أنه إذا سمع الإقامة لم يحل له الدخول في ركعتي الفجر ولا غيرهما من النوافل سواء كان في المسجد أو خارجه، فإن فعل فقد عصي. قال الشوكاني: وهو قول أهل الظاهر ونقله ابن حزم عن الشافعي وعن جمهور السلف. وحكى القرطبي في المفهم عن أبي هريرة(3/494)
وأهل الظاهر أنها لا تنعقد صلاة تطوع في وقت إقامة الفريضة. قال الخطابي: روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يضرب الرجل إذا رأه يصلي الركعتين والإمام في الصلاة. وقال المنذري في مختصر سنن أبي داود: قال أبوهريرة بظاهره، وروي عن عمر أنه كان يضرب على صلاة الركعتين بعد الإقامة، وذهب إليه بعض الظاهرية، ورأوا أنه يقطع صلاته إذا أقيمت عليه الصلاة، وكلهم يقولون: لا يبتدىء نافلة بعد الإقامة لنهيه - صلى الله عليه وسلم -. قال الشوكاني بعد ذكر ما ذهب إليه أهل الظاهر من عدم جواز الدخول في النافلة بعد سماع الإقامة سواء كان في المسجد أو خارجه هذا القول هو الظاهر. وقال شيخنا في شرح الترمذي: هو القول الراجح المعول عليه، وذهب الشافعي وأحمد إلى أن ذلك مكروه. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص247) : روي الكراهية في ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة، وكره ذلك سعيد بن جبير وابن سيرين وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وعطاء، وإليه ذهب الشافعي وأحمد - انتهى. وقال ابن رشد في البداية: وقال الشافعي إذا أقيمت الصلاة فلا يركعهما أصلاً لا داخل المسجد ولا خارجه. وقال ابن قدامة في المغني: إذا أقيمت الصلاة فلا يشغل بالنافلة، سواء خاف فوت الركعة أو لم يخف، وبه قال الشافعي - انتهى. قلت: الظاهر أن الشافعي وأحمد وافقا أهل الظاهر في عدم الجواز، هذا وقد ظهر من أقوالهم المذكورة أنهم متفقون على حمل الحديث على عمومه، وأنه غير مقصور على المسجد. فعلة النهي ومناط الكراهة ومثار المنع عندهم هو أداء السنة حال إقامة الصلاة، والاشتغال بالنافلة عن الفريضة، وقد تقدم ذلك في كلام النووي. وهذا هو الحق عندي، فإن هذه العلة قد جاءت منصوصة في بعض الروايات كحديث أنس عند البزار وغيره قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أقيمت الصلاة، فرأى ناساً يصلون ركعتي الفجر، فقال صلاتان معاً؟ نهى أن تصليا إذا أقيمت الصلاة، وكحديث أبي موسى الأشعري عند الطبراني في الكبير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي ركعتي الغداة حين أخذ المؤذن يقيم، فغمز النبي - صلى الله عليه وسلم - منكبه، وقال: ألا كان هذا قبل هذا، وكحديث ابن عباس عند أبي داود الطيالسي وغيره قال: كنت أصلي وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتصلي أربعا؟ ويدل عليه أيضاً تصديره بقوله: إذا أقيمت الصلاة، وقوله في رواية لأحمد: لا صلاة بعد الإقامة إلا المكتوبة، فهذه الروايات كلها نصوص صريحة في أن مناط النهي هو الاشتغال بالنافلة بعد الإقامة لا غير، وهي تدفع التأويلات الواهية الفاسدة الآتية التي تكلف لها الطحاوي وغيره من الحنفية، وذهب مالك إلى أنه إذا كان قد دخل المسجد ليصليهما فأقيمت الصلاة فليدخل مع الإمام في الصلاة ولا يركعهما في المسجد، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما خارج المسجد، وإن خاف فوات الركعة الأولى فليدخل مع الإمام وقال أبوحنيفة: إن خشي فوت الركعتين معاً، وأنه(3/495)
لا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه، وإلا فليركعهما يعني ركعتي الفجر خارج المسجد ثم يدخل مع الإمام، فوافق أبوحنيفة مالكاً في الفرق بين أن يدخل المسجد أو لا يدخله، وخالفه في الحد في ذلك، فقال: يركعهما خارج المسجد ما ظن أنه يدرك ركعة من الصبح مع الإمام، قال صاحب فيض الباري: هذا أي صلاتهما خارج المسجد بشرط إدراك ركعة هو المذهب. (أي مذهب أبي حنيفة) عندي، كما في الجامع الصغير والبدائع، واختاره صاحب الهداية، وصرحوا به في باب إدراك الفريضة، وصرح به علماء المذاهب الأخرى كالقسطلاني. (والخطابي) من الشافعية وابن رشد والباجي من المالكية، ولا رواية عنه في داخل المسجد - انتهى. قال ابن رشد: وإنما اختلف مالك وأبوحنيفة في القدر الذي يراعى من فوات صلاة الفريضة لاختلافهم في القدر الذي يفوت به فضل الجماعة، إذ فضل الجماعة عندهم أفضل من ركعتي الفجر، فمن رأى أنه يفوت بفوات ركعة قال يتشاغل بهما ما لم تفته ركعة من المفروضة، ومن رأى أنه يدرك الفضل بإدراك ركعة من الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، قال: يتشاغل بهما ما ظن أنه يدرك ركعة منهما، ومالك وإنما يحمل هذا على من فاتته الصلاة دون قصد منه - انتهى. وقد ظهر من مذهبهما أنهما قصرا حكم الحديث على المسجد ولم يحملاه على عمومه. وهذا يدل على أن مناط النهي عندهما هو كونه مصلياً في المسجد غير المكتوبة التي أقيمت لها؛ لأن فيه المخالفة على الإمام. قال في الهداية: التقييد بالأداء عند باب المسجد يدل على الكراهة في المسجد إذا كان الإمام في الصلاة. قال ابن الهمام:؛ لأنه يشبه المخالفة للجماعة والانتباذ عنهم، فينبغي أن لا يصلي في المسجد إذا لم يكن عند باب المسجد مكان؛ لأن ترك المكروه مقدم على فعل السنة - انتهى. وقال ابن رشد: من قصر ذلك على المسجد فالعلة عنده أنما هو أن تكون صلاتان معاً في موضع واحد لمكان الاختلاف على الإمام - انتهى. واختصاص الحكم بالمسجد هو الذي فهمه ابن عمر، فقد قال الحافظ في الفتح: قد فهم ابن عمر اختصاص المنع بمن يكون في المسجد لا خارجاً عنه فصح عنه أنه كان يحصب من ينتفل في المسجد بعد الشروع في الإقامة، وصح عنه أنه قصد المسجد فسمع الإقامة فصلى ركعتي الفجر في بيت حفصة ثم دخل المسجد فصلى مع الإمام. ويؤيده ما روى عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا صلاة لمن دخل المسجد والإمام قائم يصلي فلا ينفرد وحده بصلاة ولكن يدخل مع الإمام في الصلاة. رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص75) : وفيه يحيى بن عبد الله البابلتي وهو ضعيف - انتهى. قلت: يحيى البابلتي هذا ابن امرأة الأوزاعي، ضعفه أبوزرعة وغيره. وقال ابن أبي حاتم: يأتي عن الثقات بأشياء معضلة بهم فيها فهو ساقط الاحتجاج فيما انفرد به. وقال أبوحاتم: لا يعتد به. وقال ابن عدي له أحاديث صالحة تفرد ببعضها، وأثر الضعف على حديثه بين، وقد أكثر عن الأوزاعي ولم يسمع منه شيئاً. وقال(3/496)
في التقريب في ترجمته: ضعيف، فحديث ابن عمر هذا ضعيف لا يصلح للاستدلال والتخصيص، والظاهر عندي أن الحديث موقوف من قول ابن عمر وفتياه، كما يدل عليه فعله، فوهم فيه يحيى البابلتي وجعله مرفوعاً من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقيمت الصلاة الخ مطلق غير مقيد بالمسجد بل هو عام للمسجد وغيره، فيجب حمله على عمومه ولا يجوز قصره على المسجد؛ لأن تخصيص النص بالرأي غير جائز ابتداء، فلا يخص إلا بدليل من الكتاب والسنة الصحيحة، ولا يجوز تخصيصه بقول أحد كائناً من كان، والحجة هي السنة دون فهم الصحابي وفعله أو قوله، وعلة النهي أنما هو الاشتغال بالنافلة عن الفريضة عند الإقامة أو بعدها وقد جاء ذلك مصرحاً في بعض الروايات، كما تقدم، ولا دخل للمسجد في العلية وأما ما قال ابن رشد في ذكر وجه الاختلاف بين مالك وأبي حنيفة في القدر الذي يراعي من فوات الفضيلة من أن أبا حنيفة قيد بإدراك الركعة؛ لأن فضل الجماعة إنما يحصل عنده بإدراك ركعة ففيه أن إدراك الفضل لا يتوقف عندهم على إدراك الركعة بل يحصل ذلك بإدراك التشهد أيضاً. قال الشامي (ج1: ص671) : المداد هنا على إدراك فضل الجماعة، وقد اتفقوا على إدراكه بإدراك التشهد، فيأتي بالسنة اتفاقاً أي لو رجا إدراك التشهد، كما أوضحه في الشرنبلالية أيضاً، وأقره في شرح المنية وشرح نظم الكنز وحاشية الدرر لنوح آفندي وشرحها للشيخ إسماعيل ونحوه في القهستاني، وجزم به الشارح في المواقيت - انتهى. قال صاحب الفيض: ثم وسع محمد (رح) في إدراك ركعة، وأجاز بهما عند إدراك القعدة أيضاً. ثم مشائخنا وسعوا بهما في المسجد أيضاً. (وحكاه النووي في شرح مسلم عن أبي حنيفة وأصحابه) ، وأظن أن أول من وسع بهما في المسجد هو الطحاوي فذهب إلى جوازهما في ناحية المسجد بشرط الفصل بينهما وبين المكتوبة حتى لا يعد واصلاً بينهما وبين المكتوبة، وهو مثار النهي عنده. ولعلك علمت أن القيدين الذين كان صاحب المذهب ذكرهما ارتفع أحدهما بتوسيع محمد، والآخر بتوسيع الطحاوي. أما أنا فأعمل بمذهب الإمام أبي حنيفة، وقد أفتى به الناس - انتهى. قلت: مناط النهي وعلته عند الطحاوي هو اختلاط الفرض والنفل، ومخالطة الصف، وعدم الفصل بين النافلة والفريضة في المكان، فقد قال في تأويل حديث أبي هريرة أنه قد يجوز أن يكون أراد بهذا النهي عن أن يصلى غيرها في موطنها الذي فيه، فيكون مصليها قد وصلها بتطوع فيكون النهي من أجل ذلك لا من أجل أن يصلى في آخر المسجد، ثم يتنحى الذي يصليها من ذلك المكان، فيخالط الصفوف ويدخل في الفريضة - انتهى. واستدل لذلك بما رواه هو وأحمد (ج5: ص345) عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن عبد الله بن مالك بن بحينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بعبد الله بن مالك بن بحينة وهو منتصب يصلي ثمة بين يدي نداء الصبح فقال: لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة قبل الظهر وبعدها، واجعلوا بينهما(3/497)
فصلاً. قال الطحاوي: فبيّن هذا الحديث أن الذي كرهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن بحينة هو وصله إياها بالفريضة في مكان واحد لم يفصل بينهما بشيء، وليس لأنه كره له أن يصليهما في المسجد إذا كان فرغ منها تقدم إلى لصفوف فصلى الفريضة مع الناس - انتهى. قلت: تأويل الطحاوي هذا ضعيف جداً بل باطل والاستدلال له بحديث محمد بن عبد الرحمن أبطل، فإنه لو كان المراد بالفصل فيه الفصل بالمكان أي بالتقدم أو التأخر للزم أن يكون ذلك الفصل مطلوباً في الظهر، ويجوز أداء سنة الظهر متصلاً بالفرض مخالطاً للصف من غير فصل بالتقدم، ولا يقول به أحد على أنه لا دليل على ما ذكر في حد الفصل بالمكان بأن يصلي في مؤخر المسجد ثم يمشي إلى أول المسجد ومقدمه ويخالط الصف فيدخل في الفريضة، فإن الفصل بين النفل والفرض بالمكان قد يحصل بالتقدم بخطوة بل بالكلام أيضاً، فلو صلى أحد ركعتي الفجر قريباً من الصف أو مخالطاً له ودخل في الفريضة بعد أن مشى خطوة فقد صدق عليه أنه جعل الفصل بين النفل والفرض بالمكان، فيلزم أن يكون هذا جائزاً عند من يقول بالفصل بالمكان. والحاصل أن جعل الصلاة في مؤخر المسجد ثم مشيه إلى مقدم المسجد والصف حدا للفصل بالمكان لا أثارة عليه من علم، وكذا لا دليل على كون علة النهي اختلاط الصلاتين ومخالطة الصفوف بل علة النهي هو أداء السنة حال إقامة الصلاة كما تقدم، وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد بالفصل في حديث محمد بن عبد الرحمن هو الفصل بالزمان لا غير، والمعنى: اجعلوا بين سنة الفجر وفرضه فصلاً أي بالزمان بأن تصلوها قبل الإقامة لا عندها ليحصل الفصل بين السنة والفرض، وهذا الفصل مطلوب في جميع المكتوبات، وإنما خص الفجر بالذكر؛ لأن هذه القصة وقعت عند الفجر، فإن ابن بحينة صلى ركعتي الفجر، حال إقامة الصلاة فأمره بالفصل ليجتنب فيما بعد عن التنفل حال الإقامة وبعدها، وهذا مشترك بين الفجر وغيره من المكتوبات، وليؤدي بعض المستحبات التابعة لسنة الفجر، كالاضطجاع على الشق الأيمن، فكأنه أمره بالفصل ليمكن له الاضطجاع بعد سنة الفجر قبل الإقامة، فإن حال الإقامة لا يمكنه الإتيان بهذا المستحب؛ لأن بعد إتمام السنة يدخل في الفريضة ولا يشتغل بأداء المستحب، وهذا مختص بصلاة الفجر. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة قبل الظهر وبعدها أي فإن سنة الظهر قد تؤدي في المسجد بخلاف سنة الفجر، أو فإنها لا يشرع الاضطجاع بعدها بخلاف ركعتي الفجر، ولا يحصل هذا إلا إذا فصل بين ركعتي الفجر وفرضه بالزمان، وبذلك تنتفي المشابهة بين سنة الظهر وسنة الفجر، أو فإنه يجوز أداء سنة الظهر بحيث يفرغ منها متصلاً بالإقامة لفرضه من غير فصل أي بدون تقدم بالزمان والدليل على أن المراد بالفصل الفصل بالزمان ما ورد في بعض الأحاديث من علة النهي منصوصاً، وهي أداء السنة وقت إقامة الصلاة أو بعدها كما تقدم من حديث أبي موسى الأشعري وابن عباس وأنس بن مالك. ويدل على ذلك أيضاً ما روى مسلم وأبوداود والنسائي(3/498)
وابن ماجه، واللفظ لمسلم من حديث عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس قال: دخل رجل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا فلان! بأي الصلاتين اعتددت أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟ وأخرجه الطحاوي عنه بلفظ: أن رجلاً جاء ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح، فركع ركعتين خلف الناس، ثم دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة- الحديث. قال البيهقي في المعرفة بعد روايته: ما لفظه رواه مسلم في الصحيح عن زهير بن حرب عن مروان بن معاوية، ورواه عبد الواحد بن زياد عن عاصم، وقال: يصلي ركعتين قبل أن يصل إلى الصف. وهذا يرد قول من زعم أنه إنما أنكره لإيصاله بالصفوف في حال اشتغاله بالركعتين، أو لأنه لم يجعل بين النفل والفرض فصلاً بتقدم أو تكلم؛ لأن هذا قد أخبر بأنه صلاهما في جانب المسجد قبل أن يصل إلى الصف، ثم دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص274) : في هذا دليل على أنه إذا صادف الإمام في الفريضة لم يشتغل بركعتي الفجر وتركهما إلى أن يقضيهما بعد الصلاة. وقوله: أيتهما صلاتك. (في رواية أبي داود) مسألة إنكار يريد بذلك تبكيته على فعله وفيه دلالة على أنه يجوز له أن يفعل ذلك وإن كان الوقت يتسع للفراغ منهما قبل خروج الإمام من صلاته؛ لأن قوله: أو التي صليت معنا يدل على أنه قد أدرك الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من الركعتين- انتهى. وقال النووي في شرح مسلم (ج1 ص247) : فيه دليل على أنه لا يصلي بعد الإقامة نافلة وإن كان يدرك الصلاة مع الإمام، ورد على من قال: إن علم أنه يدرك الركعة الأولى والثانية يصلي النافلة، وقال ابن عبد البر كل هذا إنكار منه لذلك الفعل، فلا يجوز لأحد أن يصلي في المسجد شيئاً من النوافل إذا قامت المكتوبة، كذا في شرح الموطأ للزرقاني، وأما ما قال الطحاوي تحت ما رواه من حديث ابن سرجس أنه قد يجوز أن يكون قوله: كان خلف الناس أي كان خلف صفوفهم لا فصل بينه وبينهم فكان شبيه المخالط، وهذا مكروه عندنا، وإنما يجب أن يصليهما في مؤخر المسجد، ثم يمشي من ذلك المكان إلى أول المسجد، فأما أن يصليهما مخالطاً لمن يصلي الفريضة فلا، فهو مردود عليه؛ لأن المراد من خلف الناس هو جانب المسجد، كما جاء مصرحاً في رواية مسلم: فصلى ركعتين في جانب المسجد، فإنه صريح في أنه صلى في جانب من جوانب المسجد وزاوية من زواياه، والروايات يفسر بعضها بعضاً، ومع ذلك نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعلم أن أداء السنة حال إقامة الصلاة والاشتغال بالنافلة عن الفرض، سواء كان في مقدم المسجد أو مؤخره ممنوع. قال شيخ سلام الله الدهلوي في المحلى شرح الموطأ وهو من العلماء الحنفية من أولاد الشيخ عبد الحق الدهلوي صاحب اللمعات: ومن الحنفية من قال إنما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن(3/499)
الرجل صلاها في المسجد بلا حائل فشوش على المصلين، ويرده ما في مسلم عن ابن سرجس دخل رجل المسجد وهو - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد- الحديث. فإنه يدل على أن أداء الرجل كان في جانب لا مخالطاً للصف بلا حائل- انتهى ملخصاً. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص86) : وحمل الطحاوي هذه الأخبار. (أي أحاديث ابن سرجس وابن بحينة وغيرهما) على أنهم صلوا في الصفوف لا فصل بينهم وبين المصلين بالجماعة، فلذلك زجرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنه حمل من غير دليل معتد به، بل سياق بعض الروايات يخالفه، وقال فيه أيضاً ذكر الطحاوي أن معنى قوله: فلا صلاة إلا المكتوبة النهي عن أداء التطوع في موضع الفرض، فإنه يلزم حينئذٍ الوصل، وبسط الكلام فيه، لكن لا يخفى على الماهر أن الظاهر الأخبار المرفوعة هو المنع- انتهى. فإن قلت قال ابن الملك والعيني وغيرهما من الحنفية: إن قوله عليه السلام: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ليس على عمومه، بل خصت منه سنة الفجر لقوله عليه السلام: لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل، أخرجه أبوداود، فيكره أداء السنن عند الإقامة إلا سنة الفجر فيجوز أداؤها، ويجمع بين الفضيلتين، يعني فضيلة ركعتي الفجر وفضيلة الجماعة. قلت: لا يجوز تخصيصها من عموم قوله: إذا أقيمت الصلاة الخ؛ لأنه ورد النهي الصريح في أداء سنة الفجر عند الإقامة من غير احتمال ولا تأويل كحديث عبد الله بن سرجس وأبي موسى الأشعري وابن عباس وأنس بن مالك، وقد ذكرنا ألفاظهم، وكحديث عبد الله مالك بن بحينة قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاث به الناس فقال: أالصبح أربعا؟ أالصبح أربعا؟ أخرجه البخاري ونسلم وابن ماجه والدارمي والطحاوي. ولفظ مسلم في رواية: أتصلي الصبح أربعا؟ قال النووي: هو استفهام إنكار ومعناه أنه لا يشرع بعد الإقامة للصبح إلا الفريضة، فإذا صلى ركعتين نافلة بعد الإقامة ثم صلى معهم الفريضة صار في معنى من صلى الصبح أربعاً؛ لأنه صلى بعد الإقامة أربعاً. وقال العيني: والمراد أن الصلاة الواجبة إذا أقيم لها لم يصل في زمانها غيرها من الصلاة فإنه إذا صلى ركعتين مثلاً بعد الإقامة نافلة لها ثم صلى معهم الفريضة صار في معنى من صلى الصبح أربعاً؛ لأنه صلى بعد الإقامة أربعاً- انتهى. فأحاديث هؤلاء الصحابة كما ترى صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ركعتي الفجر عند الإقامة، فلا يصح تخصيصهما من عموم حديث أبي هريرة، ومن يخصصهما بعد هذا النهي الصريح فهو معاند للسنة ومتعصب مفرط، وأما الجمع بين الفضيلتين يعني فضيلة ركعتي الفجر وفضيلة الجماعة فهو ممكن بأن يدخل في الجماعة وبعد الفراغ من الفجر يؤدي الركعتين، فإن تلك الساعة وقت لها في حقه. وأما ما يذكر عن ابن مسعود أنه صلى ركعتي الفجر إلى أسطوانة من المسجد ثم دخل في الصلاة، وعن أبي الدرداء أنه كان يصلي الركعتين في ناحية المسجد ثم يدخل(3/500)
رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مع القوم في الصلاة، وعن ابن عباس أنه صلى ركعتين في المسجد ثم دخل مع الإمام، وعن مسروق وأبي عثمان النهدي والحسن البصري مثل ذلك. ففيه ما قال العلامة العظيم آبادي في أعلام أهل العصر: إن في طبقة الصحابة إن كان ابن مسعود وأبوالدرداء يريان جواز فعلمها فعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وأبوهريرة وأبوموسى الأشعري وحذيفة لا يرون ذلك، أما عمر فيضرب الناس لأجلها، وابنه عبد الله يحصب على من يصلي، وأبوهريرة ينكر على ذلك، وأبوموسى وحذيفة دخلا في الصف ولم يركعا كما ركع ابن مسعود. وأما ابن عباس فقد تعارض بين روايته وفعله، والحجة في روايته دون فعله. وأما في طبقة التابعين ومن بعدهم من الأئمة فإن كان مسروق والحسن ومجاهد ومكحول وحماد بن أبي سليمان وأبوحنيفة النعمان يرون ذلك. فسعيد ابن جبير وابن سيرين وعروة بن الزبير وإبراهيم النخعي وعطاء والشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحاق وجمهور المحدثين لا يرون ذلك. ولنعم ما قال ابن عبد البر: والحجة عند التنازع السنة، فمن أدلى بها فقد أفلح. وترك التنفل عند إقامة الصلاة وتداركها بعد قضاء الفرض أقرب إلى إتباع السنة. فأسعد الناس بامتثال هذا الأمر من لم يتشاغل عنه بغيره. وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن على قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين عند الإقامة، فهو حديث ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة، فيه الحارث الأعور وهو ضعيف، بل قد رمى بالكذب. واختلف فيمن شرع في النافلة قبل الإقامة هل يقطع الصلاة أم يتمها. قال المنذري: ذهب بعض الظاهرية إلى أنه يقطع صلاته إذا أقيمت عليه الصلاة. وقال الحافظ في الفتح: واستدل بعموم قوله: "فلا صلاة إلا المكتوبة" لمن قال يقطع النافلة إذا أقيمت الفريضة، وبه قال أبوحامد وغيره من الشافعية، وخص آخرون النهي بمن ينشأ النافلة عملاً بعموم قوله تعالى: {لا تبطلوا أعمالكم} [47: 33] . وقال العراقي: قال الشيخ أبوحامد من الشافعية: إن الأفضل خروجه من النافلة إذا أداه إتمامها إلى فوت فضيلة التحريم. وهذا واضح- انتهى. قلت: الراجح عندي أن يقطع صلاته عند الإقامة. إن بقيت عليه ركعة، فإن أقل الصلاة ركعة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لا صلاة بعد الإقامة إلا المكتوبة، فلا يجوز له أن يصلي ركعة بعد الإقامة. وأما إذا أقيمت الصلاة وهو في السجدة أو في التشهد فلا بأس لو لم يقطعها وأتمها؛ لأنه لا يصدق عليه أنه صلى صلاة أي ركعة بعد الإقامة. وأما قوله تعالى: {لا تبطلوا أعمالكم} فقد سبق في توجيهه ما لا يخدش هذا الاستدلال، فتذكر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والطحاوي والبيهقي كلهم من رواية عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. واختلف على عمرو بن دينار في رفعه ووقفه. وقيل: إن ذلك هو السبب في كون البخاري لم يخرجه، والمرفوع أصح؛ لأن الرفع زيادة ثقة، ولا يقدح عدم إخراج البخاري في صحيحه في رفعه وصحته، كما لا يخفى على المنصف غير(3/501)
1066- (8) وعن ابن عمر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استأذنت إمرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المتعسف قال الطحاوي: أصل الحديث عن أبي هريرة أي من قوله لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، هكذا رواه الحفاظ عن عمرو بن دينار حدثنا أبوبكرة ثنا أبوعمر الضرير أنا حماد بن سلمة وحماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة بذلك ولم يرفعه، فصار أصل هذا الحديث عن أبي هريرة لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت كلام الطحاوي هذا مبني على فرط تعصبه، جعل المرفوع موقوفاً حمية لمذهبه. والحديث رواه جمع من الحفاظ مثل ورقاء بن عمر وزكريا بن إسحاق وابن جريج وأيوب وزياد بن سعد وإسماعيل بن مسلم ومحمد بن جحادة وإسماعيل بن إبراهيم بن مجمع، كلهم عن عمرو بن دينار مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه بعض الحفاظ كحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة عن عمرو بن دينار موقوفاً على أبي هريرة، لكن ذكر البيهقي في المعرفة بعد روايته من طريق سعيد بن منصور عن سفيان موقوفاً إلا أنه (أي سعيد بن منصور) قال في آخره قلت لسفيان مرفوعاً؟ قال نعم. وأما حماد بن سلمة فاختلف عليه: فروى مسلم بن إبراهيم عند أبي داود والدارمي، وموسى بن إسماعيل عند البيهقي عن حماد بن سلمة مرفوعاً، وروى أبوعمر الضرير عنه عند الطحاوي موقوفاً. فقد ظهر من هذا أن أكثر الرواة رفعوه، ومن المعلوم أن الرفع مقدم على الوقف، وإن كان عدد الرافعين أقل، فكيف إذا كان أكثر، فالحديث لا يشك من له أدنى عقل وخبرة في أن أصله من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا عن أبي هريرة، ولذا اتفق الحفاظ كالترمذي والبيهقي والنووي وغيرهم على أن الحديث المرفوع أصح. وأما ما وقع في صحيح مسلم من أنه قال حماد بن زيد (الراوي عن أيوب عن عمرو بن دينار مرفوعاً) : ثم لقيت عمراً فحدثني به ولم يرفعه، فلا يقدح في صحة الحديث ورفعه؛ لأن غاية ما فيه أنه يدل على أن عمرو بن دينار كان لا يرفعه تارة ووقفه مرة أو مرتين، لا يخرج الحديث من أن يكون مرفوعاً في الأصل؛ لأن أكثر الرواة رفعوه، والرفع مقدم، وإن كان عدد الرفع أقل فكيف إذا كان أكثر.
1066- قوله: (إذا استأذنت إمرأة أحدكم) أي زوجها في الذهاب. (إلى المسجد) أو ما في معناه كشهود العيد وعيادة المريض. (فلا يمنعها) بالجزم والرفع. وفي بعض النسخ: فلا يمنعنّها بالنون الثقيلة المؤكدة. وفي الصحيحين: فلا يمنعها بغير النون كما في الكتاب، وهو عام يشمل الليل والنهار، فما وقع في بعض طرق حديث ابن عمر عند الشيخين قوله: بالليل من ذكر فرد من أفراد العام فلا يخصص على الأصح في الأصول كحديث: دباغها طهورها في شاة ميمونة مع حديث: أيما إهاب دبغ فقد طهر. وقيل: خص الليل بالذكر لما فيه من الستر بالظلمة. وقيل: التقييد بالليل من مفهوم الموافقة؛ لأنه إذا أذن لهن بالليل مع أنه مظنة الريبة فالإذن بالنهار بطريق الأولى. ثم مقتضى هذا النهي أن منع المرأة من الخروج إلى المسجد إما مطلقاً في الأزمان كما في هذه الرواية(3/502)
أو مقيداً بالليل كما في بعض الروايات من حديث ابن عمر يكون محرماً على الزوج. وقال النووي: النهي محمول على كراهة التنزيه. قال البيهقي: وبه قال كافة العلماء. ومقتضى الحديث أن جواز الخروج يحتاج إلى إذن الزوج. وقال السندي: الحديث مقيد بما علم من الأحاديث الأخر من عدم استعمال طيب وزينة، فينبغي أن لا يأذن لها إلا إذا خرجت على الوجه الجائز، وينبغي للمرأة أن لا تخرج بذلك الوجه للصلاة في المسجد إلا على قلة لما علم أن صلاتها في البيت أفضل، نعم إذا أرادت الخروج بذلك الوجه فينبغي أن لا يمنعها الزوج. وقول الفقهاء بالمنع مبني على النظر في حال الزمان، لكن المقصود يحصل بما ذكرنا من التقييد المعلوم من الأحاديث، فلا حاجة إلى القول بالمنع- انتهى. وقال النووي: الحديث ظاهر في أنها لا تمنع المسجد لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث وهي أن لا تكون متطيبة ولا متزينة ولا ذات خلاخل يسمع صوتها ولا ثياب فاخرة ولا مختلطة بالرجال ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها. وأن لا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها- انتهى. وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث عام في النساء، إلا أن الفقهاء خصوه بشروط وحالات: منها أن لا تتطيب، قال ويلحق بالطيب ما في معناه، فإن الطيب إنما منع لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، وربما يكون سبباً لتحريك شهوة المرأة أيضاً، فما أوجب هذا المعنى التحق به كحسن الملبس ولبس الحلي الذي يظهر أثره في الزينة، وكذا الاختلاط بالرجال. قال الحافظ: وفرّق كثير من الفقهاء المالكية وغيرهم بين الشابة وغيرها. وفيه نظر إلا أن أخذ الخوف عليها من جهتها؛ لأنها إذا عريت مما ذكر وكانت مستترة حصل الأمن عليها، ولاسيما إذا كان ذلك بالليل. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد. ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة- ويتأكد ذلك بعد وجود ما أحدث النساء من التبرج والزينة، ومن ثم قالت عائشة ما قالت. (يشير بذلك إلى ما رواه الشيخان عن عمرة عن عائشة قالت: لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى من النساء ما أحدثن لمنعهن من المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل ... الحديث) . وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقاً. وفيه نظر إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم؛ لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنته فقالت: لو رأى لمنع، فيقال عليه لم يرد ولم يمنع، فاستمر الحكم حتى أن عائشة لم تصرح بالمنع وإن كان كلامها يشعر بأنها ترى المنع وأيضاً فقد علم الله سبحانه تعالى ما سيحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن. ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى. وأيضاً فالأحداث إنما وقع من بعض النساء لا من جميعهن، فإن تعين المنع فليكن لمن أحدثت. والأولى أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإسارته - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بمنع التطيب(3/503)
متفق عليه.
1067- (9) وعن زينب إمرأة عبد الله بن مسعود، قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والزينة، وكذلك التقييد بالليل- انتهى كلام الحافظ مختصراً. قلت: حمل الحنفية الأحاديث الدالة على جواز خروج النساء إلى المساجد للجماعة على العجائز الغير المشتهاة، وقيدوها بالليل أي بصلاة الفجر والمغرب والعشاء، وأفتى المتأخرون منهم بمنع العجائز أيضاً كالشواب، وقالوا: خروج النساء للجماعة في زماننا مكروه لفساده، واحتجوا لذلك بأثر عائشة المذكور. وفيه أنه لا دليل على حمل أحاديث الباب على العجائز، بل يرده ويبطله عموم هذه الأحاديث وإطلاقها، وتعامل الصحابة بعده - صلى الله عليه وسلم -. والقول بكراهة الخروج ومنعه مطلقاً أبطل وأبطل، وليس في أثر عائشة حجة لجواز منعهن المساجد كما سلف في كلام الحافظ أخذاً من المحلى لابن حزم. قال الشيخ أحمد محمد شاكر: الشريعة استقرت بموته - صلى الله عليه وسلم -، وليس لأحد أن يحدث بعده حكما يخالف ما ورد عنه أو علة استحسنها. وكما قال الشافعي في الرسالة: ومن وجب عليه إتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن خلافها، ولم يقم مقام أن ينسخ شيئاً منه- انتهى. والله سبحانه أنزل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - شريعة كاملة بينة، وهو سبحانه يعلم ما يكون فلو شاء أن يمنع النساء المساجد لما قالت عائشة لأوحى بذلك إلى رسوله، ولكنه أذن بخروجهن إلى المساجد، وحرم منعهن شهود الجماعة، ونهاهن عن التبرج وإظهار زينتهن، وكلا الأمرين واجب إتباعه لا يعارض أحدهما الآخر وعلى الناس الطاعة. (متفق عليه) للحديث عند الشيخين وغيرهما طرق وألفاظ، واللفظ المذكور "أحدها" لكن ليس في البخاري في الطريق الذي ذكر المصنف لفظه التقييد بالمسجد، وأخرجه باللفظ المذكور أحمد والنسائي والبيهقي أيضاً.
1067- قوله: (وعن زينب إمرأة عبد الله بن مسعود) هي زينب بنت معاوية. وقيل: بنت أبي معاوية. وقيل: بنت عبد الله بن معاوية بن عتاب بن الأسود الثقفية زوج ابن مسعود، صحابية، روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن زوجها عبد الله بن مسعود وعن عمر بن الخطاب، لها أحاديث اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بحديث بحديث ومسلم بآخر، وروى عنها ابنها أبوعبيدة بن عبد الله بن مسعود وابن أخيها ولم يسم وعمرو بن الحارث بن ضرار وغيرهم. (إذا شهدت إحداكن المسجد) أي إذا أرادت شهود المسجد وحضوره. (فلا يمس) بالفتح بغير النون. (طيباً) بكسر الطاء أي لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، ولذلك ورد في حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود: وليخرجن تفلات، وهو بفتح التاء وكسر الفاء أي غير متطيبات، ويقال: إمرأة تفلة إذا كانت متغيرة الريح، ولحديث زينب هذا طرق وألفاظ عند أحمد ومسلم والنسائي. وقد بسط السيوطي طرقه في تنوير الحوالك ولفظه(3/504)
رواه مسلم.
1068- (10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أيما إمرأة أصابت بخوراً، فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) رواه مسلم.
{الفصل الثاني}
1069- (11) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تمنعوا نسائكم المساجد، وبيوتهن خير
لهن))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في رواية لمسلم: إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تطيب تلك الليلة. قال النووي: معناه إذا أرادت شهودها، وأما من شهدتها ثم عادت إلى بيتها فلا تمنع من التطيب بعد ذلك- انتهى. ولعل التخصيص بالعشاء؛ لأن الخوف عليهن في الليل أكثر، ووقوع الفتنة فيه أقرب، أو لأن عادتهن استعمال الطيب في الليل لأزواجهن، والله تعالى أعلم. وفي الحديث دليل على أن الخروج من النساء إلى المساجد إنما يجوز إذا لم يصحب ذلك ما فيه فتنة كما تقدم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص363) والنسائي في الزينة والبيهقي في الصلاة (ج3 ص133) وأخرجه مالك بلاغاً عن بسر بن سعيد مرسلاً.
1068- قوله: (أيما إمرأة أصابت بخوراً) بفتح الباء الموحدة وخفة الخاء المعجمة أخذ دخان المحروق. وقيل: هو ما يبتخر به ويتعطر كالسحور والفطور، والمراد هنا الرائحة الطيبة التي فاحت بإحراق البخور، ويلحق بالبخور ما في معناه من محركات الشهوة، وما كان ي تحريك الشهوة فوق البخور فهو داخل بالأولى. (فلا تشهد) بسكون الدال أي لا تحضر. (معنا العشاء الآخرة) ؛ لأنها وقت الظلمة، والعطر يهيج الشهوة فلا تأمن المرأة حينئذٍ من كمال الفتنة، فالتخصيص بالعشاء الآخرة لمزيد التأكيد، وقد تقدم أن مس الطيب يمنع المرأة من حضور المسجد مطلقاً. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود في الترجل والنسائي في الزينة والبيهقي في الصلاة كلهم من طريق عبد الله بن محمد أبي فروة عن يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبي هريرة، قال النسائي: لا أعلم أحداً تابع يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد على قوله عن أبي هريرة، وقد خالفه يعقوب بن عبد الله بن الأشج، رواه عن زينب الثقفية، ثم ساق حديث بسر عن زينب الثقفية من طرق - انتهى. وقد ذكر المنذري كلام النسائي هذا في مختصر السنن وأقرّه.
1069- قوله: (وبيوتهن خير لهن) أي صلاتهن في بيوتهن خير لهن من صلاتهن في المساجد لو علمن(3/505)
رواه أبوداود.
1070- (12) وعن ابن مسعود قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها)) . رواه أبوداود.
1071- (13) وعن أبي هريرة قال: إني سمعت حبي أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تقبل صلاة إمرأة تطيبت للمسجد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك لكنهن لم يعلمن فيسألن الخروج إلى الجماعة يعتقدن أن أجرهن في المساجد أكثر، وجه كون صلاتهن في البيوت أفضل تحقيق الأمن من الفتنة. (رواه أبوداود) في الصلاة وسكت عنه هو والمنذري وأصله في الصحيحين بدون قوله: "وبيوتهن خير لهن"، وهذه الزيادة أخرجها ابن خزيمة والحاكم (ج1 ص209) وصححه والبيهقي (ج3 ص131) وللطبراني بإسناد نحوها.
1070- قوله: (صلاة المرأة في بيتها) أي الداخلاني لكمال سترها. (أفضل من صلاتها في حجرتها) أي صحن الدار. قال ابن الملك: أراد بالحجرة ما تكون أبواب البيوت إليها وهي أدنى حالاً من البيت. (وصلاتها في مخدعها) بضم الميم وتفتح وتكسر مع فتح الدال في الكل وهو البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير، يحفظ فيه الأمتعة النفيسة من الخدع، وهو إخفاء الشيء أي خزانتها. (أفضل من صلاتها في بيتها) ؛ لأن مبنى أمرها على التستر، وحاصل الأحاديث الواردة في خروج النساء إلى المساجد أن الإذن للنساء من الرجال إلى المساجد إذا لم يكن في خروجهن ما يدعوا إلى الفتنة من طيب أو حلي أو أي زينة، واجب على الرجال أو مندوب على اختلاف القولين، وأنه لا يجب مع يدعوا إلى ذلك، ولا يجوز ويحرم عليهن الخروج لقوله: فلا تشهدن وصلاتهن على كل حال في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المساجد لحديث ابن مسعود هذا، ولما روى أحمد والطبراني والبيهقي من حديث أم حميد الساعدية: أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك فقال - صلى الله عليه وسلم -: قد علمت وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجد الجماعة، قال الحافظ: إسناده حسن. وقال الهيثمي يعد غزوة لأحمد: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن سويد الأنصاري، وثقة ابن حبان، وأخرج أحمد وأبويعلى عن أم سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خير مساجد النساء قعر بيوتهن، وفي إسناده ابن لهيعة. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه والحاكم (ج1 ص209) والبيهقي (ج3 ص131) .
1071- قوله: (سمعت حبي) بكسر الحاء المهملة أي محبوبي. (تطيبت للمسجد) أي للخروج إلى المسجد(3/506)
حتى تغتسل غسلها من الجنابة)) رواه أبوداود، وروى أحمد والنسائي نحوه.
1072- (14) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل عين زانية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي المصابيح: لهذا المسجد كما في أبي داود. وقال ابن الملك: إشارة إلى جنس المسجد لا إلى مسجد مخصوص. (حتى تغتسل) وفي المصابيح: حتى ترجع فتغتسل وكذا وقع في أبي داود. (غسلها) أي مثل غسلها. (من الجنابة) بأن تبالغ في الغسل من الطيب كما تبالغ في غسل الجنابة حتى يزول عنها الطيب بالكلية، ثم تخرج إن شاءت، وقال القاري: بأن تعم جميع بدنها بالماء إن كانت طيبت جميع بدنها ليزول عنها الطيب، وأما إذا أصاب موضعاً مخصوصاً فتغسل ذلك الموضع. قلت: الحديث ساكت عن هذا التفصيل. قال ابن الملك: وهذا مبالغة في الزجر؛ لأن ذلك يهيج الرغبات وتفتح باب الفتن. وقيل: شبه خروجها من بيتها متطيبة مهيجة لشهوات الرجال التي هي رائد الزنا بالزنا، وحكم عليها بما يحكم على الزاني من الاغتسال من الجنابة مبالغة وتشديداً. (رواه أبوداود) في الترجل من طريق الثوري عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري عن عبيد مولى أبي رهم عن أبي هريرة، وقد سكت عنه أبوداود، لكن إسناده ضعيف لضعف عاصم بن عبيد الله، ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، كما ستعرف فمعناه صحيح لثبوته من وجه آخر، فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي من طريق موسى بن يسار عن أبي هريرة، ورواه أحمد خمس مرات في أربعة: منها عاصم بن عبيد الله، والخامسة من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الكريم عن مولى أبي رهم، وأخرجه النسائي من طريق صفوان بن سليم عن رجل ثقة عن أبي هريرة، وقد بوب له ابن خزيمة: باب إيجاب الغسل على المطيبة للخروج إلى المسجد ونفي قبول صلاتها إن صليت قبل أن تغتسل إن صح الخبر، ولفظه عن موسى بن يسار قال: مرت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف فقال لها: أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد، قال: وتطيبت؟ قالت: نعم قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله يقول: لا يقبل الله من امرأة صلاة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع وتغتسل. قال المنذري في الترغيب بعد عزوة لابن خزيمة: إسناده متصل ورواته ثقات، وعمرو بن هاشم البيروتي ثقة، وفيه كلام لا يضر، ورواه أبوداود وابن ماجه من طريق عاصم بن عبيد الله العمري، وقد مشاه بعضهم ولا يحتج به، وإنما أمرت بالغسل لذهاب رائحتها - انتهى. (وروى أحمد والنسائي) وكذا البيهقي الطيالسي. (نحوه) ولفظ النسائي: إذا خرجت المرأة إلى المسجد فلتغتسل من الطيب كما تغتسل من الجنابة، أخرجه في كتاب الزينة من طريق صفوان بن سليم عن رجل ثقة عن أبي هريرة به.
1072- قوله: (كل عين زانية) أي كل عين نظرت إلى أجنبية عن شهوة فهي زانية؛ لأن زناها(3/507)
وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس، فهي كذا وكذا يعني زانية)) . رواه الترمذي، ولأبي داود والنسائي نحوه.
1073- (15) وعن أبيّ بن كعب قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً الصبح، فلما سلم قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النظر، أو لأنه من مقدمات الزنا. (إذا استعطرت) أي استعملت العطر. (فمرت بالمجلس) أي مجلس الرجال وهو أعم من المسجد (فهي كذا وكذا) كناية عن كونها زانية. (يعني زانية) بالنصب على أنه مفعول يعني وقيل: بالرفع يعني هي زانية؛ لأنها قد هيجت شهوة الرجال بعطرها وحملتهم على النظر إليها، ومن نظر إليها فقد زنى بعينه، فإذا هي سبب زناه بالعين فتكون آثمة بإثم الزنا. (رواه الترمذي) في الاستيذان وقال: حديث حسن صحيح. ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره. (ولأبي داود والنسائي نحوه) أخرجه أبوداود في الترجل والنسائي في الزينة. قال المنذري في الترغيب بعد عزوه لأبي داود والترمذي: ورواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ولفظهم: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية، ورواه الحاكم أيضاً وقال: صحيح الإسناد.
1073- قوله: (صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي أمّنا فالباء للتعدية. (الصبح) أي صلاته. (أشاهد) بهمزة الاستفهام أي أحاضر صلاتنا هذه. (أشاهد فلان) أي آخر. (إن هاتين الصلاتين) أي العشاء والصبح، والإشارة إليهما لحضور الصبح، واتصال العشاء بها مما تقدم. وقال القاري: أي صلاة الصبح ومقابلتها باعتبار الأول والآخر، يعني الصبح والعشاء. وقال ابن حجر: وأشار إلى العشاء لحضورها بالقوة؛ لأن الصبح مذكرة بها نظراً إلى أن هذه مبتدأ النوم وتلك منتهاه. (أثقل الصلوات على المنافقين) فيه أن الصلاة كلها عليهم ثقيلة ومنه قوله تعالى: {إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [4: 142] ، ولكن الأثقل عليهم صلاة العشاء؛ لأنها في وقت الراحة والسكون وصلاة الفجر؛ لأنها في وقت لذة النوم، وليس لهم داع ديني ولا تصديق بأجرهما حتى يبعثهم على اتيانهما، ويخف عليهم الإتيان بهما، ولأنهما في ظلمة الليل وداعي الرياء الذي لأجله يصلون منتف؛ لعدم مشاهدة من يراؤونه من الناس إلا القليل، فانتفى الباعث الديني منهما كما انتفى في غيرهما، ثم انتفى الباعث الدنيوي الذي في غيرهما، ولذا قال ناظراً إلى انتفاء الباعث الديني عندهم: ولو يعلمون ما فيهما، كما في رواية أحمد والنسائي والبيهقي. (ولو تعلمون) أنتم أيها المؤمنون. (ما فيهما) من الأجر والثواب الزائد؛ لأن الأجر على قدر المشقة. (لأتيتموها) أي إلى(3/508)
ولو حبوا على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسجد لأجلهما. وهذا لفظ أبي داود، ورواية أحمد والنسائي والبيهقي: ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما، أي بلفظ الغيبة. قيل: عدل عن الغيبة في رواية أبي داود تغليباً. (ولو حبوا على الركب) بضم الراء وفتح الكاف جمع الركبة، والحبو بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة هو أن يمشي على يديه وركبتيه أو أسته، وحبا البعير إذا برك ثم زحف من الأعياء، وحبا الصبي إذا زحف على أتسه، أي تزحفون إذا منعكم مانع من المشي كما يزحف الصغير، ولابن أبي شيبة من حديث أبي الدرداء. ولو حبواً على المرافق والركب. وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني: ولو حبواً على يديه ورجليه، وفيه حث بليغ على الإتيان إليهما، وأن المؤمن إذا علم ما فيهما أتى إليهما على أي حال، فإنه ما حال بين المنافق وبين هذا الإتيان إلا عدم تصديقه بما فيهما. قال الطيبي: حبواً خبر كان المحذوف أي: ولو كان الإتيان حبوا ويجوز أن يكون التقدير أتيتموها حبواً أي حابين تسمية بالمصدر مبالغة. (وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة) أي على أجر أو فضل هو مثل أجر صف الملائكة أو فضله، وظاهره أن الملائكة أكثر أجراً وفضلاً من بني آدم. وقال الطيبي: شبه الصف الأول في قربهم من الإمام بصف الملائكة من الله تعالى، والجار والمجرور خبر "إن" والمتعلق كائن أو مقاس. (ولو علمتم) هذا لفظ أبي داود، ولفظ أحمد والنسائي والبيهقي: ولو تعلمون (ما فضيلة) أي الصف الأول. (لابتدرتموه) أي سبق كل منكم على آخر لتحصيله. قال الطيبي: وفي قوله: "ولو تعلمون" مبالغة من حيث عدل من الماضي إلى المضارع إشعاراً بالاستمرار. (وأن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده) أي أكثر أجراً وأبلغ في تطهير المصلي وتكفير ذنوبه من صلاته منفرداً، لما في الإجتماع من الرحمة والسكينة دون الإنفراد. قال الطيبي: الزكاة بمعنى النمو فيكون المعنى أن الصلاة مع الجماعة أكثر ثواباً، أو بمعنى الطهارة فيكون المعنى أن المصلي مع الجماعة أمن من رجس الشيطان وتسويله، وفيه أن الرجل مع الرجل جماعة كما رواه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنه قال: الرجل مع الرجل جماعة، لهما التضعيف خمساً وعشرين - انتهى. وقد بوب عليه النسائي باب الجماعة إذا كانوا اثنين والبيهقي (ج3: ص67) بلفظ: باب الاثنين فما فوقهما جماعة. قال الأمير اليماني: فيه دلالة على أن أقل صلاة الجماعة إمام ومأموم، ويوافقه حديث أبي موسى الآتي في الفصل الثالث بلفظ: اثنان فما فوقهما جماعة. (وصلاته) بالنصب أو بالرفع. (مع الرجلين أزكى) أي أفضل. (من صلاة مع الرجل) أي الواحد. (وما كثر فهو أحب إلى الله) قال ابن الملك: "ما" هذه موصولة والضمير عائد إليها، وهي عبارة عن الصلاة، أي الصلاة التي كثر المصلون فيها فهو أحب، وتذكير "هو" باعتبار لفظ(3/509)
وما كثر فهو أحب إلى الله)) رواه أبوداود، والنسائي.
1074- (16) وعن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((ما من ثلاثة في قرية ولا بد ولا تقام
فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما–انتهى. ولفظ النسائي: وما كانوا أكثر فهو أحب إلى الله. قال السندي: أي قدر كانوا أكثر فذلك القدر أحب مما دونه. وفي رواية لأحمد: وما كان أكثر فهو أحب إلى الله، وذكره المنذري في الترغيب بلفظ: كذا كثر فهو أحب إلى الله، وفيه أن ما كثر جمعه فهو أفضل مما قل جمعه، وأن الجماعات تتفاوت في الفضل وإن كونها تعدل سبعاً وعشرين صلاة يحصل لمطلق الجماعة، وأحاديث التضاعف إلى هذا المقدار لا ينفي الزيادة في الفضل. لما كان أكثر لاسيما مع وجود النص المصرح بذلك، كما في هذا الحديث، ففيه رد على من ذهب إلى القول بتساوى الجماعات في الفضل سواء كثرت الجماعة أو قلت واستدل بقوله "أزكى" على عدم وجوب الجماعة؛ لأنه صيغة أفعل تدل على الاشتراك في أصل الزكاء، والمشترك ههنا لا بد أن يكون هو الإجزاء والصحة، وإلا فلا صلاة فضلاً عن الزكاء؛ لأن ما لا يصح لا زكاء فيه وقد تقدم الكلام في ذلك مبسوطاً. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص140) وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم (ج1: ص247) والبيهقي (ج3: ص61-68 و102) قال المنذري في الترغيب وقد جزم يحيى بن معين والذهلي بصحة هذا الحديث. وقال الشوكاني: صححه ابن السكن والعقيلي والحاكم وأشار ابن المديني على صحته. وقال الحافظ: وله شاهد قوي في الطبراني من حديث قباث بن أشيم ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الرجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة يؤم أحدهم أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى. قال المنذري في الترغيب: رواه البزار والطبراني بإسناد لا بأس به. وقال الهيثمي بعد عزوه إلى البزار والطبراني في الكبير: ورجال الطبراني موثقون - انتهى. وأخرجه أيضاً البخاري في تاريخه والبيهقي (ج3: ص61) .
1074- قوله: (ما من ثلاثة) أي رجال، وتقييده بالثلاثة المفيد ما فوقهم بالأولى نظراً إلى أقل أهل القرية غالباً، ولأنه أقل الجمع، وأنه أكمل صور الجماعة وإن كان يتصور باثنين، قاله القاري. (في قرية ولا بدو) بفتح الباء وسكون الدال أي بادية. قال في القاموس: البدو والبادية والباداة والبداوة خلاف الحضر. (لا تقام فيهم الصلاة) أي الجماعة. (إلا قد استحوذ عليهم الشيطان) أي غلبهم واستولى عليهم وحولهم إليه فأنساهم ذكر الله، وهذه كلمة مما جاء على أصله بلا إعلال خارجة عن أخواتها كاستقال واستقام. (فعليك بالجماعة)(3/510)
فإنما يأكل الذئب القاصية)) رواه أحمد، وأبوداود، والنسائي.
1075- (17) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه
عذر. قالوا: وما العذر؟ قال: خوف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي الزمها فإن الشيطان بعيد عن الجماعة ويستولى على من فارقها. قال الطيبي: قوله فعليك من الخطاب العام تفخيماً للأمر، والفاء مسببة عن قوله "قد استحوذ" والفاء في قوله: (فإنما) مسببة عن الجميع يعني إذا عرفت هذه الحالة فأعرف مثاله في الشاهد. (يأكل الذئب القاصية) أي الشاة المنفردة عن القطيع البعيدة عنه لبعدها عن راعيها، فإن عين الراعي تحمي الغنم المجتمعة. قيل: المراد أن الشيطان يتسلط على من يخرج عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقيل: عن طاعة الإمام المجتمع على أمره وإطاعته والأوفق بالحديث أن المنفرد ما ذكره السائب بن حبيش أحد رواة هذا الحديث عند النسائي والبيهقي بقوله: يعني بالجماعة الجماعة في الصلاة، أي يتسلط على من يعتاد الصلاة بالانفراد ولا يصلي مع الجماعة، وهو الذي فهمه أبوداود والنسائي حيث بوبا عليه: باب التشديد في ترك الجماعة، وبوب عليه البيهقي: باب فرض الجماعة في غير الجمعة على الكفاية. والحديث استدل به على وجوب الجماعة؛ لأن استحواذ الشيطان وهو غلبته إنما يكون بما يكون معصية كترك الواجب دون السنة. قال القاري: ظاهر الحديث يدل على أن الجماعة فرض عين أو واجب على مختار مذهبنا، ولا يدل على أنها فرض كفاية وإنما قيد بالثلاثة؛ لأنها أقل كمال الجماعة في غير الجمعة - انتهى. (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم (ج1: ص246) وصححه، والبيهقي (ج3: ص54) وقال النووي: إسناده صحيح قال المنذري في الترغيب، وزاد رزين في جامعه: وإن ذئب الإنسان الشيطان إذا خلا به أكله.
1075- قوله: (من سمع المنادي) أي نداء المؤذن للصلاة المكتوبة. (فلم يمنعه) أي السامع- قال ابن الملك: فيه حذف اعتماداً على المعنى أي فلم يتبعه ولم يمنعه. (من اتباعه) أي اتباع المنادي بحضور المسجد للجماعة. قال ابن حجر: أي من إتيانه إلى الجماعة التي دعي إليها، والتقييد بسماع النداء بالجماعة التي يسمع مؤذنها جرى على الغالب؛ لأن الإنسان إنما يذهب إلى الجماعة التي يسمع مؤذنها، وإلا فلو ذهب لجماعة لم يسمع مؤذنها فقد أتى بالفرض، ولو لم يسمع المؤذن ولا عذر له لم يسقط عنه الفرض، إذ عدم سماعه المؤذن ليس من الأعذار، والحاصل أن المراد من لزمه حضور الجماعة ولم يمنعه من المجيء إليها. (عذر) أي نوع من الأعذار. (قالوا) أي الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (خوف) أي هو خشية على نفسه أو عرضه أو ماله-.(3/511)
أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى)) رواه أبوداود، والدارقطني.
1076- (18) وعن عبد الله بن أرقم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: خوف ظلمه، وقد سبق أن من الأعذار المطر والبرد والريح وحضور الطعام ومدافعته الأخبثين. (لم تقبل منه) أي من السامع القاعد في بيته من غير عذر. قال الطيبي: من سمع مبتدأ ولم تقبل خبره، يعني وقع السؤال والجواب معترضين بين الشرط والجزاء. (الصلاة التي صلى) كذا في سنن أبي داود وسنن الدارقطني، وفي نسخ المصابيح "صلاها" قال في شرح السنة: اتفقوا على أن لا رخصة في ترك الجماعة لأحد إلا من عذر لهذا الحديث والحديث الذي سبق، ولقوله عليه السلام لإبن أم مكتوم: فأجب، قال الحسن: إن منعته أمه عن العشاء الآخرة في الجماعة شفقة عليه لم يطعها. وقال الأوزاعي: لا طاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات سمع النداء أو لم يسمع، قال النووي: في حديث الكهان والعراف معنى عدم قبول الصلاة أن لا ثواب له فيها وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه كالصلاة في الدار المغصوبة تسقط الفرض ولا ثواب فيها. (رواه أبوداود والدارقطني) وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1: ص245، 246) والبيهقي (ج3: ص75) كلهم من طريق أبي جناب الكلبي عن مغراء العبدي عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأبوجناب بجيم ونون خفيفتين يحيى بن أبي حية الكلبي، ضعيف ومدلس وقد عنعن. قال الحافظ: وقد رواه قاسم بن أصبغ في مسنده موقوفاً ومرفوعاً من حديث شعبة عن عدي بن ثابت به، ولم يقل في المرفوع: إلا من عذر - انتهى. ورواه بقي بن مخلد وابن ماجه وابن حبان من طريق هشيم بن بشير عن شعبة والدارقطني (ص161) والحاكم (ج1: ص245) ومن طريقه البيهقي (ج3: ص57) ومن طريق قراد أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان وهشيم بن بشير عن شعبة مرفوعاً، وزادوا في رواياتهم: إلا من عذر، وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وقد أوقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة، وهشيم وقراد أبونوح ثقتان، فإذا وصلاه فالقول فيه قولهما، ثم ذكر لهما متابعتين وهما سيعد بن عامر وداود بن الحاكم عن شعبة، ثم أخرج رواية مغراء العبدي متابعة لشعبة، ثم أخرج له شواهد منها عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً بلفظ: من سمع النداء فارغاً صحيحاً فلم يجب فلا صلاة له، ورواه البزار مرفوعاً وموقوفاً، وصحح البيهقي وقفه، وقال بعد رواية حديث ابن عباس من طريق قراد أبي نوح عن شعبة مرفوعاً، وكذلك رواه هشيم بن بشير عن شعبة، ورواه الجماعة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفاً على ابن عباس، ورواه مغراء العبدي عن عدي بن ثابت مرفوعاً، وروي عن أبي موسى الأشعري مسنداً وموقوفاً، والموقوف أصح - انتهى.
1076- قوله: (عن عبد الله بن أرقم) بن عبد يغوث بن وهب بن عبدمناف بن زهرة القرشي الزهري صحابي معروف، أسلم يوم الفتح، وكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لأبي بكر وعمر، وكان على بيت المال أيام عمر ثم عثمان،(3/512)
قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء)) رواه الترمذي، وروى مالك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم استعفى عثمان فأعفاه، وكان جده عبد يغوث خال النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت آمنة بنت وهب أمه - صلى الله عليه وسلم - عمة أبيه الأرقم، قال السائب بن يزيد وعبد الله بن عتبة: ما رأيت أخشى لله من عبد الله بن أرقم. وقال عبد الله بن الزبير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استكتب عبد الله بن الأرقم، وكان يجيب عنه الملوك، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب ويختم ولا يقرأه لأمانته عنده. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5: ص146) : روى له الأربعة حديثاً واحداً في البداءة بالخلاء لمن أراد الصلاة، ويقال ليس له مسند غيره، قال ذلك البزار في مسنده. وقال الخزرجي في الخلاصة: له أحاديث وعندهم، أي عند الأربعة فرد حديث. وقال المنذري في مختصر السنن: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً واحداً، ليس له في هذه الكتب سوى هذا الحديث. توفي في خلافة عثمان، وكذا ذكره البخاري في التاريخ الصغير، ووقع في ثقات ابن حبان: أنه توفي في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وهو وهم فاحش. (ووجد أحدكم الخلاء) أي وجد أحدكم احتياجه إلى البزار. (فليبدأ بالخلاء) أي فليبدأ بما احتاج إليه من قضاء الحاجة فيفرغ نفسه ثم يرجع فيصلي؛ لأنه إذا صلى قبل ذلك تشوش خشوعه واختل حضور قلبه، فيجوز له ترك الجماعة لهذا العذر، ولفظ الشافعي: ووجد أحدكم الغائط فليبدأ بالغائط. ولفظ مالك: إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة. ولفظ أبي داود: إذا أراد أحدكم أن يذهب الخلاء وقامت الصلاة فليبدأ بالخلاء. والحديث فيه دليل على أنه لا يقوم إلى الصلاة وهو يجد شيئاً من الغائط والبول. قال في الشرح الكبير (ص) : يكره أن يصلي وهو حاقن سواء خاف فوت الجماعة أو لا، لا نعلم فيه خلافاً وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأى، لرواية عائشة عند مسلم. (يعني التي تقدمت في الفصل الأول) ولأن ذلك يشغله عن خشوع الصلاة فإن خالف وفعل صحت صلاته. (أي إن أكملها ولم يترك شيئاً من فرائضها) وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وقال ابن أبي موسى: إن من به من مدافعة الأخبثين ما يزعجه ويشغله عن الصلاة أعاد في الظاهر من قوله. وقال مالك: أحب إلى أن يعيد إذا شغله ذلك لظاهر الخبر. ولنا أنه أن صلى بحضرة الطعام وقلبه مشغول بشيء من الدنيا صحت صلاته كذا ههنا، وخبر عائشة أريد به الكراهة، بدليل ما لو صلى بحضرة الطعام. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل صلاته أن صلاته تجزئة، فكذلك إذا صلى حاقناً - انتهى. واختلفوا في تعليل هذا الحكم فقيل؛ لأنه يشغل القلب ولا يوفي الصلاة حقها من الخشوع. وقيل: العلة فيه انتقال الحدث، وانتقال الحدث سبب لخروجه، فلا يكون أقل من مس الذكر. وقيل:؛ لأنه حامل للنجاسة؛ لأنها متدافعة للخروج، فإذا أمسكها قصداً فهو كالحامل لها، والظاهر هو الأول. (رواه الترمذي) وقال حديث حسن صحيح.(3/513)
وأبوداود والنسائي نحوه.
1077- (19) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن: لا يؤمن رجل قوماً فيخص
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وروى مالك وأبوداود الخ) وأخرجه أيضاً أحمد (ج3: ص483، ج4: ص35) والشافعي والدارمي والبيقهي (ج3: ص72) وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1: ص168) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وفيه قصة كما سيأتي كلهم من طريق هشام عن عروة عن عبد الله بن أرقم، ورواه بعضهم عن هشام عن عروة عن رجل عن عبد الله، ورجح البخاري فيما حكاه الترمذي في العلل المفرد رواية من زاد فيه عن رجل، ومال الترمذي إلى ترجيح الرواية الأولى أي رواية من قال عن عروة عن عبد الله، حيث قال بعد رواية الحديث من طريق أبي معاوية عن هشام عن عروة عن ابن أرقم هذا حديث حسن صحيح، هكذا روى مالك ويحيى بن سعيد القطان وغير واحد من الحفاظ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن أرقم، وروى وهيب وغيره عن هشام عن أبيه عن رجل عن عبد الله بن أرقم - انتهى. وحكي نحوه أبوداود أيضاً قال بعد روايته من طريق زهير عن هشام عن أبيه عن ابن أرقم: روى وهيب بن خالد وشعيب بن إسحاق وأبوضمرة هذا الحديث عن هشام ابن عروة عن أبيه عن رجل حدثه عن عبد الله بن أرقم، والأكثر الذي رووه عن هشام قالوا كما قال زهير - انتهى. وقال الزرقاني في شرح الموطأ (ج1: ص288) قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في هذا الإسناد. (أي في روايته عن هشام عن عروة عن ابن أرقم) وتابعه زهير بن معاوية وسفيان بن عيينة وحفص بن غياث ومحمد بن إسحاق وشجاع بن الوليد وحماد بن زيد ووكيع وأبومعاوية والمفضل بن فضالة ومحمد بن كنانة كلهم رووه عن هشام، كما رواه مالك. ورواه وهيب بن خالد وأنس بن عياض وشعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل حدثه عن عبد الله بن الأرقم، فأدخلوا بين عروة وبين عبد الله بن الأرقم رجلاً، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن أيوب بن موسى عن هشام بن عروة عن أبيه قال: خرجنا في حج أو عمرة مع عبد الله بن الأرقم الزهري، فأقام الصلاة ثم قال: صلوا وذهب لحاجته، فلما رجع قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أقيمت الصلاة وأراد أحدكم الغائط فليبدأ بالغائط، فهذا الإسناد يشهد بأن رواية مالك ومن تابعه متصلة لتصريحه بأن عروة سمعه من عبد الله بن الأرقم، وابن جريج وأيوب ثقتان حافظان - انتهى.
1077- قوله: (ثلاث) أي ثلاث خصال بالإضافة ثم حذف المضاف إليه ولهذا جاز الإبتداء بالنكرة. (لا يحل أن يفعلهن) المصدر المنسبك من "أن" والفعل فاعل "يحل" أي لا يجوز فعلهن. (لا يؤمن) بنون التأكيد في جميع النسخ وهكذا في جامع الأصول (ج6: ص387) ووقع في المصابيح: "لا يؤم" بغير النون كما في أبي داود. وقوله: "لا يؤم" بالرفع نفي بمعنى النهي، ويجوز أيضاً فتح الميم على الجزم بالنهي. (فيخص) بالنصب(3/514)
نفسه بالدعاء دونهم، فإن فعل ذلك فقد خانهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للجواب. وقال المناوي: منصوب بأن المقدرة لوروده بعد النفي على حد: {لا يقضي عليهم فيموتوا} . قيل: ويجوز الرفع عطفاً على لا يؤم. (نفسه) مفعول ليخص. (بالدعاء دونهم) أي دون مشاركتهم في دعائه. (فإن فعل ذلك فقد خانهم) وفي المصابيح: فإن فعل فقد خانهم أي بدون لفظ ذلك، وكذا في أبي داود وجامع الأصول. قال الطيبي: نسب الخيانة إلى الإمام؛ لأن شرعية الجماعة ليفيض كل من الإمام والمأموم الخير على صاحبه ببركة قربه من الله تعالى، فمن خص نفسه فقد خان صاحبه. قال القاري: وإنما خص الإمام بالخيانة فإنه صاحب الدعاء، وإلا فقد تكون الخيانة من جانب المأموم، وفيه دليل على كراهة أن يخص الإمام نفسه بالدعاء في الصلاة ولا يشارك المأمومين فيه، فإن قلت: قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في صلاته وهو إمام بلفظ الأفراد، كما في دعاء الافتتاح والركوع والسجود والتشهد وغير ذلك. قلت: ذكروا في دفع هذا الاختلاف وجوهاً: منها ان حديث ثوبان هذا موضوع. قال ابن خزيمة في صحيحه وقد ذكر حديث: اللهم باعد بيني وبين خطاياى-الحديث. قال في هذا دليل على رد الحديث الموضوع: لا يؤم عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم، فإن فعل فقد خانهم، حكى ذلك عنه ابن القيم في زاد المعاد. وفيه أن الحكم على هذا الحديث بأنه موضوع ليس بصحيح، بل هو حسن كما سيأتي. ومنها أنه مختص بالقنوت ونحوه. قال ابن القيم سمعت شيخ الاسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه - انتهى. وقال العزيزي: هذا في دعاء القنوت خاصة بخلاف دعاء الافتتاح والركوع والسجود والجلوس بين السجدتين والتشهد - انتهى. ولذلك استحب الشافعية والحنابلة للإمام أن يقول في دعاء القنوت المروي عن الحسن بن علي: اللهم اهدنا فيمن هديت، بضمير الجمع مع أن المشهور في حديثه: اللهم اهدني بإفراد الضمير، إلا في روية للبيهقي في قنوت الصبح، فإن فيها اللهم اهدنا بضمير الجمع. ومنها أن معناه تخصيص نفسه بالدعاء في الصلاة والسكوت عن المقتدين. ومنها أن المراد نفيه عنهم كارحمني محمداً ولا ترحم معنا أحداً، ولا شك أن هذا ممنوع. ومنها أن المراد بالتخصيص المنهي عنه هو أن ينوي الإمام بالأدعية الواردة بلفظ الإفراد نفسه خاصة ولا ينوي بها العموم والشمول لنفسه وللمقتدين. قال شيخنا في شرح الترمذي: قول الشافعية وغيرهم أنه يستحب للإمام أن يقول: اللهم اهدنا بجمع الضمير فيه أنه خلاف المأثور، والمأثور إنما هو بإفراد الضمير، فالظاهر أن يقول الإمام بإفراد الضمير أي في دعاء القنوت وغيره كما ثبت لكن لا ينوي به خاصة نفسه، بل ينوي به العموم والشمول لنفسه ولمن خلفه من المقتدين - انتهى. قد ورد دعاء القنوت بضمير الجمع من حديث ابن عباس عند البيهقي في السنن الكبرى (ج2: ص210)(3/515)
ولا ينظر في قعر بيت قبل أن يستأذن، فإن فعل ذلك فقد خانهم. ولا يصل وهو حقن حتى يتخفف)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقد روى من طريق الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن ابن هرمز عن يزيد بن أبي مريم عن عبد الله بن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح: اللهم اهدنا فيمن هديت الخ، لكن الأكثر الأشهر هو إفراد الضمير في هذا الدعاء، وفي صحة حديث ابن عباس عندي نظر. (ولا ينظر) بالرفع ويجوز الجزم. (في قعر بيت) بفتح القاف وسكون العين أي داخل مكان مستور للغير. (قبل أن يستأذن) بالبناء للفاعل أي أهله فيؤذن. قال ابن الملك: احترازاً أن يقع نظره على العورة. (فإن فعل) أي فإن نظر فيه قبل الاستيذان من جحر أو غيره. (فقد خانهم) قال الطيبي: شرعية الاستيذان لئلا يهجم قاصد على عورات البيت، فالنظر في قعر البيت خيانة. قلت: وفي المصابيح وأبي داود وجامع الأصول "فقد دخل" بدل قوله "فقد خانهم" أي فقد ارتكب إثم من دخل البيت بغير استئذان. قال ابن العربي: الإطلاع على الناس حرام بالإجماع فمن نظر داره فهو بمنزلة من دخل داره. (ولا يصل) بكسر اللام المشددة وحذف حرف العلة للجزم. وفي بعض النسخ ولا يصلي أي بإثبات الياء، وكذا وقع في المصابيح وأبي داود وجامع الأصول. (وهو حقن) بفتح الحاء المهملة وكسر القاف، أي وهو يؤذيه الغائط أو البول، والجملة حال. قال الجزري: الحاقن والحقن بحذف الألف بمعنى، والحاقن هو الذي حبس بوله مع شدته، والحاقب هو الحابس للغائط، والمراد هنا بالحاقن ما يعم حبس الغائط، وهو من باب الاكتفاء. (حتى يتخفف) بمثناه تحتية مفتوحة ففوقية أي يخفف نفسه بخروج الفضلة ويزيل ما يؤذيه من ذلك. قلت: فإن فعل ذلك فقد خان نفسه. قال الطيبي: الصلاة مناجاة وتقرب إلى الله سبحانه واشتغال عن الغير، والحاقن كأنه يخون نفسه في حقها، ولعل توسيط الاستيذان بين حالتي الصلاة للجمع بين مراعاة حق الله تعالى وحق العباد، وخص الاستيذان أي من حقوق العباد؛ لأن من راعى هذه الدقيقة فهو بمراعاة ما فوقها أحرى- انتهى. والحديث قد استدل به من ذهب إلى فساد صلاة من صلى وهو حاقن وإن أكمل صلاته ولم يترك فرضاً من فرائضها خلافاً للجمهور. قال ابن رشد: والسبب في اختلافهم، اختلافهم في النهي هل يدل فساد المنهى عنه أم ليس يدل على فساده وإنما يدل على تأثيم من فعله فقط إذا كان أصل الفعل الذي تعلق النهي به واجباً أو جائزاً، وقد تمسك القائلون بفساد صلاته بحديث رواه الشاميون منهم من يجعله عن ثوبان، ومنهم من يجعله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لمؤمن أن يصلي وهو حاقن جداً. قال أبوعمر ابن عبد البر: وهو ضعيف السند لا حجة فيه- انتهى. قلت: حديث ثوبان هذا ليس بضعيف بل صحيح أو حسن كما ستعرف، فهو حجة بلا شك، لكن في الاستدلال به على فساد صلاة الحاقن نظر، وأما كراهة صلاة الحاقن وكونه آثما فلا خفاء فيه.(3/516)
رواه أبوداود، وللترمذي نحوه.
1078- (20) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تؤخروا الصلاة لطعام ولا لغيره))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(رواه أبوداود وللترمذي نحوه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص280) وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص180) وحديث ابن ماجه مختصر كلهم من طريق يزيد بن شريح الحضرمي عن أبي حي المؤذن عن ثوبان، وقد سكت عليه أبوداود. وقال الترمذي: حديث حسن. واختلف فيه على يزيد بن شريح فرواه حبيب بن صالح عن يزيد عن أبي حي عن ثوبان. أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي، وروى ثور بن يزيد الكلاعي عن يزيد عن أبي حي عن أبي هريرة، أخرجه أبوداود والبيهقي، وروى معاوية بن صالح عن السفر بن نسير عن يزيد عن أبي أمامة. أخرجه أحمد (ج5 ص250، 260، 261) وفي رواية الأخيرة زيادة نصها، فقال شيخ لما حدثه يزيد أنا سمعت أبا أمامة يحدث بهذا الحديث. أخرجه أيضاً الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (ج2 ص79، 89 ج8 ص43) ورواه ابن ماجه والبيهقي مختصراً. ومدار الحديث في طرقه كلها على يزيد بن شريح كما ترى، وهو ثقة فقيل يحتمل أن يكون سمعه من الطرق الثلاث وحفظه وقيل: بل اضطراب حفظه فيها ونسي فيكون الحديث ضعيفاً بطرقه الثلاث للاضطراب في السند. وقيل: طريق ثوبان أرجح. قال الترمذي بعد ذكر طريق أبي أمامة وأبي هريرة تعليقاً: وكان حديث يزيد بن شريح عن أبي حي الموذن عن ثوبان في هذا أجود إسناداً وأشهر- انتهى. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقيل: رواية السفر بن نسير عنه عن أبي أمامة أرجح لما جاء عند أحمد (ج5 ص261) من المتابعة من شيخ مبهم يحكي أنه سمعه من أبي أمامة كما تقدم، وفيه أن السفر بن نسير ضعيف كما صرح به الحافظ في التقريب، والهيثمي في مجمع الزوائد، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني: لا يعتبر به، والمتابع له عند أحمد مبهم، ففي كون رواية السفر أرجح من رواية حبيب بن صالح وثور بن يزيد نظر قوي، وسكوت أبي داود عن حديثي ثوبان وأبي هريرة بعد روايتهما يدل على أن هذين الطريقتين محفوظان صالحان للاحتجاج عنده، وإليه قلبي، وفي كون حديث ثوبان أجود سنداً من حديث أبي هريرة كلام عندي، فإن ثور بن يزيد أوثق وأثبت من حبيب بن صالح. والله أعلم.
1078- قوله: (لا تؤخروا الصلاة) أي عن وقتها. (لطعام ولا لغيره) كالحقن، قال التوربشتي: المعنى لا تؤخروها عن وقتها، وإنما حملناه على ذلك دون التأخير على الاطلاق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة- الحديث. فجعل له تأخير الصلاة مع بقاء الوقت. وعلى هذا فلا اختلاف بين الحديثين. قال الطيبي: ويمكن أن يكون المعنى لا تؤخروا الصلاة لغرض الطعام لكن إذا حضر الطعام أخروها للطعام قدمت للاشتغال(3/517)
رواه في شرح السنة.
{الفصل الثالث}
1079- (21) عن عبد الله بن مسعود، قال: ((لقد رأيتنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بها عن الغير تبجيلاً لها، وأخرت تفريغاً للقلب عن الغير تعظيما لها. قال القاري: حاصله أن الصلاة مقدمة على جميع الأمور بالذات وغاية الأمور يتقدم عليها لتحصيل كمالها إذا وسع الوقت، وأما عند ضيق الزمان فيجب تقديمها، فيكون في تقديم الأمور وتأخيرها تقديم لأمر الصلاة تبجيلاً لها. قال الطيبي: والوجه أن النهي في الحقيقة وارد على إحضار الطعام قبل أداء الصلاة، أي لا تتعرضوا لما أن حضرت الصلاة تؤخروها لجله من إحضار الطعام والاشتغال بغيرها- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج4 ص242، 241) وجه الجمع بين الحديثين أن حديث ابن عمر إنما جاء فيمن كانت نفسه تنازعه شهوة الطعام وكان شديد التوقان إليه، فإذا كان كذلك وحضر الطعام وكان في نفس الوقت فضل بدأ بالطعام لتسكن شهوة نفسه فلا يمنعه عن توفية الصلاة حقها، وكان الأمر يخف عندهم في الطعام وتقرب مدة الفراغ منه، إذ كانوا لا يستكثرون منه ولا ينصبون الموائد ولا يتناولون الألوان، وإنما هو مذقة من لبن أو شربة من سويق أو كف من تمر أو نحو ذلك، ومثل هذا لا يؤخر الصلاة عن زمانها ولا يخرجها عن وقتها. وأما حديث جابر فهو فيما كان بخلاف ذلك من حال المصلي وصفة الطعام ووقت الصلاة، وإذا كان الطعام لم يوضع وكان الإنسان متماسكاً في نفسه وحضرت الصلاة وجب أن يبدأ بها ويؤخر الطعام. وهذا وجه بناء أحد الحديثين على الآخر- انتهى. (رواه) أي البغوي. (في شرح السنة) وأخرجه أيضاً أبوداود في الأطعمة، وسكت عنه. وقال المنذري: في إسناده محمد بن ميمون أبوالنضر الكوفي الزعفراني المفلوج. قال أبوحاتم الرازي: لا بأس به. وقال ابن معين ثقة. وقال الدارقطني: ليس به بأس. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة الرازي: كوفي لين. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً لا يجوز الاحتجاج به إذا وافق الثقات فكيف إذا انفرد بأوابده- انتهى. قلت: ووثقه أبوداود، وقال النسائي: منكر الحديث. وقال الحاكم أبوأحمد: حديثه ليس بالقائم له عند أبي داود هذا الحديث الواحد. وقال الحافظ في التقريب: صدوق له أوهام. فالظاهر أن حديثه هذا ليس مما لا يعتبر به. وأخرجه البيهقي (ج3 ص74) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يؤخر الصلاة لطعام، ولا لغيره. وفيه أيضاً محمد بن ميمون.
1079- قوله: (لقد رأيتنا) أي معاشر الصحابة أو جماعة المسلمين. قال في اللمعات: الرؤية ههنا بمعنى العلم، ولذا اتحد ضمير الفاعل والمفعول وإن كانا مختلفين بالإفراد والجمع وما يتخلف ساد مسد المفعول الثاني،(3/518)
وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض. إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة. وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. وفي رواية قال: من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هذه الصلوات الخمس، حيث ينادي بهن فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكن صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والضمير الراجع إلى المفعول الأول محذوف- انتهى. وقال في أشعة اللمعات: كفت ابن مسعود هر آئينه بتحقيق دانستم خودرا وصحابه ديكر راكه حكم ميكرديم باين كه بس نمى ماند از نماز باجماعت مكر منافقي كه بتحقيق معلوم بود وظاهر بود نفاق وى. وقال الطيبي: قد تقرر أن إتحاد الفاعل والمفعول إنما يسوغ في أفعال القلوب وأنها من داخل المبتدأ والخبر، والمفعول الثاني الذي هو بمنزلة الخبر محذوف ههنا، وسد قوله: (وما يتخلف عن الصلاة) أي بالجماعة من غير عذر وهو حال مسده وتبعه ابن حجر، لكن في كون إتحاد الفاعل والمفعول ههنا بحث، إذ المراد بالفاعل المتكلم وحده وبالمفعول هو وغيره، قاله القاري. (إلا منافق قد علم نفاقه) فيه حجة لمن خص التواعد بالتحريق بالنار المتقدم في حديث أبي هريرة بالمنافقين المبطنين للكفر المظهرين للإسلام، وتقدم هناك أن الحافظ حمله على المنافقين نفاق المعصية لا نفاق الكفر. قال الشمني: ليس المراد بالنفاق ههنا من يبطن الكفر ويظهر الإسلام وإلا لكانت الجماعة فريضة؛ لأن من يبطن الكفر كافر ولكان آخر الكلام مناقضاً لأوله، وفيه أن مراده أن النفاق سبب التخلف لا عكسه وأن الجماعة واجبة على الصحيح لا فريضة للدليل الظني وأن المناقضة غير ظاهر، قاله القاري. (إن كان) إن مخففة من الثقيلة. (المريض ليمشي بين رجلين) أي يتوكأ عليهما لشدة ما به من قوة المرض وضعف البدن. (وقال) أي ابن مسعود. (علمنا سنن الهدى) روى بضم السين وفتحها حكاهما القاضي وهما بمعنى متقارب أي طرائق الهدى والصواب، ولم يرد السنة المتعارفة بين الفقهاء. (وإن من سنن الهدى الصلاة) أي بالجماعة كما هو صريح السياق. (في المسجد الذي يؤذن فيه) لإمام معين أو غير معين. (مسلماً) أي كاملا. (حيث ينادي بهن) أي في المساجد مع الجماعات. (وإنهن) أي الصلوات الخمس بالجماعة. (ولو أنكم صليتم في بيوتكم) يعني ولو جماعة. (كما يصلي هذا المتخلف) قال الطيبي: تحقير للمتخلف وتبعيد عن مظان الزلفى، كما أن اسم الإشارة في قوله الآتي هذه المساجد ملوح على تعظيمها وبعد مرتبتها في الرفعة. (ولو تركتكم سنة نبيكم لضللتم) قال الطيبي: يدل على أن المراد بالسنة العزيمة. قال ابن الهمام:(3/519)
وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف)) رواه مسلم.
1080- (22) وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية، أقمت
صلاة العشاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتسميتها سنة على ما في حديث ابن مسعود لا حجة فيه للقائلين بالنسبة إذ لا تنافى الوجوب في خصوص ذلك الإطلاق؛ لأن سنن الهدى أعم من الواجب لغة كصلاة العيد- انتهى. وقد يقال لهذا الواجب سنة لكونه ثبت بالسنة أي الحديث، وقوله: "لضللتم" يعطي الوجوب ظاهرا. وفي رواية أبي داود "لكفرتم" وهو على التغليظ أو على الترك تهاوناً وقلة مبالاة وعدم اعتقادها حقاً، أو لفعلتم فعل الكفرة. وقال الخطابي: معناه أنه يؤديكم إلى الكفر بأن تتركوا عرى الإسلام شيئاً فشيئاً حتى تخرجوا من الملة- انتهى. (فيحسن الطهور) بضم الطاء أي يأتي بواجباًته ومكملاته. (ثم يعمد) بكسر الميم أي يقصد ويتوجه. (من هذه المساجد) أي مساجد المسلمين. (بكل خطوة) بفتح الخاء أو ضمها. (وحط) أي وضع ومحا. (وما يتخلف عنها) أي عن صلاة الجماعة في المسجد. (معلوم النفاق) وفي رواية أبي داود: بين النفاق أي ظاهره. (ولقد كان الرجل) أي المريض. (ويؤتى به) إلى الصلاة. (يهادي بين الرجلين) على بناء المفعول أي يؤخذ من جانبيه فيمشي به إلى المسجد من ضعفه وتمايله. وقال النووي: أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضدية يعتمد عليها. (حتى يقام في الصف) قال النووي: في هذا كله تأكيد أمر الجماعة وتحمل المشقة في حضورها، وأنه إذا أمكن المريض ونحوه التوصل إليها استحب له حضورها - انتهى. قال الشوكاني: والأثر استدل به على وجوب صلاة الجماعة. وفيه أنه قول صحابي ليس فيه إلا حكاية المواظبة على الجماعة وعدم التخلف عنها ولا يستدل بمثل ذلك على الوجوب - انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي مختصراً ومطولاً.
1080- قوله: (لولا ما في البيوت من النساء والذرية) أي الصغار. وفي معناهما أصحاب الأعذار. قال الطيبي: من بيان لما عدل من "من" إلى "ما"، إما لإرادة الوصفية وبيان أن النساء والذرية بمنزلة ما لا يعقل، وأنه مما لا يلزمه حضور الجماعة، وإما لأن البيوت محتوية على الأمتعة والأثاث، فخصتا بالذكر للاعتناء بشأنهما، وما تستعمل عاماً في ما يعقل وما لا يعقل. (أقمت صلاة العشاء) أي أمرت باقامة صلاة العشاء الآخرة للجماعة،(3/520)
وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار)) روا أحمد.
1081- (23) وعنه، قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج
أحدكم حتى يصلي))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتخصيصها لكثرة تخلف المتخلفين فيها. (وأمرت فتياني) بكسر الفاء جمع فتى أي غلماني وخدمي. وقيل: أي أقوياء أصحابي. (يحرقون) بالتشديد ويخفف. (ما في البيوت) فيه تغليب غير ذوي العقول أو تنزيلهم منزلتهم فإنهم لو كانوا من ذوي العقول لما تخلفوا. (بالنار) فيه تأكيد ووعيد وتهديد. وفيه بيان سبب ترك ما هّم به - صلى الله عليه وسلم - من تحريق المتخلفين وبيوتهم. (رواه أحمد) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص42) : في إسناده أبومعشر وهو ضعيف. قلت: أبومعشر هذا اسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي المدني مولى بني هاشم مشهور بكنيته من رواة الأربعة. قال في التقريب: ضعيف أسن واختلط، مات سنة سبعين ومائة - انتهى. وضعفه أيضاً ابن معين ويحيى بن سعيد القطان وأبوداود والنسائي وابن المديني والدارقطني وابن سعد. وقال البخاري وغيره: منكر الحديث. وقال الترمذي: قد تكلم بعض أهل العلم من قبل حفظه. قال محمد: لا أروي عنه شيئاً. وقد روى عنه الناس. قلت: ومع ضعفه يكتب حديثه في الرقاق والتفسير والتاريخ والقصص. قال الأثرم عن أحمد: حديث عندي مضطرب لا يقيم الإسناد ولكن أكتب حديثه أعتبر به. وقال أبوحاتم: كان أحمد يرضاه ويقول كان بصيراً بالمغازي قال: وقد كنت أهاب حديثه حتى رأيت أحمد يحدث عن رجل عنه فتوسعت بعد فيه. قيل له: فهو ثقة؟ قال: صالح لين الحديث محله الصدق. قيل: أعدل الأقوال فيه أنه صدوق في الحديث، وأن ضعفه من قبل حفظه، وقد تأيد حديثه هذا بما تقدم من حديث أبي هريرة في الفصل الأول.
1081- قوله: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: المأمور به محذوف وقوله: (إذا كنتم الخ) مقول للقول، وهو حال بيان للمحذوف، والمعنى أمرنا أن لا نخرج من المسجد إذا كنا فيه وسمعنا الأذان حتى نصلي قائلاً إذا كنتم الخ. وقال ابن حجر: أي أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نخرج من المسجد بعد سماع أذانه. لكن ليس بصيغة أمر بل بما يدل عليه، وهو قوله إذا كنتم الخ. والحديث يدل على أنه لا يجوز الخروج من المسجد بعد ما أذن فيه، لكنه مخصوص بمن ليس له ضرورة، يدل عليه حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلنا الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف قال على مكانكم فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينظف رأسه ماء وقد اغتسل، ففيه دليل على أن النهي عن الخروج عن المسجد بعد الأذان مخصوص بمن ليس له ضرورة، فيلتحق بالجنب المحدث والراعف والحاقن(3/521)
رواه أحمد.
1082- (24) وعن أبي الشعثاء، قال: ((خرج رجل من المسجد بعد ما أذن فيه. فقال أبوهريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ونحوهم، وكذا من كان إماما لمسجد آخر ومن في معناه. قال ابن رسلان في شرح السنن: الخروج مكروه عند عامة أهل العلم إذا كان لغير عذر من طهارة أو نحوها وإلا جاز بلا كراهة - انتهى. قلت: ويدل على جواز الخروج لحاجة حديث عثمان الآتي، وحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وقال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح. (رواه أحمد) من طريق شريك عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن أبي هريرة وزاد في أوله من طريق المسعودي وشريك قال: (أي أبوالشعثاء) خرج رجل بعد ما أذن المؤذن فقال: (أي أبوهريرة) أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (أي أبوهريرة) أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح: وقال المنذري: إسناده صحيح. ورواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه دون قوله: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخ - انتهى. يعني به الحديث الذي ذكره المصنف بعد هذا.
1082- قوله: (عن أبي الشعثاء) اسمه سليم بن أسود بن حنظلة المحاربي الكوفي، ثقة باتفاق من كبار أوساط التابعين، مات في زمن الحجاج، وأرخه ابن قانع سنة ثلاث وثمانين. (أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -) كأنه علم أن خروجه ليس لضرورة تبيح له الخروج كحاجة الوضوء مثلاً. قال الطيبي: أما للتفصيل يقتضي شيئين فصاعداً، والمعنى أما من ثبت في المسجد وأقام الصلاة فيه فقد أطاع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -، وأما هذا فقد عصى - انتهى. وفيه دليل على تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان وهو محمول على من خرج بغير ضرورة كما تقدم. قال القرطبي: هذا محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدليل نسبته إليه وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان، فأطلق لفظ المعصية عليه - انتهى. قلت: حديث مسلم هذا أخرجه أحمد من طريق المسعودي وشريك كلاهما عن أشعث عن أبي الشعثاء بنحوه، وزاد في آخره ما نصه قال: وفي حديث شريك ثم قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي. وهو الحديث السابق ففي هذه الرواية التصريح برفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا ورد التصريح برفعه عند الطبراني من طريق(3/522)
رواه مسلم.
1083- (25) وعن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أدركه الأذان
في المسجد. ثم خرج لم يخرج لحاجة، وهو لا يريد الرجعة، فهو منافق)) رواه ابن ماجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سعيد بن المسيب عن أبي هريرة كما تقدم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. وأعلم أن قول الصحابي: من فعل كذا فقد عصى الرسول مما أختلف في أنه مرفوع أو موقوف. والصحيح الراجح، أنه مرفوع. قال المنذري في مختصر السنن ذكر بعضهم أن هذا يعني حديث أبي هريرة موقوف، وذكر أبوعمر النمري (ابن عبد البر) : أنه مسند عندهم. وقال: لا يختلفون في هذا وذاك أنهما مسندان مرفوعان يعني هذا، وقول أبي هريرة من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله - انتهى. وقال الحافظ في شرح النخبة: ومن ذلك أي من قبيل المرفوغ الحكمي أن يحكم الصحابي على فعل من الأفعال بأنه طاعة لله ولرسوله أو معصيته كقول عمار: ومن صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم. قال السيوطي في التدريب (ص64) بعد ذكره. وجزم بذلك أيضاً الرزكشي في مختصره نقلاً عن ابن عبد البر: وأما البلقيني فقال الأقرب أن هذا ليس بمرفوع لجواز إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد، وسبقه إلى ذلك أبوالقاسم الجوهري، نقله عنه ابن عبد البر ورده عليه - انتهى.
1083- قوله: (ولم يخرج) أي والحال أنه لم يخرج. (لحاجة وهو) أي والحال أنه (لا يريد الرجعة) بفتح الراء وسكون الجيم أي الرجوع. (فهو منافق) جواب أو خبر "من" أي عاص، أو فهو في ترك الجماعة كالمنافق أو فاعل فعل المنافق، إذا المؤمن صدقاً ليس من شأنه ذلك. (رواه ابن ماجه) وفيه عبد الجبار بن عمر الأيلي الأموي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهما ضعيفان متروكان، لكن له شاهد قوي من حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط، وقد ذكرنا لفظه، ويشهد له أيضاً ما روى أبوداود في مراسيله والبيهقي (ج3: ص56) عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يخرج أحد من المسجد بعد النداء إلا منافق إلا لعذر أخرجته حاجة وهو يريد الرجوع. ومراسيل سعيد بن المسيب قال أحمد: صحاح لا نرى أصح من مرسلاته. وقال الشافعي: إرسال ابن المسيب عندنا حسن، وحديث عثمان هذا أخرجه أيضاً ابن منجر والزيدوني في أحكامه وابن سيد الناس في شرح الترمذي قاله الشوكاني.(3/523)
1084- (26) وعن ابن عباس، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من سمع النداء فلم يجبه، فلا
صلاة له إلا من عذر)) رواه الدارقطني.
1085- (27) وعن عبد الله بن أم مكتوم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1084- قوله: (من سمع النداء) أي وعليه ما نودي لها من الصلاة وإلا فلو صلاها قبل لم يلزم المجيء. (فلم يجبه) أي النداء بالفعل يعني فلم يحضر المسجد. وفي رواية ابن ماجه "فلم يأته"، أي محل النداء لأداء تلك الصلاة التي نودي لها. (فلا صلاة له) أي فليس له تلك الصلاة لو صلاها في غير محل النداء، وإنما أتى بنفي الجنس للدلالة على عموم الحكم لكل صلاة ترك فيها إجابة الأذان، وإلا فليس المراد أنه بطلت صلاته كلها بترك الإجابة مرة. وظاهر الحديث أن الجماعة في المسجد الذي سمع نداءه فرض لصحة الصلاة حتى لو تركها بطلت صلاته، وهو خلاف ما عليه الجمهور، فلا بد لهم من حمل الحديث على نقصان تلك الصلاة أي فلا صلاة له كاملة فنزل نفي الكمال منزلة نفي الذات مبالغة، أو المراد فلا صلاة مقبولة. (إلا من عذر) قال القاري: استثناء من عدم الإجابة. (رواه الدارقطني) وأخرجه أيضاً بقي بن مخلد وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي كلهم من طريق هشيم عن شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده على شرط مسلم، لكن رجح بعضهم وقفه. وقال في التلخيص (ص123) : إسناده صحيح لكن قال الحاكم: وقفه غندر وأكثر أصحاب شعبة، ثم أخرج له شواهد، منها عن أبي موسى الأشعري وهو من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي بردة عن أبيه بلفظ: من سمع النداء فارغاً صحيحاً فلم يجب فلا صلاة له. ورواه البزار من طريق قيس بن الربيع عن أبي حصين أيضاً، ورواه من طريق سماك عن أبي بردة عن أبيه موقوفاً. وقال البيهقي: الموقوف أصح - انتهى. ونقل الهيثمي في مجمع الزوائد حديث أبي موسى عن الطبراني في الكبير بلفظ: من سمع النداء فلم يجب من غير ضرر ولا عذر فلا صلاة له. قال: وفيه قيس بن الربيع وثقة شعبة وسفيان الثوري، وضعفه جماعة - انتهى. وقد ظهر بهذا أن إسناد حديث ابن عباس هذا أمثل مما تقدم من روايته في الفصل الثاني.
1085- قوله: (عن عبد الله بن أم مكتوم) القرشي العامري الأعمى الصحابي المشهور، مؤذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، المعروف بابن أم مكتوم. اختلف في اسمه، فقيل: عمرو. وقيل: عبد الله. وقيل: الحصين، والأول أكثر وأشهر وهو عمرو بن زائدة. ويقال: عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم. واسم أمه أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله ابن عكثة وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين فإن أم خديجة أخت قيس بن زائدة واسمها فاطمة، أسلم قديماً(3/524)
قال: ((يارسول الله! إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وأنا ضرير البصر، فهل تجد لي من رخصة؟ قال: هل تسمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح؟ قال: نعم. قال: فحي هلا. ولم يرخص)) . رواه أبوداود والنسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهاجر قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة ثلاث عشرة مرة يصلي بالناس، وشهد القادسية وقتل بها شهيداً وكان معه اللواء يومئذٍ وهو الأعمى المذكور في {عبس وتولى} [80: 1] . وقيل: رجع من القادسية إلى المدينة فمات بها، ولم يسمع له بذكر بعد عمر بن الخطاب له عند أبي داود والنسائي وابن ماجه هذا الحديث الواحد. (كثيرة الهوام) أي المؤذيات من العقارب والحيات جمع هامة، وهي كل ذات سم يقتل، وما يسم ولا يقتل فسامه كالعقرب والزنبور، وقد تقع الهامة على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل ومنه أيؤذيك هو أم رأسك أراد القمل كذا في المجمع. (والسباع) كالذئاب أو الكلاب. (وأنا ضرير البصر) أي أعمى. (فهل تجد لي من رخصة) أي في ترك الجماعة. (هل تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح) يعني هل تسمع الأذان وإنما خص اللفظان لما فيهما من معنى الطلب والترغيب. (فحي هلا) بالتنوين وجاء بالألف بلا تنوين وسكون اللام وهما كلمتان جعلتا كلمة واحدة، فحي بمعنى أقبل وهلا بمعنى أسرع، وجمع بينهما للمبالغة. قال في شرح المفصل: هو اسم من أسماء الأفعال مركب من حي وهل، وهما صوتان، معناهما الحث والاستعجال، وجمع بينهما وسمي بهما للمبالغة. وكان الوجه أن لا ينصرف كحضر موت وبعلبك، إلا أنه وقع موقع فعل الأمر فبني كصومه، وفيه لغات، وتارة يستعمل "حي" وحده نحو حي على الصلاة، وتارة "هلا" وحدها، واستعمال حي وحده أكثر من الاستعمال هلا وحدها- انتهى. وقال الطيبي: هي كلمة حث واستعجال وضعت موضع أجب. قال ابن حجر: وآثرها لأن أحسن الجواب ما كان مشتقاً من السؤال ومنتزعاً منه. (ولم يرخص) له بالبناء للفاعل. وقيل: للمفعول. والحديث قد استدل به على أن حضور الجماعة واجب عيناً، ولو كان ندبا لكان أولى من يسمعه التخلف عنها أهل الضرر والضعف ومن كان في مثل حال ابن أم مكتوم، واحتج أيضاً من ذهب إلى ذلك بأن الله عزوجل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي جماعة في صلاة الخوف ولم يعذر في تركها، فعقل أنها في حال الأمن أوجب وتأول من قال بكونها فرضاً على الكفاية أو سنة بوجوه. تقدم ذكرها في شرح حديث أبي هريرة قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى الخ المتقدم في الفصل الأول. (رواه أبوداود والنسائي) أخرجه أبوداود من طريق أبي رزين الأسدي وعبد الرحمن بن أبي ليلى كلاهما عن ابن أم مكتوم. وبين ألفاظهما اختلاف. وأخرجه النسائي من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى فقط وابن ماجه من طريق أبي رزين، ولفظ الكتاب هو من رواية ابن أبي ليلى عند النسائي لكن ليس عنده، وكذا عند أبي داود قوله: وأنا ضرير البصر فهل تجد لي من رخصة، نعم يوجد نحو هذا اللفظ في رواية أبي رزين عند أبي داود وابن ماجه. والمصنف ركب الحديث(3/525)
1086- (28) وعن أم الدرداء، قالت: ((دخل علي أبوالدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟
قال: والله ما أعرف من أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من الروايتين، وهذا ليس بحسن. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص423) والبيهقي (ج3 ص58) وابن حبان والطبراني. زاد ابن حبان وأحمد في رواية: فأتها ولو حبواً. قال المنذري: قد اختلف على ابن أبي ليلى في هذا الحديث، فرواه بعضهم عنه مرسلاً- انتهى. وفي الباب عن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير وعن جابر عند أحمد وأبي يعلى والطبراني في الأوسط وابن حبان وعن البراء بن عازب عند الطبراني في الأوسط.
1086- قوله: (وعن أم الدرداء) زوج أبي الدرداء اسمها هجيمة بنت حي الأوصابية الدمشقية، وهي الصغرى النابعية، ثقة فقهية من رواة الكتب الستة. وأما أم الدرداء الكبرى الصحابية فاسمها خيرة بنت أبي حدرد، ولا رواية لها في هذه الكتب. ماتت قبل أبي الدرداء بالشام في خلافة عثمان. قال علي بن المديني: كان لأبي الدرداء امرأتان كلتاهما يقال لهما أم الدرداء، إحداهما رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي خيرة بنت أبي حدرد، والثانية تزوجها بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي هجمية الوصابية، ماتت سنة إحدى وثمانين. قال الحافظ في الفتح: أم الدرداء وهي الصغرى التابعية لا الكبرى الصحابية؛ لأن الكبرى ماتت في حياة أبي الدرداء، وعاشت الصغرى بعده زماناً طويلاً. وقد جزم أبوحاتم بأن سالم بن أبي الجعد (المصرح بسماع هذا الحديث منها) لم يدرك أبا الدرداء، فعلى هذا لم يدرك أم الدرداء الكبرى، وفسرها الكرماني هنا بصفات الكبرى، وهو خطأ لقول سالم سمعت أم الدرداء. (دخل على) بتشديد الياء. (وهو مغضب) بفتح الضاد المعجمة. (ما أغضبك) ما استفهامية. (ما أعرف من أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئاً) أبقوه من الشريعة. (إلا أنهم يصلون) أي الصلاة أو الصلوات، فالمفعول محذوف (جميعاً) أي حال كونهم مجتمعين، يعني أغضبتني الأمور المنكرة المحدثة في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأني والله ما أعرف من أمرهم الباقي على الجادة شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً، فيكون الجواب محذوفاً، والمذكور دليل الجواب، قاله القاري. ومراد أبي الدرداء أن أعمال الذين يصلون بالجماعة قد وقع في جميعها النقص والتغيير ما خلا صلاتهم بالجماعة، ولم يقع فيها شيء من ذلك، وكان ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان، فيا ليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء، فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان. وقوله من أمر أمة محمد كذا وقع في نسخ المشكاة. والذي في البخاري عند أكثر رواته: ما أعرف من محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، وعليه شرح ابن بطال ومن تبعه فقال يريد من شريعة محمد شيئاً لم يتغير عما كان عليه إلا الصلاة في جماعة، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. ووقع عند أبي ذر وكريمة: ما أعرف من أمة محمد، وعند أبي الوقت: من أمر محمد بفتح الهمزة وسكون الميم بعدها راء، واحد الأمور، وكذا ساقه الحميدى في جمعة. (وكذا ذكره(3/526)
رواه البخاري.
1087- (29) وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، قال: إن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وإن عمر غدا إلى السوق، ومسكن سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان. فقال لها:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجزري في جامع الأصول (ج6 ص371) ، وكذا هو مسند أحمد، ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم، وعندهم لا أعرف فيهم أي في أهل البلد الذي كان فيه، وكان لفظ فيهم لما حذف من رواية البخاري صحف بعض النقلة أمر بأمة ليعود الضمير في أنهم إلى الأمة، كذا في الفتح. وفي الحديث جواز الغضب عند تغيير شيء من أمور الدين، وإنكار المنكر بإظهار الغضب إذا لم يستطع أكثر منه. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص443) قال ميرك: لم أجده في البخاري باللفظ الذي أورده المصنف- انتهى. وفيه أن القسطلاني قال: وللحموي من أمر أمة محمد. والله أعلم.
1087- قوله: (وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة وسكون المثلثة، واسم أبي حثمة عبد الله بن حذيفة العدوي المدني، روى عن أبيه سليمان وجدته الشفاء وغيرهما، وعنه الزهري وغيره، ثقة عارف بالنصب من الطبقة الوسطى من التابعين، وهم الذين جل روايتهم عن كبار التابعين. (فقد سليمان أبي حثمة) أي ما وجد أباه سليمان بن أبي حثمة بن غانم بن عامر بن عبد الله القرشي العدوي. قال ابن حبان: له صحبة. وقال ابن عبد البر: رحل مع أمه إلى المدينة، وكان من فضلاء المسلمين وصالحيهم، واستعمله عمر على السوق وجمع الناس عليه في قيام رمضان، وذكره ابن سعد فيمن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحفظ عنه، وذكر أباه في مسلمة الفتح، وقال في الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن مندة: ذكر في الصحابة ولا يصح. (في صلاة الصبح) أي يوماً من الأيام. (وإن عمر غدا) أي ذهب. (ومسكن سليمان) مبتدأ خبره. (بين المسجد والسوق) والجملة حالية معترضة. وفي الموطأ: بين السوق والمسجد النبوي. (فمر) أي عمر. (على الشفاء) بكسر الشين المعجمة وبالفاء المخففة ممدوداً. وقيل: مقصوراً، بنت عبد الله بن عبدشمس القرشية العدوية. (أم سليمان) بن أبي حثمة بدل أو عطف بيان. قال أحمد بن صالح المصري: اسمها ليلى، وغلب عليها الشفاء، أسلمت قبل الهجرة بمكة وبايعت، وهي من المهاجرات الأول، كانت من عقلاء النساء وفضلائهن، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزورها ويقيل عندها، وقال لها علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة، واقطعها دارها عند الحكاكين بالمدينة،
(1) النملة بفتح النون وسكون الميم، بثرة تخرج في الجسد بالتهاب واحتراق، وبرم مكانها يسيراً، ويدب إلى موضع أخر كالنملة.(3/527)
لم أر سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه. فقال عمر:؛ لأن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة. رواه مالك.
1088- (30) وعن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اثنان فما فوقهما جماعة))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فنزلتها مع ابنها سليمان، وكان عمر يقدمها في الرأي ويرعاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر السوق. (لم أر) ولدك. (سليمان في الصبح) أي في صلاته بالجماعة في المسجد. فيه تفقد الإمام رعيته، وفيه أيضاً إشارة إلى مواظبة سليمان على صلاة الصبح معه. (إنه بات) أي سهر (يصلي) في الليل. (فغلبته عيناه) أي بالنوم آخر الليل. قال الطيبي: الأصل غلب عليه النوم، فأسند إلى مكان النوم مجازاً. قال الباجي: الظاهر أنه نام فلم يستيقظ وقت الصلاة. ويحتمل أن يكون معنى غلبتهما له عن بلغ منه النوم مبلغاً لا يمكنه الصلاة معه، فنام عن صلاة الجماعة- انتهى. (لأن أشهد) أي أحضر. (أحب إلى أن أقوم) أي أصلي. (ليلة) أن من قيام الليلة وأحيائها بالنوافل لما في ذلك من الفضل الكبير حتى أن صلاة الجماعة واجبة عيناً عند أحمد، وكفاية عند كثير من الحنفية والشافعية، فهي آكد من النوافل. (رواه مالك) عن ابن شهاب الزهري عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حنثمة أن عمر بن الخطاب فقد ... الخ. قال الزرقاني في شرح الموطأ: وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سليمان بن أبي حثمة عن أمه الشفاء، قالت: دخل علي عمر، وعندي رجلان نائمان، تعني زوجها أباحثمة وابنها سليمان، فقال أما صليا الصبح؟ قلت لم يزالا يصليان حتى أصبحا فصليا الصبح وناما فقال؛ لأن أشهد الصبح في جماعة أحب إلى من قيام ليلة. قال أبوعمر: خالف معمر مالكاً في إسناده، والقول مالك - انتهى. يعني لأنه قال عن الزهري عن أبي بكر بن سليمان أن عمر الخ. ومعمراً قال عن الزهري عن سليمان عن أمه، فهي مخالفة ظاهرة، وسياق متنه فيه خلف أيضاً إلا أن يقال إن كان محفوظاً احتمل أن هذه مرة أخرى مع أبيه، فهما قصتان فلا خلف - انتهى كلام الزرقاني.
1088- قوله: (اثنان) أي مع الإمام. وقيل: سوى الإمام، والأول هو الظاهر، بل هو المتعين (جماعة) أي لهما فضل الجماعة إذا صليا مجتمعين أو ينبغي لهما الصلاة بالاجتماع لا بالانفراد. قال الطيبي: اثنان مبتدأ صفة لموصوف محذوف. ويجوز أن يتخصص بالعطف على قول: فإن الفاء للتعقيب، والمعنى اثنان وما يزيد عليهما على التعاقب واحداً بعد واحد يعد جماعة، نحو قولك الأمثل فالأمثل - انتهى. وقال في اللمعات: اثنان مبتدأ وجماعة خبره، ولا حاجة إلى تكلف جعله صفة لموصوف محذوف بناء على قاعدة وجوب تخصيص المبتدأ على ما هو المشهور لما اختاره الرضى من أن المدار على الفائدة - انتهى. وفيه دليل على أن أقل الجماعة إمام(3/528)
رواه ابن ماجه.
1089- (31) وعن بلال بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا أستأذنكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومأموم أعم من أن يكون المأموم رجلاًً أو صبياً أو امرأة. والحديث ضعيف، لكنه يؤيده حديث مالك ابن الحويرث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ثم ليؤمكما أكبركما، أخرجه البخاري، وترجم عليه بلفظ حديث أبي موسى هذا حيث قال: باب اثنان فما فوقهما جماعة. قال الدماميني: لما كان لفظ حديث الترجمة ضعيفا، لا جرم أن البخاري اكتفى عنه بحديث مالك بن الحويرث، ونبه في الترجمة عليه - انتهى. قال الحافظ: الترجمة مأخوذة بالاستنباط من لازم الأمر بالإقامة؛ لأنه لو استوت صلاتهما معاً مع صلاتهما منفردين لاكتفى بأمرهما بالصلاة كان يقول أذنا وأقيما وصليا. وقيل: وجه المطابقة أنه - صلى الله عليه وسلم - أنما أمرهما بإمامة أحدهما الذي هو أكبرهما لتحصل لهما فضيلة الجماعة، فصار الاثنان ههنا كأنهما جماعة بهذا الاعتبار. وتوجيحه: أن الإمامة في الشرع تطلب لنيل فضل الجماعة، فطلبها من الاثنين يدل على نيلهما فضل الجامعة وهذا معنى الاثنان جماعة، وكونهما جماعة يستلزم كون الأكثر جماعة بالأولى. (رواه ابن ماجه) وأخرجه أيضاً ابن عدي والبيهقي (ج3: ص69) وفي سنده الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد التميمي السعدي روى عن أبيه عن جده عمرو بن جراد، والربيع متروك، وأبوه بدر، وجده عمرو مجهولان. والحديث روي من طرق أخرى. كلها ضعيفة، كما صرح به الحافظ في الفتح، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص45) . وهي ما روى في معجم البغوي، وطبقات ابن سعد من حديث الحكم بن عمير، وفي إفراد الدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو، وفي البيهقي من حديث أنس وفي الأوسط للطبراني من حديث أبي أمامة وعند أحمد من حديث أبي أمامة أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وحده، فقال ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، فقام رجل فصلى معه، فقال هذان جماعة. والقصة المذكورة دون قوله "هذان جماعة" أخرجها أبوداود والترمذي من وجه آخر صحيح.
1089- قوله: (عن بلال بن عبد الله بن عمر) بن الخطاب القرشي العدوي. قال أبوزرعة: مدني ثقه، وقال حمزة الكناني: لا أعلم له غير هذا الحديث الواحد من أوساط التابعين. (لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد) أي ثوابهن الحاصل لهن بحضورهن للصلاة ونحوها في المساجد. (إذا استأذنكم) بتشديد النون. قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنوكم، هكذا وقع في أكثر الأصول أستأذنوكم. وفي بعضها أستأذنكم. (أى بتشديد النون) . وهذا ظاهر، والأول صحيح أيضاً، وعوملن معاملة(3/529)
فقال بلال: والله لنمنعهن. فقال له عبد الله: أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وتقول أنت: لنمنعهن. وفي رواية سالم عن أبيه، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبّاً ما سمعت سبه مثله قط، وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: والله لنمنعهن)) رواه مسلم.
1090- (32) وعن مجاهد، عن عبد الله بن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يمنعهن رجل أهله أن يأتوا المساجد. فقال ابن لعبد الله بن عمر: فإنا نمنعهن. فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول هذا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور. (فقال بلال) فيه تجريد أو التفات، إذ أصله فقلت. (والله لنمنعهن) قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت وحملته على ذلك الغيرة. (فقال له عبد الله) والد بلال. (أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي فتعارض هذا النص برأيك. (وتقول أنت لنمنعهن) قال الطيبي: يعني أنا آتيك بالنص القاطع، وأنت تتلقاه بالرأى، والرواية الأخيرة أبلغ لسبه إياه سباً بليغاً، وهذا دليل قوى لا مزيد عليه في الباب. (وفي رواية سالم) هو سالم بن عبد الله بن عمر الخطاب القرشي العدوي أبوعمر، أو أبوعبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتاً عابداً فاضلاً، كان يشبه بأبيه في الهدى والسمت من كبار الطبقة الوسطى من التابعين، مات في آخر سنة ست ومائة في ذى القعدة أو ذى الحجة على الصحيح. (عن أبيه) عبد الله بن عمر. (قال) أي سالم. (فأقبل) أي أبوه. (عليه) أي على بلال. (فسبه سباً ما سمعت سبه مثله قط) وفي مسلم: فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط. وفسر في رواية الطبراني هذا السبب باللعن ثلاث مرات. (أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي بعدم منعهن. (رواه مسلم) الرواية الأولى أخرجها أحمد (ج2: ص90) بمثلها والطبراني بنحوها. وفيه فقلت أما أنا فسأمنع أهلي، فمن شاء فليسرح أهله. ورواية سالم عن أبيه أخرجها أحمد في مسنده مختصراً.
1090- قوله: (لا يمنعهن رجل أهله) أي نساءه. (إن يأتوا المساجد) قال الطيبي: ذكر ضمير النساء تعظيما لهن حيث قصدن السلوك مسلك الرجال الركع السجود على نحو قوله تعالى: {وكانت من القانتين} [66: 12] وقول الشاعر: وإن شئت حرمت النساء سواكم. (فقال ابن لعبد الله بن عمر) هو بلال. كما تقدم في رواية مسلم أو واقد كما جاء في مسلم أيضاً فقال ابن له يقال له واقد. قال المنذري: وابن عبد الله بن عمر هذا هو بلال بن عبد الله بن عمر جاء مبنياً في صحيح مسلم وغيره. وقيل: هو ابنه واقد بن عبد الله بن عمر ذكره مسلم في صحيحه أيضاً - انتهى. ورجح الحافظ في الفتح أنه بلال: قال الراجح من هذا أن صاحب القصة بلال لورود ذلك من روايته نفسه،(3/530)
قال: فما كلمه عبد الله حتى مات)) رواه أحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومن رواية أخيه سالم، ولم يختلف عليهما في ذلك، قال: فإن كانت رواية عمرو بن دينار عن مجاهد. (عند مسلم) محفوظة في تسميته واقدا فيحتمل أن يكون كل من بلال وواقد وقع منه ذلك إما في مجلس أو في مجلسين، وأجاب ابن عمر كلاً منهما بجواب يليق به ويقويه اختلاف النقلة في جواب ابن عمر، ثم بسط ذلك الاختلاف. (قال) أي مجاهد. (فما كلمه عبد الله حتى مات) قال الحافظ: أخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه، وعلى العالم بهواه، وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيراً إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران، فقد وقع في رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عند أحمد فما كلمه عبد الله حتى مات. وهذا وإن كان محفوظاً يحتمل أن يكون أحدهما مات عقب هذه القصة بيسير - انتهى. قال الطيبي: عجبت ممن يتسمى بالسنى إذا سمع من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله رأى رجح رأيه عليها، وأى فرق بينه وبين المبتدأ، أما سمع لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، وها هو ابن عمر من أكابر الصحابة وفقهائها كيف غضب لله ورسوله، وهجر فلذة كبده لتلك الهنة عبرة لأولى الأبصار. (رواه أحمد) (ج3: ص36) وإسناد صحيح، وأخرج نحوه في (ج3: ص49) .
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الثالث من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح،
ويليه الجزء الرابع إن شاء الله تعالى، وأوله: "باب تسويه الصف".(3/531)
بسم الله الرحمن الرحيم
(24) باب تسوية الصف
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(باب تسوية الصف) أي في الصلاة. وفي بعض النسخ الصفوف، والمراد بالأول الجنس قال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} [4:61] ، وقال تعالى: {إنا لنحن الصافون} [165:37] وأمرنا أن نصف في الصلاة كما تصف الملائكة عند ربها. ومعنى تسوية الصف هو اعتدال القائمين به على سمت واحد وخط مستقيم، وسد الخلل الذي في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم. قال ابن عبد البر في الاستذكار: الآثار في تسوية الصف متواترة من طرق شتى في أمره - صلى الله عليه وسلم - بتسوية الصفوف وعمل الخلفاء الراشدين بعده، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء - انتهى. واختلفوا في حكمها من الوجوب والندب. قال العيني: هي من سنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم أنه فرض. وقيل: إنه مندوب. وذهب البخاري إلى الوجوب، حيث ترجم في صحيحه بقوله: باب إثم من لم يتم الصفوف. قال العيني: ظاهر ترجمة البخاري يدل على أنه يرى وجوب التسوية، والصواب هذا الورود الوعيد الشديد في ذلك، وقال في موضع آخر: الصواب أن تسوية الصفوف واجبة بمقتضى الأمر، ولكنها ليست من واجبات الصلاة، بحيث أنه إذا تركها فسدت صلاته أو نقصتها، غاية ما في الباب إذا تركها يأثم. قلت: الحق عندي أن إقامة الصف وتعديله وتسويته من واجبات صلاة الجماعة، بحيث إذا تركها نقصتها، ويأثم تاركها لورود الأمر بالتسوية، والأصل(4/1)
{الفصل الأول}
1091- (1) عن النعمان بن بشير قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أنا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً، فقام حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلاً بادياً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الأمر الوجوب، ولورود الوعيد الشديد في تركه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، وفي رواية: "من تمام الصلاة"، ولقوله: "إن إقامة الصف من حسن الصلاة"، والمراد بحسنها تمامها، ولشدة اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه بعده بذلك، ولإنكار أنس على تركه حيث قال: ما أنكرت شيئاً إلا أنكم لا تقيمون الصفوف، أخرجه البخاري. والإنكار يستلزم المنكر، والمباح لا يسمى منكراً، ولأن عمر وبلالاً كانا يضربان أقدامهم لإقامة الصف، وضربهما أقدامهم يدل على أنهم تركوا واجباً من واجبات الصلاة. وأما إنه هل تفسد صلاة من ترك التسوية أم لا؟ فالظاهر أنه تصح ولا تفسد لعدم ورود نص صريح في ذلك. قال الحافظ في الفتح: ومع القول بأن التسوية واجبة، فصلاة من خالف ولم يسو صحيحة لاختلاف الجهتين. ويؤيد ذلك أن أنساً مع إنكاره عليهم يأمرهم بإعادة الصلاة. وأفرط ابن حزم فجزم بالبطلان - انتهى.
1091- قوله: (يسوي صفوفنا) أي بيده أو بأمره. (كأنما يسوي بها) أي بالصفوف. (القداح) بكسر القاف جمع قدح بكسر قاف فسكون دال، وهو خشب السهم حين ينحت ويبرى. قال الخطابي في المعالم (ج1:ص184) : القدح خشب السهم إذا برئ وأصلح قبل أن يركب فيه النصل والريش - انتهى. وقيل: هو السهم مطلقاً، يعني يبالغ في تسوية الصفوف حتى تصير كأنما يقوم بها السهام لشدة استوائها واعتدالها، قاله النووي. وقال الطيبي: ضرب المثل به للمتساويين أبلغ الاستواء في المعنى المراد منه؛ لأن القدح لا يصلح لما يراد منه إلا بعد الانتهاء في الاستواء، وإنما جمع مع الغنية عنه بالمفرد لمكان الصفوف أي يسوي كل صف على حدة، كما يسوي الصانع كل قدح على حدته. وروعي في قوله: يسوي بها القداح نكتة؛ لأن الظاهر كأنما يسويها بالقداح، والباء للآلة كما في كتبت بالقلم، فعكس، وجعل الصفوف هي التي يسوي بها القداح مبالغة في الاستواء - انتهى. وفي رواية لأحمد (ج4:ص272) كان يسوي بنا في الصفوف حتى كأنما يحاذى بنا القداح، وفي أخرى له (ج4 ص271) : يقيم الصفوف كما تقام الرماح أو القداح. وفي أخرى له (ج4:ص277) ولابن ماجه: يسوي الصف حتى يجعله مثل الرمح أو القدح. (حتى رأى) أي علم. (إنا قد عقلنا) أي فهمنا التسوية. (عنه) قال الطيبي: أي لم يبرح يسوي صفوفنا حتى استوينا استواء أراده منا وتعقلنا عن فعله. (ثم خرج يوماً) أي إلى المسجد. (فقام) أي في مقام الإمامة. (حتى كاد أن يكبر) تكبيرة الإحرام. (بادياً) أي ظاهراً خارجاً.(4/2)
صدره من الصف، فقال: عبادالله! لتسون صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(صدره من الصف) أي من صدور أهل الصف. وفي رواية أبي داود: حتى إذا ظن أن قد أخذنا ذلك عنه وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إذا رجل منتبد بصدره، وفي رواية لأحمد: فلما أراد أن يكبر رأى رجلاً شاخصاً صدره. وفي أخرى له، ولابن ماجه: فرأى صدر رجل ناتئاً يعني مرتفعاً بالتقدم على صدور أصحابه. (عباد الله) بالنصب على حذف حرف النداء، قال ابن حجر: لم ينهه بخصوصه جرياً على عادته الكريمة مبالغة في الستر. (لتسون) بضم التاء المثناة وفتح السين وضم الواو المشددة وتشديد النون المؤكدة. قال القسطلاني: ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: "لتسوون" بواوين والنون للجمع. قال القاضي: هذه اللام هي التي يتلقى بها القسم، والقسم ههنا مقدر، ولهذا أكده بالنون المشددة. (أو ليخالفن الله) بالرفع على الفاعلية، وفتح اللام الأولى المؤكدة وكسر الثانية وفتح الفاء، أي ليوقعن الله المخالفة. (بين وجوهكم) إن لم تسووا صفوفكم أي بتحويلها عن مواضعها إلى أدبارها وجعلها مواضع الأققية، أو بتغيير صورها ومسخها على صورة بعض الحيوانات كالحمار مثلاً، فهو محمول على الحقيقة. ويؤيد حمله على ظاهره حديث أبي أمامة: لتسون الصفوف أو لتطمسن الوجوه، أخرجه أحمد، وفي إسناده ضعف. وفيه وقوع الوعيد من جنس الجناية، وهي المخالفة. قال الحافظ: وعلى هذا فهو أي التسوية واجب، والتفريط فيه حرام. وقيل: هو مجاز ومعناه يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما تقول تغير وجه فلان علي، أي ظهر لي من وجهه كراهة لي؛ لأن مخالفتهم في الصفوف مخالفة في ظواهرهم، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. ويؤيده ما في رواية لأبي داود: أو ليخالفن الله بين قلوبكم، وحديث أبي مسعود الآتي: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، أي هواها وإرادتها. وقيل: المراد بالوجوه الذوات. قال ابن العربي في العارضة (ج2:ص25) : بين وجوهكم، يعني مقاصدكم، فإن استواء القلوب يستدعي استواء الجوارح واعتدالها، فإذا اختلفت الصفوف دل على اختلاف القلوب، فلا تزال الصفوف تضطرب وتهمل، حتى ييتلي الله باختلاف المقاصد، وقد فعل، ونسأل الله حسن الخاتمة. وقال القرطبي: معناه تفترقون فيأخذ كل واحد وجهاً غير الذي يأخذه صاحبه؛ لأن تقدم الشخص على غيره مظنة الكبر المفسد للقلب الداعي إلى القطعية. والحاصل أن المراد بالوجه إما ذات الشخص، فالمخالفة بحسب المقاصد، وإما العضو المخصوص، فالمخالفة إما بحسب الصورة الإنسانية، وإما بحسب الصفة، وإما يجعل القدام وراء. والحديث فيه غاية التهديد والتوبيخ. قال الطيبي: إن مثل هذا التركيب متضمن للأمر توبيخاً، أي والله ليكونن أحد الأمرين إما تسويتكم صفوفكم أو أن يخالف الله بين وجوهكم. وفيه دليل على وجوب تسوية الصف وتعديله. وقيل: إن هذا الوعيد من باب التغليظ والتشديد تأكيداً وتحريضاً على فعلها، أي فلا يدل على الوجوب. قال العيني بعد ذكره: كذا قاله الكرماني، وليس بسديد؛ لأن الأمر المقرون بالوعيد يدل على الوجوب. (رواه مسلم) وأخرجه(4/3)
1092- (2) وعن أنس، قال: ((أقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه، فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري)) رواه البخاري. وفي المتفق عليه قال: ((أتموا الصفوف، فإني أراكم من وراء ظهري)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3:ص100) و (ج2: 21) كلهم من طريق سماك عن النعمان بن بشير. وأخرج البخاري ومسلم والبيهقي من طريق سالم بن أبي الجعد عن النعمان بن بشير الفصل الأخير منه، ولأحمد وأبي داود في رواية. والبيهقي قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وركبته بركتبه، ومنكبه بمنكبه.
1092- قوله: (أقيمت الصلاة) أىأقام المؤذن للصلاة. (فأقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه) أي التفت إلينا بعد إقامة المؤذن. (أقيموا صفوفكم) أي عدلوها وسووها، يقال: أقام العود إذا عدله وسواه. (وتراصوا) بضم الصاد المهملة المشددة. وأصله تراصصوا، أي تضاموا وتلاصقوا حتى تتصل مناكبكم وأقدامكم في الصف، ولا يكون بينكم خلل وفرج، من رص البناء ألصق بعضه ببعض. ومنه قوله تعالى {كأنهم بنيان مرصوص} [4:61] . وفيه جواز الكلام بين الاقامة والدخول في الصلاة، وفيه أن تسوية الصف واجبة. (فإني أراكم من وراء ظهري) أي من خلف ظهري. والفاء فيه للسببية، أشار به إلى سبب الأمر بذلك، أي إنما أمرت بذلك؛ لأني تحققت منكم خلافه. وقد تقدم القول في المراد بهذه الرؤية في باب الركوع، وأن المختار حملها على الحقيقة خلافاً لمن زعم أن المراد بها خلق علم ضروري له بذلك، ونحو ذلك قال الزين بن المنير: لا حاجة إلى تأويلها؛ لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة. وقال القرطبي: حملها علىظاهرها أولى؛ لأن فيه زيادة في كرامة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة. (رواه البخاري) أي بهذا اللفظ في باب إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف. وأخرج مسلم بنحوه، وأخرجه البيهقي (ج2:ص21) بلفظ البخاري. (وفي المتفق عليه) ظاهر هذا أن الشيخين اتفقا على إخراج الحديث بهذا اللفظ. وفيه نظر؛ لأن قوله: "أتموا الصفوف" من إفراد مسلم، وقوله: "فإني أراكم من وراء ظهري" من إفراد البخاري، وسياق الحديث عند مسلم: "أتموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري". والظاهر أن المصنف أخذ قوله أتموا الصفوف من رواية مسلم، وقوله: فإني أراكم من وراء ظهري، من رواية البخاري، فجعل مجموعهما حديثاً متفقاً عليه. ولا يخفى ما فيه. ولعله تبع في ذلك الجزري، حيث نسب هذه الرواية الثانية في جامع الأصول (ج6:ص393) إلى البخاري ومسلم. (أتموا) أي أيها الحاضرون لأداء الصلاة معي. (الصفوف) أي الأول فالأول. (فإني أراكم) رؤية حقيقية. (من وراء ظهري) أي من خلفه كما أراكم من بين يدي. قيل: الفرق بين قوله: إني أراكم من(4/4)
وراء ظهري بذكر "من" وبين قوله: إني أراكم خلف ظهري أي بدون "من" أنه إذا وجد من يكون فيه إشعار بأن مبدأ الرؤية ومنشأها من خلف بأن يخلق الله حاسة باصرة فيه، وإذا عدم يحتمل أن يكون منشأها هذه العين المعهودة، وأن تكون غيرها مخلوقة في الخلف والوراء، ولا يلزم رؤيتنا تلك الحاسة، إذ الرؤية إنما هي بخلق الله تعالى وإرادته. والحديث أخرجه أيضاً النسائي. وزاد البخاري في رواية: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه. قال الحافظ: صرح سعيد بن منصور في روايته أن هذه الزيادة في آخر الحديث من قول أنس، وأخرحه الإسماعيلي من رواية معمر عن حميد بلفظ: قال أنس: فلقد رأيت أحدنا إلى آخره. وأفاد هذا التصريح أن الفعل المذكور كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا يتم الاحتجاج به على بيان المراد بإقامة الصف وتسويته، وزاد معمر في روايته ولو فعلت ذلك بأحدهم اليوم لنفر كأنه بغل شموس - انتهى كلام الحافظ. قلت: قوله - صلى الله عليه وسلم -: تراصوا، وقوله: رصوا صفوفكم، وقوله: سدوا الخلل، ولا تذروا فرجات للشيطان، وقول النعمان بن بشير: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه الخ، وقول أنس: وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه الخ، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن المراد باقامة الصف وتسويته أنما هو اعتدال القائمين على سمت واحد وسد الخلل والفرج في الصف بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم، وعلى أن الصحابة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - كانوا يفعلون ذلك، وأن العمل برص الصف والزاق القدم بالقدم وسد الخلل كان في الصدر الأول من الصحابة وتبعهم، ثم تهاون الناس به. قال شيخنا في إبكار المنن بعد ذكر قولي النعمان وأنس: فظهر أن إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف سنة، قد عمل بها الصحابة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو المراد بإقامة الصف وتسوية على ما قال الحافظ - انتهى. وجزى الله أهل الحديث أحسن ما يجزى به الصالحون، فانهم أحيوا هذه السنة التي تهاون الناس بها لاسيما المقلدون لأبي حنيفة، فإنهم لا يلزقون المنكب بالمنكب في الصلاة فضلاً عن إلزاق القدم بالقدم والكعب بالكعب، بل يتركون في البين فرجة قد شبر أو أزيد، بل ربما يتركون فصلاً يسع ثالثاً وإذا قام أحد من أصحاب الحديث في الصلاة مع حنفي وحاول لإلصاق قدمه بقدمه اتباعا للسنة نحى الحنفي قدمه حتى يضم قدميه ولا يبقى فرجة بينهما وأشمأز ونظر إلى صاحبه المحمدي شزرا، بل ربما نفر كالحمار الوحشي، ويعد صنيع أهل الحديث الذي هو اتباع للسنة وإحياءها من الجهل والجفاء والفظاظة والغلظة، فإنالله وإنا إليه راجعون، وعالمهم وعاميهم في ترك هذه السنة والاستنفار عنها سواء. قال صاحب فيض الباري (ج2:ص236) : المراد بالزاق المنكب بالمنكب عند الفقهاء الأربعة أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثاً، قال ولم أجد عند السلف فرقاً بين حال الجماعة والانفراد في حق الفصل بين قدمي الرجل بأنهم كانوا يفصلون بين قدميهم في حال الجماعة أزيد من حال الانفراد. وهذه المسألة أوجدها غير المقلدين فقط، وليس عندهم إلا لفظ الإلزاق، وليت شعرى ماذا يفهمون من قولهم الباء- للالتصاق، ثم يمثلونه مررت بزيد، فهل كان مروره به متصلاً بعضه ببعض أم كيف معناه، ثم إن الأمر(4/5)
لا ينفصل قط إلا بالتعامل، وفي مسائل التعامل لايؤخذ بالألفاظ، قال: لما لم نجد الصحابة والتابعين يفرقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد علمنا أنه لم يرد بقوله: إلزاق المنكب إلا التراص وترك الفرجة، ثم فكر في نفسك ولا تعجب أنه هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة، ولا يمكن بعده أيضاً فهو إذن من مخترعاتهم لا أثر له في السلف - انتهى. قلت: حمل الإلزاق هنا على المجاز يحتاج إلى قرينة، وتفسيره بأن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثاً لا أثارة عليه من دليل لا من منقول ولا من معقول، ولا يوجد ههنا أدنى قرينة وأضعف أثر يدل على هذا المعنى البتة، فهو إذاً من مخترعات هذا المقلد الذي جعل السنة بدعة، والبدعة أي ترك الإلزاق بإبقاع الفرجة وعدم التضام سنة، ثم لم يكتف بذلك بل تجاسر فنسب ما اخترعه إلى الفقهاء الأربعة. ثم أقول ما الدليل من السنة أو عمل الصحابي على تحديد الفصل بين قدمي المصلي بأن يكون قدر أربع أصابع أو قدر شبر في حال الانفراد والجماعة كلتيهما. والحق أن الشارع لم يعين قدر التفريج بين قدمي المصلي راحة له وشفقة عليه؛ لأنه يختلف ذلك باختلاف حال المصلى في الهزال والسمن والقوة والضعف. فالظاهر أنه يفصل بين قدميه في الجماعة قدر ما يسهل له سد الفرج والخلل، وإلزاق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه من غير تكلف ومشقة. ثم إنه ليس عندنا لفظ الإلزاق فقط بل هنا لفظ التراص وسد الخلل والنهى عن ترك الفرجة للشيطان، وكل واحد من ذلك يؤكد حمل الإلزاق على معناه الحقيقي، وماذا كان لوكان هنا لفظ الإلزاق فقط. وقد اعترف هو في آخر كلامه أن المراد به التراص وترك الفرجة، وهذا هو الذي نقوله. ولا يحصل التراص والتوقي عن الفرجة إلا بأن يلصق الرجل منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه حقيقة، وليت شعري ماذا يقول هو في مثال الإلصاق الحقيقي وهو قولهم به داء، ثم ماذا يقول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ألزق الختان بالختان فقد وجب الغسل. والسنة الصحيحة المحكمة حجة وقاضية على التعامل، لا أن التعامل قاض على السنة، لا فرق عندنا في ذلك بين عمل أهل المدينة وبين علمهم وعمل غيرهم من البلاد الإسلامية، مع أن عمل المسلمين في الزمن النبوي وعمل الخلفاء وسائر الصحابة والتابعين بعده - صلى الله عليه وسلم - كان على التراص والتضام وعدم إبقاء الفرجة مطلقاً، ولا يعتد بعمل الناس بعد الصدر الأول، ولا يكون أدنى مشقة في إلزاق المنكب بالمنكب مع إلزاق القدم بالقدم، فنحن نفعل ذلك في الجماعة عملاً بالحديث واتباعاً للسنة من غير ممارسة وكلفة، ومن غير أن نفرج بين القدمين أزيد مما نفرج في حال الانفراد، لكن لا يسهل ذلك إلا على من يجب السنة وصاحبها، ويترك التحيل لترك العمل بها وأما المقلد الذي.... عمت بصيرته، فيشق عليه كل سنة إلا ما كان موافقاً لهواءه، هدى الله تعالى هؤلاء المقلدين ووفقهم للعمل بالسنن النبوية الصحيحة الثابتة، وترك التأويل والتحريف.(4/6)
1093- (3) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سووا صفوفكم، فإن تسوية الصفوف من إقامة
الصلاة)) متفق عليه. إلا أن عند مسلم: ((من تمام الصلاة)) .
1094- (4) وعن أبي مسعود الأنصاري، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1093- قوله: (سووا صفوفكم) فيه دليل على وجوب تسوية الصف. (فان تسوية الصفوف) وفي رواية الصف بالإفراد، والمراد به الجنس. (من إقامة الصلاة) أي المأمور بها الممدوح فاعلها في الآيات الكثيرة. وقال القاري: أي من جملة إقامة الصلاة في قوله تعالى {الذين يقيمون الصلاة} وهي تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها. وقال العيني: التقدير من كمال إقامة الصلاة، فإن تسوية الصفوف ليست من إقامة الصلاة؛ لأن الصلاة تقام بغيرها، ولا يخفى ما فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبودواد وابن ماجه. (إلا أن عند مسلم من تمام الصلاة) وكذا أخرج بهذا اللفظ أبوداود وابن ماجه والإسماعيلي والبيهقي وغيرهم. وروي عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من تمام الصلاة إقامة الصف" أخرجه أحمد وأبويعلى والطبراني في الكبير والأوسط. قال العيني: أي من كمال تمام الصلاة أو من حسن تمام الصلاة. قلت: هذا خلاف الظاهر. والحديث معناه مستقيم من غير تقدير لفظ الكمال أو الحسن. وقد استدل ابن حزم بقوله من إقامة الصلاة على أن تعديل الصفوف والتراص فيها فرض. قال في المحلي (ج4:ص55) : تسوية الصف إذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، ولا سيما قد بينا أن الرواة لم يتفقوا على هذه العبارة، يعني أنه رواها بعضهم بلفظ "من تمام الصلاة". واستدل ابن حزم بالعبارتين. قال العيني والحافظ: واستدل ابن بطال بما في البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ "فإن اقامة الصف من حسن الصلاة" على أن التسوية سنة، قال: لأن حسن الشئ زيادة على تمامه، واورد عليه رواية من تمام الصلاة. وأجاب ابن دقيق العيد فقال: قد يؤخذ من قوله: تمام الصلاة الاستحباب؛ لأن تمام الشيء في العرف أمرخارج عن حقيقة التي لا يتحقق إلا بها، وإن كان يطلق بحسب الوضع على ما لا تتم الحقيقة إلا به. قال الحافظ: ورد بأن لفظ الشارع لا يحمل إلا على ما دل عليه الوضع في اللسان العربي، وإنما يحمل على العرف إذا ثبت أنه عرف الشارع لا العرف الحادث. وقال العيني: وفيه أي في جواب ابن دقيق العيد نظر؛ لأن ألفاظ الشرع لا تستعمل بحسب العرف.
1094- قوله: (يمسح منا كبنا) وفي رواية للنسائي: يمسح عواتقنا. والمناكب جمع منكب، وهو ما بين الكتف والعنق. وقيل: مجتمع الرأس الكتف والعضد، والعواتق جمع عاتق، وهو ما بين المنكب والعنق،(4/7)
في الصلاة، ويقول: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي يمسحها ليعلم به تسوية الصف. وقال القاري: أي يضع يده على أعطافنا حتى لا نتقدم ولا نتأخر. وقال النووي: أي يسوي مناكبنا في الصفوف ويعدلنا فيها (في الصلاة) أي في حال إرادة الصلاة بالجماعة (ويقول) أي حال تسوية المناكب على ما هو الظاهر (ولا تختلفوا) أي بالتقدم والتأخر في الصفوف، كما يدل عليه روايات الحديث (فتختلف) بالنصب على أنه جواب للنهي. (قلوبكم) أي أهويتها وإرادتها أي اختلاف الصفوف سبب لاختلاف القلوب يجعل الله كذلك. وقيل: لأن اختلاف الصفوف اختلاف الظواهر، واختلاف الظواهر سبب لاختلاف البواطن. وفيه أن القلب تابع للأعضاء، فإذا اختلفت اختلف، وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء؛ لأنه رئيسها المتبوع وملكها المطاع والأعضاء كلها تبع له، فإذا صلح المتبوع صلح التبع، وإذا استقام الملك استقامت الرعية. ويبين ذلك الحديث المشهور: ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد، وإذا فسدت فسد الجسد، ألا وهي القلب. قيل: إن بين القلب والأعضاء تعلقاً عجيباً وتأثيراً غريباً بحيث أنه يسري مخالفة كل إلى آخر وإن كان القلب مدار الأمر إليه. (ليلني منكم) بكسر لامين وخفة نون بلا ياء قبلها. وفي المصابيح ليليني. قال شارح: الرواية باثبات الياء، وهو شاذ لأنه من الولي بمعنى القرب، واللام للأمر، فيجب حذف الياء للجزم، قيل: لعله سهو من الكاتب، أو كتب بالياء؛ لأنه الأصل ثم قرئ كذا. أقول الأولى أن يقال إنه من إشباع الكسرة كما قيل في لم تهجو ولم تدعى، أو تنبيه على الأصل كقراءة ابن كثير {إنه من يتقي ويصبر} ، أو أنه لغة في أن سكونه نقديري، كذا في المرقاة. وقال النووي في شرح مسلم: ليلني هو بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبل النون. ويجوز إثبات الياء مع تشديد النون على التوكيد. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1 ص440) بعد ذكر كلام النووي: وهكذا طبع في صحيح مسلم في طبعة بولاق (ج1 ص128) ، وفي طبعة الآستانة (ج2 ص30) في حديثي أبي مسعود وابن مسعود (الآتي) ، وكتب بها مشها في حديث أبي مسعود أن في نسخة ليليني، وضبط بتشديد النون وفتح الياء قبلها، ولكن في نسخة مخطوطة عندي من صحيح مسلم يغلب عليها الصحة بإثبات الياء فيهما من غير ضبط، وكتب بهامشها في الموضعين أن في نسخة ليلني بحذف الياء، قال: وأظن أن حذفها من تصرف الناسخين، وكذلك ضبط الكلمة على إثبات الياء بفتحها وتشديد النون ذهاباً منهم إلى الجادة في قواعد النحو بجزم الفعل المعتل بحذف حرف العلة. وقد رأيت كثيراً من الناسخين والعلماء يجيزون لأنفسهم تغيير ما خالف القواعد المعروفة ظناً منهم أنه خطأ، والدليل على ظن التصرف منهم أنه قال الطيبي على ما نقل عنه الشارح المبار كفوري في شرح الترمذي: أن من حق هذا اللفظان يحذف منه الياء؛ لأنه على صيغة الأمر، وقد وجدنا بإثبات الياء وسكونها في سائر(4/8)
أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) قال أبومسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافاً. رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كتب الحديث، والظاهر أنه غلط - انتهى. وليس هذا غلطاً كما زعم الطيبي، بل إثبات حرف العلة في مثل هذا ورد في الحديث كثيراً، وله شواهد من الشعر، وقد بحث فيه العلامة ابن مالك في كتاب شواهد التوضيح (ص11-15) بحثاً طويلاً، وذكر من شواهد في البخاري قول عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف، وأنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، وحديث: من أكل من هذه الشجرة فلا يغشانا، وحديث: مروا أبا بكر فلصلى بالناس. ووجه ذلك بأوجه متعددة أحسنها عندي الوجه الثالث أن يكون أجزى المعتل مجرى الصحيح فأثبت الألف، يعني أو الواو أو الياء واكتفى بتقدير حذف الضمة التي كان ثبوتها منوياً في الرفع - انتهى (أولو الأحلام) أي ذو العقول الراجحة، واحدها حلم بالكسر، وهو الأناة والتثبيت في الأمور والسكون والوقار وضبط النفس عند هيجان الغضب، ويفسر بالعقل؛ لأن هذه الأمور من مقتضيات العقل. والعقل الراجح يتسبب لها. وقيل: أولو الأحلام البالغون، والحلم بضم الحاء البلوغ، وأصله ما يراه النائم (والنهى) بضم نون وفتح هاء وألف، جمع نهية بالضم بمعنى العقل؛ لأنه ينهى صاحبه عن القبائح. وقال أبوعلي الفارسي: يجوز أن يكون النهى مصدراً كالهدى، وأن يكون جمعاً كالظلم. قال ابن سيد الناس الأحلام والنهى بمعنى واحد، وهي العقول. وقيل: المراد بأولو الأحلام البالغون، وبأولى النهى العقلاء، فعلى الأول يكون العطف فيه من باب قوله: وألفى قوله كذباً وميناً. وهو أن تغاير اللفظ قائم مقام تغاير المعنى، وهوكثير في كلام، وعلى الثاني يكون لكل لفظ معنى مستقل - انتهى. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص184-185) : وإنما أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يليه ذو والأحلام والنهى ليعقلوا عنه صلاته، ولكي يخلفوه في الإمامة إن حدث به حدث في صلاته، وليرجع إلى قولهم إن أصابه سهو أو عرض في صلاته عارض في نحو ذلك من الأمور. (ثم الذين يلونهم) أي الذين يقربونهم في هذا الوصف، وقال القاري: كالمراهقين أو الذين يقربون الأولين في النهى والحلم (ثم الذين يلونهم) كالصبيان المميزين أو الذين أنزل مرتبة من المتقدمين حلماً وعقلاً. والمعنى هلم جرا- فالتقدير ثم الذين يلونهم كالنساء فإن نوع الذكر أشرف على الإطلاق. والمقصود بيان ترتيب الصفوف في القيام. قال النووي: في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الإمام؛ لأنه أولى بالاكرام، ولأنه ربما احتاج الإمام إلى استخلاف فيكون هو أولى، ولأنه يتفطن لننبيه الإمام على السهو لما يتفطن له غيره، وليضبطوا صفة الصلاة ويحفظوها وينقلوها ويعلموها الناس، وليقتدي بأفعالهم من ورائهم - انتهى. (قال أبومسعود) أي المذكور (فأنتم اليوم أشد اخنلافاً) أي في كلمة حتى فشت فيكم الفتن وذلك لعدم تسويتكم الصفوف كذا فسره الطيبي (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص97) .(4/9)
1095- (5) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثلاثاً، وإياكم وهيشات الأسواق)) . رواه مسلم.
1096- (6) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه تأخراً، فقال لهم: تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1095- قوله: (ليلني منكم وأولو الأحلام والنهى) أي ليدن مني ذوو العقول الراجحة لشرفهم ومزيد تفطينهم وتيقظهم وضبطهم لصلاته. قال الطيبي أخذاً عن التوربشتى: أمر بتقديم العقلاء ذوي الأخطار والعرفان ليحفظوا صلاته ويضبطوا الأحكام والسنن، فيبلغوا من بعدهم. وفي ذلك مع الإنصاح عن جلالة شأنهم حث لهم على تلك الفضيلة وإرشاد لمن قصر حالهم عن المساهمة معهم في المنزلة إلى تحري ما يزاحمهم فيها. وقد روى ابن ماجه والبيهقي عن أنس بإسناد رجاله ثقات قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه (ثم الذين يلونهم ثلاثاً) أي كرر"ثم" وما بعدها ثلاثاً (وإياكم وهيشات الأسواق) بفتح الهاء وإسكان الياء وبالشين المعجمة، جمع هيشة بالفتح، أي اختلاطها والمنازعة والخصومات وارتفاع الأصوات واللغط والفتن التي فيها، قاله النووي. وقال الخطابي في المعالم: أصله من الهوش، وهو الاختلاط يقال: تهاوش القوم إذا اختلطوا ودخل بعضهم في بعض وبينهم تهاوش، أي اختلاط واختلاف - انتهى. وقال الطيبي: هي ما يكون من الجلبة وارتفاع الأصوات، نهاهم عنها؛ لأن الصلاة حضور بين يدي الحضرة الإلهية، فينبغي أن يكونوا على السكوت وآداب العبودية. وقيل: هي الاختلاط، أي لا تختلطوا اختلاط أهل الأسواق، فلا يتميز أصحاب الأحلام والعقول عن غيرهم، ولا يتميز الصبيان من البالغين ولا الذكور من الإناث. ويجوز أن يكون المعنى: قوا أنفسكم من الاشتغال بأمور الأسواق فإنه يمنعكم أن تلونى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص97) .
1096- قوله: (رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه تأخراً) أي في صفوف الصلاة كأنهم تأخروا عن القرب والدنو منه - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: المراد التأخر في أخذ العلم (وأتموا بي) أي اصنعوا كما أصنع (وليأتم) بسكون اللام، وتكسر (بكم من بعدكم) أي من خلفكم من الصفوف. والخطاب لأهل الصف الأول، أي اقتدوا بأفعالي، وليقتد بكم من بعدكم مستدلين بأفعالكم على أفعالي، أو المراد من بعدكم من أتباع الصحابة، والخطاب للصحابة مطلقاً، أي تعلموا مني أحكام الشريعة، وليتعلم منكم التابعون بعدكم وكذلك أتباعهم إلى انقراض الدنيا. "وبعد" على الأول مستعار للمكان، وعلى الثاني للزمان، كما هو الأصل. قال الطيبي: أراد التأخر في صفوف الصلاة أو التأخر(4/10)
لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله)) رواه مسلم.
1097- (7) وعن جابر بن سمرة قال: ((خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآنا حلقاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن أخذ العلم، فعلى الأول معناه ليقف الألباء والعلماء في الصف الأول، وليقف من دونهم في الصف الثاني، فإن الصف الثاني مقتدون بالصف الأول ظاهراً لا حكماً. ففيه جواز اعتماد المأموم في متابعة الامام الذي يراه ولا يسمعه على مبلغ عنه أوصف قدامه يراه متابعاً للإمام، وعلى الثاني المعنى وليتعلم كلكم مني أحكام الشريعة، وليتعلم التابعون منكم، وكذلك من يلونهم قرناً بعد قرن - انتهى. واستدل الشعبي بقوله: وليأتم بكم من بعدكم، لما ذهب إليه أن كل صف منهم إمام لمن وراءهم مع كونهم مأمومين، وأن الجماعة يتحملون عن بعضهم بعض ما يتحمله الإمام خلافاً للجمهور. قال الشعبي: فيمن أحرم قبل أن يرفع الصف الذي يليه رؤوسهم من الركعة إنه أدركها ولو كان الإمام رفع قبل ذلك؛ لأن بعضهم لبعض أئمة، أخرجه ابن شيبة. قيل: وإليه مال البخاري حيث قال: باب الرجل يأتم بالإمام. ويأتم الناس بالمأموم. قال ابن بطال: هذا موافق لقول مسروق والشعبي إن الصفوف يؤم بعضها بعضاً خلافاً للجمهور. وقال العيني: ظاهر هذه الترجمة أن البخاري يميل إلى مذهب الشعبي في ذلك، قال: ومما يؤكد أن ميله إلى قول الشعبي أنه صدر هذا الباب بالحديث المعلق يعني حديث أبي سعيد هذا حيث قال: ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ائتموبي وليأتم بكم من بعدكم، قال العيني: فإنه صريح في أن القوم يأتمون بالإمام في الصف الأول، ومن بعدهم يأتمون بهم. وقال الحافظ: ظاهره يدل لمذهب الشعبي، وأجاب النووي: أن معناه يقتدي بكم من خلفكم مستدلين على أفعالي بأفعالكم - انتهى. قلت: لم يفصح البخاري باختياره في هذه المسألة. والظاهر أنه اتبع في وضع الترجمة لفظ الحديث، ولم يرد التنبيه على مسئلة تسلسل الاقتداء. والحديث ليس بعض فيما قاله الشعبي ون وافقه، كما هو ظاهر من تفسير الجمهور للحديث. والراجح عندي هو قول الجمهور والله أعلم. (ولا يزال قوم يتأخرون) أي عن الصفوف المتقدمة. وقيل: عن الخيرات أو عن العلم (حتى يؤخرهم الله) أي في دخول الجنة. وقال النووي: أي عن رحمته أو عظيم فضله ورفيع المنزلة وعن العلم ونحو ذلك. وفيه الحث على الكون في الصف الأول والتنفير عن التأخر والبعد عنه. وقد ورد في فضيلة الصلاة في الصف الأول أحاديث متعددة عن جماعة من الصحابة. وسيأتي ذكر بعضها (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103) .
1097 وغيره - قوله: (فرآنا حلقاً) بكسر الحاء وفتحها لغتان، جمع حلقة بإسكان اللام. وحكى الجوهري فتحها في لغة ضعيفة. قال الجرزي: الحلقة بسكون اللام حلقة الباب وحلقة القوم وجمعها حلق بفتح الحاء واللام على غير قياس، قاله الجوهري، قال: وقال الأصمعي: الجمع حلق، مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع، قال:(4/11)
فقال: ما لي أراكم عزين؟ ثم خرج علينا فقال: ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأولى، ويتراصون في الصف)) رواه مسلم.
1098 (8) - وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير صفوفالرجال أولها، وشرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وحكى يونس عن أبي عمرو حلقة في الواحد بالتحريك، والجمع حلق، وقال ثعلب: كلهم يجيزه على ضعفه. وقال الشيباني: ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلا في جمع حالق، وهو الذي يحلق الشعر. والذي رويناه في كتاب مسلم حلقاً مضبوطاً بكسر الحاء، والله أعلم - انتهى. قال الطيبي: أي جلوساً حلقة حلقة كل صف منا قد تحلق - انتهى. (ما لي أراكم عزين) بكسر العين المهملة وتخفيف الزاي جمع عزة أي جماعات متفرقين حلقة حلقة نصب على الحال، قال الجزري: عزين جمع عزة وهي الحلقة من الناس، والأصل عزوة وهذا من الجموع النادرة الخارجة عن بابها. قال الطيبي: قوله: ما لي أراكم؟ إنكار على رؤيته إياهم على تلك الصفة، ولم يقل: ما لكم؛ لأن ما لي أراكم أبلغ كقوله: {ما لي أرى الهدهد} [27: 20] . والمقصود الانكار عليهم كائنين على تلك الحالة، يعني لا ينبغي لكم أن تفرقوا ولا تكونوا مجتمعين مع توصيتي إياكم بذلك. (ثم خرج علينا) أي مرة أخرى بعد هذا (ألا تصفون) بفتح التاء المثناة من فوق وضم الصاد أي في الصلاة (كما تصف الملائكة عند ربها) أي عند قيامها لطاعة ربها. قال القاري. وقيل: أي في محل قربه ومكان قبوله (يتمون الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث الأول، وكذا في المصابيح. ووقع في مسلم: الأول بضم الهمزة وفتح الواو جمع الأولى، وكذا في النسائي وابن ماجه. وعند أبي داود: الصفوف المقدمة، يعني يتمون الصف الأول، ولا يشرعون في الثاني حتى يتم الأول، ولا في الثالث حتى يتم الثاني، ولا في الرابع حتى يتم الثالث، وهكذا إلى آخرها. (ويترابصون في الصف) أي يتلاصقون ويتضامون حتى لا يكون بينهم شيء من الخلل والفرجة. وفي الحديث النهي عن التقرق والأمر بالاجتماع. وفيه: الاقتداء بأفعال الملائكة في صلاتهم وتعبداتهم. وفيه: الأمر باتمام الصفوف الأول والتراص في الصفوف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص101) .
1098- قوله: (خيرصفوف الرجال) أي أكثرها أجراً وثواباً وفضلاً. (أولها) فيه التصريح بأفضلية الصف الأول للرجال، وإنه خيرها لما فيه من إحراز فضيلة التقدم المأمور به ولقربهم من الإمام ومشاهدتهم لأحواله واستماعهم لقراءته وبعدهم من النساء (وشرها) أي أقلها ثواباً وفضلاً وأبعدها من مطلوب الشرع(4/12)
آخرها وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)) رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(آخرها) لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول ولقربهم من النساء وبعدهم من الإمام (وخير صفوف النساء آخرها) لبعدهن من مخالطة الرجال، ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك بخلاف الوقوف في الصف الأول من صفوفهن، فإنه مظنة المخالطة وتعلق القلب بهم المتسبب عن رؤيتهم وسماع كلامهم، ولهذا كان شرها. ثم هذا التفصيل في صفوف الرجال على إطلاقه، وفي صفوف النساء عند الاختلاط بالرجال. قال النووي: أما صفوف الرجال فهي على عمومها فخيرها أولها أبداً وشرها آخرها أبداً. أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال. وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها آخرها- انتهى. وقيل: يمكن حمله على إطلاقه لمراعاة الستر فتأمل. وفي الحديث: إن صلاة النساء صفوفاً جائزة من غير فرق بين كونهن مع الرجال أو منفردات وحدهن واعلم أنه اختلف في أن الصف الأول في المسجد هل هو ما يلي الإمام مطلقاً أي الذي هو أقرب إلى القبلة، أو هو أول صف تام يلي الامام لا ما تخلله شيء كمقصورة، أو المراد به من سبق إلى الصلاة ولو صلى آخر الصفوف. قال النووي: الصف الأول الممدوح الذي وردت الأحاديث بفضله هو الصف الذي يلي الإمام، سواء جاء صاحبه متقدماً أو متأخراً، وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا، هذا هو الصحيح الذي يقتضيه ظواهر الأحاديث، وصرح به المحققون. وقال طائفة من العلماء: الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه لا يتخلله مقصورة ونحوها، فإن تخلل الذي يلي الإمام شيء فليس بأول، بل الأول مالا يتخلله شيء وإن تأخر. وقيل الصف الأول عبارة عن مجيىء الإنسان إلى المسجد ولا وإن صلى في صف متأخر. وهذان القولان غلط صريح- انتهى. قال الحافظ: وكان صاحب الفول الثاني لحظ أن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل وما فيه خلل فهو ناقص. وصاحب القول الثالث لحظ المعنى في تفضيل الصف الأول دون مراعاة لفظه- انتهى. قال العلماء في الحض على الصف الأول المسارعة إلى خلاص الذمة، والسبق لدخول المسجد، والقرب من الإمام، واستماع قراءته، والتعلم منه، والفتح عليه، والتبليغ عنه، والسلامة من اختراق المارة بين يديه، وسلامة البال من رؤية من يكون قدامه، وسلامة موضع سجوده من أذيال المصلين- انتهى. (رواه مسلم) قال القاري: كان يمكن للمصنف أن يجمل ويقول روى الأحاديث الخمسة مسلم كما هو دأبه، ولعل عادته فيما إذا كان للأحاديث سند واحد باتفاق رجاله وخلافها في خلافة- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص98) وروي عن جماعة من الصحابة، منهم أبوسعيد وابن عباس وأنس وعمر بن الخطاب وأبوأمامة، وذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص93) .(4/13)
{الفصل الثاني}
1099- (9) عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذروا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده، إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف)) . رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1099- قوله (رصوا) بضم الراء والصاد المهملتين (صفوفكم) أي في صلاة الجماعة بانضمام بعضكم إلى بعض على السواء من الرص. وهو ضم البعض إلى البعض مثل لبنات الجدار، أي كونوا في الصف كأنه بنيان مرصوص، قال القاري: أي سووا صفوفكم وضموا بعضكم إلى بعض حتى لا يكون بينكم فرجة. (وقاربوا بينها) أي بين الصفوف بحيث لا يسع بين صفين صف آخر فيصير تقارب أشباحكم سيما لتعاضد أرواحكم، قاله القاري. (وحاذوا بالأعناق) قيل: الظاهر أن الباء زائدة، والمعنى اجعلوا بعض الأعناق في محاذاة بعض أي مقابلته. وقيل: المراد بمحاذاة الأعناق المحاذاة بالمناكب. ففي حديث أبي أمامة الآتي: حاذوا بين مناكبكم. وفي حديث ابن عمر: حاذوا بين المناكب. والمعنى اجعلوا الأعناق والمناكب بعضها حذاء بعض، أي موازياً ومسامتاً ومقابلاً له. وقال القاضي: أي بأن لا يترفع بعضكم على بعض بأن يقف في مكان أرفع من مكان الآخر. قال الطيبي: ولا عبرة بالأعناق أنفسها، إذ ليس على الطويل أن يجعل عنقه محاذياً لعنق القصير (يدخل من خلل الصف) بفتح الخاء واللام أي فرجته. قال المنذري في الترغيب: الخلل بفتح الخاء المعجمة واللام أيضاً ما يكون بين الاثنين من الاتساع عند عدم التراص –انتهى. وعن ابن مسعود قال: سووا صفوفكم فإن الشيطان يتخللها كالحذف. رواه الطبراني في الكبير موقوفاً. (كأنها الحذف) بحاء مهملة وذال معجمة مفتوحتين واحدتها حذفة مثل قصب وقصبة، وهي الغنم السود الصغار الحجازية. وقيل: صغار جرد ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها من اليمن، أي كأنها الشيطان، وأنث باعتبار الخبر. وقيل: إنما أنث؛ لأن اللام في الخبر للجنس فيكون في المعنى جمعاً. وفي شرح الطيبي: قال المظهر الضمير في"كأنها" راجع إلى مقدر أي جعل نفسه شاة أو ماعز كأنها الحذف. وقيل: يجوز التذكير باعتبار الشيطان، ويجوز تأنيثه باعتبار الحذف لوقوعه بينهما فلا حاجة إلى مقدر، كذا في المرقاة. قلت: ورواية النسائي بلفظ: إني لأرى الشياطين تدخل من خلل الصف كأنها الحذف. ولا إشكال فيها (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال النووي: إسناده على شرط مسلم، نقله ميرك، والحديث أخرجه أيضاً النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي (ج3 ص100) .(4/14)
1100- (10) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتموا الصف المقدم، ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر)) رواه أبوداود.
1101- (11) وعن البراء بن عازب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله وملائكته يصلون على الذين يلون الصفوف الأولى، وما من خطوة أحب إلى الله من خطوة يمشيها يصل بها صفاً)) رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1100- قوله: (أتموا الصف المقدم) ولفظ النسائي: الصف الأول (ثم الذي يليه) أي ثم أتموا الصف الذي يلي الصف الأول، وهكذا. (فما كان) أي وجد. (فليكن) أي النقص (في الصف المؤخر) دل الحديث على جعل النقص في الصف الأخير، لكن لم يظهر منه موقف الصف الناقص، فظاهر حديث أبي هريرة: وسطوا الامام، أن يقف أهل الصف الناقص خلف الإمام عن يمينه وشماله. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص102) .
1101- قوله: (يصلون على الذين يلون) أي يقومون. قال ابن مالك: أو يباشرون ويتولون يعني يصلون في الصفوف الأول. والمراد من الصلاة من الله إنزال الرحمة ومن الملائكة الدعاء بالتوفيق وغيره. (الصفوف الأولى) كذا في جميع النسخ بضم الهمزة وسكون الواو تأنيث أول، وكذا في المصابيح، ووقع في أبي داود: الأول أي بضم الهمزة وفتح الواو جمع أولى، وهكذا في جامع الأصول (ج6 ص397) أي فالأفضل الأول فالأول. وذكر المنذري: هذا الحديث في ترغيبه بلفظ: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف الأول. وعند أبي داود في حديث آخر عن البراء: إن الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول. وفي رواية النسائي: الصفوف المتقدمة. قال السندي: أي على الصف المقدم في كل مسجد، أو في كل جماعة، فالجمع باعتبار تعدد المساجد أو تعدد الجماعات، أو المراد الصفوف المتقدمة على الصف الأخير، فالصلاة من الله تعالى تشمل كل صف على حسب تقدمه إلا الأخير فلاحظ له منها لفوات التقدم. (وما من خطوة) قال العيني: بفتح الخاء وهي المرة الواحدة. وقال القرطبي: بضم الخاء وهي واحدة الخطا وهي ما بين القدمين من البعد، والتي بالفتح مصدر- انتهى. "ومن" زائدة و"خطوة" اسم"ما"وقوله: (أحب إلى الله) بالنصب خبره. قال القاري: والأصح رفعه وهو اسمه ومن خطوة خبره (من خطوة) متعلق بأحب (يمشيها) بالغيبة صفة خطوة أي يمشيها الرجل، وكذا (يصل بها صفا) وفي حديث ابن عمر عند الطبراني: مامن خطوة أعظم أجراً من خطوة مشاها رجل إلى فرجة في الصف فسدها. قال الهيثمي: في إسناده ليث بن حماد، ضعفه الدارقطني (رواه أبوداود) في حديث ذكره في باب(4/15)
1102- (12) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)) رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاة تقام ولم يأت الإمام ينتظرونه قعوداً. وفي سنده رجل مجهول، فإنه رواه من طريق كهمس عن شيخ من أهل الكوفة عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب. وأخرج أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي عن البراء حديثاً، فيه نحو هذه الرواية لكن بدون ذكر الخطوة، وهو حديث صحيح رجاله ثقات. وفي الباب عن أبي أمامة وسيأتي. وعن النعمان بن بشير عند أحمد والبزار. قال الهيثمي: رجاله ثقات. وعن جابر عند البزار، وفيه عبد الله بن محمد بن عقبل، وفيه كلام، وقد وثقه جماعة. وعن العرباض بن سارية عند أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي، وعن عبد الرحمن بن عوف عند ابن ماجه، وعن أبي هريرة عند البزار، وفيه أيوب بن عتبة، ضعف من قبل حفظه.
1102- قوله: (على ميامن الصفوف) جمع ميمنة، وفيه دليل على شرف يمين الصفوف واستحباب الكون في يمين الصف الأول وما بعده من الصفوف، وأما ما رواه ابن ماجه عن ابن عمر قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن ميسرة المسجد تعطلت، فقال: مَن عَمَّر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر. وما رواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن عمّر جانب المسجد الأيسر لقلة أهله فله أجران. ففي اسناده بهما مقال، فإن في سند حديث ابن عمر ليث بن سليم، وهو ضعيف. وفي سند حديث ابن عباس بقية بن وليد، وهو مدلس، وقد عنعنه، وإن ثبتا فلا يعارضان حديث عائشة وما وافقه؛ لأن ما ورد لمعنى عارض يزول بزواله. قال السندي في حاشية ابن ماجه تحت حديث ابن عمر فيه أن اليمين وإن كان هو الأصل، لكن اليسار إذا خلا فتعميره أولى من اليمين، وعلى هذا فلا بد من النظر إلى الطرفين، فإن كانت زيادة فلتكن في اليمين (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص103) كلهم من رواية معاوية بن هشام عن سفيان عن أسامة بن زيد عن عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة، وقد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري في الترغيب، والحافظ في الفتح: إسناده حسن. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح على ما في معاوية بن هشام من المقال - انتهى. وقال البيهقي: تفرد به معاوية بن هشام ولا أراه محفوظاً، والمحفوظ بهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، وكذلك رواه الجماعة. قلت: معاوية بن هشام هذا وثقه أبوداود، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الساجي: صدوق يهم، وقال أبوحاتم، وابن سعد: صدوق. وقال في التقريب، صدوق له أو هام، ويؤيده حديث البراء عند مسلم وغيره قال: كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن استطعت أن تكون خلف الإمام وإلا فعن يمينه. أخرجه البيهقي (ج3 ص104) ونسبه الهيثمي إلى الطبراني في(4/16)
1103- (13) وعن النعمان بن بشير، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا إذا قمنا إلى الصلاة، فإذا استوينا كبر)) رواه أبوداود.
1104- (14) وعن أنس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عن يمينه: اعتدلوا، سووا صفوفكم. وعن يساره اعتدلوا، سووا صفوفكم)) رواه أبوداود.
1105- (15) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خياركم ألينكم مناكب في الصلاة))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأوسط وقال فيه من لم أجد له ذكراً. وعن ابن عباس قال: عليكم بالصف الأول وعليكم بالميمنة منه، وإياكم والصف بين السوارى. رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهوضعيف.
1103- قوله: (يسوي صفوفنا) ولفظ أبي داود: يسوي يعني صفوفنا أي باليد أو بالأشارة أو بالقول (إذا قمنا إلى الصلاة) وفي أبي داود: للصلاة. وكذا في جامع الأصول (ج6 ص392) . ووقع عند البيهقي إلى الصلاة (فإذا استوينا كبر) أي للإحرام. وفيه دليل على أن السنة للإمام أن يسوي الصفوف ثم يكبر، وأخذ بعضهم من قوله: إذا قمنا أن التسوية كانت بعد الإقامة، وأصرح منه في الدلالة على هذا قوله فقام حتى كاد أن يكبر الخ في حديث النعمان، وقوله أقيمت الصلاة فأقبل علينا بوجهه الخ، في حديث أنس وقد تقدما في الفصل الأول (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج2 ص21) وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: هو طرف من الحديث المتقدم يعني حديث النعمان أول أحاديث هذا الباب.
1104- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عن يمينه) أي منصرفاً بوجهه عن جهة يمينه متوجهاً إلى يمين الصف. ولفظ أبي داود: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة أخذه. (أى العود المذكور في رواية المتقدمة) بيمينه ثم التفت فقال، وكذا ذكره الجزري في جامع الأصول (ج6 ص394) وهكذا وقع عند البيهقي. (اعتدلوا) أي في القيام يعني استووا (سووا صفوفكم) بعدم تخلية الفرجة، أو الثاني تفسير للأول أو تأكيد له (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج2 ص22) وسكت عنه أبوداود والمنذري.
1105- قوله: (ألينكم مناكب) نصب على التمييز، أي أسرعكم انقياداً لمن يأخذ بمناكبكم الخارجة عن الصف يقدمها أو يؤخرها حتى يستوي الصف. قال المظهر: معناه إذا كان في الصف وأمره آخر بالاستواء أو يضع يده على منكبه ينقاد ولا يتكبر. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص184) : معنى لين المنكب لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها، لا يلتفت ولا يحاك بمنكبه منكب صاحبه، فالمعنى أكثركم سكينة وطمأنينة، قال: وقد يكون فيه وجه(4/17)
رواه أبوداود.
{الفصل الثالث}
1106- (16) عن أنس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: استووا، استووا، استووا، فوالذي نفسي بيده، إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي)) رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آخر، وهو أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف ليسد الخلل أو لضيق المكان بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف وتتكاثف الجموع- انتهى. قال ميرك: والوجه الأول أليق بالباب، ويؤيده حديث أبي أمامة في الفصل الثالث: ولينوا في أيدي إخوانكم. قلت: والوجه الثالث أيضاً أنسب بالباب. (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج3 ص101) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وفي سنده جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان. وجعفر هذا قال ابن المديني مجهول. وقال ابن القطان الفاسي: مجهول الحال، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. وعمه عمارة بن ثوبان. قال الذهبي في ترجمته: ما روى عنه الا ابن أخيه جعفر بن يحيى لكنه قد وثق وقال في ترجمته جعفر أن عمه يعني عمارة لين. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمته عمارة: ذكره ابن حبان في الثقات. وقال عبد الحق: ليس بالقوى فرد ذلك عليه ابن القطان وقال: إنما هو مجهول الحال. وقال في التقريب: عمارة بن ثوبان حجازي مستور، قلت: قول الذهبي لكنه قد وثق، وقوله لين، وقول عبد الحق ليس بالقوى، وذكر ابن حبان اياه في الثقاته يدل على أنه ليس بمجهول الحال عندهم، ومن عرف حجة على من لم يعرف. قال ميرك: وكان الأخصر أن يقول المصنف: روى جميع الأحاديث المذكورة في هذا الفصل أبوداود.
1106- قوله (استووا) أي في صفوف الصلاة بأن تقوموا على سمت واحد، وتتراصوا حتى لا يكون بينك فرجات. (استووا استووا) كرر ثلاث مرات للتأكيد، ويمكن أن يكون الأمر الأول وقع إجمالاً، والثاني لأهل اليمين، والثالث لأهل اليسار. (إني لأراكم من خلفي) رؤية حقيقة (رواه أبوداود) هذا وهم من المصنف، فإن هذا الحديث ليس عند أبي داود بل هو عند النسائي بوب عليه: كم مرة يقول: استووا. رواه من طريق بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، وقد عزاه العيني في شرح البخاري (ج5 ص254) للنسائي فقط وكذا الجزري في جامع الأصول (ج6 ص394) .(4/18)
1107- (17) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول. قالوا يا رسول الله! وعلى الثاني؟ قال: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول. قالوا: يا رسول الله! وعلى الثاني؟ قال: وعلى الثاني. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان بدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف، يعنى أولاد الضان الصغار)) . رواه أحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1107- قوله: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول) أي يرحم الله على أهل الصف الأول ويدعو الملائكة لهم بالتوفيق وغيره. (وعلى الثاني) المراد به غير الأول أو الثاني حقيقة لكونه يماثل الصف الأول فافهم. والظاهر هو الثاني، فإن قلت قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول خبر فما معنى قولهم: وعلى الثاني؟ قلنا: هو في معنى طلب كون الثاني كذلك، وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - من الله عزوجل أن يصلي عليهم أيضاً؛ لأنهم قد سبقوا من غير تقصير منهم، قاله في اللمعات. وقال القاري: قوله: يصلون على الصف الأول يحتمل أن يكون اخباراً ودعاء، ويؤيد الثاني قولهم يا رسول الله وعلى الثاني أي قل: وعلى الثاني ويسمى هذا العطف عطف تلقين والتماس كما حقق في قوله عليه السلام: اللهم ارحم الملحقين-الحديث. (قالوا يا رسول الله وعلى الثاني قال وعلى الثاني) التكرار يفيد التأكيد وحصول الكمال للأول وتثليث الرحمة على الصف الأول، ويؤيد ما روى أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي عن العرباض بن سارية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر للصف المقدم ثلاثاً وللثاني مرة. (وحاذوا بين مناكبكم) أي اجعلوا بعضها حذاء بعض بحيث يكون منكب كل واحد من المصلين موازياً لمنكب الآخر ومسامتاً له، فتكون المناكب والأقدام على سمت واحد (ولينوا) بكسر اللام أمر من لان يلين (في أيدي إخوانكم) أي إذا أمر أحدكم من يسوي الصفوف بالإشارة بيده أن يستوي في الصف أو وضع يده على منكبه فليستوا، وكذا إذا أراد أن يدخل في الصف فليوسع. (وسدوا) بضم السين المهملة (الخلل) أي الفرجة من الصفوف، ولا يكون ذلك إلا بإلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم حقيقة. (فإن الشيطان يدخل فيما بينكم) ليشوش عليكم في صلاتكم بالإغواء والاشتغال (بمنزلة الحذف) بفتحتين أي في صورتها. قال الجزري: الحذف الغنم الصغار الحجازية واحدها حذفة، وقيل: هي غنم صغار ليس لها أذناب، يجاء بها من جرش، سميت حذفا لأنها محذوفة من مقدار الكبار (يعني أولاد الضان الصغار) تفسير من الراوي (رواه أحمد) (ج5 ص262) قال(4/19)
1108- (18) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المنذري في الترغيب باسناده لا بأس به. وقال الهيثمي: رجاله موثقون. وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير.
1108 – قوله: (أقيموا الصفوف) أى اعتدلوها وسووها (ولينوا بأيدي إخوانكم) أى كونوا لينين هينين منقادين إذا أخذوا بها ليقدموكم أو يؤخروكم حتى يستوي الصف؛ لتنالوا فضل المعاونة على البر والتقوى، ويصح أن يكون المراد لينوا بيد من يجركم من الصف أي وافقوه وتأخروا معه لتزيلوا عنه وعمة الانفراد التى تبطل الصلاة بها، فقد ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى أن من لم يجد فرجة ولا سعة في الصف يجذب إلى نفسه واحداً ويستحب للمجذوب أن يساعده، ولا فرق بين الداخل في أثناء الصلاة والحاضر في ابتدائها في ذلك، وكرهه الأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق؛ لأنه لو جذب إلى نفسه واحداً لفوات عليه فضيلة الصف الأول، ولوقع الخلل في الصف، واستدل الأولون بما رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط والبيهقي (ج3 ص105) من حديث وابصة بن معبد: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لرجل صلى خلف الصف أيها المصلي وحده هلا دخلت في الصف أو جررت رجلاً من الصف، أعد صلاتك. وفيه السرى بن إسماعيل، وهو ضعيف، قاله الهيثمي. وقال الحافظ: إنه متروك، وله طريق أخرى في تاريخ أصبهان، وفيها قيس بن ربيع، وفيه ضعف. وأخرج الطبراني عن ابن عباس. قال الحافظ: بإسناد واهٍ قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه. قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وقال: لا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد. وفيه بشر بن إبراهيم، وهو ضعيف جداً، ولأبي داود في المراسيل من رواية مقاتل بن حيان مرفوعاً: أن جاء رجل فلم يجد خللاً أو أحدا فليختلج إليه رجلاً من الصف فليقم معه فما أعظم أجراً المختلج. قال الشوكاني في السيل الجرار: أما مشروعية انجذاب من في الصف المفسد لمن لحق ولم يجد من ينضم إليه فلم يثبت ما يدل على ذلك بخصوصه، ولا يصح الاستدلال بما أخرجه أبوداود في المراسيل بلفظ: إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجذب إليه رجلاً يقيمه إلى جنبه؛ لأنه مع كونه مرسلاً، في اسناده مقاتل بن حيان، وفيه مقاتل ولم يثبت له لقاء أحد من الصحابة، فثم انقطاع بينه وبين الصحابي فهو مرسل معضل، ولا يصح الاستدلال أيضاً بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، وبما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي عن وابصة بن معبد، فذكرهما مع الكلام فيهما بنحو ما تقدم، ثم قال ولكن في انجذاب معاونة على البر والتقوى فيكون مندوباً من هذه الحيثية- انتهى. (ولاتذروا) أي لا تتركوا، ولا يستعمل من هذه المادة بمعنى الترك سوى المضارع والأمر والنهي، فتقول: ذره ولا تذره ويذره أي دعه واتركه ولا تدعه ولا تتركه ويدعه ويتركه، فإذا أريد الماضي، قيل: ترك. أو المصدر(4/20)
فرجات الشيطان، ومن وصل صفاً وصله الله، ومن قطعه قطعه الله)) رواه أبوداود، وروى النسائي منه قوله: ((ومن وصل صفاً إلى أخره)) .
1109- (19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((توسطوا الإمام وسدوا الخلل)) رواه
أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قيل: الترك، أو اسم الفاعل قيل: التارك. (فرجات الشيطان) بالإضافة في جميع النسخ، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص395) ولفظ أبي داود: فرجات للشيطان، أي بتنوين فرجات ودخول لام الجر على الشيطان، وكذا وقع عند البيهقي من رواية أبي داود والفرجات بضم الفاء والراء جمع فرجة، وهي المكان الخالي بين الاثنين، والمعنى لا تبقوا خللاً في الصف لدخول الشيطان فيه، فإنه إذا بقية فرجة في الصف يدخلها الشيطان كأنها الحذف كما تقدم. (ومن وصل صفاً) بأن كان فرجة فسدها أو نقصان فأتمه. (وصله الله) أي برحمة. (ومن قطعه) بأن قعد بين الصف بلا صلاة أو منع الداخل من الدخول في الفرجات مثلاً. وقال القاري: أي بالغيبة أو بعدم سد الخلل أو بوضع شيء مانع. (قطعه الله) أي من رحمته، وفيه تهديد شديد ووعيد بليغ. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص98) والبيهقي (ج3 ص101) . (وروى النسائي) وابن خزيمة كذلك كما في الترغيب للمنذري وكذلك الحاكم (ج1 ص213) وصححه هو وابن خزيمة. (منه) أي من حديث. (قوله) - صلى الله عليه وسلم - مفعول روى. (من وصل صفاً إلى آخره) بيان المقول، أي لاصدر الحديث، وروي في صلة الصفوف وسد الفرج أحاديث عن جماعة من الصحابة منهم عائشة وأبوجحيفة وعبد الله بن زيد وابن عباس وأبوهريرة، ذكرهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص91، 90) .
1109- قوله: (توسطوا الإمام) كذا في جميع النسخ توسطوا أي من التوسط. وكذا وقع في جامع الأصول (ج6 ص395) والبيهقي (ج3 ص104) ولفظ أبي داود: وسطوا أي بفتح الواو وتشديد السين المكسورة من التوسيط، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى، أي اجعلوه مقابلاً لوسط الصف الذي تصفون خلفه يعني قفوا خلفه بحيث يكون الامام حذاء وسط الصف ويكون عن يمينه من المصلين ومن يساره سواء. قال الطيبي: أي اجعلوا أمامكم متوسطاً بأن تقفوا في الصفوف خلفه وعن يمينه وشماله- انتهى. وفي القاموس: وسطهم جلس وسطهم كتوسطهم وسطه توسيطاً جعله في الوسط، فالظاهر أن يكون التقدير توسطوا بالإمام فيكون من باب الحذف والايصال. (رواه أبودواد) وكذا البيهقي (ج3 ص104) وسكت عنه أبوداود والمنذري وفي سنده يحيى بن بشير بن خلاد عن أمه واسمها أمة الواحد بنت يامين بن عبد الرحمن بن(4/21)
1110- (20) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول، حتى يؤخرهم الله في النار)) رواه أبوداود.
1111- (21) وعن وابصة بن معبد، قال: ((رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يامين، سماها بقي بن مخلد في مسنده ولم يسمها. أبوداود في روايته: ويحيى مستور، وأمه مجهولة.
1110- قوله: (يتأخرون عن الصف الأول) أي لا يهتمون لإدراك فضل الصف الأول، ولا يبالون به. (حتى يؤخرهم الله) أي يجعلهم الله آخر الأمر. (في النار) أو لا يخرجهم من النار في الأولين، أو يؤخرهم عن الداخلين في الجنة أولاً بإدخالهم النار أولاً وحبسهم فيها، ويمكن أن يكون المعنى يوقعهم في أسفل النار. وقال الطيبي: أي حتى يؤخرهم عن الخيرات ويدخلهم في النار. (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان إلا أنهما قالا: حتى يخلفهم الله في النار، وأخرجه البيهقي (ج3 ص103) من طريق أبي داود بلفظه.
1111- قوله: (عن وابصة) بكسر الموحدة فصاد مهملة. (بن معبد) بفتح الميم واسكان العين المهملة ابن عتبة بن الحارث بن مالك الأسدي أسد خزيمة، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع ثم رجع إلى بلاد قومه ثم نزل إلى الجزيرة، صحابي. قال البرقى: جاء عنه خمسة أحاديث، وعمّر إلى قرب سنة تسعين، وتوفي بالرقة، وقبره عند منارة مسجد جامع الرقة. (يصلي خلف الصف وحده) أي منفرداً عن الصف. (فأمره أن يعيد الصلاة) فيه دليل على أن الصلاة خلف الصف وحده لا تصح. وأن من صلى خلف الصف وحده فعليه أن يعيد الصلاة. وإليه ذهب إبراهيم النخعي والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وأكثر أهل الظاهر وابن المنذر والحكم، وبه قال قوم من أهل الكوفة، منهم حماد بن أبي سليمان وعبد الرحمن بن أبي ليلي ووكيع. قال ابن حزم: وبه يقول الأوازاعي والحسن بن حي، وأحد قولي سفيان الثوري. ونقل عبد الله بن أحمد في المسند (ج4 ص228) بعد حديث وابصة قال: وكان أبي يقول بهذا الحديث- انتهى. وإليه ذهب الدارمي أيضاً فقال في سننه بعد حديث وابصة قال أبومحمد: أقول بهذا. وقال الجواز فلأنه يتعلق بالأركان وقد وجدت، وأما الإساءة فلوجود النهي عن ذلك، والقول الأول هو الحق يدل عليه حديث وابصة وهوحديث صحيح كما ستعرف، ويدل عليه أيضاً حديث علي بن شيبان قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي خلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4/22)
استقبل صلاتك، فإنه لا صلاة لرجل فرد خلف الصف. أخرجه أحمد (ج4 ص23) وابن ماجه وابن حزم في المحلى (ج4 ص53) والبيهقي (ج3 ص105) . ونسبه الزيلعي في نصب الراية (ج1 ص244) لابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، وهو حديث صحيح. قال البوصيري في زوائد ابن ماجه: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وروى الأثرم عن أحمد أنه قال: حديث حسن. وقال ابن سيد الناس: رواته ثقات معروفون، وهو من رواية ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه. قال ابن حزم في المحلى: ملازم ثقة. وثقه أبوبكر بن أبي شيبة وابن نمير وغيرهما، وعبد الله بن بدر ثقة مشهور، وعبد الرحمن ما نعلم أحداً عابه بأكثر من أنه لم يرو عنه إلا عبد الله بن بدر. وهذا ليس جرحة- انتهى. وقد روى عنه أيضاً ابنه يزيد ووعلة ابن عبد الرحمن، وذكره ابن حبان في الثقات وأخرج له في صحيحه. وقال العجلي: تابعي ثقة، ووثقة أيضاً أبوالعرب التميمي، كذا في تهذيب التهذيب (ج6 ص234) . ويؤيد حديث علي بن شيبان ما أخرجه ابن حبان عن طلق بن علي مرفوعاً: لا صلاة لمنفرد خلف الصف، ذكره الحافظ في بلوغ المرام. ويؤيده أيضاً حديث ابن عباس قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. أخرجه البزار والطبراني في الكبير والأوسط. قال الهيثمي: (ج2 ص96) : وفيه النضر أبوعمر أجمعوا على ضعفه. ويؤيده أيضاً ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة بمعنى حديث ابن عباس، وهو أيضاً حديث ضعيف. قال الهيثمي: فيه عبد الله بن محمد بن القاسم، وهو ضعيف وأجاب القائلون بالجواز بأن حديث وابصة معلول للاضطبراب في سنده كما نقل الزيلعي في نصب الراية (ج1 ص244) عن البيهقي في المعرفة والبزار في مسنده. قال البيهقي: وإنما لم يخرجاه صاحبا الصحيح لما وقع في إسناده من اختلاف. وقال ابن عبد البر: أنه مضطرب الإسناد، ولا يثبته جماعة من أهل الحديث، وروي عن الشافعي أنه كان يضعف حديث وابصة، ويقول: لو ثبت لقلت به وأجيب عنه بأن البيهقي وهو من أصحابه قد أجاب عنه فقال: الخبر المذكور ثابت، وبأن ابن سيد الناس قال في شرح الترمذي: ليس الاضطراب الذي الذي وقع فيه مما يضره، وبين ذلك وأطال وأطاب، ذكره الشوكاني وأجابوا أيضاً بأن الأمر بالإعادة في حديث وابصة وما وافقه للاستحباب، والنفي في حديث علي وما وافقه محمول على نفي الكمال. قال الطيبي: إنما أمره باعادة الصلاة تغليظاً وتشديداً، يؤيده حديث أبي بكرة في آخر الفصل الأول من باب الموقف. وقال ابن الهمام: حمل أئمتنا الأول أي حديث وابصة على الندب، والثاني أي حديث علي بن شيبان على نفي الكمال ليوافقا خبر البخاري عن أبي بكرة، إذ ظاهره عدم لزوم الإعادة لعدم أمره بها، وأيضاً فهو عليه السلام تركه حتى فرغ ولو كانت باطلة لما أقره على المضي فيها، وأجيب عنه بأن حمل(4/23)
رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأمر بالإعادة على الاستحباب، وحمل النفي على نفي الكمال خلاف الظاهر، والأصل فإن الأصل في الأمر الوجوب، وفي نفي الجنس نفي الحقيقة والذات إن أمكن وإلا فيحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة، وهو نفي الصحة كما تحقق في موضعه. وأما الاستدلال على ذلك بحديث أبي بكرة ففيه أن عدم أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة في هذه الصورة الجزئية لا يدل على أن أمره بالإعادة في حديث وابصة ليس للإيجاب، وأن النفى في حديث علي بن شيبان ليس لنفي الحقيقة أو الصحة، فإنه لا يقال لمن فعل مثل ما فعل أبوبكرة أنه صلى خلف الصف. قال ابن سيد الناس: ولا يعد حكم الشروع في الركوع خلف الصف حكم الصلاة كلها خلفه، فهذا أحمد ابن حنبل يرى أن صلاة المنفرد خلف الصف باطلة، ويرى أن الركوع دون الصف جائزة- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: جمع أحمد وغيره بين الحديثين، بأن حديث أبي بكرة مخصص لعموم حديث وابصة، فمن ابتدأ الصلاة منفرداً خلف الصف ثم دخل في الصف قبل القيام من الركوع لم تجب عليه الإعادة، كما في حديث أبي بكرة، وإلا فيجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان- انتهى. وفي مسائل الامام أحمد لأبي داود (ص35) قال: سمعت أحمد سئل عن رجل ركع دون الصف ثم مشى حتى دخل الصف وقد رفع الإمام قبل أن ينتهي إلى الصف قال: تجزئه ركعة وإن صلى خلف الصف وحده أعاد الصلاة. وقيل يحمل عدم الأمر بالإعادة على من فعل ذلك لعذر وهو خشية الفوات لو انضم إلى الصف وأحاديث الإعادة على من فعل ذلك لغير عذر. وقيل من لم يعلم ما ابتداء الركوع على تلك الحال من النهي فلا إعادة عليه كما في حديث أبي بكرة؛ لأن النهي عن ذلك لم يكن تقدم فكان أبوبكرة معذوراً لجهله، ومن علم النهي وفعل بعض الصلاة أو كلها خلف الصلاة لزمته الإعادة، يعني أنه يحمل أمره بالإعادة لمن صلى خلف الصف بأنه كان عالماً بالنهي. قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص58) : فإن قيل: فهلا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بالإعادة كما أمر الذي أساء الصلاة والذي صلى خلف الصف وحده؟ قلنا: نحن على يقين نقطع به أن الركوع دون الصف إنما حرم حين نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذ ذلك كذلك فلا إعادة على من فعل ذلك قبل النهي، ولو كان ذلك محرماً قبل النهي لما أغفل عليه السلام أمره بالإعادة كما فعل مع غيره- انتهى. (رواه أحمد) (ج4 ص227و 228) . (والترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه وأبوداود الطيالسي والدارمي وابن الجارود والبيهقي (ج3 ص104- 105) وابن حبان والدارقطني والحاكم والطحاوي وابن حزم في المحلى. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن) وسكت عنه أبوداود. ونقل المنذري كلام الترمذي هذا وأقره. وقال الحافظ في الفتح: صححه أحمد وابن خزيمة وغيرهما. وقال ابن حجر المكي: صححه ابن حبان والحاكم. قلت: وأعله بعضهم بما وقع من اختلاف في(4/24)
(25) باب الموقف
{الفصل الأول}
1112- (1) عن عبد الله بن عباس، قال: ((بت في بيت خالتي ميمونة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي،
فقمت عن يساره، فأخذ بيدي من وراء ظهره فعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سنده كما تقدم عن ابن عبد البر أنه قال: حديث مضطرب الإسناد، وقد تقدم قول ابن سيد الناس: أن الاختلاف الذي وقع في سنده ليس مما يضره، وقد بين ذلك في شرح الترمذي له كما قال الشوكاني، وقد بينه أيضاً الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص451) وأطال الكلام فيه وحققه بما لا مزيد عليه، فعليك أن تراجعه، ولولا خوف الإطناب لذكرنا كلامه.
(باب الموقف) أي موقف الإمام والمأموم.
1112- قوله (بت) أي رقدت أو كنت ليلا. (في بيت خالتي ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين. (يصلي) أي من الليل، والمراد به التهجد. (فقمت) أي وقفت. (عن يساره) بفتح الياء وكسرها. ولفظ مسلم: ثم قمت إلى شقه الأيسر. (فأخذ بيدي) بسكون الياء بالإفراد. (من وراء ظهره) أي وهو في الصلاة. (فعدلني) بالتخفيف. وقيل: بالتشديد أي أمالني وصرفنى. ولفظ مسلم: يعدلني أي بصيغة مضارع. (كذلك) أي آخذاً بيدي. (من وراء ظهره) بيان لذلك. (إلى الشق الأيمن) متعلق بعدلني. قال الطيبي: الكاف صفة مصدر محذوف أي عدلني عدولاً مثل ذلك، والمشار إليه هي الحالة المشبهة بها التي صورها ابن عباس بيده عند التحدث– انتهى. وقد اختلف في كيفية التحويل روايات الصحيح، ففي بعضها: أخذ برأسه فجعله عن يمينه، وفي بعضها: فوضع يده اليمنى على رأسي فأخذ بأذني اليمنى ففتلها، وفي بعضها: فأخذ برأسي من ورائي، وفي بعضها: بيدي أو عضدي. قال العيني: والرواية الثانية جامعة لهذه الروايات وقال أيضاً: ووجه الجمع بين قوله: فأخذ بيدي، وبين قوله: فأخذ برأسي. كون القضية متعددة، وإلا فوجهه أخذ أولاً برأسه ثم بيده أو العكس - انتهى. قلت: الغالب على الظن عدم تعدد قصة مبيت ابن عباس. فالجمع بين مختلف الروايات فيها أولى. وقيل: رواية أخذ الرأس أرجح لاتفاق الأكثر عليها، وفي الحديث دليل على أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، إذ لو كان اليسار موقفاً له لما عدله وحوله في الصلاة، وإلى هذا ذهب الجماهير، وخالف النخعي فقال: إذا كان الإمام وواحد قام الواحد خلف الامام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه، أخرجه سعيد بن منصور. قال الحافظ: ووجهه بعضهم بأن الإمامة(4/25)
مظنة الاجتماع فاعتبرت في موقف الإمام حتى يظهر خلاف ذلك، وهو حسن، لكنه مخالف للنص، وهوقياس فاسد- انتهى. وروي عن سعيد بن المسيب أن موقف الواحد مع الإمام عن يساره، ولم يتابع على ذلك لمخالفته للأدلة، وقد اختلف في صلاة من وقف عن اليسار، فقيل: تصح لكنه مسيء، وهو قول الجمهور. وتمسكوا بعدم بطلان صلاة ابن عباس لوقوفه عن اليسار لتقريره - صلى الله عليه وسلم - على أول صلاته وعدم أمره بالإعادة. وقيل: تبطل، وإليه ذهب أحمد قال: وتقريره - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس لا يدل على صحة صلاة من وقف من أول الصلاة إلى آخرها عن اليسار عالما، وغاية ما فيه تقرير من جهل الموقف والجهل عذر، وقد بوب البخاري على حديث ابن عباس: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام وحوله الإمام خلفه إلى يمينه تمت صلاته. قال الحافظ: أي صلاة المأموم ولا يضر وقوفه عن يسار الإمام أولاً مع كونه في غير موقفه؛ لأنه معذور بعدم العلم بذلك الحكم - انتهى. وأيضاً يجوز أن يكون ابن عباس ما كان قد أحرم بالصلاة. ثم قوله: فعدلني إلى الشق الأيمن يحتمل المساواة، ويحتمل التقدم والتأخر قليلاً، وفي رواية: فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه، وقد بوب عليها البخاري: باب يقوم عن يمين الإمام بحذاءه سواء إذا كانا اثنين. قال الحافظ: قوله بحذاءه أخرج به من كان خلفه أو مائلاً عنه أو بجنبه لكن على بُعد منه، وقوله سواء أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي انتزاع هذا من هذه الرواية بُعد، وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما تقدم في بعض طرقه وهو في الطهارة: فقمت إلى جنبه، وظاهره المساواة. وفي رواية للبخاري أيضاً: فأقامني عن يمينه. قال العيني: يستفاد منها أن موقف المأموم إذا كان بحذاء الإمام على يمينه مساوياً له، وهو قول عمر وابنه وأنس وابن عباس والثوري وإبراهيم ومكحول والشعبي وعروة وأبي حنيفة ومالك والأوزاعي وإسحاق، وعن محمد بن الحسن: يضع أصابع رجليه عند عقب الإمام. وقال الشافعي: يستحب أن يتأخر عن مساواة الإمام قليلاً. قال الشوكاني: وليس عليه فيما أعلم دليل، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال إلى الشق الأيمن قلت: أيحاذي به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر. قال: نعم، قلت: أتحب أن يساويه حتى لا يكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، والحديث له فوائد كثيرة: منها: أن الاثنين جماعة، وقد بوب عليه ابن ماجه: باب الاثنان جماعة. ومنها: انعقاد الجماعة باثنين: أحدهما صبي، ففي لفظ: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا يومئذٍ ابن عشر سنين، وقمت إلى جنبه عن يساره فأقامني عن يمينه، قال: وأنا يومئذ ابن عشر سنين. أخرجه أحمد، وقد بوب عليه ابن تيمية في المنتقى: باب انعقاد الجماعة باثنين أحدهما صبي. وقال العيني: في الحديث جواز ائتمام صبي ببالغ، وعليه ترجم البيهقي في سننه. قال الشوكاني: ليس على قول من منع من انعقاد من معه صبي فقط دليل، ولم(4/26)
متفق عليه.
1113- (2) وعن جابر، قال: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي، فجئت حتى قمت عن يساره، فأخذ
بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يستدل لهم إلا بحديث رفع القلم، ورفع القلم لا يدل على عدم صحة صلاته، وانعقاد الجماعة به، ولو سلم لكان مخصصاً بحديث ابن عباس ونحوه، وقد ذهب أبوحنيفة وأصحابه إلى أن الجماعة لا تنعقد بصبي، وذهب الشافعي إلى الصحة من غير فرق بين الفرض والنفل، وذهب مالك وأبوحنيفة في رواية عنه إلى الصحة في النافلة. ومنها: جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة، وقد بوب البخاري لذلك. وفي المسألة خلاف، ومذهب الحنفية أن نية الإمامة في حق الرجال ليست بشرط؛ لأنه لا يلزمه باقتداء المأموم حكم، وفي حق النساء شرط لاحتمال فساد صلاته بمحاذاتها إياه. والأصح عند الشافعية أنه لا يشترط مطلقاً، واستدل لذلك ابن المنذر بحديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في رمضان قال: فجئت فقمت إلى جنبه وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطاً فلما أحس النبي - صلى الله عليه وسلم - بنا تجوز في صلاته- الحديث. وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء وائتموهم به ابتداء وأقرهم، وهو حديث صحيح. أخرجه مسلم، وعلقه البخاري في كتاب الصيام: وذهب أحمد إلى الفرق بين النافلة والفريضة، فشرط أن ينوى في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر لحديث أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه. أخرجه أبوداود. وقد حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، والراجح عندنا هو عدم الفرق بين الفريضة والنافلة، وعدم الاشتراط في حق الرجال والنساء جميعاً؛ لانتفاء ما يدل على الفرق والتفصيل، والله أعلم. ومنها: جواز الإمامة في النافلة وصحة الجماعة فيها، ومنها التعليم في الصلاة إذا كان من أمرها. ومنها أن النافلة كالفريضة في تحريم الكلام؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم. ومنها: ما قيل إن تقدم المأموم على إمامه مبطل. قال الحافظ: ذكر البيهقي أنه يستفاد من الحديث امتناع تقديم المأموم على الإمام لما في رواية مسلم: فقمت عن يساره فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه، وفيه نظر، قال العيني: لأنه يجوز أن تكون ادارته من خلفه لئلا يمر بين يديه فإنه مكروه. ومنها أن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها، وقد بوب لذلك البخاري حيث قال: باب إذا قام الرجل عن يسار الإمام فحوله الإمام إلى يمينه لم تفسد صلاتهما أي بالعمل الواقع منها، لكونه خفيفاً يسيراً وهو من مصلحة الصلاة أيضاً. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وقد تقدم التنبيه على ما وقع من الاختلاف بين لفظ مسلم وبين اللفظ الذي ذكره المصنف تبعاً للبغوي، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
1113- قوله: (وعن جابر) أي ابن عبد الله. (فأخذ بيدي) قال ابن الملك: أي أخذني بيده اليمنى من وراء ظهره حتى أقامني. (عن يمينه) فيه أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام. (ثم جاء جبار بن صخر) بن(4/27)
فقام عن يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذ بيدينا جميعاً، فدفعنا حتى أقامنا خلفه)) رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أمية بن خنساء بن سنان السلمى الأنصاري شهد بدراً، وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، ثم شهد أحداً، وما بعدها من المشاهد وكان أحد السبعين ليلة العقبة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين المقداد بن الأسود، يكنى أبا عبد الله توفي بالمدينة سنة ثلاثين. قال ابن إسحاق: كان خارصاً بعد عبد الله بن رواحة. (فأخذ بيدينا) بالتثنية. وفي مسلم: بأيدينا أي بلفظ الجمع. (فدفعنا) أي أخرنا. قال الطيبي: لعله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيمينه شمال أحدهما، وبشماله يمين الآخر فدفعهما. (حتى أقامنا خلفه) فيه أن الإمام إذا كان معه عن يمينه مأموم، ثم جاء مأموم آخر، ووقف عن يساره، فله أن يدفعهما خلفه إذا كان لوقوفهما خلفه مكان، أو يتقدمهما. يدل عليه حديث سمرة الآتي في الفصل الثاني. وفيه أن موقف الرجلين مع الإمام في الصلاة خلفه. قال النووي: في الحديث فوائد: منها: جواز العمل اليسير في الصلاة، وأنه يكره إن كان لحاجة، فإن لم يكن لحاجة كره. ومنها: أن المأموم الواحد يقف على يمين الإمام، وإن وقف على يساره حوله الامام. ومنها: أن المأمومين يكونان صفاً وراء الإمام كما لو كانوا ثلاثة أو أكثر. وهذا مذهب العلماء كافة إلا ابن مسعود وصاحبيه يعني الأسود وعلقمة، فإنهم قالوا: يقف الاثنان عن جانبيه قال: وأجمعوا إذا كانوا ثلاثة أنهم يقفون وراءه- انتهى. قلت: روى مسلم في صحيحه عن علقمة والأسود أنهما دخلا على عبد الله فقال أصلي من خلفكم؟ قالا: نعم فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على ركبنا، فضرب أيدينا ثم طبق بين يديه ثم جعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى أحمد عن الأسود قال: دخلت أنا وعمي علقمة على ابن مسعود بالهاجرة قال: قأقام الظهر ليصلي فقمنا خلفه فأخذ بيدي ويد عمي ثم جعل أحدها عن يمينه والآخر عن يسار، فصففنا صفاً واحداً ثم قال: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع إذا كانوا ثلاثة، وأجاب عنه ابن سيرين بأن ذلك كان لضيق المكان أو لعذر آخر لا على أنه من السنة. رواه الطحاوي وقال الحازمي: أنه منسوخ؛ لأنه إنما تعلم ابن مسعود هذه الصلاة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة إذ فيها التطبيق وأحكام أخرى، هي الآن متروكة وهذه من جملتها، ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة تركه بدليل حديث جابر، فإنه شهد المشاهد التى بعد بدر- انتهى. قال ابن الهمام: وغاية ما فيه خفاء الناسخ على عبد الله وليس ذلك ببعيد، إذا لم يكن دأبه عليه السلام إلا إمامة الجمع الكثير دون الاثنين إلا في الندرة كهذه القصة وحديث اليتيم وهو داخل في بيت امرأة. (يعنى حديث أنس الآتي) فلم يطلع عبد الله على خلاف ما علمه- انتهى. وقال ابن سيد الناس: وليس ذلك أي وقوف الاثنين خلف الإمام شرطاً عند أحد منهم، ولكن الخلاف في الأولى والأحسن. (رواه مسلم) في آخر صحيحه في أثناء الحديث الطويل. وأخرجه البيهقي (ج3 ص95) مختصراً وأبوداود مطولاً، وهذا الذي ذكر المصنف بعضاً منه، وروى أحمد عن جابر قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المغرب فجئت فقمت(4/28)
1114- (3) وعن أنس، قال: ((صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأم سليم خلفنا)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن يساره فنهاني فجعلني عن يمينه، ثم جاء صاحب لي فصفنا خلفه- الحديث.
1114- قوله: (صليت أنا ويتيم) بالرفع عطفاً على الضمير المرفوع. قال صاحب العمدة: اليتيم هو ضميرة جد حسين بن عبد الله بن ضميرة. قال ابن الحذاء: كذا سماه عبد الملك بن أبي حبيب، ولم يذكره غيره، وأظنه سمعه من حسين بن عبد الله أو من غيره من أهل المدينة. قال ضميرة: هو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واختلف في اسم أبي ضميرة، فقيل: روح، وقيل غير ذلك- انتهى. وقال النووي: اسم اليتيم ضميرة بن سعد الحميري. وقال المنذري: اليتيم وهو ابن أبي ضميرة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، له ولأبيه صحبة، وعدادهما في أهل المدينة (في بيتنا) متعلق بصليت. (وأم سليم خلفنا) وفي البخاري: وأمي أم سليم خلفنا. قال العيني: وأمي عطف على اليتيم، وأم سليم عطف بيان، وكانت مشتهرة بهذه الكنية، واسمها سهلة. وقيل: رميلة أو رميثة أو الرميصاء أو الغميصاء، زوجة أبي طلحة، وكانت فاضلة دينة- انتهى. قلت: أم سليم هي بنت ملحان بكسر الميم وإسكان اللام، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام من بنى النجار، وكانت أم سليم تحت مالك بن النضر، فولدت له أنساً في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام، ومات بها فتزوجها بعده أبوطلحة زيد بن سهل الأنصاري، فولدت له عبد الله وأبا عمير، واسم والدة أم سليم مليكة بالتصغير بنت مالك بن عدي بن زيد مناة بن عدي، فهي جدة أنس لأمه. وفي الحديث دليل على صحة الجماعة في النفل في البيوت، وعلى صحة الصلاة للتعليم والتبرك كما تدل عليه القصة، وعلى أن مقام الاثنين خلف الإمام، وعلى أن أمامة المرأة للرجال غير جائزة؛ لأنها لما زحمت عن مساواتهم في مقام الصف كانت من أن تتقدمهم أبعد، وعلى وجوب ترتيب مواقف المأمومين، وأن الأفضل يتقدم على من دونه في الفضل، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليلينى منكم أولوا الأحلام والنهى، وعلى صحة صلاة الصبي المميز، وإن الصبي يعتد بوقوفه ويسد الجناح، وهو الظاهر من لفظ اليتيم إذ لا يتم بعد الاحتلام، ويؤيده جذبه - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس من جهة اليسار إلى جهة اليمين، وصلاته معه وهو صبي، وعلى أن الصبي الواحد يقوم مع الرجل صفاً، فإن اليتيم لم يقف منفرداً بل صف مع أنس، وعلى أن المرأة لا تصف مع الرجال، وعلى أنها تقوم صفاً وحدها إذا لم يكن معها امرأة غيرها، فعدم امرأة تنضم إليها عذر في ذلك، فإن انضمت المرأة مع الرجل أجزأت صلاتها؛ لأنه ليس في الحديث إلا تقريرها على التأخر، وأنه موقفها، وليس فيه دلالة على فساد صلاتها لو صلت في غيره، وذهب أبوحنيفة إلى أنه تفسد صلاة الرجل دون المرأة، ولا دليل على ذلك. قال الحافظ: في الحديث أن المرأة لا تصف مع الرجال، وأصله ما يخشى من الافتتان بها، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور، وعند الحنفية: تفسد صلاة الرجل دون المرأة، وهو عجيب، وفي توجيهه تعسف، حيث قال قائلهم: دليله قول ابن مسعود أخروهن من حيث(4/29)
رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخرهن الله، والأمر للوجوب وحيث ظرف مكان، ولا مكان يجب تأخيرهن فيه إلا مكان الصلاة، فإذا حاذت الرجل فسدت صلاة الرجل؛ لأنه ترك ما أمر به من تأخيرها، وحكاية هذا تغني عن تكلف جوابه، والله المستعان. فقد ثبت النهى عن الصلاة في الثوب المغصوب، وأمر لابسه أن ينزعه، فلو خالف فصلى فيه ولم ينزعه أثم وأجزأته صلاته، فلم يقال في الرجل الذي حاذته المرأة ذلك وأوضح منه لو كان لباب المسجد صفة مملوكة فصلى فيها شخص بغير إذنه مع اقتداره على أن ينتقل عنها إلى أرض المسجد بخطوة واحدة صحت صلاته وأثم، وكذلك الرجل مع المرأة التي حاذته، ولا سيما إن جاءت بعد أن دخل في الصلاة فصلت بجنبه- انتهى كلام الحافظ. وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا لم تقف المرأة في موقفها الذي عينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، وهو وقوفها في صف النساء أو وقوفها وحدها بعد الرجال فقد صارت بذلك عاصية، وأما فساد صلاتها بذلك، فلا دليل يدل عليه، وهكذا لا دليل يدل على فساد صلاة الرجال؛ لأن غاية الأمر دخول الأجنبية معهم ونظرهم إليها، وذلك لا يوجب فساد الصلاة، بل يكون من وقف بجنبها مختاراً لذلك، أو نظر إليها عاصياً، وصلاته صحيحة، وأما من لم يقف بجنبها ولا نظر إليها فليس بعاص فضلاً عن كون صلاته تفسد بمجرد دخولها معهم في الصلاة ومشاركتها لهم في الائتمام بإمامهم. والحاصل أن التسرع إلى إثبات مثل هذه الأحكام الشرعية بمجرد الرأي الخالي عن الدليل ليس من دأب أهل الأنصاف ولا من صنيع المتورعين - انتهى. واستدل الزيلعي والخطابي وابن بطال بالحديث على صحة صلاة المنفرد خلف الصف، قال الزيلعي: أحكام الرجال والنساء في ذلك سواء. وقال ابن بطال: لما ثبت ذلك للمرأة كان للرجال أولى، ورد هذا الاستدلال بأنه إنما ساغ ذلك للمرأة لامتناع أن تصف مع الرجال بخلاف الرجل، فان له أن يصف معهم وأن يزاحمهم وأن يجذب رجلاً من حاشية الصف فيقوم معه فافترقا. قال ابن خزيمة: لا يصح الاستدلال به؛ لأن المرأة خلف الصف وحده منهي عنها باتفاق ممن يقول تجزئه أو لا تجزئه، وصلاة المرأة وحدها إذا لم يكن هناك امرأة أخرى مأمور بها، فكيف يقاس مأمور على منهي - انتهى. (رواه مسلم) . الصواب أن يقول متفق عليه، واللفظ للبخاري كما قال الحافظ في بلوغ المرام، أو يقول رواه البخاري كما قال المجد بن تيمية في المنتقى، فإن هذه الرواية أخرجها البخاري في كتاب الصلاة في باب المرأة وحدها تكون صفاً من طريق سفيان بن عيينة عن إسحاق عن أنس، فالعجب من المصنف أنه عزا الحديث إلى مسلم فقط مع أن مسلماً لم يروه بهذا اللفظ. والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث عزاه في جامع الأصول (ج6:ص391) لمسلم والنسائي فقط. قال الحافظ في الفتح: هذا الحديث طرف من حديث اختصره سفيان، وطوله مالك كما تقدم في باب الصلاة على الحصير - انتهى. قلت: الحديث المطول أخرجه أحمد ومالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي
ـــــــــــــــــــــــــــــ(4/30)
1115- (4) وعنه، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى به وبأمه أو خالته، قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة
خلفنا))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والظاهر أنه قضية؛ لأن المراد بالعجوز في قوله: والعجوز من وراءنا في الحديث المطول هي مليكة جدة أنس التي دعته لطعام صنعته لا أم سليم.
1115- قوله: (صلى به) أي بأنس. (وبأمه) أي أم سليم. (أو خالته) شك من الراوي، واسم خالته أم حرام بنت ملحان. (قال) أي أنس. (فأقامني) أي أمرني بالقيام. (عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا) في الحديث دليل على أنه إذا حضر مع إمام الجماعة رجل وامرأة كان موقع الرجل عن يمينه وموقف المرأة خلفهما. وإنها لا تصف مع الرجال. واعلم أنه اختلفت الروايات في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت أنس، ففي بعضها أن مليكة جدة أنس دعته لطعام صنعته، فأكل منه ثم قال: قوموا فلأصلي بكم. قال أنس: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير، وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من وراءنا، أخرجه أحمد (ج3:ص 131، 149) ومالك وأصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. وفي بعضها أنه دخل على أم سليم فأتته بتمر وسمن، وكان صائماً، فقال أعيدوا تمركم في وعائه، وسمنكم في سقائه، ثم قام إلى ناحية البيت فصلى ركعتين، وصلينا معه-الحديث. أخرجه أحمد من طريق حميد عن أنس في (ج3:ص108، و188) وعند أبي داود من طريق ثابت عن أنس أنه دخل على أم حرام فأتوه بسمن وتمر، فقال: ردوا هذا في وعائه، وهذا في سقائه، فاني صائم، ثم قام فصلى بنا ركعتين تطوعاً، فقامت أم سليم وأم حرام خلفنا، قال ثابت: ولا أعلمه إلا قال: أقامني عن يمينه، وفي بعضها: أنه صلى في بيت أم حرام، فأقام أنساً عن يمينه، وأم حرام خلفهما، وهو عند أحمد (ج3:ص204) من طريق ثابت عن أنس. وفي بعضها أنه صلى، ومعه أنس وأم سليم فجعل أنساً عن يمينه وأم سليم خلفهما، وهو عند أحمد أيضاً (ج3:ص217) من طريق ثابت. وروى أحمد (ج3:ص194-195) والنسائي من طريق شعبة عن عبد الله بن المختار عن موسى بن أنس عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل أنساً عن يمينه، وأمه وخالته خلفهما. وروى أحمد (ج3:ص160و193-194 و217 و239 و242) ومسلم وأبوداود والنسائي هذا المعنى أيضاً من حديث ثابت عن أنس، وفي بعضها أنه صلى بأنس وبإمراة من أهله فجعله عن يمينه، والمرأة خلفهما وهو عند أحمد (ج3:ص258 و261) وأبي داود والنسائي وابن ماجه، وفي بعضها ما يدل على أنه كان يزورهم، فربما تحضره الصلاة، وهو عند أحمد (ج3:ص212) ومسلم، وهو يدل على أنه كان في بعض أحيانه يصلي الفريضة عندهم. وفي بعضها ورد التصريح بأنه صلى بهم تطوعاً، كما في رواية لأحمد (ج3:ص160) وأبي داود. وقد ظن بعضهم هذا الاختلاف موجباً للاضطراب. والحق أنه لا اضطراب ههنا؛ لأن صلاته - صلى الله عليه وسلم - في بيت أنس وأمه وخالته وجدته، ليست حادثة واحدة، بل هي حوادث متعددة مختلفة، كما يدل عليه(4/31)
رواه مسلم.
1116- (5) وعن أبي بكرة، ((أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، ثم مشى إلى الصف فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: زادك الله حرصاً، ولا تعد))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اختلاف سياق هذه الروايات، فلا تعارض بينها. كذا حققه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي. (رواه مسلم) من طريق شعبة عن عبد الله بن المختار عن موسى بن أنس. وأخرجه أيضاً أحمد (ج3:ص258 وص261) وأبوداود والنسائي وابن ماجه من هذا الطريق، لكنهم أبهموا المرأة. فلفظ أحمد وأبي داود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم أنساً وامرأة منهم. ولفظ النسائي: صلى بي وبمرأة من أهلي. ولفظ ابن ماجه: صلى بامرأة من أهله وبي.
1116- قوله: (أنه انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راكع) أي والحال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - راكع. وفي رواية النسائي: أنه دخل المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكع. وعند الطبراني. أنه دخل المسجد، وقد أقيمت الصلاة، فانطلق يسعى، وللطحاوي: جئت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكع وقد حفزني النفس، فركعت دون الصف. (فركع) أي كبر قائماً وركع. (قبل أن يصل إلى الصف) ليدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركوع. (ثم مشى إلى الصف) ليس هذا عند البخاري، وإنما هو عند أحمد (ج5 ص45) وأبي داود، ولفظهما: فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف. (فذكر) على البناء للمفعول، وقيل: معلوم. (ذلك) أي الذي فعله أبوبكرة من السعي والركوع دون الصف، والمشي إلى الصف راكعاً. وفي رواية للطبراني: فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيكم دخل الصف وهو راكع؟ ولأبي داود: فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبوبكرة أنا. وفي رواية أخرى للطبراني فقال: من الساعي؟ وله أيضاً فقال: أيكم صاحب هذا النفس، قال: خشيت أن تفوتني الركعة معك، وله أيضاً في رواية في آخر الحديث: صل ما أدركت واقض ما سبقك. (زادك الله حرصاً) أي على طلب الخير. (ولا تعد) أي أن منشأ هذا الفعل، هو الحرص على العبادة وإدراك فضل الإمام، والحرص على الخير مطلوب محبوب، لكن لا تعد إلى مثل هذا الفعل لأجله؛ لأن الحرص لا يستعمل على وجه يخالف الشرع، وإنما المحمود أن يأتي به على وفق الشرع. وقوله: لا تعد بفتح أوله وضم العين من العود. قال الحافظ في التلخيص (ص110) : اختلف في معنى قوله: ولا تعد: فقيل: نهاه عن العود إلى الإحرام وخارج الصف، وأنكر هذا ابن حبان، وقال: أراد لا تعد في إبطاء المجيء إلى الصلاة، يعني أنه نهاه عن التأخر عن الصلاة حتى تفوته الركعة مع الامام. وقال ابن القطان الفاسي تبعاً للمهلب بن أبي صفرة معناه: لا تعد إلى(4/32)
دخولك في الصف، وأنت راكع فإنها كمشية البهائم. ويؤيده رواية حماد بن سلمة في مصنفه عن الأعلم عن الحسن عن ابي بكرة: أنه دخل المسجد، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وقد ركع، فركع ثم دخل الصف وهو راكع فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أيكم دخل في الصف وهو راكعن فقال له أبوبكرة: أنا، فقال: زادك الله حرصاً ولا تعد، وقال غيره: بل معناه لا تعد إلى إتيان الصلاة مسرعاً، واحتج بما رواه ابن السكن في صحيحه بلفظ: أقيمت الصلاة فانطلقت أسعى حتى دخلت في الصف، فلما قضى الصلاة قال: من الساعي آنفاً، قال أبوبكرة أنا، فقال زادك الله حرصًا ولا تعد- انتهى. وقال في الفتح قوله: "لا تعد" ضبطناه في جميع الروايات بفتح أوله وضم العين من العود، أي لا تعد إلى ما صنعت من السعي الشديد، ثم من الركوع دون الصف، ثم من المشي إلى الصف. وقد ورد ما يقتضي ذلك صريحاً في طرق حديثه، كما تقدمت، وحكى بعض شراح المصابيح أنه روي بضم أوله وكسر العين من الإعادة، ويؤيد الروايات المشهورة ما ورد من الزيادة في آخر الحديث عند الطبراني: صل ما أدركت واقض ما سبقك. وروى الطحاوي: بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا أتى احدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف- انتهى. وقال: الجزري لا تعد بفتح التاء وضم العين وإسكان الدال من العود، أي لا تعد ثانياً إلى مثل ذلك الفعل، وهو المشي إلى الصف في الصلاة. ويحتمل أن يكون نهاه عن اقتدائه منفرداً. ويحتمل أن يكون عن ركوعه قبل الوصول إلى الصف، والظاهر أنه نهى عن ذلك كله. وقد أبعد من قال: ولا تعد بضم التاء وكسر العين من الإعادة أي لا تعد الصلاة التي صليتها، وأبعد منه من قال إنه بإسكان العين وضم الدال من العَدو أي لا تسرع، وكلاهما لم يأت به رواية، وإنما يحملهم على ذلك في أمثاله من تحريفهم ألفاظ النبوة وتغييرها كونهم لم يحفظوها أو ما وصلت إليهم بالرواية، فيذكرون ما يحتمله الخط لعدم معرفتهم باللفظ المروي- انتهى. واخنلف في الركوع دون الصف، فذهب مالك والليث إلى أن الداخل إذا خاف فوت الركعة بأن يرفع الإمام رأسه من الركوع إن تمادى حتى يصل إلى الصف أن له أن يركع دون الصف، ثم يدب راكعاً إذا كان قريباً، وحد القرب أن يصل إلى الصف قبل سجود الامام. وقيل: يدب قدر ما بين الفرجتين. وقيل: ثلاثة صفوف. وكره ذلك الشافعي. وفرق أبوحنيفة بين الجماعة والواحد، فكرهه للواحد، وأجازه للجماعة. وما ذهب إليه مالك روي عن زيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن الزبير وأبي أمامة وعطاء. وروى الطبراني في الأوسط من حديث ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء سمع ابن الزبير على المنبر يقول: إذا دخل أحدكم المسجد، والناس ركوع فليركع حين يدخل، ثم يدب راكعاً حتى يدخل في الصف، فإن ذلك السنة، قال: قد رأيته يصنع ذلك. قال ابن جريج: وقد رأيت عطاء يصنع ذلك، قال الطبراني: تفرد به ابن وهب، ولم يروه عنه غير حرملة، ولا يروى عن ابن الزبير إلا بهذا الإسناد- انتهى. قلت: قد رواه البيهقي (ج3 ص16) من(4/33)
طريق سعيد بن الحكم بن أبي مريم عن ابن وهب. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص96) بعد غزوة للطبراني: رجاله رجال الصحيح. قلت: القول الراجح المعتمد المعول عليه هو المنع لحديث أبي بكرة، ولما روى الطحاوي من حديث أبي هريرة مرفوعاً بإسناد حسن: إذا جاء أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف، وإليه ذهب أبوهريرة، كما أخرج عنه ابن عبد البر وابن أبي شيبة، وبه قال الحسن وإبراهيم. واستدل بحديث أبي بكرة على أن من أدرك الإمام راكعاً دخل معه، واعتد بتلك الركعة وإن لم يدرك شيئاً من القيام والقراءة؛ لأن أبابكرة ركع خلف الصف مخافة أن تفوته الركعة، فدعا له بزيادة الحرص، ولم يأمره بإعادة تلك الركعة، وهذا مذهب الجمهور. وذهب أبوهريرة وأهل الظاهر وابن خزيمة وأبوبكر الضبعي والبخاري إلى أنه لا تجزئه تلك الركعة إذا فاته القيام وقراءة فاتحة الكتاب وإن أدرك الركوع مع الإمام. وقد حكى هذا المذهب الحافظ في الفتح عن جماعة من الشافعية، وقواه الشيخ تقي الدين السبكي وغيره من محدثي الشافعية، ورجحه المقبلي، قال: وقد بحثت هذه المسألة وأحطتها في جميع بحثي فقهاً وحديثاً، فلم أحصل منها غير ما ذكرت، يعني من عدم الاعتداد بادراك الركوع فقط، وهو القول الراجح عندي، فلا يكون مدرك الركوع مدركاً للركعة لما فاته من القيام وقراءة فاتحة الكتاب، وهما من فروض الصلاة وأركانها، ولحديث: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. قال الحافظ: قد استدل به على أن من أدرك الإمام راكعاً لم يحتسب له تلك الركعة للأمر بإتمامه ما فاته؛ لأنه فاته القيام والقراءة فيه- انتهى. وأما حديث أبي بكرة فليس فيه ما يدل على ما ذهب الجمهور إليه؛ لأنه كما لم يأمر بالإعادة فلم ينقل إلينا أنه اعتد بها، والدعاء بالحرص لا يستلزم الاعتداد بها؛ لأن الكون مع الإمام مأمور به سواء كان الشيء الذي يدركه المؤتم معتمداً به أم لا، كما في حديث: إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً. رواه أبوداود وغيره، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى أبا بكرة عن العود إلى مثل ذلك، والاستدلال بشيء قد نهي عنه لا يصح، كذا ذكره الشوكاني في النيل. قلت: زيادة الطبراني في آخر حديث أبي بكرة بلفظ: صل ما أدركت واقض ما سبقك تدل على عدم اعتداد تلك الركعة، ويدل عليه أيضاً ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن معاذ بن جبل، قال: لا أجده على حال إلا كنت عليها، وقضيت ما سبقني، فوجده قد سبقه، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، ببعض الصلاة أو قال: ببعض ركعة، فوافقه فيما هو فيه، وأتى بركعة بعد السلام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن معاذاً قد سن لكم، فهكذا فاصنعوا. وقال شيخنا في شرح الترمذي بعد ترجيح قول أهل الظاهر ومن وافقهم: أما حديث أبي بكرة فواقعه عين، يعني أنه يجري فيه من الاحتمالات ما لا يجري في الأدلة القولية التي هي نص في فرضية القيام، وقراءة فاتحة الكتاب، والأمر بإتمامه ما فاته. ورجح الشوكاني في فتاواه التي سماه ولده أحمد بن محمد بن علي الشوكاني(4/34)
رواه البخاري.
{الفصل الثاني}
1117- (6) عن سمرة بن جندب، قال: ((أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا ثلاثة أن يتقدمنا أحدنا) رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالفتح الرباني، القول باعتداد تلك الركعة خلاف ما حققه في شرح المنتقى، حيث جعل تلك الحالة التي وقعت للمؤتم وهي إدراك إمامه راكعاً مخصصة من عموم أدلة إيجاب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة على كل مصل. واستدل لذلك بما روى ابن خزيمة والدارقطني (132) والبيهقي (ج2 ص89) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه. وإليه ذهب بعض أهل الحديث في عصرنا. والجواب عنه أولاً أن في سنده يحيى بن حميد، وهو مجهول الحال غير معتمد في الحديث كما قال البخاري في جزء القراءة، وضعفه الدارقطني، وذكره العقيلي في الضعفاء وقد تفرد بقوله: قبل أن يقيم الإمام صلبه. قال العقيلي: وقد رواه مالك وغيره من الحفاظ أصحاب الزهري، ولم يذكروا الزيادة الأخيرة، ولعلها كلام الزهري. وقال ابن أبي عدي بعد أن أورد الحديث: تفرد بهذه الزيادة، ولا أعرف له غيره. كذا في اللسان (ج6 ص250) ، وفيه أيضاً قرة بن عبد الرحمن، وهو متكلم فيه، وثانياً بعد تسليم صحة الزيادة المذكورة أنه قد عرف في موضعه أن مسمى الركعة جميع أركانها وأذكارها حقيقة شرعية وعرفية، وهما مقدمتان على اللغوية، كما تقرر في الأصول. وأما التقييد بقوله: قبل أن يقيم الإمام صلبه فلدفع توهم أن من دخل مع الإمام، ثم قرأ فاتحة الكتاب، وركع الإمام قبل فراغه منها غير مدرك. وارجع لمزيد التفصيل إلى دليل الطالب على أرجح المطالب (ص339- 345) للعلامة القنوجي، فإنه قد بسط الكلام في ذلك أشد البسط. (رواه البخاري) فيه نظر؛ لأن قوله: ثم مشى إلى الصف ليس في البخاري. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن حبان والبيهقي (ج3 ص106) .
1117- قوله: (أن يتقدمنا أحدنا) اختلفت نسخ الترمذي في هذا الحرف: ففي بعضها كما وقع ههنا، وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص392) وفي بعضها أن يتقدم أحدنا، وهذه توافق ما نقله المجد ابن تيمية في المنتقى، وفي بعضها أن يتقدمنا إمامنا، وفي بعضها أن يتقدم منا أحدنا. قال الطيبي: قوله: أن يتقدمنا معمول لقوله: أمرنا على حذف الباء، أي بأن يتقدمنا أحدنا. وإذا كنا ظرف يتقدمنا، وجاز تقديمه على أن المصدرية للاتساع في الظروف- انتهى. والمعنى أمرنا بأن يكون أحدنا إماماً. وفيه دليل على أن موقف الاثنين مع الإمام في الصلاة خلفه. (رواه الترمذي) من حديث إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عن سمرة.(4/35)
1118- (7) وعن عمار، أنه أم الناس بالمدائن، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه، فتقدم
حذيفة فأخذ على يديه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الترمذي: حديث غريب، وقد تكلم بعض الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه- انتهى. قلت: ونقل الشوكاني في النيل عن الأطراف لابن عساكر أنه نقل عن الترمذي أنه قال فيه: حسن غريب، قال وذكر ابن العربي أنه ضعفه، وليس فيما وقفنا عليه من نسخ الترمذي إلا أنه قال: إنه حديث غريب. ولعل المراد بقول ابن العربي أنه ضعفه، أي أشار إلى تضعيفه بقوله: وقد تكلم الناس في إسماعيل بن مسلم من قبل حفظه بعد أن ساق الحديث من طريقه، وإسماعيل هذا تابعي روى عن أبي طفيل عامر بن واثلة كان فقيهاً مفتياً ضعيفاً في الحديث من قبل حفظه، يهم في الحديث، ويخطىء ويكثر الغلط، ضعفه الجوزجانى وأبوزرعة وأبوحاتم وابن حبان وأبوعلى الحافظ. وقال يحيى بن سعيد القطان: لم يزل مخلطاً، كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب. وقال ابن عيينة: كان يخطئ، أسأله عن الحديث، فما كان يدري شيئاً. وقال أبوحاتم: ضعيف الحديث مختلط. وقال أبوطالب عن أحمد: منكر الحديث. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: يسند عن الحسن عن سمرة أحاديث مناكير، وقال الفلاس: كان ضعيفاً في الحديث يهم فيه، وكان صدوقاً يكثر الغلط. وذكره العقيلي والدولابي والساجي وابن الجارود وغيرهم في الضعفاء. وقال ابن سعد في الطبقات (ج7 ص34) : أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: كان له رأي وفتوى وبصر وحفظ للحديث وغيره، وكان الناس عليه، وعلى عثمان البتي، وكان مجلس إسماعيل ويونس بن عبيد واحداً، فكنت أجىء فأجلس إليهما، فأكتب على إسماعيل، وأدع يونس لنباهة إسماعيل عند الناس لما كان شهر به من الفتوى- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: كان فقيهاً ضعيف الحديث- انتهى. وحديث سمرة هذا لم أجده في غير سنن الترمذي، ولم أجد أحداً نسبه إلى غيره، وقد تكلم الناس في سماع الحسن عن سمرة، لكنه مؤيد بما تقدم من حديثي جابر وأنس في الفصل الأول.
1118- قوله: (عن عمار أنه أم الناس) أي صلى بالناس إماماً. (بالمدائن) بالهمز مدينة قديمة على دجلة وكانت دار مملكة الأكاسرة على سبعة فراسخ من بغداد. ولفظ أبي داود عن عدي بن ثابت: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار. (وقام على دكان) أي مكان مرتفع وحده بضم الدال المهملة وتشديد الكاف واحد دكاكين، وهي الحوانيت فارسي معرب، والنون مختلف فيها: فمنهم من يجعلها أصيلة، ومنهم من يجعلها زائدة. فالدكان هي الدكة بفتح الدال، وهو المكان المرتفع المبني للجلوس عليه. (يصلي) بالناس. (والناس) أي المقتدون به. (أسفل منه) أي في مكان أسفل منه. (فتقدم حذيفة) أي من الصف. (فأخذ على يديه) أي أخذ حذيفة على يدي عمار وأمسكهما، فجذب عماراً من خلفه لينزل إلى أسفل ويستوي(4/36)
فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقيم في مقام ارفع من مقامهم، أو نحو ذلك؟ فقال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مع المقتدين. (فأتبعه) بالتشديد. (عمار) أي طاوع عمار حذيفة. (حتى أنزله) أي عماراً من الدكان. (إذا أم الرجل القوم) أي صار إماماً لهم يصلي بهم. (أو نحو ذلك) عطف على مفعول يقول. وأو للشك من الراوي، أي قال هذا اللفظ أو نحوه. (فقال عمار) أي في جواب حذيفة. وفي أبي داود قال عمار، أي بدون الفاء. (لذلك) أي لأجل هذا الحديث. قال القاري: أي لأجل سماعي هذا المنهي منه أولاً، وتذكرى بفعلك ثانياً. (اتبعتك) أي في النزول. (حين أخذت على يدى) بالتثنية. والحديث دليل على كراهة أن يرتفع الإمام في المكان على المأموم الذي يقتدي به، سواء كان المكان قدر قامة الرجل أو دونها أو فوقها، لكن في سنده رجل مهمول، كما يتقدم. ويؤيد منع ارتفاع الإمام مطلقاً ما روى أبوداود والحاكم والبيهقي عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبومسعود بقيمصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري. وقال النووي رواه أبوداود باسناده صحيح. وقال الحافظ في التلخيص (ص128) : وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وفي رواية للحاكم التصريح برفعه. وفيه أن حذيفة هو الإمام، وأبومسعود هو الذي أخذ بقيمصه فجذبه. ولا تخالف لأنهما قضيتان، ولا بعد أن حذيفة وقع له ذلك مع أبي مسعود قبل واقعته مع عمار. ويؤيد المنع أيضاً ما روى الدارقطني والحاكم عن أبي مسعود، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم الإمام فوق شيء، والناس خلفه، يعني أسفل منه. ذكره الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وسكت عنه الحاكم والذهبي أيضاً، وسيأتي هذا الحديث في آخر باب المشي مع الجنازة والصلاة عليها، قال الشوكاني في النيل: ظاهر النهي في حديث أبي مسعود أن ذلك محرم لولا ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من الارتفاع على المنبر، قال: والحاصل من الأدلة منع ارتفاع الإمام على المؤتمين من غير فرق بين المسجد وغيره، وبين القامة ودونها وفوقها؛ لقول أبي مسعود كانوا ينهون عن ذلك، وقول أبي مسعود أيضاً: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. وأما صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقيل: إنما فعل ذلك لغرض التعليم كما يدل عليه قوله الآتي: ولتعلموا صلاتى، وغاية ما فيه جواز وقوف الإمام على محل أرفع من المأمومين إذا أراد تعليمهم. قال ابن دقيق العيد: فيه أي في حديث سهل بن سعد الآتي دليل على جواز صلاة الإمام على أرفع مما عليه المأموم لقصد التعليم. فأما من غير هذا القصد فقد قيل: بكراهته، قال ومن أراد أن يجيز هذا الارتفاع من غير قصد التعليم فاللفظ لا يتناوله. والقياس لا يستقيم؛ لانفراد الأصل بوصف معتبر يقتضي المناسبة اعتباره- انتهى. على(4/37)
رواه أبوداود.
1119- (8) وعن سهل بن سعد الساعدي، أنه سئل: من أي شيء المنبر؟ فقال: هو من أثل الغابة، عمله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنه قد تقرر في الأصول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نهى عن شيء نهياً يشمله بطريق الظهور، ثم فعل ما يخالفه كان الفعل مخصصاً له من العموم دون غيره، حيث لم يقم دليل على التأسي به في ذلك الفعل، فلا تكون صلاته - صلى الله عليه وسلم - معارضة للنهي عن الارتفاع باعتبار الأمة، وهذا على فرض تأخر صلاته على المنبر عن النهي من الارتفاع، وعلى فرض تقدمها أو التباس المتقدم من المتأخر فيه الخلاف المعروف في الأصول في التخصيص بالمتقدم والملتبس- انتهى. كلام الشوكاني في النيل. وقال في السيل الجرار: في هذين الحديثين دليل على منع الإمام من الارتفاع عن المؤتم، ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، ومن قال: إنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك؛ لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره، ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة جواباً عن سؤال بعض الأعلام، فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها- انتهى. قلت: وذهب إلى الجواز مطلقاً من غير كراهة ابن حزم، كما صرح به في المحلى (ج4 ص84) مستدلاً بحديث سهل قال: وهو قول الشافعي وأبي سليمان، وبمثل قولنا يقول أحمد بن حنبل والليث بن سعد والبخاري وغيرهما- انتهى. والراجح عندي هو المنع. وأما حديث سهل فإنما فعل ذلك للتعليم، أي لغرض أن لا يخفي على أحد صلاته، وهذا لا يثبت منه الجواز مطلقاً، والله أعلم. واختلفوا في قدر الارتفاع الممنوع. فقيل: قدر القامة. وقيل: قدر الذراع. وقيل: ما يقع به الامتياز، وهو الأوجه. ذكره الكمال وغيره. وكذا في الدر المختار. (رواه أبوداود) ومن طريقه أخرج البيهقي (ج3 ص109) وسكت عنه أبوداود، وقد تقدم أن في سنده رجلاً مجهولا، لكنه مؤيد بحديثي أبي مسعود.
1119- قوله: (عن سهل) بسكون الهاء. (بن سعد) بسكون العين الساعدي. (أنه سئل) رواه البخاري من طريق أبي حازم سلمة بن دينار، قال: سألوا سهل بن سعد. (من أي شيء المنبر) النبوي المدني. فاللام فيه للعهد، إذ السؤال عن منبره - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية: أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي، وقد امتروا في المنبر ثم عوده فسألوه عن ذلك. (هو من أثل الغابة) وفي رواية، من طرفاء الغابة. والأثل بفتح الهمزة وسكون المثلة هو الطرفاء. وقيل: شجر يشبه الطرفاء بسكون الراء والمد إلا إنه أعظم منه. قال القسطلاني: الأثل شجر كالطرفاء لا شوك له، وخشبة جيد، يعمل منه القصاع والأواني، وورقه أشنان يغسل به القصارون؛ والغابة بالمعجمة والموحدة موضع معروف قرب المدينة من العوالي من جهة الشام، وأصلها كل شجر ملتف. (عمله) أي المنبر.(4/38)
فلان مولى فلانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة وكبر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، حتى سجد بالأرض)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فلان) بضم الفاء بالتنوين. واختلف في اسمه: فقيل: ميمون، وقيل: باقوم الرومي، وقيل: باقول، وقيل: صباح، وقيل: قبيصة المخزومي، وقيل: كلاب، وقيل: ميناء، وقيل: تميم الداري. قال الحافظ: وأشبه الأقوال بالصواب وأقربها قول من قال: هو ميمون لكون الإسناد من طريق سهل بن سعد أيضاً. وأما الأقوال الأخر فلا اعتداد بها لوهائها. ويبعد جداً أن يجمع بينهما بأن النجار كانت له أسماء متعددة، وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله فيمنع منه قوله في كثير من الروايات لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، إلا أن كل يحمل على أن المراد بالواحد الماهر في صناعته، والبقية أعوانه فيمكن. (مولى فلانة) بعدم الصرف للثأنيث والعلمية. قال الحافظ: لا يعرف اسمها لكنها أنصارية، وقيل: اسمها عائشة، قاله البرماوى كالكرمانى. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث جابر بلفظ: وأمرت عائشة فصنعت له منبره، لكن إسناده ضعيف. ولو صح لما دل على أن عائشة هى المرادة في حديث سهل هذا إلا بتعسف. وكان منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث درجات، واستمر على ذلك مدة الخلفاء الراشدين، ثم زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، فهي من جملة ما أحدث في المساجد من البدع المكروهة. (لرسول الله) أي لأجله. (وقام عليه) أي على المنبر. قال الحافظ: كانت صلاته على الدرجة العليا من المنبر. (حين عمل ووضع) بالبناء للمفعول فيهما أي حين صنع ووضع في مكانه المعروف بالمسجد. (وكبر) أي للتحريمة. (وقام الناس خلفه) اقتداء به. (ثم رجع القهقري) بالقصر منصوب على أنه مفعول مطلق بمعنى الرجوع إلى خلف، أي رجع الرجوع الذي يعرف بذلك، وإنما فعل بذلك لئلا يولى ظهره القبلة. (فسجد على الأرض) إلى جنب الدرجة السفلى من المنبر. (حتى سجد بالأرض) قال القسطلاني: لاحظ في قوله: على الأرض معنى الاستعلاء، وفي قوله: بالأرض معنى الإلصاق- انتهى. قيل: قوله عمله الخ زيادة في الجواب، كأنه قيل: المهم أن يعرف هذه المسألة الغريبة، وإنما ذكر حكاية صنع الصانع تنبيهاً على أنه عارف بتلك المسألة وما يتصل بها من الأحوال والفوائد. والحديث قد استدل به البخاري على جواز الصلاة على المنبر والخشب. قال الحافظ: وفيه جواز اختلاف موقف الإمام والمأموم في العلو والسفل، وقد صرح بذلك البخاري في حكايته عن شيخه علي بن المديني عن أحمد بن حنبل، ولابن دقيق العيد في ذلك بحث كما تقدم، وفيه دليل على جواز العمل اليسير في الصلاة، لكن(4/39)
هذا لفظ البخاري، وفي المتفق عليه نحوه، وقال في آخره: فلما فرغ أقبل على الناس، فقال: ((أيها الناس! إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتى)) .
1120- (9) وعن عائشة، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه إشكال على من حدد الكثير من العمل بثلاث خطوات، فإن منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ثلاث درجات، والصلاة كانت على العليا، ومن ضرورة ذلك أن يقع ما أوقعه من الفعل على الأرض بعد ثلاث خطوات فأكثر وأقله ثلاث. والذي يعتذر به عن هذا أن يدعى عدم التوالى بين الخطوات، فإن التوالى شرط في الإبطال، أو ينازع في كون قيام هذه الصلاة فوق الدرجة العليا، ذكره ابن دقيق العيد. (هذا لفظ البخاري) في باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب. وأشار المصنف بهذا إلى أن هذا الحديث من الفصل الأول، وإنما أورده هنا تأسياً بالمصابيح، حيث ذكره في الحسان ليبين أنه مقيد لما قبله، يعني أن ارتفاع الإمام عن المأموم مكروه إلا لغرض التعليم. (وفي المتفق عليه نحوه) أخرجه البخاري في باب الخطبة على المنبر من كتاب الجمعة، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي. (وقال) أي الراوى (في آخره) أي في آخر الحديث: المتفق عليه. (فلما فرغ) أي من الصلاة. (أقبل على الناس) بوجهه الشريف. (فقال) مبيناً لأصحابه حكمة ذلك. (إنما صنعت هذا) أي ما ذكر من الصلاة على المكان المرتفع. (لتأتموا بي) أي لتقتدوا بي في الصلاة أولاً. (ولتعلموا) بكسر اللام وفتح المثناة الفوقية والعين وتشديد اللام، أي لتتعلموا، فخذفت إحدى التائين تخفيفاً (صلاتى) أي كيفيتها ثانياً. وقد عرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلى على الأرض. وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل.
1120- قوله: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي التراويح، قاله القاري. (في حجرته) اختلف في تفسيره الحجرة، فالأكثر على أن المراد بها المكان الذي اتخذه حجرة في المسجد من الحصير للاعتكاف في رمضان. وقيل: المراد حجرته بيته، فقد روى البخاري من حديث عبدة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل في حجرته. وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقام أناس يصلون بصلاته-الحديث. قال الحافظ: قوله: في حجرته ظاهره أن المراد حجرة بيته. ويدل عليه ذكر جدار الحجرة. وأوضح منه رواية حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عند أبي نعيم بلفظ: كان يصلي في حجرة من حجر أزواجه. ويحتمل أن المراد الحجرة التي كان احتجرها في المسجد بالحصير، كما في الرواية التي بعد هذه، يعني ما رواه البخاري وغيره من حديث أبي سلمة عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له حصير يبسطه بالنهار ويحتجره بالليل،(4/40)
والناس يأتمون به من وراء الحجرة))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فثاب إليه أناس فصفوا، قال الحافظ: غرض البخاري من إيراده بيان أن الحجرة المذكورة في الرواية التي قبل هذه كانت حصيراً. وقال العيني: لعل مراده منه بيان أن الحجرة المذكورة في الحديث المذكور قبل هذا كانت حصيراً، والأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وكل موضع حجر عليه فهو حجرة- انتهى. وفي حديث زيد بن ثابت الذي رواه البخاري بعد رواية عائشة السابقة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد- الحديث. ولأحمد وأبي داود ومحمد بن نصر عن أبي سلمة عن عائشة أنها هي التي نصبت له الحصير على باب بيتها. قال الحافظ: فأما أن يحمل على التعدد أو على المجاز في الجدار وفي نسبته الحجرة إليها. وقال العيني بعد ذكر حديث زيد بن ثابت: وجاء في رواية: احتجر بخصفة أو حصير في المسجد. وفي رواية: صلى في حجرتي، روته عمرة عن عائشة، وفي رواية: فأمرني فضربت له حصيراً يصلي عليه. ولعل هذه كانت في أحوال- انتهى. قلت: الراجح عندي هو الحمل على التعدد. (والناس يأتمون به) أي يقتدون به. (من وراء الحجرة) أي خلفها وفيه دليل على أن الحائل بين الإمام والمؤتمين غير مانع من صحة الصلاة؛ لأن مقتضاه أنهم كانوا يقتدون به، وهو داخل الحجرة، وهم خارجها، وقد بوب له أبوداود: باب الرجل يأتم بالامام، وبينهما جدار، وبوب البخاري على روايتي عمرة وأبي سلمة عن عائشة، وحديث زيد بن ثابت: باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة، وذكر فيه قول الحسن: لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر، وقول أبي مجلز (لاحق بن حميد التابعي المشهور) : يأتم بالإمام وإن كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبير الامام. قال العيني: جواب إذا محذوف تقديره لا يضره ذلك، والمسألة فيها خلاف، لكن ما في الباب يدل على أن ذلك جائز، وهو مذهب المالكية أيضاً، وهو المنقول عن أنس وأبي هريرة وابن سيرين وسالم. وكان عروة يصلي بصلاة الإمام، وهو في دار بينها وبين المسجد طريق وقال مالك: لا بأس أن يصلي وبينه وبين الإمام نهر صغير أو طريق، وكذلك السفن المتقاربة، يكون الإمام في إحداها تجزيهم الصلاة معه. وكره ذلك طائفة، وروي عن عمر بن الخطاب إذا كان بينه وبين الإمام طريق أو حائط أو نهر فليس هو معه. وكره الشعبي وإبراهيم أن يكون بينهما طريق. وقال أبوحنيفة لا يجزيه إلا أن تكون الصفوف متصلة قي الطريق، وبه قال الليث والأوزاعي والأشهب- انتهى. قلت: مذهب الحنيفة أنه إنما يجوز ذلك بثلاثة شروط: الأول: أن لا يلتبس على المأموم حال الإمام، والثاني: أن لا يختلف المكان بينهما، والمسجد في حكم مكان واحد، والثالث: وهو تتمة الثاني أن لا يمنع التبعية في المكان. وأجابوا عن الأحاديث المذكورة بأنه لم يوجد فيها ما يخالف هذه الشروط؛ لأن المسجد كله مكان واحد. وفي المكان الواحد عند حيلولة الجدار يكفي علم انتقالات الإمام فقط ولو بمجرد صوته، وهو المفتى به، ولا يحتاج إلى المنافذ أو غيرها، واعتبروا في الصحراء تباعد قدر ثلاث صفوف إذ لم تتصل الصفوف، فإن كان بينهما طريق(4/41)
رواه أبوداود.
{الفصل الثالث}
1121- (10) عن أبي مالك الأشعري، قال: ((ألا أحدثكم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أقام الصلاة، وصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، فذكر صلاته، ثم قال: هكذا صلاة ـ قال عبد الأعلى:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو نهر تجرى فيه السفينة منعوا مطلقاً، وعدوه كأنه مكان مختلف، واستدلوا لذلك بأثر عمر الذي ذكره العيني بلا سند. وقال ابن حجر: ليس في الحديث دليل لما قاله عطاء وغيره أن الشرط في صحة القدوة بشخص علمه بانتقالاته لا غير، أما أولا فلأنه لو اكتفى بذلك لبطل السعي المأمور به والدعاء إلى الجماعة، وكان كل أحد يصلي في بيته وسوقه بصلاة الإمام في المسجد وهو خلاف الكتاب والسنة، فاشترط اتحاد موقف الإمام والمأموم على ما فصل في الفروع؛ لأنه من مقاصد الاقتداء اجتماع جمع في مكان واحد عرفاً، كما عهد عليه الجماعات في العصور الخالية، ومبنى العبادات على رعاية الاتباع. وأما ثانيا فلأن المراد بالحجرة كما قالوه المحل الذي اتخذه عليه السلام في المسجد من حصير حين أراد الاعتكاف. ويؤيده الخبر الصحيح أنه عليه السلام اتخذ حجرة من حصير صلى ليالي فيها- انتهى. (رواه أبوداود) في أواخر أبواب الجمعة من طريق يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، وهو حديث صحيح سكت عنه أبوداود والمنذري، وقد أخرجه البخاري أيضاً بنحوه، كما تقدم.
1121- قوله: (ألا أحدثكم) يحتمل أن تكون ألا للتنبيه، وهو الظاهر. ويحتمل أن تكون الهمزة للاستفهام ولا للنفي. (قال) أي أبومالك. (أقام) وفي أبي داود: فأقام، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص391) أي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإقامة الصلاة أو أقامها بنفسه. (وصف الرجال) وفي أبوداود: فصف الرجال، وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول، أي صفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفاً مقدماً، يقال صففت القوم فاصطفوا. (وصف خلفهم) أي خلف الرجال. (الغلمان) الصبيان والولدان، زاد أحمد في روايته: وصف النساء خلف الولدان. (ثم صلى بهم) أي بالرجال والغلمان. (فذكر) أى وصف الراوي أي أبومالك (صلاته) أي كيفية صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا قول أبوداود. اختصر الحديث. وأخرجه أحمد في مسنده مطولاً (ج5 ص341، 342، 343، 344) . (ثم قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عطف على محذوف، أي قال أبومالك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيت وكيت، ثم قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا صلاة أمتي. (هكذا) أي مثل ما صليت لكم (صلاة قال عبد الأعلى) أي الراوي(4/42)
لا أحسبه إلا قال - أمتي)) . رواه أبوداود.
1122- (11) وعن قيس بن عباد، قال: ((بينا أنا في المسجد، في الصف المقدم، فجبذني رجل من خلفي جبذة، فنحانى، وقام مقامي، فوالله ما عقلت صلاتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن قرة عن خالد عن بديل بن مسيرة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك. وعبد الأعلى هذا هو عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري السامي بالمهملة من بني سامة بن لوي، أبومحمد، وكان يغضب إذا قيل له أبوهمام، ثقة. (لا أحبسه) أي شيخي قرة. (إلا قال أمتي) أي هكذا صلاة أمتي. والمعنى أنه ينبغي لهم أن يصلوا هكذا. وفي رواية البيهقي: ثم قال: هكذا صلاة، قال عبد الأعلى: لا أحبسه إلا قال: صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأحمد من طريق عبد الحميد بن بهرام الفزاري عن شهر بن حوشب: فلما قضى. (أى أبومالك) صلاته أقبل إلى قومه بوجهه فقال: احفظوا تكبيري، وتعلموا ركوعي وسجودي، فإنها صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كان يصلي لنا. والحديث يدل على ترتيب صفوف الرجال والصبيان والنساء، بأن تكون صفوف الرجال مقدمة، ثم صفوف الصبيان، ثم صفوف النساء. قال السبكى: هذا إذا كان الغلمان اثنين فصاعداً، فإن كان صبي واحد دخل مع الرجال ولا ينفرد خلف الصف. ويدل على ذلك حديث أنس المتقدم في الفصل الأول، فإن اليتيم لم يقف منفرداً بل صف مع أنس. وقال أحمد بن حنبل: يكره أن يقوم الصبي مع الناس في المسجد خلف الإمام إلا من قد احتلم وأنبت وبلغ خمس عشرة سنة. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا رأى صبياً في الصف أخرجه، وكذلك عن أبي وائل وزر بن حبيش. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري وأخرجه أحمد والبيهقي (ج3 ص97) وفي سنده عندهم جميعاً شهر بن حوشب، وفيه مقال.
1122- قوله: (عن قيس بن عباد) بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة الضبعي أبي عبد الله البصري، ثقة من كبار التابعين، مخضرم، مات بعد الثمانين، ووهم من عده في الصحابة، كذا في التقريب، قدم المدينة في خلافة عمر، وروى عنه وعن علي وأبي ابن كعب وغيرهم، كان من كبار الصالحين، وثقة ابن سعد والعجلي والنسائي وابن خراش، وذكره ابن مخنف عن شيوخه فيمن قتله الحجاج ممن خرج مع ابن الأشعث، وذكره ابن حبان في الثقات من التابعين. (بينا أنا في المسجد) النبوي. (في الصف المقدم، فجبذني) قال الطيبي: مقلوب جذبني، أي جرني. (فنحاني) بتشديد الحاء المهملة، أي بعدني وأخرني عن الصف المقدم. (وقام مقامي) أي مكاني. (فو الله ما عقلت صلاتي) أي ما دريت كيف أصلي وكم صليت لما فعل بي ما فعل، ولما حصل عندي بسبب تأخري عن المكان الفاضل مع سبقي إليه واستحقاقي له، فانتفاع العقل مسبب عما قبله، والقسم معترض.(4/43)
فلما انصرف. إذا هو أبي بن كعب. فقال: يا فتى! لا يسوءك الله، إن هذا عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا أن نلبه، ثم استقبل القبلة فقال: هلك أهل العقد ورب الكعبة، ثلاثاً، ثم قال: والله ما عليهم آسى، ولكن آسى على من أضلوا. قلت: يا أبا يعقوب! ما تعني بأهل العقد؟ قال: الأمراء)) . رواه النسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فلما انصرف) أي ذلك الرجل الذي جبذني. (إذا هو أبي بن كعب) من أكابر الصحابة (فقال) أي لي إذ فهم مني التغير بسبب ما فعله معي تطيباً لخاطري. (لا يسؤك الله) قال الطيبي: كان ظاهر لا يسؤك ما فعلت بك. ولما كان ذلك من أمر الله وأمر رسوله أسنده إلى الله مزيداً للتسلية- انتهى. والظاهر: أن معناه لا يحزنك الله بي وبسبب فعلي، من ساء الأمر فلاناً، أي أحزنه. ثم ذكر جملة مستأنفة مبينة لعلة ما فعل اعتذار إليه. (إن هذا) أي ما فعلت. (عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي وصية أو أمر منه يريد قوله: ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى. وفيه أن قيسًا لم يكن منهم، ولذلك نحاه. (إلينا أن نلبه) أي ومن يقوم مقامه من الأئمة. (ثم اسقبل) أي أبيّ. (هلك أهل العقد) بضم العين وفتح القاف يعني الأمراء، أي لأن عليهم رعاية أمور المسلمين دنياهم وأخراهم حتى رعاية صفوفهم في الصلاة، ورعاية الموقف فيها. قال الجزري في النهاية يعني أصحاب الولايات على الأمصار من عقد الألوية للأمراء، وروى العقدة يريد البيعة المعقودة للولاة. (ثلاثاً) أي قال مقوله ثلاثاً. (ما عليهم آسى) بمد الهمزة آخره ألف، أي ما أحزن من الأسى مفتوحاً ومقصوراً، وهو الحزن. (ولكن آسى على من أضلوا) قال الطيبي: أي لا أحزن على هؤلاء الجورة، بل أحزن على أتباعهم الذين أضلوهم. لعله قال ذلك تعريضًا بأمراء عهده. (قلت) هذا مقولة محمد بن عمر بن علي المقدمي شيخ النسائي. (يا با يعقوب) وفي بعض النسخ: يا أبا يعقوب بكتابة الهمزة موافقاً لما في النسائي. وهو كنية يوسف بن يعقوب السدوسي مولاهم السلعي البصري الضبعي، وثقه أحمد. وقال أبوحاتم: صدوق صالح الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة إحدى ومائتين. (قال الأمراء) بالنصب على تقدير أعنى، وبالرفع بتقدير "هم". قال ابن حجر: أي الأمراء على الناس لا سيما أهل الأمصار، سموا بذلك لجريان العادة بعقد الألوية لهم عند التولية، وفعل أبيّ هذا مؤيد بما روي عن أنس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا عنه، أخرجه أحمد وابن ماجه، وبما روي عن سمرة مرفوعاً: ليقم الأعراب خلف المهاجرين والأنصار ليقتدوا بهم في الصلاة، أخرجه الطبراني في الكبير من حديث الحسن عن سمرة. قال البيهقي: وفيه سعيد بن بشير، وقد اختلف في الاحتجاج به، وبما روي عن ابن عباس مرفوعاً: لا يتقدم في الصف الأول أعرابي ولا عجمي ولا غلام لم يحتلم، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. وفي هذه الأحاديث مشروعية تقدم أهل العلم والفضل ليأخذوا عن الإمام ويأخذ عنهم غيرهم؛ لأنهم أمس بضبط صفة الصلاة وحفظها ونقلها وتبليغها وتنبيه الإمام إذا احتيج إليه، والاستخلاف إذا احتيج إليه. (رواه النسائي) .(4/44)
(26) باب الإمامة
{الفصل الأول}
1123- (1) عن أبي مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله تعالى، فإن
كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص140) وابن خزيمة في صحيحه. ولفظ أحمد: قال قيس بن عباد: أتيت المدينة للقى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن فيهم رجل ألقاه أحب إلى من أبيّ، فأقيمت الصلاة فخرج عمر بن الخطاب مع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقمت في الصف الأول، فجاء رجل فنظر في وجوه القوم فعرفهم غيري، فنحاني وقام في مكاني، فما عقلت صلاتي، فلما صلى قال: يا بني لا يسؤك الله، فإني لم آتك الذي أتيتك بجهالة، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: كونوا في الصف الذي يليني، وإني نظرت في وجوه القوم فعرفتهم غيرك، ثم حدث فما رأيت الرجال متحت أعناقها إلى شيء متوجهاً إليه، قال فسمعته يقول: هلك أهل العقدة ورب الكعبة، إلا لا عليهم آسى، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين، وإذا هو أبيّ.
(باب الإمامة) أي أحكام الإمامة في الصلاة وصفة الأئمة، وهي مصدر أم القوم في صلاتهم.
1123- قوله: (يؤم القوم) صيغة خبر بمعنى الأمر، أي ليؤمهم. (أقرأهم لكتاب الله) اختلف في المراد منه: فقيل: أفقههم في القرآن وأعلمهم بمعانيه وأحكامه. وقيل: المراد أحسنهم وأجودهم قراءة للقرآن وإن كان أقلهم حفظاً. وقيل: هو على ظاهره، فالمراد به أكثرهم حفظاً للقرآن، ويدل على ذلك ما رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح عن عمرو بن سلمة: انطلقت مع أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام قومه، فكان فيما أوصانا: ليؤمكم أكثركم قرآنا، فكنت أكثرهم قرآناً، فقدموني. وأخرجه أيضاً البخاري، وسيأتي في الفصل الثالث. قال القاري: بعد ذكر قول ابن الملك، أي أحسنهم قراءة لكتاب الله، والأظهر أن معناه أكثرهم قراءة بمعنى أحفظهم للقرآن، كما ورد أكثرهم قرآناً- انتهى. قلت: هذا هو الراجح عندي لحديث عمرو بن سلمة، والروايات يفسر بعضها بعضاً. (فإن كانوا) أي القوم. (في القراءة) أي في العلم بها أو في حسنها أو مقدارها على اختلاف الأقوال (سواء) أي مستوين. قال الشوكاني: أي استووا في القدر المعتبر من القراءة إما في حسنها أو في كثرتها وقلتها. وفي رواية: لمسلم فإن كانت قراءتهم سواء. (فأعلمهم بالسنة) قال الطيبي: أراد بها الأحاديث. وقال السندي: حملوها على أحكام الصلاة. (فإن كانوا) أي بعد استوائهم في القراءة. (في السنة) أي بالعلم بها.(4/45)
قأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(سواء فأقدمهم هجرة) أي انتقالاً من مكة إلى المدينة قبل الفتح، فمن هاجر أولاً فشرفه أكثر ممن هاجر بعده، قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح} الآية [57: 10] ، قاله القاري. وقيل: هذا شامل لمن تقدم هجرة سواء ما كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - أو بعده كمن يهاجر من دار الكفار ... إلى دار الإسلام. وأما حديث لا هجرة بعد الفتح فالمراد من مكة إلى المدينة؛ لأنهما جميعاً صارا دار اسلام. قال الشوكاني: الهجرة المقدم بها في الإمامة لا تختص بالهجرة في عصره - صلى الله عليه وسلم - بل هي لا تنقطع إلى يوم القيامة، كما وردت بذلك الأحاديث، وقال به الجمهور. وأما حديث: لا هجرة بعد الفتح فالمراد بعد الهجرة من مكة إلى المدينة أو لا هجرة بعد الفتح. فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح. وهذا لا بد منه للجمع بين الأحاديث. (فإن كانوا) أي بعد استوائهم فيما سبق من القراءة والسنة. (في الهجرة سواء فأقدمهم سناً) وفي رواية أكبرهم سناً، أي يقدم في الإمامة من كبر سنه في الإسلام؛ لأن ذلك فضيلة يرجح بها. قلت: ويؤيده ما في رواية لمسلم: فأقدمهم سلماً، أي إسلاماً، يعني أن من تقدم اسلامه يقدم على من تأخر إسلامه. والحديث دليل لمن قال يقدم الأقرأ في الإمامة على الأعلم. وإليه ذهب أحمد وأبويوسف وإسحاق. وقال مالك والشافعي وأبوحنبفة: الأعلم مقدم على الأقرأ، قال العيني: اختلف العلماء فيمن هو أولى بالإمامة: فقالت طائفة: الأفقه، وبه قال أبوحنيفة ومالك والجمهور، وقال أبويوسف وأحمد واسحاق: الأقرأ، وهو قول ابن سيرين وبعض الشافعية، قال العيني: وقال أصحابنا: أولى الناس بالإمامة أعلمهم بالسنة أي بالفقه والأحكام الشرعية إذا كان يحسن من القراءة ما تجوز به الصلاة، وهو قول الجمهور، وإليه ذهب عطاء والأوزاعي ومالك والشافعي. وقال السيد محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الأحياء: قال أصحابنا يقدم الأعلم ثم الأقرأ، وهوقول أبي حنيفة ومحمد، واختاره صاحب الهداية وغيره من أصحاب المتون وعليه أكثر المشائخ. وقال أبويوسف: يقدم الأقرأ ثم الأعلم واختاره جمع من المشائخ، ومن الشافعية ابن المنذر، كما نقله النووى في المجموع- انتهى. واستدل الشافعي ومن وافقه بأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد تعرض في الصلاة أمور لا يقدر على مراعاتها إلا كامل الفقه، فيقدم الأفقه على الأقرأ. قال البغوي: لأن الفقيه يعلم ما يجب من القراءة في الصلاة؛ لأنه محصور، وما يقع فيها من الحوادث غير محصور، وقد يعرض للمصلي ما يفسد صلاته، وهو لا يعلم إذا لم يكن فقيهاً. وقال صاحب الهداية: القراءة يفتقر إليها لركن واحد، والعلم لسائر الأركان، أي فلأعلم أولى بالإمامة من الأقرأ. قلت: هذا كله تعليل في مقابلة النص، فلا يلتفت إليه، بل يرد على قائله كائناً من كان. واستدل لهم أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس، وسيأتي في باب المأموم من المتابعة(4/46)
فإن تقديمه - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته أبا بكر في الصلاة على غيره مع قوله: أقرؤكم أبيّ يدل على أنه يقدم الأعلم على الأقرأ لكون أبا بكر أعلمهم. قال ابن الهمام: أحسن ما يستدل به لمختار الجمهور حديث: مروا أبا بكر فليصل، وكان ثم من هو أقرأ منه لا أعلم. دليل الأول قوله عليه السلام: أقرؤكم أبيّ، ودليل الثاني قول أبي سعيد: كان أبوبكر أعلمنا، وهذا آخر الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون المعول عليه. وقال العيني: حديث أبي مسعود كان في أول الأمر، وحديث أبي بكر في آخر الأمر، وقد تفقهوا في القرآن، وكان أبوبكر أعلمهم وأفقههم في كل أمر- انتهى. قلت: قصة إمامة أبي بكر في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - واقعة عين غير قابلة للعموم بخلاف حديث أبي مسعود، فإنه تقرير قاعدة كلية تفيد التعميم، فلا يصح الاستدلال بقصة أبي بكر على تقديم الأعلم على الأقرأ يجعلها ناسخة لحديث أبي مسعود، قال صاحب البذل: قصة الإشارة إلى الاستخلاف ربما تكون مخصصة على أنها واقعة حال لا عموم لها، ومن ثم اختار جمع من المشائخ قول أبي يوسف- انتهى. وأجاب صاحب الهداية وغيره عن حديث أبي مسعود بأنه خرج على ما كان عليه حال الصحابة من أن أقرأهم كان أعلمهم"؛ لأنهم كانوا في ذلك الوقت يتلقونه بأحكامه، فقدم في الحديث، ولا كذلك في زماننا، فقدمنا الأعلم. قال الشافعي: المخاطب بذلك الذين كانوا في عصره، كان أقرأهم أفقههم، فإنهم كانوا يسلمون كباراً، ويتفقهون قبل أن يقرأوا، فلا يوجد قارىء منهم إلا وهو فقيه، وقد يوجد الفقيه، وليس بقارىء. ورد هذا الجواب بأنه لو كان المراد بالأقرأ في قوله: يؤم القوم أقرأهم هو الأعلم لكان يلزم تكرار الأعلم في الحديث، ويكون التقدير يؤم القوم أعلمهم، فإن تساووا فأعلمهم. وقال الأمير اليماني: ولا يخفى أنه يبعد هذا الجواب قوله: فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإنه دليل على تقديم الأقرأ مطلقاً. والأقرأ على ما فسروه به هو الأعلم بالسنة، فلو أريد به ذلك لكان القسمان قسماً واحداً. وقال الزبيدي: وأما تأويل المخالف للنص أي لحديث أبي مسعود بأن الأقرأ في ذلك الزمان كان الأفقه، فقد رد هذا التأويل قوله عليه السلام: فأعلمهم بالسنة، ولكن قد يجاب عنه بأن المراد بالأقرأ في الخبر الأفقه في القرآن فقد استووا في فقهه، فإذا زاد أحدهم بفقه السنة فهو أحق، فلا دلالة في الخبر على تقديم الأقرأ مطلقاً، بل على تقديم تقديم الأقرأ الأفقه في القرآن على من دونه، ولا نزاع فيه. قال العيني: المراد من قوله: يؤم القوم أقرأهم أي أعلمهم، يعني أعلمهم بكتاب الله دون السنة، ومن قوله: أعلمهم بالسنة أعلمهم بأحكام الكتاب والسنة جميعاً، فكان الأعلم الثاني غير الأعلم الأول- انتهى. قلت: قد سلف منا أن الراجح في المراد من قوله: أقرأهم هو الأكثر حفظا للقرآن وإن حمله على الأفقه في القرآن والأعلم بأحكامه ومعانيه خلاف الظاهر فلا يلتفت إليه. وأما حمل الحديث على الصحابة خاصة فهو ادعاء محض على أنه يلزم من هذا الجواب أن من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنه أقرأ من أبي بكر كان أفقه من أبي بكر، فيفسد الاحتجاج بأن تقديم أبي بكر كان لأنه الأفقه.(4/47)
ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال السندي: الحديث يفيد تقدم الأقرأ وغالب الفقهاء على تقديم الأعلم، ولهم عن هذا الحديث جوابان: النسخ بإمامة أبي بكر مع أن أقرأهم أبىّ، وكان أبوبكر أعلمهم، كما قال أبوسعيد، ودعوى أن الحكم مخصوص بالصحابة، وكان أقرأهم أعلمهم لكونهم يأخذون القآن بالمعاني، وبين الجوابين تناقض لا يخفى، ولفظ الحديث يفيد عموم الحكم- انتهى. وقد ظهر بهذا التفصيل أن القول الراجح المعول عليه هو تقديم الأقرأ على الأعلم وهذا، إنما هو حيث يكون الأقرأ عارفاً بما يتعين معرفته من أحوال الصلاة، فأما إذا كان جاهلاً بذلك فلا يقدم اتفاقا. قال الزبيدي: والذي ذهب إليه أبويوسف من تقديم الأقرأ على الأعلم رواية عن أبي حنيفة، ودليله قوي من حيث النص، فإنه فرق بين الفقيه والقاري، وأعطى الإمامة للقاري ما لم يتساويا في القراءة فإن تساويا لم يكن أحدهما بأولى من الآخر فوجب تقديم الأعلم بالسنة وهو الأفقه- انتهى. (ولا يؤمن الرجل الرجل) برفع الأول ونصب الثاني. (في سلطانه) أي في محل سلطانه، وهو موضع يملكه الرجل أو له فيه تسلط بالتصرف كصاحب المجلس وإمام المسجد، فإنه أحق من غيره، وإن كان أفقه، لئلا يؤدي ذلك إلى التباغض والخلاف الذي شرع الاجتماع لرفعه. قال الطيبي: أي لا يؤم الرجل الرجل في مظهره سلطنته ومحل ولايته أو فيما يملكه أو في محل يكون في حكمه. ويعضد هذا التأويل الرواية الأخرى في أهله. وتحريره أن الجماعة شرعت لاجتماع المؤمنين على الطاعة وتألفهم وتوادهم، فإذا أم الرجل الرجل في سلطانه أفضى ذلك إلى توهين أمر السلطنة وخلع ربقة الطاعة، وكذلك إذا أمّه في أهله أدى ذلك إلى التباغض والتقاطع وظهور الخلاف الذي شرع لرفعه الاجتماع، فلا يتقدم الرجل على ذي السلطنة لاسيما في الأعياد والجمعات، وعلى إمام الحي ورب البيت إلا بالإذن- انتهى. وقال النووي: معناه أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره. قال ابن رسلان: لأنه موضع سلطنته- انتهى. قال الشوكاني: والظاهر أن المراد به السلطان الذي إليه ولاية أمور الناس، لا صاحب البيت ونحوه. ويدل على ذلك ما في رواية أبي داود بلفظ: ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه. وظاهره أن السلطان مقدم على غيره وإن كان أكثر منه قرآناً وفقهاً وورعاً وفضلاً، فيكون كالمخصص لما قبله، يعني أن أول الحديث محمول على من عدا الإمام الأعظم ومن يجري مجراه، وقد ورد في صاحب البيت حديث بخصوصه بأنه الأحق، فقد أخرج الطبراني من حديث أبي مسعود قال من السنة أن يتقدم صاحب البيت. قال الحافظ: رجاله ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرج البزار والطبراني في الأوسط والكبير من حديث عبد الله بن حنطلة مرفوعا: الرجل أحق أن يؤم في بيته. قال الهيثمي: فيه إسحاق بن يحيى بن طلحة، ضعفه أحمد وابن معين والبخاري، ووثقه يعقوب بن شيبة وابن حبان. قال أصحاب الشافعي: ويتقدم السلطان أو نائبه على صاحب البيت وإمام المسجد وغيرهما؛ لأن ولايته وسلطنته عامة، قالوا: ويستحب لصاحب البيت أن يأذن لمن هو أفضل(4/48)
ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)) . رواه مسلم. وفي رواية له: ((ولا يؤمن الرجل الرجل في أهله)) .
1124- (2) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منه. (ولا يقعد) بالجزم. وقيل: بالرفع أي الرجل. (في بيته) أي بيت الرجل الآخر. (على تكرمته) بفتح التاء وكسر الراء، مصدر كرم تكريماً، أطلق مجازاً على ما يعد للرجل إكراماً له في منزله من فراش وسجادة ونحوهما. قال في النهاية: هو الموضع الخاص لجلوس الرجل من فراش أو سرير مما يعد لإكرامه، وهي تفعله من الكرامة. (إلا بإذنه) قال ابن الملك: متعلق بجميع ما تقدم: قلت: ورد ذلك في بعض روايات الحديث نصاً، فقد قال المجد بن تيمية في المنتقى: ورواه سعيد بن منصور، لكن قال فيه: لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه إلا بإذنه، ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه- انتهى. فالإذن في الكل، وبه قال أحمد والجمهور، وهو الحق. وقيل: يتعلق قوله: إلا بإذنه بقوله: لا يقعد فقط، وبه قال إسحاق. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً، أحمد (ج4 ص118، 121وج5 ص272) والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وأبوداود الطيالسي وابن الجارود والبيهقي (ج3 ص90، 119، 125) . (وفي رواية له: ولا يؤمن الرجل الرجل في أهله) وفي بعض النسخ من صحيح مسلم: ولا تؤمن الرجل في أهله، أي بصيغة الخطاب. ويؤيده ما بعده ولا في سلطانه ولا تجلس على تكرمته في بيته إلا بإذن لك أو بإذنه. فائدة: قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة: سبب تقديم الأقرأ أنه - صلى الله عليه وسلم - حد للعلم حداً معلوماً، كما بينا، وكان أول ما هناك كتاب الله؛ لأنه أصل العلم، وأيضاً فإنه من شعائر الله، فوجب أن يقدم صاحبه. وينوه بشأنه ليكون ذلك داعياً إلى التنافس فيه، وليس كما يظن أن السبب احتياج المصلى إلى القراءة فقط، ولكن الأصل حملهم على المنافسة فيها، وإنما تدرك الفضائل بالنافسة، وسبب خصوص الصلاة باعتبار المنافسة احتياجها إلى القراءة، فليتدبر، ثم من بعدها معرفة السنة؛ لأنها تلو الكتاب، وبها قيام الملة، وهي ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم - في قومه، ثم بعده اعتبرت الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام عظم أمر الهجرة ورغب فيها ونوه بشأنها، وهذا من تمام الترغيب والتنوية، ثم زيادة السن إذ السنة الفاشية في الملل جميعها توقير الكبير، ولأنه أكثر تجربة وأعظم حلماً، وإنما نهى عن التقدم على ذي سلطان في سلطانه؛ لأنه يشق عليه ويقدح في سلطانه فشرع ذلك إبقاء عليه- انتهى.
1124- قوله: (إذا كانوا) أي القوم. (ثلاثة) أي واثنين، كما أفاده الخبر السابق أن الجماعة تحصل بهما، قاله القاري. وقال الشوكاني: مفهوم العدد هنا غير معتبر لما في حديث مالك بن الحويرث: إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما. أخرجه أحمد وغيره من أصحاب الكتب الستة، وقد تقدم. (فليؤم أحدهم) إشارة(4/49)
وأحقهم بالإمامة أقرأهم)) . رواه مسلم. وذكر حديث مالك ابن الحويرث في باب بعد باب فضل الأذان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى جواز إمامة المفضول. (وأحقهم بالإمامة أقرأهم) أي أكثرهم. حفظاً للقرآن، فإن إمامته أفضل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص89، 119) . وفي الباب عن أنس عند أحمد (ج3 ص163) بلفظ: يؤم القوم أقرؤهم للقرآن. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وعن أبي هريرة عند البزار بنحوه. قال الهيثمي: في سنده الحسن بن علي النوفلي الهاشمي، وهوضعيف، وقد حسنه البزار، وعن ابن عمر عند الطبراني بلفظ: من أم قوماً وفيهم من هو أقرأ لكتاب الله منه، لم يزل في سفال إلى يوم القيامة. قال الهيثمي: فيه الهيثم بن عقاب. قال الأزدى: لا يعرف. وذكره ابن حبان في الثقات. (وذكر) بصيغة المجهول. (حديث مالك بن الحويرث) أي في المشكاة، وكذا في المصابيح. والحديث هو قوله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي. وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم يعني سناً، وذلك لاستوائهم في وجوه التقديم من القراءة والعلم، ففي رواية لآبي داود: وكنا يومئذٍ متقاربين في العلم. (في باب بعد باب فضل الأذان) أي فراجعه هناك. والمقصود أن حديث مالك بن الحويرث هذا ذكره البغوي أولاً في باب بعد باب فضل الأذان، وذكره صاحب المشكاة أيضاً هناك تبعا للبغوي لكون صدره في الآذان، ثم ذكره هاهنا في آخر الفصل الأول؛ لكون عجز الحديث متعلقاً بباب الإمامة، ولما كان في ذكره هنا تكرار حذفه صاحب المشكاة، وأحال على الباب المذكور. وقال القاري: حديث مالك بن الحويرث فيه تفضيل الإمامة، فهو بباب الإمامة أولى، فلا معنى لتغيير التصنيف مع وجود الوجه الأدنى فضلاً عن الأعلى، ثم يحتاج إلى الاعتذار المشير إلى الاعتراض، لا يقال صدر الحديث في الأذان؛ لأن تقديمه لتقدمه في الوجود ومنه تقدم بلال على النبي - صلى الله عليه وسلم - في دخول الجنة تقدم الخادم على المخدوم. ففيه إيماء إلى فضيلة الإمامة، وكذلك الحديث الآتي قريباً فالحاصل أن حديث مالك ابن الحويرث كان في المصابيح هنا في آخر الفصل الأول، ونقله صاحب المشكاة فذكره في باب بعد باب فضل الآذان- انتهى. قلت: وقد وهم القاري في فهم غرض صاحب المشكاة كما لا يخفى، ولو راجع المصابيح لم يقع في هذا الوهم، وقد وهم أيضاً في تعيين الحديث حيث قال: والحديث هو: قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وابن عم لي، فقال إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما مع أنه غير مذكور في المصابيح في باب الإمامة. واعلم أن هذا كله مبني على أن الحديث المذكور هنا في المصابيح بغير تسمية الصحابي لمالك بن الحويرث كما قال المصنف. وعندي فيه كلام؛ لأن الحديث الذي أورده البغوي هنا هو بلفظ: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً. وحديث مالك بن الحويرث الذي ذكرناه إنما هو بلفظ: وليؤمكم أكبركم. وهذا هو الذي ذكره البغوي في(4/50)
{الفصل الثاني}
1125- (3) عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم قراؤكم)) . رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصابيح والمصنف في المشكاة في باب هو بعد باب فضل الآذان. ولا يخفى ما بين اللفظين من الفرق البين. والظاهر أن الحديث المذكور في المصابيح هنا، أي في باب الإمامة بلفظ: ليؤمكم أكثركم قرآناً، إنما هو لعمرو بن سلمة الجرمي، رواه البخاري في حديث طويل في غزوة الفتح في باب بعد باب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة. وذكره البغوي ههنا لإثبات جواز إمامة الصبي المميز. وقد ذكره المصنف في الفصل الثالث مطولاً، كما سيأتي.
1125- قوله: (ليؤذن لكم) أمر استحباب. (خياركم) أي الذين يحتاطون في أمر الأوقات، وفي أمر الحرم والعورات، فإنهم يشرفون علىالمنارات العالية، قاله السندي. وقال القاري: أي من هو أكثر صلاحاً ليحفظ نظره عن العورات، ويبالغ في محافظة الأوقات. قال الجوهري: الخيار خلاف الأشرار، والخيار الاسم من الاختيار، وإنما كانوا خياراً لما ورد أنهم أمناء؛ لأن أمر الصائم من الإفطار والأكل والشرب والمباشرة منوط إليهم، وكذا أمر المصلي لحفظ أوقات الصلاة يتعلق بهم، فهم بهذا الاعتبار مختارون، ذكره الطيبي. (وليؤمكم) بسكون اللام وتكسر. (قراؤكم) بضم القاف وتشديد الراء، جمع قاري. كذا وقع في جميع النسخ، وهكذا في المصابيح وسنن أبي داود وابن ماجه. ونقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص377) عن أبي داود بلفظ: وليؤمكم أقرؤكم، وكذلك رواه البيهقي (ج1 ص426) . وفيه دليل على تقديم الأقرأ في الإمامة على الأفقه. قال السندي: ظاهر الحديث أن الأقرأ أحق بالإمامة من الأعلم. وقال القاري: وكلما يكون أقرأ فهو أفضل إذا كان عالماً بمسائل الصلاة، فإن أفضل الأذكار وأطولها وأصعبها في الصلاة إنما هو القراءة. وفيه تعظيم لكلام الله، وتقديم قارئه، وإشارة إلى علو مرتبته في الدارين كما كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتقديم الأقرأ.. في الدفن- انتهى. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والبيهقي، وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: في سنده الحسين بن عيسى الحنفي الكوفي، وقد تكلم فيه أبوحاتم وأبوزرعة الرازيان، وقد ذكر الدارقطني أن حسين بن عيسى تفرد بهذا الحديث عن الحكم بن أبان- انتهى. قلت: الحسين بن عيسى قال البخاري: مجهول، وحديثه منكر. وقال أبوزرعة: منكر الحديث. وقال أبوحاتم: ليس بالقوي، روى عن الحكم بن أبان أحاديث منكرة. وقال الآجري عن أبي داود: بلغني أنه ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.(4/51)
1126 – (4) وعن أبي عطية العقيلي، قال: كان مالك بن الحويرث يأتينا إلى مصلانا يتحدث، فحضرت الصلاة يوماً، قال أبي عطية: فقلنا له: تقدم فصله. قال لنا: قدموا رجلاً منكم يصلي بكم، وسأحدثكم لم لا أصلي بكم؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من زار قوماً فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1126- قوله: (عن أبي عطية) بفتح العين وكسر الطاء وتشديد التحتية. (العقيلي) بضم العين المهملة، أي مولاهم، فهي نسبة الولاء كما يدل عليه بعض روايات هذا الحديث. ففي رواية لأحمد (ج3 ص437وج5 ص53) عن بديل بن ميسرة العقيلي قال: حدثني أبوعطية مولى منا، وكذا عند أبي داود. وللنسائي وأحمد في رواية (ج5 ص53) مولى لنا. قال الذهبي في الميزان: أبوعطية عن مالك بن الحويرث، لا يدرى من هو؟، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج12.ص170) : أبوعطية مولى بني عقيل، روى عن مالك بن الحويرث حديث: من زار قوماً الخ، وعنه بديل بن ميسرة، قال أبوحاتم: لا يعرف ولا يسمى. وقال ابن المديني: لا يعرفونه. وقال أبوالحسن القطان: مجهول. وصحح ابن خزيمة حديثه. وقال في التقريب: مقبول. (يأتينا إلى مصلانا) أي مسجدنا في البصرة. (يتحدث) وفي بعض النسخ: نتحدث، أي بالنون في أوله بصيغة المتكلم. (تقدم) أي للإمامة. (فصله) الهاء للسكتة. (يصلي بكم) أي يؤمكم في الصلاة. (وسأحدثكم لم لا أصلي بكم) أي مع أني أحق بالإمامة منكم، وذلك لكونه صحابياً عالماً. (من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم) فإنه أحق من الزائر. وامتنع مالك من الإمامة مع وجود الإذن منهم عملاً بظاهر الحديث، ثم أن حدثهم بعد الصلاة. فالسين للاستقبال، وإلا فلمجرد التأكيد. والحديث دليل على أن المزور أحق بالإمامة من الزوائر وإن كان أقرأ أو أعلم من المزور. قال الترمذي بعد رواية الحديث: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وقالوا: صاحب المنزل أحق بالإمامة من الزائر. وقال بعض أهل العلم: إذا أذن له فلا بأس أن يصلي به. وقال إسحاق بحديث مالك بن الحويرث: وشدد في أن لا يصلي أحد لصاحب المنزل وإن أذن له صاحب المنزل، قال وكذلك في المسجد لا يصلي بهم في المسجد إذا زارهم، يقول: ليصل بهم رجل منهم –انتهى. كلام الترمذي. وقد حكى المجد بن تيمية في المنتقى بعد ذكر الحديث عن أكثر أهل العلم أنه لا بأس بإمامة الزائر بإذن رب المكان، واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي مسعود. (يعني المتقدم) إلا بإذنه، قال ويعضده عموم ما روي ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة عبد أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أم قوماً، وهم به راضون) - الحديث. رواه الترمذي، وعن أبي هريرة عن(4/52)
رواه أبوداود والترمذي، والنسائي إلا أنه اقتصر على لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
1127 – (5) وعن أنس، قال: ((استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم يؤم الناس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤم قوماً إلا بإذنهم) –الحديث. رواه أبوداود- انتهى. قلت: الراجح عندنا هو قول من قال أن المزور إذا أذن للزائر فلا بأس أن يصلي به. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مالك بن الحويرث: من زار قوماً فلا يؤمهم، أي إلا أن يأذنوا له. يدل عليه حديث أبي مسعود عند سعيد بن منصور، وقد تقدم. ويعضد ما ذكرنا من التقييد بالإذن عموم قوله في حديث ابن عمر: وهم به راضون، وقوله في حديث أبي هريرة: إلا بإذنهم، كما قال ابن تيمية، فإنه يقتضي جواز إمامة الزائر عند رضى المأزور وإذنه، وقيل: حديث مالك بن الحويرث محمول على من عدا الإمام الأعظم فإذا حضر الإمام الأعظم أو من يجري مجراه بمكان مملوك لا يتقدم عليه مالك الدار، ولكن ينبغي للمالك أن يأذن له لجمع بين الحقين حق الإمام في التقدم وحق المالك في منع التصرف بغير إذنه، (رواه أبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) وقال: حديث حسن. وفي بعض نسخ الترمذي: حديث حسن صحيح. ويؤيد الأول ما نقله المنذري والشوكاني عن الترمذي من التحسين فقط، ويفهم ذلك من قول الحافظ في التهذيب في ترجمة أبي عطية أن ابن خزيمة صحح حديثه، فلو كان التصحيح عنده في نسخة الترمذي لأشار إليه، وإنما حسن الترمذي هذا الحديث، مع أن في سنده أبا عطية، وهو مجهول، كما قال الذهبي وأبوحاتم وابن المديني وأبوالحسن القطان؛ لأن له شواهد، والترمذي قد يحسن الحديث الضعيف لشواهده. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي بعد قول أبي حاتم وغيره: ولكن تصحيح ابن خزيمة حديثه، وتحسين الترمذي أو تصحيحه إياه يجعله من المستورين المقبولي الرواية، ولحديثه شواهد. يشير إلى ما تقدم من حديث أبي مسعود عند أبي داود بلفظ: ولا يؤم الرجل في بيته، ومن حديث أبي مسعود عند الطبراني، وحديث عبد الله بن حنطلة عند البزار والطبراني، وقد ذكرنا لفظهما في شرح حديث أبي مسعود. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص436- 437وج5 ص53) والبيهقي (ج3 ص126) . (إلا أنه) أي النسائي. (اقتصر على لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي قوله، وهو: إذا زار أحدكم قوماً فلا يصلين بهم، ولم يذكر صدر الحديث. واللفظ المذكور في الكتاب لأبي داود إلا قوله: يتحدث فحضرت الصلاة يوماً، فإنه للترمذي، ولفظ أبي داود: إلى مصلانا هذا فأقيمت الصلاة.
1127 – قوله: (استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم) أي أقامه مقام نفسه في مسجد المدينة حين خرج إلى الغزو. (يؤم الناس) قال القاري: هو بيان للاستخلاف. وقال ابن حجر: أي استخلافاً عاماً على المدينة مرتين ما روي، وخاصاً بكونه يؤم الناس. وقال الأمير اليماني: المراد استخلافه في الصلاة وغيرها، وقد(4/53)
وهو أعمى)) . رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه الطبراني بلفظ: في الصلاة وغيرها، وإسناده حسن. وقد عدت مرات الاستخلاف له، فبلغت ثلاث عشرة مرات، ذكره في الخلاصة. (وهو أعمى) قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات: فيه دليل على جواز إمامة الأعمى من غير كراهة في ذلك. وقال ابن حجر: فيه جواز إمامة الأعمى. ولا نزاع فيه، وإنما النزاع في أنه أولى من البصير أو عكسه. قال الشوكاني: قد صرح أبوإسحاق المروزي والغزالى بأن إمامة الأعمى أفضل من إمامة البصير؛ لأنه أكثر خشوع من البصير لما في البصير من شغل القلب بالمبصرات. ورجح البعض أن إمامة البصير أولى؛ لأنه أشد توقياً للنجاسة. والذي فهمه الماوردي من نص الشافعي أن إمامة الأعمى والبصير سواء في عدم الكراهية؛ لأن في كل منهما فضيلة غير أن إمامة البصير أفضل؛ لأن أكثر من جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً البصراء. وأما استنابته - صلى الله عليه وسلم - لابن أم مكتوم في غزواته فلأنه كان لا يتخلف عن الغزو من المؤمنين إلا معذور. فلعله لم يكن في البصراء المتخلفين من يقوم مقامه، أو لم يتفرغ لذلك أو استخلفه لبيان الجواز. وأما إمامة عتبان بن مالك لقومه، أي مع كونه ضرير البصر فلعله أيضاً لم يكن في قومه من هو في مثل حاله من البصراء – انتهى كلام الشوكاني. وقال في البدائع بعد التصريح بجواز إمامة الأعمى ما لفظه: والأعمى يوجهه غيره إلى القبلة، فيصير في أمر القبلة مقتدياً بغيره، وربما يميل في خلال الصلاة عن القبلة، ولأنه لا يمكنه التوقي عن النجاسة، فكان البصير أولى إلا إذا كان في الفضل لا يوازيه في مسجده غيره، فحينئذٍ يكون أولى، ولذا استخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم- انتهى. وقال ابن الملك: كراهة إمامة الأعمى إنما هي إذا كان القوم سليم أعلم منه أو مساو له علماً- انتهى: قال التوربشتي: استخلف ابن أم مكتوم على الإمامة حين خرج إلى تبوك مع أن علياً رضي الله عنه فيها لئلا يشغله شاغل عن القيام بحفظ من يستخلفه من الأهل حذراً أن ينالهم عدو بمكروه. وقال ابن حجر. يمكن أن يوجه بأنه لو استخلفه في ذلك أيضاً لوجد الطاعن في خلافة الصديق سبيلاً وإن ضعف. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج3 ص88) وسكت عنه أبوداود والمنذري، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وأبويعلى والطبراني في الأوسط عن عائشة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص65) بعد عزوه إلى أبي يعلى والطبراني: ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. وأخرجه أيضاً البزار والطبراني في الأوسط عن ابن عباس. قال الهيثمي: وفيه عفير بن معدان، وهو ضعيف، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن بحينة. قال الهيثمي: وفيه الواقدي، وهو ضعيف. وفي الباب عن عبد الله بن عمير إمام بن خطمة أنه كان إماماً لبني ختمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أعمى. قال الشوكاني: أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده وابن أبي خثيمة. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح.(4/54)
1128- (6) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا تجاوز صلاتهم أذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1128- قوله: (ثلاثة) أي أشخاص. (لا تجاوز صلاتهم آذانهم) جمع الأذن الجارحة، أي لا ترتفع إلى السماء، كما في حديث ابن عباس الآتي، وهو كناية عن عدم القبول، كما هو مصرح به في الحديث الذي بعده، وفي حديث ابن عباس عند ابن حبان. قال التوربشتي: أي لا ترفع إلى الله تعالى رفع العمل الصالح، بل أدنى شيء من الرفع. وخص الآذان بالذكر لما يقع فيها من التلاوة والدعاء، ولا تصل إلى الله تعالى قبولاً وإجابة. وهذا مثل قوله عليه السلام في المارقة: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، عبر عن عدم القبول بعدم مجاوزة الآذان- انتهى. وقال في اللمعات: خص الآذان بالذكر لقربها؛ لأنها يقع فيها صوت التلاوة، وإن غاية حظهم منها سماع ذكرها. (العبد الآبق) أي أولهم أو منهم أو أحدهم. (حتى يرجع) أي من إباقة إلى سيده. وفي معناه الجارية الآبقة. وفي صحيح مسلم، وسنن أبي داود والنسائي من حديث جرير بن عبد الله البجلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة. وهذا يؤيد ما تقدم من أن المراد بعدم المجاوزة عدم قبول الصلاة و (إمرأة باتت وزوجها عليها ساخط) من السخط وهو بالضم وكعنق وجبل ومقعد ضد الرضا، وقد سخط كفرح، وتسخط وأسخطه أغضبه، قال القاري: هذا إذا كان السخط لسوء خلقها أو سوء أدبها أو قلة طاعتها. أما إن كان سخط زوجها من غير جرم فلا إثم عليها. قال الشوكاني في الحديث: إن اغضاب المرأة لزوجها حتى يبيت ساخطاً عليها من الكبائر. وهذا إذا كان غضبها عليها بحق. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا الرجل إمرأته إلى فراشه فلم تأته فبات غضباناً عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح. وسيأتي في عشرة النساء. (وإمام قوم وهم له كارهون) أي لأمر مذموم في الشرع، وإن كرهوا لخلاف ذلك فلا كراهة. قال ابن الملك: أي كارهون لبدعته أو فسقه أو جهله. أما إذا كان بينه وبينهم كراهة أو عداوة بسبب أمر دنيوى فلا يكون له هذا الحكم، والحديث يدل على كراهة أن يكون الرجل إماماً لقوم يكرهونه. قال الشوكاني: وقد ذهب قوم إلى التحريم، وإلى الكراهة آخرون. ويدل على التحريم نفى قبول الصلاة، وإنها لا تجاوز أذنه، ولعن الفاعل لذلك، كما في حديث أنس عند الترمذي: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة: رجل أم قوماً وهم له كارهون- الحديث، قال: وقد قيد ذلك جماعة عن أهل العلم بالكراهة الدينية لسبب شرعي. وأما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها، وقيدوه أيضاً بأن يكون الكارهون أكثر المأمومين، ولا اعتبار بكراهة الواحد والاثنين وثلاثة إذا كان المؤتمون جمعاً كثيراً إلا إذا كانوا اثنين أو ثلاثة، فإن كراهتهم أو كراهة أكثرهم معتبرة، قال: والاعتبار بكراهة أهل الدين دون كراهته غيرهم، حتى قال الغزالي في الإحياء: لو كان الأقل من أهل الدين يكرهونه فالنظر إليهم،(4/55)
رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.
1129- (7) وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا تقبل منهم صلاتهم: من تقدم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال: وحمل الشافعي الحديث على إمام غير الوالي؛ لأن الغالب كراهة ولاة الأمر، قال: وظاهر الحديث عدم الفرق- انتهى. (رواه الترمذي) هذا الحديث مما انفرد به الترمذي، كما قال الشوكاني. (وقال: هذا حديث غريب) كذا في جميع النسخ. والذي في الترمذي حديث حسن غريب. وهو الذي ذكره المنذري في الترغيب والشوكاني في النيل. والحديث قد ضعفه البيهقي (ج3 ص128) . قال النووي في الخلاصة: والأرجح هنا قول الترمذي- انتهى. وفي سنده أبوغالب الراسبي البصري، ضعفه النسائي وابن سعد. وقال أبوحاتم: ليس بالقوي. ووثقه موسى بن هارون الحمال والدارقطني. وقال ابن معين: صالح الحديث. وقال ابن عدي: لم أر في أحاديثه منكراً، وأرجوا أنه لا بأس به. وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحح بعضها. كذا في تهذيب التهذيب- وقال في التقريب: صدوق يخطئ- انتهى. فالظاهر أن حديثه لا ينحط عن درجة الحسن، والله أعلم. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة. ذكرها الشوكاني في النيل مع الكلام عليها.
1129- قوله: (وعن ابن عمر) كذا في جميع النسخ الحاضرة الموجودة عندنا. والمراد به عبد الله بن عمر بن الخطاب. والذي في سنن أبي داود، وابن ماجه عبد الله بن عمرو، أي ابن العاص. وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى نقلاً عن أبي داود وابن ماجه. وكذا وقع في معالم السنن (ج1 ص169) شرح سنن أبي داود للخطابي، والسنن الكبرى للبيهقي (ج3 ص128) وهذا هو الصواب، فإن الحديث من رواية عمران بن عبد المعافري التابعي، وهو يرويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص لا ابن عمر. قال الذهبي في الميزان (ج2 ص288) في ترجمة عمران المذكور: ضعفه يحيى بن معين، يحدث عنه الافريقي عن عبد الله بن عمرو: ثلاثة لا يقبل منهم صلاة- الحديث. وقال الحافظ في التهذيب (ج8 ص134) : روى عن عبد الله بن عمرو وعنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقي. وكذا قال الخزرجي في الخلاصة (ص296) . والحديث ذكره النابلسي في ذخائر المواريث في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص، وكذا نسبه إليه السيوطي في الجامع الصغير، والعزيزي في السراج المنير. ووقع في تيسير الوصول (ج2 ص268) وجامع الأصول (ج6 ص379) وعن ابن عمرو بن العاص. فالظاهر أن ما وقع في نسخ المشكاة من تصرف النساخ والله أعلم. (لا تقبل منهم صلاتهم) وفي أبي داود: لا يقبل الله منهم صلاة، ولفظ ابن ماجه: لا تقبل منهم صلاة، قالوا القبول أخص من الإجزاء، أي فلا يلزم من عدمه عدم الإجزاء، وهو كونه سبباً لسقوط التكليف، والقبول كونه سبباً للثواب. والحاصل أن المراد بنفي القبول نفى الثواب لا نفى الصحة والإجزاء. (من تقدم) خبر(4/56)
قوما وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دباراً- والدبار: أن يأتيها بعد أن تفوته-
ورجل اعتبد محررة)) رواه أبوداود، وابن ماجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مبتدأ محذوف أي أحدهم. (قوماً) للإمامة. (وهم له كارهون) في شرح السنة. قيل: المراد به إمام ظالم. وأما من أقام السنة فاللوم على من كرهه. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص170) : يشبه أن يكون هذا الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة، فيقتحم فيها ويتغلب عليها حتى يكره الناس إمامته. فأما إن كان مستحقاً للإمامة فاللوم على من كرهه دونه- انتهى. (ورجل) أي وثانيهم رجل. (أتى الصلاة) أي حضرها. (دباراً) بكسر الدال. وانتصابه على المصدر، أي إتيان دبار، يعني صلاها حين أدبار وقتها بحيث لا يسع الوقت جميعها، وكان ذلك عادة له قال في الفائق: قبال الشيء ودباره أوله وآخره، يقال: فلان لا يدري قبال الأمر من دباره، أي ما أوله من آخره، وفي الغربيين عن ابن الأعرابي: الدبار جمع دَبَر ودُبُر وهو آخر أوقات الشيء، أي يأتي الصلاة بعد ما يفوت الوقت. قال ابن حجر: بأن لا يدركها كاملاً فيه. وقال الجزري: دبار جمع دَبَر أو دُبُر، وهو آخر أوقات الشيء. وقيل: أراد بعد ما يفوت الوقت، وقد ذكر في الحديث. (والدبار أن يأتيها) أي الصلاة من غير عذر. (بعد أن تفوته) أي الصلاة جماعة أو أداء، قال الخطابي: هو أن يكون قد اتخذه عادة حتى يكون حضوره الصلاة بعد فراغ الناس وانصرافهم عنها- انتهى. وهذا التفسير ظاهر أنه من الراوي. (ورجل اعتبد) أي ثالثهم رجل اتخذ عبداً. (محررة) أي نسمة أو رقبة أو نفساً محررة. قال الطيبي: يقال أعبدته واعتبدته إذا اتخذته عبداً وهو حر، وذلك بأن يأخذ حراً، فيدعيه عبدا ويتملكه أو يعتق عبده ثم يستخدمه كرهاً أو يكتم عتقه استدامة لخدمته ومنافعه. قال ابن الملك: تأنيث محررة بالحمل على النسمة لتناول العبيد والإماء. وقيل: خص المحررة لضعفها وعجزها بخلاف المحرر لقوته بدفعه. وقال في المفاتيح شرح المصابيح: في بعض النسخ أي للمصابيح محررة بالضمير المجرور. قلت: وكذا وقع في بعض نسخ أبي داود، كما صرح به في عون المعبود، وكذا ذكره المجد بن تيمية في المنتقى. وفي الترغيب للمنذري وسنن ابن ماجه: اعتبد محرراً. قال الشوكاني: أي اتخذ معتقه عبداً بعد إعتاقه. قال الخطابي: اعتباد المحرر يكون من وجهين: أحدهما أن يعتقه ثم يكتم عتقه أو ينكره، وهو شر الأمرين. والوجه الآخر أن يستخدمه كرهاً بعد العتق، أي بالقهر والغلبة. (رواه أبوداود وابن ماجه) وكذا البيهقي كلهم من رواية الإفريقي عن عمران بن عبد بغير إضافة المعافري، والافريقي قد تقدم الكلام فيه. وأما عمران فقال ابن معين: ضعيف. وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال العجلي: مصري تابعي ثقة. وذكره يعقوب بن سفيان في ثقات المصريين كذا في التهذيب (ج8 ص34) . وقال في التقريب: ضعيف.(4/57)
1130- (8) وعن سلامة بنت الحر، قالت: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أشراط الساعة أن يتدافع
أهل المسجد لا يجدون إماماً يصلي بهم)) رواه أحمد، وأبوداود، وابن ماجه.
1131- (9) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برًا
كان أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1130- قوله: (وعن سلامة) بفتح سين مهملة وخفة لام وهاء. (بنت الحر) بضم الحاء المهملة بعدها راء مهملة مشددة، أخت خرشة بن الحر الفزاري، صحابية، لها هذا الحديث فقط. (إن من أشراط الساعة) ، أي من علاماتها الصغرى الدالة على قربها. واحدها شرط بالتحريك. (أن يتدافع أهل المسجد) أي في الإمامة فيدرأ كل من أهل المسجد الإمامة عن نفسه إلى غيره، ويقول لست أهلاً لها لما ترك تعلم ما تصح به الإمامة، ولجهلهم بما يجوز ولا يجوز. (لا يجدون إماماً) أي قابلاً الإمامة. (يصلي بهم) على وجه الصحة بأداء أركانها. وواجباتها وسننها ومندوباتها. وقيلك المعنى يدفع كل من أهل المسجد الإمامة عن غيره إلى نفسه، فيحصل بذلك النزاع، فيؤدي ذلك إلى عدم الامام. (رواه أحمد) (ج6 ص381) . (وأبوداود) ومن طريقه رواه البيهقي (ج3 ص29) . (وابن ماجه) واللفظ لأحمد وأبي داود. ولفظ ابن ماجه وأحمد في رواية: يأتي على الناس زمان يقومون ساعة لا يجدون إماما يصلي بهم. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري. وفي سنده عندهم جميعاً طلحة أم غراب. قال في التقريب: لا يعرف حالها. وذكرها ابن حبان في الثقات، روت عن عقيلة الفزارية عن سلامة بنت الحر. قال الحافظ في التقريب، والذهبي في الميزان: عقيلة الفزارية جدة علي بن غراب، لا يعرف حالها.
1131- قوله: (الجهاد واجب عليكم) أي فرض عين في حال وفرض كفاية في أخرى. (مع كل أمير) أي مسلم سلطان أو ولي أمره. (براً) بفتح الباء. (كان أو فاجراً) فإن الله قد يؤيد الدين بالرجل الفاجر، وإثمه على نفسه. ويؤيده ما روي عن أنس مرفوعاً: الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، أخرجه أبوداود في حديث، وسكت عنه هو والمنذري. قال ابن حجر في حديث أبي هريرة: جواز كون الأمير فاسقاً جائراً، وإنه لا ينعزل بالفسق والجور، وأنه تجب طاعته ما لم يأمر بمعصيته. وخروج جماعة من السلف على الجورة كان قبل استقرار الإجماع على حرمة الخروج على الجائر- انتهى. (وإن عمل الكبائر) كذا في جميع النسخ الموجودة، وكذا وقع في المصابيح، وليست هذه الزيادة في سنن أبي داود، ولم يذكرها أيضاً المجد بن تيمية في المنتقى، والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص27) ولم تقع أيضاً في(4/58)
والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رواه البيهقي. (والصلاة) أي بالجماعة. (واجبة عليكم) قال القاري: أي بالجماعة، كما تقدم من القول المختار، وهو فرض عملي لا اعتقادي لثبوته بالسنة، وهي آحاد. وقال ابن حجر: أي على الكفاية لا الأعيان - انتهى. وهي غاية من البعد عن شعار الإسلام، وطريق السلف العظام؛ لأنه يؤدي إلى أنه لو صلى شخص واحد مع الإمام في مصر لسقط عن الباقين. وقال الطيبي: القرينة الأولى تدل على وجوب الجهاد على المسلمين، وعلى جواز كون الفاسق أميراً، والثانية على وجوب الصلاة بالجماعة عليهم. وجواز أن يكون الفاجر إماماً، هذا ظاهر الحديث. ومن قال الجماعة ليست بواجبة على الأعيان تأوله بأنه فرض على الكفاية كالجهاد، وعليه دليل إثبات ما ادعاه. (خلف كل مسلم) إذا كان إماماً. (براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر) قال ابن الملك: أي جاز اقتداءكم خلفه لورود الجواب بمعنى الجواز لاشتراكهما في جانب الإتيان بهما. وهذا يدل على جواز الصلاة خلف الفاسق، وكذا المبتدع إذا لم يكن ما يقوله كفراً. قال القاري في أمره بالصلاة خلف الفاجر مع أن الصلاة خلف الفاسق والمبتدع مكروهة عندنا دليل على وجوب الجماعة - انتهى. قلت: اختلف في امامة الفاسق والمبتدع: فذهب مالك إلى اشتراط عدالة من يصلى خلفه، وقال لا تصح إمامة الفاسق. وذهبت الشافعية والحنفية إلى صحة إمامته. قال العيني: أما الصلاة خلف الخوارج وأهل البدع فاختلف العلماء فيه: فأجازت طائفة منهم ابن عمر إذ صلى خلف الحجاج، وكذلك ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير. وقال النخعي كانوا يصلون وراء الأمراء ما كانوا. وروى أشهب عن مالك: لا أحب الصلاة خلف الإباضية والواصلية، ولا السكنى معهم في البلد. وقال ابن القاسم: أرى الإعادة في الوقت على من صلى خلف أهل البدع. وقال أصبغ يعيد أبدا. وقال الثوري في القدري لا تقدموه. وقال أحمد بن حنبل: لا يصلي خلف أحد من أهل الأهواء إذا كان داعياً إلى هواه، ومن صلى خلف الجهمية والرافضية والقدرية يعيد. وقال أصحابنا: تكره الصلاة خلف صاحب هوى وبدعة، ولا تجوز خلف الرافضي والجهمي والقدري؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا يعلم الشيء قبل حدوثه وهو كفر، والمشبهة، ومن يقول يخلق القرآن. وكان أبوحنيفة لا يرى الصلاة خلف المبتدع، ومثله عن أبي يوسف. وأما الفاسق بجوارحه كالزاني وشارب الخمر فزعم ابن الحبيب أن من صلى خلف من شرب الخمر يعيد أيداً إلا أن يكون واليا. وفي رواية: يصح. وفي المحيط: لو صلى خلف فاسق أو مبتدع يكون محرز الثواب صلاة الجماعة، ولا ينال ثواب من صلى خلف المتقي. وفي المبسوط: يكره الإقتداء بصاحب البدعة - انتهى. والحق عندي أنه لا يشترط عدالة إمام الصلاة لصحة الجماعة وصحة صلاة المقتدين، ولكن لا يجوز تقديم الفاسق، وكذا المبتدع ببدعة غير مكفرة للإمامة؛ لأن في تقديمه تعظيمه، وقد وجب إهانته شرعاً، ولأن الفاسق لا يهتم بأمر دينه، ولأن(4/59)
الإمامة من باب الامانة، والفاسق خائن، ولأن مبنى الإمامة على الفضيلة، ولأن الناس لا يرغبون في الصلاة خلف الفاسق والمبتدع، فتؤدي إمامتهما إلى تنفير الجماعة وتقليلها، وذلك مكروه، ولقوله عليه السلام: اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم. أخرجه الدارقطني (ص197) والبيهقي (ج3:ص90) من حديث ابن عمر، قال البيهقي: إسناده ضعيف - انتهى. قلت: في سنده حسين بن نصر المؤدب. قال ابن القطان: لا يعرف. وفيه أيضاً سلام بن سليمان المدائني. قال الشوكاني: ضعيف، ولقوله عليه السلام: إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم-الحديث، أخرجه الحاكم من حديث مرثد الغنوي في كتاب الفضائل (ج4:ص222) وسكت عنه، وأخرجه أيضاً الطبراني والدارقطني (ص197) ، الا أن الطبراني قال: فليؤمكم علماؤكم. وفيه عبد الله بن موسى. قال الدارقطني: ضعيف. وفيه أيضاً القاسم بن أبي شيبة، وقد ضعفه ابن معين، ولما روى أبوداود وسكت عنه هو والمنذري عن السائب بن خلاد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجل أم قوما فبصق في القبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ: لا يصلي لكم فأراد بعد ذلك أن يصلي بهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: نعم. قال الراوي: حسبت أنه قال له: إنك آذيت الله ورسوله، ولما روي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً: لا يؤمنكم ذو جرأة في دينه. ذكره الشوكاني في النيل بلا سند. وقال العلامة القنوجي في دليل الطالب (ص339) هو مرسل، ولقوله عليه السلام: لا يؤم فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه. أخرجه ابن ماجه من حديث جابر في صلاة الجمعة. وفي سنده عبد الله بن محمد العدوي التميمي، وهو تألف. قال البخاري وأبوحاتم والدارقطني: منكر الحديث. وقال الدارقطني أيضاً: متروك. وقال وكيع: يضع الحديث. وقال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج بخبره. وقال ابن عبد البر: جماعة أهل العلم بالحديث يقولون: إن هذا الحديث من وضع عبد الله بن محمد العدوي، وهو عندهم موسوم بالكذب. كذا في تهذيب التهذيب (ج6:ص21) هذا ولا يجوز للفاسق المبتدع التقدم للإمامة لما سبق من حديثي أبي أمامة وعبد الله بن عمرو بن العاص وما وافقهما من الأحاديث الدالة على تحريم إمامة الرجل وهو له كارهون. ولو تقدم الفاسق والمبتدع للإمامة وجب على القوم أن يمنعوهما عن الإمامة، وإن عجزوا عن المنع والعزل جازت الصلاة خلفهما مع الكراهة، أىجاز الاقتداء بهما للضرورة، وهي خوف الفتنة في منعهما وعزلهما عن الإمامة، وفي ترك الصلاة بالجماعة، وتصح الجماعة، ويكون المصلي محرزاً الثواب الجماعة. لكن لاينال مثل ما ينال خلف تقي، وبالجملة لا تفسد صلاة من صلى خلف الفاسق والمبتدع لعدم ما يدل على اشتراط عدالة الإمام في حق صحة صلاة المقتدي، وجواز الاقتداء، ولأن جواز الصلاة متعلق بأداء الأركان، وهما قادران عليهما، ولأن عدم قبول صلاتهما لا يستلزم عدم جواز الاقتداء بهما، ولا عدم(4/60)
قبول صلاة المؤتمين بهما فضلاً عن فساد صلاتهم، لأن الذم والوعيد أنما هو متوجه إلى من كره القوم وإمامته لا إلى المؤتمين، كما لايخفى، ولأن من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، أي صحت إمامته وجاز الائتمام به، ولقوله عليه السلام: لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولحديث أبي هريرة هذا أو غيره مما سيأتي الإشارة إليها، وهي أحاديث كثيرة دالة على صحة الصلاة خلف كل بر وفاجر أي فاسق إلا أنها ضعيفة، كما ستعرف، ولما روى البخاري في تاريخه والبيهقي (ج3:ص122) عن عبد الكريم البكاء قال: أدركت عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يصلي خلف أئمة الجور. قال الشوكاني: عبد الكريم هذا لايحتج بروايته، وقد استوفى الكلام عليه في الميزان، ولكنه قد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعاً فعلياً، ولا يبعد أن يكون قولياً على الصلاة خلف الجائزين؛ لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم في كل بلدة فيها أمير، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية وحالهم وحال أمراءهم لا يخفى، وقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج، وأخرج مسلم وأهل السنن أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، ولأنه قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه يكون على الأمة أمراء يميتون الصلاة ويصلونها لغير وقتها، فقالوا: يارسول الله فما تأمرنا؟ فقال: صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة. ولا شك أن من أمات الصلاة وفعلها في غير وقتها غير عدل. وقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة خلفه نافلة، ولا فرق بينها وبين الفريضة في ذلك. قال الأمير اليماني بعد ذكر هذا الحديث: فقد أذن بالصلاة خلفهم، وجعلها نافلة؛ لأنهم أخرجوها عن وقتها. وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأموراً بصلاتها خلفهم فريضة، ولما روي عن علي أنه أتاه قوم برجل فقالوا: إن هذا يؤمنا ونحن له كارهون. فقال له علي رضي الله عنه: إنك لخروط أي مقهور في الأمور أو متعسف في فعلك، أتؤم قوماً وهم لك كارهون. ففيه أنه وإن زجره عن الإمامة لكن لم ينه القوم عن الاقتداء به، ولا أمرهم باعادة الصلاة. والحاصل: أنه يحرم على الفاسق، وفي حكمة المبتدع، التقدم للامامة، ولا يجوز للقوم أن يقدموه ولو قدموه مع قدرتهم على المنع والعزل أثموا، وصحت الجماعة خلفه مع الكراهة التحريمية، ولا تفسد الصلاة لعدم ما يدل على بطلان صلاة المؤتمين به. ولو عجزوا عن المنع والعزل، وأمكنهم الصلاة خلف غيره بالتحول إلى مسجد آخر فهو أفضل، وإلا فالاقتداء به أولى من الانفراد، وصحت صلاتهم خلفه، لكن لا تخلو عن الكراهة، يعني يكونون محزرين لثواب صلاة الجماعة، لكن لا ينالون مثل ما ينال من صلى خلف تقي. وبما قلنا يحصل الجمع بين الأدلة المتعارضة الواردة في هذه المسألة. وإن شئت مزيد التفصيل فارجع إلى(4/61)
والصلاة واجبة على كل مسلم براً أو فاجراً، وإن عمل الكبائر)) . رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دليل الطالب (ص 335- 339) . (والصلاة) أي صلاة الجنازة. (واجبة) أي فرض كفاية عليكم أن تصلوا. (على كل مسلم) أي ميت ظاهر الإسلام. (براً كان أو فاجراً) فيه دليل على أنه يصلي على كل من مات مسلماً ولو كان فاسقاً. وإليه ذهب مالك والشافعي وأبوحنيفة وجمهور العلماء. قال النووي: قال القاضي: مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا- انتهى. وتعقب بأن الزهري يقول: لا يصلى على المرجوم، وقتادة يقول: لا يصلى على ولد الزنا، وقال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي: لا يصلى على الفاسق، ووافقهما أبوحنيفة في الباغي والمحارب، ووافقهما الشافعي في قول له في قاطع الطريق. والحق أن من قال كلمة الشهادة فله ما للمسلمين، ومنه صلاة الجنازة، ولأن عموم شرعية صلاة الجنازة لا يخص منه أحد من أهل كلمة الشهادة إلا بدليل، نعم يستحب للامام، وكذا لأهل العلم والصلحاء والأتقياء خاصة أن يتركوا الصلاة على الفاسق، سيما تارك الصلاة والمديون والغال وقاتل نفسه زجراً للناس. يدل على ذلك امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة على الغال والمديون، وأمرهم بالصلاة عليهما بقوله: صلوا على صاحبكم. ويدل عليه أيضاً حديث الذي قتل نفسه بمشاقص، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما أنا فلا أصلي عليه، ولم ينههم عن الصلاة عليه. (وإن عمل الكبائر) قال ابن مالك: هذا يدل على أن من أتى الكبائر لا يخرج عن الإسلام، وأنها لا تحبط الأعمال الصالحة، يعني خلافاً للمبتدعة فيهما. (رواه أبوداود) أي من طريق مكحول عن أبي هريرة في باب الغزو، مع أئمة الجور من كتاب الجهاد، وأخرجه أيضاً في باب إمامة البر والفاجر من كتاب الصلاة مختصراً بإسناده في الجهاد على ما في بعض النسخ. ومن طريق أبي داود أخرجه البيهقي في المعرفة والسنن الكبرى (ج3 ص121) ، وأخرجه أيضاً الدارقطني (ص158) قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص27) : ضعفه أبوداود بأن مكحولاً لم يسمع من أبي هريرة. وقال الدارقطني: مكحول لم يسمع من أبي هريرة، ومن دونه ثقات. وقال البيهقي: إسناده صحيح إلا أن فيه انقطاعاً بين مكحول وأبي هريرة. قال ابن الهمام بعد ذكر كلام الدارقطني: وحاصله أنه من مسمى الإرسال عند الفقهاء، وهو مقبول عندنا، وقد روي هذا المعنى من عدة طرق للدارقطني وأبي نعيم والعقيلي، كلها مضعفة من قبل بعض الرواة. وبذلك يرتقي إلى درجة الحسن عند المحققين، وهو الصواب- انتهى. وقال ابن حجر: الحديث وإن كان مرسلاً لكنه اعتضد بفعل السلف. قلت: في كلام ابن الهمام نظر لا يخفى على من له وقوف على طريق الحديث، وكلام الأئمة فيه. والحديث أخرجه الدارقطني أيضاً من حديث الحارث عن علي، ومن حديث علقمة والأسود عن عبد الله، ومن حديث مكحول أيضاً عن واثلة، ومن حديث أبي الدرداء من طرق كلها، كما قال الحافظ واهية جداً. قال العقيلي: ليس في هذا المتن إسناده يثبت. ونقل(4/62)
{الفصل الثالث}
1132- (10) عن عمرو بن سلمة قال: ((كنا بماء ممر الناس، يمر بنا الركبان نسألهم: ما للناس، ما للناس؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن الجوزي عن أحمد أنه سئل عنه، فقال ما سمعنا به. وقال الدارقطني: ليس فيها شيء يثبت. قال الحافظ: وللبيهقي في هذا الباب أحاديث كلها ضعيفة غاية الضعف. وأصح ما قيل حديث مكحول عن أبي هريرة على إرساله، يعني انقطاعه. وقال أبوأحمد الحاكم: هذا حديث منكر. وقد أطال الزيلعي الكلام في هذا الحديث في نصب الراية (ج2 ص26- 28) .
1132- قوله: (عن عمرو بن سلمة) بكسر اللام. قال الفتني في المغني: سلمة كله بفتح اللام إلا عمرو بن سلمة الجرمي إمام قومه، وبني سلمة القبيلة من الأنصار فبكسرها- انتهى. قال الحافظ في الفتح: عمرو بن سلمة مختلف في صحبته، ففي هذا الحديث أن أباه وفد. وفيه إشعار بأنه لم يفد معه. وأخرج ابن مندة من طريق حماد بن سلمة عن أيوب ما يدل على أنه وفد أيضاً، وكذلك أخرجه الطبراني، وقال في تهذيب التهذيب: وفد أبوه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عمرو يصلي بقومه في عهده وهو صغير لم يصح له سماع، ولا رواية. وروي من وجه غريب أنه أيضاً وفد مع أبيه روى عن أبيه، وعنه أبوقلابة الجرمي وغيره. قلت: روى ابن مندة في كتاب الصحابة حديثه من طريق صحيحة، وهي رواية الحجاج بن المنهال عن حماد بن سلمة عن أيوب عن عمرو بن سلمة قال: كنت في الوفد الذين وفدوا على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا تصريح بوفادته. وقد روى أبونعيم في الصحابة أيضاً من طرق ما يقتضي ذلك. وقال ابن حبان: له صحبة. وقال في التقريب: صحابي صغير نزل البصرة. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (ج2 ص446) أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يؤم قومه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان أقرؤهم للقرآن. وقد قيل: إنه قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه، ولم يختلف في قدوم أبيه. وقال ابن حزم في المحلى (ج2 ص218) : قد وجدنا لعمرو بن سلمة هذا صحبة ووفادة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه -انتهى. وأبوه سلمة بفتح السين وكسر اللام ابن قيس. وقيل: نفيع الجرمي بفتح الجيم وسكون الراء صحابي، ما له في البخاري سوى هذا الحديث، وكذا ابنه. (كنا بماء) أي ساكنين بمحل ماء. قال الطيبي: بماء خبر كان وقوله: (ممر الناس) أي عليه، صفة لماء أو بدل منه، أي نازلين بمكان فيه ماء يمر الناس عليه. قال الحافظ: يجوز في ممر الحركات الثلاث – انتهى. (يمر بنا) استئناف أو حال من ضمير الاستقرار في الخبر. (الركبان) بضم الراء جمع الراكب للبعير خاصة، ثم اتسع فيه فأطلق على من ركب دابة. (نسألهم) أي نقول لهم. (ما للناس ما للناس) بالتكرار مرتين أي أيّ شيء حدث للناس كناية عن ظهور دين الإسلام، والتكرار لغاية التعجب. وقال الطيبي: سؤاله هذا يدل على(4/63)
ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله أوحي إليه، أوحي إليه كذا. فكنت أحفظ ذلك الكلام، فكأنما يغري في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: أتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حدوث أمر غريب، ولذا كرروه وقالوا: (ما هذا الرجل) كناية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يدل على سماعهم منه نبأ عجيباً، فيكون سؤالهم عن وصفه بالنبوة، ولذلك وصفوه بالنبوة، كذا قاله الطيبي، أي هذا الرجل الذي نسمع منه نبأ عجيباً أي ما وصفه. وقال الحافظ: أي يسألون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن حال العرب معه. (فيقولون) أي الركبان. (يزعم) أي الرجل يعني يقول. (أوحي إليه كذا) هكذا في جميع النسخ الموجودة عندنا، وكذا في جامع الأصول (ج6 ص376) . والذي في البخاري أوحى الله. (بلفظ الجلالة بدل إليه) ، كذا أي آية كذا أو سورة كذا. قال الطيبي: كناية عن القرآن. ووقع لغير أبي ذر أو أوحى الله كذا، أي بزيادة لفظ "أو" وهو للشك من الراوي، يريد به حكاية ما كانوا يخبرونهم به ما سمعوه من القرآن. وفي المستخرج لأبي نعيم فيقولون: نبي يزعم أن الله أرسله وأن الله أوحى إليه كذا وكذا. (فكنت أحفظ ذلك الكلام) أي الذي ينقلونه عنه، ولأبي داود: وكنت غلاماً حافظاً، فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً. (فكأنما يغري في صدري) بضم التحتية وفتح الغين المعجمة وتشديد الراء المهملة على بناء المجهول من التغرية، وهو الإلصاق بالغراء وهو الصمغ، أي كأنما يلصق في صدري، ونسبها الحافظ في الفتح للإسماعيلي، قال: ورجحها عياض. قال القاري: ما وقع في أصل نسخ المشكاة الحاضرة فهي رواية الإسماعيلي، وكذا حققه المحقق الشيخ ابن حجر في شرح صحيح البخاري. وقيل: بسكون الغين وفتح الراء من الإغراء. وقيل: بفتح التحتية وسكون الغين وفتح الراء على بناء المعلوم من غيري بالكسر يغري بالفتح، أي يلصق بالغراء، والغراء بالمد والقصر ما يلصق به الأشياء، ويتخذ من أطراف الجلود والسمك، وفي الصحاح: إذا فتحت الغين قصرت، وإذا كسرت مددت. وفي رواية الكشمهيني: يقر بضم الياء وفتح القاف وتشديد الراء من القرار. وفي رواية عنه يقرى بزيادة ألف مقصورة، أي يجمع من قريت الماء في الحوض، أي جمعته، والبعير يقرى العلف في شدقه، أي يجمعه. وفي رواية الأكثرين: يقرأ مجهولاً بسكون القاف آخره همزة مضمومة من القراءة، أي يجمع من قرأ بمعنى جمع، يقال للمرأة ما قرأت بسلى قط، أي لم تجمع في بطنها ولداً. وقال الشاعر: هجان اللون لم يقرأ جنيناً. (وكانت العرب) أي ما عدا قومه عليه السلام. والمراد أكثرهم. (تلوم) بفتح التاء واللام والواو المشددة. وأصله بتائين فحذفت إحداهما تخفيفاً، أي تنتظر وتتربص. (الفتح) أي فتح مكة يعنى النصرة والظفر على قومه. (فيقولون) تفسير لقوله "تلوم". أنث الضمير أولاً باعتبار الجماعة، وجمع ثانياً باعتبار المعنى. (وقومه) أي قريشاً، وهو منصوب على المعية. (ظهر عليهم) أي(4/64)
فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم، قال: جئتكم والله من عند النبي حقاً، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا. فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً. فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني، لما كنت أتلقى من الركبان. فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليّ بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غلب على قومه. (فهو نبي صادق) إذ لا يتصور غلبته عليهم كذلك إلا بمحض المعجزة الخارقة للعادة القاضية بأنه لا يظهر عليهم لضعفه وقوتهم. (فلما كانت وقعة الفتح) في رمضان سنة ثمان من الهجرة. (بادر) أي سارع وسابق. (بدر أبي قومي) أي غلبهم وسبقهم. قال الطيبي: قوله "بدر" من باب المبالغة، أي بادر أبي القوم فبدرهم أي غلبهم في البدار بالكسر أي المبادرة. وقال العيني: قوله: بادر أي أسرع، وكذا قوله: بدر، يقال بدرت إلى شيء وبادرت، أي أسرعت. (فلما قدم) أي أبي من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ في الفتح، والعيني في العمدة: هذا يشعر بأنه ما وفد مع أبيه، ولكن لا يمنع أن يكون وفد بعد ذلك. (قال) أي لهم (جئتكم والله من عند النبي حقاً) قال الطيبي: هذا حال من الضمير العائد إلى الموصول، أعنى الألف واللام في النبي - صلى الله عليه وسلم - على تأويل الذي نبي حقاً- انتهى. أو حال كونه محقاً، قاله ابن حجر، أو حق هذا القول حقاً، قاله القاري. (فقال) .. أي النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً من جملته. (فإذا حضرت الصلاة) أي وقتها. (فليؤذن أحدكم) أي خياركم خير لكم. فلا ينافي ما تقدم من حديث ابن عباس: ليؤذن لكم خياركم؛ لأن هذا لبيان لأفضل، وذلك لبيان الأجزاء، قاله القاري. (فليؤمكم) كذا في جميع النسخ الحاضرة أي بالفاء. والذي في البخاري وليؤمكم أي بالواو، وكذا أي بالواو نقله المجد بن تيمية في المنتقى، والزيلعي في نصب الراية، والجزري في جامع الأصول (ج6 ص387) . فالظاهر أن ما وقع في المشكاة خطأ من النساخ. (أكثركم قرآناً) ولأبي داود: قالوا يا رسول الله! من يؤمنا؟ قال أكثركم جمعاً للقرآن. (فنظروا) أي في الحي. (فلم يكن أحد أكثر) بنصبه قال القاري: وفي نسخه بالرفع، أي فلم يوجد أحد أكثر. (لما كنت أتلقى) أي القرآن من التلقي، وهو التلقن والأخذ. (فقدموني بين أيديهم) أي للإمامة. (وأنا ابن ست أو سبع سنين) وللنسائي: وأنا ابن ثمان سنين. ولأبي داود: وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين. (وكانت عليّ بردة) شمله مخططة. وقيل: كساء أسود مربع فيه صفر تابسه الأعراب. وفي رواية لأبي داود: وعليّ بردة لى صغير صفراء. وفي أخرى: كنت أؤمهم في بردة موصلة فيها فتق. (تقلصت عني) بقاف ولام مشددة وصاد مهملة، أي انجمعت(4/65)
ألا تغطون عنا أست قارئكم؟ فاشتروا، فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وانضمت وارتفعت عني لقصرها وصغرها وضيقها وفتقها حتى يظهر شيء من عورتي. وفي رواية أبي داود: تكشفت عني. وفي أخرى: خرجت أستى. (ألا) بتخفيف اللام فالهمزة للإنكار. (عنا) أي عن قبلنا أو عن جهتا. (أست قارئكم) بهمزة وصل أي دبره وعجزه، ولأبي داود: فقالت امرأة من النساء واروا عنا عورة قارئكم. قال في لسان العرب: الستة والأست معروفة، وهومن المحذوف المجتبلة له ألف الواصل الجوهري والأست العجز، وقد يراد به حلقة الدبر، وأصله سته على فعل بالتحريك يدل على ذلك أن جمعه أستاه مثل جمل وأجمال. (فاشتروا) مفعوله محذوف أي ثوباً. ولأبي داود: فاشتروا لي قميصاً عمانياً بضم العين مخففاً نسبه إلى عمان من البحرين. (فرحي) أي مثل فرحي. (بذلك القميص) إما لأجل حصول التستر وعدم تكلف الضبط وخوف الكشف، وإما فرح به كما هو عادة الصغار بالثواب الجديد. وزاد أبوداود في رواية له: قال عمرو بن سلمة فما شهدت مجمعاً من جرم إلا كنت إمامهم. والحديث فيه دليل على أن الأحق بالإمامة الأقرأ. وأن المراد بالأقرأ في حديث أبي مسعود وأبي مسعود وأبي سعيد السابقين الأكثر جمعاً للقرآن لا الأحسن قراءة والأكثر علماً وفقهاً. وفي تقديم عمرو بن سلمة وهو ابن سبع سنين، أو ثمان سنين، دليل على جواز إمامة الصبي المميز للمكلفين في النافلة والفريضة. وقد اختلف الناس فيه: فممن أجاز ذلك الحسن البصري وإسحاق بن راهوية والبخاري، والشافعي وله في الجمعة قولان: قال في الأم: لا تجوز. وقال في الإملاء: تجوز، وكرهه عطاء والشعبي ومالك والأوزاعي والثوري وأحمد، وإليه ذهب أصحاب الرأي. قال في المرقاة: في الحديث دليل على جواز إمامة الصبي. وبه قال الشافعي، وعنه في الجمعة قولان: وقال مالك وأحمد لا يجوز إمامة الصبي، وكذا قال أبوحنيفة: واختلف أصحابه في النفل، فجوزه مشائخ بلخ، وعليه العمل عندهم وبمصر والشام، ومنعه غيرهم وعليه العمل بما وراء النهر- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: وعن أبي حنيفة وأحمد روايتان، والمشهور عنهما الاجزاء في النوافل دون الفرائض، واستدل من منع إمامة الصبي بأنه متنفل لعدم وجوب الصلاة عليه، ولا يجوز اقتداء المفترض به، أي بالمتنفل؛ لأن صلاة الإمام متضمنة لصلاة المقتدي صحة وفساداً، لقوله عليه السلام: الإمام ضامن. ولا شك أن الشيء يتضمن ما هو دونه لا ما هو فوقه، فلم يجز اقتداء البالغ بالصبي، وأجيب بأن انتفاع وجوب الصلاة على الصبي لا يستلزم عدم صحة إمامته، لما تقدم من صحة صلاة المفترض خلف المتنفل في باب القراءة. وسيأتي أيضاً. وأما قوله عليه السلام: "الإمام ضامن" فقد سبق بيان معناه ووجه عدم صحة الاستدلال به على مدعاهم في باب فضل الأذان، واستدلوا أيضاً بما روى عن ابن مسعود قال: لا يؤم الغلام حتى تجب عليه الحدود، وعن ابن عباس قال: لا يؤم الغلام حتى يحتلم. أخرجهما الأثرم في سننه، وأثر ابن عباس أخرجه عبد الرزاق عنه(4/66)
مرفوعاً. قال الحافظ في الفتح: اسناده ضعيف وأجيب عنه بأنه من قول الصحابي وللاجتهاد فيه مسرح، فلا يكون حجة سيما وقد ورد ما يدل على خلافه، وهو حديث عمرو بن سلمة الجرمي الذي نحن بصدد شرحه، واحتج ابن حزم على عدم الصحة بأنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يؤمهم أقرأهم. قال: فعلى هذا إنما يؤم من يتوجه إليه الأمر، والصبي ليس بمأمور؛ لأن القلم رفع عنه، فلا يؤم كذا قال، ولا يخفى فساده؛ لأنا نقول: المأمور من يتوجه إليه الأمر من البالغين بأنهم يقدمون من اتصف بكونه أكثر قرآناً فبطل ما احتج به، كذا في الفتح قال الحنيفة: ومن وافقهم حديث عمرو هذا لاحجة فيه على صحة إمامة الصبي؛ لأنه لم يرد أن ذلك كان عن أمره - صلى الله عليه وسلم - ولا عن علمه وتقريره وإنما قدموه باجتهادهم، ورد بأن دليل الجواز وقوع ذلك في زمن الوحي ولا يقرر فيه على فعل ما لا يجوز، سيما في الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - بالوحي على القذى الذي كان في نعله، فلو كان إمامة الصبي لا تصح لنزل الوحي بذلك. وقد استدل أبوسعيد وجابر بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل، والوفد الذين قدموا عمراً كانوا جماعة من الصحابة. قال ابن حزم في المحلى (ج4 ص218) بعد رواية الحديث: فهذا فعل عمرو بن سلمة، وطائفة من الصحابة معه لا يعرف لهم من الصحابة مخالف فأين الحنفيون والمالكيون المشنعون بخلاف الصحابة، إذا وافق تقليدهم وهم أترك الناس له لا سيما من قال منهم أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع. وقد وجدنا لعمرو هذا صحبة ووفادة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبيه- انتهى. وقال الحافظ في الفتح: لم ينصف من قال: إنهم فعلوا ذلك باجتهادهم ولم يطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك؛ لأنها شهادة نفي، ولأن زمن الوحي لا يقع التقرير فيه على ما لا يجوز، كما استدل أبوسعيد وجابر لجواز العزل، لكونهم فعلوه عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان منهيا عنه لنهي عنه في القرآن - انتهى. وأجابوا أيضاً بما ذكر الخطابي في المعالم (ج1 ص169) : عن أحمد بن حنبل أنه كان يضعف أمر عمرو بن سلمة، وأنه قال: مرة دعه ليس بشيء بين، وبأنه لم يخرج البخاري حديث عمرو هذا في باب إمامة العبد والمولى وولد البغي والأعرابي والغلام الذي لم يحتلم، ولم يستدل به على إمامة غير البالغ، بل احتج لذلك بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: يؤمهم أقرأهم لكتاب الله. والظاهر أنه فعل ذلك؛ لأنه رأى حديث عمرو غير بين في الدلالة على ذلك فتوقف فيه كما توقف أحمد، فقد نقل أيضاً عنه أنه قال: "لا أدري ما هذا" فلعله لم يتحقق بلوغ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورد بأن عمرو بن سلمة، هذا صحابي. وقد روى ما يدل على أنه وفد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم، وحديثه هذا صحيح، وظاهر في الدلالة على إمامة الصبي، كما تقدم وجه الاستدلال به، فلا معنى لتضعيف أمره والتوقف في الاستدلال به على جواز إمامة غير البالغ للمكلف. وأجابوا أيضاً بأن عمرو بن سلمة كان عند إمامته لقومه بالغاً، ثم اختلفوا فقال قائل وهو(4/67)
رواه البخاري.
1133- (11) وعن ابن عمر، قال: ((لما قدم المهاجرون الألون المدينة، كان يؤمهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن القيم، كما صرح في البدائع (ج4 ص91) : أن رواية: "أنه كان له سبع سنين" فيه رجل مجهول، فهو غير صحيح. وقال بعضهم: إن العمر المذكور في الحديث هو لتلقينه القرآن من الركبان لا لإمامته. وقد وقع التقصير من الراوي في التعبير حيث جعله عمر إمامته. قال في فيض الباري (ج2 ص 218) : والجواب عندي إن في القصة تقديماً وتأخيراً، فما ذكره من عمره، هو عمر تعلمه القرآن دون عمر إمامته، كما يعلم من مراجعة كتب الرجال. وقال في (ج4 ص113) قوله: "فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين" فيه تصور إذ عمره المذكور عند تحقيق كان لأخذ القرآن لا لإمامته. وهكذا بيعته أيضاً كان بعد ما بلغ الحلم. وقد قصر الراوي في التعبير- انتهى بلفظه. ورد بأنه لا دليل على أن عمرو بن سلمة كان قد بلغ الحلم عند إمامته لقومه، بل تبطله الروايات المصرحة بكونه غير بالغ عند تقديم قومه له لإمامة الصلاة، فلا يلتفت إلى قولهم، لكونه دعوى مجردة عن البرهان. وأما قول ابن القيم بأن الرواية المذكورة غير صحيحة، فهو صادر عن الغفلة؛ لأنها مخرجة في صحيح البخاري. وأما ما قال صاحب الفيض: إن القصة وقع فيها تقديم وتأخير وأن العمر المذكور في الحديث كان لأخذه القرآن لا لإمامته. ففيه أنه ادعاء محض. ونسبه الوهم والقصور إلى الراوي من غير حجة وبينة، وقد راجعنا كتب الرجال فلم نجد فيها شيئاً يدل على ما ادعاه، ولا يمكن لمن يدعي ذلك أن يأتي عليه بنقل قوي أو ضعيف أبدا. وأما القدح في الحديث بأن فيه كشف العورة في الصلاة، وهو لا يجوز. ففيه أنه يحتمل أن يكون ذلك قبل علمهم بالحكم، فلا يعترض بذلك على من استدل بقصة عمرو هذه على جواز إمامة غير البالغ فتأمل. (رواه البخاري) في غزوة الفتح. وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي.
1133- قوله: (لما قدم) أي من مكة. (المهاجرون الأولون) أي الذين سبقوا بالهجرة إلى المدينة، وقدموا أولاً قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - (المدينة) بالنصب على الظرفية، لقوله "قدم" كذا في جميع النسخ للمشكاة. وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص 378) ونسبه إلى البخاري وأبي داود. والذي في البخاري في إمامة العبد من كتاب الصلاة العصبة موضعاً بقباء. وفي رواية أبي داود: لما قدم المهاجرون الأولون نزلوا العصبة. قال الحافظ: أي المكان المسمى بذلك، وهو بإسكان الصاد المهملة بعدها موحدة. واختلف في أوله فقيل: بالفتح. وقيل: بالضم. ثم رأيت في النهاية: ضبطه بعضهم بفتح العين والصاد المهملتين. قال أبوعبيد البكرى: لم يضبطه الأصيلي في روايته، والمعروف المعصب بوزن محمد بالتشديد وهوموضع بقباء. (كان يؤمهم) أي المهاجرين،(4/68)
سالم مولى أبي حذيفة، وفيهم عمر، وأبوسلمة بن عبد الأسد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومن أسلموا من أهل المدينة. (سالم) بالرفع اسم كان. (مولى أبي حذيفة) هو ابن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس ابن عبد مناف القرشي، كان من فضلاء الصحابة من المهاجرين الأولين، صلى القبلتين وهاجر الهجرتين جميعاً، وكان إسلامه قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم للدعاء فيها إلى الإسلام، هاجر مع امرأته سهلة بنت سهل بن عمرو إلى أرض الحبشة، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة، فأقام بها حتى هاجراإلى المدينة. وشهد بدراً وأحداً والخندق والحديبية والمشاهد كلها، وقتل يوم اليمامة شهيدا، وهو ابن ثلاث أو أربع وخمس سنة. يقال: اسمه مهشم. وقيل: هشيم. وقيل: هاشم. وكان سالم المذكور مولى زوج أبي حذيفة الأنصارية، فأعتقه وكانت إمامته بهم قبل أن يعتق، وإنما قيل له مولى أبي حذيفة؛ لأنه لما أعتقته مولاته زوج أبي حذيفة تولى أبا حذيفة ولازمه وتبناه أبوحذيفة، فلما نهوا عن ذلك قيل له مولاه، واستشهد سالم باليمامة في خلافة أبي بكر. قال الذهبي: سالم مولى أبي حذيفة من كبار البدريين، مشهور كبير القدر. يقال له سالم بن معقل، وكان من أهل فارس من اصطخر. وقيل: إنه من العجم من سبي كرمان، وكان يعد في قريش لتبني أبي حذيفة له، ويعد في العجم لأصله، ويعد في المهاجرين لهجرته، ويعد في الأنصار لأن معتقته أنصارية، ويعد من القراء؛ لأنه كان أقرأهم أي أكثرهم قرآناً. وقال ابن عبد البر: كان من فضلاء الموالى ومن خيار الصحابة وكبارهم. وههنا في البخاري زيادة لم يذكرها المصنف وهو قوله: "وكان أكثرهم قرآناً"، وفيه إشارة إلى سبب تقديمهم له مع كونهم أشرف منه. وفي رواية للطبراني، كما في مجمع الزوائد (ج2 ص64) ؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً. (وفيهم) أي وفي الذين كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة. (عمر) بن الخطاب. (وأبوسلمة بن عبد الأسد) هو عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي زوج أم سلمة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أخا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخا حمزة من الرضاعة أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أرضعت حمزة، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أبا سلمة. وأمه برة بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان ممن هاجر بإمرأته أم سلمة إلى أرض الحبشة، ثم شهد بدراً بعد أن هاجر الهجرتين، وجرح يوم أحد جرحاً اندمل، ثم انتقض، فمات منه، وذلك لثلاث مضين من جمادي الآخرة سنة ثلاث من الهجرة، واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة حين خرج إلى غزوة ذي العشيرة، وكانت في السنة الثانية من الهجرة وهو ممن غلبت عليه كنيته، وتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده زوجته أم سلمة. وهذه الجملة أىقوله: " وفيهم عمرو أبوسلمة" ليست للبخاري، بل هي لأبي داود. والحديث رواه البخاري في باب استقضاء الموالى واستعمالهم من كتاب الأحكام بلفظ: قال ابن عمر كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسجد قباء، فيهم أبوبكر وعمر وأبوسلمة وزيد. (أي ابن حارثة) وعامر بن ربيعة. (أي العنزي مولى عمر) . وقد استشكل ذكر أبي بكر الصديق فيهم إذ في الحديث أن ذلك كان قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم -(4/69)
رواه البخاري.
1134- (12) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا ترفع لهم صلاتهم فوق رؤسهم شبراً: رجل أم قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأبوبكر كان رفيقه وصاحبه في الهجرة. ووجهه البيهقي بأنه يحتمل أن يكون سالم استمر يؤمهم بعد أن تحول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، ونزل بدار أبي أيوب قبل بناء مسجده بها، فيحتمل أن يقال فكان أبوبكر يصلي خلفه إذا جاء إلى قباء، واستدل بإمامة سالم بهؤلاء الجماعة على جواز إمامة العبد، ولذلك أورده المصنف في باب الإمامة تبعاً للبخاري والمجد بن تيمية. ووجه الدلالة منه إجماع كبار الصحابة القرشيين على تقدم سالم عليهم. ويدل عليه أيضاً ما روى الشافعي في مسنده وعبد الرزاق عن ابن أبي ملكية أنه كان يأتي عائشة هو وأبوه وعبيد بن عمير والمسور بن مخرمة وناس كثير فيؤمهم أبوعمر ومولى عائشة، وهو يومئذٍ غلام لم يعتق. وروى البيهقي عن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا عمر وذكوان كان عبداً لعائشة فأعتقه وكان يقوم بها شهر رمضان يؤمها وهو عبد. قال الحافظ: وإلى صحة إمامة العبد ذهب الجمهور، وخالف مالك فقال: لا يؤم الأحرار إلا إن كان قارئاً وهم لا يقرؤن فيؤمهم إلا في الجمعة؛ لأنها لا تجب عليه، وخالفه أشهب واحتج بأنها تجزئه إذا حضرها. وقال العيني: قال أصحابنا تكره إمامة العبد لإشتغاله بخدمة مولاه، وأجازها أبوذر وحذيفة وابن مسعود، ومن التابعين ابن سيرين والحسن وشريح والنخعي والشعبي والحكم، ومن الفقهاء الثوري وأبوحنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال مالك: تصح إمامته في غير الجمعة. وفي رواية: لا يؤم إلا إذا كان قارئاً، ومن خلفه من الأحرار لا يقرؤن ولا يؤم في جمعة ولا عيد. وفي المبسوط: إن إمامته جائزة وغيره أحب ولو اجتمع عبد فقيه وحر غير فقيه، فثلاثة أوجه: أصحها أنهما سواء، ويترجح قول من قال: العبد الفقيه أولى، لما أن سالماً كان يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء فيهم عمر وغيره؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً- انتهى كلام العيني باختصار يسير. وقال القاري في إمامة سالم مع وجود عمر دلالة قوية على مذهب من يقدم الأقرأ على الأفقه. (رواه البخاري) فيه نظر؛ لأن اللفظ المذكور ليس للبخاري، وقد ذكرنا سياقه الذي في كتاب الأحكام ولفظه: في أبواب الإمامة لما قدم المهاجرون الأولون العصبة موضعاً بقباء قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآناً. والحديث أخرجه أبوداود والبيهقي أيضاً.
1134- قوله: (لا ترفع لهم صلاتهم فوق رؤسهم شبراً) أي قدر شبر، وهوكناية عن عدم القبول كما تقدم. (وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط) لعدم إطاعتها إياه فيما أراد منها، ولهذا قال "باتت"؛ لأن ذلك في العادة يكون في الليل إلا فلا يختص الحكم بالليل، قاله السندي. (وأخوان) بفتحتين أي نسباً أو ديناً بأن يكونا(4/70)
متصارمان)) . رواه ابن ماجه.
(27) باب ما على الإمام
{الفصل الأول}
1135- (1) عن أنس، قال: ((ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم -،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مسلمين. (متصارمين) أي متقاطعان أي فوق ثلاث أو في الباطل. والحاصل أن المراد هو التقاطع الغير الجائز ديناً وعد الأخوين ثالثاً باعتبار أن المراد بالثلاثة الأنواع الثلاثة لا النفر الثلاثة، فليتأمل، قال الطيبي: متصارمان من الصرم، وهو القطع. وإخوان أعم من أن يكونا من جهة النسب أو الدين، لما ورد: لا يحل لمسلم أن يصارم مسلماً فوق ثلاث أي يهجره ويقطع مكالمته- انتهى. (رواه ابن ماجه) قال العراقي: وإسناده حسن. وقال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وقال ميرك: إسناده حسن. قال النووي. ورواه ابن حبان في صحيحه- انتهىكلام ميرك.
(باب ما على الإمام) أي هذا باب في بيان الحقوق التي للمؤتمين على الإمام، وأهمها التخفيف في الصلاة رعاية لحالهم من المرض والسقم والحاجة وعدم التطويل الذي ينفرهم عن حضور الجماعة. وقال القاري: ما على الإمام أي من مراعاة المأمومين بالتخفيف في الصلاة، قال في اللمعات: ينبغي أن يعلم أنه ليس المراد بالتخفيف وترك التطويل أن يترك سنة القراءة والتسبيحات ويتهاون في أدائها، بل أن يقتصر على قدر الكفاية في ذلك، مثل أن يقتصر على قراءة المفصل بأقسامها على ما عين منها في الصلاة، ويكتفي على ثلاث مرات من التسبيح بأدائها، كما ينبغي مع رعاية القومة والجلسة، وأكثر ما يراد بتخفيف الصلاة الوارد في الأحاديث تخفيف القراءة- انتهى. وسيأتي مزيد بيان لذلك في شرح أحاديث الباب، وما هو الراجح في معنى التخفيف المأمور المطلوب في حق الإمام.
1135- قوله: (ما صليت وراء إمام قط) أي مع طول عمره، فإنه آخر من مات بالبصرة من الصحابة سنة إحدى وتسعين، وله من العمر مائة وثلاث سنين. (أخف) صفة لإمام (صلاة) بالنصب على التمييز. (ولا أتم) عطف على سابقه، يعني صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت خفيفة غير طويلة، ومع خفتها كانت تكون تامة كاملة. فقد روى مسلم من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان من أخف الناس صلاة في تمام، ولهما عن أنس أيضاً: كان يوجز في الصلاة ويتم: وقيل. يمكن أن يكون المعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل الصلاة حين يرى رغبة الصحابة في التطويل ونشاطهم لذلك ويخفف أخرى عند وجود عذر أو داع يدعوا إلى التخفيف وترك الطويل والظاهر هو(4/71)
المعنى الأول. قيل: خفة الصلاة عبارة عن عدم تطويل قراءتها فوق ما ورد، وعين في الأحاديث وعن تخفيف القعود وتمامها عبارة عن الإتيان بجميع الأركان والواجبات والسنن وعن إتمام الركوع والسجود، فقد روى النسائي من حديث زيد بن أسلم عن أنس قال: ما صليت وراء إمام أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا. (يعني عمر بن عبد العزيز) قال زيد: وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود. وروى أبوداود والنسائي من حديث أنس أيضاً قال: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة برسول الله من هذا الفتى، يعني عمر بن عبد العزيز، فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات. فقد علم من هذين الحديثين أن المراد بخفة الصلاة تخفيف القيام والقعود، وبتمامها اتمام الركوع والسجود، وعلم أيضاً أن من سبح في الركوع والسجود عشر تسبيحات لا يكون فعله مخالفاً لما وصف به أنس صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خفتها مع التمام. وقيل: التخفيف أمر نسبي، فرب طويل يكون قصيراً بالنسبة إلى أطول منه، والقصير يكون طويلاً بالنسبة إلى أقصر منه، فكانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - خفيفة، ومع خفتها تكون تامة ولا اشكال فيه. وقيل: المراد أن تطويله - صلى الله عليه وسلم - يرى بالنسبة إلى صلاة الآخرين في غاية الخفة، يعني لو كان غيره - صلى الله عليه وسلم - يقرأ مثل هذه القراءة يرى طويلاً ويورث الملالة بخلافها عنه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان يورث ذوقاً ونشاطاً ولذة وحضور بالاستماع عنه - صلى الله عليه وسلم - من جهة حسن الصوت وجودة الأداء وبروز الأنوار وظهور الأسرار. وأيضاً كان في قراءته - صلى الله عليه وسلم - سرعة وطي لسان وزمان يتم في أدنى ساعة كثيراً منها مع كونها مجودة مرتلة مبينة. وقال ابن القيم في كتاب الصلاة بعد ذكر حديث الباب وحديث أنس عند البخاري بلفظ: "كان يوجز الصلاة ويكملها" ما لفظه: فوصف أي أنس صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالإيجاز والتمام، والإيجاز هو الذي كان يفعله لا الايجاز الذي يظنه من لم يقف على مقدار صلاته، فان الإيجاز أمر نسبي اضافي راجع إلى السنة لا إلى شهوة الإمام ومن خلفه، فلما كان يقرأ في الفجر بالستين إلى المائة. (أي آية) كان هذا الايجاز بالنسبة إلى ست مائة إلى ألف ولما قرأ في المغرب بالأعراف كان هذا الايجاز بالنسبة إلى البقرة، ويدل على هذا أن أنساً نفسه قال في الحديث الذي رواه أبوداود والنسائي: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى، يعني عمر بن عبد العزيز، فحرزنا في ركوعه عشر تسبيحات الخ. وأنس أيضاً هو القائل في الحديث المتفق عليه: إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله يصلي بنا. قال ثابت كان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي، وأنس هو القائل هذا، وهو القائل: "ما صليت وراء إمام أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وحديثه لا يكذب(4/72)
وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعضه بعضا- انتهى. (وإن كان) إن هذه هي المخففة من المثقلة، واسمها ضمير الشأن، وكان خبرها أي أنه كان (ليسمع بكاء الصبي) فيه جواز ادخال الصبيان المساجد وإن كان الأولى تنزيه المساجد عمن لا يؤمن حدثه فيها؛ لحديث "جنبوا مساجدنا صبيانكم" الخ. أخرجه ابن ماجه بسند ضعيف جداً. وقال الحافظ: فيه أي في الاستدلال بحديث الباب على جواز إدخال الصبيان المساجد نظر، لاحتمال أن يكون الصبي كان مخلفاً في بيت بقرب من المسجد بحيث يسمع بكاءه. (فيخفف) بين مسلم في رواية ثابت عن أنس محل التخفيف ولفظه: "فيقرأ بالسورة القصيرة". وبين أبي شيبة من طريق عبد الرحمن بن سابط مقدارها ولفظه: أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الركعة الأولى بسورة طويلة فسمع بكاء صبي فقرأ بالثانية بثلاث آيات، وهذا مرسل، كذا في الفتح. وذكر العيني حديث ابن سابط بلفظ "قرأ في الركعة الأولى بسورة نحو ستين آية فسمع بكاء الصبي" الخ. (مخافة أن تفتن أمه) بضم المثناة الفوقية مبنياً للمفعول من الثلاثي ومن الأفعال والتفعيل أي تلتهى عن صلاتها لاشغال قلبها ببكائه، زاد عبد الرزاق من مرسل عطاء أو تتركه فضيع. وقوله: "مخافة بفتح الميم منصوب على التعليل مضاف إلى أن المصدرية، أي خوفاً من افتتان أمه. وفي نسخة أبي ذر من البخاري "أن يفتن" بفتح المثناة التحتية وكسر ثالثه مبنياً للفاعل، وأمه بالنصب على المفعولية. وذكره الجزري في جامع الأصول (ج6 ص374) بلفظ "مخافة أن تفتن أمه" أي من الافتنان، وفي الحديث دلالة على كمال شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ومراعاة أحوال الكبير مهم والصغير، وعلى مشروعية إيثار تخفيف الصلاة للأمر يحدث. قال السندي: وربما يؤخذ منه أن الإمام يجوز له مراعاة من دخل المسجد بالتطويل ليدرك الركعة كما له أن يخفف لأجلهم ولا يسمى مثله رياء بل هو إعانة على الخير وتخليص عن الشر- انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص102) : فيه دليل على أن الإمام وهو راكع إذا أحس برجل يريد الصلاة معه كان له أن ينتظره راكعاً ليدرك فضيلة الركعة في الجماعة؛ لأنه إذا كان له أن يحذف من طول الصلاة لحاجة الإنسان في بعض أمور الدنيا كان له أن يريد فيها لعبادة الله، بل هو أحق بذلك وأولى. وتعقبه القرطبي بأن في التطويل ههنا زيادة عمل في الصلاة غير مطلوب بخلاف التخفيف والحذف فإنه مطلوب- انتهى. قال ابن بطال: وممن أجاز ذلك الشعبي والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وقال آخرون: ينظر ما لم يشق على أصحابه، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال مالك: لا ينتظر؛ لأنه يضر من خلفه، وهو قول الأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي، ذكره العيني. وقال الحافظ في هذه المسألة خلاف عند الشافعية وتفصيل. وأطلق النووي عن المذهب استحباب ذلك. وفي التجريد للمحاملى: نقل كراهيته عن الجديد، وبه قال الأوزاعي ومالك وأبوحنيفة وأبويوسف. وقال محمد بن الحسن: أخشى أن يكون شركاً- انتهى. قلت: القول بكراهة ذلك لحمله على الرياء وتوهم الشرك فيه غفلة عظيمة من قائله، وتنطع في الدين، وتعمق في الشريعة لا يصح لأهل الورع(4/73)
متفق عليه.
1136- (2) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها،
فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه)) . رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والتقوى. فالدين يسر، والله تعالى ما كلفنا فوق وسعنا، ونية الإحسان إلى المسلم نية جميلة حسنة يثاب عليها صاحبها لكونها لله تعالى ولا شك أن في مراعاة الإمام من دخل المسجد بالتطويل ليدرك الركعة من غير أن يشق على أصحابه إعانة له على طاعة مع نية التقرب إلى الله تعالى بتطويل الركن، وليس فيه شائبة الرياء والشرك، كيف وقد روى أحمد وأبوداود عن عبد الله بن أبي أوفي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. وقد سكت عنه أبوداود والمنذري، وفيه رجل مجهول، وروى هو أيضاً وابن خزيمة وابن حبان عن أبي قتادة أنه قال: (أى في بيان حكمة تويل الركعة الأولى) فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، فأعدل الأقوال عندنا هو ما ذهب إليه أحمد وإسحاق وأبوثور. والله تعالى أعلم. (متفق عليه) فيه نظر؛ لأن مسلماً أخرج القطعة الأولى فقط أي إلى قوله: "ولا أتم الصلاة من النبي - صلى الله عليه وسلم - " وأما القطعة الثانية فهي من أفراد البخاري. أخرجه الإسماعيلي مطولاً بتمامه. وروى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والبيهقي من طريق آخر عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد اطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتى مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه"، لفظ البخاري.
1136- قوله: (وأنا أريد إطالتها) جملة حالية. (فأسمع بكاء الصبي) قال العيني: البكاء إذا مددت أردت به الصوت الذي يكون معه، وإذا قصرت أردت خروج الدمع. وههنا ممدود لا محالة لقرينة فأسمع، إذ السماع لا يكون إلا في الصوت. (فأتجوز) أي فأخفف. (في صلاتي) قال الطيبي: أي أخفف كأنه تجاوز ما قصده أي ما قصد فعله لولا بكاء الصبي، قال: ومعنى التجوز أنه قطع قراءة السورة، وأسرع في أفعاله- انتهى. والأظهر أنه شرع في سورة قصيرة بعد ما أراد أن يقرأ سورة طويلة، كما تقدم من حديث أنس عند مسلم. (مما أعلم) "ما" مصدرية أو موصولة، والعائد محذوف. ومن تعليليه للاختصار، أي من أجل ما أعلم. (من شدة وجد أمه) بفتح الواو وسون الجيم، أي حزنها من وجد له يجد ويجد وجداً أي حزن. وقال ابن سيدة في المحكم: وجد يجد وجداً بالسكون والتحريك حزن- انتهى. ومن بيانية لما. (من بكاءه) تعليلية للوجد. قال الحافظ: وكان ذكر الإمام هنا خرج مخرج الغالب، وإلا فمن كان في معناه يلتحق بها. وفي الحديث دلالة على حضور النساء إلى المساجد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. (رواه البخاري) أي عن أبي قتادة، وفيه(4/74)
1137- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن
فيهم السقيم والضعيف والكبير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نظر؛ لأن السياق الذي ذكره المصنف إنما هو لحديث أنس كما أسلفنا لا لأبي قتادة، وحديث أبي قتادة أخرجه البخاري في موضعين، رواه أولاً في باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي بلفظ: إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتى كراهية أن أشق على أمه، ثم رواه في باب خروج النساء إلى المساجد قبيل كتاب الجمعة بلفظ: إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها، والباقي مثله. وقد ظهر بهذا أن المصنف أخطأ في بيان مخرج الحديث، أي في ذكر الصحابي الذي روى الحديث بسياق الكتاب، فكان عليه أن يقول وعنه. (أى عن أنس) مكان وعن أبي قتادة وحديث أبي قتادة، أخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.
1137- قوله: (إذا صلى أحدكم للناس) أي إماماً لهم فرضاً أو نفلاً أو اللام بمعنى الباء. وفي رواية لمسلم: إذا أمأحدكم الناس. (فليخفف) التخفيف من الأمور الإضافية، فقد يكون الشيء خفيا بالنسبة إلى عادة قوم طويلاً بالنسبة لعادة آخرين، فينبغي أن يقتدي بأضعف قومه بشرط أن لا يبلغ الإخلال في الفرئض والواجبات والسنن، فلا بد من التخفيف مع الكمال. قال الحافظ: أولى ما أخذ حد التخفيف من الحديث الذي أخرجه أبوداود والنسائي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: أنت إمام قومك، واقتد أضعفهم، إسناده حسن، وأصله في مسلم- انتهى. وقد تقدم هذا الحديث في باب فضل الآذان. (فإن فيهم السقيم) أي المريض. (والضعيف) أي ضعيف الخلقة. (والكبير) أي في السن. زاد مسلم في رواية: والصغير. وزاد الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص: والحامل والمرضع، وله من حديث عدي بن حاتم: والعابر السبيل. وقوله في حديثي أبي مسعود وعثمان بن أبي العاص الآيتين: ذا الحاجة يشمل الأوصاف المذكورة، وقد وقع أيضاً هذا في رواية لمسلم من حديث أبي هريرة وقوله: فإن فيهم الخ تعليل للأمر المذكور. فمقتضاه أنه متى لم يكن فيهم من يتصف بصفة من المذكورات أو كانوا محصورين راضين بالتطويل في مكان لا يدخله غيرهم لم يضر التطويل؛ لانتفاء العلة. لكن قال ابن عبد البر: إن العلة الموجبة للتخفيف عندي مأمونة؛ لأن الإمام وإن علم قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث بهم من حادث شغل، وعارض من حاجة، وآفة من حدث بول أو غيره. وقال اليعمري: الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة، فينبغي للأئمة التخفيف مطلقاً، قال وهذا كما شرع القصر في صلاة المسافر، وعلل بالمشقة، وهو مع ذلك يشرع، ولو لم يشق عملاً بالغالب؛ لأنه(4/75)
وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ماشاء)) . متفق عليه.
1138- (4) وعمن قيس بن أبي حازم، قال: أخبرني أبومسعود أن رجلاً قال: ((والله يا رسول الله!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يدري ما يطرأ عليه وهنا كذلك. (فليطول ما شاء) أى في القراءة والركوع والسجود والاعتدال والجلوس بين السجدتين والتشهد. وفي رواية لمسلم: فليصل كيف شاء أي مخففاً أومطولاً، يعني أنه لا حجر عليه إن شاء طول وإن شاء طول وإن شاء خفف، ولكن لا ينبغي التطويل إلى أن يخرج الوقت أو يدخل في حد الكراهة. وفي مسند السراج: وإذا صلى وحده فليطول إن شاء. والحديث يدل على مشروعية التخفيف للأئمة، وترك التطويل للعلل المذكورة من الضعف والسقم والكبر والحاجة، ويلحق بها ما كان في معناها. واختلفوا في أن الأمر المذكور للوجوب أو الندب. قال القسطلاني: وقد ذهب جماعة كابن حزم وابن عبد البر وابن بطال إلى الوجوب تمسكاً بظاهر الأمر في قوله: فليخفف، وعبارة ابن عبد البر في هذا الحديث أوضح الدلائل على أن أئمة الجماعة يلزمهم التخفيف لأمره عليه الصلاة والسلام إياهم بذلك، ولا يجوز لهم التطويل؛ لأن في الأمر بالتخفيف نهياً عن التطويل. والمراد بالتخفيف أن يكون بحيث لا يخل بسننها ومقاصدها- انتهى. وقال الشوكاني في النيل: قال ابن عبد البر: التخفيف لكل إمام أمر مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال، وأما الحذف والنقصان فلا لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن نقر الغراب، ورأى رجلاً يصلي فلم يتم ركوعه، فقال له: إرجع فصل فإنك لم تصل، وقال: لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه في ركوعه وسجوده، ثم قال: لا أعلم خلافاً بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكل من أم قوماً على ما شرطنا من الإتمام، وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا تبغضوا الله إلى عبادة يطول أحدكم في صلاته حتى يشق على من خلفه- انتهى. (متفق عليه) واللفظ البخاري، وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص115- 117) .
1138- قوله: (وعن قيس بن أبي حازم) بالمهملة والزاى. قال في التقريب: قيس بن أبي حازم البجلي أبوعبد الله الكوفي، ثقة من كبار التابعين مخضرم، ويقال له رؤية. وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة، مات بعد التسعين أو قبلها، وقد جاوز المائة وتغير. وقال في التهذيب: أدرك الجاهلية، ورحل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليباعه فقبض، وهو في الطريق، وأبوه له صحبة، ويقال: إن لقيس رؤية ولم يثبت. وقد أوضح القول في ذلك في الإصابة (ج3 ص271- 272) فارجع إليه. (أخبرني أبومسعود) عقبة بن عمرو الأنصاري البدري. (أن رجلاً) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ووهم من زعم أنه حزم بن أبيّ بن كعب؛(4/76)
إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطبل بنا. فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضباً منه يومئذٍ، ثم قال: إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن قصته كانت مع معاذ. (كما روى أبوداود في باب تخفيف الصلاة) لا مع أبيّ بن كعب. (إني لأتاخر عن الصلاة العداة) أي لا أحضر صلاة الصبح مع الجماعة. وفي رواية للبخاري: عن صلاة الفجر. وإنما خصها بالذكر؛ لأنها تطول فيها القراءة غالباً، ولأن الانصراف منها وقت التوجه لمن له حرفة إليها. (من أجل فلان) يعني إمام مسجد حية أو قبيلته. (مما يطيل بنا) أي من أجل إطالته بنا فما مصدرية، ومن الأولى تعليلية للتأخر والثانية بدل منها. وقال الطيبي: ابتدائية متعلقة بأتأخر، والثانية مع في حيزها بدل منها. والمراد من الإطالة أي في القراءة. وهذه قصة أخرى غير قصة معاذ المتقدمة في باب القراءة في الصلاة. قال الحافظ: أما قصة معاذ فمغايرة لحديث الباب، يعني حديث أبي مسعود هذا؛ لأن قصة معاذ كانت في العشاء وكان الإمام فيها معاذاً، وكانت في مسجد بنى سلمة وهذه كانت في الصبح وكانت في مسجد قبا، ووهم من قرأ الإمام المبهم هنا بمعاذ، بل المراد به أبيّ بن كعب، كما أخرجه أبويعلى بإسناده حسن من رواية عيسى بن جارية عن جابر قال: كان أبي بن كعب يصلي بأهل قبا، فاستفتح سورة طويلة فدخل معه غلام من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها انفتل من صلاته، فغضب أبيّ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أبيًّا، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعرف الغضب في وجهه، ثم قال إن منكم منفرين، فإذا صليتم فأوجزوا، فإن خلفكم الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة. (أشد) بالنصب على الحال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (غضباً) منصوب على التمييز. (منه) أي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في صلة أشد. (يومئذٍ) أي يوم أخبر بذلك أي كان اليوم أشد غضباً منه في الأيام الأخر، والمفضل والمفضل عليه وإن كانا واحداً، وهو الرسول؛ لأن الضمير راجع إليه لكن باعتبارين، فهو مفضل باعتبار يومئذٍ، ومفضل عليه باعتبار سائر الأيام. وسبب شدة غضبه - صلى الله عليه وسلم -، إما لمخالفة الموعظة لإحتمال تقدم الإعلام بذلك بقصة معاذ، أو للتقصير في تعلم ما ينبغي تعلمه أو لإرادة الاهتمام بما يليقه على أصحابه ليكونوا من سماعه على بال لئلا يعود من فعل ذلك إلى مثله. (إن منكم) أي بعضكم. (منفرين) بصيغة الجمع من التنفير، أي للناس من الصلاة بالجماعة لتطويلكم المورث للملالة والتضجر. ولم يخاطب المطول على التعيين، بل عمم خوف الخجل عليه لطفاً به وشفقة على جمل عادته الكريمة. (فأيكم) أي أىُّ واحد منكم. (ما صلى بالناس) أي متلبساً بهم إماماً لهم. وكلمة "ما" زائدة، و"صلى" فعل شرط، وزيادة "ما" مع أي الشرطية كثيرة، وفائدتها التوكيد لمعنى الإبهام، وزيادة التعميم، وقيل: "ما" موصوفة منصوبة المحل على المفعول المطلق، أي أيكم أي صلاة صلى. (فليتجوز) جواب الشرط، أي فليخفف في صلاته بهم، يقال: تجوز في صلاته(4/77)
فإن فيهم الضعيف، والكبير، وذا الحاجة)) . متفق عليه.
1139- (5) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يصلون لكم فإن أصابوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي خفف. وفي رواية: فمن صلى بالناس فليخفف. وفي أخرى: فمن أم الناس فليتجوز. (فإن فيهم الضعيف والكبير) أي في السن. وفي رواية للبخاري: فإن فيهم المريض والضعيف. وكأن المراد بالضعيف هنا المريض، وفي رواية المذكورة من يكون ضعيفاً في خلقته كالنحيف والمسن، وكل في مريض ضعيف من غير عكس. والحديث يدل على جواز التأخر عن صلاة الجماعة إذا علم من عادة الإمام التطويل الكثير، وعلى جواز الغضب لما ينكر من أمور الدين، وعلى تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين. وفيه وعيد على من يسعى في تخلف الغير عن الجماعة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العلم والصلاة والأدب والأحكام، ومسلم في الصلاة، واللفظ المذكور للبخاري في باب تخفيف الإمام في القيام، وإتمام الركوع والسجود. والحديث أخرجه أيضاً النسائي في العلم من سننه الكبرى وابن ماجه في الصلاة والبيهقي (ج3 ص115) .
1139- قوله: (يصلون) أي الأئمة. (لكم) أي لأجلكم. فللام فيه للتعليل. (فإن أصابوا) في الأركان والشرائط والسنن، قاله الكرمانى. وقال العيني: يعني فإن أتموا، يدل عليه حديث عقبة بن عامر الذي أخرجه الحاكم على شرط البخاري عنه مرفوعاً بلفظ: من أم الناس فأتم. وفي نسخة: فأصاب فالصلاة له ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم. وأعله الطحاوي بانقطاع ما بين عبد الرحمن بن حرملة وأبي علي الهمداني الراوى عن عقبة- انتهى كلام العينى. قلت: حديث عقبة هذا قال الحاكم في المستدرك (ج1 ص210) بعد روايته: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وقد أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وغيرهما، قال المنذري في الترغيب: عن أبي على المصري. (الهمداني) قال: سافرنا مع عقبة بن عامر فحضرتنا الصلاة فأردنا أن يتقدمنا، فقال إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أم قوماً فإن أتم فله التمام، ولهم التمام، وإن لم يتم فلهم التمام، وعليه الإثم. رواه أحمد واللفظ له وأبوداود وابن ماجه والحاكم وصححه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، ولفظهما: من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم. قال المنذري: هو عندهم من رواية عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن أبي علي المصري. وعبد الرحمن قال أبوحاتم: لا يحتج به، وضعفه يحيى القطان. ولينه البخاري. ووثقة ابن معين، وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: لم أر له حديثاً منكراً، انتهى كلام المنذري، قلت: ووثقه أيضاً محمد بن عمرو وابن نمير، وقال الساجي: صدوق يهم في الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. وروى له مسلم حديثاً واحداً في متابعة القنوت. وذكر الحافظ في الفتح حديث عقبة هذا نقلاً عن أحمد وأبي داود، وسكت عنه وهذا كله(4/78)
فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يدل على أن هذا الحديث عند الذهبي والمنذري والحافظ صحيح أو حسن قابل للاحتجاج، وأنهم لم يروا قول الطحاوي: لا يعرف لعبد الرحمن بن حرملة سماع من أبي علي الهمداني قابلاً للالتفات، وكيف يلتفت إلى قوله، وقد رواه عبد الرحمن بن حرملة بلفظ الإخبار عند البيهقي (ج3 ص127) حيث قال: أخبرني أبوعلي الهمداني. (فلكم) أي ثواب صلاتكم. قال الحافظ: زاد أحمد. (وكذا البيهقي) ولهم أي ثواب صلاتهم، وهو يغني عن تكلف توجيه حذفها، يشير إلى ما قال المظهر إنما اقتصر على لكم، إذ يفهم من تجاوز ثواب الإصابة إلى غيرهم ثبوته لهم، وقال القاري: أي لكم ولهم على التغليب؛ لأنه مفهوم بالأولى. وقيل: إن الحديث سيق في خطأ الإمام في إصابته وقت الصلاة. والمعنى فإن أصابوا أي الوقت، قاله ابن بطال والطحاوي واستدلا لذلك بما روى النسائي وغيره عن ابن مسعود بسند حسن مرفوعاً: ستدركون أقواماً يصلون الصلاة لغير وقتها فإن أدركتموهم فصلوا في بيوتكم للوقت الذي تعرفون، ثم صلوا معهم، واجعلوها سبحة. والظاهر أن المراد به ما هو أعم من ترك إصابة الوقت، ففي رواية لأحمد (ج4 ص145) من حديث عقبة بن عامر المذكور: من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم، وفي رواية له أيضاً (ج4 ص147) : فإن صلوا الصلاة لوقتها فأتموا الركوع والسجود فهي لكم ولهم، وإن لم يصلوا الصلاة لوقتها ولم يتموا ركوعها ولا سجودها فهي لكم وعليهم. والرواية الأولى أخرجها البيهقي أيضاً. (وإن اخطأوا) أي ارتكبوا الخطيئة في صلاتهم ككونهم محدثين مثلاً. قال الحافظ: ولم يرد به الخطأ المقابل للعمد؛ لأنه لا إثم فيه. (فلكم) أي ثوابها. (وعليهم) أي عقابها فخطأ الإمام في بعض غير مؤثر في صحة صلاة المأموم إذا أصاب، فلو ظهر بعد الصلاة أن الإمام جنب أو محدث أو في بدنه نجاسة فلا تجب إعادة الصلاة على المؤتم به. قال البغوي في شرح السنة: فيه دليل على أنه إذا صلى بقوم محدثاً إنه تصح صلاة المأمومين خلفه، وعليه الإعادة. ويدل عليه أيضاً ما ذكر المجد بن تيمية في المنتقى أنه صح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب ولم يعلم فأعاد ولم يعيدوا، وكذلك عثمان وروي عن علي من قوله- انتهى. وإليه وذهب الشافعي، فإن المؤتم عنده تبع للإمام في مجرد الموافقة لا في الصحة والفساد، وبه قال مالك وأحمد. وظاهر قوله "أخطأوا" يدل على ما هو أعم مما ذكر البغوي، كالخطأ في الأركان كما قال القاري فإن أصابوا أي أتوا بجميع ما عليهم من الأركان والشرائط، وإن اخطأوا بأن أخلوا ببعض ذلك عمداً أو سهواً- انتهى. فيكون فيه دليل على صحة الائتمام بمن يخل بشيء من الصلاة ركناً كان أوغيره إذا أتم المأموم، وهو وجه للشافعية بشرط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه. وحمله الطحاوى وغيره من الحنفية على الخطأ في إصابة الوقت، كما تقدم؛ لأن المؤتم عندهم تبع للإمام مطلقاً، يعني في الصحة والفساد فيجب عندهم الإعادة على الإمام والمؤتمين جميعاً لو ظهر أنه صلى محدثاً أو جنباً، واستدلوا لذلك بقوله(4/79)
رواه البخاري. وهذا الباب خال عن الفصل الثاني.
{الفصل الثالث}
1140- (6) عن عثمان بن أبي العاص، قال: ((آخر ما عهد إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أممت قوماً فأخف بهم الصلاة)) . رواه مسلم. وفي رواية له: أن سول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له: ((أم قومك، قال: قلت: يا رسول الله! إني لأجد في نفسي شيئاً، قال: ادنه، فأجلسني بين يديه، ثم وضع كفه في صدري
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه السلام الإمام ضامن، وقد تقدم الكلام على معناه في باب فضل الأذان. والراجح عندي هو ما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه من الأئمة قال المهلب: في الحديث جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف منه، يعني إذا كان صاحب شوكة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج3 ص127) وابن حبان في صحيحه، ولفظه: سيأتي أو سيكون أقوام يصلون الصلاة، فإن أتموا فلكم وإن انتقصوا فعليهم ولكم. (وهذا الباب خال) أي في المصابيح. (عن الفصل الثاني) أي عن الحسان وهو دفع لوهم الإسقاط ورفع لورود الاعتراض على قوله الفصل الثالث من غير الثاني.
1140- قوله: (آخر ما عهد) بكسر الهاء أي أوصى. (إليّ) وأمرني به. (إذا أممت) بالتخفيف. (فأخف) بفتح الفاء المشددة، ويجوز كسرها أمر من الإخفاف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص218) وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص116) . (وفي رواية له) أي لمسلم. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بفتح أن. (قال له) أي لعثمان. (أم قومك) أمر على وزن مد. (إني أجد في نفسي شيئاً) قال الطيبي: أي أرى في نفسي ما لا أستطيع على شرائط الإمامة وإيفاء حقها لما في صدري من الوساوس، وقلة تحملى القرآن والفقه، فيكون وضع اليد على ظهره وصدره لإزالة ما يمنعه منها، وإثبات ما يقويه على احتمال ما يصلح لها من القرآن والفقه. وقال النووي: قيل: يحتمل أنه أراد الخوف من حصول شيء من الكبر والإعجاب له يتقدمه على الناس، فأذهبه الله تعالى ببركة كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعائه، يحتمل أنه أراد الوسوسة في الصلاة، فإنه كان موسوساً، ولا يصلح للإمامة الموسوس. فقد ذكر مسلم في الصحيح عن عثمان هذا قال: قلت: يا رسول الله! إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتى يلبسها عليّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك شيطان. يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله، واتفل عن يسارك ثلاثا، ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى- انتهى. وقد تقدم هذا الحديث في باب الوسوسة. (أدنه) الدنو، وهو بهاء السكت لبيان ضم النون. (فأجلسني) من الإجلاس. وفي بعض النسخ من صحيح مسلم: فجلسني أي(4/80)
بين ثدي، ثم قال: تحول، فوضعها في ظهري بين كتفي، ثم قال: أمّ قومك فمن أم قوماً فليخفف، فإن فيهم الكبير، وإن فيهم المريض، وإن فيهم ذا الحاجة. فإذا صلى أحدكم وحده فليصل كيف شاء)) .
1141- (7) وعن ابن عمر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالتخفيف، ويؤمنا بالصافات)) . رواه النسائي.
(28) باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق
{الفصل الأول}
1142- (1) عن البراء بن عازب، قال: ((كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قال: سمع الله لمن حمده، لم يحن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بتشديد اللام. (بين ثديي) بتشديد الياء على التثنية، وكذا قوله: كتفي. (تحول) أي انقلب. (فوضعها) أي كتفه. (فإن فيهم الكبير) في السن. (وإن فيهم الضعيف) كالصبيان والنسوان أو ضعيفي الأبدان وإن لم يكن مريضاً أو كبيراً. (وإن فيهم ذا الحاجة) أي المستعجلة. وفي تكرير "إن" إشارة إلى صلاحية كل للعلة. وهذه الرواية أخرجها أحمد (ج4 ص216، 218) وابن ماجه بنحوها من غير ذكر قصة وضع اليد على الصدر والظهر، وأخرجها البيهقي (ج3 ص118) مع القصة، وأخرجها أبوداود والنسائي وأحمد أيضاً (ج4 ص217) بلفظ قال: قلت يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال أنت إمامهم. واقتد بأضعفهم.
1141- قوله: (يأمرنا بالتخفيف) أي بتخفيف الصلاة إذا كنا إماماً. والمراد التخفيف في القراءة على ما ذكر وعين منها في الأحاديث. (ويؤمنا بالصافات) لرغبة المقتدين به سماع قراءته، وقوتهم على التطويل بحيث يكون هذا بالنظر إليهم تخفيفاً، فرجع الأمر إلى أنه ينبغي له أن يراعي حالهم، قاله السندي. وقال الطيبي: قبل بينهما أي بين أمره بالتخفيف وبين إمامته لهم بالصافات تناف، وأجيب: بأنه إنما يلزم إذا لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضيلة يختص بها، وهو أن يقرأ الآيات الكثيرة في الأزمنة اليسيرة- انتهى. وقيل: يحمل على أنه فعل ذلك أحياناً لبيان الجواز، وإليه إأشار النسائي حيث بوب على هذا الحديث: باب الرخصة للإمام في التطويل بعد: باب ما على الإمام من التخفيف. (رواه النسائي) وكذا البيهقي (ج3 ص118) .
(باب ما على المأموم من المتابعة) للإمام. (وحكم المسبوق) بالجر عطف على ما.
1142- قوله: (لم يحن) بفتح التحتانية وسكون المهملة وضم النون وكسرها، يقال حنا يحنو وحنى(4/81)
أحد منا ظهره حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض)) . متفق عليه.
1143- (2) وعن أنس، قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فلما قضى صلاته أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس! إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالإنصراف،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يحني معاً من بابي دعا ورمى، أي لم يقوس من حنيت العود وحنوته، أي عطفته وثنيته. (أحد منا ظهره) أي لم يثنه من القومة قاصداً للسجود. (حتى يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جبهته على الأرض) وفي رواية للبخاري: حتى يقع النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً ثم نقع سجوداً بعده، أي بحيث يتأخر ابتداء فعلهم عن ابتداء فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتقدم ابتداء فعلهم قبل فراغه من السجود، إذ أنه لا يجوز التقدم على الإمام، ولا التخلف عنه. ولا دلالة فيه على أن المأموم لا يشرع في الركن حتى يتمه الإمام خلافاً لابن الجوزي. ووقع في حديث عمرو بن حريث عند مسلم: وكان لا يحني رجل منا ظهره حتى يستتم ساجداً، ولأبي يعلى من حديث أنس: حتى يتمكن النبي - صلى الله عليه وسلم - من السجود. قال العيني: معنى هذا كله ظاهر في أن المأموم يشرع في الركن بعد شروع الإمام فيه وقبل الفراغه منه. وقال الحافظ بعد ذكر هذين الحديثين: وهذا أوضح في انتفاء المقارنة- انتهى. قال ابن دقيق العيد: حديث البراء يدل على تأخر الصحابة في الإقتداء عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يتلبس بالركن الذي ينتقل إليه لا حين يشرع في الهوي إليه. ولفظ الحديث الآخر يدل على ذلك أعني قوله: فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا فإنه يقتضي تقدم ما يسمى ركوعاً وسجوداً- انتهى. قلت: أحاديث البراء وعمرو بن حريث وأنس وما في معناها كلها دليل على أنه يجب على المأموم متابعة الإمام في أفعاله، وأن السنة أن يتخلف المأموم في الانتقالات عن الإمام، أي لا يقارن الإمام في الهوي إلى الركن، بل يتأخر عن الشروع في الهوي حتى يشرع الإمام في الركن الذي انتقل إليه، وإليه ذهب الشافعي، وهو الحق. وحمل الحنفية هذه الأحاديث على أنه أمرهم بذلك حين بدن، فخشي أن يتقدموا عليه. وفيه أن هذا الحمل محتاج إلى دليل. والحديث فيه دليل على جواز النظر إلى الإمام لأجل اتباعه في انتقالاته في الأركان. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب السجود على سبعة أعظم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص92) .
1143- قوله: (فلما قضى صلاته) أي أداها وفرغ منها. (إني إمامكم) يعني وسمي الإمام إماماً ليؤتم به ويقتدي به على وجه المتابعة. (فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالإنصراف) أي لتسليم. وحاصله أن المتابعة واجبة في الأحوال المذكورة. واستدل به بعضهم على جواز المقارنة. ورد بأنه دل منطوقه على منع المسابقة وبمفهومه على طلب المتابعة. وأما المقارنة فمسكوت. قال النووي: المراد بالإنصراف السلام- انتهى.(4/82)
فإني أراكم أمامي ومن خلفي)) . رواه مسلم.
1144- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبادروا الإمام: إذا كبر فكبروا، وإذا
قال: ولا الضآلين، فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا:
اللهم لك الحمد)) . متفق عليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويحتمل أن يكون المراد النهي عن الانصراف من مكان الصلاة قبل الإمام لفائدة أن يدرك المؤتم الدعاء أو لاحتمال أن يكون الإمام قد حصل له في صلاته سهو، فيذكر وهو في المسجد ويعود له، كما في قصة ذي اليدين، أو لكي تنصرف النساء إلى بيوتهن قبل الرجال، كما قيل في بيان علة النهي في حديث أنس المتقدم في باب الدعاء في التشهد بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضهم على الصلاة، ونهاهم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة. قال الطيبي في شرح حديث الباب: يحتمل أن يراد بالانصراف الفراغ من الصلاة، وأن يراد الخروج من المسجد. قال القاري: الاحتمال الثاني في غاية السقوط لعدم المناسبة بالسابق واللاحق، وأيضاً لم يعرف النهي عن الخروج من المسجد قبل خروجه عليه السلام- انتهى. قلت: الاحتمال الثاني يؤيده حديث أنس الذي ذكرناه آنفاً، ويؤيده أيضاً حديث أم سلمة السابق في باب الدعاء في التشهد بلفظ: أن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صلى من الرجال ما شاء الله. فإذا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام الرجال. (أمامي) بفتح الهمزة أي قدامي أي خارج الصلاة. (ومن خلفي) أي داخلها بالمشاهدة على طريق خرق العادة. والمعنى كما أراكم من أمامي أراكم من خلفي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج2 ص91- 92) .
1144- قوله: (لا تبادروا الإمام) أي لا تسبقوه بالتكبير والركوع والسجود والرفع منهما والقيام والسلام. (إذا كبر فكبروا) أي للإحرام أو مطلقاً فيشمل تكبير النقل. زاد أبوداود: ولا تكبروا حتى يكبر. (وإذا قال: ولا الضآلين) أي فقال آمين. (فقولوا آمين) أي مقارناً لتأمين الإمام لما تقدم أنه ليسن مقارنة تأمينه لتأمين إمامه. (وإذا ركع) أي أخذ في الركوع. (فاركعوا) زاد أبوداود: ولا تركعوا حتى يركع. (أى حتى يأخذ في الركوع لا حتى يفرغ منه، كما يتبادر من اللفظ) وإذا سجد. (أى أخذ في السجود) فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد. قال الحافظ: هي زيادة حسنة تنفى احتمال إرادة المقارنة من قوله: إذا كبر فكبروا. وقال العيني والحافظ أيضاً: رواية أبي داود هذه صريحة في انتفاء التقدم والمقارنة. (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد) استدل به من قال: إن وظيفة الإمام التسميع، ووظيفة المأموم التحميد؛ لأن ظاهره التوزيع والتقسيم وهو ينافي الشركة، وقد تقدم الكلام عليه في باب الركوع. (متفق عليه) أي على أصل الحديث. وإلا فاللفظ المذكور لمسلم(4/83)
إلا أن البخاري لم يذكر: وإذا قال: ولا الضآلين.
1145- (4) وعن أنس: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب فرساً، فصرع عنه، فجحش شقة الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دون البخاري. وللحديث طرق وألفاظ عند البخاري ومسلم: منها ما أخرجه البخاري في باب إقامة الصف من تمام الصلاة بلفظ: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون. وأقيموا الصف في الصلاة، فإن إقامة الصف من حسن الصلاة، وهو عند مسلم أيضاً إلا أنه لم يذكر قوله: وأقيموا الصف الخ، وزاد: فإذا كبر فكبروا. واستدل بقوله: ولا تختلفوا عليه، لأبي حنيفة وموافقيه على منع صلاة المفترض خلف المتنفل؛ لأن اختلاف النيات داخل تحت هذا القول لعمومه إطلاقه. وأجيب عنه بأنه محمول على الاختلاف في الأفعال الظاهرة فقط دون الباطنة، وهى ما لا يطلع المأموم عليه كالنية؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد بين وجوه الاختلاف وفصلها بقوله: فإذا كبر فكبروا الخ. ويلحق ما لم يذكر قياساً عليه، ومنها ما أخرجه البخاري أيضاً في باب إيجاب التكبير بلفظ: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص92) . (إلا أن البخاري لم يذكر: وإذا قال ولا الضآلين) يعني مع قوله: فقولوا آمين. وفيه أنه ليس في طريق من طرقه عند البخاري قوله: لا تبادروا الإمام كما عرفت فهذا اللفظ أيضاً من إفراد مسلم.
1145- قوله: (ركب فرساً) أي بالمدينة، كما في حديث جابر عند أبي داود. (فصرع عنه) بضم الصاد وكسر الراء المهملة أي أسقط عن الفرس. قال في القاموس: الصرع ويكسر الطرح على الأرض كالمصرع، وقد صرعه كمنعه. (فجحش) بجيم مضمومة ثم حاء مهملة مكسورة أي خدش، وهو قشر جلد العضو. وقيل: الجحش فوق الخدش. (شقة) بكسر الشين المعجمة أي جانبه (الأيمن) وفي رواية عبد الرزاق: ساقه الأيمن، وليست مصحفة كما زعم بعضهم لما يوافقها رواية البخاري في باب الصلاة في السطوح، والخشب بلفظ: فجحشت ساقه أو كتفه، فيقال: رواية الساق مفسرة لمحل الخدش من الشق الأيمن؛ لأن الخدش لم يستوعبه، ولا ينافي ذلك ما وقع في حديث جابر عند أبي داود: فصرعه على جزم النخلة، فانفكت قدمه، لاحتمال وقوع الأمرين، قال الحافظ: وأفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة. (فصلى) أي في مشربة لعائشة كما في حديث جابر (صلاة من الصلوات) أي المكتوبات. قال القاري: وهو ظاهر العبارة. وقيل: من(4/84)
وهو قاعد، فصلينا وراءه قعودا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النوافل. وفي رواية: فحضرت الصلاة. قال القرطبي: اللام للعهد ظاهراً، والمراد الفرض؛ لأنها التي عرف من عادتهم أنهم يجتمعون لها بخلاف النافلة. وحكى عياض عن ابن القاسم أنها كانت نفلاً. وتعقب بأن في رواية جابر عند أبي داود الجزم بأنها فرض. قال الحافظ: لكن لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنس: فصلى بنا يومئذ فكأنها نهارية الظهر أو العصر. (وهو قاعد) جملة حالية. قال عياض: يحتمل أن يكون أصابه من السقطة رض في الأعضاء منعه من القيام. ورد هذا بأنه ليس كذلك، وإنما كانت قدمه - صلى الله عليه وسلم - انفكت، كما ذكرنا من حديث جابر، وكذا وقع في رواية أنس عند أحمد والإسماعيلي. (فصلينا وراءه قعوداً) كذا في هذه الرواية: إنهم صلوا خلفه قاعدين، وهي رواية مالك عن الزهري عن أنس. وظاهرها يخالف ما روى البخاري وغيره من حديث عائشة بلفظ: فصلى جالساً وصلى وراءه قوم قياماً، فأشار إليهم أن أجلسوا. والجمع بينهما أن في رواية أنس هذه اختصاراً، وكأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس. ووقع في رواية حميد عن أنس عند البخاري في باب الصلاة في السطوح بلفظ: فصلى بهم جالساً وهم قيام: فلما سلم قال: إنما جعل الإمام الخ. وفيهم أيضاً اختصار؛ لأنه لم يذكر قوله: لهم اجلسوا. والجمع بينهما أنهم ابتدؤا الصلاة قياماً، فأوما إليهم بأن يقعدوا فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين وجمعتهما عائشة، وكذا جمعهما جابرعند مسلم. وجمع القرطبي بين الحديثين باحتمال أن يكون بعضهم قعد من أول الحال، وهو الذي حكاه أنس، وبعضهم قام حتى أشار إليه بالجلوس، وهذا الذي حكته عائشة. وتعقب باستبعاد قعود بعضهم بغير إذنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يستلزم النسخ بالاجتهاد؛ لأن فرض القادر في الأصل القيام. وجمع آخرون بينهما باحتمال تعدد الواقعة. وفيه بُعد؛ لأن حديث أنس إن كانت القصة فيه سابقه لزم منه ما ذكرنا من النسخ بالاجتهاد، وإن كانت متأخرة لم يحتج إلى إعادة قول: إنما جعل الإمام ليؤتم به الخ؛ لأنهم قد امتثلوا أمره السابق وصلوا قعوداً لكونه قاعداً، كذا في الفتح. (فلما انصرف) أي من الصلاة. (إنما جعل) بصيغة المجهول. (الإمام) يحتمل أن يكون جعل بمعنى سمي فيتعدى إلى مفعولين أحدهما الإمام القائم مقام الفاعل، والثاني محذوف أي إنما جعل الإمام إماماً، ويحتمل أن يكون بمعنى صار، أي إنما صير الإمام إماماً. وقيل: جعل بمعنى نصب واتخذ فلا حاجة إلى التقدير، وكلمة "إنما" تفيد جعل الإمام مقصوراً على الإنصاف بكونه مؤتماً به لا يتجاوز المؤتم إلى مخالفته. (ليؤتم به) أي ليقتدي به بالوجه المشروع. وقوله: فإذا صلى قائماً الخ بيان لذلك والائتمام الاقتداء والاتباع، أي جعل الإمام إماماً ليقتدي به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه بل يراقب أحواله، ويأتي على أثرها بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال التي فصلها الحديث(4/85)
فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله
لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا في غيرها قياساً، ولكن ذلك مخصوص بالأفعال الظاهرة ولا يشمل الباطنة، وهي ما لا يطلع عليه المأموم كالنية لما سيأتي. وبالجملة الإئتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه في أحوال الصلاة، فتنتفى المقارنة والمسابقة والمخالفة. قال النووي: متابعة الإمام واجبة في الأفعال الظاهرة. وقد نبه عليها في الحديث فذكر الركوع وغيره بخلاف النية، فإنها لم تذكر، وقد خرجت بدليل آخر، وكأنه يعني قصة معاذ المقدمة في باب القراءة وستأتي أيضاً في باب من صلى صلاة مرتين. ويمكن أن يستدل بهذا الحديث على عدم دخولها؛ لأنه يقتضي الحصر في الاقتداء به في أفعاله لا في جميع أحواله كما لو كان محدثاً أو حامل نجاسة، فإن الصلاة خلفه تصح لمن لم يعلم حاله على الصحيح عند العلماء. ثم مع وجوب المتابعة ليس شيء منها شرطاً في صحة القدوة إلا تكبيرة الإحرام. واخنلف في السلام، والمشهور عند المالكية اشتراطه مع الإحرام والقيام من التشهد الأول، وخالف الحنفية فقالوا: تكفي المقارنة، قالوا لأن معنى الإئتمام الامتثال ومن فعل مثل فعل إمامه عد ممتثلاً سواء أوقعه معه أو بعده، وسيأتي حديث أبي هريرة الدال على تحريم التقدم على الإمام في الأركان. (فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً) مصدر أي ذوي قيام أو جمع أي قائمين ونصبه على الحالية. (وإذا ركع فاركعوا) وفي رواية للبخاري: فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا فالتكبير هنا مقدر مراد. (وإذا رفع) أي رأسه. (فارفعوا) وفي رواية للبخاري: إذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا. وهو يتناول الرفع من الركوع والرفع من السجود وجميع السجدات. (ربنا لك الحمد) كذا في جميع النسخ: "لك الحمد" بغير الواو. ووقع في البخاري بإثباتها. قال الحافظ: كذا لجميع الرواة في حديث أنس بإثبات الواو إلا في رواية الليث عن الزهري في باب إيجاب التكبير، فللكشمهينى بحذف الواو، ورجح إثبات الواو بأن فيها معنى زائداً لكونها عاطفة على محذوف، وقد تقدم الكلام في معناه. (فإذا صلى) أي الإمام (جالساً) أي بعذر. (فصلوا جلوساً) جمع جالس وهو حال بمعنى جالسين. (أجمعون) بالرفع على أنه تأكيد لضمير الفاعل في قوله "صلوا" أو للضمير المستكن في الحال وهو جلوساً. قال الحافظ: كذا في جميع الطرق في الصحيحين بالواو. وقال القسطلاني: ولأبي ذر وأبي الوقت: أجمعين بالنصب على الحال أي من ضمير الفاعل في قوله "صلوا" أو من ضمير"جلوساً"، أي صلوا جالسين مجتمعين، وليس منصوباً على أنه تأكيد لجلوساً؛ لأنه نكرة فلا يؤكد. وقيل: هو منصوب على التأكيد، لكن تأكيد لضمير منصوب مقدر كأنه قال: أعينكم أجمعين. ولا يخفى ما فيه من البعد. والحديث فيه فوائد: منها: وجوب متابعة الإمام، فيكبر للإحرام بعد فراغ الإمام منه، فإن شرع فيه قبل فراغه لم تنعقد؛ لأن الإمام لا يدخل في(4/86)
الصلاة إلا بالفراغ من التكبير، فالاقتداء به في أثناءه اقتداء بمن ليس في صلاة بخلاف الركوع والسجود ونحوهما، فيركع بعد شروع الإمام في الركوع، فإن قارنه أو سبقه أساء ولا تبطل، وكذافي السجود، ويسلم بعد سلامه، فإن سلم قبله بطلت إلا أن ينوي المفارقة أو معه فلا تبطل؛ لأنه تحلل فلا حاجة فيه للمتابعة بخلاف السبق، فإنه مناف للاقتداءن قاله القسطلاني. ومنها: مشروعية ركوب الخيل والتدرب على أخلاقها والتأسي لمن يحصل له سقوط، ونحوه بما اتفق للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الواقعة، وبه الأسوة الحسنة. ومنها: أنه يجوز عليه - صلى الله عليه وسلم - ما يجوز على البشر من الأسقام ونحوها من غير نقص في مقداره بذلك بل ليزداد قدره رفعة ومنصبه جلالة. ومنها: استحباب العيادة عند حصول الخدشة ونحوها. ومنها: جواز الصلاة جالساً عند العجز. ومنها: أنه يجب متابعة الإمام في القعود. وأنه يقعد المأموم مع قدرته على القيام، واختلف الأئمة فيه: فذهب إلى ظاهر الحديث إسحاق والأوزاعي وداود وبقية أهل الظاهر، قالوا: يجب القعود خلف الإمام القاعد ولو كان القوم أصحاء. قال ابن حزم في المحلى (ج3 ص69) : وبهذا نأخذ إلا فيمن يصلي إلى جنب الإمام يذكر الناس ويعلمهم تكبير الإمام، فأنه مخير بين أن يصلي قاعداً وبين أن يصلي قائماً، وذهب أحمد إلى التفصيل، فقال: إذا ابتدأ إمام الحي الراتب الصلاة قاعداً لمرض يرجي برءه فحينئذ يصلون وراءه جلوساً ندباً ولو كانوا قادرين على القيام وتصح الصلاة خلفه قياماً، فالحديث عنده محمول على القعود الأصلي الغير الطارىء، ومقيد بإمام الحي الراتب المرجو زوال مرضه، والأمر بالجلوس فيه للندب، قال: وإذا ابتدأ الإمام الراتب قائماً لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قياماً سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم قاعدا أم لا، كما في الأحاديث التي في مرض موته، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بالقعود؛ لأنه ابتدأ إمامهم، وهو أبوبكر، صلاته قائماً ثم أمهم - صلى الله عليه وسلم - في بقية الصلاة قاعداً بخلاف صلاته - صلى الله عليه وسلم - بهم في مرضه الأول المذكور في حديث أنس، فإنه ابتدأ صلاته قاعداً فأمرهم بالقعود. وذهب الشافعي وأبوحنيفة وأبويوسف إلى أنه لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائماً، وهو رواية عن مالك فيما رواه الوليد بن مسلم عنه، قالوا: الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد للعذر منسوخ، وناسخه صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس في مرض موته قاعداً وهم قيام، وأبوبكر قائم. هكذا قرره الشافعي، ونقله البخاري عن شيخه الحميدي، وهو تلميذ الشافعي، وسيأتي الجواب عن ادعاء النسخ. وذهب مالك في الرواية المشهورة عنه إلى أنه لا يجوز صلاة القادر على القيام خلف القاعد لا قائماً ولا قاعداً، وبه قال محمد فيما حكاه الطحاوي عنه قالت المالكية، إمامة الجالس المعذور بمثله وبالقائم خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا لعذر ولا لغيره، ورد بصلاته - صلى الله عليه وسلم - خلف عبد الرحمن بن عوف وخلف أبي بكر ثم لو سلم أنه لا يجوز أن يؤمه أحد لم يدل ذلك على منع إمامة القاعد، وقد أم قاعداً جماعة من الصحابة بعده - صلى الله عليه وسلم -، منهم أسيد بن حضير(4/87)
قال الحميدي: قوله: إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً، هو في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجابر وقيس بن قهد وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة. أخرجها عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، بل ادعى ابن حبان وابن حزم إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد. وقال أبوبكر ابن العربي: لا جواب لأصحابنا عن حديث مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - يخلص عند السبك، واتباع السنة أولى، والتخصيص لا يثبت بالاحتمال. قال: إلا إني سمعت بعض الأشياخ يقول: الحال أحد وجوه التخصيص، وحال النبي - صلى الله عليه وسلم - والتبرك به وعدم العوض عنه يقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها وليس ذلك لغيره، وأيضاً فنقص صلاة القاعد عن القائم لا يتصور في حقه، فلا نقص في صلاته عن القائم، والجواب عن الأول رده بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا كما رأيتموني أصلي، وعن الثاني بأن النقص إنما هو في حق القادر في النافلة، وأما المعذور في الفريضة فلا نقص في صلاته عن القائم. وقال ابن دقيق العيد: وقد عرف أن الأصل عدم التخصيص حتى يدل عليه دليل- انتهى. على أنه يقدح في التخصيص ما تقدم من إمامة جماعة من الصحابة قاعدين بعده - صلى الله عليه وسلم -.......... واستدل بعضهم على دعوى التخصيص بما روى الدارقطني (ص153) والبيهقي (ج3 ص80) عن الشعبي مرفوعاً: لا يؤمن أحد بعدي جالساً، وأجيب عن ذلك بأن الحديث باطل؛ لأنه من رواية جابر الجعفى عن الشعبي مرسلاً وجابر متروك، وروي أيضاً من الرواية مجالد عن الشعبي ومجالد ضعفه الجمهور، وحكى عياض عن بعض مشائخهم: أن إمامة القاعد منسوخة جملة بحديث الشعبي المذكور، وتعقب بأن ذلك يحتاج لو صح إلى تاريخ وهو لا يصح كما قدمنا. (قال الحميدي) بضم الحاء المهملة وفتح الميم هو شيخ البخاري وتلميذ الشافعي، واسمه عبد الله بن الزبير بن عيسى أبي عبيد الله بن الزبير بن عبيد الله بن حميد القرشي الأسدي المكي أبوبكر، ثقة فقيه حافظ، أجل أصحاب ابن عيينة. قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عند الحميدي لا يعدوه إلى غيره من الثقة به. وفي الزهرة: روى عنه البخاري خمسة وسبعين حديثاً، وهو من أفراد البخاري، مات بمكة سنة تسع عشرة ومائتين. وقيل: بعدها وليس هو الحميدي الذي جمع بين الصحيحين. (هو في مرضه القديم) يعني مرضه الذي كان بسبب سقوطه عن الفرس. وقال القاري: أي حين- آلى من نسائه- انتهى. وفيه أن قصة الإيلاء كانت سنة تسع على ما هو المشهور، وواقعه سقوطه عن الفرس المذكورة في حديث أنس وعائشة وجابر كانت سنة خمس على ما أفاد ابن حبان وجزم به العيني والقسطلاني وصاحب تأريخ الخميس. (ثم صلى بعد ذلك) أي في مرض موته. (النبي - صلى الله عليه وسلم -) حال(4/88)
جالساً والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كونه (جالساً والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -) يعني أن الذي يجب به العمل هو ما استقر عليه آخر الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما كان آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم - صلاته قاعداً والناس وراءه قيام دل على أن ما كان قبله من ذلك مرفوع الحكم ومنسوخ، هذا هو الجواب المشهور عن حديث أنس وما في معناه ممن اختار وجوب القيام خلف الإمام القاعد، وإليه يظهر ميل البخاري حيث ذكر قول شيخه الحميدي هذا بعد إخراج الحديث ولم يتعقبه. وقال في كتاب المرضى بعد إخراج حديث عائشة في قصة السقوط عن الفرس: قال الحميدي: هذا الحديث منسوخ. قال أبوعبد الله. (هو البخاري نفسه) ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر ما صلى صلى قاعداً والناس خلفه قيام – انتهى. قلت: في هذا الجواب نظر من وجوه: منها: أن حديث أنس وما في معناه قانون كلي وتشريع عام للأمة، وما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته واقعة جزئية غير منكشفة الحال، وحكاية حال محتملة لمحامل فلا يدري أنه كان لنسخ الأمر بالقعود خلف الإمام القاعد أو كان لبيان أن الأمر المذكور ليس للوجوب بل للندب، أو كان ذلك لأن إمامهم كان قد ابتدأ الصلاة قائماً فأقرهم على القيام إظهاراً للفرق بين القعود الأصلي والقعود الطارىء، وبين المرض المرجو الزوال وغير المرجو الزوال، وادعاء النسخ بمثل هذه الواقعة الجزئية لا يخلو عن خفاء بل هو مشكل. قال صاحب فيض الباري: القول بالنسخ لا يعلق بالقلب؛ لأن الحديث مشتمل على أجزاء كثيرة من تشريع عام وضابطة كلية على نحو بيان سنة وسرد معاملة بين الإمام والمأموم، فالقول بنسخ جزء من الأجزاء من البين، وإبقاء المجموع على ما كان ثم بواقعه جزئية تحتمل محامل مما يفضي إلى الاضطبراب ولا يشفي، ولعمرى أنا لو لم نعلم هذه المسألة لما انتقل ذهن أحدنا إلى أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك قاعداً كانت لبيان النسخ وإنما حملناها عليه حفظا للمذهب فقط، وإلا فالجمع بين الحديثين يحصل على مذهب أحمد ولا يحتاج إلى النسخ ألا ترى أن ساداتنا (الحنفية) لما تركوا مسئلة جواز الاستقبال والاستدبار لم يبالوا بوقائع تنقل في هذا وقالوا: إنها وقائع غير منكشفة الحال، وحديث أبي أيوب تشريع عام فلا أدري أنه ما الفرق بين هذين، فذهبوا إلى النسخ ههنا دون هناك- انتهى. ومنها: أن القول بالنسخ مبني على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام وأن أبا بكر كان مأموماً في تلك الصلاة، وقد وقع في ذلك خلاف. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: كان أبوبكر يأتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. (أى في قصة مرض موته) ظاهره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إماماً، وقد جاء خلافه أيضاً. وبسبب التعارض في روايات هذا الحديث سقط استدلال من استدل به على نسخ حديث: وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً، وقال في حاشية النسائي بعد ذكر الروايات المختلفة في ذلك ما لفظه: وهذا يفيد الاضطراب في هذه لواقعة، فعلى هذا فالحكم بنسخ ذلك الحكم الثابت بهذه الواقعة المضطربة، لا يخلو عن خفاء. وأجيب بأن هذا الاختلاف ليس بقادح؛ لأن روايات إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصح وأرجح، لكونها مخرجة في الصحيحين،(4/89)
فتقدم على روايات إمامة أبي بكر. ويظهر من صنيع الشيخين أن الراجح عندهما هو إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهما لم يدخلا في صحيحها من طرق حديث عائشة إلا ما فيه إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ثقة رواة الخلاف، وكذا لم يذكرا في صحيحهما حديث أنس المصرح بإمامة أبي بكر، وهو عند أحمد والترمذي والنسائي وأبي داود الطيالسي والطحاوى. وهذا على تقدير اتحاد الواقعة. وأما على ما جزم به ابن حبان وابن حزم والبيهقي والضياء المقدسي وغيرهم من تعدد الواقعة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إماماً مرة ومأموماً أخرى فلا تعارض أصلاً. ومنها: أن هذا مبني على أن الصحابة صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - قياماً، ولم يثبت ذلك صريحاً بطريق صحيح متصل. وأما ما ذكر الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص42) من كتاب المعرفة للبيهقي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه إلى أن قال: فكان عليه السلام بين يدي أبي بكر يصلي قاعداً، وأبوبكر يصلي بصلاته قائماً، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والناس قيام خلف أبي بكر. ففيه أنه لم يذكر إسناده فما لم يعرف حال سنده، وأنه صالح للاحتجاج لا يكون حجة على المخالف. وأما ما قال الحافظ في الفتح نقلاً عن الشافعي: إنه أي قيام المأمومين في رواية إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة وإنه وجد مصرحاً به في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، فذكر الحديث، وفيه فصلى الناس وراءه قياماً. ففيه أن رواية عائشة معلقة ورواية عطاء مرسلة. وقد قال أحمد: ليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء، فإنهما كانا يأخذان عن كل أحد. وقال ابن المديني: كان عطاء يأخذ عن كل ضرب. وقد نازع أيضاً ابن حزم وابن حبان في ثبوت كون الصحابة صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو قاعد قياماً غير أبي بكر، واستدل ابن حبان على ذلك بما رواه من طريق أبي الزبير عن جابر قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبوبكر يسمع الناس تكبيره، قال فالتفت إلينا فرأنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فلما سلم قال إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم فلا تفعلوا- الحديث. وهو حديث صحيح أخرجه مسلم والنسائي والطحاوى وابن ماجه. قال ابن حبان: وإسماع أبي بكر التكبير لم يكن إلا في مرض موته؛ لأن صلاته في مرضه الأول كانت في مشربة عائشة، ومعه نفر من أصحابه لا يحتاجون إلى من يسمعهم تكبيره، بخلاف صلاته في مرض موته، فإنها كانت في المسجد يجمع كثير من الصحابة فاحتاج أبوبكر أن يسمعهم التكبير- انتهى. وأجاب عنه الحافظ بحمله على حديث أنس على صلاته في مشربة عائشة في مرضه الأول، قال: وإسماع التكبير في هذا لم يتابع أبا الزبير عليه أحد. وعلى تقدير أنه حفظه فلا مانع أن يسمعهم أبوبكر التكبير في تلك الحالة؛ لأنه يحمل على أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كان خفياً من الوجع، وكان من عادته أن يجهر بالتكبير، فكان أبوبكر يجهر عنه بالتكبير لذلك. نعم وقع في مرسل عطاء المذكور متصلاً به بعد قوله: وصلى الناس وراءه قياماً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:(4/90)
لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما صليتم إلا قعوداً، فصلوا صلاة إمامكم ما كان، إن صلى قائماً فصلوا قياماً، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً. وهذه الزيادة تقوي ما قال ابن حبان: إن هذه القصة كانت في مرض موت النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. ثم رأيت السندي قد ذكر في حاشية البخاري (ج1 ص88) وجه النظر الثالث، وقرره أحسن تقرير، وبسط الكلام فيه فأجاد حيث قال: لا دلالة فيه أي في حديث عائشة الذي في مرض موته على أن الصحابة كانوا قياماً نعم قد ثبت أن أبا بكر كان قائماً، ولعله قام لضرورة الإسماع، لا يقال: قد جاء في بعض الروايات أنهم كانوا قائمين؛ لأن مدار النسخ حينئذٍ على تلك الروايات لا على ما ذكره صاحب الصحيح أو أصحاب الصحاح، فحينئذٍ ينظر في تلك الروايات هل يقوى شيء منها قوة حديث إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً، وما ذكروا إلا يساوي هذا الحديث، بل ولا يدانيه، فلا يتجه الحكم بنسخ هذا الحديث بتلك الروايات. وما قيل: إنهم ابتدؤو الصلاة مع أبي بكر قياماً فلا نزاع فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان ففيه أن المحتاج إلى البيان من يدعى النسخ وأما من يمنعه فيكفيه الاحتمال؛ لأن الأصل عدم النسخ، ولا يثبت بجرد الإحتمال. فقوله فمن ادعى أنهم قعدوا بعد ذلك فعليه البيان خارج عن قواعد البحث، على أنا نقول قعود الصحابة هو الأصل الظاهر عملاً بالحكم السابق المعلوم عندهم، وبقاءهم على القيام لا يتصور إلا بعد علمهم بنسخ ذلك الحكم المعلوم، ولا دليل عليه. فالواجب أنهم قعدوا، فمن ادعى خلافه فعليه البيان. وأما القول بأنهم ثبتوا على القيام اتفاقاً وإن كان المعلوم عندهم أن الحكم هو القعود إلا أنه وافق النسخ، وعلم ذلك بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم على القيام، فمن باب فرض المستحيل عادة، وكذا القول بأنه لم يكن في الحاضرين أحد يعرف الحكم السابق مع أن الحكم السابق كان مشهوراً فيما بينهم، وكانوا يعملون به، وكذا القول بأنهم لعلهم عرفوا النسخ قبل هذه القضية ببيانه - صلى الله عليه وسلم - لهم النسخ، فلذلك ثبتوا القيام، إذ يستبعد جداً أن يكون هناك ناسخ لذلك يعرفه أولئك الحاضرون ثم يخفى بحيث لا يرويه أحد – انتهى كلام السندي. ومنها: أنه إنما يصار إلى النسخ إذا تعذر الجمع، وههنا الجمع ليس بمعتذر، بل هو ممكن، كما نقل عن أحمد أنه جمع بين الحديثين بتنزيلهما على حالتين، وهو واضح مما ذكرنا من مذهبه. وجمع بعضهم بأن الأمر بالجلوس كان للندب وتقريره قيامهم خلفه كان لبيان الجواز. قال الحافظ بعد ذكر رواية عطاء المرسلة المتقدمة: ويستفاد منها نسخ الأمر بوجوب صلاة المأمومين قعوداً إذا صلى إمامهم قاعدا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم في هذه المرة الأخيرة بالإعادة، لكن إذا نسخ الوجوب يبقى الجواز، والجواز لا ينافي الاستحباب، فيحمل أمره الأخير بأن يصلوا قعوداً على الاستحباب؛ لأن الوجوب قد رفع بتقريره لهم وترك أمرهم بالإعادة، هذا مقتضى الجمع بين الأدلة- انتهى. ومنها: أنه وقع الأمر بالجلوس خلف الإمام القاعد في صلاة مرض موته(4/91)
عليه السلام أيضاً كما تقدم في رواية عطاء، فالاستدلال بصلاة مرض موته على نسخ الأمر بالجلوس خلف القاعد لا يخلو عن إشكال: ومنها: أن الحديث يدل على أن الجلوس عند جلوس الإمام من جملة الائتمام بالإمام، ولا شك أن الاقتداء بالإمام حكم ثابت على الدوام غير منسوخ، وأيضاً حديث جابر يدل على أن علة عدم جواز القيام عند قعود الإمام هي أن القيام يصير تعظيماً لغير الله فيما شرع تعظيماً لله وحده لا شريك له، ولا شك في أن هذه العلة دوامها يقتضى دوام الحكم، فيلزم أن يدوم عدم شرعية القيام خلف الإمام القاعد لوجوب دوام المعلول عند دوام العلة، فالقول بنسخ هذا الحكم لا يخلو عن بُعد، قاله السندي في حاشية ابن ماجه، وذكر نحوه أيضاً في حاشية الصحيحين. ومنها: أن الأصل عدم النسخ، لا سيما وهو في هذه الحالة يستلزم النسخ مرتين؛ لأن الأصل في حكم القادر على القيام أن لا يصلي قاعداً وقد نسخ إلى القعود في حق من صلى إمامه قاعداً، فدعوى نسخ القعود بعد ذلك تقتضى وقوع النسخ مرتين. وهو بعيد، وأبعد منه ما تقدم من نقل عياض، فإنه يقتضي وقوع النسخ ثلاث مرات. هذا، وقد أجاب أيضاً من اختار وجوب القيام خلف القاعد، وكذا من منع صحة إمامة القاعد بأن المراد بالأمر في قوله: "وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً" أن يتقدى به في جلوسه في التشهد وبين السجدتين؛ لأنه ذكر ذلك عقب ذكر الركوع والرفع منه والسجود، قالوا: فيحمل على أنه لما جلس للتشهد قاموا تعظيماً له فأمرهم بالجلوس وقد نبه على ذلك بقوله في حديث جابر: إن كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، فيكون معنى قوله "إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً" أنه إذا كان في حالة الجلوس فاجلسوا ولا تخالفوه بالقيام، وإذا صلى قائما فصلوا قياماً أي إذا كان في حالة القيام فقوموا ولا تخالفوه بالقعود، وكذلك في قوله " فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا". وتعقبه ابن دقيق العيد وغيره بالاستبعاد وبأن سياق طرق الحديث يأباه، وبأنه لو كان المراد الأمر بالجلوس في الركن لقال "وإذا جلس فاجلسوا" ليناسب قوله "وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا"، فلما عدل عن ذلك إلى قوله "وإذا صلى جالساً" ظهر أن المراد بذلك في جميع الصلاة، ويؤيد ذلك قول أنس: "فصلينا وراءه قعودا"، وإذا عرفت هذا فاعلم أن أولى الأقوال وأرجحها عندي، هو أن يجمع بين القصتين بأن الأمر بالجلوس كان للندب، وتقريره - صلى الله عليه وسلم - قيام الصحابة خلفه لو ثبت كان لبيان الجواز، فمن أم قاعداً لعذر تخير من صلى خلفه بين القيام والقعود، والقعود أولى بالثبوت الأمر الائتمام والاتباع وكثرة الأحاديث الواردة في ذلك، ويؤيد هذا الجمع أنه استمر عليه عمل الصحابة في حياته وبعده، وقد ذكر الحافظ في الفتح (ج3 ص382) قيس بن قهد وأسيد بن حضير وجابر بن عبد الله أنهم صلوا قعوداً والناس خلفهم جلوس، وذكر عن أبي هريرة "أنه أفتى بذلك وذكر من أخرج هذه(4/92)
هذا لفظ البخاري. واتفق مسلم إلى أجمعون. وزاد في رواية: فلا تختلفوا عليه، وإذا سجد فاسجدوا.
1146- (5) وعن عائشة، رضي الله عنها قالت: ((لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاء بلال يؤذنه بالصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآثار وصحح أسانيدها. وذكر ابن حزم في المحلى (ج3 ص70) ذلك أيضاً وأخرج الدارقطني في (ص52) عن أسيد بن حضير وفي (ص162) عن جابر: أنهما صليا جالسين والمأمون أيضاً جلوساً، وادعى ابن حبان: الإجماع على العمل. وكأنه أراد السكوتى؛ لأنه حكاه عن أربعة من الصحابة الذين تقدم ذكرهم. وقال: لا يحفظ عن أحد من الصحابة وغيرهم القول بخلافه، لا من طريق صحيح ولا ضعيف، وكذا قال ابن حزم: أنه لا يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. وأما ما قال الشافعي: أن ما حكي عن هؤلاء الصحاية: أنهم أموا جالسين ومن خلفهم جلوس. محمول على أنه لم يبلغهم النسخ، ففيه أن كل ما زعموه للنسخ هو حديث عائشة الآتي، ولا يدل على شيء مما أرادوا كما تقدم. وأيضاً أن هؤلاء الصحابة لم يتفردوا بذلك، بل وافقهم على ذلك من صلى خلفهم جالسين من الصحابة والتابعين، وبعيد كل البُعد أن لا يبلغ النسخ أحداً منهم. (هذا لفظ البخاري) في باب إنما جعل الإمام ليؤتم به. (واتفق مسلم) أي معه في أصل الحديث. (إلى أجمعون. وزاد) أي مسلم. (في رواية فلا تختلفوا عليه) فيه نظر؛ لأن هذا اللفظ ليس في حديث أنس لا في البخاري، ولا في مسلم، نعم هو في حديث أبي هريرة عند الشيخين، فأخرجه البخاري بهذا اللفظ في باب إقامة الصف من تمام الصلاة، ومسلم في باب إئتمام المأموم بالإمام. ومحل هذا اللفظ بعد قوله: إنما جعل الإمام ليؤتم به" متصلاً به واستدل به على عدم جواز صلاة المفترض خلف المتنفل، لما فيها من الاختلاف بين الإمام والمأموم نية، وهو ضعيف؛ لأن المراد عدم الاختلاف في الأفعال، بدليل التفسير بقوله " فإذا ركع الخ". كيف ولو كان شاملاً للاختلاف نية لما كانت صلاة المتنفل خلف المفترض جائزة مع أنه جائز بالاتفاق. (وإذا سجد فاسجدوا) فيه أن هذه الزيادة عند البخاري أيضاً في حديث أنس وليست من أفراد مسلم كما توهم المصنف، واختلفت الروايات في ذكر محلها، وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً أحمد ومالك والشافعي في الرسالة وفي الأم وفي اختلاف الحديث، والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
1146- قوله: (لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في مرضه الذي توفي فيه بفتح الثاء وضم القاف يقال ثقل الشيء يثقل ثقلاً، مثال صغر يصغر صغراً فهو ثقيل ضد خف، والمعنى ههنا اشتد به مرضه وتناهى ضعفه وركد أعضاءه عن خفة الحركات، ويفسره قولها بعده في رواية: واشتد به وجعه. (يؤذنه) بضم الياء وسكون الهمزة من الإيذان، أي يعلمه ويخبره ويجوز إبدال الهمزة واواً. (بالصلاة) أي بحضور وقتها والمراد صلاة العشاء(4/93)
فقال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس فصلى أبوبكر تلك الأيام. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في
نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما
سمع أبوبكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يتأخر، فجاء حتى جلس
عن يسار أبي بكر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الآخرة كما سيأتي. (مروا أبا بكر أن يصلي بالناس) استدل به أهل السنة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ووجهه أن الإمامة في الصلاة التي هي الإمامة الصغرى كانت من وظائف الإمامة الكبرى، فنصبه - صلى الله عليه وسلم - إياه إماماً في الصلاة في تلك الحالة من أقوى إمارات تفويض الإمامة الكبرى إليه، وهذا مثل أن يجلس سلطان زماننا أحد أولاده عند الوفاة على سرير السلطنة، فهل يشك أحد في أنه فوض السلطنة إليه، فهذه دلالة قوية لمن شرح الله تعالى صدره، وليس من باب قياس الإمامة الكبرى على الإمامة الصغرى مع ظهور الفرق، كما زعمه الشيعة. وقولهم: إن الدلالة لو كانت ظاهرة قوية لما حصل الخلاف بينهم في أول الأمر باطل ضرورة أن الوقت حيرة ودهشة، وكم من ظاهر يخفى في مثله. (ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه خفة) أي قوة في بعض تلك الأيام. والظاهر أن ذلك كان عند صلاة الظهر يوم الخميس قبل أن يقبض بخمسة أيام. (فقام يهادى) بضم أوله وفتح الدال على بناء المفعول من المفاعلة. (بين رجلين) أي يمشي بينهما معتمداً عليهما متمايلاً في مشيه من شدة ضعفه وإحدى يديه على عاتق أحدهما والأخرى على عاتق الآخر. يقال: جاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه متمايلاً إليهما في مشيه من شدة الضعف. والرجلان: العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، كما في الحديث الآتي في الفصل الثالث. وفي رواية ابن حبان: وجد من نفسه خفة فخرج بين بريرة ونوبة. ويجمع كما قال النووي: بأنه خرج من البيت إلى المسجد بين هذين، ومن ثم إلى مقام الصلاة بين العباس وعلي. وقال أبوحاتم: خرج بين الجاريتين إلى الباب ومن الباب أخذه العباس وعلي حتى دخلا به المسجد. وقيل: يحمل على التعدد، ويدل عليه ما في رواية الدارقطني: أنه خرج بين أسامة بن زيد والفضل بن عباس. وأما ما في مسلم أنه خرج بين الفضل بن عباس وعلي، فذلك في حال مجيئه من بيت ميمونة إلى بيت عائشة. (ورجلاه تخطان) بضم الخاء. (في الأرض) أي تعملان فيها خطاً، إذ لا يقدر أن يرفعهما عنها من الضعف. قال النووي: أي لا يستطيع أن يرفعهما ويضعفهما ويعتمد عليهما. (فلما سمع أبوبكر حسه) بكسر الحاء وتشديد السين المهملتين أي نفسه المرك بحس السمع، قاله السندي. وقيل: أي حركته أوصوته الخفي. (ذهب) أي أراد وقصد أو طفق أو شرع. (يتأخر) عن موضعه ليقوم عليه السلام مقامه. (فأومأ) بهمزة في آخره أي أشار. وفي بعض النسخ: فأومأ بالألف وهوخطأ. (أن لا يتأخر) أي بعدم تأخره. (فجاء) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (حتى جلس عن يسار أبي بكر) هذا هو مقام الإمام، وفيه تعيين لما أبهم في الرواية الآتية من مكان جلوسه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إماماً لا مأموما لجعله أبا بكر عن يمينه، وقال العيني: إنما لم يجلس(4/94)
فكان أبوبكر يصلي قائماً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قاعداً، يقتدى أبوبكر بصلاة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يقتدون بصلاة أبوبكر)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه؛ لأن اليسار كان من جهة حجرته فكان أخف عليه (يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فيه رد على من زعم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مقتدياً بأبي بكر. (والناس يقتدون بصلاة أبوبكر) أي من حيث أنه كان يسمع الناس تكبيره - صلى الله عليه وسلم -. قال القسطلاني: أي يستدلون بصلاته على صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال القاري: أي يصنعون مثل ما يصنع؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان قاعداً وأبوبكر كان بجنبه قائماً لا أن أبا بكر كان إمام القوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمامه إذا الاقتداء بالمأموم لا يجوز بل الإمام كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر والناس يقتدون به. واعلم أنه قد وقع الاختلاف في حديث عائشة هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً أو مأموماً؟ فوقع عند الشيخين، وكذا عند أحمد في مسنده ومالك في باب صلاة الإمام وهو جالس، والنسائي في باب الائتمام بمن يأتم بالإمام، وفي باب الائتمام بالإمام يصلي قاعداً، وابن الجارود في المنتقى في باب تخفيف الصلاة بالناس، والبزار كما قال الحافظ في الفتح وابن حبان كما قال الزيلعي وابن ماجه في باب صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه ما يفيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إماماً وأبوبكر مأموماً، ووقع عند ابن حبان كما قال الزيلعي، وعند ابن حزم في المحلى (ج3 ص67) وابن الجارود في المنتقى (ص166) وأحمد في مسنده (ج6 ص159) والبيهقي في سننه (ج3 ص82) وابن المنذر وابن خزيمة كما قال الحافظ، والترمذي في باب بعد باب إذا صلى الإمام قاعداً فصلوا قعوداً ما يفيد أن أبا بكر كان هو الإمام. وروى ابن خزيمة عن محمد بن بشار عن أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: من الناس من يقول كان أبوبكر المقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصف، ومنهم من يقول كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المقدم، وظاهر هذه الرواية أن عائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة. قال الحافظ: ولكن تظافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإمام في تلك الصلاة، منها رواية موسى بن أبي عائشة وهى التي تأتي في الفصل الثالث، ثم قال بعد أن ذكر الاختلاف فيها: فمن العلماء من سلك الترجيح فقدم الرواية التي فيها أن أبا بكر كان مأموماً للجزم بها، ولأن أبا معاوية (الذي روى الحديث بلفظ يقتدي أبوبكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يقتدون بصلاة أبي بكر) أحفظ في حديث الأعمش من غيره. ومنهم من سلك عكس ذلك ورجح أنه كان إماماً. ومنهم من سلك الجمع. (كابن حبان والبيهقي وابن حزم) فحمل القصة على التعدد. (يعني أنه كان إماماً مرة ومأموماً أخرى) ويؤيده اختلاف النقل عن الصحابة غير عائشة، فحديث ابن عباس فيه. أن أبا بكر كان مأموماً كما سيأتي في رواية موسى بن أبي عائشة، وكذا في رواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس(4/95)
عند ابن ماجه وحديث أنس فيه: أن أبا بكر كان إماماً. أخرجه الترمذي والنسائي- انتهى كلام الحافظ. قلت: حديث أرقم عن ابن عباس أخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص231و 255و 256) والطحاوى في شرح الآثار (ج1 ص235) وفي مشكله (ج2 ص27) وابن سعد في طبقاته (ج2 ص130) والبيهقي في سننه (ج3 ص81) . ومدار هذا الحديث عند الجميع على أبي إسحاق السبيعي عن أرقم بن شرحبيل، وأبوإسحاق مدلس واختلط بآخره. وقد رواه بالعنعنة. وقد قال البخاري لا يذكر سماعاً من أرقم بن شرحبيل- انتهى. وحديث أنس قد صححه الترمذي، وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص159، 233، وص243) . والراجح عندي أن القصة واحدة، وأن الاختلاف في إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر في صلاة واحدة. وإن هذا الاختلاف من تصرف الرواة فقط، وهو ظاهر من سياق الأحاديث الواردة في الباب وطرقها، ومن صنيع الشيخين حيث لم يخرجا في صحيحيهما من طرق حديث عائشة إلا ما فيه إمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ثقة رواة الخلاف، ولم يخرجا حديث أنس أصلاً. قال الحافظ: قد صرح الشافعي بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة، وهي هذه التي صلى فيها قاعداً، وكان أبوبكر فيها أولاً إماماً ثم صار مأموماً يسمع الناس التكبير- انتهى. وقال ابن عبد البر: الآثار الصحاح على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الإمام- انتهى. وفي هذه القصة من الفوائد غير ما مضى تقديم أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة، والأدب مع الكبير لهم أبي بكر بالتأخر عن الصف وإكرام الفاضل؛ لأنه أراد أن يتأخر حتى يستوي، فلم يتركه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتزحزح عن مقامه وفيه أن الإيماء يقوم مقام النطق واقتصار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإشارة يحتمل أن يكون لضعف صوته، ويحتمل أن يكون للإعلام بأن مخاطبة من يكون في الصلاة بالإيماء أولى من النطق. وفيه تأكيد أمر الجماعة والأخذ فيها بالأشد وإن كان المرض يرخص في تركها، ويحتمل أن يكون فعل ذلك لبيان جواز الأخذ بالأشد وإن كانت الرخصة أولى. وقال الطبري: إنما فعل ذلك لئلا يعذر أحد من الأئمة بعده في نفسه بأدنى عذر فيتخلف عن الإمامة، ويحتمل أن يكون قصد إفهام الناس أن تقديمه لأبي بكر كان لأهليته لذلك حتى أنه صلى خلفه. واستدل به على جواز استخلاف الإمام لغير ضرورة لصنيع أبي بكر. وعلى جواز مخالفة موقف المأموم للضرورة، كمن قصد أن يبلغ عنه، ويلتحق به من زحم عن الصف، وعلى جواز ائتمام بعض المأمومين ببعض، وهو قول الشعبي واختيار الطبري، وأومأ إليه البخاري كما تقدم. وتعقب بأن أبا بكر إنما كان مبلغاً كما سيأتي الآن، وعلى هذا فمعنى الإقتداء اقتداءهم بصوته، ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - كان جالساً وكان أبوبكر قائماً، فكان بعض أفعاله يخفى على بعض المأمومين، فمن ثم كان أبوبكر كالإمام في حقهم، وتأويله بأن المراد أن أبا بكر كان يراعي في الصلاة حاله - صلى الله عليه وسلم - في القيام والركوع والسجود، فكأنه كان مقتدياً به، كما ورد في(4/96)
متفق عليه. وفي رواية لهما: يسمع أبوبكر الناس التكبير.
1147- (6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما يخشى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث واقتد بأضعفهم بعيداً جداً، يرده قوله الآتي: يسمع أبوبكر الناس التكبير. واستدل به الطبري على أن للامام أن يقطع الاقتداء به ويقتدى هو بغيره من غير أن يقطع الصلاة، بناء على أن أبا بكر كان دخل في الصلاة ثم قطع القدوة وائتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واستدل به على صحة إمامة القاعد المعذور بمثله وبالقائم أيضاً خلافاً للمالكية. وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً. (متفق عليه) الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع بألفاظ وطرق مطولاً ومختصراً، والسياق المذكور مختصر من حديث طويل أورده البخاري في باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم. وفيه فلما دخل (أبوبكر) في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة، بدل قوله: فصلى أبوبكر تلك الأيام، ثم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه خفة، وأيضاً ليس في قوله: أن لا يتأخر. والمراد بقوله: فلما دخل في الصلاة وجد الخ، أي فلما دخل في أن يصلي بالناس أي في منصب الإمامة، وتقرر إماماً لهم واستمر على ذلك أياماً وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة في بعض تلك الأيام، أو لما دخل في الصلاة في بعض تلك الأيام وجد - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة، وليس المراد أنه حين دخل أبوبكر في تلك الصلاة التي جرى في شأنها الكلام وجد - صلى الله عليه وسلم - في أثنائها خفة، فلا تنافي هذه الرواية الرواية الآتية في الفصل الثالث. (وفي رواية لهما يسمع أبوبكر الناس التكبير) أي تكبير النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني كان أبوبكر مكبراً لا إماماً، وهذه اللفظة مفسرة للمراد بقوله: يقتدى أبوبكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يقتدون بصلاة أبي بكر. وبقوله في رواية: كان أبوبكر يصلي بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس يصلون بصلاة أبي بكر. وفيه دليل على أنه يجوز رفع الصوت بالتكبير لإسماع المأمومين فيتبعونه، وأنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر وصحة صلاة المسمع والسامع، وهذا مذهب الجمهور، وفيه خلاف للمالكية وتفاصيل لا دليل عليها. والحديث أخرجه البيهقي أيضاً (ج3 ص81- 93) .
1147- قوله: (أما يخشى) كلمة "ما" نافية والهمزة للاستفهام للإنكار. والمقصود الإنكار على ترك الخشية والحث عليها ليرتدع فاعل ذلك الفعل بسبب الخشية من شنيع عاقبته عن ذلك الفعل. والحاصل أن فاعل هذا الفعل في محل المسخ، ويستحق ذلك فحقه أن يخشى هذه العقوبة وليس له أن لا يخشى، وهذا إنما يدل على أن فاعل هذا الفعل يستحق هذا العقاب، ولا يدل على أن من يفعل ذلك يلحق به هذا العقاب قطعاً، وكونه لا يلحق به كما ترى فضلاً من الله تعالى لا يدل على خلافه، فكم من شيء يستحقه العبد ويعفو عنه الرب تعالى وقد قال: {ويعفو(4/97)
الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن كثير} . (الذي يرفع رأسه) أي من الركوع والسجود فالحديث نص عام في الركوع والسجود، وأما تخصيص السجدة بالذكر في رواية أبي داود بلفظ: الذي يرفع رأسه والإمام ساجد فمن باب الإكتفاء، وهو ذكر أحد الشيئين المشتركين في الحكم إذا كان للمذكور مزية فاكتفى فيها بذكر حكم السجدة عن ذكر حكم الركوع لكون العلة واحدة وهي السبق على الإمام، كما في قوله تعالى {سرابيل تقيكم الحر} [16: 81] أي البرد أيضاً، ولم يعكس الأمر؛ لأن السجود أعظم من الركوع في إظهار التواضع والتذلل، والعبد أقرب ما يكون إلى الرب وهو ساجد. وأما التقدم على الإمام في الخفض للركوع والسجود، فقد ورد الزجر عنه في حديث أخرجه البزار والطبراني عن أبي هريرة مرفوعاً: الذي يخفض ويرفع قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان. قال الهيثمي في مجمع الزوايد (ج2 ص78) : إسناده حسن، وأخرجه مالك وعبد الرزاق عنه موقوفاً. قال الحافظ: وهو المحفوظ. (قبل الإمام) أي قبل رفع رأسه. (أن يحول الله) أي من أن يبدل ويغير. (رأسه رأس حمار) وفي رواية مسلم: صورته في صورة حمار. وفي أخرى له: أن يجعل الله وجهه وجه حمار. قال الحافظ: الظاهر أنه من تصرف الرواة. قال عياض: هذه الروايات متفقة؛ لأن الوجه في الرأس ومعظم الصورة فيه. قلت: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضاً. وأما الرأس فرواتها أكثر وهى أشمل فهي المعتمدة، وخص وقوع الوعيد عليها؛ لأن بها وقعت الجنابة وهي أشمل- انتهى. وقيل: الظاهر أن الاختلاف حصل من تعدد الواقعة، ويؤيده رواية ابن حبان بلفظ: أن يحول الله رأسه رأس كلب. واختلف في معنى هذا الوعيد: فقيل: يحتمل أن يرجع ذلك إلى أمر معنوي مجازي كالبلادة الموصوف بها الحمار، والمعنى يجعله بليداً كالحمار، فيكون مسخاً معنوياً مجازياً. قال الطيبي: لعل المأموم لما لم يعمل بما أمر به من الاقتداء بالإمام ومتابعته، ولم يفهم أن معنى الإمام والمأموم ما هو شبه بالحمار في البلادة كقوله تعالى {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً} [62: 5] انتهى. ويرجح هذا المجاز أن التحويل الظاهري لم يقع مع كثرة الفاعلين لذلك. وقيل: هو محمول على ظاهره، وإن المراد تغيير الصورة الظاهرة، إذ لا مانع من وقوع المسخ الحقيقي في هذه الأمة، كما يشهد له حديث أبي مالك الأشعري المروي في المغازي من صحيح البخاري؛ لأن فيه ذكر الخسف، وفي آخره: ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة. ويقوي حمله على ظاهره رواية ابن حبان بلفظ: أن يحول الله رأسه رأس كلب. فهذا يبعد المجاز؛ لأنتفاء المناسبة التي ذكروها من بلادة الحمار، ومما يبعده أيضاً يراد الوعيد بالأمر المستقبل وباللفظ الدال على تغيير الهيئة الحاصلة، ولو أريد تشبيهه بالحمار لأجل البلادة لقال: فرأسه رأس حمار، وذلك لأن الصفة المذكورة وهي البلادة حاصلة في فاعل ذلك عند فعله المذكور، فلا يحسن أن يقال له يخشى إذا فعلت ذلك أن تصير بليداً، مع أن فعله المذكور إنما نشأ عن البلادة. وأما ما ما قيل في ترجيح المجاز من أن التحويل الظاهري لم يقع مع(4/98)
متفق عليه.
{الفصل الثاني}
1148، 1149- (7) عن علي، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهما، قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام)) . رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كثرة الفاعلين لذلك، ففيه أنه ليس في الحديث ما يدل على أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضاً لذلك وكون فعله ممكناً؛ لأن يقع عند ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء، وقد أوضحنا ذلك في شرح أول الحديث. وظاهر الحديث يقتضي تحريم الرفع قبل الإمام، لكونه توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب، ومع القول بالتحريم، فالجمهور على أن فاعله يأثم وتجزئ صلاته. وعن ابن عمر تبطل، وبه قال أحمد في رواية، وأهل الظاهر بناء على أن النهي يقتضي الفساد، والوعيد بالمسخ في معناه. وقد ورد التصريح بالنهي في حديث أنس ثاني أحاديث هذا الباب عن السبق بالركوع والسجود والقيام والقعود. وفي المغنى عن أحمد أنه قال في رسالته: ليس لمن سبق الإمام صلاة لهذا الحديث، قال: ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب، وفي الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، واستدل به على جواز المقارنة، ولا دلالة فيه؛ لأنه دل بمنطوقه على منع المسابقة وبمفهومه على طلب المتابعة، وأما المقارنة فمسكوت عنها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص93) .
1148، 1149- قوله: (والإمام على حال) أي من قيام أو ركوع أو سجود أو قعود. (فليصنع كما يصنع الإمام) أي ليكبر تكبيرة الإحرام، ويوافق الإمام فيما هو من القيام أو الركوع أو غير ذلك، ولا يخالفه بأداء ما سبق من الصلاة بل يدخل معه في الفعل الذي يؤديه، فيتبعه في القيام والقعود والركوع والسجود، ولا ينتظر رجوع الإمام إلى القيام، كما يفعله العوام. والحديث يدل على أنه يجب على من لحق بالإمام أن يدخل معه في أي جزء من أجزاء الصلاة أدركه من غير فرق بين الركوع والسجود والقعود، لظاهر قوله: والإمام على حال. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. (رواه الترمذي) في أواخر الصلاة من طريق الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق السبيعي عن هبيرة بن يريم عن علي، وعن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل. (وقال: هذا حديث غريب) لا نعلم أحداً أسنده إلا ما روي من هذا الوجه. قال النووي إسناده(4/99)
1150- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جئتم إلى الصلاة، ونحن سجود، فاسجدوا ولا تعدوه شيئاً، ومن أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضعيف. وقال الحافظ في التلخيص (ص117) فيه ضعف وانقطاع. وقال في بلوغ المرام: رواه الترمذي بإسناد ضعيف، وهذا لأن الحجاج بن أرطاة وأباإسحاق السبيعي مدلسان، ولم يصرحا بالسماع هناد بن أبي ليلى قالوا: لم يسمع من معاذ، لكن له شاهد من حديثه أيضاً عند أبي داود والبيهقي (ج3 ص93) يقول: فيه ابن أبي ليلى حدثنا أصحابنا، ثم ذكر الحديث، وفيه فقال معاذ: لا أراه على حال إلا كنت عليها، قال فقال: إن معاذاً قد سن لكم سنة كذلك فافعلوا وهذا متصل؛ لأن المراد بأصحابه الصحابة، كما صرح بذلك في رواية ابن أبي شيبة حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويشهد له أيضاً ما رواه ابن أبي شيبة عن رجل من الأنصار مرفوعاً من وجدني راكعاً أو قائما أو ساجداً، فليكن معي على حالى التي أنا عليها. وما أخرجه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة مثل لفظ ابن أبي شيبة.
1150- قوله: (ونحن سجود) جمع ساجد والجملة حالية أي والحال إني ومن معي من المقتدين في حالة السجود. (فاسجدوا) أي وافقوه في السجود، وفيه مشروعية السجود مع الإمام لمن أدركه ساجدا. (ولا تعدوه) بضم العين وتشديد الدال أي لا تحسبوا ذلك السجود. وفي أبي داود: لا تعدوها أي بضمير التأنيث، وكذا ذكره المجد ابن تيمية في المنتقى والجزري في جامع الأصول (ج6 ص406) . والمعنى: لا تعدوا تلك السجدة. (شيئاً) أي معتداً به باعتبار حكم الدنيا من ادراك الركعة؛ لأن مع إدراك السجدة تفوت الركعة ولا يحصل بها إلا ثواب الآخرة. (ومن أدرك ركعة) وفي أبي داود: الركعة أي بالتعريف. (فقد أدرك الصلاة) قيل: المراد بالركعة هنا الركوع، وبالصلاة الركعة. والمعنى من أدرك ركوعاً مع الإمام فقد أدرك الركعة، أي صحت له تلك الركعة، وحصل له فضيلتها فيكون الحديث دليلاً لما ذهب إليه الجمهور من أن مدرك الإمام راكعاً مدرك لتلك الركعة، وتعقب بأن الركعة حقيقة لجميعها، وإطلاقها على الركوع وما بعده مجاز لا يصار إليه إلا لقرينة، كما وقع عند مسلم من حديث البراء بلفظ: فوجدت قيامه فركعته فاعتداله فسجدته، فإن وقوع الركعة في مقابلة القيام والاعتدال والسجود قرينة تدل على أن المراد بها الركوع، وههنا ليست قرينة تصرف عن حقيقة الركعة، فالاستدلال به على أن مدرك الركوع مع الإمام مدرك لتلك الركعة لا يخلو عن خفاء. وقيل: المعنى من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة مع الإمام، يعني يحصل له الثواب الجماعة، ويؤيده حديث أبي هريرة بلفظ: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الفضل. وفي رواية: فقد أدرك الصلاة وفضلها. قال الطيبي: هذا الحكم في الجمعة، ولا يحصل له ثواب الجماعة إن أدرك بعضاً من الصلاة قبل السلام. ومذهب مالك أنه(4/100)
رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يحصل فضيلة الجماعة إلا بإدراك ركعة تامة سواء في الجمعة وغيرها. وقيل: المعنى من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة، أي حكم صلاة الجماعة من سهو الإمام ولزوم الإتمام وغير ذلك، ويؤيده ما ورد بلفظ: من أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة. قلت: ظاهر سياق حديث الكتاب يدل على أن المراد بالركعة الركوع، والقرينة على ذلك قوله: إذا جئتم ونحن سجود فاسجدوا، فذكر السجود أولاً ثم ذكر الركعة، يدل على أن المراد بالركعة هنا الركوع، وأيضاً في قوله: ولا تعدوها شيئاً بيان حكم إدراك السجدة مع الإمام، وأنه لا يعتد به، ويكون مدركه مدركاً للركعة وأما حملها على بيان إدراك فضل صلاة الجماعة أو حكمها فبعيد؛ لأنه لا يبقى حينئذٍ مناسبة بين الجملتين، وأيضاً حصول ثواب الجماعة لا يتوقف على إدراك الركعة، بل يحصل ذلك بإدراك جزء من الصلاة جمعة كانت أو غيرها. وأما رواية: فقد أدرك الفضل أو فقد أدرك الصلاة وفضلها فهو حديث آخر لأبي هريرة، ليس فيه الجملة الأولى مع أنها رواية ضعيفة، وعلى هذا فلا خفاء في دلالة حديث الكتاب على كون مدرك الركوع مدركاً للركعة، لا سيما على مذهب من يعتبر مفهوم المخالفة، فان الجملة الأولى بمفهومها يدل على أن من أدرك الإمام راكعاً يعتد بتلك الركعة، لكن الحديث ضعيف كما ستعرف. ويلزم من يقول أن الصحابي إذا روى حديثاً وعمل بخلافه أن العبرة بما عمل أن لا يقول بكون مدرك الركوع مدركاً للركعة؛ لأن أبا هريرة أفتى بخلاف ما روى، فقد أخرج البخاري في جزء القراءة (ص39) عنه قال: لا يجزيك إلا أن تدرك الإمام قائما قبل أن يركع. وفي لفظ له (ص64) قال: إذا أدركت القوم ركوعاً لم تعتد بتلك الركعة. والحق عندي إن من أدرك الإمام راكعاً ودخل معه في الركوع لم تحسب له تلك الركعة، وقد تقدم الكلام فيه مفصلاً. (رواه أبوداود) وكذا الحاكم (ج1:ص273، 274) والبيهقي (ج2:ص89) وسكت عنه أبوداود، والمنذري. وفيه يحيى بن أبي سليمان المدني. قال البخاري في جزء القراءة: يحيى هذا منكر الحديث لم يتبين سماعه من زيد بن أبي العتاب ولا من سعيد بن أبي سعيد المقبري، ولا تقوم به الحجة. وقال البيهقي في المعرفة رواية الحديث من طريق يحيى: تفرد به يحيى بن أبي سليمان هذا وليس بالقوى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج11:ص228) : قال البخاري إنه منكر الحديث. وقال أبوحاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوي يكتب حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرج إبن خزيمة حديثه في صحيحه وقال: في القلب شيء من هذا الإسناد. قال: لا أعرف يحيى بن سليمان بعدالة ولا جرح، وإنما أخرجت خبره لأنه لم يختلف فيه العلماء. وقال الحاكم في المستدرك: هو من ثقات المصريين. وقال في موضع آخر منه: يحيى مدني سكن مصر لم يذكر(4/101)
1151- (9) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بجرح - انتهى. وهذا يدل على أن يحيى هذا لم يعرفه ابن خزيمة والحاكم بعدالة ولا جرح، وهذا هو شأن المستور ورواية المستور لا تكون حجة على القول الصحيح، ولا يعتد بذكر ابن حبان له في ثقاته لما عرف من اصطلاحه، مع أنه قد ضعفه أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري. وقال أبوحاتم: مضطرب الحديث ليس بالقوى. ومن المعلوم أن من عرف حجة على من لم يعرف.
1151- قوله: (من صلى لله) أي خالصاً. (أربعين يوماً) أي ليلة. (في جماعة) متعلق بصلى. (يدرك) حال. (التكبيرة الأولى) أي التكبيرة التحريمة مع الإمام. (براءة من النار) أي خلاص ونجاة. منها يقال برئ من الدين والعيب خلص، ولا يكون الخلاص منها إلا بمغفرة الصغائر والكبائر جميعاً. (وبراءة من النفاق) قال الطيبي: أي يؤمنه في الدنيا أن يعمل عمل المنافق ويؤفقه لعمل أهل الإخلاص، وفي الآخرة يؤمنه مما يعذب به المنافق أو يشهد له أنه غير منافق، فإن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، وحال هذا بخلافهم. والحديث يدل على فضل إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام. قال ابن حجر: إدراك التكبيرة الأولى سنة مؤكدة، وكان السلف إذا فاتتهم عزوا أنفسهم ثلاثة أيام، وإذا فاتتهم الجماعة عزوا أنفسهم سبعة أيام، ذكره القاري. (رواه الترمذي) وقال: قد روى هذا الحديث عن أنس موقوفاً ولا أعلم أحداً رفعه إلا ما روى سلم بن قتيبة عن طعمة بن عمرو (عن حبيب بن أبي ثابت عن أنس) . وإنما يروى هذا عن حبيب بن أبي حبيب البجلي عن أنس قوله: وكأنه يريد بذلك تضعيف الرفع ولم يبين وجهه، مع أن سلم بن قتيبة وطعمة وبقية رواته كلهم ثقات، على أن هذا مما لا يقال مثله من قبل الرأي والاجتهاد، فالموقوف في حكم المرفوع، مع أنه في فضائل الأعمال. ومن المعلوم أنه يعمل فيها بالضعيف بالشروط المذكورة في أصول الحديث. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: رواه الترمذي من حديث أنس وضعفه، ورواه البزار واستغربه - انتهى. وقد وردت في فضل إدراك التكبيرة الأولى مع الإمام أحاديث أخرى تؤيد حديث أنس، منها: حديث عمر، أخرجه ابن ماجه وسعيد بن منصور، وفيه ضعف وانقطاع. ومنها: حديث عبد الله بن أبي أوفي، أخرجه أبونعيم في الحلية، وفيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف. ومنها: حديث أبي كاهل، أخرجه الطبراني في الكبير والعقيلي في الضعفاء والحاكم أبوأحمد في الكنى. قال العقيلي: إسناده مجهول. ومنها: حديث أبي هريرة، أخرجه البزار والعقيلي، وفيه الحسن بن السكن. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص103) : ضعفه أحمد، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال في التخليص: لم يكن الفلاس يرضاه. ومنها: حديث أبي الدرداء أخرجه البزار وابن أبي شيبة، وفيه رجل مجهول. ذكر هذه الأحاديث الحافظ في التلخيص (ص121) مع الكلام عليها.(4/102)
1152- (10) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ فأحسن الوضوءه، ثم راح فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص من أجورهم شيئاً)) رواه أبوداود، والنسائي.
1153- (11) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((جاء رجل وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1152- قوله: (ثم راح) أي ثم ذهب إلى المسجد أي وقت كان، فالمراد بالرواح مطلق الذهاب، ويؤيده أن في رواية النسائي: ثم خرج عامداً إلى الصلاة. (قد صلوا) أي فرغوا من صلاتهم في الجماعة. (أعطاه) أي الرجل الذي جاء بعد انقطاع صلاة الجماعة. (مثل أجر من صلاها) أي الصلاة في الجماعة. (وحضرها) أي حضر صلاة الجماعة. (لا ينقص ذلك) أي أعطاه الله إياه مثل أجرهم. (من أجورهم) وفي أبي داود: من أجرهم، أي بالإفراد، وكتب على هامش عون المعبود: أجورهم، بعلامة النسخة، يعني أجر المصليين بالجماعة. (شئياً) من الأجر أو النقص بل لهم أجورهم كاملاً؛ لأداءهم الصلاة بالجماعة، وله مثل أجر أحدهم لسعيه في تحصيل صلاة الجماعة وإن فاتته. قال السندي: ظاهر الحديث أن إدراك فضل الجماعة يتوقف على أن يسعى لها بوجهه ولا يقصر في ذلك سواء أدركها أم لا، فمن أدرك جزءاً منها ولو في التشهد، فهو مدرك بالأولى، وليس الأجر والفضل مما يعرف بالاجتهاد، فلا عبرة بقول من يخالف قوله الحديث في هذا الباب أصلاً. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضاً الحاكم. وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (ج3:ص69) وفي الباب عن سعيد المسيب عن رجل من الأنصار يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث، وفيه: فإن أتى المسجد فصلى في جماعة غفر له، فإن أتى المسجد وقد صلوا بعضاً وبقي بعض صلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، فان أتى المسجد وقد صلوا فأتم الصلاة كان كذلك. أخرجه أبوداود والبيهقي من طريقه وسكت عليه أبوداود والمنذري.
1153- قوله: (جاء رجل) أي المسجد، ففي رواية لأحمد (ج3:ص45) والبيهقي (ج3:ص69) أن رجلاً دخل المسجد (وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي بأصحابه الظهر، كما في مسند أحمد (ج3:ص85) وزاد فيه: قال فدخل رجل من أصحابه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما حبسك يا فلان عن الصلاة؟ فذكر شيئاً اعتل به، قال فقام يصلي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح. (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ألا رجل يتصدق على هذا) أي يتفضل عليه ويحسن إليه. (فيصلي معه) ليحصل له بذلك أجر الجماعة، فيكون(4/103)
فقام رجل فصلى معه)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كأنه تصدق عليه. قال المظهر: سماه صدقة؛ لأنه يتصدق عليه بثواب ست وعشرين درجة، إذ لو صلى منفرداً لم يحصل له إلا ثواب صلاة واحدة. قال الطيبي: قوله "فيصلي" منصوب لوقوعه جواب قوله "ألا رجل" كقولك ألا تنزل بنا فتصيب خيراً. وقيل: الهمزة للاستفهام ولا بمعنى ليس، فعلى هذا "فيصلي" مرفوع عطفاً على الخبر، وهذا أولى - انتهى. وقال ابن حجر: بالنصب جواب الاستفهام، ويصح الرفع عطفا على "يتصدق" الوقع خبراً للا التي بمعنى ليس، والمعنى أليس رجل ممن فرغوا من صلاتهم بالجماعة فيتصدق بثواب الجماعة على هذا الرجل الذي فاتته الصلاة مع الإمام فيصلي معه، فيحصل بذلك له ثواب الجماعة، فإنه إذا فعل ذلك فكأنه تصدق عليه. (فقام رجل) أي ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أبوبكر الصديق. وفي رواية للبيهقي (ج3:ص70) أن الذي قام فصلى معه أبوبكر رضي الله عنه. (فصلى معه) أي مقتدياً به. والحديث يدل على مشروعية الدخول مع من دخل في الصلاة منفرداً وإن كان الداخل معه قد صلى في جماعة، وقد استدل الترمذي بهذا الحديث على جواز أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صلى فيه، قال: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم من التابعين، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال آخرون من أهل العلم يصلون فرادى، وبه يقول سفيان ومالك وابن المبارك والشافعي –انتهى. قلت: من ذهب من الأئمة إلى اشتراط الجماعة لصحة الصلاة أو إلى وجوب الجماعة عيناً من غير أن يجعلها شرطاً أجاز تكرار الجماعة مطلقاً، وكل من ذهب إلى عدم وجوبها عيناً أو إلى سنيتها كرهها، كما ستعرف وإلى الجواز ذهب ابن مسعود. فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن سلمة بن كهيل: أن ابن مسعود دخل المسجد وقد صلوا فجمع بعلقمة ومسروق والأسود، وإسناده صحيح، وهو قول أنس بن مالك. قال البخاري في صحيحه: وجاء أنس بن مالك إلى مسجد قد صلي فيه فأذن وأقام وصلى جماعة - انتهى. قال الحافظ: وصله أبويعلى في مسنده، وابن أبي شيبة والبيهقي –انتهى مختصراً ملخصاً. قال ابن حزم في المحلى (ج4:ص238) : هذا ممالا يعرف فيه لأنس مخالف من الصحابة. وقال العيني في شرح البخاري: وهو قول عطاء والحسن في رواية، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأشهب عملاً بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ ... الحديث- انتهى. ومذهب الحنفية في ذلك ما ذكر الشامي في حاشية الدر المختار نقلاً عن الخزائن ويكره. (أى تحريماً) تكرار الجماعة في مسجد محلة. (يعني المسجد الذي له إمام وجماعة معلومون) بأذان وإقامة إلا إذا صلى بهما فيه أو لا غير أهله، أو أهله لكن بمخافتة الأذان ولو كرر أهله بدونهما أو كان مسجد طريق جاز، كما في مسجد ليس له إمام ومؤذن –انتهى. واستدلوا لذلك بما رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن أبي بكرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل من نواحي المدينة يريد الصلاة فوجد الناس قد صلوا، فمال إلى منزله فجمع أهله فصلى بهم. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص45) وقال: رجاله ثقات. قال الحنفية: لو كانت(4/104)
الجماعة الثانية جائزة لما اختار الصلاة في بيته على الجماعة في المسجد. قالوا: وفي إطلاق الإذن تقليل الجماعة معنى، فإنهم لا يجتمعون إذا علموا أنها لا تفوتهم. قلت: في الاستدلال بحديث أبي بكرة على كراهة تكرار الجماعة تنزيهاً أو تحريماً نظر؛ لأنه ليس بنص في أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع أهله فصلى بهم في منزله، بل يحتمل أن يكون صلى بهم في المسجد. وكان ميله إلى منزله لجمع أهله لا للصلاة فيه، وحينئذٍ يكون هذا الحديث دليلاً لاستحباب الجماعة في مسجد محلة له إمام ومؤذن وأهل معلومون قد صلى فيه مرة، ولا يكون دليلاً لكراهتها، فما لم يدفع هذا الاحتمال كيف يصح الاستدلال. ولو سلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بأهله في منزله لا يثبت منه كراهة تكرار الجماعة في المسجد، بل غاية ما يثبت منه أنه لو جاء رجل في مسجد قد صلى فيه فيجوز له أن لا يصلي فيه بل يخرج منه، فيميل إلى منزله فيصلي به بأهله. وأما أنه لا يجوز له أن يصلي في ذلك المسجد بالجماعة أو يكره له ذلك فلا دلالة الحديث عليه البتة، كما لا يدل الحديث على كراهة أن يصلي فيه منفرداً، على أنه لو ثبت من هذا الحديث كراهة تكرار الجماعة، لأجل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في المسجد لثبت منه كراهة الصلاة فرادى أيضاً في مسجد قد صلى فيه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلى في المسجد لا منفرداً ولا بالجماعة. وأما قولهم: لو كانت الجماعة الثانية جائزة لما اختار الصلاة في منزله على الجماعة في المسجد، ففيه أنه يلزم من هذا التقرير كراهة الصلاة فرادى أيضاً في المسجد قد صلى فيه مرة بالجماعة، فإنه يقال لو كانت الصلاة فرادى جائزة في مسجد قد صلى فيه بالجماعة لما اختار الصلاة في بيته على الصلاة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد مسجد الحرام، وهذا كله على تقدير أن يكون هذا الحديث صحيحاً قابلاً للاحتجاج، ومن دونه خرط القتاد. وأما قول الهيثمي: "رجاله ثقات" فلا يدل على صحته؛ لأنه لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحاً، كما هو مقرر في موضعه مع أن في سنده معاوية بن يحيى أبا مطيع الاطرابلسي، وهو من رجال الميزان متكلم فيه، وثقة أبوزرعة وأبوعلي النيسابوري وهشام بن عمار. وقال: دحيم وابن معين وأبوداود والنسائي: ليس به بأس. وقال أبوحاتم: صدوق مستقيم الحديث. وقال البغوي والدارقطني: ضعيف. وذكره الدارقطني في المتروكين، وقال: هو أكثر مناكير من معاوية بن يحيى الصدفي. وقال ابن عدي: في بعض رواياته ما لا يتابع عليه، كذا في تهذيب التهذيب (ج10 ص221) وقال في التقريب: صدوق له أوهام. وأجاب الحنفية عن حديث أبي سعيد الذي نحن في شرحه بأنه ليس بحجة علينا؛ لأن المختلف فيه ما إذا كان الإمام والمقتدي مفترضين، وفي هذا الحديث كان المقتدي متنفلاً، قال الشيخ في شرح الترمذي متعقباً على هذا الجواب ما نصه: إذا ثبت من هذا الحديث حصول ثواب الجماعة بمفترض ومتنفل فحصول ثوابها بمفترضين بالأولى، ومن ادعى الفرق فعليه البيان، على أنه لم يثبت عدم جواز تكرار الجماعة أصلاً(4/105)
لا بمفترضين ولا بمفترض ومتنفل، فالقول بجواز تكرارها بمفترض ومتنقل وعدم جواز تكرارها بمفترضين مما لا يصغى إليه، كيف وقد تقدم أن أنساً جاء في نحو عشرين من فتيانه إلى المسجد قد صلى فيه فصلى بهم جماعة، وظاهر أنه هو وفتيانه كلهم كانوا مفترضين، وكذلك جاء ابن مسعود إلى مسجد قد صلى فيه فجمع بعلقمة ومسروق والأسود، وظاهر أنه هو وهؤلاء الثلاثة كلهم كانوا مفترضين - انتهى. ومذهب الشافعية ما ذكره الشافعي في الأم (ج1:137، 136) وإذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلاً أو رجالاً فيه الصلاة صلوا فرادى ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة، فان فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه، وإنما كرهت ذلك لهم؛ لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم. قال الشافعي: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم إنما كان لتفرق الكلمة وأن يرغب الرجل عن الصلاة خلف إمام جماعة فيختلف هو، ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف وتفرق كلمة وفيهما المكروه، وإنما أكره هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن، فأما مسجد بني على ظهر الطريق أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب ولا يكون له إمام معلوم ويصلي فيه السمارة ويستظلون فلا أكره ذلك فيه؛ لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرق الكلمة، وإن يرغب رجال عن إمامة رجل فيتخذون إماماً غيره وإن صلى جماعة في مسجد له إمام ثم صلى فيه آخرون في جماعة بعدهم كرهت ذلك لهم لما وصفت وأجزأتهم صلاتهم - انتهى. قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج1:ص431) بعد تصويب قول الشافعي وتحسينه: وهذا المعنى الذي ذهب إليه الشافعي لا يعارض حديث الباب، يعني حديث أبي سعيد الذي نحن في شرحه، فان الرجل الذي فاتته الجماعة لعذر ثم تصدق عليه أخوه من نفس الجماعة بالصلاة معه، وقد سبقه بالصلاة فيها هذا الرجل، يشعر في داخلة نفسه كأنه متحد مع الجماعة قلباً وروحاً وكأنه لم تفته الصلاة. وأما الناس الذي يجمعون وحدهم بعد صلاة جماعة المسلمين فإنما يشعرون أنهم فريق آخر خرجوا وحدهم وصلوا وحدهم إلى آخر ما قال. ومذهب المالكية ما في المدونة (ج1:ص89) قلت: فلو كان رجل هو إمام مسجد قوم ومؤذنهم أذن وأقام فلم يأته أحد فصلى وحده ثم أتى أهل المسجد الذين كانوا يصلون فيه، قال فليصلوا أفذاذاً ولا يجمعوا؛ لأن إمامهم قد أذن وصلى، قال: وهو قول مالك. قلت: أرأيت إن أتى هذا الرجل الذي أذن في هذا المسجد وصلى وحده أتى مسجداً فأقيمت الصلاة أيعيد أم لا في جماعة في قول مالك؟ قال: لا أحفظ من مالك فيه شيئاً، ولكن لا يعيد؛ لأن مالكاً قد جعله وحده جماعة - انتهى. وقال ابن العربي في شرح الترمذي (ج2:ص21) : هذا معنى محفوظ في الشريعة عن زيغ المبتدعة لئلا يتخلف عن الجماعة ثم يأتي فيصلي بإمام آخر، فتذهب حكمة الجماعة وسننها، لكن ينبغي إذا أذن الإمام في ذلك أن يجوز، كما في حديث أبي سعيد، وهو قول بعض علماءنا - انتهى. ولعلك عرفت بما ذكرنا من مذاهب العلماء وما استدلوا به عليها أنه لا دليل على كراهة تكرار(4/106)
رواه الترمذي، وأبوداود.
{الفصل الثالث}
1154- (12) عن عبيد الله بن عبد الله، قال: ((دخلت على عائشة، فقلت: ألا تحدثين عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: بلى، ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! وهم ينتظرونك قال: ضعوا لي ماء في المخضب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجماعة، وعدم جواز الجماعة الثانية في مسجد له إمام راتب قد صلى فيه أهله لا من كتاب ولا من سنة صحيحة ثابتة ولا إجماع إلا من رأي معارض لحديث أبي سعيد ومخالف لعمل ابن مسعود وأنس بن مالك رضي الله عنهما، لا يعرف فيه لهما مخالف من الصحابة، فأرجح الأقوال عندنا هو أنه يجوز ويباح لمن أتى مسجداً قد صلي فيه بإمام راتب وهو لم يكن صلاها، وقد فاتته الجماعة لعذر أن يصلي بالجماعة، والله أعلم. (رواه الترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عنه هو، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، واللفظ المذكور للترمذي إلا قوله: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه، فإن هذا اللفظ لأبي داود، ولفظ الترمذي: أيكم يتجر على هذا. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج3:ص5و45، 64، 85) والدارمي والحاكم (ج1:ص209) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وابن حزم في المحلي (ج4:ص238) والبيهقي (ج3:ص69وج2:ص303) وابن حبان وابن الجارود في المنتقي (ص168) وابن خزيمة. وفي الباب عن أبي أمامة وسلمان وعصمة بن مالك الخطمي وأنس، ذكر أحاديثهم الزيلعي في نصب الراية (ج2:ص57، 58) والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص45، 46) . هذا، وكان الأنسب إيراد الأحاديث الثلاثة في باب فضيلة الجماعة.
1154- قوله: (عن عبيد الله بن عبد الله) أي ابن عتبة بن مسعود، أحد الفقهاء السبعة من كبار التابعين. (فقلت) لها. (ألا) بتخفيف اللام للعرض والاستفتاح. (تحدثيني عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرضه الذي توفى فيه. (قالت بلى) أي نعم أحدثك. (ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم -) بضم القاف، اشتد مرضه فحضرت الصلاة. (فقال) صلى الله عليه وسلم. (أصلي الناس) الهمزة فيه للاستفهام والاستخبار. (فقلنا: لا) أي ما صلوا. (وهم ينتظرونك) أي خروجك أو أمرك. قال الطيبي: حال من المقدر أي لم يصلوا والحال أنهم ينتظرونك. (قال) وفي بعض النسخ: "فقال". (ضعوا) أمر من الوضع. (لي) أي لأجلي. (ماء في المخضب) بكسر ميم وسكون خاء وفتح ضاد معجمتين ثم الموحدة هو أجانة تغسل فيها الثياب، ويقال لها المركن، وكان هذا المخضب
(1) وفي نسخة "فقال"(4/107)
قالت: ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قال ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قال: ضعوا لي ماء في المخضب، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! والناس عكوف في المسجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من نحاس، كما في رواية ابن خزيمة. (قالت) أي عائشة. (ففعلنا) ما أمر به. (فاغتسل) وللمتسملى: ففعلنا فقعد فاغتسل قال الحافظ: الماء الذي اغتسل به كان من سبع قرب، يشير إلى رواية البخاري في باب الغسل والوضوء في المخضب بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه: هريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلى أعهد إلى الناس، وأجلس في مخضب لحفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم طفقنا نصب عليه تلك، قيل: والحمة في ذلك أن المريض إذا صب عليه الماء البارد ثابت إليه قوته، لكن في مرض يقتضي ذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، فلذلك طلب الماء ولذلك بعد استعمال الماء قام وخرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، وأما تعيين العدد بالسبعة فقيل: يحتمل أن يكون ذلك من جهة التبرك بهذا العدد؛ لأن له دخولاً في كثير من أمور الشريعة وأصل الخلقة، والحكمة في عدم حل الأوكية، لكونه أبلغ في طهارة الماء وصفائه لعدم مخالطة الأيدي. قال الحافظ وفي رواية للطبراني من آبار شتى، والظاهر أن ذلك للتداوي لقوله في رواية أخرى في الصحيح: لعلي أستريح فأعهد أي أوصى. (فذهب) أي شرع. (لينوء) بنون مضمومة ثم همزة أي لينهض بجهد ومشقة. وقال الكرماني: وينوء كيقوم لفظاً ومعنى. (فأغمي عليه) بالبناء للمفعول أي لشدة ما حصل له من تناهي الضعف وفتور الأعضاء عن تمام الحركة. قال في المجمع: أغمي على المريض إذا غشي عليه كأنه ستر عقله - انتهى. وفيه أن الإغماء جائز على الأنبياء؛ لأنه مرض من الأمراض بخلاف الجنون فلم يجز عليهم؛ لأنه نقص وقد كملهم الله تعالى بالكمال التام. قال العيني: العقل في الإغماء يكون مغلوباً، وفي الجنون يكون مسلوباً، والحكمة في جواز المرض عليهم ومصائب الدنيا تكثير أجورهم وتسلية الناس بأحوالهم وأمورهم، لئلا يفتتن الناس بهم ويعبدونهم لما يظهر على أيديهم من المعجزات والآيات البينات. (هم ينتظرونك) جملة اسمية وقعت حالاً بلا واو، وهو جائز وقد وقع في القرآن نحو قوله {قلنا اهبطو بعضكم لبعض عدو} [36:2] وكذلك هم ينتظرونك الثاني. (فأغمي عليه ثم أفاق) وقع الاغماء والإفاقة ثلاث مرات. قال الأسنوي في المهمات: نقل القاضي حسين أن الاغماء لا يجوز على الأنبياء الا ساعة أو ساعتين، فأما الشهر أو الشهرين فلا يجوز كالجنون. (والناس عكوف)(4/108)
ينتظرون النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر: بأن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تصلي بالناس، فقال أبوبكر – وكان رجلاً رقيقاً – يا عمر! صل بالناس، فقال له عمر: أنت أحق بذلك، فصلى أبوبكر تلك الأيام، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه خفة، وخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، وأبوبكر يصلي بالناس،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بضم العين جمع العاكف، أي مجتمعون مقيمون، وأصل العكف اللبث والحبس واللزوم، ومنه الاعتكاف؛ لأنه لبث في المسجد ولزومه وحبس النفس فيه. (ينتظرون النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي خروجه. (لصلاة العشاء الآخرة) قال الحافظ: كذا للأكثر بلام التعليل. وفي رواية المستملي والسرخسي: الصلاة العشاء الآخرة. وتوجيهه أن الراوي كأنه فسر الصلاة المسؤل عنها في قوله - صلى الله عليه وسلم -، أي الصلاة المسؤل عنها هي العشاء الآخرة. (فأتاه الرسول) أي رسول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بلال المؤذن؛ لأنه هو الذي أعلم بحضور الصلاة كما تقدم فأجيب بذلك. (فقال أبوبكر) أي لعمر بن الخطاب. (وكان رجلاً) جملة معترضة مقول عائشة. (رقيقا) أي رقيق القلب كثير الحزن والبكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. (يا عمر صل بالناس) قال النووي: تأوله بعضهم على أنه قاله تواضعاً وليس كذلك بل للعذر المذكور وهو كونه رقيق القلب كثير البكاء، فخشي أن لا يسمع الناس من البكاء. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون رضي الله عنه فهم من الإمامة الصغرى الإمامة العظمى، وعلم ما في تحملها من الخطر، وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره، ويؤيده أنه عند البيعة أشار عليهم أن يبايعوه أو يبايعوا أباعبيدة بن الجراح. والظاهر أنه لم يطلع على المراجعة التي وقعت بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين عائشة، وفهم من الأمر له بذلك تفويض الأمر له في ذلك، سواء باشر بنفسه أو استخلف - انتهى. وقال السندي: كأن أبا بكر رضي الله عنه رأى أن أمره بذلك كان تكريماً منه له، والمقصود أداء الصلاة بإمام لا تعيين أنه الإمام، ولم يدر ما جرى بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين بعض أزواجه في ذلك، وإلا لما كان له تفويض الإمامة إلى عمر. (فقال له عمر أنت أحق بذلك) مني أي لفضيلتك أو لأمر الرسول إياك خاصة. (فصلى أبوبكر تلك الأيام) أي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها مريضاً. (وجد في نفسه خفة) أي من المرض، وقوة على الخروج إلى الجماعة. (أحدهما العباس) والآخر علي، كما سيأتي. (لصلاة الظهر) هو صريح في أن الصلاة المذكورة كانت الظهر، وزعم بعضهم أنها الصبح، مستدلاً بقوله في رواية ابن عباس عند ابن ماجه والبيهقي (ج3:ص81) : وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القراءة من حيث بلغ أبوبكر، لكن في الاستدلال به على ذلك نظر. لاحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي كان انتهى إليها خاصة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يسمع الآية أحياناً في الصلاة السرية على أن حديث ابن عباس هذا في سنده أبوإسحاق السبيعي كان قد(4/109)
فلما رآه أبوبكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد. وقال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثني عائشة عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: هات، فعرضت عليه حديثها، فما أنكر منه شيئاً، غير أنه قال: أسمّت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا. قال: هو علي))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اختلط بآخر عمره، وكان مدلساً، وقد رواه بالعنعنة. وقد قال البخاري: لا نذكر لأبي إسحاق سماعاً عن أرقم ابن شرجيل. (فلما رأه أبوبكر ذهب ليتأخر) أي أراد أن يتأخر وشرع فيه. (فأومأ) بالألف وفي بعض النسخ بالهمزة أي أشار. (قال) أي للرجلين. (فأجلساه إلى جنب أبي بكر والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعد) كذا وقع في جميع النسخ الموجودة عندنا. ولفظ البخاري: فأجلساه إلى جنب أبي بكر، قال: فجعل أبوبكر يصلي، وهو يأتم بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والناس بصلاة أبي بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد. ولفظ مسلم: فأجلساه إلى جنيب أبي بكر فكان يصلي أبوبكر وهو قائم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد. وذكر الجزري في جامع الأصول (ج11:ص372) لفظ مسلم. والظاهر أنه وقع في نسخ المشكاة ههنا سقط من النساخ حتى صار الكلام مهملا. والعجب من القاري أنه لم يتنبه لذلك ومر عليه كأنه رأى معناه واضحاً ليس فيه اختلال ولا إهمال. واستدل بهذا الحديث على أن استخلاف الإمام الراتب إذا اشتكى أولى من صلاته بهم قاعدا؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبابكر ولم يصل بهم قاعداً غير مرة واحدة. وفيه دليل على صحة إمامة القاعد المعذور للقائم خلافاً لمالك. وفي الحديث فوائد أخرى غير ما تقدم منها: فضيلة أبي بكر الصديق وترجيحه على جميع الصحابة وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غيره. ومنها: فضيلة عمر بعد أبي بكر؛ لأن أبابكر لم يعدل إلى غيره. ومنها: أن المفضول إذا عرض عليه الفاضل مرتبة لا يقبلها بل يدعها للفاضل إذا لم يمنع مانع. ومنها: الثناء في الوجه لمن أمن عليه الإعجاب والفتنة، لقوله: أنت أحق بذلك. ومنها: أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة وأراد أن يستخلف أحداً فلا يستخلف إلا أفضلهم. (وقال عبيد الله) ابن عبد الله بن عتبة. (ألا أعرض) الهمزة للاستفهام ولا للنفي وليس حرف التنبيه ولا حرف التحضيض، بل هو استفهام للعرض. (عن مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي وعن صلاته في تلك الحالة وإنما اقتصر على الأول؛ لأنه المقصود بالسؤال. (قال هات) بكسر التاء مفرد هاتوا بمعنى أحضر. (فعرضت عليه) أي على ابن عباس. (حديثها) هذا. (فما أنكر منه) أي من حديثها. (شيئاً) مصدر أي ما أنكر شيئاً من الانكار فهو مفعول مطلق. وقيل: مفعول به أي ما انكر شيئاً من الأشياء. (قال هو علي) أي ابن أبي طالب قيل: لم تسمه عائشة؛(4/110)
متفق عليه.
1155- (13) وعن أبي هريرة، أنه كان يقول: ((من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاتته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه كان في قلبها منه ما يحصل في قلوب البشر. مما يكون سبباً في الإعراض عن ذكر اسمه، ففي رواية للإسماعيلي: ولكن عائشة لا تطيب نفساً له بخير، ولابن إسحاق في المغازي، ولكنها لا تقدر على أن تذكره بخير. قال الحافظ: وفي هذا رد على من تنطع فقال: لا يجوز أن يظن ذلك بعائشة ورد على من زعم أنها أبهمت الثاني، لكونه لم يتعين في جميع المسافة إذ كان تارة يتوكأ على الفضل وتارة على أسامة وتارة على علي. وفي جميع ذلك الرجل الآخر هو العباس، واختص بذلك إكراماً له، وهذا توهم ممن قاله، والواقع خلافه؛ لأن ابن عباس في جميع الروايات الصحيحة جازم بأن المبهم علي فهو المعتمد، ودعوى وجود العباس في كل مرة والذي يتبدل غيره مردودة بدليل رواية ابن حبان التي قدمت الإشارة إليها وغيرها صريح في أن العباس لم يكن في مرة ولا مرتين - انتهى كلام الحافظ. فتفكر. (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به، وأخرجه أيضاً النسائي في باب الإئتمام بالإمام يصلي قاعداً والبيهقي (ج1:ص31 وج3:ص80) .
1155- قوله: (أنه كان يقول) الضمير راجع إلى أبي هريرة. ولفظ المؤطا مالك: أنه بلغه أن أباهريرة كان يقول. (من أدرك الركعة) قيل: المراد بالركعة الركوع، ومعنى إدراك الركوع أن يركع المأموم قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع يعني من أدرك الإمام راكعاً فكبر وركع قبل رفع الإمام رأسه فقد أدرك الركوع وإذا أدرك الركوع. (فقد أدرك السجدة) بالأولى يعني يعتبر بهذه السجدة إذا أدرك الركوع. وقيل: المراد بالسجدة الركعة، والمعنى من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة أي صحت له تلك الركعة. وقيل: لفظ الركعة محمول على معناه الحقيقي، والمراد بالسجدة الصلاة والمعنى من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة أي فضيله جماعتها بكمالها. (ومن فاتته قراءة أم القرآن) أي فاتحة الكتاب. (فقد فاته خير كثير) قال الباجي في المنتقي (ج1:ص21) معناه من أدرك الركعة فقد أدرك الاعتداد بالسجدة، وليست فضيلة من أدرك الركعة بدون قراءة كفضيلة من أدرك القراءة من أولها إلى آخرها. وقال الطيبي: أي من أدرك الركوع وفاته قراءة أم الكتاب وإن أدرك الركعة فقد فاته ثواب كثير - انتهى. وهذا بظاهره يدل على أن أباهريرة ذهب إلى أن مدرك الركوع مدرك للركعة، لكن هذا الأثر مما رواه مالك بلاغاً، وقد قال بعضهم: يسمى مثل هذا معضلاً ولم نقف على من رواه مسنداً، ولا يكفي لثبوته وصحته ما نقله القاري عن سفيان إذا قال مالك: بلغني فهو إسناد قوي، ولو سلم فهو معارض لما رواه البخاري في جزء القراءة (ص35) بسنده عن أبي هريرة لا يجزيك إلا أن(4/111)
رواه مالك.
1156- (14) وعنه، أنه قال: ((الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام، فإنما ناصيته بيد الشيطان))
رواه مالك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تدرك الإمام قائما قبل أن يركع. وفي رواية (ص64) إذا أدركت القوم ركوعاً لم تعتد بتلك الركعة، قال ابن عبد البر بعد ذكره: في إسناد نظر، ولم يبين وجه النظر، والحق أن إسناد الروايتين صحيح أو حسن، رواته مقبولون موثقون، فإن الأول رواه عن عبيد بن يعيش عن يونس عن محمد بن إسحاق قال: أخبرني الأعرض عن أبي هريرة. والثاني عن معقل بن مالك عن أبي عوانة عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن الأعرج عنه، وهذا أقوى وأرجح مما رواه مالك بلاغاً، فيقدم ذلك على هذا. (رواه مالك) أي بلاغا عن أبي هريرة، ورواه البيهقي (ج2:ص90) من طريق مالك.
1156- قوله: (وعنه) أي عن أبي هريرة. (أنه قال) موقوف. وقد روي مرفوعاً، ورجح الحافظ وقفه كما سيأتي. (الذي يرفع رأسه) أي من الركوع والسجود. (ويخفضه) أي الرأس فيهما. (قبل الإمام) أي قبل رفعه وخفضه. (فإنما ناصيته) أي شعر مقدم رأسه. قال في المجمع: هي الشعر المسترسل في مقدم الرأس، وقد يكنى بها عن جميع الذات. وقال في القاموس: الناصية قصاص الشعر. (بيد الشيطان) حقيقة أو مجازاً، يعني يقلبه على خلاف رضى الحق، فهو في تصريف الشيطان، وقبول أمره. والمعنى أن المبادرة بالرفع والخفض قبل الإمام من فعل الشيطان بالمبادر. قال الباجي: معناه الوعيد لمن فعل ذلك، وإخبار أن ذلك من فعل الشيطان، وأن فعله هذا انقياد من كانت ناصيته بيده - انتهى. قال صاحب القبس: ليس للتقدم قبل الإمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أنه يستحضر أنه لا يسلم قبل الإمام فلا يستعجل في هذه الأفعال، ذكره الحافظ في الفتح. (رواه مالك) عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن مليح بن عبد الله بن السعدي عن أبي هريرة من قوله قال ابن عبد البر: رواه مالك موقوفاً، ورواه الدراوردي عن محمد بن عمرو عن مليح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحافظ في الفتح أخرجه البزار من رواية مليح بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة مرفوعاً، وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفاً. وهو المحفوظ - انتهى. قلت: والحديث المرفوع عزاه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص78) للبزار، والطبراني وقال: وإسناده حسن - انتهى. ومليح بن عبد الله السعدي لم أجد ترجمته في كتب الرجال الموجودة عندي، إلا أنه ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من تابعي أهل المدينة، فقال: مليح بن عبد الله السعدي روى عن أبي هريرة وروى عنه محمد بن عمرو بن علقمة الليثي - انتهى.(4/112)
(29) باب من صلى صلاة مرتين
{الفصل الأول}
1157- (1) عن جابر، قال: ((كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يأتي قومه فيصلي بهم)) . متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(باب من صلى) أي فيمن صلى. (صلاة مرتين) أي حقيقة أو صورة وله صور، والمقصود منها ههنا بالنظر إلى أحاديث الباب هو أن يصلي فريضة منفرداً في منزله أو في المسجد بالجماعة مأموماً ثم يذهب إلى مسجد الجماعة فيصلي بهم إماماً أو معهم مأموماً.
1157- قوله. (كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي العشاء الآخرة، كما في رواية لمسلم فكان العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين. (ثم يأتي قومه) أي مسجد قومه بني سلمة. (فيصلي بهم) أي الصلاة المذكورة، ففي رواية مسلم المتقدمة: فيصلي بهم تلك الصلاة، أي التي صلاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وللبخاري في الأدب: فيصلي بهم الصلاة أي المذكورة. وفي هذا رد على من زعم أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير الصلاة التي كان يصليها بقومه، واستدل به لما ذهب إليه الشافعي وأحمد من صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل، بناء على أن معاذاً كان ينوي بالأولى بالفرض وبالثانية النفل. وأجاب بعض الحنفية بأنه لا حجة فيه لجواز أن يكون كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نافلة، ثم يأتي قومه فيصلي بهم فريضة، ورد هذا الجواب بأن الظاهر من هذا الحديث أن معاذاً كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فريضة، إذ بعيد من فقاهة معاذ وهو أفقه الصحابة أن يدرك الفرض خلف أفضل الأئمة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد المسجد الحرم، فيتركه ويضيع حظه منه ويقنع من ذلك بالنفل. قال السندي في حاشية النسائي: دلالة هذا الحديث على جواز إقتداء المفترض واضحة، والجواب عنه مشكل جداً، وأجابوا بما لا يتم، وقد بسطت الكلام فيه في حاشية ابن الهمام-انتهى. قلت: والرواية الآتية نص صريح في صحة اقتداء المفترض خلف المتنفل، وهي صحيحة، كما ستعرف، والحديث يدل على جواز إعادة الصلاة بالجماعة إماماً أو مأموماً لمن صلى جماعة في مسجد، واختلف فيه. قال ابن رشيد: أكثر الفقهاء على أنه لا يعيد، منهم مالك وأبوحنيفة. وقال بعضهم: يعيد، ومن قال بهذا أحمد وداود وأهل الظاهر-انتهى. قلت: وبه قال الشافعي، وهو الحق لحديث جابر هذا، وسيأتي مزيد الكلام في ذلك في شرح الأحاديث المذكورة في الباب. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب إذا صلى ثم أم قوماً ويمثله أخرجه مسلم إلا أن فيه ثم يأتي مسجد قومه.(4/113)
1158- (2) وعنه، قال: ((كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم العشاء، وهي له نافلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وللحديث طرق وألفاظ مطولة ومختصرة، منها ما تقدم في باب القراءة في الصلاة. وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم.
1158- قوله. (ثم يرجع إلى قومه) أي بني سلمة. (فيصلي بهم العشاء) أي التي كان يصليها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية الحميدي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار: ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بهم. وفي رواية الشافعي عن ابن عيينة: ثم يرجع فيصليها بقومه في بني سلمة، ولأحمد: ثم يرجع فيؤمنا. (وهي) أي صلاته بقومه. (له) أي لمعاذ. (نافلة) أي تطوع، ولقومه فريضة، ففي رواية للدارقطني. (ص102) : ثم ينصرف إلى قومه فيصلي بهم، هي له تطوع، ولهم فريضة، وهذه الزيادة المصرحة أن صلاة معاذ بقومه كانت له تطوعاً، دليل واضح على صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل خلافاً للمالكية والحنفية. وأجاب بعض الحنفية بأن هذه الزيادة فيها كلام، لأنه تفرد بها ابن جريج عن عمرو بن دينار. قال أحمد: أخشى أن لا تكون محفوظة. وقال ابن الجوزي: هذه الزيادة لا تصح. وقال الطحاوي: إن ابن عيينة قد روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار كما رواه ابن جريج، وجاء به تاماً، وساقه أحسن من سياق ابن جريج غير أنه لم يقل فيه هذا الذي قاله ابن جريج: هي له تطوع ولهم فريضة-انتهى. قلت: الزيادة المذكورة صحيحة ثابتة محفوظة، فإنها زيادة من ثقة حافظ، ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه أو أكثر عدداً. وأما قول ابن الجوزي والطحاوي فقد رده الحافظ أحسن رد، حيث قال: ويدل عليه. (أى أن معاذ كان ينوي بالأولى الفرض وبالثانية النفل) ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوى والدارقطني وغيرهم من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن جابر في حديث الباب، زاد هي له تطوع، ولهم فريضة. وهو حديث صحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه، فانتفت تهمة تدليسه. فقول ابن الجوزي: لا يصح، مردود. وتعليل الطحاوي بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج، ولم يذكر هذه الزيادة، ليس بقادح، لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة وأقدم أخذاً عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه ولا أكثر عدداً، فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها- انتهى. ودعوى شذوذ هذه الزيادة، كما تفوه بها بعضهم، باطلة جداً، لأنه لا بد لكون الرواية شاذة من أن تكون منافية لرواية من هو أوثق من راويها أو أكثر عدداً منه، والأمر ههنا ليس كذلك، كما هو ظاهر جلي. وأجاب الطحاوي عن هذه الزيادة بوجوه: أحدها أن هذه الزيادة ليست من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا من كلام معاذ، وهذا ظاهر جداً، فيحتمل أن تكون من قول ابن جريج(4/114)
. .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو من قول عمرو بن دينار، فعلى هذا تكون مدرجة، فلا تقبل. ومع هذا لا تدل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا. وأجاب الحافظ عنه بأن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل. فمهما كان مضموماً إلى الحديث فهو منه. ومجرد الاحتمال لا يثبت به الإدراج. فرد هذه الزيادة بمجرد احتمال أن تكون مدرجة، باطل جداً. وثانيها أنه يحتمل أن تكون هذه الزيادة من قول جابر، فعلى هذا لا تكون مدرجة، لكن لا تدل على حقيقة فعل معاذ أنه كذلك أم لا، لأنه لم يحك ذلك عن معاذ، بل هو ظن من جابر. وقد يجوز أن يكون في الحقيقة بخلاف ذلك. وأجاب الحافظ عنه بأن قول الطحاوي: هو ظن من جابر، مردود، لأن جابراً كان ممن يصلي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يظن بجابر أنه يخبر عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه. وثالثها أنه لو ثبت أن هذه الزيادة نقلها جابر عن معاذ وسمعها منه لم يكن في ذلك دليل على أنه كان بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أخبره به لأقره أو غيره، فعلى هذا لا تكون فيها حجة. وأجاب الحافظ عنه بأنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم ثلاثون عقبياً وأربعون بدرياً، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر وابن عمر وأبوالدرداء وأنس وغيرهم- انتهى. قلت: ويمكن أن يجاب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بذلك، وأمر معاذ به. ففي رواية لأحمد أنه قال لمعاذ: لا تكن فتاناً، إما أن تصلي معي. وإما أن تخفف على قومك، يعني إما تصلي معي إذا لم تخفف. وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي. ورابعها أنه لو سلم أن ذلك كان من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذنه لم يكن فيه حجة، لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلى مرتين، فإن ذلك قد كان يفعل في أول الإسلام حتى نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي في حديث سليمان عن ابن عمر في آخر الفصل الثالث، يعني فيكون فعل معاذ منسوخاً بما روي من النهي. وتعقب ذلك بأنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال، وهو لا يسوغ. وأما حديث ابن عمر ففي الاستدلال به على تقدير صحته نظر، لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوا مرتين على أنهما فريضة. وبذلك جزم البيهقي جمعاً بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيداً. ولا يقال إن القصة قديمة، لأن صاحبها استشهد بأحد. لأنا نقول كانت أحد في أواخر الثالثة، فلا مانع من أن يكون النهي في الأولى، والإذن في الثالثة مثلاً، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للرجلين الذين لم يصليا معه: إذا صليتما في حالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكما نافلة، وكان ذلك في حجة الوداع في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويدل على الجواز أيضاً أمره - صلى الله عليه وسلم - لمن أدرك الأئمة الذين يأتون بعده،(4/115)
رواه........
((الفصل الثاني))
1159_ (3) عن يزيد بن الأسود، قال: ((شهدت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضى صلاته وانحرف فإذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها، أن صلوها في بيوتكم في الوقت، ثم اجعلوها معهم نافلة. (رواه) بيّض له المصنف ليبين روايه ومخرجه، وكان ينبغي تأخيره للفصل الثاني، لأنه ليس في الصحيحين، ولا في أحدهما، ولا في واحد من الكتب الستة، وإنما رواه البيهقي. (ج3 ص86) وغيره. وقد تقدم في كلام الحافظ أنه رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدارقطني وغيرهم. وكأن المصنف ذكره في الفصل الأول تبعاً لما في المصابيح، وكان على البغوي أن يؤخره للحسان. قال الطيبي: لم يبين المؤلف روايه من أصحاب السنن، يشير إلى أنه ما وجده في الصحيحين. قال التوربشتي: هذا الحديث أثبت في المصابيح من طريقين: أما الأول فقد رواه الشيخان. وأما الثاني فبالزيادة التي فيه، وهي قوله: نافلة له فلم نجده في أحد الكتابين، فإما أن يكون المؤلف أورده بياناً للحديث الأول، فخفي قصده لإهمال التمييز بينهما أو هو سهو منه، وإما أن يكون مزيداً من خائض افتحم الفضول إلى مهامه لم يعرف طرقها- انتهى. والحديث مع هذه الزيادة صححه البيهقي وغيره. وقال الشافعي في مسنده: هذه زيادة صحيحة. وتقدم قول الحافظ أنه حديث صحيح.
1159- قوله. (عن يزيد بن الأسود) هو أبو جابر يزيد بن الأسود ويقال: ابن أبي الأسود السوائي بضم المهملة وتخفيف الواو والمد، العامري، ويقال الخزاعي، حليف قريش، صحابي، نزل الطائف، ووهم من ذكره في الكوفيين. له هذا الحديث فقط، وروى عنه ابنه جابر بن يزيد الأسود. (شهدت) أي حضرت. (مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجته) أي حجة الوداع. (صلاة الصبح) فيه رد على من زعم من الحنفية بأن هذه القصة كانت في صلاة الظهر. وأما ما وقع في مسند أبي حنيفة بلفظ: أن رجلين صليا الظهر في بيوتهما- الحديث. فلا يعتد به، أو هي قصة أخرى. (في مسجد الخيف) بفتح الخاء المعجمة وإسكان الياء، وهو مسجد مشهور بمنى. قال الطيبي: الخيف ما انحدر من غليظ الجبل. وارتفع عن المسيل، يعني هذا وجه تسميته به. (فلما قضى صلاته) أي أداها وسلم منها. (وانحرف) وفي بعض نسخ الترمذي: "انحرف" بدون الواو، وهكذا نقله الجزرى في جامع الأصول. (ج6ص419) ووقع عند البيهقي. (ج2 ص301) : وانحرف بزيادة الواو أي انصرف عنها، والظاهر أن المعنى انحرف عن القبلة. (فإذا هو) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (برجلين في آخر القوم) كذا في جميع النسخ، أي بالمد في أوله(4/116)
قال: عليّ بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله! إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكسر الخاء. والذي في الترمذي: أخرى القوم، أي بضم الهمزة تأنيث آخر بكسر الخاء، ونقله الجزري كذلك. وأخرى القوم من كان في آخرهم، كما في القاموس. (عليّ) بتشديد الياء، اسم فعل. (بهما) أي ائتوني بهما واحضروهما عندي. (ترعد) بالبناء للمجهول أي تحرك وترجف وتضطرب من الخوف من أُرعد الرجل إذا أخذته الرعدة، وهي الفزع والاضطراب. (فرائصهما) بالصاد المهملة جمع فريصة، وهي اللحمة التي بين الجنب والكتف، تهتز وترجف عند الفزع، أي تتحرك وتضطرب. ووجه ارتعاد فرائصهما ما أعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العظمة والمهابة مع كثرة تواضعه. (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ما منعكما أن تصليا) هذه الصلاة. (معنا) معشر المسلمين. (في رحالنا) أي منازلنا، جمع رحل بفتح الراء وسكون المهملة. (فلا تفعلا) أي ما فعلتما من ترك الصلاة مع الإمام بل (إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة) لفظ أبي داود: إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه. ولفظ ابن حبان: إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الصلاة فصليا. قال الشوكاني: ظاهر التقييد بقوله: ثم أتيتما مسجد جماعة، إن هذا الحكم مختص بالجماعات التي تقام في المساجد لا التي تقام في غيرها، فيحمل المطلق من ألفاظ حديث الباب كلفظ أبي داود وابن حبان المتقدمين على المقيد بمسجد الجماعة. (فصليا معهم) أي مع أهل المسجد. (فإنها) أي الصلاة الثانية، وهي التي صلياها مع أهل المسجد بعد صلاتهما الفريضة. (لكما نافلة) والفريضة هي الأولى، سواء صليت جماعة أو فرادى لإطلاق الخبر. قال الشوكاني: فيه تصريح بأن الثانية في الصلاة المعادة نافلة. وظاهره عدم الفرق بين أن تكون الأولى جماعة أو فرادى، لأن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. قال الخطابي في المعالم. (ج1 ص164) : في الحديث من الفقه أن من صلى في رحله، ثم صادف جماعة يصلون كان عليه أن يصلي معهم أي صلاة كانت من الصلوات الخمس، وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق. وكان مالك يكره أن يعيد صلاة المغرب وكان أبوحنيفة لا يرى أن يعيد صلاة العصر والمغرب والفجر- انتهى. قال ابن رشد: من استثنى من ذلك صلاة المغرب فقط فإنه خصص العموم بالقياس الشبه وهو مالك، وذلك أنه زعم أن صلاة المغرب وتر، فلو أعيدت لأشبهت صلاة الشفع، لأنها بمجموع ذلك تكون ست ركعات، فكأنها تنتقل من جنسها إلى جنس صلاة أخرى. وهذا القياس فيه ضعف، لأن السلام قد فصل بين الأوتار- انتهى. وعلل الحنفية استثناء(4/117)
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العصر والفجر والمغرب بأن الصلاة الأولى فرض، والثانية نفل، قالوا: فيراعى فيه ما يراعى في التنفل، كالمنع من التطوع بعد فرض العصر والصبح، وعدم مشروعية التطوع وتراً. قال الخطابي: وظاهر الحديث حجة على الجماعة من منع عن شيء من الصلوات كلها، ألا تراه يقول: إذا صلى أحدكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه، ولم يستثن صلاة دون صلاة، فأما نهيه عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب فقد تأولوه على وجهين: أحدهما أن ذلك على معنى إنشاء الصلاة ابتداء من غير سبب. فأما إذا كان لها سبب مثل أن يصادف قوماً يصلون جماعة فإنه يعيدها معهم ليحرز الفضيلة. والوجه الآخر أنه منسوخ، وذلك أن حديث يزيد بن الأسود متأخر، لأن في قصته أنه شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، ثم ذكر الحديث. وفي قوله: فإنها نافلة دليل على أن صلاة التطوع جائزة بعد الفجر قبل طلوع الشمس إذا كان لها سبب- انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: قوله: فصليا معهم، هذا تصريح في عموم الحكم أوقات الكراهة أيضاً، ومانع عن تخصيص الحكم بغير أوقات الكراهة، لاتفاقهم على أنه لا يصح استثناء المورد من العموم، والمورد صلاة الفجر. قال: ولا يمكن أن يتوهم نسخ هذا الحكم لكون ذلك في حجة الوداع. قلت: الحديث نص في رد ما قاله أبوحنيفة للتصريح بأن ذلك كان في صلاة الصبح، فيكون هذا مخصصاً لعموم الأحاديث القاضية بكراهة الصلاة بعد صلاة الصبح. ومن جوز التخصيص بالقياس ألحق ما ساواه من أوقات الكراهة. وأما التنفل بالثلاث غير صلاة الوتر فالظاهر أنه يشرع في مثل هذه الصورة لإطلاق حديث يزيد هذا وما وافقه من أحاديث الباب. ولا يعارض هذا حديث ابن عمر الآتي بلفظ: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين، لما سنذكره. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) واللفظ المذكور للترمذي، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص160) والطيالسي وابن سعد في الطبقات وابن حبان والدارقطني والحاكم (ج1 ص245) والبيهقي (ج2 ص300- 301) ، وصححه ابن السكن والترمذي، وسكت عنه أبوداود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره، وقد أخرجوه كلهم من طريق يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول. قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير ابنه، ولا لابنه جابر راو غير يعلى. قال الحافظ في التلخيص (ص122) : يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقة النسائي وغيره، وقد وجدنا لجابر بن يزيد راوياً غير يعلى، أخرجه ابن مندة في المعرفة من طريق شيبة عن إبراهيم بن أبي أمامة عن عبد الملك بن عمير عن جابر.(4/118)
((الفصل الثالث))
1160- (4) عن بسر بن محجن، عن أبيه، ((أنه كان في مجلس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن بالصلاة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1160- قوله. (عن بسر) بضم الموحدة وسكون المهملة، كذا قال مالك في روايته عن زيد بن أسلم. وأما الثوري فقال: عن زيد بن أسلم عن بشر بكسر الموحدة وبالمعجمة. قال أبونعيم: والصواب ما قال مالك. وقال ابن عبد البر: الأكثر على ما قال مالك. ونقل الدارقطني أن الثورى رجع عن ذلك. وقال ابن عبد البر: إن عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني رواه عن زيد بن أسلم، فقال بشر بن محجن بالمعجمة. وقال الطحاوي: سمعت إبراهيم البرلسي يقول: سمعت أحمد بن صالح بجامع مصر يقول: سمعت جماعه من ولده ومن رهطه فما اختلف اثنان أنه بشر، كما قال الثوري يعني بالمعجمة. وقال ابن حبان في الثقات: من قال بشر فقد وهم، روى عنه زيد بن أسلم حديثاً واحداً. قيل صحابي، والصواب أنه تابعي. ذكره الحافظ في الإصابة في القسم الرابع من حرف الباء، وهو فيمن ذكر في الصحابة على سبيل الوهم والغلط بشرط أن يكون الوهم فيه بيناً، فقال: بسر بالضم وإسكان المهملة تابعي مشهور، جزم بذلك البخاري والجمهور. ذكره البغوي وغيره في الصحابة لرواية سقط فيها لفظ عن أبيه، وسنذكرها وقال ابن الأثير في أسد الغابة: لا تصح صحبته، تصح صحبة أبيه محجن. وقال في التقريب: بسر بن محجن. وقيل: بكسر أوله والمعجمة، صدوق من الرابعة أي من الطبقة التي تلي الطبقة الوسطى من التابعين، جل روايتهم عن كبار التابعين. (بن محجن) بكسر الميم وسكون مهملة وفتح جيم آخره نون. (عن أبيه) أي محجن بن أبي محجن الديلى، صحابي قليل الحديث. قال ابن عبد البر: معدود في أهل المدينة. قال الذهبي في تلخيصه للمستدرك (ج1 ص244) : محجن تفرد عنه ابنه - انتهى. ووهم من قال فيه: محجن بن الأدرع، كما في المنتقى لابن تيمية، فإنه صحابي آخر. (أنه) أي أباه. (كان في المجلس) أي داخل المسجد. (فأذن) بصيغة المفعول. (بالصلاة) قيل أي بالصلاة الظهر، لما أخرج البغوي وغيره من طريق ابن إسحاق عن عمران بن أبي أنس عن حنظلة بن علي عن بسر بن محجن، قال صليت الظهر في منزلي، ثم خرجت بإبل لى لأضربها، فمررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي الظهر في مسجده- الحديث. ذكره الحافظ في الإصابة. وقال قد سقط من الإسناد قوله: عن أبيه، وأخرجه الطحاوي من طريق سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم بلفظ: صليت في بيتي الظهر والعصر- الحديث. وذكر ابن الأثير الجزري في أسد الغابة حديث بسر هذا بلفظ: صلاة الظهر. وروى أحمد عن رجل من بني الديل، قال خرجت بأباعر لي، لأصدرها إلى الراعي، فمررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي بالناس الظهر، فمضيت، فلم أصل(4/119)
فصلى، ورجع، ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما منعك أن تصلي مع الناس؟ ألست برجل مسلم؟ فقال: بلى، يا رسول الله! ولكني كنت قد صليت في أهلي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جئت المسجد، وكنت قد صليت، فأقيمت الصلاة، فصل مع الناس وإن كنت قد صليت)) . رواه مالك، والنسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
معه- الحديث. (فصلى) أي بعد الإقاومة. (ورجع) وفي الموطأ، وكذا عند النسائي: ثم رجع أي بعد الفراغ من الصلاة (ومحجن في مجلسه) أي مكانه الأول لم يتحرك منه. (ما منعك أن تصلي مع الناس) أي جماعة المسلمين الذين صلوا معي. (ألست برجل مسلم) قال الباجي: يحتمل الاستفهام، ويحتمل التوبيخ، وهو الأظهر. ولا يقتضي أن من لم يصل مع الناس ليس بمسلم، إذ هذا لا يقوله أحد- انتهى. (فقال بلى يا رسول الله) أنا مسلم حقاً. (ولكني كنت قد صليت) وفي الموطأ: ولكني قد صليت أي بدون لفظ: كنت (في أهلي) يعني ما تركت الصلاة، وإنما اكتفيت بصلاتي في أهلي. ولعله سمع قبل ذلك قوله: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين. (إذا جئت المسجد وكنت قد صليت فأقيمت الصلاة فصل مع الناس) ولفظ الموطأ والنسائي: إذا جئت فصل مع الناس. ولفظ الكتاب لم أجده إلا في جامع الأصول. وقد نسبه إلى الموطأ والنسائي. وزاد أحمد في رواية له: واجعلها نافلة. (وأن) وصلية أي ولو. (كنت قد صليت) أي في أهلك. قال الطيبي: تكرير تقرير لقوله: وكنت قد صليت، وتحسين للكلام، كما في قوله تعالى. {ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} [16: 119] فقوله: لغفور رحيم، خبر لقوله: إن ربك للذين عملوا السوء، وقوله: إن ربك من بعدها تكرير للتقرير والتحسين –انتهى. والحديث بعمومه وإطلاقه يدل على مشروعية الصلاة مع الإمام إذا وجده يصلي أو سيصلي أي صلاة كانت من الصلوات الخمس لمن كان قد صلى جماعه أو فرادى، والأولى هي الفريضة. والأخرى نافلة، كما صرح به في رواية لأحمد، (رواه مالك) عن زيد بن أسلم عن بسر عن أبيه محجن، والنسائي من طريق مالك، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص34) من طريق الثوري، ومالك عن زيد بن أسلم. ونسبه الحافظ في الإصابة للبخاري في الأدب المفرد، وابن خزيمة، ونسبه أيضاً في التلخيص لابن حبان والحاكم. وأخرجه أيضاً الطحاوي والدارقطني والدارمي والبيهقي (ج2 ص300) ، وهو في المستدرك (ج1 ص244) . من طريق مالك ومن طريق الشافعي عن عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح، ومالك بن أنس الحكم في حديث المدنيين، وقد احتج به في الموطأ، وهو من النوع الذي قدمت ذكره أن الصحابي إذا لم يكن له راويان لم يخرجاه- انتهى.(4/120)
1161- (5) وعن رجل من أسد بن خزيمة، أنه سأل أبا أيوب الأنصاري قال: ((يصلي أحدنا في منزله الصلاة، ثم يأتي المسجد، وتقام الصلاة، فأصلى معهم، فأجد في نفسي شيئاً من ذلك. فقال أبوأيوب: سألنا عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فذلك له سهم جمع)) . رواه مالك، وأبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1161- قوله. (عن رجل من أسد) كذا في جميع النسخ. وكذلك نقله الجزري في جامع الأصول (ج6 ص420) . وهكذا وقع في رواية للبيهقي وفي الموطأ وأبي داود: من بني أسد. وهذا الرجل مجهول لم يسم ولم يدر. (أنه سأل أبا أيوب الأنصاري) النجاري الخزرجي البدري من كبار الصحابة. (قال) أي الرجل السائل، وهذا بيان للسؤال. (يصلي أحدنا في منزله الصلاة) أي المكتوبة. (وتقام) وفي بعض النسخ: فتقام. (فأصلي معهم) أي مرة أخرى بعد ما صليت في منزلي. قال الطيبي: فيه التفات من الغيبة إلى الحكاية على سبيل التجريد؛ لأن الأصل أن يقال أصلي في منزلي بدل قوله: يصلي أحدنا- انتهى. قال القاري: والأظهر كان الأصل أن يقال فيصلي معهم فالتفت، وكذا قوله. (فأجد في نفسي) ولفظ الموطأ: فقال إني أصلي في بيتي، ثم آتي المسجد فأجد الإمام يصلي، أفأصلى معه؟. (شيئاً) أي شبهة. (من ذلك) أي من إعادة الصلاة. (سألنا عن ذلك) قال الطيبي: المشار إليه بذلك هو المشار إليه بذلك الأول والثالث أي الآتي، وهو ما كان يفعله الرجل من إعادة الصلاة بالجماعة بعد ما صلاها منفرداً- انتهى. (قال) وفي بعض النسخ: فقال موافقاً لما في أبي داود وجامع الأصول. (فذلك) الظاهر أن المشار إليه هنا هو الرجل خلاف ما ذكره الطيبي أي فذلك الرجل الذي أعاد الصلاة بالجماعة. (له سهم جمع) أي نصيب من ثواب الجماعة. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص165) : يريد أنه سهم من الخير، جمع له فيه حظان. وفيه وجه آخر. قال الأخفش: سهم جمع، يريد سهم الجيش. وسهم الجيش هو السهم من الغنيمة، قال: والجمع ههنا هو الجيش، واستدل بقوله تعالى. {يوم التقى الجمعان} [3: 155، 166] ، وبقوله: {سيهزم الجمع} [54: 45] ، وبقوله: {فلما تراء الجمعان} [26: 61] . وقال ابن عبد البر: له أجر الغازي في سبيل لله. وقال الباجي: يحتمل عندي أن ثوابه مثل ثواب الجماعة، ويحتمل مثل سهم من بيّت بالمزدلفة في الحج؛ لأن جمع اسم المزدلفة، ويحتمل أن له سهم الجمع بين الصلاتين صلاة الفذ والجماعة، فيكون فيه الإخبار بأنه لا يضيع له أجر الصلاتين- انتهى. قال الطيبي: قوله: فأجد في نفسي، أي أجد في نفسي من فعل ذلك حزازة، هل ذلك لي أو علي؟ فقيل له سهم الجمع أي ذلك لك لا عليك، ويجوز أن يكون المعنى إني أجد من فعل ذلك روحاً أو راحة، فقيل ذلك الروح نصيبك من صلاة الجماعة، والأول أوجه- انتهى. (رواه مالك وأبوداود) الحديث عند مالك موقوف، وعند أبي داود مرفوع. وكلام المصنف هذا يدل على أنه مرفوع عندهما جميعاً، فكان ينبغي(4/121)
1162- (6) وعن يزيد بن عامر، قال: ((جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فجلست ولم أدخل معهم في الصلاة، فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآني جالساً، فقال: ألم تسلم يا يزيد؟ قلت: بلى، يا رسول الله! قد أسلمت. قال: وما منعك أن تدخل مع الناس في صلاتهم؟ قال: إني كنت فقد صليت في منزلي، أحسب أن قد صليتم. فقال: إذا جئت الصلاة فوجدت الناس، فصل معهم وإن كنت قد صليت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
له أن يقول رواه مالك موقوفا، وأبوداود مرفوعاً أو يقول رواه أبوداود، ورواه مالك موقوفاً، ورواه البيهقي (ج2 ص300) مرفوعاً من طريق أبي داود، وموقوفاً من طريق مالك. والحديث في سنده رجل مجهول، كما تقدم.
1162- قوله. (وعن يزيد بن عامر) بن الأسود العامري أبوحاجز السوائي. قال في التقريب: صحابي، له حديث، يعني هذا الحديث. وقال في الإصابة: قال أبوحاتم: له صحبة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. أخرجه أبوداود من طريق نوح بن صعصعة عنه. ثم أخرجه الطبراني من هذا الوجه، وكان شهد حنيناً مع المشركين، ثم أسلم (جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة) وفي أبي داود جئت والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أي مع الجماعة. ولفظ المشكاة موافق لما في جامع الأصول (ج6 ص420) . (فجلست) أي في ناحية من المسجد منفرداً عن الصف. (ولم أدخل معهم) أي مع المصلين. (في الصلاة) يعني إذا كنت قد صليت. (فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي عن الصلاة وانحرف عن القبلة. (رآني جالساً) وفي أبي داود: قال فانصرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى يزيد جالساً، أي على غير هيئة الصلاة أو على حدة من الصف. ولفظ المشكاة يوافق لما في جامع الأصول. (ألم تسلم) الهمزة للاستفهام أي أما أسلمت؟ (قلت) وفي بعض النسخ: فقلت: وفي أبي داود: قال أي يزيد. (وما منعك) وفي أبي داود: فما منعك. (أن تدخل مع الناس في صلاتهم) فإنه من علامة الإسلام. (قال) أي يزيد. (إني كنت قد صليت في منزلي أحسب) حال من فاعل صليت. (إن قد صليتم) قال الطيبي: قوله أحسب الخ جملة حالية أي ظاناً فراغ صلاتكم- انتهى. قلت: وفي أبي داود وأنا أحسب أي والحال إني كنت قد أحسب أن قد فرغتم من الصلاة. وفيه اعتذار، أن الأول عن عدم الدخول في صلاة الجماعة، وهو بقوله: إني كنت قد صليت. والثاني عن الصلاة في المنزل، وهو بقوله: أحسب أن قد صليتم. (فقال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا جئت الصلاة) وفي أبي داود إلى الصلاة أي إلى المسجد. وفي جامع الأصول: إذا جئت الصلاة، كما في المشكاة. (فوجدت الناس) أي يصلون. (فصل معهم وإن) وصلية. (كنت قد صليت) في منزلك، أي ليحصل لك ثواب الجماعة وزيادة النافلة.(4/122)
تكن لك نافلة وهذه مكتوبة)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(تكن) أي الصلاة الثانية التي صليتها مع الناس. (نافلة) بالنصب أي زائدة على الفرض. (وهذه) أي الصلاة الأولى التي صليتها في منزلك، ويحتمل العكس، لكن حديث يزيد بن الأسود المتقدم، وحديث محجن عند أحمد (ج4 ص338) وحديث أبي ذر السياق في باب تعجيل الصلاة يرجع الاحتمال الأول. (مكتوبة) بالرفع. وقيل: بالنصب. واعلم أنه اختلف في الصلاة التي تصلى مرتين: هل الفريضة الأولى أو الثانية، فقال الشافعي في القديم: إن الفريضة الثانية إذا كانت الأولى فرادى، واستدل له بحديث يزيد بن عامر هذا، لأن ظاهره أن الصلاة الأولى تكون نافلة. والثانية التي يصليها مع الناس مكتوبة، ويقوي ذلك رواية الدارقطني بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته نافلة، وذكرها الحافظ في التلخيص (ص122) والزيلعي في نصب الراية (ج2 ص150) . والمشهور في مذهب المالكية هو أن يعيدها في الجماعة بنية الفرض مع التفويض لله تعالى في قبول ما شاء من الصلاتين لفرضه. وقال في الشرح الكبير: وندب لمن لم يحصل فضل الجماعة أن يعيد صلاته ولو بوقت ضرورة لا بعده مفوضا أمره لله تعالى في قبول أيهما شاء لفرضه. قال الدسوقي: ما ذكره المصنف من كون المعيد ينوي التفويض. قال الفاكهاني: هو المشهور في المذهب. وقيل: ينوي الفرض. وقيل ينوي النفل. وقيل: ينوي إكمال الفريضة. وقال ابن عبد البر: أجمع مالك وأصحابه: أن من صلى وحده لا يؤم في تلك الصلاة. وهذا يدل على أن الأولى هي فريضة، ومقتضى قواعد المالكية أنها على وجه الاعتداد بها، وبحسب النظر الفقهي الدنيوى هي الصلاة الأولى، وأما بالاعتبار الأخروي فالأمر مفوض إلى الله تعالى، واستدلوا للتفويض بأثر ابن عمر الذي بعد هذا. وقال الشافعي في الجديد: إن الأولى هي الفريضة، وهو مذهب الحنفية، وهو الحق لحديث يزيد بن الأسود السابق، ولحديث محجن عند أحمد، ولحديث أبي ذر المتقدم في باب تعجيل الصلاة، ولحديث ابن مسعود عند مسلم، وأبي داود في معنى حديث أبي ذر، وغير ذلك من الأحاديث التي ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص44) . وأما حديث يزيد بن عامر الذي استدل به لقول الشافعي في القديم فهو ضعيف، ضعفه النووي، لأن في سنده نوح بن صعصعة، وهو مستور، كما قال الحافظ في التقريب. وقال الدارقطني: حاله مجهولة كما في تهذيب التهذيب. وقال البيهقي: إن حديث يزيد بن الأسود أثبت منه وأولى، مع أن اللفظ المذكور في الكتاب ليس بصريح فيما ذهب إليه الشافعي. وأما الرواية بلفظ: وليجعل التي صلى في بيته نافلة، فهي ضعيفة شاذة، كما صرح به الدارقطني على ما نقله الحافظ عنه في التلخيص (ص122) . وقال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص150) : قال الدارقطني والبيهقي إنها رواية ضعيفة شاذة مردودة لمخالفتها الثقات. قال الشوكاني: وعلى فرض صلاحية حديث يزيد بن عامر للاحتجاج به، كما هو مقتضى سكوت أبي داود والمنذري، فالجمع بينه وبين حديث الباب ممكن بحمل حديث يزيد بن الأسود على من صلى الصلاة الأولى في جماعة، وحمل حديث يزيد بن عامر على من صلى منفرداً، كما هو الظاهر(4/123)
رواه أبوداود.
1163- (7) وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، ((أن رجلاً سأله فقال: إني أصلي في بيتي، ثم أدرك الصلاة في المسجد مع الإمام، أفأصلى معه؟ قال له: نعم. قال الرجل: أيتهما أجعل صلاتي؟ قال ابن عمر: وذلك إليك؟ إنما ذلك إلى الله عزوجل، يجعل أيتهما شاء)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من سياق الحديثين. وأما أثر ابن عمر الآتي فسيأتي الجواب عنه. (رواه أبوداود) ومن طريقه البيهقي (ج2 ص302) . وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقد عرفت أن في سنده نوح بن صعصعة، وهو مستور. وقال الدارقطني: حاله مجهولة.
1163- قوله. (إني أصلي في بيتي) أي بالإنفراد أو بالجماعة. (في المسجد) ليس هذا اللفظ في نسخ الموطأ الموجودة وإن كان مراداً ههنا. وزاد الجزري لفظ: في المسجد. والمصنف تبعه في ذكر سياق الحديث. (أفأصلي معه) أي أزيد في صلاتي فأصلي معه، قال الطيبي. أو الفاء للتعقيب وتقديم الهمزة للصدارة. (قال له نعم) وفي الموطأ: فقال عبد الله بن عمر نعم. (أيتهما) قال القاري: بالنصب في أكثر النسخ. وفي نسخة السيد: بالرفع. والأول أظهر أي أية الصلاتين. (أجعل صلاتي) أي أعدهما عن فرضي. (قال) وفي الموطأ فقال له. (وذلك إليك) قال الطيبي: إخبار في معنى الاستفهام بدليل قوله. (إنما ذلك إلى الله) قلت: وقع في الموطأ أو ذلك إليك أي بهمزة الاستفهام، وكذا نقله الجزري عن الموطأ، ووقع عند البيهقي، وذلك كما في المشكاة. (يجعل) الفرض. (أيتهما شاء) يعني الله يعلم التي يتقبلها عن الفريضة إذا صليتهما بنية الفرض، وهذا هو المشهور في مذهب مالك أعني الإعادة بنية الفرض مع التفويض إلى الله في قبول شاء من الصلاتين لفرضه، كما تقدم. وقال ابن حبيب: معناه أن الله يعلم التي يتقبلها، فأما على وجه الاعتداد بها فهي الأولى، ومقتضى هذا أن يصلي الصلاتين بنية الفرض. وقال ابن الماجشون وغيره: أراد به القبول فإن الله تعالى قد يقبل الفريضة دون النافلة وبالعكس. وقال القاري: لأن المدار على القبول، وهو مخفي على العباد، وإن كان جمهور الفقهاء يجعلون الأولى فريضة، وأيضاً يمكن أن يقع في الأولى فساد فيحسب الله تعالى نافلته بدلاً عن فريضته، فالاعتبار الأخروي غير النظر الفقهي الدنيوي- انتهى. وعلى هذا فلا منافاة بينه وبين قول من قال الفريضة هي الأولى، كما روي عن ابن عمر نفسه أنه سئل عن الرجل يصلي الظهر في بيته ثم يأتي المسجد والناس يصلون فيصلي معهم، فأيتهما صلاته؟ قال: الأولى منهما صلاته. ذكره القاري في شرح مسند أبي حنيفة، وكذا حكاه عنه ابن عبد البر وقال: في وجه الجمع بين قوليهما أنه يحتمل أن يكون شك في رواية مالك، ثم إن له أن صلاته هي(4/124)
1146- (8) وعن سليمان مولى ميمونة، قال: أتينا ابن عمر على البلاط، وهم يصلون فقلت: ألا
نصلي معهم؟ قال: قد صليت، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تصلوا صلاة في يوم
مرتين)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأولى فرجع من شكه إلى يقين علمه، ومحال أن يرجع إلى الشك- انتهى. قلت: الأحاديث المرفوعة الصحيحة صريحة في أن صلاته هي الأولى، وأنه يجعل الثانية نافلة والأولى فريضة، فهي مقدمة على أثر ابن عمر هذا. (رواه مالك) عن نافع أن رجلاً سأل عبد الله بن عمر فقال الخ. ورواه البيهقي من طريق مالك.
1164- قوله. (عن سليمان) يسار الهلالي المدني. (أتينا ابن عمر) وفي أبي داود: أتيت ابن عمر، والسياق المذكور هنا موافق لما ذكره الجزري (ج6 ص423، 424) . (على البلاط) بفتح الباء ضرب من الحجارة يفرش به الأرض. وفي المصباح البلاط كل شيء فرشت به الدار من حجر وغيره. وفي القاموس: البلاط كسحاب الأرض المستوية الملساء والحجارة التي تفرش في الدار وكل أرض فرشت بها أو بالآجر، وهو موضع المدينة. وقال في النيل: هو موضع مفروش بالبلاط بين المسجد والسوق بالمدينة. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: هو موضع قريب من مسجد المدينة، اتخذه عمر لمن يتحدث. (وهم) أي أهله. (يصلون) أي على البلاط لا في المسجد، وابن عمر قد صلى قبلهم في المسجد بالجماعة، وهو الذي فهمه النسائي يدل عليه ترجمته على هذا الحديث بلفظ: سقوط الصلاة عمن صلى مع الإمام في المسجد جماعة. (قال: قد صليت) لم يدخل في صلاتهم لأنه صلى جماعة، كما فهمه النسائي. وقال النووي: إنما لم يعدها ابن عمر لأنه كان صلاها في جماعة- انتهى. وقيل: كان الوقت صبحاً أو مغرباً، فقد روي عنه أنه كان يقول من صلى المغرب أو الصبح ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما. وقد ذكره المصنف بعد هذا الحديث، ورواه عبد الرزاق بلفظ: إن كنت قد صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصل معه، غير الصبح والمغرب فإنهما لا تصليان مرتين. (وإني سمعت) وفي أبي داود والنسائي: إني سمعت أي بدون الواو. (لا تصلوا صلاة) أي واحدة. (في يوم) أي في وقت واحد. (مرتين) . هذا لفظ أحمد وأبي داود. ولفظ النسائي: لا تعاد الصلاة في يوم مرتين. قال الشوكاني: قد تمسك بهذا الحديث القائلون أن من صلى في جماعة ثم أدرك جماعة لا يصلي معهم، كيف كانت، لأن الإعادة لتحصيل فضيلة الجماعة وقد حصلت له، وهو مروى عن الصيدلاني والغزالى وصاحب المرشد، والحديث يخالف الأحاديث السابقة والذي مر من الأثر من ابن عمر نفسه من افتاء به رجلاً سأله، واختلف في وجه الجمع فقيل: يحمل هذا الحديث على من صلى بالجماعة، والأحاديث الأخر على من صلى منفرداً. قال البيهقي (ج2 ص303) :(4/125)
رواه أحمد، وأبوداود، والنسائي.
1165- (9) وعن نافع، قال: إن عبد الله بن عمر كان يقول: ((من صلى المغرب أو الصبح، ثم
أدركهما مع الإمام، فلا يعد لهما)) . رواه مالك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إن صح هذا الحديث يحمل على ما إذا صلاها مع الإمام أي في جماعة، وإلى هذا التوجيه أشار النسائي في ترجمته المتقدمة، وبوب عليه أبوداود بلفظ: إذا صلى جماعة ثم أدرك جماعة هل يعيد الصلاة؟ وقيل: المراد بحديث ابن عمر هذا النهي عن أن يصليهما على وجه الفرض. قال في الاستذكار: اتفق أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه على أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصلوا صلاة في يوم مرتين أن ذلك أن يصلي الرجل صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ منها فيعيدها على جهة الفرض أيضاً. وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة إقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره بذلك فليس ذلك من إعادة الصلاة في يوم مرتين، لأن الأولى فريضة والثانية نافلة، فلا إعادة حينئذٍ- انتهى. وقيل: هو محمول على ما إذا لم تكن عن سبب. قال الخطابي في المعالم (ج1 ص166) : هذه صلاة الإيثار والاختيار دون ما كان لها سبب، كالرجل يدرك الجماعة وهم يصلون فيصلي معهم ليدرك فضيلة الجماعة توفيقاً بين الإخبار ورفعاً للاختلاف بينها- انتهى. (رواه أحمد وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً الطحاوي وابن حزم في المحلى، وصححه والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. قال النووي: إسناده صحيح. وفي سنده عمرو بن شعيب روى عن سليمان بن يسار مولى ميمونة قال في تهذيب التهذيب (ج8 ص49) : قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: إذا حدث عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أو سليمان بن بسار أو عروة فهو ثقة عن هؤلاء. وقال ابن حبان: عمرو بن شعيب في نفسه ثقة يحتج يخبره إذا روى عن غير أبيه.
1165- قوله: (وعن نافع) أي مولى ابن عمر. (قال) أي نافع. (فلا يعد) بفتح الياء وضم العين من العود. (لهما) أي للصبح والمغرب، لأن الصلاة الثانية تكون نافلة والتنفل بعد صلاة الصبح منهي عنه، ولأن النافلة لا تكون وتراً، وبه قال النخعي والأوزاعي ولم يذكر ابن عمر النهي عن الصلاة بعد العصر، لأنه كان يحمله على أنه بعد الإصفرار، ومن جوز الإعادة مع كون الوقت وقت كراهة. قال: أحاديث الإعادة مخصصة لعموم أحاديث النهي كما تقدم. (رواه مالك) وأخرجه أيضاً عبد الرزاق ولفظه: إن كنت قد صليت في أهلك ثم أدركت الصلاة في المسجد مع الإمام فصل معه غير الصبح والمغرب، فإنهما لا يصليان مرتين. وأما ما ذكره القاري في المرقاة من أن الدارقطني أخرج عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا صليت في أهلك ثم أدركت فصلها إلا الفجر والمغرب، ففيه إني لم أجد هذا الحديث في سنن الدارقطني لا مرفوعاً ولا موقوفاً. والظاهر أنه وهم من القاري.(4/126)
(30) باب السنن وفضائلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(باب السنن) أي المؤكدة والمستحبة. (وفضائلها) قال في اللمعات: أراد بالسنن الصلاة التي تؤدى مع الفرائض في اليوم والليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليهما مؤكدة أو غير مؤكدة، وسمى القسم الأول الرواتب مأخوذ من الرتوب وهو الدوام والثبوت، يقال: رتب رتوبا ثبت ولم يتحرك، ومنه الترتيب، ويمكن أن يجعل الرواتب أعم من المؤكد، وقد جعل صاحب سفر السعادة (يعني مجد الدين الفيروز آبادي صاحب القاموس) سنة العصر من الرواتب- انتهى. واختلف الفقهاء في مشروعية الرواتب القبلية والبعدية للفرائض وتحديدها، فذهب الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة الشافعي وأحمد وأبوحنيفة إلى مشروعيتها، وأنها مؤقته تستحب المواظبة عليها. وذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا توقيت في ذلك ولا تحديد حماية للفرائض، لكن لا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن من ذلك. وذهب العراقيون من أصحابه إلى موافقة الجمهور، ففي المدونة: قلت: هل كان مالك يوقت قبل الظهر للنافلة ركعات معلومات أو بعد الظهر أو قبل العصر أو بعد المغرب فيما بين المغرب والعشاء أو بعد العشاء؟ قال: لا وإنما يوقت في هذا أهل العراق- انتهى. وفي الشرح الكبير: لهم ندب نفل في كل وقت يحل فيه، وتأكد الندب بعد صلاة المغرب كبعد ظهر وقبلها كقبل عصر بلا حد يتوقف عليه، بحيث لو نقص عنه أو زاد فات أصل الندب، بل يأتي بركعتين وبأربع وست، وإن كان الأكمل ما ورد من أربع قبل الظهر وأربع بعدها وأربع قبل العصر وست بعد المغرب- انتهى. وفيه أيضاً وهي أي صلاة الفجر يعني سنة رغيبة أي رتبتها دون السنة وفوق النافلة تفتقر لنية تخصها وتميزها عن مطلق النافلة، بخلاف غيرها من النوافل المطلقة فيكفي فيه نية الصلاة، وكذا النوافل التابعة للفرائض بخلاف الفرائض والسنن والرغيبة وليس عندنا رغيبة إلا الفجر – انتهى. قال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج1 ص170) : في تقديم السنن على الفرائض وتأخيرها عنها معنى لطيف مناسب، أما في تقديم فلأن الإنسان يشتغل بأمور الدنيا وأسبابها، فتتكيف النفس في ذلك بحالة بعيدة عن حضور القلب في العبادة والخشوع فيها الذي هو روحها، فإذا قدمت السنن على الفريضة تأنست النفس بالعبادة وتكيفت بحالة تقرب من الخشوع، فيدخل في الفرائض على حاله حسنة لم يكن يحصل له لو لم تقدم السنة فإن النفس مجبولة على التكيف بما هي فيه، لا سيما إذا كثر أو طال وورود الحالة المنافية لما قبلها قد تمحو أثر الحالة السابقة أو تضعفه. وأما السنن المتأخرة فلما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض، فإذا وقع الفرض مناسب أن يكون بعده ما يجبر خللاً فيه إن وقع- انتهى. قلت: يشير بقوله ما ورد إلى ما أخرجه أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم من حديث تمتم الداري مرفوعاً: أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال الله لملائكته: أنظروا هل تجدون لعبدي من تطوع فتكملون بها فريضته ثم الزكاة كذلك تؤخذ الأعمال على حسب ذلك- انتهى. وأخرجه الترمذي وأبوداود أيضاً من حديث أبي هريرة
{الفصل الأول}
1166- (1) عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى في يوم وليلة
ـــــــــــــــــــــــــــــ(4/127)
قال النووي: تصح النوافل وتقبل، وإن كانت الفريضة ناقصة لهذا الحديث وخبر لا تقبل نافلة المصلى حتى يؤدي الفريضة ضعيف، ولو صح حمل الراتبة البعدية لتوقفها على صحة الفرض- انتهى. قيل: والسنن في حقه - صلى الله عليه وسلم - لزيادة الدرجات. قال القاري: السنة والنفل والتطوع والمندوب والمستحب والمرغب فيه ألفاظ مترادفة معناها واحد، وهو ما رجح الشارع فعله على تركه وجاز تركه وإن كان بعض المسنون آكد من بعض- انتهى. وقال الشامي في حاشيته على الدر المختار (ج1 ص95) : المشروعات على أربعة أقسام: فرض، وواجب، وسنة، ونفل، فما كان فعله أولى من تركه مع منع الترك إن ثبت بدليل قطعي ففرض، أو بظني فواجب، وبلا منع الترك إن كان مما واظب عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو الخلفاء الراشدون من بعده فسنة، وإلا فمندوب ونفل. والسنة نوعان: سنة الهدى، وتركها يوجب إساءة وكراهية. وسنة الزوائد، وتركها لا يوجب ذلك. سميت بذلك لأنها ليست من مكملات الدين وشعائره بخلاف سنة الهدى، وهي السنن المؤكدة القريبة من الواجب التي يضلل تاركها، لأن تركها استخفاف بالدين. وبخلاف النفل فإنه كما قالوا ما شرع لنا زيادة على الفرض والواجب والسنة بنوعيها، ولذا جعلوه قسما رابعاً وجعلوا منه المندوب والمستحب وهو ما ورد به دليل ندب يخصه، فالنفل ما ورد به دليل ندب عموماً أو خصوصاً ولم يواظب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا كان دون سنة الزوائد. وقد يطلق النفل على ما يشمل السنن الرواتب، ومنه قولهم باب الوتر والنوافل، ومنه تسمية الحج نافلة، لأن النفل الزيادة وهو زائد على الفرض مع أنه من شعائر الدين العامة- انتهى مختصراً.
1166- قوله. (عن أم حبيبة) هي أخت معاوية بن أبي سفيان زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمها رملة بفتح راء وسكون ميم وبلام بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموية، أم المؤمنين مشهورة بكنيتها. وقيل: اسمها هند، والمشهور رملة. قال ابن عبد البر: وهو الصحيح عند جمهور أهل العلم بالنسب والسير والحديث والخبر، وكذلك قال الزبير أسلمت قديماً، وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي أسد خزيمة، وتنصر هو هناك، ومات، فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي هناك سنة ست. وقيل: سنة سبع، توفيت سنة اثنتين أو أربع. وقيل: تسع وأربعين. وقيل: وخمسين. (من صلى في يوم وليلة) أي في كل يوم وليلة فهو من عموم النكرة في الإثبات مثل علمت نفس ونحوه، لأن المقصود المواظبة كما يدل عليه قوله الآتي: يصلي لله كل يوم، وكما يدل عليه حديث عائشة عند الترمذي والنسائي وابن ماجه بلفظ: من ثابر أي واظب ولازم وداوم، وفيه أن الأجر المذكور منوط بالمواظبة على هذه النوافل لا بأن يصلي يوماً دون يوم.(4/128)
ثنتى وعشر ركعة، بني له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)) . رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ثنتى عشرة) بسكون النون. (ركعة) بسكون الكاف. أي تطوعاً غير فريضة كما في الرواية الآتية (بني له) أي بهذه الركعات. (بيت في الجنة) مشتمل على أنواع النعمة. (أربعاً) بدل تفصيل. (قبل الظهر) فيه دلالة على أن السنة الراتبة المؤكدة قبل الظهر أربع ركعات، وإليه ذهبت الحنفية. وقال الشافعي وأحمد: الراتبة قبل الظهر ركعتان، واستدل لهما بحديث ابن عمر الآتي، وسيأتي البسط فيه وبيان القول الراجح. ثم إن قوله أربعا المتبادر منه أنها بسلام واحد، ويحتمل كونها بسلامين والأقرب أن إطلاقها يشمل القسمين، قاله السندي. (وركعتين بعدها) فيه أن السنه بعد الظهر ركعتان، ويدل عليه أيضاً حديث ابن عمر بعد ذلك، وحديث علي قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الظهر أربعا وبعدها ركعتين. أخرجه الترمذي وحسنه، وحديث كريب المتقدم في باب أوقات النهي، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، ويؤيده حديث عائشة عند الترمذي وابن ماجه مرفوعاً بلفظ: من ثابر على ثنتى عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتاً في الجنة، أربع ركعات قبل الظهر وركعتين بعدها الخ. وحديث أبي هريرة عند ابن عدي في الكامل، وفيه محمد بن سليمان الأصبهانى، وهو ضعيف، ولا يعارض ذلك مايأتي من حديث أم حبيبة أول أحاديث الفصل الثاني، لأنه يحمل على أن الأمر فيه للتوسع، ويقال ركعتان من الأربع مؤكدة وركعتان مستحبة، وهذا لأنه لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في فعل الأربع بعد الظهر شيء غير هذا الحديث الواحد القولى، وقد تكلم فيه بعضهم كما ستعرف. وقيل: الأربع أفضل وآكد. (وكعتين بعد المغرب) الخ قال القاري: كل هذه السنن مؤكدة وآخرها آكدها حتى قيل بوجوبها. قال ابن حجر: وهو صريح في رد قول الحسن البصري، وبعض الحنفية بوجوب ركعتى الفجر. وفي رد قول الحسن البصري أيضاً بوجوب الركعتين بعد المغرب- انتهى. قلت: اختلف في ترتيب سنن الرواتب، فقيل: أفضلها سنة الفجر ثم المغرب ثم سنة الظهر والعشاء سواء في الفضيلة وهذا عند الحنابلة. وقالت: الشافعية: أفضلها بعد الوتر ركعتا الفجر ثم سائر الرواتب ثم التراويح، ثم اختلفوا بعد ذلك هل القبلية أفضل أو البعدية؟ ولهم فيه قولان: أحدهما: أن البعدية أفضل، لأن القبلية كالمقدمة. وتلك تابعة والتابع يشرف بشرف متبوعة. والثاني: أنهما سواء واختلفت أقوال الحنفية في ترتيب الرواتب. فقال في البحر عن القنية اختلف في آكد السنن بعد سنة الفجر، فقيل: كلها سواء والأصح أن الأربع قبل الظهر آكد. وقال في الدر المختار: آكدها سنة الفجر اتفاقاً ثم الأربع قبل الظهر في الأصح ثم الكل سواء، وهكذا صححه في العناية والنهاية واستحسنه في فتح القدير. وقد تقدم أن سنة الفجر رغيبة عند المالكية والباقي تطوعات ونوافل. والراجح عندي أن آكد السنن الوتر ثم ركعتا الفجر ثم التي قبل الظهر ثم الكل سواء. والله تعالى أعلم. (رواه الترمذي) وقال:(4/129)
وفي رواية لمسلم أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتى وعشرة ركعة تطوعاً غير فريضة، إلا بنى الله له بيت في الجنة- أو إلا بني له بيت في الجنة))
1167- (2) وعن ابن عمر، قال: ((صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حديث حسن صحيح، فيه اعتراض على محي السنة صاحب المصابيح حيث ذكره في الصحاح وترك الصحيح الآتي، مع أن هذا اللفظ ليس بتمامه في الصحيحين ولا في أحدهما إنما هو لفظ الترمذي، فكان حق البغوي أن يذكر حديث مسلم الآتي في الصحاح، وحديث الترمذي في الحسان؛ ليكون لإجمال مسلم كالبيان والحديث المذكور، رواه النسائي مفصلاً كالترمذي. ولكن قال وركعتين قبل العصر ولم يذكر ركعتين بعد العشاء، وكذلك فسره ابن حبان في صحيحه رواه عن ابن خزيمة بسنده، وكذلك رواه الحاكم في المستدرك (ج1 ص311) وقال: صحيح على شرط مسلم والبيهقي (ج2 ص272، 273) ، وجمع الحاكم في لفظ بين الروايتين فقال فيه: ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء، وكذلك عند الطبراني في معجمه، كذا في نصب الراية (ج2 ص138) . قلت: وكذا وقع إثبات ركعتين قبل العصر وركعتين بعد العشاء في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه وابن عدي في الكامل لكن في سنده محمد بن سليمان الأصبهاني، وهو ضعيف. (وفي رواية لمسلم أنها) أي أم حبيبة (يصلي لله كل يوم) أي وليلة. (تطوعاً) وهو ما ليس بفريضة، والمراد هنا السنة، قاله ابن الملك. (غير فريضة) قال الطيبي: تأكيد للتطوع فإن التطوع التبرع من نفسه بفعل من الطاعة، وهي قسمان راتبة وهى التي داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغير راتبة وهذا من القسم الأول، والرتوب الدوام- انتهى. (إلا بنى الله له بيتا في الجنة) الخ، وهذا الحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وابن ماجه والحاكم (ج1 ص312) وأبوداود الطيالسي والبيهقي (ج2 ص472) .
1167- قوله: (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال السندي: الظاهر أنه المراد به المعية في مجرد المكان والزمان لا المشاركة والإقتداء في الصلاة، إذ المشاركة في النوافل الرواتب ما كانت معروفة، ويحتمل على بعد أنه اتفق المشاركة أيضاً. وقال القاري: أراد به معية المشاركة لا معية الجماعة، ونظيره قوله تعالى حاكياً: {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} [27: 44] وقال الحافظ: المراد بقوله مع التبعية أي أنهما اشتركا في كون كل منهما صلى صلاة لا التجميع، فلا حجة فيه لمن قال يجمع في رواتب الفرائض، وسيأتي من رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات فذكرها- انتهى. وقال العيني: المراد من المعية هذه مجرد المتابعة في العدد، وهو أن ابن عمر صلى ركعتين وحده كما صلى - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، لا أنه اقتدى به عليه الصلاة والسلام فيهما. (ركعتين قبل الظهر) هذا متمسك الشافعي في أن السنة قبل الظهر ركعتان، وهو قول الأكثرين من أصحابه، وعد جمع من الشافعية الأربع قبل الظهر من الرواتب، كما هو مذهب الحنفية. وقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة: كان(4/130)
لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة. واختلف في وجه الجمع بين الحديثين، فقيل: يحتمل أن ابن عمر قد نسي ركعتين من الأربع. ورد بأن هذا الاحتمال بعيد وقيل: هو محمول على أنه كان إذا صلى في بيته صلى أربعاً وإذا صلى في المسجد اقتصر على ركعتين. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص80) : وهذا أظهر، قلت: ويقوي ذلك ما سيأتي في حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس، وقيل: يحمل على حالين، فكان تارة يصلي سنتين، وتارة يصلي أربعاً، فحكى كل من ابن عمر وعائشة ما شاهده. وقيل: يحتمل أن يكون يصلي إذا كان في بيته ركعتين ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر مافي المسجد دون ما بيته وأطلعت عائشة على الأمرين. وقيل: كان يصلي في بيته أربعا فرأته عائشة، وكان يصلي ركعتين إذا آتي المسجد تحيته فظن ابن عمر أنها سنة الظهر ولم يعلم بالأربع التي صلاها في البيت، وهذا أيضاً بعيد مثل الأول. وقيل: يمكن أن يكون مطلعاً على الأربع، لكنه ظنها صلاة فيء الزوال لا سنة الظهر. قال ابن القيم في زاد المعاد (ج1 ص80، 81) : وقد يقال: إن هذه الأربع لم تكن سنة الظهر، بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، كما (سيأتي) في حديث عبد الله بن السائب. (وفي حديث أبي أيوب) قال فهذه هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن. وأما سنة الظهر فالركعتان اللتان قال عبد الله بن عمر، قال فتكون هذه الأربع التي قبل الظهر وردا مستقلاً سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. قال القسطلاني لحديث ثوبان عند البزار: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستحب أن يصلي بعد نصف النهار، وقال: إنها ساعة تفتح فيه أبواب السماء، وينظر الله إلى خلقه بالرحمة. قلت: وأولى الوجوه عندي هو الوجه الثالث، أعني أن يحمل ذلك لى اختلاف الأحوال، ويقال كان يصلي تارة أربعا وتارة ركعتين، فحكى كل من ابن عمر وعائشة ما رأى، ورجحه الحافظ أيضاً، لكن المختار فعل الأكثر الأكمل. قال ابن جرير الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في قليلها. قلت: هذا هو الظاهر لكثرة الأحاديث في ذلك: منها حديث أم حبيبة السابق. ومنها حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة، وسيأتي. ومنها حديث عائشة أيضاً عند الترمذي وابن ماجه، وقد ذكرنا لفظه. ومنها حديث عائشة أيضاً في السنن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يصل أربعا قبل الظهر صلاهن بعدها. ومنها حديث علي عند الترمذي، وحسنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الظهر أربعاً وبعد ها ركعتين. قال الترمذي بعد روايته: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم، يختارون أن يصلي الرجل قبل الظهر أربع ركعات، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق. قال القسطلاني: قيل في وجه عند الشافعي: إن الأربع قبل الظهر راتبه عملاً بحديث عائشة. قلت: ويؤيده تأكد استحباب الأربع حديث أم حبيبة الآتي، وحديث(4/131)
وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البراء بن عازب عند الطبراني في الأوسط، وسعيد بن منصور في سننه مرفوعاً بلفظ: من صلى قبل الظهر أربع ركعات كان كمن تهجد بهن من ليلته الحديث. (وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته) الظاهر أن قوله: في بيته قيد للأخيرة ويؤيد ذلك قوله. (وركعتين بعد العشاء في بيته) وهذا لفظ البخاري في رواية. وفي لفظ له: فأما المغرب والعشاء ففي بيته. قال الحافظ: استدل به على أن فعل النوافل الليلة في البيوت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار، وحكي ذلك عن مالك والثوري. وفي الاستدلال به لذلك نظر. والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يتشاغل بالناس في النهار غالباً، وبالليل يكون في بيته غالباً. وأغرب ابن أبي ليلى، فقال لا تجزئ سنة المغرب في المسجد، حكاه عبد الله بن أحمد عنه عقب روايته لحديث محمود بن لبيد رفعه: أن الركعتين بعد المغرب من صلاة البيوت، وقال: إنه حكى ذلك لأبيه عن أبي ليلى، فاستحسنه- انتهى. قلت: الظاهر أن فعل الركعتين بعد المغرب في البيت أفضل وأن ذلك وقع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عمد، يدل عليه حديث محمود بن لبيد عند أحمد بلفظ: اركعوا هاتين الركعتين في البيوت، وحديث كعب بن عجزة الآتى، واختلفوا في أن تطوع في المسجد أفضل أو في البيت. قال ابن عبد البر: قد اختلف الآثار وعلماء السلف في صلاة النافلة في المسجد، فكرهها قوم لهذا الحديث. والذي عليه العلماء أنه لا بأس بالتطوع في المسجد لمن شاء إلا إنهم مجعمون على أن صلاة النافلة في البيوت أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في مسجدى إلا المكتوبة- انتهى. وفرق المالكية بين الرواتب والنفل المطلق، وبين الغرباء وأهل المدينة ففي الشرح الكبير لهم وندب إيقاع نفل بمسجد المدينة بمصلاه - صلى الله عليه وسلم -. قال الدسوقي: إن قلت هذا يخالف ما تقرر أن صلاة النافلة في البيوت أفضل من فعلها في المسجد قلت: يحمل كلام المصنف على الرواتب فإن فعلها في المساجد أولى كالفرائض بخلاف النفل المطلق، فإن فعلها في البيوت أفضل ما لم يكن في البيت ما يشغل عنها، أو يحمل كلامه على من صلاته بمسجده عليه السلام أفضل من صلاته في البيت كالغرباء، فإن صلاتهم النافلة بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من صلاتهم لها في البيوت، سواء كانت النافلة من الرواتب أو كانت نفلاً مطلقاً بخلاف أهل المدينة، فإن صلاتهم النفل المطلق في بيوتهم أفضل من فعله في المسجد- انتهى. وأما عند الحنفية والحنابلة فالأفضل أداء التطوع في البيت مطلقاً، ولا كراهة في المسجد. أما كون البيوت أفضل في حق التطوع مطلقاً فللأحاديث التي وردت عن جماعة من الصحابة في الترغيب في صلاة النافلة في البيت. ذكرها المنذري في الترغيب (ج1 ص133) ؛ ولأن هديه - صلى الله عليه وسلم - كان فعل عامة السنن والتطوع الذي لا سبب له في البيت وأما إنه لو فعلها في المسجد أجزأت من غير كراهة فلما يأتي من حديث ابن عباس في الفصل الثالث قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد. ولما روى مسلم من حديث أبي هريرة: إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً، زاد في(4/132)
قال: وحدثني حفصة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي ركعتين خفيفتين، حين يطلع الفجر)) متفق عليه.
1168- (3) وعنه قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رواية فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت، ولما يأتي من حديث أنس في الفصل الثالث قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السوارى- الحديث، ولما روى الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر مرفوعاً: من صلى العشاء الآخرة في جماعة، وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر، ولأن تقييد ابن عمر سنة المغرب والعشاء والفجر بكونها في البيت، يدل على أن ما عداها كان يفعله في المسجد أي في بعض الأحيان، ولما روي عن حذيفة قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصليت معه المغرب، فصلى إلى العشاء، رواه النسائي، قال المنذري: بإسناد جيد، وغير ذلك من الأحاديث، هذا. وقال ابن الملك: قيل: في زماننا إظهار السنة الراتبة أولى ليعلمها الناس. قال القاري: أي ليعلموا عملها أو لئلا ينسبوه إلى البدعة. ولا شك أن متابعة السنة أولى مع عدم الالتفات إلى غير المولى- انتهى. قلت: لا شك أن متابعة السنة أولى، لكن من المعلوم أنه قد يترك بعض المختارات من أجل خوف أن يقع الناس في أشد من ترك ذلك المختار. فالأولى عندي اليوم أداء الرواتب في المسجد لا سيما للخواص من العلماء والمشائخ، فإن الناس تبع لهم فيما يفعلون ويذرون فيتركون أولا فعلها في المسجد في اتباعهم، ثم يتركونها رأساً لوقوع التواني في الأمور الدينية والغفلة عنها سيما التطوعات والنوافل، ولأنه لا يؤمن أن يتهمهم بعض الناس بترك الرواتب وإهمالهما، وقد شاهدنا ذلك في أمر التراويح حيث أنه لما سمع بعض الجهال أن صلاة الليل في البيت في آخر الليل أفضل من أوله في المسجد، ورأوا بعض العلماء أنهم لا يصلونها في أول الليل ترك هؤلاء أيضاً للتراويح في المسجد بالجماعة في أول الليل قائلين إنا نقوم في آخر الليل لكنهم يتركونها رأساً فلا يصلونها لا في أول الليل ولا في آخره. (قال) أي ابن عمر. (وحدثني حفصة) أي أخته بنت عمر زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين خفيفتين حين يطلع الفجر) وفي البخاري: بعد ما يطلع الفجر، وزاد وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها وفي لفظ له: وركعتين قبل صلاة الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، حدثني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر صلى ركعتين قال الحافظ: وهذا يدل على أنه إنما أخذ عن حفصة وقت إيقاع الركعتين قبل الصبح لا أصل مشروعيتها انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري: وأخرجه أيضاً مالك والترمذي والبيهقي (ج2 ص471- 477) وغيرهم.
1168 – قوله: (كان لا يصلي) أي شيئاً. (بعد الجمعة حتى ينصرف) أي حتى يرجع إلى بيته. (فيصلي)(4/133)
ركعتين في بيته)) . متفق عليه.
1169- (4) وعن عبد الله بن شقيق، قال: سئلت عائشة، عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن تطوعه، فقالت: كان يصلي في بيتى قبل الظهر أربعاً، ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين. وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين. ثم يصلي بالناس العشاء. ويدخل في بيتي فيصلي ركعتين. وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالرفع. قال الطيبي: عطف من حيث الجملة لا من حيث التشريك على ينصرف، أي لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فإذا انصرف يصلي ركعتين. ولا يستقيم أن يكون منصوبا عطفاً عليه لما يلزم منه أن يصلي بعد الركعتين الصلاة. وهذا معنى قول ابن حجر: إذ يصير التقدير لا يصلي حتى يصلي، وليس مراداً لفساده. (ركعتين) يريد بهما سنة لجمعة. وفيه دليل على أن السنة بعد الجمعة ركعتان. وبه استدل من قال به. وسيأتي الكلام على ذلك مفصلاً في شرح حديث أبي هريرة الآتي في آخر الفصل. (في بيته) عملاً بالأفضل. وقال القسطلاني: لأنهما لو صلاهما في المسجد ربما يتوهم أنهما اللتان حذفتا، وصلاة النفل في الخلوة أفضل. وقال الحافظ: الحكمة في ذلك أنه كان يبادر إلى الجمعة ثم ينصرف إلى القائلة بخلاف الظهر، فإنه كان يبرد بها، وكان يقيل قبلها. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص477) .
1169- قوله. (وعن عبد الله بن شقيق) من ثقات التابعين. (عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ليلاً ونهاراً ما عدا الفرائض، ولذا قال: (عن تطوعه) قال الطيبي: بدل عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كذا في صحيح مسلم. وهذه العبارة، يعني بلفظ عن أولى مما في المصابيح، وهو قوله من التطوع- انتهى. قلت: وقع عند أبي داود "من التطوع" كما في المصابيح. قال القاري: فتكون "من" بيانية، والأولوية باعتبار الأصحية. (كان يصلي في بيتى قبل الظهر أربعاً) فيه دليل على أن المؤكدة قبلها أربع، وهو وجه عند الشافعي. (ثم يخرج) أي إلى المسجد. (فيصلي بالناس) أي الفريضة. (ثم يدخل) أي بيتي. (فيصلي ركعتين) ولعل وجه ترك العصر لأنها بصدد بيان السنن المؤكدة. (وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل) الخ الحديث دليل على استحباب أداء السنة في البيت. (وكان) أي أحياناً. (يصلي من الليل) أي بعض أوقاته. (تسع ركعات) قال ابن حجر: أي تارة، وإحدى عشرة تارة، وأنقص تارة- انتهى. وجاء أنه كان يصلي ثلاث عشر ركعة. كما سيأتي في باب صلاة الليل. (فيهن)(4/134)
الوتر. وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم. وكان إذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد. وكان إذا طلع الفجر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي في جملتهن. (الوتر) وجاء بيان ذلك فيما روى مسلم وغيره عن سعيد بن هشام أنه قال لعائشة: أنبئينى عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد. فتلك إحدى عشر ركعة يا بني. فلما أسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعة الأول. فتلك تسع يا بني الخ. (وكان يصلي ليلاً طويلاً) أي زماناً طويلاً من الليل. (قائماً وليلاً طويلاً قاعداً) قال في لمفتاتيح: يعني يصلي صلاة كثيرة من القيام والقعود أو يصلى ركعات مطولة في بعض الليالي من القيام، وفي بعضها من القعود. (وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم) أي لا يقعد قبل الركوع، قاله ابن حجر. وقال الطيبي: أي ينتفل من القيام إليهما. وكذا التقدير في الذي بعده، أي ينتفل إليهما من القعود. (وكان إذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد) أي لا يقوم للركوع، كذا في المفاتيح. وفيه دليل على أن المشروع لمن قرأ قائماً أن يركع ويسجد من قيام، ومن قرأ قاعداً أن يركع ويسجد من قعود. وفي رواية لمسلم: فإذا افتتح الصلاة قائماً ركع قائماً، وإذا افتتح الصلاة قاعداً ركع قاعداً. وروى الشيخان وغيرهما عن عائشة أنها لم تر النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الليل قاعداً قط حتى أسن، وكان يقرأ قاعداً، حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحواً من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع ثم سجد ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك. وهذا يدل على جواز الركوع من قيام لمن قرأ قاعداً. فيحمل على أنه كان يفعل أحياناً هذا وأحياناً ذاك. وبهذا يحصل التوفيق بين الحديثين. قال العراقي: يحمل على أنه كان يفعل مرة كذا، فكان مرة يفتتح قاعداً ويتم قراءته قاعداً ويركع قاعداً، وكان مرة يفتتح قاعداً ويقرأ بعض قراءته قاعداً وبعضها قائماً ويركع قائماً، فإن لفظ "كان" لا يقتضي المداومة – انتهى. واعلم أن ههنا أربع صور: الأولى أن ينتفل من القيام إلى الركوع والسجود، والثانية أن ينتقل من القعود إليهما، وهاتان مذكورتان في حديث عبد الله بن شقيق عن عائشة. والثالثة أن يتنفل من القعود إلى القيام ويقرأ بعض القراءة قائماً، ثم يتنفل من القيام إلى الركوع والسجود. وهذه مذكورة في حديث عائشة الذي ذكرنا، والرابعة عكس الثالثة، وهي أن يتنفل من القيام إلى القعود فيقرأ بعض القراءة قاعداً، ثم ينتفل من القعود إلى الركوع والسجود، ولم ترو هذه الصورة وعلى هذا فكان - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الليل على ثلاث أحوال: قائماً في كلها، وقاعداً في كلها، وقاعداً في بعضها ثم قائماً. وأما أن يكون قائماً في بعضها ثم(4/135)
صلى ركعتين)) . رواه مسلم، وزاد أبوداود، ((ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر)) .
1170- (5) وعن عائشة، رضي الله عنها. قالت: ((لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد
تعاهدا منه على ركعتى الفجر)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قاعداً، وهي الصورة الرابعة فذهب الجمهور إلى جوازها. قال العينى: جواز الركعة الواحدة بعضها من قيام وبعضها من قعود هو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وعامة العلماء، وسواء في ذلك قام ثم قعد أو قعد ثم قام، ومنعه بعض السلف، وهو غلط. ولو نوى القيام ثم أراد أن يجلس جاز عند الجمهور، وجوزه من المالكية ابن قاسم، ومنعه أشهب- انتهى. وقال الشوكاني في النيل: حديث عائشة الثاني يدل على أنه يجوز فعل بعض الصلاة من قعود، وبعضها من قيام، وبعض الركعة من قعود، وبعضها من قيام. قال العراقي: وهو كذلك، سواء قام ثم قعد أو قعد ثم قام، هو قول جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وحكاه النووي عن عامة العلماء. وحكى عن بعض السلف منعه، قال هو غلط. وحكى القاضي عياض عن أبي يوسف ومحمد في آخرين كراهة القعود بعد القيام. ومنع أشهب من المالكية الجلوس بعد أن ينوي القيام. وجوزه ابن القاسم والجمهور- انتهى. (صلى ركعتين) أي خفيفتين، وقد تقدم بيان ما يقرأ فيهما في باب القراءة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص471- 489) مختصراً ومطولاً. (وزاد أبوداود) أشار بهذا إلى الاعتراض على الشيخ محي السنة حيث أدرج هذه الجملة في حديث عائشة في الصحاح، مع أنها لم تكن في واحد من الصحيحين. (ثم يخرج) أي إلى المسجد. (فيصلي بالناس) إماماً لهم (صلاة الفجر) أي فرض الصبح.
1170- قوله. (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء) أي على تحفظ شيء. (من النوافل) أي الزوائد على الفرائض من السنن. (أشد) قال ابن حجر: خبر لم يكن، أي أكثر. (تعاهداً) أي تفقداً وتحفظاً. وفي رواية أبي داود: أشد معاهدة، أي محافظة ومدوامة. وفي رواية لمسلم: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. زاد ابن خزيمة في هذه الرواية: ولا إلى غنيمة. (منه) أي من تعاهده عليه السلام. (على ركعتي الفجر) قال الطيبي: قولها "على" متعلقة بقولها تعاهداً. ويجوز تقديم معمول التمييز. والظاهر أن خبر لم يكن "على شيء" أي لم يكن يتعاهد على شيء من النوافل، وأشد تعاهداً حال أو مفعول مطلق على تأويل أن يكون التعاهد متعاهداً كقوله: {أو أشد خشية} - انتهى. وفي الحديث دليل على عظم فضل ركعتى الفجر، وأن المحافظة عليهما أشد من المحافظة على غيرهما، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتركهما حضراً ولا سفراً، وعلى أنهما(4/136)
متفق عليه.
1171- (6) وعنها، قالت. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها)) . رواه
مسلم.
1172- (7) وعن عبد الله بن مغفل، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين، صلوا
قبل صلاة المغرب ركعتين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سنة ليستا واجبتين، وبه قول جمهور العلماء. وحكى ابن أبي شيبة عن الحسن البصري أنه ذهب إلى وجوبهما. وذكر المرغيناني عن أبي حنيفة: أنها واجبة. وفي جامع المحبوبي روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لو صلى سنة الفجر قاعداً بلا عذر لا يجوز. والصواب عدم الوجوب لقولها على شيء من النوافل؛ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - ساقها مع سائر السنن في حديث المثابرة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود وابن خزيمة والبيهقي (ج2 ص470) .
1171- قوله. (ركعتا الفجر) أي سنة الفجر هي المشهورة بهذا الاسم. (خير من الدنيا وما فيها) أي أثاثها ومتاعها، يعني أجرهما خير من أن يعطي تمام الدنيا في سبيل لله تعالى، أو هو على اعتقادهم أن في الدنيا خيراً، وإلا فذرة من الآخرة لا يساويها الدنيا وما فيها، قال الطيبي: إن حمل الدنيا على أعراضها وزهرتها فالخير إما مجرى على زعم من يرى فيها خيراً أو يكون من باب {أي الفريقين خير مقاماً} ، وإن حمل على الإنفاق في سبيل لله فتكون هاتان الركعتان أكثر ثواباً منها- انتهى. وقال في حجة الله البالغة: إنما كانتا خيراً منها، لأن الدنيا فانية، ونعيمها لا يخلو عن كدر النصب والتعب، وثوابهما باق غير كدر- انتهى. وقد استدل به على أن ركعتى الفجر أفضل من الوتر، وهو أحد قولي الشافعي، ووجه الدلالة أنه جعل ركعتى الفجر خيراً من الدنيا وما فيها، وجعل الوتر خيرا من حمر النعم، وحمر النعم جزء ما في الدنيا. وأصح القولين عن الشافعي أن الوتر أفضل. وقد استدل لذلك بما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: أفضل الصلاة بعد الفريضة الصلاة في جوف الليل، وبالاختلاف في وجوبه كما سيأتي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي والبيهقي (ج2 ص470) . وفي رواية لمسلم: أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: لهما أحب إلى من الدنيا وما فيها جميعاً.
1172- قوله (صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين، صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين) كذا وقعت هذه الجملة مكررة في بعض النسخ المطبوعة بالهند، وكذا وقعت في المصابيح. وهو موافق لما في سنن أبي داود قال الحافظ: وأعادها الاسماعيلي ثلاث مرات- انتهى. ووقعت في بعض نسخ المشكاة الأخرى مرة فقط، كما في نسخة صاحب أشعة اللمعات شرح المشكاة بالفارسية. وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وفي نسخة القاري التي(4/137)
قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة)) . متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صحها على عدة نسخ معتمدة مقروءة مسموعة صحيحة بينها في أول شرحه، وأخذ من مجموعها أصلاً اعتمده في الشرح. واختلف النسخ أيضاً في ذكر قوله ركعتين فيوجد هذا اللفظ في طبعات الهند، وفي النسخة التي على هامش المرقاة، وكذا هو موجود في المصابيح، وهذا هو موافق لرواية أبي نعيم في المستخرج، ولرواية أبي داود أيضاً. ويظهر من كلام صاحب الأشعة والقاري في شرحيهما: أن هذا اللفظ لم يكن في النسخ الموجودة عندهما، حيث لم يذكرا ولم يأخذا ذلك في أصلي شرحهما. ففي أشعة اللمعات (ج1 ص535) . (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل صلاة المغرب) نماز بكزاريد بيش از نماز مغرب يعني دو ركعت اين راسه بار مكرر فرمود. وفي المرقاة (ج2 ص112) . (قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل صلاة المغرب) أي ركعتين، كما في رواية صحيحة، وكرر ذلك ثلاثاً- انتهى. أي كما يدل عليه قول في الثالثة. فعلى ما في نسختى القاري وصاحب الأشعة لا اعتراض على صاحب المشكاة في عزو الحديث للبخاري. وأما على ما في طبعات الهند فيرد عليه أنه كيف نسب هذه الرواية إلى البخاري، مع أنه لم تقع هذه الجملة عنده مكررة، ولا وقع في روايته لفظ ركعتين. ويرد عليه أيضاً أنه جعل الحديث متفقاً عليه، مع أنه لم يخرجه مسلم أصلاً، نعم أخرج مسلم من حديث حديث عبد الله بن مغفل بلفظ: بين كل أذانين صلاة، قالها ثلاثاً، قال في الثالثة لمن شاء. وأخرجه البخاري أيضاً، وقد تقدم في باب فضل الآذان. والظاهر أن المصنف تبع في ذلك الجزري حيث صرح في جامع الأصول (ج7 ص24) بأنه أخرجه البخاري ومسلم. وقد أخطأ أيضاً صاحب المصابيح في ذكر هذه الرواية في الصحاح. والحديث فيه دليل على استحباب الركعتين بين الغروب وصلاة المغرب. وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين، ومن المتأخرين أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث. وهو الحق. والقول بأنه منسوخ مما لا التفات إليه لأنه لا دليل عليه. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (في) المرة. (الثالثة) أي عقبها. (لمن شاء) يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر في المرة الثالثة لفظ لمن شاء. قال الطيبي: أي ذلك الأمر لمن شاء- انتهى. وفيه إشارة إلى أن الأمر حقيقة في الوجوب، إلا إذا قامت قرينة تدل على التخيير بين الفعل والترك. فقوله: لمن شاء إشارة إليه، فكان هذا صارفاً عن الحمل على الوجوب. قال الطيبي: فيه دليل على أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - محمول على الوجوب حتى يقوم دليل غيره. ويوضحه قول ابن حجر: سنة أي عزيمة لازمة متمسكين بقوله: صلوا، فإنه أمر والأمر للوجوب، فتعليقه بالمشيئة يدفع حمله على حقيقته، فيكون مندوباً- انتهى. (كراهية) منصوب على التعليل أي قال ذلك لأجل كراهية. (أن يتخذها الناس سنة) أي طريقة لازمة لا يجوز تركها، أو سنة راتبة يكره تركها. قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابها، لأنه لا يمكن أن يأمر بما لا يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابها. ومعنى قوله: سنة أي شريعة وطريقة لازمة. وكان المراد انحطاط مرتبتها عن رواتب الفرائض، ومن ثم لم يذكرها أكثر الشافعية في الرواتب، وقد عدها بعضهم.(4/138)
وتعقب بأنه لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - واظب عليه. قال ابن القيم: الصواب في هاتين الركعتين أنهما مستحبتان مندوب إليهما، وليستا راتبة كسائر السنن الرواتب. قال القسطلاني: والذي صححه النووي أنها سنة للأمر بها في هذا الحديث. وقال مالك بعدم السنية. وقال النووي في المجموع: واستحبابهما قبل الشروع في الإقامة، فإن شرع فيها كره الشروع في غير المكتوبة لحديث: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. وعن النخعي أنها بدعة، لأنه يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها. وأجيب بأنه خيال فاسد منابذ للسنة، فلا يلتفت إليه، ومع هذا فزمنهما يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. قال ابن الهمام: وما ذكر من استلزام تأخير المغرب فقد قدمنا عن القنية استثناء القليل، والركعتان لا تزيد على القليل إذا تجوز فيهما- انتهى. قال الحافظ: ومجموع الأدلة يرشد إلى تخفيفهما، كما في ركعتى الفجر- انتهى. وذهب الحنفية إلى عدم استحبابهما، بل قال بعضهم بكراهتها، واستدلوا لنفي الاستحباب بأحاديث منها ما رواه أبوداود ومن طريقة البيهقي عن طاووس قال: سئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب، فقال: ما رأيت أحدا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما، ورخص في الركعتين بعد العصر- انتهى. سكت عنه أبوداود ثم المنذري. قال النووي في الخلاصة: إسناده حسن. وأجيب عنه بأن في سنده شعيباً يباع الطيالسة، وهو وإن كان ممن لا بأس به لكن الظاهر أن الحديث وهم منه، وقد تفرد بروايته عن طاووس، وكيف يصح هذا الحديث، وقد روي في الصحيحين وغيرهما عن أنس وعقبة بن عامر أن الصحابة كانوا يصلون بين الأذان المغرب وإقامته في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبحضرته، كما سيأتي، وروي عن عبد الله بن مغفل الأمر بذلك، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قد صلاهما، وروى عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يصلونهما بعد وفاته، منهم أنس وعبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب وأبوأيوب الأنصاري وأبوالدرداء وجابر بن عبد الله وأبوموسى وأبويرزة وغيرهم، وكذلك روي عن جماعة من التابعين أنهم كانوا يصلون قبل فرض المغرب بين الأذان والإقامة. وقال النووي في الخلاصة: وأجاب العلماء عنه بأنه نفي، فتقدم رواية المثبت، ولكونها أصح وأكثر رواة ولما معهم من علم ما لم يعلمه ابن عمر –انتهى. ذكر هذا الجواب الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص140) وأقره، ولم يتكلم عليه بشيء، وتكلم عليه ابن الهمام في فتح القدير بما لا يعبأ به، فإن حاصل كلامه معارضة حديث ابن عمر هذا بأحاديث الصحيحين المثبتة، ثم ترجيح حديث ابن عمر عليها يعمل أكابر الصحابة على وفقه كأبي بكر وعمر، ثم إنكار ترجح حديث أنس وغيره على حديث ابن عمر لكون الأول مثبتاً والثاني نافياً بناء على أن النفي ههنا كالإثبات. فإنه لو كان الحال على ما في رواية أنس لم يخف على ابن عمر. قلت: قد حقق وقرر في محله أن حديث غير الصحيحين لا يساوي ولا يعارض حديثهما، وأن حديثهما يقدم على حديث غيرهما عند المخالفة وهذا(4/139)
مما تمالأ عليه كلمة المحدثين خلفاً وسلفاً والفقهاء المتقدمين والمتأخرين قاطبة إلا ابن الهمام ومن تبعه من تلامذته وغيرهم. فالشيخ ابن الهمام هو أول من خالف هذا الأصل، وخرق هذا الإجماع. وغرضه من ذلك كما قال الشيخ عبد الحق الدهلوى في مقدمة شرح سفر السعادة بعد ما مشى ممشاه ورضي بما ارتضاه، تأييد مصادمة الفقهاء الحنفية بالمحدثين ومعارضتهم إياهم، قال الشيخ الدهلوى مشيراً إلى الكلام ابن الهمام في مخالفة هذا الأصل. وهذا نافع مفيد في غرضنا من شرح هذا الكتاب يعني السفر، وهو تأييد المذهب الحنفي وهذا صريح في إقرارهم بأن تأييد مذهب الحنفية إنما يتأتى بصيرورة الصحيحين كغيرهما من الصحاح بإبطال الخصوصية منهما صحة وثقة، وأن محاولة هذه المخالفة إنما هو لكون هذا المذهب في الأغلب على خلاف ما في الصحيحين. هذا، وقد أشبع الكلام في الرد على ابن الهمام الشيخ محمد معين الحنفي أحد تلامذه الشاه ولي الله الدهلوى في دراساته، وخص الدراسة (ص277- 322) الحادية عشر لذلك، فعليك أن تطالعها، وإذا كان الأمر كذلك فلا يعارض حديث ابن عمر هذا ما روى الشيخان من الأحاديث المثبتة للصلاة قبل فرض المغرب بين الأذان والإقامة. وأما ترجيحه لحديث ابن عمر على توهم أن عمل أكابر الصحابة على وفقه ففيه أنه لم يثبت عن أحد منهم العمل على خلاف ما في الأحاديث المثبتة، بل يرد ما ادعاه ويبطله حديث أنس عند البخاري في باب الصلاة إلى الأسطوانة. قال: لقد رأيت كبار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السوارى عند المغرب حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ: وعند النسائي قام كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما قوله: لو كان الحال على ما في رواية أنس لم يخف على ابن عمر. ففيه أنه خفي ذلك على ابن عمر، لأنهم لم يكونوا يواظبون عليه كالرواتب. وهذا على تقدير أن يكون حديث ابن عمر صحيحاً ومعارضاً لحديث أنس وغيره من الصحابة. وأما على ما هو مقرر عند المحدثين والفقهاء من عدم مساواة حديث غير الصحيحين لحديثهما، وترجيح حديثهما على حديث غيرهما عند المخالفة فلا حاجة إلى هذا الجواب. ومنها: ما رواه الدارقطني ثم البيهقي في سننهما عن حيان بن عبيد الله العدوى ثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عند كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب- انتهى. ورواه البزار في مسنده وقال: لا نعلم. رواه عن ابن بريدة الأحيان ابن عبيد الله، وهو رجل مشهور من أهل البصرة لا بأس به- انتهى. قلت: حيان بن عبيد الله وإن كان صدوقاً لكنه اختلط. قال البخاري: ذكر الصلت منه الاختلاط. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص331) : قيل اختلط، وذكره ابن عدي في الضعفاء فالحديث ضعيف. وأيضاً كان بريدة وابنه عبد الله يصليان قبل صلاة المغرب، فلو كان الاستثناء الذي زاده حبان محفوظاً لم يكن مخالفان خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ في الفتح: رواية حيان شاذة لأنه وإن كان صدوقاً عند البزار وغيره، لكنه خالف الحافظ من أصحاب(4/140)
عبد الله بن بريدة في إسناد الحديث ومتنه وقد وقع في بعض طرقه عند الإسماعيلي. وكان بريدة يصلي ركعتين قبل المغرب، فلو كان الاستثناء محفوظاً لم يخالف بريدة رواية- انتهى. وقال البيهقي في المعرفة: أخطأ فيه حبان بن عبيد الله في الإسناد والمتن جميعاً. أما السند فأخرجاه في الصحيحين عن سعيد الجريري وكهمس عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بين كل أذانين صلاة، قال في الثالثة: لمن شاء. وأما المتن فكيف يكون صحيحا. وفي رواية لمبارك عن كهمس في هذا الحديث قال وكان ابن بريدة يصلي قبل المغرب ركعتين. وفي رواية حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا قبل المغرب ركعتين، وقال في الثالثة: لمن شاء خشبة أن يتخذها الناس سنة. رواه البخاري في صحيحه- انتهى. ومنها: ما رواه الطبراني في كتاب مسند الشاميين عن جابر قال: سألنا نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيتن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين قبل الغروب؟ فقلن: لا غير أن أم سلمة قالت: صلاهما عندي مرة فسألته ما هذه الصلاة، فقال: نسيت الركعتين قبل العصر الآن- انتهى. قلت: في سنده يحيى بن أبي الحجاج. قال ابن معين والنسائي: ليس بشيء. وقال أبوحاتم: ليس بالقوى. وذكره ابن في الثقات. وقال ابن عدي: لا أرى بحديثه بأسا. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث. وفي سنده أيضاً عيسى بن سنان القسملى، ضعفه أحمد والنسائي وأبوزرعة وابن معين، وذكره الساجي والعقيلي في الضعفاء. وقال أبوحاتم: ليس بقوي في الحديث، وقال العجلي: لا بأس به. وقال ابن خراش: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: لين الحديث. وعلى تقدير صحة هذا الحديث فجوابه هو ما ذكره الزيلعي نقلاً عن النووي من أنه نفي متقدم رواية المثبت الخ. منها: ما رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبوحنيفة ثنا حماد بن أبي سليمان أنه سأل إبراهيم النخعي عن الصلاة قبل المغرب قال: فنهاه عنها، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر لم يكونوا يصلونها- انتهى. قلت: هذا الحديث معضل فلا يصلح للاستدلال. قال الحافظ في الفتح: هو منقطع ولو ثبت لم يكن فيه دليل على النسخ ولا الكراهة، وسيأتي أن عقبة بن عامر سئل عن الركعتين قبل المغرب فقال: كنا نفعلهما على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، قيل له فما يمنعك الآن؟ قال الشغل، فلعل غيره أيضاً منعه الشغل. وقد روى محمد بن نصر وغيره من طرق قوية عن عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وأبي الدرداء وأبي موسى وغيرهم أنهم كانوا يواظبون عليهما. وأما قول ابن العربي اختلف الصحابة ولم يفعلهما أحد بعدهم، فمردود بقول محمد بن نصر. وقد روينا عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصلون الركعتين قبل المغرب. ثم أخرج ذلك بأسانيد متعددة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن بريدة ويحيى بن عقيل والأعرج وعامر بن عبد الله بن الزبير وعراك بن(4/141)
1173- (8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((من كان منكم مصلياً بعد الجمعة، فليصل أربعاً)) . رواه مسلم. وفي أخرى له، قال: ((إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مالك. ومن طريق الحسن البصري أنه سئل عنهما فقال: حسنتين والله جميلتين لمن أراد بهما- انتهى. (متفق عليه) فيه نظر كما أوضحنا ذلك، والحديث أخرجه أبوداود وابن حبان والبيهقي (ج2 ص474) وزاد ابن حبان فيه: وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل المغرب ركعتين. قال بعض الحنفية هذا الحديث أخرجه البخاري في الأذان أيضاً بلفظ عام: بين كل أذانين صلاة وأخرج ههنا بلفظ المغرب خاصة، وحصل إلى الجزم بأنها رواية المعنى لا رواية بالمعنى، فإن الراوي استنبط المسألة من الحديث بين كل أذانين صلاة، ثم أجرى عمومه في المغرب وترك الصلوات الأربع، ثم عبر عنها بقوله صلوا قبل المغرب، وما حاشى به، لأنه قد تعلمها من الحديث العام وفيه تلك. قلت: هذا القول بعيد عن الحق والصواب بل هو باطل جداً. لأنه تحكم محض وادعاء مجرد وتخرص بحت، ولا يكفي في مثل هذه الأمور فتوى القلب، لا سيما من مثل هذا المقلد، بل لا بد لذلك من دليل قوي أو قرينة ظاهرة، ولا شيء ههنا، ولم يذهب إلى ذلك قبله ذهن ذاهن، لأنه تقول على الراوي من غير برهان ولم يتفكر هذا البعض في هذا الحديث سنين حتى جزم بما جزم إلا لأنه كان مخالفاً لمذهبه.
1173- قوله. (من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعا رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والبيهقي (ج3 ص240) . (وفي أخرى له) أي لمسلم. (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) وأخرجها أيضاً أحمد (ج2 ص249- 442- 499) وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي. وفي رواية لمسلم: إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعاً. والرواية الثانية تدل على الأمر بأربع ركعات. وظاهره الوجوب، إلا أنه أخرجه عنه الرواية الأولى، فإنها تدل على أنها ليست بواجبة. قال النووي: نبه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: إذا صلى أحدكم بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً، على الحث عليها، فأتى بصيغة الأمر، ونبه بقوله: من كان منكم مصلياً، على أنها سنة ليست بواجبة- انتهى. وحديث أبي هريرة هذا يدل على أن السنة بعد الجمعة أربع ركعات: وقد تقدم حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين، وهذا يدل على أن السنة بعدها ركعتان. قال النووي: في هذا الأحاديث استحباب سنة الجمعة بعدها، والحث عليها وأن أقلها ركعتان وأكملها أربع. قال وذكر الأربع لفضيلتها وفعل الركعتين في أوقات بياناًً؛ لأن أقلها ركعتان. وقال إسحاق بن راهوية: إن صلى في المسجد يوم الجمعة صلى أربعاً وإن صلى(4/142)
في بيته صلى ركعتين. وكذا قال ابن تيمية وابن القيم، كما في زاد المعاد (ج1 ص124) . وكأنهم جمعوا بذلك بين الحديثين فإن حديث الأربع مطلق وليس مقيداً بكونها في البيت. وأما حديث الركعتين فهو مقيد بكونهما في البيت، فحملوا حديث الركعتين على ما إذا صلى في البيت وحديث الأربع على ما إذا صلى في المسجد. وفيه أنه لو كان الأمر كما قال هؤلاء لما صلى ابن عمر بعد الجمعة في المسجد ركعتين، فإنه هو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. قال الترمذي بعد ذكر قول إسحاق بن راهوية ما نصه: وابن عمر هو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته، وابن عمر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد بعد الجمعة ركعتين وصلى بعد الركعتين أربعاً، وحمل النسائي حديث ابن عمر على أنه للإمام حيث بوب عليه بلفظ: صلاة الإمام بعد الجمعة وحمل حديث أبي هريرة على أنه لمن يصلي في المسجد فقد بوب له: عدد الصلاة بعد الجمعة في المسجد. ومال الشوكاني إلى أن الأربع للأمة سواء كانت في المسجد أو في البيت لإطلاقه وعدم تقييده بالبيت. وأما الركعتان فللنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، قال: وفعله لا ينافي مشروعية الأربع لعدم المعارضة بين قوله الخاص بالأمة وفعله الذي لم يقترن بدليل خاص يدل على التأسي به فيه، وذلك لأن تخصيصه للأمة بالأمر يكون مخصصاً لأدلة التأسي العامة- انتهى. واختلف العلماء في عدد الراتبة بعد الجمعة فأقلها عند الحنابلة ركعتان وأكثرها ستة، فنقل ابن قدامة في المغني عن أحمد أنه قال: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين وإن شاء صلى أربعاً. وفي رواية عنه: وإن شاء ستاً. وأما عند الشافعية فالمؤكدة ركعتان والمستحب أربع ركعات. وحكى الترمذي عن الشافعي وأحمد أنهما قالا بحديث ابن عمر. قال العراقي: لم يرد الشافعي وأحمد بذلك إلا بيان أقل ما يستحب، وإلا فقد استحبا أكثر من ذلك. فنص الشافعي في الأم على أنه يصلي بعد الجمعة أربع ركعات، ذكره في باب صلاة الجمعة والعيدين. ثم ذكر العراقي ما تقدم من كلام أحمد نقلاً عن المغني. وأما المالكية فالمستحب عندهم ركعتان في البيت، لأنه لا رغيبة عندهم إلا للصبح. قال في المدونة: قال ابن القاسم قال مالك: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى الجمعة انصرف ولم يركع في المسجد، قال: وإذا دخل بيته ركع ركعتين، قال مالك: وينبغي للأئمة اليوم إذا سلموا من صلاة الجمعة أن يدخل الإمام منزله ويركع ركعتين ولا يركع في المسجد، قال: ومن خلف الإمام إذا سلموا أحب إلى أن ينصرفوا أيضاً ولا يركعوا في المسجد، قال: وإن ركعوا فذلك واسع- انتهى. وأما الحنفية فالمؤكد عندهم أربع لحديث أبي هريرة، وأما ما روي من فعله - صلى الله عليه وسلم - فليس فيه ما يدل على المواظبة. وقال أبويوسف يصلي ستاً جمعاً بين قوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله، وروي ذلك عن علي وابن عمر وأبي موسى، وهو قول عطاء والثوري إلا أن أبا يوسف استحب أن يقدم الأربع قبل الركعتين كيلا يصير متطوعاً بعد صلاة الفرض يمثلها. قال الشيخ في شرح الترمذي: ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ركعتان بعد الجمعة فعلاً وأربع قولاً. وأما الست فلم تثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -(4/143)
{الفصل الثاني}
1174- (9) عن أم حبيبة، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من حافظ على أربع ركعات قبل
الظهر وأربع بعدها، حرمه الله على النار)) . رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي،
وابن ماجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بحديث صحيح صريح، نعم ثبتت عن ابن عمر من فعله، وروي عن علي أنه أمر بها. وأما حديث ابن عمر يعني الذي يأتي في آخر الفصل الثالث، فقال العراقي: إنما أراد رفع فعله بالمدينة فحسب، لأنه لم يصح أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الجمعة بمكة- انتهى. والأولى بالعمل عندي أن يصلي الرجل بعد الجمعة أربعاً. (سواء كان في المسجد أو في بيته لإطلاق حديث أبي هريرة) ، لأنه قد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - قولاً وأمرنا به وحثنا عليه- انتهى.
1174- قوله: (من حافظ) أي داوم وواظب. (على أربع ركعات قبل الظهر) فيه دليل على أن السنة قبل الظهر أربع ركعات وقد تقدم الكلام عليه. (وأربع بعدها) قال القاري: ركعتان منها مؤكدة وركعتان مستحبة، فالأولى بتسليمتين بخلاف الأولى. (حرمه الله على النار) وفي رواية: لم تمسه النار. وفي أخرى: حرم الله لحمه على النار. قال الشوكاني: وقد اختلف في معنى ذلك هل المراد أنه لا يدخل النار أصلاً، أو أنه وإن قدر عليه دخولها لا تأكله، أو أنه يحرم على النار أن تستوعب أجزاءه وإن مست بعضه، كما في طرق الحديث عند النسائي بلفظ: فتمس وجهه النار أبداً، وهو موافق لقوله في الحديث الصحيح: وحرم على النار أن تأكل مواضع السجود فيكون قد أطلق الكل وأريد البعض مجازاً، والحمل على الحقيقة أولى، وإن الله تعالى يحرم جميعه على النار. وفضل الله أوسع، ورحمته أعم- انتهى. وقال السندي: ظاهره أنه لا يدخل النار أصلاً، وقيل: على وجه التأبيد، وحمله على ذلك بعيد، ويكفي في ذلك الإيمان وعلى هذا فلعل من داوم على هذه الفعل يوفقه الله تعالى للخيرات، ويغفر الذنوب كلها- انتهى. (رواه أحمد) الخ للحديث طرق: منها طريق حسان بن عطية عن عنسبة بن أبي سفيان عن أم حبيبة، وهى عند أحمد (ج2 ص325) والنسائي والبيهقي (ج2 ص473) . ومنها طريق محمد بن عبد الله الشعيثي عن أبيه عن عنسبة عن أم حبيبة وهي عند أحمد (ج6 ص426) والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقد حسنه الترمذي من هذا الطريق. ومنها طريق القاسم بن عبد الرحمن عن عنسبة عن أم حبيبة، وهي عند الترمذي والنسائي. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، والقاسم بن عبد الرحمن ثقة شامي. ونقل المنذري في الترغيب كلام الترمذي هذا وأقره، وقال في مختصر السنن: وصححه الترمذي من حديث القاسم بن عبد الرحمن، والقاسم هذا اختلف فيه: فمنهم من يضعف روايته، ومنهم من يوثقه- انتهى. قلت: قال الحافظ في التقريب: إنه صدوق. ووثقه ابن معين والعجلي ويعقوب بن سفيان ويعقوب بن شيبة. وقال أبوحاتم: حديث الثقات عنه مستقيم، لا بأس به، وإنما ينكر عنه الضعفاء. وقال أبوإسحاق(4/144)
1175- (10) وعن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع قبل الظهر ليس فيهن
تسليم، تفتح لهن أبواب السماء)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحربي: كان من ثقات المسلمين. وقال الجوزجاني: كان خياراً فاضلاً، أدرك أربعين رجلاً من المهاجرين والأنصار. وتكلم فيه أحمد. وقال الغلابي: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن الصحابة المعضلات، كذا في تهذيب التهذيب. ومنها طريق سليمان بن موسى عن مكحول عن مولى لعنسبة بن أبي سفيان عن عنسبة عن أم حبيبة، وهي عند أحمد (ج6 ص326) . ومنها طريق سليمان بن موسى والنعمان بن المنذر عن مكحول عن عنسبة عن أم حبيبة. أما طريق سليمان فهي عند النسائي. وأما طريق النعمان فهي عند أبي داود والحاكم والبيهقي (ج2 ص472) ، ومن طريق مكحول عن عنسبة عن أم حبيبة أخرج ابن خزيمة في صحيحه، كما في الترغيب. قال البخاري ويحيى بن معين وأبوزرعة وأبوحاتم والنسائي وأبومسهر: إن مكحولاً لم يسمع من عنسبة. وخالفهم دحيم وهو أعرف بحديث الشاميين، فأثبت سماع مكحول من عنسبة، قاله الحافظ. ومنها طريق سليمان بن موسى عن محمد بن أبي سفيان عن أم حبيبة، وهي عند النسائي وابن خزيمة، كما في الترغيب. قال النسائي: هذا خطأ، والصواب حديث مروان من حديث سعيد بن عبد العزيز عن سليمان عن مكحول عن عنسبة. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج9 ص192) : وهو الصواب. وهكذا قال غير واحد عن مكحول- انتهى. قلت: الظاهر أن حديث أم حبيبة هذا حسن صحيح من طريق حسان ومحمد بن عبد الله الشعيثي والقاسم بن عبد الرحمن ومكحول كلهم عن عنسبة عن أم حبيبة. فهذه طرق أربع للحديث من بين حسان وصحاح. وأما الطريق الرابع فلعل مكحولاً سمع أولاً من مولى لعنسبة، ثم لقي عنسبة وسمع منه من غير واسطة، والله أعلم.
1175- قوله. (أربع) أي من الركعات يصليهن الإنسان. (قبل الظهر) أي قبل صلاته. (ليس فيهن) أي بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين. (تسليم) أي فصل بسلام يعني تصلى بتسليمة واحدة. قال القاري: أي الأفضل فيها ذلك. وقد استدل بهذا من جعل صلاة النهار أربعاً أربعاً، ويمكن أن يقال المراد ليس فيهن تسليم واجب، فلا ينافي أن الأفضل مثنى مثنى ليلاً ونهارا لخبر أبي داود وغيره: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وبه قال الأئمة غير أبي حنيفة، فإنه قال الأفضل أربعاً أربعاً ليلاً ونهاراً، ووافقه صاحباه في النهار دون الليل. قال البيجوري في شرح الشمائل. قال القاري: وينبغي أن يكون الخلاف فيما لم يرد فيه تعيين تسليم أو تسليمتين. (تفتح لهن) أي لأجلهن. (أبواب السماء) كناية عن حسن القبول. وهذا لفظ أبي داود ورواه ابن ماجه بلفظ: كان يصلي قبل الظهر أربعاً إذا زالت الشمس، لا يفصل بينهن بتسليم، وقال: إن أبواب السماء تفتح إذا زالت الشمس- انتهى. وتسمى(4/145)
رواه أبوداود، وابن ماجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذه سنة الزوال، وهي غير سنة الظهر. قال ابن القيم: هذه الأربع صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، وورد مستقل سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. وسر هذا والله تعالى أعلم أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل، وأبواب السماء تفتح بعد زوال الشمس ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل، فهما وقتا قرب ورحمة هذا يفتح فيه أبواب السماء، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا- انتهى. وقيل: بل هي سنة الظهر القبلية، والحديث رواه الترمذي في الشمائل بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدمن أربع ركعات عند زوال الشمس، فقلت: يا رسول الله! إنك تدمن هذه الأربع ركعات عند زوال الشمس، فقال: إن أبواب السماء تفتح، فلا ترتج حتى يصلي الظهر، فأحب أن يصعد لي في تلك الساعة خير- الحديث. ورواه الطبراني في الكبير الأوسط بلفظ: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأيته يديم أربعاً قبل الظهر، وقال: إنه إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء، فلا يغلق منها باب حتى يصلى الظهر الخ. وروى البيهقي ونحوه. قال البيجوري: ويبعد الأول أي كون المراد سنة الزوال غير سنة الظهر التعبير بالإدمان المراد به المواظبة، إذ لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - واظب على شيء من السنن بعد الزوال إلا على راتبة الظهر- انتهى. (رواه أبوداود وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص416) والترمذي في الشمائل والطحاوي (ص196) والبيهقي في السنن (ج2 ص488) كلهم من طريق عبيدة عن إبراهيم عن سهم بن منجاب عن قرثع، وقال بعضهم عن قزعة عن قرثع عن أبي أيوب، وعبيدة هذا هو ابن متعب الضبي الكوفي الضرير. قال في التقريب: ضعيف، واختلط بآخرة، ونقل الزيلعي عن صاحب التنقيح: أنه قال: وروى ابن خزيمة هذا الحديث في مختصر المختصر وضعفه، فقال وعبيدة بن متعب ليس ممن يجوز الاحتجاج بخبره-انتهى. قلت: عبيدة هذا ضعفه أيضاً أبوداود وابن معين وأبوحاتم والنسائي وابن عدي. وذكره ابن المبارك فيمن يترك حديثه. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ترك الناس حديثه. وقال يحيى بن سعيد: كان عبيدة سيء الحفظ ضريراً متروك الحديث. وقال الساجي: صدوق سيء الحفظ يضعف عندهم. وقال يعقوب بن سفيان: حديثه لا يسوى شيئاً. وقال أبوداود عن شعبة: أخبرني عبيدة قبل أن يتغير كذا في تهذيب التهذيب. قلت: قد روى هذا الحديث أبوداود من طريق شعبة عن عبيدة، وأخرجه الطيالسي أيضاً عن شعبة عن عبيدة. كما في الميزان (ج2 ص175) وللحديث طريق أخرى عند أحمد (ج5 ص418) والبيهقي في السنن (ج2 ص489) وابن خزيمة، وهي طريق شريك عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن علي بن الصلت عن أبي أيوب، وليس فيه: لا يسلم بينهن، وأخرجه محمد في موطئه عن بكير بن عامر البجلي عن إبراهيم والشعبي عن أبي أيوب. قال الزيلعي. وتكلم الدارقطني في علله، وذكر الاختلاف فيه، ثم قال: وقول أبي معاوية. (يعني عن عبيدة عن إبراهيم عن سهم عن قزعة عن قرثع عن أبي أيوب بذكر هل فيهن تسليم فاصل؟ قال: لا) أشبه بالصواب- انتهى. وحديث أبي معاوية عند الترمذي وأحمد (ج5 ص416)(4/146)
1176- (11) وعن عبد الله بن السائب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربعاً بعد أن تزول
الشمس قبل الظهر، وقال: إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها
عمل صالح)) . رواه الترمذي.
1177- (12) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رحم الله أمرأ صلى قبل العصر أربعا)) .
رواه أحمد، والترمذي، وأبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أنه أطلق المنذري عزو حديث أبي أيوب هذا إلى الترمذي في مختصره، وكان عليه أن يقيده بالشمائل.
1176- قوله. (عن عبد الله بن السائب) هو وأبوه صحابي. (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربعاً بعد أن تزول الشمس قبل الظهر) أي قبل فرضه وهل هي سنة الزوال أو سنة الظهر القبلية؟ فيه خلاف علم مما نقدم. قال العراقي: هي غير الأربع التي هي سنة الظهر قبلها، وتسمى هذه سنة الزوال. وقال القاري: تلك الركعات الأربع سنة الظهر التي قبله. كذا قاله بعض الشراح من علمائنا، وأراد به الرد على من زعم أنها غيرها وسماها سنة الزوال- انتهى. (وقال: إنها) أي قطعة الزمن التي بعد الزوال. وقال القاري: أي ما بعد الزوال. وأنثه باعتبار الخبر وهو. (ساعة تفتح) بالتأنيث وبالتخفيف، ويجوز التشديد. (فيها أبواب السماء) لصعود الطاعة ونزول الرحمة. (فأحب أن يصعد) بفتح الياء ويضم. (فيها) أي في تلك الساعة. (عمل صالح) أي إلى السماء. ويستشكل بأن الملائكة الحفظة لا يصعدون إلا بعد صلاة العصر. وبعد صلاة الصبح، ويبعد أن العمل يصعد قبل صعودهم، وقد يرد بالصعود القبول، قاله البيجوري. (رواه الترمذي) في جامعه وفي شمائله وبوب له في جامعة باب الصلاة عند الزوال، وأشار إلى حديث أبي أيوب المتقدم بقوله: وفي الباب عن أبي أيوب. قال الترمذي: حديث عبد الله بن السائب حديث حسن غريب. قلت: بل هو حديث صحيح متصل الإسناد رواته ثقات، وأخرجه أيضاً أحمد (ج3 ص411) .
1177- قوله: (رحم الله امرأ) أي شخصاً. قال العراقي: يحتمل أن يكون دعاء. وأن يكون خبراً (صلى قبل العصر أربعاً) أي أربع ركعات تطوع العصر وهي من المستحبات. قال النووي في شرح المذهب: إنها سنة، وإنما الخلاف في المؤكد منه، وقال في شرح مسلم: لا خلاف في استحبابها عند أصحابنا. وممن كان يصليها أربعاً من الصحابة علي. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يصلون أربعاً قبل العصر، ولا يرونها من السنة. وممن كان لا يصلى قبل العصر شيئاً سعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن منصور وقيس بن أبي حازم وأبوالأحوص- انتهى. (رواه أحمد) (ج2 ص117) . (والترمذي) وحسنه. (وأبو داود) وسكت عنه، وأخرجه أيضاً الطيالسي(4/147)
1178- (13) وعن علي قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات، يفصل بينهن
بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والبيهقي (ج2 ص473) وابن حبان وصححه وكذا شيخه ابن خزيمة. وفيه محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران بن المثنى، روى عن جده مسلم بن مهران عن ابن عمر. قال الحافظ في التلخيص: محمد بن مهران فيه مقال، لكن وثقه ابن حبان- انتهى. وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال الدارقطني: بصري، روى عن جده ولا بأس بهما. وقال الحافظ في ترجمة مسلم بن مهران: قال أبوزرعة: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وفي الباب عن أم حبيبة عند أبي يعلى، وعن أم سلمة عند الطبراني في الكبير، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني في الكبير الأوسط، وعن علي عند الطبراني في الأوسط، ذكر هذه الأحاديث الشوكاني في النيل، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص222) ، والمنذري في الترغيب. واعلم أن الحافظ في الفتح والزرقاني في شرح الموطأ تبعاً للحافظ قد نسبا حديث ابن عمر هذا إلى أبي هريرة. قال الحافظ: قد ورد في الصلاة قبل العصر حديث لأبي هريرة مرفوع لفظه: رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً. أخرجه أحمد وأبوداود والترمذي وصححه ابن حبان- انتهى. وهو وهم منهما، لأن الحديث من مسند ابن عمر لا أبي هريرة كما لا يخفى، نعم أخرج أبونعيم من حديث الحسن عن أبي هريرة مرفوعاً: من صلى قبل العصر أربع ركعات غفر الله عز وجل له مغفرة عزماً. والحسن لم يسمع من أبي هريرة. ذكره الشوكاني والعيني.
1178- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر أربع ركعات) فيه دليل على استحباب أربع ركعات قبل العصر كالحديث السابق، ولا منافاة بينه وبين ما يأتي بعد ذلك من حديث علي أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر ركعتين، لأن المراد أنه - صلى الله عليه وسلم - أحياناً يصلي أربع ركعات وأحياناً ركعتين، فالرجل مخير بين أن يصلي أربعاً أو ركعتين، والأربع أفضل. (يفصل بينهن) أي بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين. (بالتسليم) المراد به تسليم التشهد دون تسليم التحلل من الصلاة كما سيأتي. (على الملائكة المقربين) زاد الترمذي في رواية: والنبيين والمرسلين. (ومن تبعهم) أي النبي ين والمرسلين. (من المسلمين) بيان لمن أي المنقادين ظاهراً وباطناً. (والمؤمنين) المصدقين بقلوبهم المقرين بألسنتهم، فلا فرق بينهما إلا في مفهوم اللغة دون عرف الشريعة، قاله القاري. قال الترمذي: اختار إسحاق بن راهوية أن لا يفصل في الأربع قبل العصر، واحتج بهذا الحديث، وقال معنى قوله: يفصل بينهن بالتسليم يعني التشهد. وقال البغوي: المراد بالتسليم التشهد دون السلام. أي وسمي تسليماًَ على من ذكر لاشتماله عليه. قال الطيبي: ويؤيده حديث عبد الله بن مسعود: كنا إذا صلينا قلنا السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل، وكان ذلك في التشهد- انتهى. وقيل: المراد به تسليم التحلل من الصلاة حمله على(4/148)
رواه الترمذي.
1179- (14) وعنه، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل العصر ركعتين)) . رواه أبوداود.
1180- (15) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى بعد المغرب ست ركعات لم
يتكلم فيما بينهن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا من اختار أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. قال العراقي: حمل بعضهم هذا على أن المراد بالفصل بالتسليم الشهد، لأن فيه السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى عباد الله الصالحين، قاله إسحاق بن إبراهيم، فإنه كان يرى صلاة النهار أربعاً، قال وفيما أوله عليه بعد- انتهى كلام العراقي. قال الشيخ في شرح الترمذي: ولا بُعد عندي فيما أوّله عليه، بل هو الظاهر القريب بل هو المتعين إذ النبي ون والمرسلون لا يحضرون الصلاة حتى ينويهم المصلي بقوله: السلام عليكم فكيف يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة- انتهى. قلت: ولقائل أن يقول يكفي للخطاب بقوله السلام: عليكم شهود الأنبياء والمرسلين واستحضارهم في القلب وتصورهم في النفس وإن لم يكونوا حاضرين في الخارج، فلا مانع من أن يراد بالتسليم تسليم التحلل من الصلاة. (رواه الترمذي) أي من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي في باب ما جاء في الأربع قبل العصر، وحسنه. ونسبه الحافظ في التلخيص لأحمد (ج1 ص85) والبزار والنسائي أيضاً، وهو مختصر من حديث طويل أخرجه الترمذي من الطريق المذكور في باب كيف كان يتطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، وذكر هناك أنه روي عن ابن مبارك أنه كان يضعف هذا الحديث، وإنما ضعفه عندنا - والله أعلم من أجل - عاصم بن ضمرة، وعاصم بن ضمرة من ثقة عند بعض أهل الحديث. وقال علي بن المديني قال يحيى بن سعيد القطان قال سفيان: كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث-انتهى. قلت: عاصم هذا وثقة يحيى بن معين وابن المديني والعجلي وابن سعد. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال البزار: هو صالح الحديث. وقال أحمد: هو أعلى من الحارث الأعور، وهو عندي حجة. وضعفه ابن حبان وابن عدي والجوزجاني تبعاً لابن عدي، وقد رد الحافظ على الجوزجاني في تهذيب التهذيب (ج5 ص45- 46) فارجع إليه.
1179- قوله: (يصلي قبل العصر ركعتين) أي أحياناً فلا ينافي ما تقدم من الأربع. (رواه أبوداود) من طريق أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي وسكت عنه أبوداود. وقال المنذري: عاصم بن ضمرة وثقه يحيى بن معين وغيره وتكلم فيه غير واحد.
1180- قوله: (من صلى بعد المغرب) أي فرضه. (ست ركعات) مع الركعتين الراتبتين أو سواهما، قاله في اللمعات. وقال الطيبي: المفهوم إن الركعتين الراتبتين داخلتان في الست، وكذا في العشرين المذكورة في الحديث الآتي- انتهى. قال القاري: فيصلي المؤكدتين بتسليمة، وفي الباقي بالخيار. (لم يتكلم فيما بينهن)(4/149)
بسوء، عدلن له بعبادة ثنتى عشرة سنة)) . رواه الترمذي. وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن أبي خثعم، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: هو منكر الحديث، وضعفه جداً.
1181- (16) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة)) رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي في أثناء أدائهن. وقال ابن حجر إذا سلم من ركعتين. (بسوء) أي بكلام سيء أو بكلام يوجب سوء. (عدلن) بصيغة المجهول. قال الطيبي: يقال عدلت فلاناً بفلان إذا سويت بينهما يعني ساوين من جهة الأجر. (له) أي للمصلي. (بعبادة ثنتى عشرة سنة) قال البيضاوي: فإن قلت كيف تعادل العبادة القليلة العبادات الكثيرة فإنه تضييع لما زاد عليها من الأفعال الصالحة. قلت: الفعلان إن اختلفا نوعاً فلا إشكال. وإن اتفقا فلعل القليل يكتسي بمقارنة ما يخصه من الأوقات والأحوال ما يرجحه على أمثاله، فلعل القليل في هذا الوقت، والحال يضاعف على الكثير في غيرهما. وقال الطيبي: هذا من باب الحث والتحريض، فيجوز أن يفضل ما لا يعرف فضله على ما يعرف وإن كان أفضل حثاً وتحريضاً، ونظيره قوله تعالى. {مما خطيئاتهم أغرقوا} [71: 25] خصت الخطيئات استعظاماً لها وتنفيراً من ارتكابها وجعلت علة للإغراق دون الكفر وأنه أغلظ وأصعب. قال التوربشتي: وقيل: يحتمل أن يراد ثواب القليل مضعفاً أكثر من ثواب الكثير غير مضعف. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه كلهم من حديث عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة. (لا نعرفه إلا من حديث عمر بن أبي خثعم) بفتح معجمة وسكون مثلثة وفتح مهملة. وعمر هو ابن عبد الله بن أبي خثعم نسب هنا إلى جده. (وسمعت محمد بن إسماعيل) أي البخاري. (يقول هو) أي عمر. (منكر الحديث) هذا من ألفاظ الجرح، وهو في المرتبة الثالثة من مراتب ألفاظ الجرح فيما ذكره العراقي، لكن قد قدمنا في شرح حديث أبي هريرة في الفصل الثالث من باب آداب الخلاء أن البخاري إنما يطلق هذا اللفظ على من لا تحل الرواية عنه على ما صرح به السيوطي في التدريب (ص127) . (وضعفه جداً) أي تضعيفاً قوياً. قال في تهذيب التهذيب: قال الترمذي عن البخاري: ضعيف الحديث ذاهب، ضعفه جداً. وقال البرذعي عن أبي زرعة واهي الحديث حدث عن يحيى بن أبي كثير ثلاثة أحاديث. (أحدها حديث أبي هريرة هذا) لو كانت في خمسمائة حديث لأفسدتها. وقال ابن عدي: منكر الحديث. وقال في الميزان: له حديثان منكران، فذكرهما، وأحدهما هذا الحديث، ثم قال وهاه أبوزرعة. وقال البخاري: منكر الحديث ذاهب- انتهى.
1181- قوله: (بنى الله له بيتاً في الجنة) أي عظماً مشتملاً على أنواع النعم. (رواه الترمذي) أي ذكره تعليقاً(4/150)
1182- (7) وعنها، قالت: ((ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء قط فدخل علي، إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بصيغة التمريض فقال: وقد روى عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره. وأخرجه ابن ماجه موصولاً من رواية يعقوب ابن الوليد المدائني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. قال المنذري في الترغيب: ويعقوب كذبه أحمد وغيره- انتهى. قلت: قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: خرقنا حديثه منذ دهر، كان من الكذابين الكبار، وكان يضع الحديث. وقال الغلابي عن ابن معين: كذاب. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات، لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل التعجب. وقال النسائي: ليس بشيء متروك الحديث، هذا وكان على المصنف أن يقول: علقه الترمذي أو ذكره تعليقاً، فإنه لا يقال في مثل هذا: رواه وإنما يقال ذكره، وقد عرفت مما قدمنا أن حديث أبي هريرة وحديث عائشة كليهما ضعيفان جداً، لكن قد ورد في فضل الصلاة بين المغرب والعشاء أحاديث أخرى: منها ما رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة عن عمار بن ياسر قال: رأيت حبيبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد المغرب ست ركعات، وقال من صلى بعد المغرب ست ركعات غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر. قال الطبراني: تفرد به صالح بن قطن البخاري. قال الهيثمي: ولم أجد من ترجمه. وقال المنذري: وصالح هذا لا يحضرني الآن فيه جرح ولا تعديل. ومنها ما رواه محمد بن نصر في قيام الليل عن ابن عمر مرفوعاً: من صلى ست ركعات بعد المغرب قبل أن يتكلم غفر له بها خمسين سنة. وفي إسناده محمد بن غزوان الدمشقي. قال أبوزرعة: منكر الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به. ومنها ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن حذيفة قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المغرب، فلما قضى الصلاة قام يصلي، فلم يزل يصلي حتى صلى العشاء ثم خرج، قال الشوكاني بعد ذكر هذه الأحاديث وغيرهما مما ورد في الباب: الأحاديث المذكورة تدل على مشروعية الاستكثار من الصلاة ما بين المغرب والعشاء. والأحاديث وإن كان أكثرها ضعيفاً فهي منتهضة بمجموعها لاسيما في فضائل الأعمال- انتهى.
1182- قوله: (ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء) أي فرضه. (قط فدخل علي) أي في نوبتي. (إلا صلى أربع ركعات) أي ركعات مؤكدة بتسليمة وركعتان مستحبة، قاله القاري. (أو ست ركعات) يحتمل الشك والتنويع، فركعتان نافلة، قاله القاري. وقال الزرقاني في شرح المواهب: قالت عائشة: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات، أي تارة أو ست ركعات أي أخرى، فليست أو للشك. وفي مسلم قالت عائشة ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين. وكذا في حديث ابن عمر عند الشيخين. ومفاد الأحاديث أنه كان يصلي بحسب ما تيسر ركعتين وأربعاً وستاً إذا دخل بيته بعد العشاء- انتهى. وأما(4/151)
رواه أبوداود.
1183- (18) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما روى محمد بن نصر من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العشاء الآخرة، ثم صلى أربع ركعات حتى لم يبق في المسجد غيري وغيره. وهذا يقتضى أن يكون صلى الأربع في المسجد لا في البيت، فأجيب عنه بأن في سنده المهال بن عمرو، وقد اختلف فيه. وعلى تقدير ثبوته فيكون قد وقع ذلك منه لبيان الجواز أو لضرورة له في المسجد اقتضت ذلك. وأما ما روى الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعاً: من صلى العشاء الآخرة في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر، ففيه أنه قال العراقي: لم يصح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص231) : وفيه من ضعف الحديث. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ص6/58) والبيهقي (ج2 ص477) من طريق أبي داود، وسكت عنه أبوداود والمنذري. قال الشوكاني. . الحديث رجال إسناده ثقات. ومقاتل بن بشير العجلي. (يعني الراوي عن شريح بن هاني عن عائشة) قد وثقه ابن حبان، وقد أخرجه النسائي أيضاً في السنن الكبرى. وفي الباب عن ابن عباس عند البخاري وغيره، قال: بت في بيت خالتي ميمونة- الحديث، وفيه فصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام الخ. والظاهر أن هذه الأربعة سنة العشاء البعدية لكونها وقعت قبل النوم، وعليه حمله محمد بن نصر في قيام الليل، وعن عائشة أنها سئلت عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جوف الليل فقالت: كان يصلي صلاة العشاء في جماعة، ثم يرجع إلى أهله فيركع أربع ركعات، ثم يأوي إلى فراشه- الحديث بطوله. وفي آخره حتى قبض على ذلك، أخرجه أبوداود من طريق زرارة بن أبي أوفي عن عائشة، وأخرجه أيضاً من رواية زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة. قال المنذري: هذه الرواية هي المحفوظة. وعندي في سماع زرارة من عائشة نظر، فإن أبا حاتم الرازي قال: قد سمع زرارة من عمران بن حصين وأبي هريرة وابن عباس وهذا ما صح له، فظاهر هذا أن زرارة لم يسمع عنده من عائشة- انتهى. وعن عبد الله بن الزبير قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى العشاء ركع أربع ركعات، وأوتر بسجدة، ثم تام حتى يصلي بعدها صلاته من الليل. أخرجه أحمد (ج4 ص4) والبزار والطبراني في معجمه، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص146) . وعن أنس وعن البراء بن عازب، وعن ابن عباس عند الطبراني، ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص230- 231) مع الكلام عليها.
1183- قوله: (إدبار النجوم) بكسر الهمزة ونصب الراء على الحكاية من قوله تعالى: {وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم} [49: 52] ويجوز الرفع. وعلى الوجهين هو مبتدأ خبره: (الركعتان قبل الفجر) أي فرضه. والإدبار والدبور الذهاب، يعني عقب ذهاب النجوم. وقال ابن كثير: أي عند جنوحها(4/152)
وأدبار السجود الركعتان بعد المغرب)) . رواه الترمذي.
{الفصل الثالث}
1184- (19) عن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أربع قبل الظهر، بعد الزوال، تحسب
بمثلهن في صلاة السحر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للغيبوبة وهو سنة الصبح. (وأدبار السجود) بفتح الهمزة وكسرها قراءتان متواترتان في قوله تعالى: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} [40: 50] قال الطيبي: صلاة أدبار السجود، وأدبار نصبه بسبح في التنزيل أوقعه مضافاً في الحديث على الحكاية- انتهى. والمراد بالسجود فريضة المغرب. (الركعتان بعد المغرب) أي فرضه وهي سنة المغرب البعدية. (رواه الترمذي) في تفسير سورة الطور، وأخرجه أيضاً الحاكم وصححه وابن مردويه وابن أبي حاتم كلهم من طريق رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس، ورشدين ضعفه ابن المديني وأبوزرعة وابن نمير وأبوحاتم والنسائي. وقال أحمد والبخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال ابن عدي: أحاديثه مقلوبة، لم أر فيها حديثاً منكراً جداً، ومع ضعفه يكتب حديثه. وقال ابن كثير: رشيدين بن كريب ضعيف، ولعل الحديث من كلام ابن عباس موقوفاً عليه- انتهى. والحديث أخرجه مسدد في مسنده وابن المنذر وابن مردويه من حديث علي مرفوعاً.
1184- قوله: (أربع) أي من الركعات. (قبل الظهر بعد الزوال) صفة لأربع، وخبره قوله: (تحسب) بصيغة المجهول. (بمثلهن) أي الكائن. (في صلاة السحر) بفتح المهملتين. ولفظ الترمذي: بمثلهن من صلاة السحر، أي بمثل أربع ركعات كائنة من صلاة السحر، يعني تعدل في الفضل أربعاً مماثلة لهن من جملة صلاة السحر أي التهجد. وذكره المنذري في الترغيب نقلاً عن الترمذي بلفظ: بمثلهن في السحر. وقال الطيبي: أي توازي أربعاً في الفجر من السنة والفريضة لموافقه المصلي بعد الزوال سائر الكائنات في الخضوع والدخور لبارئها، فإن الشمس أعلى وأعظم منظوراً في الكائنات، عند زوالها يظهر هبوطها وانحطاطها وسائر ما يتفيؤ بها ظلاله عن اليمين والشمال- انتهى. وقيل: لا يظهر وجه العدول عن الظاهر، وهو حمل السحر على حقيقته، وتشبيه هذه الأربع بأربع من صلاة الصبح إلا باعتبار كون المشبة به مشهوداً بمزيد الفضل- انتهى. يعني قوله تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [17: 78] وفيه إشارة إلى أن العدول إنما هو ليكون المشبه به أقوى، إذ ليس التهجد أفضل من سنة الظهر. قال القاري: والأظهر حمل السحر على حقيقته، وهو السدس الأخير من الليل. ويوجه كون المشبه به أقوى بأن العبادة فيه أشق وأتعب، والحمل على الحقيقة مهما أمكن فهو أولى وأحسن. قلت: لا شك أم الحمل على الحقيقة أولى. وعلى هذا فالمراد بصلاة السحر صلاة التهجد. ويؤيده ما روي عن الأسود ومرة(4/153)
وما من شيء إلا وهو يسبح لله تلك الساعة، ثم قرأ: {يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل
سجداً لله وهم داخرون} . رواه الترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان.
1185- (20) وعن عائشة، قالت: ((ما ترك رسول الله صلى الله وعليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مسروق، قالوا قال عبد الله يعني ابن مسعود ليس شيء يعدل صلاة الليل من صلاة النهار إلا أربعاً قبل الظهر الخ، رواه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه بشير بن الوليد الكندي وثقة جماعة، وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح- انتهى. وهذا في حكم المرفوع. ويستأنس بهذا أن المراد بصلاة السحر في حديث عمر: صلاة الليل. قال بعض المشائخ: السر في هذا أن هذين الوقتين زمان تتنزل الرحمة بعد الزوال، فإنه تفتح أبواب الرحمة والقبول بعد انتصاف النهار كما عرفت، وتنزل الرحمة الإلهية في الليل بعد انتصافه إلى وقت السحر، فلما تناسب الوقتان تناسبت الصلاة الواقعة فيهما، ويكون كل منهما عديل الآخر، ولما كان نزول الرحمة في آخر الليل أظهر وأشهر جعل الصلاة وقت الزوال عديلة وشبيهة به. (وما من شيء إلا وهو يسبح لله تلك الساعة) أي يسبحه تسبيحاً خاصاً تلك الساعة، فلا ينافي قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} [17: 44] المقتضى لكونه كذلك في سائر الأوقات، والتسبيح في الآيتين بلسان القال والحال. (ثم قرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عمر، قاله القاري. والظاهر هو الأول. (يتفيؤ) أي يميل. (ظلاله) أي ظلال كل شيء. (عن اليمين) أريد به الجنس. (والشمائل) جمع شمال، وفيه تفتن أي جانبيها أول النهار وآخره. (سجداً لله) حال أي خاضعين بما يراد منهم. (وهم) أي الظلال. (داخرون) أي صاغرون، نزلوا منزلة العقلاء. وقيل: المراد بقوله هم الخلق المعبر عنه بما منشيء، وفيه تغليب العقلاء. قال الطيبي: ومعنى الآية بتمامها. {أولم يروا} [16: 48] بالغيبة والخطاب. {إلى ما خلق الله من شيء} [16: 48] أي من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها كيف تنقاد لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً منقاد صاغرة. والشمس وإن كانت أعظم وأعلى منظوراً في هذا العالم. إلا أنها عند الزوال يظهر هبوطها وانحطاطها وأنها آيلة إلى الفناء والذهاب، فأشار عليه السلام إلى أن المصلي حينئذٍ موافق لسائر الكائنات في الخضوع لخالقها، فهو وقت خضوع وافتقار، فساوى وقت السحر الذي هو وقت تجلي الحق ومحل الاستغفار. (رواه الترمذي) في تفسير سورة النحل، وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن عاصم عن يحيى البكاء عن عبد الله بن عمر. وعلي بن عاصم هذا. قال الحافظ: صدوق يخطىء ويصر، ويحيى البكاء بتشديد الكاف ضعيف.
1185- قوله: (ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي من الوقت الذي شغل فيه عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما(4/154)
ركعتين بعد العصر عندي قط)) . متفق عليه. وفي رواية للبخاري، قالت: ((والذي ذهب به ما
تركهما حتى لقي الله)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعد العصر، ولم ترد أنه كان يصلي بعد ركعتين من أول ما فرضت الصلوات مثلاً إلى أخر عمره. وقال النووي: تعني بعد وفود قوم عبد القيس. (ركعتين عد العصر) أي بعد فرضه قضاء أولاً، ثم استمرار ثانياً. (عندي) " أي في بيتي. (قط) أي أبداً. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي والبيهقي. (وفي رواية للبخاري) ذكرها في باب ما يصلي بعد العصر من الفوائت ونحوها. (قالت) عائشة. (والذي) قسم. (ذهب به) أي توفاه تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ما تركهما) أي الركعتين بعد صلاة العصر. (حتى لقي الله) عزوجل، زاد البخاري في هذه الرواية: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته، وكان يحب ما يخفف عنهم. وفي رواية لمسلم: صلاتان ما تركهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي قط سراً ولا علانية، ركعتين قبل الفجر وركعتين بعد العصر، وفي رواية للبخاري: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيني في يوم بعد العصر إلا صلى ركعتين. قيل: هاتان ركعتان ركعتا سنة الظهر البعدية، فاتتا منه - صلى الله عليه وسلم - بسبب وفد عبد القيس، فقضاهما بعد العصر، كما تقدم من حديث أم سلمة، ثم داوم عليهما. وروي: أنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما بعد العصر. وقيل: هما سنة العصر القبلية، فقد روى مسلم عن أبي سلمة أنه سأل عائشة عن السجدتين اللتين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما بعد العصر، فقالت: كان يصليهما قبل العصر ثم أنه شغل عنهما أو نسيهما، فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، تعني دوامها ثم إن هذه الأحاديث يعارضها ما روى النسائي عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة- الحديث. وفي رواية له عنها: لم أره يصليهما قبل ولا بعد، وما روى الترمذي عن ابن عباس قال: إنما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعتين بعد العصر، لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما. قال الترمذي: حديث حسن فيحمل النفي على علم الراوي، فإنه لم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافي. قال الحافظ: يجمع بين الحديثين بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصليهما إلا في بيته، فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة. ويشير إلى ذلك قول عائشة: وكان لا يصليهما في المسجد مخافة أن تثقل على أمته- انتهى. وقال الشوكاني: قد جمع بين رواية النفي ورواية الإثبات بحمل النفي في المسجد، أي لم يفعلهما في المسجد، والإثبات على البيت. وقد تمسك بحديث عائشة من أجاز قضاء النفل بعد العصر. وأجاب المانعون بأنها من الخصائص. وأجيب بأن الذي اختص به - صلى الله عليه وسلم - المداومة على ذلك لا أصل القضاء. والجمع بين هذا وحديث النهي عن الصلاة بعد العصر، أن ذلك فيما لا سبب له، وهذا سببه قضاء فائتة الظهر كما أمر آنفا. وقد سبق الكلام في هذا مفصلاً في باب أوقات النهي.(4/155)
1186- (21) وعن المختار بن فلفل، قال: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال:
كان عمر يضرب الأيدي على صلاة بعد العصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1186- قوله: (وعن المختار بن فلفل) بفائين مضمومتين ولامين، الأولى ساكنة، المخزومي مولى عمرو بن حريث. وثقه أحمد وابن معين وأبوحاتم والعجلي والنسائي ويعقوب بن سفيان. وقال أبوداود: ليس به بأس. وقال أبوبكر البزار: صالح الحديث، وقد احتمله حديثه. (كان عمر يضرب الأيدي) أي أيدي من عقد الصلاة وأحرم بالتكبير. (على صلاة) أي نافلة. (بعد العصر) أي يمنعهم من التطوع بعد فرض العصر، وضرب عمر الناس على الصلاة بعد العصر ثابت في عدة أحاديث: منها ما رواه البيهقي والإسماعيلي عن أيمن أنه دخل على عائشة، فسألها عن الركعتين بعد العصر، فقالت: والذي ذهب بنفسه، تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما تركهما حتى لقي الله، فقال لها أيمن إن عمر كان ينهى عنهما ويضرب عليهما، فقالت: صدقت، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليهما. ومنها ما رواه البخاري في باب إذا كلم وهو يصلي آخر أبواب الصلاة من حديث كريب: أن ابن عباس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن أزهر أرسلوه إلى عائشة. فقالوا اقرأ عليها السلام منا جميعاً، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر، وقل لها:إنا أخبرنا أنك تصليهما، وقد بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما. وقال ابن عباس: قد كنت أضرب الناس مع عمر عليهما- الحديث. ومنها ما رواه مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر بن الخطاب يضرب المنكدر في الصلاة بعد العصر. ومنها ما روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن شقيق قال: رأيت عمر أبصر رجلاً يصلي بعد العصر، فضرب حتى سقط وراءه. وقد استدل بهذه الآثار من منع التنفل بعد العصر مطلقاً، لكن في الاستدلال بها على ذلك نظر، لأنه يحتمل أن عمر كان يرى أن النهي عن الصلاة بعد العصر إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند الغروب الشمس لا مطلقاً. قال الحافظ: روى عبد الرزاق من حديث زيد بن خالد سبب ضرب عمر الناس على ذلك، فقال عن زيد بن خالد أن عمر رآه، وهو خليفة، ركع بعد العصر فضربه، فذكر الحديث، وفيه فقال عمر: يا زيد لولا أني أخشى أن يتخذهما الناس سلماً إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما. ولعل عمر كان يري أن النهي عن الصلاة بعد العصر إنما هو خشية إيقاع الصلاة عند الغروب الشمس. وهذا يوافق قول ابن عمر: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون لا أنهى أحداً يصلي بليل أو نهار وما شاء غير أن لا تحروا طلوع الشمس ولا غروبها. ويوافق ما نقلناه عن ابن المنذر وغيره من أنه لا تكره الصلاة بعد الصبح ولا بعد العصر إلا لمن قصد بصلاته طلوع الشمس وغروبها. وقد روى يحيى بن بكير عن الليث عن أبي الأسود عن عروة عن تميم الداري نحو رواية زيد بن خالد وجواب عمر له، وفيه: ولكني أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر إلى المغرب حتى يمروا بالساعة التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى(4/156)
وكنا نصلي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد الغروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما؟ قال: يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا)) . رواه مسلم.
1187- (22) وعن أنس، قال: ((كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب، ابتدروا السواري،
فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت
من كثرة من يصليهما)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيها وهذا أيضاً يدل لما قلناه- انتهى كلام الحافظ. (فقلت) قول المختار بن فلفل الراوي (له) أي لأنس. (أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما) كذا في جميع النسخ الموجودة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص23) ولفظ مسلم: صلاهما أي بصيغة الماضي، وكذا نقله المجد بن تيمية في المنتقى. ولفظ أبي داود: أراكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (قال) أنس. (كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا) قال الطيبي: أي لم يأمر من لم يصل ولم ينه من صلى- انتهى. قلت: وتقريره - صلى الله عليه وسلم - لمن يراه يصلي في ذلك الوقت يدل على عدم كراهة الصلاة فيه ولاسيما والفاعل لعله لذلك عدد كثير من الصحابة، وقد ثبت أمره بذلك، لكن لا على سبيل الوجوب، بل على طريق الندب والاستحباب، كما تقدم في شرح حديث عبد الله بن مغفل في الفصل الأول. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والبيهقي (ج2 ص475) .
1187- قوله: (ابتدروا) أي ناس من الصحابة. (السواري) بتخفيف الياء، جمع سارية، وهي الأسطوانة، أي تسارعوا، واستبقوا إلى الأسطوانات للاستتار بها ممن يمر بين أيديهم لكونهم يصلون فرادى. والمعنى وقف كل من سبق خلف الأسطوانة. (حتى إن الرجل الغريب) بكسر همزة إن، وجوز فتحها. والغريب الأجنبي البعيد عن وطنه. قال ابن حجر: حتى عاطفة لما بعدها على جملة ابتدروا. (فيحسب) بكسر السين وفتحها أي فيظن. (أن الصلاة) أي التي هي فرض المغرب. (قد صليت من كثرة من يصليهما) أي الركعتين. والحديث رواه البخاري في باب كم بين الأذان والإقامة من طريق عمرو بن عامر الأنصاري عن أنس. قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري حتى يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم كذلك يصلون ركعتين قبل المغرب، ورواه في باب الصلاة إلى الأسطوانة بلفظ قال: لقد رأيت كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتدرون السواري عند المغرب. قال القرطبي: ظاهر حديث أنس أن الركعتين بعد أذان المغرب وقبل صلاة المغرب كان أمراً قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عليه، وعملوا به حتى كانوا يستبقون إليه. وهذا يدل على الاستحباب. وكان أصله قوله - صلى الله عليه وسلم -: بين كل أذانين صلاة. وأما كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب بل يدل على أنهما(4/157)
رواه مسلم.
1188- (23) وعن مرثد بن عبد الله، قال: ((أتيت عقبة الجهني، فقلت: ألا أعجبك من أبي تميم
يركع ركعتين قبل صلاة المغرب؟ فقال عقبة: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت:
فما يمنك الآن؟ قال: الشغل)) . رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ليستا من الرواتب. وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث، كذا في الفتح. قلت: قد ثبت فعله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبد الله بن مغفل عند ابن حبان في صحيحه، كما في نصب الراية (ج2 ص141) . وعلى هذا فلا شك في كون الركعتين بعد غروب الشمس وقبل صلاة المغرب مستحباً، لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً وأمراً وتقريراً. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً البخاري، وتقدم لفظه، وأحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص475) .
1188- قوله: (وعن مرثد) بميم مفتوحة وراء ساكنة بعدها مثلثة مفتوحة. (بن عبد الله) اليزني بفتح التحتية والزاي بعدها نون، نسبة إلى يزن، بطن من حمير أبي الخير، المصري، ثقة فقيه. قال في تهذيب التهذيب: كان لا يفارق عقبة بن عامر الجهني، وكان مفتي أهل مصر في زمانه. قال العجلي: مصري تابعي ثقه. وقال ابن سعد: كان ثقة وله فضل وعبادة. وقال ابن شاهين في الثقات: كان عند أهل مصر مثل علقمة عند أهل الكوفة، وكان رجل صدق. ووثقه يعقوب بن سفيان. (أتيت عقبة) بضم العين ابن عامر وإلى مصر. (الجهني) بضم الجيم نسبة إلى جهنية قبيلة. (ألا أعجبك) بضم الهمزة وسكون المهملة. وفي رواية بفتح العين وتشديد الجيم، أي ألا أوقعك في التعجب. (من أبي تميم) بفتح المثناة الفوقية، هو عبد الله بن مالك الجيشاني بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة المصري، مشهور بكنيته، أصله من اليمن تابعي كبير ثقة مخضرم، أسلم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ على معاذ بن جبل باليمن، ثم قدم في زمن عمر، فشهد فتح مصر وسكنها. قال ابن يونس: وقد عده جماعة في الصحابة لهذا الإدراك، مات سنة سبع وسبعين. (يركع) أي يصلي. (ركعتين) زاد أحمد والإسماعيلي حين يسمع أذان المغرب. (إنا) أي معشر الصحابة. (كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في زمانه وبحضرته، كما تقدم في حديث أنس. (فما يمنعك الآن) أي من صلاتهما. (قال الشغل) بضم الشين وسكون الغين وضمها وهو ضد الفراغ، والحديث دليل على مشروعية صلاة الركعتين قبل المغرب. وفيه رد على قول القاضي أبي بكر بن العربي: لم يفعلهما أحد بعد الصحابة، لأن أبا تميم تابعي، وقد فعلهما، قاله الحافظ. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4 ص155) والبيهقي (ج2 ص475) .(4/158)
1189- (24) وعن كعب بن عجرة، قال: ((إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى مسجد بنى عبد الأشهل، فصلى فيه
المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت)) . رواه أبو
داود. وفي رواية الترمذي، والنسائي، ((قام الناس يتنفلون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عليكم بهذه
الصلاة في البيوت)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1189- قوله: (أتى مسجد بني عبد الأشهل) هم من أنصار الأوس. وعبد الأشهل هو ابن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة. (فصلى فيه المغرب) أي فرضه. (رآهم يسبحون) أي يصلون نافلة بدليل الرواية الآتية. (بعدها) أي بعد صلاة المغرب. (فقال) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (هذه) أي الصلاة بعد المغرب أو النافلة مطلقاً، والأول أقرب. ويلزم منه أن يكون للصلاة التي بعد المغرب زيادة اختصاص بالبيت فوق اختصاص مطلق النافلة به والله تعالى أعلم، قاله السندي: (صلاة البيوت) أي الأفضل أن يصلى بها في البيوت، لأنها أبعد من الرياء، وأقرب إلى الإخلاص لله تعالى. قال القاري: والظاهر أن هذا إنما هو لمن يريد الرجوع إلى بيته بخلاف المعتكف في المسجد، فإنه يصليها فيه، ولا كراهة بالاتفاق. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الترمذي والنسائي كما صرح به المصنف فيما بعد، والبيهقي (ج2 ص189) وفي سنده إسحاق بن كعب بن عجرة. قال الذهبي في الميزان: إسحاق بن كعب تابعي مستور، تفرد بحديث سنة المغرب، وهو غريب جداً- انتهى. وقال الحافظ في التقريب: مجهول الحال، قتل يوم الحرة سنة 63. وذكره ابن حبان في الثقات. والحديث قد أعله الترمذي بما تقدم من حديث ابن عمر ثاني أحاديث الفصل الأول فقال: والصحيح ما روي عن ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته، وفيه أن هذا تعليل غير جيد، لأن الحديث الفعلي المؤيد للقولي لا يكون علة له، مع أن له شاهداً بإسناده جيد حسن رواه أحمد في المسند (ج5 ص427) من حديث محمود بن لبيد أخي بنى عبد الأشهل، قال: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بنا المغرب في مسجدنا، فلما سلم قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم للسبحة يعني بعد المغرب، ذكره الهيثمي، وقال رجاله ثقات، ورواه أحمد مرة أخرى في الصفحة بعدها، ثم قال ابنه عبد الله قلت لأبي: إن رجلاً قال من صلى ركعتين بعد المغرب في المسجد لم تجزه إلا أن يصليهما في بيته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذه من صلوات البيوت، قال: من هذا؟ قلت: محمد بن عبد الرحمن. (ابن أبي ليلى) ، قال: ما أحسن ما قال، أو ما أحسن ما انتزع- انتهى. قلت: الأمر في حديث محمود بن لبيد هذا محمول على الندب جمعاً بينه وبين الأحاديث التي تدل على صلاته - صلى الله عليه وسلم - بعد المغرب في المسجد كحديث ابن عباس الآتي وغيره مما ذكرنا في شرح حديث ابن عمر. (عليكم بهذه الصلاة في بيوت) إرشاد لما هو الأفضل والأولى.(4/159)
1190- (25) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب، حتى يتفرق أهل المسجد)) . رواه أبوداود.
1191- (26) وعن مكحول يبلغ به، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: من صلى بعد المغرب قبل أن يتكلم ركعتين)) ـ وفي رواية ـ. ((أربع ركعات)) ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1190- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب) أي أحياناً لما تقدم في باب القراءة من حديث ابن مسعود أنه كان يقرأ فيهما الكافرون والإخلاص. (حتى يتفرق أهل المسجد) ظاهره أنه كان يصليهما في المسجد، فيحمل على أن فعلهما فيه لعذر منعه من دخول البيت. والأظهر أنه يحمل على بيان الجواز. قال محمد بن نصر: لعله أن يكون قد فعل هذا مرة. وقيل: يحمل على وقت الاعتكاف. وقيل: يحتمل أنه كان يفعلهما في البيت، وإن ابن عباس علم بذلك، لأن بيته - صلى الله عليه وسلم - كان متصلاً بالمسجد، ولم يكن بينهما إلا جدار، وكان في الجداًر باب إلى المسجد. (رواه أبوداود) وسكت نه، وأخرجه أيضاً محمد بن نصر في قيام الليل والبيهقي (ج2 ص190) وفي سنده يعقوب بن عبد الله الأشعري أبوالحسن القمي بضم القاف وتشديد الميم. قال النسائي: ليس به بأس. وقال أبوالقاسم الطبراني: كان ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. مات سنة أربع وسبعين ومائة. كذا في تهذيب التهذيب. وقال في التقريب: صدوق يهم. خرج له البخاري تعليقاً في الطب. وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد المغرب ركعتين يطيل فيهما القراءة حتى يتصدع أهل المسجد، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص230) ، وقال: فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف.
1191- قوله: (وعن مكحول) الشامي الدمشقي أبي عبد الله التابعي المشهور. (يبلغ به) الباء للتعدية أي يبلغ بالحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرفعه إليه. فالحديث مرسل، لأن مكحولاً تابعي، وأسقط من السند ذكر الواسطة بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكره محمد بن نصر في قيام الليل بلفظك عن مكحول أنه بلغه. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال من صلى بعد المغرب) أي فرضه. (قبل أن يتكلم) أي بكلام الدنيا. (ركعتين) الظاهر أنهما سنة صلاة المغرب البعدية. (وفي رواية أربع ركعات) ركعتان منها سنتها البعدية، وركعتان من سنة وقت الغفلة، فقد روى الطبراني في الكبير عن الأسود بن يزيد، قال قال عبد الله بن مسعود: نعم ساعة الغفلة، يعني الصلاة فيما بين المغرب والعشاء. قال الهيثمي: فيه جابر الجعفي، وفيه كلام كثير، وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: ساعة ما أتيت عبد الله بن مسعود فيها إلا وجدته يصلي ما بين المغرب والعشاء، فسألت عبد الله. (عن ذلك)(4/160)
رفعت صلاته في عليين)) ، مرسلاً.
1192- (27) وعن حذيفة نحوه، وزاد: فكان يقول: ((عجلوا الركعتين بعد المغرب، فإنها ترفعان
مع المكتوبة)) . رواهما رزين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقال: إنها ساعة غفلة. قال الهيثمي: وفيه ليث بن أبي سليم، وفيه كلام. وتسمية الصلاة بين العشائين صلاة الغفلة اصطلاح للشافعية سموها في كتبهم أخذاً من قول ابن مسعود. قال القاري: والأولى أن يسمى الصلاة ما بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين، فقد روى محمد بن نصر عن محمد بن المنكدر مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى ما بين المغرب والعشاء فإنها من صلاة الأوابين. وهذا لا يعارض ما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال، فإنه لا مانع أن يكون كل من الصلاتين صلاة الأوابين. (رفعت صلاته) أي نافلته أو مع فريضته. (في عليين) كناية عن غاية قبولها. وعظيم ثوابها. وعليون جمع علي اسم لمقام في السماء السابعة، تصعد إليه أعمال الصالحين وأرواحهم. والحديث يدل على استحباب تعجيل الركعتين الراتبتين بعد المغرب. ويدل عليه أيضاً حديث حذيفة الآتي، وهو الذي فهمه محمد بن نصر حيث بوب عليه: باب تعجيل الركعتين بعد المغرب. (مرسلاً) أي يبلغ به حال كون الحديث مرسلاً، لأن مكحولاً تابعي قال ابن حجر: والإرسال هنا لا يضر، لأن المرسل كالضعيف الذي لم يشتد ضعفه، يعمل بهما في فضائل الأعمال- انتهى.
1192- قوله: (وعن حذيفة) أي مروي عنه. (نحوه) أي نحو حديث مكحول بمعناه دون لفظه. (وزاد) أي حذيفة. (فكان يقول) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عجلوا الركعتين بعد المغرب) أي بالمبادرة إليهما. وقيل: بالتخفيف فيهما. وقيل: لا منع من الجمع. والمراد بهما سنته بلا خلاف. (فإنهما ترفعان مع المكتوبة) فإن السنة تابعة للفرض ومكملة له وقت العرض. (رواهما رزين) نقل المنذري في الترغيب حديث مكحول وقال: ذكره رزين ولم أره في الأصول- انتهى. قلت: الحديثان أخرجهما محمد بن نصر في باب تعجيل الركعتين بعد المغرب من كتابه قيام الليل، قال: حدثنا إسحاق أخبرنا بقية حدثني زيد العمى عن أبي العالية عن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: عجلوا الركعتين بعد المغرب، فإنهما ترفعان مع المكتوبة، قال محمد بن نصر: هذا حديث ليس بثابت، وقد روي عن حذيفة من طريق آخر خلاف هذا عن حذيفة، قال: كانوا يحبون تأخير الركعتين بعد المغرب حتى كان بعض الناس تفاجئهم الصلاة ولم يصلوهما، فعجلهما الناس، وهذا أيضاً ليس بثابت، قال: وحدثنا محمد بن يحيى أخبرنا أبوصالح حدثني الليث حدثني يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر عن عمر بن عبد العزيز عن مكحول أنه حدثه أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليين- انتهى. وروى الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس مرفوعاً: من صلى أربع(4/161)
وروى البيهقي الزيادة عنه نحوها في شعب الإيمان.
1193- (28) وعن عمر بن عطاء قال: ((إن نافع بن جبير أرسله إلى السائب يسأله عن شيء رآه
منه معاوية في الصلاة. فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم الإمام قمت
في مقامي، فصليت، فلما دخل أرسل إليّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ركعات بعد المغرب قبل أن يتكلم رفعت له في عليين، وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى، وهي خير من قيام نصف الليلة. قال العراقي: وفي إسناده جهالة ونكارة، وهو أيضاً من رواية عبد الله بن أبي سعيد، فإن كان الذي يروي الحسن ويروي عنه يزيد بن هارون فقد جهله أبوحاتم، وذكره ابن حبان في الثقات، وإن كان أبا سعيد المقبري فهو ضعيف، قاله الشوكاني. (وروى البيهقي الزيادة) أي المذكورة. (عنه) أي حذيفة. (نحوها) بدل أي روى نحو زيادة رزين عنه. (في شعب الإيمان) فتتقوى بذلك رواية رزين، قاله ابن حجر. قلت: وقد تقدم أنه روى الحديثين محمد بن نصر، وقال: حديث حذيفة غير ثابت، وسكت عن مرسل مكحول.
1193- قوله: (وعن عمر) بضم العين. (بن عطاء) بن أبي الخوار بضم المعجمة وتخفيف الواو المكي مولى بنى عامر تابعي ثقة. ووقع في النسخ الحاضرة عندنا عمرو أي بفتح أوله، وهو غلط. (أن نافع بن جبير) بضم الجيم مصغراً ابن مطعم النوفلي المدني أبومحمد، ويقال أبوعبد الله ثقة فاضل من الطبقة الوسطى من التابعين، مات سنة تسع وتسعين. (أرسله) أي عمر بن عطاء. (إلى السائب) بن يزيد ابن أخت نمر الصحابي رضي الله عنه. (يسأله) أي يسأل عمر بن عطاء السائب. (عن أي شيء رآه) أي ذلك الشيء. (منه) أي من السائب. (فقال) أي السائب. (نعم) قال الطيبي: "نعم" حرف إيجاب وتقرير لما سأله نافع من قوله: هل رآى منك معاوية شيئاً في الصلاة فأنكر عليك، والمذكور معناه (صليت معه) أي مع معاوية. (الجمعة في المقصورة) أي في مقصورة المسجد. قال القاري: موضع معين في الجامع مقصور للسلاطين. قال النووي: فيه دليل على جواز اتخاذها في المسجد إذا رآها ولي الأمر مصلحة، قالوا: وأول من عملها معاوية بن أبي سفيان حين ضربه الخارجي. قال القاضي: واختلفوا في المقصورة، فأجازها كثيرون من السلف وصلوا فيها، منهم الحسن والقاسم بن محمد وسالم وغيرهم، وكرهها ابن عمرو الشعبي وإسحاق وأحمد، وكان ابن عمر إذا حضرت الصلاة، وهو في المقصورة خرج منها إلى المسجد. قال القاضي: وقيل إنما يصح فيها الجمعة إذا كانت مباحة لكل أحد، فإن كانت مخصوصة ببعض الناس ممنوعة عن غيرهم لم تصح فيها الجمعة لخروجها عن الحكم الجامع. (فلما سلم الإمام) أي خرج عن صلاة الجمعة بالسلام. (قمت في مقامي) أي الذي صليت فيه الجمعة. (فصليت) فيه سنة الجمعة. (فلما دخل) أي معاوية بيته. (أرسل إلي) رجلاً(4/162)
فقال: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بذلك أن لا نوصل بصلاة حتى نتكلم أو نخرج)) . رواه مسلم.
1194- (29) وعن عطاء، قال: ((كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين، ثم يتقدم فيصلي أربعاً. وإذا كان في المدينة صلى الجمعة، ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين، ولم يصل في المسجد. فقيل له، فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يدعوني فحضرته (فقال لا تعد) من العود. (لما فعلت) من إتيان السنة في مكان فعل الجمعة بلا فصل، أي لا تفعل ذلك مرة أخرى بل. (إذا صليت الجمعة) وفرغت منها. ذكر الجمعة على سبيل المثال، وإلا فالحكم غيرها من الصلاة كذلك كما تقدم. (فلا تصلها) بفتح فكسر وسكون اللام من الوصل أي لا توصلها. (بصلاة) أخرى نافلة أو قضاء. (حتى تكلم) بحذف إحدى التائين أي تتكلم. (أو تخرج) أي من المقام الذي صليت فيه الجمعة. قال القاري: تخرج أي حقيقة أو حكماً بأن تتأخر عن ذلك المكان. (أمرنا بذلك) أي بما تقدم وبيانه. (أن لا نوصل بصلاة) كذا في جميع النسخ الحاضرة. ووقع في صحيح مسلم: أن لا نوصل صلاة بصلاة. وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص30) عن مسلم. وفي أبي داود: أن لا توصل صلاة بصلاة. (حتى نتكلم أو نخرج) فيه دليل على أن النافلة الراتبة وغيرها يستحب أن يتحول لها عن موضع الفريضة إلى موضع آخر، وأفضله التحول إلى بيته، وإلا فموضع آخر من المسجد أو غيره ليكثر مواضع سجوده، ولتنفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة. وقوله: "حتى نتكلم" دليل على أن الفصل بينهما يحصل بالكلام أيضاً، ولكن بالانتقال أفضل لما ذكر، قاله النووي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والبيهقي (ج2 ص191، ج3ص240) .
1194- قوله: (عن عطاء) أي ابن أبي رباح. (كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم) أي من مكان صلى فيه، فيكون هذا التقدم بمنزلة الخروج المذكور في حديث معاوية المتقدم. (ثم يتقدم) أي من المكان الذي صلى فيه ركعتي السنة. (فيصلي أربعاً) كذا في جميع النسخ الحاضرة، ثم يتقدم فيصلي، أي بلفظ المضارع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص29) . وفي سنن أبي داود: ثم تقدم فصلى أي بلفظ الماضي. وفعل ابن عمر هذا يؤيد قول أبي يوسف: أن سنة الجمعة ست، لكنه يقول إن تقديم الأربع أولى. (فصلى ركعتين) أي في بيته. (ولم يصل في المسجد) هذا تصريح بما علم ضمنا. (فقيل له) أي سئل عن سبب ذلك. (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله) يعني وأنا أفعله تبعاً له. وظاهر هذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفرق بين الحرمين، فإذا كان بمكة صلى في المسجد بعد الجمعة ست ركعات، وإذا كان بالمدينة رجع بعد الجمعة إلى بيته ثم صلى فيه ركعتين،(4/163)
رواه أبوداود. وفي روية الترمذي، قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلى بعد ذلك أربعاً.
(31) باب صلاة الليل
{الفصل الأول}
1195- (1) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولم يصل في المسجد، لكن قال العراقي: ليس في ذلك، أي في حديث ابن عمر هذا علم ولا ظن أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل بمكة ذلك، وإنما أراد ابن عمر رفع فعله بالمدينة فحسب، لأنه لم يصح أنه صلى الجمعة بمكة، قال: والذي صح من فعله هو صلاة ركعتين في بيته بعد الجمعة. قلت: لا شك أن الست لم تثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - بحديث صحيح صريح، نعم ثبتت عن ابن عمر من فعله، وروي عن علي أنه أمر بها. قال الشوكاني: اختلف هل الأفضل فعل سنة الجمعة في البيت أو في المسجد؟ فذهب إلى الأول الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: أفضل صلاة المرء في بيته إلا مكتوبة. وأما صلاة ابن عمر في مسجد مكة فقيل لعله كان يريد التأخر في مسجد مكة للطواف بالبيت، فيكره أن يفوته بمضيه إلى منزله لصلاة سنة الجمعة، أو أنه يشق عليه الذهاب إلى منزله ثم الرجوع إلى المسجد للطواف، أو أنه كان يرى النوافل تضاعف بمسجد مكة دون بقية مكة، أو كان له أمر متعلق به- انتهى. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3 ص240- 241) وسكت عنه أبوداود والمنذري. وقال العراقي: إسناده صحيح. (وفي رواية الترمذي) المختصرة. (قال) أي عطاء بن أبي رباح. (ثم صلى بعد ذلك) أي بعدما ذكر من الركعتين. (أربع) أي صلى ست ركعات. وأخرج أبوداود هذه الرواية المختصرة بلفظ: أي عطاء رأى ابن عمر يصلي بعد الجمعة فينماز عن مصلاه الذي صلى فيه الجمعة قليلاً غير كثير قال: فيركع ركعتين، قال: ثم يمشي أنفس من ذلك فيركع أربع ركعات. قلت: لعطاء كم رأيت ابن عمر يصنع ذلك؟ قال مراراً- انتهى. وأخرجه أيضاً الطحاوي، هذا ولم يذكر البغوي ولا المصنف حديثاً ولا أثرا في التطوع والسنة قيل الجمعة. وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث سلمان وأبي هريرة من باب التنظيف والتبكير من أبواب الجمعة.
(باب صلاة الليل) قال القاري: أي في قيام الليل من التهجد وغيره- انتهى. واعلم أن صلاة الليل وقيام الليل وصلاة التهجد عبارة عن شيء واحد، واسم لصلاة يبتدأ وقتها من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فلا فرق بين الألفاظ الثلاثة شرعاً. وقيل: صلاة التهجد مختصة بما يكون في آخر الليل بعد النوم. والظاهر هو الأول قال ابن الفارس: المتهجد المصلي ليلاً. وقال كراع: التهجد صلاة الليل خاصة.
1195- قوله: (يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر) هذا بظاهره يشمل ما إذا كان بعد(4/164)
إحدى عشرة ركعة، يسلم من ركعتين، ويوتر بواحدة، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نوم أم لا. (إحدى عشرة ركعة) أي في غالب أحواله. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله إحدى عشرة ركعة وقد جاء ثلاث عشرة ركعة. فيحمل على أن هذا كان أحياناً، أو لعله مبني على عد الركعتين الخفيفتين اللتين يبدأ بهما صلاة الليل من صلاة الليل أحياناً، وتركه أخرى. وعلى كل تقدير فهذه الهيئة لصلاة الليل لا بد من حملها على أنها كانت أحياناً، وإلا فقد جاءت هيئات أخرى في قيام الليل-انتهى. (يسلم من كل ركعتين) فيه أن الأفضل في صلاة الليل أن يسلم من كل ثنتين، ويدل عليه أيضاً قوله: صلاة الليل مثنى مثنى. (ويوتر بواحدة) فيه أن أقل الوتر ركعة وأن الركعة الفردة صلاة صحيحة، وهو مذهب الأئمة الثلاثة، وهو الحق. وقال أبوحنيفة: لا يصح الإيتار بواحدة ولا تكون الركعة الواحدة صلاة قط. قال النووي: والأحاديث الصحيحة ترد عليه. قال الحافظ: حمل الطحاوي هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يوتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل أو الفصل- انتهى. قلت: حديث النهي عن البتيراء أخرجه ابن عبد البر في التمهيد، وفيه عثمان بن محمد بن ربيعة، وهو متكلم فيه. قال ابن القطان: الغالب على حديثه الوهم، مع أن قول عائشة: يسلم من كل ركعتين، ظاهر في الفصل فإنه يدخل في الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع. (فيسجد سجدة من ذلك) الفاء لتفصيل المجمل يعني فيسجد كل واحدة من سجدات تلك الركعات طويلة. (قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية) وفي رواية للبخاري: كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته تعني بالليل، فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ الخ. وهي ظاهرة في أن المراد بيان طول سجود ركعات صلاة الليل، لا قدر سجدة منفردة بعد الوتر، كما فهم النسائي وغيره. وفي رواية أخرى للبخاري: يسجد السجدة من ذلك أي بغير الفاء. قال القسطلاني: الألف واللام لتعريف الجنس. فيشمل سجود لإحدى عشرة، والتاء فيه لا تنافي ذلك. والتقدير يسجد سجدات تلك الركعات طويلة قدر ما، أي بقدر ما، ويصح جعله صفا لمصدر محذوف، أي سجودا قدر ما، أو يمكث مكثا قدر ما. (قبل أن يرفع رأسه) من السجدة أي قبل إتمام السجود، وكان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، كما تقدم في باب الركوع من حديث عائشة، وعنها كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في صلاة الليل في سجوده: سبحانك لا إله إلا أنت. رواه أحمد في مسنده بإسناد رجاله ثقات. والحديث فيه دليل على استحباب تطويل السجود في قيام الليل، وقد بوب عليه البخاري باب طول السجود في قيام الليل. (فإذا سكت) بالتاء الفوقية. (المؤذن) أي فرغ. (من صلاة الفجر) أي من أذانها. (وتبين له الفجر) أي ظهر وانتشر. قال الطيبي: يدل على أن التبين لم يكن(4/165)
قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة، فيخرج.
متفق عليه.
1196- (2) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتى الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الأذان، وإلا لما كان لذكر التبين فائدة. (قام فركع ركعتين) هما سنة الفجر. (خفيفتين) يقرأ فيهما الكافرون والإخلاص ونحوهما. (ثم اضطجع) أي في بيته للاستراحة عن تعب قيام الليل ليصلي فرضه على نشاط، أو ليفصل بين الفرض والنفل بالضجعة. واستدل به على استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر في البيت دون المسجد. قال الحافظ: ذهب بعض السلف إلى استحبابها أي الضجعة في البيت دون المسجد، وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا بأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد. أخرجه ابن أبي شيبة- انتهى. قال شيخنا في شرح الترمذي: حديث أبي هريرة يعني الذي يأتي في آخر الفصل الثاني بلفظ: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه مطلق، فبإطلاقه يثبت استحباب الاضطجاع في البيت وفي المسجد، فحيث يصلي سنة الفجر يضطجع هناك، إن صلى في البيت فيضطجع في البيت، وإن صلى في المسجد ففي المسجد، وإنما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله في المسجد، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سنة الفجر في البيت فكان يضطجع في البيت- انتهى. (على شقه) أي جنبه (الأيمن) جرياً على عادته الشريفة في حبه التيامن في شأنه كله أو للتشريع، لأن النوم على الأيسر يستلزم استغراق النوم في غيره عليه السلام بخلافه هو، لأن عينه تنام ولا ينام قلبه، فعلى الأيمن أسرع للإنتباه بالنسبة لنا، وهو نوم الصالحين. قال القسطلاني: لا يقال حكمته أن لا يستغرق في النوم، لأن القلب في اليسار، ففي النوم عليه راحة له فيستغرق فيه، لأنا نقول: صح أنه عليه الصلاة والسلام كان تنام عينه ولا ينام قلبه، نعم يجوز أن يكون فعله لإرشاد أمته وتعليمهم. (حتى يأتي المؤذن للإقامة) أي يستأذنه فيها لأنها منوطة بنظر الإمام. (فيخرج) أي للصلاة. (متفق عليه) واللفظ لمسلم إلا قوله: فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإن البخاري إنفرد به، وإلا قوله: يسلم من كل ركعتين، فإن لفظ مسلم يسلم بين كل ركعتين، وإلا قوله: فيخرج فإنه ليس في صحيح مسلم بل ولا في البخاري أيضاً، وبهذا تعلم أن السياق الذي ذكره المصنف تبعاً للبغوي ليس للبخاري ولا لمسلم، ثم رأيت المرقاة قال فيه متفق عليه أي بمجموع الحديث وإن لم يكن بهذا السياق في حديث واحد، كذا نقله ميرك عن التصحيح والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص7، 32) .
1196- قوله: (إذا صلى ركعتي الفجر) أي سنته. (فإن كنت مستيقظة حدثني) قال الطيبي: الشرط مع الجزاء جزاء الشرط الأول، ويجوز أن يكون جزاء الشرط الأول محذوفاً، والفاء تفصيلية، والمعنى إذا(4/166)
وإلا اضطجع)) . رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صلاهما أتاني، فإن كنت مستيقظة حدثني ولا تضاد بين هذا وبين ما في سنن أبي داود من طريق مالك عن سالم بن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة أن كلامه عليه الصلاة والسلام لها كان بعد فراغه من صلاة الليل، وقبل أن يصلي ركعتي الفجر، لاحتمال أن يكون كلامه لها كان قبل ركعتي الفجر وبعدهما. (وإلا) أي وإن لم أكن مستيقظة. (اضطجع) للراحة من تعب القيام أو ليفصل بين الفرض والنفل بالحديث أو الاضطجاع. وظاهره أنه كان يضطجع إذا لم يحدثها، وإذا حدثها لم يضطجع، وإلى هذا جنح البخاري، كما سيأتي. وكذا جنح إليه ابن خزيمة حيث ترجم له الرخصة في ترك الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. واستدل به بعضهم على عدم استحباب الضجعة بعد ركعتي الفجر. وأجيب بأنه لا يلزم من كونه ربما تركها عدم الاستحباب، بل يدل تركه لها أحياناً على عدم الوجوب، وأن الأمر بها في حديث أبي هريرة المذكور محمول على الندب والإرشاد، وقد بوب البخاري على حديث عائشة هذا الباب: من تحدث بعد ركعتي الفجر ولم يضطجع. قال الحافظ: أشار بهذه الترجمة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يداوم عليها. وبذلك احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك في حديث أبي هريرة على الاستحباب. وفائدة ذلك الراحة والنشاط لصلاة الصبح. وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للمتهجد. وبه جزم ابن العربي. وقيل: إن فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح. وعلى هذا فلا اختصاص- انتهى. ويدل على عدم الاختصاص حديث أبي هريرة، فإنه مطلق يشمل المتهجد وغيره. فالحق أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مشروع ومستحب مطلقاً. وسيأتي مزيد بحث فيه في شرح حديث أبي هريرة. قال النووي: وفيه أي في تحديثه - صلى الله عليه وسلم - لعائشة بعد ركعتي الفجر دليل على إباحة الكلام بعد سنة الفجر وهو مذهبنا ومذهب مالك والجمهور. وقال القاضي: وكره الكوفيون. وروى عن ابن مسعود وبعض السلف: إنه وقت الاستغفار، والصواب الإباحة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكونه وقت استحباب الاستغفار لا يمنع من الكلام- انتهى. وقال القسطلاني: وفيه أنه لا بأس بالكلام المباح بعد ركعتي الفجر. قال ابن العربي: ليس في السكوت في ذلك الوقت فضل مأثور، إنما ذلك بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس-انتهى. قلت: أثر ابن مسعود رواه الطبراني في الكبير عن عطاء عنه، وكذا روي عن أبي عبيدة عنه، هو منقطع، لأن عطاء وأبا عبيدة لم يسمعا من ابن مسعود، وإن صح فيحمل على أن القوم المتحدثين الذين أنكر عليهم ابن مسعود لعلهم كانوا يتكلمون بما لا يجدي نفعاً، فنهاهم عن ذلك. والسكوت عن مثل هذا ليس بمختص بهذا الوقت، وإن لم يحتمل على هذا فالتحديث بالكلام المباح ثابت من الشارع. وكلام الصحابي لا يوازن كلام الشارع. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص45) والبخاري ولفظه عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى. وفي رواية: كان يصلي ركعتين، فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة- انتهى. فكان ينبغي للمصنف أن يقول: متفق عليه، واللفظ لمسلم.(4/167)
1197- (3) وعنها قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن)) متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1197- قوله: (إذا صلى ركعتي الفجر) أي سنته. (اضطجع) أي حتى يأتيه المؤذن فإذا أتي خرج إلى الصلاة. (على شقه الأيمن) لأنه كان يحب التيامن في شأنه كله أو تشريع لنا، لأن القلب في جهة اليسار، فلو اضطجع عليه لاستغراق نوماً لكونه أبلغ في الراحة بخلاف اليمين فيكون معلقاً فلا يستغرق. وهذا بخلافه - صلى الله عليه وسلم -: لأن عينه تنام ولا ينام قلبه. وفيه كالحديثين المتقدمين دليل على استحباب الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وقد ورد فيه أحاديث أخرى: قال ابن حجر: ومن هذه الأحاديث أخذ الشافعي أنه يندب لكل أحد المتهجد وغيره أن يفصل بين سنة الصبح وفرضه بضجعة على شقه الأيمن، ولا يترك الاضطجاع ما أمكنه، بل في حديث صحيح على شرطهما أنه عليه السلام أمر بذلك وأن المشي إلى المسجد لا يجزىء عنه- انتهى. ويشير بذلك إلى ما روى أبوداود عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه، فقال له مروان بن الحكم: أما يجزي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه؟ قال: لا- انتهى. ولذلك استحب البغوي في شرح السنة الاضطجاع بخصوصه، واختاره في شرح المهذب. قال الحافظ: وأما إنكار ابن مسعود الاضطجاع، وقول إبراهيم النخعي: هي ضجعة الشيطان، كما أخرجه ابن أبي شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهما الأمر بفعله. وكلام ابن مسعود يدل على أنه إنما أنكر تحتمه، فإنه قال في آخر كلامه إذا سلم فقد فصل. وكذا ما حكي عن ابن عمر أنه بدعة، فإنه شذ بذلك حتى روى عنه أنه أمر بحصيب من اضطجع. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع. وأرجح الأقوال مشروعيته للفصل لكنه بعينه- انتهى. وقال السندي: قد جاء الأمر بهذا الاضطجاع فهو أحسن وأولى. وما ورد من إنكاره عن بعض الفقهاء لا وجه له أصلاً، ولعلهم ما بلغهم الحديث، وإلا فما وجه إنكارهم- انتهى. (متفق عليه) لم أجد هذا الحديث بهذا السياق في صحيح مسلم. وقد أخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والبيهقي. واعلم أنه اختلفت أحاديث عائشة في ذكر محل الاضطجاع ففي أحاديثها الثلاثة المتقدمة أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وروى مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة الاضطجاع قبلهما. وكذا في حديث ابن عباس الآتي الاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر. وقد أشار القاضي عياض وغيره إلى أن رواية الاضطجاع بعدهما مرجوحة، فتقدم رواية الاضطجاع قبلهما. قال الشوكاني: لا نسلم أرجحية رواية الاضطجاع بعد صلاة الليل، وقبل ركعتي الفجر على رواية الاضطجاع بعدهما، بل رواية الاضطجاع بعدهما أرجح. والحديث من رواية عروة عن عائشة. ورواه عن عروة محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة والزهري، ففي رواية محمد بن عبد الرحمن إثبات الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وهي في صحيح البخاري، ولم تختلف الرواية عنه في ذلك، واختلف الرواة عن الزهري، فقال مالك في أكثر الروايات عنه: إنه كان إذا فرغ من صلاة(4/168)
1198- (4) وعنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر، وركعتا الفجر)) . رواه مسلم.
1199- (5) وعن مسروق، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الليل اضطجع على شقه الأيمن- الحديث، ولم يذكر الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. وقال معمر ويونس وعمرو بن الحارث والأوزاعي وابن أبي ذئب وشعيب بن أبي حمزة عن الزهري عن عروة عن عائشة: كان إذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن. وهذه الرواية اتفق عليها الشيخان، فرواها البخاري من رواية معمر، ومسلم من رواية يونس بن يزيد وعمرو بن الحارث. قال البيهقي (ج3 ص44) عقب ذكرهما: والعدد أولى بالحفظ من الواحد، قال وقد يحتمل أن يكونا محفوظين، فنقل مالك أحدهما ونقل الباقون الآخر، قال وقد اختلف فيه أيضاً على ابن عباس، قال: وقد يحتمل مثل ما احتمل في رواية مالك. وقال النووي: إن حديث عائشة وحديث ابن عباس لا يخالفان حديث أبي هريرة، فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلهما أن لا يضطجع بعدهما، ولعله - صلى الله عليه وسلم - ترك الاضطجاع بعدهما في بعض الأوقات بيانا للجواز، ويحتمل أن يكون المراد بالاضطجاع قبلهما نومه - صلى الله عليه وسلم - بين صلاة الليل وصلاة الفجر، كما ذكره الحافظ- انتهى كلام الشوكاني.
1198- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل) أي في الليل. (ثلاث عشرة) بالبناء على الفتح وسكون شين عشرة، كما أجازه الفراء. (ركعة) يسلم من كل ركعتين، كما تقدم. (منها) أي من ثلاث عشرة. (الوتر) أي ركعة. (وركعتا الفجر) أي سنته وهذا لفظ البخاري من طريق حنظلة عن القاسم بن محمد عن عائشة. وفي رواية مسلم من هذا الوجه: كانت صلاته من الليل عشر ركعات، ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة. وهذا كان غالب عادته - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري من رواية أبي سلمة عنها ما يدل على أن ذلك كان أكثر ما يصليه في الليل. ولفظه: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة- الحديث قال ابن الملك: وإنما ألحق الوتر ركعتي الفجر بالتهجد، لأن الظاهر أنه عليه السلام كان يصلي الوتر آخر الليل ويبقى مستيقظاً إلى الفجر، ويصلي الركعتين أي سنة الفجر متصلاً بتهجده ووتره. (رواه مسلم) قلت: بل متفق عليه، واللفظ للبخاري. ففي قوله: رواه مسلم، نظر ظاهر. وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3 ص6، 7) .
1199- قوله: (عن مسروق) هو ابن الأجدع بن مالك الهمداني الوداعي أبوعائشة الكوفي، ثقة فقيه عابد مخضرم من كبار التابعين. قال الشعبي: ما رأيت أطلب للعلم منه، وكان أعلم بالفتوى من شريح، وكان شريح يستشيره، وكان مسروق لا يحتاج إلى شريح. وقال علي بن المديني: ما أقدم على مسروق من أصحاب عبد الله أحداً، صلى خلف أبي بكر، ولقي عمر وعلياً، ولم يرو عن عثمان شيئاً، مات بالكوفة سنة(4/169)
سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل، فقالت: سبع، وتسع، وإحدى عشرة ركعة،
سوى ركعتي الفجر)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثلاث وستين، وله ثلاث وستون سنة. قال السمعاني: سمي مسروقاً، لأنه سرق إنسان في صغره. ثم وجد، وغير عمر اسم أبيه إلى عبد الرحمن. فأثبت في الديوان مسروق بن عبد الرحمن مكان أجدع. وقال في تهذيب التهذيب (ج10 ص110) : قال مجالد عن الشعبي عن مسروق قال لي عمر: ما اسمك؟ قلت: مسروق بن الأجدع قال: الأجدع شيطان أنت مسروق بن عبد الرحمن- انتهى. (سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي عن عدد صلاته. (فقالت) تارة. (سبع و) تارة. (تسع و) أخرى. (إحدى عشرة) أي كل مع الوتر. ووقع ذلك منه في أوقات مختلفة بحسب اتساع الوقت وضيقه أو عذر من مرض أو غيره أو كبر سنه. وفي النسائي عنها: أنه كان يصلي من الليل تسعاً، فلما أسن صلى سبعاً. قال الحافظ: أما ما أجابت به عائشة مسروقاً فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة، فتارة كان يصلي سبعاً وتارة تسعاً وتارة إحدى عشرة. وأما حديث القاسم عنها فمحمول على أن ذلك كان غالب حاله- انتهى. (ركعة) كذا وقع في جميع النسخ، وكذا وقع في جامع الأصول (ج6 ص63) تمييز لإحدى عشرة. وفي البخاري: إحدى عشرة أي بدون لفظ ركعة. (سوى ركعتي الفجر) فالمجموع ثلاث عشرة ركعة. وأما ما رواه الزهري عن عروة عنها عند البخاري في باب ما يقرأ في ركعتي الفجر بلفظ: كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء للصبح ركعتين خفيفتين الخ. وظاهره يخالف ما ذكر، فأجيب باحتمال أن يكون أضافت إلى صلاة الليل سنة العشاء لكونه كان يصليها في بيته، أو ما كان يفتتح به صلاة الليل، كما سيأتي. قال الحافظ: وهذا أرجح في نظري، لأن رواية أبي سلمة التي دلت على الحصر في إحدى عشرة جاء في صفتها عند البخاري وغيره: يصلي أربعاً ثم يصلي أربعاً ثم يصلي ثلاثاً، فدل على أنها لم تعرض للركعتين الخفيفتين، وتعرضت لهما في رواية الزهري، والزيادة من الحافظ مقبولة، وسيأتي في باب الوتر حديث عبد الله بن أبي قيس عن عائشة بلفظ: كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة. قال الحافظ: وهذا أصح ما وقفت عليه من ذلك، وبه يجتمع بين ما اختلف عن عائشة من ذلك، والله أعلم. قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب، وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحداً أو أخبرت عن وقت واحد. والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز- انتهى. وقال النووي: نقلاً عن القاضي عياض بعد ذكر رواياتها المختلفة في ذلك يحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة هو الأغلب،(4/170)
رواه البخاري.
1200- (6) وعن عائشة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين
خفيفتين)) . رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وباقي رواياتها إخبار عنها بما كان يقع نادراً في بعض الأوقات، فأكثر خمس عشرة بركعتي الفجر، وأقله سبع، وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قرأة أو لنوم أو عذر مرض وغيره، أو في بعض الأوقات عند كبر السن كما قالت: فلما أسن صلى سبع ركعات، أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل وتعد ركعتي الفجر تارة وتحذفهما تارة، أو تعد أحدهما، وقد تكون عدت راتبة العشاء مع ذلك تارة، وحذفتها تارة. قال القاضي: ولا خلاف أنه ليس لذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد فيها زاد الأجر، وإنما الخلاف في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما اختاره لنفسه- انتهى. وقال الباجي بعد ذكر رواية عائشة أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر، وروايتها أنه كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة ما لفظه: ورواية عائشة في ذلك تحتمل وجهين: أحدهما أنه كان - صلى الله عليه وسلم - تختلف صلاته بالليل، لأنه لا حد صلاة الليل، فمرة كانت تخبر بما شاهدت منه في وقت ما، ومرة تخبر بما شاهدت منه - صلى الله عليه وسلم - في غيره، وإنما قالت: إنه - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة، تريد صلاته المعتادة الغالبة وإن كان ربما يزيد في بعض الأوقات على ذلك، فقصدت في تلك الرواية الإخبار عن غالب صلاته - صلى الله عليه وسلم -، وذكرت في هذه الرواية أكثر ما كان تنتهي إليه صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الأغلب. والوجه الثاني أن تكون رضي الله عنها تقصد في بعض الأوقات الإخبار عن جميع صلاته في ليلة، وتقصد في وقت ثان إلى ذكر نوع من صلاته في الليل. وجميع صلاته النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل في رواية عائشة خمس عشرة مع الركعتين الخفيفتين وركعتي الفجر، فعائشة كانت تخبر بالأمر على وجوه شتى، ولعله أن يكون ذلك على قدر أسباب السؤال- انتهى. (رواه البخاري) في باب كيف كان صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبواب التهجد.
1200- قوله: (إذا قام من الليل ليصلي) أي التهجد. (افتتح صلاته بركعتين خفيفتين) قال الطيبي: ليحصل بهما نشاط الصلاة ويعتاد بهما، ثم يزيد عليهما بعد ذلك- انتهى. وفي حديث أبي هريرة الآتي الأمر بذلك. وهذا دليل على استحباب افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين لينشط بهما لما بعدهما. والظاهر أن الركعتين من جملة التهجد، وقد تقدم أن هاتين الركعتين هما اللتان إذا ضمتهما عائشة قالت في حكايتها لصلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل: إنها ثلاث عشرة، وإذا لم تضمهما قالت إحدى عشرة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج3ص5، 6) .(4/171)
1201- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم من الليل، فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين)) . رواه مسلم.
1202- (8) وعن ابن عباس، قال: ((بت عند خالتي ميمونة ليلة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها، فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة، ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد، فنظر إلى السماء فقرأ: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1201- قوله: (فليفتتح) من الافتتاح أي فليبدأ. وفي بعض النسخ: فليفتح أي من الفتح. والأول هو الصواب، لأنه موافق لما في المصابيح وصحيح مسلم، وكذا نقله المجد ابن تيمية في المنتقى، والجزري في جامع الأصول (ج7 ص72) وكذا وقع عند البيهقي (ج3 ص6) . (الصلاة) كذا وقع في جميع النسخ، وهكذا نقله الجزري. وفي المصابيح وصحيح مسلم والمنتقى صلاته أي بالإضافة إلى الضمير. (بركعتين خفيفتين) زاد أبوداود في رواية: ثم ليطول بعد ما شاء. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص6) .
1202- قوله: (بت) بكسر الباء وتشديد التاء على صيغة المتكلم من البيتوتة. (عند خالتي ميمونة) بنت الحارث أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. (والنبي - صلى الله عليه وسلم - عندها) أي في نوبتها. (فتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهله ساعة) فيه جواز الكلام المباح مصلحة بعد العشاء، وإذا جاز في المباح ففي المستحب كالموعظة والعلم من طريق الأولى. (ثم رقد) أي نام. وفي رواية: فاضطجعت في عرض الوسادة أي المخدة أو الفراش، واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله في طولها. (فلما كان) أي بقي فكان تامة. (ثلث الليل الآخر) بالرفع على أنه صفة ثلاث أي جميعه. (أو بعضه) أي بعض الثلث أي أقل منه. (قعد) أي فمسح النوم عن وجهه بيده. وفي رواية: فنام حتى انتصف الليل أو قريباً منه، فاستيقظ وهذه الرواية، كما ترى، مخالفة لرواية الكتاب. قال الحافظ: يجمع بينهما بأن الاستيقاظ وقع مرتين: ففي الأولى نظر إلى السماء، ثم تلا الآيات، ثم عاد لمضجعه فنام. وفي الثانية أعاد ذلك ثم توضأ وصلى، وقد بين ذلك محمد بن الوليد عن كريب عن ابن عباس عند محمد بن نصر. وفي رواية في الصحيحين: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليل، فأتى حاجته ثم غسل وجهه ويديه، ثم نام ثم قام فأتى قربة- الحديث. وفي رواية لمسلم: ثم قام قومه أخرى. (فنظر إلى السماء) يتفكر في عجائب الملكوت. (فقرأ إن في خلق السماوات والأرض) أي في خلقتهما من ارتفاع السماوات واتساعها وانخفاض الأرض وكثافتها واتضاعها، أو في الخلق الكائن فيهما من الكواكب المختلفة وغيرها في السماوات والبحار والجبال والقفار والأشجار والأنهار والزروع(4/172)
لآيات لأولي الألباب} . حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها، ثم صب في الجفنة، ثم توضأ وضوء حسناً بين الوضوئين، لم يكثر وقد أبلغ، فقام فصلى، فقمت وتوضأت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والثمار والحيوان والمعادن وغيرها من العجائب في الأرض. (واختلاف الليل والنهار) أي في تعاقبهما، أو طولاً وقصراً أو ظلمة ونوراً وحراً وبرداً (لآيات لأولى الألباب) أي دلالات واضحات على وجود الصانع ووحدته وعلمه وكمال قدرته لذوي العقول الخالصة الصافية، الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، لا ينظرون إليها نظر البهائم، غافلين عما فيها من عجائب مخلوقاته وغرائب مبدعاته، وقد ورد ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. رواه ابن مردويه وابن حبان في صحيحه. (حتى ختم السورة) فإن فيها لطائف عظيمة وعوارف جسيمة لمن تأمل في مبانيها وظهر له بعض معانيها. قال الباجي: يحتمل أن يفعل ذلك ليبتدئ يقظته بذكر الله كما ختمها بذكره عند نومه، ويحتمل أنه فعل ذلك ليتذكر ما ندب إليه من العبادة، وما وعد على ذلك من الثواب، فإن هذه الآية جامعة لكثير من ذلك، فيكون ذلك تنشيطاً له على العبادة- انتهى. (ثم قام) أي قصد. (إلى القربة) بكسر القاف وسكون الراء وفي رواية: إلى شن معلق بفتح الشين المعجمة وتشديد النون، وهي القربة الخلقة الصغيرة من أدم. (فأطلق) أي حل. (شناقها) بكسر المعجمة وتخفيف النون ثم قاف، خيطها الذي يشد به فمها أو السير الذي تعلق به القربة. قال في الفتح: هو رباط القربة يشد عنقها فشبه بما يشنق به. وقيل: هو ما تعلق به، ورجح أبوعبيد الأول. (ثم صب) أي أراق الماء منها. (في الجفنة) بفتح الجيم وسكون الفاء ثم نون، القصعة الكبيرة. واستعمال "ثم" للترتيب والتراخي في الذكر أو للإشارة إلى أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كانت واقعة بالتؤدة والوقار من غير استعجال. (ثم توضأ) أي من الجفنة. (وضوء حسناً بين الوضوئين) أي من غير إسراف ولا تقتير. وقيل: أي توضأ مرتين مرتين. (لم يكثر) أي صب الماء. قال القاري: هو بيان للوضوء الحسن، وهو إيماء إلى عدم الإفراط. (وقد أبلغ) أي أوصل الماء إلى ما يجب إيصاله إليه إشارة إلى عدم التفريط. وقال الحافظ: قد فسر قوله: وضوء بين وضوئين بقوله: لم يكثر وقد أبلغ، وهو يحتمل أن يكون قلل من الماء مع التثليث، أو اقتصر على دون الثلث في الغسل. وفي رواية لمسلم: فأسبغ الوضوء ولم يمس من الماء إلا قليلاً. والحاصل أنه أتى بمندوبات الوضوء مع التخفيف الماء. وبذلك يجمع بين ما وقع في رواية: فأسبغ الوضوء، وبين قوله في رواية: فتوضأ وضوءاً خفيفاً. (فقام فصلى) أي فشرع في الصلاة. (فقمت) أي من مضجعي وقصدت إلى القربة. (وتوضأت) أي نحو مما توضأ، كما في رواية للبخاري. وفي رواية: فقمت فصنعت مثل ما صنع، وهو محمول على الأغلب. ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة، فيحمل(4/173)
فقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة، ثم
اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على الوضوء فقط، ويحتمل أنه صنع جميع ما ذكر من النظر والقول والوضوء والسواك وغير ذلك. (فقمت) أي للصلاة في إقتدائه. (عن يساره) لعدم العلم. (فأخذ بأذني) بالضم وبضمتين. وفي رواية: فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني يفتلها. قال ابن حجر: وضعها أولاً ليتمكن من مسك الأذن، أو لأنها لم تقع إلا عليه، أو لينزل بركتها به ليعي جميع أفعاله عليه السلام في ذلك المجلس وغيره، قال: وفتلها إما لينبهه على مخالفة السنة أو ليزداد تيقظه لحفظ تلك الأفعال، أو ليزيل ما عنده من النعاس، لرواية مسلم: فجعلت إذا أغفيت أخذ بشحمة أذني. وفي هذا رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان في حالة إدارته له من اليسار إلى اليمين متمسكاً بقوله: فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، وهو لفظ البخاري في الدعوات، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لتأنيسه وإيقاظه. فالحق أنه أخذ بأذنه أولاً لإدارته من اليسار إلى اليمين، ثم أخذ بها أيضاً لتأنيسه لكون ذلك في ظلمة الليل أو لإيقاظه أو لإظهار محبته، لأن حاله كانت تقتضي ذلك لصغر سنه. (فأدارني عن يمينه) قال ابن الملك: "عن" هنا بمعنى الجانب أي أدارني عن جانب يساره إلى جانب يمينه. (فتتامت) بمثناتين وتشديد الميم. قال الطيبي: أي صارت تامة تفاعل من تم، وهو لا يجيء إلا لازماً- انتهى. أي تكاملت، وهي رواية شعبة عن كريب عند مسلم (صلاته ثلاث عشرة ركعة) أي مع ركعة الوتر، يسلم من كل ركعتين، ففي رواية للشيخين: ثم صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الصبح. قال الحافظ: ظاهره أنه فصل بين كل ركعتين. ووقع التصريح بذلك في رواية طلحة بن نافع عند ابن خزيمة حيث قال فيها: يسلم من كل ركعتين. ولمسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريح بالفصل أيضاً، وأنه استاك بين كل ركعتين إلى غير ذلك، كما سيأتي. ومقتضى التصريح بذكر الركعتين ست مرات، وقوله بعد ذلك ثم أوتر أنه صلى في هذه الليلة ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، كما وقع التصريح بذلك في رواية الكتاب. وظاهره أنه أوتر بركعة واحدة مفصولة، لأنه إذا صلى ركعتين ركعتين ست مرات مع الفصل بين كل ركعتين صارت الجملة اثنتى عشرة ركعة غير ركعة الوتر، وكانت جميع صلاته - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة ركعة، فلم يبق الوتر إلا ركعة واحدة. وأما رواية مسلم الآتية بلفظ: ثم أوتر بثلاث ففي كونها محفوظة الكلام. ولعل ذلك من حبيب بن أبي ثابت الراوي عن علي بن عبد الله بن عباس، فإن فيه مقالاً، وقد اختلف عليه في إسناده ومتنه اختلافاً. (ثم اضطجع فنام حتى نفخ) أي تنفس بصوت حتى يسمع منه صوت النفخ بالفم كما يسمع من النائم. (وكان إذا نام نفخ) وفي رواية مسلم: ثم نام حتى نفخ، وكنا(4/174)
فآذنه بلال بالصلاة، فصلى، ولم يتوضأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نعرفه إذا نام بنفخه (فآذنه) بالمد أي أعلمه. (بالصلاة) أي بصلاة الصبح. (فصلى) أي ركعتي الفجر ثم خرج إلى المسجد فصلى الصبح بالجماعة. (ولم يتوضأ) قيل: إنما لم يتوضأ وقد نام حتى نفخ، لأن النوم لا ينقض الطهر بنفسه، بل لأنه مظنة خروج الخارج. ولما كان قلبه عليه السلام يقظان لا ينام، ولم يكن نومه مظنة في حقه فلا يؤثر. ولعله أحس بتيقيظ قلبه بقاء طهوره. وهذا من خصائصه عليه السلام. قال الطيبي: فيقظة قلبه تمنعه من الحدث، وما منع النوم إلا ليعي الوحي إذا أوحي إليه في منامه، فالوضوء الأول إما لنقض آخر أو لتجديد وتنشيط. واعلم أن قوله: فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة الخ يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر، وهي رواية الثوري عن سلمة بن كهيل عن كريب عن ابن عباس عند البخاري في الدعوات، وأخرجها أيضاً مسلم. وقد اختلف على كريب أصحابه في بيان العدد، لكن اتفق أكثرهم على أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى تلك الليلة ثلاث عشرة ركعة وركعتي الفجر. وفي رواية شريك بن أبي النمر عنه عند البخاري في التفسير: فصلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين. ونحوه في رواية الضحاك بن عثمان عن مخرمة عن كريب عند مسلم، فخالف شريك الأكثر، وروايتهم مقدمة على روايته لما معهم من الزيادة، ولكونهم أحفظ منه. وحمل بعضهم الزيادة على سنة العشاء، ولا يخفي بُعده لاسيما مع رواية الكتاب هذا. وقد ورد عن ابن عباس في حكاية صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالليل الذي بات فيه عنده أحاديث كثيرة بروايات مختلفة رواها عنه علي بن عبد الله بن عباس وعطاء وأبوجمرة وسعيد بن جبير ويحيى بن الجزاز وغيرهم. قال الحافظ بعد ذكر الاختلاف في رواية كريب، وفي رواية سعيد بن جبير ما لفظه: وأكثر الرواة عنه لم يذكروا عدداً، ومن ذكر العدد منهم لم يزد على ثلاث عشرة، ولم ينقص عن إحدى عشرة، إلا أن في رواية علي بن عبد الله بن عباس عند مسلم ما يخالفه، فإن فيه فصلى ركعتين أطال فيهما، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ففعل ذلك ثلاث مرات بست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، يعني آخر آل عمران ثم أوتر بثلاث، فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة- انتهى. فزاد على الرواية تكرار الوضوء وما معه ونقص عنه ركعتين أو أربعاً. ولم يذكر ركعتي الفجر أيضاً، وأظن ذلك من الراوي عنه حبيب بن أبي ثابت، فإن فيه مقالاً، وقد اختلف عليه فيه في إسناده ومتنه اختلافاً، ويحتمل أنه لم يذكر الأربع الأول. وأما سنة الفجر فقد ثبت ذكرها في طريق أخرى عن على بن عبد الله بن عباس عند أبي داود. والحاصل أن قصة مبيت ابن عباس يغلب على الظن عدم تعددها، فلهذا ينبغي الاعتناء بالجمع بين مختلف الروايات، ولا شك أن الأخذ بما اتفق عليه الأكثر والأحفظ أولى مما خالفهم فيه من هو دونهم، ولاسيما إن زاد أو نقص. والمحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة. وأما رواية ثلاث عشرة فيحتمل أن يكون منها ست العشاء- انتهى. ويعكر على هذا الجمع رواية الثوري(4/175)
وكان في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني
نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن سلمة عن كريب، وقد ذكرنا سياقها. وأما لحمل قوله صلى ركعتين ثم ركعتين أي قبل أن ينام، ويكون منها سنة العشاء، وقوله ثم ركعتين الخ أي بعد أن قام، فبعيد يأباه ظاهر السياق. وجمع الكرماني بين ما اختلف من روايات قصة ابن عباس هذه باحتمال أن يكون بعض رواته ذكر القدر الذي اقتدى ابن عباس به وفصله عما لم يقتد به فيه، وبعضهم ذكر الجميع مجملاً- انتهى. (وكان في دعائه) أي في جملة دعائه تلك الليلة. قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن الدعائه حينئذٍ كان كثيراً أو كان هذا من جملته، وقد ذكر في ثاني حديثي الباب. (أي باب الدعاء إذا انتبه من الليل من كتاب الدعوات من صحيح البخاري) قوله: اللهم أنت نور السماوات والأرض الخ. (يعني المذكور في حديث ابن عباس الآتي في باب ما يقول إذا قام من الليل) . واختلف الرواة في تعيين محل هذا الدعاء أي قوله: اللهم اجعل في قلبي نوراً الخ، فوقع في رواية شعبة عن سلمة عن كريب عند مسلم ثم خرج إلى الصلاة فصلى، فجعل يقول في صلاته أو في سجوده اللهم الخ، ووقع عند مسلم أيضاً في رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه أنه قال هذا الدعاء، وهو ذاهب إلى صلاة الصبح ولفظه: فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة، وهو يقول اللهم اجعل الخ. ويمكن أن يجمع بأنه قال هذا الدعاء حين خروجه إلى صلاة الصبح، ثم قاله في صلاته أيضاً. وروى الترمذي هذا الدعاء في الدعوات من طريق داود بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده، وفي روايته زيادة طويلة في هذا الدعاء، وفيها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك حين فرغ من صلاته. ووقع عند البخاري في الأدب المفرد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يصلي فقضى صلاته، يثني على الله بما هو أهله، ثم يكون آخر كلامه اللهم اجعل في قلبي نوراً- الحديث. قال الحافظ: ويجمع بأنه كان يقول ذلك عند القرب من فراغه- انتهى. أو يقال: إنه كان يقول ذلك الدعاء بعد الفراغ من الصلاة أيضاً. (اللهم اجعل في قلبي نوراً) قيل: هو ما يتبين به الشيء ويظهر. قال الكرماني: التنوين للتعظيم أي نوراً عظيماً، وقدم القلب، لأنه المضغة التي إذا صلحت صلح سائر البدن، وإذا فسدت فسد سائر البدن، ولأن القلب إذا نور فاض نوره على البدن جميعاً، ومن لازم تنوير هذه الأعضاء حلول الهداية، لأن النور يقشع ظلمات الذنوب، ويرفع سدفات الآثام. (وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً) أي في جانبي أو في جارحتي. (وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي) أي قدامي. (نوراً) يسعى بين يدي. (وخلفي نوراً) أي ليتبعني أتباعي ويقتدي بي أشياعي. والمعنى اجعل النور يحفى من جميع الجهات الست. قيل: أراد بالنور بيان الحق وضياءه كأنه قال: اللهم استعمل هذه الأعضاء(4/176)
واجعل لي نوراً ـ وزاد بعضهم ـ: وفي لساني نوراً. ـ وذكر ـ: وعصبي ولحمي
ودمي وشعري وبشري)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مني في الحق، واجعل تصرفي وتقلبي فيها على سبيل الصواب حتى لا يزيغ شيء منها عنه. وقال القسطلاني: قد سأل - صلى الله عليه وسلم - النور في أعضائه وجهاته ليزاد في أفعاله وتصرفاته ومنقلباته نوراً على نور، فهو دعاء بدوام ذلك، فإنه كان حاصلا له لا محالة، أو هو إرشاد وتعليم لأمته. وقال القرطبي: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمكن حملها على ظاهرها، فيكون سأل الله تعالى أن يجعل له في كل عضو من أعضاءه نوراً يستضيء به يوم القيامة في تلك الظلم هو ومن تبعه أو من شاء الله منهم، قال: والأولى أن يقال هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى: {فهو على نور من ربه} [39: 23] ، وقوله تعالى: {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} [6: 122] ثم قال والتحقيق في معناه أن النور مظهر ما نسب إليه وهو يختلف بحسبه، فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات. وقال الطيبي: معنى طلب النور للأعضاء عضواً عضواً أن يتحلى كل عضو بأنوار المعرفة والطاعات، ويتعرى عما عداهما، فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوسواس والشبهات، ولا مخلص من ذلك إلا بالأنوار السادة لتلك الجهات، قال: وكل هذه الأمور راجعة إلى الهداية والبيان وضياء الحق. وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: {الله نور السماوات والأرض} إلى قوله تعالى: {نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء} [24: 35]- انتهى مخلصا. (واجعل لي نورا) عطف عام على خاص أي اجعل لي نوراً عظيماً جامعاً للأنوار كلها يعني التي ذكرها ههنا والتي لم يذكرها. وقال الطيبي: أجمل به ما فصله، فذلكة لذلك وتأكيداً له. ولمسلم في رواية غندر عن شعبة عن سلمة عن كريب: واجعل لي نوراً، أو قال واجعلني نوراً، وفي رواية النضر عن شعبة: واجعلني نوراً، ولم يشك وهذا أبلغ من الكل. ولمسلم في رواية الكتاب بعد قوله: وخلفي نوراً وعظم لي نوراً بتشديد الظاء المعجمة، ولم يذكر قوله واجعل لي نوراً. وفي رواية سعيد بن مسروق وعقيل بن خالد عن سلمة عن كريب عند مسلم أيضاً: وأعظم لي نوراً أي من الأعظام. (وزاد بعضهم) أي بعض الرواة، وهو عقيل بن خالد عن سلمة عن كريب، وحبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. (وفي لساني نوراً) أي بعد قوله في قلبي نوراً، وهذه الزيادة عند مسلم فقط. (وذكر) أي بعض ولد العباس، كما يظهر من سياق رواية الشيخين، فعند البخاري بعد قوله: واجعل لي نوراً قال كريب: وسبع. (أي من الكلمات أو الأنوار) في التابوت. (أي في صحيفة في تابوت عند ولد العباس) ، فلقيت رجلاً من ولد العباس. (قال القسطلاني: هو علي بن عبد الله بن عباس) ، فحدثني بهن فذكر عصبي الخ. (وعصبي) بفتح المهملتين بعدهما موحدة أطناب المفاصل. (وشعري) بفتح العين وسكونها. (وبشري) بفتح الموحدة والمعجمة،(4/177)
متفق عليه. وفي رواية لهماـ: واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً. وفي أخرى لمسلم: اللهم أعطني نوراً)) .
1203- (9) وعنه، أنه رقد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستيقظ، فتسوك، وتوضأ وهو يقول: {إن في خلق السماوات والأرض} . حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهر جلده. (متفق عليه) فيه أن لفظ الحديث بهذا السياق ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما، لأن حديث ابن عباس في حكايته لصلاته - صلى الله عليه وسلم - في الليلة التي بات فيها عند خالته ميمونة رواه البخاري في ثمانية عشر بابا من صحيحه، ومسلم في باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، وفي الطهارة بألفاظ مختلفة مختصراً ومطولاً، وليس السياق المذكور ههنا أحدها وبالجملة لم يتفق الشيخان على السياق المذكور بعينه وبخصوصه، ففي قوله متفق عليه نظر. (وفي رواية لهما) أي للشيخين وفيه نظر كما ستعرف. (واجعل في نفسي نوراً، وأعظم لي نورا) بفتح الهمزة من باب الإفعال. وهذه الرواية من إفراد مسلم، وليست عند البخاري، رواها مسلم من طريق عقيل بن خالد عن سلمة عن كريب قال: ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلتئذ تسع عشرة كلمة، قال سلمة حدثنيها كريب، فحفظت منها ثنتي عشرة كلمة ونسيت ما بقي، فذكر ما تقدم إلى قوله: واجعل لي نوراً، وزاد: في لساني نوراً بعد قوله في قلبي، وقال في آخره: واجعل لي في نفسي نوراً، وأعظم لي نوراً. (وفي أخرى لمسلم اللهم أعطني نوراً) وهي رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عبد الله بن عباس. وفي رواية الترمذي التي أشهرت إليها قال ابن عباس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ليلة حين فرغ من صلاته: اللهم إني أسألك رحمة من عندك، فساق الدعاء بطوله، وفيه اللهم اجعل لي في قلبي ونوراً في قبري، ثم ذكر الجهات الست والسمع والبصر ثم الشعر والبشر ثم اللحم والدم والعظام، ثم قال في آخره اللهم أعظم لي نوراً، وأعطني نوراً واجعل لي نوراً، ونقله الحافظ والقسطلاني بلفظ: واجعلني نورا. قال الترمذي: غريب وقد روى شعبة وسفيان عن سلمة عن كريب بعض هذا الحديث، ولم يذكره بطوله- انتهى. وعند ابن أبي عاصم في كتاب الدعاء من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن عن كريب في آخر الحديث، وهب لي نوراً على نور. ويجمع من اختلاف الروايات، كما قال ابن العربي، خمس وعشرون خصلة هذا، وفي حديث ابن عباس فوائد وأحكام كثيرة، ذكرها النووي والحافظ والعيني وغيرهم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي.
1203- قوله: (وعنه) أي ابن عباس. (أنه رقد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الطيبي: هذا معنى ما قاله ابن عباس لا حكاية لفظه. والتقدير أنه قال رقدت في بيت خالتي ميمونة، ورقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (وهو يقول) أي يقرأ، وهو يخالف الرواية السابقة بظاهره حيث قال فقرأ ثم توضأ إلا أن يحمل على تعدد القراءة أو الواقعة،(4/178)
أطال فيهما القيام والركوع، والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث)) . رواه مسلم.
1204- (10) وعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: ((لأرمقن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو تحمل "ثم" ثمة على أنها لمجرد العطف أو للتراخي الرتبي، قاله القاري. وقد تقدم في كلام الحافظ التنبيه على ما في هذه الرواية من الزيادة والاختلاف على الروايات الأخرى. (أطال فيهما القيام والركوع والسجود) أي بالنسبة إلى العادة. (ثم انصرف) أي عن الصلاة. (ثم) أي أعلم أنه. (فعل ذلك) أي المذكور من قوله فتسوك إلى قوله حتى نفخ. (ثلاث مرات ست ركعات) قال الطيبي: يدل من ثلاث مرات أي فعل ذلك في ست ركعات- انتهى. وقيل: منصوب بإضمار أعني أو بيان لثلاث وكذلك. (كل ذلك) بالنصب بيان له أيضاً، أي كل مرة من المرات، ويجوز أن يكون مفعول. (يستاك) وقال الطيبي: كل ذلك يتعلق بيستاك، أي في كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ ويصلي. "وثم" في قوله "ثم فعل ذلك" لتراخي الإخبار تقديراً وتأكيداً لا لمجرد العطف لئلا يلزم منه أنه فعل ذلك أربع مرات. (ثم أوتر بثلاث) وبعده فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة، وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نوراً الخ. قال النووي: هذه الرواية، وهي رواية حبيب بن أبي ثابت عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن ابن عباس، مخالفة لباقي الروايات في تخليل النوم بين الركعات، وفي عدد الركعات، فإنه لم يذكر في باقي الروايات تخلل النوم، وذكر الركعات ثلاث عشرة. قال القاضي: هذه الرواية مما استدركه الدارقطني على مسلم لاضطرابها واختلاف الرواة، قال الدارقطني: وروى عنه على سبعة أوجه. وخالف فيه الجمهور. قال النووي: ولا يقدح هذا في مسلم، فإنه لم يذكر هذه الرواية متأصلة مستقلة بل متابعة، والمتابعات يحتمل فيها ما لا يحتمل في الأصول. قال القاضي: ويحتمل أنه لم يعد في هذه الصلاة الركعتين الأوليين الخفيفتين اللتين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح صلاة الليل بهما، ولهذا قال: صلى ركعتين فأطال فيهما، فدل على أنهما بعد الخفيفتين، فتكون الخفيفتان ثم الطويلتان ثم الست المذكورات ثم ثلاث بعدها، كما ذكر، فصارت الجملة ثلاث عشرة، كما في باقي الروايات. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي.
1204- قوله: (عن زيد بن خالد الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء، نسبه إلى جهينة، المدني الصحابي الشهير. (أنه) أي زيد بن خالد. (لأرمقن) بضم الجيم وفتح القاف ونون التوكيد الثقيلة من باب نصر، أي لأنظرن وأراقين وأحافظن من الرمق بفتح وسكون أو بفتحتين، وهو النظر إلى الشيء على وجه المراقبة والمحافظة. وأكد باللام والنون مبالغة في طلب تحصيل معرفة ذلك وضبطه (صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي صلاته النافلة من الليل.(4/179)
الليلة، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين
وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما
دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الطيبي: عدل عن الماضي إلى المضارع فلم يقل رمقت استحضاراً لتلك الحالة الماضية؛ ليقررها في ذهن السامع أبلغ تقرير. (الليلة) أي في هذه الليلة حتى أرى كم يصلي. وقال ابن حجر: والظاهر أنه قال ذلك لأصحابة نهاراً ثم رمقه، وحينئذٍ فالمضارع على حاله. قال القاري: ولا يستقيم ذلك إلا على تقديرات كثيرة، كما لا يخفى، قال ويمكن أن يكون هذا القول من زيد قبل العلم والعمل. وقيل: إن ذلك حين سمعه - صلى الله عليه وسلم - قام يصلي لا قبل ذلك، لأنه من التجسس المنهي عنه. وأما ترقبه للصلاة فمحمود- انتهى. زاد في رواية الموطأ وأبي داود وابن ماجه والشمائل للترمذي، قال أي زيد: فتوسدت عتبته أو فسطاطه، والعتبة محركة أسكفة الباب، أي جعلت عتبة بابه كالوسادة بوضع الرأس عليها. والفسطاط مثلثة الفاء بيت من شعر. والمراد من توسد الفسطاط توسد عتبة الفسطاط، فهو على تقدير مضاف، وهذا شك من الراوي عن زيد أنه قال: توسد عتبة بيته أو عتبة فسطاطه. قيل: والظاهر الثاني، لأنه - صلى الله عليه وسلم - في الحضر يكون عند نسائه، فلا يمكن أن يتوسد زيد عتبة بيته ليرمقه بخلاف السفر، فإنه خال عن الأزواج المطهرات، فيمكنه أن يتوسد عتبة فسطاطه. قال القاري في جمع الوسائل: فالترديد إنما هو في العبارة، وإلا فالمقصود عن عتبته أيضاً عتبة فسطاطه في الحقيقة لا شك فيه- انتهى. والمراد بعتبة الفسطاط بابه، أي محل دخوله يعني أرقد عند باب خيمته. (فصلى) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (ركعتين خفيفتين) أي ابتداء، وإنما خفف فيهما، لأنهما عقب كسل من أثر النوم وليدخل في صلاة التهجد بنشاط. (ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين) التكرار للتأكيد، وليس المراد بكل طويلتين ركعتين. كذا في المفاتيح. قال الطيبي: كرر ثلاث مرات إرادة لغاية الطول، ثم تنزل شيئاً فشيئاً- انتهى. وإنما بولغ في تطويلهما، لأن النشاط في أول الصلاة يكون أقوى، والخشوع يكون أتم، ومن ثم سن تطويل الركعة الأولى على الثانية من الفريضة. قال الباجي: ومعنى ذلك أن آخر الصلاة مبني على التخفيف عما تقدم، ولذا شرع هذا المعنى في الفرائض. (ثم صلى ركعتين وهما) أي الركعتان. (دون اللتين قبلهما) أي في الطول، وإنما كانتا دون الركعتين اللتين قبلهما، لأنه إذا استوفى الغاية في النشاط والخشوع أخذ في النقص شيئاً فشيئاً، فيخفف من التطويل على سبيل التدريج. (ثم) ثانياً (صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما) في الطول. (ثم) ثالثاً (صلى ركعتين، وهما دون التين قبلهما ثم) رابعاً (صلى ركعتين، وهما دون) الركعتين. (اللتين قبلهما) قال الطيبي: أربع مرات، فعلى هذا لا تدخل الركعتان الخفيفتان تحت ما أجمله بقوله: فذلك ثلاث عشرة ركعة، أو يكون الوتر ركعة(4/180)
ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة)) ، رواه مسلم. قوله: ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين
قبلهما أربع مرات، هكذا في صحيح مسلم، وأفراده من كتاب الحميدي، وموطأ مالك،
وسنن أبي داود، وجامع الأصول.
1205- (11) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((لما بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثقل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واحدة ولعل ناسخ المصابيح لما رأى المجمل جعل الخفيفتين من جملة المفصل فكتب قوله: ثم صلى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما ثلاث مرات. ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث ركعات حمل قوله: ثم أوتر على ثلاث ركعات، فعليه أن يخرج الركعتين الخفيفتين من البين. (ثم أوتر) أي بواحدة على أن الركعتين الخفيفتين داخلتان في المجمل. (فذلك) أي المجموع مع الوتر. (ثلاث عشرة ركعة) فيه أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - في الليل ثلاث عشرة ركعة بدون ركعتي الفجر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك وأبوداود والترمذي في الشمائل وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص8) قال المصنف: (قوله) أي قول زيد. (ثم صلى ركعتين، وهما اللتين قبلهما أربع مرات) بالنصب، أي وقع هذا القول أربع. (هكذا) أي أربع مرات. (في صحيح مسلم) أي متنه. (وأفراده) بفتح الهمزة أي أفراد مسلم. (من كتاب الحميدي) الجامع بين الصحيحين. والأحاديث فيه على ثلاثة أنواع: الأول ما اتفق عليه الشيخان. والثاني ما انفرد به البخاري ويعبر عنه بأفراد البخاري. والثالث ما انفرد به مسلم، وهو المراد بأفراد مسلم. والحاصل أن الجملة المذكورة وقعت في متن صحيح مسلم أربع مرات، وكذا وقعت في أفراد مسلم من كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي. (وموطأ مالك) أي في موطئه. (وسنن أبي داود) السجستاني. (وجامع الأصول) الستة لابن الأثير الجزري (ج7 ص53) ، وكذا وقع في سنن ابن ماجه والشمائل للترمذي والسنن الكبرى للبيهقي أربع مرات. ومقصود المصنف من هذا الكلام الاعتراض على البغوي حيث ذكره في المصابيح ثلاث مرات. وقد يقال في توجيه ما في المصابيح إن قوله: طويلتين ثلاث مرات محمول على ست ركعات بحذف حرف العطف، والركعتان الخفيفتان خارجتان، والوتر ركعة. والأظهر أن التكرير للمبالغة في الطول.
1205- قوله: (لما بدن) بتشديد الدال من التبدين، وهو الكبر والضعف أي مسه الكبر وأسن. (وثقل) بضم القاف أي عن الحركة وضعف عنها لدخوله في السن، ويروى بدن بضم الدال المخففة أي كثر لحمه وثقل أي ضعف لكبر سنه وكثرة لحمه، وذلك قبل موته بسنة. قال التوربشتي: اختلف الرواة في قوله بدن: فمنهم من يرويه مخففاً بضم الدال، من قولهم بدن يبدن بدانة وبدن. بفتح الدال يبدن بدنا، وهو السمن والاكتناز.(4/181)
كان أكثر صلاته جالساً)) . متفق عليه.
1206- (12) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((لقد عرفت النظائر التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومنهم من يرويه بفتح الدال وتشديدها من التبدين وهو السن والكبر، وهذه الرواية هي التي يرتضيها أهل العلم بالرواية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوصف بالسمن فيما يوصف به، نقله الأبهري. وقال عياض: قال أبوعبيد في تفسير هذا الحديث: بدن الرجل بفتح الدال المشددة تبديناً إذا أسن، قال ومن رواه بدن بضم الدال المخففة فليس له معنى هنا، لأن معناه كثر لحمه، وهو خلاف صفته - صلى الله عليه وسلم -. قال عياض: روايتنا في مسلم عن جمهورهم بدن بالضم، وعن العذري بالتشديد، قال وأراه إصلاحاً، قال ولا ينكر اللفظان في حقه - صلى الله عليه وسلم - فقد قالت عائشة في صحيح مسلم: فلما أسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه اللحم أوتر بسبع. وفي حديث آخر ولحم، وفي آخر أسن وكثر لحمه. وقول ابن أبي هالة في وصفه: بادن متماسك. قال النووي: والذي ضبطناه ووقع في أكثر أصول بلادنا بالتشديد- انتهى. قلت: روى البخاري في تفسير سورة الفتح من حديث عائشة قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكوراً. فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع- انتهى. قال الحافظ: أنكر الداودي قوله: فلما كثر لحمه، وقال: المحفوظ فلما بدن أي كبر، فكان الراوي تأويله على كثرة اللحم- انتهى. وقال ابن الجوزي أحسب بعض الرواة لما رأى بدن ظنه أي كثر لحمه وليس كذلك، وإنما هو بدن تبديناً، أي أسن- انتهى. وهو خلاف الظاهر. وفي حديث مسلم عن عائشة قالت: لما بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثقل كان أكثر صلاته جالساً، لكن يمكن تأويل قوله: ثقل أي ثقل عليه حمل لحمه، وإن كان قليلاً لدخوله في السن- انتهى مختصراً. وقيل: رواية كثر لحمه محمولة على استرخاء لحم بدنه كما يقتضيه كبر سنه. (كان أكثر صلاته) أي النافلة (جالساً) وفي رواية أبي سلمة عن عائشة: لم يمت حتى كان كثير من صلاته جالساً. وفي حديث حفصة: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في سبحته جالساً حتى إذا كان قبل موته بعام وكان يصلي في سبحته جالساً، أخرجهما مسلم. والحديث يدل على جواز التنفل قاعداً مع القدرة على القيام. قال النووي: وهو إجماع العلماء. قال ابن حجر: ومن خصائصه عليه السلام أن ثواب تطوعه جالساً كهو قائماً، سواء جلوسه يكون بعذر أو بغير عذر. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، ولم يقل البخاري: أكثر.
1206- قوله: (لقد عرفت النظائر) جمع نظيرة، وهي المثل والشبه أي السور المتشابهة والمتقاربة في الطول والقصر. قال الحافظ في الفتح: أي السور المتماثلة في المعاني كالموعظة أو الحكم أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي لما سيظهر عند تعيينها. قال المحب الطبري: كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العد حتى اعتبرتها(4/182)
يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من أول المفصل، على تأليف ابن مسعود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فلم أجد فيها شيئاً متساوياً. (يقرن) بضم الراء ويجوز كسرها أي يجمع. (بينهن) أي بين سورتين منهن في ركعة. (فذكر) أي ابن مسعود. (عشرين سورة من أول المفصل) وهي الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل آتي ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتسآءلون والمرسلاًت في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة. رواه أبوداود، وقال هذا تأليف ابن مسعود أي ترتيب السور المذكورة في الحديث، وهو الترتيب الذي ألف عليه ابن مسعود السور في مصحفه. (على تأليف) مصحف (ابن مسعود) أي جمعه وترتيبه. قال الحافظ: فيد دلالة على أن تأليف ابن مسعود على غير تأليف العثماني، وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران، ولم يكن على ترتيب النزول. ويقال: إن مصحف على كان ترتيب النزول، أوله إقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني، والله أعلم. وأما ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن فقال القاضي أبوبكر الباقلاني: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أمر بترتيبه هكذا، ويحتمل أن يكون من اجتهاد الصحابة، ثم رجح الأول بما روى البخاري عن أبي هريرة أنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعارض به جبريل في كل سنة، فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري. ومما يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفاً ما أخرجه أحمد وأبوداود وغيرهما عن أوس بن حذيفة الثقفي، قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف، فذكر الحديث، وفيه فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طرأ على حزبي من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه، قال: فسألنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلنا كيف تحزبون القرآن؟ قلنا نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة، وحزب المفصل من ق حتى تختم. قال الحافظ: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويستفاد من هذا الحديث حديث أوس أن الراجح في المفصل أنه من أول سورة ق إلى آخر القرآن، لكنه مبني على أن الفاتحة لم تعد في الثلاث الأول، فإنه يلزم من عدها أن يكون أول المفصل من الحجرات، وبه جزم جماعة من الأئمة- انتهى. وقيل: ترتيب جميع السور توقيفي إلا ترتيب براءة والأنفال، فهو من اجتهاد عثمان، كما يدل عليه حديث ابن عباس عند أحمد وأصحاب السنن، وصححه ابن حبان والحاكم، وقد ذكره المصنف في الباب الذي قبل كتاب الدعوات، وسيأتي الكلام في ذلك هناك. قال الجزري: اختلف في ترتيب السور هل هو توقيفي من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع من الصحابة، أو بعضه توقيف وبعضه إجماع من الصحابة؟ وأجمعوا على أنه لم ينزل مرتباً هكذا، وعلى أنه لا يقرأ إلا هكذا، كما هو مرتب اليوم، وإنما يصح للصغار أن يقرؤا من أسفل لضرورة التعليم، ولو قرأ في الصلاة غير مرتب، فهو غير أولى. وقيل: يكره، ولو قرأ في(4/183)
سورتين في ركعة آخرهن حم الدخان، وعم يتساءلون)) . متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أول ركعة سورة الناس، فماذا يقرأ في الثانية؟ قال أبوحنيفة: يعيدها. وقال الشافعي: يبدأ من أول البقرة أي إلى المفلحون. وهو رواية عن أبي حنيفة، وهو الأظهر، لأن الإفادة أولى من الإعادة. (سورتين) أي كل سورتين من العشرين. (في ركعة آخرهن) أي آخر العشرين مبتدأ، يعني آخر الثنتين من العشرين. (حم الدخان) يحتمل الحركات الثلاث في "حم" والفتح أشهر، وكذلك في الدخان، والجر أشهر. (وعم يتساءلون) هذا يخالف ظاهره ما تقدم من رواية أبي داود، إلا أن يقال: التقدير أخرهن أي آخر العشرين "حم الدخان" ونظيرتها إذا الشمس كورت، وعم يتساءلون، ونظيرتها والمرسلات، قاله القاري. وقال الحافظ: قوله أخرهن حم الدخان، وعم يتساءلون مشكل، لأن حم الدخان آخرهن في جميع الروايات. وأما عمّ، فهي في رواية ابن خزيمة السابعة عشرة. وفي رواية أبي داود: الثامنة عشرة، فكان فيه تجوزاً، لأن عمّ وقعت في الركعتين الأخيرتين في الجملة- انتهى. ووقع في رواية البخاري في باب الجمع بين السورتين في ركعة من أبواب الصلاة، فذكر عشرين سورة من المفصل، واستشكل عد الدخان من المفصل، لأنها ليست منه. وأجيب بأن ذكرها معهن فيه تجوز، ولذلك فصلها من المفصل في رواية البخاري في باب الترتيل في القراءة ولفظها: وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمان عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم، لكن يرد رواية البخاري هذه أن الروايات لم تختلف أنه ليس في العشرين من الحواميم غير الدخان. قال الحافظ: فتحمل على التغليب أو فيها حذف كأنه قال: وسورتين إحداهما من آل حم- انتهى. ولذكر ابن مسعود هذا الحديث سبب وهو أن رجلاً وهو نهيك بن سنان جاء إلى ابن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة فقال: (أي ابن مسعود) هذَّا كَهذِّ الشعر لقد عرفت النظائر الخ. قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد كراهة الإفراط في سرعة التلاوة، لأنه ينافي المطلوب من التدبر والتفكر في معاني القرآن، ولا خلاف في جواز السرد بدون تدبر لكن القراءة بالتدبر أعظم أجرا وفيه جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها، وفيه الجمع بين السورتين في ركعة، ويستدل بع على الجمع بين السور، لأنه إذا جمع بين السورتين ساغ الجمع بين الثلاث فصاعداً. وقد روى أبوداود، وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الله بن شقيق قال سألت عائشة: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين السور؟ قالت نعم من المفصل. ولا يخالف هذا ما سيأتي في التهجد أنه جمع بين البقرة وغيرها من الطوال لأنه يحمل على النادر. وقال عياض في حديث ابن مسعود: هذا يدل على أن هذا القدر كان قدر قراءته غالبا. وأما تطويله فإنما كان في التدبر والترتيل. وما ورد غير ذلك من قراءة البقرة وغيرها في ركعة، فكان نادراً. قال الحافظ: لكن ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على المواظبة، بل فيه أنه كان يقرن بين هذه السور المعينان إذا قرأ من المفصل، وفيه موافقة لقول عائشة وابن عباس إن صلاته بالليل كانت عشر ركعات غير الوتر. (متفق عليه)(4/184)
{الفصل الثاني}
1207- (13) عن حذيفة: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل، وكان يقول: الله أكبر، ثلاثاً، ذو
الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع، فكان ركوعه نحواً
من قيامه، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه من الركوع،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه أن هذه الألفاظ لم يتفقا عليها، بل الحديث في الصحيحين بألفاظ مختلفة، ولفظ الكتاب بهذا السياق ليس لهما ولا لأحدهما، بل هو مجموع من مجموع ما فيهما. والحديث أخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة والبيهقي (ج2 ص9) .
1207- قوله: (يصلي من الليل) أي التهجد. (وكان) وفي بعض النسخ "فكان" موافقاً لما في سنن أبي داود. قال الطيبي: الفاء للتفصيل. (يقول: الله أكبر ثلاثاً) ليس في رواية النسائي ثلاثاً. (ذو الملكوت) بفتحتين أي صاحب الملك والعزة ظاهراً وباطناً، والصيغة للمبالغة في الملك. (والجبروت) بفتحتين أيضاً مبالغة في الجبر بمعنى القهر والغلبة. (والكبرياء والعظمة) قيل: الكبرياء الترفع عن جميع الخلق مع انقيادهم له التنزه عن كل نقص، والعظمة تجاوز القدر عن الإحاطة به. وقيل: الكبرياء عبارة عن كمال الذات. والعظمة عبارة عن جمال الصفات، ولا بوصف بهذين الوصفين إلا الله تعالى. (ثم استفتح) أي قرأ الثناء فإنه يسمى دعاء الاستفتاح أو استفتح بالقراءة أي بدأ بها من غير الإتيان بالثناء لبيان الجواز، أو بعد الثناء جمعاً بين الروايات، وحملاً على أكمل الحالات، قاله القاري. وقال ابن حجر: أي يقوله في صلاته في محل دعاء للافتتاح ثم استفتح القراءة- انتهى. قلت: يؤيد ما قاله ابن حجر رواية أحمد والترمذي في شمائله عن حذيفة أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل قال: فلما دخل في الصلاة قال: الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، قال: ثم قرأ البقرة الخ، فقوله لما دخل أي بتكبيرة الإحرام وقوله الله أكبر الخ ظاهر أنه قال: ذلك بعد تكبيرة الإحرام بدليل زيادة الكلمات المذكورة، فيكون هذا صيغة من صيغ دعاء الافتتاح الواردة. (فقرأ) في الركعة الأولى. (البقرة) أي بكمالها بعد الفاتحة وإن لم يذكرها اعتماداً على ما هو معلوم من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخل صلاة عن الفاتحة. (فكان ركوعه) أي طوله. (نحواً من قيامه) أي قريباً منه فيكون قد طول الركوع قريباً من هذا القيام الطويل يدل عليه رواية النسائي في صلاته التهجد، فلما ركع مكث قدر سورة البقرة ويقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، وكان مقرواً فيها أيضاً سورة البقرة. (فكان يقول) حكاية للحال الماضية استحضاراً. قاله ابن حجر: وفي سنن أبي داود "وكان يقول". (في ركوعه سبحان ربي العظيم) بفتح الياء، وتسكن، والمراد أنه كان يكرر هذه الكلمة ما دام(4/185)
فكان قيامه نحواً من ركوعه، يقول: لربي الحمد، ثم سجد، فكان سجوده نحواً من قيامه، فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى. ثم يرفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده، وكان يقول: رب اغفر لي رب اغفر لي. فصلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة أو الأنعام)) ، شك شعبة رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
راكعاً (فكان قيامه) بعد الركوع أي اعتداله. (نحواً من ركوعه) أي قريباً منه، وفيه دليل على أن الاعتدال ركن طويل خلافاً للشافعية فإنه ركن قصير عندهم. واختار النووي أنه طويل أخذاً بهذا الحديث وأمثاله. (يقول) أي بعد سمع الله لمن حمده (لربي الحمد) أي كان يكرر ذلك مادام في الاعتدال. (فكان سجوده نحواً من قيامه) من الركوع للاعتدال. قال ابن حجر: أي من اعتداله. (فكان يقول في سجوده سبحان ربي الأعلى) أي كان يكرر ذلك مادام ساجداً. (ثم رفع رأسه من السجود) أي السجود الأول إلى الجلوس بين السجدتين. (وكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده) أي سجوده الأول. وفي مسند أحمد والشمائل فكان فيما بين السجدتين نحواً من السجود، وفيه دليل على أن الجلوس بين السجدتين ركن طويل خلافاً للشافعية. (وكان يقول) أي في جلوسه بين السجدتين. (رب اغفر لي رب اغفر لي) أي وهكذا، فالمرتان المراد منهما التكرار مراراً كثيرة لا خصوص المرتين على حد قوله تعالى: {ثم ارجع البصر كرتين} [67: 4] ، فكان يكرر هذه الكلمة مادام جالساً، ولم يذكر السجود الثاني ولا تطويله ولا ما قاله فيه لعلمه بالمقايسة على السجود الأول. (قرأ) وفي أبي داود "فقرأ". (فيهن) أي في الركعات الأربع. (البقرة) في الركعة الأولى. (وآل عمران) في الثانية. (والنساء) في الثالثة. (والمائدة أو الأنعام) بالشك أي في الرابعة. (شك شعبة) راوي الحديث المذكور في السند، أي في السورة التي قرأها في الرابعة هل هي المائدة أو الأنعام؟ قال القاري: والأظهر الأول مراعاة للترتيب المقرر، مع أن الصحيح أن الترتيب في جميع السور توقيفي، وهو ما عليه الآن مصاحف الزمان، كما ذكره السيوطي في الإتقان في علوم القرآن- انتهى. والحديث يدل على مشروعية طلب المغفرة في الاعتدال بين السجدتين، وعلى استحباب تطويل صلاة النافلة والقراءة فيها بالسور الطويلة وتطويل أركانها جميعاً. وفيه رد على من ذهب إلى كراهة تطويل الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين. قال النووي: والجواب عن هذا الحديث صعب، ذكره الشوكاني في النيل. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص398) والنسائي والترمذي في الشمائل، كلهم من طريق أبي حمزة مولى الأنصار عن رجل من بني عبس عن حذيفة. قال الترمذي: أبوحمزة اسمه طلحة بن زيد. وقال النسائي: هو طلحة بن يزيد، وهذا الرجل المبهم يشبه أن يكون صلة بني زفر. قال(4/186)
1208- (14) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المنذري: طلحة بن يزيد أبوحمزة الأنصاري مولاهم الكوفي، احتج به البخاري في صحيحه، وصلة بن زفر العبسي احتج به البخاري ومسلم- انتهى. والحديث أصله في صحيح مسلم.
1208- قوله: (من قام بعشر آيات) أي أخذها بقوة وعزم من غير فتور ولا توانٍ، من قولهم قام بالأمر، فهو كناية عن حفظها والدوام على قراءتها والتفكر في معانيها والعمل بمقتضاها، وإليه الإشارة بقوله: لم يكتب من الغافلين، ولا شك أن قراءة القرآن في كل وقت لها مزايا وفضائل، وأعلاها أن يكون في الصلاة لاسيما في الليل قال تعالى: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً} [73: 6] ومن ثم أورد محي السنة الحديث في باب صلاة الليل، قاله الطيبي. وحاصله أن الحديث مطلق غير مقيد لا بصلاة ولا بليل، فينبغي أن يحمل على أدنى مراتبه، ويدل عليه قوله لم يكتب من الغافلين، وإنما ذكره البغوي في محل الأكمل. وقال ابن حجر: أي يقرأها في ركعتين أو أكثر، وظاهر السياق أن المراد غير الفاتحة- انتهى. قلت: تفسير قام يصلي أي بالقراءة في الصلاة بالليل في هذا المقام هو الظاهر بل هو المتعين، لما روى ابن خزيمة في صحيحه والحاكم (ج1 ص309) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: من صلى في ليلة بمائة آية لم يكتب من الغافلين، ومن صلى في ليلة بمائتى آية فإنه يكتب من القانتين المخلصين. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً البزار، لكن في سنده يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص267) . (لم يكتب من الغافلين) أي لم يثبت اسمه في صحيفة الغافلين. وقيل: أي خرج من زمرة الغفلة من العامة ودخل في زمرة {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} . (ومن قام بمائة آية كتب من القانتين) القنوت يرد بمعنان: كالطاعة والقيام والخشوع والعبادة والسكوت والصلاة، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني إلى ما يحتمله لفظ الحديث الوارد فيه، والمراد هنا القيام أو الطاعة أي كتب عند الله من الثابتين على طاعته أو من القائمين بالليل. وقال الطيبي: أي من الذين قاموا بأمر الله ولزموا طاعته وخضعوا له. (ومن قام بألف آية) قال المنذري من الملك إلى آخر القرآن ألف آية. (كتب من المقنطرين) بكسر الطاء أي من المكثرين من الأجر والثواب، مأخوذ من القنطار، وهو المال الكثير. قال الطيبي: أي من الذين بلغوا في حيازة المثوبات مبلغ المنقطرين في حيازة الأموال. قال أبوعبيد: لا تجد العرب تعرف وزن القنطار، وما نقل عن العرب المقدار المعول عليه. قيل: أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة فهي اثنا عشرة ألف دينار.(4/187)
رواه أبوداود.
1209- (15) وعن أبي هريرة، قال: ((كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل يرفع طوراً ويخفض طوراً)) . رواه أبوداود.
1210- (16) وعن ابن عباس، قال: ((كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - على قدر ما يسمعه من في الحجرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: القنطار ملأ جلد ثور ذهباً. وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال- انتهى. قلت: روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعاً: القنطار اثنا عشر ألف أوقية، الأوقية خير مما بين السماء والأرض، ذكره المنذري. وروى الطبراني في الكبير بسند ضعيف عن أبي أمامة في أثناء حديث: ومن قرأ ألف آية أصبح، وله قنطار ألف ومائتا أوقية، الأوقية خير مما بين السماء والأرض، أو قال: خير مما طلعت عليه الشمس. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما إلا أن في رواية ابن حبان: ومن قام بمائتى آية كتب من المقنطرين، أخرجوه من طريق أبي سوية عن ابن حجيرة عن عبد الله بن عمرو، وقد سكت عنه أبوداود والمنذري في تلخيص السنن. ونقل في الترغيب عن ابن خزيمة أنه قال: إن صح الخبر، فإني لا أعرف أبا سوية بعدالة ولا جرح- انتهى. قلت: أبوسوية هذا اسمه عبيد بن سوية. وقيل: عبيد بن حميد. وقيل: كنيته أبوسويد بدال مصغراً. قال في التقريب: والصواب أبوسوية صدوق. وقال في تهذيب التهذيب: قال ابن ماكولا: أنه كان فاضلاً. وقال ابن حبان: ثقة مصري. وقال ابن يونس: كان رجلاً صالحاً- انتهى. وفي الباب عن فضالة بن عبيد وتميم الداري وأبي هريرة وأبي أمامة وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي سعيد، ذكر أحاديثهم الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص267، 268) مع الكلام فيها.
1209- قوله: (كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل) في الأزهار يعني في الصلاة، ويحتمل في غيرها أيضاً، والخبر محذوف وهو مختلفة. (يرفع) أي صوته رفعاً متوسطاً. (طوراً) أي مرة أو حالة إن كان خالياً. (ويخفض) بكسر الفاء المعجمة من ضرب أخرى، إن كان هناك نائم أو بحسب حاله المناسب لكل منهما. وقال الطيبي: يرفع خبر كان والعائد محذوف، أي يرفع عليه السلام فيها طوراً صوته، والحديث يدل على أن الجهر والأسرار جائزان في قراءة صلاة الليل. (رواه أبوداود) وكذا في البيهقي (ج3 ص12، 13) وسكت عليه أبوداود والمنذري.
1210- قوله: (كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي رفع صوت قراءته في الصلاة بالليل. (على قدر ما يسمعه) أي مقدار قراءة يسمعها. وقال ابن حجر: أي صوت أو رفع يسمعه. (من في الحجرة) أي في صحن(4/188)
وهو في البيت. رواه أبوداود.
1211- (17) وعن أبي قتادة، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة فإذا هو بأبي بكر يصلي يخفض من صوته، ومر بعمر وهو يصلي رافعاً صوته، قال: فلما اجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفض صوتك. قال: قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله! وقال لعمر: مررت بك وأنت تصلي رافعا صوتك. فقال: يا رسول الله! أوقظ الوسنان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البيت، وهي الأرض المحجورة أي الممنوعة بحائط محوط عليها. (وهو في البيت) أي والحال أنه - صلى الله عليه وسلم - في بيته، ويحتمل أن يقال المراد بالبيت هو الحجرة نفسها، أي يسمع من في الحجرة، وهو فيها. وقيل: الحجرة أخص من البيت، يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع صوته كثيراً، ولا يسر بحيث لا يسمعه أحد، بل كانت قراءته بين الجهر والإسرار، فكان إذا قرأ في بيته سمع قراءته من في الحجرة من أهله، ولا يتجاوز صوته إلى ما وراء الحجرة، وهذا إذا كان يصلي ليلاً، وأما في المسجد، فكان يرفع صوته فيها كثيراً، وفي قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي: سئل ابن عباس عن جهر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة بالليل، فقال: كان يقرأ في حجرته قراءة لو أراد أن يحفظها حافظ فعل. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً الترمذي في الشمائل بلفظ: كان قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما يسمعه من في الحجرة، وهو في البيت. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال المنذري: وفي سنده ابن أبي الزناد، واسمه عبد الرحمن بن عبد الله ابن ذكوان، وفيه مقال، وقد استشهد به البخاري في مواضع- انتهى. قلت: ضعفه ابن معين وعلي بن المديني والنسائي وغيرهم، ووثقه الترمذي والعجلي، وصح الترمذي عدة من أحاديثه. وقال في اللباس: ثقة حافظ. وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. وقال ابن المديني والساجي وعمرو بن علي: ما حدث به بالمدينة فهو مقارب، وما حدث به العراق فهو مضطرب، وقال الحافظ في التقريب: صدوق تغير لما قدم بغداد، وكان فقيهاً. وللبيهقي (ج3 ص11) من طريق آخر بلفظ: كان يقرأ في بعض حجره، فيسمع قراءته من كان خارجاً.
1211- قوله: (فإذا هو بأبي بكر) قال الطيبي: أي مار بأبي بكر. (يصلي) حال عنه. (يخفض) حال عن ضمير يصلي. (من صوته) "من" زائدة أو تبعيضية أو بعض صوته. (قال) أي أبوقتادة. (فلما إجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وأنت تصلي) وفي رواية الترمذي: وأنت تقرأ وهي جملة حالية. (تخفض صوتك) بدل أو حال. وفي بعض النسخ أبي داود: تخفض من صوتك. (قال) أبوبكر. (قد أسمعت من ناجيت) جواب متضمن لعلة الخفض، أي أنا أناجي ربي وهو يسمع لا يحتاج إلى رفع الصوت. (أوقظ) أي أنبه. (الوسنان) أي النائم الذي ليس بمستغرق في نومه، من وسن يوسن وسناً وسنة أخذه ثقل النوم(4/189)
وأطرد الشيطان. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر! ارفع من صوتك شيئاً، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً)) . رواه أبوداود، وروى الترمذي ونحوه.
1212- (18) وعن أبي ذر، قال: ((قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح بآية، والآية: {إن تعذبهم فإنهم
عبادك. وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو اشتد نعاسه. (وأطرد) أي أبعد. (الشيطان) ووسوسته بالغفلة عن ذكر الله (يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئاً) أي قليلاً لينتفع بك سامع ويتعظ مهتد. (وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً) أي قليلاً لئلا يتشوش بك نحو مصل أو نائم معذور. قال الطيبي: نظيره قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً} [17: 110] كأنه قال للصديق أنزل من مناجاتك ربك شيأ قليلاً واجعل للخلق من قراءتك نصيباً، وقال للفاروق ارتفع من الخلق هوناً، واجعل لنفسك من مناجاة ربك نصيباً، وفيه هداية للأمر الوسط الذي هو خير الأمور وتصرف بتغيير ما هما وذلك من دأب المرشدين. (رواه أبوداود) مسنداً ومرسلاً، وكذا البيهقي (ج3 ص11) . (روى الترمذي نحوه) أي بمعناه. وقال: حديث غريب. وإنما أسنده يحيى بن إسحاق عن حماد بن سلمة وأكثر الناس إنما رووا هذا الحديث عن ثابت عن عبد الله بن رباح مرسلاً- انتهى. قال العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2 ص330) هذا التعليل لا يؤثر في صحة الحديث، فإن يحيى بن إسحق ثقة صدوق، كما قال أحمد. وقال ابن سعد: كان ثقة حافظاً لحديثه، ووصل الحديث زيادة يجب قبولها، والحديث قد سكت عنه أبوداود. وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي: يحيى بن إسحاق هذا هو البجلي السيلحيني، وقد احتج به مسلم في صحيحه- انتهى. وفي الباب عن علي عند أحمد برجال ثقات، وعن عمار بن ياسر عند الطبراني في الكبير، وفي سنده أيوب بن جابر، وثقه أحمد وعمرو بن علي، وضعفه ابن المديني وابن معين، وعن أبي هريرة عند أبي داود، وقد سكت عنه هو والمنذري.
1212- قوله: (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي في صلاته ليلاً. (بآية) متعلق "بقام" أي أخذ يقرأها من لدن قيامه ويتفكر في معانيها مرة بعد أخرى، قاله الطيبي. وفي رواية لأحمد (ج5 ص149) قال: قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها. وفي فضائل القرآن لأبي عبيد: قام مصطفى - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ آية واحدة الليل كله حتى أصبح بها يقوم وبها يركع، والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - قد استمر يكررها ليلته كلها في ركعات تهجده، فلم يقرأ فيها بغيرها. (والآية) أي المعهودة. (إن تعذبهم فإنهم عبادك) أي لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه. (وإن تغفر لهم) أي مع كفرهم. (فإنك أنت العزيز الحكيم) أي القوي القادر على الثواب والعقاب لا(4/190)
رواه النسائي وابن ماجه.
1213- (19) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تثيب ولا تعاقب إلا عن حكمة. وقيل: المعنى أن تعذبهم أي من أقام على الكفر منهم، فإنهم عبادك أي تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد، لا اعتراض عليك وإن تغفر لهم أي لمن آمن منهم، فإنك أنت العزيز أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله، وإنما كررها - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح لما اعتراه عند قراءتها من هول ما ابتدئت به ومن حلاوة ما اختتمت به، والآية من قول عيسى عليه السلام في حق قومه، وكأنه عرض - صلى الله عليه وسلم - حال أمته على الله سبحانه وتعالى واستغفر لهم، يدل على ذلك ما زاد أحمد في روايته: فلما أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها، وتسجد بها قال: إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً- انتهى. والحديث يدل على جواز تكرار الآية في الصلاة، ولعل ذلك كان قبل النهي عن القراءة في الركوع والسجود، أو أنه كان يقرأ بها في الركوع والسجود بنية الدعاء لا بنية القراءة والتلاوة، والله أعلم. (رواه النسائي) أي في سننه الكبرى. (وابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات، ثم قال: رواه النسائي في الكبرى وأحمد في المسند (ج5 ص149، 156) وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم- انتهى. وهو في المستدرك (ج1ص241) ووافقه الذهبي على تصحيحه، ورواه بقصة مطولة المروزي في قيام الليل (ص59) وذكره السيوطي في الدر المنثور مطولاً بألفاظ مختلفة (ج2 ص249، 250) ونسبه أيضاً لابن أبي شيبة وابن مردويه والبيهقي، وهو في السنن الكبرى من طريقين (ج3 ص13، 14) . وفي الباب عن عائشة قالت: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية من القرآن ليلة. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
1213- قوله: (إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر) يعني سنة الفجر، كما يشهد له حديث عائشة أول الفصل الأول. (فليضطجع) أي ندباً واستحباباً لما تقدم في شرح عائشة في الفصل الأول. (على يمينه) ولفظ الترمذي: على شقه الأيمن أي جنبه الأيمن، وهذا نص صريح في مشروعية الاضطجاع بعد سنة الفجر لكل أحد المتهجد وغيره، والمصلي ركعتي الفجر في المسجد وفي البيت، لأن الحديث مطلق، ولا دليل على تقييده بالمتهجد وبالمصلي في البيت. وللعلماء في هذا الاضطجاع أقوال: أحدها أنه سنة، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه. وقال النووي في شرح مسلم: والصحيح أو الصواب أن الاضطجاع بعد سنة الفجر سنة. الثاني أنه مستحب، وروي ذلك عن جماعة من الصحابة، وهم أبوموسى الأشعري ورافع بن خديج وأنس بن مالك وأبوهريرة، ذكرهم(4/191)
ابن القيم في زاد المعاد والعراقي والعيني. وممن قال به من التابعين: محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبوبكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار، كان هؤلاء الصحابة والتابعون يضطجعون على أيمانهم بيت ركعتي الفجر وصلاة الصبح، ويأمرون بذلك. الثالث أنه واجب مفترض لا بد من الإتيان وهو قول أبي محمد علي بن حزم الظاهري فقال في المحلى (ج3 ص196) : كل من ركعتي الفجر لم تجزه صلاة الصبح إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن بين سلامه من ركعتي الفجر وبين تكبيرة لصلاة الصبح، وسواء عندنا ترك الضجعة عمداً أو نسياناً، وسواء صلاها في وقتها أو صلاها قاضيا لها من نسيان أو عمد نومه، فإنه لم يصل ركعتي الفجر لم يلزمه أن يضطجع، فإن عجز عن الضجعة على اليمين لخوف أو مرض أو غير ذلك أشار إلى ذلك حسب طاقته، واستدل لذلك بحديث أبي هريرة، قال: وقد أوضحنا أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كله على فرض حتى يأتي نص آخر أو إجماع متيقن على أنه ندب فنقف عنده، وإذا تنازع الصحابة فالرد إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. قلت: هذا إفراط من ابن حزم في هذه المسألة وغلو جداً، وقول لم يسبقه إليه أحد ولا ينصره فيه أي دليل، فقد عرفت في شرح حديث عائشة ثاني أحاديث الفصل الأول أن الأمر الوارد في حديث أبي هريرة هذا محمول على الاستحباب، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على الاضطجاع، فلا يكون واجباً فضلاً عن أن يكون شرطاً لصحة صلاة الصبح، ولو سلمنا أن الأمر فيه للوجوب. فمن أن يخلص له أن الوجوب معناه الشرطية، وأن من لم يضطجع لم تجزئه صلاة الصبح، وما كل واجب شرط. الرابع أن هذا الاضطجاع بدعة ومكروه، وممن قال به من الصحابة: ابن مسعود وابن عمر على اختلاف عنه، وقد تقدم الجواب عن ذلك في شرح حديث عائشة ثالث أحاديث الفصل الأول. الخامس أنه خلاف الأولى، روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر. السادس أنه ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر وبين الفريضة، إما باضطجاع أو حدث أو بالتحول من ذلك المكان إلى غيره أو غير ذلك. والاضطجاع غير متعين في ذلك، وهو محكي عن الشافعي، لكن قال البغوي والنووي والحافظ: المختار الاضطجاع بخصوصه لظاهر حديث أبي هريرة. السابع التفرقة بين من يقوم بالليل، فيستحب له ذلك للاستراحة وبين غيره، فلا يشرع له، واختاره ابن العربي وقال: لا يضطجع بعد ركعتي الفجر لانتظار الصلاة إلا أن يكون قام الليل فيضطجع استجماماً لصلاة الصبح فلا بأس، ويشهد لهذا ما رواه الطبراني وعبد الرزاق عن عائشة: أنها كانت تقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب ليلة فيستريح، وهذا لا تقوم به حجة. أما أولاً فلأن في إسناده رواياً لم يسم، كما قال الحافظ. وأما ثانياً فلأن ذلك منها ظن وتخمين وليس بحجة، وقد روت أنه كان يفعله، والحجة في فعله، وقد ثبت أمره به، فتأكدت بذلك مشروعية الثامن(4/192)
التفرقة بين البيت فيستحب فيه وبين المسجد فلا يستحب فيه، ذهب إليه بعض السلف، وهو محكي عن ابن عمر وقد تقدم الجواب عنه. والراجح عندي هو القول الثاني يعني أن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر مشروع على طريق الاستحباب لكل أحد أي المتهجد وغيره من المصلي سنة الفجر في المسجد وفي البيت، والله أعلم. وقد أجاب من لم ير مشروعية الاضطجاع عن حديث أبي هريرة هذا بأجوبة: أحدها أنه من رواية عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وقد تكلم فيه بسبب ذلك يحيى بن سعيد القطان وأبوداود الطيالسي. قال يحيى بن سعيد: ما رأيته يطلب حديثاً بالبصرة ولا بالكوفة قط، وكنت أجلس على بابه يوم الجمعة بعد الصلاة إذا كره بحديث الأعمش لا يعرف منه حرفاً. وقال الفلاس: سمعت أبا داود يقول: عمد عبد الواحد إلى أحاديث كان يرسلها الأعمش فوصلها، يقول: حدثنا الأعمش حدثنا مجاهد في كذا وكذا، وهذا روايته عن الأعمش: وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن يحيى بن معين: أن عبد الواحد ليس بشيء. والجواب عن هذا الجواب أن عبد الواحد بن زياد قد احتج به الأئمة الستة، ووثقه أحمد بن حنبل وأبوزرعة وأبوداود وابن القطان وابن سعد وأبوحاتم والنسائي والعجلي والدارقطني وابن حبان. وقد روى عن ابن معين ما يعارض قوله السابق فيه من طريق من روي عنه التضعيف له، وهو عثمان بن سعيد المتقدم، فروي عنه أنه قال ثقة. وقال العراقي: وما روي عنه من أنه ليس بثقة، فلعله اشتبه على ناقله بعبد الواحد بن زيد، وكلاهما بصري. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: قال ابن معين: أثبت أصحاب الأعمش شعبة وسفيان ثم أبومعاوية ثم عبد الواحد بن زياد، وعبد الواحد ثقة وأبوعوانه أحب إليّ منه، ووثقه أبوزرعة وأبوحاتم وابن سعد والنسائي وأبوداود والعجلي والدارقطني، حتى قال ابن عبد البر لا خلاف بينهم أنه ثقة ثبت- انتهى. وأما قول يحيى بن سعيد: ما رأيته يطلب حديثاً الخ، فقال الحافظ: هذا غير قادح، لأنه صاحب كتاب، وقد احتج به الجماعة. وأما قول الفلاس ففيه أن هذا الحديث من روايته عن الأعمش عن أبي صالح لا عن مجاهد. الثاني أن الأعمش مدلس، وقد رواه عن أبي صالح بالعنعنة، والجواب عنه أن عنعنة الأعمش عن أبي صالح محمولة على الاتصال. قال الذهبي في الميزان: هو أي الأعمش يدلس، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به، فمتى قال: نا فلان، فلا كلام، ومتى قال: عن، تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم كإبراهيم وأبي وائل وأبي صالح السمان، فإنه روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال- انتهى. الثالث أن رواية أبي صالح عن أبي هريرة معلولة لم يسمعه أبوصالح عن أبي هريرة، وبين الأعمش وأبي صالح كلام، نسب هذا القول إلى ابن العربي. وقال الأثرم: قلت لأحمد حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: رواه بعضهم مرسلاً. والجواب عنه أن عبد الواحد قد رواه موصولاً، وهو ثقة ثبت قد(4/193)
رواه الترمذي وأبوداود.
{الفصل الثالث}
1214- (20) عن مسروق، قال: ((سألت عائشة: أي العمل كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت:
الدائم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
احتج به الأئمة الستة، وهو من أثبت أصحاب الأعمش، فتقبل وصله، لأنها زيادة ثقة، ولا يضره إرسال من أرسله. وأما دعوى عدم سماع أبي صالح من أبي هريرة، فمردودة، لأنه ادعاء محض، ويرده أيضاً تصحيح الترمذي لهذا الحديث، وهو من أئمة الشأن. وسكوت أبي داود ثم المنذري، وقول النووي: أسانيده صحيحة. الرابع أنه اختلف في حديث أبي هريرة هذا هل من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من فعله؟ فقد روى الترمذي وأبوداود وغيرهما من أمره. وروى ابن ماجه من فعله. وقد قال البيهقي: أن كونه من فعله أولى أن يكون محفوظاً. وقال ابن تيمية: حديث أبي هريرة ليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبد الواحد ابن زياد وغلط فيه- انتهى. والجواب عنه أن وروده من فعله - صلى الله عليه وسلم - لا ينافي كونه وروده من قوله، فيكون عند أبي هريرة حديثان حديث الأمر به، وحديث ثبوته من فعله، على أن الكل يفيد ثبوت أصل الشرعية، فيرد القول بكراهته ونفي مشروعيته. الخامس أن ابن عمر لما سمع أبا هريرة يروي حديث الأمر به قال: أكثر أبوهريرة على نفسه. والجواب عنه أن ابن عمر سئل هل تنكر شيئاً مما يقول أبوهريرة؟ قال: لا، وأن أبا هريرة قال: فما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بالحفظ هذا. وقد أفاض القول في هذا المبحث العلامة العظيم آبادي في أعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر (ص14- 20) فارجع إليه. (رواه الترمذي) وصححه. (وأبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وقال النووي في شرح مسلم والشيخ زكريا الأنصاري في فتح العلام: إسناده على شرط الشيخين، وقال النووي في رياض الصالحين (426) : أسانيده صحيحه. وقال الشوكاني: رجاله رجال الصحيح. وقد أفرط ابن تيمية في الرد على ابن حزم حتى زعم أن حديث أبي هريرة هذا باطل، وليس بصحيح لتفرد عبد الواحد بن زياد به، وفي حفظه مقال. قال الحافظ بعد ذكره: والحق أنه تقوم به حجة- انتهى. قلت: قول ابن تيمية هذا غلو منه وبعيد عن الصواب. والحق أن الحديث صحيح سنداً ومتناً، وعبد الواحد ثقة ثبت فلا يضر تفرده به، والله أعلم. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وابن حزم في المحلي، وابن حبان، والبيهقي.
1214- قوله: (أي العمل) بالرفع. وفي رواية النسائي أي الأعمال. (كان أحب) بالنصب. (قالت: الدائم) بالرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الدائم. وقيل: بالنصب. قال الطيبي: أي العمل الذي يدوم عليه صاحبه ويستقر عليه عامله، ومن ثم أدخل حرف التراخي في قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [41: 30)(4/194)