فإن المساجد لا تبن لهذا)) رواه مسلم.
712- (19) وعن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أكل من هذه الشجرة المنتنة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وما وجدتها. قال السندي: يحتمل أنه دعاء عليه، فكلمة لا لنفي الماضي، ودخولها على الماضي بلا تكرار جائز في الدعاء، وفي غير الدعاء الغالب هو التكرار كقوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [75: 31] ويحتمل أن لا ناهية أي لا تنشد، وقوله: ردها الله عليك، دعاء له لإظهار أن النهي عنه نصح له، إذا الداعي بالخير لا ينهى إلا نصحاً، لكن اللائق حينئذٍ الفصل بأن يقال: لا، وردها الله عليك، بالواو؛ لأن تركها يوهم، إلا أن يقال: الموضع موضع زجر، ولا يضر به الإبهام لكونه إيهام شيء هو آكد في الزجر-انتهى. (فإن المساجد لم تبن لهذا) أي لنشدان الضالة ونحوه، بل بنيت لذكرالله والصلاة، والعلم والمذاكرة في الخير، ونحوهما. وقوله: فإن المساجد، الخ. يحتمل أنه في حيز القول فلا بد أن يقوله القائل تعليلاً لقوله، ويؤيده حديث بريدة عند مسلم: أن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا وجدته، إنما بنيت المساجد لما بنيت له. ويحتمل أنه تعليل لقوله فليقل، فلا حاجة إلى أن يقول. والحديث دليل على تحريم السؤال برفع الصوت عن ضالة الحيوان في المسجد، وهل يلحق به السؤال عن غيرها من المتاع ولو ذهب في المسجد؟ قيل: يلحق للعلة، وهي قوله: فإن المساجد لم تبن لهذا، وإن من ذهب عليه متاع فيه أو في غيره قعد في باب المسجد يسأل الخارجين والداخلين إليه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وابن ماجه.
712- قوله: (من هذه الشجرة المنتنة) بضم الميم وكسر التاء الفوقية من أنتن الشيء أي خبثت رائحته، يعني بها الثوم كما وقع في رواية للشيخين، وفي رواية لمسلم: من أكل البصل والثوم والكراث. وفي قوله: شجرة، مجاز؛ لأن المعروف في اللغة أن الشجرة ما كان لها ساق، وما لا ساق له يقال له: نجم، وبهذا فسر ابن عباس قوله تعالى. {والنجم والشجر يسجدان} [55: 6] ومن أهل اللغة من قال: كل ما ثبت له أرومة أي أصل في الأرض يخلف ما قطع من ظاهرها فهو شجر، وما ليس لها أرومة تبقى فهو نجم. قال العيني: فإن قلت على ما ذكر: كيف أطلق الشجر على الثوم ونحوه، قلت: قد يطلق كل منهما على الآخر، وتكلم أفصح الفصحاء به من أقوى الدلائل-انتهى. والمراد بالثوم في الحديث النيئ منه، وأما المطبوخ فلا كراهة فيه لما روى أبوداود والترمذي من حديث علي قال: نهى عن أكل الثوم إلا مطبوخاً، ولما يأتي في الفصل الثاني من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هاتين الشجرتين-الحديث. وفيه: إن كنتم لابد آكليهما فأميتوهما طبخاً. فهذان الحديثان يفيدان تقييد ما ورد من الأحاديث المطلقة في النهي. ويلحق بما نص عليه في الحديث من الثوم في رواية، والبصل والكراث في أخرى، والفجل في رواية(2/414)
فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعجم الصغير للطبراني، كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها لاسيما التتن والتبغ والتنباك والسيجارة، وإنما خص الثوم والبصل والكراث والفجل بالذكر لكثرة أكلهم بها. (قلا يقربن) بفتح الراء والباء الموحدة وبنون التأكيد المشددة. (مسجدنا) يريد به المكان الذي أعد ليصلى فيه مدة إقامته بخيبر، لأن القول المذكور صدر منه - صلى الله عليه وسلم - عقب فتح خيبر، أو المراد بالمسجد الجنس، والإضافة إلى المسلمين أي فلا يقربن مسجد المسلمين، ويؤيده رواية أحمد بلفظ "فلا يقربن المساجد" ونحوه لمسلم، وهذا يدفع قول من خص النهي بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن لفظ المساجد لا يساعده، وكذا التعليل يتأذى الملائكة؛ لأن ذلك يوجد في المساجد كلها، ثم إن ظاهر التقييد بالمساجد يقتضي أن قربهم في الأسواق غير منهي عنه، ويؤيده التعليل؛ لأن المساجد محل اجتماع الملائكة دون الأسواق، وكان المقصود مراعاة الملائكة الحاضرين في المساجد الخيرات، وإلا فالإنسان لا يخلو عن صحبة ملك فينبغي له دوام الترك لهذه العلة، قاله السندي. قلت: قد وقع في حديث أنس عند الشيخين "فلا يقربنا" قال الحافظ: ليس في هذا تقييد النهي بالمسجد فيستدل بعمومه على إلحاق المجامع بالمساجد كمصلى العيد والجنازة، ومكان الوليمة، وقد ألحقها بعضهم بالقياس، والتمسك بهذا العموم أولى، ونظيره قوله: وليقعد في بيته. لكن قد علل المنع في الحديث بترك أذى الملائكة وترك أذى المسلمين. (كما في حديث أبي هريرة عند مسلم: "فلا يقربن مسجدنا ولا يؤذينا بريح الثوم" فإن كان كل منهما جزء علة اختص النهي بالمساجد وما في معناها، وهذا هو الأظهر، وإلا لعم النهي كل مجمع كالأسواق-انتهى. وقال ابن دقيق العيد: والظاهر أن كل واحد منهما علة مستقلة- انتهى. وعلى هذا الأسواق كغيرها من مجامع العبادات. (فإن الملائكة تتأذى) أريد بهم الحاضرون مواضع العبادات عامة، ويدل هذا التعليل على أنه لا يدخل المسجد وإن كان خالياً عن الإنسان؛ لأنه محل ملائكة، فقوله: مما يتأذى منه الإنس-بكسر الهمزة- يكون محمولاً على تقدير وجودهم فيه. والحديث يدل على جواز أكل الثوم وغيره من البقول مما فيه رائحة كريهة مطبوخاً كان أو غير مطبوخ لمن قعد في بيته، وعند حضور المسجد إذا كان مطبوخاً لئلا يؤذي برائحته الخبيثة من يحضره من الملائكة وبني آدم، فالنهي إنما هو عن حضور المسجد بعد أكل الثوم النيئ ونحوه لا عن أكل الثوم والبصل ونحوهما، فهذه البقول حلال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: كل فإني أناجي من لا تناجي. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: أيها الناس ليس لي تحريم ما أحل الله لي. وشذ أهل الظاهر فحرموا هذه الأشياء لإفضائها إلى ترك الجماعة، وهي عندهم فرض عين، وتقريره أن يقال: صلاة الجماعة فرض، ولا تتم إلا بترك أكلها وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فترك أكلها واجب، فتكون حراماً، كذا نقله ابن دقيق العيد وغيره عن أهل الظاهر، لكن صرح ابن حزم منهم بان أكلها حلال مع قوله: بأن الجماعة فرض عين، وانفصل عن اللزوم المذكور بأن المنع من أكلها مختص بمن علم بخروج الوقت قبل زوال الرائحة، ونظيره أن صلاة الجمعة فرض عين بشروطها ومع ذلك تسقط بالسفر، وهو في أصله مباح لكن يحرم(2/415)
متفق عليه.
713- (20) وعن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البزاق في المسجد خطيئة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على من أنشأه بعد سماع النداء، قلت: الحديث قد استدل به على أن صلاة الجماعة ليست فرض عين، قال ابن دقيق العيد: وتقريره أن يقال: أكل هذه الأمور جائز، ومن لوازمه ترك صلاة الجماعة في حق آكلها، ولازم الجائز جائز، فيكون ترك صلاة الجماعة في حق آكلها جائزاً، وذلك ينافي الوجوب، قال: وقد يستدل بهذا الحديث على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة، وقد يقال: إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها فلا يقتضي ذلك أن يكون عذراً في تركها إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة، قال: ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه فإن ذلك ينفي الزجر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي في الأطعمة والنسائي في الصلاة وفي الباب روايات عن جماعة من الصحابة عند الشيخين وغيرهما بألفاظ متقاربة.
713- قوله: (البزاق) أي إلقاءه، وهو بضم الباء بعدها زاي، وفي رواية لمسلم "التفل" بدل البزاق، وفي رواية النسائي: البصاق بالصاد والتفل بفتح المثناة فوق وسكون الفاء هو البزاق والبصاق، وهما ماء الفم إذا خرج منه، ومادام فيه فهو ريق. (في المسجد) أي في أرضه وجدرانه، قال الحافظ: قوله: في المسجد. ظرف للفعل فلا يشترط كون الفاعل فيه حتى لو بصق من هو خارج المسجد فيه تناوله النهي. (خطيئة) بالهمزة أي إثم وفي رواية لأحمد: سيئة، ومثل البزاق المخاط والنخامة بل أولى. قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إن لم يدفنه، فمن أراد دفنه فلا، ورده النووي فقال: هو خلاف صريح الحديث، فالبزاق في المسجد عنده خطيئة مطلقاً أراد دفنه أو لا. قال الحافظ: وحاصل النزاع أن ههنا عمومين تعارضا وهما قوله: البزاق في المسجد خطيئة. وقوله: وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فالنووي يجعل الأول عاماً ويخص الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي بخلافه يجعل الثاني عاماً ويخص الأول بمن لم يرد دفنها. وقد وافق القاضي جماعة منهم ابن مكي في التنقيب، والقرطبي في المفهم، ويشهد لهم ما رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي أمامة مرفوعاً، قال: من تنخع في المسجد فلم يدفنه فسيئة، وإن دفنه فحسنة، فلم يجعله سيئة إلا بقيد عدم الدفن، ونحوه حديث أبي ذر عند مسلم مرفوعاً قال: وجدت في مساوئ أعمال أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن. قال القرطبي: فلم يثبت لها حكم السيئة بمجرد إيقاعها في المسجد بل به وبتركها غير مدفونة-انتهى. ومما يدل على أن عمومه مخصوص جواز ذلك في الثواب ولو كان في المسجد بلا خلاف، وعند أبي داود من حديث عبد الله بن الشخير أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فبصق تحت قدمه اليسرى ثم دلكه بنعله. إسناده صحيح، وأصله في مسلم، والظاهر أن ذلك كان في المسجد فيؤيد ما تقدم. وتوسط بعضهم فحمل الجواز على ما إذا كان له عذر كأن لم يتمكن من الخروج من المسجد، والمنع على ما إذا لم يكن له عذر،(2/416)
وكفارة دفنها)) متفق عليه.
714- (21) وعن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عرضت على أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن)) رواه مسلم.
715- (22) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو تفصيل حسن-انتهى كلام الحافظ باختصار يسير. (وكفارتها) أي كفارة الخطيئة إذا فعلها. (دفنها) أي في تراب المسجد ورمله وحصياته إن كان، وإلا فيخرجها يعني أنه إذا أزال ذلك البزاق أو ستره بشيء طاهر عقيب الإلقاء زال منه تلك الخطيئة، قال الحافظ: قال ابن أبي جمرة: لم يقل: وكفارتها تغطيتها؛ لأن التغطية يستمر الضرر بها إذ لا يأمن أن يجلس غيره عليها فتؤذيه بخلاف الدفن فإنه يفهم منه التعميق في باطن الأرض-انتهى. قيل: إن لم يكن المسجد ذا تراب وكان ذا حصير لا يجوز إلقاء البزاق فيه احتراماً للمالية. قلت: إذا احتاج إلى دفع البزاق وكان المسجد مجصصاً ومبلطاً فألقى البزاق تحت قدمه اليسرى ودلكه بحيث لم يبق في المسجد للبزاق أثر فلا حرج، وعلى هذا يحمل حديث عبد الله بن الشخير الذي تقدم في كلام الحافظ. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي، وأبوداود والنسائي.
714- قوله: (عرضت على) أي إجمالاً أو تفصيلاً. (حسنها وسيئها) بالرفع عطف بيان للأعمال أو بدل اشتمال. (في محاسن أعمالها) جمع حسن بالضم والسكون على غير قياس. (الأذى) أي المؤذي يعني إزالته، واللام فيه للجنس. (يماط) أي يزال. (عن الطريق) صفة الأذى، قاله الطيبي. وفيه التنبيه على أن كل ما نفع المسلمين أو أزال عنهم ضراراً كان من حسن الأعمال. (مساوي أعمالها) جمع سوء على غير قياس والياء منقلبة عن الهمزة. (النخاعة) بضم النون أي البزاقة التي تخرج من أصل الفم والمراد إلقائها، وقيل: المراد بها البزاق. (تكون في المسجد) صفة النخاعة. (لا تدفن) قال ابن الملك: الجملتان صفتان أو حالان أي متداخلتان أو مترادفتان. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه وابن حبان.
715- قوله: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة) أي شرع فيها ففي حديث أنس عند الشيخين: إذا كان أحدكم في الصلاة. وفي حديث عبد الله بن عمر عندهما أيضاً: إذا كان أحدكم يصلي. (فلا يبصق) بالصاد والجزم على النهي، وقيل: نفي معناه النهي. (أمامه) بفتح الهمزة أي قدامه، وظاهر الإطلاق يعم المسجد وغيره، بل الواقعة كانت في المسجد(2/417)
فإنما يناجي الله ما دام في مصلاه، ولا عن يمينه، فإن عن يمينه ملكاً. وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما يدل عليه سبب الحديث فيدل على أن الحكم ليس معللاً بتعظيم المسجد وإلا لكان اليمين واليسار سواء، بل المنع عن تلقاء الوجه للتعظيم بحالة المناجاة مع الرب تعالى، وعن اليمين للتأدب مع ملك اليمين كما يفهم من الأحاديث، قاله السندي. (فإنما يناجي الله) والمناجاة من قبل العبد حقيقة، ومن قبل الله إقباله تعالى عليه بالرحمة والرضوان فمناجاة الله مجاز، إذ المناجاة هي المسارة بين الاثنين، ولا كلام محسوساً إلا من طرف العبد فيكون المراد لازم المناجاة وهو إرادة الخير. (مادام في مصلاه) أي ومن يناجي أحداً مثلاً لا يبصق نحوه، وظاهره يقتضي تخصيص المنع بحالة الصلاة لكن التعليل بتأذي المسلم في حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعاً عند أحمد بإسناد حسن: من تنخم في المسجد فليغيب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه، يقتضي المنع في جدار المسجد مطلقاً، ولو لم يكن في الصلاة، فيجمع بأن يقال: كونه في الصلاة أشد إثماً مطلقاً، وكونه في جدار القبلة أشد إثماً من كونه في غيرها من جدار المسجد. (ولا عن يمينه) تعظيماً لليمين وزيادة لشرفها. (فإن عن يمينه ملكاً) لا بد من وجه يقتضي اختصاص المنع باليمين لأجل الملك، إذا الملك في يساره أيضاً، وذلك الوجه هو أن يقال: أن ملك اليمين يكتب حسنات المصلى في حالة صلاته، والصلاة هي أم الحسنات البدنية، وهي أيضاً تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا دخل لكاتب السيأت الكائن عن اليسار فيها، ويكون هو فارغاً. وأحسن ما قيل فيه: أن لكل أحد قريناً أي شيطاناً، وموقعه يساره كما في حديث أبي أمامة عند الطبراني، فإنه يقوم بين يدي الله، وملكه عن يمينه وقرينه على يساره، فلعل المصلي إذا تفل عن يساره يقع على قرينه وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذٍ يكون بحيث لا يصيبه شيء من ذلك، أو أنه يتحول في الصلاة إلى اليمين. وقيل: التنكير في ملكاً للتعظيم أي ملكاً عظيماً، فلا يشكل بأن على اليسار أيضاً ملكاً. وقال الطيبي: يحتمل أن يراد ملك آخر غير الحفظة يحضر عند الصلاة للتائيد والإلهام والتأمين على دعائه، فسبيله سبيل الزائر فيجب أن يكرم زائره فوق من يحفظه من الكرام الكاتبين. (وليبصق عن يساره) أي إن كان فارغاً. قال الخطابي: إن كان عن يساره أحد فلا يبزق في واحد من الجهتين لكن تحت قدمه أو ثوبه. ويؤيده ما رواه أبوداود من حديث طارق المحاربي مرفوعاً، فإنه قال فيه: ولكن عن تلقاء يساره إن كان فارغاً، أو تحت قدمه اليسرى، ثم ليقل به. وفي رواية النسائي: أو تلقاء شمالك إن كان فارغاً، وإلا فهكذا وبزق تحت رجله ودلكه، ومعنى قوله "فارغاً" أي متمكناً من البزق في يساره، وقوله "ثم ليقل به" أي ليدفنه إذا بزقه تحت قدمه اليسرى. (أو تحت قدمه) أي اليسرى وأو للتنويع أي إذا تعذر في جهة اليسار لوجود مصل فيها بصق تحت قدمه. (فيدفنها) بنصب النون؛ لأنه جواب الأمر، وبرفعها على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يدفنها، ويجوز الجزم عطفاً على الأمر،(2/418)
716- (23) وفي رواية أبي سعيد: ((تحت قدمه اليسرى)) متفق عليه.
716- (24) وعن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتأنيث الضمير في "فيدفنها" بتأويل البصقة التي يدل عليها قوله "وليبصق" أي فيغيب البصقة بالتعميق في باطن أرض المسجد بحيث يأمن الجالس عليها من الإيذاء، فلو كان المسجد غير ترابي فيدلكها بشيء حتى يذهب أثرها ألبتة، وإذا بدره البزاق ولم يكن يساره فارغاً وكان تحت قدمه فراش من ثوب ونحوه تعين الثوب للبزق فيتفل فيه ثم يرد بعضه على بعض، ولو فقد الثوب مثلاً فلعل بلعه أولى من ارتكاب المنهي عنه.
716- قوله: (وفي رواية أبي سعيد) أي عند الشيخين. (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وفي الباب عن أنس، وابن عمر، وأبي سعيد عند الشيخين، وجابر بن عبد الله عند أبي داود وغيره.
717- قوله: (قال في مرضه الذي لم يقم منه) كأنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يعظم قبره كما فعل اليهود والنصارى، فعرض بلعنهم إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم كيلا يعامل معه ذلك، فقال: (لعن الله اليهود والنصارى) واللعن أمارة الكبيرة المحرمة أشد التحريم فيكون الفعل الذي أوجب اللعن حراماً. (اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد) جملة مستأنفة على سبيل البيان لموجب اللعن، كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. زاد في رواية: يحذر ما صنعوا. وهي جملة مستأنفة أخرى من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت، فقالك ليحذر أمته أن يصنعوا بقبره مثل ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم. واتخاذ القبور مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها، أو بمعنى الصلاة عليها. وفي مسلم: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها، ولا عليها. والظاهر أن العلة سد الذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان الذين يعظمون الجمادات التي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية، ولأنه سبب لإيقاد سرج عليها الملعون فاعله، ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر. وقال التوربشتي الحنفي في شرح المصابيح: معنى إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على اليهود والنصارى صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما أنهم كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لهم، والثاني أنهم كانوا يتحرون الصلاة في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم، والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة نظراً منهم بأن ذلك الصنيع أعظم موقعاً عند الله لاشتماله على الأمرين: عبادة الله سبحانه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذهاباً إلى أن تلك البقاع بإقامة الصلاة والتوسل بالعبادة فيها إلى الله لاختصاصها بقبور الأنبياء، وكلا الطريقين غير مرضية، أما الأولى فلأنها من الشرك الجلي، أما الثانية فلأنها متضمنة معنى ما من الإشراك في عبادة الله حيث أتى بها على صنعة(2/419)
متفق عليه.
718- (25) وعن جندب، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإشراك أو التبعية لمخلوق. والدليل على ذم الوجهين قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والوجه الأول أشبه به. وأما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الصلاة في المقابر فإنه لمعنيين: أحدهما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، وإن كان القصدان مختلفين، والثاني لما يتضمنه من الشرك الخفي حيث أتى في عبادة الله بما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له. قال: والصلاة في المواضع المتبركة بها من مقابر الصالحين داخلة في جملة هذا النهي، لا سيما إذا كان الباعث تعظيم هؤلاء، وتخصيص تلك الموضع لما أشرنا إليه من الشرك الخفي-انتهى كلام التوربشتي بقدر الضرورة. قلت: ويدخل أيضاً في هذا النهي والوعيد اتخاذ مسجد بجوار نبي أو صالح، والصلاة عند قبره لا لتعظيمه، ولا بالتوجه نحوه بل لحصول مدد منه، ورجاء كمال عبادته ببركة مجاورته لتلك الروح، وهذا لأن اتخاذ المسجد بقربه وقصد التبرك به تعظيم له، ولأن في هذا الصنيع أيضاً من المفاسد ما لا يخفى، ولأنه لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً من أمته بالاستفاضة بقبره أو بقبر أحد من صلحاء أمته، ولا بالاستمداد منه، ولا بالمجاورة به، ولا التبرك به، وإنما أمر أمته بالسلام على أهل القبور والدعاء والاستغفار لهم عند زيارة القبور وحث على الاعتبار بهم، فالاستفاضة بالقبور، والاستمداد منها، والتبرك بها ولو كان بدون التوجه إليها حرام عندنا لكونه داخلاً في الشرك الخفي. واعلم أنه قد استشكل ذكر النصارى في الحديث؛ لأنه ليس لهم نبي إلا عيسى عليه السلام، إذ لا نبي بينه وبين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو حي في السماء لم يمت، فليس له قبر، وأجيب بأن ضمير الجمع في قوله "أنبيائهم" للمجموع من اليهود والنصارى، فإن اليهود لهم أنبياء، أو المراد الأنبياء وكبار أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء، ويؤيده رواية جندب التالية حيث قال: كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ولهذا أفرد النصارى، كما في رواية لعائشة رضي الله عنها عند الشيخين. قال: إذا مات فيهم الرجل الصالح، ولما أفرد اليهود كما في حديث أبي هريرة قال: قبور أنبيائهم، أو أنه كان فيهم أنبياء أيضاً لكنهم غير مرسلين كالحواريين، أو يقال: أنبياء اليهود أنبياء النصارى؛ لأن النصارى مأمورون بالإيمان بكل رسول، فرسل بني إسرائيل يسمون أنبياء في حق الفريقين، والمراد من الإتخاذ أعم من أن يكون ابتداعاً أو إتباعاً، فاليهود ابتدعت، والنصارى اتبعت، ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود، وخصص اليهود بالذكر في حديث أبي هريرة لكونهم ابتدعوا هذا الاتخاذ فهم أظلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، والجنائز، والمغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً النسائي.
718- قوله: (ألا) للتنبيه. (وإن) بالكسر على تقدير أنبهكم وأقول إن. قال القاري: وروى بالفتح، فالتقدير: تنبهوا واعلموا أن. (من كان قبلكم) أي اليهود والنصارى، أو أعم منها. (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد) كرر التنبيه(2/420)
إني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم.
719- (26) وعن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بإقحام أداته بين السبب والمسبب مبالغة، وكرر النهي أيضاً كما كرر التنبيه بقوله. (إني أنهاكم عن ذلك) وفي الصحيحين عن عائشة: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، وأولئك شرار الخلق عندالله يوم القيامة. قال الحافظ: وإنما فعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم، ثم خلف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فاعبدوها، فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك. (رواه مسلم) ....
719- قوله: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم) قيل من زائدة، والمراد من الصلاة النوافل، والتقدير: اجعلوا صلاتكم أي نوافلكم في بيوتكم، يدل على هذا ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعاً: إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته. وفي الصحيحين حديث: صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. وإنما شرع ذلك لكونه أبعد من الرياء، وليتبرك به البيت، وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وتنفر الشياطين منه، لكن استثنى منه ركعتا الطواف والإحرام، وتراويح رمضان، وصلاة الكسوف والاستسقاء وتحية المسجد، وصلاة القدوم من السفر، وما ورد من صلاته - صلى الله عليه وسلم - بعض النوافل في المسجد- كركعتين بعد المغرب مثلاً – فهو لبيان الجواز، وقيل: من للتبعيض، والمراد من الصلاة مطلق الصلاة، والمعنى: اجعلوا بعض صلاتكم وهو النفل من الصلاة المطلقة في بيوتكم، والصلاة المطلقة تشمل النفل والفرض، قال القاري: "من صلاتكم" مفعول أول و"في بيوتكم" مفعول ثان، قدم على الأول للإهتمام بشأن البيوت، أي اجعلوا بعض صلاتكم التي هي النوافل مؤداة في بيوتكم، وإن من حقها أن يجعل لها نصيباً من الطاعات لتصير منورة؛ لأنها مأواكم ومنقلبكم، وليست كقبوركم التي لا تصلح لصلاتكم، ولذا قال: (لاتتخذوها) أي بيوتكم. (قبوراً) بأن تتركوا الصلاة فيها كما تتركون في المقابر، والمعنى: أعطوا البيوت حظها من الصلاة، ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يصلى فيها، فأحال على المقابر لكونها معهودة معروفة بهذه الصفة بحسب الحس والمشاهدة والشرع، ويؤيده ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: لا تجعلوا بيوتكم مقابر. فالحديث فيه دليل على كراهة الصلاة في المقابر، وعليه حمله البخاري في صحيحه حيث عقد عليه "باب كراهية الصلاة في المقابر"، وقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع الصلاة، وكذا قال البغوي في شرح السنة(2/421)
متفق عليه.
{الفصل الثاني}
720- (27) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والخطابي. وقيل: المراد من الحديث الندب إلى الصلاة في البيوت، إذ الموتى لا يصلون كأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم، وهي القبور. وقيل: المراد لا تجعلوا بيوتكم وطناً للنوم فقط لا تصلون فيها، فإن النوم أخو الموت، والميت لا يصلي. ويحتمل أن يكون المراد أن من لم يصل في بيته جعل نفسه كالميت وبيته كالقبر، ويؤيده ما رواه مسلم: مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت. وهذا يرجع إلى المعنى الثاني. وقيل: المراد النهي عن دفن الموتى في البيوت، والمعنى: لا تدفنوا في بيوتكم موتاكم لئلا يكدر عليكم معايشكم ومأواكم، ولأن استمرار الدفن في البيوت ربما صيرها مقابر فتصير الصلاة فيها مكروهة، ولفظ حديث أبي هريرة عند مسلم أصرح من حديث ابن عمر وهو قوله: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن ظاهره يقتضي النهي عن الدفن في البيوت مطلقاً. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
720- قوله: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) قد اضطربت أقوال العلماء في شرح هذا الحديث ومعناه، فقال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي: هذا الحديث كحديث أبي أيوب المتقدم: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. إنهما كلاهما فيما كان من المواضع سمته وجهته كسمت المدينة وجهتها؛ لأنها في شمال مكة، بينها وبين الشام، فإذا استقبل القبلة استدبر الشام، وإذا استدبر القبلة استقبل الشام، وإن المراد بقوله: ما بين المشرق والمغرب قبلة، أن الفرض على المصلى إذا كان بعيداً عن الكعبة أن يتوجه جهتها، لا أن يصيب عينها على اليقين، فإن هذا محال أو عسير-انتهى. وقال العراقي: ليس هذا عاماً في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرفة وما وافق قبلتها، قال: ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك. وقال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن معنى الحديث فقال: هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إن زال عنه شيئاً وإن قل فقد ترك القبلة، ثم قال: هذا المشرق- وأشار بيده- وهذا المغرب – وأشار بيده- وما بينهما قبلة. قلت: فصلاة من صلى بينهما جائزة؟ قال: نعم. وينبغي أن يتحرى الوسط. قال ابن عبد البر: تفسير قول أحمد هذا في كل البلدان يريد أن البلدان كلها لأهلها في قبلتهم مثل ما لمن كانت قبلتهم بالمدينة الجنوب التي يقع لهم فيها الكعبة، فيستقبلون جهتها ويتسعون يميناً وشمالاً فيها ما بين المشرق والمغرب، يجعلون المغرب عن أيمانهم والمشرق عن يسارهم، وكذلك لأهل اليمن من السعة في قبلتهم مثل ما بين المشرق والمغرب إذا توجهوا أيضاً قبل القبلة إلا أنهم يجعلون المشرق(2/422)
عن أيمانهم والمغرب عن يسارهم، وكذلك أهل العراق وخراسان لهم من السعة في استقبال القبلة ما بين الجنوب والشمال مثل ما كان لأهل المدينة من السعة فيما بين المشرق والمغرب، وكذلك ضد العراق على ضد ذلك أيضاً، وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام، وهي لأهل مكة أوسع قليلاً، ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلاً ثم لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا_ انتهى. قال الترمذي: قال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة. وقد ذكر العلامة أحمد بن علي المقريزي هذا الحديث في أثناء الفصل الذي عقده في خططه (1) عن المحاريب التي بديار مصر (ج4: ص21-33 من طبعة مصر سنة 1326) ومما قال في شرحه: إذا تأملت وجدت هذا الحديث يختص بأهل الشام والمدينة وما على سمت تلك البلاد شمالاً وجنوباً فقط، والدليل على ذلك أنه يلزم من حمله على العموم إبطال التوجه إلى الكعبة في بعض الأقطار، وقد عرفت إن كنت تمهرت في معرفة البلدان وحدود الأقاليم أن الناس في توجههم إلى الكعبة كالدائرة حول المركز، فمن كان في الجهة الغربية من الكعبة فإن جهة قبلة صلاته إلى المشرق، ومن كان في الجهة الشرقية من الكعبة فإنه يستقبل في صلاته جهة المغرب، ومن كان في الجهة الشمالية من الكعبة فإنه يتوجه في صلاته إلى جهة الجنوب، ومن كان في الجهة الجنوبية من الكعبة كانت صلاته إلى جهة الشمال، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والجنوب فإن قبلته فيما بين الشمال والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الجنوب والمغرب فإن قبلته فيما بين الشمال والمشرق، ومن كان من الكعبة فيما بين المشرق والشمال فقبلته فيما بين الجنوب والمغرب، ومن كان من الكعبة فيما بين الشمال والمغرب فقبلته فيما بين الجنوب والمشرق، إلى آخر ما قال. وقد علمت مما تقدم أن الحديث على هذا المعنى يدل على أن الواجب استقبال جهة الكعبة في حق من بعد عن الكعبة وتعذرت عليه العين، وقد ذهب إليه أكثر السلف مالك، وأحمد، وأبوحنيفة وغيرهم، وهو ظاهر ما نقله المزني عن الشافعي، ووجه الاستدلال به على ذلك أن المراد أن بين الجهتين قبلة لغير المعاين ومن في حكمه؛ لأن المعاين لا تنحصر قبلته بين الجهتين المشرق والمغرب، بل كل الجهات في حقه سواء متى قابل العين. فالحديث دليل على أن ما بين الجهتين قبلة، وأن الجهة كافية في الاستقبال، وذهب الشافعي في أظهر القولين عنه: أن فرض من بعد إصابة العين، وأنه يلزمه ذلك بالظن، وقوله تعالى: {حيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [2: 144] يدل على كفاية الجهة، إذ العين في كل محل تتعذر على كل مصل، فالحق أن الجهة كافية لمن تعذر عليه العين. وقال ابن المبارك في معنى الحديث: ما بين المشرق. (أى مشرق الشتاء) والمغرب. (أى مغرب الصيف) قبلة، هذا لأهل المشرق، واختبار التياسر لأهل مرو-انتهى. قال الشوكاني: أراد ابن المبارك بالمشرق البلاد التي يطلق عليها اسم المشرق كالعراق مثلاً، فإن قبلتهم أيضاً بين المشرق والمغرب وقد ورد مقيداً بذلك في بعض طرق حديث أبي هريرة: ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل العراق. رواه البيهقي في الخلافيات، وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لأهل المشرق- انتهى.
(1) أعنى به كتابة "الواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار".(2/423)
رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال المظهر: يعني من جعل من أهل المشرق أول المغارب-وهو مغرب الصيف- عن يمينه وآخر المشارق - وهو مشرق الشتاء- عن يساره كان مستقبلاً للقبلة، والمراد بأهل المشرق أهل الكوفة وبغداد وخوزستان وفارس وعراق وخراسان وما يتعلق بهذه البلاد-انتهى. فليس المراد بأهل المشرق في قولي ابن المبارك وابن عمر جميع من هم في المشرق إلى أقصى المعمورة، بل أهل العراق وبخاري وبلخ وسمرقند ونحوهم؛ لأن بلادهم في مشرق الصيف من المدينة، وقبلتهم بين مغرب الصيف ومشرق الشتاء. وانظر الخريطة وهي هذه:
وقال بعضهم: أراد به بيان قبلة من التبس عليه قبلته فإلى أي جهة صلى بالتحري والاجتهاد كفته. قال تعالى: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} [2: 115] وقال بعضهم: المراد منه المتطوع على الدابة في السفر إلى أي جهة. وفي القولين نظر، إذا لا وجه فيهما للتقييد بما بين المشرق والمغرب، قاله القاري. وقال بعضهم: المراد منه صحة الصلاة في جميع الأرض، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص304) وقيل: المراد به بيان حكم المريض الذي لا يقدر أن يتوجه إلى القبلة. وقيل: هو محمول على المجاهد المطلوب. والراجح عندي هو القول الأول، والله أعلم بالصواب. (رواه الترمذي) وابن ماجه كلاهما من طريق أبي معشر نجيح السندي وهو صدوق أسن واختلط فتكلم فيه من قبل حفظه. وقد تابعه عليه علي بن(2/424)
721- (28) وعن طلق بن علي، قال: ((خرجنا وفدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا، فاستوهبناه من فضل طهوره، فدعا بماء، فتوضأ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظبيان قاضي حلب كما رواه ابن عدي في الكامل قال: ولا أعلم يرويه عن محمد بن عمرو غير علي بن ظبيان، وأبي معشر، وهو بأبي معشر أشهر منه بعلي بن ظبيان. قال: ولعل علياً سرقه من أبي معشر، وذكر قول ابن معين فيه: أنه ليس بشيء، وقول النسائي: أنه متروك الحديث. وقد تابعه عليه أيضاً أبوجعفر الرازي، رواه البيهقي في الخلافيات، وأبوجعفر وثقة ابن معين، وابن المديني، وأبوحاتم، والحاكم، وابن عبد البر، وابن سعد. وقال أحمد والنسائي: ليس بقوي. وقال الحافظ: صدوق سيء الحفظ. وقد أخرج الترمذي الحديث من طريق أخرى غير طريق أبي معشر، وقال: حديث حسن صحيح. وقال أيضاً: هو أقوى من حديث أبي معشر وأصح. وقد خالفه البيهقي فقال بعد إخراجه من هذه الطريق: هذا إسناد ضعيف. قال الشوكاني: فنظرنا في الإسناد فوجدنا عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تفرد به عن المقبري، وقد اختلف فيه فقال علي بن المديني: إنه روى أحاديث مناكير، ووثقة ابن معين وابن حبان، فكان الصواب ما قاله الترمذي-انتهى. قلت: الحديث قد تأيد بروايته من حديث ابن عمر، فقد رواه الحاكم (ج1: ص205) من طريق شعيب بن أيوب، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فإن شعيب بن أيوب ثقة وقد أسنده، ورواه محمد بن عبد الرحمن بن مجبر-وهوثقة- عن نافع، عن ابن عمر مسنداً، ثم أخرجه كذلك (ج1: ص206) وقال: هذا حديث صحيح، قد أوقفه جماعة عن عبد الله بن عمر، ووافقه الذهبي على ما قال، وزاد: وصححه أبوحاتم الرازي موقوفاً على عبد الله، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (ج2: ص9) عن الحاكم بالإسنادين ثم قال: تفرد بالأول ابن مجبر وتفرد بالثاني يعقوب بن سفيان الخلال، والمشهور رواية الجماعة: حماد بن سلمة، وزائدة بن قدامة، ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر عن عمر من قوله-انتهى. ورواه أيضاً الدارقطني (ص101) بالإسنادين. قلت: الرفع زيادة ثقة فنقبل، ولا تكون رواية من أوقفها علة للحديث بل تكون مؤيدة له، وليس ههنا قرينة على كون الرفع وهماً. والله أعلم.
721- قوله: (خرجنا وفداً) الوفد بفتح الواو وإسكان الفاء، جماعة قاصدة عظيماً لشأن من الشؤون فهو حال أي قاصدين، يقال: وفد إلى أو على الأمير كضرب إذا قدم وورد رسولاً فهو وافد والجمع وفد ووفود. (فبايعناه) أي على التوحيد والرسالة والسمع والطاعة. (بيعة) بكسر الباء وهي معبد النصارى. (فاستوهبناه) الفاء عطفت ما بعدها على المجموع أي خرجنا وفعلنا فاستوهبناه أي سألناه أن يعطينا. (من فضل طهوره) بفتح الطاء، والظاهر أن المراد ما استعمله في الوضوء وسقط من أعضائه الشريفة، ويحتمل أن المراد ما بقي في الإناء عند الفراغ من الوضوء، قال ابن حجر: من(2/425)
وتمضمض، ثم صبه لنا في إدواة، وأمرنا فقال: اخرجوا فإذا أتيتم أرضكم، فاكسروا بيعتكم، وانضحوا مكانها بهذا الماء، واتخذوها مسجداً. قلنا: إن البلد بعيد، والحر شديد، والماء ينشف. فقال: مدوه من الماء، فإنه لا يزيده إلا طيباً)) رواه النسائي.
722- (29) وعن عائشة، قالت: ((أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد في الدور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تبعيضية وهي وما بعدها في محل نصب بدل اشتمال من المفعول به. (وتمضمض) منه بعد الوضوء أو في أثنائه. (ثم صبه) أي الماء المتمضمض به زيادة على مطلوبهم فضلاً، ويمكن أن يكون المصبوب هو الماء الباقي المطلوب. (في إدواة) بكسر الهمزة ظرف صغير من جلد. (وأمرنا) أي بالخروج. (فقال) بيان للأمر، أو أمرنا بمعنى أراد أمرنا فقال: (اخرجوا) إذناً بالخروج. (فإذا أتيتم أرضكم) أي دياركم. (فاكسروا) بكسر السين. (بيعتكم) أي غيروا محرابها وحولوه إلى الكعبة، وقيل: خربوها. (وانضحوا) بكسر الضاد وفتحها من ضرب وفتح أي رشوا. (مكانها بهذا الماء) ليصل إليها بركة فضل وضوئه، فالإشارة إلى فضل الوضوء. (واتخذوها) أي البيعة يعني مكانها. (مسجداً) فيه دليل على جواز اتخاذ البيع مساجد، وغيرها من الكنائس وبيوت الأصنام ونحوها ملحق بها بالقياس. (والحر) بالنصب ويرفع. (ينشف) بالتخفيف بصيغة المجهول، يقال نشف الثوب العرق-بالكسر- ونشف الحوض الماء ينشفه إذا شربه. (مدوه من الماء) أي زيدوا فضل ماء الوضوء من الماء غيره يعني صبوا عليه ماء آخر. (فإنه لا يزيده إلا طيباً) قال الطيبي: الضمير في "فإنه" إما للماء الوارد أو المورود، أي الوارد لا يزيد المورورد الطيب ببركته إلا طيباً أو المورورد الطيب لا يزيد بالوارد إلا طيباً-انتهى. وفي الحديث التبرك بفضله - صلى الله عليه وسلم -، ونقله إلى البلاد، ونظيره ماء زمزم، قيل: ويؤخذ من ذلك أن فضلة وارثيه من العلماء والصلحاء كذلك. (رواه النسائي) أي عن هناد بن السري، عن ملازم هو ابن عمر، وعن عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي. وقد أكثر الناس في قيس بن طلق، والحق أنه صدوق، وثقه العجلي، وابن معين في رواية عثمان بن سعد عنه. وقال ابن القطان: يقتضي أن يكون خبره حسناً لا صحيحاً، وأما بقية رجاله وهم من دون قيس بن طلق فهم ثقات. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه مطولاً عن خليفة: حدثنا مسدد بن مسرهد: حدثنا ملازم بالسند المتقدم، قال: خرجنا ستة وفداً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث. نقله ميرك عن التخريج، كذا في المرقاة.
722- قوله: (أمر) الظاهر أن الأمر للندب لا للوجوب فكان معناه أذن. وهذا لأن مبناه على دفع المشقة عنهم كما سيأتي. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد في الدور) جمع دار وهو اسم جامع للبناء والعرصة والمحلة، والمراد المحلات، فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة داراً. قال البغوي في شرح السنة: يريد بالدور المحال التي(2/426)
وأن ينظف ويطيب)) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه.
723- (30) وعن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أمرت بتشييد المساجد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيها الدور. ومنه قوله تعالى: {سأريكم دار الفاسقين} [7: 145] ؛ لأنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلة داراً. ومنه الحديث: ما بقيت دار إلا بني فيها مسجد. قال سفيان: بناء المساجد في الدور يعني القبائل أي من العرب يتصل بعضها ببعض وهو بنو أب واحد يبنى لكل قبيلة مسجد، هذا ظاهر معنى تفسير سفيان الدور. قال أهل اللغة: الأصل في إطلاق الدور على المواضع، وقد تطلق على القبائل مجازاً. وحكمة أمره لأهل كل محلة ببناء مسجد فيها أنه قد يتعذر أو يشق على أهل محلة الذهاب للأخرى فيحرمون أجر المسجد وفضل إقامة الجماعة فيه فأمروا بذلك ليتسر لأهل كل محلة العبادة في مسجدهم من غير مشقة تلحقهم. وقال البغوي: قال عطاء: لما فتح الله على عمر الأمصار أمر المسلمين ببناء المساجد وأمرهم أن لا يبنوا مسجدين يضار أحدهما الآخر، ومن المضارة فعل تفريق الجماعة إذا كان هناك مسجد يسعهم، فإن ضاق سن توسعته أو اتخاذ مسجد يسعهم. (وأن ينظف) أي يطهر كما في رواية ابن ماجه أي من الأقذار. (ويطيب) أي يرش العطر ويجوز أن يحمل التطيب على التجمير بالبخور في المسجد، وفيه أنه يستحب تجمير المسجد بالبخور، فقد كان عبد الله يجمر المسجد إذا قعد عمر على المنبر، واستحب بعض السلف التخليق بالزعفران والطيب، وروى عنه عليه السلام فعله. قال الشعبي هو سنة، وأخرج ابن أبي شيبة أن ابن الزبير لما بنى الكعبة طلى حيطانها بالمسك. وفيه أنه يستحب كنس المسجد وتنظيفه، وقد روى ابن أبي شيبة أنه عليه السلام كان يتتبع غبار المسجد بجريدة. (رواه أبوداود) مسنداً وسكت عنه. (والترمذي) مسنداً ومرسلاً. وقال: المرسل أصح. وإنما صحح الترمذي إرساله؛ لأن في سند الموصول عامر بن صالح وقد ضعفه بعض العلماء وكذبه ابن معين، لكنه رواه غير الترمذي موصولاً من غير طريق عامر بن صالح، فرواه أبوداود، وابن ماجه من طريق زائدة بن قدامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مسنداً مرفوعاً، وزائدة ثقة ثبت. ورواه ابن ماجه أيضاً من طريق مالك بن سعير عن هشام بن عروة، ومالك بن سعير لا باس به، وأيضاً عامر بن صالح قال فيه أحمد بن حنبل: ثقة لم يكن صاحب كذب. والحديث أخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه.
723- قوله: (ما أمرت) بضم الهمزة وكسر الميم، مبني للمفعول وما نافية. (بتشديد المساجد) أي برفعها وأعلاء بنائها. قال البغوي في شرح السنة: التشييد رفع البناء وتطويله، ومنه قوله تعالى: {ولو كنتم في بروج مشيدة} [4: 78] وهي التي طول بنائها، يقال: شدت الشيء أشيده مثل بعته أبيعه إذا بنيته بالشييد وهو الجص، وشيدته تشييداً طولته ورفعته. وقيل: المراد بالبروج المشيدة المجصصة. قال ابن رسلان: والمشهور في الحديث أن المراد بتشييد المساجد هنا رفع البناء وتطويله كما قال البغوي-انتهى. والحديث قد استدل به بعضهم على منع تشييد المساجد(2/427)
قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى)) رواه أبوداود.
724- (31) وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أشراط الساعة أن يتباهي الناس في المساجد)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه نظر؛ لأن نفي كون التشييد مأموراً به لا يقتضي الكراهة والمنع بل يدل على عدم الوجوب، ونفي الوجوب قد يتحقق بجواز الفعل أيضاً فلا يستوجب الكراهة والمنع، فتشييد المسجد وإحكام بنائه بما يستحكم به الصنعة من غير تزيين وتزويق وزخرفة ليس بمكروه عندنا إذا لم يكن مباهاة ورياء وسمعة لما تقدم من حديث عثمان بن عفان: من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة. وأيضاً يؤيده ما فعله عثمان في خلافته في بناء المسجد النبوي، فإنه صنع ما صنع في بنائه مستدلاً بهذا الحديث، وكل ما صنع كان من باب الإحكام والتجصيص من غير تزويق وزخرفة، وأما الحجارة المنقوشة فلم يكن نقشها بأمره بل حصلت له كذلك منقوشة، ولم يكن عند الذين أنكروا عليه من الصحابة دليل يوجب المنع إلا الحث على إتباع ما فعله - صلى الله عليه وسلم - وعمر في بناء المسجد من ترك الرفاهية، وهذا لا يقتضي منع التشييد وكراهته. (قال ابن عباس) هو موقوف لكنه في حكم المرفوع؛ لأنه إخبار عن ما يأتي، وهو لا يكون إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الأمير اليماني: هذا مدرج من كلام ابن عباس كأنه فهمه من الأخبار النبوية من أن هذه الأمة تحذو حذو بني إسرائيل. (لتزخرفنها) بفتح اللام على أنها جواب القسم، وبضم المثناة وفتح الزاي، وسكون الخاء المعجمة، وضم الفاء، وتشديد النون، وهي نون التأكيد. والزخرفة الزينة، وأصل الزخرف الذهب، ثم استعمل في كل ما يتزين به. قال الخطابي معنى قوله: لتزخرفنها، لتزيننها. وأصل الزخرف الذهب، يريد تموية المساجد بالذهب ونحوه، ومنه قولهم: زخرف الرجل كلامه إذا موهه وزينه بالباطل. (كما زخرفت اليهود والنصارى) أي بيعهم وكنائسهم، يعني أن اليهود والنصارى زخرفوا مساجدهم عندما حرفوا أمر دينهم وتركوا العمل بما في كتبهم، فأنتم تصيرون إلى مثل حالهم إذا طلبتم الدنيا بالدين، وتركتم الإخلاص في العمل، وصار أمركم إلى المراآة بالمساجد والمباهاة في تشييدها وتزينها. قال القاري: هذا أي زخرفة المساجد بدعة؛ لأنه لم يفعله عليه الصلاة والسلام. وفيه موافقة أهل الكتاب-انتهى. قال البخاري في صحيحه: أمر عمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس. وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة لإخبار عما سيقع بعده، فإن تزويق المساجد والمباهاة بزخرفتها قد كثر في هذا الزمان في جميع بلاد المسلمين إلا بلاد نجد، فسلام على نجد ومن حل بالنجد. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، وذكر البخاري قول ابن عباس المذكور تعليقاً، وإنما لم يذكر البخاري المرفوع للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرساله، قاله الحافظ.
724- قوله: (من أشراط الساعة) جمع شرط بالتحريك وهو العلامة، قدم الخبر على المبتدأ للإهتمام به وزيادة الإنكار على فاعله لا للتخصيص ولا للحصر أي من علامات القيامة. (أن يتباهى الناس) أي يتفاخرون، والتباهي إما(2/428)
رواه أبوداود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه.
725- (32) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد. وعرضت على ذنوب أمتي فلم أرَ ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالقول كما ستعرف أو بالفعل كأن يبالغ كل واحد في تزين مسجده وتزويقه وغير ذلك، وفيه دلالة مفهمة بكراهة ذلك. (في المساجد) أي في بنائها يعني يتفاخر كل أحد بمسجده، يقول: مسجدي أرفع أو أزين أو أوسع أو أحسن علواً وزينة، رياء وسمعة واجتلاباً للمدحة، أو يأتون بهذا الفعل الشنيع-وهو المباهاة بما ذكر- وهم جالسون في المساجد. والحديث على المعنيين مما يشهد بصدقه الوجود، فهو من جملة المعجزات الباهرة له - صلى الله عليه وسلم -. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي والدارمي وابن ماجه) واللفظ للنسائي وابن ماجه، ورواه أبوداود والدارمي بلفظ: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد. وهكذا رواه ابن حبان في صحيحه، وأخرجه أبويعلى في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه بلفظ: يأتي على الناس زمان يتباهون بالمسجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً. وعند أبي نعيم في كتاب المساجد: يتباهون بكثرة المساجد.
725- قوله: (عرضت عليّ) لعل هذا العرض في ليلة المعراج. (أجور أمتي) أي ثواب أعمالهم. (حتى القذاة) بزنة حصاة وهي ما يقع في العين من تراب أو تبن أو وسخ، ثم استعمل في كل شيء يقع في البيت وغيره إذا كان يسيراً، والمراد هنا الشيء القليل مما يؤذي المسلمين سواء كان من تين أو وسخ أو غير ذلك، ولا بد في الكلام من تقدير مضاف أي أجور أعمال أمتي، وأجر القذاة أي أجر إخراج القذاة، إما بالجر وحتى بمعنى إلى والتقدير: إلى إخراج القذاة، وعلى هذا قوله: (يخرجها الرجل من المسجد) جملة مستأنفة للبيان، وإما بالرفع عطفاً على أجور، فالقذاة مبتدأ ويخرجها خبره. وهذا إخبار بأن ما يخرجه الرجل من المسجد وإن قل فهو مأجور فيه؛ لأن فيه تنظيف بيت الله، ويفيد الحديث بمفهومه أن من الأوزار إدخال القذاة إلى المسجد، وفيه تنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه إذا كتب هذا القليل وعرض على نبيهم فيكتب الكبير ويعرض من باب الأولى. (فلم أرَ ذنباً) أي يترتب على نسيان. (أعظم من سورة) أي من ذنب نسيان سورة كائنة. (من القرآن) فإن قلت: هذا مناف لما مر في باب الكبائر، قلت: إن سلم أن أعظم وأكبر مترادفان، فالوعيد على النسيان لأجل أن مدار هذه الشريعة على القرآن، فنسيانه كالسعي في الإخلال بها. فإن قلت: النسيان لا يؤاخذ به، قلت: المراد تركها عمداً إلى أن يفضي إلى النسيان، وقيل: المعنى أعظم من الذنوب الصغار إن لم تكن عن استخفاف وقلة تعظيم، كذا في الأزهار شرح المصابيح. (أو آية) أو للتنويع. (أوتيها رجل) أي تعلمها أو حفظها عن ظهر قلب. (ثم نسيها) قال الطيبي: إنما قال: أوتيها دون حفظها، إشعاراً بأنها كانت نعمة جسيمة أولاها الله ليشكرها، فلما(2/429)
رواه الترمذي وأبوداود.
726- (33) وعن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) رواه الترمذي، وأبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نسيها فقد كفر تلك النعمة، فبالنظر إلى هذا المعنى كان أعظم جرماً، فلما عدّ إخراج القذاة التي لا يؤبه لها من الأجور تعظيماً لبيت الله عدّ أيضاً النسيان من أعظم الجرم تعظيماً لكلام الله سبحانه، فكأن فاعل ذلك عدّ الحقير عظيماً بالنسبة إلى العظيم فأزاله عنه، وصاحب هذا عدّ العظيم حقيراً فأزاله عن قلبه. (رواه الترمذي) في فضائل القرآن واستغربه. (وأبوداود) في الصلاة وسكت عنه، وقال الترمذي: ذاكرت به محمد بن إسماعيل يعني البخاري فلم يعرفه واستغربه. قال محمد: ولا أعرف للمطلب بن عبد الله يعني الراوي له عن أنس سماعاً من أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن، يقول: لا يعرف للمطلب سماع من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال عبد الله: وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس-انتهى. وقال المنذري بعد نقل كلام الترمذي هذا: وفي إسناده عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد الأزدي، وثقة يحيى بن معين، وتكلم فيه غير واحد-انتهى. قلت: ووثقة أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي كما في تهذيب التهذيب. وقال الحافظ في بلوغ المرام: وصححه ابن خزيمة.
726- قوله: (بشر) هذا من الخطاب العام ولم يرد به امرأ واحداً بعينه، قاله السيوطي. وقال السندي: لعله خطاب لكل من يتولى تبليغ الدين ويصلح له. (المشائين) بالهمزة والمد من صيغ المبالغة والمراد منه كثرة مشيهم ويعتادون ذلك، لا من اتفق منهم المشي مرة أو مرتين. (في الظلم) بضم الظاء وفتح اللام جمع ظلمة بسكونها أي ظلمة الليل، والحديث يشمل العشاء والصبح بناء على أنها تقام بغلس. (إلى المساجد) قيل: لو مشى في الظلام بضوء لدفع آفات الظلام فالجزاء بحاله، وإلا فلا، قاله ابن الملك. وعلى هذا فالمراد من "في الظلم" أي في وقت ظلمة الليل وإن كان معهم مصباح. (بالنور) متعلق ببشر. (التام) الذي يحيط بهم من جميع جهاتهم، أي على الصراط لما قاسوا مشقة المشي في ظلمة الليل جوزوا بنور يضيء لهم ويحوط بهم. (يوم القيامة) قال الطيبي: في وصف النور بالتام وتقييده بيوم القيامة تلميح إلى وجه المؤمنين يوم القيامة في قوله تعالى: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا} [66: 8] ، وإلى وجه المنافقين في قوله تعالى: {انظرونا نقتبس من نوركم} [57: 13] انتهى. (رواه الترمذي) من طريق إسماعيل الكحال، عن عبد الله بن أوس، عن بريدة، واستغربه. (وأبوداود) من هذا الطريق وسكت عنه. وقال المنذري: قال الدارقطني: تفرد به إسماعيل بن سليمان الضبي الكحال عن عبد الله بن أوس. وقال المنذري في الترغيب: رجال إسناده ثقات.(2/430)
727، 728 - (35، 34) ورواه ابن ماجه، عن سهل بن سعد، وأنس.
729- (36) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد،
فاشهدوا له بالإيمان؛ فإن الله يقول: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأخرجه ابن ماجه بلفظ من حديث أنس-انتهى. قلت: إسماعيل الكحال، قال أبوحاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ. وقال الحافظ: صدوق يخطئ. وعبد الله بن أوس الخزاعي ذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: لين الحديث. فالظاهر أن الحديث حسن، ويؤيده توثيق المنذري لرجال إسناده. وتفرد إسماعيل وعبد الله لا يضر؛ لأن له شواهد كثيرة بمعناه، وبعضها بلفظه أو بنحوه، وبعض أسانيدها صحاح وبعضها حسان من أحاديث بعض الصحابة، وكلها مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانظرها في الترغيب (ج1: ص106) ومجمع الزوائد (ج2: ص31، 30) .
728، 727- قوله: (ورواه ابن ماجه عن سهل بن سعد) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وقال في الزوائد: إسناده حسن، وصححه الحاكم وإبراهيم بن محمد الحلبي (شيخ ابن ماجه) قال ابن حبان في الثقات: يخطئ، وقال الذهبي في الكاشف: صدوق. وباقي رجاله ثقات. قال السندي: وهذا يؤيد قول من قال: إسناده حسن (وأنس) قال في الزوائد: إسناده ضعيف.
729- قوله: (يتعاهد المسجد) أي: يخدمه ويعمره. وقيل: المراد التردد إليه في إقامة الصلاة وجماعته. وهذا هو التعهد الحقيقي وهو عمارته صورة ومعنى. وفي رواية للترمذي "يعتاد" بدل يتعاهد" أي: يلازم المسجد ويرجع إليه كرة بعد أخرى. قال الطيبي: التعهد والتعاهد الحفظ بالشئ، وفي التعاهد المبالغة لأن الفعل إذا أخرج على زنة المبالغة دل على قوته، وورد في رواية للترمذي "يعتاد" بدل "يتعاهد" وهو أقوى سندا وأوفق معنى لشموله جميع ما يناط به المسجد من العمارة واعتياد الصلاة وغيرها. ألا ترى إلى ما أشهد به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فاشهدوا له) أي: اقطعوا له القول (بالإيمان) لأن الشهادة قول صدر عن مواطأة القلب اللسان على سبيل القطع-انتهى. قال السندي: وهو الموافق للاستشهاد بالآية، لكن يشكل عليه حديث سعد: قال في رجل إنه مؤمن فقال - صلى الله عليه وسلم -: أو مسلم. رواه في الصحيحين، فإنه يدل على المنع عن الجزم بالإيمان إلا أن يقال ذلك الرجل لم يكن ملتزما للمساجد، أو يراد بالإيمان ههنا الإسلام، وفيه أن الجزم بالإسلام لا يحتاج إلى ملازمة المساجد، والأقرب أن المراد بالشهادة الاعتقاد وغلبة الظن-انتهى. وقال ابن حجر: بل التعهد أولى، أي: من لفظ يعتاد لأنه مع شموله لذلك يشمل تعهدها بالحفظ، والعمارة، والكنس، والتطييب، وغير ذلك ما يدل عليه استشهاده عليه السلام بالآية الآتية (إنما يعمر مساجد الله) أي: بإنشائها أو ترميمها، أو إحيائها بالعبادة والدروس {من آمن بالله واليوم الآخر} [18:9] قال في الكشاف: عمارتها كنسها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح،(2/431)
رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارمي.
730- (37) وعن عثمان بن مظعون، قال: ((يارسول الله! ائذن لنا في الاختصاء. فقال رسول الله: ((ليس منا من خصى ولا اختصى، إن خصاء أمتي الصيام. فقال: ائذن لنا في السياحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتعظيمها واعتيادها بالعبادة والذكر، وصيانتها عما لم تبن له المساجد من حديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث-انتهى (رواه الترمذي) في الإيمان، وفي التفسير، وحسنه (وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والحاكم كلهم من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد. قال الحاكم: صحيح الإسناد. قال الذهبي في سنده دراج وهو كثير المناكير. وكذا قال أحمد، وقال ابن معين: ثقة. وقال يحيى بن سعيد: ليس به بأس. وقال الحافظ: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف.
730- قوله: (عن عثمان بن مظعون) بالظاء المعجمة ابن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي القرشي، يكنى أبا السائب، أسلم بعد ثلاثة عشرة رجلاً، وهاجر هجرتين، وشهد بدراً، وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وكان عابداً مجتهداً، من فضلاء الصحابة، وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين في شعبان على رأس ثلاثين شهراً من الهجرة بعد شهوده بدراً، وقيل: بعد اثنين وعشرين شهراً من مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة. ولما غسل وكفن قبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عينيه، ولما دفن قال: نعم السلف هو لنا. وهو أول من دفن ببقيع الغرقد من المهاجرين، ووضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجراً عند رأسه، وقال: هذا قبر فرطنا (ائذن لنا في الاختصاء) أي: سل الخصيتين لتزول شهوة النساء لأنه تشق علينا العزبة في المغازي (ليس منا) أي: ممن يقتدى بسنتنا ويهتدي بطريقتنا، لكن هذا التأويل لا يقال إلا في مقام التعليم، فلا يقال للعامة لئلا تتساهل في ذلك (من خصى) أي: سل خصية غيره (ولا اختصى) أي: بنفسه بحذف "من" لدلالة ما قبله عليه، يعني ولا من سل خصية نفسه واخرجها. قيل: واحتيج لتقدير "من" لئلا يتوهم أن المنهى عنه الجمع بينهما. قال ابن حجر: وكل من هذين حرام. وفي معناه إطعام دواء لغيره أو أكله، إن كان يقطع الشهوة والنسل دائماً. وكذا نادراً إن أطعم غيره بغير إذنه (إن خصاء) بكسر الخاء (أمتي الصيام) أي: فأكثروا الصوم، فإنه يكسر الشهوة وضررها. كما أفاده قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء. يعني أن تكثير الصوم مسكن لشهوة الجماع وقاطع لها مع ما فيه من سلامة النفس من التعذيب وقطع النسل، ومن حصول الثواب بالصوم المقتضي لرياضة النفس المؤدية إلى إطاعتها لأمر الله تعالى. وفيه دليل على كراهة الاستمناء باليد (في السياحة) بكسر السين المهملة بعدها تحتية، وهي مفارقة الأمصار والذهاب في الأرض كفعل عباد بني إسرائيل،(2/432)
قال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله. فقال: ائذن لنا في الترهب. فقال: إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة)) . رواه في شرح السنة.
731- (38) وعن عبد الرحمن بن عائش، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيت ربي عزوجل في أحسن صورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الطيبي: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) وهو أفضل، فإنه عبادة شاقة على النفس ونفعه متعد إلى الغير، وهو يشمل الجهاد الأكبر والأصغر (في الترهب) أي: في التعبد، وإرادة العزلة، والفرار من الناس إلى رؤوس الجبال كالرهبان. وأصل الترهب من الرهب بمعنى الخوف، كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وملاذها. (انتظار الصلاة) بالإضافة، ونصبه بأنه مفعول له للجلوس أي: لانتظار الصلاة، فإن الجلوس في المسجد يتضمن فوائد الترهب مع زيادة الفضائل (رواه) أي: البغوي (في شرح السنة) بسنده المتصل من حديث سعد بن مسعود الصحابي: أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله! ائذن لنا في الاختصاء. وساقه بسند فيه مقال، قاله ميرك. وقال الحافظ في الإصابة (ج2:ص27) في ترجمة سعد بن مسعود الكندي: قال ابن المبارك في الزهد: أنبأنا رشدين بن سعد، عن ابن أنعم عن سعد بن مسعود أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذن لنا في الاختصاء-فذكر الحديث انتهى. وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس: ليس منا من خصى أو اختصى، ولكن صم ووفر شعر جسدك. قال المناوي: قاله لعثمان بن مظعون لما قال له: إني رجل شبق فأذن لي في الاخصاء. وأخرج الطبراني أيضاً من حديث عثمان نفسه أنه قال: يارسول الله! إني رجل يشق على العزوبة فأذن لي في الخصاء، قال: لا ولكن بالصيام-الحديث. ومن طريق سعيد بن العاص أن عثمان قال: يارسول الله! ائذن لي في الاختصاء، فقال: إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة.
731- قوله: (عبد الرحمن بن عائش) بكسر الهمزة والشين المعجمة، كذا في المفاتيح. وقال في التقريب بمثانة تحتية ثم معجمة يعنى أن أصله ياء، قال ابن حبان: له صحبة. وقال ابن السكن: يقال: له صحبة. وذكره في الصحابة محمد بن سعد، والبخاري، وأبوزرعة الدمشقي، وأبوالحسن بن سميع، وأبوالقاسم، والبغوي، وأبوزرعة الحراني، وغيرهم. وقال أبوحاتم الرازي: أخطأ من قال: له صحبة. وقال ابن خزيمة، والترمذي: لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال البخاري: له حديث واحد إلا أنهم مضطربون فيه، كذا في الإصابة (ج2:ص45) وقال في تهذيب التهذيب (ج6:ص204) : عبد الرحمن بن عائش الحضرمي- ويقال السكسكي- مختلف في صحبته، وفي إسناد حديثه (رأيت ربي عزوجل في أحسن صورة) الصواب أن هذا الحديث مستند إلى رؤيا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدل على ذلك(2/433)
قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت أنت أعلم. قال: فوضع كفه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثدي، فعلمت ما في السموات والأرض،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حديث ابن عباس عند الترمذي ففيه: أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، قال أحسبه قال: في المنام، ويدل على ذلك أيضاً حديث معاذ بن جبل الآتي في الفصل الثالث فإن فيه: فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي في أحسن صورة. قال الحافظ ابن كثير بعد نقله عن مسند أحمد: وهو حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة غلط-انتهى. والروايات التي أطلق فيها الرؤية محمولة على المقيدة. وإليه أشار الدارمي حيث بوب على حديث عبد الرحمن بن عائش هذا "باب رؤية الرب تعالى في النوم" وعلى هذا فلا إشكال في الحديث، إذ الرأى قد يري غير المتشكل متشكلاً والمتشكل بغير شكله، ثم لم يعد ذلك بخلل في الرؤيا ولا في خلد الرأي، بل له أسباب أخرى تذكر في علم المنام أي: التعبير، ولولا تلك الأسباب لما افتقرت رؤيا الأنبياء عليهم السلام إلى تعبير، وعلى تقدير كون ذلك في اليقظة فمذهب السلف في مثل هذا من أحاديث الصفات إذا صح أن يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، وأن يؤمن به من غير تأويل له، وأن يسكت عنه وعن أمثاله مع الاعتقاد بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقال من ذهب إلى التأويل: إن قوله في أحسن صورة، حال من الفاعل، أي: رأيت ربي حال كوني في أحسن صورة وصفة من غاية إنعامه ولطفه على، وإن كان حالا من المفعول فالمراد بالصورة صفته أو شأنه أو مثل ذلك، كما يقال: صورة المسألة كذا، وصورة الحال كذا، فإن إطلاق الصورة على الصفة شائع، والمعنى: رأيت ربي حال كون الرب في أحسن صفة أو شأن، قلت: مذهب السلف هو المنهج القويم والمسلك الصحيح فهو المتعين ولا حاجة إلى التأويل (قال) أي: ربي (فيم) أي: في أي: شيء (يختصم أي: يبحث (الملأ الأعلى) أي: الملائكة المقربون، والملأ هم الأشراف الذين يملؤن المجالس والصدور عظمة وإجلالا، وصفوا بالأعلى إما لعلو مكانهم وإما لعلو مكانتهم عند الله تعالى. قال الطيبي: المراد بالاختصام التقاول الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات، شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين (أنت أعلم) أي: بما ذكر وغيره، وزاد في المصابيح كما في الدارمي: أي: رب (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (فوضع) أي: ربي (كفه بين كتفي) بتشديد الياء. قيل: هو مجاز من تخصيصه إياه بمزيد الفضل عليه وإيصال الفيض إليه، لأن من ديدن الملوك إذا أرادوا أن يدنوا إلى أنفسهم بعض خدمهم يضعون أيديهم على ظهره تلطفاً به وتعظيماً لشأنه فجعل ذلك حيث لا كف ولا وضع حقيقة كناية عن التخصيص بمزيد الفضل والتأييد - انتهى. قلت: قد تقدم في مثل هذا مذهب السلف أنه يؤمن بظاهره من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا يفسر بما يفسر به صفات الخلق بل تنفي عنه الكيفية ويوكل علم الكيفية إلى الله تعالى وهذا هو المعتمد المعمول عليه (فوجدت بردها بين ثدي) بالتثنية والإضافة إلى ياء المتكلم أي: قلبي وصدري. قال القاري: هو كناية عن وصول ذلك الفيض إلى قلبه، ونزول الرحمة، وانصباب العلوم عليه، وتأثره عنه، ورسوخه فيه، وإتقانه له –انتهى. وفيه ما تقدم آنفاً (فعلمت ما في السموات والأرض) الأرض بمعنى الجنس أي: وما(2/434)
في الأرضين السبع. قال القاري: يعني ما أعلمه الله تعالى مما فيهما من الملائكة والأشجار وغيرهما، وهو عبارة عن سعة علمه الذي فتح الله به عليه، قال: ويمكن أن يراد بالسموات الجهة العليا، وبالأرض الجهة السفلى، فيشمل الجميع لكن لا بد من التقييد الذي ذكرنا، إذ لا يصح إطلاق الجميع كما هو الظاهر-انتهى. اعلم أنه قد استدل بعض القبوريين في هذا الزمان بقوله: فعلمت ما في السموات والأرض، على ما ابتدعوا واعتقدوا من أن الله تعالى قد خص نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - من بين الأنبياء بعلم جميع ما كان من بدء الخلق وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، فكان علمه - صلى الله عليه وسلم - عند هؤلاء محيطاً بجميع الأشياء حقائقها وعوارضها وصفاتها إحاطةً تامةً كليةً بتعليم الله تعالى وإلهامه، كما أنه تعالى أحاط بكل شيء علماً، ولا فرق بين علمه تعالى وعلم رسوله عندهم إلا أن علم الله ذاتي وحقيقي، وعلم رسوله ليس بذاتي بل وهبي، حصل له بتعليم الله وانكشف له الأشياء بإلهامه، وهذا كما تراه مخالف للعقل والنقل من النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله، وتصريحات السلف الصالح من الصحابة والتابعين والمحدثين، وفقهاء المذاهب الأربعة، وغيرهم. قالوا في وجه الاستدلال: أن لفظه "ما" في الحديث للعموم الاستغراق فتعم جميع الممكنات من الموجودات، والمعدومات وذوات العقول، وغيرها بل تشتمل الواجبات والممتنعات أيضاً. قلت: استدلالهم هذا مخدوش من وجوه بل باطل، الأول: أن لفظة "ما" في أصل الوضع لغير ذوى العقول عند المحققين فيخرج من مفهومها ذوات العقول كما يدل عليه قصة ابن الزبعري في قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [98:21] وعلى هذا فلا تكون الرواية دليلاً على كون علمه - صلى الله عليه وسلم - محيطاً بجميع الأشياء إحاطة كلية. والثاني: أن من ذهب إلى كونها شاملة لذوى العقول وهم الأكثر من علماء الأصول قد صرحوا بأنها إنما تشمل صفات من يعقل فقط لا ذواتهم، أعنى أن ذوات من يعقل خارجة من مفهومها عندهم أيضاً بحسب أصل الوضع، فلا تشملها إلا بقرينة ولا قرينة ههنا تدل على ذلك، بل الأمر بالعكس كما سيأتي، فبطل بذلك دعوى العلم الكلي له - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: أن قوله: في السموات والأرض، في الحديث يدل على أن المراد بلفظه "ما" إنما هي الممكنات فقط لا الواجبات والممتنعات، وذلك لأن تقدير الكلام: فعلمت ما هو كائن، أو ثابت، أو متحقق، أو موجود، أو حاصل، أو مستقر، أو حادث في السموات والأرض. وهذا إنما هو شأن الممكن بالإمكان الخاص لا الواجب والممتنع، وهذا يبطل دعوى القبوريين بكون علمه عليه السلام كليا محيطا بجميع الأشياء. والرابع: أن سياق الحديث يدل على أن لفظة ما ههنا ليست للعموم والاستغراق، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد بين ذلك باستشهاده بقوله تعالى: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض} [75:6] ما علمه الله عزوجل في المنام، وهو عجائب السموات والأرض فقط لا جميع ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وإلا يلزم أن يقال: إن إبراهيم عليه السلام أيضاً كان عالما بجميع الأشياء بعلم كلي محيط إحاطة تامة، ويبطل بذلك دعوى الخصوصية، وهو خلاف ما ذهب إليه القبوريون من أن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، فلا مناص من أن يقال أن لفظة "ما" في الحديث ليست للعموم والاستغراق. والخامس: أنه قد ثبت بنصوص الكتاب والسنة(2/435)
وتلا {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين} رواه الدارمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيحة الصريحة عدم علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأشياء كما يدل عليه قوله تعالى: {مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم} [101:9] وقوله: {وما علمناه الشعر، وما ينبغي له} [69:36] وقوله: {قل إنما علمها عند ربي} [187:7] وقوله عليه السلام (أنتم أعلم بأمور دنياكم) . وقوله: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وقوله في حديث الشفاعة (أحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله تعالى) وفي رواية (فأحمده بتحميد يعلمنيه ربي) وغير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة، فعدم علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض الأشياء أو ببعض أوصافها قرينة صريحة على أن لفظه "ما" في الحديث ليست للعموم والاستغراق، وهو يبطل دعوى القبوريين. وأما قولهم: بأن المراد بنفي علم الغيب عنه - صلى الله عليه وسلم - في بعض الآيات والأحاديث نفى العلم الذاتي لا الو هبي فهو تحكم محض وادعاء بحت ليست عليه أثارة من علم لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من إجماع، ولا من قياس، بل يبطله قوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه} [255:2] وقوله: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [31:74] فتفكر وتأمل ولا تعجل (وتلا) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهادا على ما تقدم (وكذلك نرى إبراهيم) مضارع في اللفظ ومعناه الماضي والعدول لإرادة حكاية الحال الماضية استعجابا، أي: أرينا إبراهيم، يعني كما أن الله أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض وكشف له ذلك، فتح على أبواب الغيوب التي تليق لشأن الرسالة والكاف للتشبيه، وهي في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف فقدره الزمخشري: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت. وقدره بعضهم: وكما أريناك يا محمد الهداية أو أحكام الدين، وعجائب ما في السموات وما في الأرض أرينا إبراهيم. وقال الخازن، معناه: وكما أرينا إبراهيم البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه وما كانوا عليه من الضلال في عبادة الأصنام، نريه ملكوت السموات والأرض، فلهذا السبب عبر عن هذه الرؤية بلفظ المستقبل في قوله {وكذلك نرى} لأنه تعالى كان أراه بعين البصيرة أن أباه وقومه على غير الحق فخالفهم فجزاه الله بأن أراه بعد ذلك ملكوت السموات ولأرض فحسنت هذه العبارة لهذا المعنى (ملكوت السموات والأرض) أي: ملكهما وهو فعلوت من الملك، وزيدت التاء والواو للمبالغة في الصفة، ومثله الرغبوت والرحموت والرهبوت مبالغة في الرغبة والرحمة والرهبة قيل: أراد بملكوتها ما فيهما من الخلق، وقيل: عجائبهما وبدائعهما، وقيل الربوبية والألوهية. أي: نريه ذلك ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها. وقال ابن كثير: أي: نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقها إلى وحدانية الله عزوجل في ملكه وخلقه وإنه لا إله غيره كقوله {أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} [185:7] (وليكون من الموقنين) عطف على مقدر، أي: ليستدل به على وحدانيتنا، ويصح أن يكون علة لمحذوف أي: وليكون من الموقنين فعلنا ذلك، والجملة معطوفة على الجملة قبلها، واليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال التشبه لأن الإنسان في أول الحال لا ينفك عن شبهة وشك، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت صارت سبباً لحصول اليقين والطمأنينة في القلب (رواه الدارمي) في كتاب الرؤيا من طريق الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللجلاج، عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رأيت ربي – الحديث. وأخرجه أيضاً(2/436)
مرسلاً.
733، 732- (40، 39) وللترمذي نحوه عنه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من هذا الطريق ابن خزيمة، والبغوي وابن السكن، وأبونعيم. ووقع في أسانيدهم التصريح بسماع عبد الرحمن من النبي - صلى الله عليه وسلم - (مرسلاً) إنما أطلق عليه المرسل مع التصريح فيه بسماع عبد الرحمن بن عائش من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ابن عائش هذا مختلف في صحبته كما تقدم، والراجح عند المصنف أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن "سمعت" في هذا الحديث وهم. قال ميرك: قوله: رواه مرسلاً، بل معضلاً فإن عبد الرحمن هذا مختلف في صحبته، والصحيح أنه لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - بل رواه عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل، كما في مسند أحمد وهو إسناد جيد – انتهى.
733، 732- قوله: (وللترمذي) أي: في تفسير سورة ص (نحوه) أي: نحو هذا اللفظ أي: معناه (عنه) أي: عن عبد الرحمن لكن لم يذكر الترمذي لفظ حديثه، بل قال بعد إخراج حديث معاذ بن جبل الآتي في الفصل الثالث: قال البخاري: هذا أصح من حديث الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثنا خالد بن اللجلاج: حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث، وهذا غير محفوظ، هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن بن عائش قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أصح، وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى كلام الترمذي. وقال ابن خزيمة "سمعت" في هذا الحديث وهم فإن هذا الخبر لم يسمعه عبد الرحمن، ثم استدل على ذلك بما أخرجه هو والترمذي من رواية أبي سلام، عن عبد الرحمن بن عائش، عن مالك ابن يخامر، عن معاذ بن جبل فذكر نحوه، قال الترمذي: صحيح. وقال أبوعمرو: هو الصحيح عندهم، وقال، وقد سبقه ابن خزيمة: لم يقل في حديثه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الوليد بن مسلم. قال الحافظ في الإصابة (ج2: ص405) في ترجمة عبد الرحمن بن عائش: لم ينفرد الوليد بن مسلم بالتصريح المذكور بل تابعه حماد بن مالك الأشجعي والوليد بن يزيد البيروتي، وعمارة بن بشر، وغيرهم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. فأما الوليد بن يزيد فأخرجه الحاكم، وابن مندة والبيهقي من طريق العباس بن الوليد، عن أبيه: حدثنا ابن جابر، قال: وهذه متابعة قوية للوليد بن مسلم، وأما حماد بن مالك فأخرجه البغوي. وابن خزيمة من طريقه، قال: حدثنا ابن جابر، وأما رواية عمارة بن بشر فأخرجها الدارقطني في كتاب الرواية من طريقه: حدثنا عبد الرحمن بن جابر، فذكر نحو رواية حماد بن مالك، وزاد: وذكر ابن جابر عن أبي سلام أنه سمع عبد الرحمن بن عائش يقول في هذا الحديث: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر بعضه. وأما رواية بشر الذي أشار إليها الترمذي فأخرجها الهيثم بن كليب في مسنده، وابن خزيمة والدار القطني من طريقه، عن ابن جابر عن خالد سمعت عبد الرحمن بن عائش يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر الحافظ الاختلاف على خالد بن اللجلاج فقال: وروى هذا الحديث يزيد بن يزيد بن جابر أخو عبد الرحمن، عن خالد فخالف أخاه، أخرجه أحمد من طريق زهير بن محمد عنه عن خالد، عن عبد الرحمن بن عائش، عن رجل من الصحابة فزاد فيه رجلاً، ولكن رواية(2/437)
وعن ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وزاد فيه: ((قال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات. والكفارات: المكث في المساجد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زهير بن محمد عن الشاميين ضعيفة كما قال البخاري وغيره، وهذا منها. وقال هشام الدستوائي عن أبي قلابة، عن خالد ابن اللجلاج، عن ابن عباس أخرجه الترمذي وأبويعلى، عن قتادة، عن أبي قلابة. وقد ذكر أحمد بن حنبل أن قتادة أخطأ فيه، والقول ما ابن جابر. ورواه أيوب عن أبي قلابة مرسلاً لم يذكر خالداً، أخرجه الترمذي وأحمد، وكذا أرسله بكر بن عبد الله المزني عن أبي قلابة أخرجه الدارقطني، ورواه سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي قلابة فخالف الجميع، قال: عن أبي أسماء، عن ثوبان، وهي رواية أخطأ فيه سعيد بن بشير وأشد منها خطأ رواية أخرجها أبوبكر النسيابوري في الزيادات من طريق يوسف بن عطية، عن قتادة، عن أنس، وأخرجها الدارقطني، ويوسف متروك. قال: ويستفاد من مجموع ما ذكرت قوة رواية عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بإتقانها، ولأنه لم يختلف عليه فيها. وأما رواية أبي سلام فاختلف عليه. وروى حماد بن مالك كما تقدم كرواية عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. وخالفه زيد بن سلام. فرواه عن جده أبي سلام، عن عبد الرحمن بن عائش، عن مالك بن يخامر، عن معاذ، وقد ذكره مطولاً، وفيه قصة، هكذا رواه جهضم بن عبد الله اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد. أخرجه أحمد (ج 5: ص243) وابن خزيمة والرؤياني والترمذي والدارقطني وابن عدي وغيرهم. وخالفهم موسى بن خلف فقال: عن يحيى، عن زيد عن جده عن أبي عبد الرحمن السكسكي، عن مالك بن يخامر، عن معاذ، أخرجه الدارقطني وابن عدي. ونقل عن أحمد أنه قال: هذه الطريق أصحها. قال الحافظ: فإن كان الأمر كذلك فإنما روى هذا الحديث المالك بن يخامر أبوعبد الرحمن السكسكي لا عبد الرحمن بن عائش. ويكون للحديث سندان: ابن جابر عن خالد عن عبد الرحمن بن عائش. ويحي، عن زيد، أبي سلام، عن أبي عبد الرحمن عن مالك عن معاذ. ويقوي ذلك اختلاف السياق بين الراويتين- انتهى كلام الحافظ في الإصابة مختصراً ومخلصاً (وعن ابن عباس) عطف على عنه. والحديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس من طريق أبي قلابة، عن ابن عباس، وعنه، عن خالد بن اللجلاج، عن ابن عباس. وقال: حديث حسن. وأخرجه أيضاً عبد الرزاق، وأبويعلى، وعبد بن حميد، ومحمد بن نصر (ومعاذ بن جبل) أراد حديثه الذي ذكره في الفصل الثالث، وقد تقدم تخريجه في كلام الحافظ (وزاد) أي: الترمذي (فيه) أي: في نحوه من الحديث (قال) أي: الله تعالى سائلاً مرة أخرى كما يدل عليه أول الحديث الذي اختصره المصنف، وهو مذكور عند الترمذي وغيره، وسياق الحديث الذي ذكره المصنف إنما هو من رواية أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس (قلت نعم، في الكفارات) أي: يختصمون في الكفارات يعني في أعمال تكفر الذنوب، وفي رواية قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس في الدرجات والكفارات (والكفارات) مبتدأ وخبره "المكث في المساجد" الخ. وسميت هذه الخصال كفارات لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها، فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه (في المساجد) وفي بعض نسخ الترمذي "المسجد" بلفظ(2/438)
بعد الصلوات، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره، فمن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: أللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، قال: والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام) . ولفظ هذا الحديث كما في "المصابيح" لم أجده عن عبد الرحمن إلا في شرح السنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإفراد (بعد الصلوات) أي: بعد كل صلاة انتظار الصلاة أخرى، وفي الترمذي "بعد الصلاة" بلفظ الإفراد (والمشي على الأقدام إلى الجماعات) فإن الآتي إلى المسجد زائر الله، والزيارة على الأقدام أقرب إلى الخضوع والتواضع والتذلل (وإبلاغ الوضوء) بفتح الواو وتضم، أي: إيصال ماء الوضوء بطريق المبالغة مواضع الفروض والسنن. وفي الترمذي "إسباغ الوضوء" بدل إبلاغ. والإبلاغ بمعنى الإسباغ (في المكاره) جمع مكره بفتح ميم ما يكرهه شخص ويشق عليه أي: التوضى مع برد شديد وعلل، يتأذى معها بمس الماء. قال ابن الملك: إنما خص هذه الأشياء بالذكر حثاً على فعلها لأنها دائمة فكانت مظنة أن تمل-انتهى (فمن فعل) وفي الترمذي "ومن" بالواو (ذلك) أي: المذكور (عاش بخير ومات بخير) كما دل عليه قوله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبةً ولنجزينهم بأحسن ما كانوا يعملون} [97:16] (وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه) أي: فيه بفتح "يوم" قال الطيبي: مبنى على الفتح لإضافته إلى الماضي، وإذا أضيف إلى المضارع اختلف في بناءه، أي: كان مبرأ كما كان مبرأ يوم ولدته أمه (إذا صليت) أي: فرغت من الصلاة (فعل الخيرات) بكسر الفاء، وقيل: بفتحها، وقيل: الأول اسم، والثاني مصدر، والخيرات ما عرف من الشرع من الأقوال الحميدة والأفعال السعيدة (وترك المنكرات) هي التي لم تعرف من الشرع من الأقوال القبيحة والأفعال السيئة (وحب المساكين) الظاهر أنه كما قبله من إضافة المصدر إلى المفعول، وهو تخصيص بعد تعميم لدخوله في الخيرات اهتماماً بهاذ الفرد منه (فتنة) أي: ضلالة أو عقوبة دنيوية (فاقبضني) بكسر الباء، أي: توفني (غير مفتون) أي: غير ضال أو غير معاقب (قال) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (والدرجات) مبتدأ، أي: ما ترفع به الدرجات (إفشاء السلام) أي: بذله على من عرفه ومن لم يعرفه (والناس نيام) بكسر النون جمع نائم، والجملة حالية، وإنما عدت هذه الأشياء من الدرجات لأنها فضل منه على ما وجب عليه فلا جرم استحق بها فضلاً وهو علو الدرجات، هذا. وارجع لشرح الحديث مفصلا، وبسط الكلام عليه مطولاً إلى كتاب "اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" لابن رجب.(2/439)
734- (41) وعن أبي أمامة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة كلهم ضامن على الله: رجل خرج غازياً في سبيل الله، فهو ضامن على الله حتى يتوفاه، فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أو غنيمة؛ ورجل راح إلى المسجد، فهو ضامن على الله؛ ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
734- قوله: (ثلاثة) أي: أشخاص (كلهم) أي: كل واحد منهم، والإفراد باعتبار لفظ الكل. قال الخطابي: أنشدني أبوعمر، عن أبي العباس في كل بمعنى كل واحد:
فكلهم لا بارك الله فيهم ... إذا جاء ألقى خده يتسمعا
(ضامن على الله) عدى الضمان بعلى بتضمين معنى الوجوب والمحافظة، والضامن بمعنى المضمون كدافق بمعنى مدفوق في قوله تعالى: {من ماء دافق} [6:86] ) وعاصم بمعنى معصوم في قوله: {لا عاصم اليوم من أمر الله} [43:11] على تأويل و"راضية بمعنى مرضية" في قوله: {عيشة راضية} [7:101) أو هو بمعنى ذو ضمان أي: حفظ ورعاية كلا بن وتامر أي: صاحب لبن وتمر. وحاصل المعنى أنه يجب على الله بمقتضى وعده الصادق أن يحفظ كلا من هؤلاء الثلاثة من الضرر والخيبة والضياع والآفة (خرج غازياً) أي: حال كونه مريداً للغزو (فهو ضامن على الله) أي: واجب الحفظ والرعاية على الله كالشئ المضمون (حتى يتوفاه) أي: يقبض روحه إما بالموت أو بالقتل في سبيل الله (فيدخله الجنة) أي: مع الناجين (أو يرده) عطف على يتوفاه (بما نال) أي: مع ما وجد (من أجر) أي: ثواب فقط (أو غنيمة) أي: مع الأجر فأو للتنويع (ورجل راح) أي: مشى إلى المسجد (فهو ضامن على الله) أي: يعطيه الأجر وأن لا يضيع سعيه، أو واجب الوقاية والرعاية، ووقع في سنن أبي داود بعد قوله "ضامن على الله" حتى يتوفاه، فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أوغنيمة، وهكذا رواه الحاكم وكذا ذكره السيوطي في الجامع الصغير، وسقط هذا من جميع نسخ المشكاة (ورجل دخل بيته بسلام) يحتمل وجهين، أحدهما: أن يسلم على أهله إذا دخل منزله كقوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم} [61:24] والمضمون عليه أن يبارك عليه وعلى أهله فمعنى قوله: (فهو ضامن على الله) أي: يعطيه البركة والثواب الكثير لما روى أنه عليه السلام قال لأنس: إذا دخلت على أهلك فسلم، يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك. والوجه الآخر: أن يكون أراد بدخول بيته سالماً من الفتن، أي: طالباً للسلامة منها. قال الطيبي: وهذا أوجه لأن المجاهدة في سبيل الله سفرا، والرواح إلى المسجد حضراً، ولزوم البيت اتقاء من الفتن آخذ بعضها بحجزة بعض، فعلى هذا المضمون به هو رعاية الله تعالى وجواره من الفتن-انتهى. وإنما لم يذكر المضمون به في الأخير اكتفاء لظهور المراد وهو الأجر والمثوبة حسب ما يليق به من(2/440)
رواه أبوداود
735- (42) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من خرج من بيته متطهراً إلى الصلاة مكتوبة؛ فأجره كأجر الحاج المحرم. ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه، فأجره كأجر المعتمر.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
البركة والسلامة (رواه أبوداود) في الجهاد وسكت عنه، وأخرجه أيضاً ابن حبان والحاكم في الجهاد وقال "صحيح" ووافقه الذهبي.
735- قوله: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم) أي: كما أن الحاج إذا كان محرما قبل الميقات كان ثوابه أتم، فكذلك الخارج إلى الصلاة إذا كان متطهراً من بيته كان ثوابه أفضل، شبه بالحاج المحرم لكون التطهر من الصلاة بمنزلة الإحرام من الحج لعدم جوازهما بدونهما. وقيل: المراد كأصل أجره، وقيل: كأجره من حيث أنه يكتب له بكل خطوة أجر كالحاج، وإن تغاير الأجران كثرة وقلة أو كمية وكيفية. وقال الطيبي: من خرج من بيته أي: قاصداً إلى المسجد لأداء الفرائض. وإنما قدرنا القصد ليطابق الحج لأنه القصد الخاص، فنزل النية مع التطهير منزلة الإحرام. وأمثال هذه الأحاديث ليست للتسوية، كيف وإلحاق الناقص بالكامل يقتضى فضل الثاني وجوبا ليفيد المبالغة، وإلا كان عبثاً، فشبه حال المصلي القاصد إلى المكتوبة بحال الحاج المحرم في الفضل مبالغةً وترغيباً للمصلي ليركع مع الراكعين، ولا يتقاعد عن حضور الجماعات (تسبيح الضحى) أي: صلاة الضحى، وكل صلاة تطوع تسبيحة وسبحة. قال الطيبي: المكتوبة والنافلة وإن اتفقتا في أن كل واحدة منهما يسبح فيها إلا أن النافلة جاءت بهذا الاسم أخص من جهة أن التسبيحات في الفرائض والنوافل سنة، فكأنه قيل للنافلة تسبيحة على أنها شبيهة بأذكار في كونها غير واجبة (لا ينصبه) أي: لا يتعبه ولا يخرجه، بضم الياء من الأنصاب وهو الإتعاب، مأخوذ من نصب بكسر الصاد أي: تعب، وأنصبه غيره أي: أتعبه، ويروي بفتح الياء من نصبه إذا أقامه، قاله زين العرب. وقال التوربشتي: هو بضم الياء والفتح احتمال لغوي لا أحققه رواية (إلا إياه) أي: لا يزعجه ولا يحمله على الخروج إلا ذلك، أي: تسبيح الضحى. وحقه أن يقال: إلا هو، فوضع الضمير المنصوب موضع المرفوع. قال ابن الملك: وضع الضمير المنصوب موضع المرفوع لأنه استثناء مفرغ يعني لا يتعبه إلا الخروج إلى تسبيح الضحى (فأجره كأجر المعتمر) إشارة إلى أن فضل ما بين المكتوبة ولا نافلة، والخروج إلى كل واحد منهما، كفضل ما بين الحج والعمرة، والخروج إلى كل واحد منهما. ولا تخالف بين هذا الحديث وحديث "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" لأن حديث الباب يدل على جوازه في المسجد لا على أفضليته، أو يحمل على من لا يكون له مسكن، أو في مسكنه شاغل ونحوه على أنه ليس للمسجد ذكر في الحديث أصلاً، فالمعنى: من خرج من بيته أو سوقه أو شغله متوجها إلى صلاة الضحى تاركاً أشغال الدنيا. وقال التوربشتي: يحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم -: يا أيها الناس صلوا في بيوتكم، فإن خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة، مختصاً بصلاة(2/441)
وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما، كتاب في عليين)) رواه أحمد، وأبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الليل وإن كان ظاهر لفظه يقتضي العموم، وذلك لأنه قال هذا القول بعد أن قام ليالي رمضان، فلما رآهم يجتمعون إليه ويتنحنحون ليخرج إليهم قال ذلك. ومن الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقعد في مصلاه حتى تطلع الشمس، ثم يركع ركعتين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيراً إلا غفر له خطاياه، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً فيصلي فيه ركعتين، فلو كانت صلاته هذا في البيت خيراً لم يكن ليأخذ بالأدنى ويدع الأعلى والأفضل. وإذ قد ثبت هذا فنقول الظاهر أنه أمرهم بالصلاة في بيوتهم لمعان، أو لبعض تلك المعاني: أحدها، وهو آكد الوجوه: أنه أحب أن يجعلوا لبيوتهم حظا من الصلاة، ولا يتركوا الصلاة فيها فيجعلوها قبورا مثل بيوت بني إسرائيل، فإنهم كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم. والثاني: أحب أن يتنفلوا في بيوتهم ليشملها بركة الصلاة فيرتحل عنها الشيطان، وينزل فيها الخير والسكنية. والثالث: أنه رأى النافلة في البيت أفضل حذرا من دواعي الرياء وطلب المحمدة التي جبل عليها الإنسان ونظراً إلى سلامته من العوارض والموانع التي تصيبه في المسجد بخلاف البيت، فإنه يخلو هناك بنفسه فينسد مداخل تلك الآفات والعوارض. فعلى الوجه الأول والثاني، إذا أدى الإنسان بعض نوافله في البيت فقد خرج من عهدة ما شرع له. وعلى الوجه الثالث، إذا تمكن عن أداء نافلة في المسجد عارية عن تلك القوادح لم تتأخر صلاته تلك عن صلاته في البيت فضيلة. وأرى قوله "لا ينصبه إلا إياه" إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن لا يشوب قصده ذلك شيء آخر، فلا يزعجه إلا القصد المجرد بخروجه إلى الصلاة سالما من الآفات التي أشرنا إليها- انتهى كلام التوربشتي مختصراً (وصلاة على إثر صلاة) بكسر الهمزة وسكون الثاء وبفتحتين لغتان، أي: عقبيهما، يعني صلاة تتبع صلاة وتتصل بها ليلاً ونهاراً فرضاً وسنة (لا لغو بينهما) أي: ما لا يعني من القول والفعل، قال في النهاية: يقال: لغا الإنسان يلغو ولغى يلغى، إذا تكلم بالمطروح من القول وما لا يعني. وقال في القاموس: اللغو واللغى كالفتى السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره - انتهى. فيشمل اللغو من الفعل كما جاء في الحديث: من مس الحصى فقد لغى (كتاب) أي: عمل مكتوب (في عليين) قال ابن رسلان: أي: مكتوب ومقبول تصعد به الملائكة المقربون إلى عليين لكرامة المؤمن وعمله الصالح. قال القاري: هو علم لديوان الخير الذي دون فيه أعمال الأبرار. قال تعالى {إن كتاب الأبرار لفي عليين، وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم، يشهد المقربون} [21، 18:83) منقول من جمع علي فعيل من العو، سمى به لأنه مرفوع إلى السماء السابعة تكريما، ولأنه سبب الارتفاع إلى أعلى الدرجات، والعليلة بتشديد اللام والياء الغرفة، كذا قاله بعضهم. وقيل: أراد أعلى الأمكنة وأشرف المراتب، أي: مداومة الصلاة والمحافظة عليها من غير شوب بما ينافيها لا شيء من الأعمال أعلى منها فكنى عن ذلك بقوله في عليين (رواه أحمد وأبوداود) وسكت عنه. وقال المنذري: فيه القاسم أبوعبد الرحمن، وفيه مقال-انتهى. قلت: قد وثقه ابن معين، والعجلي،(2/442)
736- (43) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قيل: يارسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: المساجد. قيل: وما الرتع؟ يارسول الله! قال: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)) رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويعقوب بن سفيان، والترمذي، ويعقوب بن شيبة، وإسحاق الحربي، وغيرهم. فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن.
736- قوله: (إذا مررتم برياض الجنة) جمع روضة وهي أرض مخضرة بأنواع النبات (فارتعوا) من رتعت الماشية رتعا ورتوعا من باب نفع. رعت كيف شاءت. قال في القاموس: رتع كمنع، أكل وشرب ما شاء في خصب وسعة، أو هو الأكل والشرب رغداً في الريف. وتلخيص الحديث: إذا مررتم بالمساجد قولوا هذه الأذكار، فلما وضع رياض الجنة موضع المساجد بناء على أن العبادة فيها سبب للحلول في رياض الجنة روعيت المناسبة لفظاً ومعنى، فوضع الرتع موضع القول، أي: استعير للعوض في الأذكار الواقعة فيها، لأن هذا القول سبب لنيل الثواب الجزيل. والرتع هنا كما في قول إخوة يوسف {يرتع ويلعب} [12:12] وهو أن يتسع في أكل الفواكه والمستلذات والخروج إلى التنزه في الأرباف والمياه كما هو عادة الناس إذا خرجوا إلى الرياض والبساتين، ثم اتسع واستعمل في الفوز بالثواب الجزيل والأجر الجميل (قيل: يارسول الله) السائل في الفصلين هو أبوهريرة راوي الحديث وهو صريح في كتاب الترمذي (وما رياض الجنة؟ قال: المساجد) وفي حديث أنس عند أحمد والترمذي: حلق الذكر. ولا منافاة بينهما لأنها تصدق بالمساجد وغيرها فهي أعم، وخصت المساجد هنا لأنها أفضل، قاله القاري. وفسر في حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير بمجالس العلم. قال الشوكاني: لا مخالفة بين هذه الأحاديث، فرياض الجنة تطلق على حلق الذكر، ومجالس العلم، والمساجد، ولا مانع من ذلك-انتهى. وقيل: اختلف الجواب في تفسير الرتع باختلاف أحوال السائلين، فرأى أن الأولى بحال سائل حلق العلم، وبحال سائل آخر حلق الذكر، ولهذا قال العلقمي: المراد من هذه الأحاديث في تفسير الرتع مناسبة كل شخص بما يليق به من أنواع العبادة (وما الرتع؟) بسكون المثناة الفوقية (يارسول الله! قال: سبحان الله) إلخ. لا يخفى أن الرتع ليس منحصراً في هذه الأذكار، بل المقصود هذه وأمثالها من الباقيات الصالحات التي هي سبب وصول الروضات، ورفع الدرجات العالية، وهذا لأن في قوله "حلق الذكر" في حديث أنس و"مجالس الذكر" في حديث جابر عند أبي يعلى، والبزار، والطبراني، والحاكم، والبيهقي إشارة إلى أن كل ذكر رتع، وإنما خصت الكلمات المذكورة بالذكر لأن الباقيات الصالحات في الآية مفسر بها. ولحديث "إنها أحب الكلام إلى الله" أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث سمرة بن جندب (رواه الترمذي) في الدعوات وغربه، وفي سنده حميد المكي، وهو مجهول، لكن له شواهد ترتقى بها إلى الصحة أو الحسن.(2/443)
737- (44) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتى المسجد لشيء، فهو حظه)) رواه أبوداود.
738- (45) وعن فاطمة بنت الحسين، عن جدتها فاطمة الكبرى، رضي الله عنها، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفرلي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج صلى على محمد وسلم، وقال: رب اغفرلي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
737- قوله: (من أتى المسجد لشيء) أي: لقصد حصول شيء من غرض أخروي أو دنيوي (فهو) أي: ذلك الشيء (حظه) أي: نصيبه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: إنما لكل امرئ ما نوى-الحديث. ففيه تنبيه على تصحيح النية في إتيان المسجد لئلا يكون مختلطاً بغرض دنيوي كالتمشية والمصاحبة مع الأصحاب مثلاً، بل ينوي العبادة كالصلاة، والاعتكاف، واستفادة علم وإفادته ونحوها (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال المنذري: في إسناده عثمان بن أبي العاتكة الدمشقي، وقد ضعفه غير واحد-انتهى. قلت: قال العجلي: لا بأس به، وكان دحيم يثنى عليه، وينسبه إلى الصديق. وقال أبوحاتم عنه: لا بأس به. وقال أبودواد: صالح. وقال خليفة: كان ثقة كثير الحديث. وقال الحافظ في التقريب: ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني-انتهى. وهذا الحديث إنما هو من روايته عن عمير بن هانئ العنسي، لا علي بن يزيد الألهاني، فحديثه هذا لا ينحط عن درجة الحسن، ويقويه حديث: إنما لكل امرئ ما نوى، إلخ.
738- قوله: (وعن فاطمة بنت الحسين) بن علي بن أبي طالب الهاشمية القرشية المدنية، تزوجها ابن عمها الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، ومات عنها، فتزوجها عبد الله بن عثمان بن عفان. ثقة تابعية، روت عن أبيها وأخيها زين العابدين، وعمتها زينب بنت علي، وجدتها فاطمة الزهراء مرسل، وبلال المؤذن مرسل، وابن عباس، وأسماء بنت عميس، وروى عنها جماعة. ماتت بعد المائة وقد أسنت. ذكرها ابن حبان في الثقات، وقال: ماتت وقد قاربت التسعين. ووقع ذكرها في صحيح البخاري في الجنائز: قال: لما مات الحسن بن الحسن ضربت امرأته القبة (عن جدتها فاطمة الكبرى) أي: الزهراء بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمها خديجة، وهي أصغر بناته في قول. وهي سيدة نساء هذا الأمة. تزوجها علي بن أبي طالب في السنة الثانية من الهجرة في شهر رمضان، وبنى عليها في ذي الحجة. وكان سنها يوم تزوجها خمس عشر سنة وخمسة أشهر ونصف، فولدت له الحسن، والحسين، والمحسن، وزينب، وأم كلثوم، ورقية. وماتت بالمدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر، وقيل: بثلاثة أشهر، وقيل: غير ذلك، ولها سبع وعشرون سنة. وقيل: ثمان، وقيل: جاوزت العرشين بقليل، وكان أول آل النبي - صلى الله عليه وسلم - لحوقاً به. وغسلها علي مع أسماء بنت عميس، وصلى عليها. ودفنت ليلاً. روى عنها جماعة من الصحابة، ومناقبها كثيرة جداً (إذا دخل المسجد) أي: أراد دخوله (صلى على محمد وسلم) تشريعاً للأمة وبيانا، لأن حكمه حكم الأمة حتى ابتغاء الصلاة والسلام(2/444)
رواه الترمذي، وأحمد، وابن ماجه، وفي روايتهما، قالت: إذا دخل المسجد، وكذا إذا خرج، قال: بسم الله، والسلام على رسول الله، بدل: صلى على محمد وسلم. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل، وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى.
739- (46) وعن عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على نفسه إلا ما خصه الدليل، وإنما شرع الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند دخول المصلى المسجد وعند خروجه، لأنه السبب في دخوله المسجد، ووصوله الخير العظيم، فينبغي أن يذكره بالخير. وقال القاري: هو يحتمل قبل الدخول وبعده. والأول أولى. ثم حكمته بعد تعليم أمته أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجب عليه الإيمان بنفسه، كما كان يجب على غيره، فكذا طلب منه تعظيمها بالصلاة منه عليها، كما طلب ذلك من غيره-انتهى (رواه الترمذي) وقال: حديث حسن، وإنما حسنه مع اعترافه بعدم اتصال سنده كما سيأتي، لأن الترمذي قد يحسن الحديث مع ضعف الإسناد للشواهد لحديث فاطمة هذا حسنه لأن له شواهد يرتقى بها درجة الحسن (بسم الله والسلام على رسول الله) فيه زيادة التسمية وهي ثابتة أيضاً عند ابن السني من حديث أنس، فينبغي لداخل المسجد والخارج منه أن يجمع بين التسمية والصلاة والسلام على رسول الله، والدعاء بالمغفرة، وبالفتح لأبواب الرحمة داخلاً، ولأبواب الفضل خارجاً، ويزيد في الخروج سؤال الفضل، وينبغي أيضاً أن يضم إلى ذلك ما سيأتي في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، الخ (ليس إسناده بمتصل) لأن فاطمة الصغرى بنت الحسين تروى هذا الحديث عن جدتها فاطمة الكبرى، وهي ما أدركتها، لأن الكبرى ماتت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر، وفي سنده أيضاً ليث ابن أبي سليم، وفيه مقال معروف. قال الحافظ: صدوق، اختلط أخيراً فلم يتميز حديثه، فترك.
739- قوله: (عن أبيه) شعيب (عن جده) أي: جد شعيب، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي، وقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو. والدليل على أن المراد بقولهم في الإسناد "عن جده" جد شعيب-أعنى عبد الله بن عمرو الصحابي – ما رواه البيهقي في السنن الكبرى (ج5:ص92) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: كنت أطوف مع أبي عبد الله بن عمرو بن العاص. فهذا يشير إلى صحة ما قال الذهبي في الميزان: أن محمداً والد شعيب مات في حياة أبيه عبد الله، وترك ابنه شعيباً صغيراً، فكفله جده عبد الله ورباه ولذلك يسميه هنا أباه، إذ هو أبوه الأعلى وهو الذي رباه، ومما يدل صريحاً على صحة سماع شعيب عن جده عبد الله بن عمرو ما رواه الدارقطني (ص310) والحاكم (ج2:ص65) في المستدرك عنه في قصة سؤال الرجل عن محرم وقع بامرأة، فإن فيه تصريحا بسماع شعيب من جده عبد الله، وإنه كان يجالسه، ويجالس الصحابة في عصره، وعلى هذا فحديث عمرو(2/445)
عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد)) رواه أبوداود، والترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن شعيب عن أبيه عن جده، صحيح أو حسن إذا كان الإسناد إلى عمرو صحيحاً، وهو الذي عليه المحققون من أهل الحديث: علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه وأبوعبيد والبخاري والحاكم والبيهقي، وغيرهم. وبه قال الذهبي والنووي وابن عبد البر، وقد تقدم شيء من البسط في هذا في باب الإيمان بالقدر. وانظر تفصيل الكلام في تهذيب التهذيب (ج8:ص48-55) والميزان (ج2:ص289) والتدريب (ص221) ونصب الراية (ج1:ص59، 58) وتعليق الشيخ أحمد محمد شاكر على جامع الترمذي (ج2:ص141-144) (عن تناشد الأشعار) قال التوربشتي: التناشد أن ينشد كل واحد صاحبه نشيداً لنفسه أو لغيره افتخاراً ومباهاة، أو على وجه التفكه بما يستطاب منه ترجية للوقت بما تركن إليه النفس أو لغيره، فهو مذموم، وأما ما كان منه في مدح الحق وأهله، وذم الباطل وذويه، أو كان منه تمهيدا لقواعد الدين، أو إرغاماً لمخالفيه فهو خارج عن الذم وإن خالطه التشبيب. وقد كان يفعل ذلك بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ينهى عنه، لعلمه بالغرض الصحيح، كذا نقله الطيبي. وقيل التناشد هو المفاخر بالشعر، والإكثار منه حتى يغلب على غيره، وحتى يخشى منه كثرة اللغط والشغب مما ينافي حرمة المساجد، وهذا غير إنشاد بعض القصائد. وقيل المراد تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين (وعن البيع والاشتراء فيه) فيه دليل على تحريم البيع والشراء في المسجد. وقال الشوكاني: ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة. قال العراقي: وقد أجمع العلماء على أن ما عقد البيع في المسجد لا يجوز نقضه، وهكذا قال الماوردي. وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين: بأن النهي حقيقة في التحريم، وهو الحق، وإجماعهم على عدم جواز النقض وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم، فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة (وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد) أي: نهى أن يجلسوا محلقين حلقة واحدة أو أكثر وإن كان لمذاكرة علم. وفيه دليل على حرمة التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة، والتراص في الصفوف، الأول فالأول، ولأنه يخالف هيئة اجتماع المصلين، ولأن الاجتماع للجمعة خطب عظيم لا يسمع من حضرها أن يهتم ما سواها حتى يفرغ منها، والتحلق قبل الصلاة يوهم غفلتهم عن الأمر الذي ندبوا إليه، ولأن الوقت وقت الاشتغال بالإنصات للخطبة. والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم، والذكر، والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيرها (رواه أبوداود) في أبواب الجمعة، وزاد: وأن تنشد فيه ضالة. وسكت عليه (والترمذي) وحسنه، وصححه ابن خزيمة. وقال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب، فمن يصحح نسخته يصححه. قال: وفي المعنى عدة أحاديث لكن في أسانيدها مقال-انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه.(2/446)
740- (47) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة، فقولوا: لا رد الله عليك)) رواه الترمذي، والدارمي.
741- (48) وعن حكيم بن حزام، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقادر في المسجد، وأن ينشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود)) رواه أبوداود في سننه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
740- قوله: (يبيع أو يبتاع) أي: يشتري. قال القاري: حذف المفعول يدل على العموم فيشمل ثوب الكعبة، والمصاحف، والكتب، والسبح (فقولوا) أي: لكل منهما باللسان جهرا، وقيل: سرا (لا أربح الله تجارتك) أي: لا جعل الله تجارتك ذات ربح ونفع، وهو دعاء عليه. ولو قال لهما معاً: لا أربح الله تجارتكما لجار لحصول المقصود (من ينشد فيه ضالة) أي: يطلبها برفع الصوت (رواه الترمذي) في آخر البيوع وحسنه (والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي في اليوم والليلة، وابن حبان وابن خزيمة والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ذكره ميرك. وقد أخرج الشطر الثاني مسلم أيضاً كما تقدم في الفصل الأول.
741- قوله: (وعن حكيم بن حزام) بكسر مهملة وفتح زاى، هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي. أبوخالد المكي، ابن أخي خديجة أم المؤمنين، ولد قبل الفيل بثلاث عشرة سنة، أسلم يوم الفتح، وكان من المؤلفة، أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين مائة من الإبل، وحسن إسلامه، وكان من سادات قريش وأشرافها ووجوهها في الجاهلية والإسلام، وكان عاقلاً فاضلاً تقياً جواداً، أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وفي الإسلام مثلها، وجاء الإسلام ودار الندوة بيده فباعها من معاوية بعد بمائة ألف درهم، فقال له ابن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال: ذهب المكارم إلا التقوى، اشتريت بها داراً في الجنة، أشهدكم أنى قد جعلتها في سبيل الله يعني الدراهم. وكان عالماً بالنسب. مات بالمدينة في داره سنة (54) وله مائة عشرون سنة، ستون في الجاهلية وستون في الإسلام. وقيل في سنة وفاته غير ذلك، له أربعون حديثاً، اتفقا على أربعة. روى عنه نفر (أن يستقاد) أي: يطلب القود أي: القصاص يعني يقتص (في المسجد) لئلا يقطر الدم فيه (وأن ينشد) بضم التحتية مذكراً، وفي أبي داود بالتأنيث: أي: يقرأ (الأشعار) أي: القبيحة المذمومة (وأن تقام فيه الحدود) أي: سائرها، أي: تعميم بعد تخصيص، أي: الحدود المتعلقة بالله، أو بالآدمي، لأن في ذلك نوع هتك حرمته، ولاحتمال تلوثه بجرح أو حدث، ولأنه إنما بنى المسجد للصلاة والذكر لا لإقامة الحدود. والحديث دليل على تحريم إقامة الحدود في المساجد وتحريم الإستفادة فيها، لأن النهي كما تقرر في الأصول حقيقة في التحريم، ولا صارف له ههنا عن معناه الحقيقي (رواه أبوداود في سننه) في أواخر كتاب الحدود،(2/447)
وصاحب جامع الأصول فيه عن حكيم، وفي المصابيح عن جابر.
742- (49) وعن معاوية بن قرة، عن أبيه، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هاتين الشجرتين – يعني
البصل والثوم – وقال: من أكلها فلا يقربن مسجدنا. وقال: إن كنتم لا بد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأخرجه أيضاً أحمد والدارقطني والحاكم وابن السكن والبيهقي. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الحافظ في التلخيص: لا بأس بإسناده. وقال في بلوغ المرام: إن إسناده ضعيف. وقال الذهبي في الميزان: ضعفه عبد الحق. وقال ابن القطان: علته الجهل بحال زفر بن وثيمة، تفرد عنه محمد بن عبد الله الشعيثي. قال الذهبي: قد وثقه ابن معين، ودحيم. قلت: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ: مقبول، فمن عرفه حجة على من لم يعرف، وجهل في جهله لا يضر. وقال المنذري: في إسناده محمد بن عبد الله بن المهاجر الشعيثي النصر الدمشقي، وقد وثقه غير واحد. وقال أبوحاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به –انتهى. قلت: قد وثقه دحيم، والمفضل بن غسان الغلابي، وقال النسائي لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ، صدوق، فحديثه لا ينحط عن درجة الحسن. وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي وابن ماجه، وفي سنده إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف من قبل حفظه. وعن جبير بن مطعم عند البزار، وفيه الواقدي. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وفيه ابن لهيعة. كذا في النيل (وصاحب جامع الأصول فيه) أي: الجامع (عن حكيم) متعلق برواه (وفي المصابيح عن جابر) قال الطيبي: ولم يوجد في الأصول الرواية عنه. وقال ميرك: صوابه عن حكيم بن حزام.
742- قوله: (وعن معاوية بن قرة) بضم القاف وتشديد الراء، ابن إباس-بكسر الهمزة وتخفيف الياء تحتها نقطتان-ابن هلال المزني، يكنى أبا إباس البصري، ثقة عالم من الطبقة الوسطى من التابعين، وثقه ابن معين، والنسائي والعجلي وأبوحاتم وابن سعد وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان من عقلاء الرجال، مات سنة (113) وهو ابن (76) سنة (عن أبيه) قرة بن إباس بن هلال بن رياب المزني أبومعاوية جد إباس بن معاوية القاضي، صحابي. قال ابن عبد البر: سكن البصرة. لم يرو عنه غير ابنه. قتل في حرب الأزارقة مع عبد الرحمن ابن عبيس في زمن معاوية، وقد أرخه ابن سعد، وخليفة وأبوعروبة وابن حبان سنة (64) فيكون ذلك في زمن معاوية ابن يزيد بن معاوية. وذكره ابن سعد في طبقة من شهد الخندق، له اثنان وعشرون حديثاً (يعني البصل والثوم) وفي معناهما الكراث، والفجل، وما له رائحة كريهة (من أكلهما فلا يقربن مسجدنا) أي: مسجد المسلمين، قال الطيبي: وهذه الجملة كالبيان للجملة الأولى، أي: أفاد هذا البيان أن التقدير: نهى عن أكلهما. وأفاد أيضاً أن شرط النهي عن أكلهما اقترانه بدخول المسجد مثلا مع بقاء ريحهما. وأما أكلهما بحيث تزول الرائحة عند دخول المسجد، فلا يدخل تحت النهى، وفي النهي عن القربان إشارة إلى أن النهي عن الدخول أوله (إن كنتم لا بد) أي: لا فراق،(2/448)
أكليهما، فأميتوهما طبخاً)) رواه أبوداود.
743- (50) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام))
رواه أبوداود، والترمذي، والدارمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا محالة، ولا غنى بكم عن أكلهما لفرط حاجة أو شهوة، فخبر لا محذوف كما قدرنا. وهذه الجملة معترضة بين اسم كان وخبرها وهو (أكليهما) يعني وأردتم دخول المسجد (فأميتوهما طبخا) أي: أزيلوا رائحتهما بالطبخ، وفي معناه الإمانة والإزالة بغير الطبخ، وإنما خرج مخرج الغالب (رواه أبوداود) في الأطعمة، وسكت عنه هو والمنذري.
743- قوله: (الأرض كلها مسجد) أي: يجوز الصلاة فيها من غير كراهة (إلا المقبرة) في القاموس مثلثة الباء، وكمكنسة، موضع القبو (والحمام) بتشديد الميم الأولى، هو الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم، وهو في الأصل الماء الحار ثم قيل لموضع الاغتسال بأى ماء كان. والمراد إلا المقبرة والحمام وما في معناهما، فلا يشكل الحصر بما سيجيء. الحديث دليل على أن الأرض كلها تصح فيها الصلاة ماعدا المقبرة، وهي التي يدفن فيها الموتى، فلا تصح الصلاة فيها. وظاهره سواء كان على القبر أو بين القبور أو في مكان منفرد منها كالبيت أعد للصلاة، وسواء كانت القبور منبوشة، أو غير منبوشة، وسواء فرش عليها شيء يقيه من النجاسة، أو لم يفرش، وسواء كان قبر مؤمن أو كافر. وإلى ذلك ذهب أحمد، والظاهرية، وهو الراجح عندي. وكذلك الحمام، فإنه لا تصح فيه الصلاة، سواء صلى في مكان نظيف منه أو في مكان نجس. وإليه ذهب أحمد عملا بإطلاق الحديث. وقيل: يختص النهي بالمكان النجس منه. وإن صلى في مكان طاهر فلا بأس. وذهب الجمهور إلى صحتها مع الطهارة لكن تكون مكروهة. وقد ورد النهي معللا بأنه محل الشياطين، وظاهر الحديث مع أحمد وهو مخصص لقوله: جعلت لي الأرض كلها مسجدا (رواه أبوداود والترمذي والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان والشافعي. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، أي: من جهة إسناده، وذكر أن سفيان الثوري أرسله، قال: وكأن رواية الثوري، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: مرسلاً – أثبت وأصح – انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: رواه الترمذي، وله علة، ويعني بها الاختلاف في وصله وإرساله، فرواه حماد بن سلمة، وعبد الواحد بن زيادة، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موصولا. ورواه الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. ورجح الترمذي كما تقدم، ثم الدارقطني، والبيهقي الإرسال. والراجح وصله لأن الذي وصله ثقة، فلا يضر إرسال من أرسله. قال العلامة الشيخ أحمد في تعليقه على الترمذي: الحديث رواه الشافعي في الأم (ج1:ص79) عن سفيان بن عيينة مرسلاً، ورواه أيضاً البيهقي من طريق يزيد بن هارون عن الثوري موصولا، ثم قال: حديث الثوري مرسل، وقد روى موصولا وليس بشيء. وحديث حماد بن سلمة موصول، وقد تابعه على وصله عبد الواحد بن زياد والدراوردي، قال: ولا أدري كيف(2/449)
744- (51) وعن ابن عمر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي في سبعة مواطن: في المزيلة،
والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يزعم الترمذي ثم البيهقي أن الثوري رواه مرسلاً في حين أن روايته موصولة أيضا، ثم الذي وصله عن الثوري هو يزيد ابن هارون، وهو حجة حافظ، وأنا لم أجده مرسلاً من رواية الثوري، إنما رأيته كذلك من رواية سفيان بن عيينة فلعله أشتبه عليهم سفيان بسفيان، ثم ماذا يضر في إسناد الحديث أن يرسله الثوري أو ابن عينه إذا كان مرويا بأسانيد أخرى صحاح موصولة، المفهوم في مثل هذا أن يكون المرسل شاهدا للمسند ومؤيدا له. وقد ورد من طريق أخرى ترفع الشك، وتؤيد من رواه موصولا، وهي في المستدرك للحاكم من طريق بشر بن المفضل: ثنا عمارة بن غزية، عن يحيى بن عمارة الأنصاري- وهو والد عمرو بن يحي- عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً. ولذلك قال الحاكم بعد أن رواه بهذه الطريق، ومن طريق عبد الواحد بن زياد والدراوردي كلهم عن عمرو، عن أبيه: هذه الأسانيد كلها صحيحة على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي، وقد صدقا. ثم إن رواية سفيان بن عينية المرسلة ليست قولا واحدا بالإرسال، بل هي تدل على أنهم كانوا يروونه تارة بالإرسال وتارة بالوصل، لأن الشافعي بعد أن رواه عنه مرسلاً قال: وجدت هذا الحديث في كتابي في موضعين: أحدهما منقطع والآخر عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وهذا عندي قوة للحديث لا علة له- انتهى كلام الشيخ. وقال صاحب الإمام: حاصل ما علل به الإرسال، وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول، وله شواهد: منها حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: نهى عن الصلاة في المقبرة، أخرجه ابن حبان. ومنها حديث علي: إن حبي نهاني أن أصلي في المقبرة، أخرجه أبوداود.
744- قوله: (أن يصلي) على بناء المفعول (في المزبلة) بفتح الباء، وقيل: بضمها، الموضع الذي يكون فيه الزبل وهو السرجين، ومثله سائر النجاسات، أي: وإن وجد فيها موضع خال عن الزبل، أو بسط عليها بساط في المكان اليبس، لأن في ذلك استخفافاً بأمر الدين لأن من حق الصلاة أن تؤدي في الأمكنة النظيفة، والبقاع المحترمة، وكذلك المجزرة لأنها مسفح الدماء، وملقى القاذورات، وكذلك القول في الحمام لأنه مكتثر الأوساخ، ومجتمع الغسالات، ثم إنه محل تعرى الأبدان عن اللباس (والمجزرة) بفتح الميم والزاي تفتح وتكسر: الموضع الذي تجزر فيه الحيوانات أي: تنحر وتذبح (والمقبرة) قيل: لأن فيها اتخاذ القبور مساجد استناناً بسنة اليهود (وقارعة الطريق) الإضافة بيانية، أي: الطريق الذي يقرعها الناس بأرجلهم أي: يدقونها ويمرون عليها. وقيل: هي وسطها أو أعلاها، والمراد هنا نفس الطريق، وكأن القارعة بمعنى المقروعة أو الصيغة للنسبة أي: ذات قرع، وإنما نهى عن الصلاة فيها لإشغال القلب بمرور الناس، وتضييق المكان عليهم، وإيقاعهم في الإسم إن مروا بلا ضرورة، وإيقاع نفسه فيه لو كان لهم ضرورة (وفي معاطن الإبل) جمع معطن بكسر الطاء، وهو وطن الإبل ومبركها حول الحوض كالعطن- محركة- وجمعه أعطان، وكذا الحكم في سائر مباركها ومواطنها، فقد ورد النهي بلفظ"مزابل الإبل" وفي لفظ"مزابل الإبلي" وفي أخرى"مناخ الإبل" وهي أعم من معاطن الإبل. وقد ورد(2/450)
وفوق ظهر بيت الله)) رواه الترمذي، وابن ماجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التعليل فيها منصوصاً بأنها من الشياطين. أخرجه أبوداود. وفي حديث ابن مغفل عنده: فإنها خلقت من الجن، ألا ترون إلى عيونها وهيئتها إذا نفرت. قيل المعنى أنها كثيرة الشراد، شديدة النفار، معها أخلاق جنية، فلا يأمن المصلي في أعطانها أن تنفر، فتقطع عليه صلاته. وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها، وبين غيبتها عنها، إذ يؤمن نفورها حينئذٍ (وفوق ظهر بيت الله) لأن الصلاة على ظهر البيت تفضي إلى ارتفاع سطح البيت، وذلك مخل بشرط التعظيم لمشابهته صنيع أهل العادة في استعلاء البيوت للتطلع والتفرج، ثم لخلوه عن الفائدة. والحديث يدل على منع الصلاة في هذه المواطن السبعة، ولو صح لكان بقاء النهي على ظاهره الذي هو التحريم في جميع ما ذكر هو الواجب، وكان مخصصا لعموم"جعلت لي الأرض مسجدا"لكن فيه كلام كما ستعرف، إلا أن الحديث في القبور والحمام والمعاطن من بين هذه المذكورات قد صح كما تقدم، وكما يفيده الحديث الثاني (رواه الترمذي وابن ماجه) كلاهما من طريق زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، قال الترمذي: حديث ابن عمر ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه- انتهى. قال الزيلعي: اتفق الناس على ضعف زيد بن جبيرة، فقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال أبوحاتم والأزدي: منكر الحديث، لا يكتب حديثه، وقال الدارقطني: ضعيف الحديث- انتهى. وقال الحافظ في التلخيص: إنه ضعيف جداً. وأخرجه أيضاً ابن ماجه من حديث عمر، من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح المصري، كاتب الليث، عن سعد، عن الليث بن سعد: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن عمر. وقد أشار الترمذي إلى هذه الرواية، لكن زاد في سنده عبد الله بن عمر العمري بين الليث بن سعد ونافع، والعمري ضعيف، قاله في التقريب. وقال الذهبي: صدوق، في حفظه شيء. ثم رجح الترمذي رواية زيد بن جبيرة، عن داود، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على رواية الليث من أجل عبد الله بن عمر العمري، وفيه نظر ظاهر، بل الأمر بالعكس، لأن زيد بن جبيرة منكر الحديث متروك الحديث ضعيف جداً. وأما العمري فروى أحمد بن أبي مريم، عن ابن معين ليس به بأس، يكتب حديثه. وقال الدارمي: قلت لابن معين: كيف حاله في نافع؟ قال: صالح ثقة. وقال أحمد بن حنبل: صالح لا بأس به. وقال ابن عدي: في نفسه صدوق. على أن الليث بن سعد رواه عند ابن ماجه، عن نافع من غير واسطة العمري كما عرفت، وقد ضعفه بعضهم بأبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، والظاهر أنه ثقة مأمون كما قال عبد الملك بن شعيب بن الليث. وقال ابن معين: هما ثبتان: ثبت حفظ وثبت كتاب، وأبوصالح كاتب الليث ثبت كتاب. وقال أبوزرعة: كان حسن الحديث. وقال ابن القطان: هو صدوق، ولم يثبت عليه ما يسقط له حديثه إلا أنه مختلف فيه فحديثه حسن. وقال الحافظ: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة. قلت: فالظاهر أن حديث الليث حديث حسن، وأنه أرجح وأحسن من حديث زيد بن جبيرة عن داود، خلافاً لما قال الترمذي.(2/451)
754- (52) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في
أعطان الإبل)) . رواه الترمذي.
746- (53) وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ((لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
754- قوله: (صلوا في مرابض الغنم) جمع مربض بفتح الميم وسكون الراء وكسر الباء الموحدة وآخره ضاد معجمة، وهو مأوى الغنم، ومكان ربوضها. والأمر للإباحة. قال العراقي: اتفاقاً، وإنما نبه - صلى الله عليه وسلم - لئلا يظن أن حكمها حكم الإبل، أو أنه أخرج على جواب السائل حين سأله عن الأمرين، فأجاب في الإبل بالمنع، وفي الغنم بالإذن وأما الترغيب المذكور في الأحاديث بلفظ: فإنها بركة. فهو إنما لقصد تبعيدها عن حكم الإبل، كما وصف أصحاب الإبل بالغلظ والقسوة، ووصف أصحاب الغنم بالسكينة- انتهى. وفيه دليل على طهارة أبوال مأكول اللحم، وأرواثه لأنه أذن للصلاة في المرابض مطلقاً من غير تقييد بحائل، ومن غير تخصيص بموضع دون موضع (ولا تصلوا في أعطان الإبل) جمع عطن بالعين والطاء المهملتين المفتوحتين، وهي أماكن بروكها. وقد تكلفوا في استخراج علة النهي فيها واختلفوا، فقيل: هي النجاسة. وفيه أن ذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها، وقد تقدم أن الحق طهارتها، ولو سلمنا النجاسة لم يصح جعلها علة، إذ لا فرق حينئذٍ بين المرابض والمعاطن لأن كل واحد من الجنسين مأكول اللحم فهما سيان في الحكم. وقيل علة النهي شدة نفار الإبل، فقد يؤدي ذلك إلى بطلان الصلاة، أو قطع الخشوع، أو غير ذلك، فلذلك جاء: إنها من الشياطين، وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في المعاطن وبين غيبتها إذ يؤمن حينئذٍ نفورها. وفيه أنه نهى عن الصلاة في الأعطان مطلقاً سواء كانت الإبل فيها أو غابت عنها. وقيل: العلة أن الرعاة كانوا يبولون، ويتغوطون بينها. وقيل: الحكمة في النهي كونها خلقت من الشياطين كما في حديث ابن مغفل عند ابن ماجه وغيره. والظاهر أن النهي تعبدي فالحق الوقوف على مقتضى النهي وهو التحريم، فيحرم الصلاة في المعاطن، ولا تصح. وهو مذهب أحمد، والظاهرية، وغيرهم (رواه الترمذي) وصححه، وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكر تخريج أحاديثهم الشوكاني في النيل.
746- قوله: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور) قيل: هذا كان قبل الترخص بقوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها الآن لأنها تذكر الآخرة) أخرجه مسلم وأبوداود والنسائي. فلما رخص دخل في الرخصة الرجال والنساء، ومحله ما إذا أمنت الفتنة. وقيل: بل نهى النساء عن زيارة القبور باق لقلة صبرهن، وكثرة جزعهن إذا رأين القبور. وقيل بل يحرم زيارة القبور على النساء مطلقاً، فإن النهي ورد خاصا بهن، والإباحة والرخصة لفظها عام، ولا منافاة بين العام والخاص حتى يقال: إن العام نسخ الخاص، بل الخاص حاكم عليه، ومقيد له، فيكون الإذن خاصا بالرجال، ولا يجوز للنساء زيارة القبور مطلقاً سواء أمنت الفتنة والجزع أم لم تأمن، هذا وقد بسط ابن القيم القول(2/452)
والمتخذين عليها المساجد والسرج)) رواه أبوداود، والترمذي، والنسائي.
747- (54) وعن أبي أمامة، قال: ((إن حبراً من اليهود سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي: البقاع خير؟ فسكت عنه، وقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في مختصر السنن في مسألة زيارة النساء للمقابر فارجع إليه (والمتخذين عليها المساجد) لأن في ذلك استنانا بصفة اليهود (والسرج) بضمتين جمع سراج بكسر أوله، وهو المصباح أي: لما فيه من تضييع بلا نفع، ويشبه تعظيم القبور كاتخاذها مساجد، وفيه رد صريح على القبوريين الذين يبنون القباب على القبور، ويسجدون إليها، ويسرجون عليها، ويضعون الزهور والرياحين عليها تكريما وتعظيما لأصحابها (رواه أبوداود) في الجنائز (والترمذي) في الصلاة (والنسائي) في الجنائز. وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه وابن حبان. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال الترمذي: حديث حسن. قال المنذري في مختصر السنن (ج4:ص350) : وفيما قاله نظر، فإن أبا صالح هذا أي: الراوي للحديث عن ابن عباس هو باذام، ويقال: باذان مكي مولى أو هانئ بنت أبي طالب، وهو صاحب الكلبي، وقد نقل: أنه لم يسمع من ابن عباس. وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال ابن عدي: لم أعلم أحداً من المتقدمين رضيه. وقد قيل عن يحيى ابن سعيد القطان وغيره تحسين أمره، فلعله يريد: رضيه حجة، أو قال: هو ثقة- انتهى. وذكر المنذري أيضاً في الترغيب، ونسبه أيضاً لصحيح ابن حبان، ثم قال: وأبوصالح هذا هو باذام، ويقال: باذان، مكي مولى أم هانئ وهو صاحب الكلبي. قيل: لم يسمع من ابن عباس، وتكلم فيه البخاري والنسائي وغيرهما- انتهى. وقال ابن القيم: قد تقدم أن أبا حاتم خالفه أي: المنذري في ذلك وقال: صالح هذا هو مهران ثقة وليس بصاحب الكلبي، ذاك اسمه باذام- انتهى. وقيل: الظاهر هو قول الترمذي: أن هذا الحديث حسن، لأنه ليس لتضعيف أبي صالح حجة قوية، والذي ادعى أنه لم يسمع من ابن عباس هو ابن حبان كما في تهذيب التهذيب (ج1:ص407) ولعلها فلتته منه، فإن أبا صالح تابعي قديم، روى عن مولاته أم هانئ، وعن أخيها على بن أبي طالب، وعن أبي هريرة. وابن عباس أصغر من هؤلاء كلهم، وأما وصف الحافظ، والخزرجي أبا صالح بالتدليس فلعله مبني على قول ابن حبان، وإنما تكلم فيه من تكلم من أجل التفسير الكثير المروى عنه والحمل في ذلك على تلميذه محمد بن السائب الكلبي، ولذلك قال ابن معين: ليس به بأس، وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء. وهذا الحديث رواه عنه محمد بن جحادة لا الكلبي. وقال يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا تركه، وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئا، ووثقه أيضاً العجلي.
747- قوله: (إن حبراً) أي: عالماً، وهو بفتح الحاء أشهر من كسرها، قاله ابن الملك. وذكر في الصحاح أن كسر الحاء أصح، لكن المشهور في الاستعمال الفتح ليفرق بين العالم وبين ما يكتب به، كذا في المفاتيح (أي البقاع) بكسر الباء جمع البقعة بالضم (خير) أي: أفضل يعني كثير الخير (فسكت عنه) أي: عن جوابه (وقال) أي: في نفسه وقلبه أو بلسانه(2/453)
أسكت حتى يجيء جبريل، فسكت، وجاء جبرئيل عليه السلام، فسأل، فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، لكن أسأل ربي تبارك وتعالى. ثم قال جبريل: يا محمد! إني دنوت من الله دنواً ما دنوت منه قط. قال: وكيف كان يا جبريل؟ قال: كان بيني وبينه سبعون ألف حجاب من نور، فقال: شر البقاع أسواقها وخير القاع مساجدها)) . رواه. . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(أسكت) بصيغة المتكلم أو الأمر (فسكت) أي: إلى مجيء جبريل. قال الطيبي: فيه أن من استفتى عن مسألة لا يعلمها فعليه أن لا يعجل في الإفتاء، ولا يستنكف عن الاستفتاء ممن هو أعلم منه، ولا يبادر إلى الاجتهاد ما لم يضطر إليه، فإن ذلك من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة جبرئيل (فسأل) أي: فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه المسألة (فقال: ما المسئول عنها) أي: عن هذه المسألة (ثم قال جبرئيل) أي: بعد سؤاله ورجوعه من حضرة الله تعالى (دنوت من الله دنوا) فعول مصدر دنا بمعنى قرب (ما دنوت منه قط) أي: أذن لي أن أقرب منه تعالى أكثر مما قربت منه في سائر الأوقات. قال ابن الملك: ولعل زيادة تقريبه منه في هذه المرة لتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يزيد المحب في احترام رسول الحبيب لأجل الحبيب- انتهى كلامه. أو لأنه تقرب إليه تعالى بطلب العلم، ومن وعده تعالى أن من تقرب إليه شبرا تقرب عليه باعا، كذا في المرقاة (وكيف كان) أي: دنوك (سبعون ألف حجاب من نور) قالوا المراد به التكثير لا التحديد، و"من نور" إشارة إلى أن الحجب للملائكة نورانية، وهي حجب أسماءه وصفاته وأفعاله، وهي غير متناهية وإن كانت أصول الصفات الحقيقية سبعة أو ثمانية. والملائكة محجوبون بنور المهابة والعظمة والجلال، والإنسان منهم من حاله كذلك، ومنهم من حجب بحجب ظلمانية، كذا في اللمعات. وقال القاري: اعلم أن الحجب إنما تحيط بمقدر محسوس، وهو الخلق، فهم محجوبون عنه تعالى بمعاني أسماءه وصفاته وأفعاله، وأقرب الملائكة الحافون بالعرش، وهو محجوبون بنور المهابة والعظمة والكبرياء والجلال، وأما الآدميون فمنهم من حجب برؤية النعم عن المنعم، وبشاهدة الأسباب عن المسبب، ومنهم من حجب بالشهوات المباحة أو المحرمة، أو بالمال والنساء والبنين وزينة الحياة الدنيا والجاه. ومنه قول الصوفية: العلم حجاب. قال بعض مشائخنا: لكنه نوراني، فأفاد أن الحجب على نوعين: نوراني وظلماني. وقد أشار إليه الحديث بقوله من نور- انتهى. وقال النووي: حقيقة الحجاب إنما يكون للأجسام المحدودة، والله تعالى منزه عن الجسم والحد، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسمي ذلك المانع نوراً أو ناراً لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما- انتهى (شر البقاع أسواقها) لأنها محل الغفلة والمعصية (وخير البقاع مساجدها) لأنها محل الحضور والطاعة. قال الطيبي: أجاب عن الشر والخير، وإن كان السؤال عن الخير فقط تنبيهاً على بيت الرحمن وبيت الشيطان. قلت: الأشياء تتبين بأضدادها (رواه. . . .) كذا في أصل المصنف هنا بياض، وألحق به ابن حبان عن ابن عمر، ولذا قال الطيبي: ذكر الراوي أي: المخرج ملحق.(2/454)
{الفصل الثالث}
748- (55) عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من جاء مسجدي هذا لم يأت إلا
لخير يتعلمه أو يعلمه؛ فهو بمنزلة المجهد في سبيل الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال السيد جمال الدين: هذا الحديث بهذا اللفظ لم أره مخرجاً في شيء من الكتب المعتمدة المشهورة، ولكن رأيت في تخريج أحاديث المصابيح للسلمي أنه قال: وروى ابن حبان في صحيحه، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: البقاع خير؟ وأي البقاع الشر؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبرئيل عليه السلام، فسأل جبرئيل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وثر البقاع الأسواق- انتهى. وذكر المنذري حديث ابن عمر هذا في الترغيب مختصراً ليس فيه الدنو من الله ولا الحجب ونسبه للطبراني وابن حبان، وكذلك رواه الحاكم (ج2:ص8، 7) بأطول منه، وفي سنده عندهم جميعاً عطاء بن السائب وكان اختلط وله شاهد من حديث جبير بن مطعم أن رجلاً قال: يا رسول الله أي: البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله؟ قال: لا أدري حتى أسأل جبرئيل، فأتاه فأخبره أن أحسن البقاع إلى الله المساجد، وأبغض البقاع إلى الله الأسواق، رواه أحمد (ج4:ص81) والبزار واللفظ له. وأبويعلى، والحاكم وقال صحيح الإسناد، وفي الباب أيضاً عن أنس أخرجه الطبراني في الأوسط. وقد تقدم في الفصل الأول حديث أبي هريرة بلفظ أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها. ومن هذا كله عرفت أن عدد السبعين وتكثير الحجب لم يرد في حديث صحيح، وأما الحجاب نفسه فقد ورد في صحيح مسلم على ما تقدم في صدر الكتاب من حديث أبي موسى مرفوعاً.
748- قوله: (مسجدي هذا) قال السندي: أراد مسجده وتخصيصه بالذكر إما لخصوص هذا الحكم به، أو لأنه كان محلاً للكلام حينئذٍ، وحكم سائر المساجد كحكمه- انتهى. وقال الشوكاني: فيه تصريح بأن الأجر المرتب على الدخول إنما يحصل لمن كان في مسجده - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصح إلحاق غيره به من المساجد التي هي دونه في الفضيلة لأنه قياس مع الفارق (لم يأت) الجملة حال أي: حال كونه غير آتٍ (إلا لخير) أي: علم أو عمل (يتعلمه أو يعلمه) أو للتنويع، وفي رواية أحمد: من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه. قال الشوكاني: فيه أن الثواب المذكور إنما يتسبب عن هذه الطاعة الخاصة لا عن كل طاعة، وفيه أيضاً التنويه بشرف تعلم العلم وتعليمه، لأنه هو الخير الذي لا يقاوم قدره، وهذا إن جعل تنكير الخير للتعظيم، ويمكن إدراج كل تعلم وتعليم لخير أي: خير كان تحت ذلك، فيدخل كل ما فيه قربة يتعلمها الداخل أو يعلمها غيره، وفيه أيضاً الإرشاد إلى أن التعليم والتعلم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة (بمنزلة المجاهد) من حيث أن كلا منهما يريد إعلاء كلمة الله العليا، أو لأن كل واحد من العلم والجهاد عبادة نفعها متعد إلى عموم المسلمين،(2/455)
فمن جاء لغير ذلك، فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره)) رواه ابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان.
749- (56) وعن الحسن مرسلاً، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم. فلا تجالسوهم؛ فليس لله فيهم حاجة)) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: وجه مشابه طلب العلم بالمجاهدة في سبيل الله أنه إحياء للدين، وإذلال للشيطان وإتعاب النفس، وكسر ذرى اللذة، كيف وقد أبيه لح التخلف عن الجهاد فقال تعالى {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [122:9] الآية (ومن جاء لغير ذلك) أي: لغير ما ذكر من الخير، وهو العلم والعمل الذي يشمل الصلاة، والاعتكاف، والزيارة. قال الطيبي: يوهم أن الصلاة داخلة في الغير، وليس كذلك لأن الصلاة مفرغ عنها، وإنها مستثناة من أصل الكلام. وقال الشوكاني: ظاهر الحديث أن كل ما ليس فيه تعليم ولا تعلم من أنواع الخير لا يجوز فعله في المسجد، ولا بد من تقييده بما عدا الصلاة، والذكر والاعتكاف، ونحوها مما ورد فعله في المسجد أو الإرشاد إلى فعله فيه (فهو بمنزلة الرجل) إلخ. أي: بمنزلة من دخل السوق لا يبيع ولا يشتري بل لينظر إلى أمتعة الناس فهل يحصل له بذلك فائدة فكذلك هذا. وفيه أن مسجده - صلى الله عليه وسلم - سوق العلم فينبغي للناس شراء العلم بالتعلم والتعليم. وقيل المقصود: أن من لم يأت المسجد لخير يتعلمه أو يعلمه ينظر يوم القيامة إلى ثواب غيره ممن يعمل أعمال الخير في المسجد كمن ينظر إلى متاع غيره نظر إعجاب واستحسان وليس له مثله (رواه ابن ماجه) في السنة. قال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط مسلم (والبيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضاً أحمد، وفي الباب عن سهل بن سعد، وأبي أمامة، أخرجهما الطبراني بإسناد حسن.
749- قوله: (وعن الحسن) أي: البصري (حديثهم) أي: كلامهم ومحادثتهم (فلا تجالسوهم) أي: في المسجد أو مطلقاً (فليس لله فيهم) أي: في إتيانهم إلى المسجد (حاجة) قال الطيبي: هو كناية عن براءة الله تعالى عنهم، وخروجهم عن ذمة الله، وإلا فالله سبحانه وتعالى منزه عن الحاجة مطلقاً. وفيه تهديد عظيم، ووعيد شديد، وذلك أنه ظالم مبالغ في ظلمه حيث يضع الشيء في غير موضعه لأن المساجد لم تبن إلا للعبادات-انتهى (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وفي حديث ابن مسعود: سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً أمانيهم الدنيا، فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة، ذكره العراقي في شرح الترمذي. قال: وإسناده ضعيف فيه بزيغ أبوالخليل وهو ضعيف جداً، وفي الترغيب للمنذري عن عبد الله بن مسعود قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة) رواه ابن حبان في صحيحه.(2/456)
750- (57) وعن السائب بن يزيد، قال: ((كنت نائماً في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين. فجئته بهما. فقال: ممن أنتما-أو من أين أنتما- قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله؟)) رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
750- قوله: (كنت نائماً) وفي رواية الإسماعيلي: كنت مضطجعاً (فحصبني) أي: رماني بالحصباء، وهي الحجارة الصغيرة (فإذا هو) أي: الرجل الحاصب (عمر بن الخطاب) كلمة إذا للمفاجأة، وهو مبتدأ وخبره محذوف تقديره: فإذا عمر حاضر، أو قائم، أو واقف (فقال) أي: عمر للسائب (بهذين) قال الحافظ: لم أقف على تسمية هذين الرجلين لكن في رواية عبد الرزاق أنهما ثقفيان (ممن أنتما) أي: من أي: قبيلة وجماعة (أو من أين أنتما) أي: من أي: بلد (لو كنتما من أهل المدينة) وفي البخاري: لو كنتما أهل البلد. والمراد بالبلد المدينة. وهذا يدل على أنه كان تقدم نهيه عن ذلك. وفيه المعذرة لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله (لأوجعتكما) إذ لا عذر لكما حينئذٍ، قاله الطيبي. يعني أهل المدينة يعرفون حرمة مسجده - صلى الله عليه وسلم - أكثر من غيرهم، فلا يسامحون مسامحة الغرباء، إذ يمكن أن يكونوا قريبي العهد بالإسلام وبمعرفة الأحكام. وفي رواية الإسماعيلي: لأوجعتكما جلدا. ومن هذه الجهة يتبين كون هذا الحديث له حكم الرفع. لأن عمر لا يتوعد هما بالجلد إلا على مخالفة أمر توقيفي (ترفعان) جملة استئنافية، وهي في الحقيقة جواب عن سؤال مقدر كأنهما قالا له: لم توجعنا؟ قال: لأنكما ترفعان أصواتكما في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - (أصواتكما) عبر بأصواتكما بالجمع دون صوتيكما بالتثنية لأن المضاف المثنى معنى إذا كان جزء ما أضيف إليه فالأصح الأجود الأفصح أن يذكر بالجمع كقوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [4:66] ويجوز إفراده نحو أكلت رأس شاتين. والتثنية مع إصالتها قليلة الاستعمال، وإن لم يكن جزئه فالأكثر مجيئة بلفظ التثنية نحو سل الزيدان سيفيهما. وإن أمن اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع كما يعذبان في قبورهما، قاله المالكي، وفي رواية الإسماعيلي: يرفعكما أصواتكما. وإنما أنكر عليهما عمر لأنهما رفعا أصواتهما فيما لا يحتاجان إليه من اللغط الذي لا يجوز في المسجد، فيمنع رفع الصوت في المسجد فيما لا منفعة فيه، وأما إذا ألجئت الضرورة إليه فلا منع لعدم إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على ابن أبي حدرد وكعب بن مالك رفع أصواتهما في المسجد عند تقاضى الدين وقد وردت أحاديث في النهي عن رفع الصوت في المساجد مطلقاً، لكنها ضعيفة. أخرج ابن ماجه بعضها. وقيل: أحاديث المنع محمولة على ما إذا كان الصوت متفاحشا، وحديث الإباحة محمول على ما إذا كان غير متفاحش (في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) إذ مع شرافته له زيادة مزية كون حجرته - صلى الله عليه وسلم - متصلة بالمسجد (رواه البخاري) وأخرجه(2/457)
751- (58) وعن مالك، قال: ((بنى عمر رحبة في ناحية المسجد تسمى الطيحاء، وقال: من كان
يريد أن يلغط، أو ينشد شعرا، أو يرفع صوته؛ فليخرج إلى هذه الرحبة)) رواه في الموطأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أيضاً الإسماعيلي. وروى عبد الرزاق عن نافع قال: كان عمر يقول: لا تكثروا اللغط، فدخل المسجد فإذا هو برجلين قد ارتفعت أصواتهما، فقال: إن مسجدنا هذا لا يرفع فيه الصوت – الحديث. وفيه انقطاع لأن نافعا لم يدرك ذلك الزمان.
751- قوله: (عن مالك) بن أنس الإمام صاحب المذهب المشهور إمام دار الهجرة (قال: بنى عمر رحبة) من بلاغات مالك، ففي الموطأ مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب بنى رحبة. قال الزرقاني: كذا ليحيى-أى ابن يحيى المصمودي الأندلسي – ولغيره: مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أن عمر بن الخطاب (في ناحية المسجد) أي: بنى فضاء في خارج المسجد. قال في القاموس: رحبة المكان – وتسكن –ساحته ومتسعه. وقال الطيبي: الرحبة بالفتح الصحراء بين أفنية القوم، ورحبة المسجد ساحته (تسمى) أي: تلك الرحبة (البطيحاء) بضم الباء وفتح الطاء تصغير البطحاء، والبطحاء مسيل واسع فيه دقاق الحصى، وتسمية الرحبة بها إما لسعتها أو لوجود دقاق الحصى فيها. قال الباجي: هذه البطيحاء بناء يرفع على الأرض أزيد من الذراع، ويحدق حواليه بشئ من جدار قصير، ويوسع كهيئة الرحبة، ويبسط بالحصباء يجتمع فيها للجلوس-انتهى (وقال) أي: عمر (من كان يريد أن يلغط) بفتح أوله وثالثه أي: يتكلم بكلام فيه جلبة واختلاط، ولا يتبين. قال الطيبي: اللغط – بفتح الغين المعجمة وسكونها – صوت وضجة لا يفهم معناه. قال القاري: والمراد من أراد أن يتكلم بما لا يعنيه (أو ينشد شعرا) لنفسه أو لغيره أي: وإن كان مباحا (أو يرفع صوته) ولو بالذكر (فليخرج إلى هذه الرحبة) فإن الأمر فيها أسهل وأهون. قال الباجي: لما رأى عمر بن الخطاب كثرة جلوس الناس في المسجد وتحدثهم فيه، وربما أخرجهم ذلك إلى اللغط- وهو المختلط من القول وارتفاع الأصوات – وربما جرى في أثناء ذلك إنشاد شعر، بنى هذه البطيحاء إلى جانب المسجد وجعلها لذلك ليتخلص المسجد لذكر الله وما يحسن من القول، وينزه من اللغط وإنشاد الشعر، ولم يرد أن ذلك محرم. وإنما ذلك على معنى الكراهية، وتنزيهه المساجد، لاسيما مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب أن ينزه المسجد من مثل هذا، ومعنى هذا أن المسجد مما أمرنا بتعظيمه وتوقيره. والثانية لأنه مبنى للصلاة وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكنية والوقار، فبأن يلتزم ذلك بموضعها المتخذ لها أولى (رواه) أي: مالك (في الموطأ) بالهمزة والألف، وقد سبق الاعتراض على مثل صنيع المؤلف هذا، وكان حقه في هذا المقام أن يقول: وعن عمر أنه بنى رحبة، ثم يقول: رواه مالك بلاغا. وقد تقدم أيضاً أن ابن عبد البر صنف كتابا وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل،(2/458)
752- (59) وعن أنس، قال: ((رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - نخامة في القبلة؛ فشق ذلك عليه حتى رئى في وجهه، فقام فحكه بيده، فقال: إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة؛ فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال: جميع ما فيه من قوله "بلغني" ومن قوله "عن الثقة عنده" مما لم يسنده، أحد وستون حديثاً كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة أحاديث، ثم ذكرها. وأثر عمر هذا ليس من الأربعة، فهو مسند إلى عمر في موضعه. وقد تقدم عن الزرقاني: أن صورة البلاغ إنما هي ليحيى، وأما غيره فقد ذكره مسندا.
752- قوله: (نخامة) بالميم مع ضم النون، قيل: هي ما يخرج من الصدر، وقيل: النخاعة- بالعين – من الصدر، و–بالميم – من الرأس. وقيل: النخاعة هي البزاقة التي تخرج من أقصى الحلق (في القبلة) أي: في الحائط الذي في جهة القبلة (فشق) أي: صعب (ذلك) أي: ما ذكر من رؤية النخامة (حتى رئى) بضم الرأى وكسر الهمزة وفتح الياء، أي: شوهد أثر المشقة. قال الطيبي: الضمير الذي أقيم مقام الفاعل راجع إلى معنى قوله: فشق ذلك عليه. وهو الكراهة، وفي رواية النسائي: فغضب حتى أحمر وجهه (فكه) أي: أثر النخامة (بيده) المباركة تعليما لأمته، وتواضحا لربه جل جلاله ومحبة لبيته (إذا قام في الصلاة) أي: دخل فيها سواء كان في المسجد أو غيره (فإنما يناجي ربه) من جهة مساررته بالقرآن والأذكار فكأنه يناجيه تعالى، والرب تعالى يناجيه من جهة لازم ذلك، وهو إرادة الخير، فهو من باب المجاز، لأن القرينة صارفة عن إرادة الحقيقة، إذ لا كلام محسوسا إلا من جهة العبد. قال الحافظ: المراد بالمناجاة من قبل العبد حقيقة النجوى. ومن قبل الرب لازم ذلك، فيكون مجازا عن إقباله على العبد بالرحمة والرضوان (وإن) بكسر الهمزة (ربه بينه وبين القبلة) قال الخطابي: معناه أن توجهه إلى القبلة مفض بالقصد منه إلى ربه، فصار في التقدير كأن مقصوده بينه وبين القبلة، وقيل: هو على حذف مضاف أي: عظمة ربه، أو ثواب ربه، أو إطلاع ربه على ما بينه وبين القبلة أي: فيجب على المصلى إكرام قبلته بما يكرم به من يناجيه من المخلوقين عند استقبالهم بوجهه، ومن أعظم الجفاء وسوء الأدب أن تتنخم في توجهك إلى رب الأرباب، وقد أعلما الله تعالى بإقباله على من توجه إليه (فلا يبزقن أحدكم قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة إلى جهة (قبلته) التي عظمها الله، فلا تقابل بالبزاق المقتضي للاستخفاف والاحتقار، والأصح أن النهي للتحريم. قيل البزاق إلى القبلة دائماً ممنوع، ففي صحيحي ابن خزيمة وابن حبان من حديث حذيفة مرفوعاً: من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه. وفي رواية لابن خزيمة من حديث ابن عمر مرفوعاً: يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه (ولكن) أي: ليبصق (عن يساره) أي: إذا كان فارغاً لا عن يمينه، فإن عن يمينيه كاتب الحسنات. كما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح (أو تحت قدمه) أي: اليسرى. وأو للتنويع وهو محمول على ما إذا لم يكن يساره(2/459)
ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه، ثم رد بعضه على بعض، فقال: أو يفعل هكذا)) رواه البخاري.
753- (60) وعن السائب بن خلاد - وهو رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن رجلاً أم قوماً، فبصق في القبلة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه حين فرغ: لا يصلي لكم. فأراد بعد ذلك أن يصلي لهم، فمنعوه، فأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: نعم. وحسبت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فارغاً (ثم أخذ) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (ثم رد بعضه) أي: بعض ردائه (أو يفعل) عطف على المقدر بعد حرف الاستدراك، أي: ولكن ليبزق عن يساره أو يفعل هكذا، أي: مثل هذا الذي فعلته، وفيه البيان بالفعل لأنه أوقع في نفس السامع، وليست لفظه أو هنا للشك أو للتخيير بل للتنويع، فهو محمول على ما إذا بدره البزاق. فقد رواه مسلم من حديث جابر بلفظ: وليبصق عن يساره وتحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادرة فليقل بثوبه هكذا، ثم طوى بعضه على بعض. ولابن أبي شيبه وأبي داود من حديث أبي سعيد نحوه، وفسره في رواية أبي داود بأن يتفل في ثوبه ثم يرد بعضه على بعض (رواه البخاري) من طريق حميد عن أنس، وحمد مدلس، لكن قد صرح عبد الرزاق في روايته بسماع حميد من أنس، فأمن تدليسه.
753- قوله: (وعن السائب بن خلاد) بمفتوحة وشدة لام وإهمال دال، ابن سويد بن ثعلبة بن عمرو الخرزجي الأنصاري، أبوسهلة المدني، قال أبوعبيد: شهد بدراً، وولي اليمن لمعاوية. وله أحاديث، روى عنه ابنه خلاد، وصالح بن حيوان، وعطاء بن يسار، وغيرهم. وقيل استعمله عمر على اليمن. مات سنة (71) فيما قال الواقدي (إن رجلاً أم قوماً) أي: صلى بهم إماماً، ولعلهم كانوا وفداً. (فبصق) أي: الرجل (في القبلة) أي: في جهتها (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه) لما رأى منه قلة الأدب، وليس في نسخ أبي داود التي بأيدينا لفظة "لقومه" (حين فرغ) أي: هذا الرجل من الصلاة (لا يصلي لكم) بإثبات الياء، أي: لا يكن هذا الرجل إماماً لكم في الصلاة بعد هذا. قال في شرح السنة: أصل الكلام "لاتصل لهم" فعدل إلى النفي ليؤذن بأنه لا يصلح للإمامة، وأن بينه وبينها منافاة. وأيضا في الإعراض عنه غضب شديد حيث لم يجعله محلاً للخطاب، وكأن النهي في غيبته، كذا في المرقاة (فأراد) أي: ذلك الرجل (بعد ذلك) أي: بعد القول الذي ظهر منه - صلى الله عليه وسلم - (أن يصلي لهم) أي: يؤمهم، ولعله لم يبلغه قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه (فمنعوه) من الإمامة، فسأل عن سبب المنع (فأخبره وبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو: لا يصلي لكم (فذكر) أي: الرجل (ذلك) أي: منع القوم إياه عن الإمامة وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك (فقال: نعم) أنا أمرتهم بذلك (وحسبت) أي: قال السائب بن خلاد:(2/460)
أنه قال: إنك قد آذيت الله ورسوله)) رواه أبوداود.
754- (61) وعن معاذ بن جبل: ((احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة لصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعاً، فثوب بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتجوز في صلاته. فلما سلم دعا بصوته، فقال لنا: على مصافكم كما أنتم، ثم انفتل إلينا، ثم قال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل، فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حسبت (أنه) أي: الرسول - صلى الله عليه وسلم - (قال) أي: له زيادة على نعم (إنك قد آذيت الله ورسوله) أي: فعلت فعلاً لا يرضى الله ورسوله. وفي هذا القول زجر عظيم. قال الله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً} [57:33] ولكن لما فعل الرجل ذلك الفعل جهلاً وخطأ لم يعده كفراً. وقيل: يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقاً، وعلم - صلى الله عليه وسلم - نفاقه إذ ذاك فنهى عن إمامته (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه. وروى الطبراني في الكبير بإسناد جيد عن عبد الله بن عمر، قال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بالناس الظهر، فتفل في القبلة وهو يصلي للناس، فلما كانت صلاة العصر أرسل إلى آخر فأشفق الجل الأول، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! أأنزل في شيء؟ قال لا، ولكنك تفلت بين يديك وأنت قائم تؤم الناس، فآذيت الله والملائكة، كذا في الترغيب.
754- قوله: (احتبس) بصيغة المعلوم، ويحتمل أن يكون على بناء المفعول (ذات غداة) لفظة ذات مقحمة أي: غداة (عن صلاة الصبح) بدل اشتمال بإعادة الجار (حتى كدنا) بكسر الكاف أي: قاربنا (نتراءى) أي: نرى، وعدل عنه إلى ذلك لما فيه من كثرة الاعتناء بالفعل، وسبب تلك الكثرة خوف طلوعها المفوت لأداء الصبح (فخرج سريعاً) أي: مسرعاً أو خروجاً سريعاً (فثوب بالصلاة) بصيغة المجهول من التثويب أي: أقيم بها (وتجوز في صلاته) أي: خفف واقتصر على خلاف عادته مع أداء الأركان والواجبات والسنن (دعا) أي: نادى (بصوته فقال لنا) أي: رفع صوته بقوله لنا (على مصافكم) أي: اثبتوا عليها جمع مصف وهو موضع الصف (كما أنتم) أي: ما أنتم عليه، أو ثبوتا مثل الثبوت الذي أنتم عليه قبل النداء من غير تغيير وتقديم وتأخير (ثم انفتل علينا) أي: توجه إلينا وأقبل علينا (أما) بالتخفيف للتنبيه (ما حبسني) ما موصولة أو موصوفة (الغداة) بالنصب على الظرفية (من الليل) أي: في الليل (فنعست) بالفتح من النعاس وهو النوم الخفيف من باب نصر وفتح (استثقلت) بصيغة المعلوم أو المجهول أي: غلب على النعاس (فإذا أنا بربي) إذا(2/461)
لبيك رب! قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري. قالها ثلاثاً. قال: فرأيته وضع كفه بين
كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي، فتجلى لي كل شيء وعرفت.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
للمفاجأة، أي: فاجأ استثقالي رؤيتي ربي تبارك وتعالى، وهذا ظاهر في أن هذه الرؤية في النوم فلا إشكال فيه (رب) بحذف النداء وياء الإضافة (فيم) ما الاستفهامية إذا دخل عليه حرف الجر حذف ألفها (قالها ثلاثاً) أي: قال الله تعالى هذه المقولة المترتب عليها جوابها ثلاثا، وأجبت عنها بلا أدري تأكيدا للاعتراف بعدم العلم (فتجلى لي كل شيء) أي: مما أذن الله في ظهوره لي مما في السموات والأرض مطلقاً، أو مما يختصم فيه الملأ الأعلى خصوصا وهذا هو الظاهر. وقد تمسك به بعض القبوريين على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالماً بجميع ما كان وما يكون من المغيبات علماً كلياً تفصيلياً محيطاً بناء على أن لفظ الكل من ألفاظ العموم والاستغراق وإحاطة الأفراد. ولا متمسك لهم فيه لأن لفظ الكل لا يراد به الاستغراق دائماً كما في قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} [57:29] وقد أطلق لفظ النفس على ذاته تعالى في قوله: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} [116:5] وكما في قوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} [79:18] وقد علم أن الملك كان لا يغصب إلا السفن الصالحة الغير المعيبة. وكما في قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} [16:13] وقد ورد إطلاق الشيء على الله في قوله تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد} [19:6] وكما في قوله تعالى: {تدمر كل شيء} [25:46] وقوله تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} [57:28] وقوله تعالى: {وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} [27:22] وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب) ، وفي قوله: (كل مصور في النار) . وقول ابن مسعود: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى يكبر في كل خفض ورفع. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج) (وقد خصه الحنفية بالإمام والمنفرد، واستثنوا منه المقتدي) وقوله: (كل شيء خلق من الماء) . وقوله: (كل بني آدم خطاؤن) . وقوله: (كل بني آدم حسود) . وغير ذلك من الآيات والأحاديث. ولا يخفى على من له أدنى شيء من العقل والفهم أن لفظ الكل في هذه الآيات والأحاديث ليس لا لاستغراق وإحاطة الأفراد لفساد المعنى في بعضها ولزوم الاستحالة في بعضها، مع ذلك إن حمل على العموم والاستغراق فعلم بذلك أن لفظ الكل لا يكون دائماً للاستغراق الحقيقي التام، ولذلك اتفق العلماء على جواز تخصيص ألفاظ العموم كما صرح به في كشف الأسرار وغيره من كتب الأصول حتى اشتهر عند الشافعية ما من عام إلا وقد خص منه البغض. وقد صرح رئيس الطائفة القبورية في الهند الشيخ البريلوي في فتاواه المطبوعة: أنه قد يطلق الكل ويراد به الأكثر. وإذا كان الأمر كذلك جاز، بل وجب أن يقال: إن لفظ الكل في حديث معاذ بن جبل هذا ليس للاستغراق وعموم الأفراد لقيام القرائن القوية والدلائل الواضحة على ذلك، كيف لا وقد صرح رئيسهم المذكور وغيره من أتباعه أن ذات الله تعالى وصفاته، وتجلياته، وما يكون بعد القيامة خارجة من علمه - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: لا ندعى أن علمه - صلى الله عليه وسلم - محيط بذاته تقدس(2/462)
فقال: يا محمد! قلت: لبيك رب! قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال: وما هن؟ قلت: مشى الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات. قال: ثم فيم؟ قلت: في الدرجات. قال: وما هن؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل. قال: قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفرلي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها حق فادرسوها ثم تعلموها)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وتعالى، وصفاته وتجلياته، وما يكون بعد القيامة، بل نقول: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالماً بجميع ما كان من بدء الخلق وما يكون إلى قيام الساعة إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار بعلم كلي تفصيلي محيط، فهذا كما ترى صريح في أنهم قد خصوا علمه عليه السلام بما كان من بدء الخلق إلى قيام الساعة فقط، واستثنوا منه ماعدا ذلك؟ فكأنهم صرحوا بصنيعهم هذا بأن لفظ الكل في حديث معاذ هذا ليس لاستغراق والعموم. وهذا هو المطلوب. وإذا كان كذلك بطل استدلالهم به على ما ابتدعوه. ومما يدل على عدم إرادة الاستغراق في الحديث، الآيات والأحاديث الصريحة الدالة على نفى علمه - صلى الله عليه وسلم - ببعض المغيبات من الممكنات، وقد تقدمت الإشارة إليه. ومما يدل على ذلك أيضاً سياق هذا الحديث، فإنه يدل على أن المراد بقوله: تجلى لي كل شيء أي: ظهر وانكشف لي كل شيء مما يتعلق باختصام الملأ الأعلى، لا جميع ما كان وما يكون كما لا يخفى على المتأمل (وعرفت) تأكيد لما قبله (في الكفارات) أي: للسيئات (إلى الجماعات) أي: الصلوات المكتوبات (حين الكريهات) أي: وقت المكروهات من أيام البرد أو أزمنة الغلاء في ثمن الماء (قال: ثم فيم؟) أي: فيم يختصم الملأ الأعلى أيضاً (في الدرجات) أي: في ما يرفع الجنات العاليات (ولين الكلام) أي: لطفه مع الأنام (قال: سل، قال: قلت) كذا في بعض النسخ للمشكاة وفي جامع الترمذي "قال: قلت" أي: بحذف"قال" الثانية، وهكذا في مسند أحمد (ج5:ص243) (وأسألك حبك) قال الطيبي: يحتمل أن يكون معناه أسألك حبك إياي، أو حبي إياك. وعلى هذا يحمل قوله: وحب من يحبك. وقيل: الإضافة هنا إلى المفعول أنسب (وحب عمل يقربني إلى حبك) قال الطيبي: هذا يدل على أنه طالب لمحبته ليعمل حتى يكون وسيلة إلى محبة الله إياه، فينبغي أن يحمل الحديث على أقصى ما يكون من المحبة في الطرفين. ولعل السر في تسميته بحبيب الله لا يخلو من هذا القول- انتهى (إنها) أي: هذه الرؤيا (حق) لأن رؤيا الأنبياء وحي (فادرسوها) أي: فاحفظوا الألفاظ التي ذكرتها لكم في ضمنها، أو أن هذه(2/463)
رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث. فقال: هذا حديث حسن صحيح.
755- (62) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا دخل المسجد: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، قال: فإذا قال ذلك، قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم)) رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الكلمات حق فادرسوها، أي: اقرؤوها (ثم تعلموها) أي: معانيها الدالة هي عليها. قال الطيبي: أي: لتعلموها، فحذف اللام أي: لام الأمر (رواه أحمد والترمذي) في تفسير سورة ص. وأخرجه أيضاً ابن خزيمة والدارقطني والحاكم والطبراني وابن عدي ومحمد بن نصر وابن مردويه وغيرهم. وهذا الحديث هو الذي أشار إليه المصنف بعد ذكر حديث عبد الرحمن ابن عائش في الفصل الثاني عن الدارمي بقوله: وللترمذي مثله عنه، وعن ابن عباس، ومعاذ بن جبل. وقد تقدم الكلام فيه هناك مفصلاً.
755- قوله: (إذا دخل المسجد) أي: أراد دخوله عند وصول بابه (العظيم) ذاتاً وصفة (وسلطانه) أي غلبته وقدرته (القديم) أي: الأزلي الأبدي (من الشيطان) مأخوذ من شطن أي: بعد، أي: المبعد من رحمة الله تعالى (الرجيم) فعيل بمعنى مفعول أي: المطرود من باب الله تعالى، أو المشتوم بلعنة الله. والظاهر أنه خبر معناه الدعاء يعني أللهم احفظني من وسوسته وإغوائه، وخطراته، وإضلاله، فإنه السبب في الضلالة، والباعث على الغواية والجهالة، وإلا ففي الحقيقة إن الله هو الهادي المضل، ويحتمل أن يكون التعوذ من صفاته وأخلاقه من الحسد، والعجب والكبر والغرور والإباء والإغواء (قال) أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فإذا قال) أي: المؤمن (ذلك) أي: القول المذكور (قال الشيطان حفظ) أي: قائل هذا القول (مني سائر اليوم) أي: بقيته أو جميعه ويقاس عليه الليل، أو يراد باليوم مطلق الوقت فيشمله، قال ابن حجر المكي: إن أريد حفظه من جنس الشياطين تعين حمله على حفظه من كل شيء مخصوص كأكبر الكبائر، أو من إبليس اللعين فقط، بقى الحفظ على عمومه، وما يقع منه من إغواء جنوده. وإنما ذكرت ذلك لأنا نرى ونعلم من يقول ذلك، ويقع في كثير من الذنوب، فتعين حمل الحديث على ما ذكرته- انتهى. قال القاري: وفيه أن الظاهر أن لام الشيطان للعهد والمراد منه قرينة المؤكل على إغوائه، وبه يرتفع أصل الإشكال، والله أعلم (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري.(2/464)
756- (63) وعن عطاء بن يسار، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) رواه مالك مرسلاً.
757- (64) وعن معاذ بن جبل، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب الصلاة في الحيطان)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
756- قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً) بفتح الواو والمثلثة، وهو كل ماله جثة معمولة من الجواهر، أو الخشب والحجارة كصورة الآدمي. والصنم الصورة بلا جثة. وقيل: هما سواء. وقد يطلق الوثن على غير الصورة. ومنه حديث عدي بن حاتم: قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: ألق هذا الوثن عنك (يعبد) بصيغة المجهول أي: لا تجعل قبري مثل الوثن في تعظيم الناس وعودهم للزيارة بعد بدءهم واستقبالهم نحوه في السجود، كما نسمع ونشاهد الآن في بعض المزارات والمشاهد، قاله القاري. وقال الباجي: دعاءه - صلى الله عليه وسلم - أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، تواضعا، والتزاما للعبودية لله تعالى، وإقرار بالعبودية، وكراهية أن يشركه أحد في عبادته، وعن مالك أنه كره لذلك أن يدفن في المسجد (اشتد) استئناف كأنه قيل: لم تدعوا بهذا الدعاء فأجاب بقوله اشتد (غضب الله) ترحما على أمته وتعطفا لهم، قاله الطيبي. وقال القاري: والأظهر أنه إخبار عما وقع في الأمم السالفة تحذيرا للأمة من أن يفعلوا فعلهم فيشتد غضبه عليهم (على قوم) هم اليهود والنصارى كما تقدم (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) تقدم الكلام عليه (رواه مالك) أي: عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار (مرسلا) أي: بحذف الصحابي، قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث، وهو حديث غريب لا يكاد يوجد. قال: وزعم البزار أن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، وليس بمحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه إلا بهذا الوجه لا إسناد له غيره، إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعمر بن محمد ثقة. وقوله: اشتد غضب الله- الحديث. محفوظ من طرق كثيرة صحاح، هذا كلام البزار. قال ابن عبد البر: مالك عند جميعهم حجة فيما نقل. وقد أسند حديثه هذا عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو من ثقات أشراف أهل المدينة. فالحديث صحيح عند من يحتج بالمراسيل. وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد، وهو ممن تقبل زيادته، وله شاهد عند العقيلي من طريق سفيان، عن حمزة بن المغيرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه: أللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، كذا في شرح الزرقاني، وتنوير الحوا لك للسيوطي. وفي مجمع الزوائد (ج2: ص28) عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أللهم إني أعوذ بك أن يتخذ قبري وثنا، فإن الله تبارك وتعالى اشتد غضبه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. رواه البزار. وفيه عمر بن صهبان، وقد اجمعوا على ضعفه.
757- قوله: (يستحب) بصيغة المعلوم (الصلاة) أي: النافلة. أو مطلقاً (في الحيطان) بكسر المهملة جمع الحائط،(2/465)
قال بعض رواته: يعني البساتين. رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر، وقد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الجزري: الحائط البستان من النخل إذا كان عليه حائط وهو الجدار. قال العراقي: استحبابه - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في الحيطان يحتمل معاني: أحدها: قصد الخلوة عن الناس فيها، وبه جزم ابن العربي. الثاني: قصد حلول البركة في ثمارها ببركة الصلاة، فإنها جالبة للرزق. الثالث: أن هذا من كرامة المزور أن يصلي في مكانه. الرابع: أنها تحية كل منزل نزله أو توديعه، كذا في قوت المغتذي (قال بعض رواته) هو أبوداود الطيالسي الراوي للحديث عن الحسن بن أبي جعفر (يعني البساتين) جمع بستان (رواه الترمذي) وفي بعض النسخ "رواه أحمد والترمذي" وهو غلط من الناسخ (لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن أبي جعفر) الجفري- بضم الجيم وسكون الفاء- نسبة إلى جفرة خالد مكان بالصرة. واسم أبيه عجلان. وقيل: عمرو الأزدي. ويقال: العدوى البصري (وقد ضعفه يحيى بن سعيد وغيره) كأحمد وابن المديني وأبي داود والعجلى. وقال الساجي: منكر الحديث، من مناكيره حديث معاذ "كان يعجبه الصلاة في الحيطان" وقال عمرو بن علي: صدوق، منكر الحديث. كان يحيى بن سعيد لا يحدث عنه. وقال الأزدي: هو عندي ممن لا يتعمد الكذب، وهو صدوق. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن حبان: من خيار عباد الله الخشن. ضعفه يحيى وتركه أحمد، وكان من المتعبدين المجابى الدعوة، ولكنه ممن غفل عن صناعة الحديث وحفظه، فإذا حدث وهم وقلب الأسانيد وهو لا يعلم حتى صار ممن لا يحتج به، وإن كان فاضلا. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف الحديث مع عبادته وفضله. مات سنة (167) والظاهر أنه ضعيف من قبل حفظه. ويحيى بن سعيد المذكور هو يحيى بن سعيد بن فروخ الإمام العلم سيد الحفاظ القطان أبوسعيد التميمي مولاهم البصري الأحول، أحد أئمة الجرح والتعديل، وأحد فقهاء المحدثين ومجتهديهم، ولد سنة (120) روى عن هشام بن عروة، وحميد الطويل، والأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وطبقتهم، فأكثر جداً. وعنه ابن المهدي، وأحمد ومسدد وإسحاق وابن المديني، وابن معين، وعمرو بن على الفلاس، وبندار وأمم سواهم. قال الحافظ: ثقة متقن، حافظ إمام قدوة. وقال أحمد: ما رأت عيناي مثله. وقال ابن المديني: ما رأيت أحداً أعلم بالرجال منه. وقال إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب الشهيد: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند فيقف بين يديه على بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والشاذكوني، وعمرو بن على يسألونه عن الحديث وهم قيام هيبة له، وقال ابن عمار: كنت إذا نظرت إلى يحيى القطان ظننت أنه لا يحسن شيئا، فإذا تكلم أنصت له الفقهاء. وقال بندار: اختلفت إلى يحيى بن سعيد عشرين سنة، فما أظن أنه عصى الله قط. وقال ابن معين: أقام يحيى القطان عشرين سنة يختم القرآن في كل ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة. وقال ابن حبان: كان من سادات أهل زمانه حفظاً، وورعاً، وفهماً، وفضلاً، وديناً، وعلماً، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن(2/466)
758- (65) وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة، وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)) . رواه ابن ماجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثقات، وترك الضعفاء. مات سنة (198) وله (78) سنة. قال الذهبي في الميزان في ترجمة ابن عيينة: إن يحيى القطان متعنت جداً في الرجال، وهو غير ابن القطان الحافظ الإمام أبي الحسن على بن محمد الحميري الفاسي الشهير بابن القطان.
758- قوله: (صلاة الرجل في بيته) أي: منفرداً كذا قيل: والأظهر أن يكون أعم (بصلاة) أي: محسوبة بصلاة واحدة أي: لا يزداد له في الأجر بسبب خصوص المكان، وهذا لا ينافي الزيادة التي ورد بها الشرع عموماً، كقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [160:6] (في مسجد القبائل) أي: في المسجد الذي تجتمع فيه القبائل للصلاة جماعة. والمراد به مسجد الحي والمحلة (بخمس وعشرين صلاة) أي: بالإضافة إلى صلاته في بيته لا مطلقاً (وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه) بتشديد الميم أي: يصلي فيه الجمعة (بخمس مائة صلاة) أي: بالنسبة إلى مسجد الحي (في المسجد الأقصى) أي: مسجد بيت المقدس، وسمي به لبعده من المسجد الحرام. وقيل: لبعده عن الأقذار والخبائث. والمقدس المطهر عن ذلك (بخمسين ألف صلاة) أي: بالإضافة إلى ما قبله (وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة) أي: بالنسبة إلى ما يليه (وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة) أي: بالنسبة إلى مسجد المدينة على ما يدل عليه سياق الكلام، فيحتاج إلى ضرب بعض الأعداد في بعض، فإنه ينتج مضاعفة كثيرة، وبه يجمع بين الروايات، ذكره القاري. قال ابن حجر المكي: قيل: إن هذا الحديث منكر لأنه مخالف لما رواه الثقات، وقد يقال: يمكن الجمع بينه وبين ما رووه بأن روايتهم "إن صلاة الجماعة تعدل صلاة المنفرد بخمس أو سبع وعشرين" تحمل على أن هذا كان أولاً، ثم زيد هذا المقدار في المسجد الذي تقام فيه الجمعة، وكذا ما جاء "أن صلاة المسجد الأقصى بألف في سائر المساجد، وصلاة بمسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة في المسجد الأقصى" كان أولاً ثم زيد فيهما، فجعل الأول بخمسين ألفا في سائر المساجد، والثاني بخمسين ألفا في المسجد الأقصى، ومسجد مكة بمائة ألف في مسجده عليه الصلاة والسلام، وحينئذٍ فتزداد المضاعفة في مسجد مكة بأضعاف مضاعفة، فتأمله ضاربا مائة ألف في خمسين ألف ألف، ثم الحاصل في الخمسين ألفا تجد صحة ما ذكرته، كذا في المرقاة (رواه ابن ماجه) في أواخر الصلاة من طريق أبي الخطاب الدمشقي، عن زريق أبي عبد الله الألهاني عن أنس. قال في الزوائد: إسناده ضعيف، لأن أبا الخطاب الدمشقي لا يعرف حاله. وزريق فيه مقال، حكى عن أبي زرعة أنه(2/467)
759- (66) وعن أبي ذر، قال: ((قلت: يا رسول الله! أي: مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم مسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال لا بأس به. ذكره ابن حبان في الثقات وفي الضعفاء، وقال يتفرد بالأشياء التي لا تشبه حديث الإثبات. لا يجوز الاحتجاج بخبره إلا عند الوفاق- انتهى. وقال الذهبي في الميزان: إنه حديث منكر جداً.
759- قوله: (وضع في الأرض أول) بضم اللام وهي ضمة بناء لقطعة عن الإضافة مثل قبل وبعد. قال أبوالبقاء: وهو الوجه. والتقدير: أول كل شيء، ويجوز النصب منصرفا أي: أولاً بالتنوين كما في رواية للبخاري. وغير منصرف لوزن الفعل والو صفية نحو قوله تعالى: {والركب أسفل منكم} [42:8] (ثم أي) بالتنوين مشددا أي: ثم أي: مسجد وضع بعد المسجد الحرام؟ وهذا الحديث يفسر المراد بقوله {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين} [96:3] ويدل على أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت، قاله الحافظ. وقال الرازي في تفسيره: إن قوله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} يحتمل أن يكون المراد كونه أولاً في الوضع والبناء، وأن يكون المراد كونه أولاً في كونه مباركا وهدى. ثم قال: إن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه، لأن المقصود الأصلي بيان الفضيلة، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصد إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء (أربعون عاماً) فيه إشكال، وذلك أن المسجد الحرام بناه إبراهيم عليه السلام بنص القرآن، والمسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام، كما أخرجه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وإسناده صحيح، وبين إبراهيم وسليمان عليهما السلام أيام طويلة. قال أهل التاريخ: أكثر من ألف سنة. وجوابه أن الإشارة إلى أول البناء، ووضع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بني الكعبة، ولا سليمان أول من بني بيت المقدس، فقد روي أن أول من بنى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً. قال القرطبي: يرتفع الإشكال بأن يقال: الآية والحديث لا يدلان على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتداء وضعهما لهما، بل ذاك تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه، وبناء آدم لكعبة مشهور قلت: بل هو الذي أسس كلا من المسجدين، فذكر ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه فبناه ونسك. والحاصل أن المراد في الحديث بناءهما قبل بناء إبراهيم للمسجد الحرام، وبناء سليمان للمسجد الأقصى، فإبراهيم وسليمان عليهما السلام مجددان للبناء لا مؤسسان. وقال ابن القيم في الهدى (ج1:ص9) : قد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى، وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام. وهذا من جهل هذا القائل، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى(2/468)
ثم الأرض لك مسجد، فحيث ما أدركت الصلاة فصل)) متفق عليه.
(8) باب الستر
{الفصل الأول}
760- (1) عن عمر بن أبي سلمة، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار- انتهى (ثم الأرض لك مسجد) أي: صالحة للصلاة فيها. ويخص هذا العموم بما ورد فيه النهي. قال السندي: كلمة "ثم" للتراخي بالإخبار، والمراد أنها كلها مسجد ما دامت على الحالة الأصلية التي خلقت عليها. وأما إذا انتجست فلا. ذكره لبيان أنه لا يؤخر الصلاة لإدراك فضل هذه المساجد (فحيث ما أدركتك الصلاة) أي: وقت الصلاة. وفيه إشارة إلى المحافظة على الصلاة في أول وقتها. ويتضمن ذلك الندب إلى معرفة الأوقات. وفي بعض الطرق: فأينما أدركتك الصلاة فصل، فإن الفضل فيه. قال الحافظ: في الحديث إشارة إلى أن المكان الأفضل للعبادة إذا لم يحصل لا يترك المأمور به لفواته، بل يفعل المأمور في بالمفضول، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كأنه فهم عن أبي ذر من تخصيصه السؤال عن أول مسجد وضع، أنه يريد تخصيص صلاته فيه، فنبه على أن إيقاع الصلاة إذا حضرت لا يتوقف على المكان الأفضل (فصل) وفي بعض النسخ"فصله" بهاء ساكنة وهي هاء السكت. قال الطيبي: يعني سألت أبا ذر عن أما كن بنيت مساجد، واختصت العبادة بها، وأيها أقدم زماناً فأخبرتك بوضع المسجدين وتقدمهما على سائر المساجد، ثم أخبرك بما أنعم الله علي وعلى أمتي من رفع الجناح وتسوية الأرض في أداء العبادة فيها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأنبياء ومسلم في الصلاة،
وأخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه في الصلاة.
(باب الستر) أي: ستر العورة وسائر الأعضاء، وهو بالفتح مصدر سترته إذا غطيته، وبالكسر واحد الستور والأستار. قال الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} [7: 31] ، روى مسلم من حديث ابن عباس، قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة- الحديث. وفيه"فنزلت: {خذوا زينتكم} ووقع في تفسير طاؤس قال: في قوله تعالى: {خذوا زينتكم} قال: الثياب. وصلة البيهقي، ونحوه من مجاهد. ونقل ابن حزم الاتفاق على أن المراد ستر العورة شرط لصحة الصلاة وإن كان في مكان خال. وفي غير حالة الصلاة يجب سترها عن أعين الناس ممن يحرم نظره.
760-قوله: (عن عمر بن أبي سلمة) هو عمر بن أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي القرشي أبوحفص المدني، ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم -. صحابي صغير، وأمه أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولد بأرض الحبشة في السنة الثانية من الهجرة. وقبض(2/469)
مشتملاً به، في بيت أم سلمة، واضعاً طرفيه على عاتقيه)) . متفق عليه.
761- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله تسع سنين، وشهد مع علي الجمل. وأمره علي على البحرين. توفي في زمن عبد الملك بن مروان سنة (83) على الصحيح، له اثنا عشر حديثاً، اتفقا على حديثين، روى عنه جماعة (مشتملاً به) أي: بالثوب. ووقع في رواية للبخاري "متوشحا به". وفي بعض روايات مسلم "ملتحفاً به" ومعنى الاشتمال والتو شح والالتحاف واحد هنا. وهو المخالفة بين طرفي الثوب بأن يأخذ الأيمن من تحت يده اليمنى فيلقيه على منكبه الأيسر، ويلقي طرف الثوب الأيسر من تحت يده اليسرى على منكبه الأيمن. قال الطيبي: الاشتمال، التوشح والمخالفة بين طرفي الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفيه الذي ألقاه على منكبه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره، يعني لئلا يكون سدلاً. قلت: الاشتمال على أنواع، أحدها: التوشح، وهو المذكور في حديث الإباحة. والثاني: ما فسر به الأخفش أن الاشتمال هو أن يلتف الرجل برداءه أو بكسائه من رأسه إلى قدمه، ويرد طرف الثوب الأيمن على منكبه الأيسر، ذكره الشوكاني. والثالث: اشتمال الصماء المنهى عنه. وقد اختلفوا في تفسيره، فقال أهل اللغة: هو أن يشتمل بالثوب حتى يجلل به جسده، لا يرفع منه جانبا، فلا يبقى ما يخرج منه يده، وإنما كره لئلا تعرض له حاجة من دفع بعض الهوام، فيعسر عليه إخراج يده فيلحقه الضرر، ولأنه يعسر عليه حينئذٍ رفع اليدين حذو أذنيه، وبسطهما على الأرض حذاء أذنيه في السجدة. وقالت الفقهاء: هو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه غيره، ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على أحد منكبيه فيبدو منه فرجه. وفائدة التوشح والاشتمال والالتحاف المذكورة في الأحاديث أن لا ينظر المصلى إلى عورة نفسه إذا ركع، ولئلا يسقط الثوب عند الركوع والسجود. والحديث يدل على أن الصلاة في الثوب الواحد صحيحة إذا توشح به المصلي، أي: وضع طرفيه على عاتقيه مخالفا بين طرفيه (في بيت أم سلمة) ظرف ليصلي (واضعاً طرفيه) تفسير مشتملاً (على عاتقيه) العاتق ما بين المنكبين إلى أصل العنق (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك واحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
761- قوله: (لا يصلين) بنون التأكيد المشددة. قال ابن الأثير: وفي رواية الصحيحين "لا يصلي" بإثبات الياء، ووجهه أن لا نافية، وهو خبر بمعنى النهي. ورواه الدارقطني في غرائب مالك من طريق الشافعي بلفظ "لا يصل" ومن طريق عبد الوهاب بن عطاء" لا يصلين" أي: بزيادة التأكيد، قلت: وكذا رواه النسائي بلفظ "لا يصلين" (ليس على عاتقه منه شيء) الجملة المنفية حال. والمراد أنه لا يتزر في وسطه، ويشد طرفيه الثوب في حقويه بل يتوشح(2/470)
متفق عليه.
762- (3) وعنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من صلى في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه)) رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بهما على عاتقيه، فيحصل الستر من أعالي البدن وإن كان ليس بعورة. أو لكون ذلك أمكن في ستر العورة، وهذا إذا كان الثوب واسعاً، وذلك لأنه إذا خالف بين طرفيه وضعهما على عاتقيه يكون بمنزلة الإزار والرداء جميعاً، ويكون أستر وأجمل. وأما إذا كان ضيقاً وليس عنده ثوب آخر شده على حقوه كما في حديث جابر عند الشيخين مرفوعاً "إذا صليت في ثوب واحد، فإن كان واسعاً فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به". وقيل: في حكمة وضع الثوب على العاتق إذا كان واسعاً أنه إذا اتزر به ولم يكن على عاتقه منه شيء لم يؤمن أن تنكشف عورته، بخلاف ما إذا جعل بعضه على عاتقه. ولأنه قد يحتاج إلى إمساكه بيده أو بيديه، فيشتغل بذلك، ولا يتمكن من وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر فتفوت السنة والزينة المطلوبة في الصلاة. والحديث يدل على المنع من الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن على عاتق المصلى منه شيء، وقد حمل الجمهور هذا النهي على التنزيه، فلو صلى في ثوب واحد ساتر لعورته وليس على عاتقه شيء منه صحت صلاته مع الكراهة، ولو كان الثوب واسعا. وأما أحمد وبعض السلف فذهبوا إلى أنه لا يصح صلاته، عملا بظاهر الحديث. وهذا هو الحق لأنه لا صارف للنهي عن معناه الحقيقي فيجب الجزم بمعناه الحقيقي وهو تحريم ترك جعل طرف الثوب الواحد حال الصلاة على العاتق، والجزم بوجوبه مع المخالفة بين طرفيه بالحديث الآتي حتى ينتهض دليل يصلح للصرف. ولكن هذا إذا كان الثوب واسعاً، جمعاً بين الأحاديث كما تقدم التصريح بذلك في حديث جابر. وقد عمل بظاهر الحديث ابن حزم (متفق عليه) قال ميرك: وفيه نظر من وجوه، الأول: أن قوله "لا يصلين" ليس فيهما بل فيهما "لا يصلي" والثاني: أن قوله "على عاتقيه" ليس في البخاري، وإنما فيه "على عاتقه" والثالث: أن قوله "منه" ليس في البخاري، وإنما هو من إفراد مسلم، كما صرح به الشيخ ابن حجر- أي: العسقلاني صاحب فتح الباري- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي.
762- قوله: (فليخالف بين طرفيه) زاد أحمد وأبوداود على عاتقيه. وهذا إذا كان الثوب واسعا، وأما إذا كان ضيقا فيشده على حقوه. قال النووي: المشتمل، والمتوشح، والمخالف بين طرفيه، معناه واحد هنا، وقد سبقه إلى ذلك الزهري. وقد حمل الجمهور هذا الأمر على الاستحباب، وخالفهم في ذلك أحمد. والخلاف في النهي في الحديث الذي قبل هذا. وقد تقدم أن الحق فيه ما ذهب إليه أحمد (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود.(2/471)
763- (4) وعن عائشة، قالت: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف، قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بأنبجانية أبي جهم؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
763- قوله: (في خميصة) بفتح خاء وكسر ميم وصاد مهملة، ثوب رقيق مربع من خز أو صوف معلم، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، فعلى هذا قول عائشة (لها) أي: للخميصة (أعلام) جمع علم وهو رسم الثوب ورقمه، على وجه البيان والتأكيد، ولا يبعد أن يكون من طريق التجريد. وقال ابن عبد البر في التمهيد: الخميصة هي كساء رقيق قد يكون بعلم وبغيره، وقد يكون أبيض معلماً، وقد يكون أصفر وأحمر وأسود. وهي من لباس أشراف العرب، والجملة صفة لخميصة (فلما انصرف) أي: عن الصلاة (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم) بفتح الجيم وسكون الهاء، هو أبوالجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله القرشي العدوي. قال البخاري وجماعة: اسمه عامر، وقيل: عبيد. أسلم عام الفتح، وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان مقدماً في قريش معظماً، وعالما بالنسب. وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم علم النسب. وكان من المعمرين. حضر بناء الكعبة حين بنتها قريش، وحين بناها زبير. وهو أحد الأربعة الذين تولوا دفن عثمان، بقي إلى أول خلافة ابن الزبير. ووجه تخصيص أبي جهم بإرسال الخميصة إليه أنه هو الذي أهداها له - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك ردها عليه، فقد روى مالك، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: أهدى أبوجهم بن حذيفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خميصة شامية، لها علم، فشهد فيها الصلاة- الحديث. قال ابن الأثير في أسد الغابة: قد اختلفوا في هذه الخميصة، فقال مالك: هكذا. ومنهم من قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما وبعث بالأخرى إلى أبي جهم، فلما ألهته في الصلاة بعثها إلى أبي جهم، وطلب التي كانت عنده بعد أن لبسها لبسات. روى ذلك سعيد بن عبد الكبير – انتهى. وقال الحافظ في الإصابة (ج4:ص35) بعد ذكر الحديث برواية الصحيحين: وذكر الزبير من وجه آخر مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بخميصتين سوداوين، فلبس إحداهما وبعث الأخرى إلى أبي جهم، ثم إنه أرسل إلى أبي جهم في تلك الخميصة، وبعث إليه التي لبسها هو، ولبس هو التي كانت عند أبي جهم بعد أن لبسها أبوجهم لبسات – انتهى. (وائتوني بأنبجانية أبي جهم) وإنما طلب انبجانيته بدلها لئلا يتأذى برد هديته. قال ابن بطال: إنما طلب منه ثوبا غيرها ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافا به وهي – بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الموحدة وتخفيف الجيم وبعد النون ياء نسبة مشددة – كساء يتخذ من الصوف وله خمل ولا علم له، وهو من أدون الثياب الغليظة. ويجوز كسر الهمزة وسكون النون وفتح الموحدة وتخفيف الياء بالمثناة. قال عياض: يروي بفتح الهمزة وكسرها، وبتشديد الياء وتخفيفها – انتهى. نسبة إلى منبج – بفتح الميم وكسر الموحدة – موضع معروف بالشام، فأبدلت الميم همزة في النسب. ويقال: نسبة إلى موضع يقال له: أنبجان، وفي هذه قال ثعلب: كساء أنبجاني، وهذا هو الأقرب إلى الصواب في لفظ الحديث. والأول فيه(2/472)
فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي)) متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعسف (فإنها) أي: الخميصة (ألهتي) من لهي – بكسر – إذا غفل، لا من "لها لهوا" إذا لعب (آنفاً) أي: قريباً، أو في هذه الساعة (عن صلاتي) وعند مالك في الموطأ: فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني. وفي الرواية الآتية "فأخاف أن يفتنني" فيحمل قوله "ألهتني" على قوله "كاد" فيكون الإطلاق للمبالغة في القرب لا لتحقق وقوع الإلهاء. وقيل: معنى قوله "يفتنني" يلهني عن الصلاة إلهاء أتم مما وقع منها أولا، فلا تنافي بين الجزم بوقوع الإلهاء بهاء ثم، وخشية وقوعه بها هنا. وكان ذلك هو حكمة التغاير بين الأسلوبين حيث عبر أولاً بالإلهاء وثانياً بالفتنة. والحاصل أن المراد بالفتنة شيء فوق الإلهاء. وقيل: معنى ألهتني: أرادت أن تلهيني فلا ينافي قوله "فأخاف أن يفتنني" بمعنى يلهيني، بل يكون الثاني تفسيرا للأول. ولا يقال: إن المعنى شغلتني عن كمال الحضور في صلاتي، لأنا نقول: قوله "فأخاف أن يفتنني" يدل على نفي وقوع ذلك. وقد يقال: إن له عليه الصلاة والسلام حالتين حالة بشرية، وحالة يختص بها خارجة عن ذلك فبالنظر إلى الحالة البشرية قال ألهتني، وبالنظر إلى الحالة الثانية لم يجزم به، بل قال: أخاف. ولا يلزم من ذلك الوقوع. ونزع الخميصة ليستن به في ترك كل شغل، فهو تشريع لأمته، وليس المراد أن أبا جهم يصلي في الخميصة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليبعث إلى غيره بما يكرهه لنفسه، فهو كإهداء الحلة لعمر مع تحريم لباسها عليه، لينتفع بها ببيع أو غيره. وقيل كان هو أعمى فالإلهاء مفقود في حقه. قال ابن الجوزي: قيل: كيف خاف الإفتتنان بعلم من لم يلتفت إلى الأكوان بليلة ما زاغ البصر؟ وأجيب بأنه كان في تلك الليلة خارجا عن طباعه، فأشبه ذلك نظره من وراءه، فإذا رد إلى طبعة أثر فيه ما يؤثر في البشر. وقيل: أيضاً إن المراقبة في الصلاة شغلت خلقا من أتباعه حتى أنه وقع السقف إلى جانب مسلم بن يسار ولم يعلم. وأجيب بأن أولئك كانوا يؤخذون عن طبائعهم فيغيبون عن وجودهم. وكان الشارع يسلك طريق الخواص وغيرهم، فإذا سلك طريق الخواص وغير الكل فقال: لست كأحدكم، وإن سلك طريق غيرهم قال "إنما أنا بشر مثلكم" فرد إلى حالة الطبع ليستن به في ترك كل شاغل-انتهى. واستنبط من الحديث الحث على حضور القلب في الصلاة، وترك ما يؤدي إلى شغله. وقد شهد القرآن بالفلاح للمصلين الخاشعين، والفلاح أجمع اسم لسعادة الآخرة. وبانتفاء الخشوع ينتفي الفلاح. قال الأمير اليماني: في الحديث دليل على كراهة ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يشغل القلب. وقال الطيبي: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الزاهرة تأثيراً في القلوب الطاهرة والنفوس الزكية فضلاً عما دونها. وفيه كراهة الصلاة على المفارش والسجاجيد المنقوشة، وكراهة نقش المساجد ونحوه (متفق عليه) واللفظ للبخاري. وقال ميرك: فيه نظر لأنه ليس هذا الحديث في مسلم بهذا اللفظ، وإنما هو لفظ البخاري. ولفظ مسلم عن عائشة، قالت: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في خميصة ذات أعلام، فنظر إلى أعلامها، فلما قضى صلاته قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة، رائتوني بأنجانيته، فإنها ألهتني آنفاً في صلاتي. فانظر في اختلاف الألفاظ-انتهى. قلت: مقصود المصنف أن أصل الحديث متفق عليه لا خصوص هذا اللفظ. وعلى هذا(2/473)
وفي الرواية للبخاري، قال: كنت أنظر إلى عملها وأنا في الصلاة فأخاف أن يفتنني.
764- (5) وعن أنس، قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا يزال تصاويره تعرض لي في صلاتي)) رواه البخاري.
765- (6) وعن عقبة بن عامر، قال: ((أهدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فروج حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعاً شديداً كالكاره له،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فلا اعتراض على المصنف في عزو الحديث إلى الشيخين. والحديث أخرجه أيضاً مالك، وأحمد والنسائي (وفي رواية) أي: معلقة (إلى علمها) أي: علم الخميصة (وأنا في الصلاة) جملة حالية (فأخاف أن يفتنني) بفتح المثناة التحتية في أوله، وكسر المثناة فوق، وبالنونين من باب ضرب يضرب، وفي رواية تفتنني بفتح المثناة الفوقية في أوله بدل التحتية أي: تمنعني من الصلاة وتشغلني عنها.
764- قوله: (قرام) بكسر القاف وتخفيف الراء، الستر الرقيق، وقيل: الصفيق من صوف ذى ألوان. وقيل الستر الرقيق وراء الستر الغليظ (جانب بيتها) هو يحتمل جانب الباب وجانب الجدار (أميطي) أمر من أماط يميط أي: أزيلي (فإنه) الضمير للشأن أو لقرام (تصاويره) جمع تصوير بمعنى الصورة أي: تماثيله، أو نقوشه (تعرض) بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء أي: تلوح وتظهر لي (في صلاتي) في الحديث دلالة على إزالة ما يشوش على المصلى صلاته مما في منزله أو في محل صلاته. ولا دليل فيه على بطلان الصلاة، لأنه لم يرو أنه - صلى الله عليه وسلم - أعادها أو قطعها، نعم! تكره الصلاة حينئذٍ لما فيه من سبب اشتغال القلب المفوت للخشوع. قال الحافظ: وقد استشكل الجمع بين هذا الحديث وبين حديث عائشة أيضاً أنه اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالباب، فلم يدخل – الحديث. لأنه يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل البيت الذي كان فيه الستر المصور أصلاً حتى نزعه. وهذا يدل على أنه أقره وصلى، وهو منصوب إلى أن أمر بنزعه من أجل ما ذكر من رؤية الصورة حالة الصلاة، ولم يتعرض لكونها صورة، ويمكن الجمع بأن الأول كانت تصاويره من ذوات أرواح، وهذا أي: القرام المذكور في حديث الباب كانت تصاوير من غير الحيوان كصورة الشجرة ونحوها (رواه البخاري) في الصلاة، وفي اللباس.
765- قوله: (أهدى) على بناء المفعول (فروج حرير) بالإضافة كثوب خز، وخاتم فضة. وفي رواية أحمد "فروج من حرير" وهو بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة وتخفيفها وآخرها جيم. وحكى عن أبي العلاء المعرى ضم أوله وخفة الراء على وزن خروج، قباء مشقوق عن خلفه، وهو من لبوس الأعاجم. وكان الذي أهداه له أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة (فلبسه) قبل تحريم الحرير (فنزعه نزعاً) بفتح النون وسكون الزاى (شديدا كالكاره له)(2/474)
ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين)) متفق عليه.
{الفصل الثاني}
766- (7) عن سلمة بن الأكوع، قال قلت: ((يارسول الله! إني رجل أصيد؛ أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم، وازرره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفي حديث جابر بن مسلم "صلى في قباء ديباج، ثم نزعه، وقال: نهاني جبريل عليه السلام، فهذا ظاهر في أن صلاته فيه كانت قبل تحريمه. وأن النهي سبب نزعه له، وذلك ابتداء تحريمه. قال ابن تيمية: حديث عقبة محمول على أنه لبسه قبل تحريمه، إذ لا يجوز أن يظن به أنه لبسه بعد التحريم في صلاة ولا غيرها. ويدل على إباحته في أول الأمر ما روى أنس بن مالك: أن أكيدردومة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبة سندس أو ديباج قبل أن ينهى عن الحرير، فلبسها، فتعجب الناس منها، فقال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن منها. رواه أحمد (لا ينبغي هذا) أي: لا يجوز استعمال الحرير (للمتقين) عن الكفر، وهم المؤمنون، وعبر بجمع الذكر ليخرج النساء لأنه حلال لهن. فإن قلت: يدخلن تغليبا، أجيب بأنهن خرجن بدليل آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها، أخرجه أحمد والترمذي وصححه. والحديث يدل على تحريم الصلاة في الحرير، وقد اختلفوا هل تجزئ الصلاة في الحرير بعد تحريمه أم لا؟ فقال الحافظ: إنها تجزئ عند الجمهور مع التحريم، وعن مالك يعيد في الوقت إن وجد ثوبا غيره. وقد استدل بعضهم لجواز الصلاة في ثياب الحرير بعدم إعادته - صلى الله عليه وسلم - لتلك الصلاة، وهو مردود لأن ترك إعادتها لكونها وقعت قبل التحريم كما دل عليه حديث جابر (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة، وفي اللباس، ومسلم في اللباس، وأخرجه أيضاً النسائي في اللباس.
766- قوله: (عن سلمة) بفتح السين واللام (بن الأكوع) هو سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسمه سنان بن عبد الله ابن قشير الأسلمي، أبومسلم المدني، شهد بيعة الرضوان. قال الخزرجي: بايع تحت الشجرة أو الناس وأوسطهم وآخرهم على الموت، وكان شجاعاً رامياً سخياً خيراً فاضلاً، كان يسبق الفرس شداً على قدميه، استوطن الربذة بعد قتل عثمان، وتزوج بها امرأة، وولدت له أولاداً، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال فنزل المدينة وتوفي بها سنة (74) له سبعة وسبعون حديثاً، اتفقا على ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بتسعة، روى عنه خلق كثير (إني رجل أصيد) بصيغة المتكلم كأبيع من صاد يصيد، أي: أخرج للإصطياد، وفي رواية أحمد والنسائي: إن أكون في الصيد. وفي رواية ابن حبان "إني رجل أتصيد" وإنما ذكر الصيد لأن الصائد يحتاج أن يكون خفيفا ليس عليه ما يشغله عن الإسراع في طلب الصيد، قاله ابن الأثير (قال نعم) أي: صل فيه (وازرره) بضم الراء من باب نصر، أي: شد جيب القميص،(2/475)
ولو بشوكة)) . رواه أبوداود، وروى النسائي نحوه.
767- (8) وعن أبي هريرة، قال: ((بينما رجل يصلي مسبل إزاره، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذهب فتوضأ، فذهب وتوضأ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأربطه، واجمع بين طرفيه لئلا تظهر عورتك (ولو بشوكة) أي: ولو لم يمكنك ذلك إلا بأن تغرز في طرفة شوكة تستمسك بها. قال الطيبي: هذا إذا كان جيب القميص واسعاً يظهر منه عورته فعليه أن يزره لئلا تنكشف العورة- انتهى. والحديث يدل على جواز الصلاة في الثوب الواحد، وفي القميص منفردا عن غيره مقيداً بعقد الإزار. قال في شرعة الإسلام ومن آداب الصلاة زر القميص بناء على أن الصحيح أن ستر عورته عن نفسه ليس بشرط، حتى لو كان محلول الجيب فنظر إلى عورته لا يعيد صلاته، كذا في التبيين. وفي شرح المنية أفتى بعض المشائخ بأنه إذا رأى عورته تفسد صلاته. وهو ظاهر الحديث. قال القاري (رواه أبوداود) من طريق الدراوردي، عن موسى بن إبراهيم المخزومي، عن سلمة بن الأكوع. وأخرجه أيضاً أحمد والشافعي وابن خزيمة والطحاوي وابن حبان والحاكم، وعلقه البخاري في صحيحه، وقال: في إسناده نظر. قال الحافظ في الفتح: وقد وصله المصنف أي: البخاري في تاريخه. وأبوداود وابن خزيمة وابن حبان من طريق الدراوردي. قال: ورواه البخاري أيضاً عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أبيه، عن موسى بن إبراهيم، عن أبيه، عن سلمة. زاد في الإسناد رجلاً. ورواه أيضاً عن مالك بن إسماعيل، عن عطاف ابن خالد. قال: حدثنا موسى بن إبراهيم، قال: حدثنا سلمة، فصرح بالتحديث بين موسى وسلمة، فاحتمل أن يكون رواية أبي أويس من المزيد في متصل الأسانيد، أو يكون التصريح في رواية عطاف وهما، فهذا وجه النظر في إسناده- انتهى. والحديث سكت عنه أبوداود والمنذري. قال الحافظ في الفتح: أما من صححه فاعتمد رواية الدراوردي، وجعل رواية عطاف شاهدة لاتصالها. وطريق عطاف أخرجها أيضاً أحمد والنسائي- انتهى. وقال في التلخيص قد بينت طرق الحديث في تعليق العليق، وله شاهد مرسل، وفيه انقطاع أخرجه البيهقي.
767- قوله (مسبل إزاره) صفة بعد صفة لرجل، أي: مرخ إزاره عن الحد الشرعي- وهو الكعبان- ففي حديث أبي هريرة عند أبي داود: ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار (قال له) وفي أبي داود "إذ قال له"بزيادة "إذ" قال القاري: أي: بعد صلاته لكون صلاته صحيحة، فأراد أن يبين أنها غير مقبولة، وقال ابن حجر: ظاهر الحديث أنه أمر المسبل بقطع صلاته ثم بالوضوء (إذهب فتوضأ) قيل: نما أمره بالوضوء ليعلم أنه مرتكب معصية لما أسبقه في نفوسهم أن الوضوء يكفر الخطايا ويزيل أسبابها كالغضب ونحوه، وقال الطيبي: لعل السر في أمره بالتوضي وهو ظاهر أن يتفكر الرجل في سبب ذلك الأمر فيقف على ما ارتكبه من المكروه (أى ينظر إلى إسباله المخل في إسباغ الوضوء المسبب لعدم قبول الصلاة) وأن الله ببركة أمر رسوله عليه الصلاة والسلام إياه بطهارة الظاهر يطهر باطنه من(2/476)
ثم جاء. فقال رجل يا رسول الله! مالك أمرته أن يتوضأ؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وأن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)) . رواه أبوداود.
768- (9) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقبل صلاة حائض
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دنس الكبر، لأن طهارة الظاهر مؤثرة في طهارة الباطن، فعلى هذا ينبغي أن يعبر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أن الله تعالى لا يقبل صلاة المتكبر المختال، فتأمل في طريق التنبيه، ولطف هذا الإرشاد. ومنه ما روى عن عطية، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما يطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) . أخرجه أبوداود- انتهى كلام الطيبي (ثم جاء) كأنه جاء وهو غير مسبل إزاره (فقال رجل) لم يعرف اسمه (مالك أمرته أن يتوضأ) أي: والحال أنه طاهر متوضئ لم يوجد منه ما ينقض وضوئه (لا يقبل) أي: قبوله كاملا (صلاة رجل مسبل إزاره) قال القاري: ظاهر جوابه عليه السلام أنه أعاده بالوضوء- والله أعلم- أنه لما كان يصلي وما تعلق القبول الكامل بصلاته، والطهارة من شرائط الصلاة وأجزائها الخارجية، فسرى عدم القبول إلى الطهارة أيضا، فأمره بإعادة الطهارة حثا على الأكمل والأفضل- انتهى. قلت: ويمكن أن يستدل بالحديث على كون الإسبال من مفسدات الصلاة بناء على أن عدم القبول يرادف الرد، وإذا كانت صلاة المسبل مردودة كانت باطلة، والله أعلم (رواه أبوداود) في الصلاة واللباس، وفي سنده أبوجعفر، وهو رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه. قال الحافظ: أبوجعفر المؤذن الأنصاري المدني مقبول، ومن زعم أنه محمد بن على بن الحسين (الباقر) فقدوهم- انتهى. قال النووي في "رياض الصالحين" بعد ذكر هذا الحديث: رواه أبوداود بإسناد صحيح على شرط مسلم- انتهى. وفي الباب عن ابن عباس مرفوعاً: (إذا صليتم فارفعوا سبلكم (أي لثياب المسبلة) فكل شيء أصاب الأرض من سبلكم فهو في النار) . رواه الطبراني في الكبير، وفيه عيسى بن قرطاس وهو ضعيف جداً. وعن عطاء بن يسار، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: بينما رجل يصلي وهو مسبل إزاره قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فتوضأ. . . قال: فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فتوضأ، ثم جاء، فقال (رجل) : يا رسول الله! مالك أمرته يتوضأ ثم سكت عنه؟ فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله تبارك وتعالى لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج5:ص125) وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وعزاه صاحب الأطراف إلى النسائي، ولم أجد في نسختي، فلعله في الكبرى انتهى. وعن ابن مسعود، أنه رأى أعرابياً يصلي قد أسبل إزاره، فقال: المسبل إزاره في صلاته ليس من الله في حل ولا حرام. رواه الطبراني ورجاله ثقات.
768- قوله: (لا تقبل) أي: لا تصح إذ الأصل في نفى القبول نفى الصحة والإجزاء إلا لدليل (صلاة حائض) يعني(2/477)
إلا بخمار)) رواه أبوداود والترمذي.
769- (10) وعن أم سلمة، ((أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: إذا كان الدرع سابغاً يغطى ظهور قدميها)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
به المرأة البالغة أي: المكلفة، وإن تكلفت بالاحتلام مثلا. وإنما عبر بالحيض نظرا إلى الأغلب. قال الخطابي: يريد بالحائض المرأة التي بلغت سن الحيض، ولم يرد به التي هي في أيام حيضها، لأن الحائض لا تصلي بوجه- انتهى. وقيل: الأصواب أن يراد بالحائض من شأنها الحيض، ليتناول الصغيرة أيضا، فإن ستر رأسها شرط لصحة صلاتها أيضا. قلت: ويدل لما قال الخطابي ما رواه الطبراني في الصغير والأوسط من حديث أبي قتادة مرفوعاًبلفظ: لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى توارى زينتها، ولا من جارية بلغت الحيض حتى تختمر (إلا بخمار) بكسر الخاء المعجمة آخره راء، قال في القاموس: الخمار بالكسر النصيف، وكل ما ستر شيئاً فهو خماره. وقال: نصيف كأمير: الخمار والعمامة، وكل ما غطى الرأس- انتهى. والمراد به هنا ما تغطى به المرأة رأسها وعنقها. والحديث يدل على أن رأس المرأة عورة، وأنه يجب عليها ستر رأسها وعنقها حال الصلاة. واستدل به من سوى بين الحرة والأمة في العورة لعموم ذكر الحائض، ولم يفرق بين الحرة والأمة، وهو قول أهل الظاهر. وفرق الجمهور بين عورة الحرة والأمة، وحملوا الحديث على الحرة. والحديث قد استدل به على أن ستر العورة شرط في صحة الصلاة، لأن قوله"لا تقبل" صالح للاستدلال به على الشرطية كما تقدم وقد اختلف في ذلك. ومذهب الجمهور أن ستر العورة من شروط الصلاة (رواه أبوداود والترمذي) وحسنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم في المستدرك (ج1:ص251) وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأظن أنه لخلاف فيه على قتادة، ثم رواه الحاكم من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن مرفوعاًمرسلا. وكذلك أشار أبوداود بعد روايته إلى رواية الحسن المرسلة كأنه يعلل الحديث بها. وليست هذه بالعلة، فإن حماد بن سلمة ثقة، والرواية المرسلة تؤيد المتصلة، وهي من طريق آخر، فهو عند قتادة عن شيخين عن ابن سيرين متصلا، وعن الحسن مرسلاً. والحديث صحيح كما قال الحاكم، أو حسن كما قال الترمذي.
769- قوله: (في درع) أي: قميص (ليس عليها) أي: ليس تحت قميصها أو فوقه (إزار) أي: ولا سراويل (قال) أي: نعم (إذا كان الدرع سابغاً) أي: كاملاً واسعاً (يغطى ظهور قدميها) يعني يجوز لها حينئذٍ أن تصلي في درع وخمار ليس عليها إزار، ففي بعض ألفاظ الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: لا بأس إذا كان الدرع سابغاً، الخ. والحديث دليل لمن قال: إن قدمي المرأة عورة يجب سترها، لأن قوله: "يغطى ظهور قدميها" يدل على عدم العفو، فهو حجة لمن(2/478)
رواه أبوداود، وذكر جماعة وقفوه على أم سلمة.
770- (11) وعن أبي هريرة، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يستثن القدمين من العورة. وإليه ذهب أكثر العلماء. وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة. قال الأمير اليماني في السبل بعد ذكر حديث أم سلمة هذا وحديث عائشة السابق ما لفظه: هذا يدل على أنه لا بد في صلاتها من تغطية رأسها ورقبتها كما أفاد حديث الخمار، ومن تغطية بقية بدنها حتى ظهر قدميها كما أفاده حديث أم سلمة ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته. والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة. وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه. وذكره هنا، وجعل عورتها في الصلاة هي عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي، وذكر الخلاف في ذلك ليس محله هنا، إذ لها عورة في الصلاة، وعورة في نظر الأجانب، والكلام الآن في الأول، والثاني يأتي في محله- انتهى. قلت: قد اختلف العلماء في تحديد عورة المرأة في الصلاة وخارجها اختلافاً كثيراً، إن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى المغني لابن القدامة. والراجح عندي ما ذهب إليه الحنابلة من أن الحرة البالغة كلها عورة في الصرة حتى ظفرها وشعرها إلا وجهها، والوجه والكفان عورة خارج الصلاة باعتبار النظر إليها كبقية البدن. قال الخطابي: في خبر أم سلمة دليل على صحة قول من لم يجز صلاتها إذا انكشف من بدنها شيء، ألا تراه عليه السلام يقول: إذا كان سابغاً يغطى ظهور قدميها، فجعل من شرط جواز صلاتها لئلا يظهر من أعضاءها شيء- انتهى (رواه أبوداود) أي: مرفوعاً (وذكر) أي: أبوداود (جماعة) أي: من الرواة (وقفوه على أم سلمة) قال أبوداود بعد روايته من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن محمد بن زيد بن قنفذ، عن أمه، عن أم سلمة مرفوعاً: روى هذا الحديث مالك بن أنس، وبكر بن مضر، وحفص بن غياث، وإسماعيل بن جعفر، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق عن محمد بن زيد، عن أمه عم أم سلمة، لم يذكر أحد منهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قصروا به على أم سلمة- انتهى. يعني أن هؤلاء الرواة الثقات كلهم رووه وقوفا على أم سلمة، ولم يرفعوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالفهم عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، فروى عن محمد بن زيد عن أم سلمة مرفوعاً: فكأنه أشار إلى أن هذا الرفع شاذ. قال الزرقاني: يعني فرواية عبد الرحمن شاذة، وهو وإن كان صدوقاً لكنه يخطئ، فلعله أخطأ في رفعه. وأعله أيضاً عبد الحق بأن مالكا وغيره رووه موقوفاً. قال الحافظ: وهو الصواب، ولكنه قد قال الحاكم بعد إخراجه: أن رفعه صحيح على شرط البخاري- انتهى. وقال الشوكاني: الرفع زيادة لا ينبغي إلغاءها كما هو مصطلح أهل الأصول، وبعض أهل الحديث، وهو الحق. وقال الأمير اليماني: له حكم الرفع وإن كان موقوفاً، إذ الأقرب أنه لا مسرح للاجتهاد في ذلك.
770- قوله: (نهى عن السدل في الصلاة) قال الجوهري: سدل ثوبه يسدله- بالضم- سدلاً أي: أرخاه. وقال(2/479)
وأن يغطى الرجل فاه)) رواه أبوداود، والترمذي.
771- (12) وعن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا اليهود،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخطابي: السدل إرسال الثوب حتى يصيب الأرض- انتهى. فعلى هذا السدل والإسبال واحد. وقال أبوعبيد في غريبه: السدل إسبال الرجل ثوبه من غير أن يضم جانبيه بين يديه، فإن ضمه فليس بسدل- انتهى. وقال الجزري: هو أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد وهو كذلك. قال: وهذا مطرد في القميص وغيره من الثياب. قال: وقيل: هو أن يضع وسط الإزار على رأسه (أو على كتفه) ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كفيه- انتهى. ولا مانع من حمل الحديث على جميع هذه المعاني إن كان السدل مشتركا بينها. وحمل المشترك على جميع معانيه هو المذهب القوي، قاله الشوكاني. والحديث يدل على تحريم السدل في الصلاة، سواء كان عليه قميص أو سراويل أو لم يكن، لأنه معنى النهي الحقيقي، ولا موجب للعدول عن تحريم لعدم وجدان صارف له عن ذلك. وقد روى أن السدل من فعل اليهود. أخرج الخلال في العلل، وأبوعبيد في الغريب عن على أنه خرج فرأى قوما يصلون قد سدلوا ثيابهم فقال: كأنهم اليهود خرجوا من قهرهم (وأن يغطى الرجل فاه) أي: فمه في الصلاة. قال الخطابي: فإن من عادة العرب التلثم بالعمائم على الأفواه، فنهوا عن ذلك في الصلاة إلا أن يعرض الثوباء فيغطى فمه عند ذلك للحديث الذي جاء فيه- انتهى. والحديث يدل على تحريم أن يصلى الرجل متلثما أي: مغطيا فمه. وحكمة النهي أن في التغطية منعا من القراءة والأذكار المشروعة. ولأنه لو غطى بيده فقد ترك سنة اليد، ولو غطاه بثوب فقد تشبه بالمجوس لأنهم يتلثمون في عبادتهم النار. قال ابن حبان: وإنما زجر عن تغطية الفم في الصلاة على الدوام لا عند التثاؤب بمقدار ما يكظمه لحديث"إذا تثاؤب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع" وفي رواية "فليمسك بيده على فمه، فإن الشيطان يدخل فيه" رواه مسلم (رواه أبوداود والترمذي) فيه نظر لأنه ليس في الترمذي "أن يغطى الرجل فاه" فروى الحديث الترمذي مقتصراً على الفصل الأول، وكذا رواه أحمد، والحاكم، والطبراني في الأوسط. وروى ابن ماجه الفصل الثاني فقط. ورواه ابن حبان بتمامه كأبي داود. والحديث حسن، فرجال إسناده كلهم ثقات إلا عسل بن سفيان، وهو لم يتفرد به بل تابعه سليمان الأحول عند أبي داود. وتابعه أيضاً عامر الأحول كما أخرجه الطبراني في معجمه الوسط. قال الزيلعي: رجاله كلهم ثقات إلا أبا بكر البحراوي فإنه ضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وكان يحيى بن سعيد حسن الرأى فيه، وروى عنه، وقال ابن عدي: وهو ممن يكتب حديثه.
771- قوله: (وعن شداد بن أوس) بن ثابت الأنصاري النجاري، يكنى أبا يعلى، المدني ابن أخي حسان بن ثابت، صحابي، مات بالشام سنة (58) وهو ابن خمس وسبعين سنة. وقيل: توفي سنة (64) قال عبادة بن الصامت: شداد ابن الأوس من الذين أوتوا العلم والحلم. له خمسون حديثاً. انفرد له البخاري بحديث، ومسلم بآخر (خالفوا اليهود)(2/480)
فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)) . رواه أبوداود.
772- (13) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي: بالصلاة في نحو النعال (فإنهم لا يصلون في نعالهم) بكسر النون، جمع نعل وهي معروفة (ولا خفافهم) بكسر الخاء المعجمة جمع خف بالضم. قال الشاه ولى الله: كان اليهود يكرهون الصلاة في نعالهم وخفافهم، لما فيه ترك التعظيم، فإن الناس يخلعون نعالهم بحضرة الكبراء وهو قوله تعالى: {فاخلع نعليك، إنك بالواد المقدس طوى} [12:20] وكان هناك وجه آخر، وهو أن الخف والنعل تمام زى الرجل فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - القياس الأول، وأبدى الثاني مخالفة لليهود- انتهى. والحديث يدل على مشروعية الصلاة في النعال. وقد اختلف نظر الصحابة والتابعين في ذلك هل هو مستحب أو مباح أو مكروه؟ وأقل أحوال هذا الحديث الدلالة على الاستحباب من جهة قصد مخالفة اليهود. وقال الحافظ في الفتح في شرح حديث أبي سلمة سعيد بن يزيد: سألت أنساً أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال نعم. قال ابن بطال: هو محمول على ما إذا لم يكن فيهما نجاسة، ثم هي من الرخص كما قال ابن دقيق العيد، لا من المستحبات، لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر فيها النجاسات قد تقصر عن هذه الرتبة. وإذا تعارضت مراعاة مصلحة التحسين ومراعاة مصلحة النجاسة قدمت الثانية، لأنها من باب رفع المفاسد والأخرى من باب جلب المصالح. قال: إلا أن يرد دليل بإلحاقه بما يتجمل، فيرجع إليه، ويترك هذا النظر. قال الحافظ: قد روى أبوداود والحاكم من حديث شداد بن أوس مرفوعاً" خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم" فيكون استحباب ذلك من جهة قصد المخالفة المذكورة. قال: وورد في كون الصلاة في النعال من الزينة المأمور بأخذها في الآية حديث ضعيف جداً، أورده ابن عدي في الكامل، وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي هريرة، والعقيلي من حديث أنس – انتهى (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي. قال الشوكاني: لا مطعن في إسناده. وفي الباب عن جماعة من الصحابة، ذكر تخريج أحاديثهم الشوكاني في النيل، والهيثمي في مجمع الزوائد.
772- قوله: (إذا خلع نعليه) أي: نزعهما عن رجليه (فوضعهما عن يساره) فيه معنى التجاوز، أي: وضعهما بعيدا متجاوزا عن يساره. وفيه من الأدب أن المصلي إذا صلى وحده وخلع نعله وضعها عن يساره. وإذا كان مع غيره في الصف، وكان عن يمينه ويساره ناس فإنه يضعها بين رجليه كما سيأتي. وفيه دليل على جواز عمل قليل في الصلاة. وأن العمل اليسير لا يقطع الصلاة (فلما رأى ذلك) أي: خلع النعل (ألقوا نعالهم) أي: خلعوها عن أرجلهم ثم ألقوها(2/481)
فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته، قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن جبرئيل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً. إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه قذراً فليمسحه وليصل فيهما)) . رواه أبوداود والدارمي.
773- (14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون على يساره أحد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(نعالكم) بالنصب (أن فيهما قذرا) بفتحتين، أي: نجاسة، وفي رواية أحمد"أن بهما خبثاً" والحديث يدل على أن المصلي إذا دخل في الصلاة وهو متلبس بنجاسة غير عالم بها أو ناسياً لها ثم عرف بها أثناء صلاته أنه يجب عليه إزالتها، ثم يستمر في صلاته، ويبنى على ما صلى. قال الخطابي: في الحديث من الفقه أن من صلى وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها فإن صلاته مجزية ولا إعادة عليه. قال القاضي: ومن يرى فساد الصلاة حمل القذر على ما تقذر عرفاً كالمخاط. وحمله بعضهم على المقدار المعفو من النجاسة. قلت: حمله على مستقذر غير نجس، أو نجس معفو عنه تحكم، ويرد حمل القذر على المستقذر الغير النجس رواية الخبث المذكورة للاتفاق بين أئمة اللغة وغيرهم أن الأخبثين هما البول والغائط (فإن رأى في نعليه) أو في أحدهما (قذرا فليمسحه وليصل فيهما) فيه دليل على استحباب الصلاة في النعال، وعلى أن مسح النعل من النجاسة مطهر له من القذر. والظاهر عند الإطلاق فيه أن النعل يطهر بالمسح مطلقاً أي: سواء كانت النجاسة رطبة أو جافة. قال القاضي: فيه دليل على أن من تنجس نعله إذا دلك على الأرض طهر، وجاز الصلاة فيه – انتهى. ومن يرى خلافه أول بالمستقذر الغير النجس أو بالمقدار المعفو من النجاسة، وهو تحكم فلا يلتفت إليه. وقد تقدم الكلام مفصلاً على كون دلك النعال مطهرا لها في باب تطهير النجاسات (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً أحمد والحاكم وابن خزيمة وابن حبان. واختلف في وصله وإرساله. ورجح أبوحاتم في العلل وصله. ورواه الحاكم من حديث أنس وابن مسعود. ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وعبد الله بن الشخير، وإسنادهما ضعيفان، ورواه البزار من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف معلول أيضا، قاله الحافظ. وذكر الهيثمي أحاديث هؤلاء الصحابة مع الكلام عليها، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى مجمع الزوائد (ج2: ص55) .
773- قوله: (إذا صلى أحدكم) أي: أراد أن يصلي (فلا يصنع نعليه) بالجزم جواب إذا (عن يمينه) لأن جهة اليمين محرمة (فتكون) أي: فتقع النعل (عن يمين غيره) قال الطيبي: هو بالنصب جوابا للنهي، أي: وضعه عن يساره مع وجود غيره سبب لأن تكون عن يمين صاحبه. يعني وفيه نوع إهانة وإيذاء له، وعلى المؤمن أن يحب لصاحبه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه (إلا أن لا يكون على يساره) وفي بعض النسخ "عن يساره" (أحد) أي: فيجوز له حينئذٍ أن يضعهما عن(2/482)
وليضعهما بين رجليه. وفي رواية: أو ليصل فيهما)) . رواه أبوداود، وروى ابن ماجه معناه.
{الفصل الثالث}
774- (15) عن أبي سعيد الخدري، قال: ((دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرأيته يصلي على حصير يسجد
عليه قال: ورأيته يصلي في ثوب واحد متوشحاً به)) . رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن يساره (وليضعهما بين رجليه) إذا كان عن يساره أحد. والمراد الفرجة التي بين رجليه (وفي رواية) أي: زيادة لا بدلا أي: إذا صلى أحدكم فخلع نعليه فلا يؤذ بهما أحداً (بأن يضعهما عن يمينه أو قدامه) ليجعلهما (في الفرجة التي) بين رجليه (أو ليصل فيهما) أي: إن كان طاهرين. وإنما لم يقل "أو خلفه" لئلا يقع قدام غيره، أو لئلا يذهب خشوعه لاحتمال أن يسرق (رواه أبوداود) وسكت عليه. وقال العراقي: هذا حديث صحيح الإسناد-انتهى. وفي سنده عبد الرحمن بن قيس عن يوسف بن ماهك. قال المنذري: يشبه أن يكون الزعفراني البصري، كنيته أبومعاوية، لا يحتج به-انتهى. قلت: عبد الرحمن بن قيس هذا هو العتكي أبوروح البصري لا الزعفراني، ذكره ابن حبان في الثقات، له هذا الحديث الواحد عند أبي داود. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج6:ص257) : وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما وقال المنذري في مختصره: يشبه أن يكون الزعفراني فواهي الحديث-انتهى. وفي الباب عن أبي بكرة عند الطبراني في الكبير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه زياد الجصاص ضعفه ابن معين وابن المديني وغيرهما. وذكره ابن حبان في الثقات (وروى ابن ماجه) في آخر الصلاة (معناه) وفي سنده عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد. قال في الزوائد: متفق على تضعيفه-انتهى. ولفظه "الزم نعليك قدميك" فإن خلعتهما فاجعلهما بين رجليك، ولا تجعلهما عن يمينك، ولا عن يمين صاحبك، ولا ورائك فتؤذي من خلفك.
774- قوله: (يصلي على حصير) فيه دليل على جواز الصلاة على شيء يحول بينه وبين الأرض من ثوب، وحصير وصوف وشعر وغير ذلك، وسواء نبت من الأرض أم لا. قال القاضي: الصلاة على الأرض أفضل إلا لحاجة، حر أو برد أو نحوهما، لأن الصلاة سرها التواضع والخضوع، والأرض أقرب إلى التواضع (يسجد عليه) بدل بعض من يصلي (متوشحاً به) أي: مخالفا بين طرفيه. قال ابن السكيت: التوشح أن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره فيكون بمنزلة الإزار والرداء (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً ابن ماجه.(2/483)
775- (16) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافياً ومنتعلاً)) رواه أبوداود.
776- (17) وعن محمد بن المنكدر، قال: ((صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه. وثيابه موضوعة على المشجب. فقال له قائل: تصلي في إزار واحد؟ إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك وأينا كان له ثوبان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
775- قوله: (حافياً) أي: بلا نعال تارة (ومنتعلاً) أي: أخرى، من الانتعال. وفي بعض النسخ "متنعلاً" من التنعل، أي: لابساً نعليه في رجليه (رواه أبوداود) وسكت عليه هو والمنذري، وأخرجه أيضاً ابن ماجه.
776- قوله: (وعن محمد بن المنكدر) هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير-بالتصغير- التيمي المدني، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ. سمع عن جابر، وأنس، وابن الزبير، وعمه ربيعة وغيرهم، وأكثر عن جابر. روى عنه جماعة، منهم الثوري ومالك والزهري وجعفر الصادق وهشام بن عروة. وهو من مشاهير التابعين وجلتهم، جمع بين العلم والزهد والعبادة والدين المتين والصدق والعفة. قال إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة: كان من معادن الصدق، ويجتمع إليه الصالحون، ولم يدرك أحد أجدر أن يقبل الناس منه إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يسأل عمن هو، من ابن المنكدر، يعني لتحريه. وقال إبراهيم بن المنذر: كان غاية في الحفظ والإتقان والزهد، حجة. مات سنة (130) وقيل: (131) وقد بلغ (76) سنة (من قبل قفاه) بكسر القاف وفتح الموحدة أي: من جهة قفاه (وثيابه) الواو للحال (موضوعة على المشجب) بكسر الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الجيم بعدها موحدة، هو ثلاث عيدان تضم وتعقد رؤسها ويفرج بين قوائمها، توضع عليها الثياب، وقد تعلق عليها الأسقية لتبريد الماء، قال ابن سيدة: المشجب والشجاب خشبات ثلاث يعلق عليها الراعي دلوه وسقاءه. ويقال في المثل: "فلان كالمشجب من حيث قصدته وجدته" والجملة اسمية حالية (فقال له قائل) هو عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت كما في مسلم (تصلي في إزار واحد) همزة الإنكار محذوفة (إنما صنعت ذلك) أي: الذي فعله من صلاته، وإزاره معقود على قفاه، وثيابه موضوعة على المشجب (ليراني أحمق) بالرفع غير منصرف من الحمق – بضم الحاء وسكون الميم – وهو قلة العقل. والمراد بالأحمق هنا الجاهل. وحقيقة الحمق وضع الشيء في غير موضعه مع العلم بقبحة، قاله في النهاية. وإنما أغلظ له في الخطاب زجرا عن الإنكار على العلماء، وليحثه على البحث عن الأمور الشرعية (مثلك) أي: فيعلم أنه جائز، أو فينكر على بجهله، فأظهر له جوازه ليقتدي بي الجاهل ابتداء. ومثلك – بالرفع – صفة أحمق لأنها وإن أضيفت إلى المعرفة لا تتعرف لتوغلها في الإبهام إلا إذا أضيفت لما اشتهر بالمماثلة وههنا ليس كذلك، ولذا وقعت صفة لنكرة وهي أحمق (وأينا كان له ثوبان) استفهام(2/484)
رواه البخاري.
777- (18) وعن أبي بن كعب، قال: ((الصلاة في الثوب الواحد سنة. كنا نفعله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعاب علينا. فقال ابن مسعود: إنما كان ذاك إذا كان في الثياب قلة؛ فأما إذا وسع الله، فالصلاة في الثوبين أزكى)) رواه أحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يفيد النهى، وغرضه أن الفعل كان مقررا (على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وحينئذٍ فلا ينكر. والمعنى: كان أكثرنا في عهده - صلى الله عليه وسلم - لا يملك إلا الثوب الواحد، ومع ذلك فلم يكلف تحصيل ثوب ثان ليصلي فيه، فدل على الجواز. والحديث فيه دليل على جواز الصلاة في الثوب الواحد لمن يقدر على أكثر منه، وهو قول عامة الفقهاء. وروى عن ابن عمر خلاف ذلك، وكذا عن ابن مسعود، فروى ابن أبي شيبة عنه "لا يصلين في ثوب وإن كان أوسع مما بين السماء والأرض" قال في الفائق: أجمعوا على أن الصلاة في ثوبين أفضل، فلو أوجبناه لعجز من لا يقدر عليهما، وفي ذلك حرج. وأما صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ثوب واحد، ففي وقت كان لعدم ثوب آخر، وفي وقت كان مع وجوده لبيان الجواز، نقله الطيبي. وأخرج البخاري من طريق سعيد بن المسبب، عن أبي هريرة أن سائلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في ثوب واحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو لكلكم ثوبان؟ قال الخطابي: لفظه إستخبار ومعناه الإخبار عما هم عليه من قلة الثياب، ووقع في ضمنه الفتوى من طريق الفحوى. كأنه يقول: إذا علمتم أن ستر العورة فرض، والصلاة لازمة، وليس لكل أحد منكم ثوبان فيكف لم تعلموا أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة؟ أي: مع مراعاة ستر العورة به (رواه البخاري) قال العيني: هذا الطريق انفرد به البخاري.
777- قوله: (سنة) أي: جائز بالسنة وإن كانت في الثوبين أفضل، كما يأتي عن ابن مسعود، فلا تنافي بينهما، قاله القاري (كنا نفعله) أي: ما ذكر من الصلاة في الثوب الواحد (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي: مع فعله، أو حال كوننا معه. ويؤيد الثاني قوله (ولا يعاب علينا) أي: وما نهانا. فيكون تقريرا نبويا، فثبت جوازه بالسنة، إذ عدم الإنكار دليل الجواز لا دليل الندب (إنما كان ذاك) أي: المذكور من الصلاة في الثواب الواحد من غير كراهة (إذا كان) وفي المسند "إذ كان" (في الثياب قلة) أي: في وقت كون الثياب قليلة (فأما إذا) وفي المسند "إذ" (وسع الله) بتكثير الثياب، شرطية جزاؤها (فالصلاة في الثوبين) أي: الإزار والرداء، أو القميص والإزار (أزكى) أي: أولى. وقال الطيبي: أي: أطهر، أو أفضل، لأن الزكاة النمو الحاصل عن بركة الله تعالى، أو طهارة النفس عن الخصال الذميمة، وكلا المعنيين محتمل في الحديث، وقيل: أزكى بمعنى أنمى، أي: أكثر ثوابا، أو بمعنى أطهر، لأنه أبعد من الخصلة الذميمة التي هي أداء الصلاة على وجه الكراهة (رواه أحمد) فيه نظر لأنه لم يروه أحمد، بل هو مما رواه ابنه عبد الله زائدا على أبيه(2/485)
(9) باب السترة
{الفصل الأول}
778- (1) عن ابن عمر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو إلى المصلى والعنزة بين يديه تحمل، وتنصب بالمصلى بين يديه فيصلي إليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ج5:ص141) من طريق أبي نضرة بن بقية، قال: قال أبي بن كعب، الخ. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص49) بعد ذكره: رواه عبد الله من زياداته، والطبراني في الكبير بنحوه من رواية زر عنه موقوفا، وأبونضرة لم يسمع من أبي ولا من ابن مسعود-انتهى. وعن ابن عمر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من يزين له) . رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن، قاله الهيثمي.
(باب السترة) هي – بالضم – ما يستتر به كائنا ما كان، وقد غلب على ما ينصبه المصلى قدامه من عصا، أو رمح، أو حربه، أو سهم، أو غير ذلك مما يظهر به موضع سجود المصلى كيلا يمر مار بينه وبين موضع سجوده. قال النووي: قال العلماء: الحكمة في السترة كف البصر عما ورائها، ومنع من يجتاز بقربه. وقال ابن الهمام في فتح القدير: المقصود من الستر جمع الخاطر بربط الخيال به كيلا ينتشر. يريد أن في فطرة الإنسان أن خياله ينتشر في كل واد، ويطوف بكل جانب إذا كان في مكان واسع، بخلاف ما إذا كان في مكان ضيق، فإنه لا يكون له جولان وتطواف مثل الأول، بل ينقبض وينحصر فيه، فأراد الشارع بأمر نصب السترة أن يضيق عليه مكان صلاته بجمع خاطره بربط الخيال به كيلا ينتشر. والله أعلم.
778- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغدو) أي: يذهب غدوة (إلى المصلى) أي: مصلى العيد (والعنزة) بفتحات وهي أقصر من الرمح، في طرفها زج كزج الرمح، والزج-بضم الزاي- الحديدة التي في أسفل الرمح، يقابله السنان. وقيل: العنزة أطول من العصا، وأقصر من الرمح، وفيها سنان كسنان الرمح (وتنصب) أي: تغرز (بالمصلى بين يديه) أي: قدامه أي: قبالة أحد حاجبيه لا بين عينيه (فيصلي إليها) زاد ابن ماجه وابن خزيمة، والإسماعيلي "وذلك أن المصلى كان فضاء، ليس فيه شيء يستره". وفي رواية للبخاري: كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه. وكان يفعل ذلك (أى نصب الحربة بين يديه وحيث لا يكون جدار، والصلاة إليها) في السفر (فليس مختصا بيوم العيد) والحديث يدل على مشروعية اتخاذ السترة في الفضاء، وملازمة ذلك في السفر، وعلى أن السترة تحصل بكل شيء ينصب تجاه المصلى وإن دق إذا كان قدر مؤخرة الرحل وعلى مشروعية المشى بين يدي الإمام بآلة من السلاح. ولا يعارض ذلك ما روى من النهي عن حمل السلاح يوم العيد، لأن ذلك إنما هو عند(2/486)
رواه البخاري.
779- (2) وعن أبي جحيفة، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو بالأبطح في قبة حمرآء من أدم، ورأيت بلالاً أخذ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيت الناس يبتدرون ذلك الوضوء، فمن أصاب منه شيئاً تمسح به، ومن لم يصب منه أخذ من بلل يد صاحبه. ثم رأيت بلالاً أخذ عنزة فركزها. وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حلة حمرآء مشمرًا، صلى إلى العنزة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خشية التأذى به (رواه البخاري) في العيدين. وأخرجه أيضاً مسلم، وأبوداود والنسائي وابن ماجه بنحوه.
779- قوله: (وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون الياء وبالفاء، اسمه وهب بن عبد الله السوائى – بضم المهملة وخفة الواو والمد – نسبة إلى سواءة بن عامر. ويقال: اسم أبيه وهب أيضا، مشهور بكنيته. ويقال له: وهب الخير، صحابي معروف. قيل: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبلغ الحلم، ولكنه سمع منه وروى عنه. وكان من كبار أصحاب على وخواصه، وكان على شرطته، واستعمله على خمس المتاع. مات بالكوفة سنة (74) له خمسة وأربعون حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة. روى عنه جماعة (وهو بالأبطح) بفتح الهمزة، وهو في اللغة مسيل واسع فيه دقاق الحص. والبطيحة والبطحاء مثله، صار علما للمسيل الذي بين مكة ومنى، ينتهى إليه السيل من وادي منى، وهو أقرب إلى مكة، يكون فيه دقاق الحصى، ويسمى البطحاء والمحصب أيضاً فكثرة الحصباء فيه (من أدم) بفتحتين، جمع أديم أي: جلد (وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) بفتح الواو، أي: الماء الذي توضأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والظاهر أن المراد به ما سال من أعضاء وضوءه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دلالة بينة على طهارة الماء المستعمل (يبتدرون) أي: يتسارعون ويتسابقون (ذلك الوضوء) أي: إلى أخذ ماء وضوئه تبركا بآثاره الشريفة (فمن أصاب) أي: أخذ (منه) أي: من بلال (شيئا) من الماء، أو فمن وجد من ذلك الماء شيئاً قليلا وقدرا يسيرا (تسمح به) أي: مسح به وجهه وأعضائه لينال بركته - صلى الله عليه وسلم - (ومن لم يصب منه) أي: من بلل يد بلال (أخذ من بلل يد صاحبه) فيه دليل بين على أن الماء المستعمل طاهر، ولا دليل على كونه من خصائصه (فركزها) أي: غرزها (في حلة) أي: حال كونه في حلة. وهي بضم الحاء إزار ورداء، ولا تسمى حلة حتى يكون ثوبين (حمرآء) فيه أظهر دليل على أنه يجوز لبس الأحمر الصرف للرجال وإن كان قانئا، خلافاً للحنفية، فإنهم قالوا: يكره، وتأولوا هذا الحديث بأنها كانت حلة من برود فيها خطوط حمر. وهو تأويل ضعيف أو باطل. وسيأتي الكلام عليه مفصلاً في موضعه (مشمراً) بكسر الميم الثانية من التشمير، وهو ضم الذيل ورفعه للعدو أي: مسرعاً، يقال: فلان شمر عن ساقه، وتشمر في أمره أي: خف، وقيل: المراد رافعاً ثوبه قد كشف شيئاً من ساقيه. قال في مسلم: كأنى أنظر إلى بياض ساقيه (صلى)(2/487)
بالناس ركعتين. ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة)) . متفق عليه.
780- (3) وعن نافع، عن ابن عمر ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرض راحلته فيصلي إليها)) . متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولمسلم: تقدم فصلى إلى العنزة (بالناس) أي: إماماً بهم (ركعتين) أي: للظهر كما في رواية (يمرون) فيه تغليب للعقلاء (بين يدي العنزة) أي: وراءها. وفيه استعمال المجاز، وإلا فالعنزة لا يدلها. وفي الحديث من الفوائد: استعمال البركة مما لامسه الصالحون، ووضع السترة للمصلى حيث يخشى المرور بين يديه، والإكتفاء فيها بمثل غلظ العنزة. وفيه تعظيم الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه استحباب استصحاب العنزة ونحوها (متفق عليه) أخرجه البخاري مطولاً ومختصراً في الطهارة وفي الصلاة وفي اللباس وفي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه مسلم في الصلاة. قال ميرك: ولفظه للبخاري. وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود في الصلاة، والنسائي في الزينة، وابن ماجه في الصلاة.
780- قوله: (كان يعرض راحلته) أي: ينيخها بالعرض بينه وبين القبلة حتى تكون معترضة بينه وبين من يمر بين يديه. من عرض العود على الإناء يعرض-بضم الراء وكسرها- وضعه عرضا، قاله التوربشتي. وقال النووي: هو بفتح الياء وكسر الراء، وروى بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء المكسورة. ومعناه يجعلها معترضة بينه وبين القبلة-انتهى. والراحلة الناقة التي تصلح لأن يوضع الرحل عليها، قاله الجوهري. وقال الأزهري: الراحلة المركوب النجيب ذكرا كان أو أنثى. والهاء فيها للمبالغة (فيصلي إليها) فيه دليل على جواز الصلاة إلى الحيوان، والاستتار بما يستقر منه من غير كراهة، وجواز الصلاة بقرب البعير، ولا يعارضه النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء، ولا يستلزم من النهي عن الصلاة في معاطن الإبل النهي عن الصلاة إلى البعير الواحد في غير المعاطن. قال ابن حزم: من منع الصلاة إلى البعير فهو مبطل. وقال ابن عبد البر في الاستذكار: أما الاستتار بالراحلة فلا أعلم فيه خلافا. قلت: قال الشافعي: لا يستتر بامرأة ولا دابة. وفي الشرح الكبير للمالكية: وسترة لإمام وفذ بطاهر ثابت لا دابة إما لنجاسة فضلتها كالبغال، وإما لخوف زوالها، وإما لهما. قال الدسوقي: فلا تحصل السنة أو المندوب بالاستتار بها-انتهى. وبهذا علم أن التستر بالدابة والصلاة إليها لا يخلوا عن الكراهة عند الشافعية والمالكية. ولذلك حملوا الحديث على حال الضرورة، فقال الحافظ في الفتح، والزرقاني في شرح الموطأ، وابن رسلان: يحمل ما وقع منه في السفر من الصلاة إليها على حالة الضرورة. ونظيره صلاته إلى السرير الذي عليه المرأة، لكون البيت كان ضيقاً. قال الحافظ: وعلى هذا فقول الشافعي في البويطي "لايستتر بامرأة ولا دابة" في حال الاختيار. وقال النووي: لعل الحديث لم يبلغ الشافعي ومذهبه اتباع الحديث، فتعين العلم به، إذ لا معارض له-انتهى. قال الحافظ: وروى عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار أن ابن عمر كان يكره أن يصلي إلى البعير إلا وعليه رحل. وكان الحكمة في ذلك أنها في حال شد الرحل عليها أقرب إلى السكون من حال تجريدها-انتهى (متفق عليه) ولفظه للبخاري،(2/488)
وزاد البخاري، قلت: أفرأيت إذا هبت الركاب. قال: كان يأخذ الرحل فيعدله، فيصلي إلى أخرته.
781- (4) وعن طلحة بن عبيد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود (قلت) أي: قال عبيد الله بن عمر: قلت: لنافع، كذا بينه إسماعيلي، وحينئذٍ فيكون مرسلاً لأن فاعل قوله "يأخذ" الآتي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر نافع. قال الحافظ: قوله "قلت أفرأيت" ظاهره أنه كلام نافع والمسؤل ابن عمر، لكن بين الإسماعيلي من طريق عبيدة بن حميد، عن عبيد الله بن عمر أنه كلام عبيد الله، والمسؤل نافع فعلى هذا هو مرسل، لأن فاعل "يأخذ" هو النبي. ولم يدركه نافع-انتهى. قال ميرك شاه: فعلى هذا إيراد محي السنة، وصاحب المشكاة ليس بسديد، لأنهما ذكرا في كتابيهما كلا مالم يذكر قائله فيهما مع أنه يوهم خلاف الواقع-انتهى (إذا هبت الركاب) بكسر الراء، أي: هاجت الإبل. وشوشت على المصلى لعدم استقرارها. يقال: "هب الفحل" إذا هاج، و"هب البعير في السير" إذ نشط. والركاب الإبل التي يسار عليها. ولا واحد لها من لفظها. والمعنى إلى أي: شيء كان يصلي عند هبوب الركاب؟ (قال) أي: نافع (كان يأخذ) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - (الرحل) بفتح الراء وسكون الحاء، ما يوضع على ظهر البعير ليركب عليه كالسرج للفرس (فيعدله) بضم المثناة التحتية وفتح العين وتشديد الدال، من التعديل وهو تقويم الشيء وتسويته. وضبطه الحافظ وغيره بفتح أوله، وسكون العين، وكسر الدال أي: يقيمه تلقاء وجهه (فيصلي إلى آخرته) بفتح الهمزة والمعجمة والراء من غير مد، ويجوز المد لكن مع كسر الخاء، والمراد بها العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب خلاف قادمته.
781- قوله: (إذا وضع أحدكم بين يديه) أي: قدامه. وهذا مطلق، وقد ورد في حديث بلال "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع" فينبغي للمصلي أن يدنو من السترة ولا يزيد ما بينهما على ثلاثة أذرع. قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف. وقد ورد الأمر بالدنو منها كما سيأتي (مثل مؤخرة الرحل) أي: سترة مثل آخرة الرحل. وفي المؤخرة لغات: ضم الميم وسكون الهمزة وكسر الخاء المخففة وفتحها. وفتح الهمزة والخاء معا مع تشديد الخاء، وفتح الهمزة وكسر الخاء المشددة. وفتح الميم وسكون الواو من غير همزة وكسر الخاء. وهو العود الذي يستند إليه راكب الرحل، قال الحافظ: اعتبر الفقهاء مؤخرة الرحل في مقدار أقل السترة، واختلفوا في تقديرها بفعل ذلك، فقيل: ذراع، وقيل: ثلثا ذراع. وهو أشهر، لكن في مصنف عبد الرزاق عن نافع: أن مؤخرة رحل ابن عمر كانت قدر ذراع. وقال النووي: في هذا الحديث بيان أن أقل السترة مؤخرة الرحل، وهي قدر عظم الذراع وهو نحو ثلثي ذراع. ويحصل بأي شيء أقامه بين يديه. قال: وليس في هذا الحديث دليل على بطلان الخط-انتهى (ولا يبال) وفي بعض نسخ مسلم "ولا يبالى" من المبالاة، يقال: بالى الأمر(2/489)
من مر وراءه ذلك)) رواه مسلم.
782- (5) وعن أبي جهيم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبالأمر، اهتم به وأكترث له (من) أي: بمن أو ممن (مر وراء ذلك) من المرأة ونحوها. ولا يدفعه بالإشارة وغيرها. ولفظ أبي داود "إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل فلا يضر من مر بين يديك" والمراد بالضرر الضرر الراجع إلى نقصان صلاة المصلى. وفيه إشعار بأنه لا ينقص شيء من صلاة من اتخذ سترة بمرور من مر بين السترة والقبلة. ويحصل النقص إذا لم يتخذ سترة، وكذا إذا مر المار بينه وبين السترة (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
782- قوله: (بين يدي المصلي) ظرف الماء، أي: أمامه بالقرب منه. وعبر باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما. واختلف في تحديد ذلك فقيل: ما بين موضع جبهته في سجوده وقدميه، وقال بعض الحنفية: المرور المحرم، المرور بينه وبين موضع سجوده. والمراد بموضع السجود المكان الذي بينه وبين منتهى بصره إذا قام متوجهاً إلى مكان يسجد فيه. وقيل: المراد قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع، أي: رامياً ببصره إلى موضع سجوده. وقال بعضهم: مقدار صف. وقال بعضهم: مقدار صفين. وقال بعضهم: مقدار ثلاثة صفوف. وهذا كله في الصحراء والمسجد الكبير. وأما في المسجد الصغير فما بينه وبين جدار المسجد. وقال ابن العربي: حريم المصلى الذي يمنع المرور فيه مقدار ما يحتاجه لقيامه وركوعه وسجوده. وقيل: إنه قدر رمية الحجر، أو السهم، أو المضاربة بالسيف، أقوال عند المالكية. وقالت الشافعية والحنابلة: مقدار ثلاثة أذرع. قلت: أرجح الأقوال في ذلك عندي أنه قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع، أي: راميا ببصره إلى موضع سجوده من غير تفصيل بين المسجد وغيره. والله أعلم. قال السيوطي: المراد بالمرور أن يمر بين يديه معترضا. أما إذا مشى بين يديه ذاهبا لجهة القبلة فليس داخلا في الوعيد-انتهى. وقال الحافظ: ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر لا بمن وقف عامداً مثلاً بين يدى المصلى أو قعد، أو رقد لكن إن كانت العلة فيه التشويش على المصلي فهو في معنى المار-انتهى. والحديث عام في كل مصل فرضاً أو نفلاً، سواء كان إماماً أو منفرداً أو مأموماً، والمفرد في ذلك (ماذا عليه) أي: من الإثم أو الضرر بسب مروره بين يديه، وهو في موضع نصب ساد مسد مفعولى يعلم، وجواب "لو" قوله: (لكان أن يقف أربعين) أي: أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم. وقال الكرماني:(2/490)
خيراً له من أن يمر بين يديه. قال أبوالنضر: لا أدري قال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة)) متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جواب "لو" ليس هو المذكور بل التقدير: لو يعلم ما الذي عليه لوقف أربعين، ولو وقف أربعين لكان خيراً له. قال الحافظ: وليس ما قاله متعيناً. وقال السندي: أي: لكان وقوفه خيراً له من المرور عنده. ولهذا علق بالعلم، وإلا فالوقوف خيراً له سواء علم أو لم يعلم (خيراً له) بالنصب على أنه خبر كان، واسمه قوله: أن يقف. وروى بالرفع، وهي رواية الترمذي. قيل: هو مرفوع على أنه اسم كان، وسوغ الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة. ويحتمل أن يقال: اسمها ضمير الشأن، والجملة خبرها. قال الكرماني: أبهم العدد تفخيماً للأمر وتعظيماً له. قال الحافظ: ظاهرالسياق أنه عين المعدود، ولكن شك الراوي فيه. وقد وقع في مسند البزار من حديث أبي جهيم "لكان أن يقف أربعين خريفا" أي: عاماً. أطلق الخريف على العام من إطلاق الجزء على الكل. وسيأتي في الفصل الثالث من حديث أبي هريرة "كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطاها" وهذا مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين. وجنح الطحاوي إلى أن التقييد بالمائة وقع بعد التقييد بالأربعين زيادة في تعظيم الأمر على المار، لأنهما لم يقعا معاً، إذ المائة أكثر من الأربعين، والمقام مقام زجر وتخويف، فلا يناسب أن يتقدم ذكر المائة على الأربعين، بل المناسب أن يتأخر ومميز الأربعين إن كان هو السنة ثبت المدعى، أو ما دونها فمن باب الأولى (من أن يمر) أي: من المرور (بين يديه) أي: المصلي لأن إثم المرور يفضى إلى تعب هو أشد من هذا التعب، فإن عذاب الدنيا وإن عظم يسير (قال أبوالنضر) هذه مقولة مالك، وأبوالنضر-بفتح النون وسكون الضاد المعجمة-اسمه سالم بن أبي أمية المدني مولى عمر بن عبيد الله التيمي، سمع أنساً. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة ثبت، وكان ابن عيينة يصفه بالفضل، والعقل، والعبادة. وقال الحافظ: ثقة ثبت، وكان يرسل من صغار التابعين، روى عنه مالك، والسفيانان، وغيرهم. مات سنة (129) (قال) وفي رواية "أقال" بهمزة الاستفهام. والضمير يرجع إلى بسر بن سعيد، وقيل: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أربعين يومًا، أو شهراً، أو سنةً) معنى هذا الكلام أن أبالنضر قال: لا أدري-أى لا أحفظ- أن شيخي بسر بن سعيد أقال بعد قوله عن أبي جهيم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر بعد قوله "أربعين" لا يوماً، ولا شهراً، ولا سنة، فلا أدري هل ذكر بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من هذه الثلاثة أو لم يذكر. والحديث يدل على تحريم المرور بين يدي المصلي، فإن في معنى الحديث النهي الأكيد، والوعيد الشديد على ذلك، قاله النووي. ومقتضى ذلك أن يعد في الكبائر. وظاهره يدل على منع المرور مطلقاً، ولو لم يجد مسلكاً، بل يقف حتى يفرغ المصلى من صلاته (متفق عليه) واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه.(2/491)
783- (6) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
783- قوله: (إلى شيء يستره من الناس) مما سلف تعيينه من السترة، وقدرها، وقدركم يكون بينها وبين المصلي. وفيه أنه لا يجوز الدفع والمقاتلة إلا لمن كان له سترة. قال النووي: اتفقوا على أن هذا كله لمن لم يفرط في صلاته بل احتاط وصلى إلى سترة، أو في مكان يأمن المرور بين يديه (أن يجتاز) من الجواز أي: يعبر ويمر ويتجاوز (بين يديه) وليدرأه ما استطاع، قيل: ندبا. وقال أهل الظاهر: وجوبا، وهو الظاهر. قال القرطبي: أي: بالإشارة ولطيف المنع، أو بوضع اليد على نحره كما في رواية. وقيل: بالتسبيح أو الجهر بآية في الصلاة السرية، فإن كانت الصلاة جهرية يرفع بها صوته أزيد من قرأته. قال عياض: اتفقوا على أنه لا يجوز له المشى إليه من موضعه ليرده، إنما يرده ويدفعه من موقفه لأن مفسدة المشي في صلاته أعظم من مروره من بعيد بين يديه. وإنما أبيح له قدر ما تناله يده من موقفه. ولهذا أمر بالقرب من سترته، وإنما يرده إذا كان بعيدا منه بالإشارة والتسبيح-انتهى (فإن أبى) أي: امتنع من الاندفاع (فليقاتل) حملوه على أشد الدفع، وقالوا: يزيد في دفعه الثاني أشد من الدفع الأول. قال القرطبي: اجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك لقاعدة الإقبال على الصلاة، والإشتغال بها، والخشوع فيها – انتهى. وقال الحافظ: وقد رواه الإسماعيلي بلفظ "فإن أبى فليجعل يده في صدره ويدفعه، " وهو صريح في الدفع باليد، قال: وقال أصحابنا يرده بأسهل الوجوه، فإن أبى فبأشدها ولو أدى إلى قتله، فلو قلته فلا شيء عليه، لأن الشارع أباح له مقاتلته، والمقاتلة المباحة لا ضمان فيها. ونقل عياض وغيره أن عندهم خلافاً في وجوب الدية في هذه الحالة (فإنما هو شيطان) تعليل للأمر بقتاله، أو لعدم اندفاعه، أولهما. أي: مطيع له فيما يفعل من المرور. وإطلاق الشيطان على مارد الإنس شائع ذائع. وقد جاء في القرآن قوله تعالى: {شياطين الإنس والجن} [111:6] وسبب إطلاقه عليه أنه فعل فعل الشيطان في إرادة التشويش على المصلي. وقيل المراد: إنما الحامل له على ذلك شيطان. وقد وقع في رواية للإسماعيلي "فإن معه الشيطان" ونحوه لمسلم من حديث ابن عمر بلفظ "فإن معه القرين" أي: الشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه، الحامل له هذا الفعل، يعني فينبغي منعه مهما أمكن عن ذلك الفعل الذي الحامل عليه الشيطان. وقد اختلف في الحكمة المقتضية للدفع، فقيل: لدفع الإثم عن المار. وقيل: لدفع الخلل الواقع بالمرور في الصلاة. وهذا الأرجح لأن عناية المصلى بصيانة صلاته أهم من دفعه الإثم عن غيره. قال الأمير اليماني، ولو قيل: إنه لهما معا لما بعد، فيكون لدفع الإثم عن المار الذي أفاده حديث "لو يعلم المار" ولصيانة الصلاة عن النقصان من أجرها، فقد أخرج أبونعيم عن عمر "لو يعلم المصلى ما ينقص من صلاته بالمرور بين يديه ما صلى إلا(2/492)
هذا لفظ البخاري، ولمسلم معناه.
784- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. ويقى ذلك مثل مؤخرة الرحل)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى شيء يستره من الناس، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود: أن المرور بين يدي المصلي يقطع نصف صلاته. ولهما حكم الرفع وإن كانا موقوفين لأن مثلهما لا يقال بالرأي. وهذان الأثران مقتضاهما أن الدفع لخلل يتعلق بصلاة المصلي ولا يختص بالمار (هذا لفظ البخاري) أي: في كتاب الصلاة، وأخرجه أيضاً في صفة إبليس (ولمسلم معناه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه مطولاً ومختصراً.
784- قوله: (تقطع) بالتأنيث (الصلاة) أي: تفسدها وتبطلها، أو تقلل ثوابها وتنقص أجرها بقطع حضورها وخشوعها وكمالها. وهذا إذا لم يكن بين يديه سترة كما سيأتي (المرأة) هو فاعل تقطع، أي: مرور المرأة إذا مرور هو محل النزاع. ولأبي داود وابن ماجه من حديث ابن عباس "يقطع الصلاة المرأة الحائض". قال السندي: يحتمل أن المراد ما بلغت سن الحيض أي: البالغة وهي المتبادرة من لفظ المرأة. وعلى هذا فالصغيرة لا تقطع. قلت: تقييد المرأة بالحائض يقتضي حمل المطلق على المقيد، فلا تقطع الصلاة إلا الحائض، كما أنه أطلق الكلب عن وصفه بالأسود في حديث أبي هريرة هذا، وقيد به في حديث أبي ذر عند مسلم وغيره، فحملوا المطلق على المقيد، وقالوا: لا يقطع إلا الأسود، فتعين في المرأة الحائض حمل المطلق على المقيد (والحمار الكلب) وجه تخصيص هذه الأشياء مفوض إلى رأى الشارع، والله أعلم (ويقى) أي: يحفظ (ذلك) أي: القطع (مثل مؤخرة الرحل) أي: مثلا، وإلا فقد أجزأ السهم كما رواه الحاكم من حديث سبرة بن معبد مرفوعاً"يستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم". وفي قطع الصلاة بمرور هذه الأشياء أحاديث عن جماعة من الصحابة: عن عبد الله بن مغفل عند أحمد وابن ماجه. أبي ذر عند أحمد ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه. والحكم الغفاري عند الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه عمر بن دريج، ضعفه أبوحاتم، ووثقه ابن معين وابن حبان، وبقية رجاله ثقات. وأنس عند البزار. قال العراقي: رجاله ثقات. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وابن عباس عند أبي داود وابن ماجه. وعبد الله بن عمرو عند أحمد. قال الهيثمي: رجاله موثقون، وقال العراقي: إسناده صحيح. وعائشة عند أحمد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع صلاة المسلم شيء إلا الحمار، والكافر والكلب والمرأة، فقالت عائشة: يارسول الله! لقدر قرنا بدواب سوء. قال العراقي والهيثمي: رجاله ثقات. وهذه الأحاديث نص في أن الأشياء المذكورة فيها تقطع صلاة من لا سترة له. وظاهر القطع الإبطال. وقد عارضها حديث "لا يقطع الصلاة شيء" أخرجه أبوداود من حديث أبي سعيد، وسيأتي الكلام فيه في الفصل الثاني. وروى أيضاً من حديث أنس عند الدارقطني، قال الحافظ في الدراية: إسناده حسن. ومن حديث أبي أمامة عند الدارقطني(2/493)
والطبراني في الكبير، قال الهيثمي: إسناده حسن. وقال الشوكاني: في إسناده عفير بن معدان، وهو ضعيف. ومن حديث جابر عند الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه يحيى بن ميمون التمار، وهو ضعيف، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. ومن حديث أبي هريرة عند الدارقطني، وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك. ومن حديث ابن عمر عند الدارقطني أيضا، وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو ضعيف. قال العراقي: والصحيح ما رواه مالك في الموطأ من قوله. وقد أخرج سعيد بن منصور، عن علي وعثمان وغيرهما من أقوالهم نحو هذا الحديث بأسانيد صحيحة. قيل ويعارض أحاديث القطع حديث عائشة، وحديث ابن عباس التاليان، وحديث الفضل بن عباس في الفصل الثاني، وحديث عائشة في الفصل الثالث. وقد اختلف العلماء في العمل بهذه الأحاديث، واختلفت آراؤهم في الكلام على هذه الروايات وتعارضها: فقال بقطع الصلاة بالمرأة والكلب والحمار أبوهريرة وأنس من الصحابة، والحسن البصري وأبوالأحوص من التابعين، وأحمد بن حنبل من الأئمة فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري. وحكى الترمذي عنه أنه يخصصه بالكلب الأسود، ويتوقف في الحمار والمرأة. ووجهه ابن دقيق العيد وغيره بأنه لم يجد في الكلب الأسود ما يعارضه، ووجد في الحمار حديث ابن عباس، وفي المرأة حديث عائشة يعني الذين يليان حديث أبي هريرة وسيأتي الكلام في دلالتهما على ذلك. وقال عطاء وابن جرير: يقطعها الكلب الأسود والمرأة الحائض دون الحمار لحديث ابن عباس الآتي. وذهب أهل الظاهر- كما قال ابن حزم في المحلى- إلى أنه يقطع الصلاة كون الكلب والحمار بين يدي المصلي مارا أو غير مار، صغيرا أو كبيرا، حيا أو ميتا، وكذا كون المرأة بين يدي الرجل مارة أو غير مارة، صغيرة أو كبيرة، إلا أن تكون مضطجعة معترضة فقط. ثم اختلف القائلون بالقطع بمعنى الإبطال بالثلاثة في الجواب عن أحاديث عدم القطع، فقال بعضهم: الأحاديث التي تعارض حديث أبي ذر ومن وافقه بعضها صحيحة لكنها غير صريحة في عدم القطع كحديث عائشة وابن عباس، فإن في دلالتهما على ذلك نظرا قويا كما ستعرف، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل. وبعضها صريحة كحديث أبي سعيد ومن وافقه، لكنها ضعيفة لا تنهض للاحتجاج، ولو سلم انتهاضها فهي عامة مخصصة بأحاديث القطع. أمل عند من يقول إنه يبني العام على الخاص مطلقاً فظاهر. وأما عند من يقول إن العام المتأخر ناسخ فلا تأخر لعدم العلم بالتاريخ، ومع عدم العلم يبني العام الخاص عند الجمهور. وأما على القول بالتعارض بين العام والخاص مع جهل التاريخ كما هو مذهب الحنفية فلا شك أن الأحاديث الخاصة- أي: أحاديث أبي ذر ومن وافقه- أرجح وأقوى وأصح من هذه الأحاديث العامة، فالأخذ بالأقوى أولى. وقال بعضهم: أحاديث عدم القطع منسوخة بحديث أبي ذر ومن وافقه. قال ابن حزم في المحلى (ج4:ص 14) : لو صحت هذه الآثار- وهي لا تصح- لكان حكمه - صلى الله عليه وسلم - بأن الكلب والحمار والمرأة يقطعون الصلاة، هو الناسخ بلا شك لما كانوا عليه قبل من أن لا يقطع الصلاة شيء من الحيوان كما لا يقطعها الفرس والسنور والخنزير وغير ذلك، فمن الباطل الذي لا يخفي، ولا يحل ترك الناسخ المتيقن والأخذ بالمنسوخ المتيقن. ومن المحال أن تعود الحالة المنسوخة ثم لا يبين(2/494)
عليه السلام عودها- انتهى. وذهب الجمهور مالك والشافعي وأبوحنيفة وغيرهم من السلف والخلف إلى أنه لا يقطعها شتى. ثم اختلف هؤلاء في تأويل أحاديث القطع، فمال بعضهم إلى النسخ. قال الطحاوي وابن عبد البر: إن حديث أبي ذر ومن وافقه منسوخ بحديث عائشة وحديث ابن عباس الآتيين، واستدلا على تأخر تاريخ حديث ابن عباس بأنه كان في حجة الوداع، وهي في سنة عشر، وفي آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى تأخر حديث عائشة بأن ما حكاه عائشة عنه يعلم تأخره لكونه صلاته بالليل عندها، ولم يزل على ذلك حتى مات مع تكرر قيامه في كل ليلة، فلو حدث شيء مما يخالف ذلك لعلمت به. وفي هذا الاستدلال نظر لا يخفى على المتأمل، وعلى تسليم صحته لا يتم به المطلوب من النسخ لوجوه ذكرها الشوكاني في النيل، وسنورد بعضها في شرح حديث ابن عباس وعائشة. ووجه النسخ بعضهم بأن ابن عمر وابن عباس من رواة حديث القطع وقد حكما بعدم قطع شيء وهو من أمارات النسخ. وفيه أن عمل الراوي خلاف ما رواه لا يدل على نسخ مروية على ما هو الحق في ذلك. وقال العلامة الشيخ أحمد في تعليقه على الترمذي (ج2:ص164) : والصحيح الذي أرضاه وأختاره أن أحاديث القطع منسوخة بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" الذي رواه أبوداود، وقد ضعفه ابن حزم في المحلى (ج4:ص13) بأن أبا الوداك ومجالدا ضعيفان. وأبوالوداك هو جبر بن نوف البكالي، وهو ثقة، وثقة ابن معين، وابن حبان. واختلف فيه قول النسائي، فمرة قال "صالح" ومرة قال "ليس بالقوي" ومثل هذا لا يطلق عليه الحكم بالضعف. وقد أخرج له مسلم في الصحيح. ومجالد هو ابن سعيد الهمداني الكوفي ضعفه أحمد وغيره. وقال يعقوب بن سفيان: تكلم الناس فيه وهو صدوق. وقال البخاري: صدوق، وأخرج له مسلم مقرونا بغيره، ومثله أيضاً لا يطرح حديثه، وقد ورد أيضاً عن أبي أمامة مرفوعاًرواه الطبراني في الكبير. قال في مجمع الزوائد: إسناده حسن. قال: وقد حققت ترجيح النسخ في تعليقي على المحلى لابن حزم (ج4:ص15، 14) وقلت: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يقطع الصلاة شيء" فيه إشارة إلى أنه كان معروفا عند السامعين قطعها بأشياء من هذا النوع بل هو يكاد يكون كالصريح فيه لمن تأمل وفكر في معنى الحديث. ثم قد ورد ما يؤيد هذا، فروى الدارقطني (ص141، 140) والبيهقي (ج2:ص278، 277) من طريق إبراهيم بن منقذ الخولاني، ثنا إدريس بن يحيى أبوعمرو المعروف بالخولاني، عن بكر بن مضر، عن صخر بن عبد الله بن حرملة أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول عن أنس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس فمر بين أيديهم حمار، فقال عياش بن أبي ربيعة: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله. فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من المسبح آنفاً سبحان الله؟ قال: أنا يارسول الله! إني سمعت أن الحمار يقطع الصلاة. قال: لا يقطع الصلاة شيء) . قال: ولم أجد ترجمة لإدريس بن يحيى، وما أظن أحداً ضعفه، ولذلك لما أراد ابن الجوزي أن ينصر مذهبه ضعف الحديث بصخر بن عبد الله فأخطأ جداً، لأنه زعمه صخر بن عبد الله الحاجي المنقري، وهو كوفي متأخر، روى عن مالك والليث، وبقي في حدود سنة (230) وأما الذي في الإسناد، فهو صخر ابن عبد الله بن حرملة المدلجي، وهو حجازي قديم، كان في حدود سنة (130) وهو ثقة. قال: وهذا صريح في(2/495)
رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدلالة على أن الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة بالمرأة، والحمار، والكلب منسوخة، فقد سمع عياش أن الحمار يقطع الصلاة، وعياش من السابقين الذين هاجروا الهجرتين، ثم حبس بمكة. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوا له في القنوت كما ثبت في الصحيحين، فعلم الحكم الأول، ثم غاب عنه نسخة، فأعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة لا يقطعها شيء- انتهى كلامه ملخصا مختصراً. ومال بعضهم إلى الترجيح، فقال: أحاديث الجمهور مثل حديث عائشة، وحديث ابن عباس أقوى وأصح من الأحاديث التي فيها الحكم بالقطع، فالأخذ بالأقوى أولى. قال الشيخ أحمد في تعليقه بعد نقل كلام الشافعي من "اختلاف الحديث" المطبوع بحاشيته كتاب الأم (ج7:ص164، 163) : وكأن الشافعي يريد تضعيف الحديث الذي فيه قطع الصلاة بأنه حديث يخالف أحاديث أثبت منه وأقوى، كأنه يقول شاذ، ولكن القطع ثابت بأحاديث صحيحة من غير وجه، فلا تكون شاذة. واختار بعضهم للترجيح مسلكا آخر، قال: لما اختلفت أحاديث الباب، ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فرجحنا به أحد الجانبين. قال أبوداود في سننه بعد رواية حديث أبي سعيد: إذا تنازع الخبران عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى ما عمل به أصحابه من بعده، يعني وقد ذهب أكثرهم مثل عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وعلى، وعثمان، وحذيفة إلى عدم القطع فليكن هو الراجح. ومال بعضهم إلى التأويل، فقال الخطابي والنووي وغيرهما: المراد بالقطع في حديث أبي ذر نقص الصلاة بشغل القلب بمرور هذه الأشياء عن مراعاة الصلاة، وبعدم القطع في حديث أبي سعيد عدم البطلان، أي: أنه لا يبطلها شيء وإن نقص ثوابها بمرور ما ذكر في حديث أبي ذر وأبي هريرة. قال الحافظ: ويؤيد ذلك أن الصحابي راوى الحديث سأل عن الحكمة في التقييد بالأسود، فأجيب بأنه شيطان. وقد علم أن الشيطان لو مر بين يدى المصلي لم تفسد عليه صلاته. وقال القرطبي: هذا مبالغة في الخوف على قطعها بالشغل بهذه المذكورات، فإن المرأة تفتن، والحمار ينهق، والكلب يخوف، فيشوش المتفكر في ذلك حتى تنقطع عليه الصلاة. فلما كانت هذه الأمور آئلة إلى القطع جعلها قاطعة- انتهى. وفيه ما قال السندي: من أن شغل القلب لا يرتفع بمؤخرة الرحل، إذ المار وراء مؤخرة الحل في شغل القلب قريب من المار في شغل القلب إن لم يكن مؤخرة الرحل فيما يظهر، فالوقاية بمؤخرة الرحل على هذا المعنى غير ظاهر- انتهى. قلت: الراجح عندي أنه لا يقطع الصلاة مرور شيء وإن لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل. وأقرب المسالك في الأحاديث التي فيها الحكم بقطع الصلاة أنها منسوخة بحديث "لا يقطع الصلاة شيء" وإن لم يرتض بذلك النووي. وهذا لأن الجمع بما تأول به الخطابي والنووي لا يخلو عن تكلف وخفاء كما أشار إليه السندي. ولا شك في أن الجميع المذكور خلاف الظاهر. وقد علم تأخر حديث "لا يقطع الصلاة شيء" بما حققه الشيخ في تعليقه على المحلى، وهو تحقيق جيد فهو أحق وأحرى بالقبول، والله أعلم (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وابن ماجه.(2/496)
785- (8) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل وأنا معترضة بينه
وبين القبلة كاعتراض الجنازة)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
785- قوله: (وأنا معترضة بينه وبين القبلة) قال ابن الملك: الاعتراض صيرورة الشيء حائلا بين شيئين، ومعناه ههنا مضطجعة (كاعتراض الجنازة) بفتح الجيم وكسرها. والمراد أنها تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة شماله كما تكون الجنازة بين يدي المصلي عليها. وفي رواية للبخاري: ذكر عند عائشة ما يقطع الصلاة، فقالوا: يقطعها الكلب والحمار، والمرأة، فقالت: لقد جعلتمونا كلابا، وفي رواية: ذكر عندها ما يقطع الصلاة، الكلب والحمار، والمرأة، فقالت شبهتمونا بالحمر والكلاب، والله لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس فأوذي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنسل (أي أمضى وأخرج بتأن وتدريج) من عند رجليه. والحديث استدلت به عائشة والجمهور بعدها على أن المرأة لا تقطع صلاة الرجل لأنها إذا كانت لا تقطع في حالة كونها معترضة مضطجعة- وهذه الحالة أقوى من المرور- ففي المرور بالأولى. وفيه أنه ليس فيما ذكرت مرور امرأة بين يدي المصلى، ومحمل حديث"يقطع الصلاة الكلب" الخ. هو المرور. قال السندي: لا دلالة في حديث عائشة أنها مرت بين يديه، وقال ابن بطال: هذا الحديث وشبهه من الأحاديث التي فيها اعتراض امرأة بين المصلي وقبلته تدل على جواز القعود لا على جواز المرور- انتهى. لا يقال: إن قولها "أنسل" صريح في المرور، فإن الانسلال هو المرور. لأن المرور المتنازع فيه هو أن يمر المار بين يدي المصلي معترضا، لا أن يمشي ذاهبا لجة القبلة أو لجهة الرجلين، ولم يتحقق ههنا إلا المضيء إلى جهة الرجلين كما يدل عليه قولها "فأنسل من عند رجليه" وأما ما قيل: من أن اعتراض المرأة أشد من المرور، فإذا لم يقطع الصلاة الاعتراض لا يقطع المرور أيضاً بالأولى، ففيه أن الظاهر أن حصول التشويش بالمرأة من جهة الحركة والسكون، وعى هذا فمرورها أشد من اعتراضها واضطجاعها وجلوسها. وفي النسائي في هذا الحديث "فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أقوم فأمر بين يديه انسللت انسلالا". فالظاهر أن عائشة إنما أنكرت إطلاق كون المرأة تقطع الصلاة في جميع الحالات لا المرور بخصوصه. وأما إنكار عائشة على من ذكر المرأة مع الكلب والحمار فيما يقطع الصلاة مع أنها روت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "لا يقطع صلاة المسلم إلا الحمار، والكافر، والكلب، والمرأة" فقالت عائشة: يا رسول الله! لقد قرنا بدواب سوء. أخرجه أحمد. فيحتمل أنها نسيت حديث القطع عند الإنكار، ويمكن أن يكون عندها معنى القطع بمرور المرأة فيما روت، وهو قطع الخشوع بمرورها. وأما حديث الاعتراض فذكرته للرد على من قال بقطع الصلاة بالمرأة بمعنى إبطالها بالكلية. وقيل: أنكرت كون الحكم باقيا هكذا فلعلها كانت ترى نسخه. وروى البخاري أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم فيصلي من الليل وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراشه. قال الحافظ: وجه الدلالة من حديث عائشة الذي احتج به ابن شهاب أن حديث "يقطع الصلاة المرأة" إلى(2/497)
متفق عليه.
786- (9) وعن ابن عباس، قال: ((أقبلت راكباً على أتان، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آخره، يشمل ما إذا كانت مارة أو قائمة أو قاعدة أو مضطجعة، فلما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى وهي مضطجعة أمامه دل ذلك على نسخ الحكم في المضطجع، وفي الباقي بالقياس عليه (ولما كان ذلك كذلك مع أن النفوس جبلت على الإشغال بها فغيرها من الكلب والحمار كذلك بل أولى) قال: وهذا يتوقف على إثبات المساواة بين الأمور المذكورة، وقد تقدم ما فيه، فلو ثبت أن حديثها متأخر عن حديث أبي ذر لم يدل إلا على نسخ الاضطجاع فقط. وقد نازع بعضهم في الاستلال به مع ذلك من أوجه أخرى، أحدها: أن العلة في قطع الصلاة فيها ما يحصل من التشويش، وقد قالت "إن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصابيح" فانتفى المعلول بانتفاء علته. ثانيها: أن المرأة في حديث أبي ذر مطلقة، وفي حديث عائشة مقيدة بكونها زوجته، فقد يحمل المطلق على المقيد ويقال يتقيد القطع بالأجنبية لخشية الافتتان بها بخلاف الزوجة، فإنها حاصلة. ثالثها أن حديث عائشة واقعة حال يتطرق الاحتمال بخلاف حديث أبي ذر فإنه مسوق مساق التشريع العام. وقال بعض النابلة: يعارض حديث أبي ذر وما وافقه أحاديث صحيحة غير صريحة، وصريحة غير صحيحة، فلا يترك العمل بحديث أبي ذر الصريح بالمحتمل، يعني حديث عائشة وما وافقه. والفرق بين المار وبين النائم في القبلة أن المرور حرام بخلاف الاستقرار نائما كان أم غيره، فهكذا المرأة يقطع مرورها لا لبثها- انتهى. ومن وجوه المنازعة أيضاً ما قيل: إنه يحمل على أن ذلك وقع في غير حالة الحيض، والحكم بقطع المرأة للصلاة إنما هو إذا كانت حائضا كما تقدم (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود، والنسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة.
786- قوله: (على أتان) متعلق بقوله "راكباً" وأتان- بفتح الهمزة، وبالمثناه الفوقية، وفي آخره نون، وشد كسر الهمزة كما حكاه الصغاني، وهي الأنثى من الحمير، ولا يقال "أتانة" والحمار يطلق على الذكر والأنثى. وفي بعض طرق البخاري عل حمار أتان- بالتنوين فيهما- على أن قوله "أتان" صفة للحمار، أو بدل منه بدل بعض من كل، لأن الحمار يطلق على الجنس فيشمل الذكر والأنثى، أو بدل كل من كل نحو شجرة زيتونة، وروى بالإضافة، أي: حمار أنثى كفحل أتن (وأنا يومئذ) الواو للحال، وأنا مبتدأ وخبره قوله (قد ناهزت الاحتلام) أي: قاربت، يقال: ناهز الصبي البلوغ إذا قاربه وداناه. قال صاحب الأفعال: ناهز الصبي الفطام دنا منه، ونهز الشيء أي: قرب. والمراد بالاحتلام البلوغ الشرعي، وهو مشتق من الحلم بالضم. وقد أخرج البزار بإسناد صحيح أن هذه القصة كانت في حجة الوداع، ففيه دليل على أن ابن عباس كان في حجة الوداع دون البلوغ. وقد اختلف في سنه حين توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقيل: ثلاث عشرة، ويدل له قولهم "إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين". وقيل: كان عمره عشر سنين وهو ضعيف، وقيل:(2/498)
يصلي بالناس بمنأ إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك على أحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خمس عشرة. قال أحمد: إنه الصواب (بمنأ) مذكر مصروف إن قلت علم للمكان، وغير منصرف إن قلت علم للبقعة. قال النووي: فيه لغتان الصرف والمنع، ولهذا يكتب بالألف والياء، والأجود صرفها وكتابتها بالألف، سميت بها لما يمنى بها من الدماء أي: تراق (إلى غير جدار) في محل النصب على الحال، والتقدير يضلى متوجها إلى غير جدار، يعني إلى غير سترة، نقله البيهقي عن الشافعي، وبوب عليه "باب من صلى إلى غير سترة" ويؤيده رواية البزار بلفظ "والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة، ليس شيء يستره" لكن البخاري بوب على حديث ابن عباس هذا "باب سترة الإمام سترة لمن خلفه" وهذا مصير منه إلى أن الحديث محمول على أنه كان هناك سترة. قال الحافظ: كأن البخاري حمل الأمر في ذلك على المألوف المعروف من عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يصلي في الفضاء إلا والعنزة أمامه. ثم أيد ذلك بحديثي ابن عمر وأبي جحيفة، (يعني المذكورين أول الباب) وأوردهما عقيب حديث ابن عباس هذا. وقال العيني: استنبط البخاري ذلك من قوله "إلى غير جدار" لأن لفظ غير يشعر بأن ثمة سترة لأنها تقع دائماً صفة، وتقديره" إلى شيء غير جدار" وهو أعم من أن يكون عصا أو عنزة أو غير ذلك- انتهى. قلت: حمل البخاري لفظ الغير على النعت، والبيهقي على النفي المحض، وما اختاره البخاري هنا أولى، فإن التعرض لنفى الجدار خاصة يدل على أنه كان هناك شيء مغاير للجدار، لأنه إذا لم يكن هناك جدار ولا غيره لم يكن في التعرض لنفى الجدار خاصة فائدة. وقال الطيبي: فإن قلت: قوله "إلى غير جدار" لا ينفي شيئاً فكيف فسره (الشافعي) بالسترة، قات: إخبار ابن عباس عن مروره بالقوم، وعن عدم جدار مع أنهم لم ينكروا عليه وأنه مظنة إنكار، يدل على حدوث أمر لم يعهد قبل ذلك من كون المرور مع عدم السترة غير منكر، فلو فرض سترة أخرى لم يكن لهذا الإخبار فائدة، إذ مروره حينئذٍ لا ينكره أحد أصلا- انتهى. قال القاري: يمكن إفادته أن سترة الإمام سترة للقوم كما فهم البخاري- انتهى. وأما رواية البزار التي فيها "ليس شيء يستره" فليس المراد فيها نفي السترة مطلقاً، بل أراد نفى السترة التي تحول بينهم وبينه كالجدار المرتفع الذي يمنع الرؤية وقد صرح بمثل هذا العراقي (فمررت) أي: راكبا (بين يدي بعض الصف) هو مجاز عن القدام لأن الصف لا يد له. والمراد الصف الأول، ففي البخاري في الحج "حتى سرت بين يدي بعض الصف الأول" (ترتع) بمثناتين فوقيتين مفتوحتين وضم العين، أي: تأكل ما تشاء، من رتعت الماشية ترتع رتوعا. وقيل تسرع في المشي (فلم ينكر) على صيغة المعلوم (ذلك) أي: مشية بأتانه وبنفسه بين يدي بعض الصف (على أحد) أي: لا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره ممن كانوا معه، لا في الصلاة ولا في بعدها. قال ابن دقيق العيد: استدل ابن عباس بترك الإنكار على الجواز، ولم يستدل بترك إعادتهم للصلاة، لأن ترك الإنكار أكثر فائدة. قال الحافظ: وتوجيهه أن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور، وترك الإنكار يدل على جواز المرور وصحة الصلاة معا. ويستفاد منه أن ترك الإنكار حجة على الجواز بشرطه، وهو انتفاء الموانع من الإنكار وثبوت العلم بالإطلاع على الفعل. ولا يقال:(2/499)
متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا يلزم مما ذكره إطلاع النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك لاحتمال أن يكون الصف حائلاً دون رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - له، لأنا نقول قد تقدم أي: في البخاري "أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى في الصلاة من ورائه كما يرى من أمامه". وتقدم أنه مر بين يدي بعض الصف الأول، فلم يكن هناك حائل دون الرؤية، ولو لم يرو شيء من ذلك لكان توفر دواعيهم على سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عما يحدث لهم كافيا في الدلالة على إطلاعه على ذلك. واستدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وأنه ناسخ للحديث الذي فيه الحكم بقطع الصلاة لكون هذه القصة في حجة الوداع. وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك لما تقدم أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت إلى سترة، وقد تقرر أن سترة الإمام سترة للقوم، فلا يتحقق المرور المضر في حق الإمام والقوم إلا إذا مرت بين يدي الإمام ما بينه وبين السترة، ولا دلالة لحديث ابن عباس على ذلك، قاله السندي. وقال ابن العربي: يحتمل أنه لم تقطع عليهم لأن الصلاة لا يقطعها شيء، ويحتمل أن تكون لم تقطع صلاة الإمام وسترته سترة لهم، وإذا مر ما يقطع الصلاة من وراء السترة لم يبال به بلا خلاف. ولا حجة بهذا الحديث بحال- انتهى. قلت: لا شك أن الحديث ليس حجة لمن قال بعدم القطع، لأنه صريح في أن الأتان مرت بين يدي الصف فلم تدخل بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين سترته فلم تقطع صلاته، وسترة الإمام سترة لمن خلفه. وقيل: منع المرور مختص بالإمام والمنفرد، ويختص منه حكم المأموم. قال ابن عبد البر: حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه". قال: فحديث أبي سعيد هذا يحمل على الإمام والمنفرد. فأما المأموم فلا يضره من بين يديه لحديث ابن عباس هذا. قال: والمرور بين يدي المصلي مكروه إذا كان إماماً أو منفردا. وأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه كما أن الإمام أو المنفرد لا يضر واحدا منهما ما مر من وراء سترته لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه. وقد قيل: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه- انتهى. ويظهر أثر هذا الخلاف فيما لو مر بين يدي الإمام أحد فعلى قول من يقول: إن سترة الإمام سترة من خلفه يضر صلاته وصلاتهم معا. وعلى قول من يقول: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه يضر صلاته ولا يضر صلاتهم. وقيل: إن حكم منع المرور يستثنى منه ضرورة، فقد بوب على حديث ابن عباس هذا مالك في الموطأ بلفظ "الرخصة في المرور بين يدي المصلي" وعقد عليه الشاه ولي الله الدهلوي في المصفى "باب الرخصة في المرور بين يدي الصف إذا أقيمت الصلاة" وقال مالك بعد ذكر حديث ابن عباس: وأنا أرى ذلك واسعا إذا أقيمت الصلاة، وبعد أن يحرم الإمام، ولم يجد المرأ مدخلا إلى المسجد إلا بين الصفوف. قال ابن عبد البر: هذا مع الترجمة يقتضي أن الرخصة عنده لمن لم يجد من ذلك بدا. وغيره لا يرى بذلك بأسا للآثار الدالة على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه- انتهى. قلت: واستنبط بعضهم من الحديث نظرا إلى ما قاله مالك جواز تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة، أي: احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح منها، فإن المرور أمام المصلين مفسدة خفيفة. والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار (متفق عليه) وهذا لفظ البخاري، قاله ميرك. والحديث أخرجه البخاري في(2/500)
{الفصل الثاني}
787- (10) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً. فإن لم يجد؛ فلينصب عصاه. فإن لم يكن معه عصاً؛ فليخطط خطاً، ثم لا يضره ما مر أمامه)) . رواه أبو داود وابن ماجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العلم، وفي الصلاة، وفي الحج، وفي المغازي، ومسلم في الصلاة، وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم.
787- قوله: (إذا صلى أحدكم) أي: أراد الصلاة (فليجعل تلقآء وجهه) أي: حذائه لكن إلى أحد حاجبيه لا بين عينيه (شيئاً) فيه أن السترة لا تختص بنوع بل كل شيء ينصبه المصلي تلقآء وجهه يحصل به الامتثال. قال سفيان بن عيينة: رأيت شريكاً صلى بنا في جنازة العصر فوضع قلنسوته بين يديه يعني في فريضة حضرت. أخرجه أبوداود (فإن لم يجد) أي: شيئاً منصوبا (فلينصب) بكسر الصاد أي: يرفع أو يقيم (عصاً) ظاهره عدم الفرق بين الرقيقة والغليظة. ويدل على ذلك قوله "ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم" وقوله "يجزىء من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو برقة شعرة" أخرجه الحاكم. وقال على شرطهما (فإن لم يكن معه عصاً) هذا لفظ أبي داود، ولفظ ابن ماجه فإن لم يجد (فليخطط) بضم الطاء، وفي ابن ماجه فليخط (خطاً) حتى يبين فصلاً فلا يتخطى المار. واختلف في صفته فاختار أحمد أن يكون عرضاً مثل الهلال، أي: مقوسا كالمحراب فيصلي إليه كما يصلي في المحراب. وقيل يمد طولاً إلى جهة الكعبة، أي: يكون مستقيماً من بين يديه إلى القبلة. وقيل: يمد يميناً وشمالاً أي: من غير تقويس، والأول أولى (ثم لا يضره) أي: بعد استتاره. وفيه ما يدل أنه يضره إذا لم يفعل إما بنقصان من صلاته أو بإبطالها على ما ذكر أنه يقطع الصلاة، إذ في المراد بالقطع الخلاف كما تقدم. وهذا إذا كان المصلي إماماً أو منفرداً، لا إذا كان مؤتماً، فإن الإمام سترة له أو سترته سترة له كما سبق آنفاً (ما مر أمامه) أي: أمام سترته. والحديث دليل على جواز الاقتصار على الخط. وإليه ذهب أحمد وغيره، فجعلوا الخط عند العجز عن السترة سترة. واختلف فيه قول الشافعي فروى عنه استحبابه، وروى عنه عدم ذلك. وقال جمهور أصحابه: باستحبابه. وقال ابن الهمام: وأما الخط فقد اختلفوا فيه حسب اختلافهم في الوضع إذا لم يكن معه ما يغرزه أو يضعه. فالمانع يقول: لا يحصل المقصود به إذ لا يظهر من بعيد. والمجيز يقول: ورد الأثر به. واختار صاحب الهداية الأول. والسنة أولى بالإتباع من أنه يظهر في الجملة، إذ المقصود جمع الخاطر بربط الخيال به كيلا ينتشر – انتهى. (رواه أبوداود وابن ماجه) واللفظ لأبي داود. وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي وصححه أحمد وابن المديني فيما نقله ابن عبد البر في الاستذكار. وأشار إلى ضعفه سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي(2/501)
788- (11) وعن سهل بن أبي حثمة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته)) . رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وغيرهم. قال الحافظ: وأورده ابن الصلاح مثالاً للمضطرب، ونوزع في ذلك. قال في بلوغ المرام: ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو حسن. وقال البيهقي: لا بأس به في مثل هذا الحكم إن شاء الله تعالى.
788- قوله: (وعن سهل بن أبي حثمة) بفتح الحاء المهملة ثم مثلثة، واسمه عبد الله، وقيل عامر. وقيل: هو سهل بن عبد الله بن أبي حثمة عامر بن ساعدة بن عامر الأنصاري الخزرجي المدني، صحابي صغير، ولد سنة (3) من الهجرة. واتفق الأئمة على أنه كان ابن ثمان سنين أو نحوها عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، منهم ابن مندة وابن حبان وابن السكن والحاكم أبوأحمد وأبوجعفر الطبري. قال الواقدي: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين، ولكنه حفظ عنه فروى وأتقن. قال الذهبي: أظنه مات زمن معاوية وجزم الطبري أن الذي مات في خلافة معاوية هو أبوه أبوحثمة، وقال المصنف: سكن الكوفة. وعداده في أهل المدينة، وبها كانت وفاته في زمن مصعب بن الزبير. روى عنه جماعة. له خمسة وعشرون حديثاً، اتفقا على ثلاثة (إلى سترة) أي: متوجهاً إليها ومستقبلاً لها (فليدن) أمر من الدنو بمعنى القرب (منها) أي: من السترة. وفيه مشروعية الدنو من السترة حتى يكون مقدار ما بينهما ثلاثة أذرع، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلي في الكعبة جعل بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من ثلاثة أذرع. قال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف (لا يقطع الشيطان) بالجزم جواب الأمر، ثم حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، قاله القاري. وقال السندي: جملة مستأنفة بمنزلة التعليل، أي: لئلا يقطع الشيطان بأن يحمل على المرور من يقطع عليه صلاته حقيقة عند قوم كالمرأة والحمار والكلب الأسود، وخشوعا عند آخرين (أي بإلقاء الوساوس والخواطر) ويحتمل أن المراد بالشيطان هو الكلب الأسود، فقد جاء في الحديث أنه شيطان – انتهى. وقال ابن حجر: استفيد من الحديث أن السترة تمنع استيلاء الشيطان على المصلي وتمكنه من قلبه بالوسوسة، إما كلا أو بعضا بحسب صدق المصلي وإقباله في صلاته على الله تعالى، وأن عدمها يمكن الشيطان من إزلاله عما هو بصدده من الخشوع والخضوع، وتدبره بالقراءة والذكر- انتهى (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4: ص2) والنسائي، والحاكم (ج1:ص252، 251) كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، فقال: على شرطهما. وقال أبوداود: اختلف في إسناده. وقد بين الاختلاف فيه بقوله: ورواه واقد بن محمد، عن صفوان، عن محمد بن سهل، عن أبيه، أو عن محمد بن سهل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال بعضهم: عن نافع بن جبير، عن سهل بن سعد- انتهى. ولا يضر هذا الاختلاف، لأن الطريق الأول- أي: طريق سفيان بن عيينة- أرجح وأقوى من طريق واقد بن محمد(2/502)
789- (12) وعن المقداد بن الأسود، قال: ((ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى عود، ولا عمود، ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمداً)) . رواه أبوداود.
790- (13) وعن الفضل بن عباس، قال: ((أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا ظاهر. واعلم أن ما وقع في رواية أبي داود في بيان الاختلاف مخالف لما ذكره الحافظ في الإصابة (ج3:ص514) حيث قال في القسم الرابع من حرف الميم: محمد بن سهل بن أبي حثمة الأنصاري المدني، قال أبوموسى في الذيل: ذكره بعض الحفاظ، ثم أخرج من طريق شعبة، وعن واقد بن محمد، سمعت صفوان بن سليم يحدث، عن محمد ابن سهل بن أبي حثمة، أو عن سهل بن أبي حثمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في سترة المصلي. قال الحافظ: هو مرسل أو منقطع، لأنه إن كان المحفوظ محمد بن سهل فهو مرسل، لأنه تابعي لم يولد إلا بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات كان سن سهل بن أبي حثمة ثمان سنين، وإن كان عن سهل فهو منقطع، لأن صفوان لم يسمع من سهل- انتهى. فليتأمل. وفي الباب عن أبي سعيد أخرجه أبوداود وابن ماجه، وعن جبير بن مطعم أخرجه البزار والطبراني في الكبير، وعن بريدة أخرجه البزار، وعن سهل بن سعد أخرجه الطبراني في الكبير.
789- قوله: (إلى عود) كالعصا أو العنزة، أو الحربة أو مؤخرة الرحل، وهو واحد العيدان (ولا عمود) كالأسطوانة (ولا شجرة) أي: فيجعله سترة (إلا جعله) أي: العود، أو العمود، أو الشجرة (على حاجبه) أي: جانبه (الأيمن أو الأيسر) فيه استحباب أن تكون السترة على جهة اليمين أو اليسار. قال ابن حجر: وفي رواية للنسائي "إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية، أو إلى شيء فلا يجعله بين عينيه، وليجعله على حاجبه الأيسر" وقد يؤخذ منه أن الأيسر أولى من الأيمن. ويوجه بأنه مانع للشيطان الذي هو على الأيسر، كذا في المرقاة (ولا يصمد) بضم الميم من باب نصر (له صمدا) الصمد القصد، يقال: أصمد صمد فلان، أي: أقصد قصده، يريد أنه لا يقصده قصدا مستويا يستقبله بحيث يجعله تلقاء وجهه ما بين عينيه حذرا عن التشبه بعبادة الأصنام (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد. والحديث سكت عنه أبوداود. وقال المنذري في سنده أبوعبيدة الوليد بن كامل البجلي الشامي، وفيه مقال. قلت: وثقه النسائي وقال أبوحاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال البخاري: عنده عجائب. قال الأزدي: ضعيف. وقال ابن القطان: لا تثبت عدالته. وقال الحافظ في التقريب: لين الحديث.
790- قوله: (وعن الفضل بن عباس) بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي المدني ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمه أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية. أردفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، وحضر غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أكبر ولد العباس. وكان وسيما جميلا، وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فيمن ثبت، وخرج إلى الشام مجاهدا، فقيل مات بناحية الأردن بطاعون عمواس سنة (18) وقيل: استشهد يوم اليرموك. وقيل: بدمشق، وعليه درع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك(2/503)
ونحن في بادية لنا، ومعه عباس، فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه، فما بالي بذلك)) . رواه أبوداود. وللنسائي نحوه.
791- (14) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقطع الصلاة شيء،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في خلافة عمر. له أربعة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديثين (ونحن) حال من المفعول (في بادية لنا) في القاموس: البدو والبادية والبداوة خلاف الحضر (ومعه عباس) بن عبد المطلب عم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والجملة حال من الفاعل (ليس بين يديه سترة) لأنه لم يكن هنا مظنة المرور. وفيه دليل على أن اتخاذ السترة غير واجب، فيكون قرينة لصرف الأوامر إلى الندب. قال ابن العربي في عارضة الأحوذى: اختلف العلماء في وضع السترة على ثلاثة أقوال، الأول: إنه واجب، وإن لم يجد وضع خطا. قاله أحمد وغيره. والثاني: أنها متسحبة، قاله الشافعي وأبوحنيفة ومالك في العتبية. وفي المدونة قولان: تركها، هذا إذا كان في موضع يؤمن المرور فيه، فإن كان في موضع لا يؤمن ذلك تأكد عند علمائنا وضع السترة-انتهى (وحمارة) بالتاء وهي لغة قليلة، والأفصح حمار بلا تاء للذكر والأنثى. وقال في المفاتيح: التاء في حمارة وكلبة للإراد، كما في تمر وتمرة. ويجوز أن تكون للتأنيث. قال الجوهري: وربما قالوا: حمارة، والأكثر أن يقال للأنثى أتان (تعبثان) أي: تلعبان (بين يديه) أي: قدامه (فما بالي بذلك) من المبالاة أي: ما اكترث به وما اعتده قاطعا. والحديث قد استدل به على أن الكلب والحمار لا يقطعان الصلاة. وتعقب بأنه ليس فيه نعت الكلبة بكونه سوداء. قال الخطابي، والمذري، والشوكاني، والسندي: لم يذكر فيه نعت الكلب. وقد يجوز أن يكون الكلب ليس بأسود-انتهى. على أن في سنده مقالا كما ستعرف، ولو سلم صحته فهو لا يقاوم أحاديث القطع فإنها أصح وأرجح وأقوى (رواه أبوداود) أي: بهذا اللفظ وسكت عنه (وللنسائي نحوه) ولفظه عن الفضل بن عباس قال: زار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عباس في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة ترعى، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر وهما بين يديه، فلم يزجرا ولم يؤخرا. وأخرجه أيضاً أحمد بهذا اللفظ. وأخرجه الطحاوي بمعناه. قال المنذري في مختصر السنن: ذكر بعضهم أن في إسناده مقالا. قلت في سند الحديث عباس بن عبيد الله بن عباس الهاشمي وهو مقبول، لكنه لم يدرك عمه الفضل، فالحديث منقطع. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج5:ص123) : ذكره ابن حبان في الثقات. روى له أبوداود، والنسائي حديثاً واحدا في الصلاة. قلت أعله ابن حزم بالانقطاع. قال: لأن عباسا لم يدرك عمه الفضل وهو كما قال-انتهى بلفظ. وأخرج أحمد وأبويعلى عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في فضاء ليس بين يديه شئ. قال الهيثمي: وفيه الحجاج بن أرطاة وفيه ضعف.
791- قوله: (لا يقطع الصلاة شيء) أي: مرور شيء بين يدي المصلى ولو بلا سترة وإلا فكم من شيء يقطعها. وقيل: يحتمل أن يراد بشيء الدفع، أي: لا يبطل الصلاة شيء من الدفع، فادفعوا المار بقدر استطاعتكم. وحذف المار لدلالة السياق(2/504)
وادرؤا ما استطعتم، فإنما هو شيطان)) رواه أبوداود.
{الفصل الثالث}
792- (15) عن عائشة، قالت: ((كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته. فإذا سجد غمزني، فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما. قال: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح)) . متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه. وقيل: المراد لا يقطعها شيء من فعل غير المصلى، وفيه أن غير المصلى مثل المصلى إذا فعل معه ما أبطل عليه استقبال القبلة أو ما نقض عليه الوضوء كإخراج الدم عند القائل بنقض الوضوء به، أو مس المرأة عند القائل به، أو ما حصل به نجاسة ثوبه عند القائل ببطلان الصلاة به، لكان ذلك الفعل من غير المصلى قاطعا للصلاة على المصلى (وادرؤا) أي: ادفعوا المار (فإنما هو) أي: المار (شيطان) قد تقدم أن الراجح أن أحاديث القطع بالمرأة، والحمار، والكلب منسوخة بهذا الحديث وقد سبق تقرير ذلك فتذكر (رواه أبوداود) وسكت عنه، وضعفه ابن حزم في المحلي (ج4:ص13) كما تقدم وتضعيفه مردود عليه. وقال المنذري: في إسناده مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، وقد تكلم فيه غير واحد. وأخرج له مسلم حديثاً مقرونا بجماعة من أصحاب الشعبي-انتهى. قلت: قال يعقوب بن سفيان والبخاري: هو صدوق.
793- قوله: (ورجلاي) الواو للحال (في قبلته) أي: في موضع سجوده (فإذا سجد) أي: أراد السجود (غمزني) الغمز هو العصر والكبس باليد، وغمزني جواب إذا. وفيه إشارة إلى أن مس المرأة غير ناقض الوضوء، والأفضل عدم الحائل (فقبضت) عطفا على قوله غمزني (رجلي) بفتح اللام وتشديد الياء. قال الحافظ: كذا بالتثنية للأكثر وكذا في قوله "بسطتهما" وللمستملي والحموى "رجلي" بكسر اللام بالإفراد. وكذا بسطتها (قالت) أي: عائشة معتذرة عن نومها على هذه الهيئة (والبيوت يومئذ) أي: حينئذٍ أو وقتئذ (ليس فيها مصابيح) أي: إذ لو كانت لقبضت رجليها عند إرادته السجود ولما أحوجته للغمز. والمعنى: ما كنت أدرى وقت سجوده لعدم المصابيح، وإلا لما احتاج - صلى الله عليه وسلم - إلى الغمز كل مرة، بل أنا ضممت رجلي إلى وقت السجود. وفي الحديث أن العمل اليسير في الصلاة غير قادح. وفيه جواز الصلاة إلى النائم من غير كراهة. وذهب مالك وغيره إلى كراهة الصلاة إلى النائم خشية ما يبدو منه مما يلهى المصلى عن صلاته. واستدلوا بحديث ابن عباس عند أبي داود وابن ماجه بلفظ "لا تصلوا خلف النائم والمتحدث" وقد قال أبوداود: طرقه كلها واهية. وفي الباب عن أبي هريرة عند الطبراني، وعن ابن عمر عند ابن عدي، وهما واهيان. والحديث قد استدل به على أن المرأة لا تقطع الصلاة، وأنه ناسخ لأحاديث القطع، وقد قدمنا ما في هذا الاستدلال من الكلام والنظر فتذكر (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود في الصلاة، والنسائي في الطهارة.(2/505)
793- (16) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يدى أخيه معترضا في الصلاة، كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطا)) . رواه ابن ماجه.
794- (17) وعن كعب الأحبار،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
793- قوله: (ماله) أي: من الإثم فحذف البيان ليدل الإبهام على ما لا يقادر قدره من الإثم، قاله الطيبي (في أن يمر) أي: بسبب مروه (بين يدى أخيه) ذكر لمزيد التلطف بالمار حتى ينكف عن مروره، إذ من شأن الأخ أن لا يؤذى أخاه بنوع من أنواع الأذى وإن قل (معترضاً) أي: حال كون المار معترضاً محل سجود (في الصلاة) حال من أخيه (كان لأن يقيم مائة عام خير له) بالرفع، قال الطيبي: اسم كان ضمير عائد إلى "أحدكم" أو ضمير الشأن، والجملة خبر كان، واللام لام الابتداء المقارنة بالمبتدأ المؤكدة لمضمون الجملة، أو التي يتلقى بها القسم وهو أقرب، وقيل: اللام هي الداخلة على جواب "لو" أخرت عن محلها-وهو كان- إلى خبرها- وهو إقامة مائة عام- ولهذا التقدير المقتضي لكونه أو غل في التعريف كان الأصل أنه الاسم و"خير" هو الخبر، لكنهما عكساً إبهاما على السامع ليظهر جودة فهمه وذكائه. وقد جرى على الأصل في الأمرين في الخبر الذي عقب هذا، فأدخل اللام على كان، وجعل المصدر المسبوك من أن والفعل هو الاسم و"خيرا" هو الخبر وتجوز زيادة كان هنا، كذا في المرقاة (من الخطوة التي خطا) وفي ابن ماجه "خطاها" بزيادة ضمير المؤنث المنصوب، والخطوة-بالضم وتفتح- ما بين القدمين وبالفتح المرة (رواه ابن ماجه) من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن موهب، عن عمه، عن أبي هريرة، قال في الزوائد: في إسناد مقال لأن عم عبيد الله بن عبد الرحمن، اسمه عبيد الله بن عبد الله بن موهب. قال أحمد ابن حنبل: أحاديثه مناكير، ولكن ابن حبان خص ضعف أحاديثه بما إذا روى عنه ابنه-انتهى. قلت: عبيد الله بن عبد الله هذا قال فيه أحمد: لا يعرف، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال: روى عنه ابنه يحيى، ويحيى لا شيء، وأبوه ثقة. وإنما وقعت المناكير في حديثه من قبل ابنه. وقال الشافعي: لا نعرفه. وقال ابن القطان الفاسي: مجهول الحال -انتهى. وقال الحافظ في التقريب: مقبول. وأما عبيد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله فضعفه ابن عيينة وابن معين في رواية الدوري. وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه العجلي وابن معين في رواية إسحاق بن منصور. وقال أبوحاتم: صالح. وقال ابن عدي: حسن الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، كذا في تهذيب التهذيب (ج7:ص29) فالظاهر أن الحديث لا ينحط عن درجة الحسن. وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان، وابن خزيمة في صحيحهما.
794- قوله: (كعب الأحبار) بالإضافة جمع حبر-بالفتح، وبكسر- وهو العالم. قال في القاموس: كعب الحبر وبكسر، ولا تقل الأحبار-انتهى. قال الزرقاني: قول المجد "لا تقل الأحبار" فيه نظر، فقد اثبته غير واحد، ويكفي قول مثل أبي هريرة إذ قال: كعب الأحبار-انتهى. وقال الطيبي: الأحبار جمع حبر-بالفتح والكسر والإضافة-(2/506)
قال: لو يعلم المسار بين يدي المصلى ما عليه؛ لكان أن يخسف به خيراً له من أن يمر بين يديه. وفي رواية: أهون عليه)) . رواه مالك
795- (18) وعن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا صلى أحدكم إلى غير السترة، فإنه يقطع صلاته الحمار، والخنزير، واليهودي، والمجوسي، والمرأة. وتجزئ عنه إذا مروا بين يديه على قذفة بحجر)) رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما في زيد الخيل-انتهى (قال) يحتمل أن يكون أخذه من الكتب السابقة لأنه خبرها، قاله الزرقاني (لكان أن يخسف) بصيغة المجهول (به) أي: بالمار في الأرض (خيراً له) بالنصب، قال الطيبي: المذكور في الحديثين ليس جواب "لو" بل هو دال على ما هو جوابها والتقدير"لو يعلم المار ما عليه من الإثم لأقام مائة عام، وكانت الإقامة خيراً له" وفي الثاني "لو يعلم ماذا عليه من الإثم لتمنى الخسف، وكان الخسف خيراً له" (وفي رواية) أي: لمالك هذا هو الظاهر، لكن الموجود في نسخ الموطأ الموجودة الحاضرة هو "خيرا له" لا قوله "أهون عليه" والظاهر أن المصنف نسب الرواية الثانية للمؤطا تبعا للجزري حيث قال بعد ذكر الرواية الأولى: وفي رواية "أهون عليه" أخرجه في الموطأ (أهون عليه) أي: على المصلى، لأن عذاب الآخرة أشد وأصعب وأبقى من عذاب الدنيا (رواه مالك) أي: في مؤطاه عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار "أن كعب الأحبار" الخ.
795- قوله: (إلى غير السترة) كذا في نسخ المشكاة، وفي أبي داود "إلى غير سترة" أي: بغير اللام (الحمار) وفي أبي داود "الكلب والحمار" أي: بزيادة الكلب قبل الحمار. والظاهر أن سقوط لفظ الكلب من النساخ (وتجزئ) بالهمزة من الإجزاء، وبالتأنيث في أكثر النسخ، أي: تجزئ الصلاة بلا سترة على المصلى، قاله القاري. وفي بعض النسخ "يجزئ" بالياء، وكذا وقع في أبي داود، أي: يكفي عن المصلى أي: في عدم قطع الصلاة (إذا مروا) أي: وإن لم يكن سترة (بين يديه على قذفه) بالفتح أي: رمية (بحجر) أي: لو مروا على بعد هذا المقدار بين يدي المصلى لا يقطع مرورهم صلاته. والحديث دليل على أن قطع الصلاة بالمرور بين يدي المصلي ليس بمخصوص بالكلب، والحمار، والمرأة وأن ذكر هذه الثلاثة في حديثي أي: ذر وأبي هريرة ليس لاختصاص حكم القطع بها، لكن ذكر اليهودي، والمجوسي، والخنزير في هذا الحديث منكر كما سيأتي (رواه أبوداود) عن محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري، عن معاذ بن هشام، عن هشام، الخ. قال أبوداود: في نفسي من هذا الحديث شيء كنت أذاكر به إبراهيم وغيره لم أر أحداً جاء به عن هشام، ولا يعرفه، ولم أر أحداً يحدث به عن هشام، وأحسب الوهم من ابن أبي سمية، والمنكر فيه ذكر المجوسي، وفيه"على قذفة بحجر" وذكر الخنزير، وفيه نكارة. قال أبوداود: ولم أسمع هذا الحديث إلا من محمد بن(2/507)
إسماعيل، وأحسبه وهم، لأنه كان يحدثنا من حفظه-انتهى. وقال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج9:ص60) في ترجمة محمد بن إسماعيل: توقف أبوداود في صحة حديث أخرجه عنه، عن معاذ بن هشام، عن ابيه عن يحيى ابن كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس: يقطع الصلاة الكلب-الحديث. قال أبوداود: لم أسمعه إلا منه. وذاكرت به فلم يعرف - انتهى. قلت: في نسبة الوهم إلى محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة نظر فإنه ثقة. وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث فقال: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا معاذ بن هشام، ثنا أبي، عن يحيى، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أحسبه قد أسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض، والكلب، والحمار، واليهودي، والنصراني، والخنزير. ويكفيك إذا كانوا منك قدر رمية لم يقطعوا عليك صلاتك. فهذا الحديث هو ما رواه أبودود. وليس فيه محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة البصري.
بعون الله وحسن توفيقه تم الجزء الثاني من مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح، ويليه الجز الثالث إن شاء الله تعالى، وأوله "باب صفة الصلاة"(2/508)
(10) باب صفة الصلاة
{الفصل الأول}
796- (1) عن أبي هريرة: ((أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في ناحية المسجد، فصلى، ثم جاء فسلم عليه. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(باب صفة الصلاة) المراد بها جنس صفتها الشاملة للأركان والفرائض والواجبات والسنن والمستحبات. قال ابن الهمام: قيل الصفة والوصف في اللغة واحد، وفي عرف المتكلمين بخلافه، والتحرير أن الوصف ذكر ما في الموصوف من الصفة، والصفة هي ما فيه. ثم المراد هنا بصفة الصلاة الأوصاف النفسية لها، وهي الأجزاء الفعلية الصادقة على الخارجية التي هي أجزاء الهوية من القيام الجزئي والركوع والسجود، كذا في المرقاة.
796- قوله: (إن رجلاً) هو خلاد بن رافع كما بينه ابن أبي شيبة، وهو المشهور بالمسيء في صلاته عند الشراح. (فصلى) أى ركعتين كما للنسائي في حديث رفاعة بن رافع في هذه القصة، وهل كانتا نفلاً أو فرضاً؟ الظاهر الأول، والأقرب أنهما ركعتا تحية المسجد. ووقع عند ابن أبي شيبة في حديث رفاعة هذا: دخل رجل فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها. (فسلم عليه) قال القاري: قدم حق الله على حق رسوله - عليه السلام _ كما هو أدب الزيارة، لأمره - عليه السلام - بذلك لمن سلم عليه قبل صلاة التحية فقال له: ارجع فصل ثم ائت فسلم عليّ. (ارجع فصل) وفي حديث رفاعة الآتي: أعد صلاتك. (فإنك لم تصل) نفي لصحة الصلاة؛ لأنها أقرب لنفي الحقيقة من نفي الكمال، فهو أولى المجازين وأيضاً فلما تعذرت الحقيقة - وهي نفي الذات - وجب صرف النفي إلى سائر صفاتها. قال عياض: فيه أن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزئ. قال الحافظ: وهو مبني على أن المراد بالنفي نفي الإجزاء، وهو الظاهر. ومن حمله(3/1)
على نفي الكمال تمسك بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالإعادة بعد التعليم، فدل على إجزائها وصحتها، وإلا لزم تأخير البيان، كذا قاله بعض المالكية. وفيه نظر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمره في المرة الأخيرة بالإعادة، فسأله التعليم فعلمه، فكأنه قال له: أعد صلاتك على هذه الكيفية - انتهى. وقال القاري: تقريره على صلاته كرات يؤيد كونه نفي الكمال لا الصحة، فإنه يلزم منه أيضاً الأمر بعبادة فاسدة مرات. قلت: أراد القاري أنه لو حمل على نفي الصحة يلزم أنه - صلى الله عليه وسلم - قرره مراراً على أن يصلي صلاة فاسدة، ويلزم منه أيضاً أنه أمر بعبادة فاسدة مرات، بخلاف ما إذا أريد بالنفي نفي الكمال. وفيه نظر؛ لأنه لم يؤذن له في صلاة فاسدة، ولا علم من حاله أنه يأتي بها في المرة الثانية والثالثة فاسدة، بل هو محتمل أن يأتي بها صحيحة، وإنما لم يعلمه أولاً ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة الصحيحة المجزئة، وسيأتي مزيد توضيح لذلك. وقد احتج بعضهم لتوجه النفي إلى الكمال بما وقع عند الترمذي في هذه القصة من حديث رفاعة بلفظ: فعاف الناس وكبر عليهم أن يكون من أخف صلاته لم يصل، حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: إذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك. وكان هذا أهون عليهم من الأول أنه من انتقص من ذلك شيئاً انتقص من صلاته، ولم تذهب كلها. قالوا: والنقص لا يستلزم الفساد، وإلا لزم في ترك المندوبات؛ لأنها تنتقص بها الصلاة. وأيضاً كون هذه المقالة كانت أهون عليهم يدل على أن المراد بالنفي نفي الكمال؛ لأن قوله أولاً: "لم تصل" يوهم نفى الصلاة برأسها، وقوله ثانياً: "إن انتقصت منه شيئا" الخ. يدل على النقصان، وعدم ذهاب الصلاة كلها، ولذا كان أهون عليهم من الأول، لكنهم علموا وفهموا حينما سمعوا قوله الثاني أنه إنما أراد بنفي الصلاة في قوله الأول: "لم تصل" نفي الكمال لا نفي الذات والحقيقة أو الصحة. وأجيب بأن الانتقاص يستلزم الفساد وعدم الصحة؛ لأنا متعبدون بصلاة لا نقصان فيها، فالناقصة فاسدة غير صحيحة، ومن ادعى صحتها وعدم فسادها فعليه البيان. ولا نسلم أن ترك مندوبات الصلاة ومسنوناتها انتقاص منها؛ لأنها أمور خارجة عن ماهية الصلاة، فلا يراد الإلزام بها، وكونها تزيد في الثواب لا يستلزم أنها منها، كما أن الثياب الحسنة تزيد في جمال الذات وليست منها. والحجة في الذي جاءنا عن الشارع من قوله، وفعله، وتقريره، لا في فهم بعض الصحابة. سلمنا أن فهمهم حجة لكونهم أعرف بمقاصد الشرع، لكن لا دليل هنا على أنهم فهموا حين سمعوا قوله الثاني نفي الكمال، وإنما كان قوله الثاني أهون عليهم من جهة أن من أتى ببعض واجبات الصلاة فقد فعل خيراً من قيام وذكر وتلاوة، وإنما يؤمر بالإعادة لدفع عقوبة ما ترك، وترك الواجب سبب للعقاب، فإذا كان يعاقب بسبب ترك البعض يلزمه أن يفعله إن أمكن فعله وحده، وإلا فعله مع غيره، والصلاة لا يمكن فعل المتروك منها إلا بفعل جميعها. وقال ابن تيمية: من قال: إن هذا لنفي الكمال قيل: إن أردت الكمال المستحب، فهذا باطل لوجهين: أحدهما: أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع أنه ينفي عملاً فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه، ثم ينفيه لترك المستحبات، بل الشارع لا ينفي عملاً إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليه. والثاني: لو نفى لترك مستحب لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام، فإن الكمال المستحب متفاوت، إذ كل من لم يكملها كتكميل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال: لا صلاة له- انتهى. واستدل بقوله: "صل فإنك(3/2)
لم تصل" للشافعي وأبي يوسف والجمهور على أن تعديل الأركان والطمأنينة فيها فرض. قالوا: إن قوله هذا صريح في كون التعديل من الأركان بحيث أن فوته يفوت الصلاة، وإلا لم يقل: "لم تصل" فإن من المعلوم أن خلاد بن رافع لم يكن ترك ركناً من الأركان المشهورة، إنما ترك التعديل والاطمئنان كما يدل عليه رواية ابن أبي شيبة، فعلم أن تركه مبطل للصلاة. قلت: الحديث فيه رد صريح على أبي حنيفة ومحمد، فإن المشهور من مذهبهما أن تعديل الأركان ليس بفرض بل هو واجب، واستدل لهما بقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} [77: 22] بأن الركوع والسجود لفظ خاص معناه معلوم، فالركوع هو الانحناء، والسجود هو وضع الجبهة على الأرض، فمطلق الميلان عن الاستواء، ووضع الجبهة على الأرض فرض بالآية المذكورة، وفرضية التعديل الثابتة بقوله - عليه السلام -: "لم تصل" لا يجوز إلحاقها بالقرآن لا على سبيل البيان، ولا على سبيل تغيير إطلاق القرآن. أما الأول فلأن البيان لا يكون إلا للمجمل، ولا إجمال في الركوع والسجود، وأما الثاني فلأن تغير إطلاق القرآن نسخ، وهو لا يجوز بالخبر الواحد، ولما لم يجز إلحاق ما ثبت بهذا الحديث بالثابت بالقرآن في مرتبته ولم يمكن ترك خبر الواحد بالكلية أيضاً فقلنا: ما ثبت بالكتاب- وهو مطلق الركوع والسجود- يكون فرضاً؛ لأنه قطعي، وما ثبت بهذا الخبر الظني الثبوت يكون واجباً مراعاة لمنزلة كل من الكتاب والسنة. ورد هذا الاستدلال بأن النص ليس بمطلق بل مجمل، فإن المراد بالركوع والسجود في الآية المذكورة معناهما الشرعي؛ لأنه قد تقرر أن أمثال هذه الألفاظ في النصوص يجب حملها على معانيها الشرعية إلا أن يمنع مانع، ولا مانع ههنا، ولأن من وضع الجبهة إلى غير القبلة أو على غير الوضوء فهو ساجد لغة، وليست هذه السجدة معتبرة في الشرع. ومعنى الركوع والسجود الشرعي غير معلوم، فهو محتاج إلى البيان، فحديث أبي هريرة وما وافقه بيان لذلك النص المجمل، وبيان الفرض المجمل يجوز بخبر الواحد، أي يكون فرضاً في مرتبة المجمل. قال الشيخ عبد الحليم اللكنوي الحنفي في حاشية نور الأنوار بعد ذكر نحو ما قدمنا من تقرير استدلال الحنفية: ولو سلمنا أن النص مطلق فنقول إن هذا الحديث ليس بخبر الواحد، بل هو حديث مشهور، تلقاه الأمة بالقبول، ورواه أئمة الحديث بأسانيد كثيرة، والزيادة على الكتاب بالخبر المشهور جائزة- انتهى. وقال بعد ذكر حديث أبي هريرة: هذا الحديث دال على أن تعديل الركوع والسجود فرض، والقومة والجلسة ركنان، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفى الصلاة بفواتها. وإن زللت بما قال بعض السابقين، من أن في آخر الحديث المذكور- يعني حديث رفاعة- زيادة تدل على توقف صحة الصلاة عليها، وهو قوله - عليه السلام -: فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك، فسماها- عليه السلام -صلاة، والباطلة ليست بصلاة، وأيضاً وصفها بالنقص، والباطلة إنما توصف بالانعدام، فعلم أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة إنما كان لتقع الصلاة على غير كراهة لا لفساد صلاة ذلك الرجل، ثبتك أن معنى هذه الزيادة: إن فعلت ما بينت من التعديل على الكمال فقد صليت صلاة تامة، وإن نقصت من التعديل شيئاً من النقصان مع بقاء أصل التعديل- كما يدل عليه لفظ نقصت- فقد نقصت من صلاتك بقدر نقصان التعديل. فالإخلال بالتعديل رأساً يوجب الفساد. فإن غلب عليك جنود الوهم بأن القومة والجلسة(3/3)
فرجع فصلى، ثم جاء، فسلم. فقال: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل. فقال في الثالثة- أو في التي بعدها- علمني يا رسول الله!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ليستا بمقصودتين، وإنما شرعتا للفصل بين الركوع والسجود، وبين السجدتين، فلا يكونان ركنين، بل الركن هو المقصود وهو الركوع والسجود، فعارضها بعسكر الفكر بأن هذا رأي في مقابلة النص المذكور فلا يسمع. كذا أفاد بحر العلوم أنار الله برهانه- انتهى كلام الشيخ عبد الحليم اللكنوي. وما نقله عن بعض السابقين قد رده أيضاً العيني بأن للخصم أن يقول: إنما سماه صلاته بحسب زعم المصلي، كما تدل عليه الإضافة، على أنه ورد في بعض الروايات: "وما نقصت شيئاً من ذلك" أي مما ذكر سابقاً، ومنه الركوع والسجود أيضًا، فيلزم أن تسمى ما لا ركوع فيه أو لا سجود فيه أيضاً صلاة بعين التقرير المذكور وإذ ليس فليس- انتهى. وقال بعض الحنفية في الجواب عن حديث أبي هريرة: إن هذا الحديث لا يدل على فرضية التعديل، بل يدل على عدم فرضيته؛ لأنه- عليه السلام - ترك الأعرابي حتى فرغ عن صلاته، ولو كان ما تركه ركناً لفسدت صلاته، فكان المضي يعد ذلك من الأعرابي عبثاً، فلا يحل له - صلى الله عليه وسلم - أن يتركه، فكان تركه دلالة منه أن صلاته جائزة إلا أنه ترك الإكمال فأمره بالإعادة زجراً عن هذه العادة. ورده العيني في البناية بأن للخصم أن يقول: كانت صلاته فاسدة ولذا أمر بالإعادة، وقال له: "لم تصل" وإنما تركه عليه لأنه ربما يهتدي إلى الصلاة الصحيحة، ولم ينكر عليه لأنه كان من أهل البادية كما شهدت به رواية الترمذي بلفظ: "إذ جاء رجل كالبدوي"، ومن المعلوم أن أهل البادية لهم جفاء وغلظ، فلو أمره ابتداء لكان يقع في خاطره شيء، وكان المقام مقام التعليم، وبالجملة لا دلالة لعدم إنكاره - عليه الصلاة والسلام - على صلاته ابتداء، وأمره بالإعادة، على ما ادعوه- انتهى. فإذا عرفت هذا كله ظهر لك أن ما ذهب إليه الجمهور هو الحق. وما ذهب إليه الحنفية ليس لهم عليه دليل صحيح، بل حديث أبي هريرة حجة صريحة عليهم. (فقال في الثالثة أو في التي بعدها) أي في المرتبة الرابعة. وفي رواية فقال في الثانية أو الثالثة، وفي أخرى ثلاثاً أي ثلاث مرات. وهذه الرواية أرجح لعدم الشك فيها. (علمني يا رسول الله) وفي رواية: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني. وتوقف - صلى الله عليه وسلم - في التعليم إلى أن يسأل هو ليكون أوقع عنده، بخلاف ما لو بدأ به، وقيل: أعرض عنه أولاً لأنه أعرض عن السؤال، فكأنه عد نفسه عالماً فعامله زجراً وتأديباً له، وإرشاد إلى أنه كان اللائق به الرجوع إلى السؤال واستكشاف ما استبهم عليه، ولذا لما سأل وقال: لا أحسن، علمه، وبالجملة فليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة بل تأخيره إلى وقت إظهار الحاجة ليكون أنفع. واستشكل تقريره- عليه السلام - على صلاته وهي فاسدة ثلاث مرات على القول بأن النفي للصحة، وأجيب بأنه أراد استدراجه بفعل ما جهله مرات لاحتمال أن يكون فعله ناسياً أو غافلاً، فيتذكر فيفعله من غير تعليم، فليس من باب التقرير على الخطأ بل من باب تحقق الخطأ، ويحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أن الوقت لم يفته فرأى إيقاظ الفطنة للمتروك. وقال ابن دقيق العيد: التقرير(3/4)
فقال: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ليس بدليل على الجواز مطلقاً، بل لا بد من انتفاء الموانع وزيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم لا سيما مع عدم خوف الفوت، إما بناء على ظاهر الحال أو بوحي خاص. (ثم استقبل القبلة) فيه دليل على وجوب استقبال القبلة، وهو إجماع المسلمين إلا في حالة العجز، أو في الخوف عند التحام القتال، أو في صلاة التطوع، وقد دل على وجوبه القرآن والسنة المتواترة. (فكبر) أي تكبيرة الإحرام. وفي رواية الطبراني لحديث رفاعة: ثم يقول"الله أكبر". وهي تبين أن المراد من التكبير خصوص هذا اللفظ، فلا يصح افتتاح الصلاة إلا بلفظ الله أكبر دون غيره من الأذكار، خلافاً لأبي حنيفة فإنه يقول: يجزئ بكل لفظ يدل على التعظيم، وهذا نظر منه إلى المعنى، وأن المقصود التعظيم فيحصل بكل ما دل عليه. والحق ما ذهب إليه مالك وأحمد من تعيين التكبير وتخصيص لفظ الله أكبر. قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث يعين التكبير، ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات، ويكثر ذلك فيها، فالاحتياط فيها إتباع اللفظ. وأيضاً فالخصوص قد يكون مطلوبا أعني خصوص التعظيم بلفظ الله أكبر، وهذا لأن رتب هذه الأذكار مختلفة كما تدل عليه الأحاديث فقد لا يتأدى برتبة ما يقصد من أخرى، ونظيره الركوع، فإنا نفهم أن المقصود منه التعظيم بالخضوع، ولو أقام مقامه خضوعاً آخر لم يكتف به، ويتأيد هذا باستمرار العمل من الأمة على الدخول في الصلاة بهذه اللفظة أعني الله أكبر. (ثم اقرأ بما تيسر) أي لك حال كونه (معك) وقال الأبهرى: الباء للاستعانة أي أوجد القراءة مستعيناً بما تيسر، أو زائدة، ويؤيده رواية البخاري "ما تيسر" بدون الباء (من القرآن) استدل بالحديث على عدم فرضية الفاتحة إذ لو كانت فرضاً لأمره، لأن المقام مقام التعليم فلا يجوز تأخير البيان. وأجيب عنه بأنه قد أمره - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة، ففي حديث رفاعة عند أبي داود: ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ. وعند أحمد وابن حبان: "اقرأ بأم القران ثم اقرأ بما شئت". وقد تقرر أنه يؤخذ بالزائد إذا جمعت طرق الحديث، ويقال: إن الراوي حيث قال ما تيسر ولم يذكر الفاتحة ذهل عنها، لكنه يلزم حينئذٍ إخراج صيغة الأمر عن ظاهرها؛ لأنه لا يجب قراءة ما زاد على الفاتحة. وقيل: قوله: "ما تيسر" عام يخصص بقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، ولا يخفى بعده لأن سياق الكلام يقتضى تيسير الأمر عليه، وإنما يقرب هذا إذا جعلت ما بمعنى الذي، وأريد بها شيء معين، وهو الفاتحة لكثرة حفظ المسلمين لها فهي المتيسرة. وقيل: هو محمول على أنه عرف من حال الرجل أنه لا يحفظ الفاتحة، ومن كان كذلك كان الواجب عليه قراءة ما تيسر، ولا يخفى ضعفه لكنه محتمل، ومع الاحتمال لا يترك الصريح، وهو قوله: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب". وقيل: الحديث لا يصرف ما ورد في غيره من الأدلة المقتضية لفرضية الفاتحة؛ لأنه يؤخذ بالزائد فالزائد من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الخطابي:(3/5)
ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهره الإطلاق والتخيير، والمراد منه فاتحة الكتاب لمن أحسنها لا يجزيه غيرها بدليل قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وهذا في الإطلاق كقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [2: 196] ثم كان أقل ما يجزئ من الهدي معيناً معلوم المقدار ببيان السنة وهو الشاة - انتهى. وقال صاحب فيض الباري (ج2: ص299) : تمسك الحنفية به على عدم ركنية الفاتحة ليس بصحيح، لأن الفاتحة وإن لم تكن ركناً لكنها واجبة عندنا أيضاً، والسياق سياق التعليم، فلو فرضنا أنه لم يعلمه الفاتحة يلزم درج كراهية التحريم في سياق التعليم، ولا يجوز أصلاً مع أنها مذكورة في حديث رفاعة صراحة، وإن كانت مجملة في حديث أبي هريرة. ثم أقول: إن قوله هذا كان لكون الرجل بدوياً أعرابياً لا يدري أنه كان عنده شيء من القرآن أم لا، وحينئذٍ ينبغي أن يكون التعبير هكذا، ولذا قال: وإلا فاحمد الله وكبره، فدل على أنه كان ممن لا يستبعد منه أن لا يكون عنده قرآن أصلاً. وإذا لا يلائمه أن يأمره بالفاتحة والسورة تفصيلاً، وإنما أليق بحالة الإجمال فيقرأ بما يقدر. (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) حال مؤكدة، وقيل مقيدة. وفيه دليل على ما ذهب إليه الشافعي وأبويوسف من افتراض الطمأنينية في الركوع وهو الحق. (ثم ارفع) أي رأسك (حتى تستوي) أى تعتدل (قائماً) في رواية ابن ماجه: حتى تطمئن قائماً. وهي على شرط مسلم، وقد أخرجها السراج أيضاً بإسناد على شرط البخاري، فهي على شرط الشيخين، وهذه الروايات تدل على افتراض رفع الرأس من الركوع، وعلى افتراض الاستواء أي الاعتدال في الرفع، وعلى افتراض الاطمئنان في القومة، أي عند الاعتدال من الركوع، وإليه ذهب الشافعي وأبويوسف، وهو الصواب (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) فيه دليل على فرضية الطمأنينة في السجود، وقد فصلتها رواية النسائي من حديث رفاعة بلفظ: ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه وجبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي. (ثم ارفع) أي رأسك من السجود (حتى تطمئن جالساً) أي بعد السجدة الأولى، وهي حال مؤسسة. وفيه دليل على افتراض القعود بين السجدتين. وفي رواية النسائي المذكورة: "ثم يكبر فيرفع رأسه حتى يستوي قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه". (ثم اسجد) أي الثانية (حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) أي للاستراحة. قال الطيبي: كلمة حتى في هذه القرائن لغاية ما يتم به الركن، فدلت على أن الطمأنينة داخلة فيه، والمنصوب حال مؤكدة -انتهى. والحديث يدل آخره على إيجاب جلسة الاستراحة، ولكنه لم يقل به أحد على أنه قد أشار البخاري إلى أنه – أى قوله الأخير حتى تطمئن جالساً – وهم، فإنه عقبه بأن قال: قال أبوأسامة (حماد بن أسامة مما وصله في كتاب الأيمان والنذور) في (اللفظ) الأخير (وهو حتى تطمئن جالساً) حتى تستوي قائماً. وقال القسطلاني: أراد البخاري بهذه الإشارة إلى أن راوي الأولى- وهو ابن نمير – خولف، وأن الثانية عنده أرجح. وقال الحافظ: كلام البخاري(3/6)
وفي رواية: ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) متفق عليه.
797- (2) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله
رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نمير، لكن رواه إسحاق بن راهوية في مسنده عن أبي أسامة، كما قال ابن نمير. وأخرجه البيهقي من طريقه، وقال: كذا قال إسحاق بن راهوية عن أبي أسامة. والصحيح رواية عبيد الله بن سعيد بن أبي قدامة، ويوسف بن موسى عن أبي أسامة بلفظ: "حتى تستوي قائما" –انتهى. وقال بعضهم: يمكن أن يحمل إن كان محفوظاً عل الجلوس للتشهد، ويؤيده رواية رفاعة عند أبي داود: فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن جالساً، ثم افرش فخذك اليسرى ثم تشهد. قال الحافظ: المعتمد الترجيح كما أشار إليه البخاري، وصرح به البيهقي. (وفي رواية) أي للبخاري بدل قوله الأخير "ثم ارفع حتى تطمئن جالساً" (ثم ارفع حتى تستوي قائماً) قد تقدم آنفاً أن البخاري أشار إلى ترجيح هذه الرواية الثانية، والبيهقي صرح به. وسيأتي الكلام على جلسة الاستراحة. (ثم افعل ذلك) أي جميع ما ذكر من الأقوال والأفعال إلا تكبيرة الإحرام، فإنها مخصوصة بالركعة الأولى لما علم شرعاً من عدم تكرارها. وقيل: التقدير "ثم افعل ذلك" أي ما ذكر مما يمكن تكريره، فخرج نحو تكبيرة الإحرام. (في صلاتك) أي في ركعات صلاتك (كلها) فرضاً ونفلاً على اختلاف أوقاتها وأسمائها. وإنما لم يذكر له - صلى الله عليه وسلم - بقية الواجبات في الصلاة كالنية والقعود في التشهد الأخير؛ لأنه كان معلوماً عنده، أو لعل الراوي اختصر ذلك. وفيه دليل على وجوب قراءة الفاتحة في الأخريين أيضاً، وإليه ذهب ابن الهمام من الحنفية. قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي وجوب القراءة في جميع الركعات، وإذا ثبت أن الذي أمر به الأعرابي هو قراءة الفاتحة دل على وجوب قراءتها في كل الركعات-انتهى. واعلم أن هذا الحديث جليل يعرف بحديث المسيء صلاته، يشتمل على فوائد كثيرة. قال ابن العربي في شرح الترمذي: فيه أربعون مسألة، ثم سردها. وقد أطال غيره من الشراح أيضاً الكلام في شرحه كالشوكاني في النيل (ج2: ص157-161) والحافظ في الفتح (ج3: ص432-434) وابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (ج2: ص2-12) والعيني في عمدة القاري (ج6: ص15-20) . (متفق عليه) واللفظ للبخاري في كتاب الاستئذان. وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة.
797- قوله: (يستفتح الصلاة) أي يفتتحها (بالتكبير) أي يقول: الله أكبر، كما ورد بهذا اللفظ في الحلية لأبي نعيم. والمراد تكبيرة الإحرام. (والقراءة) بالنصب عطفاً على الصلاة (بالحمد) بالرفع على الحكاية وإظهار ألف الوصل، ويجوز حذف همزة الوصل، وكذا جر الدال على الإعراب، ذكره القاري (رب العالمين) أي يبتدئ القراءة بسورة الفاتحة(3/7)
وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك. وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً. وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً. وكان يقول في كل ركعتين التحية. وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثم يقرأ السورة، وذلك لا يمنع تقديم دعاء الاستفتاح، فإنه لا يسمى في العرف قراءة، ولا يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ لأن المراد أنه يبدأ بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ ما بعدها، لا أنه يبدأ في القراءة بلفظ "الحمد لله"، وبهذا ظهر الرد على من تمسك بالحديث على مشروعية ترك الجهر بالبسملة في الصلاة، فإن المراد بذلك كما قلنا اسم السورة، لكن نوقش ذلك بأنه لو كان المراد اسم السورة لقالت عائشة: بالحمد؛ لأنه وحده هو الاسم. ورد بما ثبت عند أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعاً: الحمد لله رب العالمين، أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني. وبما عند البخاري من حديث سعيد بن المعلى: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني. فهو ظاهر أو نص في أن الفاتحة تسمى بهذا المجموع الذي هو "الحمد لله رب العالمين"، ويمكن الجواب عن ذلك التمسك أيضاً بأنها ذكرت أول آية من الآيات التي تخص السورة وتركت البسملة؛ لأنها مشتركة بينها وبين غيرها من السور، وسيأتي مزيد الكلام في شرح حديث أنس في باب القراءة في الصلاة. (لم يشخص) من باب الإفعال أو التفعيل أي لم يرفع (ولم يصوبه) أي لم ينكسه من التصويب وهو الإنزال من أعلى إلى أسفل، ومنه الصيب المطر، صاب يصوب إذا نزل. أي لم يخفضه خفضاً بليغاً بل بين الخفض والرفع، وهو التسوية. (ولكن بين ذلك) أي بين المذكور من الإشخاص والتصويب، بحيث يستوي ظهره وعنقه كالصفحة الواحدة. (وكان إذا رفع رأسه من السجدة) أي الأولى، وفي بعض النسخ من السجود (لم يسجد) الثانية (حتى يستوي) أي يعتدل بين السجدتين (جالساً) تقدم الكلام على الجلوس بين السجدتين وكذا القومة. (وكان يقول في كل ركعتين) أي بعدهما (التحية) بالنصب. وقيل بالرفع، والمراد بها الثناء المعروف بالتحيات لله الآتي لفظه في حديث ابن مسعود، وسمى هذا الذكر تحية وتشهداً لاشتماله عليهما، أي على التحية وهو الثناء الحسن وعلى التشهد لاشتماله على الشهادتين، فهو من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، وفيه مشروعية التشهد الأوسط والأخير، ولا يدل على الوجوب؛ لأنه فعل، إلا أن يقال: إنه بيان لإجمال الصلاة في القرآن المأمور بها وجوباً، والأفعال لبيان الواجب واجبة. أو يقال بإيجاب أفعال الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وفي الاستدلالين بحث بسطه ابن دقيق العيد فارجع إليه. واستدل على الوجوب أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله-الحديث. والأمر للوجوب. (وكان يفرش) بكسر الراء وضمها (وينصب) بفتح الياء وكسر الصاد (رجله اليمنى) أي يضع أصابعها على الأرض ويرفع عقبها. واستدل به من قال بمشروعية النصب والفرش في التشهدين جميعاً. ووجهه الإطلاق وعدم التقييد في مقام التصدي لوصف صلاته - صلى الله عليه وسلم - لا سيما بعد وصفها للذكر المشروع في كل ركعتين، وتعقيب ذلك بذكر هيئة الجلوس، لكن حديث أبي حميد التالي قد فرق بين الجلوسين فجعل هذا صفة الجلوس بعد(3/8)
وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع. وكان يختم الصلاة بالتسليم)) رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الركعتين الأوليين، وجعل صفة الجلوس الأخير تقديم رجله اليسرى ونصب اليمنى، والقعود على مقعدته. وللعلماء خلاف في ذلك سيأتي بيانه مع تحقيق الحق فيه. (عن عقبة الشيطان) بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة، فسرها أبوعبيد وغيره بالإقعاء المنهي عنه، وهو أن يلصق إليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب. وتفسيرها بافتراش القدمين، والجلوس بالإليتين على العقبين غلط؛ لأنه سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما رواه مسلم. وقد اختاره العبادلة في القعود في غير الأخير. وسيأتي مزيد الكلام عليه إن شاء الله. (وينهى أن يفترش الرجل) أي في السجود. قال الطيبي: التقيد بالرجل يدل على أن المرأة تفترش (ذراعيه افتراش السبع) أي كافتراشه. فسر السبع بالكلب، وقد ورد في رواية بلفظه، وافتراش الكلب هو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود، ويفضي بمرفقه وكفه إلى الأرض، والسنة أن يرفع ذراعيه، ويكون الموضوع على الأرض كفيه فقط. نعم إن طول السجود فشق عليه اعتماد كفيه فله وضع ساعديه على الركبتين لخبر: شكا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشقة السجود عليهم، فقال: استعينوا بالركب. (وكان يختم الصلاة بالتسليم) أي تسليم الخروج. واستدل به على تعين التسليم للخروج من الصلاة اتباعاً للفعل المواظب عليه، واستدل على ذلك أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحليلها التسليم"، فإن الإضافة تقتضي الحصر، فكأنه قال: جميع تحليلها التسليم. أي انحصرت صحة تحليلها في التسليم لا تحليل لها غيره، كقولهم: مال فلان الإبل، وعلم فلان النحو. وقال ابن العربي ما معناه: قوله: "تحليلها التسليم" يقتضي حصر الخروج عن الصلاة على التسليم دون غيره من سائر الأفعال والأقوال المناقضة للصلاة؛ لأنه ذكره بالألف واللام الذي هو باب شأنه التعريف كالإضافة، وحقيقة الألف واللام إيجاب الحكم لما ذكر، ونفيه عما لم يذكر، وسلبه عنه، وعبر عنه بعضهم بأنه الحصر، وأبوحنيفة يخالف فيه حيث يرى الخروج منها بكل فعل وقول يضاد كالحدث ونحوه حملاً على السلام وقياساً عليه، وهذا يقتضي إبطال الحصر-انتهى (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود. والحديث له علة، وهي أنه أخرج مسلم من رواية أبي الجوزاء-بالجيم والزاي- عن عائشة، قال ابن عبد البر: لم يسمع منها، وحديثه عنها مرسل- انتهى. وأبو الجوزاء هذا اسمه أوس بن عبد الله الربعي البصري، وهو قد عاصر عائشة فأخرج مسلم حديثه في صحيحه بناء على مذهبه من أن المعنعن محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت إليه العنعنة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج1: ص384) : قال البخاري: في إسناده نظر، يريد أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود وعائشة وغيرهما، لا أنه ضعيف عنده وأحاديثه مستقيمة، قال: حديثه عن عائشة في الافتتاح بالتكبير عند مسلم، وذكر ابن عبد البر في التمهيد أيضاً أنه لم يسمع منها. وقال جعفر الفريابي في كتاب الصلاة: ثنا مزاحم بن سعيد: ثنا ابن المبارك: ثنا إبراهيم بن طهمان: ثنا بديل العقيلي، عن أبي الجوزاء، قال: أرسلت رسولاً إلى عائشة يسألها_(3/9)
798- (3) وعن أبي حميد الساعدي، قال في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أحفظكم لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رأيته إذا كبر جعل يديه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فذكر الحديث. فهذا ظاهر أنه لم يشافهها، لكن لا مانع من جواز كونه توجه إليها بعد ذلك فشافهها على مذهب مسلم في إمكان اللقاء. والله أعلم – انتهى. وقال في جامع الأصول: أبوالجوزاء سمع من عائشة، فارتفعت العلة رأساً.
798- قوله: (وعن أبي حميد) بضم الحاء وفتح الميم، قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: عمرو. وقيل: المنذر بن سعد بن المنذر. وقيل: اسم جده مالك، الأنصاري الخزرجي المدني، غلبت عليه كنيته، صحابي مشهور، شهد أحداً وما بعدها، وعاش إلى خلافة يزيد سنة (60) ، قال الواقدي: توفي في آخر خلافة معاوية أو أول خلافة يزيد. له ستة وعشرون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد كل منهما بحديث، روى عنه جماعة. (الساعدي) منسوب إلى ساعدة، وهو أبوالخزرج. (قال في نفر) أي وهو في جماعة، والنفر-بفتحتين-اسم جمع يقع على الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه. وكانوا عشرة كما يدل عليه الرواية الآتية. (من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كلمة من في محل الحال من نفر، أي حال كونهم من أصحابه، منهم أبوقتادة بن ربعي، وأبو أسيد الساعدي، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، وأبوهريرة. (أنا أحفظكم) أي أكثركم حفظاً (لصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كأنه أخذ ذلك من شدة رقوبه، وكثرة إتباعه، ومزيد اعتنائه، إذا المعتني قد يحفظ أكثر من غير المعتني وإن كان في الصحبة سواء. (إذا كبر) أي أراد أن يكبر، فيدل على تقديم الرفع على التكبير، أو إذا شرع في التكبير، وهو الموافق لحديث ابن عمر الآتي: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، فإن المتبادر منه مقارنة الرفع للتكبير، ويؤيده أيضاً ما في رواية أخرى له: "يرفع يديه حين يكبر". (جعل يديه) أي رفع. كما صرحت به بقية الروايات. أي شرع في رفع يديه، فيدل على أن رفع اليدين مقارن للتكبير. وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه، أخرجهما مسلم، ففي رواية له من حديث ابن عمر الآتي بلفظ: "رفع يديه ثم كبر"، وفي حديث مالك بن الحويرث عنده: "كبر ثم رفع يديه"، وفي ترجيح المقارنة وتقديم الرفع على التكبير خلاف بين العلماء، والمرجح عندي المقارنة، وهو الأصح عند الشافعية والمالكية والحنابلة لحديث وائل بن حجر عند أبي داود بلفظ: "رفع يديه مع التكبير"، وقضية المعية أن ينتهي بانتهائه، ولم يقل أحد بتقديم التكبير على الرفع، والمرجح عند الحنفية تقديم الرفع لحديث ابن عمر عند مسلم، ولحديث أبي حميد الآتي، ولأن الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثبات ذلك، والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشهادة، وهذا مبني على أن الحكمة في الرفع ما ذكر، وقد قال فريق من العلماء: الحكمة في اقترانهما أن يراه الأصم، ويسمع التكبير الأعمى، فيعلمان دخوله في الصلاة، وقد ذكرت للرفع مناسبات أخرى: فقيل الإشارة إلى طرح الدنيا والإقبال بكليته على العبادة. وقيل: إلى الاستسلام والانقياد، وليناسب فعله قوله: "الله أكبر". وقيل:(3/10)
حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود. وقيل غير ذلك. ثم إن الرفع عند تكبيرة الإحرام سنة عند الجمهور، وليس بواجب لعدم ذكره في حديث المسيء، وفرض عند ابن حزم، لا تجزئ الصلاة إلا به. وروي ذلك عن الأوزاعي. وقال الزرقاني: روي الوجوب عن الحميدى، وابن خزيمة، وداود، وبعض المالكية والشافعية. (حذاء منكبيه) بكسر الحاء، أي مقابلهما. والمنكب- بفتح الميم وكسر الكاف- مجمع رأس عظم الكتف والعضد، وبهذا أخذ الشافعي والجمهور خلافاً للحنفية حيث أخذوا بحديث مالك بن الحويرث الآتي بعد حديثين، وهو من إفراد مسلم، وبحديث وائل ابن حجر عند أبي داود بلفظ: "حتى حاذتا أذنيه". ورجح الأول لكون إسناده أصح وأثبت؛ لأنه متفق عليه. وروي عن الشافعي أنه جمع بينهما، فقال: يرفع يديه حذو منكبيه بحيث يحاذى أطراف أصابعه فروع أذنيه، وإبهاماه شحمة أذنيه، وراحتاه منكبيه. ويؤيده الرواية الآتية في الفصل الثاني عن وائل. واختاره ابن الهمام حيث قال: لا تعارض بين الروايتين، فإن محاذاة الشحمتين بالإبهامين تسوغ حكاية محاذاة اليدين بالمنكبين؛ لأن طرف الكف مع الرسغ يحاذى المنكب أو يقاربه، فالذي نص على محاذاة الإبهامين بالشحمتين وفق في التحقيق بين الروايتين فوجب اعتباره - انتهى. قلت: وقد استحب الحنفية شيئاً من المبالغة في الرفع حتى قيدوا مس الإبهامين بشحمتي الأذنين لتحقيق المحاذاة، ولا دليل عليه لا من سنة، ولا من قول صحابي، ولا من قياس. وجمع بعض العلماء بأن حديث المنكبين محمول على الشتاء، وعليهم الأكسية والبرانس كما أخرجه أبوداود من حديث وائل بن حجر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح الصلاة رفع يديه حيال أذنيه قال: ثم أتيتهم فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم في افتتاح الصلاة وعليهم برانس وأكسية. وعليه حمله الطحاوي في شرح معاني الآثار. قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على الجمع المذكور كلام، فإن مداره على شريك القاضي وقد تغير حفظه لما ولى القضاء, وقد تفرد هو بذكر لفظ "إلى صدورهم"، وخالف الثقات الحفاظ كزائدة وسفيان، ولم يرض العيني بهذا الجمع، وعده من التكلفات كما صرح به في البناية. وقيل: لا اختلاف بينهما لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل كلا الأمرين في أوقات مختلفة، فالرجل مخير بينهما. قال السندي: لا تناقض بين الأفعال المختلفة لجواز وقوع الكل في أوقات متعددة، فيكون الكل مستنداً إلا إذا دل الدليل على نسخ البعض، فلا منافاة بين الرفع إلى المنكبين، أو إلى شحمتي الأذنين، أو إلى فروع الأذنين أي أعاليهما. وقد ذكر بعض العلماء في التوفيق بسطاً لا حاجة إليه لكون التوفيق فرع التعارض، ولا يظهر التعارض أصلاً- انتهى. (أمكن يديه من ركبتيه) في المغرّب يقال: مكنه من الشيء وأمكنه فيه أقدره عليه، والمعنى مكنهما من أخذها والقبض عليهما (ثم هصر ظهره) بالهاء والصاد المهملتين المفتوحتين، أي أماله وثناه في استواء من رقبته ومتن ظهره من غير تقويس. وأصل الهصر أن تأخذ برأس العود فتثنيه إليك وتعطفه. قال الخطابي في المعالم (ج1:(3/11)
فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ص195) : معناه ثنى ظهره وخفضه. وأصل الهصر أن يأخذ بطرف الشيء ثم يجذبه إليه كالغصن من الشجرة ونحوه فينهصر أي ينكسر من غير بينونة- انتهى. زاد في رواية أبي داود: "غير مقنع رأسه ولا صافح بخده" أي غير مبرز صفحة خده مائلاً إلى أحد الشقين. (فإذا رفع رأسه) أي من الركوع (استوى) أي قائماً معتدلاً (حتى يعود كل فقار مكانه) بفتح الفاء والقاف آخره راء جمع فقارة، واستعمل الفقار للواحد تجوزاً وهي عظام الظهر، وهي العظام المنظمة التي يقال لها خرز الظهر، قاله القزاز. وفي المحكم: هي ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب. والمراد بذلك كمال الاعتدال. (فإذا سجد وضع يديه) حذاء منكبيه أي قبل وضع ركبتيه (غير مفترش) أي ساعديه أو ذراعيه كافتراش السبع، وغير حامل بطنه على شيء من فخذيه. وهو منصوب على الحال، يعني غير واضع مرفقيه على الأرض. (ولا قابضهما) بالجر أي ولا قابض يديه. أراد أن لا يضم الذراعين والعضدين إلى الجنبين بل يجافيهما معتمداً على راحتيه. (واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة) قال النووي: ولا يحصل توجيهاً للقبلة إلا أن يكون معتمداً على بطونها، ووضعها من غير تحامل عليها مخالف للحديث. (فإذا جلس) للتشهد (في الركعتين) أي عقب الأوليين (جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى) هذا هو الافتراش. (فإذا جلس في الركعة الآخرة) للتشهد الأخير (قدم رجله اليسرى) أي أخرجها من تحت وركه إلى جانب الأيمن. (ونصب الأخرى) أي اليمنى (وقعد على مقعدته) اليسرى، وهذا هو التورك وفي ذكره كيفية الجلوسين- الجلوس الأوسط والأخير- دليل على تغايرهما، وأنه في الجلسة الأخيرة يتورك، أي يفضي بوركه اليسرى إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى. وبهذا الحديث عمل الشافعي ومن وافقه، وألحق هو بالتشهد الأول الجلسات الفاصلة بين السجدات؛ لأنه يعقبها انتقالات، والانتقال من المفترش أيسر. وقد قيل في الحكمة في التغاير بين الجلوسين- الأوسط والأخير- أنه أقرب إلى عدم اشتباه عدد الركعات، فإن المخالفة في الهيئة قد تكون سبباً للتذكر عند الشك في كونه في التشهد الأول أو في التشهد الأخير، ولأن الأول تعقبه الحركات بخلاف الثاني، يعني أن الافتراش هيئة استيفاز فناسب أن تكون في التشهد الأول؛ لأن المصلي مستوفز للقيام للركعة الثالثة، والتورك هيئة اطمينان فناسب الأخير، ولأن المسبوق إذا رآه علم قدر ما سبق به. وعند الحنفية يفترش في الكل. وعند المالكية يتورك في الكل. والمشهور عن أحمد اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان. واستدل الحنفية بحديث عائشة السابق. والجواب أنه محمول على التشهد الأول جمعاً بين الأحاديث، وأما قول ابن التركماني: بأن إطلاقه يدل على أن ذلك كان في التشهدين بل هو في قوة قولها "وكان يفعل ذلك في التشهدين" إذ قولها أولاً: "وكان يقول في كل ركعتين التحية" يدل على هذا التقدير.(3/12)
رواه البخاري.
798- (4) وعن ابن عمر: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ففيه أن إطلاقه وإن كان يدل على ما قال، لكن حمله على التشهد الأول متعين جمعاً بين الأحاديث. على أن حديث أبي حميد نص صريح في ثبوت التورك في التشهد الأخير، وحديث عائشة ليست بنص في نفيه بل غاية ما يقال فيه: أنه يدل بظاهره على نفي التورك. وقد تقرر في مقره أن النص يقدم على الظاهر عند التعارض. واستدلوا أيضاً بأحاديث ذكرها الشيخ عبد الحي اللكنوي الحنفي في تعليقه على موطأ الإمام محمد. وقال بعد ذكرها: لا يخفى على الفطن أن هذه الأخبار وأمثالها لا تدل على مذهبنا صريحاً، بل تحتمله وغيره. وما كان منها دالاً صريحاً لا يدل على كونه في جميع القعدات على ما هو المدعى. والإنصاف أنه لم يوجد حديث يدل صريحاً على استنان الجلوس على الرجل اليسرى في القعدة الأخيرة. وحديث أبي حميد مفصل فليحمل لمبهم على المفصل- انتهى. واستدل لما ذهب إليه مالك بما رواه هو في موطأه عن يحيى بن سعيد، أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد، فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك. والجواب أن هذا معارض بما رواه النسائي من طريق عمرو بن الحارث، عن يحيى بن سعيد، أن القاسم حدثه عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: "من سنة الصلاة أن ينصب اليمنى، ويجلس على اليسرى"، فيحمل ما رواه مالك على التشهد الأخير، وما رواه النسائي على التشهد الأول دفعاً للتعارض بين قول ابن عمر وفعله. والتربع غير التورك، وكان ابن عمر يتربع في بعض الأحيان للعذر، وكان ينكر على ابنه عبد الله التربع؛ لأنه لم يكن معذوراً، ولم يثبت عن ابن عمر إنكار التورك أبداً. والحاصل أنه ليس نص صريح فيما ذهب إليه أبوحنيفة ومالك، فالقول الراجح هو ما ذهب إليه الشافعي. واعلم أنه أجاب الحنفية عن حديث أبي حميد بأنه ضعفه الطحاوي، أو يحمل على الكبر. وقد رده الحافظ في الدراية، قال: أما تضعيف الطحاوي فمذكور في شرحه بما لا يلتفت إليه، وأما الحمل فلا يصح، لأن أبا حميد وصف صلاته التي واظب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووافقه عشرة من الصحابة، ولم يخصوا ذلك بحال الكبر، والعبرة بعموم اللفظ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" انتهى. وقال الشيخ عبد الحي في التعليق الممجد: حمل أصحابنا هذا على العذر، وعلى بيان الجواز، وهو حمل يحتاج إلى دليل. ومال الطحاوي إلى تضعيفه، وتعقبه البيهقي وغيره في ذلك بما لا مزيد عليه- انتهى. (رواه البخاري) وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه بلفظ أبسط من هذا كما سيأتي.
799- قوله: (كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع(3/13)
رفعهما كذلك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رفعهما كذلك) أي حذو منكبيه. وهذا دليل صريح على أن رفع اليدين في هذه المواضع سنة، وهو الحق والصواب، ونقل البخاري في صحيحه عقب ابن عمر هذا عن شيخه على بن المديني أنه قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه؛ لحديث ابن عمر هذا. وهذا في رواية ابن العساكر وقد ذكره البخاري في جزء رفع اليدين، وزاد: "وكان أعلم أهل زمانه"-انتهى. قلت: وإليه ذهب عامة أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين وغيرهم. قال محمد بن نصر المروزي: أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. وقال البخاري في جزء رفع اليدين: قال الحسن وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أيديهم في الصلاة. وروى ابن عبد البر بسنده عن الحسن البصري، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفعون أيديهم في الصلاة إذا ركعوا وإذا رفعوا كأنها المراوح. وروى البخاري عن حميد بن هلال، قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما أيديهم المراوح، يرفعونها إذا ركعوا وإذا رفعوا رؤوسهم. قال البخاري: ولم يستثن الحسن أحداً منهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أحد، ولم يثبت عند أهل العلم عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يرفع يديه. ثم ذكر البخاري عن عدة من علماء أهل مكة، وأهل الحجاز وأهل العراق والشام والبصرة واليمن وعدة من أهل الخرسان، وعامة أصحاب ابن المبارك ومحدثي أهل بخارى، وغيرهم ممن لا يحصى أنهم كانوا يرفعون أيدهم عند الركوع والرفع منه، لا اختلاف بينهم في ذلك. قلت: قول الحسن، وحميد بن هلال يدل على أن الصحابة أجمعوا على رفع اليدين عند الركوع، وعند الرفع منه، كيف لا وقد صح الرفع فيهما عن أبي بكر وعمر وعلي من الخلفاء الراشدين، ثم عن غيرهم من الصحابة، ثم عن التابعين، وهو أيضاً مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. قال الترمذي في جامعه: وبه يقول: مالك ومعمر والأوزاعي وابن عيينة وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق- انتهى. وقال الشعراني في ميزانه (ج1: ص129) : ومن ذلك قول مالك والشافعي وأحمد باستحباب رفع اليدين في التكبيرات والرفع منه- انتهى. وقال ابن عبد البر: لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما- يعني في الركوع والرفع منه- إلا ابن القاسم، والذي نأخذ به الرفع حديث ابن عمر، وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك، ولم يحك الترمذي عن مالك غيره، ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم: أنه آخر قولي مالك وأصحهما. وقال العراقي في طرح التثريب (ج2: ص253) : وقد حكاه عن مالك أيضاً أبومصعب وأشهب والوليد بن مسلم، وسعيد بن أبي مريم، وجزم به الترمذي عن مالك- انتهى. واعلم أن البيهقي روى في سننه حديث ابن عمر هذا بزيادة في آخره بلفظ: "فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى"، ذكره الحافظ في التلخيص (ص81) والزيلعي في نصب الراية (ج1: ص409) وسكتا عليه ولم يتكلما، لكن في سنده عبد الرحمن بن قريش، قال الذهبي في الميزان (ج2: ص114) : اتهمه السليماني بوضع الحديث. وقال الخطيب في تاريخه (ج10: ص283) : في حديثه(3/14)
غرائب وأفراد، ولم أسمع فيه إلا خيراً. وفيه أيضاً عصمة بن محمد الأنصاري. قال أبوالحسن الدارقطني: عصمة بن محمد بن فضالة الأنصاري متروك ذكره الخطيب في تاريخه (ج12: ص286) وقال ابن عدي: كل حديثه غير محفوظ، ذكره الذهبي في ميزانه. ويظهر من صنيع النيموي في آثار السنن أن هذه الزيادة هي دليل القائلين بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، والأمر ليس كما توهم النيموي، فإن أصل الاستدلال على هذا المطلوب ليس بهذا الحديث بل بحديث مالك بن الحويرث وحديث وائل بن حجر الآتيين، وبالأحاديث التي استدل بها الحنفية على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واظب على رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح. قال شيخنا في أبكار المنن (ص195) : اعلم أن العلماء الحنفية ادعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب على رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح ما دام حياً، واستدلوا عليه بالأحاديث التي فيها ذكر رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه، فكما ثبت مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح، كذلك تثبت مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه أيضاً. قال صاحب الهداية: ويرفع يديه مع التكبير، وهو سنة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب عليه. قال الزيلعي في نصب الراية: هذا معروف في أحاديث صفة صلاته - عليه السلام -، منها حديث ابن عمر أخرجه الأئمة الستة. - ثم ذكره بنحو حديث الباب - وحديث أبي حميد الساعدي - ثم ذكره بنحو أول أحاديث الفصل الثاني - ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه بحديث صحيح البتة، وما جاء فيه فهو ضعيف، غير قابل للاحتجاج، كما يأتي بيانه- انتهى كلام الشيخ. وقد عرفت مما تقدم أنه ليس رفع يد في غير التحريمة عند جماعة من أهل الكوفة، وإليه ذهبت الحنفية. ثم إنه اختلفت أقوال الحنفية، واضطربت آراؤهم في دفع هذه السنة الصحيحة الثابتة المتواترة سنداً وعملاً - أي رفع اليدين في المواضع الثلاثة-، فذهب بعضهم إلى عدم جواز الرفع في غير التحريمة، بناء على أن رفع اليدين في غير الافتتاح كان جائزاً ومباحاً في أول الأمر، ثم ترك ونسخ جوازه، فصار الرفع منهياً عنه، وترك الرفع مأموراً به، فيكره الرفع تحريماً عندهم، كما في الكبيري شرح المنية والبدائع. وبالغ بعضهم كأمير كاتب الإتقاني صاحب غاية البيان شرح الهداية فقال بفساد الصلاة بالرفع في غير التحريمة؛ لأنه عمل كثير، واعتمد في ذلك على ما روى مكحول النسفي عن أبي حنيفة من فساد الصلاة برفع اليد في غير التحريمة. وقد رد عليه تقي الدين السبكي الشافعي في عصره أحسن رد، ورد عليه الحنفية أيضاً وصرحوا بشذوذ هذه الرواية، وذهبوا إلى عدم الفساد من رفع اليدين في غير الافتتاح. وهذا القول يدلك على أن النزاع بين التاركين للرفع وبين القائلين به في الجواز وعدمه، لا في الأفضلية والأولوية. وذهب بعضهم إلى جواز الرفع في غير التحريمة، لكن الأولى والأرجح والمستحب عندهم ترك الرفع، فالمنسوخ عندهم إنما هو استحباب الرفع لا جوازه وإباحته، والنزاع عندهم إنما هو في الاختيار لا الجواز، قال صاحب الكوكب الدري (ج1: ص129) : لا خلاف بيننا وبين الشافعي في جواز الصلاة بالرفع وعدم الرفع، إنما النزاع في أن الأولى هل هو عدم الرفع أو الرفع؟ فاخترنا الأول واختاروا الثاني، وقال صاحب فيض الباري (ج1: ص257) :(3/15)
قد ثبت الأمران (الرفع والترك) عندي ثبوتاً لا مرد له ولا خلاف إلا في الاختيار، وليس في الجواز، فما في الكبيري شرح المنية والبدائع "أنه مكروه تحريماً" متروك عندي، نعم إن كان عندهما نقل من صاحب المذهب فهما معذوران، وإلا فالقول بالكراهة في مسألة متواترة بين الصحابة شديد عندي. قال: وقد اشتهر في متأخري الحنفية القول بالنسخ، وإنما تعلموه من الشيخ ابن الهمام، والشيخ اختاره تبعاً للطحاوي، قال: إذا ثبت عندي القول بالجواز ممن هو أقدم في الحنفية - يعني به أبابكر الجصاص الرازي صاحب أحكام القرآن - وساعدته الأحاديث أيضاً فلا محيد إلا بالقول به، وخلافه لا يسمع، فمن شاء فليسمع. وقال صاحب البدر الساري (ج1: ص255) : إن الرفع متواتر إسناداً وعملاً ولم ينسخ منه ولا حرف. وإنما بقي الكلام في الأفضلية كما صرح به أبوبكر الجصاص في أحكام القرآن. وقال أيضاً: دع عنك حديث النسخ إذ قد شهد العمل بالجانبين، فإنه أقوى دليل على عدم النسخ. وذهب بعضهم إلى عدم النسخ مطلقاً، وقالوا: باستنان الأمرين، لكن الرفع عندهم أكثر وأرجح وأحب من ترك الرفع. قال الشاه ولي الله الدهلوي- الذي يزعم الحنفية أنه كان مقلداً لأبي حنيفة- في حجة الله البالغة (ج2: ص8) : والحق عندي أن الكل سنة، والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع، فإن أحاديث الرفع أكثر وأثبت- انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه (ج1: ص282) : أما قول من قال: إن ذلك الحديث - أي حديث ابن مسعود في ترك الرفع - ناسخ رفع غير تكبيرة الافتتاح فهو قول بلا دليل، بل لو فرض الباب نسخ فيكون الأمر بعكس ما قالوا، فإن مالك بن الحويرث ووائل بن حجر من رواة الرفع ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر عمره، فروايتهما الرفع عند الركوع والرفع منه دليل على تأخر الرفع، وبطلان دعوى نسخه، فإن كان هناك نسخ فينبغي أن يكون المنسوخ ترك الرفع. كيف وقد روى مالك هذا جلسة الاستراحة فحملوها على أنها كانت في آخر عمره في سن الكبر، فهي ليس مما فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - قصداً فلا تكون سنة. وهذا يقتضى أن يكون الرفع الذي رواه ثابتاً لا منسوخاً لكونه آخر عمره عندهم، فالقول بأنه منسوخ قريب من التناقض، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمالك وأصحابه: صلوا كما رأيتموني أصلي. فالأقرب القول باستنان الأمرين، والرفع أقوى وأكثر انتهى. وقال في حاشيته على النسائي (ج1: ص140) : ومن لا يقول به يراه منسوخاً بما لا يدل عليه، فإن عدم الرفع إن ثبت فلا يدل على عدم سنيه الرفع، إذ شأن السنة تركها أحياناً. ويجوز استنان الأمرين جميعاً، فلا وجه لدعوى النسخ، والقول بالكراهة- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في تعليقه (ص89) على موطأ محمد: القدر المتحقق في هذا الباب هو ثبوت الرفع وتركه كليهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن رواة الرفع من الصحابة جم غفير، ورواة الترك جماعة قليلة مع عدم صحة الطرق عنهم إلا عن ابن مسعود، وكذلك ثبت الترك عن ابن مسعود وأصحابه بأسانيد محتجة بها، فإذن نختار أن الرفع ليس بسنة مؤكدة يلام تاركها إلا أن ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر وأرجح. وأما دعوى نسخه كما صدر عن الطحاوي مغتراً بحسن الظن بالصحابة(3/16)
التاركين، وابن الهمام، والعيني وغيرهم من أصحابنا فليس بمبرهن عليها بما يشفى العليل ويروى الغليل. وقال أيضا: الانصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى رد روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعله وأصحابه ودعوى عدم ثبوت الرفع. ولا إلى رد روايات الترك بالكلية، ودعوى عدم ثبوته، بل يوفى كل من الأمرين حظه، ويقال: كل منهما ثابت، وفعل الصحابة والتابعين مختلف، وليس أحدهما بلازم يلام تاركه مع القول برجحان ثبوت الرفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وذهب بعضهم إلى كون الأمرين ثابتين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عدم الجزم برجحان أحد من الطرفين. قال صاحب البدر الساري (ج1: ص261) : لعلك علمت أن العمل في هذا الباب بالنحوين ونفي الترك باطل. بقي أن الرفع أكثر أو الترك؟ فلم يجزم الشيخ - يعني شيخه الشاه محمد أنور الكشميري - فيه بشيء، ولو تبين له لم يحكم به لسراية الاجتهاد في هذا الباب، الخ. وإنما أطلنا الكلام في تفصيل آرائهم، وذكر أقوالهم لتقف على تخبطهم في هذه المسألة وتباين آرائهم، وتناقض أقوالهم فيها. وهذا هو شأنهم في أكثر المسائل الشرعية كما لا يخفى على من طالع كتب الفقه للحنفية، ولم يكن حاجة إلى رد القول بالنسخ بعد هذا التناقض الذي رأيته في أقوالهم، فإنهم قد كفونا بأنفسهم رداً لهذا القول الباطل لكن لما اشتهر في متأخريهم القول بالنسخ والاستدلال عليه نذكر دلائلهم مع بيان ما فيها من الخلل والخطل، فاعلم أن الذين قالوا بكراهة الرفع، وذهبوا إلى نسخ جوازه قد استدلوا على ذلك بحديث جابر بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن يعني رافعي أيدينا في الصلاة، فقال: ما بالهم رافعين أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة. أخرجه أحمد، ومسلم وأبوداود والنسائي من طريق تميم بن طرفة، عن جابر. وأجيب عنه بأنه لا دليل فيه على منه الرفع على الهيئة المخصوصة في المواضع المخصوصة وهو الركوع، والرفع منه؛ لأنه مختصر من حديث طويل كما سنبينه. قال النووي: المراد بالرفع المنهى ههنا رفع أيديهم عند السلام مشيرين إلى السلام من الجانبين، كما صرح به في الرواية الأخرى- انتهى. وقال الشوكاني: الحديث ورد على سبب خاص، فإن مسلماً رواه أيضاً من حديث جابر بن سمرة - من طريق عبيد الله بن القبطية - قال: إذا كنا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيديه إلى الجانبين فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: علام تؤمون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ إنما يكفي أحدكم أن يضع يديه على فخذيه، ثم يسلم على أخيه من يمينه وشماله. وفي رواية: إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده. وقال ابن حبان: ذكر الخبر المتقصي للقصة المختصرة المتقدمة بأن القوم إنما أمروا بالسكون في الصلاة عند الإشارة بالتسليم دون رفع الثابت عند الركوع، ثم رواه كنحو رواية مسلم، وفي رواية النسائي: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسلم بأيدينا. قال الشيخ أبوالحسن محمد بن عبد الهادي السندي الحنفي: أي في الصلاة، وبهذه الرواية تبين أن الحديث مسوق للنهي عن رفع الأيدي عند السلام إشارة إلى الجانبين، ولا دلالة فيه على النهي عن الرفع عند الركوع وعند الرفع منه، ولذا قال النووي:(3/17)
الاستدلال به على النهي عن الرفع عند الركوع وعند الرفع منه جهل قبيح. وقد يقال: العبرة لعموم اللفظ، ولفظ: "ما بالهم رافعي أيديهم في الصلاة" إلى قوله: "اسكنوا في الصلاة" عام، فصح بناء الاستدلال عليه، وخصوص المورد لا عبرة به إلا أن يقال: ذلك إذا لم يعارضه عن العموم عارض، وإلا يحمل على خصوص المورد، وههنا قد صح وثبت الرفع عند الركوع وعند الرفع منه ثبوتاً لا مرد له، فيجب حمل هذا اللفظ على خصوص المورد توفيقاً ودفعاً للتعارض- انتهى كلام السندي. وقال الشوكاني: ورد هذا الجواب - أي بأن الحديث ورد على سبب خاص - بأنه قصر للعام على السبب، وهو مذهب مرجوح، وهذا الرد متجه لولا أن الرفع قد ثبت من فعله - صلى الله عليه وسلم - ثبوتاً متواتراً - أي إسناداً وعملاً، وقد اعترف به بعض الحنفية كما سيأتي -، وأقل أحوال هذه السنة المتواترة أن تصلح لجعلها قرينة لقصر ذلك العام على السبب، أو لتخصيص ذلك العموم على تسليم عدم القصر. قال: وأيضاً المتقرر في الأصول بأن العام والخاص إذا جهل تاريخهما وجب البناء- انتهى. وقال البخاري: أما احتجاج بعض من لا يعلم بحديث جابر بن سمرة، قال: دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن رافعوا أيدينا- الحديث. فإنما كان هذا في التشهد لا في القيام، كان يسلم بعضهم على بعض، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رفع الأيدي في التشهد، ولا يحتج بهذا - أي على منع الرفع عند الركوع والرفع منه - من له حظ من العلم، هذا معروف مشهور لا اختلاف فيه- انتهى. وقال الشيخ عابد بن أحمد السندي الحنفي في المواهب اللطيفة: أما حديث "ما لي أراكم رافعي أيديكم ... الخ". فلا يليق الاستدلال بهذا الحديث في نفي الرفع فافهم- انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أن أهل العلم اتفقوا على حمل حديث جابر المختصر على حديثه الطويل، وجعلهما قضية واحدة وقعت في وقت واحد، والقول بأن الحديث المختصر في رفع الأيدي، والإيماء والإشارة بها عند السلام بناء على أن أحدهما تفسير للآخر، وعليه يدل تبويب أبي داود والنسائي وعلى المتقي الحنفي صاحب كنز العمال، وصنيع مسلم في صحيحه. ولله در العلامة الشيخ أمير علي الحنفي فقد اعترف بوقوع إجماع المحدثين على ذلك حيث قال في حاشية صحيح مسلم (ج1: ص182) - طبعة نولكشور لكنؤ -: أجمع المحدثون على هذا التأويل، والسلام من تتمة الصلاة ونازع بعض الناس فيه فقال: بل هذا النهي عن رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه، فعلى هذا يكون تقبيحاً بعد تشريع بلا تقديم النهي- انتهى. ومما يدل على اتحاد القضية وكون أحد الحديثين تفسيراً للآخر أنه بعيد من الصحابة أن يرفعوا أيديهم عند السلام بعد ما سمعوا منه - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الرفع في الصلاة مطلقاً، فإن المنع عن الرفع في الصلاة مطلقاً يستلزم المنع عن الرفع عند السلام أيضاً، وكذا يستبعد أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه بعد ما سمعوا منه النهي عن رفع الأيدي، والإيماء بها عند السلام، فإنه لما نهى عن الرفع عند السلام يكون الرفع عند الركوع والرفع منه قبل السلام منهياً عنه بطريق الأولى، وهذا ظاهر- ففي ادعاء التغاير بين الحديثين نسبة سوء الفهم إلى الصحابة، وفيه من إساءة الأدب في شأن الصحابة ما لا يخفى، وفي حمل الروايتين على التغاير مفاسد أخر لا تخفى على المتأمل المنصف غير(3/18)
المتعسف المتعصب. وقال بعض الحنفية: سياق الحديثين ظاهر في أن أحدهما ورد في غير ما ورد فيه الآخر، ولا يمكن أن يكون أحدهما تفسيراً للآخر، وذلك من وجوه، الأول أن الحديث الأول وهو قوله- عليه السلام -: "اسكنوا في الصلاة" ورد في رفعهم في الصلاة. روى النسائي، عن جابر بن سمرة: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن رافعوا أيدينا في الصلاة، بخلاف الحديث الثاني: إذا سلم أحدكم فلا يلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده؛ لأن رفعهم كان عند السلام، وهي حالة الخروج من الصلاة-انتهى. قلت: حاصل كلامه أن الذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له: "اسكن في الصلاة"؛ لأنه ليس في أثناء الصلاة، بل هو في حالة الخروج من الصلاة، فلا يصح إطلاق لفظ "في الصلاة" عليه، وإنما يقال: ذلك لمن يرفع يديه في أثناء الصلاة وهو حالة الركوع والسجود ونحو ذلك. وفيه أن الذي يرفع يديه قبل الفراغ والانصراف من الصلاة وإن كان حال التسليم الثاني يقال له أيضاً: اسكن في الصلاة، فإن الفراغ والانصراف منها إنما يكون بالفراغ من التسليم الثاني، فما لم يفرغ من التسليم الثاني هو في الصلاة. كيف لا! وقد أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الحالة لفظ "في الصلاة" وأمرهم بالسكون، ففي رواية لأحمد (ج5: ص102) من حديث جابر الطويل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال الذين يرمون بأيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس. وفي أخرى له أيضاً (ج5: ص86) : ما بال أقوام يرمون بأيديهم كأنها أذناب الخيل الشمس، ألا يسكن أحدكم، الخ. ويؤيد ذلك أيضاً ما عند الترمذي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة. وما عند البزار: قال سمرة: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة. فالذين كانوا يومئون بأيديهم، ويرفعونها عند السلام يصدق عليهم أنهم رفعوا أيديهم في الصلاة. والحاصل أن الرفع عند السلام هو الرفع في أثناء الصلاة، فصح أن يقال له "اسكن في الصلاة". قال: والثاني أن في الحديث الأول كان خروجه - صلى الله عليه وسلم - من البيت، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم في تلك الصلاة. روى أحمد في مسنده (ج5: ص93) من حديث جابر: أنه- عليه السلام -دخل المسجد فأبصر قوماً قد رفعوا أيديهم-الحديث. بخلاف الحديث الثاني، فإن رفعهم فيه كان خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: "كنا إذا صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا السلام عليكم". وفيه أن هذا الاختلاف من تصرف الرواة، ذكر بعضهم ما لم يذكره الآخر، وكان الأصل أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فصلى بنا، وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، فنظر إلينا، فقال: ما شأنكم، الخ. وكثيراً ما يقع مثل هذا التصرف بل أكثر منه من الرواة كما لا يخفى على من له أدنى خبرة على مختلف الروايات، فدعوى التعدد والتغاير بمثل هذا الاختلاف ليس مما يلتفت إليه. والحديث الأول ليس بنص في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معهم في تلك الصلاة. قال: والثالث أن الحديث الأول يدل على أن الرفع كان فعل قوم مخصوصين، وهم الذين كانوا إذ ذاك يتنفلون في المسجد سواء فعل جميع المصلين أو بعضهم، سوى الذين لم يكونوا(3/19)
إذ ذاك في الصلاة بخلاف الحديث الثاني، فإن الرفع الذي نهي عنه في هذا الحديث كان فعل جميعهم. وفيه أنه الحديث الأول رواه النسائي بلفظ: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن يعني رافعوا أيدينا في الصلاة، فقال ما بالهم-الحديث. وفي رواية لأحمد (ج5: ص107) : دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن رافعي أيدينا في الصلاة، فقال: ما لي أراكم ... -الحديث. وهاتان الروايتان كما ترى تدلان على أن الرفع كان فعل جميعهم لا فعل قوم مخصوصين، وليس في طريق من طرق الحديث الأول أنهم كانوا متنفلين، ولا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معهم في تلك الصلاة. وروى أحمد (ج5: ص107) الحديث الثاني بلفظ. كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار أحدنا إلى أخيه من عن يمينه ومن عن شماله، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما بال أحدكم يفعل هذا كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم ... الخ. وفي رواية له: كنا نقول خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلمنا: السلام عليكم، السلام عليكم، يشير أحدنا بيده عن يمينه وعن شماله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال الذين يرمون بأيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس؟ ألا يكفي أحدكم ... الخ. وفي أخرى (ج5: ص86) له أيضاً: ما بال أقوام يرمون بأيديهم. وهذه الروايات تدل على أن الرفع الذي نهى عنه في هذا الحديث لم يكن فعل جميعهم خلاف ما ادعى هذا البعض. قال: والرابع أن الحديث الثاني يدل على أن رفعهم كان كرفع المصافح عند السلام، ولا يمكن أن يكون هذا هو الرفع في الحديث الأول؛ لأنهم كانوا فرادى. وفيه أنه لا دليل في الحديث الأول على أنهم كانوا فرادى، بل كانوا يصلون خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما هو مصرح في الطريق الثاني لحديث جابر، وعلى هذا فالرفع المذكور في الطريق الثاني الطويل هو الرفع في الطريق المختصر، يدل على ذلك أنه ورد التقبيح على الرفعين في الحديثين بلفظ واحد وهو قوله: "كأنه أذناب الخيل الشمس". ولا يفهم كونهم فرادى من الحديث الأول إلا من ليس له اطلاع على تصرف الرواة واختلافهم في الروايات، وعلى من رسخ في قلبه كونهما حديثين متغايرين تمشية لمذهبه وإبطالاً للسنة الصحيحة الثابتة المتواترة تواتر إسناد وعمل، وهذا من ثمرات التقليد. قال: والخامس أن الحديث الأول ورد على الرفع، ونهى عنه بلفظ عام، أي اسكنوا في الصلاة، بخلاف الثاني فإنه ورد في الإشارة والإيماء، ونهى عنه بلفظ يختص بحالة السلام- انتهى. وحاصله أن الرفع لا يطلق على الإيماء. وفيه أن الحديث الثاني وإن لم يذكر فيه لفظ الرفع نصاً لكنه ورد على ما هو في معنى الرفع، ففي رواية لأحمد (ج5: ص86) : ما بال أقوام يرمون بأيديهم، والرمي بالأيدي هو الرفع، ونهى فيه أيضاً بلفظ عام، أي السكون، وورد التقبيح بلفظ واحد، ففي الرواية المذكورة: "كأنها أذناب الخيل الشمس، ألا يسكن أحدكم". على أن الإشارة يكون فيها أيضاً الرفع وبالعكس، ولذلك أطلق أحدهما على الآخر، ففي حديث ابن عمر عند مسلم في صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم -: "رفع إصبعه اليمنى" وفي رواية: "أشار بالسبابة"، قال الطيبي: أي رفعها. وروى أبوداود عن وائل: "رفع إصبعه" وعن ابن الزبير: "كان يشير بإصبعه إذا دعا"، وهذا كما ترى قد أطلق فيهما الرفع(3/20)
على الإشارة وبالعكس. وروى الترمذي مرفوعاً في حديث تسليم النصارى الإشارة بالأكف، والسلام بإشارة الكف أو اليد لا بد وأن يكون فيه الرفع كما هو مشاهد، ولذلك أطلق أحدهما على الآخر في روايتي حديث جابر المختصرة والطويلة، ومثل هذه الإطلاقات واختلاف ألفاظ الروايات في الأحاديث بسبب تعدد الرواة وتصرفهم كثير لا يخفى على من له وقوف بهذا الشأن. فادعاء التغاير بين الحديثين بمثل هذه الاختلافات بعيد من شأن أهل العلم. ولو سلم التغاير بينهما وكونهما قضيتين مختلفتين لم يكن في الحديث الأول أي المختصر دليل على منع الرفع عند الركوع والرفع منه على الهيئة المخصوصة، فإن النهي ورد فيه على الرفع الذي يكون كأذناب الخيل الشمس، وينافي السكون في الصلاة وهو الرفع الذي يكون بالإشارة إلى الجانبين، وأما الرفع المتنازع فيه أي الذي يكون عند الركوع والرفع منه فليس كأذناب الخيل الشمس، ولا منافياً للسكون في الصلاة، وإلا لكان رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح أيضاً منهياً عنه؛ لأنه لا فرق بين الرفعين، ولا يتصور أن يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمر ويقبحه ويحرمه في أثناء الصلاة ثم يأذن فيه عند افتتاحها، بل يواظب على افتتاح الصلاة به. وكيف يعقل هذا وقد نهى عن التشبيك في الذهاب إلى المسجد قبل الدخول في الصلاة، وأمر بالسكينة والوقار في الإتيان إلى المسجد. وأيضاً لو كان الأمر كما زعمت الحنفية لكان الرفع في تكبير القنوت وتكبيرات العيدين أيضاً ممنوعاً؛ لأنه لم يستثن رفعاً دون رفع، ولا صلاة دون صلاة، بل أطلق، فما هو جوابهم عن الرفع عند تكبير القنوت وتكبيرات العيد فهو جوابنا عن الرفع عند الركوع والرفع منه. قال البخاري: ولو كان كما ذهبوا إليه لكان رفع الأيدي في أول التكبير، وأيضاً تكبيرات العيد منهياً عنه؛ لأنه لم يستثن رفعاً دون رفع-انتهى. والحق عندي أن القول بالمنع من أمر هو كأذناب الخيل الشمس، ومناف للخشوع والسكون في الصلاة الخمس والنوافل، ثم القول بجوازه وإباحته في صلاة الوتر وصلاتي العيد جهل قبيح، مع أنه لم يثبت بحديث مرفوع صحيح صريح التكبير في قنوت الوتر، ولا رفع اليدين فيه وفي تكبيرات العيد. ثم أبين دليل على أن الرفع عند الركوع والرفع منه ليس بمراد في حديث جابر، وعلى أنه ليس من أفراد الرفع المنهي عنه المذكور في حديثه، أنه - صلى الله عليه وسلم - قد واظب عليه حتى فارق الدنيا ثم أجمع عليه الصحابة بعده والتابعون وغيرهم إلا جماعة من أهل الكوفة، فإيراد حديث جابر هذا في معرض الاستدلال به على فسخ الرفع عند الركوع والرفع منه باطل. وقد تقدم الإشارة إلى ذلك في كلام الشوكاني والسندي فتذكر. وأما الذين ذهبوا إلى جواز الأمرين، وقالوا بنسخ استحباب الرفع، واختاروا ترك الرفع، فاستدلوا على ذلك بحديث ابن مسعود الآتي في الفصل الثالث، وبحديث البراء عند أبي داود وغيره. وأجيب عن ذلك بأنهما حديثان ضعيفان غير صالحين للاستدلال كما ستعرف، ولو سلم صلوحهما للاستدلال فغاية ما فيهما أنه ترك الرفع في غير الافتتاح أحياناً، وهذا إنما يدل على أن الرفع في غير الافتتاح ليس بسنة لازمة يلام تاركها، لا على أنه منسوخ؛ لأن مجرد الترك لا يدل على(3/21)
النسخ. قال الشوكاني: قال ابن حزم في الكلام على حديث البراء ما لفظه: إن صح دل على أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لبيان الجواز، فلا تعارض بينه وبين حديث ابن عمر وغيره- انتهى. وقد سبق عن الشيخ عبد الحي والسندي أن الاستدلال بحديث ابن مسعود على نسخ الرفع ليس بصحيح، فلله درهما قد اعترفا بالصواب وباحا بالحق. واستدلوا أيضاً بما رواه البيهقي في الخلافيات عن عبد الله بن عون الخراز، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود- انتهى. قال صاحب العرف الشذي: قال الحاكم: إنه حديث موضوع، ولم اطلع على أول إسناده - إلى قوله -: "فلعل إسناده قوي"-انتهى. وقال صاحب المواهب اللطيفة بعد نقله عن الحاكم والبيهقي حكم الوضع على حديث ابن عمر هذا ما لفظه: تضعيف الحديث لا يثبت بمجرد الحكم، وإنما يثبت ببيان وجوه الطعن، وحديث ابن عمر الذي رواه البيهقي في خلافياته: رجاله رجال الصحيح، فما أرى له ضعفاً بعد ذلك إلا أن يكون الراوي عن مالك مطعوناً، لكن الأصل العدم، فهذا الحديث عندي صحيح لا محالة – انتهى. قلت: الاستدلال بحديث ابن عمر هذا على نسخ الرفع في الركوع والرفع منه كتشبث الغريق بالحشيش، فإنه حديث باطل موضوع. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص404) بعد نقل هذا الحديث من الخلافيات: قال البيهقي: قال الحاكم: هذا باطل موضوع، ولا يجوز أن يذكر إلا على سبيل القدح، فقد روينا بالأسانيد الصحيحة عن مالك. بخلاف هذا – انتهى. وقال الحافظ في الدراية: نقل البيهقي عن الحاكم أنه موضوع، وهو كما قال-انتهى. وقال في التلخيص: هو مقلوب موضوع-انتهى. فالعجب من هؤلاء المقلدين الذي يستدلون بحديث ابن عمر الذي حكم الحاكم والبيهقي والحافظ بأنه باطل موضوع على ترك الرفع في غير الافتتاح، ويجعلونه ناسخاً لحديثه الصحيح المتفق عليه، لا سيما من هذين المقلدين الذين مع عدم اطلاعهما على أول إسناد هذا الحديث - أى من دون عبد الله بن عون الراوي، عن مالك إلى البيهقي المخرج له؛ لأن بينهما مفاوز تنقطع دونهما الأعناق، ووسائط لا يدري من هم وكيف حالهم - ومع علمهما بأن الحاكم والبيهقي حكم عليه بأنه موضوع يرجو واحد منهما أن إسناده قوي، ويقول الآخر بملء شدقه: إن رجاله رجال الصحيح، ويحكم بأنه صحيح لا محالة بمجرد قوله: إن الأصل عدم الطعن. البيهقي هو مخرج هذا الحديث، والحاكم والحافظ كانا مطلعين على سنده من أوله إلى آخره، وقد اتفقوا على كونه باطلاً موضوعاً، ونقل الزيلعي كلام الحاكم، وسكت عنه وأقره، ثم أتى من المقلدين من ليس له خبرة ووقوف على أول سنده فرد أقوال هؤلاء الأئمة الحفاظ، وادعى عدم ضعفه، بل جزم بصحته. أليس هذا تحكماً محضاً ارتكبه تمشية للمذهب؟ هداهم الله تعالى إلى صراط المستقيم، وأخلصهم من ورطة التقليد الذي هذا من ثمراته. واستدلوا أيضاً بحديث رواه البيهقي في الخلافيات أيضاً عن عبادة بن الزبير: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه في أول الصلاة، ثم لم يرفعهما في شيء حتى يفرغ. كذا في نصب الراية(3/22)
(ج1: ص404) قلت: قال الزيلعي بعد ذكره: عباد هذا تابعي، فهو مرسل- انتهى. والمرسل على القول الصحيح ليس بحجة. قال ابن الصلاح في مقدمته (ص21) : اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر، وما ذكرنا من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث ونقاد الأثر، وقد تداولوه في تصانيفهم. وفي صدر صحيح مسلم: المرسل في أصل قولهم وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة-انتهى. وقال العراقي في ألفيته (ص.
... ... ... ورده جماهر النقاد ... للجهل بالساقط في الإسناد
وقال الحافظ في الدراية بعد ذكر حديث عباد هذا: وهذا مرسل، وفي إسناده أيضاً من ينظر فيه-انتهى. وهذا يدل على أن في سنده مع كونه مرسلاً من هو منظور فيه. ولو تنزلنا وسلمنا أن سنده سالم من الكلام، وأن المرسل حجة لم يكن فيه دليل على نسخ الرفع عند الركوع والرفع منه؛ لأن أحاديث الرفع مثبتة، وهذا ناف، والمثبت مقدم على النافي، ولأنه لا تعارض بين الفعل والترك، فمجرد الترك لا يدل على نسخ الجواز. ولأنه يمكن التوفيق بينه وبين أحاديث الرفع بأن المعنى لم يرفعها رفعاً بالغاً فيه، فليس المراد نفي الرفع مطلقاً، بل المراد نفي الرفع المبالغ فيه. واستدلوا أيضاً بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن، تكبيرة الافتتاح- الحديث. أخرجه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً، وابن أبي شيبة موقوفاً عليه، وذكره البخاري في جزء رفع اليدين معلقاً عنه، وأخرجه البزار والبيهقي عن ابن عباس وابن عمر مرفوعاً وموقوفاً، وأخرجه الحاكم عنهما مرفوعاً. قلت: هو حديث ضعيف غير قابل للاحتجاج، وقد بسط الزيلعي طرقه في نصب الراية (ج1: ص 390-392) وقال بعد نقله من رواية البيهقي والحاكم: قال الشيخ في الإمام: اعترض على هذا بوجوه: أحدها: تفرد ابن أبي ليلى، وترك الاحتجاج به - لكونه سيء الحفظ -. وثانيها: رواية وكيع عنه بالوقف على ابن عباس وابن عمر. قال الحاكم: ووكيع أثبت من كل من روى هذا الحديث عن ابن أبي ليلى. وثالثها: رواية جماعة من التابعين بالأسانيد الصحيحة المأثورة عن عبد الله بن عمرو وعبد الله ابن عباس أنهما كانا يرفعان أيديهما عند الركوع وبعد رفع الرأس من الركوع، وقد أسنداه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورابعها: أن شعبة قال: لم يسمع الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث، وليس هذا الحديث منها - فهو منقطع غير محفوظ -. وخامسها: عن الحكم قال: إن جميع الروايات "ترفع الأيدي في سبعة مواطن" وليس في شيء منها "لا ترفع الأيدي إلا فيها" ويستحيل أن يكون "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن" صحيحاً، وقد تواترت الأخبار بالرفع في غيرها كثيراً، منها الاستسقاء ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورفعه - عليه الصلاة والسلام - يديه في الدعاء في الصلوات، وأمره به، ورفع اليدين، والقنوت في صلاة الصبح والوتر- انتهى. وقال البخاري في جزء رفع اليدين بعد ذكر كلام شعبة المتقدم: فهو مرسل وغير محفوظ؛ لأن(3/23)
أصحاب نافع خالفوا. وأيضاً فهم قد خالفوا الحديث، ولم يعتمدوا عليه في تكبيرات العيدين وتكبير القنوت. وفي رواية وكيع: "ترفع الأيدي" لا يمنع رفعه فيما سوى هذه السبعة- انتهى كلامه. ولو سلم كون هذا الحديث صالحاً للاحتجاج لم يكن فيه دليل على نسخ الرفع في الركوع والرفع منه لما تقدم فتأمل. واستدلوا أيضاً بما رواه الدارقطني والبيهقي في سننهما، وابن عدي في الكامل عن عبد الله بن مسعود، قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند استفتاح الصلاة. قلت: فيه محمد بن جابر وقد تفرد به، وهو ضعيف، ضعفه أحمد، وابن معين وعمرو بن علي وأبوزرعة والبخاري وأبوحاتم وأبوداود والنسائي ويعقوب بن سفيان والعجلى وابن حبان والدارقطني والحاكم. قال أحمد: كان محمد بن جابر ربما ألحق أو يلحق في كتابه يعني الحديث. وقال أيضاً: لا يحدث عنه إلا شر منه. وقال ابن معين: كان أعمى، واختلط عليه حديثه، وهو ضعيف. وقال: عمرو بن علي: صدوق، كثير الوهم، متروك الحديث. وقال أبوزرعة: محمد بن جابر ساقط الحديث عند أهل العلم. وقال البخاري: ليس بالقوى، يتكلمون فيه، روى مناكير. وقال أبوحاتم: ذهبت كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقن، وكان ابن مهدي يحدث عنه، ثم تركه بعد، وكان يروي أحاديث مناكير، وهو معروف بالسماع، جيد اللقاء، رأوا في كتبه لحقاً. وحديثه عن حماد فيه اضطراب. وقال أبوداود: ليس بشيء. وقال النسائي وابن سفيان والعجلى: ضعيف. وقال ابن حبان: كان أعمى يلحق في كتبه ما ليس من حديثه يسرق، وما ذكر به فيحدث به. قال إسحاق بن عيسى بن الطباع: ذاكرت محمد بن جابر ذات يوم بحديث لشريك عن أبي إسحاق فرأيت في كتابه قد ألحقه بين السطرين كتاباً طرياً. وقال الدارقطني في سننه: تفرد به محمد بن جابر- وكان ضعيفاً- عن حماد، عن إبراهيم. وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلاً، عن عبد الله من فعله، وهو الصواب. وقال الحاكم: هذا - أي ما روى عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود من فعله - هو الصحيح، وإبراهيم لم ير ابن مسعود، والحديث منقطع، ومحمد بن جابر تكلم فيه أئمة الحديث. وأحسن ما قيل فيه: أنه يسرق الحديث من كل من يذاكره، حتى كثرت المناكير والموضوعات في حديثه. وقال الحافظ في التقريب: صدوق - أي حينما كتب عنه باليمامة وبمكة كما في التهذيب، لا مطلقاً - ذهبت كتبه فساء حفظه، وخلط كثيراً، وعمى فصار يلقن. وهذه كما ترى جروح مفسرة من جماعة من أئمة الحديث النقاد الحفاظ، وأئمة الجرح والتعديل الكبار، وقد حسن بعضهم أمره: ففي تهذيب التهذيب قال ابن أبي حاتم عن محمد بن يحيى: سمعت أبا الوليد يقول: نحن نظلم محمد بن جابر بامتناعنا من التحديث عنه. قال: وسئل أبي عن محمد بن جابر وابن لهيعة فقال: محلهما الصدق، ومحمد بن جابر أحب إلي من ابن لهيعة. وقال الذهلي: لا بأس به. وفي التقريب رجحه أبوحاتم على ابن لهيعة- انتهى. وقال ابن عدي: كان إسحاق بن أبي إسرائيل يفضل محمد بن جابر على جماعة الشيوخ هم أفضل منه وأوثق- انتهى. قلت: قد تقرر في موضعه أن الجرح(3/24)
المفسر مقدم على التعديل، ولو كان عدد المعدلين أكثر، فكيف إذا كان عدد الجارحين أكثر، وههنا كذلك. قال ابن الصلاح في مقدمته: إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل فالجرح مقدم؛ لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي المعدل، فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل: التعديل أولى. والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرناه، والله أعلم. وقال السيوطي في التدريب: إذا اجتمع فيه جرح مفسر والتعديل، فالجرح مقدم ولو زاد عدد المعدل، هذا هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين- انتهى. فلا يلتفت إلى قول من حسن أمر محمد بن جابر في جنب تضعيف هؤلاء الحفاظ النقاد، فما تفوه به بعض الحنفية من أن الأرجح فيه التوثيق والتعديل، بل كأنه من رجال الصحيحين أو من رجال مسلم، مردود عليه. وأما ما قال الحافظ في التقريب: أنه رجحه أبوحاتم على ابن لهيعة فالمراد رجحه في الصدق، يدل على ذلك قول أبي حاتم: "محلمها الصدق، ومحمد بن جابر أحب إليّ من ابن لهيعة"، فإن الظاهر أنه أراد به كونه أحب إليه أي أرجح في الصدق، ويدل على ذلك أيضاً قول أبي حاتم فيه: "ذهبت كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقن". وقوله: "رأوا في كتبه لحقاً، وحديثه عن حماد فيه اضطراب"، وقوله: "إن في أحاديثه تخاليط، وأما أصوله فهي صحاح". ومن المعلوم أنه لا منافاة بين كون الرجل صدوقاً وبين كونه سيء الحفظ، كثير الاختلاط، مضطرب الحديث، كثير الوهم. على أنه قد تفرد أبوحاتم في قوله: "هو أحب إليّ من ابن لهيعة" ولم يوافقه أحد في ذلك. والظاهر أن ابن لهيعة أحسن حالاً من محمد بن جابر كما يظهر من تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال. وأما ما قال ابن عدي: إنه روى عنه أي عن محمد بن جابر الكبار: أيوب وابن عون وهشام بن حسان والثوري وشعبة وابن عيينة وغيرهم، ولولا أنه في ذلك المحل لم يرو عنه هؤلاء الذين هو دونهم- انتهى. ففيه أنه لا يلزم من ذلك كونه ثقة ضابطاً حافظاً غير مختلط وغير واهم، كما تقرر في موضعه. وارجع لذلك إلى كتاب العلل للترمذي وغيره من كتب الأصول، فالحق أن محمد بن جابر ضعيف لسوء حفظه، وكثرة اختلاطه، وقبوله التلقين، وقد تفرد هو برواية هذا الحديث فالاستدلال به على نسخ الرفع في الركوع والرفع منه باطل جداً. واستدلوا أيضاً بآثار الصحابة، منها أثر عمر بن الخطاب، روى الطحاوي والبيهقي وأبوبكر بن أبي شيبة عن الحسن بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم النخعي عن الأسود، قال: رأيت عمر بن الخطاب يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود. قال النيموي تبعاً للطحاوي وابن التركماني، هو أثر صحيح، وقال: لا يخفي على أحد من أهل العلم أن عمر بن الخطاب كان أعلم بالسنة من ابنه عبد الله وممن كان مثله أو دونه، ولذلك جعل الطحاوي فعل عمر دليلاً على النسخ- انتهى. قلت: فيه كلام من وجوه: الأول: أن في سنده إبراهيم النخعي وهو مدلس، ورواه عن الأسود بالعنعنة فكيف يكون هذا الأثر صحيحاً؟. والثاني: أن في كون هذا الأثر بهذا اللفظ محفوظاً نظراً، روى الحاكم، وعنه البيهقي بسنده، عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي بلفظ: "كان(3/25)
يرفع يديه في التكبير"، ليس فيه: "ثم لا يعود"، والظاهر أن ما رواه الحسن بن عياش عن ابن أبجر عن ابن عدي، وما رواه الثوري عن ابن عدي كليهما في محل الرفع. وقد قال الحافظ في الدراية (ص85) بعد ذكر الروايتين: وقد رواه الثوري وهو المحفوظ. والثالث: أن هذا الأثر معارض بما رواه طاووس عن ابن عمر أن عمر كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه. قال الزيلعي في نصب الراية: اعترضه الحاكم بأن هذه رواية شاذة لا يقوم بها حجة، ولا تعارض بها الأخبار الصحيحة عن طاووس بن كيسان عن ابن عمر، أن عمر كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه. والرابع: أنه لو سلم أن أثر عمر هذا صحيح فلا يدل على النسخ، بل غاية ما يدل عليه هو أن الرفع فيهما لم يكن سنة لازمة عند عمر، بل كان مستحباً عنده. قال الشاه ولي الله الدهلوي في إزالة الخفاء: أبوبكر عن الأسود: صليت مع عمر، فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا حين افتتح الصلاة. قلت تكلم الشافعية والحنفية في ترجيح الروايات، كل على حسب مذهبه، والأوجه عندي أن عمر رأى رفع اليدين عند الركوع والقومة منه مستحباً، فكان يفعل تارة ويترك أخرى، كما بين هو بنفسه في سجود التلاوة- انتهى. ومنها أثر علي، روى الطحاوي وابن أبي شيبة والبيهقي عن عاصم بن كليب، عن أبيه: أن علياً كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يرفع بعد. قال الزيلعي: هو أثر صحيح، وقال العيني: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال الطحاوي بعد روايته: لم يكن علي ليرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع ثم يتركه إلا وقد ثبت عنده نسخه- انتهى. قلت: في كون هذا الأثر صحيحاً نظر؛ لأنه انفرد به عاصم بن كليب، وقال ابن المديني: لا يحتج بما انفرد به. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ذكرت للثوري حديث النهشلي عن عاصم بن كليب فأنكره، ذكره البخاري في جزء رفع اليدين. ولو سلم أن أثر علي هذا صحيح لم يكن فيه دليل على نسخ الرفع. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في تعليقه على موطأ محمد بعد ذكر قول الطحاوي المتقدم: فيه نظر، فقد يجوز أن يكون ترك علي، وكذا ترك ابن مسعود، وترك غيرهما من الصحابة إن ثبت؛ لأنهم لم يروا الرفع سنة مؤكدة يلزم الأخذ بها، ولا ينحصر ذلك في النسخ، بل لا يجترئ بنسخ أمر ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجرد حسن الظن بالصحابي مع إمكان الجمع بين فعل الرسول وفعله- انتهى. ومنها أثر أبي سعيد الخدري، روى البيهقي، عن سوار بن مصعب، عن عطية العوفي، أن أباسعيد الخدري وابن عمر كانا يرفعان أيديهما أول ما يكبران ثم لا يعودان. قلت: قال البيهقي: قال الحاكم: عطية سيء الحال، وسوار أسوأ منه. وقال البخاري: سوار بن مصعب منكر الحديث. وعن ابن معين أنه غير محتج به- كذا في نصب الراية (ج1: ص406) . ثم هذا الأثر يعارضه ما رواه البيهقي عن عطاء، قال: رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر، وأباسعيد وابن عباس وابن الزبير وأباهريرة يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا. وفيه ليث بن أبي سليم وهو مختلف فيه. ومنها أثر ابن مسعود، روى الطحاوي عن إبراهيم النخعي، قال: كان عبد الله بن مسعود لا يرفع يديه في شيء من الصلوات إلا في الافتتاح. قلت: أثر ابن مسعود(3/26)
هذا منقطع. إبراهيم لم يلق عبد الله، وكان يأخذ من الثقة وغير الثقة كما صرح به البيهقي في جزء القراءة. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (ج1: ص35) : استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس بحسن- انتهى. وقال الشافعي في كتاب الأم (ج7: ص272، 271) : إن إبراهيم النخعي لو روى عن علي وعبد الله لم يقبل منه؛ لأنه لم يلق واحداً منهما- انتهى. وأما ما روي عن أحمد ويحي بن معين وغيرهما أن مراسيل إبراهيم صحيحة أو مقبولة مطلقاً، ففيه أن الجرح المفسر مقدم على التعديل مطلقاً، ولو سلم أن هذا الأثر جيد فلا يدل على النسخ. قال الشيخ عبد الحي: الانصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى رد روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعله، ولا إلى دعوى النسخ ما لم يثبت بنص عن الشارع- انتهى باختصار يسير بقدر الضرورة، وقد تقدم كلامه بتمامه. ومنها أثر ابن عمر، روى الطحاوي، وأبوبكر بن أبي شيبة، والبيهقي في المعرفة، عن مجاهد، قال: صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة. قال النيموي: سنده صحيح. قلت: بل أثر ابن عمر هذا ضعيف من وجوه، الأول: أن في سنده أبا بكر بن عياش وكان تغير حفظه بآخره، فما لم يثبت أن الراوي عنه- وهو أحمد بن يونس- أخذ منه قديماً قبل التغير لا يحكم بصحته. والثاني: أنه شاذ فإن مجاهداً خالف جميع أصحاب ابن عمر وهم ثقات حفاظ، والعدد الكثير أولى من واحد. وأما ما روي من موافقة عبد العزيز بن حكيم لمجاهد عند محمد في موطأه، ففيه أن في سنده محمد بن أبان بن صالح- وهو ضعيف- ليس ممن يعتمد عليه. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: ليس بالقوى، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال البخاري في التاريخ: يتكلمون في حفظه لا يعتمد عليه- كذا ذكره صاحب التعليق الممجد نقلاً عن لسان الميزان (ج5: ص31) ، فموافقة عبد العزيز لمجاهد لا تجدي شيئاً. والثالث: أن إمام هذا الشأن يحيى بن معين قال: حديث أبي بكر عن حصين إنما هو توهم لا أصل له، ذكره البخاري في جزء رفع اليدين، ولا شك أن قول يحيى بن معين في هذا الباب حجة؛ لأنه إمام الجرح والتعديل، ومن القائمين بفن معرفة علل الحديث. وقال أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس بحديث. وقد وافقه البخاري على ذلك ولم يخالفه أحد من مهرة هذا الفن. قال الطحاوي بعد رواية أثر ابن عمر هذا: فلا يكون هذا من ابن عمر إلا وقد ثبت عنده نسخ ما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله. قال: فإن قيل: فقد روى طاووس عن ابن عمر خلاف ما رواه مجاهد. قلنا: كان هذا قبل ظهور الناسخ- انتهى. قلت: وأجاب عنه البيهقي في كتاب المعرفة فقال: حديث أبي بكر بن عياش هذا أخبرناه أبوعبد الله الحافظ، فذكره بسنده ثم أسند عن البخاري أنه قال: أبوبكر بن عياش اختلط بآخره، وقد رواه الربيع وليث وطاووس وسالم ونافع وأبوالزبير ومحارب بن دثار وغيرهم، قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبر وإذا رفع، وكان يرويه أبوبكر قديماً عن حصين عن إبراهيم عن ابن مسعود مرسلاً موقوفا: أن ابن مسعود كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم(3/27)
لا يرفعهما بعد. وهذا هو المحفوظ عن أبي بكر بن عياش، والأول خطأ فاحش لمخالفته الثقات من أصحاب ابن عمر. قال الحاكم: كان أبوبكر بن عياش من الحفاظ المتقنين، ثم اختلط حين نسي حفظه فروى ما خولف فيه، فكيف يجوز دعوى نسخ حديث ابن عمر بمثل هذا الحديث الضعيف؟ أو نقول: إنه ترك مرة للجواز إذ لا يقول بوجوبه، ففعله يدل على أنه سنة، وتركه يدل على أنه غير واجب- انتهى. كذا في نصب الراية (ج1: ص409) وقد رد الشيخ عبد الحي أيضاً التمسك بأثر ابن عمر هذا على النسخ من وجوه، وأجاب في ضمنه عن كلام الطحاوي المذكور أيضاً قال في التعليق الممجد: المشهور في كتب أصول أصحابنا أن مجاهداً قال: صحبت ابن عمر عشر سنين فلم أر يرفع يديه إلا مرة. وقالوا: قد روى ابن عمر حديث الرفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركه، والصحابي الراوي إذا ترك مروياً ظاهراً في معناه، غير محتمل للتأويل، يسقط الاحتجاج بالمروي. وقد روى الطحاوي من حديث أبي بكرة بن عياش عن حصين، عن مجاهد قال: صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة، ثم قال: فهذا ابن عمر قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع، ثم ترك هو الرفع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخة. وههنا أبحاث: الأول: مطالبة ما نقلوه عن مجاهد أنه صحب ابن عمر عشر سنين ولم يره إلا في التكبيرة الأولى. والثاني: المعارضة بخبر طاووس وغيره من الثقات أنهم رأوا ابن عمر يرفع. والثالث: أن في طريق الطحاوي أبابكر بن عياش، وهو متكلم فيه لا توازي روايته رواية غيره من الثقات. ثم ذكر كلام البيهقي الذي نقلناه عن نصب الراية، ثم قال: فإن قلت آخذاً من شرح معاني الآثار. أنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رآه طاووس قبل أن يقوم الحجة بنسخه، ثم لما ثبتت الحجة بنسخة عنده تركه، وفعل ما ذكره عنه مجاهد. قلت: هذا مما لا يقوم به الحجة، فإن لقائل أن يعارض ويقول: يجوز أن يكون فعل ابن عمر ما رواه مجاهد قبل أن تقوم الحجة بلزوم الرفع، ثم لما ثبت عنده التزم الرفع، على أن احتمال النسخ احتمال من غير دليل فلا يسمع. فإن قال قائل: الدليل هو خلاف الراوي مرويه. قلنا: لا يوجب ذلك النسخ كما مر. والرابع: وهو أحسنها أنا سلمنا ثبوت الترك عن ابن عمر، لكن يجوز أن يكون تركه لبيان الجواز، أو لعدم رؤية الرفع سنة لازمة، فلا يقدح ذلك في ثبوت الرفع عنه وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والخامس: أن ترك الراوي مروية إنما يكون مسقطاً للاحتجاج عند الحنفية إذا كان خلافه بيقين كما هو مصرح في كتبهم، وههنا ليس كذلك، لجواز أن يكون الرفع الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمله ابن عمر على العزيمة وتركه أحياناً لبيان الرخصة، فليس تركه خلافاً لروايته بيقين. والسادس: أنه لا شبهة في أن ابن عمر قد روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث الرفع، بل ورد في بعض الروايات عنه أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع، وكان لا يفعل ذلك في السجود، فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله. أخرجه البيهقي.(3/28)
ولا شك أيضاً في أنه ثبت عن ابن عمر بروايات الثقات فعل الرفع، وورد عنه برواية مجاهد، وعبد العزيز بن حكيم الترك، فالأولى أن يحمل الترك المروي عنه على وجه يستقم ثبوت الرفع منه. ولا يخالف روايته أيضاً إلا أن يجعل تركه مضاداً لفعله، ومسقطاً للأمر الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بروايته ورواية غيره- انتهى كلام الشيخ عبد الحي. وممن رد من الحنفية التمسك بأثر ابن عمر هذا على النسخ: العلامة الشيخ محمد معين السندي أيضاً، وهو من تلامذة الشاه ولي الله الدهلوي فارجع إلى دراسات اللبيب (ص171) . واستدلوا أيضاً بأنه قد ثبت الترك بالاتفاق في جنس ذلك الحكم، وهو الرفع بين السجدتين، وثبوت الترك في الجنس دليل على نسخ الأصل كما قرروا في حديث التسبيع في سؤر الكلب أنه كان في زمن التشديد في أمر الكلاب وكما في مسئلة الرضاعة. قالوا: قد تدرج النسخ فيها من عشر رضعات حتى نسخ رأساً. قلت: دعوى الاتفاق على ثبوت الترك في جنس ذلك الحكم ممنوعة، ولا نسلم أن الرفع بين السجدتين أو عند كل خفض ورفع كان مشروعاً ثم نسخ وترك، حتى يكون ذلك الترك دليلاً على تدرج النسخ إلى الأصل. ولو تنزلنا وسلمنا أن الرفع بين السجدتين كان ثم نسخ وترك، فلا يدل ذلك على نسخ الرفع عند الركوع، والرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة، كما لا يدل على نسخ الرفع عند التكبيرة الأولى، وأما القول بأن حكم تثمين الغسلات والتسبيع والترتيب في سؤر الكلب كان في زمن التشديد في أمر الكلاب ثم وقع فيه النسخ تدريجاً فباطل مردود على قائله، قد رده الحافظ في الفتح، والشيخ عبد الحي في السعاية فارجع إليهما. وكذا دعوى تدرج النسخ في مسألة الرضاعة أيضاً باطلة فإنه لا دليل على نسخ حكم خمس رضعات الذي ذهب إليه الشافعي، ولا على نسخ حكم ثلاث رضعات الذي هو مذهب أحمد، لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، ولا يثبت النسخ بالادعاء. واستدلوا أيضاً بأنه وقع في الصلاة تغيرات في أوقات مختلفة كما يدل عليه حديث معاذ بن جبل عند أبي داود: "أحيلت الصلاة ثلاث تحويلات"، وقد كانت أقوال وأفعال من جنس هذا الرفع مباحة في الصلاة، كالكلام، والتطبيق، وعدم استواء الصفوف، والمشي ونحو ذلك، ثم نسخت لكون مبنى الصلاة على السكون والخضوع، فلا يبعد أن يكون الرفع في المواضع الثلاثة أيضاً مشمولا بالنسخ. قلت: سلمنا وقوع التغييرات في الصلاة لكن هذه التغييرات إنما وقعت في الأمور التي هي من العادات، كالكلام، واختلال الصفوف، والمشي، والتطبيق، فنهوا عن الكلام وأمروا بالسكوت قبل وقعة بدر بقوله تعالى: {قوموا لله قانتين} [238: 2] ، وأمروا بتسوية الصفوف في أوائل الهجرة، وأما الأمور التي هي من العبادة فلم يقع النسخ والتغيير فيها. والكلام ههنا فيما هو من صلب الصلاة، وأمر القبلة من شرائط الصلاة لا من صلبها. والرفع بين السجدتين أو عند كل خفض ورفع لم يثبت. وأما الرفع في المواضع الثلاثة الذي هو من أمور العبادة فقد ثبت تواتراً، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ما يدل على نسخه، كما صرح به من الحنفية الشيخ عبد الحي، والشيخ أبوالحسن السندي،(3/29)
والشيخ محمد بن معين السندي وغيرهم. فالقول بكونه مشمولاً بالنسخ بمجرد التخمين تقوّل على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وافتراء عليه. أعاذنا الله منه. وههنا أمور ينبغي أن نذكرها ليتضح لك هذا الجواب حق الاتضاح، وهي تنفعك فيما يأتي أيضاً: الأول: أن الأمور العادية هي التي منع منها في الصلاة ما منع؛ لأنها منافية للخشوع، بخلاف الأفعال التي هي من جنس العبادة، فلم يقع النهي عنها، بل أمروا بها لكونها مؤثرة في الباطن، مورثه للخشوع في القلب، والصلاة هي اسم لمجموع الأفعال الظاهرة والخشوع، لا لخشوع القلب فقط. والثاني: أن مطلق الحركة ليست بمنافية للخشوع، كحركة الانتقال من القيام إلى الركوع والسجود، ورفع الرأس منها، ورفع السبابة في التشهد، ورد السلام بالإشارة. وقال تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [45: 2] . والثالث: أن رفع اليدين الذي هو حركة من الحركات، وعمل من أعمال الصلاة ليس من الأمور العادية، بل هو من العبادات؛ لأن اشتغال اليدين بالعبادة مع الأعضاء الظاهرة الأخرى من كمال العبادة، كما قيل في وضع اليمنى على اليسرى في القيام، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ووضعهما حذاء الأذنين أو المنكبين في السجدة مستقبلاً بأصابعهما القبلة، ورفع المسبحة، والإشارة بها في التشهد، ونصب القدمين في السجدة. ومما يدل على كون رفع اليدين من أمور العبادة ما في شرح البخاري للعيني (ج5: ص272) : قال ابن بطال: رفعهما تعبد، وقيل: إشارة إلى التوحيد، وقيل: انقياد. وقيل: إشارة إلى طرح أمور الدنيا والإقبال بالكلية إلى الصلاة. وقيل: استعظام ما دخل فيه. وقال الشافعي: تعظيم لله، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عمر: هو من زينة الصلاة، وبكل رفع عشر حسنات، بكل إصبع حسنة – انتهى ملخصاً. وقال الشاه ولي الله في حجته (ج2: ص6) : الهيئات المندوبة إليها في الصلاة ترجع إلى معان: منها: ... ، ومنها: محاكاة ذكر الله، وإيثاره على من سواه بأصابعه ويده حذو ما يعقله بجنانه ويقول بلسانه، كرفع اليدين والإشارة بالمسبحة ليكون بعض الأمر معاضداً لبعض ... الخ. والرابع: أن رفع اليدين في المواضع الثلاثة على الهيئة المخصوصة ليس منافياً للخشوع الذي هو للصلاة كالروح للجسد، بل نقول: إن الرفع في هذه المواضع عين الخشوع. قال الشاه ولي الله في حجته (ج2: ص8) : السر في ذلك أن رفع اليدين فعل تعظيمي ينبه النفس على ترك الأشغال المنافية للصلاة والدخول في حيز المناجاة، فشرع ابتداء كل فعل من التعظيمات الثلاث لتنتبه النفس لثمرة ذلك الفعل مستأنفاً – انتهى. ثم إنهم قد اتفقوا على سنية افتتاح الصلاة برفع اليدين، وهذا دليل واضح على عدم منافاة الرفع للخشوع، وإلا لما جاز اقتران الصلاة به والمواظبة على الإفتتاح به. ولا فرق بين هذه الرفع وبين الرفع في المواضع الثلاثة الباقية. ومن ادعى الفرق فعليه البيان. ومما يؤكد ما قلنا من عدم المنافاة بين الرفع المذكور والخشوع، وعدم الفرق بين الرفعين أن الحنفية قالوا بمشروعيته في وسط الصلاة أيضاً، أي عند تكبير القنوت وتكبيرات العيدين، فالقول باستنان الرفع في أول الصلاة، والذهاب إلى(3/30)
مشروعيته في وسطها، ثم الحكم بكراهته أو عدم استحبابه في المواضع الثلاثة على توهم أنه نسخ لكونه منافياً للخشوع والسكون صريح تناقض. وقد رد هذا الاستدلال الشيخ محمد معين السندي أيضاً في دراساته (ص169) فارجع إليه. هذا، وقد ذكروا لترجيح ترك الرفع في غير التحريمة، وترجيح روايات الترك على الرفع ورواياته وجوهاً كلها مخدوشة مردودة، فمنها أن الرفع فعل ينبىء عن الترك فلا يناسب كونه في أثناء الصلاة. وفيه أن تجديد التنبه لترك ما سوى الله عند كل فعل أصل من الصلاة مطلوب، وهذا يقتضي استحباب الرفع في أثناء الصلاة لا تركه. ومنها أنه قد ثبت ترك الرفع في غير الافتتاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصداً فلم يكن تركه على طريق العدم الأصلي. وقد علم أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف، وهذا يقتضي كون ترك الرفع أرجح. وفيه أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الرفع المتنازع فيه أصلاً كما تقدم، وعلى هذا فالترك عدمي محض، فيترجح عليه الرفع، لكونه عبادة بخلاف الترك فإنه ترك عبادة. وأيضاً الرفع فعل تعظيمي، ولذلك ابتدأ به الصلاة، وهذا أيضاً يقتضي كون الرفع أرجح. ومنها ما قال بعضهم في شرحه للموطأ: أن كل ما اختلف فيه شيء من الروايات أخذت الحنفية منها الأوفق بالقرآن، فلما رأوا أحاديث ترك الرفع أوفق بقوله تعالى: {قوموا لله قانتين} [238: 2] رجحوها به، قال: وهذا أوجه وجوه الترجيح. وفيه أن هذا الوجه ليس بوجيه فضلاً أن يكون أوجه، بل هو باطل جداً لما قد عرفت أن الروايات التي استدلوا بها على ترك الرفع في غير الافتتاح كلها ضعيفة غير قابلة للاحتجاج، بل بعضها باطلة موضوعة، فالتصدي لترجيح مثل هذه الروايات على روايات الرفع الصريحة الصحيحة الثابتة المتواترة إسناداً وعملاً جهل وسفه، لا يأتي ذلك إلا من متعصب معاند للسنة. وأيضاً قد تقدم أن قوله تعالى: {قوموا لله قانتين} نزل قبل وقعة بدر، وقد ثبت الرفع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعد نزوله كما يدل عليه حديث مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر، وابن عمر، وغيرهم، بل قد ثبتت مواظبته - صلى الله عليه وسلم -، وإجماع الصحابة عليه بعده، فلو كان ترك الرفع أوفق للقرآن، وأقرب إليه، وأشبه به لما واظب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على خلاف مقتضى القرآن، ولا أجمع الصحابة عليه بعده؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا أحق وأكثر فهماً للقرآن. وأيضاً مبنى هذا الوجه على أن الرفع مناف للسكون والخشوع، وقد تقدم بطلانه، ولفساد هذا الوجه وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن بعض أنواع الرفع الثابتة متروك عند الجميع ومجمع عليه، فهذا قرينة على أنه وقع النسخ فيه، فالأخذ بالمتفق عليه أولى، وهو الرفع عند التحريمة. وفيه نظر من وجوه: الأول أن ترك الرفع بين السجدتين أو في كل خفض ورفع ليس بمجمع عليه كما سيأتي، فدعوى كون بعض أنواع الرفع متروكاً عند الجميع باطلة؛ لكونها خلاف الواقع. الثاني أن من لم يقل بالرفع فيما عدى المواضع الأربعة إنما اختار ذلك لعدم ثبوته عنده بطريق صحيح، لا لأنه كان مشروعاً ثم ترك ونسخ، فلا يكون عدم القول به دليلاً على وقوع النسخ. والثالث أن القائلين بالرفع في المواضع الأربعة ما تركوا المتفق عليه،(3/31)
بل قد أخذوه، ثم أخذوا أيضاً ما واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما قد أجمع عليه الصحابة بعده، وما هو ثابت بتواتر الإسناد والعمل، بخلاف الحنفية فإنهم تركوا بل طرحوا الثابت، وتمسكوا بما لم يثبت، وليس الأخذ بالضعيف أو غير الثابت من الاحتياط في شيء، إنما الاحتياط في الأخذ بما ثبت لا بما لم يثبت. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن الصلاة انتقلت عن الحركات إلى السكون، فإنه كان في أول الأمر المشي وأمثاله مباحة، فلما تعارضت الروايات أخذت الحنفية الأقرب إلى السكون. وفيه أن هذا الوجه يرجع إلى ما ذكره هو أولاً وقد بينا فساده. ثم نقول: إن تلك الحركات كانت من الأمور العادية، ومنع منها لكونها منافية للخشوع والسكون، بخلاف الرفع المتنازع فيه، فإنه من أمور العبادة وليس منافياً للخشوع، بل هو مورث للخشوع أو عينه كما بينا، ولم يثبت التغيير فيه أصلاً كما صرح به غير واحد من علماء الحنفية، وادعاء التعارض بين أحاديث الرفع والترك جهل، فإنه لا بد لتحققه من المساواة في القوة، والضعيف لا يعارض القوي والصحيح. والعجب ممن يفرق بين الرفع في القنوت والعيدين، وبين الرفع في المواضع الثلاثة، مع أن الرفعين من جنس واحد، ومع أن الترك مطلقاً أقرب إلى السكون، ومع أن الرفع في القنوت والعيدين لم يثبت مرفوعاً بسند صحيح، ومع أن الرفع في المواضع الثلاثة ثابت حقاً. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن أكثر من روى أحاديث الرفع تشمل رواياتهم الزائد من المواضع الثلاثة، فهو متروك عند من استدل بها أيضاً. وأحاديث الناقلين للترك محكم في موداه ليست مما يؤخذ بعضها ويترك بعضاً. وفيه أن الأحاديث في ذلك على ثلاثة أنواع: الأول أحاديث الترك في غير التحريمة. والثاني أحاديث الرفع في المواضع الثلاثة فقط. والثالث الأحاديث التي فيها الرفع زائداً على المواضع الأربعة. وقد سبق أن أحاديث الناقلين للترك كلها ضعيفة غير صالحة للاستدلال، بل بعضها باطلة موضوعة، فليست هي مما يؤخذ أصلاً لا كلاً ولا بعضاً، بل هي مما يترك ويطرح رأساً، ومع ضعفها محتملة للتأويل بخلاف النوع الثاني، أي أحاديث الرفع في المواضع الثلاثة فقط، فإنها صحيحة ثابتة محكمة في موادها، فيجب الأخذ بها على كل مسلم. وأما الأحاديث التي فيها الرفع زائداً على المواضع الأربعة فلم تثبت ولم يصح منها شيء، ولذلك لم نقل بالرفع في غير هذه المواضع. وأصل استدلال القائلين بالرفع ليس بهذه الأحاديث بل بالنوع الثاني، وهي محكمة في موادها ليست مما يؤخذ بعضها ويترك بعضها. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن روايات الفعل متعارضة، ورواية القول سالمة من المعارضة، فتبقى حجة. وفيه ما تقدم آنفاً من أن دعوى التعارض باطلة لتوقفه على المساواة في القوة والضعف، وأحاديث الخصوم كلها ضعيفة لا تصلح للمعارضة، ولو تنزلنا وسلمنا قوتها وصحتها فلا تصلح للمعارضة أيضاً، فإن أحاديث الرفع أقوى وأصح وأكثر قد بلغت التواتر، وبعضها متفق عليه، فمعارضتها بأحاديث الترك وجعلها ساقطة بادعاء التعارض بلادة ظاهرة. وأما رواية القول يعني حديث جابر بن سمرة: "مالي أرى رافعي أيديكم" فقد حققنا بما لا مزيد عليه أنه لا ذكر فيها للرفع المتنازع فيه،(3/32)
وأن الاستدلال بها على ترك الرفع ونسخة جهل قبيح. ومنها ما قال هذا البعض: أن التعارض إذا وقع في الفعل والقول يقدم القول. وفيه أنه لم يرد في الترك حديث قولي، وأما حديث جابر فقد تقدم أنه ورد في الرفع عند السلام لا في الرفع المتنازع فيه. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً ملخصاً لكلام الإمام محمد في موطأه: أن الناقلين للترك أولو الأحلام والنهى فكان موقفهم الصف الأول، فهم أعلم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف مثل عبد الله بن عمر فإنه استصغر يوم أحد، وأول مشاهده الخندق. وفيه أنه لم ينفرد ابن عمر برواية الرفع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل اشترك معه جمع كثير من الصحابة كأبي بكر عند البيهقي، وعمر عند الدارقطني، وعلي عند أبي داود وغيرهم ممن ذكرهم السيوطي في رسالته. ولا شك أن هؤلاء أولو الأحلام والنهى، ومن أهل بدر، ومن الخلفاء الراشدين، ومن أهل الصف الأول، فهم أعلم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس في كبار الصحابة من روى عدم الرفع في غير الافتتاح إلا ابن مسعود مع أنه لم تثبت روايته عند المحدثين، فانعكس الأمر، وترجح الرفع بما لا يدفع. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن الرفع في غير التحريمة يدور بين السنية ونسخها لتعارض الروايات، ومعلوم أن الشيء إذا يدور بين السنة والبدعة يرجح الثاني، ومن المعلوم أيضاً أنه يرجح المحرم على المبيح أبداً. وقال صاحب الكوكب الدري - وهو شيخ مشائخ هذا البعض-: الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام أبوحنيفة؛ لأن رفع اليدين على تقدير نسخه يكون عملاً بالمنسوخ، وعدم الرفع على تقدير استحبابه يكون ترك أدب، وإحداث بدعة أشنع من ترك أدب. وفيه أن مقتضى هذا الوجه أن يكون الرفع في غير التحريمة مكروهاً؛ لأنه إما دائر بين أن يكون سنة على تقدير استحبابه، وبين أن يكون بدعة على تقدير نسخه، أو دائر بين أن يكون مباحاً لأحاديث الرفع، وبين أن يكون محرماً لحديث جابر بن سمرة: مالي أرى رافعي أيديكم. وهذا مخالف لما تقدم من تصريح صاحب الكوكب بأنه لا خلاف في الجواز وعدم الجواز، وإنما النزاع في أن الأولى هل هو عدم الرفع أو الرفع، فاخترنا الأول واختار الشافعية الثاني، فإن كلامه هذا يدل على أن المحقق عنده أن جواز الرفع ليس بمنسوخ،، بل هو باق إلى الآن، وإنما المنسوخ هو استحبابه، فالأولى والمستحب عنده هو ترك الرفع، وهو أيضاً مخالف لتصريحات المحققين من الحنفية كأبي بكر الجصاص الرازي، فإنه صرح بأن الاختلاف في الأفضلية لا في الجواز، وتبعه في ذلك الشيخ محمد أنور الكشميري وقال: القول بكراهة التحريم في مسألة متواترة بين الصحابة شديد عندي. وقال جامع تقاريره: من رفع فهو على حق وسنة. وكالشاه ولي الله الدهلوي فإنه صرح بكون الرفع سنة، وبأن الذي يرفع أحب إليه ممن لا يرفع. وكتلميذه الشيخ محمد معين السندي فإنه رد على الحنفية رداً مشبعاً، وحقق كون الرفع سنة متواترة واظب عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكالشيخ أبي الحسن السندي صاحب(3/33)
الحواشي على الأصول الستة. والشيخ عبد الحي اللكنوي شيخ النيموي فإنهما صرحا بأن الرفع أرجح من الترك. وقد حققنا بما لا يدفع أن أحاديث الترك ضعيفة لا تصلح لمعارضة أحاديث الرفع لضعفها. ولأنه لا تعارض بين الفعل والترك؛ لأن مجرد الترك لا يدل على نسخ الجواز، ولقد صدق ابن الجوزي حيث حكم بالبلادة على من حاول معارضة أحاديث الرفعات بما روى من الأحاديث في عدم الرفع، فقال: ما أبلد من يحتج بهذه الأحاديث يعني التي تروى في عدم الرفع إلا مرة في التحريم ليعارض بها الأحاديث الثابتة. وقال البخاري: من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة، فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركة- انتهى. وليس في كلام البخاري هذا شيء من المبالغة كما توهم بعض الحنفية. وقد قررنا أيضاً أن حديث جابر بن سمرة ليس بوارد في الرفع المتنازع فيه، فإذن لا احتمال، ولا مجال ههنا للقول بالنسخ والتحريم، فلم يبق حينئذٍ إلا جهة كون الرفع سنة ثابتة مستمرة، وكون خلافه مرجوحاً بل باطلاً، ولا شك أن الاحتياط إنما هو في العمل بالسنة الثابتة لا في ردها وتركها ومخالفتها. والعجب من هذا البعض وأمثاله إنهم يخترعون مثل هذه الوجوه الواهية المضحكة لرد الأحاديث الصحيحة الثابتة المتواترة. هداهم الله تعالى إلى الصراط المستقيم، إلى إتباع سنن نبيه الكريم. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً أن رواة المنع والترك أفقه من رواة المثبتين. وهذا مما لم يقدر على إنكاره الأوزاعي أيضاً فيقدم روايتهم. وفيه أنه ليس في كتب الحديث على اختلاف أنواعها حديث مرفوع صحيح، أو ضعيف صريح في المنع عن الرفع في المواضع الثلاثة. ولا يمكن للحنفية أن يأتوا بحديث صريح في المنع عن الرفع المتنازع فيه ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. وأما قوله: إن رواة أحاديث الترك أفقه، ثم ترجيحها بذلك على أحاديث الرفع، فهو ادعاء محض وتحكم مجرد، بل الأمر على خلاف ما قال هذا البعض كما سترى. وقد أشار بذلك على ما حكى أنه اجتمع أبوحنيفة مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين، فقال الأوزاعي: ما لكم لا ترفعون عند الركوع والرفع منه؟ فقال: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: الأوزاعي: كيف لم يصح وقد حدثني الزهري، عن سالم، عن أبيه، ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وعند الركوع، وعند الرفع منه. فقال أبوحنيفة: حدثنا حماد، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبد الله بن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع يديه إلا عند الافتتاح ثم لا يعود. فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وتقول: حدثني حماد عن إبراهيم؟! فقال أبوحنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر أي في الفقة، وإن كان لابن عمر صحبة، وله فضل صحبته، وللأسود فضل كثير، وعبد الله عبد الله. ذكر هذه الحكاية ابن الهمام في فتح القدير، ومنه نقلها على القاري في المرقاة، والشيخ أحمد علي السهارنفوري في حاشية البخاري. قال ابن الهمام بعد ذكرها. فرجح أبوحنيفة بفقة الرواة كما رجح الأوزاعي بعلو الإسناد وهو أي(3/34)
الترجيح بالفقة المذهب المنصور عندنا-انتهى. والقصة مشهورة بين الحنفية، لكن لا يشك من له أدنى عقل ودراية أنها حكاية مختلقة، وأكذوبة مخترعة. كيف ولم يذكرها أحد من تلاميذه أبي حنيفة وأصحابه، ولا أحد من متقدمي الحنفية، ولو كان لها أصل لذكرها محمد في موطأه أو في غيره من تصانيفه مع أنه لم يشر إليها أدنى إشارة. نعم ذكرها السيد مرتضى الحسيني في عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة (ج1: ص43) نقلاً عن مسند أبي محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري المتوفي سنة (340) قال: روى الحارثي في مسنده قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن زياد الرازي: ثنا سليمان بن داود الشاذكوني ... الخ. وقال: وسليمان الشاذكوني واهٍ مع حفظه، إلا أن القصة مشهورة. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (ج2: ص82) : قال الرازي: الشاذكوني ليس بشيء، متروك الحديث. وقال البخاري: هو عندي أضعف من كل ضعيف. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: كان يكذب ويضع الحديث-انتهى. قلت: وعبد الله الحارثي جامع مسند أبي حنيفة متهم بوضع الحديث. قال الذهبي في الميزان (ج2: ص74) : عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري الفقيه عرف بالأستاذ. قال ابن الجوزي: قال أبوسعيد الرواس: يتهم بوضع الحديث. وقال أحمد السليماني: كان يضع هذا الإسناد على هذا المتن، وهذا المتن على هذا الإسناد، وهذا ضرب من الوضع. وقال حمزة السهمي: سألت أبازرعة أحمد بن الحسن الرازي عنه، فقال: ضعيف. وقال الحاكم: هو صاحب عجائب وأفراد عن الثقات. وقال الخطيب: لا يحتج به. وقال الخليلي: يعرف بالأستاذ، له معرفة بهذا الشأن، وهو لين، ضعفوه. حدثنا عنه الملاحمي وأحمد بن محمد البصير بعجائب. قال الذهبي: وقد جمع مسنداً لأبي حنفية - انتهى. قال الحافظ في اللسان (ج3: ص349) : وبقية كلام الخليلي: كان يدلس، وقال الخطيب: كان صاحب عجائب، ومناكير، وغرائب، وليس بموضع الحجة، وعلى كون هذه الحكاية مختلقة أدلة عقلية أيضاً، فمنها أنه جعل فيها مبنى الترجيح على فقه الراوي، ومرجعه إلى مسألة الرواية بالمعنى؛ لأنه يتعلق بمعرفة مدلولات الألفاظ كما لا يخفى، لكن مسألة الرفع خارجة عنها، فإن الترجيح بالفقه إنما يمكن في أقواله - صلى الله عليه وسلم - لا في أفعاله وأحواله وتقريراته. ومن المعلوم أن رفع اليدين في الصلاة من الأفعال لا من الأقوال، وإليه أشار الإمام الرازي حيث قال: أي مدخل للتفقه في الأمور الحسية؟ ومنها أن أبا حنيفة قال أولاً: لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء، وكان مقتضى الحال أن يذكر حديث ابن مسعود، فإن الدليل على ترك الرفع في غير الافتتاح عند أهل الكوفة إنما هو حديث ابن مسعود، لا عدم ورد حديث صحيح في الرفع. ومنها أنه عارض بعد ذلك حديث ابن عمر بحديث ابن مسعود، فكأنه سلم صحة حديث الرفع بعد ما أنكر صحته أولاً، وهذا كما ترى صريح تناقض. ومنها أن المراد بالفقة إن كان هو الفهم والذكاء، وقوة الاستنباط والاستخراج فلا شك أن الزهري أفقه من حماد، وسالماً أفقه من إبراهيم، وابن عمر(3/35)
مع كونه صحابياً أفقه من علقمة والأسود كما يظهر من كتب أسماء الرجال. وعلى هذا فالترجيح يكون لحديث ابن عمر لعلو سنده ولصحته، ولكون رواته أفقه، ولكونه مثبتاً، لا لحديث ابن مسعود لعدم وجود هذه الأمور فيه. قال الشيخ محمد معين السندي الحنفي تلميذ الشاه ولي الله الدهلوي في دراساته (ص177-184) : ومن الإغراب البديع معارضة حديث الرفعات من أكثر الحنفية بما حكى ابن عينية أنه اجتمع أبوحنيفة مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين، فقال الأوزاعي - فذكر مناظرتهما بمثل ما قدمنا ثم قال -: وذلك الإغراب من وجوه، الأول: أن هذه الحكاية عن ابن عينية معلقة، ولم أر من أسندها. ومن عنده السند فليأت به حتى ننظر رجاله. والمعلقات من أمثالها ليس من الاحتجاج في شيء، ولهذا لم يتعرض لها الحافظ الزيلعي في تخريج الهداية مع استيفائه حجج المسألة من كل قوي وضعيف يعتبر به ويشهد له، وذلك لأن المعلق من غير الجامع الصحيح كما لا يحتج به لا يصلح للاعتبار والشهادة مطلقاً. وليس في ذلك كالضعاف الذي تنقسم إلى ما يعتبر بها وإلى ما لا يعتبر، ولهذا يقول الإمام الدارقطني في تفاوت مراتب الرجال: فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به. ومن هذا سقط ما أشار إليه ابن الهمام من الاعتبار والشهادة بقوله: ويؤيد صحة هذه الزيادة يعني زيادة بعض الرواة في حديث ابن مسعود: "ثم لا يعود" رواية أبي حنيفة من غير الطريق المذكور، وذلك أنه اجتمع مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين كما حكى ابن عينية إلى آخرها، لما عرفت من تعليقها وحكم التعاليق. الثاني: أن قول أبي حنيفة في هذه الحكاية: "لم يصح فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء" مفصح من عدم علمه بحديث ابن عمر على ما هو المتبادر الظاهر من كلامه، والتقييد بأن يقال: أراد عدم صحته بشيء غير معارض، كما ارتكبه القاري في شرح الموطأ من رواية محمد، خلاف الظاهر - قلت: قال القاري في المرقاة: قوله: "لم يصح فيه شيء" أي لم يصح معنى إذ هو معارض، وإلا فإسناده صحيح - فبإخبار الأوزاعي بمجرده من غير تصحيحه على شرائط الملتزمة عنده يجوز أن لا يحصل له الثقة بذلك فجرى الكلام معه على ما جرى. الثالث: فقه الرواة لا أثر له في صحة المروي، وإنما مدارها على العدالة والضبط، وكلما اشترط في صحة الحديث، إذ قلة الفقه لا يوجب الوهن في شرائط التحمل وما يلازمه الوثوق بالرواية، وإذا انتفى ذلك بقي العلو لسند ابن عمر مع ما له من الصحة. والحنفية لا يعتقدون أيضاً أن قلة فقه الراوي مما يتطرق به الوهن إلى مرويه، بل يرون أن رواية قليل الفقه من الصحابة إذا خالفها القياس من كل وجه يقدم القياس عليها من غير أن يتطرق عندهم وهن بعدم فقه الراوي في صحة مروية, أو يحصل زيادة وثوق بفقه الراوي لصحة مروية من مروي من دونه في الفقه. وما ذهبوا إليه من تقديم القياس على رواية مثل أبي هريرة، وأنس بن مالك, وجابر بن سمرة، وهم عندهم ممن يقل فقههم من الصحابة قد وقع عليهم بذلك الطعن الشديد, لا سيما في حكمهم على أبي هريرة بقلة الفقه، حيث نسبوهم بعظم الجسارة بهذا القول، وكما وقع(3/36)
الطعن من هذا الوجه وقع على أشد من ذلك من حيث استلزام هذا القول منهم تقديم الرأي على السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعدم التعبد في كلام الشارع المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، فإن السند فيه باب القياس، وتعويلهم على رأي من يجوز عليه الخطأ والرجوع عن رأية في ساعة. وقد جروا على ذلك في حديث المصراة من مسند أبي هريرة، وقد أجبنا عنه في وريقات بما يتبين به وفاق القياس بالحديث من غير خافية، - ثم ذكر ما عللوا به تقديم القياس على السنة وبسط الكلام في الرد عليه ثم قال -: وإذ تبين أنه لا أثر لفقه الراوي في صحة الحديث وقوته على حديث غير الفقية، وأن أصحاب أبي حنيفة - أي المتأخرين - إنما يرون الأثر لكثرة الفقه وقلته من جهة أخرى غير ترجيح المروى- وهي تقديم القياس على فساده- فنسبة القول بترجيح رواية الفقية على غير الفقية إلى أبي حنيفة في هذه الحكاية من أمارات الإختلاق عليها. الرابع: كما دل العقل على أن فقه الراوي لا أثر له في صحة الرواية فلا يستند قول ذلك إلى أبي حنيفة دل النقل من الثقات على أنه قول موضوع مختلق على السلف الصالح، ومستحدث من المتأخرين ممن لا يعبأ بقوله على وضوح فساده. شهد بذلك فخر الإسلام، والشيخ الأجل عبد العزيز صاحب الكشف والتحقيق، وهو شيخ الإمام ابن الهمام. وصرح بذلك في التحقيق. قال: ولم ينقل من أحد من السلف اشتراط الفقه من الراوي، فثبت أنه قول مستحدث انتهى. وإذا اجتمع العقل والنقل قويت الأمارات، وصارت دليلاً قطعياً على كذب الحكاية واختلاقها. الخامس: سلمنا أن لفقه الراوي أثراً على ترجيح مرويه على مروي غير الفقيه- كأبي هريرة وأنس وجابر عند المتجاسرين من بعض الحنفية- فلا نسلم أن رجال حديث ابن عمر غير فقهاء، ترجح على مرويهم حديث ابن مسعود لفقه رواته، وكون رجاله أفقه من رجال ابن عمر إن سلم فلا نسلم حصول الترجيح بحديث ابن مسعود بحيث يترك به رأساً حديث ابن عمر لرجوعه إلى باب خلاف الأضبط مع الضابط، والترجيح الحاصل بكثرة الضبط مع إتقان ضبط المخالف على ما يدفع مخائل الخطأ عنه لا يوجب ترك المرجوح رأساً وعدم العمل به أصلاً حتى يعد من مكروهات الصلاة، بل البدعة الحادثة. على أن حديث ابن عمر في الرفعات قد عرفت فيما سبق أنه قل حديث يوازيه في القوة وأنه من المتواترات، فهو طور موطر لا يزعزعه عاصفات الرياح فضلاً عن غيرها. ولقد صدق ابن الجوزي حيث قال: ما أبلد من يحتج بهذه الأحاديث يعني التي تروى في عدم الرفع إلا مرة في التحريم، ليعارض بها الأحاديث الثابتة، حكاه الحافظ ابن حجر في تخريج مسند الرافعي (ص83) . وحاصل الكلام ههنا أن هذه الحكاية عن أبي حنيفة بعد كونها معلقة غير مقبولة قد قامت الدلائل الواضحة على عللها القادحة فيستغرب الإقدام ممن يقدم على إيرادها في محل الاحتجاج أو الاعتبار انتهى كلام الشيخ محمد معين مختصراً. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن مقتضى القياس ترجيح روايات الترك؛ لأن الشرع جعل لانتقالات الصلاة علامة، وهي التكبير والذكر، وجعل لابتداء الصلاة وانتهائها علامة أخرى أيضاً(3/37)
مع الذكر، وهي الرفع عند البداية، وتحويل الوجه عند السلام، فينبغي أن يكون حكم الانتقالات واحداً على وفق نظائرها، وحكم الطرفين واحداً. وفيه كلام من وجوه، الأول: أن المصير إلى القياس إنما يكون إذا تعارض النصان، وهو ههنا منتف لما تقدم مراراً من عدم موازاة أحاديث الترك لأحاديث الرفع، ولو سلم التعارض فالرجوع إلى القياس إنما يكون إذا لم يمكن الجمع، وأما إذا أمكن يلزم أن يجمع، وههنا العمل بكلتيهما ممكن كما حققه السندي والشيخ عبد الحي اللكنوي وغيرهم ممن لم يقل بنسخ جواز الرفع، وإذا كان الأمر كذلك فمرجع هذا الوجه ترك السنة الصحيحة الثابتة المتواترة بمجرد القياس، ولا يجتريء عليه إلا مقلد جاهل. أو عالم متعصب لرأي إمامه. والثاني: أن الشرع الذي جعل لابتداء الصلاة علامة الرفع مع الذكر قد جعل لانتقالاتها أيضاً هذه العلامة، وهذا مما لا يمكن إنكاره لأحد كائناً من كان، فالإقرار بشرعية هذه العلامة في موضع وإنكارها في موضع آخر مع أنهما ثابتان بتواتر الإسناد والعمل بعيد من العاقل. والثالث: أن القياس يقتضي ترجيح روايات الرفع في المواضع الثلاثة، أي عند الركوع، وبعد رفع الرأس منه إرادة الهوي للسجود، وعند القيام إلى الركعة الثالثة؛ ليكون حكم جميع الانتقالات واحداً. وإليه أشار الشاة ولي الله حيث قال: السر في ذلك أن رفع اليدين فعل تعظيمي، ينبه النفس على ترك الأشغال المنافية للصلاة والدخول في حيز المناجاة، فشرع ابتداء كل فعل من التعظيمات الثلاث لتنتبه النفس لثمرة ذلك الفعل مستأنفاً- انتهى. والرابع: أن قوله "فينبغي أن يكون حكم الطرفين واحداً" يقتضي أن يشرع الرفع عند السلام أيضاً ليكون الطرفان متشابهين، ولا إغراب في ذلك؛ لأن هذا من نتائج تحكيم القياس والاعتماد على الرأي مع وجود النص الصريح الصحيح. ومنها ما ذكر هذا البعض أيضاً نقلاً عن الباجي: أن كل تكبير شرع في الصلاة يكون عند عمل قرن به للانتقال من حال إلى حال، فلما لم يكن عند تكبيرة الإحرام عمل من الانتقال عن حال إلى حال قرن به رفع اليدين، كما قرن بالسلام الإشارة بالوجه والرأس لما لم يكن عنده الانتقال من حال إلى حال- انتهى. وحاصله أن مقتضى القياس أن لا يشرع الرفع مع التكبير المقرون بعمل من الانتقال من حال إلى حال لعدم الاحتياج إلى عمل الرفع مع وجود عمل الانتقال، لكون هذا العمل كافياً للدلالة على الانتقال بخلاف التكبير الغير المقرون مع عمل الانتقال، فإن عدم وجود عمل دال على الانتقال هناك يقتضي أن يشرع الرفع منه، ليكون عمل الرفع علامة الانتقال من حال إلى حال، فترك الرفع في غير الافتتاح موافق للقياس من هذه الجهة بخلاف الرفع، فيترجح الترك ورواياته على الرفع ورواياته. وفيه أن القياس الصحيح يرجح الرفع لا الترك لما تقدم أن رفع اليدين فعل تعظيمي ينبه النفس على ترك الأشغال المنافية للصلاة والدخول في حيز المناجاة، ولذلك ابتدأ به في الصلاة فينبغي أن يشرع ابتداء كل فعل من التعظيمين أيضاً به لتنتبه النفس لثمرة ذلك الفعل مستأنفاً، وليكن التعظيمات الثلاث في حكم واحد، وليتقوى العبادة بتوافق القول وعمل الجوارح. ولما تقدم أيضاً أن ترك(3/38)
الرفع عدمي محض وترك عبادة، بخلاف الرفع فإنه وجودي وعبادة، فيترجح على الترك. وقد ظهر من هذا أن القياس الذي أبداه الباجي ثم نقله هذا البعض عنه لترجيح الترك مردود، لما فيه من إهمال أحاديث الرفع الصحيحة الثابتة المتواترة وطرحها، بخلاف ما ذكرنا من الوجهين لترجح الرفع فإنه موافق لهذه الأحاديث ومؤيد بها، فلا يشك في كونه صحيحاً ومقبولاً. ومنها ما ذكر هذا البعض أيضاً نقلاً عن الطحاوي, وذكره الزيلعي أيضاً في نصب الراية. قال الطحاوي: مذهبنا أيضاً قوي من جهة النظر، فإنهم أجمعوا على أن التكبيرة الأولى معها رفع، وأن التكبيرة بين السجدتين لا رفع بينهما، واختلفوا في تكبيرة الركوع وتكبيرة الرفع منه، فألحقهما قوم بالتكبيرة الأولى، وألحقهما قوم بتكبيرة السجدتين. ثم إنا رأينا تكبيرة الافتتاح من صلب الصلاة، لا تصح بدونها الصلاة، والتكبيرة بين السجدتين ليست بذلك، ورأينا تكبيرة الركوع والنهوض ليستا من صلب الصلاة فألحقناهما بتكبيرة السجدتين-انتهى. وفيه نظر من وجوه، أولها: أن الرفع عند التكبيرة الأولى ليس بمجمع عليه، فإن مالكاً قال في رواية عنه: أنه لا يستحب، نقله صاحب التبصرة، وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم، كذا في الفتح (ج3: ص403) . وفي المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن رفع اليدين عندها مشروع، وروي عن بعض المتقدمين المنع عن ذلك- انتهى. واستدل لهم بحديث جابر بن سمرة: "مالي أرى رافعي أيديكم"، وبما روى الطحاوي عن الأسود قال: صليت مع عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته. وبما نقل بعض الحنفية عن الطحاوي أنه روى عن إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود لا يرفع يديه في شيء من الصلاة. ثانيا: أن ترك الرفع بين السجدتين أيضاً ليس بمجمع عليه، فقد ذهب إلى شرعيته أيوب السختياني وطاووس ونافع وعطاء وغيرهم. وقد قال به من الشافعية ابن المنذرو ابن خزيمة وأبوعلي الطبري وغيرهم. وثالثها: أن الذين قالوا بالرفع عند تكبيرة الركوع ورفع الرأس منه إنما اعتمدوا في ذلك على ما ورد فيه من الأحاديث الصحيحة، لا على قياس تكبيرة الركوع والنهوض على التكبيرة الأولى وإلحاقها بها. رابعها: أن تكبيرة الركوع والنهوض، وكذا تكبيرات السجود الظاهر أنها واجبة، ومن صلب الصلاة مثل التكبيرة الأولى، لما روى أبوداود وابن حزم في المحلى (ج3: ص 256) ، وابن الجارود في المنتقى (ص103، 104) وغيرهم حديث المسيء في صلاته بلفظ: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ... " الحديث. وفيه ذكر جميع التكبيرات بسياق واحد، ولما روى أبوداود أيضاً عن أبي موسى الأشعري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا وعلمنا وبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا" الحديث. وفيه: "فإذا كبر - أي عند الافتتاح - فكبروا". وفيه أيضاً: "فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا". وفيه أيضاً: "وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا". فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل كذا وكذا". وقوله: "كبروا". يدلان على وجوب تكبيرات الانتقالات. قال ابن قدامة في المغنى: المشهور عن أحمد أن تكبير الرفع والخفض واجب. وهو قول داود وإسحاق- انتهى. قلت: وهو قول ابن حزم، وهو أيضاً(3/39)
مؤدى رواية ابن القاسم من المالكية، إذ قال: لو أسقط ثلاث تكبيرات سجد للسهو، وإلا بطلت الصلاة- انتهى. ومنها ما يفهم من كلام بعض الحنفية في رسالته في مسألة رفع اليدين: أن الرفع والترك كلاهما ثابتان في الخارج لاتصال العمل بهما من لدن عصر النبوة إلى يومنا هذا، لكن من استقصى صفة الصلاة من الصحابة لم يذكر كثير منهم الرفع، وسكوتهم عن ذكره في حكم ذكر الترك، وحينئذٍ يزيد عدد روايات الترك على روايات الرفع، ومن المعلوم أن الكثرة من المرجحات عند الاختلاف كما صرح به الحازمي والعيني وغيرهما. وفيه أنه لم يثبت ترك الرفع في الخارج عن أحد إلا عن جماعة من أهل الكوفة كما تقدم، وعلى هذا فالروايات التي ليس فيها ذكر الرفع مع بيان صفات الصلاة الأخرى تحمل على أن الرواة اختصروا فيها ذكر الرفع لشهرته، فربما يذكر الراوي ما يحتاج إليه السائل، ويحذف ما كان معلوماً ومشهوراً، فسكوت من سكت عن ذكر الرفع لا يكون في حكم ذكر العدم والترك، فإيراد الحنفية هذه الأحاديث المختصرة الساكتة عن ذكر الرفع لإثبات الترك إيراد في غير محلها. وأما ما قال هذا البعض: أن كثيراً ممن استقصى صفة الصلاة لم يذكروا الرفع، فهو ادعاء محض، ولو سلم ذلك كله فلا يزيد بذلك عدد روايات الترك؛ لأن رواة الرفع قد بلغوا خمسين، بل قد صح فيه أربعمائة خبر وأثر، ورواه العشرة المبشرة على ما قاله المجد الفيروز آبادي في سفر السعادة. ولا وجه لحمل قوله على المبالغة كما توهم بعض الحنفية. ومنها ما يفهم من كلام هذا البعض أيضاً أنه جاء في التحريمة وغيرها من بعض أفعال الصلاة وأحوالها وأذكارها أحاديث قولية وفعلية، وفي بعضها أحاديث قولية فقط، ولم يرو حديث قولي في الرفع في غير الافتتاح أصلاً، وكثير ممن استقصى صفة الصلاة لم يذكره، وهذا يدل على أن الرفع ليس مقصوداً أصلياً. وفيه أن بت الحكم بعدم ورود حديث قولي في الرفع في غير الافتتاح متعذر بل هو غير صحيح، كيف وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث وأصحابه بعد ما صلى بهم مع عمل الرفع: صلوا كما رأيتموني أصلي. فقوله هذا متضمن للأمر بالرفع في غير الافتتاح أيضاً. ولو سلم عدم ورود حديث قولي صريح فيه فلا يدل ذلك على أن الرفع ليس بمقصود أصلي؛ لأن مواظبته - صلى الله عليه وسلم - عليه ثم إجماع الصحابة عليه بعده وتواتر العمل به إلى يومنا هذا أهم وأعظم من ورود حديث قولي فيه. فهو أكبر دليل على كون الرفع مقصوداً ومطلوباً في الصلاة. وكيف لا يكون الرفع كذلك وهو فعل تعظيمي، وهو أيضاً فعل ينبىء عن ترك ما سوى الله، وتجديد التنبه لترك ما سوى الله أصل من الصلاة مطلوب. ومنها ما يفهم من كلام هذا البعض أيضاً أن استغراب الرواة الرفع وترددهم فيه وتساؤلهم عنه يرجح الترك، فعند أبي داود أن ميمون المكي رأى عبد الله بن الزبير وصلى بهم يشير بكفيه حين يقوم وحين يركع وحين يسجد وحين ينهض للقيام، فيقوم فيشير بيديه، فانطلقت إلى ابن عباس، فقلت: إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحداً يصليها، فوصف له هذه الإشارة، فقال: إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله(3/40)
- صلى الله عليه وسلم - فاقتد بصلاة ابن الزبير. وعند أحمد في مسنده (ج2: ص145) : قال محارب بن دثار: رأيت ابن عمر يرفع يديه كلما ركع، وكلما رفع رأسه من الركوع. قال: فقلت له: ما هذا؟ قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه. وعنده أيضاً في (ج2: ص45) عن سالم بن عبد الله بن عمر، أنه رأى أباه يرفع يديه إذا كبر وإذا رفع رأسه من الركوع، فسألته عن ذلك، فزعم أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنعه. فتردد الرواة وتساؤلهم عنه يدل على خمول الرفع فيهم، وكونه متروكاً عندهم، وإلا لما استغربوه، وهذا يقتضي كون الترك أرجح. وفيه أن هذه الأحاديث الثلاثة تدل على أن الرفع سنة مستمرة غير منسوخة؛ لأنه لو كان جواز الرفع أو استحبابه منسوخاً لما أمر ابن عباس ميموناً المكي باقتداء صلاة ابن الزبير، ولما كان عمل ابن عباس وابن عمر بالرفع بعده - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يجوز العمل بالمنسوخ، والاستمرار على غير المستحب والأولى. وكون الرفع سنة مستمرة غير منسوخة يقتضي أن الرفع أرجح من الترك. وأما قول ميمون: لم أر أحداً يصليها، فيمكن أن يكون المراد "لم أر أحداً أي في الكوفة"، فقد تقدم قول محمد بن نصر: أنه أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. على أن ميموناً المكي هذا مجهول، وفيه أيضاً ابن لهيعة، وفيه مقال معروف، والسائل في الحديث الثاني محارب بن دثار، وهو كوفي، وقد علمت آنفاً أن ترك هذه السنة لم يكن إلا في الكوفة، فالظاهر أن محارباً لما رأى من ابن عمر خلاف ما عهده بالكوفة من عدم الرفع تعجب وسأل ابن عمر عن ذلك وهذا لعدم علمه بهذه السنة، وهذا لا يدل على كون الرفع مخمولاً ومتروكاً عندهم، وعلى فقدان العمل به فيهم. على أن استغراب محارب وتعجبه إنما كان من الرفع عند النهوض للركعة الثالثة، لا من الرفع عند الركوع وعند رفع الرأس منه، يدل على ذلك قول ابن عمر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه، ولو لم يكن تعجب محارب من هذا الرفع لما سكت بسماع جواب ابن عمر المتقدم. وعلى هذا فإيراد هذا الحديث للاستدلال به على خمول الرفع عند الركوع والرفع منه، وعلى ترجح الترك فيهما ليس بصحيح. وأيضاً غاية ما تشير إليه هذه الروايات هو أن جماعة من الناس تسامحوا في هذه السنة فتركوها، كما أن بني أمية تركوا نفس التكبيرات، والمحافظة على أوقات الصلاة، والتعديل في الأركان ولا نعلم أحداً استدل بتسامحهم في هذه الأمور، وترك اهتمامهم بها، وتكاسلهم عنها، على أن ترك التكبيرات والتعديل، وتأخير الصلاة عن أوقاتها أرجح، فكذلك ههنا أيضاً لا يصح الاستدلال بهذه الروايات على خمول الرفع فيهم، ولا على كون الترك أرجح. سلمنا دلالتها على خمول الرفع، لكنها تدل عليه بالإشارة. ومن المعلوم أن العبارة مقدمة على الإشارة. علا أنه لا يعبأ بترك من تركه كائناً من كان بعد ما ثبت كونه سنة مستمرة متواترة إسناداً وعملاً، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن تخصيص ابن عمر الرفع بالذكر من بين سائر صفات الصلاة، وتنويهه به، واهتمامه بأمره يدل على خموله في زمانه، ولذا لم يتوجه إلا إلى الرفع خاصة،(3/41)
ولعله رأى فيه تركاً، فأراد إحياء الرفع، ورمى التاركين بالحصى، ولو لم يكن هناك تاركون فمن ذا الذي كان يرميهم؟ نعم: لو كان في طريق من طرق روايته ذكر صفات أخرى أيضاً لحملناه على الاختصار فقط، إلا أنه لما لم يتعرض إلا إلى هذا الجزء خاصة علمنا فيه خمولاً في زمانه بحيث احتاج إلى الاستدلال والتفصيل، ولو كان الرفع فاشياً ولم يكن هناك تارك كما زعموه فأي حاجة دعته إلى اهتمامه أي اهتمام. وقال تلميذه: إن التخصيص بالذكر مما يحتاج إلى نكتة، ألا ترى أن بعض الأمراء لما تركوا التكبيرات حالة الخفض احتاج الصحابة إلى التعرض لحالها خاصة، ففي البخاري عن عكرمة، قال: صليت خلف شيخ بمكة فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق. فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -. وعن سعيد بن الحارث، قال: صلى لنا أبوسعيد الخدري فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين رفع من الركعتين. وفي الموطأ عن علي بن الحسين مرسلاً، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله. فما ترى أمثال ذلك كيف خصصوا التكبيرات بالذكر من بين سائر صفات الصلاة! فكما أن اعتناءهم ببيان التكبير دل عندهم على فقدان العمل في زمنهم، كذلك اعتناء ابن عمر بالرفع يدل على فشو العمل بالترك في الموضعين، وإثباته بين السجدتين، فاحتاج إلى إثباته أو نفيه. قال: وهناك نظائر أخرى بعضها ألصق من بعض، فقد أخرج مسلم عن جابر بن سمرة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب. وإنما احتاج إلى تأكيد القيام من بين سنن الجمعة؛ لأن بعضهم كعبد الرحمن بن أم الحكم كان يخطب قاعداً. وأخرج الشيخان عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبوبكر، وعمر يصلون العيد قبل الخطبة، ومثله روي عن جابر والبراء، وغيرهم. وذلك لأن بعض الأمراء كمروان بن الحكم كان قدم الخطبة، فقد علمت بما ذكرنا أن الصحابة ماذا كانوا يريدون من التخصيص بالذكر، وعليه فليقس حديث ابن عمر في رفع اليدين-انتهى. وفيه أن حديث ابن عمر هذا ليس فيه أدنى دلالة على خمول الرفع، وفقدان عمل الناس به، وفشو تركه في زمنه، بل هو يدل على عكس ما فهم منه هذا البعض، أي على كون الرفع سنة مستمرة فاشية معمولاً بها في زمانه، وكون خلافه مخمولاً في عصره؛ لأنه لم يرو الإنكار عن أحد من الصحابة على روايته وعمله به، بل وافقه كثير من الصحابة في رواية الرفعات، واتفق جميعهم معه على العمل بالرفع، وأيضاً صدق جماعة منهم أباحميد الساعدي في رواية الرفع، وهذا كله يدل على فشو هذه السنة في زمن الصحابة لا على خموله، نعم لا ننكر أنه كان هناك من غير الصحابة من يتركه إما لجهله بهذه السنة، وإما لرؤيته هذه السنة غير مؤكدة، وإما لتكاسله عنها كما ترك بعضهم التكبيرات ونحوها، فكان ابن عمر يعلم من تركها لجهله عنها، ويخبر بكونه سنة مؤكدة من يهون أمرها، ويحث على العمل بها من يتكاسل ويتوانى عنها، فكان إذا رأى مصلياً لا يرفع حصبه. رواه أحمد بسنده عن نافع بهذا(3/42)
اللفظ. ورواه البخاري في جزئه بلفظ: "رماه بالحصى"، وترك بعض الناس هذه السنة لا يدل على كون الترك فاشياً وذائعاً، وعلى كون العمل بالرفع مفقوداً ومجهوراً ومتروكاً، بل يدل على شذوذ الترك وندرته وقلته كما لا يخفى. على أنا لا نسلم أن ابن عمر خصص الرفع بالذكر من بين سائر صفات الصلاة، ولم يتعرض لغيره من صفاتها؛ لأنه قد روي عنه صفات أخرى أيضاً للصلاة: ففي مسند أحمد (ج2: ص152) عن واسع، أنه سأل عبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كان يقول: الله أكبر كلما وضع وكلما رفع، ثم يقول: السلام عليكم ورحمة الله على يمينه، السلام عليكم على يسارة. ونحوه في (ج2: ص86) . وفيه أيضاً (ج2: ص147) عن سالم عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في صلاة الفجر حين رفع رأسه من الركعة، قال: ربنا ولك الحمد، في الركعة الآخرة. ثم قال: اللهم العن فلاناً- الحديث. وفيه أيضاً (ج2: ص147) عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها. وفيه أيضاً (ج2: ص147) عن نافع عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو يعتمد على يديه. وفيه أيضاً (ج2: ص72) أن رجلاً صلى إلى جنب ابن عمر فجعل يعبث بالحصى، فقال: لا تعبث بالحصى فإنه من الشيطان، ولكن اصنع كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع. قال هكذا..... وضع يده اليسرى وبسط على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وكأنه عقد وأشار بالسبابة. وفيه أيضاً (ج2: ص14) عن ابن عمر، قال: بينا نحن نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال رجل في القوم: الله أكبر كبيراً، والحمدلله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من القائل كذا وكذا؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! قال: عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء. قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك. وهذه الروايات كما ترى مشتملة على صفات أخرى للصلاة غير الرفع، فروى ابن عمر لبعض أصحابه وهو ابنه سالم الرفعات، والتحميد، والقنوت في النازلة. ولمحارب بن دثار الكوفي الرفع فقط. ولبعضهم –وهو واسع- التكبير في كل خفض ورفع، والتسليم عن اليمين واليسار للانصراف من الصلاة. ولبعضهم-وهو مولاه نافع- الرفعات، ووضع اليدين على الركبتين في التشهد، ورفع المسبحة، والإشارة بها والنهي عن الاعتماد على اليدين في حالة الجلوس. ولبعضهم عقد الأصابع في التشهد، والإشارة بالسبابة. ولبعضهم شرعية قول الله أكبر كبيراً ... الخ. وعلى هذا فرواية الباب تحمل على الاختصار. ولو سلمنا عدم الاختصار في روايته، وأنه خصص الرفع بالذكر فنكتة التعرض لحالة خاصة إنما هو سؤال الجاهل عن هذه السنة، وعدم رفع بعض الناس لجهله، أو لرؤيته سنة غير مؤكدة، أو لتكاسله، وهذا لا يدل على خمول الرفع فيهم وفقدان العمل به عندهم، ولا على نسخه، ولا علىكون الترك أرجح والأولى.(3/43)
وهذا كما تعرض الصحابة للتكبيرات خاصة لأجل ترك بعض بني أمية إباها، وتعرض جابر للقيام في خطبة الجمعة لأجل ترك معاوية أوعبد الرحمن بن أم الحكم القيام فيها. واهتم ابن عمر وغيره بأمر تقديم صلاة العيد على الخطبة لأجل تقديم مروان الخطبة على الصلاة. وتعرض جابر لكون صلاة العيد بغير أذان وإقامة. ولا شك أن تعرض هؤلاء الصحابة لهذه الأمور خاصة بسبب ترك بعض الناس لا يدل على كون التكبيرات والقيام في خطبة الجمعة وتقديم الصلاة على الخطبة، وكون صلاة العيد من غير أذان وإقامة مخمولة متروكة مهجورة، ولا على فقدان العمل بها في زمنهم، ولا على كون خلافها فاشياً ذائعاً. ولا نعلم أحد استدل بهذه الأحاديث على أن التكبيرات وغيرها مما تقدم ذكرها آنفاً منسوخة، أو على أن تركها أرجح وأولى، فكذا اعتناء ابن عمر بالرفع خاصة لا يدل على كون الرفع مخمولاً ومتروكاً ومهجوراً، وعلى كون تركه فاشياً ذائعاً شائعاً. ولذلك لم يذهب إليه ذهن أحد ممن كان قبل هذا البعض من المقلدين لكونه خلاف الظاهر والواقع حقاً. واعلم أنه قد تفوه بعض الحنفية أن حديث ابن عمر مع كونه مخرجاً في الصحيحين مضطرب من وجوه: أحدها الاختلاف في الرفع والوقف، فرفعه سالم ووقفه نافع. وثانيها الاختلاف في مواضع الرفع، فروي عنه بذكر الرفع في موضعين فقط أي عند الافتتاح وعند رفع الرأس من الركوع، وهو عند مالك في الموطأ، وبذكره عند الافتتاح والركوع، ورفع الرأس منه، وهو عن مالك خارج الموطأ، وبذكره بعد الركعتين أيضاً في رواية نافع، وعدم ذكره في رواية سالم بل بنفيه في رواية لنافع؛ فقد روى الدارقطني في الغرائب بإسناد حسن: "ولا يرفع بعد ذلك"، فإن ظاهره يشمل النفي عما عداً المواضع الثلاثة، وروي عنه بنفيه عند السجود في الصحيحين وغيرهما، وبذكره عنده في جزء رفع اليدين للبخاري، وفي المعجم الأوسط للطبراني، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: إسناده صحيح، وروي عنه الرفع في كل خفض، ورفع، وركوع، وسجود، وقيام، وقعود، وبين السجدتين، كما في مشكل الطحاوي. وثالثها الاختلاف في عمله؛ فروي عنه الرفع عند الافتتاح فقط، وهو عن مجاهد من طريق أبي بكر بن عياش، عن حصين. وقد تابع مجاهداً عبد العزيز بن حكيم، وعطية العوفي، وروي عنه الرفع عند الركوع والرفع منه، وعند النهوض للركعة الثالثة، وروي عنه الرفع عند السجدتين وبين الركعتين أيضاً كما في المحلي لابن حزم (ج4: ص93) ورابعها الاختلاف في مقدار الرفع، فروي عنه مرفوعاً الرفع حذو المنكبين عند رفع الرأس من الركوع كما يرفع حذو منكبيه عند الافتتاح وعند الركوع، وروي من عمله عند مالك أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع رفعهما دون ذلك، ويعارضه ما في أبي داود، قال ابن جريج: قلت لنافع: أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قال: لا، سواء. قلت: أراد هذا البعض بادعاء الاضطراب في حديث ابن عمر الاعتذار عن ترك العمل به مع كونه صحيحاً مخرجا في الصحيحين. وهذا من عادة الحنفية خلفاً عن سلف أنهم إذا رأوا حديثاً يخالف قول إمامهم جعلوا يضعفونه،(3/44)
وإن كان مخرجاً في الصحيحين، وفي أعلى مراتب الصحة، بل ولو كان متواتراً، وقد يحكمون عليه بكونه منسوخاً، وقد سلكوا في حديث ابن عمر المسلكين كما رأيت. وقد يأولون ما خالفهم بتأويلات يصير بها الحديث موافقاً لقول إمامهم، وهي في الحقيقة تكون تحريفات معنوية، وإذا وجدوا حديثاً ضعيفاً موافقاً لمذهبهم ومؤيداً لمسلكهم جعلوا يصححونه وإن كان في غاية الضعف، بل ولو كان ساقطاً أو موضوعاً باطلاً، كما صنعوا بحديث ابن عمر المروي في الخلافيات للبيهقي في رفع اليدين عند تكبير الافتتاح فقط. وقد تقدم البسط في الرد على دعوى نسخ حديث الباب وغيره من أحاديث الرفعات. وأما دعوى اضطرابه فهي أيضاً مردودة باطلة؛ لأن الوجوه التي ذكرها هذا البعض في إثبات اضطراب هذا الحديث من الاختلافات في الرفع والوقف. وفي محل الرفع، وفي مقداره ليس واحد منها موجباً لاضطراب الحديث لإمكان الجمع أو الترجيح، وشرط المضطرب أن يتعذر الجمع أو الترجيح. ولذلك لم ينتقد هذا الحديث على الشيخين أحد من النقاد الذين انتقدوا عليهما. قال الحافظ: الاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطرباً إلا بشرطين: أحدهما استواء وجوه الاختلاف؛ فمتى رجح أحد الأقوال قدم، ولا يعل الصحيح بالمرجوح. وثانيهما مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، أو يغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه؛ فحينئذٍ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب، ويتوقف على الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك-انتهى. وههنا وجوه الاختلاف ليست بمستوية ولا تعذر الجمع بينهما كما سيأتي مفصلاً. أما الاختلاف الأول أي اختلاف سالم ونافع في الرفع والوقف فالراجح فيه الرفع وذلك من وجوه: أولها أن رواية سالم مجزومة الرفع، أي لم يختلف عليه أصحابه في الرفع والوقف، بل اتفقوا على روايته عنه مرفوعاً، بخلاف رواية نافع فإنها ليست مجزومة الوقف، أي لم يثبت نافع على الوقف، بل روى مرة مرفوعاً فوافق سالماً في الرفع وأخرى موقوفاً. واختلف عليه أصحابه فروى الليث ومالك وابن جريج عنه موقوفاً، وروى عبيد الله بن عمر في رواية عبد الأعلى عند البخاري وأبي داود عنه مرفوعاً، وكذا روى عنه مرفوعاً أيوب في رواية حماد بن سلمة، وإبراهيم بن طهمان عند البخاري في جزئه، والبيهقي في سننه. قال البخاري في صحيحه بعد إخراجه من طريق عبد الأعلى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: ورواه حماد بن سلمة عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه ابن طهمان عن أيوب وموسى بن عقبة مختصراً. قال الحافظ: قصد البخاري الرد على من جزم بأن رواية نافع موقوفة، وأنه خالف في ذلك سالماً كما نقله ابن عبد البر وغيره، وقد تبين بهذا التعليق أنه اختلف على نافع في وقفه ورفعه، والذي يظهر أن السبب في هذا الاختلاف أن نافعاً كان يرويه موقوفاً ثم يعقبه بالرفع، فكأنه كان أحياناً يقتصر على الموقوف أو يقتصر عليه بعض الرواة عنه- انتهى. وإخراج البخاري في صحيحه حديث نافع عن ابن عمر(3/45)
مرفوعاً من طريق عبد الأعلى عن عبيد الله بن عمر ثم استشهاده بروايتي حماد بن سلمة وابن طهمان عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر يدل على أن الصحيح عنده في رواية نافع هو الرفع. وأما أبوداود فقد صحح وقفه، ولا يخفى أن القول قول البخاري. وثانيها: ما قال ابن عبد البر في التمهيد: أن هذا الحديث أحد الأحاديث الأربعة التي رفعها سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووقفها نافع عن ابن عمر، والقول فيها قول سالم، ولم يلتفت الناس فيها إلى نافع، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص407) . وثالثها: أنه إذا وقع الاختلاف بين الرواة في الرفع والوقف فالقول قول من رفعه؛ لأن الرفع زيادة ثقة وهي مقبولة إلا إن ظهرت قرينة تدل على أنها وهم من الراوي فحينئذٍ لا تقبل، وههنا لم تقم قرينة على كون زيادة الرفع وهماً، ولذلك اتفق المحدثون على قبولها والاحتجاج بها. قال السيوطي في التدريب (ص76) : إذا روى بعض الثقات الضابطين الحديث مرسلاً وبعضهم متصلاً، أو بعضهم موقوفاً وبعضهم مرفوعاً، أو وصله هو أو رفعه في وقت، وأرسله ووقفه في وقت آخر، فالصحيح عند أهل الحديث والفقة والأصول أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله في الحفظ والإتقان أو أكثر منه؛ لأن ذلك أي الرفع والوصل زيادة ثقة وهي مقبولة ... الخ. وقال أبوبكر الخطيب: اختلاف الروايتين في الرفع لا يؤثر في الحديث ضعفاً، وهو مذهب أهل الأصول؛ لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة للأخرى، والأخذ بالمرفوع أخذ بالزيادة، وهي واجبة القبول-انتهى. وأما الجمع فهو ظاهر، فإنه يقال: إن ابن عمر رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في هذه المواضع فعمل وأفتى بما رأى؛ فروى سالم ومحارب بن دثار مشاهدته، أي المرفوع من حديثه، وروى نافع مرة المرفوع وأخرى الموقوف أي عمله وفتياه أي رميه بالحصى من لا يرفع يديه. قال الماوردي: لا تعارض بين ما ورد مرفوعاً مرة وموقوفاً على الصحابي أخرى؛ لأنه يكون قد رواه وأفتى به. وأما الاختلاف الثاني فالراجح فيه رواية من ذكر الرفع في المواضع الأربعة، وأما ما عداها من الروايات التي فيها ذكر الرفع عند السجدة، أو في كل خفض ورفع، وبين السجدتين والركعتين، فلم يصح منها شيء، ففي رواية البخاري في جزئه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف من قبل حفظه. ورواية الطبراني وإن صحح الهيثمي إسنادها لكن لا يطمئن القلب بتصحيحه؛ لأن له أوهاماً في كتابه، على أن صحة السند لا يستلزم صحة المتن كما تقرر في موضعه، فرواية الطبراني هذه شاذة؛ لأنها مخالفة لما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر مرفوعاً: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود. وفي رواية: ولا يفعل ذلك في السجود. قال الحافظ: أي في الهوي إليه ولا في الرفع منه-انتهى. ومن المعلوم أن الترجيح عند التعارض للبخاري، وأنه لا يعل الراجح بالمرجوح، ورواية الطحاوي في مشكله أيضاً شاذة، وقد بين الحافظ شذوذها في الفتح (ج3: ص406) فارجع إليه. وقال العراقي في التقريب: ذكر الطحاوي أن هذه الرواية شاذة، وصححها ابن القطان ثم قال: وصحح ابن حزم(3/46)
وقال: سمع الله لمن حمده
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وابن القطان حديث الرفع في كل خفض ورفع، وأعله الجمهور-انتهى. ولا تعارض بين رواية الرفع في المواضع الأربعة ورواية الرفع في المواضع الثلاثة؛ لأن الأولى مشتملة على زيادة رواها الثقة العدل غير منافية للرواية الثانية، وأيضاً لها شواهد فيجب قبولها. قال الحافظ: أبعد من استدل برواية سالم على ضعف رواية نافع. والحق أنه ليس بين روايتي نافع وسالم تعارض؛ بل رواية نافع زيادة لم ينفها سالم، وستأتي الإشارة إلى أن سالماً أثبتها من وجه آخر-انتهى. وأما رواية مالك في موطأه بالاقتصار على الرفع عند رفع الرأس من الركوع فهي وهم منه. قال الزيلعي بعد ذكر رواية مالك هذه من الموطأ: هكذا - أى بعدم ذكر الرفع في الركوع - وقع في رواية يحيى بن يحيى، وتابعه على ذلك جماعة من رواة الموطأ منهم: يحيى بن بكير، والقعنبي، وأبومصعب، وابن أبي مريم، وسعيد بن عفير، ورواه ابن وهب، وابن القاسم، ومعن بن عيسى، وابن أبي أويس عن مالك؛ فذكروا فيه الرفع في الركوع، وكذلك رواه جماعة من أصحاب الزهري عن الزهري، وهو الصواب. ذكر ذلك أبوعمر بن عبد البر في كتاب التقصي، وقال في التمهيد: وذكر جماعة من أهل العلم أن الوهم في إسقاط الرفع من الركوع إنما وقع من جهة مالك: فإن جماعة حفاظاً رووا عنه الوجهين جميعاً-انتهى. وكذلك قال الدارقطني في غرائب مالك: أن مالكاً لم يذكر في الموطأ الرفع عند الركوع، وذكره في غير الموطأ، حدث به عشرون نفراً من الثقات الحفاظ منهم محمد بن الحسن الشيباني، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن وهب وغيرهم، ثم أخرج أحاديثهم عن عشرين رجلاً ... الخ. وأما رواية الدارقطني بلفظ: "ولا يرفع بعد ذلك" فهي لا تعارض رواية البخاري وغيره ممن رواها بزيادة الرفع في الموطن الرابع؛ لأنها أصح وأقوى، ولأنها مثبتة فتقدم على النافية، ولأنها نص والنص يقدم على الظاهر عند التعارض. وأما الاختلاف الرابع فالراجح فيه رواية سالم بعدم الفرق بين مقدار الرفعات؛ لأنها صحيحة مرفوعة بخلاف رواية الفرق، فإنها موقوفة على ابن عمر من فعله، ومن المعلوم أن العبرة لما روى الراوي لا لما رأى وعمل به؛ على أنه اختلفت الرواية في بيان عمله كما تقدم، ورواية من روى موافقة عمله لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفته من حيث النظر، وأيضاً قد أشار أبوداود إلى غرابة رواية الفرق. وأما الاختلاف الثالث فالراجح فيه ما روي عنه من الرفع في المواضع الأربعة، وهي عند البخاري في صحيحه، وأما ما روي عنه من الاقتصار على الرفع في التحريمة فهو ضعيف جداً، وقد تقدم البسط فيه فتذكر. ورواية الرفع عند السجدة وبين الركعتين لا تعارض ما رواه هو مرفوعاً بلفظ: "ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولاحين يرفع رأسه من السجود"؛ لأن العبرة لما رواه لا لما رأى وعمل به. وهذا ظاهر والله أعلم. (وقال: سمع الله لمن حمده) معناه قبل حمد من حمد. واللام في "لمن" للمنفعة، والهاء في "حمده" للكناية. وقيل: للسكتة والاستراحة، ذكره ابن الملك. وقال الطيبي: أي أجاب حمده وتقبله. يقال: اسمع دعائي أي أجب؛(3/47)
ربنا لك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن غرض السائل الإجابة والقبول-انتهى. فهو دعاء بقبول الحمد ويحتمل الإخبار (ربنا لك الحمد) هكذا هو بلا واو، وفي رواية: "ربنا ولك الحمد" أي بزيادة الواو. قال الرافعي: روينا في حديث ابن عمر بإسقاط الواو وبإثباتها، والروايتان معاً صحيحتان – انتهى. والكل جائز، وإثبات الواو أولى وأرجح وأفضل؛ لأنها زيادة مقبولة، ولأنها تدل على زيادة معنى؛ لأنه يكون التقدير "ربنا استجب لنا" أو ما قارب ذلك، "ولك الحمد"، فيشتمل الكلام على معنى الدعاء ومعنى الخبر. وإذا قيل بإسقاط الواو دل على أحد هذين، والواو هي عاطفة، وعطف الخبر على الإنشاء جوزه جمع من النحويين وغيرهم. والتقدير: "ربنا تقبل منا، ولك الحمد على هدايتك إيانا لما يرضيك عنا"، وبتقدير اعتماد ما عليه الأكثرون من امتناع عطف الخبر على الإنشاء؛ فالخبر ههنا بمعنى إنشاء الحمد لا الإخبار بأنه موجود؛ إذ ليس فيه كبير فائدة، ولا يحصل به الامتثال لما أمرنا به من الحمد. وقيل: الواو زائدة. وقيل: هي واو الحال. والحديث قد احتج به من قال: إنه يجمع بين التسميع والتحميد كل مصل من غير فرق بين الإمام والمؤتم والمنفرد، فإذا رفع رأسه من الركوع يقول في حال ارتفاعه: "سمع الله لمن حمده"، فإذا استوى قائماً يقول: "ربنا ولك الحمد"، وفيه أن الدليل أخص من الدعوى؛ لأنه حكاية لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إماماً كما هو الغالب والمتبادر، إلا أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" يدل على عدم اختصاص ذلك بالإمام. واحتج لذلك أيضاً بما نقله الطحاوي وابن عبد البر من الإجماع على أن المنفرد يجمع بينهما. وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما للاتفاق على اتحاد حكم الإمام والمنفرد فيلحق بهما المؤتم؛ لأن الأصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستنثائه، ولا دليل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد. على استثناء المؤتم عن حكم الجمع بينهما، كما لا دليل فيه على استثناء الإمام عن ذلك. وسنوضح ذلك مع ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة في باب الركوع فانتظر. (وكان لا يفعل ذلك) أي رفع اليدين (في السجود) أي لا عند الهوي والانحطاط، ولا عند رفع الرأس من السجدة؛ ففي رواية للبخاري: "ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود"، ولمسلم: "ولا يفعل حين يرفع رأسه من السجود"، وله أيضاً: "ولا يرفعهما بين السجدتين"، وفي حديث علي عند الترمذي: "ولا يرفع يديه في شيء من صلاته، وهو قاعد"، وفي حديث أبي موسى عند الدارقطني: "ولا يرفع بين السجدتين". وهذه الروايات صريحة في نفي الرفع عند الهوي للسجود، وعند الرفع منه، وبين السجدتين. وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف. وذهب بعض أهل العلم إلى الرفع للسجود أيضاً بل لكل خفض ورفع، واستدلوا بحديث ابن عمر عند الطبراني، وقد تقدم الكلام فيه. وبحديث مالك بن الحويرث عند النسائي، وبحديث أنس عند أبي يعلى، وبحديث أبي هريرة عند ابن ماجه، وهذه الأحاديث ضعفها الجمهور وعللوها، وقد ذكرها شيخنا الأجل المباكفوري في أبكار المنن (ص197-200) مع بسط الكلام فيها(3/48)
متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فارجع إليه. والحق في ذلك ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن أحاديث النفي صحيحة صريحة في النفي، بخلاف أحاديث الإثبات فإنها معلولة وبعضها غير صريحة في الإثبات، ولو سلم صحتها وكونها صريحة في الإثبات فحديث ابن عمر ومن وافقه أولى أن يعمل به؛ لكونه أصح وأقوى وأرجح وأصرح. وأما ما قيل: أن الإثبات يقدم على النفي لأن مع المثبت زيادة علم فات عن النافي وإن كان أوثق من المثبت؛ ففيه أن هذا إنما هو عند عدم تحقق التعارض لإمكان تعدد الجهة أو الوقت، وأما إذا تعارض النفي والإثبات باتحاد الجهتين والوقتين معاً فقبول زيادة الثقة يستلزم ترك قول الأوثق بقول الثقة، وذلك لا يجوز إلا أن يترجح قول الثقة بما يوجب الأخذ به، فذاك باب التعارض والترجيح دون تقديم المثبت على النافي بنفس الإثبات، وههنا روايات الباب تدل بظاهرها على اتحاد الجهة وعلى اتحاد الوقت أيضاً؛ لأن النافين والمثبتين لم يقيدوا النفي والإثبات بوقت دون وقت، وكلتا الروايتين وردت بلفظة "كان"، وهي تدل على الدوام إلا إذا قامت قرينة على انتفاء ذلك، ولا قرينة ههنا، فتعارض النفي والإثبات باتحاد الجهة والوقت معاً، فتقدم رواية النفي؛ لأنها أصح وأقوى. وأشار بعض الحنفية إلى أن قوله: "وكان لا يفعل ذلك في السجود" مدرج وإلا فهو شاذ، حيث قال بعد ذكر أحاديث الرفع في السجود: فهذه الروايات كلها تخالف حديث ابن عمر؛ فلو سلم لفظ: "وكان لا يفعل" من الإدراج يكون شاذاً لمخالفة الروايات الصحيحة العديدة-انتهى. قلت: الإدراج في المتن إنما يثبت إذا ورد ذلك منفصلاً في رواية أخرى، أو نص على ذلك أحد من رواة الحديث، أو بعض الأئمة المطلعين، أو كان صدور ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - قولاً أو فعلاً مستحيلاً، والكل ههنا منتف. وأما أحاديث الإثبات فلا تكون فرينة على الإدراج؛ لأنها ضعيفة، والضعيف لا يعل به الصحيح، أو صحيحة لكنها مرجوحة، والمرجوح لا يعل به الراجح؛ فتوهم كونه مدرجاً مردود على من توهمه. وأما دعوى شذوذه فهي أيضاً باطلة لأن تعريف الشاذ المصطلح الذي عليه المحققون هو: ما رواه المقبول مخالفاً لرواية من هو أولى منه، ولا شك أن رواية النفي أصح وأقوى وأرجح لكونها مخرجة في الصحيحين، وأيضاً لها شاهدان صحيحان من حديث علي عند الترمذي، ومن حديث أبي موسى عند الدارقطني، وعلى هذا فالشاذ والمرجوح إنما هي رواية الإثبات لا رواية النفي؛ فترد الأولى لكونها شاذة مرجوحة، وتقبل الثانية لكونها محفوظة راجحة. وقد تحقق عند هذا البعض أيضاً ضعف دعوى الإدراج والشذوذ وبطلانها حيث قال بعد ذلك: اللهم إلا أن يقال: إنها أي روايات الإثبات محمولة على أول الزمان، ثم نسخ الرفع تدريجاً-انتهى. قلت: هذه الروايات مخالفة لما رواه الشيخان وغيرهما فترد لكونها مرجوحة، وأيضاً التاريخ غير معلوم، ولا يثبت النسخ بالادعاء والاحتمال، فما بنى عليه ورتب من دعوى تدرج النسخ لا يلتفت إليه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. وفي الباب عن جماعة كثيرة من الصحابة. قال الشافعي: روى الرفع(3/49)
800- (5) وعن نافع ((أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه،
وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جمع من الصحابة، لعله لم يرو قط حديث بعدد أكثر منهم. وذكر البخاري: من زعم أن رفع اليدين بدعة فقد طعن في الصحابة؛ فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه. قال: ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع. وذكر أيضاً: أن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة. وذكر الحاكم وأبوالقاسم بن مندة ممن رواه العشرة المبشرة. وقال الحافظ العراقي في تقريب الأسانيد: واعلم أنه قد روي رفع اليدين من حديث خمسين من الصحابة منهم العشرة. انظر طرح التثريب (ج2: ص254) . وسرد البيهقي في السنن وفي الخلافيات أسماء من روى الرفع عن نحو من ثلاثين صحابياً، وقال: سمعت الحاكم يقول: اتفق على رواية هذه السنة العشرة المشهود لهم بالجنة ومن بعدهم من أكابر الصحابة. قال البيهقي: وهو كما قال. وقال السيوطي في "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة": إن حديث الرفع متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه الشيخان عن ابن عمر، ومالك بن الحويرث. ومسلم عن وائل بن حجر، والأربعة عن علي. وأبوداود عن سهل بن سعد، وابن الزبير، وابن عباس، ومحمد بن مسلمة، وأبي أسيد، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وابن ماجه عن أنس، وجابر، وعمير الليثي. وأحمد عن الحكم بن عمير. والبيهقي عن أبي بكر والبراء. والدارقطني عن عمر، وأبي موسى. والطبراني عن عقبة بن عامر، ومعاذ بن جبل.
800- قوله: (وعن نافع: أن ابن عمر كان) الخ. الرواية السابقة كانت من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر، وهذه الثانية من طريق نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر. والفرق بين الروايتين أن سالماً اقتصر على رواية المرفوع، ولم يختلف عليه أصحابه في الرفع بخلاف نافع، فإنه رواه موقوفاً ثم عقبه بالمرفوع، واختلف عليه أصحابه في الرفع والوقف كما تقدم مفصلاً، ولم يكن عند البخاري هذا الاختلاف قادحاً في صحة رواية نافع المرفوعة، ولذلك أدخلها في صحيحه، وذكر لها شاهدين كما أسلفنا، وحكى الدارقطني في العلل الاختلاف في وقفه ورفعه، وقال: الأشبه بالصواب قول عبد الأعلى، وارجع إلى نصب الراية (ج1: ص408) وذكر المصنف هذه الرواية لأن فيها زيادة الرفع في موطن رابع، وهي زيادة العدل الثقة فيجب قبولها. (إذا دخل) أي أراد الدخول (كبر) للتحريمة (ورفع يديه) حذو منكبيه. (وإذا قام من الركعتين) أي من الأوليين بعد التشهد الأول. (ورفع ذلك) أي أسند وأضاف رفع اليدين في هذه المواضع الأربعة (ابن عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي قال: إنه فعل ذلك، والمرفوع عندهم ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -(3/50)
رواه البخاري.
801- (6) وعن مالك بن الحويرث، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر رفع يديه حتى يحاذى بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده، فعل مثل ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خاصة من قول أو فعل أو تقرير سواء كان متصلاً أو منقطعاً بسقوط الصحابي منه أو غيره. والمسند على المعتمد هو ما اتصل سنده من راويه إلى منتهاه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمتصل ويسمى الموصول هو ما اتصل سنده سواء كان مرفوعاً إليه - صلى الله عليه وسلم - أو موقوفاً، فالمسند متصل مرفوع، والمتصل قد يكون مرفوعاً وغير مرفوع، والمرفوع قد يكون متصلاً وغير متصل. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أبوداود، كلاهما من طريق عبد الأعلى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وكما رفع هذا الحديث عبد الأعلى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، كذلك رفعه عبد الوهاب الثقفي ومعتمر عن عبيد الله، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، كما أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين، وفيه هذه الزيادة أي زيادة الرفع عند القيام من الركعتين، وقد توبع نافع على ذلك عن ابن عمر، وهو فيما رواه أبوداود، وصححه البخاري في الجزء المذكور من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر، قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه"، وله شواهد: منها حديث أبي حميد، وحديث علي بن أبي طالب، أخرجهما أبوداود، وصححهما ابن خزيمة وابن حبان. وقال البخاري في جزء الرفع: ما زاده ابن عمر وعلي وأبوحميد في عشرة من الصحابة من الرفع عند القيام من الركعتين صحيح؛ لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها، وإنما زاد بعضهم على بعض، والزيادة مقبولة من أهل العلم.
801- قوله: (إذا كبر) أي عند التحريمة، أي شرع في تكبيره (رفع يديه) أي شرع في رفعهما (حتى يحاذي بهما أذنيه) هذا الظاهر مخالف لما تقدم من حديث ابن عمر عند الشيخين، وحديث أبي حميد عند البخاري، فذهب بعضهم إلى ترجيح الثاني لكونه متفقاً عليه بخلاف الأول، فإنه من أفراد مسلم كما سيأتي، وذهب آخرون إلى الجمع فقالوا: يرفع يديه حذو منكبيه بحيث يحاذى أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمة أذنيه، وظهر كفيه منكبيه، وهو جمع حسن، فمعنى قوله: "حتى يحاذي بهما" أي بطرف إبهاميه. "أذنيه" شحمة أذنيه. ومعنى قوله الآتي: "حتى يحاذي بهما" أي بأعلى أصابعه وأطراف أنامله "فروع أذنيه" أي أعليهما؛ لأن فرع كل شيء أعلاه. (وإذا رفع رأسه من الركوع فقال:) عطف على رفع (سمع الله لمن حمده، فعل مثل ذلك) أي فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما فعل عند التكبير. كذا في النسخ الموجودة للمشكاة عندنا بدون ذكر رفع اليدين عند الركوع. وفي مسلم زاد قبل هذا: "وإذا(3/51)
ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه". وكذا وقع ذكر الرفع عند الركوع عند البخاري والنسائي وأبي داود وابن ماجه. وفي المصابيح: "فلا أدري سقوط هذا في نسخ المشكاة من المصنف أو من النساخ". واعلم أن حديث مالك هذا دليل واضح على تأخر الرفع عند الركوع والرفع منه، وبقاءه، وبطلان دعوى نسخه، وذلك من وجوه: الأول: أن مالك بن الحويرث وأصحابه قدموا المدينة قبل غزوة تبوك حينما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهز ويتأهب لها، وكانت وقعة تبوك في رجب سنة تسع، وقد نزل قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون} [2، 1: 23] قبل قدوم مالك ورفقائه المدينة. والخشوع السكون، قال في فتح البيان: الخشوع في اللغة السكون والتواضع. وقال ابن عباس: "خاشعون" ساكنون. وهذا يدل على أن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ليس منافياً للخشوع والسكون، وأن الرفع الذي هو مناف للسكون ومخالف له هو شيء آخر غير ذلك الرفع المتنازع فيه، وأن المراد بالسكون في قوله: "اسكنوا في الصلاة" في حديث جابر هو السكون عن الرفع عند السلام اعتباراً للسبب، وعن الأفعال التي ليست من أعمال الصلاة اعتباراً لعموم اللفظ، لا عن الرفع عند الركوع وعند رفع الرأس منه، فعمله - صلى الله عليه وسلم - بالرفع بعد نزول قوله: {خاشعون} دليل على بقائه وعدم نسخه؛ لكونه غير مناف للسكون والخشوع. قال السندي في حاشية النسائي: مالك بن الحويرث ووائل بن حجر ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر عمره، فروايتهما الرفع عند الركوع والرفع منه دليل على بقائه، وبطلان دعوى نسخه. كيف وقد روى مالك هذا جلسة الاستراحة فحملوها على أنها كانت في آخر عمره في سن الكبر، فهي ليس مما فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - قصداً فلا تكون سنة، وهذا يقتضي أن يكون الرفع الذي رواه ثابتاً لا منسوخاً لكونه في آخر عمره عندهم، فالقول بأنه منسوخ قريب من التناقض، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمالك هذا وأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي" –انتهى. وقال في حاشية ابن ماجه مثل ذلك، وزاد: فإن كان هناك نسخ فينبغي أن يكون المنسوخ ترك الرفع. والثاني: أن مالك بن الحويرث الذي روى هذا الحديث قد كان يرفع يديه بعده - صلى الله عليه وسلم - عملاً بما رأى وشاهد منه - صلى الله عليه وسلم -، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - له ولرفقائه: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فإن الرفع داخل في هذا العموم. روى البخاري في صحيحه عن أبي قلابة: أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه، وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع هكذا، فرفع مالك يديه في صلاته بعده - صلى الله عليه وسلم - عملاً بما رأى منه وبما أمره به يدل على عدم نسخه. والثالث: أن مالكاً قدم المدينة عام تبوك، وقد حكى ما رأى وشاهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرفع في صلاته، وهذا صريح في عدم وقوع النسخ قبل ذلك، وقد بقي - صلى الله عليه وسلم - حياً بعد تبوك قريباً من عشرين شهراً، ولم ينقل أنه ترك الرفع في هذه المدة ولو مرة لا بسند صحيح ولا ضعيف، والأصل في الأشياء بعد وجودها ثبوتها وبقاؤها لا عدمها؛ لأن عدم نقل الترك في مثل هذه المواقع بمنزلة نقل عدم(3/52)
وفي رواية: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه)) متفق عليه.
802- (7) وعنه: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي
قاعداً)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الترك كما هو مقرر في موضعه، فلا بد لمن يدعى النسخ أن يأتي بدليل صريح في ترك الرفع في هذه المدة ولو مرة، ولو بسند ضعيف ودونه خرط القتاد، وقلل الجبال. (وفي رواية: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) تقدم معناه، وهذه الرواية من أفراد مسلم، وكذا قوله: "حتى يحاذي بهما أذنيه" من أفراد مسلم، ففي قوله: (متفق عليه) نظر، وقد وهم المحب الطبري أيضاً فعزاه للمتفق، نعم أصل الحديث متفق عليه، وقد أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
802- قوله: (فإذا كان في وتر) أي فرد (من صلاته) المراد بالوتر الركعة الأولى، والثالثة من الرباعيات (لم ينهض) للقيام (حتى يستوي قاعداً) للاستراحة يعني يجلس للاستراحة ثم يقوم، وهذا دليل صريح على مشروعية جلسة الاستراحة وسنيتها. قال الحافظ: وأخذ بها الشافعي، وطائفة من أهل الحديث، وعن أحمد روايتان، وذكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بها، ولم يستحبها الأكثر– انتهى. وكذا صرح برجوع أحمد إلى القول بها نقلاً عن الخلال في المغني، والشرح الكبير، وزاد المعاد وغير ذلك من كتب الحنابلة وغيرهم، فلا شك في أن آخر قولي أحمد هو أن يجلس للاستراحة، وقال مالك وأبوحنيفة بتركها. والاختلاف في الأفضلية لا في الجواز. قال في رد المحتار: قال شمس الأئمة الحلوائي: الخلاف في الأفضلية حتى لو فعل كما هو مذهبنا لا بأس به عند الشافعي، ولو فعل كما هو مذهبه لا بأس به عندنا- انتهى. والحق ما ذهب إليه الشافعي وأحمد، يدل عليه حديث مالك هذا، وهو حديث صحيح، وأحاديث أخرى، منها: حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته، وهو أول أحاديث الفصل الأول من هذا الباب، وقد ورد فيه الأمر بجلسة الاستراحة. ومنها حديث أبي حميد الآتي، وهو أول أحاديث الفصل الثاني. قال ابن قدامة في المغني بعد ذكر حديث مالك هذا: وذكره أيضاً أبوحميد في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حديث حسن صحيح، فيتعين العمل به والمصير إليه – انتهى. ومنها حديث ابن عباس الآتي في صلاة التسبيح، وهو حديث حسن أو صحيح لغيره. ومن لا يقول بجلسة الاستراحة اعتذار عن حديث مالك بن الحويرث بأعذار كلها واهية، فمنها: أنه محمول على حال الكبر، فعلها - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره حين ثقل وبدن، ولم يفعل قصداً، والسنة ما فعل قصداً لا ما فعله بسبب آخر. ورده السندي بأنه أورد عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - لمالك وأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وأقل ذلك أن يكون مستحباً، وأيضاً قد جاء الأمر بها في بعض روايات الأعرابي المسيء صلاته- انتهى. ورده صاحب البحر الرائق أيضاً حيث قال: يرد عليه بأن هذا الحمل يحتاج إلى دليل، وقد قال - عليه الصلاة والسلام -: "صلوا كما رأيتموني أصلي"- انتهى. وقال الحافظ في الدراية: هذا تأويل يحتاج إلى دليل، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمالك بن الحويرث لما أراد أن يفارقه: "صلوا كما رأيتموني(3/53)
أصلي"، ولم يفصل له، فالحديث حجة في الإقتداء به في ذلك- انتهى. قلت: ويرده أيضاً حديث أبي حميد الآتي فإن في آخره: "قالوا: صدقت هكذا كان يصلي"، فلم يفصل أحد أن هذه الجلسة كانت في آخر عمره حين ثقل. ومنها أن حديث أبي حميد حال عن جلسة الاستراحة، فقد رواه الطحاوي بلفظ: "فقام ولم يتورك" وأخرجه أبوداود أيضاً كذلك، فلما تخالفا احتمل أن يكون ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به، فقعد لأجلها لا أن ذلك من سنة الصلاة. والجواب عنه أن الأصل عدم العلة، وأن مالك بن الحويرث هو راوي حديث "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فحكاياته لصفات صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - داخله تحت هذا الأمر، ولم تتفق الروايات عن أبي حميد على نفي هذه الجلسة؛ بل أخرجه أبوداود أيضاً من وجه آخر عنه بإثباتها. وكذا أخرجه الترمذي في جامعه بإثباتها، والمثبت مقدم على النافي. ومنها أنها لو كانت سنة لشرع لها ذكر مخصوص. والجواب عنه أنها جلسة خفيفة جداً استغنى فيها بالتكبير المشروع للقيام، فإنها من جملة النهوض إلى القيام. ومنها أنها لو كانت سنة لذكرها كل من وصف صلاته - صلى الله عليه وسلم -. والجواب عنه أن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف صلاته، إنما أخذ مجموعها من مجموعهم. ومنها أن عمل أكابر الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشد اقتفاء لأثره وألزم لصحبته من مالك بن الحويرث كعلي، وابن مسعود، وعمر، على خلاف ما قال مالك، فوجب تقديمه، وحمل ما رواه على حالة عارضة اقتضت تلك الجلسة، وليس في روايته ما يدل على مواظبته عليها لتكون قرينة على السنة. والجواب عنه أن الأصل عدم عروض تلك الحالة، والحمل عليها يحتاج إلى دليل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمالك وأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وأقل ذلك أن يكون مستحباً كما قال السندي. ولم يثبت عن أحد من الصحابة تركها بسند صحيح غير ابن مسعود، ومتابعة السنة أولى. وليس بعد الحديث قول لأحد كائناً من كان. وأيضاً ترك من ترك من الصحابة على تقدير ثبوته عنه لا يقدح في سنيتها؛ لأن ترك ما ليس بواجب جائز، وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - مالك بن الحويرث وأصحابه بإقتداء به بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، واختيار مالك بن الحويرث بعده - صلى الله عليه وسلم - جلسة استراحة عملاً بهذا الأمر قرينة واضحة على مواظبته عليها وبقائها، وعلى سنيتها، وإستحبابها. واحتج هؤلاء على ترك جلسة الاستراحة بأحاديث: منها حديث أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهض في الصلاة على صدور قدميه، أخرجه الترمذي. والجواب عنه أنه حديث ضعيف جداً لا يقوم بمثله الحجة؛ فإن في سنده خالد بن إلياس وهو متروك. قاله أحمد والنسائي. وقال البخاري وابن معين: ليس بشيء. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات حتى يسبق إلى القلب أنه الواضع لها، لا يكتب حديثه إلا على جهة التعجب. وفيه أيضاً صالح مولى التوأمة وقد اختلط بآخره، وخالد لا يعرف متى أخذ عنه. ومنها حديث أبي مالك الأشعري أنه جمع قومه فقال: يا معشر الأشعريين! اجتمعوا وأجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلمكم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث.(3/54)
رواه البخاري.
803- (8) وعن وائل بن حجر: ((أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة، كبر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه: ثم كبر وخر ساجداً، ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فانتهض قائماً-الحديث أخرجه أحمد. والجواب عنه أن في إسناده شهر بن حوشب، وهو كثير الإرسال والأوهام كما في التقريب، ثم هذا الحديث ليس فيه تصريح بنفي جلسة الاستراحة، ولو سلم فهو إنما يدل على نفي وجوبها لا على نفي سنيتها؛ لأن الترك في بعض الأحيان إنما ينافي وجوبها لا القول بسنيتها. ومنها حديث وائل بن حجر عند البزار بلفظ: "كان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائماً"، والجواب عنه: أن حديث وائل هذا قد ذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف، ثم إنه يدل على تسليم كونه صريحاً في نفي تلك الجلسة على نفي وجوبها فقط لا على نفي سنيتها. واحتجوا أيضاً بآثار بعض الصحابة، وهي على تقدير ثبوتها لا تقدح في سنيتها؛ لأن الترك ينافي الوجوب لا السنية، فإن ترك ما ليس بواجب جائز. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي، وأبوداود، والنسائي.
803- قوله: (وعن وائل بن حجر) بضم الحاء المهملة وسكون الجيم وبالراء، ابن سعد بن مسروق الحضرمي، أبوهنيدة ويقال: أبوهند، صحابي جليل: وكان قيلا من أقيال حضر موت، وكان أبوه من ملوكهم، ووفد هو على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، ويقال إنه بشر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه قبل قدومه، وقال: يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضر موت طائعاً راغباً في الله ورسوله، وهو بقية أبناء الملوك، فلما دخل عليه رحب به، وأدناه من نفسه، وقرب مجلسه، وبسط له رداءه فأجلسه عليه مع نفسه على مقعده. وقيل: أصعده معه على المنبر، وقال: اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده. واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقيال من حضر موت، وكتب معه ثلاثة كتب، منها كتاب إلى المهاجرين أبي أمية، وكتاب إلى الأقيال والعباهلة، وأقطعه أرضاً، وبعث معه معاوية بن أبي سفيان ليتسلمها، فقال له معاوية أردفني، فقال وائل: لست من أرداف الملوك. وعاش وائل حتى ولى معاوية الخليفة، فقصده وائل فتلقاه معاوية وأكرمه، فقال وائل: وددت أني حملته ذلك اليوم بين يدي. سكن وائل الكوفة وعقبه بها، ومات في ولاية معاوية. له أحد وسبعون حديثاً، انفرد له مسلم بستة، روى عنه ابناه علقمة وعبد الجبار، ومولى لهم، وأم يحيى زوجته وغيرهم، ولم يسمع عبد الجبار من أبيه. (رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه) حال، أي نظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رافعاً يديه (حين دخل في الصلاة كبر) قال الطيبي: كبر بالواو في بعض نسخ المصابيح وبدونها في صحيح مسلم، وكتاب الحميدي، وجامع الأصول، فعلى الأول عطف على "دخل"، وعلى الثاني إما حال بتقدير "قد" أو بيان لدخل، أو بدل منه، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون حالاً و"قد" مقدرة، وأن يراد بالدخول الشروع فيها والعزم عليها بالقلب فيوافق معنى العطف،(3/55)
ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما وكبر فركع، فلما قال: "سمع الله لمن حمده" رفع يديه، فلما سجد، سجد بين كفيه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويلزم منه المواطأة بين اللسان والقلب، وثانيهما: أن يكون" كبر" بياناً لقوله: "دخل في الصلاة"، ويراد بالدخول افتتاحها بالتكبير، ونحوه في البيان قوله تعالى: {فوسوس إليه الشيطان قال يآدم هل أدلك على شجرة الخلد} [20: 120] أو بدلاً منه كقول الشاعر:
ارحل لا تقيمن عندنا
فعلى الأول يلزم اقتران النية بالتكبير- انتهى. (ثم التحف بثوبه) أي تستر به. قال ابن حجر: يحتمل أنه بعد تكبيرة الإحرام سقط ثوبه عن كتفه فأعاده، ويحتمل أنه كان نسيه ثم تذكره بعد إحرامه فأخذه والتحف به. قلت: ويحتمل أنه كان وضع ثوبه أي رداءه على كتفه قبل الدخول في الصلاة لكن بدون التحاف وتوشح بل سدلاً وإرسالاً، ثم التحف به، وتوشح بعد الدخول في الصلاة بالتكبير، وهذا هو الأقرب. (ثم وضع يده اليمنى على اليسرى) ورواه ابن خزيمة في صحيحه بلفظ: "وضع يده اليمنى على صدره"، وسيأتي الكلام في مسألة محل وضع اليدين وكيفية الوضع مفصلاً إن شاء الله. (فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب) فيه استحباب كشف اليدين عند الرفع (فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه) أي لما شرع في قوله ذلك شرع في رفعهما كما علم من الروايات السابقة، واستفيد منه أن "سمع الله لمن حمده" ذكر الرفع والانتقال من الركوع إلى الاعتدال. (فلما سجد سجد بين كفيه) أي محاذيين لرأسه، قاله القاري. وقال ابن الملك: أي وضع كفيه بإزاء منكبيه في السجود. قال القاري: وفيه أن إزاء المنكبين لا يفهم من الحديث. قلت: في رواية عاصم بن كليب عن وائل بن حجر عند النسائي: "ثم سجد فجعل كفيه بحذاء أذنيه"، وفي رواية أبي داود: "فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من بين يديه"، يعني وضع يديه حذاء أذنيه. وهذه الرواية تدل على مشروعية وضع الكفين حذو الأذنين، وحديث أبي حميد الآتي بلفظ: "وضع كفيه حذو منكبيه" يدل على مشروعية وضع الكفين في السجود حذو المنكبين، فجنح بعضهم إلى ترجيح ما في رواية مسلم والنسائي، وحمل حديث أبي حميد على بيان الجواز، وعكس آخرون. وقال بعضهم: إن المصلي مخير بين أن يضع كفيه حذو منكبيه، وبين أن يضع حذاء رأسه وجبهته حملاً للأحاديث على أوقات مختلفة. واختار بعضهم الجمع بما تقدم في مقدار الرفع، والله أعلم. تنبيه: حديث وائل بن حجر هذا دليل واضح على تأخر الرفع وبقائه، وبطلان دعوى نسخه؛ لأن وائلاً متأخر الإسلام جداً. قال العيني في شرح البخاري (ج 3: ص9) : وائل بن حجر أسلم في المدينة سنة تسع من الهجرة- انتهى. وقال السندي: وائل بن حجر ممن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - آخر عمره، فروايته الرفع عند الركوع والرفع منه دليل على بقائه وبطلان دعوى نسخه – انتهى.(3/56)
واعلم أن إبراهيم النخعي لما سمع حديث وائل هذا من عمرو بن مرة الجملي المرادي وغيره قال استبعاداً: ما أرى وائلاً رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ذلك اليوم فحفظ عنه، وعبد الله بن مسعود لم يحفظ. إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. أخرجه الدارقطني والبيهقي والطحاوي، وأخرجه أبويعلى في مسنده بلفظ: "أحفظ وائل ونسى ابن مسعود؟ " وفي رواية للطحاوي: قال إبراهيم: فإن كان وائل رآه مرة يرفع فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يرفع- انتهى. ذكر هذا الكلام كله الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص 91) نقلاً عن نصب الراية، ثم قال رداً على النخعي: وههنا أبحاث، الأول: ما قاله البيهقي في كتاب المعرفة عن الشافعي أنه قال: الأولى أن يؤخذ بقول وائل؛ لأنه صحابي جليل فكيف يرد حديثه بقول رجل ممن هو دونه. والثاني: ما قاله البخاري في رسالة رفع اليدين: إن كلام إبراهيم هذا ظن منه، لا يرفع به رواية وائل، بل أخبر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فرفع يديه، وكذلك رأى أصحابه غير مرة يرفعون أيديهم، كما بينه زائدة، فقال: نا عاصم: نا أبى عن وائل بن حجر، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي فرفع يديه في الركوع، وفي الرفع منه، قال: ثم أتيتهم بعد ذلك فرأيت الناس في زمان برد، عليهم جل الثياب تتحرك أيديهم من تحت الثياب. والثالث: ما نقله الزيلعي عن الفقية أبي بكر بن إسحاق أنه قال: ما ذكره إبراهيم علة لا يساوي سماعها؛ لأن رفع اليدين قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم عن الخلفاء الراشدين، ثم عن الصحابة والتابعين، وليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يستغرب، فقد نسى من القرآن ما لم يختلف المسلمون فيه بعد وهي المعوذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه كالتطبيق، ونسي كيف قيام الاثنين خلف الإمام، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح يوم النحر في وقتها، ونسي كيفية جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف كان يقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - {وما خلق الذكر والأنثى} [92: 3] . وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة كيف لا يجوز مثله في رفع اليدين؟. والرابع: أن وائلاً ليس بمتفرد في رواية الرفع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل اشترك معه جمع كثير كما مر ذكره سابقاً، بل ليس في الصحابة من روى ترك الرفع فقط إلا ابن مسعود، وأما من عداه فمنهم من لم ترو عنه إلا رواية الرفع، ومنهم من روى عنه حديث الرفع وتركه كليهما كابن عمر، والبراء إلا أن أسانيد رواية الرفع أوثق وأثبت، فعند ذلك لو عورض كلام إبراهيم بأنه يستبعد أن يكون ترك الرفع حفظ ابن مسعود فقط، ولم يحفظ من عداه من أجلة الصحابة الذين كانوا مصاحبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل مصاحبة ابن مسعود أو أكثر لكان له وجه. والخامس: أنه لا يلزم من ترك ابن مسعود وأصحابه عدم ثبوت رواية وائل، فيجوز أن يكون تركهم؛ لأنهم رأوا الرفع غير لازم، لا لأنه غير ثابت، أو لأنهم رجحوا أحد الفعلين الثابتين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرفع والترك فداموا عليه، وتركوا الآخر، ولا يلزم منه بطلان الآخر. والسادس: أنه قد أخذ ابن مسعود بالتطبيق في الركوع، وداوم عليه أصحابه، وكذلك أخذوا بقيام الإمام في الوسط إذا(3/57)
رواه مسلم.
804- (9) وعن سهل بن سعد، قال: كان الناس يؤمرون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كان من يقتدي به اثنين مع ثبوت ترك ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن جمهور أصحابه بعده بأسانيد صحاح، فلم لا يعتبر فعل ابن مسعود في هذين الأمرين وأمثال ذلك؟. فما هو الجواب هناك هو الجواب ههنا. والإنصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى رد روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعله وأصحابه، ولا إلى دعوى نسخ الرفع ما لم يثبت ذلك بنص عن الشارع- انتهى. باختصار يسير. (رواه مسلم) من طريق عبد الجبار بن وائل عن علقمة ومولى لهم أنهما أخبراه عن أبيه وائل بن حجر، وهو إسناد صحيح متصل، ووهم من قال: إن علقمة لم يسمع من أبيه. قال الترمذي: علقمة بن وائل سمع من أبيه، وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن خزيمة.
804- قوله: (كان الناس) أي في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يؤمرون) قال الحافظ: هذا حكمه الرفع؛ لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال البيهقي: لا خلاف في ذلك في ذلك بين أهل النقل. وقال النووي في شرح مسلم: هذا حديث صحيح مرفوع. وقال السيوطي في التدريب (ص 62) : قول الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا وما أشبهه كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور. قال ابن الصلاح: لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهر إلى من له الأمر والنهي ومن يجب اتباع سنته، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال غيره: لأن مقصود الصحابي بيان الشرع لا اللغة ولا العادة، الشرع يتلقى من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا يصح أن يريد أمر الكتاب لكون ما في الكتاب مشهوراً يعرفه الناس، ولا الإجماع لأن المتكلم بهذا من أهل الإجماع، ويستحيل أمره نفسه، ولا القياس إذ لا أمر فيه، فتعين كون المراد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: ليس بمرفوع لاحتمال أن يكون الآمر غيره كأمر القرآن أو الإجماع أو بعض الخلفاء أو الاستنباط. وأجيب ببُعد ذلك مع أن الأصل الأول- انتهى. قال الجمال القاسمي: واحتمال أن يكون الآمر غيره بعيد، وإن كنا لا ننكر أن إطلاق ذلك يصدق مع الواسطة، ولكن العادة أن من له رئيس معظم فقال: "أمرنا بكذا" فإنما يريد أمر رئيسه، ولا يفهم عنه إلا ذلك. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عظيم الصحابة، ومرجعهم، والمشار إليه في أقوالهم وأفعالهم، فتصرف إطلاقاتهم إليه - صلى الله عليه وسلم -. وما قيل: إن الفاعل إذا حذف احتمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره فلا نثبت شرعاً بالشك. فجوابه أن ظاهر الحال صارف للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم تقريره. قال: ومما يؤيد أن ذلك في حكم الرفع ما رواه الشيخان عن أبي موسى في قصة إستئذانه على عمر، ولفظ البخاري عن أبي موسى قال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي، فكأنه كان مشغولاً، فرجعت، ففرغ عمر، فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ إيذنوا له. قيل: قد رجع. فدعاني، فقلت: كنا نؤمر بذلك, فقال: لتأتيني على ذلك بالبينة، فانطلقت إلى مجلس الأنصار فسألتهم(3/58)
أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبوسعيد الخدري، فذهبت بأبي سعيد الخدري، فقال عمر: أخفى على هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألهاني الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى التجارة. زاد مالك في الموطأ، فقال عمر لأبي موسى: أما إني أتهمك، ولكن خشيت أن يتقوّل الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشراح: وحينئذٍ فلا دلالة في طلبه البينة على أنه لا يحتج بخبر الواحد، بل أراد سد الباب خوفاً من غير أبي موسى أن يخلق كذباً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الرغبة والرهبة. وقالوا: في الحديث أن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" له حكم الرفع-انتهى. وأما قول بعضهم: إن كان مرفوعاً فلم لا يقولون فيه "قال رسول الله؟. فجوابه أنهم تركوا الجزم بذلك تورعاً واحتياطاً. وقيل: هو من التفنن في تبليغ الهدي النبوي، لا سيما وقد يكون الحكم الذي قيل فيه "أمرنا" أو "من السنة" من سنن الأفعال لا الأقوال. وقد يقولون ذلك إيجازًا أو لضيق المقام أو لغير ذلك. (أن) أي بأن (يضع الرجل) أي والمرأة تابعة له. وكان الأصل أن يقول "يضعون" فوضع المظهر موضع المضمر. قال الطيبي: في وضع الرجل موضع ضمير الناس تنبيه على أن القائم بين يدي الملك الجبار ينبغي أن لا يهمل شريطة الأدب، بل يضع يده على يده ويطأطأ رأسه كما يصنع بين يدي الملوك، نقله ميرك وكتب تحته: "وفيه ما فيه"، يعني وفيه أن هذه النكتة لمطلق الوضع لا لذكر الرجل موضع ضمير الناس، ولعله أراد أن لا يقوم بهذا الأدب إلا من اجتمعت فيه صفات الرجولية الكاملة لا لتخصيص الحكم به؛ لأن الناس يعمه ما لم يقم دليل خروجه، كذا في المرقاة. (اليد اليمنى على ذراعه اليسرى) الذراع-بكسر الذال- من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، والساعد مؤنثة فيهما وقد تذكر. أبهم سهل بن سعد موضعه من الذراع. قال الشوكاني: وقد بينه حديث وائل عند أحمد وأبي داود والنسائي بلفظ: "ثم وضع يد اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد"، وصححه ابن خزيمة وغيره، وأصله في مسلم بدون الزيادة. والرسغ - بضم الراء وسكون السين بعدها معجمة- هو المفصل بين الكف والساعد. والمراد أنه وضع يده اليمنى بحيث صار وسط كفه اليمنى على الرسغ، ويلزم منه أن يكون بعضها على الكف اليسرى، والبعض على الساعد. قال بعضهم: ورد في بعض الأحاديث ذكر وضع اليد على اليد كما في رواية وائل عند مسلم، وفي بعضها ذكر وضع اليد على الذراع كما في حديث سهل بن سعد، وفي البعض أخذ الشمال والقبض عليها باليمين، كما روى النسائي من حديث وائل قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله. وروى الترمذي وابن ماجه من حديث قبيصة بن هلّب عن أبيه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. وورد في رواية أحمد وأبي داود من حديث وائل: "وضع اليمنى على الكف اليسرى والرسغ والساعد". فالسنة أن يجمع بين الوضع والقبض جمعًا بين هذه الأحاديث، وكيفية الجمع أن يضع الكف اليمنى على الكف(3/59)
اليسرى ويحلق الإبهام والخنصر على الرسغ ويبسط الأصابع الثلاث على الذراع، فيصدق أنه وضع اليد على اليد وعلى الذراع، وأنه أخذ شماله وقبض عليها بيمينه. قلت: لا حاجة إلى هذا التكلف للتوفيق والجمع لكون التوفيق فرع التعارض، ولا يظهر التعارض أصلاً؛ لأنه لا تناقض بين الأفعال المختلفة لجواز وقوع الكل في أوقات مختلفة، على أن حديث سهل بن سعد حديث قولي أخرجه مالك وأحمد والبخاري، وهو أيضاً أصح ما ورد في ذلك فهو أولى بالعمل. واعلم أنه لم يرد في رواية وضع الذراع على الذراع، فما يفعله بعض العوام من وضع الذراع على الذراع بحيث أنه يضعون الكف اليمنى على مرفق اليد اليسرى أو قريباً منه، ثم يأخذونه بأصابع اليد اليمنى هو مما لا أصل له. تنبيه: لم يذكر سهل ابن سعد في حديثه محل وضع اليدين من الجسد، وهو عندنا على الصدر لما ورد في ذلك من أحاديث صريحة قوية. فمنها حديث وائل بن حجر قال: "صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره"، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ذكره الحافظ في بلوغ المرام والدراية والتخليص وفتح الباري. والنووي في الخلاصة وشرح المهذب وشرح مسلم للاحتجاج به على ما ذهبت إليه الشافعية من وضع اليدين على الصدر، وذكرهما هذا الحديث في معرض الاحتجاج به، وسكوتهما عن الكلام فيه يدل على أن حديث وائل هذا عندهما صحيح أو حسن قابل للاحتجاج، لا سيما من الحافظ في الدراية والفتح، فإنه قال في الفتح في شرح حديث سهل بن سعد: لم يذكر أي سهل بن سعد محلهما من الجسد، وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل "أنه وضعهما على صدره"، والبزار "عند صدره"، وعند أحمد في حديث هلّب الطائي نحوه، وفي زيادات المسند من حديث علي "أنه وضعهما تحت السرة" وإسناده ضعيف-انتهى. فالظاهر من كلام الحافظ هذا أن حديث وائل هذا عند صحيح أو حسن؛ لأنه ذكر ههنا لتعيين محل وضع اليدين ثلاثة أحاديث: حديث وائل وحديث هلب وحديث علي، وضعف حديث علي إذ قال: إسناده ضعيف، وسكت عن حديث وائل وحديث هلب، فلو كانا هما أيضاً ضعيفين لصرح بذلك وبين ضعفهما، ولأنه ذكر في أوائل مقدمة الفتح في بيان دأبة في الشرح أنه يستخرج ما يتعلق به غرض صحيح في الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية، منتزعاً كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة والحسن فيما يورده من ذلك، فقوله هذا يدل على أن حديث وائل وكذا حديث هلب عنده صحيح أو حسن. وقد اعترف الشيخ محمد قائم السندي في رسالته فوز الكرام: أن هذا الحديث على شرط ابن خزيمة حيث قال فيها: الذي أعتقد أن هذا الحديث على شرط ابن خزيمة، وهو المبتادر من صنيع الحافظ في الإتحاف، والظاهر من قول ابن سيد الناس بعد ذكر حديث وائل في شرح جامع الترمذي: وصححه ابن خزيمة-انتهى. وقال ابن أمير الحاج في شرح المنية: إن الثابت من السنة وضع اليمين على الشمال، ولم يثبت حديث يوجب تعيين المحل الذي يكون الوضع فيه من البدن إلا حديث وائل المذكور، وهكذا قال صاحب البحر الرائق، كذا في فتح الغفور للشيخ(3/60)
محمد حيات السندي. وقال الشوكاني في النيل: أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وصححه-انتهى. ومن يدعى أن الشوكاني لم ير صحيح ابن خزيمة ولم ينقل تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث من أصل الكتاب بل اشتبه عليه من قول ابن سيد الناس، أو ظن أن كل حديث أورده ابن خزيمة في صحيحه فقد صححه. وكذا من يدعى أن الحديث الذي ذكر تصحيحه ابن سيد الناس هو الذي ذكره الحافظ في الفتح بلفظ: "ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ من الساعد"، لا حديث وائل بزيادة "على صدره" فعليه البيان. وأما الادعاء المحض من غير إقامة برهان ودليل وإظهار قرينة فلا يلتفت إليه. والظاهر أن ابن خزيمة صحح الروايتين جميعاً، ذكر تصحيح إحداهما الحافظ في الفتح، وذكر تصحيح الرواية الثانية أي بزيادة "على صدره" ابن سيد الناس في شرح الترمذي والشوكاني في النيل، وسكوت النووي أو الحافظ عن ذكر تصحيح ابن خزيمة للرواية الثانية لا يدل على أن ابن خزيمة لم يصححها، فإن الحافظ لم يصرح بأنه التزم في تصانيفه أن يذكر تصحيح ابن خزيمة في كل حديث صرح ابن خزيمة بتصحيحه. وعدم ذكر مسلم هذه الزيادة في صحيحه لا يدل على كونها خطأ وغلطاً من الراوي، كما أن عدم ذكر من لم يذكر من الشيخين في صحيحه حديثاً أو زيادة اشتركاً في روايته من شيخ واحد بسند واحد لا يدل على كونه وهماً أو خطأ وغلطاً من الراوي عند من لم يذكره، وكذا عدم ذكر غيره ممن لم يذكرها من الرواة لا يدل على كونها شاذة، فإنها زيادة ثقة، وهي مقبولة إلا أن تقوم قرائن قوية ودلائل واضحة على كونها وهماً، أو حكم الأئمة النقاد على كونها غير محفوظة. ومنها حديث هلب الطائي قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه ويساره، ورأيته يضع يده على صدره، ووصف يحيى بن سعيد القطان الراوي، اليمنى على اليسرى فوق المفصل. أخرجه أحمد في مسنده، ورواته كلهم ثقات، وإسناده متصل كما بينه شيخنا في شرح الترمذي. ومنها حديث طاووس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة. أخرجه أبوداود في المراسيل وإسناده حسن، والمرسل حجة عند الحنفية مطلقاً، وههنا قد اعتضد هذا المرسل بحديث وائل وحديث هلب الطائي المذكورين، فالاستدال به على وضع اليدين على الصدر في الصلاة صحيح. قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع. ومن اللطائف قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه، وفيه حفظ نور الإيمان في الصلاة، فكان أولى من إشارته إلى العورة بالوضع تحت السرة. قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أي في وضع اليدين خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره. وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة. ومنهم من كره الإمساك. ونقل ابن حاجب أن ذلك حيث يمسك معتمداً لقصد الراحة، كذا(3/61)
في الفتح. والذي ذكرنا من محل الوضع على الصدر هي إحدى الروايات الثلاث عن الشافعي، والمشهور المختار عند أصحابه، المذكور في أكثر متونهم وشروحهم هو أن يضعهما تحت الصدر فوق السرة. واستدل لذلك بما رواه أبوداود عن جرير الضبي قال: رأيت علياً يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة. وإسناده صحيح أو حسن، لكنه فعل علي - رضي الله عنه -، ليس بمرفوع، ثم الظاهر أن المراد من قوله "فوق السرة" على مكان مرتفع من السرة أي على الصدر أو عند الصدر كما تقدم في حديث وائل، وفي حديث هلب، وفي حديث طاووس. واستدل لما ذهبت إليه الحنفية من أن الرجل يضع اليدين تحت السرة بأحاديث: منها حديث وائل أخرجه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن موسى بن عمير، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، قال رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع يمينه على شماله تحت السرة. قال الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي: هذا سند جيد. وقال الشيخ أبوالطيب المدني في شرح الترمذي: هذا حديث قوي من حيث السند. وقال الشيخ محمد عابد السندي في طوالع الأنوار: رجاله ثقات. وفيه أن هذا الحديث وإن كان قوياً من حيث السند لكن من المعلوم أن صحة السند وقوته لا تستلزم صحة المتن وقوته، وههنا في ثبوت لفظ "تحت السرة" نظر بل هو غلط، فإن النسخ الصحيحة من المصنف لابن أبي شيبة خالية من هذه الزيادة في حديث وائل هذا، كما صرح بذلك الشيخ محمد حيات السندي في رسالته "فتح الغفور" (ص6-8) والشيخ محمد فاخر المحدث الإله آبادي في منظومته "نور السنة" وصاحب رسالة "الدرة في إظهار غش نقد الصرة" ويؤيدهم أن أحداً من أهل العلم ممن أكثروا النقل عن المصنف كابن عبد البر، والحافظ ابن حجر والسيوطي والعيني وابن أمير الحاج وغيرهم لم يذكروا هذا الحديث بهذه الزيادة، إلا القاسم بن قطلوبغا الحنفي. قال شيخنا في شرح الترمذي (ج1: ص214) : إسناد هذا الحديث وإن كان جيداً، لكن في ثبوت لفظ تحت السرة في هذا الحديث نظراً قوياً، ثم بين ذلك مفصلاً فعليك أن ترجع إليه، وإلى أبكار المنن أيضاً. ومنها حديث علي أخرجه أحمد وأبوداود، وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن أبي جحيفة أن علياً قال: السنة وضع الكف على الكف تحت السرة. وفيه أن في سند هذا الحديث عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، وعليه مدار هذا الحديث، وهو ضعيف لا يصلح للاحتجاج. قال البخاري: فيه نظر. وقال ابن حنبل وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك. وقال النووي في الخلاصة وشرح مسلم: هو حديث متفق على تضعيفه، فإن عبد الرحمن بن إسحاق ضعيف بالاتفاق، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص314) وقال ابن الهمام في التحرير: إذا قال البخاري للرجل: فيه نظر، فحديثه لا يحتج به، ولا يستشهد به، ولا يصلح للاعتبار- انتهى. فظهر بهذا كله أن حديث علي هذا لا يصلح للاحتجاج، ولا للاستشهاد، ولا للاعتبار. ثم حديث علي هذا منسوخ على طريق الحنفية. قال صاحب الدرة في إظهار غش نقد الصرة - وهو من العلماء الحنفية -: روى أبوداود عن جرير(3/62)
في الصلاة)) رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الضبي أنه قال: رأيت علياً يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة. وأصل علمائنا إذا خالف الصحابي مرويه فهو يدل على نسخه، وهذا الفعل وإن لم يكن أقوى من القول فلا أقل أن يكون مثله-انتهى. قلت: إسناد أثر علي هذا أعني الذي رواه أبوداود عن جرير الضبي صحيح أو حسن كما عرفت. ومنها حديث أبي هريرة رواه أبوداود عن أبي وائل، قال: قال أبوهريرة: أخذ الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة. وفيه أن في إسناد حديث أبي هريرة أيضاً عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، فهذا الحديث أيضاً لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد ولا للاعتبار. ومنها حديث أنس ذكره ابن حزم في المحلي تعليقاً بلفظ "ثلاث من أخلاق النبوة تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت السرة". وفه أن سنده غير معلوم لينظر فيه هل رجالهم مقبولون أم لا، وما لم يعلم سنده لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد ولا للاعتبار، وإيراد ابن حزم هذا الحديث في المحلي من غير أن يذكر سنده، وكذا إيراد غيره من الحنفية في تصانيفهم بغير سند لا يدل على كونه قابلاً للاحتجاج. فهذه الأحاديث الأربعة هي كل ما احتج به الحنفية على وضع اليدين في الصلاة، وقد عرفت أنه لا يصلح واحد منها للاحتجاج، ويذكرون أثرين: أحدهما أثر أبي المجلز التابعي رواه ابن أبي شيبة عن الحجاج بن حسان، قال: سمعت أبا مجلز أو سألته قال: قلت: كيف أضع؟ قال: يضع باطن كف يمينه على ظاهر كف شماله، ويجعلهما أسفل من السرة. وفيه أن هذا قول تابعي ينفيه الحديث المرفوع فلا يلتفت إليه، وقد روي عنه وضع اليدين فوق السرة أيضاً. والثاني ما رواه ابن أبي شيبة أيضاً عن إبراهيم النخعي، قال: يضع يمينه على شماله في الصلاة تحت السرة. وفيه أن هذا قول رجل من صغار التابعين مخالف للحديث المرفوع فلا يعبأ به. واعلم أنه لم يرد ما يدل على الفرق بين الرجل والمرأة في محل الوضع، ومذهب الحنفية أن الرجل يضع اليدين تحت السرة والمرأة تضعهما على الصدر؛ لأنه أستر لها. ولا دليل على هذا الفرق من السنة ولا من قول الصحابي. (في الصلاة) ومحل الوضع منها كل قيام هو قبل الركوع لأن الأصل هو الإرسال كما هو وضع الإنسان خارج الصلاة، فلا يترك هذا الأصل إلا فيما ورد النص على خلافه، وهو القيام قبل الركوع، وأما القومة أي الاعتدال بعد رفع الرأس من الركوع فلم يرد حديث مرفوع صريح صحيح يدل على الوضع فيه، فيكون فيه العمل على الأصل، والأحاديث المطلقة تحمل على المقيدة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد كلهم من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد، وزادوا في آخره "قال أبوحازم: لا أعلمه إلا ينمي أي يرفع ويسند ويضيف ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ". واعترض الداني في أطراف الموطأ فقال: هذا معلول؛ لأنه ظن من أبي حازم. ورد بأن أبا حازم لو لم يقل: "لا أعمله" الخ. لكان في حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" يصرف بظاهره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم. قبل: لو كان مرفوعاً ما احتاج أبوحازم إلى قوله: "لا أعمله" والجواب أنه أراد الانتقال إلى التصريح، فالأول لا يقال له مرفوع، وإنما يقال "له حكم الرفع" قاله الحافظ.(3/63)
805- (10) وعن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
805- قوله: (إذا قام إلى الصلاة يكبر) أي للدوام (حين يقوم) فيه أنه لا يتوجه ولا يصنع قبل التكبير شيئاً، وأن التكبير يكون مقارناً لحال القيام، وأنه لا يجزئ من قعود. قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إيقاع التكبير في حال القيام، ولا شك أن القيام واجب في الفرائض للتكبير مع القدرة، فكل انحنا يمنع اسم القيام عند التكبير يبطل التحريم، ويقتضي عدم انعقاد الصلاة فرضاً. (ثم يكبر) أي تكبيرة النقل (حتى يركع) قال الأمير اليماني: ظاهر قوله: "يكبر حين كذا وحين كذا" أن التكبير يقارن هذه الحركات، فيشرع في التكبير عند ابتداءه للركن، وأما القول بأنه يمد التكبير حتى يتم الحركة فلا وجه له، بل يأتي باللفظ من غير زيادة على أدائه ونقصان منه. (ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه) أي حين يشرع في رفعه (من الركعة) أي من الركوع يعني يقول ذلك في حال أخذه في رفع صلبه من هويه للقيام. (ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد) بحذف الواو، وفي رواية بإثباتها. وقد تقدم أن الرواية بثبوت الواو أرجح، وهي عاطفة على مقدر. أي ربنا أطعناك، وحمدناك، ولك الحمد. وقيل: زائدة. قال الأصمعي: سألت أبا عمرو عنها فقال: زائدة. تقول العرب: بعني هذا، فيقول المخاطب: نعم، وهو لك بدرهم، فالواو زائدة. وقيل: هي واو الحال، قاله ابن الأثير وضعف ما عداه. وفيه أن التسميع ذكر النهوض والرفع، والتحميد ذكر الاعتدال، واستدل به على أنه يشرع الجمع بين التسميع والتحميد لكل مصل من إمام، ومنفرد، ومؤتم، إذ هو حكاية لمطلق صلاته - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان يحتمل أنه حكاية لصلاته - صلى الله عليه وسلم - إماماً لكون ذلك هو الأكثر الأغلب من أحواله إلا أنه لو فرض هذا فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" أمر لكل مصل أن يصلي كصلاته - صلى الله عليه وسلم - من إمام ومنفرد ومؤتم، ثم إن هذا الحديث مفسر للأحاديث التي فيها "كان يكبر في كل خفض ورفع". (ثم يكبر حين يهوي) بفتح أوله وكسر ثالثه، أي حين يسقط ساجداً. وفيه أن التكبير ذكر الهوي فيبتدئ به من حين يشرع في الهوي بعد الاعتدال. (ثم يفعل ذلك) أي جميع ما ذكر ما عدا التكبيرة الأولى التي للإحرام (في الصلاة كلها) أي جميع ركعاتها (حتى يقضيها) أي يتمها ويؤديها. والحديث يدل على إتمام التكبير بأن يوقع في كل خفض ورفع مع التسميع في الرفع من الركوع، وقد كان وقع من بعض أمراء بني أمية تركه تساهلاً، فقد روى أحمد عن مطرف، قال: قلنا: يعني لعمران(3/64)
ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)) متفق عليه.
806- (11) وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل الصلاة طول القنوت))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن حصين يا أيا نجيد! من أول من ترك التكبير؟ قال: عثمان بن عفان حين كبر وضعف صوته. وهذا يحتمل إرادة ترك الجهر. وروى الطبراني عن أبي هريرة أن أول من ترك التكبير معاوية. وروى أبوعبيد أن أول من تركه زياد. وهذا لا ينافي الذي قبله؛ لأن زياداً تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان. وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء، لكن حكى الطحاوي أن قوما كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع. قال: وكذلك كانت بنوأمية تفعل، ثم استقر العمل من الأمة على فعله في كل ركعة خمس تكبيرات كما عرفته من لفظ هذا الحديث، ويزيد في الرباعية والثلاثية تكبير النهوض من التشهد الأوسط، فيتحصل في المكتوبات الخمس بتكبيرة الإحرام أربع وتسعون تكبيرة، ومن دونها تسع وثمانون تكبيرة. قال البغوي في شرح السنة: اتفقت الأمة على هذه التكبيرات، فقال النووي: هذا مجمع عليه اليوم، وقد كان فيه خلاف من زمن أبي هريرة. واختلف العلماء في حكم تكبير النقل. فقيل: واجب، وهو المشهور عن أحمد، وإليه ذهب داود وإسحاق، وابن حزم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - داوم عليه، وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي، ولأنه ورد تعليم ذلك في حديث المسيء في صلاته عند أبي داود وغيره كما سلف منا. واستدل لمن قال بندب تكبير الانتقال- وهم الجمهور- بما رواه أحمد وأبوداود، عن ابن أبزى عن أبيه أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان لا يتم التكبير. وفي لفظ لأحمد: إذا خفض ورفع. وفي رواية: فكان لا يكبر إذا خفض يعني بين السجدتين. قيل: هذا يدل على عدم الوجوب؛ لأن تركه - صلى الله عليه وسلم - له في بعض الحالات لبيان الجواز والإشعار بعدم الوجوب. وأجيب عنه بأن في إسناده الحسن بن عمران. قال أبوزرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات. ونقل البخاري في التاريخ عن أبي داود الطيالسي أنه قال: هذا عندنا باطل. وقال الطبري في تهذيب الآثار، والبزار: تفرد به الحسن، وهو مجهول. وهذا لا يعارض الأحاديث فيها تكبيرات النقل لكثرتها وصحتها وكونها مثبتة ومشتملة على الزيادة، وكون بعضها دالة على الوجوب. وقيل: المراد في حديث ابن أبزى "لم يتم الجهر أو لم يمده". (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي.
806- قوله: (أفضل الصلاة طول القنوت) أي أفضل أركان الصلاة وأفعالها طول القنوت، أو أفضل الصلاة صلاة فيه طول القنوت، أو صلاة ذات طول القنوت. والقنوت يجئ لمعان كثيرة، والمراد هنا طول القيام. قال النووي باتفاق العلماء فيما علمت. وقال ابن العربي في شرح الترمذي (ج1: ص179، 178) : تتبعت موارد القنوت فوجدتها عشرة: الطاعة، العبادة، دوام الطاعة، الصلاة، القيام، طول القيام، الدعاء، الخشوع، السكوت، ترك الالتفات.(3/65)
رواه مسلم.
{الفصل الثاني}
807- (12) عن أبي حميد الساعدي، قال في عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أعلمكم بصلاة
رسول الله
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكلها محتملة أولاها السكوت والخشوع والقيام، وأحدها في هذا الحديث القيام-انتهى. ويدل على ذلك تصريح أبي داود في حديث عبد الله بن حبشي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الأعمال أفضل؟ قال طول القيام. والحديث فيه دليل على أن القيام أفضل من الركوع والسجود وغيرهما. واختلف العلماء في أن القيام أفضل أو السجود. فقالت طائفة ومنهم الشافعي: إن القيام أفضل، فيكون تكميله وتطويله أهم لحديث جابر هذا وما في معناه، ولأنه أدخل في الخدمة والمشقة، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في صلاة الليل يطول قيامه، ولو كان السجود أفضل لكان طوله، ولأن الذكر الذي شرع في القيام أفضل الأذكار-وهو القرآن- فيكون هذا الركن أفضل الأركان. وقالت طائفة: السجود أفضل؛ لأنه أدل على الذلة والخضوع، ولأنه روى عن أبي هريرة مرفوعاً: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، أخرجه أحمد ومسلم وأبوداود والنسائي. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لم سأل مرافقته في الجنة: أعني بكثرة السجود، ولحديث "ما تقرب العبد إلى الله بأفضل من سجود خفي". ولا يخفى أن هذه الأحاديث لا تعارض حديث جابر ومن وافقه. أما الحديث الأول فلأنه لا يلزم من كون العبد أقر إلى ربه حال سجوده أفضليته على القيام لأن تلك الأقربة في حال السجود إنما هي باعتبار استحبابه الدعاء كما يقتضيه قوله "فأكثروا الدعاء" وهو لا ينافي أفضلية القيام. وأما الحديث الثاني فلأن غاية ما فيه أنه يدل على فضل السجود، ولا يلزم من فضل السجود أفضليته على طول القيام. وأما الحديث الثالث فلأنه لا يصح لإرساله كما قال العراقي. لأن في إسناده أبا بكر بن أبي مريم وهو ضعيف. وقيل: هما متساويان. وتوقف أحمد في المسألة ولم يقض فيها بشئ. وقال إسحق بن راهوية: أما في النهار فتكثير الركوع والسجود أفضل؛ لأنه يقرأ جزءه، ويربح كثرة الركوع والسجود. قال ابن عدي: إنما قال إسحق هذا؛ لأنهم وصفوا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل بطول القيام، ولم يوصف من تطويله بالنهار ما وصف من تطويله بالليل-انتهى. قال العراقي: الظاهر أن حديث أفضلية طول القيام محمولة على صلاة النفل التي لا تشرع فيها الجماعة، وعلى صلاة المنفرد، فأما الإمام في الفرائض والنوافل فهو مأمور بالتخفيف المشروع إلا إذا علم من حال المأمومين المحصورين إيثار التطويل، ولم يحدث ما يقتضي التخفيف من بكاء صبي ونحوه، فلا بأس بالتطويل، وعليه يحمل صلاته في المغرب بالأعراف-انتهى (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وابن ماجه.
807- قوله: (في عشرة) أي في محضر عشرة، يعني بين عشرة أنفس وحضرتهم (أنا أعلمكم بصلاة رسول الله(3/66)
- صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فاعرض. قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يصبي رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم -) فيه مدح الإنسان لنفسه لمن يأخذ عنه ليكون كلامه أوقع وأثبت عند السامع. قال الحافظ: في الحديث جواز وصف الرجل نفسه بكونه أعلم من غيره إذا أمن الإعجاب، وأراد تأكيد ذلك عند من سمعه، لما في التعليم والأخذ عن الأعلم من الفضل. وزاد في رواية: قالوا: فلِم؟ فوالله ما كنت أكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة، وللطحاوي "قالوا: من أين؟ قال: رقبت ذلك منه حتى حفظت صلاته". (فأعرض) بهمزة وصل، أي إذا كنت أعلمنا فاعرض علينا ما تعلم، لنرى هل أصبت أو لا. قال في النهاية: يقال عرضت عليه أمر كذا، أو عرضت له الشيء: أظهرته وأبرزته إليه. اعرض بالكسر لا غير، أي بين علمك بصلاته - صلى الله عليه وسلم - إن كنت صادقاً لنوافقك إن حفظناه وإلا استفدناه. (قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم -) الخ. هذا يدل على أن أباحميد حكي صلاته - صلى الله عليه وسلم - بالقول، وروى عنه أنه وصف صلاته بالفعل كما في رواية الطحاوي وابن حبان. قال الحافظ: ويمكن الجمع بين الروايتين بأن يكون وصفها مرة بالقول مرة بالفعل (حتى يحاذي بهما) أي بكفيه (منكبيه) ويكون رؤس الأصابع بحذاء أذنيه (ثم يكبر) قال ابن حجر: "ثم" ههنا بمعنى الواو لرواية البخاري السابقة "حين يكبر" وقدمت؛ لأنها أصح وأشهر. وفيه دليل على وجوب وقوع جميع تكبيرة الإحرام في القيام كما مرّ. (ثم يقرأ) قال القاري: لعل القراءة ههنا تعم التسبيح ودعاء الاستفتاح، أو التقدير: ثم يأتي بدعاء الافتتاح والتعوذ كما ثبت من روايات أخر، ثم يقرأ الفاتحة، ثم السورة كما ثبت من روايات أخر أيضاً (ويضع راحتيه على ركبتيه) أي ويفرج أصابعه، ففي رواية لأبي داود: وفرج بين أصابعه (ثم يعتدل) أي في الركوع بأن يسوي رأسه وظهره حتى يصيرا كالصفحة، وتفسيره قوله: (فلا يصبى) بالتشديد، أي لا ينزل (رأسه) أي عن ظهره. يقال: صبى الرجل رأسه يصيبه إذا خفضه جداً. قال في المجمع: وفيه أنه لا يصبي رأسه أي لا يخفضه كثيراً، ولا يميله إلى الأرض، من صبا إليه يصبو، إذا مال، وصبى رأسه تصيبه، شدد للتكثير. وقيل: هو مهموز من صبأ إذا خرج من دين. ويروي لا يصب-انتهى. ويروي أيضاً لا يصوب من التصويب، وكل من التصبية والصب والتصويب بمعنى. وقال القاري: الظاهر أن التشديد في التصبية للتعدية (ولا يقنع) من أقنع رأسه إذا رفع ونصب. أى لا يرفع رأسه حتى يكون أعلى من ظهره. (ثم يرفع رأسه) أي بالقومة إلى الاعتدال (معتدلاً) حال من فاعل يرفع (ثم يهوي) أي(3/67)
إلى الأرض ساجداً، فيجافي يديه عن جنبيه، ويفتخ أصابع رجليه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ثم يعتدل حتى يرجع كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها، ثم يعتدل حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم ينهض، ثم يصنع في الركعة الثانية مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى، وقعد متوركاً على شقه الأيسر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ينحط وينزل بعد شروعه في التكبير. والهوى السقوط من علو إلى سفل (ساجداً) أي قاصداً للسجود. (فيجافى) أي يباعد في سجوده (يديه) أي مرفقيه (ويفتح أصابع رجليه) بالخاء المعجمة المفتوحة أي يثنيها ويلينها فيوجهها إلى القبلة وأصل الفتخ الكسر واللين، والمراد أنه ينصبها مع الاعتماد على بطونها، ويجعل رؤسها للقبلة لخبر البخاري: أنه- عليه السلام - سجد واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة. ومن لازمها الاستقبال ببطونها والاعتماد عليها. (ثم يرفع رأسه) أي مكبراً (ويثنى) بفتح الياء الأولى، أي يعطف (ثم يعتدل) أي جالساً (حتى يرجع كل عظم في موضعه) أي يستقر فيه (معتدلاً) أي في الجلوس. وهو حال مؤكدة، وفيه الجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه (ثم يسجد) أي بعد التكبير (ثم يقول: الله أكبر ويرفع) أي رأسه من السجدة الثانية (ويثني رجله اليسرى فيقعد عليها ثم يعتدل) الخ. فيه ندب جلسة الاستراحة في كل ركعة لا تشهد فيها، وقد تقدم بيانها مفصلاً. (مثل ذلك) أي مثل ما صنع في الركعة الأولى إلا ما استثني. (ثم إذا قام) أي شرع في القيام، أو أراده (من الركعتين كبر ورفع يديه) الخ. فيه استحباب رفع اليدين في القيام من الركعتين بعد التشهد، وهو الموطن الرابع من المواطن الأربعة التي شرع فيها الرفع. (ثم يصنع ذلك) أي ما ذكر من الكيفيات (حتى إذا كانت السجدة التي فيها) أي عقبها (التسليم أخر) أي أخرج (رجله اليسرى) أي من تحت مقعدته إلى الأيمن (وقعد متوركاً على شقه الأيسر) أي مفضياً بوركه اليسرى إلى الأرض غير قاعد على رجليه. فيه سنية التورك في القعدة الأخيرة، وأن هيئة الجلوس في التشهد الأخير مغايرة لهيئة غيره من الجلسات. وإليه ذهب الشافعي، وأحمد. وعند الحنفية يفترش في الكل. وعند المالكية يتورك في الكل. واستدل به الشافعية أيضاً على أن تشهد الصبح والجمعة وغيرهما من الثنائية كالتشهد الأخير في غير الثنائية؛ لعموم قوله "إذا كانت السجدة التي فيها التسليم" ولقوله "إذا جلس في الركعة الآخرة" عند البخاري. وفي هذا الاستدلال عندي نظر قوي، لا يخفى على المتأمل، واختلف فيه قول أحمد، والمشهور عنه اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان. قيل: الاختلاف بين الشافعي وأحمد(3/68)
ثم سلم. قالوا: صدقت هكذا كان يصلي)) رواه أبوداود، والدارمي. وروى الترمذي وابن ماجه معناه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مبني على علة التورك؛ فهي تطويل التشهد عند الشافعي، والتفريق بين التشهدين عند أحمد، فما ليس فيه إلا تشهد واحد لا حاجة فيه إلى التفريق. وقيل: مدار التورك عند الشافعي تعقيب السلام، كما يظهر من كلام النووي في شرح مسلم، حيث قال: قال الشافعي: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشاً إلا التي يعقبها السلام، فلو كان مسبوقاً وجلس إمامه متوركاً جلس المسبوق مفترشاً؛ لأن جلوسه لا يعقبه بسلام- انتهى. قلت: ويؤيد ذلك قوله: "إذا كانت السجدة التي فيها التسليم". وقوله "الركعة الآخرة" (قالوا) أي العشرة من الصحابة (صدقت) أي فيما قلت. (رواه أبوداود والدارمي) قال القاري: أي بهذا اللفظ، وفيه نظر؛ لأن بين السياق الذي ذكره المصنف تبعاً للبغوي وبين سياق أبي داود والدارمي فرقاً في عدة مواضع. والحديث أخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص424) وابن حبان، والبيهقي، وابن خزيمة. (وروى الترمذي وابن ماجه معناه) وهو عندهم جميعاً من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن عمرو بن عطاء، سمعت أباحميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منهم أبوقتادة، قال أبوحميد: أنا أعلمكم، الخ. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) وقال النووي: إسناده على شرط مسلم. وقال أبوحاتم في علله (ج1: ص163) : أصله صحيح. وقال الحافظ في الفتح (ج3: ص405) : صححه ابن خزيمة وابن حبان. وأخرجه البخاري في صحيحه مختصراً، وقد تقدم. وضعفه ابن التركماني بثلاثة وجوه: الأول أن في سنده عبد الحميد بن جعفر، قال ابن التركماني: وهو مطعون في حديثه كذا قال يحيى بن سعيد، وهو إمام الناس في هذا الباب. والجواب عنه أن عبد الحميد هذا ثقة، صدوق، صالح للاحتجاج، من رجال مسلم، ولا وجه لطعن من طعن فيه. قد وثقه أحمد، وابن معين، وابن المديني، وابن سعد، وابن حبان. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي: أرجوا أنه لا بأس به وهو ممن يكتب حديثه، وقال أبوحاتم: محله الصدق. وقال الساجي: ثقة صدوق. واختلفت الرواية فيه عن يحيى بن سعيد؛ ففي تهذيب التهذيب (ج6: ص112) : قال الدوري عن ابن معين: ثقة ليس به بأس كان يحيى بن سعيد يضعفه. قلت ليحيى: فقد روى عنه، قال: قد روى عنه وكان يضعفه، وكان يرى القدر. وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كان يحيى بن سعيد يوثقه، وكان الثوري يضعفه. قلت ما تقول أنت فيه؟ قال: ليس بحديثه بأس وهو صالح- انتهى. والظاهر أن تضعيفه إياه إنما هو لأنه كان يرى القدر، والطعن في حديثه لذلك ليس بشيء كما لا يخفى، وضعفه الثوري؛ لأنه كان ممن خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن. قال الذهبي في الميزان (ج2: ص94) : وقد نقم عليه الثوري خروجه مع محمد بن عبد الله- انتهى. وهذا(3/69)
أيضاً ليس مما يطعن في حديثه لأجله. قال البيهقي في كتاب المعرفة: أما تضعيف الطحاوي لعبد الحميد فمردود بأن يحيى بن معين وثقه في جميع الروايات عنه. وكذلك أحمد بن حنبل، واحتج به مسلم في صحيحه- انتهى. فقد ظهر بهذا كله أن توثيق عبد الحميد بن جعفر هو الحق والصواب؛ لأنه اتفق أئمة الجرح والتعديل كأحمد، وابن معين، وابن المديني، وابن سعد، وغيرهم على توثيقه إلا الثوري، ولا وجه لطعنه فيه. واختلف فيه قول يحيى بن سعيد القطان. الوجه الثاني أن الحديث منقطع؛ لأنه لم يسمعه محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي حميد، ولا من أحد ذكر مع أبي حميد. وذكر محمد بن عمرو في الحديث أنه حضر أبا قتادة، وسنه لا يحتمل ذلك، فإن أبا قتادة قتل مع علي وصلى عليه علي. قال الحافظ في الفتح (ج4: ص449) : زعم ابن القطان تبعاً للطحاوي أنه غير متصل لأمرين: أحدهما أن عيسى بن عبد الله رواه عن محمد بن عمرو بن عطاء فأدخل بينه وبين الصحابة عباس بن سهل. أخرجه أبوداود وغيره. وثانيهما أن في بعض طرقه تسمية أبي قتادة في الصحابة المذكورين، وأبوقتادة قديم الموت يصغر سن محمد بن عمرو بن عطاء عن إدراكه. والجواب عن ذلك: أما الأول فلا يضر الثقة المصرح بسماعه أن يدخل بينه وبين شيخه واسطة إما لزيادة في الحديث وإما ليثبت فيه. وقد صرح محمد بن عمرو المذكور بسماعه، فتكون رواية عيسى عنه من المزيد في متصل الأسانيد. وأما الثاني فالمعتمد فيه قول بعض أهل التاريخ إن أبا قتادة مات في خلافة علي، وصلى عليه علي، وكان قتل على سنة أربعين، وإن محمد بن عمرو بن عطاء مات بعد سنة عشرين ومائة، وله نيف وثمانون سنة، فعلى هذا لم يدرك أبا قتادة. والجواب أن أبا قتادة اختلف في وقت موته، فقيل: مات سنة أربع وخمسين، وعلى هذا فلقاء محمد له ممكن، وعلى الأول فلعل من ذكر مقدار عمره ووقت وفاته وهم، أو الذي سمى أبا قتادة في الصحابة المذكورين وهِمَ في تسميته، ولا يلزم من ذلك أن يكون الحديث الذي رواه غلطاً؛ لأن غيره ممن رواه معه عن محمد بن عمرو بن عطاء أو عن عباس ابن سهل قد وافقه- انتهى. وقال البيهقي: أما ما ذكر من انقطاعه فليس كذلك، فقد حكم البخاري في تاريخه بأنه سمع أباحميد، وأبا قتادة، وابن عباس. وقوله: "إن أبا قتادة قتل مع على" رواية شاذة رواها الشعبي، والصحيح الذي أجمع أهل التاريخ أنه بقي إلى سنة أربع وخمسين، ونقله عن الترمذي، والواقدي، والليث، وابن مندة في الصحابة، وأطال فيه، كذا في نصب الراية (ج1: ص412، 411) ولفظ البيهقي في معرفة السنن: واستشهاده على ذلك بوفاة أبي قتادة قبله خطأ؛ لأنه إنما رواه موسى بن عبد الله بن يزيد أن علياً صلى على أبي قتادة فكبر عليه سبعاً، وكان بدرياً. ورواه أيضاً الشعبي منقطعاً، وقال: فكبر عليه ستاً. وهو غلط لإجماع التواريخ على أباقتادة الحارث بن ربعي بقي إلى سنة أربع وخمسين، وقيل: بعدها، إلخ. وفي تهذيب التهذيب (ج12: ص204) : قال الواقدي: توفي أبوقتادة بالكوفة سنة أربع وخمسين، وهو ابن سبعين سنة. ولم أر بين علمائنا اختلافاً في ذاك. قال وروى أهل الكوفة أنه مات بالكوفة(3/70)
وعلي بها وصلى عليه. وحكى خليفة: أن ذلك كان سنة ثمان وثلاثين وهو شاذ، والأكثر على أنه مات سنة أربع وخمسين. قال الحافظ: ومما يؤيد ذلك أن البخاري ذكره في الأوسط في فصل من مات بعد الخمسين إلى الستين، ثم روى بإسناده إلى مروان بن الحكم قال: كان والياً على المدينة من قبل معاوية، أرسل إلى أبي قتادة ليريه مواقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فانطلق معه فأراه. وقال في الإصابة (ج4: ص159) : ويدل على تأخره أيضاً ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل، أن معاوية لما قدم المدينة تلقاه الناس، فقال لأبي قتادة تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار- انتهى. وقال في التقريب في ترجمة أبي قتادة: مات سنة أربع وخمسين. وقيل: سنة ثمان وثلاثين. والأول أصح وأشهر. وهذا كله يدل على أن الراجح في سنة وفاة أبي قتادة هو أنه توفي سنة أربع وخمسين، وهو أيضاً يدل على رجوع الحافظ مما ذكر في التلخيص (ص160) : أن الراجح عنده هو أن أبا قتادة مات في خلافة علي، والله أعلم. الوجه الثالث أن الحديث مضطرب والمتن، أما الأول فلأنه رواه عطاف بن خالد عن محمد بن عمرو بن عطاء، فجعل بينه وبين أبي حميد رجلاً مجهولاً. ورواه عيسى بن عبد الله، عن محمد بن عمرو، عن عباس بن سهل، أنه كان في مجلس فيه أبوه سهل بن سعد وأبوهريرة وأبوأسيد وأبوحميد، وفي رواية عن عباس أو عياش ابن سهل، وفي رواية أن عيسى بن عبد الله رواه عن عباس بن سهل عن أبي حميد، فلم يذكر محمداً في سنده. وأما الثاني فقد وقع الاختلاف في ذكر التورك في روايات الحديث، فإن عبد الحميد بن جعفر ومحمد بن عمرو بن حلحلة ذكر التورك في الجلسة الأخيرة في روايتهما عن محمد بن عمرو بن عطاء. وأما عيسى بن عبد الله فذكر التورك في الجلسة بين السجدتين ولم يذكره في غيرها من القعدة الأخيرة والأولى. ولم يذكر جلسة الاستراحة؛ لأنه قال: ولم يتورك أي مثل توركه بين السجدتين. وهذا في رواية الحسن بن الحر عن عيسى، وأما عتبة بن حكيم عن عيسى، وفليح عن عباس بن سهل فلم يذكر التورك أصلاً لا في الجلسة الأولى والثانية، ولا بين السجدتين، ولا في جلسة الاستراحة. والجواب عن ذلك أن هذا الاختلاف ليس بموجب للاضطراب القادح في صحة الحديث؛ لأن الجمع أو الترجيح ممكن بل متحقق، فإن رواية عيسى بواسطة العباس بن سهل محمولة، على أنها من المزيد في متصل الأسانيد كما تقدم، ورواية الجزم قاضية على رواية الشك، والرجل المبهم هو عباس بن سهل، ورواية الحسن بن الحر عن عيسى عن محمد بن عمرو بن عطاء عن عباس أقوى وأرجح من رواية عتبة عن عيسى، عن عباس؛ لأن عتبة وإن كان صدوقًا لكنه يخطئ كثيرًا. وأما الحسن بن الحر فهو ثقة فاضل ويمكن أن عيسى سمعه أولاً من محمد بن عمرو عن عباس ثم لقي عباساً فسمع منه بلا واسطة، ويحتمل عكسه، وهذا ليس ببعيد، بل يؤيده قول ابن المبارك: أرى فليحًا ذكر عيسى بن عبد الله أنه سمعه من عباس بن سهل قال: حضرت أبا حميد. وأما الاختلاف في ذكر التورك فالجواب عنه أن رواية عبد الحميد أرجح وأصح من جميع الروايات, وأيضاً(3/71)
وفي رواية لأبي داود من حديث أبي حميد: ((ثم ركع فوضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه، وقال: ثم سجد فأمكن أنفه وجبهته الأرض، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه، وفرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه حتى فرغ، ثم جلس، فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته، ووضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى، وكفه اليسرى على ركبته اليسرى، وأشار بإصبعه- يعني السبابة- وفي أخرى له:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المثبت مقدم على النافي، وأيضاً السكوت لا يعارض الذكر. (وفي رواية لأبي داود من حديث أبي حميد) الخ. أخرجها أبوداود من طريق عبد الملك بن عمرو أخبرني فليح، حدثني عباس بن سهل قال: اجتمع أبوحميد وأبوأسيد وسهل بن سعد ومحمد بن مسلمة فذكروا صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبوحميد: أنا أعلمكم، الخ. (ووتر يديه) أي عوجهما، من التوتير وهو جعل الوتر على القوس. (فنحاهما عن جنبيه) من نحى ينحي تنحية إذا أبعد، وفي أبي داود "فتجافى عن جنبيه" يعني أبعد مرفقيه عن جنبيه حتى كان يده كالوتر وجنبه كالقوس. وفي النهاية أي جعلهما كالقوس من قولك: وترت القوس وأوترته، شبه يد الراكع إذا مدها قابضاً على ركبتيه بالقوس إذا أوترت (فأمكن أنفه وجبهته الأرض) بنزع الخافض أي منها، أي وضعهما على الأرض مع الطمأنينة وتحامل عليهما (ووضع كفيه حذو منكبيه) قد تقدم حديث وائل بلفظ: "سجد بين كفيه" ومن يصنع كذلك يكون يداه حذاء أذنيه، ورواية النسائي بلفظ: "جعل كفيه بحذاء أذنيه" صريحة في ذلك فيعارض حديث أبي حميد هذا، فقيل: السنة أن يفعل أيهما تيسر جمعاً للمرويات، بناء على أنه كان- عليه السلام - يفعل هذا أحيانا وهذا أحياناً إلا أن بين الكفين أفضل لأن فيه من تخليص المجافاة المسنونة ما ليس في الآخر. وقد أسلفنا الكلام في المسئلة بأزيد من هذا. (وفرج) بتشديد الراء، أي فرق (غير حامل) أي غير واضع (بطنه) بالنصب مفعول حامل (حتى فرغ) أي من سجوده (ثم جلس) أي في التشهد الأول (فافترش رجله اليسرى) أي وجلس على بطنها (وأقبل بصدر اليمنى على قبلته) أي وجه أطراف أصابع رجله اليمنى إلى القبلة، قاله الطيبي. ونقل ميرك عن الأزهار: أي جعل صدر الرجل اليمنى مقابلاً للقبلة، وذلك بوضع باطن الأصابع على الأرض مقابل القبلة مع تحامل قليل في نصب الرجل (وأشار بإصبعه) فيه دليل على مشروعية الإشارة في التشهد، ويجيء الكلام فيها مفصلاً في باب التشهد (يعني السبابة) الظاهر أن هذا التفسير من المصنف وهي فعالة من السبّ، فإن عادة العرب كانت عند السب والشتم والإشارة بالإصبع الذي يلي الإبهام. (وفي أخرى له) أي في رواية أخرى لأبي داود وقد أخرجها من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن محمد بن عمرو بن حلحلة، عن محمد بن عمرو العامري، قال: كنت في مجلس من(3/72)
وإذا قعد في الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى. وإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة)) .
808- (13) وعن وائل بن حجر: أنه أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قام إلى الصلاة رفع يديه حتى كانتا بحيال منكبيه، وحاذى إبهاميه أذنيه، ثم كبر)) رواه أبوداود. وفي رواية له: ((يرفع إبهاميه إلى شحمة أذنيه)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتذاكروا صلاته - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبوحميد:.. الخ. (وإذا قعد في الركعتين) أي الأوليين يعني بعدهما (قعد على بطن قدمه اليسرى) هذا هو الافتراش. (أفضى بوركه اليسرى) أي أوصلها (إلى الأرض) أي مس بأليته اليسرى الأرض. قال الجوهري: أفضى بيده إلى الأرض إذا مسها ببطن راحته (وأخرج قدميه من ناحية واحدة) وهي ناحية اليمنى، وإطلاق الإخراج على اليمنى تغليب؛ لأن المخرج حقيقة هو اليسرى لا غير. كذا في المرقاة. واعلم أن للحديث طرقاً كثيرة وألفاظاً متقاربة تستفاد من سنن أبي داود ومن الجزء الثاني من السنن الكبرى للبيهقي، ذكرت مواضعها في فهرسة مفصلة.
808- قوله: (رفع يديه) حال بتقدير "قد" وقوله: "حين قام" ظرف له، أي رآه حال كونه رافعاً يديه حين قام إلى الصلاة (حتى كانتا) أي كفاه (بحيال منكبيه) بكسر مهملة وفتح تحتية خفيفة، أي إزائهما ومقابلهما (وحاذى) عطف على كانتا، أي قابل النبي - صلى الله عليه وسلم - (إبهاميه أذنيه) أي جعل إبهاميه محاذيين لأذنيه، والمراد شحمتيهما لما يأتي صريحاً. (ثم كبر) ثم بمعنى الواو، أو معنى "كبر" انتهى التكبير، فيكون ابتداء التكبير والرفع متقاربين. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً النسائي كلاهما من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه، وعبد الجبار ولد في حياة أبيه لكن لم يسمع منه شيئاً، فالحديث منقطع. قال ابن معين والبخاري: لم يسمع عبد الجبار من أبيه شيئاً. وقال ابن حبان في الثقات: من زعم أنه سمع أباه فقد وهم. وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله قليل الحديث، ويتكلمون في روايته عن أبيه، ويقولون لم يلقه، وبمعنى هذا قال أبوحاتم وابن جرير الطبري والجريري ويعقوب بن سفيان ويعقوب بن شيبة والدارقطني والحاكم، وقبلهم ابن المديني وآخرون. وقال المزي والذهبي: قد صح (أي عند أبي داود وقال حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة الجشمي: ثنا عبد الوارث بن سعيد: ثنا محمد بن جحادة: حدثني عبد الجبار بن وائل) عن عبد الجبار؛ أنه قال: كنت غلاماً لا أعقل صلاة أبي، كذا في تهذيب التهذيب. (وفي رواية له) أي لأبي داود (يرفع إبهاميه إلى شحمة أذنيه) أي شحمتيهما. وهي ما لان من أسفلهما. وفي رواية للنسائي "رفع يديه حتى تكاد إبهاماه تحاذى شحمة أذنيه" وحديث(3/73)
809- (14) وعن قبيصة بن هلب، عن أبيه، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وائل هذا يؤيد ما تقدم من الشافعي في الجمع بين الروايات، وقد مر كلام السندي أنه لا حاجة إلى الجمع لعدم التناقض والمنافاة بين الأفعال المختلفة، لجواز وقوع الكل في أوقات متعددة، فيكون الكل سنة.
809- قوله: (وعن قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة (بن هلب) بضم الهاء وسكون اللام، هكذا ضبط المحدثون. وضبط اللغويون بفتح الهاء وكسر اللام بوزن كتف، وهو الذي نص عليه ابن دريد في الاشتقاق (ص273) وعلله بأن الهلب- بالضم- هو الشعر. وقال: الهلب رجل كان أصلع فمسح النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على رأسه فنبت شعره، فسمي الهلب. وقول اللغويين هو الذي صوبه الفيروز آبادي (صاحب القاموس) ورجح شارحه ما قاله المحدثون. وقال: لأنه من باب تسمية العادل بالعدل مبالغة خصوصاً، وقد ثبت النقل وهم العمدة. قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي (ج2: ص32) : وهذا هو الصحيح- انتهى. وقبيصة هذا طائي كوفي. قال ابن المديني والنسائي: مجهول. وذكر مسلم في الوحدان، وابن المدني أنه لم يرو عنه غير سماك بن حرب. وقال العجلي: تابعي ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: مقبول من أوساط التابعين. (عن أبيه) أي هلب الطائي. ويقال إن هلبا لقب غلب عليه، واسمه يزيد بن عدي بن قنافة الطائي، صحابي وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أقرع فمسح رأسه فنبت شعره، سكن الكوفة، وذكره ابن سعد في طبقة مسلمة الفتح. قال ابن دريد: كان أقرع فصار أفرع يعني كان بالقاف فصار بالفاء، والأهلب الكثير الشعر. له هذا الحديث فقط. (فيأخذ شماله بيمينه) أي ويضعهما على صدره، فعند أحمد من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان عن سماك عن قبيصة بن هلب عن أبيه: ورأيته يضع هذه على صدره، وصف يحيى (بن سعيد) اليمنى على اليسرى فوق المفصل. وهذا إسناد حسن، وزيادة "على صدره" زيادة ثقة، فيجب قبولها. قال شيخنا في أبكار المنن: يحيى بن سعيد القطان ثقة حافظ متقن، وزيادته "على صدره" ليست منافية لرواية غيره من أصحاب سفيان عن سماك، فهي مقبولة عند المحققين. قال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: "فيأخذ شماله بيمينه" وقد جاء حديث قبيصة بن هلب في مسند أحمد قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده على صدره ويأخذ شماله بيمينه. وقد جاء في صحيح ابن خزيمة عن وائل بن حجر، قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. وقد روى أبوداود عن طاؤس، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشد بهما على صدره وهو في الصلاة. وهذا الحديث وإن كان مرسلاً لكن المرسل حجة عند الكل. وبالجملة فكما صح أن الوضع هو السنة دون الإرسال ثبت أن محله الصدر لا غير. وأما حديث "إن من السنة وضع الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة" فقد اتفقوا على ضعفه. كذا ذكره ابن الهمام نقلاً عن النووي، وسكت عليه- انتهى(3/74)
رواه الترمذي وابن ماجه.
810- (15) وعن رفاعة بن رافع، قال: ((جاء رجل فصلى في المسجد، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعد صلاتك، فإنك لم تصل. فقال: علمني يا رسول الله! كيف أصلي؟ قال: إذا توجهت إلى القبلة فكبر، ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ، فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك ومكّن ركوعك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كلام السندي. (رواه الترمذي وابن ماجه) ، وأخرجه أيضاً أحمد والدارقطني. وقال الترمذي: حديث هلب حديث حسن.
810- قوله: (وعن رفاعة) بكسر راء وخفة فاء وإهمال عين (بن رافع) بن مالك بن العجلان أبومعاذ الزرقي الأنصاري المدني، بدري جليل، له أحاديث، انفرد له البخاري بثلاثة أحاديث. قال ابن عبد البر: شهد رفاعة مع علي الجمل وصفين. مات في أول خلافة معاوية، وأبو أول من أسلم من الأنصار, وشهد هو وابنه رفاعة العقبة (جاء رجل) هو أخوه خلاد بن رافع كما تقدم الكلام عليه في أول الباب (فصلي) صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها (في المسجد، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -) فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: وعليك السلام، وفي رواية لأحمد: جاء رجل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد، فصلى قريباً منه، ثم انصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعد صلاتك (أعد) أمر من الإعادة (صلاتك، فإنك لم تصل) أي صلاة صحيحة، وفيه دلالة واضحة على فريضة التعديل؛ لأنه أمره بالإعادة، ومطلق الأمر للفريضة، ولأن الإعادة لا تجب إلا عند فساد الصلاة، وفسادها بفوات الركن، ولأنه نفى كون المؤدي صلاة. (فقال) أي الرجل في المرة الرابعة (كيف أصلي؟) وفي رواية أحمد؛ كيف أصنع؟ (إذا توجهت إلى القبلة) وفي رواية أحمد: إذا استقبلت القبلة (فكبر) للتحريمة (ثم اقرأ بأم القرآن) أي الفاتحة، وقراءة الفاتحة فرض عند الجمهور، وهو الحق خلافا للحنفية (وما شاء الله أن تقرأ) أي ما رزقك الله من القرآن بعد الفاتحة. وفيه أنه يجب قراءة ما زاد على الفاتحة كما هو مذهب الحنفية خلافا للشافعي، فإن ضم السورة وما قام مقامها سنة عنده. قال ابن حجر: ويجاب بحمل ذلك على التأكيد لا الوجوب للخبر الصحيح وهو قوله - عليه السلام -: أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها عوضا عنها- انتهى. قال الطيبي: وضع "ما شاء الله" موضع "ما شئت"؛ لأن مشيئته مسبوقة بمشيئة الله، كما قال تعالى: {وما تشاؤن إلا أن يشاء الله} [81: 29] انتهى. قلت: وفي رواية أحمد: ثم اقرأ بما شئت. (فاجعل راحتيك) تثنية راحة وهي الكف. (على ركبتيك) فيه رد على أهل التطبيق (ومكن) من التمكين (ركوعك) أي من أعضائك، يعني تمم بجميع أعضائك، قاله الطيبي. وقال ابن الملك: أي اركع ركوعاً تاما مع الطمأنينة. وفي(3/75)
وامدد ظهرك. فإذا رفعت فأقم صلبك، وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها. فإذا سجدت فمكن للسجود. فإذا رفعت فاجلس على فخذك اليسرى. ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة حتى تطمئن)) . هذا لفظ المصابيح. ورواه أبوداود مع تغيير يسير. وروى الترمذي والنسائي معناه. وفي
رواية للترمذي، قال: ((إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله به، ثم تشهد، فأقم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رواية لأحمد: مكن لركوعك. ونقل الحافظ هذه الرواية من أحمد بلفظ: تمكن لركوعك. يقال: مكنته من الشيء وأمكنته منه أي جعلت له عليه سلطاناً وقدره. وتمكن من الأمر، واستمكن منه أي قدر وقوي عليه، أو ظفر به (وامدد) بضم الدال من باب نصر، أي ابسط (فإذا رفعت) أي رأسك من الركوع (فأقم صلبك) أي سو ظهرك (حتى ترجع العظام) برفعها وتنصب بناء على أنه لازم ومتعد، أي تعود أو ترد أنت (فمكن) أي يديك (للسجود) أي اسجد سجوداً تاماً مع الطمأنينة، قاله ابن الملك. ووضع اليدين في السجود سنة عند الحنفية، وفرض عند الشافعي، وقال ابن حجر: معناه فمكن جبهتك من مسجدك فيجب تمكينها بأن يتحامل علها بحيث لو كان تحتها قطن انكبس (فإذا رفعت) أي رأسك من السجود (فاجلس على فخذك اليسرى) أي ناصباً قدمك اليمنى وهو الافتراش المسنون في غير الجلسة الأخيرة. (ثم اصنع ذلك) أي جميع ما ذكر (في كل ركعة وسجدة) أي ركوع وسجود (حتى تطمئن) قال ابن الملك: يريد به الجلوس في آخر الصلاة فإنه موضع الاستقرار، يعني حتى يفرغ. وقال ابن حجر: راجع إلى جميع ما مرّ، فيفيد وجوب الطمأنينة في الركوع، والاعتدال، والسجود، والجلوس بين السجدتين. قلت: اقتصر أحمد في روايته على قوله "ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة" بدون ذكر قوله "تطمئن" (هذا لفظ المصابيح) قلت: أخرجه أحمد (ج4: ص340) بهذا اللفظ إلا ما تقدم من الاختلاف في بعض الألفاظ كما نبهنا على ذلك. (وروى الترمذي والنسائي معناه) وقال الترمذي: حديث رفاعة حديث حسن. وقال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت. وقال الحاكم بعد روايته إياه من طريق همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، بعد أن أقام همام بن يحيى إسناده، فإنه حافظ ثقة، ووافقه الذهبي. والحديث أخرجه أيضاً الشافعي في الأم والدارمي وابن الجارود وابن حزم في المحلى والحاكم والبيهقي. (وفي رواية للترمذي) فيه نظر، فإن هذه الرواية ليست للترمذي خاصة بل أخرجها أبوداود أيضاً (إذا قمت إلى الصلاة) أي أردت القيام فوضع المسبب موضع السبب (كما أمرك الله به) أي في سورة المائدة (ثم تشهد) أي قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، بعد الوضوء (فأقم) أي الصلاة. وقيل: معنى تشهد أذن؛ لأنه مشتمل على كلمتي الشهادة، فأقم على هذا يراد به الإقامة للصلاة، كذا نقله ميرك عن الأزهار، قلت: الظاهر أن المراد بقوله "ثم تشهد فأقم" الأذان والإقامة، يدل(3/76)
فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله، وكبره، وهلله، ثم اركع)) .
811- (16) وعن الفضل بن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلاة مثنى مثنى، تشهد في كل ركعتين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عليه ما زاده الترمذي في روايته من لفظ "أيضا" بعد قوله "فأقم" (فإن كان معك قرآن فاقرأ) أي ما تيسر. وقد تقدم أن تمسك الحنفية على عدم ركنية الفاتحة ليس بصحيح؛ لأن الفاتحة وإن لم تكن ركناً لكنها واجبة عندهم أيضاً، والسياق سياق التعليم، فلو فرضنا أنه لم يعلمه يلزم درجة كراهة التحريم في سياق التعليم، ولا يجوز أصلاً مع أنها مذكورة في حديث رفاعة صراحة (كما تقدم آنفاً) وإن كانت مجملة في حديث أبي هريرة (وكذا في بعض طرق حديث رفاعة) . ثم أقول: إن قوله هذا كان لكون الرجل بدوياً أعرابياً لا يدري أنه كان عنده شيء من القرآن أم لا، وحينئذٍ ينبغي أن يكون التعبير هكذا، ولذا قال "وإلا فاحمد الله وكبره" فدل على أنه كان ممن لا يستبعد منه أن لا يكون عنده قرآن أصلاً. وإذن لا يلائمه أن يأمره بالفاتحة والسورة تفصيلاً، وإنما أليق بحاله الإجمال، فيقرأ بما يقدر، قاله الشيخ محمد أنور الكشميري. (وإلا) أي وإن لم يكن معك قرآن (فاحمد الله) أي قل: الحمد لله (وكبره) أي قل: الله أكبر (وهلله) أي قل: لا إله إلا الله. وفيه دليل على أن الذكر المذكور يجزئ من لم يكن معه شيء من القرآن، وليس فيه ما يقتضي التكرار فظاهره أنها تكفي مرة، وسيأتي الكلام فيه مفصلا ًفي باب القراءة في الصلاة.
811- قوله: (الصلاة مثنى مثنى) قيل: الصلاة مبتدأ ومثنى مثنى خبره، والأول تكرير والثاني توكيد، وقوله: (تشهد في كل ركعتين) خبر بعد خبر كالبيان لمثنى مثنى، أي ذات تشهد، وكذا المعطوفات، ولو جعلت أوامر اختل النظم، وذهبت الطراوة والطلاوة، قاله الطيبي. وقال التور بشتي: وجدنا الرواية فيهن بالتنوين لا غير، وكثير ممن لا علم له بالرواية يسردونها على الأمر ونراها تصحيفاً- انتهى. ونقل السيوطي في قوت المغتذي عن الحافظ العراقي في شرحه على الترمذي: المشهور في هذه الرواية أنها أفعال مضارعة حذف منها إحدى التائين، ويدل عليه قوله في رواية أبي داود "وأن تتشهد"، ووقع في بعض الروايات بالتنوين فيها على الاسمية، وهو تصحيف من بعض الرواة- انتهى. ونحو ذلك نقل السندي في حاشية ابن ماجه عن العراقي وزاد: قال أبوموسى المديني: ويجوز أن يكون أمراً أو خبراً- انتهى. قال العراقي: فعلى الاحتمال الأول يكون تشهد وما بعده مجزوماً على الأمر، وفيه بُعد لقوله بعد ذلك "وتقنع" فالظاهر أنه خبر- انتهى. وقد ظهر من هذا كله أنهم اختلفوا في ضبط هذه الكلمات. (أي غير قوله "تقنع" فإنه مضارع من الإقناع جزماً لا يحتمل وجها آخر) فضبطها بعضهم على المصدرية بالتنوين "تشهد" الخ. ورجحه التوربشتي والطيبي. وضبطها بعضهم أفعال أمر "تشهد" الخ. وضبطها بعضهم أفعالاً مضارعة "تشهد" الخ. وهذا رجحه العراقي وهو الراجح عندي لما في رواية لأحمد(3/77)
وتخشع وتضرع وتمسكن، ثم تقنع يديك- يقول: ترفعهما- إلى ربك
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ج4: ص167) من حديث المطلب: الصلاة مثنى مثنى، وتشهد، وتسلم في كل ركعتين، الخ. فقوله: "تسلم" فعل مضارع جزما لا يحتمل أن يكون أمراً أو مصدراً فكذا قوله "تشهد" والمعطوفات بعده. ورواية أحمد هذه تدل على أن المراد من قوله "مثنى مثنى" أنه يسلم من كل ركعتين، فيكون المقصود بيان الأفضل. والمعنى أفضل الصلاة النافلة أن تكون ركعتين ركعتين أي بالليل، لما وقع في حديث المطلب بن ربيعة عند أحمد "صلاة الليل مثنى مثنى" إلا أن في سنده يزيد بن عياض الليثي وهو منكر الحديث متروك كذبه مالك وغيره. وفي قوله: "تسلم في كل ركعتين" رد على ابن الهمام حيث قال: إن "مثنى" معدول من"اثنين اثنين" فصار بالتكرار أربعاً، فمعنى قوله"الصلاة مثنى مثنى" أي أربع أربع، وهو مذهب الحنفية في النافلة. وفيه أنه قد صرح الزمخشري في الفائق أن مثنى ههنا مجرد عن التكرار، ومعناه اثنين فقط، ولذا احتيج إلى تكريره على أن ما ذكره ابن الهمام وإن كان نافعاً لهم في مسألة التطوع لكن يضرهم في مسألة الوتر جداً لأن صلاة الليل إذا كانت أربعاً فبإيتارها بواحدة يحصل الوتر خمس ركعات، بخلاف ما إذا كانت مثنى، فإنها بعد الإيتار تحصل ثلاث ركعات وهي ركعات الوتر عند الحنفية. (وتخشع) التخشع هو السكون والتذلل، وقيل الخشوع قريب المعنى من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن والخشوع في البصر والبدن والصوت. وقيل: الخضوع في الظاهر، والخشوع في الباطن. وقال الحافظ: الخشوع تارة يكون من فعل القلب كالخشية، وتارة من فعل البدن كالسكون. وقيل: لابد من إعتبارهما حكاه الفخر الرازي في تفسيره. وقال غيره: هو معنى يقوم بالنفس، يظهر عنه سكون في الأطراف يلائم مقصود العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب حديث علي: "الخشوع في القلب" أخرجه الحاكم. وأما حديث: "لو خشع هذا خشعت جواره" ففيه إشارة إلى أن الظاهر عنوان الباطن- انتهى. قال القاري: والخشوع من كمال الصلاة. قلت: بل هو روحها وسرها ومقصودها. وفي قوله: "تخشع" إشارة إلى أنه إن لم يكن له خشوع فيتكلف، ويطلب من نفسه الخشوع، ويتشبه بالخاشعين. (وتضرع) قال الجزري: التضرع التذلل، والمبالغة في السؤال، والرغبة. يقال ضرع يضرع- بالكسر والفتح - والتضرع إذا خضع وذل. (وتمسكن) قال ابن الملك: التمسكن إظهار الرجل المسكنة من نفسه. وقال الجزري: أي تذل وتخضع، وهو تمفعل من السكون، والقياس أن يقال: تسكن، وهو الأكثر الأفصح، وقد جاء على الأول أحرف قليلة. قالوا: تمدرع وتمنطق وتمندل- انتهى. (ثم تقنع يديك) من إقناع اليدين رفعهما في الدعاء ومنه قوله تعالى: {مقنعي رؤوسهم} [14: 43] أي ترفع يديك للدعاء بعد الصلاة لا فيها. وقيل: بل يجوز أن يرفع اليدين فيها في قنوت الصبح والوتر، وهو عطف على محذوف، أي إذا فرغت منها فسلم ثم ارفع يديك سائلاً حاجتك، فوضع الخبر موضع الطلب (يقول) أي الراوي معناه (ترفعهما) أي لطلب الحاجة (إلى ربك) متعلق بقوله(3/78)
مستقبلاً ببطونهما وجهك، وتقول: يا رب! يا رب! ومن لم يفعل ذلك فهو كذا وكذا)) . وفي رواية: ((فهو خداج)) . رواه الترمذي.
{الفصل الثالث}
812- (17) عن سعيد بن الحارث بن المعلى، قال: ((صلى لنا أبوسعيد الخدري، فجهر بالتكبير
حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع من الركعتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تقنع. وقيل "يقول" فاعله النبي - صلى الله عليه وسلم - و"ترفعهما" يكون تفسيرا لقوله" ثم تقنع يديك" والظاهر أن الفاعل هو عبدربه ابن سعيد أحد رواة الحديث، ففي مسند أحمد (ج4: ص167) من طريق شعبة أنه قال في آخر الحديث: فقلت له ما الإقناع؟ فبسط يديه كأنه يدعو (يا رب! يا رب) الظاهر أن المراد بالتكرير التكثير (ومن لم يفعل ذلك) أي ما ذكر من الأشياء في الصلاة فهو أي فعل صلاته (كذا وكذا) قال الطيبي: كناية عن أن صلاته ناقصة غير تامة يبين ذلك الرواية الأخرى أعني قوله "فهو خداج" قلت: وفي رواية أحمد في المسند (ج1: ص211) من طريق ابن المبارك "فمن لم يفعل ذلك فقال فيه قولاً شديداً" (فهو خداج) بكسر الخاء المعجمة، أي ناقص. قيل: تقديره "فهو ذات خداج" أي صلاته ذات نقصان، فحذف المضاف. أو وصفها بالمصدر نفسه للمبالغة، والمعنى: أنها ناقصة، قال الزمخشري في أساس البلاغة: أخدج صلاته، نقص بعض أركانها، وصلاتي مخدجة وخادجة وخداج وصفا بالمصدر- انتهى. وقال أبوعبيد: أخدجت الناقة إذا أسقطت، والسقط ميت لا ينتفع به، ذكره البخاري في جزء القراءة. وقال الخطابي: تقول العرب: أخدجت الناقة إذا ألقت ولدها وهو دم لم يستبن خلقه فهي مخدج، والخداج اسم مبني منه- انتهى. وقال المنذري في الترغيب: والخداج معناه ههنا الناقص في الأجر والفضيلة – انتهى. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن خزيمة في صحيحه وتردد في ثبوته. وأخرجه أبوداود الطيالسي وأبوداود السجستاني وابن ماجه وأحمد أيضاً من حديث المطلب. والظاهر أنه المطلب بالربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ويقال له: عبد الطلب أيضاً، وهو صحابي معروف. ومدار الروايتين على عبد الله بن نافع بن العمياء، وهو مجهول على ما قال الحافظ في التقريب. وقال البخاري: لا يصح حديثه. وذكره ابن حبان في الثقات.
812- قوله: (عن سعيد بن الحارث بن المعلى) بضم الميم وفتح اللام المشددة اسم مفعول من التعلية، هو سعيد ابن الحارث بن أبي سعيد المعلى الأنصاري المدني القاص، من ثقات الطبقة الوسطى من التابعين (صلى لنا أبوسعيد الخدري) أي بالمدينة لما اشتكى أبوهريرة أو غاب، وكان يصلي بالناس في إمارة مروان على المدينة، وكان مروان وغيره من بني أمية يسرون بالتكبير (فجهر) أي أبوسعيد (بالتكبير) لكونه إماماً. زاد الإسماعيلي "حين افتتح، وحين ركع، وحين سجد" (حين رفع رأسه من السجود) ليعلم ويتابع عليه (وحين سجد) أي ثانياً (وحين رفع) أي رأسه (من الركعتين) أي(3/79)
وقال: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -)) . رواه البخاري.
813- (18) وعن عكرمة، قال: صليت خلف شيخ بمكة، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة. فقلت لابن
عباس: إنه أحمق. فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأولين. وفي البخاري "وحين رفع وحين قام من الركعتين" زاد الإسماعيلي: فلما انصرف قيل له: قد اختلف الناس على صلاتك، فقام عند المنبر فقال: إني والله ما أبالي اختلفت صلاتكم أو لم تختلف. (وقال: هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -) قال الحافظ: والذي يظهر أن الاختلاف بينهم كان في الجهر بالتكبير والإسرار به، وكان مروان وغيره من بني أمية يسرون به- انتهى. والحديث يدل على مشروعية الجهر بالتكبير وقد عرفت مما أسلفنا أن أول من ترك تكبير النقل أي الجهر به عثمان ثم معاوية ثم زياد ثم مروان وغيره من بني أمية. وفيه أن التكبير للقيام من الركعتين يكون مقارناً للفعل، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمالك حيث قال"يكبر بعد الإستواء" وكأنه شبه بأول الصلاة من حيث أنها فرضت ركعتين، ثم زيدت الرباعية فيكون افتتاح المزيد كافتتاح المزيد عليه، كذا قاله بعض أتباعه، لكن كان ينبغي أن يستحب رفع اليدين حينئذٍ لتكمل المناسبة ولا قائل به منهم. (رواه البخاري) تفرد به البخاري عن أصحاب الكتب الستة، وأخرجه أحمد بأطول من هذا. وقال الهيثمي (ج2: ص104) : رجاله رجال الصحيح_ انتهى. وأخرجه أيضاً البيهقي في سننه (ج2: ص18) والحاكم في المستدرك (ج2: 223) وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا السياق.
813- قوله: (صليت خلف شيخ) هو أبوهريرة كما جاء مسمى في رواية أحمد والطحاوي والطبراني (بمكة) أي عند المقام صلاة الظهر كما في مستخرج أبي نعيم والإسماعيلي (فكبر) أي جهر بالتكبير فيها (ثنتين وعشرين تكبيرة) أي في الرباعية مع تكبير الافتتاح والقيام عند التشهد؛ لأن في كل ركعة خمس تكبيرات فيحصل في كل رباعية عشرون تكبيرة سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام من التشهد الأول، وفي الثلاثية سبع عشرة، وفي الثنائية إحدى عشرة، وفي الخمس أربع وتسعون تكبيرة. (إنه) أي الشيخ (أحمق) أي جاهل أو قليل العقل. (ثكلتك) بالمثلثة المفتوحة وكسر الكاف أي فقدتك (أمك) وهي كلمة تقولها العرب عند الزجر, فكأنه دعا عليه أن يفقد أمه، أو أن تفقده أمه, لكنهم قد يطلقون ذلك ولا يريدون حقيقته. واستحق عكرمة ذلك عند ابن عباس لكونه نسب ذلك الرجل الجليل إلى الحمق الذي هو غابة الجهل، وهو برىء من ذلك. (سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -) بالرفع، خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الذي فعله الشيخ من التكبير المعدود طريقة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -. تنبيه: الحديث قد استدل به الحنفية على نفي جلسة الاستراحة. قال النيموي: يستفاد من الحديث ترك جلسة الاستراحة وإلا لكانت التكبيرات أربعاً وعشرين مرة، لأنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود. وفيه أن جلسة الاستراحة جلسة خفيفة جداً ولذلك لم يشرع فيها ذكر، فهي(3/80)
رواه البخاري.
814- (19) وعن علي بن الحسين مرسلاً، قال: ((كان الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فلم يزل تلك صلاته - صلى الله عليه وسلم - حتى لقي الله تعالى)) . رواه مالك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ليست بجلسة مستقلة، بل هي من جملة النهوض إلى القيام؛ فكيف يستفاد من هذا الحديث ترك جلسة الاستراحة، ولو سلم فدلالته على الترك ليس إلا بالإشارة، وحديث مالك بن الحويرث المتقدم يدل على ثبوتها بالعبارة، ومن المعلوم أن العبارة مقدمة على الإشارة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والطحاوي والطبراني.
814- قوله: (وعن علي بن الحسين) هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين الهاشمي أبوالحسن. ويقال: أبوالحسين المدني، من أكابر سادات أهل البيت وجلة التابعين وعلامهم. قال الحافظ: ثقة، ثبت، عابد، فقيه، فاضل، مشهور. قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه، وما رأيت أفقه منه. وقال سعيد بن المسيب: ما رأيت أورع منه، وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات، وكان يسمى زين العابدين لعبادته، وكان مع أبيه يوم قتل وهو مريض فسلم. فقال ابن عيينة: حج علي بن الحسين، فلما أحرم أصفر، وانتفض، وارتعد، ولم يستطع أن يلبى، فقيل: ما لك لا تلبى؟ فقال: أخشى أن أقول لبيك، فيقول لا لبيك. فقيل له: لابد من هذا. فلما لبى غشى عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه. ومناقبه كثيرة، مات سنة (94) وهو ابن (58) سنة، ودفن بالبقيع في القبر الذي فيه عمه الحسن. (مرسلاً) ؛ لأنه لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن حجر: "مرسلاً" حال متقدمة على صاحبها –انتهى. قال القاري: وهو موافق لما في النسخ المصححة المضبوطة على صيغة المفعول (كلما خفض) أي أراد الخفض إلى الركوع والسجود (ورفع) أي رأسه من السجود، فإنه إذا رفع رأسه من الركوع يسمع ويحمد، ثم يكبر للخفض، فذكر الرفع من الركوع التسميع والتحميد لا التكبير. قال الحافظ: هو عام في جميع الانتقالات في الصلاة، لكن خص منه الرفع من الركوع بالإجماع، فإنه شرع فيه التحميد – انتهى. ويؤيده الروايات المفصلة المفسرة مثل حديث أبي هريرة وحديث أبي حميد السابقين وغيرهما. (فلم يزل) بالتذكير، وقيل: بالتأنيث (تلك) أي تلك الصلاة المقترنة بذلك التكبير (صلاته) بالرفع، وقيل: بالنصب، قال الطيبي: يحتمل أن يكون اسم "لم يزل" مستكناً عائداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والجملة الاسمية خبرها، وأن يكون "تلك" اسمها و"صلاته" خبرها إذا رويت منصوبة، وبالعكس إذا رويت مرفوعة (حتى لقي الله) قد تقدم سبب إثبات تكبيرات النقل، وأنه استقر الأمر على مشروعيتها لكل مصل. (رواه مالك) في الموطأ عن ابن شهاب الزهري، عن علي بن الحسين مرسلاً. قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً بين رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث. ورواه عبد الوهاب، عن مالك، عن الزهري، عن علي، عن أبيه. ورواه عبد الرحمن بن خالد بن نجيح عن أبيه، عن مالك، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن علي بن(3/81)
815- (20) وعن علقمة، قال: قال لنا ابن مسعود: ((ألا أصلي بكم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فصلى، ولم يرفع يديه إلا مرة واحدة مع تكبير الافتتاح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أبي طالب. ولا يصح في الموطأ مرسلاً. وأخطأ فيه ابن مصعب، فرواه عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، ولا يصح. والصواب عندهم ما في الموطأ – انتهى. قلت: الحديث وإن كان مرسلاً لكنه قد تعاضد بما جاء في الباب من الأحاديث المسندة باللفظ العام كحديث عمران بن حصين وأبي هريرة عند البخاري ومسلم، وحديث أبي موسى عند أحمد، وحديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والدارمي والترمذي والطحاوي، وحديث ابن عباس عند البخاري، وحديث ابن عمر عند أحمد والنسائي، وحديث عبد الله بن زيد عند سعيد بن منصور، وحديث وائل بن حجر عند ابن حبان، وحديث جابر عند البزار.
815- قوله: (فصلى ولم يرفع يديه إلا مرة واحدة) هذا لفظ النسائي في رواية، وفي أخرى له: "فقام فرفع يديه أول مرة، ثم لم يعد" ولفظ الترمذي: "فصلى فلم يرفع يديه إلا في أول مرة" ولفظ أبي داود في رواية: "فصلى فلم يرفع يديه إلا مرة" وفي أخرى له: "فرفع يديه في أول مرة" قال أبوداود: وقال بعضهم: مرة واحدة. (مع تكبير الافتتاح) ليست هذه اللفظة في النسخ موجودة عندنا للترمذي وأبي داود والنسائي. والحديث قد استدل به من قال من الحنفية بعدم استحباب رفع اليدين في غير تكبيرة الإحرام. وأجيب عنه بوجوه، أحدها: أنه حديث ضعيف غير صالح للاحتجاج، قد ضعفه الأئمة الحفاظ النقاد وعللوه كما ستعرف. ثانيها: أن مدار هذا الحديث على عاصم بن كليب، وهو قد انفرد به، وقال ابن المديني: لا يحتج بما انفرد به. وقال ابن عبد البر في التمهيد: أما حديث ابن مسعود فانفرد به عاصم بن كليب واضطرب فيه، وليس ممن يحتج بما انفرد به. ثالثها: وهو على تقدير كونه صحيحاً أو حسناً أنه قد نسي ابن مسعود رفع اليدين في غير التحريمة كما قد نسي أمورا كثيرة، وقد تقدم بيانها. قال الخطابي في معالم السنن: قد يجوز أن يذهب ذلك على ابن مسعود كما ذهب عليه الأخذ بالركبة في الركوع وكان يطبق على الأمر الأول، وخالفه الصحابة كلهم في ذلك – انتهى. وقد أوضح ذلك شيخنا الأجل المباركفوري في أبكار المنن (ص205) فارجع إليه. رابعها: أنه نفي الأحاديث الدالة على الرفع إثبات، والإثبات مقدم. قال الخطابي: الأحاديث الصحيحة التي جاءت في رفع اليدين عند الركوع، وبعد رفع الرأس منه أولى من حديث ابن مسعود، والإثبات أولى من النفي. خامسها: أن أحاديث الرفع في المواضع الثلاثة متضمنة لزيادة غير منافية وهي مقبولة بالإجماع، لا سيما وقد نقلها جماعة من الصحابة، واتفق على إخراجها الجماعة. سادسها: أن أحاديث الرفع مقدمة على حديث ابن مسعود؛ لأنها قد رويت عن عدد كثير من الصحابة حتى قال السيوطي: إن حديث الرفع متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما عرفت فيما سلف. وقال العيني في شرح(3/82)
البخاري: إن جملة أسباب الترجيح كثرة عدد الرواة وشهرة المروي، حتى إذا كان أحد الخبرين يرويه واحد، والآخر يرويه اثنان، فالذي يرويه اثنان أولى بالعمل به – انتهى. وقال الحازمي في كتاب الاعتبار: ومما يرجح به أحد الحديثين على الآخر كثرة العدد في أحد الجانبين، وهي مؤثرة في باب الرواية؛ لأنها تقرب مما يوجب العلم، وهو التواتر- انتهى. سابعها: يحتمل أن الاقتصار على الرفع في الافتتاح كان في الابتداء ثم زيد الرفع في المواضع الثلاثة لكونه عبادة وفعلاً تعظيما, لكن خفي ذلك على ابن مسعود كما خفي عليه نسخ التطبيق والأمر بأخذ الركبة، والحاصل أنه يحتمل أن يكون ابن مسعود حكى الصلاة الأولى كما حكى التطبيق في الركوع وهو منسوخ. قال البيهقي في معرفة السنن: وقد يكون ذلك في ابتداء قبل أن يشرع رفع اليدين في الركوع ثم صار التطبيق منسوخاً، وصار الأمر في السنة إلى رفع اليدين عند الركوع ورفع الرأس منه جميعاً، وخفيا جميعا على عبد الله بن مسعود-انتهى. ثامنها: أن هذا الحديث ليس بنص في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع يديه إلا مرة واحدة مع تكبيرة الافتتاح، نعم هو يدل بظاهره على ذلك, بخلاف الأحاديث المثبتة للرفع في المواضع الثلاثة، فإنها نص في الرفع في غير الافتتاح. قال الشيخ الإمام ابن تيمية في فتاواه (ج2: ص376) : وابن مسعود لم يصرح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع إلا أول مرة، لكنهم رأوه يصلي ولا يرفع إلا أول مرة -انتهى. ومن المعلوم أن النص مقدم على الظاهر عند التعارض. تاسعها: أنه يحتمل أن يكون معنى قوله: لم يرفع يديه إلا مرة واحدة، أي لم يبالغ في الرفع إلا أول مرة، وأما بعد ذلك فكان يرفع دون ذلك، فالمراد من نفي الرفع في غير الافتتاح نفي المبالغة في الرفع في غير الافتتاح لا نفي نفس الرفع، فقد روي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مداً. رواه أحمد والترمذي وغيرهما. وقد فسر ابن عبد البر المد المذكور بمد اليدين فوق الأذنين مع الرأس، ومعنى قوله: "ثم لا يعود" أي إلى المبالغة في الرفع. عاشرها: أن معنى قوله: "لم يرفع يديه إلا مرة واحدة" أي لم يكرر الرفع عند الإحرام، بل اقتصر عند التحريمة على الرفع مرة. قال الشيخ الأكبر المعروف بابن عربي: وغاية المفهوم من حديث ابن مسعود والبراء أنه كان - عليه السلام - يرفع يديه عند الإحرام مرة واحدة لا يزيد عليها، أي أنه رفع مرة واحدة، ولم يصنع ذلك مرتين، ذكره في الفتوحات. ومعنى قوله: "ثم لم يعد" أو"لا يعود" أي إلى الرفع عند ابتداء الركعة الثانية. قال صاحب الفتوحات: معنى: "لا يعود" عدم الرفع في ابتداء الركعة الثانية كما كان في الأول. الحادي عشر: أن الرفع سنة وقد يتركها مرة أو مراراً، ولكن الفعل الأغلب والأكثر هو السنة، وهو الرفع عند الركوع وعند الرفع منه. قال السندي في حاشية النسائي: يكفي في إضافة الصلاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كونه صلى هذه الصلاة أحيانا. وإن كان المتبادر الاعتياد والدوام فيجب الحمل على كونها كانت أحياناً، توفيقاً بين الأدلة ودفعاً للتعارض. وعلى هذا فيجوز أنه - صلى الله عليه وسلم - ترك الرفع عند الركوع وعند الرفع منه إما لكون الترك سنة كالفعل، أو لبيان(3/83)
رواه الترمذي، وأبوداود، والنسائي. وقال أبوداود: ليس هو بصحيح على هذا المعنى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجواز، فالسنة هي الرفع لا الترك -انتهى. قلت: هذا كله على تقدير التنزل وتسليم كون حديث ابن مسعود صحيحاً أو حسناً، وإلا فهو حديث ضعيف لا يقوم بمثله حجة كما عرفت، وكما ستعرف. (رواه الترمذي) وقال: حديث ابن مسعود حديث حسن. وقال ابن حزم في المحلى (ج4: ص88) : إن هذا الخبر صحيح. (وأبو داود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد وابن حزم (وقال أبوداود: ليس هو بصحيح على هذا المعنى) قال أبوداود في سنته بعد رواية هذا الحديث: هذا حديث مختصر من حديث طويل ليس هو بصحيح على هذا اللفظ –انتهى. يعني أن الراوي اختصر هذا الحديث من حديث طويل. (رواه أبوداود قبل ذلك ويأتي لفظه) فأداه بالمعنى وأخطأ في اختصاره. قال ابن أبي حاتم في كتاب العلل (ص96) : سألت أبي عن حديث رواه الثوري عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فكبر فرفع يديه ثم لم يعد. قال أبي: هذا خطأ، يقال: وهم فيه الثوري. روى هذا الحديث عن عاصم جماعة فقالوا كلهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتتح الصلاة فرفع يديه، ثم ركع فطبق وجعلهما بين ركبتيه. ولم يقل أحد ما روى الثوري –انتهى. وقال البخاري في جزء رفع اليدين (ص9) بعد ذكر هذا الحديث: قال أحمد بن حنبل: عن يحيى بن آدم، قال نظرت في حديث عبد الله بن إدريس عن عاصم بن كليب ليس فيه: "ثم لم يعد" فهذا أصح؛ لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم؛ لأن الرجل يحدث بشيء ثم يرجع إلى الكتاب، فيكون كما في الكتاب: حدثنا الحسن بن الربيع: ثنا ابن إدريس عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود: ثنا علقمة أن عبد الله قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فقام فكبر ورفع يديه، ثم ركع وطبق يديه فجعلهما بين ركبتيه، فبلغ ذلك سعداً، فقال: صدق أخي، ألا بل قد نفعل ذلك في أول الإسلام ثم أمرنا بهذا. قال البخاري: هذا هو المحفوظ عند أهل النظر من حديث عبد الله بن مسعود –انتهى. وقال الحافظ في التلخيص (ص83) : وهذا الحديث حسنه الترمذي وصححه ابن حزم. وقال ابن المبارك: لم يثبت عندي. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: هذا خطأ. وقال أحمد بن حنبل وشيخه يحيى بن آدم: هو ضعيف، نقله البخاري عنهما وتابعهما على ذلك. وقال أبوداود: ليس هو بصحيح. وقال الدارقطني: لم يثبت. وقال ابن حبان في الصلاة: هذا أحسن خبر روي لأهل الكوفة في نفي رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه، وهو في الحقيقة أضعف شيء يعول عليه؛ لأن له عللا تبطله –انتهى. وقال البزار: لا يثبت ولا يحتج بمثله. وقال ابن عبد البر: هو من آثار معلولة ضعيفة عند أهل العلم، وهؤلاء الأئمة كلهم إنما طعنوا في طريق عاصم بن كليب، كما قاله الحافظ. وقال النووي في الخلاصة: اتفقوا على تضعيف هذا الحديث. وقال البيهقي في سننه (ج2: ص79) : لم يثبت عندي حديث ابن مسعود- انتهى. فثبت بهذا كله أن حديث ابن مسعود ليس بصحيح ولا بحسن، بل هو ضعيف لا يقوم بمثله حجة، وأين يقع تحسين الترمذي مع ما فيه من التساهل وتصحيح ابن حزم من طعن أولئك الأئمة(3/84)
816- (21) وعن أبي حميد الساعدي قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحفاظ النقاد القائمين بمعرفة فن المعلول؟ ولو تم ما قالا لا يخرج الحديث عن الاختلاف فيه جرحاً وتعديلاً، وقد اجتمع أهل الحديث والأصول على أن الجرح مقدم على التعديل. قال الشيخ محمد معين السندي في دراساته (ص176) : والترمذي وإن حسنه حكى قبل ذلك عن ابن المبارك عدم ثبوت هذا الحديث من غير قيد بطريق معين، وظاهره الإطلاق. قال: فلم يتأت أن يحكم على هذا الحديث بأزيد من أنه اختلف في كونه حسناً أوضعيفاً. وهذا يوجب انحطاطه مما سلم من هذا الاختلاف واتفقت الأمة على حسنه فضلاً عما حكم بصحته عموماً، فكيف عما اتفق عليه الشيخان خصوصاً، فما ظنك بما رواه الخمسون من الصحابة، وحكم عليه بالتواتر، ووردت في معناه أربعمائة حديث بين أثر ومرفوع؟ فقول ابن الهمام وجوابه- أي جواب حديث الرفعات المعارضة بما في أبي داود والترمذي- مما يقضي منه العجب، مع أن الصحيح من السنن لا يعارض المتفق عليه، والإمام ابن الهمام إذا تأيد مذهبه بحديث الصحيحين لا يبالي في كتابه هذا- أي فتح القدير- إلى تمسك الخصم بحديث غيرهما هذا إذا لم يكن حديث الغير معلولاً، وأما إذا اتسم بعلة من حكم إمام حافظ فليت شعري ما معنى معارضة بحديث الصحيحين بمجرد وصف إخراجها له من غير زيادة أخرى توجد في حديث الرفعات فكيف به معها-انتهى. وأما ما روي عن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتح الصلاة رفع يديه إلى قريب من أذنيه ثم لا يعود. أخرجه أبوداود والدارقطني وغيرهما، ففيه أنه من رواية يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، كبر فتغير، فصار يتلقن. واتفق الحفاظ على أن قوله: "ثم لا يعود" مدرج في الخبر من قول يزيد بن أبي زياد، قال الحميدي: إنما روى هذه الزيادة يزيد، ويزيد يزيد. وقال عثمان الدارمي عن أحمد بن حنبل: لا يصح. وكذا ضعفه البخاري وأحمد بن حنبل وأبوداود ويحيى والدارمي والحميدي وغير واحد. وقال السندي في حاشية النسائي: التحقيق عدم ثبوت الحديث من رواية البراء. وارجع لتفصيل الكلام فيه إلى جزء رفع اليدين للبخاري (ص9) ، والسنن الكبرى للبيهقي (ج2: ص76-79) ، ونصب الراية للزيلعي (ج1: ص404، 403) ، والتلخيص (ص82) هذا، ولبعض شيوخنا تأليف مفرد مستقل في مسألة رفع اليدين سماه "التحقيق الراسخ في أن أحاديث الرفع ليس لها ناسخ".
816- قوله: (استقبل القبلة) فيه مشروعية استقبال في الصلاة. واتفقوا على وجوبه إلا في حالة العجز
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- كتاب كبير باللغة الأردوية كمل في 200 صفحة، مرتب على مبادي ومقاصد وخاتمة. المبادي في تعريفات بعض مصطلحات أهل الحديث مما يحتاج إليه في تحقيق هذه المسألة، وفي ذكر مراتب كتب الحديث نقلاً عن حجة الله، وفي البحث عن شروط الشيخين. والمقاصد في ذكر اختلاف الروايات في مواضع الرفع، وذكر تعامل الصحابة والتابعين وغيرهم، وبسط الأحاديث المثبتة للرفع، والجواب عما يعترضها الحنفية، وذكر دلائلهم مع الرد عليها دليلاً دليلاً. والخاتمة في إبطال أصول اخترعها الحنفية لرد الأحاديث الصحيحة وتزييفها، وتنقييد ما يذكرونه من بعض المناظرات في هذه المسألة عقلاً ونقلاً.(3/85)
ورفع يديه، وقال: الله أكبر)) رواه ابن ماجه.
817- (22) وعن أبي هريرة، قال: ((صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر، وفي مؤخر الصفوف رجل، فأساء الصلاة، فلما سلم ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا فلان! ألا تتقى الله؟ ألا ترى كيف تصلي؟ إنكم ترون
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والخوف، قال القاري: وفيه إشارة إلى اعتبار الجهة حيث لم يقل "استقبل الكعبة". (ورفع يديه) أي حذو منكبيه (وقال) لا دلالة فيه على تقديم الرفع على التكبير، ولا على تأخيره. وروى الترمذي وابن ماجه هذا الحديث مطولاً في باب "رفع اليدين إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع" بلفظ "ثم قال" وهو يدل على تقديم الرفع. وقد تقدم الكلام فيه (الله أكبر) فيه بيان المراد بالتكبير وهو قول "الله أكبر" وهو حجة الجمهور على تعين لفظ "الله أكبر" دون غيره من ألفاظ التكبير والتعظيم. قال السندي: الحديث ظاهر في أنه ما كان ينوي باللسان، ولذلك عند كثير من العلماء النية باللسان بدعة، لكن غالبهم على أنها مستحبة ليتوافق اللسان والقلب-انتهى. قلت: استحب مشائخ الحنفية النطق بالنية والتلفظ بها للاستعانة على استحضار النية لمن احتاج إليه. وقالت الشافعية باستحباب التلفظ بها مطلقاً. واتفق الفريقان على أن الجهر بالنية غير مشروع سواء يكون إماماً أو مأموما أو منفردا. وقالت المالكية بكراهة التلفظ بالنية. والحنابلة نصوا على أنه بدعة. وهذا هو الحق والصواب عندنا. فلا شك في كونه بدعة؛ إذ لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق صحيح، ولا ضعيف، ولا مسند، ولا مرسل أنه كان يتلفظ بالنية كأن يقول: أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة. وغير ذلك مما يتلفظ به الحنفية والشافعية عند افتتاح الصلاة. ولا عن أحد من الصحابة والتابعين، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قام إلى الصلاة فكبر فلو نطق بشيء آخر لنقلوه، وورد في حديث المسيء في صلاته أنه قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" فدل على عدم وجود التلفظ، وقد أطنب الإمام الحافظ ابن القيم في زاد المعاد في رد الاستحباب، وأكثر من الاستدلال على ذلك، فعليك أن تراجعه. (رواه ابن ماجه) وإسناده صحيح. وقال الحافظ في الفتح (ج3: ص402) بعد ذكره بلفظ: "إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً ورفع يديه، ثم قال: الله أكبر". أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة، وابن حبان-انتهى. قلت: وأخرجه الترمذي أيضاً باللفظ الذي ذكره الحافظ كما يظهر من تصريح الزيلعي في نصف الراية (ج1: ص311) .
817- قوله: (فأساء الصلاة) قال ابن حجر: أي أتى فيها بما يبطلها، كما يدل عليه قوله: "ألا تتقى الله"، والفاء هنا الظاهرة أنها زائدة لتزين اللفظ-انتهى. قال القاري: والأظهر أنه للتعقيب، والتقدير: وفي مؤخر الصفوف رجل صلى معنا فأساء الصلاة. (ألا تتقى الله) أي مخالفته أو معاقبته. (ألا ترى) أي تنظر وتتأمل (إنكم ترون) بضم التاء أي(3/86)
أنه يخفى على شيء مما تصنعون، والله إني لأرى من خلفي كما أرى من بين يدي)) رواه أحمد.
(11) باب ما يقرأ بعد التكبير
{الفصل الأول}
818- (1) عن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة.
فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تظنون (مما تصنعون) أي في صلاتكم (إني لأرى) أي أيصر، أي في حال الصلاة (من خلفي) بحرف الجر. قال القاري: وفي نسخة بمن الموصولة. (كما أرى من بين يدي) بكسر "من" وجر "بين" وفي نسخة بفتح "من" ونصب "بين يدي" على الظرفية، قال القاري. قيل: هذه رؤية قلب، وقيل: وحي أو إلهام. والصواب أنه رؤية مشاهدة بالبصر. قال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات: الصواب أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي بحاسة العين: خاص به - صلى الله عليه وسلم - على خرق العادة، فكان يرى من غير مقابلة -انتهى. وفي معنى هذا خبر الصحيحين عن أبي هريرة أيضاً: هل ترون قبلتي ههنا، فوالله ما يخفى على ركوعكم ولا سجودكم، إني لأراكم من وراء ظهري. وفيه أيضاً رواية لمسلم عن أنس: أيها الناس! إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، فإني أراكم من أمامي ومن خلفي. قال النووي: قال العلماء: معناه أن الله تعالى خلق له - صلى الله عليه وسلم - إدراكاً في قفاه يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من هذا، وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به. قال القاضي: قال أحمد بن حنبل وجمهور العلماء: هذه الرؤية رؤية عين حقيقة-انتهى. (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في المستدرك (ج1: ص236) وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(باب ما يقرأ بعد التكبير) الأولى باب ما يقول أو يقال بعد التكبير ليشمل دعاء الافتتاح، ولعله أراد به التغليب، والمراد التكبير الذي للاحرام، قاله القاري.
818- قوله: (يسكت) قال التوربشتي: ضبطناه بفتح أوله وضم ثالثه، من السكوت. وحكى الكرماني عن بعض الروايات بضم أوله من الإسكات. قال الجوهري: تكلم الرجل ثم سكت - بغير ألف- إذا انقطع كلامه فلم يتكلم، قلت أسكت (إسكاته) بكسر الهمزة بوزن إفعالة من السكوت، وهو من المصادر الشاذة إذ القياس سكوتاً، وهو منصوب مفعولاً مطلقاً، والمراد به ههنا السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول، أو عن قراءة القرآن لا عن الذكر، وإلا فالسكوت الحقيقي ينافي القول، فلا يصح السؤال بقوله: "ما تقول" أي في سكوتك. (بأبي أنت وأمي) الباء متعلقة بمحذوف.(3/87)
إسكاتك بين التكبير وبين القراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياى كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطاياى كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أغسل خطاياى بالماء والثلج والبرد)) متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قيل: هو اسم فيكون ما بعده مرفوعاً تقديره "أنت مفدى" بأبي وأمي"، وقيل: هو فعل أي فديتك بهما، وما بعده منصوب وحذف هذا المقدر تخفيفاً لكثرة الاستعمال وعلم المخاطب. (إسكاتك) بكسر أوله (ما تقول؟) أي في سكوتك عن الجهر. قال المظهر: قوله: "إسكاتك" بالنصب مفعول فعل مقدر أي أسألك إسكاتك ما تقول فيه؟ أو في إسكاتك ما تقول؟ بنزع الخافض، وقال الحافظ: والذي في روايتنا بالرفع للأكثر، وأعربه مبتدأ لكنه لم يذكر خبره، وروي بفتح الهمزة وضم السين على الاستفهام، وقوله "ما تقول" يشعر أنه فهم هناك قولاً فإن السؤال وقع بقوله "ما تقول" ولم يقع بقوله "هل تقول" والسؤال "بهل" مقدم على السؤال "بما". ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم كما ورد في استدلالهم على القراءة في السر باضطراب لحيته، قاله ابن دقيق العيد (اللهم باعد بيني وبين خطاياى) أي بين أفعال لو فعلتها تصير خطايا، فالمطلوب الحفظ وتوفيق الترك، أو بين ما فعلتها من الخطايا والمطلوب المغفرة. قال ابن دقيق العيد: المراد بالمباعدة محو ما حصل منها وترك المؤاخذة بها، أو المنع من وقوعها والعصمة منها. وفيه مجازان: أحدهما استعمال المباعدة في ترك المؤاخذة أو في العصمة منها، وحقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان. الثاني استعمال المباعدة في الإزالة بالكلية مع أن أصلها لا يقتضي الزوال، وليس المراد ههنا البقاء مع البعد ولا ما يطابقه من المجاز. (كما باعدت) أي كتبعيدك (بين المشرق والمغرب) أخرجه مخرج المبالغة؛ لأن المفاعلة إذا لم تكن للمغالبة فهي للمبالغة، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل، فكأنه أراد أن لا يقع منها اقتراب بالكلية، والمعنى أمح ما حصل من خطاياى، وحل بيني وبين ما يخاف من وقوعه حتى لا يبقى لها منى اقتراب بالكلية. (نقني) بتشديد القاف من التنقية (كما ينقى) بصيغة المجهول (الثوب الأبيض من الدنس) بفتح الدال والنون فسين مهملة، أي الدرن والوسخ، وهذا مجاز عن إزالة الذنوب ومحو أثرها بالكلية، أي طهرني منها بأتم وجه وأوكدها. وشبه بالثوب الأبيض لأن الدنس فيه أظهر من غيره من الألوان. (اللهم اغسل خطاياى بالماء والثلج) بسكون اللام (والبرد) بفتحتين جمع بردة، ماء الغمام يتجمد في الهواء البارد ويسقط على الأرض حبوباً. قال الخطابي: هذه أمثال ولم يرد أعيان هذه المسميات، وإنما أراد بها التأكيد في التطهير والمبالغة في محوها عنه. وقيل: خص الثلج والبرد بالذكر؛ لأنهما ماءان مفطوران على خلقتهما لم يستعملا ولم تنلهما الأيدي، ولم تخضهما الأرجل كسائر المياه التي خالطت التراب، وجرت في الأنهار، وجمعت في الحياض، فهما أحق بكمال الطهارة. وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو أعنى بالمجموع، فإن الثوب الذي تكرر عليه(3/88)
819- (2) وعن علي رضي الله عنه قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة-
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التنقية بثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء. قال: ويحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو. ولعل ذلك كقوله تعالى: {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} [2: 286] فكل واحدة من هذه الصفات أعني العفو والمغفرة والرحمة لها أثر في محو الذنب، فعلى هذا الوجه ينظر إلى الأفراد ويجعل كل فرد من أفراد الحقيقة دالاً على معنى فرد مجازي، وفي الوجه الأول لا ينظر إلى أفراد الألفاظ بل يجعل جملة اللفظ دالة على غاية المحو للذنب-انتهى. وقال الطيبي: يمكن أن يكون المطلوب من ذكر الثلج والبرد بعد الماء شمول أنواع الرحمة والمغفرة بعد العفو؛ لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة، ومنه قولهم: برد الله مضجعه، أي رحمه ووقاه عذاب النار-انتهى. ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أبي أوفى عند مسلم، وكأنه جعل الخطايا بمنزلة نار جهنم لكونها مسببة عنها، فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقياً عن الماء إلى أبرد منه. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي-انتهى. وكان تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل. ثم إن أمثال هذا السؤال منه - صلى الله عليه وسلم - من باب إظهار العبودية وتعظيم الربوبية، وإلا فهو مع عصمته مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لو كان هناك ذنب. وقيل: إن الاستغفار له زيادة خير، والمغفرة حاصلة بدون ذلك لو كان هناك ذنب. وفيه إرشاد للأمة إلى الاستغفار، وقد ورد الأمر بذلك الدعاء في حديث سمرة عند البزار. والحديث يدل على مشروعية دعاء الافتتاح بعد التحريم قبل القراءة بالفرض والنفل خلاف للمشهور عن مالك، وورد فيه أيضاً حديث: "وجهت وجهي" إلى أخره، وهو عند مسلم من حديث علي، قيل: يخير العبد بين هذا الدعاء والدعاء الذي في حديث علي، وسيأتي الكلام فيه في الفصل الثاني. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
819- قوله: (إذا قام إلى الصلاة) أي مكتوبة كانت أو نافلة، فإنه ليس فيه ما يدل على كون هذا الذكر مخصوصاً بالنوافل دون الفرض. وقد روى أيضاً هذا الحديث الترمذي وأبوداود والنسائي وابن حبان والدارقطني والشافعي، وليس في رواية لهؤلاء المخرجين أنه كان في صلاة الليل، بل وقع في رواية للترمذي وأبي داود: "إذا قام إلى الصلاة المكتوبة" ووقع في رواية للدارقطني: "إذا ابتدأ الصلاة المكتوبة". وقال الشوكاني: وأخرجه أيضاً ابن حبان وزاد: "إذا قام إلى الصلاة المكتوبة" وكذلك رواه الشافعي وقيده أيضاً بالمكتوبة وكذا غيرهما، فالقول بأن هذا الذكر مخصوص بصلاة التطوع ولا يكون مشروعاً في الفريضة كما هو مذهب الحنفية باطل جداً. وإيراد مسلم هذا الحديث في صحيحه في صلاة الليل لا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقوله في التهجد دون الفرض ما لم يدل الحديث على ذلك كما لا يخفى(3/89)
وفي رواية: كان إذا افتتح الصلاة- كبر، ثم قال: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأما ما وقع في حديث محمد بن مسلمة عند النسائي: "كان إذا قام يصلي تطوعا قال: الله أكبر، "وجهت وجهي" الخ. فليس فيه دليل على كونه مخصوصا بالتطوع لوجود التقييد بالمكتوبة في أكثر روايات علي رضي الله عنه، ولا منافاة بينهما؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول هذا الذكر في الفريضة وصلاة الليل كلتيهما، فقال علي في روايته: "إذا قام إلى الصلاة المكتوبة" وقال محمد بن سلمة: "إذا قام يصلي تطوعا" وأجاب بعض الحنفية عن الروايات التي فيها التقييد بالمكتوبة بأنه كان في أول الأمر كما في شرح المنية لابن أمير الحاج، وفيه أن هذا ادعاء محض لا دليل عليه، فهو مردود على قائله. (وفي رواية: كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال: وجهت) هذا صريح في أن هذا الذكر بعد تكبير التحريمة لا كما ذهب إليه المتأخرون من الحنفية وغيرهم من أنه قبل التكبير ليكون أبلغ في إحضار القلب وجمع العزيمة، وقولهم هذا مما لا أصل له في السنة، بل هو منابذ للسنة الصحيحة الثابتة. لأن الثابت في الأحاديث التوجيه في الصلاة أي بعد التحريمة لا قبلها. (وجهي) بسكون الياء وفتحها أي توجهت بالعبادة بمعنى أخلصت عبادتي لله، وقيل: صرفت وجهي وعملي ونيتي، أو أخلصت وجهتي وقصدي. (للذي فطر السموات والأرض) أي ابتدأ خلقهما من غير مثال سبق (حنيفاً) حال من ضمير "وجهت" أي مائلاً إلى الدين الحق ثابتا عليه، قال الجزري: الحنيف المائل إلى الإسلام، الثابت عليه، والحنيف عند العرب من كان على دين إبراهيم - عليه السلام -، وأصل الحنف الميل. (وما أنا من المشركين) بيان للحنيف وإيضاح لمعناه. والمشرك يطلق على كل كافر من عابد وثن وصنم، ويهودي ونصراني ومجوسي ومرتد وزنديق وغيرهم. (إن صلاتي ونسكي) النسك - بضم النون والمهملة - الطاعة والعبادة وكل ما تقرب به إلى الله تعالى، وعطفه على الصلاة من عطف العام على الخاص (ومحياي ومماتي) أي حياتي ومماتي، ويجوز فتح الياء فيهما وإسكانهما، والأكثرون على فتح ياء محياي، وإسكان مماتي (لله) أي هو خالقهما ومقدرهما، أو هو المالك لهما والمختص بهما لا تصرف لغيره فيهما. وقيل: طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير، أو ما أنا عليه من العبادة في حياتي وما أموت عليه خالصة لوجه الله. (رب العالمين) بدل أو عطف بيان؛ أي مالكهم ومربيهم وهم ما سوى الله على الأصح. (لا شريك له) هو تأكيد لقوله: "رب العالمين" المفهوم منه الاختصاص. (وبذلك) أي بالتوحيد الكامل الشامل للإخلاص قولاً واعتقاداً. (وأنا من المسلمين) قال السندي: كأنه كان يقول أحياناً كذلك لإرشاد الأمة إلى ذلك ولإقتدائهم به فيه، وإلا فاللائق به - صلى الله عليه وسلم - "وأنا أول المسلمين" كما جاء في كثير من الروايات – انتهى. قلت: وقع في رواية أبي داود وكذا في رواية لمسلم. "وأنا أول المسلمين" أي من هذه الأمة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أول مسلمي هذه الأمة. قال في الانتصار: إن غير النبي إنما يقول: "وأنا من المسلمين" وهو وهم(3/90)
اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفرلي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت. لبيك وسعديك والخير كله في يديك، والشر ليس إليك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
منشأه توهم أن معنى "وأنا أول المسلمين" إني أول شخص اتصف بذلك بعد أن كان الناس بمعزل عنه، وليس كذلك، بل معناه بيان المسارعة في الامتثال لما أمر به، ونظيره {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} [43: 81] وظاهر الإطلاق أنه لا فرق في قوله: "وأنا من المسلمين"، وقوله: "أنا من المشركين" بين الرجل والمرأة، وهو صحيح على إرادة الشخص. وفي المستدرك للحاكم من رواية عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: قومي فاشهدي أضحيتك وقولي إن صلاتي ونسكي، إلى قوله "وأنا من المسلمين" فدل على ما ذكرناه (اللهم) أي يا الله! والميم بدل عن حرف النداء ولذا لا يجمع بينهما إلا في الشعر (أنت الملك) أي القادر على كل شيء، المالك الحقيقي لجميع المخلوقات (وأنا عبدك) أي معترف بأنك مالكي ومدبري وحكمك نافذ في (ظلمت نفسي) أي اعترفت بالتقصير. قدمه على سؤال المغفرة أدباً كما قال آدم وحواء عليهما السلام: {ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفرلنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [7: 23] . (فاغفر لي ذنوبي) أي تقصيراتي (إنه) بالكسر استئناف فيه معنى التعليل والضمير للشأن (لا يغفر الذنوب) أي جميعها (واهدني لأحسن الأخلاق) أي أرشدني لأكملها وأفضلها، ووفقني للتخلق بها، وثبتني عليها (واصرف عني سيئها) أي قبيحها (لبيك) أي أقيم على طاعتك وامتثال أمرك إقامة متكررة. يقال: لب بالمكان لباً وألب إلباباً أي أقام به. وثنى هذا المصدر مضافا إلى الكاف، وأصل "لبيك" لبين حذفت النون للإضافة وأريد بالتثنية التكرير من غير نهاية (وسعديك) أي أسعد أمرك واتبعه إسعاداً متكرراً (والخير كله في يديك) معناه الإقرار بأن كل خير واصل إلى العباد ومرجو وصوله فهو في يديه تعالى (والشر ليس إليك) أي لا يضاف إليك على انفراده، فلا يقال: يا رب الشر، ويا خالق القردة والخنازير، ونحو هذا، وإن كان خالق كل شيء ورب كل شيء، ففيه الإرشاد إلى الأدب في الثناء على الله ومدحه بأن يضاف إليه محاسن الأمور دون مساوئها على جهة الأدب، وليس المقصود نفي شيء عن قدرته، أو إثبات شيء لغيره. وقيل: معنا الشر ليس مما يتقرب به إليك، بل هو سبب إبعاد، والتقدير: والشر ليس مقربا إليك. ولا بد من حذف لأجل خبر ليس فيقدر هنا خاصاً. وقيل: معناه: الشر لا يصعد إليك، فإنه إنما يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح. وقيل: معناه الشر ليس شراً بالنسبة إليك، فإنك خلقته لحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين. وقيل: هذا كقول القائل: "فلان إلى بني تميم" إذا كان عداده فيهم أو صفوه معهم، حكى هذه الأقوال النووي. وقال:(3/91)
أنا بك، وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك. وإذا ركع قال: اللهم لك ركعت، وبك أمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي. فإذا رفع رأسه قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات والأرض وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد. وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين. ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: اللهم اغفرلي ما قدمت وما أخرت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنه مما يجب تأويله؛ لأن مذهب أهل الحق أن كل المحدثات فعل الله تعالى وخلقه سواء خيرها وشرها. (أنا بك وإليك) أى توفيقي بك والتجائي وانتمائي إليك، أو وجودي بإيجادك، ورجوعي إليك، أو بك أعتمد، وإليك ألتجئ، أو نحو هذا الكلام (تباركت) أي أستحققت الثناء. وقيل: ثبت الخير عندك. وقال ابن الأنباري: تبارك العباد بتوحيدك. وقيل: تكاثر خيرك. وأصل الكلمة للدوام والثبوت (وتعاليت) أي ارتفع عظمتك وظهر قهرك وقدرتك على من في الكونين. وقيل: أي عن مشابهة كل شيء (لك ركعت، وبك آمنت) في تقديم الجار إشارة إلى التخصيص (ولك أسلمت) أي لك ذللت وانقدت، أو لك أخلصت وجهي (خشع) أي خضع وتواضع، وأقبل عليك أو سكن من قولهم: خشعت الأرض إذا سكنت واطمأنت (لك سمعي وبصري) خصهما من بين الحواس؛ لأن أكثر الآفات بهما، فإذا خشعتا قلت الوساوس (ومخي) بضم الميم وتشديد المعجمة. قال ابن رسلان: المراد به هنا الدماغ، وأصله الودك الذي في العظم وخالص كل شيء (وعصبي) العصب بفتحتين طنب المفاصل، وهو ألطف من العظم (فإذا رفع رأسه) أي من الركوع قال أي بعد قوله: "سمع الله لمن حمده" كما في رواية للترمذي (ملء السموات) بكسر الميم ونصب الهمزة بعد اللام ورفعها، والنصب أشهر صفة مصدر محذوف، وقيل: حال، أي حال كونه مالئاً لتلك الأجرام على تقدير تجسمه، والرفع على أنه صفة الحمد (وملء ما شئت من شيء بعد) بالبناء على الضم، أي بعد السموات والأرض وما بينهما كالكرسي والعرش وغيرهما مما لم يعلمه إلا الله. والمراد الاعتناء في تكثير الحمد (سجد وجهي) أي خضع وذل وانقاد (وصوره) زاد مسلم في رواية وأبوداود: "فأحسن صوره" وهو الموافق لقوله تعالى: {فأحسن صوركم} [40: 64] . (أحسن الخالقين) أي المصورين والمقدرين، فإنه الخالق الحقيقي المنفرد بالإيجاد والإمداد وغيره إنما يوجد صوراً مموهة ليس فيها شيء من حقيقة الخلق مع أنه تعالى خالق كل صانع وصنعته. {والله خلقكم وما تعملون} {والله خالق كل شيء} . (ثم يكون) أي بعد فراغه من ركوعه وسجوده (ما قدمت) من سيئة (وما أخرت) من عمل(3/92)
وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت)) رواه مسلم. وفي رواية للشافعي: ((والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، أنا بك وإليك، لا منجا منك ولا ملجأ إلا إليك، تباركت)) .
820- (3) وعن أنس ((أن رجلاً جاء فدخل الصف، وقد حفزه النفس، فقال: الله أكبر، الحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي جميع ما فرط مني، قاله الطيبي: وقيل: ما قدمت قبل النبوة وما أخرت بعدها. وقيل: ما أخرته في علمك مما قضيته علي. وقيل: معناه إن وقع مني في المستقبل ذنب فاجعله مقروناً بمغفرتك. فالمراد من طلب المغفرة قبل الوقوع أن يغفر إذا وقع. (وما أسررت، وما أعلنت) أي جميع الذنوب؛ لأنها إما سر أو علن (وما أسرفت) أي جاوزت الحد (وما أنت أعلم به مني) أي من ذنوبي التي لا أعلمها عدداً وحكماً (أنت المقدم وأنت المؤخر) قال البيهقي: قدم من شاء التوفيق إلى مقامات السابقين، وأخر من شاء عن مراتبهم. وقيل: قدم من أحب من أوليائه على غيرهم من عبيده وأخر من أبعده عن غيره، فلا مقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم. وقيل: أنت الرافع والخافض، والمعز المذل على ما تقتضيه حكمتك. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي مطولاً وابن ماجه مختصراً وابن حبان والدارقطني والشافعي. (والمهدي من هديت) أي لا مهدي إلا من هديته، وترك مقابله وهو لا ضال إلا من أضللته لما تقدم من مراعاة الأدب، أو هو من باب الاكتفاء بمقابله كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} [16: 81] (لا منجا) بالقصر لا غير. وهو مصدر ميمي أو اسم مكان، أي لا موضع ينجو به اللائذ (منك) أي من عذابك (ولا ملجأ) الأصل فيه الهمز، ومنهم من يلين همزته ليزدوج مع منجا، أي لا ملاذ عند نزول النوائب وحصول المصائب (إلا إليك) فإنك المفرج عن المهمومين، والمعيذ للمستعيذين. أو المراد "لا مهرب ولا مخلص ولا ملاذ لمن طالبته إلا إليك" والحديث يدل على مشروعية الاستفتاح بما في هذا الحديث. قال النووي: إلا أن يكون إماماً لقوم لا يرون التطويل. وفيه استحباب الذكر في الركوع، والسجود، والاعتدال، والدعاء قبل السلام.
820- قوله: (وقد حفزه) بفتح الحاء المهملة والفاء والزاي المعجمة (النفس) بفتحتين، أي جهده النفس من شدة السعي إلى الصلاة. وأصل الحفز الدفع العنيف، قاله الخطابي. وقال النووي: أي ضغطه لسرعته (حمداً كثيراً) قال الطيبي: منصوب بمضمر يدل عليه الحمد، ويحتمل أن يكون بدلاً منه جارياً على محله. وقوله: (طيباً) وصف له، أي خالصاً عن الرياء والسمعة. وقوله: (مباركاً فيه) يقتضي بركة وخيراً كثيراً يترادف إرفاده، ويتضاعف إمداده. قال(3/93)
أيّكم المتكلم بالكلمات؟ فأرم القوم. فقال: أيكم المتكلم بالكلمات؟. فأرم القوم. فقال: أيكم المتكلم بها؟ فإنه لم يقل بأساً. فقال رجل: جئت وقد حفزني النفس فقلتها. فقال: لقد رأيت اثنى عشر ملك يبتدرونها، أيهم يرفعها)) رواه مسلم.
{الفصل الثاني}
821- (4) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن الملك: أى حمداً جعلت البركة فيه، يعني حمداً كثيراً غاية الكثرة (أيكم المتكلم بالكلمات) أي المذكورات المسموعة آنفاً. (فأرم القوم) بفتح الراء المهملة وتشديد الميم، أي سكتوا. ويحتمل إعجام الزاي وتخفيف الميم من الأزم وهو الامساك، أي أمسكوا عن الكلام، والأول أشهر رواية، أي سكت القائل خوفاً من الناس، قاله السندي (فقال: أيكم المتكلم بالكلمات؟ فأرم القوم) كذا وقع مكررا في بعض نسخ المشكاة، ووقع في بعضها مرة واحدة موافقاً لما في صحيح مسلم (فإنه لم يقل بأساً) قال الطيبي: يجوز أن يكون مفعولاً به، أي لم يتفوّه بما يؤخذ عليه، وأن يكون مفعولاً مطلقاً، أي ما قال قولاً يشدد عليه. (فقال رجل) الظاهر "فقال الرجل" كما في رواية أبي داود. (يبتدرونها) أي كل منهم يريد أن يسبق على غيره في رفعها إلى محل العرض أو القبول. وقال ابن الملك: يعني يسبق بعضهم بعضاً في كتب هذه الكلمات ورفعها إلى حضرة الله لعظمها وعظم قدرها. وتخصيص المقدار يؤمن به ويفوض إلى علمه تعالى. (أيهم يرفعها) هذه الجملة حال، أي قاصدين ظهور أيهم يرفعها. قال القاري: مبتدأ وخبر، والجملة في موضع نصب أي يبتدرونها ويستعجلون أيهم يرفعها. قال أبوالبقاء: في قوله تعالى: {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} [3: 44] "أيهم" مبتدأ وخبر في موضع نصب أي يقترعون أيهم، فالعامل فيه ما دل عليه "يلقون" كذا ذكره الطيبي. وقيل: المراد أيهم يرفعها أول. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي ولم يخرج البخاري في هذا عن أنس شيئاً، إنما أخرج عن رفاعة في فضل هذه الكلمات وسيأتي في باب الركوع، وقال أبوداود بعد رواية هذا الحديث: زاد حميد فيه أي عن أنس: "وإذا جاء أحكم فليمش نحو ما كان يمشى، فليصل ما أدرك وليقض ما سبقه".
821- قوله: (إذا افتتح الصلاة) أي بالتكبير. (سبحانك اللهم) قال ابن الملك: "سبحان" اسم أقيم مقام المصدر وهو التسبيح، منصوب بفعل مضمر تقديره: "أسبحك تسبيحاً" أي أنزهك تنزيهاً من كل السوء والنقائص، يعني اعتقدت براءتك من السوء ونزاهتك عما لا ينبغي لجلال ذاتك وكمال صفاتك. (وبحمدك) قيل: الواو للحال والباء إلصاقية والتقدير(3/94)
وتبارك إسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أسبحك تسبيحاً وأنا متلبس بحمدك. وقيل: الواو زائدة، والجار والمجرور حال، أي أسبحك تسبيحاً حال كوني متلبساً ومقترناً بحمدك، فالباء للملابسة والواو زائدة، وعلى التقديرين هو حال من فاعل: "أسبح" المفهوم من: "سبحانك اللهم"، وقيل: الواو بمعنى مع، أي أسبحك مع التلبس بحمدك. وقيل: الواو عاطفة عطف جملة فعلية على مثلها والباء سببية، أي أنزهك تنزيهاً واعتقدت نزاهتك بسبب الثناء الجميل عليك. ويصح أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي أسبحك تسبيحاً مقروناً بشرك إذ كل حمد من المكلف يستجلب نعمة متجددة ويستصحب توفيقاً إلهياً. قال الخطابي في معالم السنن. (ج1: ص197) أخبرني ابن الخلاد قال: سألت الزجاج عن الواو في: "وبحمدك" فقال: معناه سبحانك اللهم وبحمدك سبحتك. قال الطيبي: قول الزجاج يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون الواو للحال، وثانيهما أن يكون عطف جملة فعلية على مثلها، إذ التقدير: أنزهك تنزيهاً وأسبحك تسبيحاً مقيداً بشكرك، وعلى التقديرين: "اللهم" معترضة، والجار والمجرور أعني: "بحمدك" إما متصل بفعل مقدر والباء سببية، أو حال من فاعل؛ والباء إلصاقية، أو صفة لمصدر محذوف كقوله: {ونحن نسبح بحمدك} [2: 30] أي نسبح بالثناء عليك، أو نسبح متلبسين بشكرك، أو نسبح تسبيحاً مقيداً بشكرك. (وتبارك اسمك) أي كثرت بركة اسمك إذ وجد كل خير من ذكر اسمك. وقيل: تعاظم ذاتك، أو هو على حقيقته لأن التعاظم إذا ثبت لأسمائه تعالى فأولى لذاته، ونظيره. {سبح اسم ربك الأعلى} . (وتعالى جدك) الجد العظمة و"تعالى" تفاعل من العلو أي على جلالك وعظمتك على عظمة غيرك غاية العلو. وقيل: تعالى غنائك أن ينقصه إنفاق أو يحتاج إلى معين ونصير. والحديث يدل على مشروعية الاستفتاح بهذه الكلمات، وقد اختلف العلماء فيما يستفتح به الصلاة من الذكر بعد التكبير، فذهب الشافعي إلى ما رواه علي وهو حديث: "وجهت وجهي" إلى آخره. وذهب أحمد وأبوحنيفة إلى حديث عائشة، وكان مالك لا يقول شيئاً من ذلك، إنما يكبر ويقرأ: "الحمد لله رب العالمين" وأحاديث الباب ترد عليه فيما ذهب إليه من عدم استحباب الافتتاح بشئ. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنواع من الذكر في استفتاح الصلاة، ذكر المصنف خمسة منها، وترك بعضاً آخر وهو من الاختلاف المباح فبأيها استفتح الصلاة كان جائزاً، لكن الأولى بالاختيار عندنا حديث أبي هريرة الذي جاء فيه دعاء الافتتاح بلفظ: "اللهم باعد بيني" الخ.؛ لأنه أصح ما ورد في ذلك. قال ابن الهمام في فتح القدير بعد ذكر هذا الحديث: وهو أصح من الكل؛ لأنه متفق عليه- انتهى. ثم بعد ذلك أولى بالاختيار حديث علي؛ لأنه رواه مسلم، ثم بعد ذلك ما روي عن أبي سعيد، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك. ثم يقول: الله أكبر كبيراً، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزة، ونفخه، ونفثه. أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي. وهو حديث صحيح أو حسن، وسيأتي في باب ما يقول إذا قام من الليل. تنبيه قال المجد بن تيمية في المنتقى بعد ذكر حديث عائشة، والإشارة إلى حديث أبي سعيد(3/95)
رواه الترمذي وأبوداود.
822- (5) ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد. وقال الترمذي. (هذا حديث لا نعرفه إلا من حارثة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا: وأخرج مسلم في صحيحه أن عمر كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي بكر الصديق أنه كان يستفتح بذلك، وكذلك رواه الدارقطني عن عثمان بن عفان، وابن منذر عن عبد الله بن مسعود، وقال الأسود: كان عمر إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، يسمعنا ذلك ويعلمنا. رواه الدارقطني. ثم قال ابن تيمية: واختيار هؤلاء وجهر عمر به أحياناً بمحضر من الصحابة ليتعلمه الناس مع أن السنة إخفاءه يدل على أنه الأفضل وأنه الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم عليه غالباً، وإن استفتح بما رواه علي أو أبوهريرة فحسن لصحة الرواية- انتهى. قال الشوكاني بعد ذكر كلام ابن تيمية هذا: ولا يخفى أن ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بالإيثار والاختيار، وأصح ما ورد في الاستفتاح حديث أبي هريرة ثم حديث علي. (إلى أن قال) : وقال ابن خزيمة: لا نعلم في الافتتاح: "بسبحانك اللهم" خبراً ثابتاً، وأحسن أسانيده حديث أبي سعيد، ثم قال: لا نعلم أحداً ولا سمعنا به استعمل هذا الحديث على وجهه- انتهى. (رواه الترمذي وأبوداود) وأخرجه أيضاً ابن ماجه والدارقطني والحاكم.
822- قوله: (ورواه ابن ماجه عن أبي سعيد) أي مختصراً مثل حديث عائشة، وأخرجه النسائي أيضاً مختصراً، وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود مطولاً كما ذكرنا لفظه. (وقال الترمذي: هذا) أي حديث عائشة (حديث لا نعرفه إلا من حارثة) أي ابن أبي الرجال. وقوله: "إلا من حارثة" كذا وقع في جميع نسخ المشكاة، والذي في جامع الترمذي: (إلا من حديث حارثة) والظاهر أنه سقط لفظ: "حديث" من نسخ المشكاة. حديث عائشة هذا قد روى من غير طريق حارثة وإن لم يعرفه الترمذي. قال أبوداود في سننه: حدثنا حسين بن عيسى: حدثنا طلق بن غنام: حدثنا عبد السلام ابن حرب الملائي، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال أبوداود: هذا الحديث ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب لم يروه عنه إلا طلق بن غنام، وقد روى قصة الصلاة عن بديل جماعة لم يذكر فيه شيئاً من هذا يعني دعاء الاستفتاح. وأجيب عنه بأن طلق بن غنام ثقة صدوق أخرج عنه البخاري في الصحيح، وعبد السلام بن حرب أخرج له الشيخان، وقد زاد في قصة الصلاة ما رواه أبوداود، والزيادة من الثقة المقبولة، وقد روى هذه الزيادة أيضاً حارثة بن أبي الرجال عن جدته عمرة، عن عائشة، ثم قد تأيدت روايتهما أعني حارثة وطلقاً بحديث أبي سعيد، وقد صح الحاكم حديث عائشة من طريق ابن غنام وأورد له شاهدا ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في(3/96)
وقد تكلم فيه من قبل حفظه.
823- (6) وعن جبير بن مطعم ((أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة قال: الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التلخيص. (ص86) : رجال إسناده ثقات، لكن فيه انقطاع – انتهى. لأن أبا الجوزاء لم يسمع من عائشة، قاله ابن عبد البر، وقال البخاري: في إسناد أبي الجوزاء نظر، يريد أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود وعائشة، لأنه ضعيف عنده، وأحاديثه مستقيمة. قلت: قال الحافظ في تهذيب التهذيب. (ج1: ص384) : قال جعفر الفريابي في كتاب الصلاة: حدثنا مزاحم بن سعيد: ثنا ابن المبارك: ثنا إبراهيم بن طهمان: ثنا بديل العقبلي، عن أبي الجوزاء، قال: أرسلت رسولاً إلى عائشة يسألها. فذكر الحديث، فهذا ظاهره أنه لم يشافهها، لكن لا مانع من جواز كونه توجه إليها بعد ذلك فشافهها على مذهب مسلم في إمكان اللقاء- انتهى. وظهر من هذا كله أن حديث عائشة من طريق طلق بن غنام أعلوه بثلاثة وجوه: أولها أنه ليس بالمشهور عن عبد السلام بن حرب. ثانيها أن جماعة رووا قصة الصلاة عن بديل بن ميسرة ولم يذكروا ذلك فيه. ثالثها أن فيه انقطاعاً، وهذه العلل الثلاث كلها مدفوعة كما بينا. فالظاهر أن حديث عائشة من طريق طلق بن غنام ليس بضعيف. (وقد تكلم فيه من قبل حفظه) قال الحافظ في تهذيب التهذيب. (ج2: ص166) : وقال ابن حبان: كان ممن كثر وهمه وفحش خطأه، تركه أحمد ويحيى. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أبوحاتم والبخاري: منكر الحديث. وقال أبوزرعة: واهي الحديث ضعيف. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه منكر. وقال ابن خزيمة: حارثة ليس يحتج أهل الحديث بحديثه. وقال ابن عدي: بلغني أن أحمد نظر في جامع إسحاق فإذا أول حديث فيه حديث حارثة في استفتاح الصلاة فقال: منكر جداً- انتهى.
823- قوله: (وعن جبير) بمضمومة فمفتوحة وسكون ياء. (بن مطعم) بضم الميم، ابن عدي بن نوفل بن عبدمناف القرشي النوفلي المدني أبومحمد، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في فداء أسارى بدر، ثم أسلم بعد ذلك عام خيبر، وقيل: يوم الفتح. ذكر ابن إسحاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه مائة من الإبل، كان حليماً، وقوراً، عارفاً بالنسب. وكان أخذ النسب عن أبي بكر. وسلحه عمر سيف النعمان بن المنذر. له ستون حديثاً، اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر. توفي بالمدينة سنة. (58) أو. (59) . (رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة) قال عمرو بن مرة الراوي للحديث: لا أدري أي صلاة هي؟ ولفظ ابن حبان: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل في الصلاة. (قال) أي عقب تكبيرة الإحرام، قاله ابن حجر. والظاهر أنه هو عين التحريمة مع الزيادة، والله أعلم. (الله أكبر) بالسكون ويضم. (كبيراً) أي كبرت كبيراً، ويجوز أن يكون حالاً مؤكدة، أو صفة لمصدر محذوف بتقدير: "تكبيراً كبيراً" وأفعل لمجرد المبالغة، أو معناه: أعظم من أن يعرف عظمته. قال ابن الهمام: إن أفعل وفعيلاً في صفاته تعالى سواء؛ لأنه لا يراد: "بأكبر"(3/97)
والحمد لله كثيراً، والحمد لله كثيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، ثلاثاً، أعوذ بالله من الشيطان، من نفخه ونفثه وهمزه)) . رواه أبوداود، وابن ماجه، إلا أنه لم يذكر: والحمد لله كثيراً. وذكر في آخره: من الشيطان الرجيم. وقال عمر:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إثبات الزيادة في صفته بالنسبة إلى غيره بعد المشاركة؛ لأنه لا يساويه أحد في أصل الكبرياء. (كثيراً) صفة لمحذوف مقدر، أي حمدا كثيراً. (بكرة وأصيلاً) أي في أول النهار وآخره، منصوبان على الظرفية، والعامل: "سبحان" وخص هذين الوقتين لاجتماع ملائكة الليل والنهار فيهما، كذا ذكره الأبهري وصاحب المفاتيح. ويمكن أن يكون وجه التخصيص تنزيه الله تعالى عن التغير في أوقات تغير الكون. وقال الطيبي: الأظهر أن يراد بها الدوام كما في قوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً} [19: 62] . (ثلاثاً) كالذي قبله. (من نفخه) بدل اشتمال أي من تكبره يعني مما يأمر الناس به من التكبر. (ونفثه) أي مما يأمر الناس به من إنشاء الشعر المذموم مما فيه هجو مسلم أو كفر أو فسق. والنفث في اللغة قذف الريق، وهو أقل من التفل. والنفخ في اللغة إخراج الريح من الفم ونفخها في الشيء. (وهمزه) أي من جعله أحداً مجنوناً بنخسه وغمزه. كل من الثلاثة بفتح فسكون. قال التوربشتي: النفخ كناية عما يسوله الشيطان للإنسان من الاستكبار والخيلاء، فيتعاظم في نفسه كالذي نفخ فيه، ولهذا قال- عليه السلام - للذي رآه قد استطار غضبا: نفخ فيه الشيطان. قال: ولعل المراد من النفث السحر، فإنه أشبه لما شهد له التنزيل قال تعالى: {ومن شر النفاثات في العقد} [113: 4] وأما الهمز، فالأشبه أن يراد به ما يوسوس به، قال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} [23: 97] وهمزاته: خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان. وقيل في معنى الآية: إن الشياطين يحثون أولياءهم على المعاصي ويغرونهم عليها، كما يهمز الركضة الدواب بالمهماز حثاً على المشي- انتهى مختصراً. (رواه أبوداود) وأخرجه أيضاً أحمد وابن حبان والحاكم، وابن حزم في المحلى. والحديث سكت عنه أبوداود، والمنذري. (وابن ماجه إلا أنه) أي ابن ماجه. (لم يذكر والحمد لله كثيراً) ولا يضر؛ لأنه زيادة ثقة لا تعارض المزيد عليه فتقبل، قاله القاري، لكن في النسخ الموجودة في سنن ابن ماجه الحاضرة عندنا هذه الزيادة موجودة. (وذكر في آخره من الشيطان الرجيم) أي المرجوم. وهي زيادة يعمل بها كذلك بأن يجمع بين الروايات بلحوق الزيادات، أو باعتبار التارات. قال الحافظ في التلخيص. (ص86) بعد ذكر الحديث بلفظ ابن حبان مع هذه الزيادة: ولفظ الحاكم نحوه، وحكى ابن خزيمة الاختلاف فيه، وقد أوضحت طرقه في المدرج- انتهى. (وقال عمر) صوابه: "عمرو" بالواو كما صرح به صريحاً في رواية ابن ماجه، وهو عمرو بن مرة أحد رواة إسناد هذا الحديث. وروى ابن ماجه أيضاً نحو حديث أبي سعيد مختصراً من حديث ابن مسعود، وفي آخر هذا التفسير أيضاً مصدراً بلفظ: "قال" ولم يبين القائل، والظاهر أنه أحد رواة الإسناد.(3/98)
نفخه الكبر، ونفثه الشعر، وهمزه المؤتة.
824- (7) وعن سمرة بن جندب: ((أنه حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين: سكتة إذا كبر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعمرو بن مرة هو عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي- بفتح الجيم والميم- المرادي، أبوعبد الله الكوفي الأعمى، ثقة عابد، كان لا يدلس، ورمي بالإرجاء، من رواة الكتب الستة. مات سنة (110) وقيل قبلها. (نفخه) بالرفع على الإعراب، وبالجر على الحكاية. (الكبر) بكسر فسكون، أي التكبر، وهو أن يصير الإنسان معظماً كبيراً عند نفسه، ولا حقيقة له إلا مثل الشيطان نفخ فيه فانتفخ فرأى انتفاخه مما يستحق به التعظيم مع أنه على العكس. قال الزمخشري في الفائق: إنما سمي الكبر نفخاً لما يوسوس إليه الشيطان في نفسه فيعظمها ويحقر الناس في عينه. (ونفثه الشعر) فإنه ينفثه من فيه كالرقية. والمراد الشعر المذموم وإلا فقد جاء: "إن من الشعر لحكمة". وقيل: إنما كان الشعر من نفثة الشيطان؛ لأنه يدعو الشعراء المداحين الهجائين المعظمين المحقرين إلى ذلك. (وهمزه المؤتة) بضم الميم وهمزة ساكنة، وقيل: بلا همز، بعدها مثناة فوقية، نوع من الجنون والصرع يعتري الإنسان، فإذا أفاق عاد عليه كمال عقله. وقال أبوعبيدة: المؤتة الجنون، سماه همزاً؛ لأنه جعله من النخس والغمز، وكل شيء دفعته فقد همزته. قال ابن سيد الناس: وتفسير الثلاثة بذلك من باب المجاز- انتهى. والحديث يدل على مشروعية الافتتاح بما ذكر فيه. وفيه أيضاً مشروعية التعوذ من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه، وقد ورد في التعوذ أحاديث أخرى: منها حديث أبي سعيد، وقد ذكرنا لفظه، ومنها حديث أبي أمامة أخرجه أحمد بنحو حديث أبي سعيد. ومنها حديث ابن مسعود أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة والحاكم والبيهقي. ومنها حديث أنس أخرجه الدارقطني. ومنها ما روي عن عمر موقوفاً عند الدارقطني أيضاً، هذا مع ما يؤيد ثبوت هذه السنة من عموم قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [16: 98] . ثم إن حديث أبي سعيد مصرح بأن التعوذ المذكور يكون بعد الافتتاح بالدعاء المذكور في الحديث. قال الشوكاني: الأحاديث الواردة في التعوذ ليس فيها إلا أنه فعل ذلك في الركعة الأولى. وقد ذهب الحسن وعطاء وإبراهيم إلى استحبابه في كل ركعة، محتجين بعموم قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} ولا شك أن الآية تدل على مشروعية الاستعاذة قبل قراءة القرآن، وهي أعم من أن يكون القاري خارج الصلاة أو داخلها. وأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة تدل على المنع منه حال الصلاة من غير فرق بين الاستعاذة وغيرها مما لم يرد به دليل يخصه، ولا وقع الإذن بخسه، فالأحوط الاقتصار على ما وردت به السنة، وهو الاستعاذة قبل قراءة الركعة الأولى فقط. وسيأتي حديث أبي هريرة الدال على ذلك.
824- قوله: (سكتة إذا كبر) أي للإحرام، وكانت هذه السكتة لدعاء الاستفتاح كما وقع بيانها في حديث أبي هريرة السابق أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسكت بيت التكبير والقراءة، يقول: اللهم باعد بيني، الخ. فالمراد من السكتة ههنا(3/99)
وسكتة إذا فرغ من قراءة. {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فصدقه أبي بن كعب. رواه أبوداود، وروى الترمذي، وابن ماجه، والدارمي نحوه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السكوت عن الجهر وترك رفع الصوت؛ لأنها لم تكن مجردة خالية عن الذكر. (وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين) هذه السكتة الثانية كانت ليتراد إليه نفسه وليعلم المأمومون أن لفظة آمين ليست من القرآن، أي للتمييز بين الفاتحة وآمين لئلا يشتبه غير القرآن بالقرآن، وهي أخف من السكتة الأولى. واستدل بعض الحنفية بهذا الحديث على الإسرار بالتأمين والإخفاء به. قال: الأظهر أن السكتة الثانية كانت للتأمين سرا. والجواب عنه بأن السكتة الثانية لم تكن للتأمين سراً؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالتأمين ويرفع صوته بآمين، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الإسرار بالتأمين، فكيف يقال إنها كانت للتأمين سراً، بل السكتة الثانية كانت ليتراد إليه نفسه وليستريح، وليعلم المأموم أن لفظة آمين ليست من القرآن. قال زين العرب: الغرض من هذه السكتة أن يقرأ المأموم الفاتحة ويرجع الإمام إلى التنفس والاستراحة- انتهى. وقال ابن حزم في المحلي. (ج4: ص97) : يقرأ المأموم في السكتة الأولى أم القرآن فمن فاتته قرأ في السكتة الثانية. وفي رواية لأبي داود: أنه كان يسكت سكتتين: إذا استفتح الصلاة، وإذا فرغ من القراءة كلها. وفي أخرى: إذا فرغ من فاتحة الكتاب وسورة عند الركوع، أي قبل الركوع عند الفراغ من القراءة كلها. ولا مخالفة بينهما، بل يحصل من مجموعهما ثلاث سكتات: بعد الإحرام، وبعد الفاتحة، وبعد السورة عند الركوع، أي ليتراد إليه نفسه. قيل: والثالثة أخف من السكتتين اللتين قبلهما، وذلك بمقدار ما تنفصل القراءة عن التكبير، فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصل فيه. وقال القاري: وكأن المراد بالسكتات الزيادة على حد التنفس في أواخر الآيات، إذ ثبت عنه- عليه السلام -كان يقرأ الحمد لله رب العالمين فيقف، وهكذا على رؤس الآي. وأما إطلاق القراء السكتة على الوقف بلا تنفس فمبني على اصطلاحهم- انتهى. وهذه السكتات الثلاث قد ذهب إلى مشروعيتها الشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي، وعند أبي حنيفة ومالك لا سكتة إلا الأولى. (فصدقه) من التصديق. (أبي بن كعب) الأنصاري الخزرجي سيد القراء، كتب الوحي، وشهد بدراً وما بعدها، وكان ممن جمع القرآن، أي وافق أبي سمرة، وقال صدق سمرة، - بالتخفيف- وحاصل القصة أنه وقع الاختلاف بين سمرة وعمران بن حصين في سكتتي الصلاة، قال سمرة: حفظت سكتتين، وأنكر ذلك عمران، وقال حفظت سكتة، وكانا إذ ذاك بالبصرة، فكتبا في ذلك إلى أبيّ بن كعب بالمدينة، فكتب أبيّ أن حفظ سمرة. (رواه أبوداود) أي بهذا اللفظ. (وروى الترمذي وابن ماجه والدارمي نحوه) أي معناه، وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي والحاكم كلهم من طريق الحسن البصري عن سمرة. وقد اختلف في سماع الحسن من سمرة، وقد تقدم في باب الغسل المسنون أن رواية الحسن عن سمرة محمولة على الاتصال عند(3/100)
825- (8) وعن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة
بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت)) هكذا في صحيح مسلم، وذكره الحميدى في أفراده.
وكذا صاحب الجامع عن مسلم وحده.
{الفصل الثالث}
826- (9) عن جابر، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصلاة كبر، ثم قال: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن المديني كما نقله عنه البخاري، وما ذكر في هذا الحديث من الاختلاف بين سمرة وعمران في السكتتين هو حكاية من الحسن عن سمرة سماعاً منه، لا أنه كان حاضراً حينما جرى بين سمرة وعمران هذا الاختلاف. والحديث قد حسنه الترمذي. قال الشوكاني: وقد صحح الترمذي حديث الحسن عن سمرة في مواضع من سننه، منها حديث: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسئة) ، وحديث: (جار الدار أحق بدار الجار) ، وحديث: (لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار) ، وحديث: (الصلاة الوسطى صلاة العصر) ، فكان هذا الحديث على مقتضى تصرفه جديراً بالتصحيح، وقد قال الدارقطني: رواة الحديث كلهم ثقات- انتهى. وقيل: إنما حسنه الترمذي للخلاف في سماع الحسن من سمرة، والله أعلم.
820- قوله: (إذا نهض) أي قام. (من الركعة الثانية) أي من أجلها. (استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين) المراد السورة المختصة، فلا يدل على أن البسملة ليست منها، قاله الطيبي. (ولم يسكت) أي للثناء ودعاء الاستفتاح والتعوذ. قال الشوكاني: الحديث يدل على عدم مشروعية السكتة قبل القراءة في الركعة الثانية، وكذلك عدم مشروعية التعوذ فيها، وحكم ما بعدها من الركعات حكمها، فتكون السكتة قبل القراءة مختصة بالركعة الأولى، وكذلك التعوذ قبلها، وقد رجح صاحب الهدي الاقتصار على التعوذ في الأولى لهذا الحديث واستدل لذلك بأدلة فليراجع. (هكذا في صحيح مسلم، وذكره الحميدي في إفراده) أي في مفردات مسلم ومختصاته. (وكذا صاحب الجامع) أي للأصول وهو ابن الأثير. (عن مسلم وحده) فإيراد صاحب المصابيح هذا الحديث في الفصل الثاني دون الفصل الأول غير مناسب لقاعدته. قال ميرك: والعجب أن الحاكم أخرجه في مستدركه (ج1: ص215، 216) وقال: على شرطهما، وأقره الذهبي فلم يستدركه. قال القاري: لعل الحاكم رواه بسند غير سند مسلم، وكان رجاله على شرطهما- انتهى. وأخرج النسائي عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له سكتة إذا افتتح الصلاة، وفيه إشارة إلى أن السكتة إنما هي في الركعة الأولى عند افتتاحها.
826- قوله: (إذا استفتح الصلاة كبر) أي للتحريمة. (ومحياي ومماتي) أي أحوالي فيهما. (وبذلك) أي(3/101)
وأنا أول المسلمين. اللهم اهدني لأحسن الأعمال، وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيء الأعمال، وسيء الأخلاق، لا يقي سيئها إلا أنت)) رواه النسائي.
827- (10) وعن محمد بن مسلمة: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام يصلي تطوعاً، قال: الله أكبر،
وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين)) . وذكر الحديث
مثل حديث جابر، إلا أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الإخلاص. (وأنا أول المسلمين) كذا في جميع النسخ الموجودة عندنا. وفي النسائي: "وأنا من المسلمين"، وأما ما هنا "أول المسلمين" فهي رواية الدارقطني، وهي الصواب. قال الطيبي: هذا أي: "أنا أول المسلمين" لفظ التنزيل حكاية عن قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وإنما قال: "لأن إسلام كل نبي مقدم على إسلام أمته- انتهى. والظاهر من القرآن أن نبينا - عليه الصلاة والسلام - مأمور بهذا القول، فإنه تعالى قال له: {قل إن صلاتي ونسكي} [6: 162] الآية، لكن كان يقول هذا تارة، و"أنا من المسلمين" أخرى تواضعاً حيث عد نفسه واحداً منهم، كما قال: احشرني في زمرة المساكين، قال القاري. (لا يهدي لأحسنها) أي المذكورات من النوعين. (وقني) بكسر القاف، أمر من وقى يقي. (سيء الأعمال) الخ. في العدول عن الأسوء المقابل للأحسن إلى السيء نكتة لا تخفى. (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً الدارقطني. (ص112) وسنده صحيح.
827- قوله: (وعن محمد بن مسلمة) بفتح الميم واللام، ابن سلمة الأنصاري الحارثي الدوسي، أبوعبد الله المدني صحابي مشهور. قال ابن عبد البر: كان من أفضل الصحابة، وهو أحد الثلاثة الذين قتلوا كعب بن الأشرف، شهد المشاهد كلها إلا تبوك، واستخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته على المدينة، ولم يشهد الجمل ولا صفين. وكان من الذين أسلموا على يد مصعب بن عمير، وهو أكبر من اسمه محمد من الصحابة، له ستة عشر حديثاً، انفرد له البخاري بحديث. مات بالمدينة سنة (43) وقيل غير ذلك، وهو ابن (77) سنة. وقال ابن شاهين عن أبي داود: قتله أهل الشام لكونه اعتزل عن معاوية في حروبه. (إذا قام يصلي تطوعاً) قال القاري: ظاهره يؤيد مذهبنا المختار أنه يقرأ: "بوجهت وجهي" في النوافل والسنن. وقال صاحب اللمعات: هو دليل على المخصوصية بالتطوع كما هو مذهبنا- انتهى. قلت: قد تقدم الجواب عن هذا الاستدلال فتذكر. قال شيخنا في أبكار المنن (ص116) : ليس فيه دليل على المخصوصية بالتطوع، كيف وقد ثبت في أكثر روايات على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة قال وجهت وجهي، الخ. وقد تقدم ذكر هذه الروايات، على أنه لو كان في هذا دليل على المخصوصية بالتطوع لكان الدعاء الذي اختاره الحنفية للفرض أيضاً مخصوصاً بالتطوع، فإن الترمذي وأبا داود قد رويا عن أبي سعيد الخدري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك- الحديث. (وذكر) أي محمد بن مسلمة. (الحديث مثل حديث جابر، إلا أنه) أي محمداً.(3/102)
قال: وأنا من المسلمين. ثم قال: ((اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك. ثم يقرأ)) رواه النسائي.
(12) باب القراءة في الصلاة
{الفصل الأول}
828- (1) عن عبادة بن الصامت، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(قال: وأنا من المسلمين) بدل: "وأنا أول المسلمين" وفيه نظر؛ لأن النسخ الموجودة عندنا من سنن النسائي من طبعة الهند ومصر كلها مطبقة على عكس ما ذكره المصنف، فقوله: "وأنا من المسلمين" إنما هو في حديث جابر، لا في حديث محمد بن مسلمة، ولفظ ابن مسلمة: "وأنا أول المسلمين"، وهذا عكس ما قال المصنف، ولا أدري هل وقع الخطأ في نسخ سنن النسائي الموجودة الحاضرة عندنا أو زاغ بصر المصنف فأخطأ وسها في بيان الفرق بين الروايتين، الله أعلم. (ثم قال) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (سبحانك وبحمدك) قال في اللمعات: اعلم أن: "سبحانك" مصدر مضاف مفعول مطلق للنوع أي أسبحك تسبيحاً لائقاً بجنابك الأقدس، والباء في: "بحمدك" للملابسة، والواو للعطف، والتقدير"وأسبحك تسبيحاً متلبساً بحمدك" فيكون المجموع في معنى: "سبحان الله والحمد لله" وهو أظهر الوجوه- انتهى. (رواه النسائي) .
(باب القراءة في الصلاة) اعلم أن القراءة في الصلاة فرض عند جمهور علماء الأمة، فعند الشافعي ومالك وأحمد في المشهور، والصحيح من مذهبه في كلها، وعند الحنفية في الركعتين فقط. والحق ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة كما سيأتي. ثم الفرض عند الحنفية مطلق القراءة، والفاتحة ليست بفرض بل هي واجبة، يأثم من يتركها، وتجزئ الصلاة بدونها، وقالت الأئمة الثلاثة بتعيين الفاتحة، فهي فرض عندهم، لا تصح الصلاة بدونها، وهو الحق. قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص528) : يجب قراءة الفاتحة في كل ركعة في الصحيح من المذهب، وهذا مذهب مالك والأوزاعي والشافعي، وقال ابن حزم في المحلي (ج3: ص236) : وقراءة أم القرآن فرض في كل ركعة من كل صلاة إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً، والفرض والتطوع سواء، والرجال والنساء سواء- انتهى.
828- قوله. (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) أي فيها كما في مسند الحميدى ورواية البيهقي والإسماعيلي وأبي نعيم، وهذا يعين أن المراد قراءة الفاتحة في نفس الصلاة، وسميت فاتحة الكتاب؛ لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وفاتحة كل شيء مبدأه الذي يفتح به ما بعده، افتتح فلان كذا ابتدأ به. قال ابن جرير في تفسيره (ج1: ص35) : وسميت فاتحة الكتاب؛ لأنها يفتتح بكتابتها المصاحف ويقرأ بها في الصلاة فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة، وسميت أم القرآن لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، وتأخر ما سواها خلفها ف القراءة والكتابة(3/103)
وذلك من معناها شبيه بمعنى فاتحة الكتاب، وإنما قيل لها لكونها كذلك أم القرآن تسمية العرب كل جامع أمراً أو مقدماً لأمر إذا كانت له توابع تتبعه، هو لها إمام جامع أماً – انتهى. وقال ابن منظور في لسان العرب. (ج1: ص297) : وأم الكتاب فاتحة؛ لأنه يبتدأ بها في كل صلاة، قال: وجاء في الحديث أن أم الكتاب هي فاتحة الكتاب؛ لأنها هي المقدمة أمام كل سورة في جميع الصلوات، وابتدئ بها في المصحف فقدمت– انتهى. والحديث دليل على أن قراءة الفاتحة في الصلاة ركن من أركانها وفرض من فروضها، وأنه لا تصح صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فيها. قال الشاه ولي الله في حجته. (ج2: ص4) تحت قوله: الأمور التي لا بد منها في الصلاة: وما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الركنية كقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وقوله: "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" وما سمي الشارع الصلاة به، فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة- انتهى. وحديث عبادة هذا رواه الدارقطني وابن خزيمة وابن حبان، وغيرهم بإسناد صحيح بلفظ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وهذه الرواية نص صريح في ركنية الفاتحة لا تحتمل تأويلاً. وأجاب من قال بعدم فرضية الفاتحة وهو الحنفية عن حديث الباب بأن المراد بالنفي في قوله: "لا صلاة" نفى الكمال، أي لا صلاة كاملة. ورد هذا الجواب بوجهين: الأول: أن رواية الدارقطني وغيره بلفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" لا تحتمل تأويلاً، بل هي تبطل تأويلهم هذا إبطالاً صريحاً؛ لأن النفي فيها نفي الإجزاء أي نفي الكفاية فلا يصح حملها على الكفاية مع نفى الكمال. والثاني: أن النفي في قوله: "لا صلاة" إما أن يراد به نفي الحقيقة، أو نفي الصحة أو نفى الكمال، فالأول حقيقة والثاني والثالث مجاز، والثاني أعني نفي الصحة أقرب المجازين إلى الحقيقة، والثالث أعني نفى الكمال أبعدهما، فحمل النفى على الحقيقة واجب إن أمكن، وإلا فحمله على أقرب المجازين واجب ومتعين، ومع إمكان الحقيقة أو أقرب المجازين، لا يجوز حمله على أبعد المجازين. قال الشوكاني: الحديث يدل على تعيين الفاتحة في الصلاة، وأنه لا يجزئ غيرها؛ لأن النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات إن أمكن انتفاءها، وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة، لا إلى الكمال؛ لأن الصحة أقرب المجازين، والكمال أبعدهما، والحمل على أقرب المجازين واجب، وتوجه النفي ههنا إلى الذات ممكن كما قال الحافظ في الفتح، لأن المراد بالصلاة معناها الشرعي لا اللغوي، لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات؛ لأن المركب كما ينتفي بانتفاء جميع أجزائه ينتفي بانتفاء بعضها، فلا يحتاج إلى إضمار الصحة ولا الإجزاء ولا الكمال كما روى عن جماعة؛ لأنه إنما يحتاج إليه عند الضرورة، وهي عدم إمكان انتفاء الذات، ولو سلم أن المراد هنا الصلاة اللغوية فلا يمكن توجه النفي إلى الذات؛ لأنها قد وجدت في الخارج كما قاله البعض، لكان المتعين توجيه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال، أما أولاً فلما ذكرناه، وأما ثانياً فرواية(3/104)
الدارقطني المذكورة في الحديث، فإنها مصرحة بالأجزاء فتعين تقديره- انتهى. وقال الحافظ: إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة، فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس، فيكون أولى ويؤيده رواية الإسماعيلي بلفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، وأخرجه الدارقطني أيضاً بهذا اللفظ، وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعاً بهذا اللفظ أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان وغيرهما. ولأحمد من طريق عبد الله بن سوادة القشيري، عن رجل، عن أبيه مرفوعاً: لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن. وقال ابن الهمام في فتح القدير. (ج1: ص120) : وفيه أي في تقدير: "كاملة" نظر؛ لأن متعلق المجرور الواقع خبراً استقرار عام، فالحاصل: "لا صلاة كائنة" وعدم الوجود شرعاً هو عدم الصحة هذا هو الأصل، بخلاف: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" الخ.: "لا صلاة للعبد الآبق" فإن قيام الدليل على الصحة أوجب كون المراد كوناً خاصاً أي كاملة، وعلى هذا فيكون من حذف الخبر لا من وقوع الجار والمجرور خبراً، فلذا عدل المصنف عنه إلى الظنية في الثبوت، وبه لا يثبت الركن؛ لأن لازمه نسخ الإطلاق بخبر الواحد، وهو يستلزم تقديم الظني على القاطع، وهو لا يحل، فيثبت به الوجوب، فيأثم بترك الفاتحة ولا تفسد– انتهى. وقال الشيخ الآلوسي في تفسيره روح المعاني. (ج9: ص210) : ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهو ظاهر في المقصود. إذ التقدير: "لا صلاة صحيحة إلا بها" واعترض بجواز أن يكون التقدير: "لا صلاة كاملة" فإنه لما امتنع نفي مسمى الصلاة لثبوته دون الفاتحة لم يكن بد من صرفه إلى حكم من أحكامها، وليس الصرف إلى الصحة أولى من الصرف إلى الكمال. وأجيب بأنا لا نسلم امتناع دخول النفي على مسماها؛ لأن الفاتحة إذا كانت جزأ من ماهية الصلاة تنتفي الماهية عند عدم قراءتها فيصح دخوله على مسماها، وإنما يمتنع لو ثبت أنها ليست جزءاً منها، وهو أول المسئلة سلمناه لكن لا نسلم أن صرفه إلى الصحة ليس أولى من صرفه إلى الكمال، بل هو أولى؛ لأن الحمل على المجاز الأقرب عند تعذر الحمل على الحقيقة أولى بل واجب بالإجماع، ولا شك أن الموجود الذي لا يكون صحيحاً أقرب إلى المعدوم من الموجود الذي لا يكون كاملاً- انتهى. وقال الشيخ أبوالحسن السندي في حاشية النسائي. (ج2: ص137) وابن ماجه. (ج1: ص277) : ثم قد قرروا أن النفي لا يعقل إلا مع نسبته بين أمرين فيقتضي نفى الجنس أمراً مستنداً إلى الجنس ليستقل النفي مع نسبته، فإن كان ذلك الأمر مذكور في الكلام فذلك، وإلا يقدر من الأمور العامة كالكون والوجود، وأما الكمال فقد حقق الكمال ضعفه؛ لأنه مخالف لا يصار إليه إلا بدليل، والوجود في كلام الشارع يحمل على الوجود الشرعي دون الحسي، فمؤدي الحديث نفى الوجود الشرعي للصلاة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فتعين نفى الصحة، وما قاله أصحابنا: أنه من أحاديث الآحاد وهو ظني لا يفيد العلم، وإنما يوجب الفعل فلا يلزم منه الافتراض، ففيه أنه يكفي في المطلوب أنه يوجب العمل بمدلوله لا بشيء آخر، ومدلوله عدم صحة صلاة لم يقرأ فيها(3/105)
بفاتحة الكتاب، فوجوب العمل به يوجب القول بفساد تلك الصلاة وهو المطلوب، فالحق أن الحديث يفيد بطلان الصلاة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب- انتهى. واعلم أنه قد تأول بعض الحنفية رواية الدارقطني المذكورة بأن المراد نفي الأجزاء الكاملة. قال القاري: هو محمول على الأجزاء الكاملة. وقال الشيخ محمد أنور: لم لا يجوز أن يكون المراد من نفي الإجزاء نفي كمال الإجزاء كما في قوله: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. عند البخاري في الجهاد وفي المغازي من حديث سهل بن سعد قال: ليجعله نظيراً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب. قلت: حمل الإجزاء في رواية الدارقطني على الإجزاء الكامل تحكم صريح، وإدعاء محض، وتعصب بحت، بل هو تحريف للحديث؛ لأنه ليس بعد الإجزاء إلا البطلان، فلا جوز حمله على نفي كمال الإجزاء، ولا يصح أن يجعل قول القائل: "ما أجزأ منا اليوم أحد" الخ. في حديث سهل نظيرة لما في رواية الدارقطني؛ لأن قوله: "كما أجزأ فلان" قرينة صريحة على أن المراد بنفي الإجزاء فيه نفي إجزاء مخصوص، أي إجزاء يشبه إجزاء فلان، لا نفي الإجزاء رأساً، بخلاف رواية الدارقطني فإنه ليس فيها شيء يشير إلى حمله على الإجزاء المخصوص، بل فيها نفي الإجزاء مطلقاً من غير تقييد وتخصيص فحمله على الإجزاء الكامل تحكم محض ليس عليه آثارة من علم فهو مردود على قائله. تنبيه: قد تقدم أن مذهب الحنفية أن قراءة الفاتحة ليست بفرض بل هي واجبة. قالوا: الفرض عندنا مطلق القرآن لقوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [73: 20] . فقد أمر الله تعالى بقراءة ما تيسر من القرآن مطلقاً، وتقييده بالفاتحة بالسنة زيادة على النص القرآني، وذا لا يجوز؛ لأنه نسخ فعملنا بالكتاب والسنة فقلنا: إن أدنى ما يطلق عليه القرآن فرض لكونه مأموراً به، وقراءة الفاتحة واجبة يأثم من يتركها، وتجزأ الصلاة بدونها ولا تفسد وأجاب عنه شيخنا في شرح الترمذي: بأن إثبات فريضة مطلق القرآن بهذه الآية مبني على أن المراد من قوله تعالى: {فاقرؤا} قراءة القرآن بعينها وهو ليس بمتفق عليه بل فيه قولان. قال الرازي في تفسيره. (ج8: ص345) : فيه قولان: الأول أن المراد من هذه القراءة الصلاة، أي فصلوا ما تيسر عليكم. والقول الثاني: أن المراد قراءة القرآن بعينها- انتهى. وهكذا في عامة كتب التفسير، والقول الثاني فيه بُعد عن مقتضى السياق. قال الشيخ الآلوسي البغدادي في تفسيره. (ج9: ص209) : أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها. وقيل: الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها، وفيه بُعد عن مقتضى الساق – انتهى كلامه. فلما ظهر أن في قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [73: 20] القولين المذكورين، وأن القول الثاني فيه بُعد، لاح لك أن الاستدلال به على فريضة مطلق القراءة غير صحيح، ولو سلمنا أن المراد هو القول الثاني أعني قراءة القرآن بعينها فحديث الباب مشهور بل متواتر، قال الإمام البخاري في جزء القراءة (ص4) : تواتر الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة إلا بقراءة أم القرآن. والزيادة بالحديث المشهور جائز عند الحنفية. على أن قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} عام مخصوص منه البعض فهو ظني، فلا يدل على فرضية مطلق القراءة، ويجوز تخصيصه ولو بالآحاد. قال الملاجيون في تفسيره. () :(3/106)
ثم أقل القراءة فرضاً عندنا آية واحدة طويلة كآية الكرسي وغيرها، أو ثلاث آيات قصيرة كـ {مدهامتان} ، وهذا هو الأصح. وقيل: إنه واحدة، طويلة كانت أو قصيرة، وذلك مما لا يعتد به، ينادي عليه كتب الفقه. وعلى كل تقدير يكون ما دون الآية مخصوصاً من هذا العام، فيكون العام ظنياً، فينبغي أن لا يدل على فرضية القراءة، وأن يعارضه الحديث حجة للشافعي_انتهى كلامه. وأما ما قيل: من أن ما دون الآية لا يسمى قراءة القرآن عرفاً، والعرف قاض على الحقيقة اللغوية فهذا دعوى لا دليل عليها، ويلزم أن يكون {مدهامتان} [55: 64] التي هي كلمة واحدة قراءة القرآن، ولا يكون أكثر آية المداينة التي هي كلمات كثيرة قراءة القرآن، وهذا كما ترى، وأيضاً يلزم منها أنه لو قرأ أحد نصف آية المداينة في الصلاة لا تجوز، وعامة الحنفية على جوازها. قال ابن الهمام في فتح القدير: ولو قرأ نصف آية المداينة قيل: لا يجوز لعدم الآية، وعامتهم على الجواز- انتهى. قلت: وقد رد أيضاً الشيخ محمد أنور استدلال الحنفية بقوله: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} على فرضية مطلق القرآن حيث قال: ما زعمه الحنفية من أن المراد من النص أي قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} القراءة مطلقاً ولو بآية مرجوح، لأن المراد منه ما تفعله الأمة الآن أي الفاتحة مع السورة، وإلا يلزم حمل القرآن على الكراهة ودرجها في النظم، نعم كون هذا المراد مراداً بالنص ظني، ولذا كانت قراءة الفاتحة مع السورة واجبة. وقال: إن الله تعالى لما علم الاستثقال عليه في القيام بالليل رخص لهم أن لا يطولوه كما كانوا يفعلونه في الليل كله أو أكثره، بل لهم أن يقوموه حسب ما تيسر لهم فهذا تيسير في حصص الليل لا في الفاتحة كما فهموه –انتهى. تنبيه آخر: قد استدل بحديث عبادة على فرضية قراءة الفاتحة على المقتدي، وهو استدلال صحيح لأن لفظ: "من" فيه من ألفاظ العموم فهو شامل للمأموم قطعاً كما هو شامل للإمام والمنفرد، ولم يرد دليل على تخصيصه بمصل دون مصل. قال ابن عبد البر في التمهيد: وقال آخرون: لا يترك أحد من المأمومين قراءة فاتحة الكتاب فيما جهر الإمام بالقراءة، لأن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" عام لا يخصه شيء، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخص بقوله ذلك مصلياً من مصل-انتهى. وقال الكرماني في شرح صحيح البخاري: وفي الحديث دليل على أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمنفرد والمأموم في الصلوات كلها-انتهى. ولأن لفظ صلاة في قوله: "لا صلاة" عام فيشمل كل صلاة فرضاً كانا أو نفلاً، سرية كانت أو جهرية، صلاة الإمام كانت أو صلاة المأموم أو صلاة المنفرد. قال الحافظ في الفتح تحت حديث عبادة: واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم سوى أسر الإمام أم جهر؛ لأن صلاته صلاة حقيقة فتنتفي عند انتفاء القراءة-انتهى. وتخصيص من خص هذا الحديث بالإمام والمنفرد مما لا يلتفت إليه؛ لأن لا دليل على هذا التخصيص لا من كتاب ولا من سنة، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخص إلا بدليل من الكتاب والسنة، ولا يجوز تخصيصه بقول أحد كائناً من كان. قال الخطابي بعد ذكر ما رواه أبوداود عن عبادة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً. قال سفيان لمن يصلي وحده(3/107)
متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما لفظه: قلت هذا عموم لا يجوز تخصيصه إلا بدليل-انتهى. وقيل: أراد سفيان بذلك قوله: "فصاعدا" كأنه خص ما يفهم منه من قراءة ما زاد على الفاتحة بالفذ والمنفرد، ويؤيده الأحاديث التي فيها المنع للمأموم من قراءة غير الفاتحة. وأما الاستدلال على التخصيص بقوله تعالى: {إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [7: 204] وبقوله عليه السلام: وإذا قرئ فأنصتوا، وبما روي: "من كان له إمام فإن قراءته له قراءة" فسيأتي الجواب عنه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. وأخرجه البيهقي في كتاب القراءة بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب خلف الإمام" قال: إسناده صحيح، والزيادة التي فيه صحيحة مشهورة من أوجه كثيرة. (وفي رواية لمسلم) والنسائي من طريق معمر عن الزهري. (لمن لم يقرأ بأم القرآن) سميت بها لكونها أصلاً ومنشأ له، إما لمبدئيتها له وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله عزوجل والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية. (فصاعداً) من الصعود وهو الارتفاع من سفل إلى علو، والصاعد اسم فاعل منه، ومعنى الصاعد هنا الزائد، وهو منصوب على الحال بفعل واجب الإضمار، أي فصعد القراءة صاعداً، يقال: أخذته بدرهم فصاعداً، نصب صاعدا في قولهم هذا على الحال، وحذف صاحب الحال والعامل فيه تخفيفا لكثرة الاستعمال، والتقدير: أخذته بدرهم فذهب الثمن صاعداً، فالثمن صاحب للحال، والفعل الذي هو"ذهب" العامل في الحال. قال في الحاشية العصامية على الفوائد الضيائية قوله: ويجب حذف العامل، الخ. وكذا في حال تبين ازدياد ثمن أو غيره مما دخله الفاء أو ثم نحو: بعته بدرهم فصاعداً، وقرأت جزأ من القرآن فصاعداً، أي فذهب القراءة في الصعود يعنى ذهبت القراءة الزائدة، وبنحوه ذكر الرضي في شرح الكافية. (ص153) ، وسيبوية في الكتاب. (ج1: ص147) وهذا اللفظ لا يتغير سواء كان حالاً من مذكر أو مؤنث، وتقدير الكلام: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فقط أو بأم القرآن في حال كون قراءته زائدة على أم القرآن. والمراد أن أقل ما تجزئ به الصلاة وأدنى ما يترتب عليه الجواز الفاتحة فإن زاد فهو حسن. وقيل: صاعداً صفة وقعت مقام المصدر. كما تقول: قم قائماً، وقع قائماً موضع قياماً، وعلى هذا فصاعدا منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر، أي اصعد صاعداً، أي إلى ما عدا أم القرآن، يعني اقرأ قراءة زائدة على الفاتحة لكن الأمر بقراءة ما زاد على الفاتحة ليس للوجوب لما سيأتي من الأحاديث الدالة على عدم وجوب ما زاد، والفاء في الصورة زائدة لكنها لازمة؛ لأنه لم ترد هذه الكلمة في لغة العرب إلا بالفاء أو بثم، وفي الصورة الأولى عاطفة، والعطف لا يقتضي التشريك من كل الوجوه فهو من عطف غير الواجب على الواجب، والمقصود حصر صحة الصلاة في الفاتحة سواء كان معها سورة أخرى أو لا. وقيل: تقدير الكلام فما كان صاعداً فهو أحسن وعلى هذا"صاعداً" خبر لكان المحذوف. قال بعض الحنفية: قوله: "فصاعداً" يدل على أن قراءة ما زاد على الفاتحة من السورة واجبة في الصلاة، وعند الجمهور ليس هذا الحكم إلا لمن كان إماماً أو يصلي وحده، لا على المأموم. فكذلك يحمل حكم قراءة الفاتحة عليهما لا على المأموم، ويؤيد ما روى أحمد وغيره عن أبي هريرة أن(3/108)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يخرج فينادي: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وما زاد. وأخرج أبوداود وغيره عن أبي سعيد، قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر-انتهى. قلت: الاستدلال بقوله:: "فصاعداً" على وجوب ما زاد على الفاتحة وجعله قرينة لحمل قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" على الإمام والمنفرد خاصة دون المقتدي، ليس بصحيح، فإن هذه الزيادة معلولة. قال في التلخيص (ص87) : قال ابن حبان: تفرد بها معمر عن الزهري وأعلها البخاري في جزء القراءة- انتهى. قلت: قال البخاري في جزء القراءة (ص2) : عامة الثقات لم يتابع معمراً في قوله: "فصاعداً" وقوله: "فصاعداً" غير معروف. ويقال: إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمراً، وأن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره، ولا نعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا. وقال (ص17) : وليس هذا يعني عبد الرحمن بن إسحاق ممن يعتمد على حفظه إذا خالف من ليس بدونه، وقال إسماعيل بن إبراهيم: سألت أهل المدينة عن عبد الرحمن فلم يحمد مع أنه لا يعرف له بالمدينة تلميذاً إلا أن موسى الزمعي روى عنه أشياء في عدة منها اضطراب – انتهى. وأما ما ذكر من متابعة سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي داود، ففيه أن هذا الحديث من هذا الطريق أعنى من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري أخرجها البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن أبي شبة وأبوعوانة وغيرهم، لكن ليس في رواية واحد منهم هذه الزيادة، وأيضاً قد روى البخاري في جزء القراءة حديث عبادة من طريق سفيان، ثم ذكر زيادة معمر هذه، وقال: عامة الثقات لم يتابع معمراً في قوله: "فصاعداً"، فهذا يدل على أن هذه الزيادة لم يعرفها البخاري في رواية سفيان، فالظاهر أن زيادة قوله: "فصاعداً" في رواية سفيان وهم من أبي داود أو ممن فوقه بأن أدرج زيادة معمر في رواية سفيان، ولا بُعد فيه فإن الثقة قد يهم. وأما ما قيل من أن زيادة قوله: "فصاعداً" زيادة ثقة غير منافية لمن هو أوثق منه فتقبل، ففيه أن قبول الزيادة من الثقة ليس مجمعاً عليه بل فيه خلاف مشهور، فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها. قال الزيلعي في نصب الراية. (ج1: ص336) : والصحيح التفصيل، وهو أنها تقبل في موضع دون موضع، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها، ففي موضع يجزم بصحتها، وفي موضع يغلب على الظن صحتها، وفي موضع يجزم بخطأها كزيادة معمر ومن وافقه قوله: "وإن كان مائعاً فلا تقربوه" وإن كان معمر ثقة، فإن الثقة قد يغلط، وفي موضع يغلب على الظن خطأها كزيادة معمر في حديث ماعز الصلاة عليه، رواها البخاري في صحيحه، وسئل هل رواها غير معمر؟ فقال: لا. وقد رواه أصحاب السنن الأربعة عن معمر: وقال فيه: "ولم يصل عليه" فقد اختلف على معمر في ذلك، والراوي عن معمر هو عبد الرزاق، وقد اختلف عليه أيضاً، والصواب أنه قال: "ولم يصل عليه". وفي موضع يتوقف في الزيادة كما في أحاديث كثيرة – انتهى كلام الزيلعي مختصراً. ومما يجب التنبه عليه أن الإطلاع على وهم الثقة وخطئه، والحكم بكون(3/109)
الزيادة من الثقة صحيحة في موضع، وخطأ ووهماً في موضع، وكذا التوقف في أمرها في موضع، ليس إلا من شأن البخاري وأمثاله ممن رزقهم الله فهما ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، فلا يقبل في ذلك إلا قول البخاري، ومن كان من أهل هذا الشأن كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وأبي زرعة، والدارقطني وأبي حاتم وأمثالهم. وإذا كان الأمر كذلك فكون زيادة قوله: "فصاعداً" معلولة غير صحيحة، هو الراجح بل هو المتعين. ولو سلم صحتها فليست فيها دلالة على أن قراءة ما زاد على الفاتحة واجبة. قال الحافظ في الفتح: استدل به على وجوب قدر زائد، وتعقب بأنه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة. قال البخاري في جزء القراءة: هو نظير قوله: تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا- انتهى. يعني أن قوله: "فصاعداً" لبيان أدنى ما يترتب عليه الحكم مع شموله على فائدة أخرى وهي دفع توهم قصر الحكم على ما قبله، فكما أن ربع الدينار أدنى ما تقطع به اليد كذلك قراءة الفاتحة أدنى ما تجزئ به الصلاة، ولا يقتصر حكم صحة الصلاة على الفاتحة، بل تصح الصلاة في صورة الزيادة على الفاتحة أيضاً. وقال المظهر: قوله: "فصاعداً" أي فزائدا، وهو منصوب على الحال أي لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فقط، أو بأم القرآن حال كون قراءته زائدة على أم القرآن- انتهى. وهذا يدل على أنه فهم منه التخيير فيما زاد على الفاتحة. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات في تفسير قوله: "فصاعداً": بس بخواند فوق فاتحة وزيادة برآن، يعني فاتحة البتة مي بايد خواند، ومقتصر بر فاتحة هم نيست، واكر جيزبـ زيادة كند نيز درست است-انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: لعلهم أي الذين ذهبوا إلى عدم وجوب ما زاد على الفاتحة يحملونه على معنى: "فما كان صاعداً فهو أحسن" والله أعلم. وقال صاحب العرف الشذى (ص145) : زعم الأحناف مراد الحديث وجوب الفاتحة ووجوب ضم السورة، ولكنه يخالف اللغة، فإن أرباب اللغة متفقون على أن ما بعد الفاء يكون غير ضروري، وصرح به سيبوية في باب الإضافة-انتهى. ومما يدل على كون قوله: "فصاعداً" لدفع توهم قصر الحكم وعدم وجوب ما زاد، ما روى ابن أبي شيبة عن عائشة مرفوعاً: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعداً". وعن عمران بن حصين قال: "لا يجوز صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعداً. وروى ابن عدي عن ابن عمر: "لا تجزئ المكتوبة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات فصاعداً" كذا في كنز العمال. (ج4: ص96) وهذه الروايات وإن كانت ضعيفة لكنها تؤيد ما تقدم من أن قوله: "فصاعداً" لدفع توهم قصر الحكم على ما قبله، وأنه ليس فيه دلالة على وجوب ما زاد على الفاتحة. وأما حديث أبي هريرة بلفظ: "لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وما زاد" فهو ضعيف، فإن مداره على جعفر بن ميمون، وقال أحمد فيه: ليس بقوي في الحديث. وقال ابن معين: ليس بذلك. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال البخاري: ليس بشيء. وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم. وقال العقيلي في روايته عن أبي عثمان،(3/110)
829- (2) وعن أبي هريرة، قال ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي
خداج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن أبي هريرة في الفاتحة: لا يتابع عليه. وأما حديث أبي سعيد بلفظ: "أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر". فقد صحح الحافظ سنده في الفتح والتلخيص لكن فيه نظر؛ لأن فيه قتادة وهو مدلس، وهو روى الحديث عن أبي نضرة بالعنعنة، فإن كان روايته عنه عند غير أبي داود بالتحديث فهي صحيحة، وإلا ففي صحتها نظر. قال البخاري في جزء القراءة: روى همام، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: أمرنا نبينا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر، ولم يذكر قتادة سماعاً من أبي نضرة في هذا-انتهى. وأيضاً قد عارض حديثي أبي هريرة وأبي سعيد ما رواه الحاكم عن عبادة مرفوعاً: أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً منها. ذكره الحافظ في التلخيص. قال: وله شواهد فساقها. وما رواه ابن خزيمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فصلى ركعتين، لم يقرأ فيهما إلا بفاتحة الكتاب. ذكره الحافظ في الفتح. وما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة يقول: في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت وإن زدت فهو خير-انتهى. وعلى هذا فلا يصح الاستدلال بقوله: "وما زاد وما تيسر" على وجوب قراءة ما زاد على الفاتحة، ولا يكون هو قرينة لحمل حكم قراءة الفاتحة للإمام والمنفرد دون المقتدي. واعلم أنه ضم السورة مع الفاتحة ليس بواجب عند الجمهور بل هو مستحب. قال الشيخ سلام الله الدهلوي في المحلى شرح المؤطا: قال الجمهور: إن ضم السورة بعد الفاتحة سنة، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد-انتهى. وقال الحافظ في الفتح: وفيه. (أى في حديث أبي هريرة: وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، الخ) استحباب السورة أو الآيات مع الفاتحة، وهو قول الجمهور في الصبح والجمعة والأوليين من غيرهما، وصح إيجاب ذلك عن بعض الصحابة وهو عثمان بن أبي العاص، الخ. وبهذا ظهر أن ما تقدم من بعض الحنفية نسبة القول بوجوب ما زاد على الفاتحة من السورة إلى الجمهور ليس بصحيح.
829- قوله: (من صلى) إماماً كان، أو مأموماً، أو منفرداً (صلاة) جهرية كانت أوسرية، فريضة أو نافلة. (لم يقرأ فيها بأم القرآن) أي فاتحة الكتاب. (فهي) أي صلاته. (خداج) بكسر الخاء المعجمة، أي ناقص نقص فساد وبطلان. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: أي ذات خداج- بكسر الخاء- مصدر خدجت الناقة إذا ألقت ولدها ناقصاً فلا تصح، فاستعير للناقص، أي فصلاته ذات نقصان، أو خديجة: ناقصة نقص فساد وبطلان – انتهى. وقال العزيزي: فهي خداج – بكسر المعجمة -، أي فصلاته ذات نقصان نقص فساد وبطلان، فلا تصحح الصلاة بدونها ولو لمقتد عند الشافعي وجمهور العلماء. وقال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز خدج الرجل فهو خادج إذا نقص عضو منه، وأخدجه الله فهو مخدج، وكان ذو الثدية مخدج اليد، وأخدج صلاته نقص بعض أركانها، وصلاتي مخدجة(3/111)
- ثلاثاً- غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. قال: اقرأ بها في نفسك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وخادجة وخداج وصفاً بالمصدر-انتهى. وقال الخطابي في معالم السنن (ج1: ص203) : فهي خداج معناه ناقصة نقص فساد وبطلان، تقول العرب: أخدجت الناقة إذا ألقت ولدها وهو دم لم يستبن خلقه فهي مخدج، والخداج اسم مبني منه-انتهى. وقال البخاري في جزء القراءة: قال أبوعبيد: أخدجت الناقة إذا أسقطت، والسقط ميت لا ينتفع به-انتهى. وقال الجزري: الخداج النقصان، يقال: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق، وأخدجته إذا ولدته ناقص الخلق، وإن كان لتمام الحمل-انتهى. وقال جماعة من أهل اللغة: خدجب (كنصر وضرب) وأخدجت إذا ألقت ولدها قبل أوانه لغير تمام أيام الحمل وإن كان تام الخلق. قلت: والمراد من إلقاء الناقة ولدها لغير تمام الحمل وإن تم خلقه إسقاطها، والسقط ميت لا ينتفع به كما عرفت، فظهر من هذا كله أن المراد من قوله: "خداج" نقصان الذات أعني نقصان الفساد والبطلان، ويدل عليه ما رواه البيهقي في كتاب القراءة عن أبي هريرة مرفوعاً: لا يجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، قلت: فإن كنت خلف الإمام؟ قال: فأخذ بيدي وقال: اقرأ في نفسك يا فارسي!. قال البيهقي: رواه ابن خزيمة عن محمد بن يحيى محتجاً به على أن قوله في سائر الروايات: "فهي خداج" المراد به النقصان الذي لا تجزئ معه-انتهى. قال ابن عبد البر في الاستذكار: في حديث أبي هريرة هذا من الفقة إيجاب القراءة بالفاتحة في كل صلاة، وأن الصلاة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، والخداج النقصان والفساد، من ذلك قولهم أخدجت الناقة إذا ولدت قبل تمام وقتها وقبل تمام الخلقة، وذلك نتاج فاسد. وقال الأخفش: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها لغير تمام، وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق، وقد زعم من لم يوجب قراءة الفاتحة في الصلاة أن قوله: "خداج" يدل على جواز الصلاة؛ لأنه النقصان، والصلاة الناقصة جائزة، وهذا تحكم فاسد، والنظر يوجب في النقصان أن لا تجوز معه الصلاة؛ لأنها صلاة لم تتم، ومن خرج من صلاته قبل أن يتمها فعليه إعادتها تامة كما أمر، ومن ادعى أنها تجوز مع إقرار بنقصها فعليه الدليل ولا سبيل له إليه من وجه يلزم-انتهى. (ثلاثاً) أي قالها ثلاثاً. (غير تمام) بيان خداج أو بدل منه، وقيل تأكيد. قال الزرقاني: فهو حجة قوية على وجوب قراءتها في كل الصلاة _انتهى. قلت: قوله غير تمام يدل على تعين الفاتحة في الصلاة، وأنها لا يجزئ غيرها، ولا يقوم مقامها قراءة غيرها من القرآن لأن لفظ التمام يستعمل في الإجزاء، ويطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به، ففيه دليل على كون الفاتحة من أجزاء الصلاة وأركانها. (فقيل لأبي هريرة) القائل هو أبوالسائب عبد الله بن السائب الأنصاري الراوي للحديث عن أبي هريرة، ففي رواية قال أي أبوالسائب: قلت: يأبا هريرة! (إنا نكون وراء الإمام) أي فهل نقرأ أم لا؟. (اقرأ بها في نفسك) أي سراً غير جهر، قاله القاري. وقال الباجي: أي بتحريك اللسان بالتكلم وإن لم يسمع نفسه. رواه سحنون عن ابن القاسم، قال: ولو أسمع نفسه يسيراً لكان أحب(3/112)
فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى –انتهى. وقال البيهقي في كتاب القراءة (ص17) : المراد بقوله: "اقرأ بها في نفسك" أن يتلفظ بها سراً دون الجهر بها، ولا يجوز حمله على ذكرها بقلبه دون التلفظ بها لإجماع أهل اللسان على أن ذلك لا يسمى قراءة، ولإجماع أهل العلم على أن ذكرها بقلبه دون التلفظ بها ليس بشرط ولا مسنون، فلا يجوز حمل الخبر على ما لا يقول به أحد، ولا يساعده لسان العرب- انتهى. وقال النووي: معناه اقرأ سراً بحيث يسمع نفسك، وأما ما حمله بعض المالكية وغيرهم أن المراد تدبر ذلك وتذكره فلا يقبل؛ لأن القراءة لا تطلق إلا على حركة اللسان بحيث يسمع نفسه، ولهذا اتفقوا على أن الجنب لو تدبر القرآن بقلبه من غير حركة لسانه لا يكون قارئاً مرتكباً لقراءة الجنب المحرمة-انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوى في أشعة اللمعات: اقرأ بها في نفسك بخواني فاتحة را بس أمام نيز، أما آهسته جنانجه بشنوائي خودرا-انتهى. قلت: حقيقة القراءة في النفس هي القراءة سراً من غير جهر، قال تعالى: {اذكر ربك في نفسك} [7: 205] . قال السويطي: أي سراً. قال الجمل: أي أسمع نفسك. وقال في الهداية: إلا أن يقرأ الخطيب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} [33: 56] الآية، فيصلي السامع في نفسه-انتهى. قال في الكفاية: قوله: "فيصلي السامع في نفسه" أي فيصلي بلسانه خفيا-انتهى. واعلم أنه قال بعض الحنفية: أن المراد بالقراءة في النفس: أن يقرأ على وجهه وعلى حياله، لا معاملة له مع غيره، ولا يقصد إسماعه، ويكون أمير نفسه، يقرأ لنفسه يعني يقرأ حال كونه منفرداً وفذاً لا مأموماً. وتعقب بأن حقيقة القراءة في النفس إنما هي الإسرار بالقراءة لا غير، وهو الذي فهمه مالك كما يظهر من تبويبة في المؤطا على هذا الحديث، وأما ما ذكره هذا البعض فهو معنى لنفسه لا في نفسه، ولذلك لم يخطر ما قاله هذا البعض ببال أحد ممن تقدم قبله من شراح الحديث وأصحاب المذاهب مع تداول الحديث وشهرته فيما بينهم، قال النووي: قول أبي هريرة هذا يؤيد وجوب الفاتحة على المأموم-انتهى وقال شيخنا في أبكار المنن (ص139) : وفي رواية أبي عوانة: "فقلت لأبي هريرة: فإني أسمع قراءة القرآن. فغمزني بيده فقال: يا فارسي أو ابن الفارسي! اقرأ بها في نفسك. وفي رواية للبخاري في جزء القراءة قلت: يا أبا هريرة! كيف أصنع إذا كنت مع الإمام وهو يجهر بالقراءة؟ قال ويلك يا فارسي! اقرأ بها في نفسك. وكذلك في رواية للبيهقي في جزء القراءة؛ فظهر بهذه الروايات أن أبا هريرة كان يفتي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية، وفي إفتاء بهذا دلالة واضحة على أن حديثه: "من صلى صلاة لم يقرأ بأم القرآن فهي خداج" باق على عمومة، شامل للإمام والمأموم والمنفرد، لأن راوي الحديث أعرف بالمراد منه من غيره-انتهى.. (فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول) هذا استدلال من أبي هريرة على ما أفتى به من القراءة للمأموم، وعدول إلى الحديث الآتي لبيان دليل آخر على وجوب الفاتحة. (قال الله تعالى: قسمت) بصيغة المتكلم. (الصلاة) بالنصب على المفعولية، قال العلماء: المراد بالصلاة هنا الفاتحة، سميت بذلك؛ لأنها لا تصح إلا بها كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة"، ففيه دليل على وجوبها(3/113)
بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: ((الحمد لله رب العالمين)) قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: ((الرحمن الرحيم)) قال تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: ((مالك يوم الدين)) قال: مجدني عبدي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بعينها في الصلاة، والمراد قسمتها من جهة المعنى؛ لأن نصفها الأول تحميد لله تعالى وتمجيده، وثناء عليه، وتفويض إليه، والنصف الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقار، قاله النووي. وقال السندي: وجه الاستدلال أي على افتراض قراءة الفاتحة هو أن قسمة الفاتحة جعلت قسمة للصلاة، واعتبرت الصلاة مقسومة باعتبارها، ولا يظهر ذلك إلا عند لزوم الفاتحة فيها-انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1: ص203) : المراد بالصلاة القراءة، يدل على ذلك قوله عند التفسير له والتفصيل للمراد منه إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، إلى آخر السورة، وقد تسمى القراءة صلاة لوقوعها في الصلاة وكونها جزءاً من أجزائها، كقوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} [17: 110] قيل: معناه القراءة. وقال: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [78: 17] أراد صلاة الفجر فسمى الصلاة مرة قرآناً والقرآن مرة صلاة، لانتظام أحدهما الآخر، يدل على صحة ما قلناه قوله: "بيني وبين عبدي نصفين" والصلاة خالصة لله لا شرك فيها لأحد، فعقل أن المراد به القراءة، وحقيقة هذه القسمة منصرفة إلى المعنى، لا إلى متلو اللفظ، وذلك أن السورة من جهة المعنى نصفها ثناء ونصفها مسألة ودعاء، وقسم الثناء ينتهي إلى قوله تعالى: {إياك نعبد} وهو تمام الشطر الأول من السورة، وباقي الآية وهو قوله: {وإياك نستعين} من قسم الدعاء والمسألة، ولذلك قال: وهذه الآية بيني وبين عبدي. ولو كان المراد به قسم الألفاظ والحروف لكان نصف الآخر يزيد على الأول زيادة بينه فيرتفع معنى التعديل والتنصيف، وإنما هو قسمة المعاني كما ذكرته لك-انتهى. وقيل: التنصيف ينصرف إلى آيات السورة؛ لأنها سبع آيات، ثلاث ثناء وثلاث سؤال، والآية المتوسطة نصفها ثناء ونصفها دعاء. (ولعبدي ما سأل) أي بعينه إن كان وقوعه معلقاً على السؤال، وإلا فمثله من رفع درجة ودفع مضرة ونحوهما. وقيل المعنى: لعبدي ما سأل من أحد النصفين، فهو وعد من الله تعالى بإعطاء النصف الذي للعبد، ويحتمل أن يكون هذا وعداً لما وراء النصف الذي للعبد، يعني آذن لعبدي أن يسأل ما شاء غير النصف الذي له. (حمدني عبدي) الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري نعمة كان أو غيرها. (أثنى على عبدي) الثناء هو ذكر الخير باللسان على جهة التعظيم. (مالك يوم الدين) أي الحساب. وقيل: الجزاء، وخص بالذكر لأن الله تعالى هو المنفرد بالملك ذلك اليوم، ويجزاء العباد وحسابهم، ولا دعوى لأحد ذلك اليوم حقيقة ولا مجازا. وأما في الدنيا فلبعض العباد ملك مجازي، ويدعى بعضهم دعوى باطلة وكل هذا ينقطع في ذلك اليوم. (مجدني) أي عظمني، والتمجيد نسبة إلى المجد وهو العظمة، أي ذكرني بالعظمة والجلال. قال النووي: قوله: "حمدني عبدي" وأثنى على ومجدني" إنما قاله؛ لأن التحميد الثناء بجميل الفعال، والتمجيد الثناء بصفات الجلال، ويقال:(3/114)
وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"أثنى عليه" في ذلك كله، ولهذا جاء جواباً للرحمن الرحيم لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية-انتهى. قيل: الرحمة رحمتان: رحمة ذاتية مطلقة امتنانية، وهي التي وسعت كل شيء لا سبب لها ولا موجب، وليست بمقابلة شيء، والأخرى هي الفائضة عن الرحمة الذاتية، مقيدة بشروط موجبه لها من أعمال وأحوال وغيرهما، ومتعلق طمع إبليس هو الأول. (إياك نعبد) أي نخصك للعبادة. وقدم المعمول للاختصاص والحصر. (وإياك نستعين) أي نخصك بالاستعانة على العبادة وغيرها. (هذا بيني وبين عبدي) قال القرطبي: إنما قال الله تعالى هذا لأن في ذلك تذلل العبد لله تعالى وطلبه الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله وقدرته على ما طلب منه. وقال الباجي: معناه أن بعض الآية تعظيم للباري، وبعضها استعانة على أمر دينه ودنياه من العبد به. (ولعبدي ما سأل) من العون وغيره. وقيل: كرره تأكيداً، والمراد هو ما ذكره أولاً. (فإذا قال) العبد. (اهدنا الصراط المستقيم) قيل: هو بيان للمعونة المطلوبة، وقيل: إفراد لما هو أعظم مقصودا، أي ثبتناً على دين الإسلام أو طريق متابعة الحبيب - عليه الصلاة والسلام - (صراط الذين أنعمت عليهم) من النبي ين والصديقين والشهداء والصالحين. (غير المغضوب عليهم) أي اليهود. (ولا الضالين) أي غير النصارى. (هذا لعبدي) أي مختص بالعبد؛ لأنه دعاء وسؤال يعود نفعه إلى العبد. (ولعبدي ما سأل) أي غير هذا، والمعنى: هذا متحقق وثابت لعبدي، وغيره مما يسأله موعود إجابته. والحديث قد استدل به على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ لأن الفاتحة سبع آيات بالإجماع فثلاث في أولها ثناء، أولها: {الحمدلله} وثلاث دعاء، أولها: {اهدنا الصراط المستقيم} والرابعة متوسطة، وهي: {إياك نعبد وإياك نستعين} ؛ ولأنه لم يذكر البسملة في ما عددها ولو كانت منها لذكرها. ولأنه بدأ القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولو كانت البسملة منها لابتدأ بها؛ لأن هذا محل بيان واستقصاء لآيات السورة، والحاجة إلى قراءة البسملة أمس. وأجيب: بأن التنصيف عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة، وبأن معناه: فإذا انتهى العبد في قراءته إلى: {الحمد لله رب العالمين} فحينئذٍ تكون القسمة، وبأنه جاء في بعض الروايات عنه ذكر التسمية كما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة مرفوعاً، وهذه الرواية وإن كان فيها ضعف ولكنها مفسرة لحديث مسلم أنه أراد السورة لا الآية. قلت: رواية الدارقطني هذه ضعيفة جداً، بل زيادة البسملة فيها باطلة قطعاً، فإن مدارها على عبد الله بن زياد بن لمعان، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب، مجمع على ضعفه. قال مالك وابن معين: كان كذاباً. وقال أبوداود: متروك الحديث كان من الكذابين. وقد ذكر الدارقطني هذه الرواية في علله، وأطال فيها الكلام، ولخصه الزيلعي في(3/115)
رواه مسلم.
830- (3) وعن أنس ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر، رضي الله عنهما، كانوا يفتتحون الصلاة
بالحمد لله رب العالمين)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نصب الراية (ج1: ص340) فارجع إليه. (رواه مسلم) وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وأخرجه ابن ماجه مختصراً.
830- قوله: (كانوا يفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) بضم الدال على الحكاية، واختلف في المراد بذلك فقيل: المعنى كانوا يبتدؤن الصلاة بقراءة الفاتحة قبل السورة، وهذا قول من أثبت البسملة في أول الفاتحة. قال الشافعي في الأم بعد رواية الحديث: يعني يبدؤن بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، والله تعالى أعلم، لا يعني أنهم يتركون: "بسم الله الرحمن الرحيم". وإلى هذا المعنى أشار النسائي حيث عقد على هذا الحديث: باب البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة. وتعقب: بأنها إنما تسمى الحمد فقط. وأجيب: بمنع الحصر ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي: "الحمدلله رب العالمين" في صحيح البخاري. أخرجه في فضائل القرآن من حديث أبي سعيد بن المعلى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن ... فذكر الحديث، وفيه قال: "الحمد لله رب العالمين" هي السبع المثاني، وقيل: المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكاً بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة لكن لا يلزم من قوله: "كانوا يفتتحون بالحمد" أنهم لم يقرؤا: "بسم الله الرحمن الرحيم"سرا. وقد أطلق أبوهريرة السكوت على القراءة سراً. واعلم أنهم اختلفوا في قراءة البسملة في الصلاة بعد دعاء الافتتاح، فعن الشافعي: تجب وجوب الفاتحة، وعن مالك: يكره، وعن أبي حنيفة: تستحب، وهو المشهور عن أحمد. ثم اختلفوا، فعن الشافعي يسن الجهر، وعن أبي حنيفة لا يسن، وعن إسحق بن راهوية مخير بينهما، وإليه ذهب ابن حزم، وهو المرجح عندنا. وسبب هذا الاختلاف ما روي من الأحاديث المختلفة في هذا وحديث الباب قد استدل بظاهره من نفي التسمية أصلاً سراً وجهراً، وقد أسلفنا ما في هذا الاستدلال من الخدشة، وهي أنه لا يلزم منه نفي قراءة البسملة سراً؛ لأنه يشمل نفي الجهر أيضاً فافهم. وأيضاً قد كثرت الروايات عن أنس في هذا واضطربت نفياً وإثباتاً في الجهر بالتسمية، أو الإسرار، أو القراءة، أو نفيها. وفي بعضها: أن أنساً أخبر سائلة بأنه نسي ذلك، ولا شك أن روايات الإثبات أرجح وأقوى فهي المعتمد. وقد بسط العلماء الكلام في بيان الاضطراب ونفيه في حديث أنس إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى نصب الراية، والفتح، وشرح المؤطا للزرقاني، وتنوي الحوالك، وتدريب الراوي للسيوطي. وقد أعله بعضهم بهذا الاضطراب كابن عبد البر حيث قال: اختلفت ألفاظها اختلافاً كثيراً مضطرباً، ثم ذكر الاختلاف وقال بعد بسطه: وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء، وحاول بعضهم الجمع، وسلك بعضهم مسلك الترجيح. قال الحافظ: والذي يمكن أن يجمع به مختلف ما نقل عنه(3/116)
أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يجهر بها، فحيث جاء عن أنس، أنه كان لا يقرأها، مراده نفي الجهر، وحيث جاء عنه إثبات القراءة فمراده السر، وقد ورد نفي الجهر عنه صريحاً فهو المعتمد. وقول أنس في رواية مسلم: لا يذكرون: "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها. محمول على نفي الجهر أيضاً؛ لأنه الذي يمكن نفيه، واعتماد من نفي مطلقاً بقول: "كانوا يفتتحون القراءة بالحمد" لا يدل على ذلك؛ لأنه ثبت أنه كان يفتتح بالتوجه، وسبحانك اللهم، وباعد بيني وبين خطاياي، وبأنه كان يستعيذ، وغير ذلك من الأخبار الدالة على أنه قدم على قراءة الفاتحة شيئاً بعد التكبير، فيحمل قوله: "يفتتحون" أى الجهر، لتأتلف الأخبار-انتهى. وقال من سلك مسلك الترجيح: أن رواية الباب أصح الروايات عن أنس، قال الدارقطني: هو المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس، وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج هذه الرواية لسلامتها من الاضطراب. قال الزيلعي: وهذا اللفظ هو الذي صححه الخطيب وضعف ما سواه لرواية الحافظ له عن قتادة، ولمتابعة غير قتادة له عن أنس فيه، وجعله اللفظ المحكم عن أنس، وجعل غير متشابهاً، وحمله على الافتتاح بالسورة لا بالآية-انتهى. وأما ما روى مسلم عنه بلفظ: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم". وفي أخرى له: كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون: "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها. فقد اضطرب أكثرهم فيه، ولذلك امتنع البخاري من إخراجه وهو من مفاريد مسلم. وأجاب بعض الشافعية عن روايتي مسلم بأن كلاً منهما رواية للفظ الأول بالمعنى الذي عبر عنه الراوي بما ذكر بحسب فهمه ولو بلغ الخبر بلفظه كما في البخاري لأصاب، ويؤيده ما قال العراقي في ألفيته:
وعلة المتن كنفي البسملة ... ... إذ ظن راوٍ نفيه فنقله
قال السخاوي في فتح المغيث (ص95) : قوله: "فنقله" مصرحاً بما ظنه فقال: لا يذكرون: "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها. وفي لفظ: "فلم يكونوا يفتتحون ببسم الله"، وصار بمقتضى ذلك حديثاً مرفوعاً. والراوي لذلك مخطئ في ظنه-انتهى. تنبيه: اعلم أنهم اختلفوا في أن: "بسم الله الرحمن الرحيم" آية من الفاتحة فقط، أو آية من كل سورة من سور القرآن سوى براءة، أو هي جزء من آية، أو هي آية مستقلة نزلت مع كل سورة سوى براءة لافتتاحها وللفصل بينها وبين غيرها، أو ليست آية أصلاً لا من الفاتحة ولا من كل سورة، قيل: إن من رأى أنها آية من الفاتحة أوجب قراءتها بوجوب قراءة الفاتحة عنده في الصلاة، ومن رأى أنها آية من أول لكل سورة وجب عنده أن يقرأها مع السورة. وقيل مسألة الجهر بالبسملة في الصلاة ليست مرتبة على مسألة إثبات البسملة من الفاتحة. قال اليعمري: إن جماعة ممن يرى الجهر بها لا يعتقدونها قرآناً، بل هي من السنن عندهم كالتعوذ والتأمين، وجماعة ممن يرى الإسرار بها يعتقدونها قرآناً. ولهذا قال النووي: إن مسألة الجهر ليست مرتبة على مسألة إثبات البسملة، وهذه المسألة من أهم مسائل الخلاف بين القراء(3/117)
والمحدثين والفقهاء، وألف فيها الكثيرون كتبا خاصة، وأفردوها بتصانيف مستقلة، فمن ذلك كتاب: "الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف" لابن عبد البر المالكي، وهو جزء في. (42) صفحة، وقد طبع في مصر، وكتاب لعبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي، ذكره النووي في المجموع، وقال: إنه مجلد كبير، ولخص أهم ما فيه، وألف فيها أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي والخطيب، وقد جمع الزيلعي في نصب الراية أكثر ما ورد فيها من الآثار والأقاويل في مقدار يصلح كتاباً مستقلاً (ج1: ص323-363) من طبعة مصر، وكذلك النووي في المجموع، كتب فيها مقدارا وافياً. وكذلك الشوكاني في شرح المنتقي، بسط الكلام فيها. (ج2: ص89-101) والذي تحصل لنا من الأقوال في البسملة أربعة: أحدها أنها ليست من القرآن أصلاً إلا في سورة النمل، نقل هذا عن مالك والأوزاعي، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وهو رواية عن أحمد وهو قول لبعض أصحابه، واختاره ابن قدامة في المغني. والثاني أنها آية من كل سورة سوى براءة أو بعض آياته، وهو المشهور عن الشافعي وأصحابه، وهو رواية عن أحمد. والثالث أنها آية في أول الفاتحة، وليست قرآناً في أوائل باقي السور، وهو قول أحمد وإسحق وأبي عبيد وأهل الكوفة، وأهل مكة، وأهل العراق، وهو أيضاً رواية عن الشافعي. والرابع أنها آية مستقلة من القرآن في كل موضع كتبت فيه في المصحف وليست من الفاتحة ولا من غيرها، وإنما أنزلت لافتتاح القراءة بها، وللفصل بين كل سورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة ذهب إليه أبوبكر الرازي الجصاص، وهو المختار عند الحنفية. قال محمد بن الحسن: ما بين دفتي المصحف قرآن، وهو قول ابن المبارك، ورواية عن أحمد وداود، وقال الزيلعي في نصب الراية: وهذا قول المحققين من أهل العلم، ونسبة هذا القول إلى الحنفية استنباط فقط كما يظهر من أحكام القرآن. (ج1: ص8) لأبي بكر الجصاص. وقال شمس الأئمة السرخسي في المبسوط. (ج1: ص16) : وعن معلى قال: قلت لمحمد يعني ابن الحسن: التسمية آية من القرآن أم لا؟ قال: ما بين الدفتين كله قرآن. قلت: فلم لم تجهر؟ فلم يجبنى، فهذا عن محمد بيان أنها أنزلت للفصل بين السور، لا من أوائل السور، ولهذا كتبت بخط على حدة، وهو اختيار أبي بكر الرازي، حتى قال محمد: يكره للحائض والجنب قراءة التسمية على وجه قراءة القرآن؛ لأن من ضرورة كونها قرآناً حرمة قراءتها على الحائض والجنب، وليس من ضرورة كونها قرآنا الجهر بها كالفاتحة في الأخريين-انتهى. وقد استدل كل فريق لقوله بأحاديث، منها الصحيح المقبول، ومنها الضعيف المردود، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى نصب الراية للزيلعي، ونيل الأوطار للشوكاني، والسنن للدارقطني والراجح عندنا أنها آية من القرآن في كل موضع كتب فيه، والدليل على ذلك الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن عما ليس منه حتى لم يكتب: "آمين". قال النووي في شرح مسلم. (ج1: ص172) : اعتمد أصحابنا ومن قال بأنها آية من الفاتحة أنها كتبت في المصحف بخط(3/118)
رواه مسلم.
831- (4) وعن أبي هريرة، قال ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أمن الإمام فأمنوا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المصحف وكان هذا باتفاق الصحابة وإجماعهم على أن لا يثبتوا فيه بخط القرآن غير القرآن، وأجمع بعدهم المسلمون كلهم في كل الإعصار إلى يومنا وأجمعوا على أنها ليست في أول براءة، وأنها لا تكتب فيها. وهذا يؤكد ما قلناه-انتهى. وقد أوضح هذا الدليل مع ذكر المذاهب العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي. (ج2: ص21، 22) فارجع إليه. وقد رجح هو كونها آية من كل سورة كتب في أولها أي من جميع سور القرآن سوى براءة. قال: لا يجوز لقارئ أن يقرأ أية سورة من القرآن سوى براءة من غير أن يبدأها بالتسمية التي هي آية منها في أولها، سواء قراءها ابتداء أم وصلها بما قبلها. وهذا الذي اختاره الشافعي رضي الله عنه-انتهى. (رواه مسلم) فيه أن حديث أنس هذا أخرجه البخاري في باب ما يقول بعد التكبير بهذا اللفظ بلا تفاوت حرف، فالأولى للمصنف أن يقول في آخره: "متفق عليه واللفظ للبخاري". وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً مالك، والشافعي، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم.
831- قوله: (إذا أمن الإمام) أي قال آمين. فيه مشروعية التأمين للإمام، والمشهور عن مالك وهي رواية عن أبي حنيفة: أنه لا يؤمّن، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وهي المعتمد عند المالكية، وفي رواية عنه أنه لا يؤمن في الجهرية ويؤمن في السرية، وأحاديث الباب ترد عليهم جميعاً. (فأمنوا) أي فقولوا آمين. والحديث قد استدل به الإمام البخاري والنسائي وابن ماجه وغيرهم على أن الإمام يجهر بالتأمين. وجه الاستدلال أنه لو لم يكن تأمين الإمام مسموعاً للمأموم لم يعلم به، وقد علق تأمينه بتأمينه. وأجيب: بأن موضعه معلوم فلا يستلزم الجهر بة. وفيه نظر لاحتمال أنه يخل به فلا يستلزم علم المأموم به. وقد روى روح بن عبادة عن مالك في هذا الحديث عن ابن شهاب: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: ((ولا الضالين)) جهر بآمين. أخرجه السراج، ولابن حبان في هذا الحديث قال ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال: آمين. قاله الحافظ. وقال الخطابي في المعالم. (ج1: ص223) : فيه دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بآمين، ولولا جهره لم يكن لمن يتحرى متابعته في التأمين على سبيل المداركة طريق إلى معرفة، فدل أنه كان يجهر به جهرا يسمعه من وراءه، وقد روى وائل بن حجر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ: ((ولا الضالين)) قال آمين ورفع بها صوته –انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي وابن ماجه: قوله: "إذا أمن القارئ" أخذ منه المصنف الجهر بآمين، إذ لو أسر الإمام بآمين لما علم القوم بتأمين الإمام، فلا يحسن الأمر إياهم بالتأمين عند تأمينه، وهذا استنباط دقيق يرجحه ما جاء من التصريح بالجهر، وهذا هو الظاهر المتبادر، نعم قد يقال: يكفي في الأمر معرفتهم لتأمين الإمام بالسكوت عن القراءة، لكن تلك معرفة ضعيفة، بل كثيراً ما يسكت الإمام عن القراءة ثم يقول بآمين، بل الفضل بين القراءة والتأمين هو(3/119)
فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. وفي رواية، قال: ((إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللائق فيتقدم تأمين المقتدي على تأمين الإمام إذا اعتمد على هذه الأمارة-انتهى. وقال شيخنا في أبكار المنن (ص170) : إذا أسر الإمام التأمين لا يعلم المأموم تأمينه، فكيف يوقع المأموم تأمينه مع تأمين الإمام؟ وكيف يتوافق تأمينهما معاً؟ وليس من اللازم حينئذٍ أن يقع تأمينه مع تأمينه، بل يمكن أن يقع معه أو قبله أو بعده، وأما إذا جهر الإمام بالتأمين فيعلم المأموم تأمينه، فحينئذٍ يوقع تأمينه مع تأمينه، فيوافق تأمينهما معاً قطعاً-انتهى. واستدل بقوله: "فأمنوا" على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام؛ لأنه رتب عليه بالفاء، لكن المراد عند الجمهور المقارنة لما سيأتي. والمعنى: أمنوا مقارنين له. وعلله إمام الحرمين بأن التأمين لقراءة الإمام لا لتأمينه، فلذلك لا يتأخر عنه. وظاهر سياق الأمر أن المأموم إنما يؤمن إذا أمن الإمام لا إذا ترك. ونص الشافعي في الأم على أن المأموم يؤمن، ولو تركه الإمام سهواً أو عمداً، وهذا هو الحق للرواية التالية. ثم إن هذا الأمر عند الجمهور للندب، وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم عملاً بظاهر الأمر، قال: وأوجبه الظاهرية على كل مصل، ثم في مطلق أمر المأموم بالتأمين أنه يؤمن ولو كان مشتغلاً بقراءة الفاتحة. (فإنه من وافق) المراد بالموافقة الموافقة في القول والزمان، يدل عليه الرواية الآتية: "من وافق قوله قول الملائكة" خلافاً لمن قال: المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع، كابن حبان وغيره. (تأمينه تأمين الملائكة) قيل: المراد بالملائكة الحفظة، وقيل: الذين يتعاقبون منهم، إذا قلنا إنهم غير الحفظة. وقيل: من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء. وقيل: الأولى حمله على الأعم؛ لأن اللام للاستغراق فيقولها الحاضرون ومن فوقهم إلى الملأ الأعلى. (غفر له ما تقدم من ذنبه) ظاهره غفران جميع الذنوب الماضية، وهو محمول عند العلماء على الصغائر، وقيل: إن المكفر ليس التأمين الذي هو فعل المؤمن، بل وفاق الملائكة، وليس ذلك إلى صنعه، بل فضل من الله بمجرد وفاق، فيعم الكبائر والصغائر، لكن خص منها حقوق الناس. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. (وفي رواية) أي متفق عليها. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين) استدل به المالكية على أن الإمام لا يؤمن؛ لأن القسمة تنافي الشركة، وفيه أن هذه الرواية لا تدل على أن الإمام لا يؤمن، بل هي ساكتة عنه نفياً وإثباتاً، والرواية المتقدمة نص في معناه، وزاد في رواية أحمد والنسائي وابن حبان: أن الإمام يقول آمين، وهو نص لا يحتمل التأويل. ثم إن ظاهر الرواية الأولى من الحديث أن المؤتم يوقع التأمين عند تأمين الإمام، وظاهر الرواية منه أنه يوقعه عند قول الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [1: 7] وجمع الجمهور بين الروايتين بأن المراد بقوله: "إذا أمن" أي أراد التأمين ليقع تأمين الإمام والمأموم(3/120)
معاً، فإنه يستحب فيه المقارنة، يدل على هذا ما رواه أحمد والنسائي والسراج بلفظ: "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". وقيل: الأول لمن قرب عن الإمام، والثاني لمن تباعد عنه؛ لأن جهر الإمام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة. وقيل: يؤخذ من الروايتين تخيير المأموم في قولها مع الإمام أو بعده، قاله الطبري. وقيل: لا حاجة إلى الجمع بين الروايتين؛ لأن الجمع والتوفيق فرع التعارض والتخالف، ولا تخالف بين الروايتين، فإن المراد بقوله: "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين" أي وقال: آمين فقولوا آمين، أي مع تأمين الإمام، يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. قال الحافظ: وهو دال على أن المراد الموافقة في القول والزمان- انتهى. وهذا هو المراد بقوله: "إذا أمن الإمام فأمنوا، أي فقولوا آمين مقارنين بتأمينه. قال الخطابي في المعالم. (ج1: ص224) : معنى قوله: "إذا قال الإمام ولا الضالين، فقولوا آمين" أي مع الإمام، حتى يقع تأمينكم وتأمينه معاً، فأما قوله: إذا أمن الإمام فأمنوا. فإنه لا يخالفه ولا يدل على أنهم يؤخرونه عن وقت تأمينه، وإنما هو كقول القائل: إذا رحل الأمير فارحلوا، يريد إذا أخذ الأمير في الرحيل فتهيئوا للإرتحال، ليكون رحيلكم مع رحيله، وبيان هذا في الحديث الآخر أن الإمام يقول آمين والملائكة تقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، فأحب أن يجتمع التأمينان في وقت واحد رجاء المغفرة. قال: وقد احتج بقوله: "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا آمين" من ذهب إلى أنه لا يجهر بآمين، وقال ألا ترى أنه جعل وقت فراغ الإمام من قوله: "ولا الضالين" وقتاً لتأمين القوم فلو كان الإمام يقوله جهراً لا ستغنى بسماع قوله عن التحين له مراعاة وقته. قال: وهذا قد كان يجوز أن يستدل به لو لم يكن ذلك مذكوراً في حديث وائل بن حجر الذي تقدم ذكره، وإذا كان كذلك لم يكن فيما استدلوا به طائل، وقد يكون معناه: الأمر به والحض عليه إذا نسيه الإمام، يقول لا تغفلوه إذا أغفله الإمام ولا تتركوا إن نسيه، وأمنوا لأنفسكم لتحرزوا به الأجر- انتهى. وقال السندي: الأقرب أن أحد اللفظين من تصرفات الرواة وحينئذٍ فرواية: "إذا أمن" أشهر وأصح، فهي أشبه أن تكون هي الأصل، والله أعلم- انتهى. وقوله: "آمين" بالمد والتخفيف في جميع الروايات، وعن جميع القراء، وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي الإمالة، وفيها لغات أخرى شاذة. وهي من أسماء الأفعال، وتفتح في الوصل؛ لأنها مبنية بالاتفاق، مثل كيف، ومعناه: اللهم استجب. عند الجمهور، وقيل: غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى، مثل: ليكن كذلك، وأقبل، ولا تخيب رجاءنا، ولا يقدر على هذا غيرك. وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى. تنبيه: اعلم أنه استدل البخاري بقوله: "إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين" على الجهر بالتأمين للمأمومين، حيث ترجم عليه: "باب جهر المأموم(3/121)
فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) . هذا لفظ البخاري، ولمسلم نحوه. وفي أخرى للبخاري، قال: ((إذا أمن القاري فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالتأمين" ووجه الأخذ منه على ما قال الزين بن المنير: إن في الحديث الأمر بقول آمين والقول إذا وقع به الخطاب مطلقاً حمل على الجهر، ومتى أريد به الإسرار وحديث النفس قيد بذلك. وقال ابن الرشيد: تؤخذ مناسبة الحديث للترجمة من جهات: منها أنه قال: "إذا قال الإمام فقولوا" فقابل القول بالقول، والإمام إنما قال ذلك جهراً، فكان الظاهر الاتفاق في الصفة. ومنها أنه قال: "فقولوا" ولم يقيده بجهر ولا غيره، وهو مطلق في سياق الإثبات، وقد عمل به في الجهر بدليل ما تقدم، يعني في مسألة الإمام، والمطلق إذا عمل به صورة لم يكن حجة في غيرها باتفاق. ومنها أنه تقدم أن المأموم مأمور بالإقتداء بالإمام، وقد تقدم أن الإمام يجهر فلزم جهره بجهره- انتهى. وتعقب بأنه يستلزم أن يجهر المأموم بالقراءة لأن الإمام جهر بها، لكن يمكن أن ينفصل عنه بأن الجهر بالقراءة خلف الإمام قد نهي عنه فبقى التأمين داخلاً تحت عموم الأمر بإتباع الإمام، ويتقوى ذلك بما تقدم عن عطاء: أن من خلف ابن الزبير كانوا يؤمنون جهراً، وروى البيهقي من وجه آخر عن عطاء، قال: أدركت مائتين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المسجد إذا قال الإمام: (. (ولا الضالين)) سمعت لهم رجة بآمين، كذا في الفتح. (هذا لفظ للبخاري) ، وأخرجه أيضاً بهذا اللفظ مالك وأبوداود والنسائي. (ولمسلم نحوه) بمعناه. (وفي أخرى للبخاري) في باب التأمين من كتاب الدعوات. (قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (إذا أمن القارئ) قال الحافظ: المراد بالقارئ هنا الإمام إذا قرأ في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد بالقارئ أعم من ذلك- انتهى. قلت: الظاهر أن المراد به هو الإمام إذا قرأ في الصلاة؛ لأن الحديث واحد اختلفت ألفاظه من تصرف الرواة. قيل: الحديث يدل على أن الإمام هو القارئ دون المأموم. وأن المأموم إنما ينتظر فراغه من الفاتحة حتى يقول آمين. وتعقب: بأن الأصح الأشهر رواية: "إذا أمن الإمام، والرواية الأخرى من تصرف الراوي، فالأولى هي العمدة، وبأن إطلاق القارئ على الإمام إنما هو لأنه يجهر بالقراءة بخلاف المقتدي. لا لأن القراءة مختصة بالإمام، وهذا لا يقتضي في القراءة السرية عن المأموم، والمعنى: إذا أمن الإمام بعد الفراغ عن قراءة الفاتحة فأمنوا، وهذا هو معنى قوله: "إذا قال الإمام: (. (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) فقولوا آمين"، ولم يقل أحد: إن هذا يدل على نفي القراءة عن المأموم وحصرها في الإمام، ويمكن أن تحمل هذه الرواية الأخرى على معنى: أن القارئ أي الإمام إذا مر بآية مشتملة على الدعاء بعد الفاتحة وأمن فقولوا آمين، فأطلق لفظ القارئ من حيث أنه ينفرد بقراءة ما فوق الفاتحة دون المقتدي. ورواية البخاري هذه أخرجها أيضاً النسائي وابن ماجه، وفي رواية لأبي داود وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3/122)
832- (5) وعن أبي موسى الأشعري، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين؛ يحبكم الله. فإذا كبر وركع، فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فتلك بتلك)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذا قال: (. (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) قال آمين. حتى يسمع من يليه من الصف الأول. وزاد ابن ماجه: فيرتج بها المسجد. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه.
832- قوله: (إذا صليتم) أي أردتم الصلاة. (فأقيموا صفوفكم) أي عدلوها، وسووها، وتراصوا فيها بحيث لا يكون فيها اعوجاج ولا فرج. فالمراد بإقامة الصفوف تسويتها واعتدال القائمين فيها على خط مستقيم وسمت واحد، والتراص فيها، وتتميمها الأول فالأول، وسد الخلل الذي في الصف، وعدم الفرج. قال العيني: وهي أي تسوية الصف من سنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم أنه فرض، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، وإقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. (ثم ليؤمكم أحدكم) فيه الأمر بالجماعة في المكتوبات، ولا خلاف في ذلك، ولا ينافي هذا ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: يؤم القوم أقرأهم، الخ.؛ لأنه لبيان الأفضل، وذلك لبيان حصول أصل الجماعة، أو محمول على استواء الجميع في السن والفضيلة. (فإذا كبر فكبروا) فيه أمر المأموم بأن يكون تكبيرة عقب تكبير الإمام فلا يكبر قبل الإمام ولا معه بل بعده؛ لأن الفاء للتعقيب. (وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين) أي وقال: آمين. (فقولوا: آمين) أي مع تأمينه ليتوافق التأمينان معاً. واستدل بهذا الحديث بعض الحنفية على ترك الفاتحة خلف الإمام؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرهم بقراءتها والمقام مقام التعليم، وقال بعضهم: في قوله: "إذا قال: غير المغضوب عليهم" الخ. إشارة إلى السكوت والاستماع. قلت: قد أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة غير مرة فترك ههنا لظهور أمرها وشهرة شأنها، واعتماداً على ما أكد الأمر فيها فلم يكن حاجة إلى أن يذكرها كل مرة، كيف ولم يذكر ههنا دعاء الاستفتاح، والتعوذ، ووضع اليدين، وغير ذلك من السنن وبعض الواجبات، والمقام مقام التعليم، ومع ذلك اتفقوا على مشروعيتها لكونها ثابتة من أحاديث أخرى، فليكن هكذا أمر الفاتحة خلف الإمام، ولا عبرة بالإشارة والمفهوم في مقابلة النص الصريح والمنطوق. (يحبكم الله) بالجزم جواب الأمر، أي يستجب لكم، وهذا حث عظيم على التأمين فيتأكد الاهتمام به. (فإذا كبر وركع، فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم) معناه: اجعلوا تكبيركم للركوع وركوعكم بعد تكبيره وركوعه، وكذلك رفعكم من الركوع يكون بعد رفعه. (فتلك بتلك) أي فتلك اللحظة التي تقدمكم إمامكم مجبورة بتلك اللحظة التي تأخرتم عنه. قال النووي: معناه أي تلك اللحظة التي سبقكم الإمام بها في تقدمه إلى الركوع ينجبر لكم بتأخركم في الركوع بعد رفعه لحظة،(3/123)
قال: ((وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم)) رواه مسلم.
833- (6) وفي رواية له عن أبي هريرة وقتادة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فتلك اللحظة بتلك اللحظة، وصار قدر ركوعكم كقدر ركوعه، وكذلك في السجود. وقال الخطابي في المعالم. (ج1: ص230) : فيه وجهان: أحدهما أن يكون ذلك مردوداً إلى قوله: "وإذا قرأ الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، يحبكم الله" يريد أن كلمة آمين يستجاب بها الدعاء الذي تضمنه السورة أو الآية، كأنه قال: فتلك الدعوة مضمنة بتلك الكلمة أو معلقة بها، أو ما أشبه ذلك من الكلام. والوجه الآخر أن يكون ذلك معطوفاً على ما يليه من الكلام: "وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا" يريد أن صلاتكم متعلقة بصلاة إمامكم فاتبعوه، وائتموا به، ولا تختلفوا عليه، فتلك إنما تصح وتثبت بتلك. (وإذا قال) أي الإمام. (سمع الله لمن حمده) أي استجاب الله دعاء من حمده. (يسمع الله لكم) بكسر العين، أي يستجيب لكم ويقبله، وكان مجزوماً لجواب الأمر فحرك بالكسر. وفيه دلالة على استحباب الجهر من الإمام بالتسميع ليسمعوه فيقولون. واستدل به من يقول: إن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده فقط، والمأموم: اللهم ربنا لك الحمد فقط؛ لأن القسمة بين الذكرين تقطع الشركة. ويجاب: بأن أمر المؤتم بالحمد عند تسميع الإمام لا ينافي فعله له، كما أنه لا ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قال الإمام ولا الضالين، فقولوا: آمين" قراءة المؤتم للفاتحة. وكذلك أمر المؤتم بالتحميد لا ينافي مشروعية للإمام، كما لا ينافي أمر المؤتم بالتأمين، تأمين الإمام. وقد استفيد التحميد للإمام والتسميع للمؤتم من أدلة أخرى، قاله الشوكاني. وقال شيخنا في أبكار المنن (ص220) : ورد هذا الاستدلال بأن غرضه - صلى الله عليه وسلم - من هذا القول ليس للقسمة بين الإمام والمقتدي. بل ذكر وقت تحميد المقتدي أنه عند قول الإمام: "سمع الله لمن حمده" وهو ساكت عن تحميد الإمام إثباتاً ونفياً- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي.
833- قوله: (وفي رواية له) أي لمسلم، وكذا لأبي داود، وابن ماجه أيضاً. (عن أبي هريرة وقتادة) أي وعن قتادة، فيكون أثرا موقوفاً على قتادة لا حديثاً مرفوعاً، وإليه أشار النووي بقوله: لاسيما لم يروها مسندة في صحيحه، فكأن المصنف وافق النووي في جعل هذه الزيادة غير مسندة. وفيه نظر: فإن هذه الزيادة ليست موقوفة على قتادة من قوله، بل هي مرفوعة متصلة رواها مسلم مسنده في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري من طريق جرير، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن يونس بن جبير أبي غلاب، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى الأشعري، وهذا ظاهر غير خفي لمن يتأمل في سياق الحديث عند مسلم. والظاهر عندي: أن معنى قول المصنف: وقتادة، أي وعن قتادة عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله، عن أبي موسى، فيكون إشارة إلى أن هذه الزيادة رواها مسلم من حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي موسى أيضاً لكن من طريق جرير، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن يونس بن جبير، الخ. تنبيه:(3/124)
((وإذا قرأ فأنصتوا)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظاهر عبارة المصنف يقتضي أن هذه الزيادة أخرجها مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، وليس كذلك، بل يفهم من كلام مسلم أنه لم يخرج حديث أبي هريرة هذا أصلاً، فإن في كتابه بعد إيراد حديث أبي موسى وذكر هذه الزيادة من رواية جرير عن سليمان التيمي عن قتادة: "قال أبوبكر بن أخت أبي النضر: فحديث أبي هريرة يعني: وإذا قرأ فأنصتوا؟ فقال مسلم: هو عندي صحيح، فقال: لِم لم تضعه ههنا؟ فقال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما اجتمعوا عليه" انتهى. وحديث أبي هريرة هذا قد ذكره المصنف في الفصل الثاني، ويأتي الكلام عليه هناك. (وإذا قرأ فأنصتوا) أي اسكتوا للاستماع، وهذا لا يكون إلا حالة الجهر، قاله السندي. وقد احتج بذلك القائلون عن المؤتم لا يقرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وهم إسحاق بن راهويه وأحمد ومالك والحنفية، لكن الحنفية قالوا: لا يقرأ خلف الإمام لا في سرية ولا جهرية. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [7: 204] قال ابن الهمام في فتح القدير: حاصل الاستدلال بالآية أن المطلوب أمران: الاستماع والسكوت، فيعمل بكل منهما، والأول يخص الجهرية والثاني لا، فيجري على إطلاقه، فيجب السكوت عند القراءة مطلقاً- انتهى. وبقوله: إذا قرأ فأنصتوا، في حديث أبي موسى، وفي حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني، قال العيني: هذا حجة صريحة في أن المقتدي لا يجب عليه أن يقرأ خلف الإمام أصلاً على الشافعي في جميع الصلوات، وعلى مالك في الظهر والعصر- انتهى. قلت: الاستدلال بالآية وبقوله: "إذا قرأ فأنصتوا" على منع القراءة خلف الإمام في الصلوات الجهرية أو مطلقاً غير صحيح. أما الآية فلأن صحة الاستدلال بها موقوفة على أن يكون الخطاب فيها مع المسلمين وهو ممنوع، بل الظاهر أن الخطاب فيها مع الكفار، قال الفخر الرازي في تفسيره: لا شك أن قوله: {فاستمعوا له وأنصتوا} أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجباً، وللناس فيه أقوال. (إلى أن قال) : وفي الآية قول خامس: وهو أنه خطاب مع الكفار في ابتداء التبليغ وليس خطاباً مع المسلمين، وهذا قول حسن مناسب- انتهى. ثم ذكر الرازي تقرير هذا القول، من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى تفسيره. وما قيل: أنه أجمع الناس على أن هذه الآية نزلت في الصلاة، فهو ادعاء محض، لم يقم عليه دليل صحيح. ويرده: أن في سبب نزولها أقوالاً وروايات مختلفة عن الصحابة ومن بعدهم: منها أنها نزلت في السكوت عند الخطبة. ويرده أيضاً: أن الصحابة قد اختلفوا في القراءة خلف الإمام، وقد قال بها أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم كما صرح به الترمذي. ويرده أيضاً: قول ابن المبارك: أنا أقرأ خلف الإمام، والناس يقرأون إلا قوم من الكوفيين. ويرده أيضاً أن أحمد اختار القراءة خلف الإمام، وأن لا يترك الرجل فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام، كما ذكره الترمذي. وأما ما قيل: أن الخطاب في هذه الآية وإن كان مع الكفار لكن قد تقرر في مقره(3/125)
أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيجري لفظ الآية على عمومه، ويشمل حكمه المورد وغيره، فتدل هذه الآية بعمومها على وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن مطلقاً ففيه: أنه لا شك في أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، لكن قد تقرر أيضاً في مقره أن اللفظ لو يحمل على عمومه يلزم التعارض والتناقض، ولو يحمل على خصوص السبب يندفع التعارض، فحينئذٍ يحمل على خصوص السبب. قال ابن الهمام في فتح القدير: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ليس من البر الصيام في السفر، محمول على أنهم استضروا به، بدليل ما ورد في صحيح مسلم في لفظ: إن الناس قد شق عليهم الصوم، والعبرة وإن كان لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن يحمل عليه دفعاً للمعارضة بين الأحاديث، الخ. فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لو يحمل قوله: {وإذا قرئ القرآن} على عمومه لزم التعارض والتناقض بينه وبين قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [73: 20] وأحاديث القراءة خلف الإمام، ولو يحمل على خصوص السبب يندفع التعارض، فحينئذٍ يحمل على خصوص السبب. ولو تنزلنا واعتبرنا عموم لفظها بل سلمنا أن فيها الخطاب مع المسلمين فعلى هذا التقدير أيضاً الاستدلال بها على منع القراءة خلف الإمام في الجهرية أو مطلقاً ليس بصحيح لوجوه كثيرة: منها أن هذه الآية ساقطة عن الاستدلال عند الحنفية كما صرحوا به في كتب الأصول، ففي نور الأنوار (ص191) : وحكمها بين الآيتين المصير إلى السنة؛ لأن الآيتين إذا تعارضتا تساقطتا فلا بد للعمل من المصير إلى ما هو بعده وهو السنة، ولا يمكن المصير إلى الآية الثالثة؛ لأنه يفضي إلى الترجيح بكثرة الأدلة وذلك لا يجوز، ومثاله قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} مع قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} فإن الأول بعمومه يوجب القراءة على المقتدي، والثاني بخصوصه ينفيه، وقد وردا في الصلاة جميعاً فتساقطا، فيصار إلى حديث بعده، وهو قوله - عليه السلام -: من كان له إمام فقرأه الإمام له قراءة- انتهى. وقال مسعود بن عمر سعد الدين التفتازاني- الذي جعله طائفة حنفياً كابن نجيم وعلي القاري، وجعله بعضهم شافعياً كصاحب كشف الظنون والكفوي والسيوطي- في التلويح حاشية التوضيح شرح التنقيح، في باب المعارضة والترجيح: مثال المصير إلى السنة عند تعارض الآيتين قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} وقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} تعارضنا فصرنا إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من كان له إمام فقراءه الإمام له قراءة- انتهى. ومنها أن الآية إنما أمرت باستماع القرآن والإنصات له، وهذا لا يقتضي وجوب سكوت المقتدي مطلقاً بأن لا يقرأ في نفسه أيضاً، فإن الإنصات هو ترك الجهر، والعرب يسمى تارك الجهر منصتاً وإن كان يقرأ في نفسه وسرا إذا لم يسمع أحد قراءته، وقد حقق ذلك البيهقي في كتاب القراءة، وعلى هذا فالدليل غير مثبت للمرام، والتقريب غير تام، وقد يقرر هذا الوجه بأن قوله: {وإذا قرئ القرآن} الخ، إنما ينفي القراءة خلف الإمام جهرا ويرفع الصوت، فإنها تشغل عن استماع القرآن، وأما القراءة خلفه في النفس وبالسر فلا ينفيها، فإنها لا تشغل عن الاستماع فنحن نقرأ الفاتحة خلف الإمام عملاً بأحاديث القراءة خلف(3/126)
الإمام في النفس وسراً، ونستمع القرآن عملاً بقوله: {وإذا قرئ القرآن} والإشغال بأحدهما لا يفوت الآخر، ألا ترى أن الفقهاء الحنفية يقولون: إن استماع الخطبة يوم الجمعة واجب لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن} ومع هذا يقولون إذا قرأ الخطيب: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] فيصلي السامع في النفس وسراً. ومنها أن كتب المذاهب الثلاثة الشافعية والمالكية والحنابلة قد صرحت بجواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد عند الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة كما في المحصول، والمختصر، وشرحه للعضد، وشرح الأسنوي على المنهاج للقاضي البيضاوي، والمستصفى، وروضة الناظر، وإرشاد الفحول، وغيرها، فلو سلمنا أن قوله: {وإذا قرئ القرآن} عام فحديث عبادة أخص منه، فيخص به عموم الآية، وتحمل على ما عدا الفاتحة، أو على غير المقتدي. قال الرازي في تفسيره: السؤال الثالث وهو المعتمد أن تقول: الفقهاء أجمعوا على أنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، فهب أن عموم قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} يوجب سكوت المأموم عند قراءة الإمام إلا أن قوله - عليه السلام -: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. وقوله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. أخص من ذلك العموم، وثبت أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لازم فوجب تخصيص هذه الآية بهذا الخبر، وهذا السؤال حسن انتهى. وفي تفسير النيسابوري: وقد سلم كثير من الفقهاء عموم اللفظ. إلا أنهم جوزوا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وذلك ههنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب- انتهى. ومنها أن الآية لا تدل إلا على وجوب الاستماع والإنصات أي السكوت له، وهذا مختص بالجهرية لا يتعدى إلى غيرها، فإن الاستماع والسكوت له لا يكون في السرية، فلو سلم أن هذه الآية تدل على منع القراءة خلف الإمام فإنما تدل على المنع في الجهرية دون السرية فيكون المدعى عاماً والدليل خاصاً. ومنها أن الآية لا تدل إلا على وجوب الإنصات حال قراءة الإمام لاستماعه، لا على السكوت مطلقاً؛ لأن المأمور في الآية الاستماع والإنصات، والاستماع لا يمكن وجوده إلا حال القراءة، والإنصات ليس عبارة عن السكوت مطلقاً بل عن سكوت مستمع. قال الرازي في تفسيره: الإنصات سكوت مع استماع، ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات. قال تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} . وقال العيني في شرح البخاري: الإنصات هو السكوت مع الإصغاء. وقال محمد بن أبي بكر الرازي في جواهر القرآن: "أنصتوا" اسكتوا سكوت مستمعين. يقال: نصت وأنصت وأنصت له، كله بمعنى واحد، أي سكت مستمعاً. وقال الجزري في النهاية: قد تكرر ذكر الإنصات في الحديث، يقال أنصت ينصت إنصاتاً. إذا سكت سكوت مستمع. وقال الفتني في مجمع البحار: باب الإنصات للعلماء، أي السكوت والاستماع لأجل ما يقولون- انتهى. ومثله كثير في كتب اللغة، وغريب القرآن، والحديث، وشروح الحديث، فلا وجود للإنصات أيضاً إلا حال القراءة، فالقول بأن الاستماع في الجهرية والإنصات بمعنى السكوت في السرية باطل،(3/127)
فيقرأ المأموم الفاتحة في سكتات الإمام في الجهرية، وينصت عند القراءة، ويكون عاملاً بالقرآن والسنة جميعاً. قال الإمام البخاري في جزء القراءة: قيل له احتجاجك بقول الله تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} أرأيت إذا لم يجهر الإمام يقرأ خلفه؟ فإن قال: لا. بطل دعواه؛ لأن الله تعالى قال: (. (فاستمعوا له وأنصتوا} وإنما يستمع لما يجهر، مع أنا نستعمل قول الله: {فاستمعوا له} نقول: يقرأ خلف الإمام عند السكتات- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في إمام الكلام (ص107) : الإنصاف الذي يقبله من لا يميل إلى الاعتساف أن الآية المذكورة التي استدل بها أصحابنا على مذهبهم لا تدل على عدم جواز القراءة في السرية، ولا على عدم جواز القراءة في حال الجهرية عند السكتة، وقال: الاستدلال بها على وجوب الإنصات مطلقاً سرية كانت أو جهرية في حال السكتة وفي حال القراءة غير تام إلا بتأويلات ركيكة، لا يقبلها ذو الفهم التام- انتهى. وههنا وجوه أخرى تدل كلها على أن استدلال الحنفية بها على مطلوبهم المذكور ليس بصحيح، ولا يثبت بها مدعاهم. وقد ذكرها شيخنا في كتابه: "تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام". وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قرأ فأنصتوا، فقد أجمع أكثر الحفاظ على أنه وهم من الراوي، وأنه ليس بصحيح، منهم البخاري وأبوداود وأبوحاتم وابن معين والحاكم والدارقطني وابن خزيمة ومحمد بن يحيى الذهلي، والحافظ أبوعلى النيسابوري والحافظ على بن عمرو البيهقي، وصححه أحمد ومسلم، ولا شك أن عدد المضعفين أكثر من عدد من صححه بأضعاف، فيقدم تضعيفهم على تصحيح مسلم ومن وافقه، وقد حقق وقرر شيخنا في أبكار المنن (ص150-153) وتحقيق الكلام. (ج2: ص81-94) كون هذه اللفظة غير صحيحة، وأشبع الكلام في ذلك فارجع إلى هذين الكتابين. ولو سلم أن هذه اللفظة في حديث أبي موسى وأبي هريرة صحيحة محفوظة فالاستدلال بها على منع القراءة خلف الإمام ليس بصحيح، كما أن الاستدلال على هذا المطلوب بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن} ليس بصحيح كما عرفت، وعلى عدم صحة الاستدلال بها على المنع وجوه أخرى مذكورة في: "تحقيق الكلام". منها أن قوله وإذا قرأ فأنصتوا محمول على ما عدا الفاتحة جمعاً بين الأحاديث. قال الحافظ في الفتح: واستدل من أسقطها عنه في الجهرية كالمالكية بحديث: وإذا قرأ فأنصتوا، ولا دلالة فيه لإمكان الجمع بين الأمرين فينصت فيما عدا الفاتحة، أو ينصت إذا قرأ الإمام ويقرأ إذا سكت. وقال الإمام البخاري في جزء القراءة: ولو صح لكان يحتمل سوى الفاتحة، وأن قرأ فيما سكت الإمام، ويؤيد هذا أن أبا هريرة كان يفتي بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام في جميع الصلوات جهرية كانت أو سرية، وهو راوي حديث: وإذا قرأ فأنصتوا، أيضاً. وارجع إلى المحلي. (ج3: ص241) لابن حزم فقد أوضح ذلك الجواب فيه. واستدل أيضاً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو كتاب مبسوط في اللغة الأردية، مفرد في هذه المسألة، عديم النظير، قد تم في جزئين كبيرين: الجزء الأول في ذكر وجوب خلف الإمام من الأحاديث وآثار الصحابة والتابعين، والجزء الثاني في ذكر مستدلات من ذهب إلى عدم الوجوب، أو المنع والكراهة في الجهرية، أو مطلقاً مع الجواب عن كل دليل بعدة وجوه، فعليك أن ترجع إليه.(3/128)
الحنفية بحديث جابر: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة. أخرجه الطحاوي والدارقطني وغيرهما. والجواب عنه أن هذا الحديث بجميع طرقه ضعيف كما بينه شيخنا في أبكار المنن وتحقيق الكلام. قال الحافظ في الفتح: واستدل من أسقطها عن المأموم مطلقاً كالحنفية بحديث: من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام له قراءة، لكنه ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه، وعلله الدارقطني وغيره- انتهى. وقال في التلخيص: حديث: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة وكلها معلولة- انتهى. وقال ابن كثير في تفسيره بعد ما ذكره عن مسند أحمد بن حنبل: في إسناد ضعف، ورواه مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر من كلامه، وقد روي هذا الحديث من طرق لا يصح شيء منها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى. وقال البخاري في جزء القراءة: هذا الخبر لم يثبت عند أهل العلم من أهل الحجاز وأهل العراق وغيرهم لإرساله وانقطاعه- انتهى. ولو سلم أن هذا الحديث صحيح فقد أجيب عنه بوجوه كثيرة ذكرها شيخنا في: "تحقيق الكلام" من شاء الوقوف عليها رجع إليه. فمنها أن هذا الحديث معارض بقوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} ، فإنه بعمومه نص صريح في أن المقتدى لا بد له من قراءة حقيقية خلف الإمام، وهذا الحديث يدل على منع القراءة الحقيقية خلف الإمام على قول أكثرهم، أو يدل على أن المقتدي لا حاجة له أن يقرأ خلف الإمام قراءة حقيقية، بل قراءة إمامه تكفيه، فلا يجوز تركه بخبر الواحد، وأما قول العيني: جعل المقتدي قارئا بقراءة الإمام، فلا يلزم الترك، فمبني على عدم التدبر، فإنه ليس المراد بقوله: من كان له إمام، الخ. إلا أن قراءة الإمام تكفي المقتدى، ولا حاجة له إلى القراءة الحقيقية، فلو يقبل هذا الحديث ويعمل به يلزم الترك بلا شبه. ومنها ما قال البخاري في جزء القراءة: فلو ثبت الخبران كلاهما لكان هذا مستثنى من الأول لقوله: لا يقرأن إلا بأم الكتاب. وقوله: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة، جملة، وقوله: "إلا بأم القرآن" مستثنى من الجملة كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ثم قال في أحاديث أخر: إلا المقبرة، وما استثناه من الأرض، والمستثنى خارج من الجملة، وكذلك فاتحة الكتاب خارج من قوله: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة، مع انقطاعه- انتهى. ومنها أن هذا الحديث وارد فيما عدا الفاتحة، قال الشيخ عبد الحي اللكنوى في إمام الكلام (ص150) : قد يقال: إن مورد هذا الحديث هو قراءة رجل خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - {سبح اسم ربك الأعلى} [87: 1] في الظهر أو العصر كما مر من طرق عن جابر، فهو شاهد لكونه وارداً فيما عدا الفاتحة- انتهى. والعبرة وإن كانت لعموم اللفظ لا لخصوص المورد لكن قد يحمل الحديث على خصوص مورده إذا حصل بذلك الجمع بين الأحاديث المتعارضة دفعاً للتعارض، فحديث جابر هذا يحمل على خصوص مورده أي ما عدا الفاتحة؛ لأنه يحصل بذلك الجمع بين الأحاديث ويندفع التعارض. وقال الزيلعي في نصب الراية: وحمل البيهقي هذا الأحاديث على ما عدا الفاتحة، واستدل بحديث عبادة أن(3/129)
النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الفجر ثم قال: لعلكم تقرأون خلف إمامكم، قلنا: نعم. قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب. وأخرجه أبوداود بإسناد رجاله ثقات، وبهذا يجمع بين الأدلة المثبتة للقراءة والنافية- انتهى. ومنها ما قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في إمام الكلام (ص50) : إن هذا الحديث يعني حديث من كان له إمام، الخ. ليس بنص على ترك الفاتحة بل يحتملها ويحتمل قراءة ما عداها، وتلك الروايات يعني روايات عبادة وغيره في القراءة خلف الإمام تدل على وجوب قراءة الفاتحة أو استحسانها نصاً، فينبغي تقديمها عليه قطعاً-انتهى. وقال فيه أيضاً: حديث عبادة نص في قراءة الفاتحة خلف الإمام، وأحاديث النهي والترك لا تدل على تركها نصاً بل ظاهراً، وتقديم النص على الظاهر عند تعارضهما منصوص في كتب الأعلام- انتهى. وقال الحازمي في كتاب الاعتبار: الوجه الثالث والثلاثون أن يكون الحكم الذي تضمنه أحد الحديثين منطوقاً به، وما تضمنه الحديث الآخر يكون محتملاً، يعني فيقدم الأول على الثاني. ومنها: أن هذا الحديث منسوخ عند الحنفية فلا يصح الاستدلال به على منع القراءة خلف الإمام، وتقرير النسخ أن جابراً راوي هذا الحديث كان يقرأ خلف الإمام كما روي ابن ماجه بسند صحيح عنه، وكذلك روى هذا الحديث أبوهريرة، وأنس، وأبوسعيد، وابن عباس، وعلي، وعمران بن حصين - رضي الله عنهم، وكان كل من هؤلاء يقرأ الفاتحة خلف الإمام ويفتي بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقراءتها، بعضهم في جميع الصلوات، وبعضهم في السرية فقط. وقد تقرر عند الحنفية أن عمل الصحابي وفتواه على خلاف حديثه يدل على نسخه، فهذا الحديث عند الحنفية منسوخ، وإن شئت الاطلاع على الأجوبة الأخرى فعليك أن تطالع تحقيق الكلام. تنبيه: قال شيخنا في شرح الترمذي: أعلم أن الحنفية قد استدلوا على منع القراءة خلف الإمام ببعض آثار الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، كأثر زيد بن ثابت، قال: لا قراءة مع الإمام في شيء. رواه مسلم، وأخرج الطحاوي عن زيد، وجابر، وابن عمر، أنهم قالوا: لا يقرأ خلف الإمام في شيء من الصلوات. قلت: احتجاجهم بهذه الآثار ليس بشيء، فإن الأئمة الحنفية كالشيخ ابن الهمام وغيره قد صرحوا بأن قول الصحابي حجة ما لم ينفه شيء من السنة، وقد عرفت أن الأحاديث المرفوعة الصحيحة الصريحة دالة على وجوب القراءة خلف الإمام، فهي تنفي هذه الآثار فكيف يصح الاحتجاج بها. قال صاحب إمام الكلام: صرح ابن الهمام وغيره أن قول الصحابي حجة ما لم ينفح شيء من السنة، ومن المعلوم أن الأحاديث المرفوعة دالة على إجازة قراءة الفاتحة خلف الإمام، فكيف يؤخذ بالآثار وتترك السنة- انتهى. وأيضاً قد صرحوا بأن حجية آثار الصحابة إنما تكون مفيدة إذا لم يكن الأمر مختلفاً فيه بينهم كما في التوضيح، ونور الأنوار، والأمر فيما نحن فيه ليس كذلك، بل فيه إختلاف الصحابة، فكيف يصح احتجاجهم بهذه الآثار، فلا بد أن تحمل على قراءة السورة التي بعد الفاتحة، أو على الجهر بالقراءة مع الإمام؛ لئلا تخالف الأحاديث المرفوعة الصحيحة. قال النووي في شرح مسلم: والثاني أنه أي قول زيد بن ثابت محمول على قراءة السورة(3/130)
834- (7) وعن أبي قتادة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التي بعد الفاتحة في الصلاة الجهرية، فإن المأموم لا يشرع له قراءتها، وهذا التأويل متعين ليحمل قوله على موافقة الأحاديث الصحيحة-انتهى. وقال البيهقي في كتاب القراءة: وهو أي قول زيد محمول عندنا الجهر بالقراءة مع الإمام، وما من أحد من الصحابة وغيرهم من التابعين قال في هذه المسألة قولاً يحتج به من لم ير القراءة خلف الإمام إلا وهو يحتمل أن يكون المراد به ترك الجهر بالقراءة-انتهى.
834- قوله: (في الأوليين) بيائين وضم الهمزة، تثنية الأولى وكذا الأخريين. (بأم الكتاب) أي في كل ركعة منهما. (وسورتين) أي في كل ركعة سورة، ويدل على ذلك ما ثبت من حديث أبي قتادة في رواية للبخاري بلفظ: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة. واستدل به على أن قراءة سورة أفضل من قراءة قدرها من طويلة، وكأنه مأخوذ من قوله: كان يفعل؛ لأنها تدل على الدوام أو الغالب. (وفي الركعتن الأخريين بأم الكتاب) ظاهره أنه لا يزيد على أم الكتاب في الأخريين، ويدل حديث أبي سعيد الآتي على أنه كان يقرأ في الأخريين من الظهر غيرها معها، ويزيده دلالة على ذلك ما وقع في رواية لمسلم من هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال نصف ذلك. قال الأمير اليماني: ولعل حديث أبي قتادة أرجح من حديث أبي سعيد من حيث الرواية؛ لأنه اتفق عليه الشيخان، ومن حيث الدراية؛ لأنه إخبار مجزوم به، وخبر أبي سعيد انفرد به مسلم، ولأنه خبر عن حزر وتقدير وتظنن. ويحتمل أن يجمع بينهما بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع هذا تارة فيقرأ في الأخريين غير الفاتحة معها، ويقتصر فيهما أحياناً فتكون الزيادة عليها فيهما سنة تفعل أحياناً وتترك أحياناً-انتهى. قلت: الجمع بينهما عندي أولى من الترجيح، فالظاهر أنه يجوز الزيادة على الفاتحة في الأخريين من غير كراهة، ويؤيده ما رواه مالك في المؤطا عن أبي عبد الله الصنابحي: أنه سمع أبى بكر يقرأ في الثالثة في المغرب: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [3: 8] الآية. وحمل الباجي وابن قدامة فعل أبي بكر هذا على أنه كان على معنى الدعاء لا على معنى أنه قرن قراءته على حسب ما تقرن بها السورة. وفيه: أن هذا الحمل يحتاج إلى دليل، وهو مفقود فلا يصغى إليه، ويؤيد أيضاً ما تقدم من كون الزيادة على الفاتحة في غير الأوليين جائزة من غير كراهة بل سنة ما رواه مالك أيضاً عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يقرأ في الأربع جميعاً، في كل ركعة بأم القرآن وسورة من القرآن. والظاهر أن الصلاة كانت فريضة لما في رواية محمد في هذا الأثر في الأربع جميعاً من الظهر والعصر. قال النووي: استحسن الشافعي قراءة السورة مع الفاتحة في الأخريين في الجديد دون القديم، والقديم هنا أصح، وهو مذهب مالك. قلت: وهو قول(3/131)
ويسمعنا الآية أحيانا، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطيل في الركعة الثانية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد. وعند الحنفية فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ضم السورة يوجب سجدة السهو. والثاني: أنه لا يوجب لكن يكره. والثالث: أنه لا يسن ولا يكره. وهو قول فخر الإسلام، وحقق الشامي أنه لو زاد على الفاتحة يكون خلاف الأفضل. (ويسمعنا الآية) من الإسماع أي يقرأ بحيث تسمع الآية من جملة ما يقرأ. وللنسائي من حديث البراء: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات. ولابن خزيمة من حديث أنس نحوه، لكن قال: بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية. وهذه الأحاديث دليل على أنه لا يجب الإسرار في السرية، وأن الجهر بالشيء اليسير من الآيات في الصلاة السرية جائز مغتفر لا يوجب سهواً يقتضي السجود. واختلف الحنفية في وجوب سجدة السهو إذا جهر في السرية، فقيل: تجب ولو بكلمة، وقيل بآياته تامة، وقيل بأكثر من الآية، وأحاديث الباب ترد هذه الأقوال كلها سواء. قلنا: كان يفعل ذلك عمداً لبيان الجواز كما هو الظاهر من لفظ الإسماع، أو بغير قصد للاستغراق في التدبر، أو ليعلمهم أنه يقرأ، أو يقرأ سورة كذا ليتأسوا به. واعلم أن الجهر في مواضع الجهر والإسرار في مواضع الإسرار في الجهرية، والإسرار في السرية سنة عند الشافعي وأحمد، فإن فعل خلاف ذلك، أي جهر فيما يسر فيه، أو أسر فيما يجهر فيه كره ذلك، وأجزأه، وتمت صلاته، ولا سجود سهو فيه. وهو قول الظاهرية، وهو الحق. والدليل على ذلك أن الجهر فيما يجهر فيه، والإسرار فيما يسر فيه إنما هما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليسا أمراً منه، وأفعاله- عليه السلام - على الإتساء، لا على الوجوب، وإنما كره خلاف ذلك لأن الجمهور من فعله- عليه السلام -كان الجهر في الجهرية، والإسرار في السرية، ولا سجود سهو في ذلك، لحديث أبي قتادة، وحديث البراء وأنس، وما أبيح تعمد فعله أو تركه فلا سهو فيه؛ لأنه فعل ما هو مباح له، ولم يقم دليل على وجوب الجهر في الجهرية، والإسرار في السرية، لا من كتاب ولا من سنة، وقد اعترف بذلك بعض العلماء الحنفية حيث قال: هو سنة عند الجمهور، وواجب عندنا. ولا دليل له عندي-انتهى. وحكم المنفرد كحكم الإمام، فيسن له أيضاً الجهر عند الشافعي، وظاهر كلام أحمد أنه يخير، وكذلك من فاته بعض الصلاة فقام ليقضيه قال أحمد: إنما الجهر للجماعة. (أحياناً) أي في أحيان جمع حين، وهو يدل على تكرر ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه دليل على جواز أن يخبر الإنسان بالظن، وإلا فمعرفة القراءة بالسورة في السرية لا طريق فيه إلى القين، وإسماع الآية أحياناً لا يدل على قراءة كل السورة، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه أخذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها، ولو كانوا يعلمون قراءة السورتين بخبر عنه - صلى الله عليه وسلم - عقب الصلاة دائماً أو غالباً لذكروه. (ويطول) بالتشديد من التطويل. (في الركعة الأولى) أي يجعل السورة فيها أطول من التي في الثانية؛ لأن النشاط في الأولى يكون أكثر فناسب التخفيف في الثانية حذراً من الملل، وأيضاً ليدركها الناس كما صرح به راوي الحديث عند أبي داود، وابن خزيمة: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. (ما لا يطيل في الركعة الثانية)(3/132)
وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح)) . متفق عليه.
835- (8) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((كنا نحزر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة ما يحتمل أن تكون نكرة موصوفة، أي تطويلاً لا يطلبه في الثانية، وأن تكون مصدرية أي غير إطالته في الثانية، فتكون هي مع ما في حيزها صفة لمصدر محذوف. (وهكذا) يقرأ في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الأخريين بها فقط، ويطول في الأولى، ويسمع الآية أحياناً. (في العصر) أي في صلاة العصر. (وهكذا) أي يطيل في الركعة الأولى في صلاة الصبح، فالتشبيه في تطويل المقروء في الأولى فقط، بخلاف التشبيه في العصر، فإنه أعم منه. والحديث يدل على استحباب تطويل الركعة الأولى بالنسبة إلى الثانية، وهذا هو مذهب أحمد، ومحمد بن الحسن في جميع الصلوات، وبه قال بعض الشافعية لهذا الحديث المصرح به في الظهر والعصر والفجر، وقياس غيرها عليها. وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف يسوى بين الركعتين إلا في الفجر، فإنه يطول الأولى على الثانية، وبه قال بعض الشافعية، ويدل عليه حديث أبي سعيد الآتي: كان يقرأ في الظهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية. وفي رواية لابن ماجه: إن الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة. وأجيب لهما عن حديث أبي قتادة بأن تطويل الأولى كان بدعاء الاستفتاح والتعوذ لا في القراءة. وادعى ابن حبان أن الأولى إنما طالت على الثانية بالزيادة في الترتيل فيها مع استواء المقروء فيهما. وقد روى مسلم من حديث حفصة: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها. قلت: والراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد ومحمد من أنه يستحب تطويل الركعة الأولى على الثانية في الصلوات كلها، وأن تطويل الأولى في الظهر والعصر كان في القراءة لا بدعاء الاستفتاح والتعوذ، أو بالزيادة في الترتيل؛ لأن المذكور في الحديث هو القراءة لا غير، فالظاهر أن التطويل والتقصير راجعان إلى ما ذكر فيه وهو القراءة. ولما روى أبوداود عن عبد الله بن أبي أوفي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. وتقديم حديث أبي قتادة على حديث أبي سعيد أولى؛ لأنه أصح، ويتضمن زيادة، وهي ضبط التفريق بين الركعتين. أو يجمع بينهما بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يطول الأولى تارة ويسوى بين الركعتين أخرى. وقال الحافظ في الفتح: وقال البيهقي في الجمع بين الأحاديث: يطول في الأولى إن كان ينتظر أحداً، وإلا فليسو بين الأوليين. وروى عبد الرزاق نحوه عن ابن جريج عن عطاء قال: إني أحب أن يطول الإمام الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس، فإذا صليت لنفسي فإني أحرص على أن أجعل الأوليين سواء. وذهب بعض الأئمة إلى استحباب تطويل الأولى من الصبح دائماً، وأما غيرها فإن كان يترجى كثرة المأمومين ويبادر هو أول الوقت فينتظر، وإلا فلا، وذكر في حكمة اختصاص الصبح بذلك أنها تكون عقب النوم والراحة، وفي ذلك الوقت يواطئ السمع واللسان القلب لفراغه، وعدم تمكن الاشتغال بأمور المعاش وغيرها منه. والعلم عند الله. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه.
835- قوله: (كنا نحزر) بفتح النون وسكون الحاء المهملة وضم الزاي بعدها راء، من الحزر، أي نخرص(3/133)
قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة الم تنزيل السجدة، وفي رواية: في كل ركعة قدر ثلاثين آية. وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك)) رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ونقدر. وفي قوله: "كنا نحزر" ما يدل على أن المقدرين بذلك جماعة، وقد أخرج ابن ماجه أن الخارصين ثلاثون رجلاً من الصحابة. (قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر) أي مقدار طول قيامه في الصلاتين. (الم تنزيل) بالرفع على الحكاية، قال القاري: ويجوز جره على البدل، ونصبه بتقدير: "أعني". (السجدة) قال النووي: يجوز جر: "السجدة" على البدل، ونصبها بأعني. ورفعها على خبر مبتدأ محذوف، ولا يخفى أن هذه الوجوه الثلاثة كلها مبنية على رفع: "تنزيل" حكاية، وأما على إعرابه فيتعين جر: "السجدة" على الإضافة قاله القاري. (وفي رواية في كل ركعة قدر ثلاثين آية) . أول هذه الرواية عند مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية. فيحمل الرواية المطلقة المتقدمة على هذه المقيدة بقوله: "في كل ركعة". (قيامه في الأخريين) أي من الظهر. (قدر النصف من ذلك) فيه دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ غير الفاتحة معها في الأخريين من الظهر، ويزيده دلالة على ذلك قوله: (وحزرنا) كذا في جميع النسخ من غير زيادة لفظ: "قيامه" وفي مسلم: وحزرنا قيامه. (في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر) ومعلوم أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر سورة غير الفاتحة. (وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك) أي من الأوليين منه. وفي رواية لمسلم: وفي الأخريين. (أى من الظهر) قدر قراءة خمس عشرة آية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك. وفيه دليل على أنه لا يقرأ في الأخريين من العصر إلا الفاتحة، وأنه يقرأ في الأخريين من الظهر غيرها معها. وقد تقدم الكلام في هذا. وحديث أبي سعيد هذا يدل على تخفيف الأخريين من الظهر والعصر من الأوليين منهما. ويدل أيضاً على استحباب التخفيف في صلاة العصر وجعلها على النصف من صلاة الظهر، والحكمة في إطالة الظهر أنها في وقت غفلة بالنوم في القائلة فطولت ليدركها المتأخر، والعصر ليست كذلك، بل تفعل في وقت تعب أهل الأعمال فخففت. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطول في صلاة الظهر تطويلاً زائداً على هذا المقدار كما في حديث أبي سعيد عند مسلم، والنسائي: أن صلاة الظهر كانت تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعة الأولى مما يطولها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وأخرجه ابن ماجه بسند ضعيف بألفاظ أخرى.(3/134)
836- (9) وعن جابر بن سمرة، قال. ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر: بـ {الليل إذا يغشى} وفي رواية بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك)) رواه مسلم.
837- (10) وعن جبير بن مطعم، قال. ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بـ {الطور}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
836- قوله: (كان يقرأ في الظهر: بـ {الليل إذا يغشى} وفي رواية بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي العصر نحو ذلك) أي يقرأ قريباً مما ذكر من السورتين. (وفي الصبح أطول من ذلك) أي من جميع ما ذكر؛ لأنها تفعل في وقت الغفلة بالنوم في آخر الليل، فيكون في التطويل انتظار للمتأخر، وإعانة له على إدراكها. وقوله: "كان يقرأ في الظهر" يفيد الاستمرار وعموم الأزمان كما تقرر في الأصول من أن لفظ: "كان" يفيد ذلك، فينبغي أن يحمل قوله: "كان يقرأ في الظهر" الخ. على الغالب من حاله - صلى الله عليه وسلم -، أو تحمل: "كان" على أنها لمجرد وقوع الفعل؛ لأنها قد تستعمل لذلك كما قال ابن دقيق العيد؛ لأنه قد ثبت: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {السماء والطارق} و {السماء ذات البروج} ونحوهما من السور، أخرجه أبوداود، والترمذي، وصححه من حديث جابر بن سمرة، وتقدم: أنه قرأ في الظهر سورة لقمان، والذاريات، وأنه كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية. وفي رواية قدر: "الم تنزيل السجدة". وفي الباب أحاديث كثيرة مختلفة. قال الحافظ: وجمع بينهما بوقوع ذلك في أحوال متغايرة إما لبيان الجواز، أو لغير ذلك من الأسباب. واستدل ابن العربي باختلافها على عدم مشروعية سورة معينة في صلاة معينة، وهو واضح فيما اختلف، لا فيما لم يختلف، كتنزيل وهل أتى، في صبح الجمعة – انتهى. (رواه مسلم) ، وأخرجه أيضاً أحمد، وأخرجه أبوداود بلفظ: كان إذا دحضت الشمس صلى الظهر وقرأ بنحو من {والليل إذا يغشى} والعصر كذلك، والصلوات كذلك إلا الصبح، فإنه كان يطيلها.
837- قوله: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) كان سماعه لذلك قبل إسلامه لما جاء في فداء أسارى بدر، واستبدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق إذا أداه في حال العدالة. (يقرأ في المغرب بـ {الطور} ) أي بسورة الطور. وفيه دليل على أن المغرب لا يختص بقصار المفصل، وقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بسورة. (الأعراف) وأنه قرأ فيها بحم، والدخان، وأنه قرأ فيها بالمرسلات، وأنه قرأ فيها بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وأنه قرأ فيها بـ {التين والزيتون} وأنه قرأ فيها بـ {الكافرون} و ((الإخلاص)) . وقال رافع بن خديج: كنا نصلي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فينصرف أحدنا وإنه يبصر مواقع نبله. قال الحافظ: طريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أحياناً يطيل القراءة في المغرب إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين. وليس في حديث جبير بن مطعم دليل على أن ذلك تكرر منه. وأما حديث زيد بن ثابت يعني الذي رواه البخاري وغيره عن مروان بن الحكم قال: قال لي(3/135)
زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بطولى الطوليين؟. ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرو زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديث أم الفضل. (يعني ما أخرجه البخاري عن ابن عباس: أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ {والمرسلات عرفاً} فقالت: يا بني! لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب. زاد في رواية: "ثم ما صلى لنا بعد حتى قبضه الله عزوجل" إشعار بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه كان في حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف. وقال ابن خزيمة: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماماً استحب له أن يخفف في القراءة كما تقدم-انتهى. واعلم أنه ذهب الجمهور إلى استحباب قراءة قصار المفصل في المغرب، حتى ذكر الترمذي عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات. وقال الشافعي: لا أكره ذلك، بل أستحب أن يقرأ بهذه السور في الصلاة للمغرب، وكذا نقله البغوي في شرح السنة عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهة في ذلك، ولا استحباب. وأما مالك فاعتمد العمل بالمدينة بل وبغيرها. قال ابن دقيق العيد: استمر العمل من الناس على التطويل في الصبح، والقصر في المغرب، والصحيح عندنا أن ما صح في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يكثر مواظبته عليه فهو جائز من غير كراهة، وما صحت المواظبة عليه فهو في درجة الرحجان في الاستحباب- انتهى. واستدل للجمهور بحديث رافع بن خديج الذي تقدم في باب تعجيل الصلاة: أنهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب، فإنه يدل على تخفيف القراءة فيها؛ لكن ليس فيه التنصيص على القراءة بشئ من قصار المفصل. وبحديث ابن عمر قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب {قل يأيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ، أخرجه ابن ماجه. قال الحافظ: ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدارقطني: أخطأ فيه بعض رواته. وأما حديث جابر ابن سمرة ففيه سعيد بن سماك، وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب. وبحديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني، فإنه يشعر بالمواظبة على قراءة قصار المفصل في المغرب، لكن في الاستدلال به نظر. وبما روى الطحاوي وغيره عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل. وبما روى مالك عن الصنابحي: أنه صلى المغرب خلف أبي بكر فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن، وسورة سورة من قصار المفصل، وبما روى أبوداود عن أبي عثمان النهدى أنه صلى خلف ابن مسعود المغرب فقرأ بـ {قل هوالله أحد} . وبما روى أبوداود أيضاً عن عروة: أنه كان يقرأ في المغرب بالعاديات، ونحوها من السور. وقد ظهر بما ذكرنا أنه ليس فيما ذهب إليه(3/136)
الجمهور حديث مرفوع صحيح صريح نص فيه على القراءة في المغرب بشيء من قصار المفصل، قال الحافظ: لم أرَ حديثاً مرفوعاً فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار المفصل، إلا حديثاً في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه (الكافرون) و (الاخلاص) ، ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة- انتهى. وقد تقدم ما فيهما من الكلام عن الحافظ. وأجاب الجمهور عن الأحاديث التي تدل على تطويل القراءة في المغرب بوجوه: أحدها: أن هذا كان شيئاً فترك، قاله محمد في مؤطاه. وقال أبوداود بعد ذكر أثر عروة المتقدم. هذا يدل على أن ذاك- أى حديث زيد- منسوخ. وفيه: أن النسخ لا يثبت بالادعاء والاحتمال، بل لا بد لمن يدعى أن تطويل القراءة في المغرب كان أولاً ثم ترك، أن يأتي بالحديث الناسخ الصحيح الصريح، ولا يثبت النسخ بمجرد قول محمد ولا غيره كائناً من كان، ولم يبين أبوداود وجه الدلالة على النسخ. وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل بخلافه، حمله على أنه اطلع على ناسخه، ولا يخفى بُعد هذا الحمل، وكيف يصح دعوى النسخ وأم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بـ (المرسلات) . وقال صاحب التعليق الممجد: هذا الجواب مخدوش؛ لأن مبناه على احتمال النسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولأن كونه متروكاً إنما يثبت لو ثبت تأخر قراءة القصار على قراءة الطوال من حيث التاريخ، وهو ليس بثابت، ولأن حديث أم الفضل صريح في أن آخر ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو سور المرسلات في المغرب، فحينئذٍ إن سلك مسلك النسخ يثبت نسخ قراءة القصار لا العكس. وثانيها: أنه لعله كان يقرأ بعض السورة ثم يركع، ذكره أيضاً محمد في مؤطاه. وفيه: أن إثبات التفريق في جمع ما ورد في قراءة الطوال مشكل، وأيضاً قد ورد في رواية البخاري وغيره ما يدل على أن جبير بن مطعم سمع {الطور} بتمامه قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المغرب، فلا يفيد حينئذٍ ليت ولعل. وأيضاً قد ورد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بسورة (الأعراف) في المغرب، فرقها في ركعتين، كما سيأتي، ومن المعلوم أن نصف {الأعراف} لا يبلغ مبلغ القصار، فلا يفيد التفريق لإثبات القصار، كذا في التعليق الممجد. وقال الحافظ: ادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شيء من الأحاديث على تطويل القراءة، لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة، ثم استدل لذلك بما رواه من طريق هشيم عن الزهري في حديث جبير بلفظ: سمعته يقرأ {إن عذاب ربك لواقع} [52: 7] قال: فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هي هذه الآية خاصة –انتهى. وليس في السياق ما يقتضي قوله: "خاصة" مع كون رواية هشيم عن الزهري بخصوصها مضعفة، ورواية البخاري في التفسير بلفظ: "سمعته يقرأ في المغرب بـ {الطور} فلما بلغ هذه الآية: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [52: 35] الآيات إلى قوله: {المصيطرون} [52: 37] كاد قلبي يطير" تبطل هذه الدعوى. وفي رواية ابن حبان والطبراني: سمعته يقرأ {والطور وكتاب مسطور} [52: 1، 2)) ومثله لابن سعد، وزاد في أخرى: فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد. ثم ادعى الطحاوي أن الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابت، وفيه نظر؛(3/137)
متفق عليه.
838- (11) وعن أم الفضل بنت الحارث، قالت: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب: بـ {المرسلات عرفاً} متفق عليه.
839- (12) وعن جابر، قال: ((كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى
ليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم أتى قومه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه لو كان قرأ بشيء منها يكون قدر سورة من قصار المفصل لما كان لإنكار زيد معنى، وقد روي أن زيداً قال لمروان: إنك لتخفف القراءة في الركعتين من المغرب، فوالله لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعاً. أخرجه ابن خزيمة-انتهى كلام الحافظ باختصار وتغيير يسير. وثالثها: أن هذا بحسب اختلاف الأحوال قرأ بالطوال لتعليم الجواز. وفيه: أنه لو كانت قراءته - صلى الله عليه وسلم - السور الطوال في المغرب لبيان الجواز لما كان ما فعله مروان من المواظبة على قصار المفصل إلا محض السنة، ولم يحسن من زيد بن ثابت إنكار ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يفعل غيره إلا لبيان الجواز، ولو كان الأمر كذلك لما سكت مروان عن الاحتجاج بمواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في مقام الإنكار عليه، وأيضاً بيان الجواز لا يحتاج له إلى تكرير الفعل، وقد عرفت أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ السور الطويلة في المغرب مرات متعددة، فالظاهر أن القراءة في المغرب بطوال المفصل وقصاره وسائر السور سنة، لكن ينبغي أن يكثر من قراءة قصار المفصل، وأما الاقتصار على نوع من ذلك فهو إن انضم إليه اعتقاد أنه السنة دون غيره، مخالف لهديه - صلى الله عليه وسلم -، والله اعلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
838- قوله: (يقرأ في المغرب بـ {المرسلات عرفاً} ) أي سورة {والمرسلات} وفي الجلالين: {والمرسلات} [77: 1] . أي الرياح متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضه بعضاً، ونصب"عرفاً" على الحال-انتهى. والعرف- بضم العين المهملة- شعر عنق الفرس. قال سليمان الجمل: أقسم تعالى بصفات خمسة، موصوفها محذوف، فجعله بعضهم"الرياح" في الكل، وبعضهم: "الملائكة" في الكل، وبعضهم غاير-انتهى. والحديث يرد على من قال: التطويل في صلاة المغرب منسوخ. كما تقدم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، والشافعي، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
839- قوله: (يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) زاد مسلم في رواية: "عشاء الآخرة" فكان العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين. (ثم يأتي) أي مسجد الحي. (فيؤم قومه) وفي رواية مسلم المذكورة: فيصلي بهم تلك الصلاة. وللبخاري في الأدب: "فيصلي بهم الصلاة" أي المذكورة. وفي هذا رد على من زعم أن المراد أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير الصلاة التي كان يصليها بقومه. (فصلى) أي معاذ (ليلة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء) أي الآخرة. (ثم أتى قومه)(3/138)
فأمهم، فافتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتينّ رسول الله فلأخبرنه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إنا أصحاب النوازح، نعمل بالنهار، وإنما معاذاً صلى معك العشاء، ثم أتى قومه، فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معاذ، فقال: يا معاذ! أفتان أنت؟ اقرأ {والشمس وضحاها} ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي بني سلمة، بكسر اللام. (فأمهم) أي في العشاء. (فافتح بسورة البقرة) أي بعد الفاتحة. وفي رواية للبخاري: فصلى العشاء، فقرأ بالبقرة. قال الحافظ: كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية لأبي عوانة والطحاوي من طريق محارب: صلى بأصحابه المغرب، فإن حمل على تعدد القصة، أو على أن المراد بالمغرب العشاء مجازاً وإلا فما في الصحيح أصح-انتهى. (فانحرف رجل) أي مال عن الصف فخرج منه، أو انحراف من صلاته عن القبلة. والرجل هو حزم بن أبي بن كعب، كما في رواية أبي داود الطيالسي في مسنده. وقيل: سليم، كما في رواية لأحمد. وجمع بعضهم بين هذا الاختلاف بأنهما واقعتان، لكن وقوع هذه القضية مرتين بعيد كما لا يخفى، إلا أن يقال يحتمل أنه وقع من معاذ مرتين، ثم رفع الواقعتان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة. ووقع في رواية لمسلم: فانطلق رجل منا. وهذا يدل على أنه كان من بني سلمة، ويقوي رواية من سماه سليماً. (فسلم) أي قطع صلاته. قال النووي: قوله: "سلم" دليل على أنه قطع الصلاة من أصلها، ثم أستأنفها، فيدل على جواز قطع الصلاة وإبطالها لعذر. (ثم صلى وحده) أي استأنف الصلاة منفرداً؛ لأنه لم يعلم أنه لو فارق بالنية وانفرد وأتم بلا استئناف لجاز فيه ذلك، ذكره ابن الملك. (وانصرف) أي خرج من المسجد. (فقالوا) أي أصحاب معاذ. (أنافقت يا فلان؟) أي أفعلت ما يفعله المنافق من الميل والانحراف عن الجماعة، والتخفيف في الصلاة؟ قالوه تشديداً له، قاله الطيبي. (قال: لا والله، ولآتين) هو إما معطوف على الجواب، أي والله لا أنافق، ولآتين، وإما إنشاء قسم آخر والمقسم به مقدر. (إنا أصحاب نواضح) جمع ناضحة أنثى ناضح، وهو- بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة- ما استعمل من الإبل في سقى النخل والزرع. (نعمل بالنهار) أي نكد فيه بعمل الزراعة لأجل أمر المعاش. (فافتح بسورة البقرة) يحتمل أنه أراد معاذ أن يقرأ بعضها ويركع، فتوهم المقتدي أنه أراد إتمامها فقطع صلاته، فعاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إبهامه ذلك، فإنه سبب للتنفير، قاله القاري. (فقال: يا معاذ!) خطاب عتاب. (أفتان) أي منفر عن الدين، وصاد عنه، وموقع للناس في الفتنة. قال الحافظ: معنى الفتنة ههنا أن التطويل يكون سبباً لخروجهم من الصلاة، وللنكرة للصلاة في الجماعة. وقال الداودي: يحتمل أن يريد بقوله: "فتان" أي معذب؛ لأنه عذبهم بالتطويل. ومنه قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين} [85: 10] قيل: معناه عذبوهم. (اقرأ والشمس وضحاها) الخ. أي(3/139)
{والضحى} و {والليل إذا يغشى} و {سبح اسم ربك الأعلى}
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إقرأ هذه السورة وأمثالها. وفي الحديث استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وفيه جواز خروج المأموم من الصلاة بعذر، وغير ذلك من الفوائد. واستدل بهذا الحديث للشافعي، وأحمد، وإسحاق على صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل؛ لأن الظاهر منه أن معاذاً كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فريضة، إذ بعيد من فقاهة معاذ - وهو أفقه الصحابة - أن يدرك الفرض خلف أفضل الأئمة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد المسجد الحرام فيتركه، ويضيع حظه منه، ويقنع من ذلك بالنفل. قال الخطابي: لا يجوز على معاذ مع فقهه أن يترك فضيلة الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فعل نفسه-انتهى. قلت: وقد جاء في الحديث رواية كأنها صريحة في كون معاذ كان ينوي بالأولى الفرض، وبالثانية النفل، ذكرها الدارقطني وغيره بلفظ: هي له تطوع ولهم فريضة. قال الحافظ: ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق، والشافعي والطحاوي، والدارقطني وغيرهم من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن جابر في حديث الباب زاد: هي له تطوع، ولهم فريضة. وهو حديث صحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه، فانتفت تهمة تدليسه، فقول ابن الجوزي: "أنه لا يصح" مردود. وتعليل الطحاوي بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج ولم يذكر هذه الزيادة، ليس بقادح في صحته؛ لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة، وأقدم أخذاً عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ، ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه، ولا أكثر عدداً، فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها. وأما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة. (أى من قول ابن جريج أو من قول عمرو بن دينار) فجوابه: أن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضموماً إلى الحديث فهو منه، ولا سيما إذا روى من وجهين، والأمر هنا كذلك، فإن الشافعي أخرجها من وجه آخر عن جابر متابعاً لعمرو بن دينار عنه. وقول الطحاوي: "هو ظن من جابر". (أى على تسليم كونها من قول جابر) مردود: لأن جابراً كان ممن يصلي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يظن بجابر أنه يخير عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه. وأما قول الطحاوي: لا حجة فيها؛ لأنها لم تكن بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تقريره، فجوابه: أنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم ثلاثون عقبياً، وأربعون بدرياً، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر، وابن عمر، وأبوالدرداء، وأنس وغيرهم. وأما قول الطحاوي: لو سلمنا جميع ذلك لم يكن فيه حجة لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلى مرتين، أي فيكون منسوخاً بما روى عن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تصلى فريضة في يوم مرتين. فجوابه: أنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال وهو لا يسوغ. وأما حديث ابن عمر ففي الاستدلال به نظر، لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوها مرتين على أنها فريضة في كل مرة، وبذلك جزم البيهقي جمعاً(3/140)
بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيداً. وأما تقوية بعضهم بكون حديث معاذ منسوخاً بأن صلاة الخوف وقعت مراراً على صفة فيها مخالفة بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم مرتين على وجه لا تقع فيه منافاة، فلما لم يفعل ذلك دل على المنع. فجوابه: أنه ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الخوف مرتين كما أخرجه أبوداود عن أبي بكرة صريحاً، وصرح فيه أنه سلم على الركعتين الأوليين، ولمسلم عن جابر نحوه، لكن ليس في روايته تصريح بالسلام على الركعتين، وأما صلاته بهم على نوع من المخالفة فلبيان الجواز. وأما قول بعضهم: كان فعل معاذ للضرورة لقلة القراءة ذلك الوقت. فهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد؛ لأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة كان حافظوه كثيراً، وما زاد لا يكون سبباً لارتكاب أمر ممنوع منه شرعاً في الصلاة-انتهى. وأما ما رواه أحمد، والطحاوي، وابن عبد البر، عن معاذ بن رفاعة، عن سليم رجل من بني سلمة: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -! إن معاذ بن جبل يأتينا-الحديث. وفي آخره:: "يا معاذ! لا تكن فتاناً، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك". واستدل به الطحاوي على أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى معاذاً عن ذلك، وادعى أن قوله: "إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك" معناه: إما أن تصلي معي، ولا تصلي بقومك وإما أن تخفف بقومك، أي ولا تصلي معي. ففيه: أن في صحة هذه الرواية كلاماً، قال ابن حزم في المحلى (ج4: ص230) : هذا خبر لا يصح؛ لأنه منقطع؛ لأن معاذ بن رفاعة لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أدرك هذا الذي شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعاذ؛ لأن هذا الشاكي – أي سليماً صاحب القصة – قتل يوم أحد. ثم في صحة ما ذكره الطحاوي في معنى قوله: "إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك" كلام أيضاً. قال الحافظ في الفتح: وأما دعوى الطحاوي أن معناه: إما أن تصلي معي ولا تصل بقومك، وإما أن تخفف بقومك ولا تصل معي، ففيه نظر؛ لأن لمخالفه أن يقول: بل التقدير: "إما أن تصلي معي فقط إذا لم تخفف، وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي". وهو أولى من تقديره لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف؛ لأن هو المسؤل عنه المتنازع فيه-انتهى. قلت: ورواية عبد الرزاق والشافعي وغيرهما بزيادة: "هي له تطوع ولهم فريضة" تؤيد المعنى الذي بيّنه الحافظ، وتوهن المعنى الذي بينه الطحاوي. واستدل الحنفية على عدم جواز اقتداء المفترض بالمتنفل بما روي مرفوعاً: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه. قالوا: لا اختلاف أشد من الاختلاف في النيات في صلاة فرضين، أو تنفل الإمام وافتراض المقتدي. وأجيب: بأن الاختلاف المنهي عنه مقصور على الاختلاف في الأفعال الظاهرة؛ لأن الاختلاف في النيات لا يظهر به مخالفة الإمام عند الناس، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بين في هذا الحديث نفسه المواضع التي يلزم الائتمام بالإمام فيها، ويحرم الاختلاف عليه فيها، وهي قوله - عليه السلام -: فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعودا. فههنا أمر- عليه السلام -بالائتمام(3/141)
متفق عليه.
840- (13) وعن البراء، قال: ((سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء: {والتين والزيتون} وما سمعت
أحداً أحسن صوتا منه)) متفق عليه.
841- (14) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر: بـ {ق والقرآن المجيد} ونحوها،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه، وعدم الاختلاف عليه لا في النية. وأيضاً: لو عمم هذا الاختلاف المنهي عنه للزم عدم جواز اقتداء المتنفل بالمفترض لوجود الاختلاف في النيات، فظهر أن الحديث ليس بمحمول على العموم عندهم أيضاً. ولو سلمنا: أنه يعم كل الاختلاف لكان حديث معاذ أو نحوه مخصصاً له. واستدلوا أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الإمام ضامن" بمعنى يضمنها صحة وفساداً، والمفترض أقوى حالاً من المتنفل فلا يتضمنه ما هو دونه. وفيه: أن معنى الضمان هنا هو الحفظ والرعاية في الأفعال الظاهرة لا التكفل في الصحة والفساد، والمعنى أن الإمام يحفظ ويراعي الصلاة وعدد الركعات وغير ذلك من الأفعال الظاهرة على القوم، والله أعلم. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه البخاري مطولاً في غير موضع بألفاظ مختلفة، وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي وغيرهم.
840- قوله: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العشاء) أي في الركعة الأولى من صلاة العشاء، كما في رواية النسائي {والتين والزيتون} وقرأ في الثانية {إنا أنزلناه} وهما من قصار أوساط المفصل، وإنما قرأ في العشاء بقصار الأوساط لكونه مسافراً، ففي رواية للبخاري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفره، فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بـ {التين والزيتون} . والسفر يطلب فيه التخفيف، وقصة معاذ كانت في الحضر، فلذلك أمر فيها بقراءة أوساط المفصل، وهذا يدل على أن القراءة في صلاة السفر ليست كالقراءة في صلاة الحضر. والمفصل: من (الحجرات) إلى آخر القرآن على القول الراجح، وطواله: من سورة (الحجرات) إلى (البروج) . وأوساطه: من (البروج) إلى سورة (لم يكن) . وقصاره: من سورة (لم يكن) إلى آخر القرآن. وسمى مفصلاً لكثرة الفصل بين سورة بالبسملة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
841- قوله: (كان يقرأ في الفجر بـ {ق والقرآن المجيد} ونحوها) بالجر، وهو ظاهر، وقيل بالنصب عطفاً على محل الجار والمجرور، وقوله: "كان يقرأ" الخ. ينبغي أن يحمل على الغالب من حاله - صلى الله عليه وسلم -، أو تحمل: "كان" على أنها لمجرد وقوع الفصل لا للاستمرار والدوام؛ لأنه قد ثبت أنه قرأ في الفجر {إذا الشمس كورت} وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بمكة الصبح فاستفتح سورة (المؤمنين) كما سيأتي. وأنه قرأ بـ {الطور} . ذكره البخاري تعليقاً من حديث أم سلمة، وأنه كان يقرأ في ركعتي الفجر أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة. أخرجه الشيخان من حديث أبي برزة، وأنه قرأ (الروم)(3/142)
وكانت صلاته بعد تخفيفاً)) رواه مسلم.
842- (15) وعن عمرو بن حريث ((أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر {والليل إذا عسعس} رواه مسلم
843- (16) وعن عبد الله بن السائب، قال: ((صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه النسائي. وأنه قرأ (المعوذتين) أخرجه النسائي أيضاً، وأنه قرأ {إنا فتحنا لك فتحا مبيناً} [48: 1] ، أخرجه عبد الرزاق عن أبي بردة، وأنه قرأ (الواقعة) أخرجه عبد الرزاق أيضاً، وأنه قرأ بـ (يونس وهود) أخرجه ابن شيبة في مسنده، وأنه قرأ {إذا زلزلت} أخرجه أبوداود، وأنه قرأ (الم تنزيل السجدة) و {هل أتى على الإنسان} كما سيأتي. والجمع بين هذه الروايات أنه وقع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - باختلاف الحالات والأوقات والأشغال عدماً ووجودا. ً (وكانت صلاته بعد) أي بعد صلاة الفجر. (تخفيفاً) يعني أن قراءته في بقية الصلوات الخمس كانت أخف من قراءته في صلاة الفجر. وقيل: أي بعد ذلك الزمان، فإنه- عليه السلام -كان يطول أو الهجرة لقلة أصحابه، ثم لما كثر الناس وشق عليهم التطويل لكونهم أهل أعمال من تجارة وزراعة خفف رفقاً بهم، قاله القاري. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد.
842- قوله: (وعن عمرو بن حريث) مصغراً، ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمر مخزوم القرشي أبوسعيد المخزومي الكوفي، صحابي صغير. له ثمانية عشر حديثاً، انفرد له مسلم بحديثين. قال ابن عبد البر: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمع منه، ومسح برأسه، ودعا له بالبركة. قيل قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثنتي عشرة سنة. نزل الكوفة وابتنى بها داراً، وسكنها، وولده بها. وكان قد ولى إمارة الكوفة لزياد، ولابنه عبيد الله بن زياد، مات بها سنة (85) . روى عنه ابنه جعفر وغيره. (يقرأ في الفجر: {والليل إذا عسعس} ) أي يقرأ بالسورة التي فيها {والليل إذا عسعس} [81: 17] لا أنه اقتصر على هذه الآية واكتفى بها. ذكر في شرح السنة أن الشافعي قال: يعني به {إذا الشمس كورت} بناء على أن قراءة السورة بتمامها وإن قصرت أفضل من بعضها وإن طال، قاله الطيبي. فالمعنى: قرأ سورة هذه الآية فيها، والغالب من قراءته- عليه السلام -السورة التامة، بل قال بعضهم: لم ينقل عنه- عليه السلام - قراءته السورة في الفرائض إلا كاملة، ولم ينقل عنه التفريق إلا في المغرب، قرأ فيها (الأعراف) في ركعتين. وسيأتي مزيد الكلام في شرح حديث عبد الله بن السائب. ومعنى: "عسعس" أدبر. وقيل: أقبل ظلامه. وقيل: هو من الأضداد. ويقال: إذا أقبل وإذا أدبر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه.
843- قوله: (وعن عبد الله بن السائب) بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المكي، له ولأبيه صحبة، وكان أبوه شريك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ابنه عبد الله قارئ أهل مكة، أخذ عنه أهل مكة القراءة، قرأ عليه(3/143)
بمكة. فاستفتح سورة المؤمنين، حتى جاء ذكر موسى وهارون – أو ذكر عيسى – أخذت
النبي - صلى الله عليه وسلم - سعلة فركع)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مجاهد وغيره. مات بمكة سنة بضع وستين قبل قتل عبد الله بن الزبير، وهو عبد الله بن السائب قائد ابن عباس، أفرده صاحب الكمال بالذكر وهو هو، وله سبعة أحاديث، انفرد له مسلم بحديث، روى عنه عطاء وغيره. (بمكة) أي في فتحها كما في رواية النسائي. (فاستفتح سورة المؤمنين) أراد به {قد أفلح المؤمنون} . (حتى جاء ذكر موسى) بالرفع، قال القاري: وفي نسخة بالنصب، أي حتى وصله النبي - صلى الله عليه وسلم -. (وهارون) أي قوله تعالى: {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون} [23: 45] . (أو عيسى) أي {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} [23: 50] . و: "أو" للشك من محمد بن عباد بن جعفر الراوي. (سعلة) بفتح السين، ويجوز الضم، أي سعال، وهي حركة تدفع بها الطبيعة أذى عن الرئة والأعضاء التي تتصل بها. قال الطيبي: السعلة فعلة من السعال، وإنما أخذته من البكاء يعني عند تدبر تلك القصص بكى حتى غلب عليه السعال ولم يتمكن من إتمام السورة. وفي رواية ابن ماجه: فلما أتى على ذكر عيسى أصابته شرقة. قال السندي: أي شرق بدمعه يعني للقراءة. وقيل: شرق بريقه. وفي القاموس: شرق بريقه كفرح غص-انتهى. واستدل بالحديث على أن السعال لا يبطل الصلاة، وهو واضح فيما إذا غلبه، ويؤخذ منه أن قطع القراءة لعارض السعال ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال أو التنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما استحب فيه تطويلها. واستدل به على جواز قراءة بعض السورة في الفريضة. وفيه: أن الاقتصار على بعض السورة ههنا للضرورة، فالاستدلال به على الاقتصار بلا ضرورة لا يتم، فالأولى الاستدلال بقراءته - صلى الله عليه وسلم - بسورة الأعراف في المغرب حيث فرقها في ركعتين، فإنه لم يذكر ضرورة، ففيه القراءة بالأول وبالأخير، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق: أنه أم الصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة فقرأها في الركعتين. وهذا إجماع منهم. وروى محمد بن عبد السلام الخشني من طريق الحسن البصري قال: غزونا خراسان ومعنا ثلاث مائة من الصحابة، فكان الرجل منهم يصلي بنا فيقرأ آيات من السورة ثم يركع. أخرجه ابن حزم محتجاً به. وروى الدارقطني بإسناد قوي عن ابن عباس: أنه قرأ الفاتحة وآية من البقرة في كل ركعة، كذا في الفتح. قال شمس الدين أبوالفرج ابن قدامة في الشرح الكبير على متن المقنع (ج1: ص618) : المشهور عن أحمد أنه لا يكره قراءة أواخر السورة وأوساطها في الصلاة، نقلها عنه جماعة لقول الله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} [73: 20] ؛ ولأن أبا سعيد قال: أمرنا أن نقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر. رواه أبوداود، وروى الخلال بإسناده: أن ابن مسعود كان يقرأ في الآخر من صلاة الصبح آخر (آل عمران) وآخر (الفرقان) وقال أبوبرزة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بالستين إلى المائة. ففيه دليل على أنه لم يكن يقتصر على قراءة سورة. ولأن آخرها أحد طرفي السورة فلم يكره كأولها. وعن أحمد: أنه يكره في الفرض. نقلها عنه المروذي وقال: سورة أعجب إلى، وقال المروذي: وكان(3/144)
رواه مسلم.
844- (17) وعن أبي هريرة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر يوم الجمعة بـ {الم تنزيل} في
الركعة الأولى، وفي الثانية {هل أتى على الإنسان} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأبي عبد الله قرابة يصلي به فكان يقرأ في الثانية من الفجر بآخر السورة، فلما أكثر قال أبوعبد الله: تقدم أنت فصل، فقلت: هذا يصلي بكم منذ كم؟ قال: دعنا منه يجيء بآخر السور، وكرهه. قال شيخنا: ولعل أحمد إنما أحب إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نقل عنه، وكره المداومة على خلاف ذلك، فإن المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءة السورة، أو بعض السورة من أولها، ونقل عنه رواية ثالثة أنه يكره قراءة أوسط السورة دون آخرها لما روينا في آخر السور عن عبد الله بن مسعود، ولم ينقل مثل ذلك في وسطها. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: الرجل يقرأ آخر السورة في الركعة، فقال: أليس قد روي في هذا رخصة عن عبد الرحمن بن يزيد وغيره؟ قال: فأما قراءة أوائل السور فلا خلاف في أنه غير مكروه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ من سورة المؤمنين إلى ذكر موسى وهارون، ثم أخذته سعلة فركع، وقرأ سورة الأعراف في المغرب فرقها مرتين. رواه النسائي- انتهى. قلت: لا شك أنه يجوز القراءة في لفريضة من أوائل السورة وأواخرها وأوساطها؛ لأن الكل كتاب الله، لكن الأولى والأفضل قراءة السورة كاملة، فإنه الغالب من فعله - صلى الله عليه وسلم -. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي، وابن ماجه. وذكره البخاري في صحيحه معلقاً بقوله: ويذكر عن عبد الله بن السائب، للاختلاف في سنده مع كونه مما تقوم به الحجة.
844- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر) أي في صلاة الفجر. (يوم الجمعة) لعل السر في قراءة هاتين السورتين في صلاة فجر يوم الجمعة أنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر المبدأ والمعاد، وحشر العباد، وأحوال يوم القيامة، وكل ذلك كان، وسيقع يوم القيامة، ففي قراءتها تذكير للعباد ليعتبروا بذكر ما كان ويستعدوا لما يكون. (بـ {الم تنزيل} ) بضم اللام على الحكاية، وزاد في رواية: "السجدة" بالنصب عطف بيان. {هل أتى على الإنسان} أي بكمالها ويسجد فيها كما في المعجم الصغير للطبراني من حديث علي: أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد في صلاة الصبح في: "تنزيل السجدة". لكن في إسناده ضعف. قال الحافظ: في الحديث دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذه الصلاة من هذا اليوم لما تشعر الصيغة به من مواظبته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، أو إكثاره منه، بل ورد من حديث ابن مسعود التصريح بمداومته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. أخرجه الطبراني، ولفظه: يديم ذلك. وأصله في ابن ماجه بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوب أبوحاتم إرساله- انتهى. قال ابن حجر: تصويب أبي حاتم إرساله لا ينافي الاحتجاج به، فإن المرسل يعمل به في مثل ذلك إجماعاً، على أن له شاهداً أخرجه الطبراني أيضاً في الكبير عن ابن عباس بلفظ:(3/145)
متفق عليه.
845- (18) وعن عبيد الله بن أبي رافع، قال: ((استخلف مروان أباهريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبوهريرة الجمعة، فقرأ سورة الجمعة في السجدة الأولى، وفي الآخرة {إذا جاءك المنافقون} فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما يوم الجمعة)) رواه مسلم.
846- (19) وعن النعمان بن بشير، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين، وفي الجمعة: بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كل جمعة- انتهى. وبالجملة فالزيادة المذكورة نص في ذلك، فدل على السنية. وبه أخذ الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقال به أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، كما نقله ابن المنذر وغيره. وقال صاحب المحيط من الحنفية: يستحب قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحياناً لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره. وقريب منه قول الطحاوي فإنه خص الكراهة بمن يراه حتماً لا يجزئ غيره، أو يرى القراءة بغيره مكروهة. وأما صاحب الهداية منهم فذكر أن علة الكراهة هجران الباقي وإيهام التفضيل. قلت: كل ما ذكره الحنفية والمالكية في تعليل الكراهة مردود لكونه في مقابلة النص، والحق أن قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة والمداومة عليهما مع اعتقاد جواز غيرهما سنة، ولله در السندي فقد باح بالحق حيث قال: على كل تقدير المداومة عليهما خير من المداومة على تركهما. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي، وابن ماجه، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أحمد، ومسلم، والترمذي، وأبوداود، والنسائي. وابن مسعود أخرجه ابن ماجه، والطبراني. وسعد بن أبي وقاص أخرجه ابن ماجه. وعلي أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط.
845- قوله: (وعن عبيد الله بن أبي رافع) المدني مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - روى عن أبيه وأمه سلمى، وعن علي، وكان كاتبه، وأبي هريرة. وهو ثقة، من الطبقة الوسطى من التابعين. (استخلف مروان أباهريرة على المدينة) أي جعله خليفته ونائبه عليها. (وخرج) أي مروان. (الجمعة) أي صلاتها. (في السجدة الأولى) أي الركعة الأولى. (إذا جاءك المنافقون) أي سورتها، أو إلى آخرها. (فقال) أي أبوهريرة. (يقرأ بهما) أي تينك السورتين. (يوم الجمعة) أي في صلاة الجمعة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
846- قوله: (بـ {سبح اسم ربك} ) أي في الركعة الأولى. (و {هل أتاك حديث الغاشية} ) أي في الركعة الثانية. وروى مالك، وأحمد، ومسلم، وغيرهم عن النعمان بن بشير: وسأله الضحاك ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ يوم الجمعة على(3/146)
قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما في الصلاتين. رواه مسلم.
847- (20) وعن عبيد الله:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أثر سورة الجمعة؟ قال كان يقرأ: {هل أتاك حديث الغاشية} فتحصل من أحاديث الباب أن السنة أن يقرأ الإمام في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين، أو في الأولى بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية بـ {هل أتاك حديث الغاشية} . قال السندي: الاختلاف محمول على جواز الكل واستنانه، وأنه فعل تارة هذا وتارة ذاك، فلا تعارض في أحاديث الباب- انتهى. وإنما خص هذه السور بالجمعة لما في سورة الجمعة من الحث على حضورها، والسعي إليها، وفي سورة المنافقين من توبيخ أهل النفاق وحثهم على التوبة، فإن المنافقين يكثر اجتماعهم في صلاتها، وفي سورة الأعلى والغاشية من التذكير بأحوال الآخرة والوعد والوعيد ما يناسب قراءتها في تلك الصلاة الجامعة. (قال) أي النعمان. (قرأ بهما) أي بالسورتين. (في الصلاتين) قال النووي: فيه استحباب القراءة في العيدين والجمعة بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} . وفي الحديث الآخر- يعني حديث أبي واقد الآتي- القراءة في العيد بقاف واقتربت، وكلاهما صحيح، فكان - صلى الله عليه وسلم - في وقت يقرأ في الجمعة (الجمعة) و (المنافقين) . وفي وقت (سبح) و (هل أتاك) . وفي وقت يقرأ في العيد (قاف) و (اقتربت) وفي وقت. (سبح) و (هل أتاك) - انتهى. وقال أبوحنيفة وأصحابه: يقرأ الإمام في الجمعة والعيدين بعد الفاتحة أي سورة شاء، ولو قرأ هذه السور في أغلب الأحوال تبركاً بالإقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحسن، ولكن لا يواظب على قراءتها، بل يقرأ غيرها في بعض الأوقات كيلا يؤدي إلى هجر الباقي، ولا يظنه العامة حتماً، كذا في البدائع وغيره من كتب الحنفية. وهذا يدل على أن قراءة هذه السور في الجمعة والعيدين ليست بسنة عند الحنفية، خلافاً لما ذهب إليه الجمهور. وقول الجمهور هو الحق والصواب؛ لأنه تواترت الروايات بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن رشد وابن عبد البر ولم يصح عنه غير ذلك فلا شك في كونها سنة. وتعليل الحنفية بأن المواظبة على قراءتها تؤدي إلى هجران الباقي، وظن العامة واعتقادهم قراءتها فيها حتماً، باطل؛ لأنه لو صح هذا التعليل لزم أن لا يكون قراءة قصار المفصل في المغرب سنة؛ لإفضاء المواظبة عليها إلى هجران بقية القرآن، واعتقاد العامة قراءة القصار فيها حتماً. وأيضاً على فرض حصول هذه المفسدة الأخيرة على ما زعموا تدفع بالتنبيه والتعليم كما هي عادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا بالترك والهجران. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي.
847- قوله: (وعن عبيد الله) هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني الإمام التابعي الأعمى، أحد فقهاء المدينة السبعة، ثقة، فقيه، ثبت، مأمون، شاعر مجيد، جامع للعلم. قال ابن عبد البر: كان أحد الفقهاء(3/147)
أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ((ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟ فقال: يقرأ فيهما بـ {ق والقرآن المجيد} و {اقتربت الساعة} رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
العشرة ثم السبعة الذين يدور عليهم الفتوى، وكان عالماً فاضلاً مقدماً في الفقه، تقياً، شاعراً محسناً، لم يكن بعد الصحابة إلى يومنا فيما علمت فقيه أشهر منه، ولا شاعر أفقه منه. مات سنة (94) وقيل: (98) وقيل: (99) . (أن عمر بن الخطاب) هذه الرواية منقطعة، فإن عبيد الله لم يدرك عمر - رضي الله عنه -، لكن الحديث صحيح متصل بلا شك، فإنه وقع في رواية أخرى لمسلم عن عبيد الله عن أبي واقد، قال: سألني عمر بن الخطاب. فإنه أدرك أباواقد بلا شك، وسمع منه بلا خلاف. (سأل أباواقد الليثى) صحابي قديم الإسلام، مختلف في اسمه؛ فقيل: الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، وقيل: عوف بن الحارث. عداده في أهل المدينة، وجاور بمكة سنة، ومات بها سنة (68) وهو ابن (85) سنة. له سبعة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد مسلم بآخر. وسأله عمر رضي الله عنه اختباراً له هل حفظ ذلك أم لا؟ أو لزيادة التوثيق، ويحتمل أنه نسي. وأما الاحتمال أنه ما علم بذلك أصلاً، فيأباه قرب عمر منه - صلى الله عليه وسلم -. قال القاضي وغيرهم: يحتمل أن عمر شك في ذلك فاشتبه عليه، أو أراد إعلام الناس بذلك، أو نازعه غيره ممن سمعه يقرأ في ذلك بـ (سبح) و (هل أتاك) فأراد عمر الاستشهاد عليه بما سمعه أيضاً أبوواقد، أو نحو ذلك. قال العراقي: ويحتمل أن عمر كان غائباً في بعض الأعياد عن شهوده، وأن ذلك الذي شهده أبوواقد كان في عيد واحد أو أكثر. قال: ولا عجب أن يخفى على الصاحب الملازم بعض ما وقع من مصحوبة كما في قصة الاستئذان ثلاثاً، وقول عمر: خفي علي هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألهاني الصفق بالأسواق- انتهى. (ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟) أي شيء كان يقرأ في ركعتيهما. (فقال) أي أبوواقد. (يقرأ أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (فيهما بـ {ق والقرآن المجيد} ) في الركعة الأولى. (و {اقتربت الساعة} ) في الركعة الثانية. فيه دليل للشافعي وموافقيه أنه تسن القراءة بهما في العيدين. والحكمة في قراءتهما لما اشتملتا عليه من الإخبار بالبعث، والإخبار عن القرون الماضية، وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم لبعث، وخروجهم من الأجداث كأنهم جراد منتشر، وأما سورة (سبح) و (هل أتاك) فقيل: إن ذلك لما في سورة (سبح) من الحث على الصلاة، وزكاة الفطر على ما قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في تفسير قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} فاختصت الفضيلة بها كاختصاص الجمعة بسورتها. وأما: "الغاشية" فللموالاة بين (سبح) وبينا كما بين (الجمعة) و (المنافقين) والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً مالك، والشافعي، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.(3/148)
848- (21) وعن أبي هريرة، قال: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر: {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} رواه مسلم.
849- (22) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} والتي في آل عمران {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
848- قوله: (قرأ في ركعتي الفجر) أي في سنة الفجر وهي المشهورة. بهذا الاسم {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} أي كل سورة بعد الفاتحة إلا أنه تركها الراوي لظهورها، وهذا شائع كثير في الأحاديث المرفوعة القولية والفعلية ذكر فيها السور دون الفاتحة لظهورها وشهرتها، وهذا يدل على تأكد وجوب الفاتحة. وفي الحديث دليل على استحباب قراءة سورتي (الإخلاص) في ركعتي الفجر. ويدل عليه أيضاً ما رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن أبي شيبة، وابن عدي، والطحاوي عن ابن عمر، قال: رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ {قل يأيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ورواه الطبراني في الكبير، وأبويعلى الموصلي بلفظ آخر. وللترمذي عن ابن مسعود، أنه قال: ما أحصى ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الركعتين- الحديث. وسيأتي. ولابن ماجه، والدارمي، وابن أبي شيبة عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين قبل الفجر، وكان يقول: نعم السورتان هما يقرأ بهما في ركعتي الفجر {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون} . وأخرج البزار والطحاوي، عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعتي الفجر بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} وأخرج ابن حبان في صحيحه، والطحاوي عن جابر في قراءة سورتي. (الإخلاص) حديثاً تقريرياً، ذكره الحافظ في الفتح. وهذه الأحاديث دليل صريح لمذهب الجمهور أنه يستحب أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة سورة، ويستحب أن تكون هاتان السورتان أو الآيات المذكورة في حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة الآتيين كلها سنة، فالمصلي مخير إن شاء قرأ مع فاتحة الكتاب في كل ركعة ما في هذه الأحاديث، وإن شاء قرأ ما في حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة الآتيين. وقال مالك وجمهور أصحابه: لا يقرأ فيهما غير الفاتحة. وقال بعض السلف: لا يقرأ فيهما شيئاً، وكلاهما خلاف هذه الأحاديث التي لا معارض لها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
849- قوله: (قولوا آمنا بالله وما أنزل علينا) أي يقرأ في الأولى منهما الآية التي في البقرة وتمامها {وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [2: 136] . (والتي في آل عمران) في الركعة الثانية {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء(3/149)
بيننا وبينكم} . رواه مسلم.
{الفصل الثاني}
850- (23) عن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي مستوية. (بيننا وبينكم) أي لا يختلف فيها القرآن، والتوراة، والإنجيل: وقيل: إنما خاطبهم بهذا باعتبار مزعومهم ودعواهم، فإن النصارى أيضاً يدعون التوحيد مع شركهم الجلي، وكذلك اليهود، وكذلك أكثر المشركين لا يؤمنون بالله إلا وهم مشركون، ولكن هؤلاء كلهم يدعون التوحيد بأفواههم وألسنتهم، فدعاهم في هذه الآية إلى التوحيد الصحيح الخالص بعد اشتراكهم فيه بحسب الصورة، وبقية الآية {ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [3: 64] . وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في ركعتي الفجر: {قل آمنا بالله وما أنزل علينا} [3: 84] في الركعة الأولى، وفي الركعة الأخرى بهذه الآية: {ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين} [3: 53] ، أو {إنا أرسلنك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} [2: 119] شك الدراوردي أي عبد العزيز بن محمد. والحديث دليل على جواز قراءة بعض السورة بل أوسطها لكن في النافلة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي.
850- قوله: (يفتتح صلاته بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} ) ظاهره يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالبسملة، ولذلك بوب الترمذي عليه: "باب من رأى الجهر بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} لكن الحديث ضعيف كما سيأتي. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً الحاكم، والدارقطني وابن عدي. (ليس إسناده بذاك) أي بذاك القوى. قال الطيبي: المشار إليه: "بذاك" ما في ذهن من يعتني بعلم الحديث، ويعتد بالإسناد القوي- انتهى. قلت: في سنده إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان عن أبي خالد، وإسماعيل بن حماد هذا وثقه ابن معين. وقال أبوحاتم: شيخ يكتب حديثه. وقال العقيلي: ضعيف، حديثه غير محفوظ، ويحكيه عن مجهول. وقال البزار: إسماعيل لم يكن بالقوي. وقال الأزدي: يتكلمون فيه. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: صدوق. وأبوخالد هو الوالبي، واسمه هرمز، وقيل: هرم، كوفي. قال ابن عدي: هو مجهول، والحديث غير محفوظ، وقال أبوزرعة: لا أعرف أباخالد، وقال العقيلي: مجهول، وقال الذهبي: أبوخالد عن ابن عباس لا يعرف. وقال أبوحاتم: صالح الحديث. وقال الحافظ في التقريب: مقبول من كبار التابعين، وفد على عمر. وقيل: حديثه عنه مرسل، فيكون من أوساط التابعين. وقال أبوداود: هو حديث ضعيف. وللحديث طريق أخرى عن ابن عباس، رواها الحاكم بلفظ: كان يجهر في الصلاة بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} .(3/150)
851- (24) وعن وائل بن حجر، قال: ((سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقال: آمين، مد بها صوته)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وصححها الحاكم هذه الطريق، وخطأه الحافظ في ذلك؛ لأن في إسنادها عبد الله بن عمرو بن حسان، وقد نسبه ابن المديني إلى الوضع للحديث. وقد رواه الدارقطني وإسحاق بن راهوية في مسنده، عن يحيى بن آدم، عن شريك. ولم يذكر ابن عباس في إسناده بل أرسله، وهو الصواب من هذا الوجه، قاله الحافظ في التلخيص (ص88) ، وقال أبوعمر: الصحيح في هذا الحديث أنه روى عن ابن عباس من فعله، لا مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
851- قوله: (وعن وائل بن حجر) بتقديم الحاء المهملة المضمومة على الجيم الساكنة، صحابي جليل، كان من ملوك اليمن من بقية أولاد الملوك بحضر موت، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزله، وأصعده معه على المنبر، وأقطعه القطائع، وكتب له عهداً، وقال: هذا وائل بن حجر سيد الأقيال، جاءكم حباً لله ولرسوله. ثم سكن الكوفة، ومات في خلافة معاوية، وتقدم ترجمته بأبسط من هذا. (فقال: آمين) فيه دليل على أن الإمام يقول آمين، خلافاً لما رواه ابن القاسم عن مالك: أن الإمام لا يقول آمين، وإنما يقول ذلك من خلفه، وهو قول المصريين من أصحاب مالك، وقال جمهور أهل العلم: يقولها الإمام كما يقولها المنفرد والمأموم، وهو قول مالك في رواية المدنيين، وقول الجمهور هو الحق. (مد بها صوته) أي رفع بكلمة آمين صوته وجهر، ورواه أبوداود بإسناد صحيح بلفظ: فجهر بآمين. ورواه أيضاً بإسناد صحيح بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ {ولا الضالين} [7:1] . قال: آمين، ورفع بها صوته. فظهر أن المراد من قوله: "ومد بها صوته" جهر بها ورفع صوته بها، فإن الروايات يفسر بعضها بعضاً، ولهذا قال الترمذي عقب رواية الحديث بلفظ: "مد بها صوته"، وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتابعين، ومن بعدهم، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين ولا يخفيها. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات: قوله: "مد بها صوته" أي بكلمة آمين، يحتمل الجهر بها، ويحتمل مد الألف على اللغة الفصيحة. والظاهر هو الأول بقرينة الروايات الأخر، ففي بعضها: يرفع بها صوته. هذا صريح في معنى الجهر- انتهى. قلت: حمل هذا اللفظ على رفع الصوت والجهر متعين للروايات الأخر لهذا الحديث، ولأن لفظ المد مع الصوت لا يطلق إلا على رفع الصوت والجهر كما لا يخفى على من تتبع مظان استعمال هذا اللفظ وموارده. فالحديث حجة قوية لمن قال باستنان الجهر بالتأمين ورفع الصوت به. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وهو القول الأرجح القوي المعول عليه، لأنه لم يثبت في الإسرار بالتأمين وترك الجهر به شيء، لا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة كما ستعرف. وقد ورد في الجهر به أحاديث كثيرة أكثرها صحيحة، فمنها: حديث وائل هذا. ومنها: حديث أبي هريرة السابق: "إذا أمن الإمام فأمنوا" وقد تقدم تقريره.(3/151)
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: قال الربيع: سئل الشافعي عن الإمام هل يرفع صوته بآمين؟ قال: نعم، ويرفع بها من خلفه أصواتهم. فقلت: ما الحجة؟ قال: أنا مالك، وذكر حديث أبي هريرة المتفق على صحته، ثم قال: ففي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمن الإمام فأمنوا" دلالة على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين، لأن من خلفه لا يعرفون وقت تأمينه إلا أن يسمع تأمينه، ثم بيّنه ابن شهاب فقال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "آمين"، فقلت للشافعي: فإنا نكره للإمام أن يرفع صوته بآمين، فقال: هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن عندنا وعندهم علم إلا هذا الحديث الذي ذكرناه عن مالك فينبغي أن يستدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بآمين، وأنه أمر الإمام أن يجهر بها، فكيف ولم يزل أهل العلم عليه، وروى وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: آمين، يرفع بها صوته، ويحكي مده إياها- انتهى. ومنها: حديث آخر لأبي هريرة أخرجه الدارقطني (ص127) والحاكم (ج1:ص223) عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال آمين. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: قال الدارقطني: إسناده حسن. والحاكم: صحيح على شرطهما. والبيهقي: حسن صحيح- انتهى. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: رواه الحاكم بإسناد صحيح- انتهى. قلت: في سنده إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي، قال أبوحاتم: شيخ لا بأس به، ولكنهم يحسدونه، سمعت ابن معين أثنى عليه خيراً، وقال النسائي ليس بثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرجه أبوداود وابن ماجه من طريق بشر بن رافع، عن أبي عبد الله بن عم أبي هريرة، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تلا: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين، حتى يسمع من يليه من الصف الأول. ولفظ ابن ماجه: إذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين، حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد. وبشر بن رافع وثقه ابن معين، وابن عدي كما في الخلاصة للخزرجى، وضعفه غير واحد، وأبوعبد الله بن عم أبي هريرة مقبول كما في التقريب. قال النيموي في رسالته الحبل المتين (ص17) : حديث أبي داود هذا حسن لغيره، وأخرجه الحميدى من طريق سفيان، عن سعيد المقبري، وقد صرح النيموي في تلك الرسالة (ص16) بصحة هذا الطريق حيث قال بعد ذكره: هذا حديث مرفوع، صحيح الإسناد- انتهى. ولأبي هريرة حديث ثالث في الجهر بالتأمين أخرجه النسائي وغيره عن نعيم المجمر، قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقال: آمين، فقال الناس آمين- الحديث. وفي آخره: وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإسناده صحيح، ويثبت من هذا الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالتأمين، ويثبت منه أيضاً أن الصحابة والتابعين كانوا يجهرون بالتأمين خلف أبي هريرة. ومنها: حديث أم الحصين أخرجه إسحاق بن راهوية في مسنده: أنها صلت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قال:(3/152)
{ولا الضالين} قال: آمين، فسمعته وهي في صف النساء، ذكره الحافظ في الدراية، والزيلعي في نصب الراية (ج1:ص371) وسكتا عنه. وذكره العيني في شرح البخاري عن كتاب المعرفة للبيهقي. وسكت هو أيضاً عليه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص114) وقال بعد ذكره: رواه الطبراني في الكبير. وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف- انتهى. قلت: إسماعيل بن مسلم المكي اثنان: أحدهما إسماعيل بن مسلم المكي أبوإسحاق، كان من البصرة، ثم سكن مكة، وهو ضعيف الحديث. والثاني إسماعيل بن مسلم المخزومي مولاهم المكي، وهو صدوق. والظاهر أن في سند حديث ابن راهوية والطبراني إسماعيل بن مسلم المخزومي، يدل على ذلك سكوت الزيلعي، والحافظ، والعيني عن الكلام على هذا الحديث. ومنها: حديث علي أخرجه الحاكم بلفظ: قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: آمين، إذا قرأ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} . وأخرج أيضاً عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ {ولا الضالين} رفع صوته بآمين. وأخرج ابن ماجه من حديث علي، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: {ولا الضالين} قال: آمين. قال السندي: والسماع يدل على الجهر. وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلي ضعفه الجمهور. وقال أبوحاتم: محله الصدق، وباقي رجاله ثقات. وقال أبوحاتم: هو خطأ من ابن أبي ليلي. واعلم أنه قد ثبت إجماع الصحابة على الجهر بالتأمين على طريق الحنفية فقد أخرج عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: قلت له: أكان ابن الزبير يؤمن على أثر أم القرآن؟ قال: نعم ويؤمن من وراءه حتى أن للمسجد للجة. وروى البيهقي من وجه آخر عن عطاء، قال أدركت مائتين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المسجد إذا قال الإمام: {ولا الضالين} سمعت لهم رجة بآمين- انتهى. فلما ثبت أن ابن الزبير كان يؤمن بالجهر، وكذلك يؤمن بالجهر كل من يصلي وراءه من الصحابة حتى يكون للمسجد للجة، ولم ينكر عليهم أحد، ثبت إجماع الصحابة على الجهر بالتأمين على طريق الحنفية، فإنهم قالوا: إن ابن الزبير أفتى في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح ماءها، وذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً، فكذلك يقال: إن ابن الزبير أمن بالجهر في المسجد بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، بل وافقوه، فكانوا يجهرون معه بآمين حتى يكون للمسجد للجة، فكان إجماعاً منهم على الجهر بالتأمين. قلت: ويدل على إجماع الصحابة على ذلك حديث نعيم المجمر المتقدم أيضاً، فإنه يدل على جهر الصحابة والتابعين بآمين خلف أبي هريرة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ما ثبت عن هؤلاء الصحابة، وكذا لم يثبت عن أحد منهم الإنكار على من جهر به. واعلم أيضاً أن الحنفية استدلوا على ما ذهبوا إليه من الإسرار بالتأمين بحديث وائل بن حجر: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى فلما بلغ {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين، وأخفى بها صوته. أخرجه أحمد، وأبوداود الطيالسي، وأبويعلي في مسانيدهم، والطبراني في معجمة والدارقطني في سننه، والحاكم في المستدرك، كلهم من طريق شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن علقمة بن وائل،(3/153)
عن أبيه. وأخرجه الحاكم في أوائل التفسير (ج2: ص232) ولفظه: ويخفض بها صوته. والجواب: أن حديث وائل هذا لا يصلح للاستدلال، فإن الشعبة قد تفرد بهذا اللفظ، وهو مضطرب من جهة المتن ومن جهة الإسناد أيضاً، لأن شعبة لم يضبط إسناده ولا متنه، بل اضطرب فيهما، أما اضطرابه في الإسناد فظاهر لمن تأمل في طرقه، وأما اضطرابه في المتن فقال مرة: رافعاً صوته، كما في رواية البيهقي في سننه، وقال مرة: أخفى بها صوته، وقال مرة خفض بها صوته، كما تقدم. وهذه الألفاظ متباينة المفاهيم، متخالفة المعاني. ولو سلم أن حديث شعبة سالم عن الاضطراب في الإسناد والمتن فلفظ "أخفى بها صوته" أو "خفض بها صوته" فيه شاذ، فإنه قد تفرد بهذا اللفظ شعبة، عن سلمة بن كهيل، ولم يتابعه عليه أحد لا ثقة ولا ضعيف، ومع ذلك قد خالف فيه ثلاثة ثقات وضعيفاً من أصحاب سلمة بن كهيل، أما الثقات فالأول منهم سفيان الثوري، وهو أحفظ من شعبة، فإنه رواه عن سلمة بن كهيل بلفظ: "رفع بها صوته"، وقد تقدم التنبيه عليه. والثاني علي بن صالح، فإنه رواه عن سلمة بن كهيل بلفظ: فجهر بآمين، وروايته في سنن أبي داود، وعلي ابن صالح هذا ثقة. والثالث العلاء بن الصالح، قال الترمذي في جامعه: روى العلاء بن صالح الأسدي عن سلمة بن كهيل نحو رواية سفيان، والعلاء بن صالح ثقة. قال الخزرجي في الخلاصة: وثقه ابن معين. وأما الضعيف فمحمد بن سلمة بن كهيل. قال الدارقطني بعد رواية حديث شعبة: هكذا قال شعبة: وأخفى بها صوته. ويقال: إنه وهم، لأن سفيان الثوري، ومحمد بن سلمة، وغيرهما رووه عن سلمة بن كهيل فقالوا: ورفع بها صوته- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في "عمدة الرعاية" اتفق الحافظ – وإليهم المرجع في تنقيد الأسانيد – على أن في سنده (أى في سند حديث شعبة) خدشة وخطأ من شعبة- أحد رواته – والصحيح "فجهر بها" انتهى. وقال بحر العلوم اللكنوي: وأما الإسرار بالتأمين فهو مذهبنا، ولم يرو فيه إلا ما روى الحاكم، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا بلغ {ولا الضالين} قال: آمين، وأخفى بها صوته، وهو ضعيف. وقد بيّن في "فتح القدير" وجه ضعفه-انتهى. وقال البيهقي قد أجمع الحافظ: البخاري وغيره على أن شعبة أخطأ في هذا الحديث، فقد روى من أوجه "فجهر بها" انتهى. واستدلوا أيضاً بما تقدم من حديث سمرة بن جندب: أنه حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة (غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قالوا: الأظهر أن السكتة الثانية كانت للتأمين سراً والجواب: أن السكتة الثانية لم تكن للتأمين سراً، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر صوته بالتأمين، ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - الإسرار بالتأمين أصلاً، فكيف يقال: إنها كانت للتأمين سراً؟ بل السكتة الثانية كانت لأن يتراد إليه نفسه، كما صرح به قتادة في بعض رواياته. واستدلوا أيضاً بقوله عليه السلام: لا تبادروا الإمام، إذا كبر فكبروا، وإذا قال: {ولا الضالين} فقولوا: آمين. أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. قالوا: يستفاد منه أن الإمام لا يجهر بآمين،(3/154)
لأن تأمين الإمام لو كان مشروعاً بالجهر لما علق النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمينهم بقوله: {ولا الضالين} قالوا: ويؤيد ما قلنا من أنه يستفاد منه أن الإمام لا يجهر بآمين ما رواه أحمد، والدارمي، والنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا قال الإمام: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين- الحديث: فإن قوله: "وإن الإمام يقول، آمين" يدل على أن الإمام يقولها سراً، وإلا لا يبقى لهذا القول فائدة. والجواب: أنه علق النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمينهم بتأمين الإمام كما تقدم من حديث أبي هريرة بلفظ: إذا أمن الإمام فأمنوا، وهو أصح الروايات وأشهرها في حديث أبي هريرة، فهو الأصل. والمعنى: إذا قال الإمام آمين، فقولوا: آمين، وهذا هو المراد بقوله: إذا قال: ولا الضالين فقولوا: آمين. فإن المراد به إذا قال: ولا الضالين، وقال: آمين، فقولوا: آمين مع تأمينه، لأن الروايات يفسر بعضها بعضاً. ومعية الإمام في التأمين على سبيل اليقين لا تكون إلا إذا جهر بالتأمين كما تقدم. وأما قوله: إن الإمام يقول آمين، فهو بيان للواقع لا لإعلامهم بأن الإمام يقول: آمين، حتى يدل على الإسرار، بل كانوا يسمعونها منه حين يجهر بها كما ورد في الروايات السابقة الصحيحة، ومقصوده - صلى الله عليه وسلم - عنه ترغيبهم في موافقة الإمام في التأمين في الزمان، أي كما أن الإمام يقول: آمين، فقولوا أنتم أيضاً لتوافقوه فيها. واستدلوا أيضاً بأثر عمر، وعلي، روى الطحاوي وابن جرير عن أبي وائل، قال: كان عمر وعلي لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا بالتعوذ، ولا بآمين. والجواب: أن هذا الأثر ضعيف جداً، فإن في سنده سعيد بن المرزبان البقال، وقد تركه الفلاس، وقال ابن معين: لا يكتب حديثه. وقال البخاري: منكر الحديث. ونقل ابن القطان أن البخاري قال: كل من قلت فيه: منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه. كذا في الميزان للذهبي. واستدلوا أيضاً بقول إبراهيم النخعي: خمس يخفيهن الإمام: سبحانك اللهم وبحمدك، والتعوذ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وآمين، واللهم ربنا لك الحمد. رواه عبد الرزاق. والجواب: أن قول إبراهيم النخعي هذا مخالف للأحاديث الصحيحة فلا عبرة به. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في السعاية: أما أثر النخعي ونحوه فلا يوازي الروايات المرفوعة-انتهى. وأجاب الحنفية عن أحاديث الجهر بوجوه: منها: الكلام فيها سنداً ومعنى كما صنعه النيموي في "آثار السنن". وقد رد عليه شيخنا في "أبكار المنن" رداً حسناً وأجاب عن كل ما أورد النيموي على هذه الأحاديث بما لا مزيد عليه، فعليك أن ترجع إليه. ومنها: أن آمين دعاء، والأصل في الدعاء الإخفاء لقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [7: 55] ، فعند التعارض يرجح الإخفاء بذلك. وفيه: أنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسرار بالتأمين أصلاً كما تقدم، فدعوى التعارض باطلة. ثم لا نسلم أن "آمين" دعاء بل نقول: إنها كالطابع والخاتم للدعاء كما في حديث أبي زهير النميري عند أبي داود: أن "آمين" مثل الطابع على الصحيفة، ثم ذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن ختم بآمين فقد أوجب. ولو سلم أن "آمين" دعاء فنقول: إنها ليست بدعاء مستقل بالأصالة بل(3/155)
رواه الترمذي وأبوداود والدارمي وابن ماجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هي من توابع الدعاء، ولذلك لا يدعى بآمين وحدها، بل يدعى بدعاء أولاً ثم تقال هي عقيبه، فالظاهر أن يكون الجهر بها والإخفاء بها تابعاً لأصل الدعاء، إن جهرا فجهراً، وإن سرا فسراً. ولو سلم أن "آمين" دعاء بالأصالة فنقول: إن الجهر بالتأمين مخصوص منه لأحاديث الجهر بالتأمين، كما خص منه قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [1: 7] فإنه دعاء، ويقرأ في الصلاة الجهرية، وكذلك كثير من الأدعية قد ثبت الجهر بها بالاتفاق، فهذا الاعتذار من الحنفية مما لا يلتفت إليه. ومنها: أن الجهر كان أحياناً للتعليم كما جهر عمر بن الخطاب بالثناء عند الافتتاح كذلك كان الجهر بالتأمين تعليماً. وفيه: أن القول بأن جهره - صلى الله عليه وسلم - بالتأمين كان للتعليم باطل، فإنه ادعاء محض لا دليل عليه، ويدل على بطلانه أن الصحابة كانوا يجهرون خلف الإمام حتى كان للمسجد رجة، فلو كان جهره - صلى الله عليه وسلم - بالتأمين للتعليم لم يجهروا بالتأمين خلف إمامهم، وأيضاً لو كان جهره به للتعليم كان أحياناً لا على الدوام. وقد روى أبوداود وغيره بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ {ولا الضالين} قال "آمين" ورفع بها صوته. فهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يداوم على الجهر. ومنها: أن الجهر بآمين كان في ابتداء الأمر ثم ترك. وفيه: أن هذا أيضاً ادعاء محض فلا يلتفت إليه. ومما يدل على بطلانه أن الجهر روي من حديث وائل بن حجر وهو إنما أسلم في أواخر الأمر كما ذكره الحافظ في الفتح وغيره. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في السعاية: وجدنا بعد التأمل والإمعان أن القول بالجهر بآمين هو الأصح لكونه مطابقاً لما روي عن سيد بني عدنان، ورواية الخفض عنه - صلى الله عليه وسلم - ضعيفة لا توازي روايات الجهر، ولو صحت وجب أن تحمل على عدم القرع العنيف. وأي ضرورة داعية إلى حمل روايات الجهر على بعض الأحيان، أو الجهر للتعليم مع عدم ورود شيء من ذلك في رواية. والقول بأنه كان في ابتداء الأمر أضعف، لأن الحاكم قد صححه من رواية وائل بن حجر، وهو إنما أسلم في أواخر الأمر كما ذكره ابن حجر في فتح الباري-انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن القول برفع الصوت بالتأمين والجهر به هو الراجح القوي، وقد اعترف بذلك الشيخ عبد الحي حيث قال في التعليق الممجد: الإنصاف أن الجهر قوي من حيث الدليل-انتهى. (رواه الترمذي) وحسنه. (وأبوداود) وسكت عليه، ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. (والدارمي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الدارقطني وابن حبان كلهم من طريق سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، عن وائل بن حجر. قال الحافظ في التلخيص: سنده صحيح، وصححه الدارقطني-انتهى. وقد اعترف غير واحد من العلماء الحنفية بأن حديث وائل هذا صحيح كالشيخ عبد الحق الدهلوي في ترجمة المشكاة، والشيخ أبي الطيب السندي، والشيخ سراج أحمد السرهندي في شرحيهما للترمذي، وقد تقدم أن شعبة روى هذا الحديث فقال فيه: وأخفى بها صوته. وفي رواية: خفض بها صوته. وقد أسلفنا أنه اتفق الحفاظ على غلطه فيها، وأن الصواب المعروف: مد ورفع بها صوته. وارجع لتفصيل الكلام وبسطه إلى تحفة(3/156)
852- (25) وعن أبي زهير النميري، قال: ((خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فأتينا على رجل
قد ألح في المسألة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أوجب إن ختم. فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟
قال: بآمين) رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأحوذي (ج1: ص209-212) وأبكار المنن (ص185-193) .
852- قوله: (عن أبي زهير النميري) بالتصغير فيهما، قيل: هو أبوزهير الأنماري الذي يقال له أبوالأزهر، والراجح أنه غير، وهو صحابي سكن الشام. قال المنذري: قيل: اسمه فلان بن شرجيل. وقال أبوحاتم الرازي: إنه غير معروف بكنيته فكيف يعرف اسمه. وذكر له أبوعمر النمري هذا الحديث وقال: ليس إسناد حديثه بالقائم، يقال: اسمه فلان بن شرحبيل. (فأتينا) أي مررنا. (قد ألح في المسألة) أي بالغ في السؤال والدعاء من الله. (أوجب) أي الجنة لنفسه، أو الإجابة لدعاءه، يقال "أوجب الرجل" إذا فعل فعلاً قد وجبت له به الجنة أو النار، أو المغفرة لذنبه، أو الإجابة لدعاءه. وقد تقرر في موضعه أنه لا يجب على الله شيء فذلك إنما هو لمحض الفضل والوعد الذي لا يخلف كما أخبر تعالى به، كذا في المرقاة. (إن ختم) أي المسألة. (قال: بآمين) وتمام الحديث: فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب. فانصرف الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى الرجل فقال: اختم يا فلان بآمين وأبشر. وفي الحديث دلالة على أن من دعا يستحب له أن يقول بعده دعاءه "آمين". وفيه أن ختم الدعاء بآمين موجب لإجابة الدعاء، سواء كان المؤمن الداعي نفسه أو غيره. وقد أخرج الحاكم عن حبيب بن مسلمة الفهري: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى. وأخرج ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعاً: إذا دعا أحدكم فليؤمن على دعاء نفسه. ومناسبة الحديث للباب من حيث أن فاتحة الكتاب تشتمل على الدعاء، فمن قرأها إماماً أو مأموماً أو منفرداً داخل الصلاة أو خارجها يؤمن عقبها ويختمها بآمين. (رواه أبوداود) من طريق الفريابي، عن صبيح بن محرز، عن أبي مصبح المقرئي، قال: كنا نجلس إلى أبي زهير النميري - وكان من الصحابة - فيتحدث أحسن الحديث، فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال: اختمه بآمين، فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة. قال أبوزهير: أخبركم عن ذلك: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الخ. والحديث سكت عنه أبوداود، وأخرجه ابن مندة. وقال: هذا حديث غريب، تفرد به الفريابي عن صبيح، كذا في الإصابة (ج4: ص78) وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (ج2: ص652) : أبوزهير الأنماري- وقيل: النميري – حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء، وفيه: إذا دعا أحدكم فليختم بآمين فإن آمين في الدعاء مثل الطابع على الصحيفة، وليس إسناد حديثه بالقائم-انتهى. وذكر المنذري كلام ابن عبد البر وسكت عليه، والظاهر أن هذا الحديث لا ينحط عن درجة الحسن، فإن محمد بن يوسف الفريابي ثقة فاضل، وصبيح بن محرز مقبول، ذكره ابن حبان في الثقات، وأبومصبح المقرئي أيضاً ثقة.(3/157)
853- (26) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين) رواه النسائي.
854- (27) وعن عقبة بن عامر، قال: ((كنت أقود لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته في السفر، فقال لي: يا عقبة! ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ فعلمني {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} قال: فلم يرني سررت بهما جداً، فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
853- قوله: (صلى المغرب بسورة "الأعراف" فرقها) من التفريق. (في ركعتين) فيه دليل على جواز أن يقسم المصلي سورة بين ركعتين في الفريضة من غير كراهة. قال الزرقاني: وكره مالك أن يقسم المصلى سورة بين ركعتين في الفريضة، لأنه لم يبلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. ذكره ابن عبد البر. أو بلغه وحمله على بيان الجواز-انتهى. قلت: الظاهر هو ما قاله ابن عبد البر، وقد أخرج أحمد، والطبراني عن أبي أيوب أو عن زيد بن ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بالأعراف في الركعتين. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص118) : رجال أحمد رجال الصحيح، وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي أيوب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في المغرب سورة (الأنفال) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وفي هذه الأحاديث رد على مالك في كراهة قراءة السور الطوال في المغرب. (رواه النسائي) بسند حسن. قال الشوكاني: وقد أخرج نحوه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي أيوب. وأخرج نحوه ابن خزيمة عن زيد بن ثابت. ويشهد لصحته ما أخرجه البخاري وأبوداود والترمذي من حديث زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في المغرب بطولي الطوليين. زاد أبوداود: قلت ما طولي الطوليين؟ قال: الأعراف.
854- قوله: (كنت أقود لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته) أي أجرها من قدامها لصعوبة تلك الطريق، أو صعوبة رأسها، أو شدة الظلام. (ألا أعلمك خير سورتين قرئتا) أي في باب التعوذ مع سهولة حفظهما. قال الطيبي: أي إذا تقصيت القرآن المجيد إلى آخره سورتين سورتين ما وجدت في باب الاستعاذة خيراً منهما – انتهى. (فلم يرني) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (سررت) على بناء المفعول، أي جعلت مسروراً. (بهما) أي بهاتين السورتين (جداً) أي سروراً كثيراً، لعله لكونهما قصيرتين، وأراد أن يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة طويلة. وقيل: لأنه ما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قط أنه اعتنى بهما وصلى بهما في صلاة. وقال السندي: أي ما حصل لي السرور الكامل، كأن القلب كان مشغولاً بما كان في الوقت من الظلمة وغيرها، فما ظهر في القلب السرور على أكمل وجه بذلك كما هو حال الحزين-انتهى. ونصب "جداً" على المصدر. (صلى بهما صلاة الصبح للناس) أي أم الناس بهاتين السورتين في صلاة الفجر لكونه مسافراً، والسفر يطلب فيه التخفيف، وليبين بذلك(3/158)
فلما فرغ، التفت إلي، فقال: يا عقبة! كيف رأيت؟)) رواه أحمد وأبوداود والنسائي.
855- (28) وعن جابر بن سمرة قال: كان النبي يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: {قل يا أيها الكافرون} ، و {قل هو الله أحد} )) ، رواه في شرح السنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أنهما عظيمتان تقومان مقام سورتين عظيمتين كما هو المعتاد في صلاة الفجر. (كيف رأيت؟) أى علمت ووجدت عظمة هاتين السورتين المشتملتين على التعوذ من الشرور كلها حيث أقيمتا مقام الطويلتين، يعني لو لم تكونا عظيمتي القدر لما قرأتهما في الصلاة، ولم تسدا مسد الطول. قال التوربشتي: أشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "خير سورتين" إلى الخيرية في الحالة التي كان عقبة عليها، وذلك أنه كان في سفر، وقد أظلم عليه الليل، ورآه مفتقراً إلى تعلم ما يدفع به شر الليل، وشر ما أظلم عليه الليل، فعين السورتين لما فيهما من وجازة اللفظ، والاشتمال على المعنى الجامع مع سهولة حفظهما، ولم يفهم عقبة المعنى الذي أراده النبي - صلى الله عليه وسلم - من التخصيص فظن أن الخيرية إنما تقع على مقدار طول السورة وقصرها، ولذلك قال: فلم يرني سررت بهما جداً، وإنما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما ليعرفه أن قراءتهما في الحال المتصف عليها أمثل من قراءة غيرهما. وتبين له أنهما يسدان مسد الطويلتين-انتهى. (رواه أحمد) (ج4: ص149، 150، 153) . (وأبوداود، والنسائي) من حديث القاسم مولى معاوية عن عقبة، والسياق لأبي داود وقد سكت عنه هو، ورواه أيضاً الحاكم (ج1: ص567) وصححه ووافقه الذهبي. وقال المنذري: القاسم هو أبوعبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن القرشي الأموي مولاهم الشامي. وثقه يحيى بن معين وعدة، وتكلم فيه غير واحد – انتهى. قلت: أصل الحديث أي في فضل هاتين السورتين قد روي عن عقبة بن عامر من طرق بعضها في صحيح مسلم، وزاد ابن حبان فيه من وجه آخر عن عقبة بن عامر: فإن استطعت أن لا تفوتك قراءتهما في صلاة فافعل، ورواية مسلم تقوي هذا الحديث وتشهد لصحته، ويؤيده أيضاً ما رواه أحمد من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من الصحابة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه المعوذتين، وقال له: إذا أنت صليت فاقرأ بهما. وإسناده صحيح، ولسعيد بن منصور من حديث معاذ بن جبل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح فقرأ فيهما بالمعوذتين.
855- قوله: (يقرأ في صلاة المغرب) أي في فرضه. {قل يا أيها الكافرون} في الركعة الأولى. {وقل هو الله أحد} في الركعة الثانية. (رواه) البغوي صاحب المصابيح. (في شرح السنة) أي بإسناده، وأخرجه أيضاً ابن حبان، وفي سنده سعيد بن سماك، وهو متروك. وقال الشيخ الألباني: رواه ابن حبان في الثقات (ج2: ص104) والبيهقي (ج2: ص391) من طريق سعيد بن سماك بن حرب عن أبيه، قال: لا أعلمه إلا عن جابر بن سمرة، فذكره، وقال ابن حبان: والمحفوظ عن سماك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره، يعني أن الصواب فيه مرسل، ليس فيه ذكر جابر، والذي ذكره إنما هو سعيد هذا، وهو وإن أورده ابن حبان في الثقات، فقد قال فيه ابن أبي حاتم. (2/1/32) عن أبيه: متروك الحديث، واعتمده الحافظ في الفتح،(3/159)
856- (29) ورواه ابن ماجه عن ابن عمر إلا أنه لم يذكر "ليلة الجمعة".
857- (30) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((ما أحصي ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل صلاة الفجر بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} رواه الترمذي.
858- (31) ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة إلا أنه لم يذكر "بعد المغرب".
859- (32) وعن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، قال: ((ما صليت وراء أحد أشبه صلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال: والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب. قلت: أخرجه أبوداود وغيره من حديث ابن عمر بسند صحيح وحسنه الترمذي-انتهى.
856- قوله: (ورواه ابن ماجه عن ابن عمر) قال الحافظ: إن ظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول. قال الدارقطني: أخطأ بعض رواته فيه، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب.
857- قوله: (ما أحصي) من الإحصاء وما نافية، أي ما أطيق أن أعد. (ما سمعت) ما موصولة، وقيل مصدرية، أي سماعي. (رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ) أي لا أقدر أن أعد المرات التي كان يقرأ هما فيها، أو مدة سمعت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ، وهو كناية عن الكثرة. قال الطيبي: حال عن العائد إلى ما "وكان الأصل: ما سمعت قراءته" فأزيل المفعول به عن مقره، وجعل حالاً كما في قوله تعالى: {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي} [3: 193} أي نداء المنادي-انتهى. (بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ) فيه استحباب قراءة هاتين السورتين في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل الفجر. (رواه الترمذي) وفي سنده عبد الملك بن الوليد بن معدان، وقد تفرد بروايته، وهو ضعيف ضعفه أبوحاتم. وقال البخاري: فيه نظر. وقال النسائي ليس بالقوي. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف-، فحديث ابن مسعود هذا ضعيف.
858- قوله: (ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة إلا أنه) أي ابن ماجه أو أباهريرة. (لم يذكر بعد المغرب) أي لم يذكر في الركعتين بعد المغرب. وفيه: أن حديث أبي هريرة في قراءة سورتي الإخلاص في ركعتي الفجر رواه مسلم، وأبوداود، والنسائي أيضاً كما تقدم، فعزوه إلى ابن ماجه فقط ليس بجيد. وأيضاً الظاهر من عبارة المصنف أن ابن ماجه لم يرو حديث ابن مسعود هذا، وفيه أيضاً نظر، لأن ابن ماجه قد روى هذا الحديث عن ابن مسعود في باب ما يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفيه أيضاً عبد الملك بن الوليد المذكور، لكنه ليس في روايته في الركعتين قبل صلاة الفجر.
859- قوله: (عن سليمان بن يسار) مولى ميمونة أم المؤمنين كان فقيهاً، فاضلاً، ثقة، عابداً، ورعاً، حجة، وهو أحد الفقهاء المدينة السبعة من كبار التابعين. مات قبل المائة. وقيل: بعدها. وتقدم ترجمته في تطهير النجاسات.(3/160)
برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان. قال سليمان: صليت خلفه فكان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر، ويخفف الأخريين، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بوسط المفصل، ويقرأ في الصبح بطول المفصل)) رواه النسائي وروى ابن ماجه إلى "ويخفف العصر".
860- (33) وعن عبادة بن الصامت، قال: ((كنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، فقرأ، فثقلت عليه القراءة. فلما فرغ قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(من فلان) زاد أحمد في روايته "لإمام كان بالمدينة" وفي شرح السنة للبغوي "إن فلانا" يريد به أميراً كان على المدينة، قيل اسمه عمرو بن سلمة، وليس هو عمر بن عبد العزيز كما قيل، لأن ولادة عمر بن عبد العزيز كانت بعد وفاة أبي هريرة، والحديث مصرح بأن أبا هريرة صلى خلف فلان. (قال سليمان صليت خلفه) أي خلف ذلك الفلان، وهذا لفظ أحمد، ولفظ النسائي من رواية: فصلينا وراء ذلك الإنسان. (ويخفف العصر) أي بالنسبة إلى الظهر. (في المغرب) أي في الأوليين منه، وكذا في العشاء. (بوسط المفصل) بفتح الواو والسين المهملة، والمفصل عبارة عن السبع الأخير من القرآن، أوله سورة (الحجرات) . سمى مفصلاً لأن سوره قصار، كل سورة كفصل من الكلام. (بطول المفصل) بضم الطاء المهملة وفتح الواو جمع الطولي، كالكبر في الكبرى. وقيل: بضم الطاء وسكون الواو، مصدر بمعنى الوصف. وفي بعض النسخ بطوال المفصل – بكسر الطاء جمع الطويلة – والحديث قد استدل به على استحباب قراءة قصار المفصل في المغرب لما عرفت من إشعار لفظ "كان" بالمداومة. قيل: في الاستدلال به على ذلك نظر، لأن قوله "أشبه صلاة" يحتمل أن يكون في معظم الصلاة لا في جميع أجزاءها، ويمكن أن يقال في جوابه: إن الخبر ظاهر في المشابهة في جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت ما يخصصه. وقد تقدم الكلام في القراءة في صلاة المغرب مفصلاً، وأن القول الراجح هو أن القراءة فيها بطوال المفصل وقصاره سنة، والاقتصار على نوع من ذلك إن انضم إليه اعتقاد أنه السنة دون غيره مخالف لهديه - صلى الله عليه وسلم -. (رواه النسائي) قال الحافظ في الفتح: وصححه ابن خزيمة وغيره، وقال في بلوغ المرام: إسناده صحيح-انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد.
860- قوله: (فقرأ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (فثقلت عليه القراءة) أي شق عليه التلفظ والجهر بالقراءة، ويحتمل أن يراد به أنها التبست عليه القراء بدليل ما في رواية لأبي داود من حديث عبادة بلفظ: فالتبست عليه القراءة. قال المظهر: عسرت القراءة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لكثرة أصوات المأمومين بالقراءة. والسنة أن يقرأ المأموم سراً بحيث يسمع كل واحد نفسه. (فلما فرغ) أي من الصلاة. (لعلكم تقرءون خلف إمامكم) قيل: هو سؤال فيه معنى الاستفهام للتقرير لا لطلب(3/161)
قلنا: نعم، يا رسول الله! قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التصديق، ويؤيده رواية الترمذي بلفظ: إن أراكم تقرؤن وراء إمامكم. وإنما قال: خلف إمامكم، وحق الظاهر "خلفي" ليؤذن بأن تلك الفعلة غير مناسبة لمن يقتدي بالإمام. (قلنا: نعم) زاد أبوداود في روايته "هذا" قال الخطابي في المعالم (ج1: ص205) "الهذ" سرد القراءة ومداركتها في سرعة واستعجال. وقيل: أراد بالهذ الجهر بالقراءة، وكانوا يلبسون عليه قراءته بالجهر، وقد روي ذلك في حديث عبادة من غير هذا الطريق-انتهى. (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) قال الخطابي: قوله "لا تفعلوا" يحتمل أن يكون المراد به الهذ من القراءة، وهو الجهر بها. ويحتمل أن يكون أراد بالنهي ما زاد من القراءة على فاتحة الكتاب-انتهى. قلت: على الاحتمال الأول يكون الحديث بظاهره دليلاً على الإذن بقراء الفاتحة جهراً لأنه استثنى من النهي عن الجهر خلفه، لكن أخرج البخاري في جزء القراءة، وابن حبان، والبيهقي في كتاب القراءة، وأبويعلى، والطبراني في الأوسط من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه، فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه، فقال: أتقرؤن في صلاتكم والإمام يقرأ؟ فسكتوا، فقالها ثلاث مرات، فقال قائل- أو قائلون- إنا لنفعل. قال فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه. هذا لفظ البخاري. (فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) قال الخطابي في المعالم (ج1: ص205) : هذا الحديث نص بأن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على من صلى خلف الإمام، سواء جهر الإمام بالقراءة أو خافت بها. وإسناده جيد لا طعن فيه. قلت: الأمر كما قال الخطابي، لا شك في أن هذا الحديث نص صريح في أن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على المأموم في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية، لأن الاستثناء من النفي عند الجمهور إثبات، فيكون ظاهر الحديث مفيداً لإباحة القراءة بالفاتحة خلف الإمام، لا الوجوب، لكنه ههنا يحمل على إفادة الوجوب، لا الإباحة، والإذن، والرخصة فقط، ولقوله: - صلى الله عليه وسلم - "فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، فقوله هذا دليل واضح وحجة صريحة لحمل الاستثناء السابق على إفادته الوجوب، قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في السعاية: قد ثبت بحديث عبادة وهو حديث صحيح قوي السند: أمره - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة للمقتدي-انتهى. وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار: أما حديث عبادة فقد بين الأمر، وأخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر المأمومين بالقراءة خلفه بفاتحة الكتاب. قلت: وقد ورد الأمر بقراءة الفاتحة خلف الإمام صريحاً في حديث أنس، وقد تقدم لفظه. وفي حديث عبادة عند الطبراني في الكبير ولفظه: من صلى خلف الإمام فليقرأ بفاتحة الكتاب، كذا في كنز العمال (ج4: ص96) ووقع هذا الحديث في مجمع الزوائد (ج2: ص111) . (طبعة مصر القاهرة) بلفظ: من قرأ خلف الإمام. بدل "من صلى" الخ. والظاهر أنه خطأ من النساخ، فقد ذكره السيوطي في الجامع الصغير بلفظ "من صلى" كما في الكنز. قال الهيثمي: رجاله موثقون. وقال العلقمي في شرحه: بجانبه علامة الحسن. وفي حديث أبي هريرة عند البيهقي في كتاب القراءة بعد ذكر(3/162)
رواه أبوداود، والترمذي. وللنسائي معناه، وفي رواية لأبي داود، قال: ((وأنا أقول: ما لي ينازعني القرآن؟ فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مثل هذه القصة: اقرؤوا بفاتحة الكتاب. فهذه الروايات صريحة في الأمر بقراءة الفاتحة للمقتدي. وقد أجاب الحنفية عن حديث عبادة هذا بوجوه كلها مخدوشة مردودة، ذكر هذه الوجوه الشيخ اللكنوي في "إمام الكلام" وحاشيته "غيث الغمام" مع بيان ما فيها من الخدشات. وقد رد على هذه الوجوه شيخنا أيضاً رداً حسناً في "أبكار المنن" وفي "تحقيق الكلام" وللعلامة المحدث الفقيه الشيخ عبد الله الأمر تسري كتاب نفيس في هذه المسئلة سماه "الكتاب المستطاب في جواب فصل الخطاب" قد رد فيه على ما جمعه الشيخ محمد أنور من تقريراته المنتشرة في هذه المسألة، فعليك أن تراجعه أيضاً لتقف على تشغيبات الحنفية ومراوغاتهم الجدلة، ودسائسهم الخبيثة الواهية، وتمويهاتهم الباطلة المزخرفة. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (والترمذي) وحسنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: أخرجه أحمد والبخاري في جزء القراءة. وصححه أبوداود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من طريق ابن إسحاق: حدثني مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة. وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول. وقال في الدراية: أخرجه أبوداود بإسناد رجاله ثقات. وقال في نتائج الأفكار لتخريج أحاديث الأذكار: هذا حديث حسن. وقال القاري: قال ميرك نقلاً عن ابن الملقن: حديث عبادة بن الصامت رواه أبوداود والترمذي، والدارقطني، وابن حبان، والبيهقي، والحاكم. وقال الترمذي: حسن. وقال الدارقطني: إسناده حسن رجاله ثقات. وقال الخطابي: إسناده جيد لا مطعن فيه. وقال الحاكم: إسناده مستقيم. وقال البيهقي صحيح- انتهى. (وفي رواية لأبي داود: قال) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - (وأنا أقول) أي في نفسي. (ما لي ينازعني) أي يعالجني ولا يتيسر (القرآن) بالرفع، أي لا يتأتى لي، فكأني أجاذبه فيعصى ويثقل علي، قاله الطيبي. وبالنصب، أي ينازعني من ورائي فيه بقراءتهم على التغالب، يعني تشوش قراءتهم على قراءتي. (فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن) أي سراً. قال المنذري: وأخرجه النسائي. قلت: وإلى هذه الرواية أشار المصنف بقوله: وللنسائي معناه. ولحديث عبادة هذا شواهد: منها حديث أنس وقد ذكرنا لفظه ومن خرجه من الأئمة. ومنها: حديث محمد بن عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لعلكم تقرؤن والإمام يقرأ. قالوا: إنا لنفعل، قال: لا، إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب. أخرجه أحمد، والبخاري في جزء القراءة، والبيهقي. وفي رواية البخاري: إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه. ونحوه في رواية البيهقي. قال الحافظ في التلخيص: إسناده حسن. وقال البيهقي في معرفة السنن بعد روايته: هذا إسناد صحيح. وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم ثقة، فترك ذكر أسمائهم في الإسناد لا يضر إذا لم يعارضه ما هو أصح منه. وقال في كتاب القراءة: هذا حديث صحيح، احتج به محمد بن إسحاق بن خزيمة في جملة ما احتج به في هذا الباب. ومنها: حديث عمرو(3/163)
861- (34) وعن أبي هريرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ معي أحد منكم آنفاً؟ فقال رجل: نعم، يا رسول الله! قال: إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جهر فيه بالقراءة من الصلوات
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتقرؤون خلفي؟ قالو: نعم يا رسول الله! إنا لنهذه هذا. قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، أخرجه البخاري في جزء القراءة. والبيهقي في كتاب القراءة. وإسناده حسن، رجاله ثقات. ومنها: حديث أبي قتادة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتقرؤون خلفي؟ قلنا، نعم قال فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب. أخرجه البيهقي في كتاب القراءة. ومنها: حديث عبادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب خلف الإمام. أخرجه أيضاً البيهقي في كتاب القراءة، وقال: إسناده صحيح، والزيادة التي فيه صحيحة مشهورة من أوجه كثيرة، كذا في كنز العمال (ج4: ص208) .
861- قوله: (انصرف) أي فرغ. (من صلاة جهر فيها بالقراءة) وعند ابن عبد البر: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، وفي رواية لأبي داود: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة نظن أنها الصبح. (هل قرأ معي أحدكم آنفاً؟) بمد أوله وكسر النون. يعني الآن، وأراد به قريباً. والمد هو المشهور، وقد يقصر، والاستفهام للتقرير لا لطلب التصديق، لأن قراءة من قرأ خلفه كانت بالجهر فكانت مسموعة له - صلى الله عليه وسلم -. والدليل عليه ما رواه البيهقي في جزء القراءة (ص13) قال: حدثنا محمود: ثنا البخاري قال: ثنا أبوالوليد قال: ثنا الليث، عن الزهري، عن ابن أكيمة، عن أبي هريرة، قال: صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة تجهر فيها، فلما قضى الصلاة قال: من قرأ معي؟ قال رجل: أنا. قال: إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ فهذه الرواية صريحة في أن السؤال ليس عن نفس القراءة وأصلها، لأنها كانت بالجهر لا بالسر، بل عن تعيين القاري، فلا بد أن يحمل قوله ههنا: "هل قرأ أحد منكم" على ذلك أي يجعل محط السؤال قوله " أحد منكم". (فقال رجل: نعم) وفي رواية "فقال رجل نعم أنا"، وهذا أيضاً يدل على أن السؤال كان عن تعيين القاري لا عن نفس القراءة. (إني أقول) في نفسي. (ما لي أنازع القرآن) بفتح الزاي بالبناء لما لم يسم فاعله، ونصب القرآن على أنه مفعول ثان بتقدير "في القرآن"، أي أجاذب في قراءته كأني أجذبه إلى من غيري، وغيري يجذبه إليه منى. والظاهر أنه أخبرهم بهذا المعنى نهياً لهم عن ذلك، وإنكاراً لفعلهم. والظاهر أيضاً بل المتعين أن الرجل جهر بالقراءة خلفه، فهو بمعنى التثريب واللوم له على ذلك، فيكون المنع مخصوصاً بالجهر خلفه. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص206) : معناه أداخل في القراءة، وأغالب عليها. وقال الجزري في النهاية: أي أجاذب في قراءته، كأنهم جهروا بالقراءة خلفه فشغلوه فالتبست عليه القراءة. وأصل النزع الجذب، ومنه نزع الميت بروحه. (قال) أي الزهري. (فانتهى الناس عن القراءة) أي تركوها. (فيما جهر) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (فيه بالقراءة من الصلوات) بيان لما(3/164)
حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الموصولة. قال القاري مفهومه: أنهم كانوا يسرون بالقراءة فيما كان يخفى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو مذهب الأكثر، وعليه الإمام محمد من أئمتنا. (حين سمعوا ذلك) أي ما ذكر من التثريب واللوم. زاد البخاري والبيهقي في جزء القراءة لهما: وقرؤوا في أنفسهم سراً فيما لا يجهر فيه الإمام. واعلم أن قوله: فانتهى الناس، الخ. ليس من رواية أبي هريرة في الحديث بل هو مدرج من قول الزهري، وقد بين ذلك أبوداود في سننه، قال: ورواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري. وانتهى حديثه إلى قوله" ما لي أنازع القرآن". ورواه الأوزاعي عن الزهري، قال فيه: قال الزهري: فاتعظ المسلمون بذلك، فلم يكونوا يقرؤون معه فيمه يجهر به. قال أبوداود: وسمعت محمد بن يحيى بن فارس قال: قوله: "فانتهي الناس" من كلام الزهري. وقال البيهقي في معرفة السنن: قوله "فانتهي الناس عن القراءة" من قول الزهري. قاله محمد بن يحيى الذهلي صاحب الزهريات، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبوداود، استدلوا على ذلك برواية الأوزاعي حين ميزه من الحديث، وجعله من قول الزهري. وكيف يصح ذلك عن أبي هريرة وأبوهريرة يأمر بالقراءة خلف الإمام فيما جهر به وفيما خافت-انتهى. وقال في جزء القراءة: رواية ابن عيينة عن معمر دالة على كونه من قول الزهري. وكذلك انتهاء الليث بن سعد وهو من الحفاظ الأثبات الفقهاء مع ابن جريج برواية الحديث من الزهري إلى قوله "مالي أنازع القرآن" دليل على أن ما بعده ليس في الحديث، وأنه من قول الزهري، ففصل كلام الزهري من الحديث بفصل ظاهر. وقال الحافظ في التلخيص: قوله "فانتهى الناس" إلى آخره، مدرج في الخبر من كلام الزهري، بيّنه الخطيب، واتفق عليه البخاري في التاريخ، وأبوداود ويعقوب بن سفيان والذهلي والخطابي، وغيرهم-انتهى. وانظر السنن الكبرى للبيهقي (ج2: ص157-159) وإذا ثبت أن قوله "فانتهى الناس"الخ. من كلام الزهري التابعي فلا يصح الاستدلال به لأن قول التابعي ليس بحجة بالاتفاق. علا أنه إن كان المراد بقوله: فانتهى الناس، الخ. أن جميع الصحابة تركوا القراءة خلفه في الصلوات الجهرية فهو كذب محض، لأن الصحابة اختلفوا في ذلك، وقد ذهب أكثرهم إلى قراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات الجهرية والسرية وجوباً أو ندباً، وإن كان المراد فانتهى الناس أي الذين حضروا هذه الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم - لا جميع الصحابة، فهو أيضاً ليس بصحيح، لأن أباهريرة قد شهد هذه الصلاة والقصة، وهو لم يترك قراءة الفاتحة خلف الإمام، بل كان يفتى بها في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية. ولو سلم أن قول الزهري هذا صحيح، وأن قول التابعي حجة، فلا يثبت به ما ذهب إليه الحنفية من كراهة قراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات، ومنعها مطلقاً، بل قول الزهري هذا يبطل دعواهم، لأنه يدل على أنهم كانوا يقرؤن سراً فيما لا يجهر فيه الإمام كما تقدم. وأما ما قيل: من أن قوله "فانتهي الناس"الخ. ليس مما قاله الزهري من عند نفسه لأنه لم يشهد هذه القصة، والظاهر بل المتعين أن هذا قول بعض الصحابة الذين حضروا هذه الصلاة وسمعوا قوله - صلى الله عليه وسلم -: مالي أنازع القرآن، وقد علم هذا الصحابي ترك قراءتهم خلفه في الجهرية بإطلاعهم إياه على ذلك فلا محالة من أن يقال أنه سمع الزهري هذا الكلام من هذا الصحابي، ومن المعلوم أن مثل هذا الكلام من الصحابي يكون في حكم المرفوع، فيكون قول الزهري هذا أيضاً مرفوعاً حكماً غاية ما فيه أنه مرسل(3/165)
لأنه لم يذكر الصحابي الذي سمعه منه هذا القول ولا حرج. ففيه: أنه لا نسلم أن الزهري سمع هذا القول ممن شهد هذه القصة قطعاً، فإنه يحتمل أن يكون سمع ذلك من تابعي، ولا يدري أن التابعي الذي سمعه منه ثقة أو ضعيف، مقبول أو مردود. وأيضاً قد تقدم أن هذا القول كذب لاختلاف الصحابة في ذلك. ولو صرفنا النظر عن جميع ذلك فلا شك أنه مرسل، ومرسل الزهري كالريح ليس بشيء. قال الذهبي في التذكرة (ج1:ص98) : قال قدامة السرجسي: قال يحيى بن سعيد: مرسل الزهري شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسمى. وقال ابن أبي حاتم في "كتاب المراسيل" (ص2) : حدثنا أحمد بن سنان قال: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول هو بمنزلة الريح. وقال السيوطي في التدريب (ص70) : مراسيل الزهري قال ابن معين ويحيى بن سعيد القطان: ليس بشئ. وكذا قال الشافعي، قال: لأنا نجده يروي عن سليمان بن الأرقم. وروى البيهقي عن يحيى بن سعيد قال: مرسل الزهري شر من مرسل غيره، لأنه حافظ كلما قدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستحب أن يسميه-انتهى. واستدلال المالكية بقوله - صلى الله عليه وسلم - "مالي أنازع القرآن" على منع القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة. وفي الاستدلال به على هذا المطلوب نظر ظاهر، لأنه لا يدل على منع القراءة خلف الإمام المتنازع فيها، وهي القراءة في النفس وبالسر بحيث لا يفضي إلى المنازعة بقراءة الإمام، نعم يدل على منع القراءة بالجهر خلفه، وهي ممنوعة بالاتفاق. قال القرطبي: والمعنى في حديث. (أى حديث أبي هريرة هذا) : لا تجهروا إذا جهرت، فإن ذلك تجاذب وتخالج، اقرؤوا في أنفسكم. بينه حديث عبادة. وأفتى الفاروق برأي أبي هريرة الراوي الحديثين، فلو فهم المعنى جملة من قوله لما أفتى بخلافه-انتهى. وقال ابن عبد البر في التمهيد: لا تكون المنازعة إلا فيما جهر فيه المأموم وراء الإمام. ويدل على ذلك قول أبي هريرة: اقرأ بها في نفسك يا فارسي. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في غيث الغمام (ص30) : غاية ما فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مالي أنازع القرآن. فهو إن دل على النهي، فإنما يدل على نهي القراءة المفضية إلى المنازعة في الجهرية-انتهى. وقال الشوكاني في النيل: استدل به القائلون بأنه لا يقرأ المؤتم خلف الإمام في الجهرية، وهو خارج عن محل النزاع لأن محل النزاع هو القراءة خلف الإمام سراً، والمنازعة إنما تكون مع جهر المؤتم لا مع إسراره. وقد حاول بعض الحنفية الاستدلال بقوله "مالي أنازع القرآن" على ترك القراءة خلف الإمام بالسر وفي السرية، قائلاً بأن المنازعة مع الإمام في القراءة تتحقق مع قراءة المأموم بالسر وفي الصلاة السرية أيضاً، لأن معنى المنازعة: هو أن يشارك المأموم الإمام في القراءة ويشتغل بالقراءة حال قراءة الإمام ولا يترك الإمام أن ينفرد بالقراءة. وفيه: أن الاستدلال به على ذلك باطل لأنه لو كان معنى المنازعة ما بيّنه هذا البعض لما كان يقرأ الصحابة خلف الإمام سراً في الصلوات السرية كما يدل عليه قول الزهري وهو في حكم المرفوع عند الحنفية. وقد تقدمت رواية البيهقي والبخاري بلفظ: فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه الإمام، وقرؤوا في أنفسهم سراً فيما لا يجهر فيه الإمام. ويبطله أيضاً فيه حديث عبادة عند أبي داود والدارقطني بلفظ: وأنا أقول: مالي أنازع القرآن فلا يقرأنّ أحد منكم شيئاً من القرآن إذا جهرت(3/166)
رواه مالك وأحمد وأبوداود والترمذي والنسائي. وروى ابن ماجه نحوه.
862،863- (35،36) وعن ابن عمر والبياضي قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المصلي يناجي ربه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالقراءة إلا بأم القرآن؛ لأنه لو كان معنى المنازعة ما ذكره هذا المستدل لما أمرهم - صلى الله عليه وسلم - بقراءة الفاتحة خلف الإمام بالسر بعد ما أنكر عليهم المنازعة بقوله: مالي أنازع القرآن. ويبطله أيضاً أن أباهريرة، وعبادة، وعمر رضي الله عنهم كانوا يفتون بقراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات، وهم ممن رووا حديث المنازعة، فظهر بذلك أن معنى المنازعة ليس كما ذكره هذا البعض. قال الشيخ اللكنوي في غيث الغمام: ومن الناس من توهم أن معنى المنازعة هو أن يقرأ المؤتم حال قراءة الإمام، وهو متحقق في السرية أيضاً مطلقاً، وهو مبني على الغفلة عن كتب اللغة وشروح الحديث للأئمة- انتهى. ولو سلم أن حديث أبي هريرة هذا يدل على ترك القراءة خلف الإمام بالسر أيضاً، فهو محمول على ما عدا الفاتحة، جمعاً بين الأحاديث، ويدل عليه حديث عبادة بن الصامت: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها. ويدل عليه أيضاً فتوى أبي هريرة: اقرأ بها في نفسك يا فارسي. وانظر كتاب القراءة (ص99) للبيهقي، وكتاب الاعتبار للحازمي (ص101) . وعن الاستدلال بهذا الحديث على ترك القراءة خلف الإمام في الجهرية أو مطلقاً أجوبة أخرى ذكرها الشيخ في "تحقيق الكلام" فارجع إليه. (رواه مالك وأحمد وأبوداود والترمذي) وحسنه. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وصححه أبوحاتم الرازي وابن حبان وابن القيم. (والنسائي) وأخرجه أيضاً الشافعي والبيهقي والطحاوي وابن حبان. (وروى ابن ماجه نحوه) أي معناه.
862، 863- قوله: (عن ابن عمر، والبياضى) الواو عاطفة، والبياضى- بفتح الباء الموحدة والياء المنقوطة بالاثنتين من تحت، والضاد المعجمة- منسوب إلى بياضة بن عامر بن زريق، بطن من الأنصار، اسمه فروة- بفتح الفاء وسكون الراء- ابن عمرو- بفتح العين- ابن ودقة- بفتح الواو وسكون الدال- ابن عبيد بن عامر بن بياضة، شهد العقبة وبدراً وما بعدها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين عبد الله بن مخرمة العامري، وكان يبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - لخرص النخل، وكان ممن قاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسين في سبيل الله، وكان يتصدق في كل عام من نخلة بألف وسق، وكان من أصحاب علي يوم الجمل. (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المصلي) وسبب هذا القول أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان معتكفاً في العشر الأواخر من رمضان في قبة على بابها حصير، والناس يصلون عصباً عصباً، فأخرج منها رأسه ذات ليلة، وقد علت أصواتهم بالقراءة بالجهر، فقال: إن المصلي إذا صلى. (يناجي ربه) أي يحادثه ويكالمه، وهو كناية عن كمال قربه المعنوي. وقيل: هي عبارة عن إحضار القلب والخشوع في الصلاة. وقيل: هي إخلاص القلب، وتفريغ السر بذكره. وقيل مناجاة العبد: أداء الأفعال والأقوال المطلوبة في الصلاة، ومناجاة الرب لعبده: إقباله عليه بالرحمة(3/167)
فلينظر ما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)) رواه أحمد.
864- (37) وعن أبي هريرة قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والرضوان. والمقصود التنبيه على الخشوع في الصلاة. (فلينظر) أي فليتفكر وليتأمل. (ما يناجيه به) ما استفهامية والضمير المنصوب في "يناجيه" راجع إلى الرب، وفي "به" إلى "ما" و"ما" مفعول "فلينظر". قال القاري: وفي نسخة "ما يناجي بن" ما استفهامية أو موصولة. أي ما يناجي الرب تعالى من الذكر، والقرآن، والحضور، والخشوع، والخضوع- انتهى. والمقصود التنبيه على تحصيل الخشوع بمواطاة القلب اللسان، والإقبال إلى الله بشرا شره، وذلك إنما يحصل إذا لم ينازعه صاحبه بالقراءة، ولم يجهر بعضهم على بعض بالقرآن، لأن المنازعة وجهر بعض على بعض بالقراءة مفوت للخشوع، ومن ثم عقبه بقوله: (ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) فإن ذلك يؤذي ويمنع من الإقبال على الصلاة، والنهي يتناول من هو داخل الصلاة وخارجها. قال الطيبي: عدى بعلى لإرادة معنى الغلبة، أي لا يغلب ولا يشوش بعضكم على بعض جاهراً بالقراءة- انتهى. (رواه أحمد) أما حديث ابن عمر فأخرجه (ج2: ص36، 67، 129) وسنده صحيح، وأخرجه أيضاً البزار والطبراني في الكبير. قال الهيثمي: وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام. وأما حديث البياضي فأخرجه (ج4: ص344) وأخرجه أيضاً مالك في المؤطا عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي حازم التمار، عن البياضي. ومن طريق مالك أخرجه أحمد، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح- انتهى. فلو عزاه المؤلف إلى الموطأ كان أولى. وللحديث شاهد من حديث أبي سعيد عند النسائي. قال ابن عبد البر: حديث البياضي وأبي سعيد صحيحان ثابتان- انتهى. وفي الباب عن على عند أحمد وأبي يعلى، وعن أبي هريرة، وعائشة عند الطبراني في الأوسط، ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص265، 266) .
864- قوله: (إنما جعل) ببناء المجهول، وكلمة "إنما" للحصر للمبالغة والاهتمام. (الإمام) أي إماماً، فالمفعول الثاني لقوله "جعل" محذوف، والتقدير "إنما جعل الإمام إماماً"، والمفعول الأول قام مقام الفاعل، أو "جعل" بمعنى "نصب" و"اتخذ" فلا حاجة إلى التقدير. (ليؤتم به) أي ليقتدي به. والمعنى: أن الإئتمام يقتضي متابعة المأموم لإمامه، فلا يجوز له المقارنة والمسابقة والمخالفة إلا ما دل الدليل الشرعي عليه، كصلاة القاعد خلف القائم ونحوها، وقد ورد النهي عن الاختلاف بخصوصه بقوله: لا تختلفوا عليه. (فإذا كبر) أي للإحرام أو مطلقاً، فيشمل تكبير النقل. (فكبروا) زاد في رواية "ولا تكبروا حتى يكبر"، أي حتى يفرغ منه. وقيل: حتى يأخذ في التكبير. (وإذا قرأ فأنصتوا) احتج به القائلون أن المؤتم لا يقرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية. قلت: الاستدلال بذلك على هذا المطلوب موقوف على(3/168)
أن تكون هذه اللفظة ثابتة محفوظة صحيحة، وقد اختلفوا في ذلك فصححها مسلم، ومال إليه المنذري، وصححها ابن حزم أيضاً. وضعفها البخاري وأبوداود وأبو حاتم وابن معين وابن خزيمة والحاكم والدارقطني. واجتماع هؤلاء الحفاظ النقاد على تضعيفها مقدم على تصحيح مسلم. قال البيهقي في المعرفة: قد أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة في الحديث: أبوداود وأبوحاتم وابن معين والحاكم والدارقطني، وقالوا: إنها ليست بمحفوظة- انتهى. وروى في كتاب القراءة بإسناده عن ابن أبي حاتم، قال: سمعت أبي، وذكر حديث أبي خالد الأحمر عن ابن عجلان. (يعني حديث أبي هريرة هذا) فقال أبي: ليست هذه الكلمة محفوظة، هي من تخاليط ابن عجلان-انتهى. قلت: محمد ابن عجلان هذا مدلس، وروي هذا الحديث عن زيد بن أسلم معنعناً، فلا يجوز الحكم بصحته حتى يثبت سماعه من زيد بن أسلم لهذا الحديث. وأيضاً ابن عجلان ليس بحافظ، بل هو سيء الحفظ، وقد تفرد بهذه الزيادة، ولم يتابعه عليها أحد من الثقات، وقد روي حديث أبي هريرة هذا بالأسانيد الصحيحة الكثيرة، ليس في واحد منها هذه الزيادة. أما كونه مدلساً فقد صرح به برهان الدين الحلبي في"التبيين لأسماء المدلسين". وقال الحافظ في"طبقات المدلسين": محمد بن عجلان المدني تابعي صغير مشهور، من شيوخ مالك، وصفه ابن حبان بالتدليس. وأما كونه سيء الحفظ فقال الحافظ في مقدمة الفتح: فيه مقال من قبل حفظه. وقال الذهبي في الكاشف: وثقة أحمد، وابن معين، وقال غيرهما سيء الحفظ. وقال في الميزان: وقد تكلم المتأخرون من أئمتنا في سوء حفظه-انتهى. ولعل الشيخين لم يحتجا به لأجل ذلك. قال الذهبي في التذكرة: لم يحتج الشيخان بحديث محمد-انتهى. وأما كونه متفرداً بهذه الزيادة في هذا الحديث فهو ظاهر لمن تتبع طرق الحديث. قال البيهقي في كتاب القراءة (ص91) : قال ابن خزيمة: قال محمد بن يحيى الذهلي: خبر الليث أصح متناً من رواية أبي خالد يعني عن ابن عجلان، ليس في هذه القصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "وإذا قرأ فأنصتوا" بمحفوظ، لأن الأخبار متواترة عن أبي هريرة بالأسانيد الصحيحة الثابتة المتصلة بهذه القصة، ليس في شيء منها: وإذا قرأ فأنصتوا. إلا خبر أبي خالد ومن لا يعتد أهل الحديث بروايته. ثم رواها ابن خزيمة من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ومن حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. ومن حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة. وليس في شيء منها هذه الزيادة، وهي في الصحيح من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، ومن حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. ومن حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. ومن حديث همام بن منبه وأبي علقمة الهاشمي، وأبي يونس مولى أبي هريرة كلهم، عن أبي هريرة، ليس في شيء من هذه الروايات: وإذا قرأ فأنصتوا-انتهى. فإن قلت: قال ابن التركماني في الجوهر النقي (ص153) : قد تابعه عليها خارجة بن مصعب ويحيى ابن العلاء كما ذكره البيهقي فيما بعد-انتهى. وكذلك قال العيني في شرح البخاري (ج6: ص15) قلت: لا اعتداد بمتابعتها.(3/169)
رواه أبوداود.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال الحافظ في التقريب في ترجمة خارجة بن مصعب: متروك وكان يدلس عن الكذابين، ويقال: إن ابن معين كذبه-انتهى. وقال الذهبي في الميزان في ترجمة يحيى بن العلاء: قال الدارقطني: متروك، وقال أحمد بن حنبل: كذاب يضع الحديث. وقال الخزرجي في الخلاصة في ترجمته: كذبه وكيع وأحمد-انتهى. وقال البيهقي في كتاب القراءة: وقد رواه يحيى بن العلاء الرازي، عن زيد بن أسلم. ويحيى بن العلاء متروك، جرحه يحيى بن معين وغيره من أهل العلم بالحديث. وروي بإسناد ضعيف عن عمرو بن هارون، عن خارجة بن مصعب، عن زيد بن أسلم. ولا يفرح بمتابعة هؤلاء في خلاف أهل الثقة والحفظ –انتهى. تنبيه: ذكر العيني في شرح البخاري والبناية شرح الهداية: أن ابن خزيمة أيضاً صحح حديث ابن عجلان، يعني زيادة "وإذا قرأ فأنصتوا"، وقد نقله عنه الشيخ اللكنوي في "إمام الكلام"، والنيموي في "آثار السنن" وغيرهما من العلماء الحنفية في تصانيفهم، وهذا خطأ فاحش ووهم قبيح، فإن ابن خزيمة لم يصحح هذه الزيادة أبداً بل هو ممن ضعفها جداً. قال البيهقي في كتاب القراءة (ص91) : قال أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: هذا خبر، ذكر قوله: "وإذا قرأ فأنصتوا" فيه وهم. وقد روى الليث بن سعد – وهو عالم أهل مصر وفقيههم، أحد علماء زمانه، غير مدافع، صاحب حفظ وإتقان وكتاب صحيح – هذا الخبر عن ابن عجلان، فذكر الرواية التي ذكرها البخاري، وليس في شيء منها "وإذا قرأ فأنصتوا". قال ابن خزيمة: قال محمد بن يحيى الذهلي: خير الليث أصح متناً من رواية أبي خالد، يعني ابن عجلان، ليس في هذه القصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا قرأ فأنصتوا" بمحفوظ، الخ. وقد ذكر ابن خزيمة فصلاً مستقلاً لإثبات أن هذه الزيادة غير محفوظة، كما قال البيهقي في كتاب القراءة (ص95) فارجع إليه. ولو سلم أن زيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" في حديث أبي هريرة صحيحة ثابتة محفوظة، فقد ذكرنا عنها أجوبة في شرح حديث أبي موسى الأشعري فتذكر. (رواه أبوداود) وقال: هذه الزيادة "وإذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة. الوهم عندنا من أبي خالد، وتقدم أن أباحاتم قال: هي من تخاليط ابن عجلان، يعني أن الوهم عنده من ابن عجلان، ولم يبين بعض الحفاظ الذين صرحوا بكونها غير محفوظة، أن الوهم ممن هو؟ فإن قلت: إختلافهما في نسبة الوهم، وسكوت بعضهم عن تعيين الواهم يؤدي إلى طرح القولين، والرجوع إلى صحة هذه الزيادة، قلت: إن الحفاظ النقاد إذا حكموا على حديث بأنه غير محفوظ، واختلفوا في نسبة الوهم فبعض نسبوه إلى أحد، وبعضهم إلى آخر، فهذا الاختلاف لا يؤدي إلى طرح القولين، ولم يقل به أحد، كيف؟ وقد تقرر في موضعه أن المحدثين المعللين القائمين بمعرفة فن المعلول الذي هو من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها إذا اتفقوا على حديث أنه معلول فدعواهم مقبولة، وإن اختلفوا في توجيه التعليل، بل وإن أخطأ بعضهم في توجيه، فإنه قد يقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه، كالصيرفي في نقد الدينار والدرهم، وهذا الجواب على تقدير تسليم كون أبي خالد وابن عجلان ثقتين، حافظين، لكن قد تقدم أن ابن عجلان مدلس، وقد روى هذا الحديث عن زيد بن أسلم معنعناً، ومع كونه(3/170)
والنسائي وابن ماجه.
865- (38) وعن عبد الله بن أبي أوفى، قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزئني. قال: قل: سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال: يارسول الله! هذا لله، فماذا لي؟ قال، قل: اللهم ارحمني، وعافني، واهدني، وارزقني. فقال هكذا بيديه وقبضهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مدلساً ليس بحافظ، بل هو سيئ الحفظ. وقد تفرد بهذه الزيادة، ولم يتابعه عليها أحد من الثقات. وأما أبوخالد الأحمر سليمان بن حيان الأزدي فهو أيضاً سيء الحفظ. قال الحافظ في مقدمة الفتح: قال ابن معين: أبوخالد صدوق، ليس بحجة. وقال ابن عدي: وإنما أتى من سوء حفظه فيغلط، ويخطئ. وقال أبوبكر البزار: اتفق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظاً. وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ. (والنسائي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد.
865- قوله: (وعن عبد الله بن أبي أوفى) هو عبد الله بن أبي أوفى، علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي أبوإبراهيم، أو أبومحمد أو أبومعاوية، صحابي ابن صحابي، شهد عبد الله بيعة الرضوان، وخيبر، وما بعد ذلك من المشاهد، ولم يزل بالمدينة حتى قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم تحول إلى الكوفة، وهو آخر من بقي بالكوفة من الصحابة، مات سنة. (87) بالكوفة، وكان قد كف بصره، روى خمسة وتسعين حديثاً، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بواحد، روى عنه جماعة. (أن آخذ من القرآن شيئاً) أي أتعلم وأحفظ من القرآن شيئاً أقرأه في الصلاة، أو آخذ شيئاً من القرآن ورداً. (ما يجزئني) أي يكفيني عن القراء في الصلاة، أو عن ورد القرآن. (قال) وفي بعض النسخ "فقال" وكذا وقع في أبي داود. (قل سبحان الله) الخ. فإن هذه الكلمات أحب الكلام إلى الله وأفضل الذكر بعد كلام الله. (هذا لله) أي ما ذكر من الكلمات ذكر لله، مختص له، أذكره به. (فماذا لي؟) وفي أبي داود: فما لي؟ أي علمني شيئاً يكون لي فيه دعاء واستغفار أذكره لي عند بي. (اللهم ارحمني) أي بترك المعصي أبداً، أو بغفرانها وعفوها. (وعافني) من آفات الدارين. (واهدني) أي ثبتني على دين الإسلام، أو دلني على متابعة الأحكام. (وارزقني) أي رزقاً حلالاً طيباً، كافياً مغنياً عن الأنام، أو التوفيق والقبول وحسن الاختتام. (فقال) أى فعل الرجل. (هكذا) قال الطيبي: أي أشار إشارة مثل هذه الإشارة المحسوسة. (بيديه) تفسير وبيان. (وقبضهما) قال القاري: وفي نسخة "فقضبهما، فقيل" أي عد تلك الكلمات بأنامله وقبض كل أنملة بعدد كل كلمة. وقال ابن حجر: ثم بين الراوي المراد بالإشارة بهما فقال: وقبضهما أي إشارة إلى أنه يحفظ ما أمر به كما يحفظ الشيء النفيس بقبض اليد عليه. وظاهر السياق أن المشير هو المأمور، أي حفظت ما قلت لي(3/171)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما هذا فقد ملأ يديه من الخير.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقبضت عليه، فلا أضعيه. ويؤيده قول الراوي. (فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما هذا) أي الرجل. (فقد ملأ يديه من الخير) . قال ابن حجر: كناية عن أخذه مجامع الخير بامتثاله لما أمر به. قلت: وقع في رواية لأحمد (ج4: ص353) : ثم أدبر وهو ممسك كفيه، بدل قوله: فقال هكذا بيديه وقبضهما. ورواية أحمد هذه ظاهرة في أن الإشارة باليدين كانت من هذا الرجل لا من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالمأمور هو المشير. واعلم: أنهم اختلفوا في تعيين محمل الحديث، فقال الطيبي: الظاهر أنه أراد أنى لا أستطيع أن أحفظ شيئاً من القرآن واتخذه ورداً لي فعلمني ما أجعله ورداً لي، فأقوم به آناء الليل وأطراف النهار، فلما علمه ما فيه تعظيم لله تعالى طلب ما يحتاج إليه من الرحمة والعافية والهداية والرزق. ويؤيد ما ذكرنا من أن مطلوبه ما يجعله ورداً له لا يفارقه أبداً، قبضه بيديه. أي أنى لا أفارقه ما دمت حياً. وتوهم بعضهم من إيراد هذا الحديث في هذا الباب أن هذه القصة في الصلاة، فقال: لا يجوز ذلك في جميع الأزمنة؛ لأن من قدر على تعلم هذه الكلمات يقدر على تعلم فاتحة الكتاب لا محالة، بل تأويله أني لا أستطيع أن أتعلم شيئاً من القرآن في هذه الساعة وقد دخل علي وقت الصلاة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل سبحان الله، الخ. فمن دخل عليه وقت صلاة مفروضة ولم يعلم الفاتحة، وعلم شيئاً من القرآن، لزمه أن يقرأ بقدر الفاتحة عدد آيات وحروف، فإن لم يعلم شيئاً منه يقول هذه الكلمات، فإذا فرغ من تلك الصلاة لزمه أن يتعلم. وفيه: بُعد، لأن عجز العربي المتكلم بمثل هذا الكلام عن تعلم ما تصح به صلاته من القرآن مستبعد جداً، وأنى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرخص في الاكتفاء بالتسبيح على الإطلاق من غير أن يبين ماله وما عليه-انتهى. ونقل ميرك عن زيد بن العرب أنه قال: وكل هذا خلاف الظاهر، بل قوله "فعلمني ما يجزئني" مع إيراد المحدثين لهذا الحديث في هذا الباب يدل أيضاً على أن المراد القدر المجزئ في الصلاة وإلا لكان إيراده في باب التسبيح أليق، وما ذكره من الاستبعاد فغير بعيد، لأنه كما أن من العرب من هو في غاية الفصاحة والبلاغة فمنهم من هو في غاية الجلافة والبلادة-انتهى. قلت: الظاهر أن الحديث وارد في الصلاة لما مر من حديث رفاعة للترمذي في باب صفة الصلاة. قال: إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله به، ثم تشهد، فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله، وكبره، وهلله، ثم اركع. فإنه يدل على أن من لم يحفظ القرآن يجزئه الحمد والتكبير والتهليل، وهو مع حديث الباب دليل على أن هذه الأذكار قائمة مقام الفاتحة وغيرها لمن لا يستطيع أن لا يتعلم القرآن، وليس فيه ما يقتضي التكرار، فظاهره أنها تكفي مرة. وقد ذهب البعض إلى أنه يقولها ثلاث مرات. قال الخطابي في المعالم (ج1: ص207) : الأصل أن الصلاة لا تجزئ إلا بقراءة فاتحة الكتاب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، ومعقول أن وجوب قراءة فاتحة الكتاب إنما هو على من أحسنها دون من لا يحسنها، فإذا كان المصلي لا يحسنها، وكان يحسن شيئاً من القرآن غيرها، كان عليه أن يقرأ منه قدر سبع آيات، لأن أولى الذكر بعد فاتحة الكتاب ما كان مثلاً(3/172)
رواه أبوداود. وانتهت رواية النسائي عند قوله: إلا بالله.
866- (39) وعن ابن عباس - رضي الله عنه - ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} قال: سبحان ربي الأعلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لها من القرآن، فإن كان رجل ليس في وسعه أن يتعلم شيئاً من القرآن؛ لعجز في طبعه أو سوء حفظه أو عجمة لسان، أو آفة تعرض له، كان أولى الذكر بعد القرآن ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير. وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أفضل الذكر بعد كلام الله عزوجل سبحان الله، والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر-انتهى. (رواه أبوداود) وسكت عليه، وأخرجه أيضاً أحمد وابن الجارود وصححه ابن حبان، والحاكم والدارقطني. ومدار الحديث على إبراهيم بن عبد الرحمن بن إسماعيل السكسكي أبي إسماعيل الكوفي مولى صخير. قال الحافظ في التلخيص (ص89) : هو من رجال البخاري، لكن عيب عليه إخراج حديثه، وضعفه النسائي. وقال ابن القطان: ضعفه قوم لم يأتوا بحجة. وذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف. وقال في شرح المهذب: رواه أبوداود والنسائي بإسناد ضعيف، وكان سببه كلامهم في إبراهيم. وقال ابن عدي: لم أجد له حديثاً منكر المتن-انتهى. ولم ينفرد به بل رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه أيضاً من طريق طلحة بن مصرف عن ابن أبي أوفى، ولكن في سنده الفضل بن موفق ضعفه أبوحاتم-انتهى كلام الحافظ. قلت: إبراهيم السكسكي هذا ضعفه أحمد، وقال ابن القطان: كان شعبة يضعفه، كان يقول لا يحسن يتكلم. وقال النسائي: ليس بالقوي، يكتب حديثه. وقال ابن عدي: لم أجد له حديثاً منكر المتن، وهو إلى الصدق أقرب منه إلى غيره، ويكتب حديثه كما قال النسائي، وذكره العقيلي في الضعفاء وابن حبان في الثقات. وهذا يدل على أنه صدوق ثقة عند البخاري وابن القطان وابن عدي وابن حبان، وليس ممن لا يحتج بأحاديثهم، وهو الراجح، والله أعلم.
866- قوله: (كان إذا قرأ: سبح اسم ربك الأعلى) في الصلاة أو غيرها، فريضة كانت الصلاة أو نافلة. ففيه دليل على أن للقارئ في الصلاة أو غيرها إذا مر بآياته فيها تسبيح أن يسبح. وإليه ذهب الشافعي، وهو الحق، لأن قوله "كان إذا قرأ" عام يشمل الصلاة وغيرها، ويؤيده ما روي عن علي بن أبي طالب: قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} [87: 1] فقال: سبحان ربي الأعلى. وهو في الصلاة. فقيل له: أتزيد في القرآن، فقال: لا، إنما أمرنا بشيء فقلته. وروى البيهقي عنه أنه قرأ في الصبح بـ {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: سبحان ربي الأعلى-الحديث. وعن أبي موسى الأشعري: أنه قرأ في الجمعة {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: سبحان ربي الأعلى. وعن سعيد بن جبير، قال سمعت ابن عمر يقرأ {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: سبحان ربي الأعلى. وعن عمر مثله. وعن ابن الزبير أنه قرأ(3/173)
رواه أحمد، وأبوداود.
867- (40) وعن أبي هريرة، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ منكم بـ {التين والزيتون} فانتهى إلى {أليس الله بأحكم الحاكمين} فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{سبح اسم ربك الأعلى} فقال: سبحان ربي الأعلى، وهو في الصلاة. وحديث ابن عمر رواه الحاكم أيضاً (ج2: ص521) : صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. ولا دليل لمن حمل حديث ابن عباس هذا على خارج الصلاة أو خصه بصلاة النافلة، بل يرد قوله ما تقدم من آثار الصحابة. ثم إنه قيل: يستحب أيضاً للسامع أن يقول سبحان ربي الأعلى إذا سمع من القارئ {سبح اسم ربك الأعلى} ؛ لأنه دليل في الحديث على اختصاص هذا القول بالقارئ أو بالإمام، ولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول لكونه إماماً أو قارئاً، بل لأن مقتضي هذه الآية أن يقول كل من قرأها أو سمعها في جوابها: سبحان ربي الأعلى، امتثالاً للأمر. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: أخذ من ذلك أن للقارئ أو السامع كلما مر بآية تنزيه أن ينزه الله، أو تحميد أن يحمده، أو تكبير أن يكبره، وقس عليه. (رواه أحمد وأبوداود) من طريق وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأخرجه أيضاً الحاكم (ج1: ص264) والطبراني وابن مردويه والبيهقي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال العزيزي: هو حديث صحيح. وقال أبوداود: خولف وكيع في هذا الحديث. رواه أبووكيع. (يعني الجراح بن مليح وائد وكيع المذكور) وشعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا-انتهى. وأخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير عنه: أنه كان إذا قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} قال: سبحان ربي الأعلى. وفي لفظ لعبد بن حميد عنه، قال: إذا قرأت {سبح اسم ربك الأعلى} فقل سبحان ربي الأعلى. قيل: الموقوف له حكم المرفوع لأنه لا مسرح للاجتهاد فيه. والرفع زيادة ثقة فتقبل.
867- قوله: (من قرأ) أي في الصلاة أو خارجها. (بـ {التين والزيتون} ) أي بهذه السورة. (فانتهى إلى "أليس الله بأحكم الحاكمين") أي أقضى القاضين يحكم بينك وبين أهل التكذيب بك يا محمد!. (فليقل: بلى) أي نعم. قال المناوي: لأنه قول بمنزلة السؤال فيحتاج إلى الجواب. ومن حق الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه فيكون السامع كهيئة الغافل، أو كمن لا يسمح إلا دعاء ونداء من الناعق به، صم بكم عمي فهم لا يعقلون، فهذه هيئة سيئة. ومن ثم ندبوا لمن مر بآية رحمة أن يسأل الله الرحمة، أو عذاب أن يتعوذ من النار، أو يذكر الجنة بأن يرغب إلى الله فيها، أو النار أن يستعيذ به منها-انتهى. (وأنا على ذلك) أي كونك أحكم الحاكمين. (من الشاهدين) أي أنتظم في سلك من له مشافهة في الشهادتين من أنبياء الله وأوليائه. قال ابن حجر: وهذا أبلغ من أنا شاهد. ومن ثم قالوا في {وكانت من(3/174)
ومن قرأ {لا أقسم بيوم القيامة} فانتهى إلى {أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى} فليقل: بلى. ومن قرأ {والمرسلات} فبلغ {فبأي حديث بعده يؤمنون} فليقل: آمنا بالله)) رواه أبوداود، والترمذي إلى قوله: ((وأنا على ذلك من الشاهدين)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القانتين} [66: 12] وفي {إنه في الآخرة لمن الصالحين} [2: 130] أبلغ من "وكانت قانتة" ومن "أنه في الآخرة صالح" لأن من دخل في عداد الكامل وساهم معهم الفضائل ليس كمن انفرد عنهم. (أليس ذلك) أي الذي جعل خلق الإنسان من نطفة تمنى في الرحم. (فليقل: بلى) قال القاري: وفي رواية "بلى إنه على كل شيء قدير"-انتهى. وأخرج ابن النجار في تاريخه عن أبي أمامة: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عند قراءته لهذه الآية: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. (فبأي حديث بعده) أي بعد القرآن، لأنه آية مبصرة، ومعجزة باهرة، فحين لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون؟. (فليقل: آمنا بالله) أي به وبكلامه. ولعموم هذا لم يقل: آمنا بالقرآن. وقال الطيبي: أي قل: أخالف أعداء الله المعاندين-انتهى. والحديث يدل على أن من يقرأ هذه الآيات يستحب له أن يقول تلك الكلمات سواء كان في الصلاة أو خارجها. وأما قولها للسامع المقتدي أو غير المقتدي فلم أقف على حديث مرفوع صريح يدل على ذلك، لكن قد تقدم أن هذه الآيات بمنزلة السؤال فتحتاج إلى الجواب، ومن حق الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه فيستحب الجواب عند تلاوة هذه الآيات للقارئ والسامع كليهما إماماً أو مأموماً أو منفرداً. قال ابن عباس: من قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} إماماً كان أو غيره فليقل: سبحان ربي الأعلى، ومن قرأ {لا أقسم بيوم القيامة} [75: 1] إلى آخرها، فليقل: سبحانك اللهم بلى، إماماً كان أو غيره، ذكره الخطيب. قال الحفناوي: قوله "إماماً كان أو غيره" يقتضي أن هذه الكلمة وهي "بلى" لا تبطل الصلاة، وهو كذلك، لأنها ذكر تقديس وتنزيه لله تعالى، كذا في فتح البيان (ج1: ص130) . (رواه أبوداود) من طريق ابن عيينة عن إسماعيل بن أمية، قال: سمعت أعرابياً يقول: سمعت أباهريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ، الخ. وأخرجه أيضاً أحمد (ج2: ص249) وابن المنذر وابن مردوية، والبيهقي. وفي إسناده رجل مجهول، فالحديث ضعيف. (والترمذي) أي ورواه الترمذي. وفي نسخة "وللترمذي" وهو الظاهر، قال الترمذي بعد ما أخرجه مختصراً: إنما يروي بهذا الإسناد، عن هذا الأعرابي، عن أبي هريرة، ولا يسمى-انتهى. قال في فتح الودود: وهذا الأعرابي لا يعرف. وفي الإسناد جهالة. وقال الحافظ في المبهمات من التقريب: إسماعيل بن أمية عن أعرابي عن أبي هريرة لا يعرف. وسماه كما في المستدرك (ج2: ص590) يزيد بن عياض أحد المتروكين أبا اليسع، وهو معدود فيمن لا يعرف. وقال الذهبي في الميزان (ج3: ص388) والحافظ في اللسان (ج6: ص454) : أبواليسع لا يدرى من هو، والسند بذلك مضطرب-انتهى. والعجب من الذهبي أنه وافق الحاكم في التلخيص في تصحيح الحديث فقال: صحيح.(3/175)
868- (41) وعن جابر، قال: ((خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا. فقال: لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله {فبأي آلاء ربكما تكذبون} قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب.
{الفصل الثالث}
869- (42) عن معاذ بن عبد الله الجهني، قال: ((إن رجلاً من جهنية أخبره
ـــــــــــــــــــــــــــــ
868- قوله: (فسكتوا) أي الصحابة مستمعين. (ليلة الجن) أي ليلة اجتماعهم به. (فكانوا) أي الجن. (أحسن مردوداً) أي أحسن رداً وجواباً لما تضمنه الاستفهام التقريري المتكرر فيها بأي. (منكم) أيها الصحابة. قال الطيبي: المردود بمعنى الرد كالمخلوق والمعقول، نزل سكوتهم وإنصاتهم للاستماع منزلة حسن الرد، فجاء بأفعل التفضيل. ويوضحه كلام ابن الملك حيث قال: نزل سكوتهم من حيث اعترافهم بأن في الجن والإنس من هو مكذب بآلاء الله، وكذلك في الجن من يعترف بذلك أيضاً، لكن نفيهم التكذيب عن أنفسهم باللفظ أيضاً أدل على الإجابة، وقبول ما جاء به الرسول من سكوت الصحابة أجمعين، ذكره القاري. (كنت) أي تلك الليلة. (على قوله) أي على قراءة قوله تعالى: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) الخطاب للإنس والجن، أي بأي نعمة مما أنعم الله به عليكم تكذبون وتجحدون نعمه بترك شكره، وتكذيب رسله، وعصيان أمره. (لا بشيء) متعلق بنكذب الآتي. (ربنا) بالنصب على حذف حرف النداء. (نكذب) أي لا نكذب بشيء منها. (فلك الحمد) أي على نعمك الظاهرة والباطنة، ومن أتمها نعمة الإيمان والقرآن. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً البزار وابن المنذر والحاكم وصححه، والبيهقي. (وقال: هذا حديث غريب) لا نعرفه إلا من حديث الوليد بني مسلم عن زهير بن محمد ثم حكى عن الإمام أحمد أنه كان لا يعرفه، وينكر رواية أهل الشام عن زهير بن محمد هذا. قلت: حديث جابر هذا رواه الوليد بن مسلم، وهو من أهل الشام عن زهير بن محمد، ففي الحديث ضعف لكن له شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه ابن جرير والخطيب في تاريخه، والبزار والدارقطني في الأفراد وغيرهم، وصحح السيوطي إسناده، كما في فتح البيان (ج9: ص167) قيل: أورد المصنف حديث ابن عباس وأبي هريرة لاحتمالها داخل الصلاة وخارجها، وذكر حديث جابر هذا تبعاً لهما واطراداً في حكمهما.
869- قوله: (عن معاذ بن عبد الله الجهني) بضم الجيم وفتح الهاء، المدني تابعي صدوق، ربما وهم، قاله الحافظ. ووثقه ابن معين وأبوداود. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الدارقطني ليس بذلك. (أخبره) الضمير المستتر راجع إلى(3/176)
أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصبح {إذا زلزلت} في الركعتين كلتيهما، فلا أدري أنسي أم قرأ ذلك عمداً)) رواه أبوداود.
870- (43) وعن عروة، قال: ((إن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، صلى الصبح، فقرأ فيهما بسورة البقرة في الركعتين كلتيهما))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرجل، والبارز إلى "معاذ" ولا يضر الجهل به لأنه صحابي، والصحابة كلهم عدول. (أنه) أي الرجل. (في الركعتين كلتيهما) تأكيد لدفع توهم التبعيض، أي قرأ في كل من ركعتيها {إذا زلزلت} [99: 1] لكمالها. (أنسي؟) بهمزة الاستفهام، أي أنه قرأ في الأولى {إذا زلزلت} (أم قرأ ذلك عمداً) تردد الصحابي في أن إعادة النبي - صلى الله عليه وسلم - للسورة هل كان نسياناً لكون المعتاد من قراءته أن يقرأ في الركعة الثانية غير ما قرأ به في الأولى، فلا يكون مشروعاً لأمته، أو فعله عمداً لبيان الجواز، فتكون الإعادة مترددة بين المشروعية وعدمها، وإذا دار الأمر بين أن يكون مشروعاً وغير مشروع فحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على المشروعية أولى. لأن الأصل في أفعاله التشريع، والنسيان خلاف الأصل. ونظيره ما ذكره الأصوليون فيما إذا تردد فعله - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون جبلياً أو لبيان الشرع، والأكثر على التأسي به. كذا في النيل. وقال ابن حجر: الظاهر أنه فعل عمداً ليبين به حصول أصل السنة بتكرير السورة الواحدة من قصار المفصل في الركعتين. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. قال الشوكاني: ليس في إسناده مطعن، بل رجاله رجال الصحيح.
870- قوله: (وعن عروة) أي ابن الزبير التابعي المشهور. (فقرأ فيهما) أي في ركعتي الصبح. وفي نسخة "فيها" كما في الموطأ، وهو الظاهر. أي في صلاة الصبح، والمراد بعد فاتحة الكتاب، واستغنى عن ذكرها لشهرتها بين الناس ولعلم الناس بذلك. (بسورة البقرة في الركعتين كلتيهما) يعني على توزيع السورة وتقسيمها. وفي حديث أنس، قال: صلى بنا أبوبكر صلاة الفجر، فافتح سورة البقرة، فقرأ بها في ركعتين، فلما سلم قام إليه عمر، فقال: ما كدت تفرغ حتى تطلع الشمس. قال: لو طلعت لألفتنا غير غافلين. وهذا إجماع منهم. وفيه رد على من قال باستحباب الإسفار، وأفضلية تأخير صلاة الفجر إلى الإسفار، وتائيد لما ذكرنا في معنى "أسفروا بالفجر" نقلاً عن الطحاوي وابن القيم من أن المراد به الإسفار دواماً لا ابتداء فيدخل فيها مغلساً، ويطول القراءة، فيخرج منها مسفراً جداً. قال الحافظ: روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق أنه أم الصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة فقرأها في الركعتين، وهذا إجماع منهم-انتهى. وفيه دليل على جواز قسم السورة الواحدة بين الركعتين في الفريضة من غير كراهة.(3/177)
رواه مالك.
871- (44) وعن الفرافصة بن عمير الحنفي، قال: ((ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان
ابن عفان إياها في الصبح، من كثرة ما كان يرددها)) رواه مالك.
872- (45) وعن عامر بن ربيعة، قال: ((صلينا وراء عمر بن الخطاب الصبح،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(رواه مالك) وهو منقطع؛ لأن عروة ولد في أوائل خلافة عثمان، لكنه ورد برواية أنس أخرجه الخلال كما في المغني والبيهقي (ج2: ص389) وعبد الرزاق بسند صحيح.
871- قوله: (عن الفرافصة) بضم الفاء الأولى، فراء، فألف، ففاء ثانية مكسورة، فصاد مهملة، على ما ضبطه الزرقاني. وفي المغني لمحمد طاهر الفتني: هو عند المحدثين بفتح الفاء الأولى. وقال الطيبي: الفاء الأولى مفتوحة عند المحدثين، وأهل اللغة لا يعرفون إلا الضم. (بن عمير) بضم العين المهملة مصغراً. (الحنفي) نسبة إلى قبيلة بن حنيفة، من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة في الدرجة العالية. وثقه العجلي وابن حبان. وهو غير الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة الكلبي. (ما أخذت) أي ما حفظت وتعلمت. (إلا من قراءة عثمان بن عفان) لا ينصرف، وقد ينصرف، قاله القاري. (إياها) أي تلك السورة كلها. (في الصبح) أي في صلاته. (من كثرة ما كان يرددها) أي يكررها في صلوات الصبح. ومن تعليل لأخذت. وفيه أن المواظبة في أكثر الأحوال على سورة واحدة لا محذور فيها. ويحتمل أن ذلك لما بشره - صلى الله عليه وسلم - بالجنة على بلوى تصيبه، كما ورد: إيذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه. وسورة يوسف فيها ذكر البلوى على يوسف - عليه السلام -، فكان فيها مناسبة به. قيل: المداومة على قراءة سورة يوسف مورثة لسعادة الشهادة وهي مجربة، والله أعلم. (رواه مالك) عن يحيى بن سعيد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، عن القاسم بن محمد، عن الفرافصة بن عمير، وأخرجه أيضاً الشافعي والبيهقي.
872- قوله: (عن عامر بن ربيعة) كذا في نسخ المشكاة الموجودة عندنا بلفظ "عامر بن ربيعة"، وكذا ذكره ابن الدبيع في تيسير الوصول (ج2: ص224) عن مالك. وهكذا أورده محمد بن سليمان المغربي في جمع الفوائد عن رزين، أي بلفظ عامر بن ربيعة، ووقع في نسخ الموطأ الحاضرة عندنا: عبد الله بن عامر بن ربيعة، وبه جزم الزرقاني حيث قال في شرحه للموطأ: وثقه العجلي، وأبوه أي عامر بن ربيعة صحابي شهير، وكذا وقع في رواية البيهقي من طريق مالك، وكذا ذكره ابن التركماني في الجوهر النقي عنه. وهكذا في رواية الطحاوي عن مالك. قيل: هذا هو الصواب. وأما ما وقع في نسخ المشكاة وتيسير الوصول فهو غلط، وليس هو من خطأ النساخ بل من المصنفين بأنفسهما؛ لأنهما
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1- هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن يوسف الشيباني، الزبيدي الشافعي، المعروف بابن الدبيع – بكسر الدال المهملة، وسكون الياء المثناة من تحت، وفتح الموحدة، وفي آخره مهملة – ومعناه بلغة النوبة الأبيض، لقب جده على بن يوسف، وضبطه قطب الدين الحنفي في كتابه "البرق اليماني في الفتح العثماني" بفتح الدال المهملة، وبالياء المثناة التحتية الساكنة، فالباء الموحدة المفتوحة آخره عين.(3/178)
وقرأ فيهما بسورة يوسف وسورة الحج قراءة بطيئة، قيل له:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اقتصرا على ذكر ترجمة عامر بن ربيعة في أسماء رجال المشكاة، وجامع الأصول، ولم يذكرا ترجمة ولده عبد الله بن عامر، ولم ينتبه لذلك الخطأ القاري، بل تبعهما حيث قال: عامر بن ربيعة يكنى أباعبد الله العنزي، هاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد كلها، وكان أسلم قديماً. وقيل: كلتا النسختين صحيحتان، وأن هذا الأثر رواه عبد الله بن عامر وأبوه كلاهما إلا أن هشاماً (شيخ مالك) أخذه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة بلا واسطة أبيه عروة، ورواه عن عامر بن ربيعة (والد عبد الله) بواسطة أبيه، قلت: وعدم ذكر الواسطة بين هشام وعبد الله هو الصواب عند مسلم والبيهقي؛ لأن أصحاب هشام: أبا أسامة ووكيعاً وحاتماً لم يقولوا فيه لفظ "عن أبيه" وقالوا: عن هشام، قال: أخبرني عبد الله بن عامر، ووهم مالك فقال: عن هشام عن أبيه، فزاد لفظ "عن أبيه" ذكره ابن التركماني في "الجوهر النقي" نقلاً عن الاستذكار، ومعرفة السنن. وعلى هذا فالصحيح هو ما وقع في نسخ الموطأ، ورواية البيهقي والطحاوي من قوله: عبد الله بن عامر بن ربيعة، لا ما وقع في نسخ المشكاة، وتيسير الوصول من قوله: عامر بن ربيعة؛ لأن رواية هشام بلفظ الإخبار لا يمكن أن يكون عن عامر بن ربيعة؛ لأن عامراً أكثر ما قيل في وفاته سنة. (37) ومولد هشام سنة مقتل الحسين أي سنة. (61) والله أعلم. ثم رأيت جامع الأصول للجزري قد وقع فيه (ج6: ص228) عامر بن ربيعة، كما وقع في تيسير الأصول. وعبد الله هذا هو عبد الله بن عامر بن ربيعة الأصغر، ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل في سنة ست من الهجرة، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن أربع أو خمس سنين. وثقه أبوزرعة. وقال العجلي: مدني تابعي ثقة من كبار التابعين. وقال أبوحاتم: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على أمه وهو صغير. وقال ابن حبان في الصحابة أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتهم وهو غلام، وروايته عن الصحابة. مات سنة بضع وثمانين. وليس هو عبد الله بن عامر بن ربيعة الأكبر، الصحابي الذي استشهد بالطائف مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما أبوهما عامر، فهو عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي- بسكون النون – حليف بني عدي، ثم الخطاب والد عمر. كان أحد السابقين الأولين. أسلم قبل عمر، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد كلها. وكان صاحب لواء عمر لما قدم الجابية. واستخلفه عثمان على المدينة لما حج، وقام عامر يصلي من الليل وذلك حين نشب الناس في الطعن على عثمان، فصلى من الليل ثم نام، فأتي في منامه، فقيل له قم فسل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالح عباده، فقام فصلى، ثم اشتكى، فما خرج بعد إلا بجنازته، رواه مالك في الموطأ. واختلف سنة وفاته، فقيل: مات سنة. (32) وقيل: (33) وقيل: 34) وقيل: (36) وقيل: (37) ، وقال في التقريب مات ليالي قتل عثمان. له اثنان وعشرون حديثاً، اتفقا على حديثين. (فقرأ فيهما) أي في ركعتيه، وفي نسخة "فيها" كما في الموطأ. أى في صلاته. (بسورة يوسف) أي كلها في الركعة الأولى. (وسورة الحج) كلها في الثانية. (قراءة بطيئة) بالهمزة ويشدد، أي قراءة مجودة مرتلة مبيّنة بدون الإسراع. (قيل له) أي لعامر أو لعبد الله ابن عامر، على ما في نسخ الموطأ. وفي الموطأ "فقلت" وهو قول هشام على رواية الجماعة. أى قال هشام: فقلت:(3/179)
إذا لقد كان يقوم حين يطلع الفجر. قال: أجل)) . رواه مالك.
873- (46) وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: ((ما من المفصل سورة صغيرة ولا كبيرة إلا قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة)) رواه مالك.
874- (47) وعن عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال: ((قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لعبد الله بن عامر، أو قول أبيه عروة على رواية مالك، أي قال عروة: قلت لعامر بن ربيعة. (إذا لقد كان يقوم) أي يبتدئ بصلاة الفجر. (حين يطلع الفجر) بضم اللام، أي أول ما يظهر الصبح. قال الطيبي "إذا" جواب وجزاء، يعني إذا كان الأمر على ما ذكرت إذا والله لقام في الصلاة أول الوقت حين الغلس. (قال: أجل) أي نعم، يقوم إذ ذاك، قيل: إن تطويل الخلفاء الراشدين كما يدل عليه الآثار المتقدمة كان لعلمهم برضا من خلفهم، وبحرصهم على التطويل، وأما اليوم فالتخفيف أولى هو واجب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أم الناس فليخفف. وسيأتي تفصيل الكلام فيه. (رواه مالك) عن هشام ابن عروة عن أبيه: أنه سمع عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول: صلينا، الخ. وكذا أخرجه الطحاوي والبيهقي. قال في الاستذكار: زعم مسلم بن الحجاج أن مالكاً وهم فيه؛ لأن أصحاب هشام لم يقولوا فيه لفظ "عن أبيه" وإنما قالوا: عن هشام قال: أخبرني عبد الله بن عامر. وذكر البيهقي في المعرفة أنه بدون ذكر "أبيه" هو الصواب – انتهى. وذكر ابن حزم في المحلي (ج4: ص104) عن سفيانين كلاهما، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن حسين بن سبرة: أن عمر بن الخطاب قرأ في الفجر يوسف ثم قرأ في الثانية. (والنجم) فسجد، ثم قام فقرأ {إذا زلزلت)) . وأخرجه عبد الرزاق عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير، قال: كان عمر يقرأ في الفجر بيوسف، الخ.
873- قوله: (يؤم بها الناس في الصلاة المكتوبة) أي المفروضة على الأعيان، وهي الخمس. وقد تقدم وجه الجمع بين الروايات المختلفة في القراءة أنها باختلاف الأحوال والأوقات. (رواه مالك) لم أجده في الموطأ مع الفحص الشديد ويمكن أن يكون في غير رواية المصمودي، والظاهر أن المصنف قلد في ذلك الجزري، فقد نسبه في جامع الأصول إلى الموطأ. والحديث أخرجه أبوداود في باب من رأى التخفيف في القرآن في المغرب، وسكت عنه هو والمنذري، وفي إسناده محمد بن إسحاق، ورواه عمرو بن شعيب بالعنعنة وكذلك رواه البيهقي (ج2: ص388) وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص114) من حديث ابن عمر أنه قال: ما من سورة من المفصل الصغيرة ولا كبيرة إلا وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأها كلها في الصلاة. رواه الطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وهي ضعيفة – انتهى.
874- قوله: (وعن عبد الله بن عتبة) بضم العين وسكون الفوقية بعدها موحدة. (بن مسعود) الهذلي، ابن أخي عبد الله بن مسعود، مدني الأصل، سكن الكوفة، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه، وهو من كبار التابعين. وثقه العجلي(3/180)
في صلاة المغرب بـ"حم الدخان")) رواه النسائي مرسلاً.
(13) باب الركوع
{الفصل الأول}
875- (1) عن أنس، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من
بعدي) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجماعة. قال ابن سعيد: كان ثقة رفيعاً، كثير الحديث والفتيا، فقيهاً. مات في ولاية بشر في العراق سنة (74) ، وقيل: (73) . قال ابن عبد البر: ذكره العقيلي في الصحابة فغلط، إنما هو تابعي من كبار التابعين بالكوفة، هو والد عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الفقيه المدني الشاعر، شيخ ابن شهاب. استعمله عمر بن الخطاب على السوق. قال: وولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأتى به فمسحه بيده ودعا له. (بـ"حم الدخان") أي كلها في الركعتين. قال القاري: وفي أصل السيد جمال الدين ضبط بكسر ميم. (حم) وجر "الدخان" ووجه الأول تحريكه بالكسر لالتقاء الساكنين، ووجه الثاني أنه مضاف إليه، أو بدل؛ أو بيان. وفي نسخة بفتح الميم؛ لأن الفتحة أخف الحركات. وفي أخرى بنصب "الدخان" بتقدير أعني. (رواه النسائي مرسلاً) ؛ لأن الراوي تابعي وحذف الصحابي، كلنه اعتضد بما تقدم من قراءة السور الطويلة كالأعراف والطور والمرسلات في المغرب.
(باب الركوع) هو ركن بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهو لغة: الانحناء، وقد يراد به الخضوع. قيل: هو من خصائص هذه الأمة لقول بعض المفسرين في قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} [2: 43] إنما قال لهم ذلك؛ لأن صلاة اليهود والنصارى لا ركوع فيها. والراكعون محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته، ومعنى قوله تعالى: {واركعي مع الراكعين} [3: 43] صلي مع المصلين. قيل: حكمة تكرير السجود دونه، أنه وسيلة ومقدمة للسجود الذي هو الخضوع الأعظم، لما فيه من مباشرة أشرف ما في الإنسان لمواطئ الأقدام والنعال، فناسب تكريره؛ لأنه لمتكفل بالمقصود حيث ورد: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وقيل غير ذلك. والأظهر أنه تعبد محض.
875- قوله: (أقيموا الركوع والسجود) أي أكملوها، من أقام العود، إذا قومه. وفي رواية "أتموا" بدل "أقيموا". (لأراكم) بفتح اللام المؤكدة والهمزة، أي أبصركم. (من بعدي) أي من خلفي إذا ركعتم وسجدتم. قال الحافظ في الفتح: الصواب أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به - صلى الله عليه وسلم - انخرقت له العادة. وعلى(3/181)
متفق عليه.
876- (2) وعن البراء، قال: ((كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع، وما خلا القيام والقعود، قريباً من السواء)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هذا عمل البخاري، فأخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عينه، انخرقت له العادة فيه أيضاً فكان يرى بها من غير مقابلة؛ لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، خلافاً لأهل البدع لوقوفهم مع العادة. وقيل كانت له عين خلف ظهره يرى بها من ورائه دائماً. وقيل: كان بين كفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غير-انتهى. وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعاً في جميع أحواله. وقد نقل ذلك عن مجاهد. وحكى بقي بن مخلد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء. وسبب هذه المقالة كما تدل عليه الروايات أنهم قصروا في الصلاة وأساءوها بتفويت الخشوع، ونقصان الركوع والسجود، وعدم إحسان الصلاة، ففي الحديث الحث على الخشوع في الصلاة، والمحافظة على إتمام أركانها وأبعاضها، وأنه ينبغي للإمام أن ينبه الناس على ما يتعلق بأحوال الصلاة، ولا سيما إن رأى منهم ما يخالف الأولى. وقد سئل عن الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته أياهم دون تحذيرهم برؤية الله تعالى لهم، وهو مقام الإحسان المبين في سؤال جبريل كما تقدم في كتاب الإيمان: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فأجيب: بأن في التعليل برؤيته - صلى الله عليه وسلم - لهم تنبيهاً على رؤية الله تعالى لهم؛ فإنهم إذا أحسنوا الصلاة لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يراهم، أيقظهم ذلك إلى مراقبة الله تعالى، مع ما تضمنه الحديث من المعجزة له - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولكونه يبعث شهيداً عليهم يوم القيامة، فإذا علموا أنه يراهم يحفظوا في عبادتهم، ليشهد لهم بحسن عبادتهم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي.
876- قوله: (كان ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم -) اسم كان. (وسجوده) عطف عليه. (وبين السجدتين) أي وجلوسه بينهما. (وإذا رفع) أي اعتدل، وفي رواية: وإذا رفع رأسه. (من الركوع) أي قيامه وقت رفع رأسه من الركوع؛ لأن "إذا" إذا انسلخت عن معنى الاستقبال تكون للوقت المجرد. وقال الطيبي: قوله "وبين السجدتين" و"إذا رفع" معطوفان على اسم كان، أي ركوع النبي - صلى الله عليه وسلم -، على تقدير المضاف، أي زمان ركوعه وسجوده، وبين السجدتين، ووقت رفع رأسه من الركوع. (ما خلا) بمعنى إلا. (القيام القعود) بالنصب فيهما لا غير. (قريباً) خبر كان. (من السواء) بفتح السين والمد. أي كان قريباً من المساواة والمماثلة، ولاستثناء ههنا من المعنى فإن مفهوم ذلك: كانت أفعال صلاته(3/182)
متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كلها قريبة من السواء، ما خلا القيام الذي هو للقراءة، والقعود الذي هو للتشهد، فإنه كان يطولهما. وفيه إشعار بأن فيها تفاوتاً لكنه لم يعينه، وهو دال على الطمأنينة في الاعتدال وبين السجدتين، لما علم من عاداته من تطويل الركوع والسجود. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يدل على أن الاعتدال ركن طويل، وحديث أنس يعني الذي بعده أصرح في الدلالة على ذلك، بل هو نص فيه، فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف ذكر في أنه ركن قصير، وهو ما قيل: إنه لم يسن فيه تكرار التسبيحات على الاسترسال، كما سنة القراءة في القيام، والتسبيحات في الركوع والسجود مطلقاً. ووجه ضعفه: أنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد، وأيضاً فالذكر المشروع في الاعتدال أطول من الذكر المشروع في الركوع، فتكرير "سبحان ربي العظيم" ثلاثا يجيء قدر قوله: اللهم ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وقد شرع في الاعتدال ذكر أطول كما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفي، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس بعد قوله: حمداً كثيراً طيباً "ملأ السموات وملأ الأرض، وملأ ما شئت من شيء بعد" زاد في حديث ابن أبي أوفي: اللهم طهرني بالثلج، الخ، وزاد في حديث الآخرين: أهل الثناء والمجد، الخ. كذا في الفتح. وفي رواية لمسلم: رمقت الصلاة مع محمد - صلى الله عليه وسلم -، فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدت، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف، قريباً من السواء. وهذه الرواية تدل على عدم خروج حالة القيام والقعود عن بقية حالات أركان الصلاة خلافاً لرواية الباب، فقيل في وجه الجمع: إن رواية مسلم هذه محمولة على بعض الأحوال والأوقات، فكان فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك مختلفا فتارة يستوي الجميع، وفي أكثر الأحوال يستوي ما عدا القيام والقعود. وقيل: ليس المراد بقوله قريباً من السواء أنه كان يركع بقدر قيامه، وكذا السجود والاعتدال، بل المراد أن صلاته كانت قريباً معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال بقية الأركان، وإذا أخفها أخف بقية الأركان، فقد ثبت أنه قرأ في الصبح بـ (الصافات) وثبت في السنن عن أنس: أنهم حزروا في السجود قدر عشر تسبيحات، فيحمل على أنه إذا قرأ بدون (الصافات) اقتصر على دون العشر، وأقله كما ورد في السنن أيضاً ثلاث تسبيحات. ولا يخفى ما في هذا الجمع من التكلف، ويزيفه بل يرده حديث عوف بن مالك الآتي في الفصل الثالث بلفظ: فلما ركع مكث قدر سورة البقرة، الخ. وحديث حذيفة في مسلم: أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعة بـ. (البقرة) أو غيرها، ثم ركع نحو مما قرأ، ثم قام بعد أن قال"ربنا ولك الحمد" قياماً طويلاً قريباً مما ركع. فالراجح في الجمع هو الوجه الأول، وهو أن تحمل رواية مسلم المتقدمة على بعض الأحيان والحالات، والله أعلم. (متفق عليه) أي على أصل الحديث وإلا فقوله "ما خلا القيام والقعود" من أفراد البخاري. والحديث أخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي.(3/183)
877- (3) وعن أنس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: سمع الله لمن حمده، قام حتى نقول: قد أوهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
877- قوله: (حتى نقول) بالنصب على أن "حتى" بمعنى "إلى" و"أن" مضمرة، أي إلى أن نقول. و"حتى" إنما ينصب بعدها المضارع إذا كان مستقبلاً، وهذا قد وقع ومضى. والجواب أنه على حكاية الحال. وقيل بالرفع على أن يكون التقدير: قام. (أي أطال القيام) فقلنا، فإطالة القيام سبب القول، وكلا الفعلين ماض، فلم تعمل فيه حتى. وقيل: الرفع على أن الفعل بعدها حال مقارن لما قبلها، والحال لا ينصب بعد حتى ولا غيرها؛ لأن الناصب مخلص للاستقبال فتنافيا. و"حتى" المرفوع بعدها الفعل ابتدائية لا جارة؛ لأنها إنما تدخل على مفرد أو مؤول به. قال التوربشتي: نصب "نقول" بـ"حتى" وهو الأكثر. ومنهم من لا يعمل "حتى" إذا حسن "فعل" موضع "يفعل" كما يحسن في هذا الحديث: حتى قلنا قد أوهم. وأكثر الرواة على ما علمنا على النصب، وكان تركه من حيث المعنى أتم وأبلغ- انتهى. واعلم أن "حتى" إذا وقع بعدها فعل فإما أن يكون حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، فإن وقع حالاً رفع، نحو: مرض زيد حتى لا يرجونه، أي في الحال. وإن كان مستقبلاً نصب نحو: سرت حتى أدخل البلد وأنت لم تدخلها. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثم حكايتك له إما أن تكون بحسب كونه حالاً بأن يقدر أنه حال فترفعه على حكاية هذا الحال، وإما أن تكون بحسب كونه مستقبلاً فتنصبه على حكاية الحال المستقبلة، فالرفع والنصب على حكاية الحال بمعنيين مختلفين، قال ابن هشام: لا ينتصب الفعل بعد "حتى" إلا إذا كان مستقبلاً، ثم إن كان استقباله بالنظر إلى زمن التكلم فالنصب واجب نحو: {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [20: 91] . وإن كان بالنسبة إلى ما قبلها خاصة فالوجهان نحو: {وزلزلوا حتى يقول الرسول} [2: 214] الآية. فإن قولهم "إنما هو مستقبل" بالنظر إلى الزلزال، لا بالنظر إلى زمن قص ذلك علينا. وكذلك لا يرتفع الفعل بعد حتى إلا إذا كان حالاً، ثم إن كانت حاليته بالنسبة إلى زمن التكلم فالرفع واجب كقولك: سرت حتى أدخلها، إذا قلت ذلك وأنت في حالة الدخول. وإن كانت حاليته ليست حقيقية بل كانت محكية رفع، وجاز نصبه إذا لم تقدر الحكاية نحو: {وزلزلوا حتى يقول الرسول} قراءة نافع بالرفع بتقدير: حتى حالتهم حينئذٍ أن الرسول والذين آمنوا معه يقولون كذا وكذا. واعلم أنه لا يرتفع الفعل بعد "حتى" إلا بثلاثة شروط: أحدها أن يكون حالاً أو مؤولاً بالحال كما مثلنا. والثاني أن يكون مسبباً عما قبلها. والثالث أن يكون فضله- انتهى. ومعنى الحديث: يطيل القيام، أو إطالة حتى نظن، إذا القول قد جاء بمعناه. (قد أوهم) بفتح الهمزة والهاء، فعل ماض مبني للفاعل. قال الجزري: "أوهم في صلاته" أي أسقط منها شيئاً. يقال أوهمت الشيء إذا تركته، وأوهمت في الكلام والكتاب، إذا أسقطت منه شيئاً. ووهم ـ يعني بكسر الهاء ـ يوهم وهما ـ بالتحريك ـ إذا غلط. يعني كان يلبث في حال الاستواء من الركوع زمانا نظن أنه أسقط الركعة التي ركعها، وعاد إلى ما كان عليه من القيام. قال ابن الملك: ويقال: أوهمته، إذا أوقعته في الغلط. وعلى هذا يكون أوهم على صيغة المجهول، أي(3/184)
ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم)) . رواه مسلم.
878- (4) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أوقع عليه الغلط ووقف سهواً – انتهى. قيل: ويحتمل أن يكون معناه: نسى وجوب الهوى إلى السجود، أو نسى أنه في صلاة، أو ظن أنه وقت القنوت حيث كان معتدلاً، أو وقت التشهد حيث كان جالسا. ويؤيد التفسير بالنسيان التصريح به في الرواية الأخرى كما سنذكرها. (يقعد بين السجدتين) أي يطيل القعود بينهما. (حتى نقول: قد أوهم) أي نظن أنه أسقط السجدة الثانية. والحديث نص صريح في تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين. وقد ترك الشافعية والحنفية هذه السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة من عالم، وفقيه، وإمام، ومنفرد، وصغير، وكبير، والأعظم من ذلك أنهم إذا رأوا من يطيل الاعتدال من الركوع والجلوس بين السجدتين شغبوا عليه، وجهلوه، وسفهوه، وتركوا الاقتداء به. قال بعض الحنفية معتذرا عن أمثال هذا الحديث: إن فيها مبالغة الراوي. قلت: قال شيخنا رداً عليه: كلا، ثم كلا، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يبالغون من عند أنفسهم في وصف صلاته، وحكاية أفعاله في الصلاة وغيرها، ولا يقصرون بل يحكون على حسب ما يرون، فحمله على مبالغة الراوي باطل مردود عليه. وحمل بعضهم حديث أنس على ابتداء الأمر حين كان يطول صلاته، قال: ثم أمر بالتخفيف بعده. وهذا ادعاء محض لا دليل على كون ما في هذا الحديث حكاية لابتداء الأمر فلا يلتفت إليه. وقال بعضهم: كانت هذه الإطالة في صلاة النافلة. وهذا الحمل أيضاً يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، بل يرده إطلاق ما روي عن ثابت، قال: كان أنس ينعت لنا صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول: قد نسي، أخرجه البخاري. وقال بعضهم: لم يذكر هذه الصفة إلا أنس من بين الصحابة الذين رووا صفة صلاته. وفيه: أنه لم يتفرد بذلك أنس، بل وافقه البراء وحذيفة كما تقدم. ولو سلم أنه لم يذكر هذه الصفة غير أنس، لا يضر من قال بمشروعيتها، فكم من صفة من صفات الصلاة تفرد بذكرها بعض الصحابة وقد أخذها الأئمة وعملوا بها وعدوها من سنن الصلاة. وقال بعضهم: فعله في الفرائض أحياناً لبيان الجواز، ولفظه "كان" للرابطة، لا لبيان المواظبة. قلت: لا مانع من حملها على التكرار، فالظاهر أن حاله - صلى الله عليه وسلم - كان مختلفا، فتارة كان يطيل، وتارة كان يخفف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، وأخرج الشيخان عن ثابت، عن أنس، قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا. قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعوه، وكان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً حتى يقول القائل: قد نسى، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي.
878- قوله: (يكثر) من الإكثار. (أن يقول) قد ورد في رواية البخاري في التفسير بيان ابتداء هذا الفعل.(3/185)
في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن. متفق عليه.
879- (5) وعنها، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح، قدوس، رب الملائكة
والروح)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأنه واظب عليه - صلى الله عليه وسلم -، ولفظها: ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد أن نزلت عليه {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا يقول فيها: سبحانك- الحديث. قيل: اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة لهذا القول مع أنه لم يقيد بحال من الأحوال؛ لأن حالها أفضل من غيرها، فاختار أفضل الأحوال لأداء هذا الواجب، ليكون أكمل وأبلغ في الامتثال. قال الحافظ: وليس في الحديث أنه لم يكن يقول ذلك خارج الصلاة أيضاً، بل في بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها. (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك) تقدم الكلام فيه. (يتأول القرآن) أي يعمل بما أمر به فيه. وقد تبين من الرواية المذكورة أن المراد بالقرآن بعضه، وهو السورة المذكورة، والذكر المذكور، وقوله "يتأول" حال من فاعل "يقول" أي يكثر قول ذلك حال كونه متأولاً للقرآن، أي مبنياً ما هو المراد من قوله: {فسبح بحمد ربك واستغفره} [110: 3] آتياً بمقتضاه. وأصل الأول الرجوع والانصراف، والمآل ما يرجع إليه الأمر. وقال القرطبي، معناه: يمتثل ما آل إليه معنى القرآن في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} [110: 1] الخ. والحديث يؤخذ منه إباحة الدعاء في الركوع، وإباحة التسبيح في السجود، ولا يعارضه قوله الآتي - صلى الله عليه وسلم -: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء"؛ لأنه لا مفهوم له، فلا يمتنع الدعاء في الركوع كما لا يمتنع التعظيم في السجود؛ لأن تعظيم الرب فيه لا ينافي الدعاء كما أن الدعاء في السجود لا ينافي التعظيم. قال ابن دقيق العيد: ويمكن أن يحمل حديث الباب على الجواز، وذلك على الأولوية، ويحتمل أن يكون أمر في السجود بتكثير الدعاء لإشارة قوله فاجتهدوا، والذي وقع في الركوع من قوله: اللهم اغفر لي، ليس كثيراً، فلا يعارض ما أمر به في السجود- انتهى. وأراد بنفي الكثرة عدم الزيادة على قوله: اللهم اغفر لي، في الركوع الواحد، فهو قليل بالنسبة إلى السجود المأمور فيه بالاجتهاد في الدعاء المشعر بتكثير الدعاء. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
879- قوله: (سبوح قدوس) بضم أولهما وفتحهما، والضم أكثر استعمالاً وأفصح. قال ثعلب: كل اسم على "فعول" فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس، فإن الضم فيهما أكثر، وهما من صفات الله تعالى، والمراد المسبح والمقدس، فعول لمبالغة المفعول، فكأنه يقول مسبح مقدس. ومعنى "سبوح" المبرأ من النقائص والشريك، وكل ما لا يليق بالإلهية، و"قدوس" المطهر من كل ما لا يليق بالخالق، ولعل التكرير للتأكيد، أو أحدهما لتنزيه الذات، والآخر لتنزيه الصفات. وهما خبران مبتدءهما محذوف تقديره: ركوعي وسجودي لمن هو سبوح قدوس، أي منزه عن أوصاف المخلوقات، أو أنت سبوح أو هو سبوح. (رب الملائكة والروح) هو من عطف الخاص على العام؛ لأن(3/186)
رواه مسلم.
880- (6) وعن ابن عباس، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الروح من الملائكة، وهو ملك عظيم يكون إذا وقف كجميع الملائكة. وقيل المراد به "جبريل" لقوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً} [78: 38] ، وقوله تعالى: {نزل به الروح الأمين} [26: 193] وقوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} [97: 4] وغير ذلك، خص بالذكر تفضيلا. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي.
880- قوله: (ألا) كلمة تنبيه. (إني نهيت) بضم النون وكسر الهاء على بناء المجهول. (أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً) أي عن قراءة القرآن في هاتين الحالتين. والنهي له - صلى الله عليه وسلم - نهي لأمته كما يشعر بذلك قوله في الحديث "فأما الركوع" الخ. قال الطيبي: أمره إياهم بالتعظيم للرب في الركوع، وبالدعاء في السجود، يدل على أن النهي عن القراءة ليس مخصوصاً به عليه السلام، بل الأمة داخلون معه فيه. قلت: ويشعر به أيضاً ما في صحيح مسلم وغيره أن علياً قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً. وهذا النهي يدل على تحريم قراءة القرآن في الركوع والسجود؛ لأن الأصل في النهي التحريم. وفي بطلان الصلاة بالقراءة حال الركوع والسجود خلاف. وحكمة النهي أن الركوع والسجود حالان دالان على غاية الذل والخضوع، ويناسبهما الدعاء والتسبيح، فنهي عن القراءة فيهما تعظيماً للقرآن الكريم؛ لأن كلام الله لكونه في غاية العظمة والجلالة لا يناسب قراءته في حالة الذلة والاستكانة، والله اعلم. (فأما الركوع) كأنه قيل: فماذا نقول فيهما؟ فقال: فأما الركوع. (فعظموا فيه الرب) أي سبحوه، ونزهوه، ومجدوه، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - كيفية هذا التعظيم، واللفظ الذي يقع به هذا التعظيم في حديثي عائشة قبل هذا، وفي أحاديث عقبة بن عامر، وابن مسعود، وحذيفة، وعوف بن مالك الآتية في هذا الباب، وفي حديث أبي هريرة، وعائشة في باب السجود وفضله. (وأما السجود فاجتهدوا) أي بالغوا. (في الدعاء) قال السندي: قوله: "فعظموا فيه الرب" أي اللائق به في تعظيم الرب، فهو أولى من الدعاء، وإن كان الدعاء جائزاً أيضاً، فلا ينافي أنه كان يقول في ركوعه: اللهم اغفرلي، وقوله فاجتهدوا في الدعاء، أي أنه محل لاجتهاد الدعاء، وأن الاجتهاد فيه جائز بلا ترك أولوية، وكذلك التسبيح فإنه محل له أيضاً- انتهى. والحديث دليل على مشروعية الدعاء حال السجود بأي دعاء كان من طلب خير الدنيا والآخرة، والاستعاذة من شرهما. وقد بين بعض الأدعية ما أفاده حديث عائشة السابق. (فقمن) هو بفتح القاف وفتح الميم وكسرها، لغتان مشهورتان، فمن فتح فهو عنده مصدره لا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع، ومن كسر فهو وصف يؤنث ويثنى ويجمع، وفيه لغة ثالثة "قمين" – بزيادة الياء وفتح القاف وكسر الميم – وهو مثل القمن – بكسر الميم – في كونه وصفاً، ومعناه: جدير وحقيق. (أن يستجاب لكم) ؛(3/187)
رواه مسلم.
881- (7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا:
اللهم ربنا ولك الحمد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن السجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه، فيكون الدعاء في تلك الحالة أقرب إلى الإجابة. وفي الحديث الحث على الدعاء في السجود، وأنه محل الإجابة، وقد ورد الأمر بالإكثار من الدعاء فيه في حديث أبي هريرة الآتي في باب السجود وفضله. قال الحافظ: الأمر بإكثار الدعاء في السجود يشمل الحث على تكثير الطلب لكل حاجة، كما جاء في حديث أنس: ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله، أخرجه الترمذي. ويشمل التكرار للسؤال الواحد، والاستجابة تشمل استجابة الداعي بإعطاء سؤله واستجابة المثنى بتعظيم ثوابه-انتهى. وظاهر الحديث وجوب تسبيح الركوع، ووجوب الدعاء في السجود للأمر بهما. وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، وطائفة من المحدثين. وقال الجمهور: إنه مستحب لحديث المسيء صلاته، فإنه لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ولو كان واجباً لأمره به. وفيه نظر لا يخفى على المتأمل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي.
881- قوله: (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد) قال القسطلاني: وللأصيلي "ولك الحمد" بالواو-انتهى. قال ابن القيم: لم يرد الجمع بين لفظ "اللهم" وبين "الواو" في حديث صحيح. قال الشوكاني: قد ثبت الجمع بينهما في صحيح البخاري من حديث أنس بلفظ: وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد. وقد تطابقت على هذا اللفظ النسخ الصحيحة من صحيح البخاري-انتهى. واستدل بهذا الحديث وما في معناه لمالك وأبي حنيفة على أن الإمام يكتفي بالتسميع ولا يقول "ربنا لك الحمد"، وأن المأموم يكتفي بالتحميد ولا يقول "سمع الله لمن حمده" لكون ذلك لم يذكر في هذه الرواية، وأنه - عليه السلام - قسم التسميع والتحميد، فجعل التسميع الذي هو طلب التحميد للإمام، والتحميد الذي هو طلب الإجابة للمأموم، والتقسيم ينافي الشركة. ورد هذا الاستدلال بأنه ليس المقصود منه التقسيم، بل ذكر وقت تحميد المقتدي أنه عند قول الإمام "سمع الله لمن حمده"، وهو ساكت عن تحميد الإمام إثباتاً نفياً. قال الحافظ في الفتح: وفي الاستدلال به على ذلك نظر؛ لأنه ليس فيه ما يدل على النفي، بل فيه أن قول المأموم "ربنا لك الحمد" يكون عقب قول الإمام "سمع الله لمن حمده"، والواقع في التصوير ذلك؛ لأن الإمام يقوله في حال انتقاله، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، فقوله يقع عقب قول الإمام كما في الخبر، وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين كما تقدم من أنه لا يلزم من قوله: إذا قال الإمام {ولا الضالين} فقولوا: آمين. أن الإمام لا يؤمن بعد قوله {ولا الضالين)) . وليس فيه أن الإمام يؤمن، كما أنه ليس في هذا أنه يقول "ربنا لك الحمد"، لكنها مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة-انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في السعاية(3/188)
(ص186) : فإن قلت آخذاً من فتح التقدير: السكوت في معرض البيان بيان، فلو كان التحميد أيضاً مشروعاً للإمام لبينه، فلما سكت عنه علم أنه ليس مشروعاً له. قلت: هذا إنما يستقيم لو كان الموضع موضع بيان أذكار الإمام والمؤتم، وهو ممنوع، فإن الظاهر من التعليق أنه موضع بيان وقت ذكر المقتدي أنه حين قول الإمام: سمع الله لمن حمده، فلا ينافيه مشروعية الذكر الآخر بعده للإمام، على أن اعتبار السكوت في موضع البيان إنما هو إذا لم يوجد حكم المتنازع فيه من موضع آخر، وأما إذا وجد حكمه صريحاً موافقاً أو مخالفاً فلا اعتبار له، كما صرحوا به في مواضع، وههنا قد وجدت مشروعية التحميد بدليل آخر، وهو ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، والبخاري من حديث ابن عمر، ومسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى، ومن حديث علي بن أبي طالب أنهم قالوا في وصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان حين يرفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد. فهذا صريح في مشروعية التحميد للإمام. فإن قلت: آخذاً من فتح القدير: إن أحاديث الجمع فعلية، وحديث القسمة قولي، والقول النبوي مقدم على فعله كما هو مقرر في مقره. قلت: هذا إذا كان القول دالاً صراحة على خلاف الفعل، وههنا ليس كذلك. وأي ضرورة دعت إلى حمل الحديث السابق على القسمة حتى ينافي حديث الفعل. فإن قلت: لعل زيادة التحميد كانت في النوافل. قلت: هذا مقام لا يكفي فيه ليت ولعل. والحمل بمجرد الاحتمال مستبعد جداً مع كون غالب أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإمامة. وبالجملة فالاكتفاء بالتسميع وإن كان مشى عليه أرباب المتون لكونه قول أبي حنيفة، لكن الدليل يساعد الجمع، فهو الأحق بالاختيار خصوصاً إذا وجد اختياره من جماعة من المتأخرين. وذهب إليه الصاحبان، وروي مثله عن الإمام-انتهى كلام الشيخ اللكنوي. قلت: ذهب أحمد، والشافعي، وأبويوسف، ومحمد، والجمهور إلى أن الإمام يقول: ربنا لك الحمد، بعد التسميع كالمنفرد، واختاره الفضلي، والطحاوي، والشرنبلاني، وصاحب المنية، وعامة المتأخرين من الحنفية، وهو الأصح الموافق لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأتي بالتحميد بعد قوله: سمع الله لمن حمده. قال الحافظ في الفتح: الأحاديث الصحيحة تشهد له. وأما المنفرد فحكى الطحاوي، وابن عبد البر الإجماع على أنه يجمع بينهما، وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما؛ للاتفاق على إتحاد حكم الإمام والمنفرد، لكن أشار صاحب الهداية إلى خلافه عندهم في المنفرد. وأما المأموم فقال الشافعي، وإسحاق، وعطاء، وابن سيرين، وغيرهم: هو كالإمام والمنفرد، يجمع بينهما، وذهب أحمد، ومالك، وأبوحنيفة، وصاحباه إلى أنه لا يأتي بالتسميع. واستدل الشافعي ومن وافقه بما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة" وفيه "ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة. ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد" بانضمام قوله - صلى الله عليه وسلم - "صلوا كما رأيتموني أصلي". وبما رواه الدارقطني عن أبي هريرة، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: سمع الله لمن حمده،(3/189)
فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
882- (8) وعن عبد الله بن أبي أوفى، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع ظهره من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال من وراءه: سمع الله لمن حمده. لكن صرح الدارقطني بأن المحفوظ لفظ: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فليقل من وراءه: ربنا ولك الحمد. وبما رواه الدارقطني أيضاً عن بريدة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بريدة! إذا رفعت رأسك من الركوع فقل: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد. وظاهره عدم الفرق بين كونه إماماً، أو منفرداً، أو مأموماً. ولكن سنده ضعيف. وليس في جمع المأموم بين التسميع والتحميد حديث صحيح صريح. قال الحافظ: زاد الشافعي: أن المأموم يجمعهما أيضاً، لكن لم يصح في ذلك شيء. (فإنه) أي الشأن. (من وافق قوله) وهو قوله: ربنا لك الحمد، بعد قول الإمام: سمع الله لمن حمده،. (قول الملائكة) أي في الزمان. (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي من الصغائر. قال الخطابي: في هذا دلالة على أن الملائكة يقولون مع المصلي هذا القول، ويستغفرون ويحضرون بالدعاء والذكر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي.
882- قوله: (إذا رفع ظهره) أي حيث شرع في رفعه. (من الركوع قال: سمع الله لمن حمده) أي وإذا انتهى إلى الاعتدال قال قبل أن يميل إلى السجود. (اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات) بكسر الميم وبنصب الهمزة بعد اللام، وهو الأكثر والأشهر على أنه صفة مصدر محذوف. وقيل على أنه حال، أي مالئاً. وقيل على نزع الخافض، أي بملء السموات، وبرفع الهمزة على أنه صفة الحمد، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، والملء اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ، وهو مجاز عن الكثرة، قال المظهر: هذا تمثيل وتقريب، إذا الكلام لا يقدر بالمكائيل ولا تسعه الأوعية، وإنما المراد منه تكثير العدد حتى لو قدر أن تلك الكلمات تكون أجساماً تملأ الأماكن لبلغت من كثرتها ما تملأ السموات والأرضين. وقيل: المراد بذلك تعظيم القدر كما يقال: هذه الكلمة تملأ طباق الأرض. وقيل: المراد بذلك أجرها وثوابها. (وملء ما شئت من شيء بعد) أي بعد ذلك، أو غير ما ذكر كالعرش والكرسي ونحوهما مما في مقدور الله تعالى. قال التوربشتي: هذا أي "ملء ما شئت" يشير إلى الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استفراغ الجهد، فإنه حمده ملء السموات والأرض، وهذا نهاية إقدام السابقين، ثم ارتفع وترقى فأحال الأمر فيه على المشيئة، إذ ليس وراء ذلك للحمد منتهي، ولهذه الرتبة التي لم يبلغها أحد من خلق الله استحق - عليه الصلاة والسلام - أن يسمى أحمد-انتهى. وفي هذا الحديث وحديثي أبي سعيد ورفاعة الآتيين دليل على مشروعية تطويل الاعتدال من الركوع، والذكر(3/190)
رواه مسلم.
883- (9) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المذكور في هذه الأحاديث، ولا دليل لمن حملها على النافلة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، وابن ماجه.
883- قوله: (اللهم) لم أجد هذا اللفظ في مسلم في رواية أبي سعيد، ووجدتها في رواية ابن عباس. (أهل الثناء والمجد) بالنصب على الاختصاص أو المدح، أو بتقدير: يا أهل الثناء، أو بالرفع بتقدير: أنت أهل الثناء. والثناء: الوصف الجميل، والمدح. والمجد: العظمة، ونهاية الشرف. (أحق ما قال العبد) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وما موصولة، أو موصوفة، أو مصدرية، و"ال" للجنس، أو للعهد، والمعهود النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي أنت أحق بما قال العبد لك من المدح من غيرك، أو يكون التقدير: هذا الكلام، أي ما سبق من قوله: ربنا لك الحمد، الخ. أحق ما قاله العبد، أو أحق قول العبد. قال الأمير اليماني: وإنما لم يجعل "لا مانع لما أعطيت" خبراً و"أحق" مبتدأ؛ لأنه محذوف في بعض الروايات، فجعلناه جملة استئنافية إذا حذف تم الكلام من دون ذكره-انتهى. وقيل: الأظهر والأولى أن يجعل "أحق" مبتدأ وخبره "لا مانع لما أعطيت"، و"كلنا لك عبد" اعتراض بين المبتدأ والخبر، ومثل هذا الاعتراض كثير في القرآن وأشعار العرب، وإنما يعترض ما يعترض من هذا الباب للاهتمام به، وارتباطه بالكلام السابق، وتقديره هنا: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت، وكلنا لك عبد، فينبغي لنا أن نقوله. وإنما كان أحق ما قاله العبد، لما فيه من التفويض إلى الله تعالى والإذعان له، والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن الخير والشر منه، والحث على الزهادة في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصالحة. (لا مانع) من أحد. (لما أعطيت) أي لعبد شيئاً من العطاء. (ولا معطي) من أحد. (لما منعت) أي للشيء الذي منعته من الأشياء، أو من الإعطاء أحد، وهو مقتبس من قوله تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} [35: 2] . (ولا ينفع ذا الجد) المشهور فيه فتح الجيم، ومعناه الحظ والغنى والعظمة والسلطان، منك بمعنى عند، والمعنى: لا ينفع ذا الحظ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان والغنى منك، أي عندك حظه وغناه، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح. وقيل: المعنى: لا يسلمه من عذابك غناه، أي لا يمنع عظمة الرجل وغناه عذابك إن شئت عذابه. وقيل:(3/191)
رواه مسلم.
884- (10) وعن رفاعة بن رافع، قال: ((كنا نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده. فقال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف قال: من المتكلم آنفاً؟ قال: أنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
"من" بمعنى بدل، أي لا ينفع ذا الحظ والإقبال بذلك- أي بدل طاعتك وتوفيقك- حفظه وإقباله. وروى الجد- بالكسر للجيم-، أي لا ينفع ذا الاجتهاد منك جده واجتهاده، وعمله، وإنما ينفعه رحمتك، وفضلك، والقبول منك بعمله. وقد ضعفت رواية الكسر. والحديث دليل على مشروعية هذا الذكر في هذا الركن لكل مصل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي، وأخرج مسلم، والنسائي نحوه عن ابن عباس أيضاً.
884- قوله: (كنا نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي في يوم من الأيام. وظاهر السياق يدل على أنه كان في صلاة الجماعة، ومن المعلوم أن المعتاد في الصلاة جماعة هو الفرض لا النفل. ونقل الحافظ في الفتح أن في رواية بشر بن عمران الزهراني، عن رفاعة بن يحيى: أن تلك الصلاة كانت المغرب، وهي صريحة في الرد على من زعم أنه التطوع. (فلما رفع رأسه) أي فلما شرع في رفع رأسه. (من الركعة) أي الركوع. (قال: سمع الله لمن حمده) وأتمه في الاعتدال. (فقال رجل) هو رفاعة بن رافع راوي الخبر، قاله ابن بشكوال، وبه جزم الحافظ. واستدل على ذلك بما رواه الترمذي وغيره عن قتيبة عن رفاعة بن يحيى الزرقي عن عم أبيه معاذ بن رفاعة، قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فعطست، فقلت: الحمد لله- الحديث. قيل: هذا التفسير فيه نظر لاختلاف سياق السبب والقصة. وأجب: بأنه لا تعارض بينهما لاحتمال أنه وقع عطاسه عند رفع رأس النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر نفسه في حديث الباب، بل كنى عنها لقصد إخفاء عمله وطريق التجريد. ويجوز أن يكون بعض الرواة نسي اسمه وذكره بلفظ "الرجل"، وأما ما عدا ذلك من الاختلاف فلا يتضمن إلا زيادة لعل الراوي اختصرها، فلا يضر ذلك. (وراءه) أي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (ولك الحمد) أي لك النعمة، ولك الحمد. (حمداً) منصوب بفعل مضمر دل عليه قوله: لك الحمد. (طيباً) أي خالصا عن الرياء والسمعة. (مباركاً فيه) أي كثير الخير. وأما قوله في رواية رفاعة بن يحيى عند الترمذي "مباركاً عليه" فالظاهر أنه تأكيد للأول. وقيل: الأول بمعنى الزيادة، والثاني بمعنى البقاء، وزاد أيضاً في الرواية المذكورة "كما يحب ربنا ويرضى"، وفيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد. (فلما انصرف) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته. (من المتكلم؟) زاد في رواية رفاعة بن يحيى: في الصلاة، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة: من المتكلم في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع: أنا يا رسول الله! قال: كيف قلت؟ فذكره، فقال: والذي نفسي بيده- الحديث. (قال: أنا) أي قال الرجل: أنا المتكلم(3/192)
قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدونها أيهم يكتبها أول)) رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بذلك، أرجو الخير. فإن قلت: لم أخر رفاعة إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى كرر سؤاله ثلاثا؟ مع وجوب إجابته عليه؛ بل وعلى غيره ممن سمع، فإنه - عليه الصلاة والسلام - عم السؤال حيث قال: من المتكلم؟ أجيب: بأنه لما يعين واحدا بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم، ولا من واحد بعينه، وكأنهم انتظروا بعضهم ليجيب، وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء، ظناً منهم أنه أخطأ فيما فعل، ورجوا أن يقع العفو عنه، ويدل له ما في رواية سفيان، عن عبد الجبار، عن رفاعة بن يحيى عند ابن قانع: قال رفاعة: فوددت أني خرجت من مالي، وأني لم أشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الصلاة، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى سكوتهم فهم ذلك، فعرفهم أنه لم يقل بأساً، ويدل لذلك حديث مالك بن ربيعة عند أبي داود: قال: من القائل الكلمة؟ فإنه لم يقل بأساً، فقال: أنا قلتها، لم أرد بها إلا خيرا. والحكمة في سؤاله - صلى الله عليه وسلم - له عمن قال، أن يتعلم السامعون كلامه فيقولوا مثله. (بضعة) بكسر الباء وتاء التأنيث، وهي من الثلاث إلى تسع. (يبتدرونها) أي يسارعون في كتابة هذه الكلمات. (أيهم) بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره هو قوله "يكتبها" قاله الطيبي وغيره. و"أي" استفهامية، وتعلقت هذه الجملة الاستفهامية بمحذوف دل عليه "يبتدرونها" والتقدير: يبتدرونها ليعلموا أيهم يكتبها أول. ويجوز في "أيهم" النصب بأن يقدر المحذوف أي فينظرون أيهم. (يكتبها) أي هذه الكلمات، وأي موصولة عند سيبويه، والتقدير: يبتدرون الذي هو يكتبها أول. وأنكر جماعة من البصريين ذلك. (أول) مبني على الضم؛ لأنه ظرف قطع عن الإضافة لفظاً لا معنى، أي أولهم، والمعنى: أن كل واحد منهم يسرع ليكتب هذه الكلمات قبل الآخر ويصعد بها إلى حضرة الله تعالى لعظم قدرها. ويروى "أول" بالفتح، ويكون حالاً وهو غير منصرف. وقال ابن الملك: أول بالنصب هو الأوجه، أي أول مرة. قال في المفاتيح: نصبه على الحال أو الظرف. وفي رواية رفاعة بن يحيى عند الترمذي: أيهم يصعد بها، ولا تعارض بين الروايتين؛ لأنه يحمل على أنهم يكتبونها ثم يصعدون بها. وأورد المصنف هذا الحديث في باب الركوع ليستدل به على مشروعية الذكر المذكور فيه الاعتدال من الركوع، وعلى جواز تطويل الاعتدال، ورفع الصوت به ما لم يشوش على من معه. لكن لا يتم هذا الاستدلال إلا إذا قيل: إن القصة المذكورة فيه غير قصة العطاس المذكورة في رواية رفاعة بن يحيى عند الترمذي. وأما إذا قيل باتحاد القصة والواقعة كما جزم به الحافظ وابن بشكوال، يكون الذكر المذكور ذكر العطاس الذي اتفق وقوعه عند رفع الرأس من الركوع، لا ذكر الاعتدال، ويكون الحديث دليلاً على أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة، وأن المتلبس بالصلاة لا يتعين عليه تشميت العاطس. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي. والعجب أن الحاكم روى حديث رفاعة بن رافع هذا في مستدركه على الصحيحين، وهو في البخاري، ورجال الحاكم رجاله، إلا أن في المستدرك من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، وفي البخاري، عن القعنبي، عن مالك، وقيل: إنه يكفي هذه المغايرة بينهما للاستدراك.(3/193)
{الفصل الثاني}
885- (11) عن أبي مسعود الأنصاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود)) رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
885- قوله: (عن أبي مسعود الأنصاري) قال ابن سعد في الطبقات (ج6: ص9) في ترجمته: شهد ليلة العقبة وهو صغير، ولم يشهد بدراً، وشهد أحداً. وفي التهذيب: قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: لم يشهد بدراً، وهو قول ابن إسحاق، ونقل بعضهم أنه علل نسبة البدري بأنه نزل ماء ببدر، فنسب إليه، ثم رد الحافظ ذلك في التهذيب والإصابة بأنه ثبت في أحاديث صحاح أنه شهد بدراً، وأن هذه الأقوال لا ترد الأحاديث الصحيحة، ولذلك عده البخاري ومسلم وأبوعبيدة والحاكم أبوأحمد فيمن شهد بدراً، وانظر فتح الباري، كذا في تعليق الترمذي للشيخ أحمد محمد شاكر. (لا تجزئ) من أجزأ بهمزة في آخره، أي لا تجوز، ولا تصح، ولا تكفي (صلاة الجل) وفي حكمه المرأة. (حتى يقيم) أي يعدل ويسوي. (ظهره في الركوع والسجود) هذا لفظ أبي داود، ولفظ البقية "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود"، قال في المجمع: أي لا يجوز صلاة من لا يسوي ظهره في الركوع والسجود، والمراد الطمأنينة- انتهى. والحديث دليل على فرضية الطمأنينة في الركوع والسجود، فإنه نص صريح في أن من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود لا تجوز صلاته، وهو المراد بفرضية الطمأنينة في الركوع والسجود، وإليه ذهب مالك، والشافعي، وأحمد والجمهور، وهو مذهب أبي يوسف، وهو الحق لحديث الباب، ولحديث المسيء في صلاته، وقد تقدم. ولحديث حذيفة وأبي قتادة في الفصل الثالث. ولحديث أنس المتقدم بلفظ: أقيموا الركوع والسجود. ولحديث علي بن شيبان مرفوعاً: "يا معشر المسلمين! لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود" أخرجه أحمد وابن ماجه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما. قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. قال السندي في حاشية النسائي، وابن ماجه: المقصود - أي من حديث الباب- الطمأنينة في الركوع والسجود، ولذلك قال الجمهور بافتراض الطمأنينة، والمشهور من مذهب أبي حنيفة ومحمد عدم الافتراض، لكن نص الطحاوي في آثاره أن مذهب أبي حنيفة وصاحبيه افتراض الطمأنينة في الركوع والسجود، وهو أقرب للأحاديث- انتهى. وقد أسلفنا الكلام فيه مفصلاً في شرح حديث المسيء في أول صفة الصلاة فتذكر. (رواه أبوداود) وسكت عنه. (والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد. (وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح) وقال الشوكاني: إسناده صحيح، ونقل المنذري كلام الترمذي وأقره.(3/194)
886- (12) وعن عقبة بن عامر، قال: ((لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم. فلما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في سجودكم)) رواه أبوداود وابن ماجه والدارمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
886- قوله: (اجعلوها) أي مضمونها ومحصولها. (في ركوعكم) يعني قولوا: سبحان ربي العظيم. (اجعلوها في سجودكم) أي قولوا: سبحان ربي الأعلى، كما يدل عليه حديث ابن مسعود، وحديث حذيفة بعد هذا، ففيهما بيان كيفية هذا الجعل. والحكمة في تخصيص الركوع بالعظيم، والسجود بالأعلى، أن السجود لما كان فيه غاية التواضع لما فيه من وضع الجبهة التي هي أشرف الأعضاء على مواطئ الأقدام، كان أفضل وأبلغ في التواضع من الركوع، فحسن تخصيصه بما فيه صيغة أفعل التفضيل وهو الأعلى، بخلاف التعظيم، جعلاً للأبلغ مع الأبلغ، والمطلق مع المطلق، وأيضاً قد صح: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"، فربما يتوهم قرب المسافة فندب "سجان ربي الأعلى" دفعاً لذلك التوهم، وأيضاً في السجود غاية انحطاط من العبد فيناسبه أن يصف فيه ربه بالعلو. والحديث يصلح متمسكاً للقائلين بوجوب تسبيح الركوع والسجود، وقد تقدم جواب الجمهور عنه. قال الطيبي: الاسم ههنا صلة بدليل أنه - عليه السلام - كان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، فحذف الاسم، وهذا على قول من زعم أن الاسم غير المسمى، وقيل: الاسم يجوز أن يكون غير صلة، والمعنى تنزيه اسمه عن أن يبتذل، وأن لا يذكر على وجه التعظيم، قال الرازي: كما يجب تنزيه ذاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب. وقال السندي في حاشية ابن ماجه: قوله: "اجعلوها في ركوعكم"، أي اجعلوا التسبيح المستفاد منها، وجاء بيان ذلك التسبيح "سبحان ربي العظيم"، وهذا يفيد أن لفظ الاسم في قوله: {فسبح باسم ربك العظيم} [56: 74] مقحم، وكذا قوله "اجعلوها في سجودكم". وقد يقال: بيان الآية بهذا التسبيح مبني على أن مفعول "سبح" محذوف أي سبحه، وقوله "باسم ربك" حال، أي حال كونه متلبساً باسمه، و"العظيم" هو بيان الاسم، وهذا أقرب إلى تطبيق الآية بالبيان فليفهم، إلا أنه لا يوافق آية السجود- انتهى. (رواه أبوداود، وابن ماجه، والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح. قال الذهبي: في إسناده أياس بن عامر، وليس بالمعروف، وفي تهذيب التهذيب (ج1: ص389) : ومن خط الذهبي في تلخيص المستدرك: ليس بالقوي- انتهى. قلت: أياس هذا قال العجلي: لا بأس به، وذكره ابن حبان في الثقات، وصحح له ابن خزيمة. وقال الحافظ في التقريب: صدوق. وسكت على حديثه هذا أبوداود، والمنذري، وقال النووي: إسناده حسن.(3/195)
887- (13) وعن عون بن عبد الله، عن ابن مسعود، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه. وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاث مرات، فقد تم سجوده، وذلك أدناه)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
887- قوله: (وعن عون بن عبد الله) أي ابن عتبة بن مسعود، ثقة، سمع جماعة من الصحابة، وكان كثير الإرسال. وعبد الله بن مسعود عم أبيه. (سبحان ربي العظيم) بفتح ياء "ربي" ويسكن. (فقد تم ركوعه) أي كمل. (وذلك) أي المذكور من الذكر. (أدناه) في الموضعين، أي أدنى التمام، وهذا المعنى هو المتبادر من هذا السوق، قال ابن الملك: أي أدنى الكمال في العدد وأكمله سبع مرات. قال: فالأوسط خمس مرات. وقال الماوردي: إن الكمال إحدى عشرة، أو تسع، وأوسطه خمس، ولو سبح مرة حصل التسبيح- انتهى. وقيل: إن الكمال عشر تسبيحات، ويدل عليه حديث ابن جبير عن أنس في الفصل الثالث بلفظ: "فحرزنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات". وقال ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه: يستحب خمس تسبيحات للإمام. وقال الشوكاني: لا دليل على تقييد الكمال بعدد معلوم، بل ينبغي الاستكثار من التسبيح على مقدار تطويل الصلاة من غير تقييد بعدد- انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في شرح حديث ابن جبير في الفصل الثالث. وحديث ابن مسعود هذا قد استدل به على استحباب أن لا ينقص الرجل في الركوع والسجود من ثلاث تسبيحات، ويدل عليه أيضاً حديث حذيفة: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا ركع "سبحان ربي العظيم" ثلاث مرات، وإذا سجد "سبحان ربي الأعلى" ثلاث مرات. أخرجه ابن ماجه، وفي سنده ابن لهيعة. وحديث أبي بكرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح في ركوعه "سبحان ربي العظيم" ثلاثاً، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى" ثلاثاً. رواه البزار، والطبراني في الكبير. وقال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي بكرة إلا بهذا الإسناد، وعبد الرحمن بن أبي بكرة صالح الحديث. وحديث جبير بن مطعم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه "سبحان ربي العظيم" ثلاثاً، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى" ثلاثاً. رواه البزار، والطبراني في الكبير. قال البزار: لا يروى عن جبير إلا بهذا الإسناد، وعبد العزيز بن عبيد الله صالح، ليس بالقوي. وحديث أبي مالك الأشعري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، فلما ركع قال: "سبحان الله وبحمده" ثلاث مرات، ثم رفع رأسه. رواه الطبراني في الكبير. وفيه شهر بن حوشب، وفيه بعض كلام، وقد وثقه غير واحد. وحديث عبد الله بن مسعود، قال: إن من السنة أن يقول الرجل في ركوعه "سبحان ربي العظيم" ثلاثاً، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى" ثلاثاً. رواه البزار. وفيه السري بن إسماعيل، وهو ضعيف عند أهل الحديث، ذكر هذه الأحاديث الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص128) . وهذه الأحاديث وإن كان كل واحد منها لا يخلو عن كلام، إلا أن بعضها يشد بعضاً، وبمجموعها تصلح للاحتجاج بها على(3/196)
رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجه. وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل؛ لأن عوناً لم يلق ابن مسعود.
888- (14) وعن حذيفة، ((أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى. وما أتى على آية رحمة إلا وقف وسأل، وما أتى على آية عذاب إلا وقف وتعوذ)) رواه الترمذي وأبوداود والدارمي. وروى النسائي وابن ماجه إلى قوله "الأعلى" وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذلك المطلوب. (رواه الترمذي، وأبوداود، وابن ماجه) وأخرجه أيضاً الشافعي. (وقال الترمذي: ليس إسناده بمتصل؛ لأن عوناً لم يلق ابن مسعود) وقال أبوداود: هذا مرسل، أي منقطع، عون لم يدرك عبد الله، وذكره البخاري في تاريخه الكبير، وقال: مرسل. والحديث مع انقطاعه، وعدم اتصال سنده، فيه إسحاق بن يزيد الهذلي راويه عن عون، وهو مجهول، كما صرح به في التقريب. وقال الشوكاني: قال ابن سيد الناس: لا نعلمه وثق، ولا عرف إلا برواية ابن أبي ذئب عنه خاصة، فلم ترتفع عنه الجهالة العينية ولا الحالية.
888- قوله: (أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) وفي رواية مسلم: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فافتتح (البقرة) فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتح (النساء) فقرأها، ثم افتتح (آل عمران) فقرأها، يقرأ مترسلاً، الخ. فظهر بهذه الرواية أن هذه الصلاة التي صلى بها حذيفة معه - صلى الله عليه وسلم - كانت صلاة الليل. (إلا وقف وسأل) أي الرحمة. (إلا وقف وتعوذ) أي بالله من العذاب. قال القاري: حمله أصحابنا والمالكية على أن صلاته كانت نافلة، لعدم تجويزهم التعوذ والسؤال أثناء القراءة في صلاة الفرض، ويمكن حمله على الجواز؛ لأنه يصح معه الصلاة إجماعاً، ويدل عليه ندرة وقوعه- انتهى. قلت: رواية مسلم المتقدمة صريحة في أن ذلك كان في صلاة الليل، ولم نقف على نص يدل صريحاً على وقوع ذلك في صلاة الفريضة. (رواه الترمذي، وأبوداود، والدارمي) أي الحديث بكماله. وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود الطيالسي، ومسلم في صحيحه. (وروى النسائي، وابن ماجه إلى قوله: الأعلى) فيه أنه أخرجه النسائي بنحوه مطولاً أيضاً. قال الجزري: حديث حذيفة هذا رواه مسلم، والترمذي والنسائي، وابن ماجه نحوه. وإيراد محي السنة له في الحسان يدل على أنه ليس في واحد من الصحيحين لاسيما وقد قال: صحيح كعادته في تصحيح ما لم يكن في واحد منهما، فكان ينبغي أن يقدمه في الصحاح؛ لأنه في صحيح مسلم، كذا نقله ميرك ولم أجده في جامع الأصول. ويمكن على بُعد أنه حمل حديث حذيفة عند مسلم وحديثه عند الترمذي، وأبي داود، وابن ماجه على قضيتين مختلفتين: الأولى في صلاة الليل، والثانية في الفريضة، أي جعلهما حديثين مختلفتين لا حديثاً واحداً، وعلى هذا فلا اعتراض عليه في إيراده لحديث حذيفة الثاني في الحسان لكونه قد ذكره في محله، والله أعلم.(3/197)
{الفصل الثالث}
889- (15) عن عوف بن مالك، قال: ((قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما ركع مكث قدر سورة (البقرة) ويقول في ركوعه: سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)) رواه النسائي.
890- (16) وعن ابن جبير، قال: ((سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
889- قوله: (قمت) أي مصلياً. (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي ليلة. (فلما ركع مكث) بضم الكاف وفتحها، أي لبث في ركوعه. قال في القاموس: المكث- مثلثاً، ويحرك- اللبث، والفعل كنصر وكرم. (قدر سورة البقرة) وفي رواية أبي داود: قمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة؛ فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ، قال: ثم ركع بقدر قيامه. وكذا في رواية للنسائي. (سبحان ذي الجبروت والملكوت) هما مبالغة الجبر، وهو القهر، والغلبة. والملك، وهو التصرف، أي صاحب القهر والتصرف البالغ كل منهما غايته. (والكبرياء) من الكبر- بكسر الكاف- وهو العظمة، فيكون على هذا عطفها عليه في الحديث عطف تفسير، وقيل: الكبرياء عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود قولان، ولا يوصف بها إلا الله تعالى. وقيل: الكبرياء عبارة عن كمال الذات، والعظمة عن كمال الصفات. وقيل: الكبرياء الترفع والتنزه عن كل نقص، والعظمة تجاوز القدر عن الإحاطة. ويدل على الفرق بينهما الحديث القدسي في الصحيح: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما قصمته)) . أي كسرته وأهلكته. (والعظمة) زاد أبوداود في روايته: ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، الخ. ورواية النسائي: ثم سجد بقدر ركوعه، يقول في سجوده، الخ. والحديث يدل على مشروعية هذا الذكر في الركوع والسجود، وتطويلهما بقدر القيام للقراءة، وكان فعله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك مختلفاً، فتارة يمكث فيهما بقدر قيامه للقراءة؛ فيستوي القيام والركوع والسجود، وفي أكثر الأحيان يكون القيام أطول من الركوع والسجود. وقيل: كان إذا طول القيام طول الذكر فيهما. وكان إذا خفف القيام خفف الذكر فيهما، والله أعلم. (رواه النسائي) أخرج النسائي هذا الحديث مختصراً ومطولاً، وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، لكن مطولاً فقط. وسكت عنه أبوداود، والمنذري، وقال الشوكاني: رجال إسناده ثقات.
890- قوله: (وعن ابن جبير) هو سعيد بن جبير- بضم الجيم وفتح الموحدة وسكون الياء- ابن هشام الأزدي الوالبي مولاهم، أبومحمد، ويقال: أبوعبد الله الكوفي أحد الأعلام، كان فقيهاً، عابداً، فاضلاً، ورعاً، إماماً، حجة(3/198)
من هذا الفتى- يعني عمر بن عبد العزيز- قال: قال: فحزرنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات)) رواه أبوداود، والنسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على المسلمين. قال الحافظ: هو ثقة، ثبت، فقيه، من أوساط التابعين، قتل بين يدي الحجاج في شعبان سنة خمس وتسعين بواسط، ولم يكمل الخمسين، ثم مات الحجاج بعده في رمضان من السنة المذكورة، ولم يسلط بعده على قتل أحد لدعاء سعيد بعد ما قال الحجاج له: اختر يا سعيد! اختر أي قتلة أقتلك؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج! والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، إلى آخر ما جرى الكلام بينهما. حتى قال سعيد بعد أن كب على وجهه للذبح وشهد بالشهادتين: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. وقد بسط قصة قتله ابن خلكان فارجع إليه. (من هذا الفتى يعني عمر ابن عبد العزيز) أي ابن مروان بن الحكم بن العاص الأموي أمير المؤمنين، أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. ولي امرأة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولى الخلافة بعده، فعد مع الخلفاء الراشدين. مات في رجب سنة إحدى ومائة، وله أربعون سنة. ومدة خلافته سنتان ونصف، كذا في التقريب. قال ابن حجر: وعمر بن عبد العزيز أدرك أنساً، وأخذ عنه؛ لأنه ولد سنة إحدى وستين، وأنس توفي سنة إحدى وتسعين. (قال) أي ابن جبير (قال) أي أنس (فحزرنا) بحاء مهملة ثم زاي معجمة مفتوحتين، ثم راء مهملة، أي قدرنا وخمنا. (ركوعه) وفي أبي داود والنسائي"في ركوعه" أي بزيادة "في" قبل "ركوعه" يعني ركوع عمر. (عشر تسبيحات) المراد بالتسبيح هنا هو التسبيح المعروف، أي سبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى. قيل: فيه حجة لمن قال: إن كمال التسبيح عشر تسبيحات فلا يزيد الإمام على هذا القدر، ولا ينقص من ثلاث تسبيحات، كما تقدم. قال الشوكاني: والأصح أن المنفرد يزيد في التسبيح ما أراد، وكلما زاد كان أولى. والأحاديث الصحيحة في تطويله - صلى الله عليه وسلم - ناطقة بهذا. وكذلك إذا كان المؤتمون لا يتأذون بالتطويل-انتهى. قلت: الأولى للإمام بل المتعين أن يخفف في التسبيح في تمام، أي لا يطول في الركوع والسجود ما شاء، وإن كان المؤتمون لا يتآذون بالتطويل؛ لأمره - صلى الله عليه وسلم - بالتخفيف مطلقاً، ولأنه لا يدري ما يطرأ عليهم. قال ابن عبد البر: ينبغي لكل إمام أن يخفف لأمره - صلى الله عليه وسلم -، وإن علم قوة من خلفه؛ فإنه لا يدري ما يحدث عليهم من حادث، وشغل وعارض وحاجة وحدث، وغيره-انتهى. (رواه أبوداود، والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد. قال الشوكاني: الحديث رجال إسناده كلهم ثقات إلا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان أبويزيد الصنعاني، قال أبوحاتم: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس، وليس له عند أبي داود، والنسائي إلا هذا الحديث- انتهى. قلت: وذكره ابن حبان في الثقات. وقال الحافظ في التقريب: صدوق، وسكت على حديثه أبوداود، والمنذري. قلت: وفي سنده أيضاً وهب بن ماوس وهو مستور كما في التقريب وذكره ابن حبان في الثقات.(3/199)
891- (17) وعن شقيق، قال: ((إن حذيفة رأى رجلاً لا يتم ركوعه ولا سجوده، فلما قضى صلاته دعاه، فقال له حذيفة: ما صليت. قال: وأحسبه قال: ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -)) . رواه البخاري.
892- (18) وعن أبي قتادة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسوأ الناس سرقة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
891- قوله: (عن شقيق) أي ابن سلمة التابعي أبي وائل الكوفي مخضرم، روى عن الخلفاء، وحذيفة وغيرهم، اتفقوا على توثيقه وجلالته، وقد تقدم ترجمته أبسط من هذا. (رأى رجلاً) لم يعرف اسمه لكن عند ابن خزيمة، وابن حبان أنه كندي (لا يتم ركوعه ولا سجوده) جملة وقعت صفة لرجلاً، وفي رواية عبد الرزاق: فجعل ينقر ولا يتم ركوعه. (فلما قضى) أي أدى الرجل (صلاته) الناقصة الركوع والسجود (دعاه) لم أجد هذا اللفظ في البخاري. (فقال) وفي البخاري: فلما قضى صلاته قال (له) أي للرجل (ما صليت) أي صلاة صحيحة، وما نافية. وقال القسطلاني: نفي للحقيقة كقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: فإنك لم تصل. وقال أيضاً: نفي عنه الصلاة؛ لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء، فانتفاء تمام الركوع والسجود يلزم منه انتفاء الركوع والسجود المستلزم؛ لانتفاء الصلاة (قال) أي شقيق (وأحسبه) أي أظن حذيفة. (قال) للرجل (ولو مت) أي على هذه الحالة وميم "مت" مضمومة، ويجوز كسرها على لغة من يقول: مات يمات، كخاف يخاف. والأصل موت ـ بكسر العين ـ كخوف، فجاء مضارعه على يفعل ـ بفتح العين ـ فعلى هذه الحالة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء مت، بكسر الميم (مت على غير الفطرة) أي الطريقة، أو السنة أو الملة (التي فطر الله) أي خلق عليها (محمداً - صلى الله عليه وسلم -) الحديث دليل على افتراض الطمأنينة في الركوع والسجود، وعلى أن الإخلال بها مبطل لصلاة، وعلى تكفير تارك الصلاة؛ لأن ظاهره أن حذيفة نفى الإسلام عمن أخل ببعض أركانها فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى، وهذا بناء على أن المراد بالفطرة الدين، وقد أطلق الكفر على من لم يصل، كما رواه مسلم، وهو إما على حقيقته عند قوم، وإما على المبالغة في الزجر عند آخرين. وقال الخطابي: الفطرة الملة والدين، أراد بهذا الكلام توبيخه على سوء فعله ليرتدع في المستقبل من صلاته عن مثل فعله، ولم يرد به أن تركه لذلك مخرج له من دين الإسلام. وقد تكون الفطرة بمعنى السنة كما جاء: خمس من الفطرة: السواك - الحديث. قال الحافظ: ويرجحه وروي من وجه آخر عند البخاري بلفظ "سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ". وهذه الزيادة تدل على أن حديث حذيفة المذكور مرفوع،؛ لأن قول الصحابي: "سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - " يفيد ذلك، وقد مال إليه قوم، وخالفه آخرون، والأول هو الراجح. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي.
892- قوله: (أسوأ الناس) أي أقبحهم وأشرهم (سرقة) بكسر الراء وتفتح أيضاً على ما في القاموس، وهو(3/200)
الذي يسرق من صلاته. قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)) . رواه أحمد.
893- (19) وعن النعمان بن مرة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما ترون في الشارب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر منصوب على التمييز، قال الراغب: السرقة: أخذ ما ليس له أخذه في خفاء، وصار ذلك في الشرع لتناول الشيء من موضع مخصوص وقدر مخصوص. (الذي يسرق من صلاته) خبر أسوأ (وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها) زاد في المسند (ج5: ص310) : أو قال لا يقيم صلبه في الركوع والسجود. قال الطيبي: جعل جنس السرقة نوعين متعارفاً وغير متعارف، وهو ما ينقص من هذا الركن الطمأنينة، ثم جعل غير المتعارف أسوأ من المتعارف، وإنما كان أسوأ؛ لأن السارق إذا أخذ مال الغير ربما ينتفع به في الدنيا، ويستحل من صاحبه، أو تقطع يده فيتخلص من العقاب في الآخرة، بخلاف هذا السارق، فإنه سرق حق نفسه من الثواب، وأبدل منه العقاب في العقبى، وليس في يده سوى الضرر والتعقب-انتهى. والحديث يدل على افتراض الطمأنينة في الركوع والسجود؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل ترك إقامة الصلب في الركوع والسجود، وعدم إتمامهما أقبح أنواع السرق، وجعل الفاعل لذلك أسوأ من تلبس بهذه الوظيفية الخسيسة التي لا أوضع ولا أخبث منها، تنفيراً عن ذلك، وتنبيهاً على تحريمه، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بعدم إجزاء صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، ونفي حقيقة الصلاة عمن لم يتم ركوعه وسجوده كما تقدم، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، كلها ترد على من لم يقل بافتراض الطمأنينة فيهما. (رواه أحمد) (ج5: ص310) وأخرجه أيضاً الدارمي وابن خزيمة والحاكم، وقال صحيح الإسناد. والطبراني في الكبير والأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص120) : رجاله رجال الصحيح، وأخرج نحوه أحمد والبزار وأبويعلى عن أبي سعيد الخدري، والطبراني في الكبير والأوسط، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وصححه عن أبي هريرة، والطبراني في الثلاثة بإسناد جيد عن عبد الله بن مغفل.
893- قوله: (عن النعمان بن مرة) الأنصاري الزرقي المدني ثقة من كبار التابعين، ووهم من عده في الصحابة. قال العسكري: لا صحبة له، وذكره البخاري ومسلم في التابعين. وقال أبوحاتم، حديثه مرسل. قال ابن عبد البر: ليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال ابن عبد البر: هكذا الرواية عن مالك مرسلاً، والحديث يتصل ويستند من وجوه صحاح من حديث أبي سعيد وأبي هريرة-انتهى. (ما ترون) بفتح التاء، أي تعتقدون وفي نسخة بضمها، أي تظنون، وهذا اختبار منه - صلى الله عليه وسلم - بمسائل العلم على حسب ما يختبر به العالم أصحابه، ويحتمل أنه أراد به تقريب التعليم عليهم فقرر معهم حكم قضايا يسهل عليهم ما أراد تعليمهم إياه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قصد أن يعلمهم أن الإخلال بإتمام الركوع والسجود كبيرة، وهي أسوأ حالاً مما تقرر عندهم أنه فاحشة، قاله الباجي. (في الشارب) أي للخمر.(3/201)
والزاني، والسارق وذلك قبل أن تنزل فيهم الحدود- قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هن فواحش وفيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق من صلاته. قالوا: وكيف يسرق من صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها)) رواه مالك وأحمد. وروى الدارمي نحوه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وذلك) أي قال النعمان: وذلك السؤال. (قبل أن تنزل) بصيغة المجهول. (فيهم الحدود) أي آياتها. والمراد غير الشارب؛ لأنه لم ينزل فيه شيء، قاله أبوعبد الملك. (قالوا) أي الصحابة. (الله ورسوله أعلم) هذا كمال تأدب منهم حيث ردوا العلم إلى الله عزوجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. (قال) - صلى الله عليه وسلم -. (هن) أي تلك المعاصي. (فواحش) جمع فاحشة، وهي ما فحش أي اشتد وكبر قبحه من الذنوب، والمعنى أنها ذنوب كبائر. (وفيهن عقوبة) تطلق على ما يعاقب به المعتدي، ولا تختص بجنس ولا قدر، أي فيهن عقوبة أخروية، أو ستنزل، والتنوين للتعظيم. (وأسوأ السرقة) قال ابن عبد البر: رواية الموطأ بكسر الراء، والمعنى: أسوأ السرقة سرقة من يسرق صلاته، وقد جاء في القرآن {ولكن البر من آمن بالله} [2: 177] ، أي ولكن البر بر من آمن بالله، ومن روى بفتح الراء فالسرقة جمع سارق كالكفرة والفسقة – انتهى. وعلى هذا قوله: (الذي يسرق من صلاته) خبر بلا تأويل، وأما على الرواية الأولى فيحتاج إلى حذف المضاف كما بينه ابن عبد البر. قال الطيبي: قوله: "أسوأ السرقة" مبتدأ، و"الذي يسرق" خبره على حذف مضاف، أي سرقة الذي يسرق، ويجوز أن يكون السرقة - بفتح الراء- جمع سارق كفاجر وفجرة، ويؤيده حديث أبي قتادة: أسوأ الناس سرقة- انتهى. (وكيف يسرق) أحد (صلاته) وفي بعض النسخ "صلاته" بالنصب. (لا يتم ركوعها ولا سجودها) خصهما بالذكر؛ لأن الإخلال يقع فيهما غالباً. وسماه سرقة باعتبار أنه خيانة فيما أؤتمن به. قال الباجي: ويحتمل أن يقال: إنه يسرقها من الحفظة المؤكلين بحفظه-انتهى. . (رواه مالك) عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن النعمان بن مرة مرسلاً. قال ابن عبد البر: لم يختلف رواة مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان، وقال الحافظ في الإصابة (ج3: ص590) في القسم الرابع من حرف النون: ليس للنعمان عند مالك غير هذا الحديث. واختلف فيه على مالك وغيره، وللمتن شاهد من حديث الحسن عن عمران بن حصين أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وآخر من حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه أبوداود الطيالسي في مسنده، وآخر عن أبي هريرة بمعناه. وروى النعمان هذا الحديث عن علي وجرير وأنس-انتهى. (وأحمد) كذا في النسخ الحاضرة عندنا، ويظهر من كلام القاري: أنه لم تتفق النسخ الموجودة عنده على ذكر لفظ "أحمد"، بل لم يجده إلا في نسخة صحيحة عنده. والظاهر أن ذكره خطأ من الناسخ، والقرينة على هذا أنه لم يعز هذا الحديث الحافظ في الإصابة، والمنذري في الترغيب إلى أحمد، ولا ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد. وهذا يدل على أنه ليس من زوائد مسند أحمد لكونه مروياً في الموطأ، والله أعلم،. (وروى الدارمي نحوه) أي معناه دون لفظه. والظاهر أن هذا وهم من المصنف؛ لأنه لم يرو(3/202)
(14) باب السجود وفضله
{الفصل الأول}
894- (1) عن ابن عباس، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، واليدين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدارمي هذا الحديث عن النعمان بن مرة لا باللفظ المذكور ولا بمعناه، نعم رواه من حديث أبي قتادة في باب "الذي لا يتم الركوع والسجود"، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص310) .
(باب السجود) أي كيفيته (وفضله) أي ما ورد في فضيلته؛ لأنه بانفراد عبادة بخلاف الركوع. والسجود في الأصل: تذلل مع تطامن وانحناء، وفي الشرع: عبارة عن وضع الوجه على الأرض على وجه مخصوص. وقيل: عبارة عن وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة.
894- قوله: (أمرت) بضم الهمزة على صيغة المجهول، والآمر هو الله جل جلاله. وفي رواية للبخاري: أمرنا –بضم الهمزة ونون الجمع- أي أنا وأمتي، وهو دال على أن الخطاب لعموم الأمة لا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، واللفظ يقتضي الوجوب، قيل: وفيه نظر؛ لأنه ليس فيه صيغة "أفعل". قال الشوكاني: هذا النظر ساقط؛ لأن لفظ "أمر" أدل على المطلوب من صيغة "افعل" كما تقرر في الأصول، وعرف ابن عباس هذا بإخبار - صلى الله عليه وسلم - له أو لغيره (سبعة أعظم) جمع عظم، وفي رواية: سبعة أعضاء. قال ابن دقيق العيد: سمي كل من هذه الأعضاء عظما وإن اشتمل على عظام باعتبار الجملة، ويحتمل أن يكون ذلك من باب تسمية الجملة باسم بعضها (على الجبهة) بدل بإعادة الجار. والجبهة: مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية. وقيل: هي ما بين الجبينين، وهما قرنا الرأس وجانباه، وقدمها لكونها أشرف الأعضاء المذكورة، أو أشهرها في تحصيل هذا الركن. قيل: والأنف تبع للجبهة، وقد وقع في رواية لمسلم والنسائي: أمرت أن أسجد على سبع، ولا أكفت الشعر ولا الثياب: الجبهة والأنف، الخ. قال السندي: قوله: "الجبهة والأنف" لكونهما من أجزاء الوجه فعدهما بمنزلة عدتا واحدة من السبعة، وإلا يلزم الزيادة على السبعة – انتهى. وفي رواية للشيخين: على الجبهة وأشار بيده على أنفه. قال السندي: أي إلى الأنف وما يتصل به من الجبهة ليوافق الأحاديث السابقة-انتهى. وفي رواية للنسائي في آخرها: قال ابن طاووس: ووضع يده على جبهته وأمرها على أنفه، وقال: هذا واحد. وهذه رواية مفسرة. قال القرطبي: هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود، والأنف تبع (واليدين) أي الكفين، فقد وقع في رواية لمسلم بلفظ: "الكفين" وقال ابن حجر: أي بطونهما لخبر البيهقي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا(3/203)
والركبتين، وأطراف القدمين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سجد ضم أصابعه وجعل يديه حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويعتمد على راحتيه. قيل: ويندب ضم أصابع اليدين؛ لأنها لو انفرجت انحرفت رؤوس بعضها عن القبلة. (وأطراف القدمين) بأن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما وعقباه مرتفعان فيستقبل بظهور قدميه القبلة. والحديث يدل على وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة جميعاً؛ لأن الأمر للوجوب، وإليه ذهب طاووس، وإسحاق، وأحمد، وزفر، والشافعي في أحد قولية. وقال مالك، وأبوحنيفة، والشافعي في القول الآخر: أنه لا يجب السجود على غير الوجه. والراجح عندي ما ذهب إليه الأولون، وهو الأصح الذي رجحه الشافعي لحديث الباب، ولحديث العباس بن عبد المطلب: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب- الحديث. رواه الجماعة إلا البخاري. ولحديث البراء الآتي: إذا سجدت فضع كفيك، الخ. ولحديث ابن عمر رفعه: أن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفعه فليرفعهما. رواه أحمد وأبوداود والنسائي. واحتج من قال: إن الواجب الجبهة دون غيرها بحديث المسيء صلاته حيث قال فيه: "ويمكن جبهته"، فكان قرينة على حمل الأمر ههنا على غير الوجوب. وأجيب عنه: بأن هذا لا يتم إلا بعد معرفة تقدم هذا على حديث المسيء صلاته ليكون قرينة على حمل الأمر على الندب، وأما لو فرض تأخره لكان في هذا زيادة شرع، ويمكن أن تتأخر شرعيته، ومع جهل التاريخ يرجح العمل بالموجب لزيادة الاحتياط. وقال ابن دقيق العيد: هذا غايته أن تكون دلالته. (أي دلالة حديث المسيء صلاته) دلالة مفهوم لقب أو غاية، والمنطوق الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء مقدم عليه، وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم. قال: وأضعف من هذا استدلالهم بحديث: "سجد وجهي"، قالوا: فأضاف السجود إلى الوجه، فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه. وقال ابن قدامة: سجود الوجه لا ينفي سجود ما عداه. قال ابن دقيق العيد: وأضعف من هذا الاستدلال على عدم الوجوب بأن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة، فإن هذا الحديث يدل على إثبات زيادة على المسمى فلا تترك. وأضعف من هذا المعارضة بقياس شبهي ليس بقوي مثل أن يقال: أعضاء لا يجب كشفها فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء سوى الجبهة. قال ابن قدامة: سقوط الكشف لا يمنع وجوب السجود، فإنا نقول كذلك في الجبهة على رواية، وعلى الرواية الأخرى فإن الجبهة هي الأصل وهي مكشوفة عادة بخلاف غيرها- انتهى. قال ابن دقيق العيد: وظاهر الحديث أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء؛ لأن مسمى السجود يحصل بوضعها دون كشفها، ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب لما يحذر فيه من كشف العورة، وأما عدم وجوب كشف القدمين فلدليل لطيف، وهو أن الشارع وقت المسح على الخف بمدة تقع فيها الصلاة بالخف، فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخف المقتضي لنقض الطهارة فتبطل الصلاة- انتهى. ويمكن أن يخص ذلك بلابس الخف لأجل الرخصة، وأما كشف اليدين والجبهة، فقيل: يجب،(3/204)
وقيل: لا يجب، والأحاديث من الجانبين غير ناهضة كما قال البيهقي، والأولى أن يكشف المصلي اليدين والجبهة، ويباشر بهما ليخرج من الخلاف، ويأخذ بالعزيمة. ثم إنه يجب أن يجمع الجبهة والأنف في السجود عند أحمد في رواية، وابن حبيب من المالكية، وسعيد بن جبير، وإسحاق، وأبي خيثمة، وهو قول للشافعي فلا يجوز عندهم الاقتصار على أحدهما. وقال أحمد في رواية أخرى، ومالك، والشافعي، وعطاء، وطاووس، وابن سيرين، وصاحبا أبي حنيفة: أبويوسف ومحمد: لا يجب السجود على الأنف بل يجوز الاقتصار على الجبهة، ولا يجزىء الاقتصار على الأنف. وقال أبوحنيفة: يجوز الاقتصار على الأنف وحدها. والحق ما ذهب إليه الأولون من وجوب السجود على مجموع الجبهة والأنف لما تقدم من حديث ابن عباس عند مسلم والنسائي، فإن فيه ذكر الجبهة والأنف معاً. ولما تقدم أيضاً من رواية ابن عباس بلفظ: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، وأشار بيده على أنفه. فإن إشارته إلى أنفه تدل على أنه أراده. ولما روى عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته. رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص126) وقال: رجاله موثقون وإن كان في بعضهم اختلاف من أجل التشيع-انتهى. ولما روى أحمد من حديث وائل قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد على الأرض واضعاً جبهته وأنفه في سجوده. ولما روى عن أبي حميد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض. أخرجه الترمذي، وأبوداود، وابن خزيمة في صحيحه، وصححه الترمذي. ولما روى عكرمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبهة. رواه الأثرم والإمام أحمد، ورواه أبوبكر بن عبد العزيز، والدارقطني في الأفراد متصلاً عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح أنه مرسل، قاله ابن قدامة في المغني (ج1: ص560) وقال ابن حجر: هو مرسل، ورفعه لا يثبت-انتهى. قال القاري: والمرسل حجة عندنا. وهو في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال مثل هذا بالرأي. ولما روى إسماعيل بن عبد الله المعروف بسمويه في فوائده عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إذا سجد أحدكم فليضع أنفه على الأرض، فإنكم قد أمرتم بذلك. ولما روى عن أبي سعيد في حديث طويل، قال: حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرنبته تصديق رؤياه. قال الخطابي: فيه دليل على وجوب السجود عليهما، ولولا ذلك لصبانهما عن لوث الطين. واستدل للجمهور بحديث ابن عباس الذي أورده المؤلف، فإنه لم يذكر الأنف فيه. وفيه: أنه قد ذكرها في رواية مسلم والنسائي، فتحمل رواية الباب على الاختصار. وبحديث جابر، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر. رواه تمام في فوائده وغيره، وإذا سجد بأعلى الجبهة لم يسجد على الأنف، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسجد على جبهته مع قصاص الشعر. قال: رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط إلا أنه قال: على جبهته على قصاص الشعر. وفيه أبوبكر(3/205)
ولا نكفت الثياب والشعر))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن عبد الله بن أبي مريم، وهو ضعيف لاختلاطه. واستدل لأبي حنيفة بما في رواية للشيخين: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، وأشار بيده على أنفه، فإنه سمى الجبهة وأشارة إلى الأنف، والتسمية إذا تعارضت بالإشارة فالعبرة عند الحنفية بالإشارة، فإنها أبلغ في التعيين، وحينئذٍ لما كانت الإشارة إلى الأنف دلت على أن الاقتصار عليه كافٍ. وتعقب بأن قوله "على الأنف" تعبير من الراوي لا تحاد جهة الأنف والجبهة، فكيف تعين كونها إلى الأنف؟ لم لا يجوز أن يكون أشار إلى الجبهة؟ ولما كانت جهته جهة الأنف عبر عنه الراوي بما ترى. وقال ابن دقيق العيد: الحق أن الإشارة لا تعارض التصريح بالجبهة؛ لأنها قد لا تعين المشار إليه فإنها إنما تتعلق بالجهة، فإذا تقارب ما في الجهة أمكن أن لا يعين المشار إليه يقيناً، وأما اللفظ فإنه معين لما وضع له فتقديمه أولى-انتهى. وقد رأيت أن لفظ الحديث إنما عين الجبهة فلا يجزئ الأنف وحدها، وإلا لزم تقديم الأضعف دلالة وهو الإشارة على الأقوى وهي العبارة. واستدل أيضاً لأبي حنيفة بالرواية التي جمع فيها ذكر الجبهة والأنف معاً، ووجه الاستدلال أنه جعلهما كعضو واحد، فإنه لو كان كل واحد منهما عضواً مستقلاً للزم أن تكون الأعضاء ثمانية، وإذا كان كعضو واحد لزم منه أن يكتفي بالسجود على الأنف وحدها؛ لأن كل واحد منهما بعض العضو، والعضو الواحد يجزيه السجود على بعضه. وأنت خبير بأن المشي على الحقيقة هو المتحتم. والمناقشة بالمجاز بدون موجب للمصير إليه غير ضائرة، ولا شك أن الجبهة والأنف حقيقة في المجموع، ولا خلاف أن السجود على مجموع الجبهة والأنف مستحب. قال في الشرح الكبير (ج1: ص561) بعد ذكر قول أبي حنيفة: هذا قول يخالف الحديث الصحيح والإجماع الذي قبله. قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً سبق إلى هذا القول-انتهى. وكذا قال ابن قدامة في المغني. واعلم أن ابن الهمام اختار أن وضع السبعة واجب، والمشهور في كتب الحنفية وجوب وضع الجبهة وإحدى الرجلين فقط، لكن ذكر ابن عابدين في وضع القدمين ثلاث روايات: فرضية وضعهما، وفرضية وضع إحدهما، وعدم الفرضية أي سنية الوضع، ثم ذكر بعد بسط الروايات في المذهب: الحاصل أن المشهور في كتب المذهب اعتماد الفرضية، والأرجح من حيث الدليل والقواعد عدم الفرضية. (ولا نكفت) بفتح النون وسكون الكاف وكسر الفاء، آخره مثناة فوقية، روي بالنصب عطفاً على المنصوب السابق وهو "يسجد" أي أمرت أن لا نكفت، ويجوز رفعه على أن الجملة مستأنفة. من كفت الشئ إليه، ضمه وجمعه. ومنه قوله تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتاً} [77: 25] أي كافتة، اسم لم يكفت أي يضم ويجمع. وفي رواية لمسلم: ولا أكف، من الكف بلفظ الواحد، وهو أنسب لقوله: أمرت أن أسجد. (الثياب والشعر) وفي بعض النسخ: ولا الشعر، بزيادة "لا" للتأكيد، والمراد شعر الرأس، والمعنى: أمرت أن نرسل الثياب والشعر، ولا نضمهما إلى أنفسنا وقاية لهما من التراب، بل نتركهما حتى يقعا على الأرض لنسجد بجميع الأعضاء والثياب. وكفتهما: أن يعقص الشعر ويعقده خلف القفا، أو يضمه تحت(3/206)
متفق عليه.
895- (2) وعن أنس، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه
انبساط الكلب)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عمامته، أو يشده بشيء، وأن يشمر ثوبه، أو يشد وسطه، أو يغرز عذبته. قيل: النهي ههنا محمول على التنزيه. والحكمة فيه أن الشعر والثوب يسجدان معه، وفي رفعهما نقص الأجر الذي يترتب على سجود الثياب والشعر. وقيل: إنه إذا رفع شعره أو ثوبه عن مباشرة الأرض أشبه المتكبرين، وجاء في حكمة النهي عن ضم الشعر أن غرزة الشعر يقعد فيها الشيطان حالة الصلاة، كما في سنن أبي داود بإسناد جيد أن أبا رافع رأى الحسن بن علي يصلي قد غرز ضفيرته في قفاه فحلها، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ذلك مقعد الشيطان. وظاهر الحديث يقتضي أن النهي في حال الصلاة، وإليه مال الداوودي، ورده القاضي عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور، فإنهم كرهوا ذلك للمصلي سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخلها. قال النووي: وهو المختار الصحيح، وهو الظاهر المنقول عن الصحابة وغيرهم-انتهى. قال الحافظ: واتفقوا على أنه لا يفسد الصلاة، لكن حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، وللحديث ألفاظ عند الشيخين، وأحمد، وأصحاب السنن، وفي الباب عن العباس بن عبد المطلب، وأبي هريرة، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم.
895-قوله: (اعتدلوا في السجود) يعني توسطوا بين الافتراض والقبض بوضع الكفين على الأرض، ورفع المرفقين عنها وعن الجنبين، والبطن عن الفخذ رفعاً بليغاً بحيث تظهر بواطن آباطكم إذا لم تكن مستورة، إذ هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعد من الكسالة. قال ابن دقيق العيد: لعل المراد بالاعتدال هنا وضع هيئة السجود على وفق الأمر؛ لأن الاعتدال الحسي المطلوب في الركوع لا يتأتى هنا، فإنه هناك استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي. قال: وقد ذكر الحكم هنا مقروناً بعلته، فإن التشبه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركه في الصلاة-انتهى. والهيئة المنهي عنها أيضاً مشعرة بالتهاون بالصلاة وقلة الاعتناء بها، والإقبال عليها. قيل: وهذا في حق الرجل لا المرأة، فإنها تخالفة في ذلك، لما أخرجه أبوداود في مراسيله عن يزيد بن أبي حبيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على امرأتين تصليان فقال: إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة في ذلك ليست كالرجل. قال البيهقي: وهذا المرسل أحسن من موصولين فيه، يعني من حديثين موصولين ذكرهما البيهقي في سننه، وضعفهما؛ لأن في كل منهما متروكاً. وارجع للتفصيل إلى فتاوى (ص148) شيخ مشائخنا خاتمة الحفاظ الشيخ حسين بن محسن الأنصاري. (ولا يبسط) بضم السين من نصر، وهي نهي، وقيل نفي. (أحدكم ذراعيه) أي لا يجعل ذراعيه على الأرض كالبساط والفراش. (انبساط الكلب) بالنصب، أي مثل انبساط الكلب، وهو وضع الكفين مع المرفقين على الأرض، والانبساط(3/207)
متفق عليه.
896- (3) وعن البراء بن عازب، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك) رواه مسلم.
897- (4) وعن ميمونة، قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد جافى بين يديه، حتى لو أن بهمة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر فعل محذوف تقديره: ولا يبسط ذراعيه فينبسط انبساط الكلب، ومثله قوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} [71: 17] ، وقوله تعالى: {وأبنتها نباتاً حسناً} [3: 37] ، أي أنبتكم فنبتم نباتاً، وأنبتها فنبتت نباتاً حسناً. وروى أحمد، والترمذي، وابن خزيمة عن جابر مرفوعاً: إذا سجد أحدكم فليعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب، وهو بمعنى حديث الباب. قال ابن العربي في شرح الترمذي (ج2: ص75، 76) : أراد به كون السجود عدلاً باستواء الاعتماد على الرجلين والركبتين واليدين والوجه، ولا يأخذ عضو من الاعتدال أكثر من الآخر، وبهذا يكون ممتثلاً لقوله: أمرت بالسجود على سبعة أعظم. وإذا فرش ذراعيه فرش الكلب كان الاعتماد عليهما دون الوجه، فيسقط فرض الوجه- انتهى. قال ابن حجر: فيكره ذلك لقبح الهيئة المنافية للخشوع إلا لمن أطال السجود حتى شق عليه اعتماد كفيه، فله وضع ساعديه على ركبتيه لخبر: اشتكى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا. (أى باعدوا اليدين عن الجنبين ورفعوا البطن عن الفخذين في السجود) فقال: استعينوا بالركب. أخرجه الترمذي، وأبوداود من حديث أبي هريرة موصولاً. وروي مرسلاً، قال البخاري والترمذي: إرساله أصح من وصله. قيل: هذا الإعلال غير قادح؛ لأنه أسنده الليث عن ابن عجلان، وهو زيادة ثقة، وتفرده غير ضائر، فتقبل زيادته. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه.
896- قوله: (فضع أي على الأرض. (كفيك) أي مضمومتي الأصابع، مكشوفتين حذاء المنكبين أو حيال الأذنين، معتمداً عليهما، ولا يجب كشفهما لما روي عن عبد الله بن عبد الرحمن، قال: جاءنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بنا في مسجد بني الأشهل، فرأيته واضعاً يديه في ثوبه إذا سجد. رواه أحمد وابن ماجه، وقال: على ثوبه. ففيه دليل على جواز ترك كشف اليدين، لكن الأولى والمستحب كشفهما ليخرج من الخلاف ويأخذ بالعزيمة. (وارفع) من الأرض، ومن جنيك. (مرفقيك) بكسر الميم وفتح الفاء ويعكس. والحديث دليل على وجوب هذه الهيئة للأمر بها، وحمله العلماء على الاستحباب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد.
897- قوله: (جافى) أي أبعد وفرق. (بين يديه) أي وما يحاذيهما، وفي رواية النسائي وابن ماجه: جافى يديه، أي نحاهما عما يليهما من الجنب. (بهمة) بفتح فسكون الموحدة، من أولاد الغنم. يقال للذكر والأنثى، والتاء للوحدة،(3/208)
أرادت أن تمر تحت يديه مرت. هذا لفظ أبي داود، كما صرح في شرح السنة بإسناده.
ولمسلم بمعناه: قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد لو شأت بهمة أن تمر بين يديه لمرت.
898- (5) وعن عبد الله بن مالك ابن بحينة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد فرج بين يديه حتى يبدوا بياض إبطيه))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والبهم بلا تاء يطلق على الجمع. قال في القاموس: البهمة أولاد الضان والمعز، وقال أبوعبيد وغيره من أهل اللغة: البهمة واحدة البهم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث، وجمع البهمة بهام ـ بكسر الباء ـ وقال الجوهري: البهمة من أولاد الضان خاصة، ويطلق على الذكر والأنثى، قال: والسخال أولاد المعز. (تحت يديه) وفي رواية ابن ماجة: بين يديه. (مرت) جواب "لو". (هذا) أي هذا اللفظ. (كما صرح) أي البغوي. (ولمسلم) أي لفظ هذا الحديث لمسلم. (بمعناه) أي بمعنى لفظ أبي داود وهو (قالت) أي ميمونة. (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد) الخ. فالاعتراض على صاحب المصابيح واقع في الجملة حيث ذكر لفظ أبي داود في الصحاح.
898- قوله: (عن عبد الله بن مالك) بالتنوين. (ابن بحينة) بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة بعدها ياء ساكنة، ثم نون مفتوحة وتاء تأنيث، اسم امرأة مالك بن القشب الأزدي. و"ابن بحينة" صفة "عبد الله"؛ لأن "بحينة" أم عبد الله، و"مالكاً" أبوه، ولهذا لا يحذف التنوين لفظاً، والألف كتابة، كما يحذفان في العلم الموصوف بابن. قال النووي: الصواب أن ينون "مالك" ويكتب "ابن" بالألف؛ لأن "ابن بحينة" ليس صفة لمالك بل صفة لعبد الله؛ لأن اسم أبيه" مالك" واسم أمه"بحينة" امرأة مالك. قال الحافظ: عبد الله بن مالك بن القشب ـ بكسر القاف وسكون المعجمة بعدها موحدة ـ الأزدي أبومحمد، حليف بن المطلب المعروف"بابن بحينة" وهي أمه. قال محمد بن سعد: أبوه مالك بن قشب، حالف المطلب بن عبد مناف فتزوج بحينة بنت الحارث بن عبد المطلب، فولدت له عبد الله، فأسلم قديماً، وكان ناسكاً فاضلاً، يصوم الدهر، ومات ببطن ريم على ثلاثين ميلاً من المدينة في عمل مروان بن الحكم، وكان ينزل به، وكان ولاية مروان على المدينة من سنة. (54) إلى سنة. (58) . (فرج) بفتح الفاء وتشديد الراء آخره جيم، أي وسع، وفرق، وباعد (بين يديه) أي بينهما وبين ما يليهما من الجنب، وإلا لا يستقيم قوله "حتى يبدو" فليس المتعدد الذي يضاف إليه "بين" لفظ "يديه" بل هو أحد طرفي المتعدد، والطرف الثاني محذوف، وهذا معنى قول الحافظ في شرح صحيح البخاري، أي نحى كل يد عن الجنب الذي يليها (حتى يبدو) أي (يظهر إبطيه) بسكون الباء وتكسر، قال القرطبي: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود أنه يخف بها اعتماده على وجهه، ولا يتأثر أنفه ولا جبهته، ولا يتأذى بملاقاة الأرض. وقال غيره: هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان. وقال ابن المنير: الحكمة(3/209)
متفق عليه.
899- (6) وعن أبي هريرة، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقة وجله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في ذلك أن يظهر كل عضو بنفسه، ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد، ومقتضى هذا أن يستقبل كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض في سجوده، وهذا ضد ما ورد في الصفوف من التصاق بعضهم ببعض؛ لأن المقصود هناك إظهار اتحاد المسلمين، حتى كأنهم جسد واحد، وأخرج الطبراني وغيره من حديث ابن عمر بإسناد صحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تفترش افتراش السبع، وادعم على راحتيك، وابد ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك. وظاهر هذا مع حديث ابن بحينة، وما تقدم من حديث ميمونة، والبراء، وأنس وما في معناه من الأحاديث الدالة على التفريج والتخوية، والنهي عن افتراش السبع، يقتضي وجوب التفريج في السجود، ولكن حمل العلماء هذه الأحاديث على الاستحباب. قلت: الظاهر أن التفريج في السجود واجب عند عدم المشقة فيه، وأما عند وجود المشقة فيه فيجوز ترك التفريج والاستعانة بالركب، أي وضع المرفقين على الركبتين، يدل على ذلك ما قدمنا من حديث أبي هريرة: اشتكى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال: استعينوا بالركب. واستدل بقوله: "حتى يرى بياض إبطيه" على أنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - لابساً لقميص. وتعقب باحتمال أن يكون القميص واسع الأكمام، وقيل: قد يبدو منه أطراف إبطيه مع كونه لابساً للقميص؛ لأنها كانت قمصان أهل ذلك العصر غير طويلة، فيمكن أن يرى الإبط من كمها. واستدل به أيضاً على أنه لم يكن على إبطيه شعر، وفيه نظر؛ لأنه يمكن أن المراد يرى أطراف إبطيه لا باطنهما حيث الشعر، فإنه لا يرى إلا بتكلف. وأيضاً لا يلزم من ذكر الراوي رؤية بياض إبطيه أن لا يكون له شعر، فإنه إذا نتف بقي المكان أبيض، وإن بقى فيه آثار الشعر، ولذلك ورد في حديث حسنه الترمذي: كنت أنظر إلى عفرتي إبطيه إذا سجد، والعفرة بياض ليس بالناصع كلون عفرة الأرض، أي وجهها، وهو يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المحل أعفر، إذ لو خلا عنه جملة لم يكن أعفر. وإن صح ما قيل: إن من خصائصه أنه ليس على إبطيه شعر، فلا إشكال، لكن قال العراقي في تقريب الأسانيد: إن ذلك لم يثبت، بل لم يرد في كتاب معتمد، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، نعم إن الذي نعتقد فيه - عليه السلام - أنه لم يكن لإبطيه رائحة كريهة، بل كان نظيفاً طيب الرائحة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي.
899- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجوده) أي أحياناً مع التسبيح أو بدونه. (كله) للتأكيد، وما بعده تفصيل لأنواعه، أو بيانه، ويمكن نصبه بتقدير "أعني". (دقه) بكسر الدال، أي دقيقة وصغيرة. (وجله) بكسر الجيم وقد تضم، أي جليلة وكبيرة. قيل: إنما قدم "الدق" على "الجل"؛ لأن السائل يتصاعد في مسألته، أي يترقى، ولأن الكبائر تنشأ غالباً من الإصرار على الصغائر، وعدم المبالاة بها، فكأنها وسائل إلى الكبائر، ومن حق الوسيلة أن تقدم إثباتاً ورفعاً.(3/210)
وأوله وآخره، وعلانيته وسره)) . رواه مسلم.
900- (7) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم أني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وأوله وآخره) المقصود الإحاطة. (وعلانيته) بفتح العين وكسر النون وخفة الياء، مصدر "علن" أي ظاهره. (وسره) أي عند غيره تعالى، وإلا فهما سواء عنده تعالى، فإنه يعلم السر وأخفى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود.
900- قوله: (من الفراش) متعلق بفقدت، والمعنى: استيقظت فلم أجده على الفراش. (فالتمسته) وفي رواية للنسائي: فجعلت أطلبه بيدي. (فوقعت يدي) بالإفراد. (على بطن قدميه) بالتثنية، وفي صحيح مسلم "قدمه" بالإفراد، وفي رواية للنسائي، وفي الترمذي: على قدميه، وفي ابن ماجه "على بطن قدميه" كما في الكتاب. واستدل به على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، وأجاب من ذهب إلى كونه ناقضاً بأن الملموس لا يفسد وضوئه، وحمل من اختار انتقاض وضوء الملموس على أنه كان بين اللامس والملموس حائل فلا يضر، وظاهر الحديث يوافق من قال بعدم انتقاض الوضوء مطلقاً، وهو الراجح، وقد أسلفنا الكلام فيه مفصلاً. (وهو في المسجد) بفتح الجيم، أي في السجود، فهو مصدر ميمي، أو في الموضع الذي كان يصلي فيه في حجرته. وفي نسخة بكسر الجيم، وهو يحتمل مسجد البيت بمعنى معبده، والمسجد النبوي، قاله القاري. وفي رواية أبي داود: فلمست المسجد فإذا هو ساجد، وهذه الرواية تدل على أن المراد مسجد البيت أي الموضع الذي كان يصلي فيه في حجرته. (وهما) أي قدماه. (منصوبتان) أي قائمتان ثابتتان، وفيه أن السنة نصب القدمين في السجود. (أعوذ برضاك من سخطك) أي متوسلاً برضاك أن تسخط وتغضب. وقيل: أي من فعل يوجب سخطك على أو على أمتي. (وبمعافاتك) أي بعفوك، وأتى بالمغالبة للمبالغة أي بعفوك الكثير. (من عقوبتك) إذ هي أثر من آثار السخط، وإنما استعاذ بصفات الرحمة لسبقها وظهورها من صفات الغضب، (وأعوذ بك منك) ، أي بذاتك من آثار صفاتك. وقيل: أعوذ بصفات جمالك من صفات جلالك، فهذا إجمال بعد شيء من التفصيل، وتعوذ بتوسل جميع صفات الجمال عن صفات الجلال، وإلا فالتعوذ من الذات مع قطع النظر عن شيء من الصفات لا يظهر. وقيل: هذا من باب مشاهدة الحق والغيبة عن الخلق، وهذا محض المعرفة الذي لا يحيطه العباد. (لا أحصي ثناء عليك) قال الطيبي: الأصل في الإحصاء العد بالحصى، أي لا أطيق أن أثني عليك كما تستحقه، وقيل: أي لا أستطيع فرداً من ثناءك على شيء من نعمائك. وهذا بيان لكمال عجز البشر عن أداء حقوق الرب تعالى. وقال السيوطي: أي لا أطيقه، أي لا أنتهي إلى غايته، ولا أحيط بمعرفته، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الآن.(3/211)
أنت كما أثنيت على نفسك)) رواه مسلم.
901- (8) وعن أبي هريرة، قال: ((قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقرب ما يكون العبد من ربه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وروي عن مالك، أنه قال: لا أحصى نعمتك، وإحسانك، والثناء بها عليك، وإن اجتهدت في ذلك، والأول أولى لما ذكرناه، ولقوله في الحديث: أنت كما أثنيت على نفسك. ومعنى ذلك اعتراف بالعجز عندما ظهر له من صفات جلاله تعالى، وكماله، وصمديته، وقدوسيته، وعظمته، وكبريائه، وجبروته، مالا ينتهي إلى عده، ولا يوصل إلى حده، ولا يحمله عقل، ولا يحيط به فكر، وعند الانتهاء إلى هذا المقام انتهت معرفة الأنام. وقال الجزري في النهاية: بدأ في هذا الحديث بالرضا، وفي رواية بدأ بالمعافاة ثم بالرضا، وإنما ابتدأ بالمعافاة من العقوبة؛ لأنها من صفات الأفعال كالإحياء والإماتة، والرضا والسخط من صفات الذات، وصفات الأفعال أدنى مرتبة من صفات الذات، فبدأ بالأدنى مترقياً إلى الأعلى، ثم لما ازداد يقيناً وارتقاء ترك الصفات وقصر نظره على الذات، فقال: "وأعوذ بك منك". ثم لما ازداد قربا استحيى معه من الاستعاذة على بساط القرب، فالتجأ إلى الثناء فقال: لا أحصي ثناء عليك، ثم علم أن ذلك قصور، فقال: أنت كما أثنيت على نفسك، وأما على الرواية الأولى فإنما قدم الاستعاذة بالرضا من السخط؛ لأن المعافاة من العقوبة تحصل بحصول الرضا، وإنما ذكرها لأن دلالة الأول عليها دلالة تضمن، فأراد أن يدل عليها دلالة مطابقة، فكنى عنها أولاً، ثم صرح بها ثانياً، ولأن الراضي قد يعاقب للمصلحة أو لاستيفاء حق الغير- انتهى. . (أنت كما أثنيت على نفسك) أي أنت الذي أثنيت على ذلك ثناء يليق بك، فمن يقدر على أداء حق ثنائك؟ فالكاف زائدة، والخطاب في عائد الموصول بملاحظة المعنى نحو: أنا الذي سمتني أمي حيدرة. ويحتمل أن الكاف بمعنى "على" والعائد إلى الموصول محذوف، أي أنت ثابت دائم على الأوصاف الجليلة التي أثنيت بها على نفسك. والجملة على الوجهين في موضع التعليل، وفيه إطلاق لفظ النفس على ذاته تعالى بلا مشاكلة. وقيل: "أنت" تأكيد المجرور في "عليك" فهو من استعارة المرفوع المتصل موضع المجرور المنفصل، إذ لا منفصل في المجرور، و"ما" في "كما" مصدرية، والكاف بمعنى مثل صفة ثناء، ويحتمل أن يكون ما على هذا التقدير موصولة أو موصوفة، والتقدير: مثل ثناء أثنيته، أو مثل الثناء الذي أثنيته، على أن العائد المقدر ضمير المصدر، ونصبه على كونه مفعولاً مطلقاً، وإضافة المثل إلى المعرفة لا يضر في كونه صفة نكرة؛ لأنه متوغل في الإبهام فلا يتعرف بالإضافة. وقيل: أصله ثناءك المستحق كثنائك على نفسك، فحذف المضاف من المبتدأ فصار الضمير المرفوع مجروراً. قال الخطابي: معنى الحديث الاستغفار من التقصير من بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي في الدعوات، وأبوداود، والنسائي في الصلاة، وابن ماجه في الدعاء.
901- قوله: (أقرب ما يكون العبد من ربه) الظاهر أن "ما" مصدرية و"كان" تامة والجار متعلق بأقرب،(3/212)
وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم.
902- (9) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وليست من تفضيلية، والمعنى شاهد كذلك، فلا يرد أن اسم التفضيل لا يستعمل إلا بأحد أمور ثلاثة لا بأمرين كالإضافة ومن، فكيف استعمل ههنا بأمرين؟ فافهم. وخبر "أقرب" محذوف أي "حاصل له" وجملة "وهو ساجد" حال من ضمير "حاصل" أو من ضمير "له". والمعنى: أقرب أكوان العبد من ربه تبارك وتعالى حاصل له حين كونه ساجداً. ولا يرد على الأول أن الحال لابد أن يرتبط بصاحبه، ولا ارتباط ههنا؛ لأن ضمير "هو ساجد" للعبد لا لأقرب؛ لأنا نقول: يكفي في الارتباط وجود الواو من غير حاجة إلى الضمير، مثل: جاء زيد والشمس طالعة. وقال الطيبي: التركيب من الإسناد المجازي، أسند القرب إلى الوقت، وهو للعبد مبالغة، فإن قلت: أين المفضل عليه، ومتعلق أفعل في الحديث؟ قلت: محذوف، وتقديره: إن للعبد حالتين في العبادة: حال كونه ساجداً لله تعالى، وحال كونه متلبساً بغير السجود، فهو في حالة السجود أقرب إلى ربه من نفسه في غير تلك الحالة- انتهى. قيل وجه الأقربية أن العبد في السجود داع؛ لأنه أمر به، والله تعالى قريب من السائلين بقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} [2: 186] ؛ ولأن السجود غاية في الذل، والانكسار، وتعفير الوجه، وهذه الحالة أحب أحوال العبد كما رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن ابن مسعود، ولأن السجود أول عبادة أمر الله تعالى بها بعد خلق آدم، فالمتقرب بها أقرب، ولأن فيه مخالفة لإبليس في أول ذنب عصى الله به. وقيل: لأن العبد بقدر ما يبعد عن نفسه يقرب من ربه، والسجود غاية التواضع، وترك التكبر، وكسر النفس؛ لأنها لا تأمر الرجل بالمذلة، ولا ترضى بها، ولا بالتواضع، بل بخلاف ذلك، فإذا سجد فقد خالف نفسه، وباعد عنها، فإذا باعد عنها قرب من ربه. قال القرطبي: هذا أقرب بالرتبة، والمكانة، والكرامة، لا بالمسافة والمساحة؛ لأنه تعالى منزه عن المكان والزمان. (فأكثروا الدعاء) أي في السجود؛ لأنه حالة قرب، وحالة قرب مقبول دعاءها؛ لأن السيد يحب عبده الذي يطيعه، ويتواضع له، ويقبل منه ما يقوله، وما يسأله. وقال ابن الملك: وهذا لأن حالة السجود تدل على غاية تذلل، واعتراف عبودية نفسه وربوبية ربه، فكان مظنه الإجابة، فأمرهم بإكثار الدعاء في السجود. والحديث يدل على مشروعية الاستكثار من السجود، ومن الدعاء فيه، ولا دليل فيه لمن قال: إن السجود أفضل من القيام؛ لأنه لا يلزم من كون العبد أقرب إلى ربه حال سجوده أفضليته على القيام؛ لأن ذلك إنما هو باعتبار إجابة الدعاء. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي.
902- قوله: (إذا قرأ ابن آدم) ذكر تلميحاً لقصة أبيه آدم مع الشيطان التي هي سبب العداوة بينهما. (السجدة)(3/213)
فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلتي! أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار)) رواه مسلم.
903- (10) وعن ربيعة بن كعب، قال: ((كنت أبيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: أو غير ذلك؟
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي آيتها. (فسجد) أي سجود التلاوة. (اعتزل) أي تباعد عنه. (الشيطان) قيل: المراد به إبليس فقط. (يبكي، يقول) قال الطيبي: هما حالان من فاعل "اعتزل" مترادفتان، أي باكياً وقائلاً، أو متداخلتان، أي باكياً قائلاً. (يا ويلتى) قال ابن الملك: أصله "يا ويلي" فقلبت ياء المتكلم تاء، وزيدت بعدها ألف للندبة. والويل الحزن والهلاك، كأنه يقول: يا حزني! ويا هلاكي! احضر، فهذا وقتك وأوانك. قال الطيبي: نداء الويل للتحسر على ما فاته من الكرامة، وحصول اللعن والخيبة للحسد على ما حصل لابن آدم بيانه. (أمر ابن آدم بالسجود فسجد) امتثالاً لأمر ربه. (فله الجنة) أي على الطاعة. (فأبيت) أي امتنعت تكبراً. (فلي النار) قال المناوي: نار جهنم خالداً فيها لعصيانه واستكباره. والحديث دليل على فضل السجود. واستدل به من قال بوجوب سجدة التلاوة. وأجيب عنه: بأن الذم والوعد متعلق بترك السجود إباء وإنكاراً واستكباراً كما يدل عليه لفظ "أبيت" صراحة فلا يخالف الحديث من يقول بسنتيه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه.
903- قوله: (وعن ربيعة بن كعب) بن مالك الأسلمي، يكنى أبا فراس المدني، صحابي من أهل الصفة، ويقال: كان خادماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صحبه قديماً، وكان يلزمه سفراً وحضراً، ومنهم من فرق بين ربيعة وأبي فراس الأسلمي، وصوب الحاكم أي وأحمد وابن عبد البر تبعاً للبخاري التفريق بينهما. مات ربيعة سنة. (63) بعد الحرة، وليس له في الأدب المفرد للبخاري، وصحيح مسلم، وسنن الأربعة غير هذا الحديث. (كنت أبيت) من البيتوتة أي أكون في الليل. (مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ولعل هذا وقع له في سفر. وقال ابن حجر: أي إما في السفر أو الحضر، والمراد بالمعية القرب منه بحيث يسمع نداءه إذا ناداه لقضاء حاجته. (فأتيته) وفي بعض النسخ "فآتيه" موافقاً لما في صحيح مسلم. (بوضوئه) بفتح الواو أي ماء وضوءه وطهارته. (وحاجته) أي سائر ما يحتاج إليه من نحو سواك وغيره. (فقال لي: سل) أي اطلب مني حاجة. قال ابن حجر: أتحفك به في مقابلة خدمتك لي؛ لأن هذا هو شأن الكرام، ولا أكرم منه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه جواز قول الرجل لأتباعه ومن يتولى خدمته: سلوني حوائجكم. (أسألك مرافقتك) أي كوني رفيقاً لك. (في الجنة) بأن أكون قريباً منك متمتعاً بنظرك. (أو غير ذلك) يحتمل فتح الواو، أي أتسأل ذلك وغيره أم تسأله وحده؟ وسكونها، أي تسأل ذلك أم غيره؟ وقال بعضهم: يروى بسكون الواو وبفتحها، وعلى التقدير فغير إما مرفوع أو منصوب،(3/214)
قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)) رواه مسلم
904- (11) وعن معدان بن طلحة، قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، فسكت، ثم سألته، فسكت،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والتقدير على الأول: فمسؤولك هذا أو غير ذلك؟ وعلى الثاني: أتسأل هذا وغير ذلك أنسب بحالك. وأما في صورة نصب "غير" فالمعنى على تقدير سكون الواو. تسأل ذلك أو غير ذلك؟ وقيل المعنى: سل غير ذلك. وعلى تقدير فتحها: أتسأل هذا وهو شاق وتترك ما هو أهون منه؟ (هو ذاك) أي مسئولي ذلك لا غير. (فأعني على نفسك) أي على تحصيل حاجة نفسك التي هي المرافقة. (بكثرة السجود) في الدنيا حتى ترافقني في العقبى، والمراد تعظيم تلك الحاجة وأنها تحتاج إلى معاونة منك، ومجرد السؤال مني لا يكفي فيها، أو المعنى: فوافقني بكثرة السجود قاهراً بها على نفسك. وقيل: أعني على قهر نفسك بكثرة السجود، كأنه أشار إلى أن ما ذكرت لا يحصل إلا بقهر نفسك التي هي أعدى عدوك، فلا بد لي من قهر نفسك بصرفها عن الشهوات، ولابد لك أن تعاونني فيه، ففيه تلويح إلى أن نفسه بمثابة العدو المناوئ، فاستعان بالسائل إلى قهر النفس، وكسر شهواتها بالمجاهدة والمواظبة على الصلاة، والاستعانة بكثرة السجود حسماً للطمع الفارغ عن العمل، والاتكال على مجرد التمني. وقيل المعنى: كن لي عوناً في أصلاًح نفسك، وجعلها طاهرة مستحقة لما تطلب، فإني أطلب إصلاح نفسك من الله تعالى، وأطلب منك أيضاً إصلاحها بكثرة السجود لله، فإن السجود كاسر للنفس ومذل لها، وأي نفس انكسرت وذلت استحقت الرحمة، وهذا كقول الطبيب للمريض: أعالجك بما يشفيك، ولكن أعني بالاحتماء وامتثال أمري. وفي الحديث دليل على أن السجود من أعظم القرب التي تكون بسببها ارتفاع الدرجات عند الله تعالى إلى حد لا يناله إلا المقربون، وأن مرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة لا تحصل إلا بقرب من الله تعالى بكثرة السجود، والمراد به السجود في الصلاة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي. قال المنذري: وأخرج الترمذي وابن ماجه طرفاً منه.
904- قوله: (معدان) بفتح الميم وسكون العين المهملة. (بن طلحة) ويقال: ابن أبي طلحة اليعمري- بفتح الياء التحتية، وسكون العين المهملة، وفتح الميم- شامي ثقة من كبار التابعين. رجح الترمذي أن اسمه معدان بن أبي طلحة، وكذلك سماه ابن سعد في الطبقات (ج7: ص154) ورجح يحيى بن معين "معدان بن طلحة" فقد قال: أهل الشام يقولون: ابن طلحة، وقتادة وهؤلاء يقولون: ابن أبي طلحة، وأهل الشام أثبت فيه. (أعمله) بالرفع على صفة العمل وكذلك. (يدخلني الله به الجنة) قال الطيبي: ويجوز أن يكون "أعمله" جوابا للأمر، و"يدخلني" بدلا منه، وذلك لأن معدان لما كان معتقدا لكون الإخبار سبباً لعمله صح ذلك. (فسكت) أي ثوبان، ولعل سكوته لامتحان حال القائل في(3/215)
ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة)) قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء، فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان. رواه مسلم.
{الفصل الثاني}
905- (12) عن وائل بن حجر، قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الجد، والسؤال، والطلب. (فقال: عليك بكثرة السجود) الخ. فيه دليل على أن كثرة السجود مرغب فيها، والمراد به السجود في الصلاة. وسبب الحث عليه ما تقدم في حديث أبي هريرة: أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وهو موافق لقوله تعالى: {واسجد واقترب} [96: 19] ، فإن في كل سجدة يسجدها العبد رفع درجة، فلا يزال العبد يترقى في المداومة على السجود درجة فدرجة حتى يفوز بالقدح من القرب إلى الله تعالى. ولا دليل فيه كالحديث الذي قبله لمن يقول: إن السجود أفضل من القيام؛ لأن صيغة "أفعل" الدالة على التفضيل إنما وردت في فضل طول القيام كما سبق، ولا يلزم من فضل السجود الذي دل عليه حديث ربيعة وثوبان أفضليته على طول القيام. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
905- قوله: (إذا سجد) أي أراد السجود. (وضع ركبتيه قبل يديه) استدل به لمن قال باستحباب وضع الركبتين قبل اليدين عند الانحطاط للسجود، وهم الشافعي وأبوحنيفة، وأحمد في مشهور مذهبه، وسفيان الثوري وإسحاق، لكن الحديث ضعيف كما ستعرف، وذهب مالك، وابن حزم، وأحمد في رواية إلى استحباب وضع اليدين قبل الركبتين، وروى الحازمي عن الأوزاعي قال: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم. قال ابن أبي داود: وهو قول أصحاب الحديث، واستدل لهم بحديث أبي هريرة التالي، وهو حديث صحيح أو حسن لذاته كما سنحققه. (وإذا نهض) أي وإذا أراد النهوض وهو القيام. (رفع يديه قبل ركبتيه) فيه دليل لمن قال برفع اليدين قبل الركبتين عند القيام من الركعة أي ركعة كانت، وهو أحمد وأبوحنيفة، واستدل لهما أيضاً بما رواه أبوداود عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة، لكن رواية أبي داود هذه شاذة، والصحيح ما رواه أبوداود عن أحمد بلفظ: نهى أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد. وقال مالك والشافعي: السنة أن يعتمد على يديه في النهوض؛ لأن مالك بن الحويرث قال في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية استوى قاعداً، ثم اعتمد(3/216)
رواه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي.
906- (13) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على الأرض. رواه النسائي. وفي رواية البخاري: جلس واعتمد على الأرض، ثم قام. وعند الشافعي: واعتمد بيديه على الأرض، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لمالك وأصحابه: صلوا كما رأيتموني أصلي. ولما روى عبد الرزاق عن ابن عمر: أنه كان يقوم إذا رفع رأسه من السجدة معتمداً على يديه قبل أن يرفعهما. ولأن ذلك أعون للمصلي كما لا يخفى. فالراجح عندنا أن يرفع الرجل ركبتيه قبل يديه ويقوم معتمداً بيديه على الأرض ولا يعتمد على ركبتيه. (رواه أبوداود) الخ وأخرجه أيضاً الدارقطني، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن السكن في صحاحهم من طريق شريك، عن عاصم ابن كليب، عن أبيه، عن وائل. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قلت: في كون هذا الحديث حسناً نظر، فإنه قد تفرد به شريك عن عاصم كما صرح به البخاري، والترمذي، وابن أبي داود، والدارقطني، والبيهقي، وشريك هو ابن عبد الله النخعي الكوفي، صدوق، يخطىء كثيراً، تغير حفظه منذ ولى القضاء بالكوفة. قال الدارقطني في سننه: لم يحدث به عن عاصم بن كليب غير شريك، وشريك ليس بالقوي فيما يتفرد به- انتهى. ولحديث وائل هذا طريقان آخران عند أبي داود: أحدهما من جهة همام، عن محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه. والثاني من جهة همام، عن شقيق أبي الليث، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال النيموي بعد ذكر هذه الطرق: فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن لكثرة طرقه. قلت: قد ظهر بما ذكرنا أن لحديث وائل بن حجر هذا ثلاث طرق: الأولى طريق شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل، وقد عرفت أنها ضعيفة لشريك القاضي، فإنه متفرد به، وهو ليس بالقوي فيما يتفرد به كما صرح به الدارقطني. والثانية طريق همام، عن محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، وهي أيضاً ضعيفة؛ لأنها منقطعة فإن عبد الجبار لم يسمع من أبيه. والثالثة طريق همام، عن شقيق، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهي أيضاً ضعيفة لإرسالها، ولأن فيها شقيقاً أبا الليث، وهو مجهول كما صرح به الحافظ في التقريب، والذهبي في الميزان، والطحاوي في شرح الآثار، فهذه الطرق الثلاث كلها ضعيفة، ثم هي مختلفة في الوصل والإرسال، والمحفوظة منها على ما قال الحازمي في "كتاب الاعتبار" هي طريق همام المرسلة التي فيها الشقيق المجهول، ففي ارتقاء حديث وائل إلى درجة الحسن كلام، ولو سلم أن حديث وائل بن حجر حسن، فحديث أبي هريرة الآتي أثبت وأقوى منه كما ستعرف.
906- قوله: (فلا يبرك) بضم الراء من باب نصر، نهي، وقيل: نفي. (كما يبرك البعير) أي لا يضع ركبتيه قبل يديه كما يبرك البعير، شبه ذلك ببروك البعير مع أنه يضع يديه قبل رجليه؛ لأن ركبة الإنسان في الرجل، وركبة الدواب في(3/217)
وليضع يديه قبل ركبتيه)) . رواه أبوداود والنسائي والدارمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اليد، وإذا وضع ركبتيه أولاً فقد شابه الإبل في البروك. (وليضع) بسكون اللام وتكسر. (يديه قبل ركبتيه) قال التوربشتي الحنفي: كيف نهى عن بروك البعير ثم أمر بوضع اليدين قبل الركبتين والبعير يضع اليدين قبل الرجلين؟ والجواب أن الركبة من الإنسان الرجلين، ومن ذوات الأربع في اليدين، كذا في المرقاة. والحديث نص في استحباب وضع اليدين قبل الركبتين، وهو قول مالك، وهو قول أصحاب الحديث. وقال الأوزاعي: أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم، وهي رواية عن أحمد، ويدل أيضاً على هذا القول ما أخرجه ابن خزيمة، وصححه، والدارقطني، والحاكم من حديث ابن عمر بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً البيهقي، والطحاوي، وغيرهما من طريق عبد العزيز الدراوردي، عن عبيد الله بن عمرو، عن نافع بهذا، وزاد في آخره: ويقول كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. قال الحافظ: قال مالك هذه الصفة أحسن في خشوع الصلاة. وبه قال الأوزاعي، قال: وعن مالك، وأحمد رواية بالتخيير-انتهى. وظاهر الحديث الوجوب بقوله: " لا يبرك" وهو نهي، وللأمر بقوله: "وليضع"، قيل: ولم يقل أحد بوجوبه فتعين أنه مندوب، وقد أجاب الحنفية، والشافعية، والحنابلة عن حديث أبي هريرة بوجوه كلها مخدوشة، يأتي ذكر بعضها مع بيان ما فيه من الخدشة. (رواه أبوداود، والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والطحاوي، والبيهقي، والدارقطني بعضهم من طريق عبد الله بن نافع، عن محمد بن عبد الله بن الحسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة. وبعضهم من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد، الخ. وبعضهم من الطريقين كليهما. وهذا حديث صحيح أو حسن لذاته، رجاله كلهم ثقات. أما عبد الله بن نافع فقد وثقه ابن معين، والنسائي والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات. وأما عبد العزيز ابن محمد الدراوردي فهو أحد مشاهير المحدثين، وثقه ابن معين، وابن المديني، وقال النسائي ليس به بأس، وروى له البخاري حديثين، قرنه فيهما بعبد العزيز بن حازم، وغيره، واحتج به مسلم، وأصحاب السنن. وأما محمد بن عبد الله بن الحسن فهو الملقب بالنفس الزكية، وهو ثقة، وأما أبوالزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة فهو أصح الأسانيد، قاله البخاري كما في الخلاصة. والحديث سكت عنه أبوداود، فهو عنده صالح للاحتجاج. وقال الحازمي في كتاب "الاعتبار" بعد روايته: وهو على شرط أبي داود، والنسائي، والترمذي، أخرجوه في كتبهم. وقال القاري في المرقاة: قال ابن حجر: إسناده جيد. وقال ابن سيد الناس: أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح، وقال: ينبغي أن يكون حديث أبي هريرة داخلاً في الحسن على رسم الترمذي لسلامة رواته عن الجرح. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: وحديث أبي هريرة المذكور أولاً يعني "وليضع يديه ثم ركبتيه" دلالته قولية، وقد تأيد بحديث ابن عمر، فيمكن(3/218)
قال أبوسليمان الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ترجيحه على حديث وائل؛ لأن دلالته فعلية على ما هو الأرجح عند الأصوليين-انتهى. وقال الحافظ في بلوغ المرام: وهو أقوى من حديث وائل بن حجر، فإن للأول شاهداً من حديث ابن عمر، صححه ابن خزيمة، وذكره البخاري معلقاً- انتهى. ورجح ابن العربي في عارضة الأحوذى حديث أبي هريرة على حديث وائل من وجه آخر، فقال: الهيئة التي رأى مالك (وهي الهيئة المروية في حديث أبي هريرة) منقولة في صلاة أهل المدينة، فترجحت بذلك على غيره. (قال أبوسليمان) أي في معالم السنن (ج1: ص208) واسمه حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي- بضم الباء الموحدة- نسبة إلى مدينة"بست" من بلاد "كابل" بين "هرات" و"غزنة". ولد في رجب سنة (319) وتوفي في ربيع الأول سنة (388) كان محدثاً، فقيهاً، أديباً، شاعراً، لغوياً، حجة، صدوقاً، زاهداً، ورعاً، صاحب كتاب" غريب الحديث" و"أعلام السنن" في شرح صحيح البخاري، و"معالم السنن" في شرح سنن أبي داود وغير ذلك. والمشهور فيما بين الناس أنه كان شافعياً. والظاهر أنه كان من أهل الحديث ولم يكن مقلداً للشافعي ولا لغيره من الأئمة، يدل على اختياراته ومخالفته للأئمة كلامه في كثير من المواضع، من جملة ذلك قوله في معالم السنن (ج1: ص252) خلافاً لشافعي "سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب،" وفي (ج1: ص313) "وقول الجماعة أولى لموافقته الحديث"، وهذا في خلاف الشافعي، وكم له مثلها. (الخطابي) بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الطاء المهملة وبعد الألف باء موحدة، هذه نسبة إلى جده الخطاب المذكور، وقيل: إنه من ذرية زيد بن الخطاب بن نفيل العدوي فنسب إليه. قال السبكي في طبقات الشافعية (ج2: ص318) : ولم يثبت ذلك، قال: وكان إماماً في الفقه والحديث واللغة (حديث وائل بن حجر أثبت من هذا) أي فهو أولى بالعمل من حديث أبي هريرة. وفيه نظر، فإن حديث وائل ضعيف كما عرفت، ولو سلم أنه حسن كما قال الترمذي، فلا يكون هو حسناً لذاته بل لغيره لطرقه الضعاف. وأما حديث أبي هريرة فهو صحيح أو حسن لذاته، ومع هذا فله شاهد من حديث ابن عمر، صححه ابن خزيمة، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقد تقدم قول ابن سيد الناس، وابن التركماني وابن العربي، والحافظ في ترجيح حديث أبي هريرة على حديث وائل بن حجر، فالقول الراجح أن حديث أبي هريرة أثبت وأقوى من حديث وائل. فإن قيل: إن كان لحديث أبي هريرة شاهد فلحديث وائل ثلاثة شواهد، أحدها: ما رواه ابن أبي شيبة والطحاوي في شرح الآثار من طريق عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفحل. وثانيها: ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي وابن حزم عن عاصم الأحول، عن أنس، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه. قال الحاكم: هو على شرطهما، ولا أعلم له علة.(3/219)
وقيل: هذا منسوخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وثالثها: ما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا أن نضع الركبتين قبل اليدين. أجيب بأن هذه الأحاديث كلها ضعيفة جداً، لا تصلح أن تكون شاهدة لحديث وائل. أما حديث أبي هريرة فلأن مداره على عبد الله بن سعيد المقبري وهو متروك، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال الفلاس: منكر الحديث، متروك. وقال يحيى بن سعيد: استبان كذبه في مجلس. وقال الدارقطني: متروك ذاهب. وقال أحمد مرة: ليس بذلك، ومرة قال: متروك. وقال فيه البخاري: تركوه، كذا في الميزان. وأما حديث أنس فلأن في سنده العلاء بن إسماعيل، وقد تفرد به، وهو مجهول، قاله البيهقي. وقد أخطأ الحاكم في تصحيحه، ونقل الحافظ في لسان الميزان عن أبي حاتم أنه أنكر هذا الحديث. وحكي عن الدارقطني أنه أخرجه، وقال: إن العلاء تفرد به وهو مجهول، ثم قال الحافظ: وخالفه عمر بن حفص بن غياث وهو من أثبت الناس في أبيه، فرواه عن أبيه، عن أعمش، عن إبراهيم، عن علقمة وغيره، عن عمر موقوفاً عليه، وهذا هو المحفوظ. وأما حديث سعد بن أبي وقاص فلأن في سنده إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو يرويه عن أبيه وقد تفرد به، وهما ضعيفان، إبراهيم بن إسماعيل اتهمه أبوزرعة، وأبوه إسماعيل متروك. وقال الحازمي: في سنده مقال، وأن المحفوظ عن مصعب، عن أبيه حديث نسخ التطبيق-انتهى. وقد ظهر بهذا التفصيل أن هذه الأحاديث ضعيفة جداً، فلا تصلح أن تكون شاهدة لحديث وائل فإنها لضعفها وسقوطها صارت كأن لم تكن. (وقيل: هذا) وفي معالم السنن: وزعم بعض العلماء أن هذا أي حديث أبي هريرة. (منسوخ) أي بما رواه ابن خزيمة، عن مصعب بن سعد، عن أبيه. وقد ذكرنا لفظه. وفيه: أن دعوى النسخ بحديث سعد بن أبي وقاص باطلة، فإن هذا الحديث ضعيف كما عرفت، وقد عكس ابن حزم في المحلي (ج4: ص130) فجعل حديث أبي هريرة ناسخاً لما خالفه. وقيل: إن حديث أبي هريرة ضعيف معلول أعله البخاري بأن محمد بن عبد الله بن الحسن لا يتابع عليه، وأنه لا يدري أسمع محمد من أبي الزناد أم لا. وفيه: أن قوله "لا يتابع عليه" ليس مضر؛ لأن محمد بن عبد الله ثقة، ولحديثه هذا شاهد من حديث ابن عمر، وصححه ابن خزيمة، والحاكم، ووافقه الذهبي، قال ابن التركماني في الجوهر النقي: محمد بن عبد الله وثقه النسائي، وقول البخاري "لا يتابع على حديثه" ليس بصريح في الجرح، فلا يعارض توثيق النسائي-انتهى. وأما قوله "لا يدري أسمع" الخ. ففيه أنها أيضاً ليست بعلة، وشرط البخاري معروف، خالفه فيه جمهور المحدثين، ومحمد بن عبد الله ليس بمدلس، وسماعه من أبي الزناد ممكن، فإن أبا الزناد مات سنة ثلاثين ومائة بالمدينة، ومحمد مدني أيضاً غلب على المدينة، ثم قتل في سنة خمس وأربعين ومائة وعمره ثلاث وخمسون سنة. قاله الزبير بن بكار. وقال ابن سعد وغير واحد: قتل وهو ابن خمس وأربعين، وقد أدرك أبا الزناد طويلاً، فيحمل عنعنته على السماع عند جمهور المحدثين. وقيل: إن حديث أبي هريرة مضطرب، فإنه قال بعضهم: إذا سجد أحدكم(3/220)
907- (14) وعن ابن عباس، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين: اللهم اغفرلي، وارحمني،
واهدني، وعافني، وارزقني)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فليبدأ بركبتيه قبل يديه. أخرجه بهذا اللفظ ابن أبي شيبة والطحاوي كما تقدم، وهذه الرواية تخالف الرواية التي رواها أبوداود، والنسائي وغيرهما بحيث لا يمكن الجمع بينهما، والاضطراب مورث للضعف. وفيه: أن رواية ابن أبي شيبة، والطحاوي هذه ضعيفة جداً كما عرفت، فلا اضطراب في حديث أبي هريرة، فإن من شرط الاضطراب استواء وجوه الاختلاف، ولا تعل الرواية الصحيحة بالرواية الضعيفة الواهية كما تقرر في موضعه. وقيل: إن في حديث أبي هريرة قلباً من الراوي حيث قال: "وليضع يديه قبل ركبتيه"، وكان أصله وليضع ركبتيه قبل يديه، ويدل عليه أول الحديث، وهو قوله: "فلا يبرك كما يبرك البعير"، فإن المعروف من البروك البعير هو تقديم اليدين على الرجلين، ذكره ابن القيم في زاد المعاد، وقال: ولما علم أصحاب هذا القول ذلك قالوا: ركبتا البعير في يديه لا في رجليه، فهو إذا برك وضع ركبتيه أولاً، فهذا هو المنهى عنه. قال: وهو فاسد من وجوه: حاصلها أن البعير إذا برك يضع يديه، ورجلاه قائمتان، وهذا هو المنهي عنه، وأن القول بأن ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة. وأنه لو كان الأمر كما قالوا لقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فليبرك كما يبرك البعير؛ لأن أول ما يمس الأرض من البعير يداه. وفيه: أن في قوله: "في حديث أبي هريرة قلب من الراوي" نظراً، إذ لو فتح هذا الباب لم يبق اعتماد على رواية راو مع كونها صحيحة، قاله القاري، وأما قوله: "كون ركبتي البعير في يديه لا يعرفه أهل اللغة" ففيه: أنه مبني على عدم اطلاعه؛ لأنه منصوص عليه في لسان العرب (ج1: ص417) وقال صاحب القاموس: "الركبة ـ بالضم ـ موصل ما بين أسافل أطراف الفخذ وأعالي الساق، أو مرفق الذراع من كل شيء، ووقع في حديث هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - قول سراقة: ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين. رواه البخاري في صحيحه، فهذا نص صريح وبرهان قاطع على أن ركبتي البعير في يديه، وأما قوله: إنه لو كان كما قالوا لقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فليبرك كما يبرك البعير" الخ. ففيه: أنه لما ثبت أن ركبتي البعير تكونان في يديه ومعلوم أن ركبتي الإنسان تكونان في رجليه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في آخر هذا الحديث: "وليضع يديه قبل ركبتيه"، فكيف يقول في أوله: فليبرك كما يبرك البعير؟ أي فليضع ركبتيه قبل يديه، ذكره شيخنا في شرح الترمذي (ج1: ص230) وفي أبكار المنن (ص223) .
907- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول بين السجدتين) أي في الفريضة والنافلة. (اللهم اغفرلي) أي ذنوبي، أو تقصيري في طاعتي. (وارحمني) أي من عندك لا بعملي، أو ارحمني بقبول عبادتي. (واهدني) لصالح الأعمال، أو ثبتني على دين الحق. (وعافني) من البلاء في الدارين، أو من الأمراض الظاهرة والباطنة. (وارزقني) رزقا حسناً أو توفيقاً في(3/221)
رواه أبوداود والترمذي.
908- (15) وعن حذيفة، ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين السجدتين: رب اغفرلي)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطاعة، أو درجة عالية في الآخرة. والحديث دليل على مشروعية الدعاء بهذه الكلمات في القعود بين السجدتين، وهو يعم الفرائض والنوافل. قال الترمذي بعد رواية الحديث: وهكذا روي عن علي، وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق، يرون هذا جائزاً في المكتوبة والتطوع- انتهى. وحمله الحنفية على التطوع خاصة لما قيده ابن ماجه في روايته بصلاة الليل. وفيه: أن التقييد بصلاة الليل لا يدل على أن هذا الدعاء مخصوص بصلاة التطوع كما في دعاء الاستفتاح الذي اختاره الحنفية للفرض مع أن الترمذي وأباداود قد رويا عن أبي سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك- الحديث. فعمم الحنفية هذا الدعاء للفرائض والنوافل مع كونه مقيداً بصلاة الليل في الحديث المذكور. (رواه أبوداود، والترمذي) إلا أنه قال فيه "واجبرني" مكان "عافني". قيل: هو من "جبرت الوهن والكسر" إذا صلحته و"جبرت المصيبة" إذا فعلت مع صاحبها ما ينساها به. وقال الجزري: واجبرني أي أغنني، من "جبر الله مصيبته"، أي رد عليه ما ذهب عنه، أو عوضه عنه. وأصله من " جبر الكسر". والحديث أخرجه أيضاً ابن ماجه، وزاد "وارفعني" ولم يقل "اهدني" ولا "عافني" وأخرجه الحاكم في المستدرك بإسنادين: الأول بلفظ أبي داود، والثاني جمع فيه هذه الألفاظ كلها إلا أنه لم يقل "وعافني". وهذا الاختلاف محمول على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر، والحديث سكت عنه أبوداود، وصححه الحاكم في الموضعين، ووافقه الذهبي. ونقل الحافظ في بلوغ المرام تصحيح الحاكم، وأقره، ولم ينكر عليه، قلت: في سنده أبوالعلاء كامل بن العلاء السعدي، يروي عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، وكامل هذا وثقة يحيى بن معين، وقال ابن عدي: لم أر للمتقدمين فيه كلاماً، وفي بعض رواياته أشياء أنكرتها، ومع هذا أرجو أنه لا بأس به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال مرة: ليس به بأس. وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطىء، وحبيب بن أبي ثابت ثقة فقيه جليل، لكنه كثير الإرسال والتدليس، وقد روى عند الجميع بالعنعنة، قال في الزوائد: رجاله ثقات، إلا أن حبيب بن أبي ثابت كان يدلس، وقد عنعنة، وأصله في أبي داود، والترمذي- انتهى.
908- قوله: (كان يقول بين السجدتين: رب اغفرلي) أي مكرراً. قال ابن قدامة في المغني: المستحب عند أبي عبد الله أي أحمد، أن يقول بين السجدتين: رب اغفرلي، رب اغفرلي، يكرر ذلك مراراً، والواجب منه مرة، وأدنى الكمال ثلاث، الخ. والحديث يدل على مشروعية طلب المغفرة في الاعتدال بين السجدتين، ولا يختص ذلك بالتطوع كما قيل، بل يعم الفريضة والتطوع، ويحمل هذا الحديث مع حديث ابن عباس السابق على اختلافات الأوقات،(3/222)
رواه النسائي والدارمي.
{الفصل الثالث}
909- (16) عن عبد الرحمن بن شبل، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نقرة الغراب، وافتراش لسبع،
وأن يوطن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير)) . رواه أبوداود والنسائي والدارمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في بعض الأحيان ما رواه ابن عباس، وفي بعض الأحيان ما رواه حذيفة. (رواه النسائي) في حديث أطول منه، وأخرجه أيضاً ابن ماجه، ولفظه: كان يقول بين السجدتين: "رب اغفرلي". وهو حديث صحيح، وأصله في مسلم.
909- قوله: (عن عبد الرحمن بن شبل) بكسر الشين المعجمة، وسكون الموحدة، ابن عمرو بن زيد الأنصاري الأوسي، أحد النقباء، المدني، وأحد علماء الصحابة، نزل حمص، له أربعة عشر حديثاً. مات في إمارة معاوية بن أبي سفيان. (عن نقرة الغراب) بفتح النون، أي عن ترك الطمأنينة، وتخفيف السجود بحيث لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد الأكل منه. قال الخطابي في المعالم: هي أن لا يتمكن الرجل من السجود فيضع جبهته على الأرض حتى يطمئن ساجداً، فإنما هو أن يمس بجبهته أو بأنفه الأرض كنقرة الطائر ثم يرفعه. (وافتراش السبع) بفتح السين المهملة، وضم الباء الموحدة، والافتراش افتعال من الفرش، أي نهى أن يبسط ذراعيه في السجود، ولا يرفعهما عن الأرض كما يبسط السبع والكلب والذئب ذراعيه. (وأن يوطن) بتشديد الطاء، ويجوز التخفيف، يقال أوطن الأرض ووطنها، واستوطنها، إذا اتخذها وطناً. (الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير) أي أن يتخذ لنفسه من المسجد مكاناً معيناً لا يصلي إلا فيه، كالبعير لا يبرك من عطنه إلا في مبرك قديم. وفي النهاية للجزري: قيل معناه: أن يألف الرجل مكاناً معلوماً من المسجد مخصوصاً به، لا يصلي إلا فيه كالبعير لا يأوي من عطنه إلا إلى مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخاً، لا يبرك إلا فيه. وقيل معناه: أن يبرك على ركبتيه قيل يديه إذا أراد السجود مثل بروك البعير- انتهى. قلت: وهذا أي المعنى الثاني لا يوافق لفظ الحديث فلا يصح أن يكون مراداً. قال ابن حجر: وحكمة النهي أن ذلك يؤدي إلى الشهرة، والرياء، والسمعة، والتقيد بالعادات، والحظوظ، والشهوات، وكل هذه آفات أي آفات فتعين البعد عما أدى إليها ما أمكن. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو المنذري. (والنسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما. والنهي عن نقرة كنقرة الديك، أخرجه أيضاً أحمد بإسناد حسن، وأبويعلي، والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة.(3/223)
910- (17) وعن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا علي! إني أحب لك ما أحب
لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقع بين السجدتين)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
910- قوله: (يا علي! إني أحب لك ما أحب لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي) المقصود إظهار المحبة لوقوع النصيحة، وإلا فهو مع كل مؤمن كذلك. (لا تقع) بضم التاء من الإقعاء. (بين السجدتين) زاد ابن ماجه في رواية له: إقعاء الكلب. وفي حديث أنس عند ابن ماجه مرفوعاً: إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقع كما يقعى الكلب- الحديث. وفي حديث أبي هريرة عند أحمد: قال نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، وقد فسر هذا الإقعاء المنهى عنه بنصب الساقين: ووضع الأليتين واليدين على الأرض. وروى مسلم وغيره عن ابن عباس، قال: الإقعاء بين السجدتين هي سنة نبيكم. وعن طاووس، قال: رأيت العبادلة يقعون. قال الحافظ: وأسانيدها صحيحة. وفسر هذا الإقعاء بأن ينصب القدمين، ويجلس عليهما فلا منافاة. قال البيهقي: الإقعاء ضربان: أحدهما أن يضع أليتيه على عقبيه، ويكون ركبتاه في الأرض، وهذا هو الذي رواه ابن عباس، وفعلته العبادلة ونص الشافعي في "البويطي" على استحبابه بين السجدتين، لكن الصحيح أن الافتراش أفضل منه، لكثرة الرواة له، ولأن أعون للمصلي، وأحسن في هيئة الصلاة. والثاني أن يضع أليتيه ويديه على الأرض وينصب ساقيه، وهذا هو الذي وردت الأحاديث بكراهته. وتبع البيهقي على هذا الجمع ابن الصلاح والنووي، وأنكر على من ادعى فيهما النسخ، وقالا: كيف ثبت النسخ مع عدم تعذر الجمع، وعدم العلم بالتاريخ؟ كذا في التلخيص (ص99) . قال الشوكاني: وهذا الجمع لا بد منه، وأحاديث النهي والمعارض لها يرشد لما فيها من التصريح بإقعاء الكلب، ولما في أحاديث العبادلة من التصريح بالإقعاء على القدمين وعلى أطراف الأصابع، وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: من السنة أن تمس عقبيك أليتيك، وهو مفسر للمراد، فالقول بالنسخ غفلة عن ذلك، وعما صرح به الحفاظ من جهل تاريخ هذه الأحاديث، وعن المنع من المصير إلى النسخ مع إمكان الجمع، وقد روي عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم فعله كما قال النووي. ونص الشافعي في "البويطي" و"الإملاء" على استحبابه- انتهى كلام الشوكاني. قلت: الذي قاله البيهقي، وابن الصلاح، والنووي، ثم الشوكاني، هو الحق والصواب، ويؤيده كتب اللغة. قال ابن دريد في الجمهرة (ج3: ص263) : الإقعاء مصدر "أقعى إقعاء" وهو أن يقعد على عقبيه، وينصب صدور قدميه، ونهى عن الإقعاء في الصلاة وهو أن يقعد على صدور قدميه، ويلقى يديه على الأرض. وفي لسان العرب: أقعى الكلب إذا جلس على إسته مفترشاً رجليه، وناصباً يديه، وقد جاء في الحديث النهي عن الإقعاء في الصلاة، وفي رواية: نهى أن يقعى الرجل في الصلاة، وهو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين. وهذا تفسير الفقهاء. قال الأزهري كما روي عن العبادلة.(3/224)
رواه الترمذي.
911- (18) وعن طلق بن علي الحنفي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينظر الله عز وجل إلى صلاة عبد لا يقيم فيها صلبه بين خشوعها وسجودها)) . رواه أحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأما أهل اللغة فالإقعاء عندهم أن يلصق الرجل أليتيه بالأرض، وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض كما يقعى الكلب، وهذا هو صحيح، وهو أشبه بكلام العرب، وليس الإقعاء في السباع إلا كما قلناه- انتهى. والزمخشري حين فسر الحديث في النهي في كتابي "الفائق" و"الأساس" إنما فسر الإقعاء بما فسره به أهل اللغة فقط، واختار الجمع المذكور بعض الأئمة الحنفية أيضاً كابن الهمام وغيره. وأما عامة الحنفية فكرهوا الإقعاء مطلقاً، لكن قالوا: كراهة إقعاء الكلب تحريمية، وكراهة الثاني تنزيهه، وحملوا حديث ابن عباس على العذر، أو بيان الجواز. وفيه: أنه لو كان الإقعاء بالمعنى الثاني مكروهاً لم يقل ابن عباس: هي سنة نبيكم، ولم يفعله العبادلة وغيرهم من الصحابة. (رواه الترمذي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه من طريق الحارث بن عبد الله الأعور، وهو ضعيف جداً، رماه الشعبي، وأبوإسحاق، وغيرهما بالكذب، ووثقه ابن معين ولم يتابعه أحد على ذلك بل الجمهور اتفقوا على تضعيفه، وكان عالماً بالفقه، والحساب، والفرائض. وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه، وقد ذكرنا لفظه، وفيه العلاء أبومحمد، قال فيه البخاري وغيره: منكر الحديث، وقال ابن المديني: كان يضع الحديث. وعن سمرة، وأبي هريرة عند أحمد، وعن جابر بن سمرة، وأنس عند البيهقي. قال النووي: أسانيدها كلها ضعيفة.
911- قوله: (الحنفي) بفتح النون نسبة إلى بني حنيفة قبيلة. (لا يقيم فيها صلبه) أي في القومة، بيانها. (بين خشوعها) أي ركوعها. (وسجودها) وإنما سمى الركوع خشوعاً، وهو هيئة الخاشع، تنبيهاً على أن القصد الأولى من تلك الهيئة الخشوع والانقياد، قاله الطيبي. قلت: وذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد نقلاً عن أحمد، والطبراني بلفظ: لا ينظر الله عزوجل إلى صلاة عبد لا يقيم صلبه فيما بين ركوعها وسجودها. والحديث يدل على وجوب الطمأنينة في الاعتدال من الركوع، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وهو الحق. (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. قال الهيثمي والمنذري: رجاله ثقات، وفي الباب عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده. أخرجه أحمد بإسناد جيد، قاله المنذري. وقال الهيثمي: رواه أحمد من رواية عبد الله بن زيد الحنفي، عن أبي هريرة، ولم أجد من ترجمه- انتهى. قال الحافظ في تعجيل المنفعة: وهم الهيثمي في تسمية عبد الله بن زيد، وإنه عبد الله بن بدر، وهو معروف موثق، ولكنه قال: إن عبد الله بن بدر لا يروي عن أبي هريرة إلا بواسطة.(3/225)
912- (19) وعن نافع، أن ابن عمر كان يقول: ((من وضع جبهته بالأرض فليضع كفيه على الذي وضع عليه جبهته، ثم إذا رفع فليرفعهما، فإن اليدين تسجدان
ـــــــــــــــــــــــــــــ
912- قوله: (من وضع جبهته) أي في السجود. (فليضع كفيه) أيضاً. (على الذي وضع) بصيغة الماضي، وفي الموطأ "يضع" بلفظ المضارع. (عليه جبهته) أي على المكان الذي وضع جبهته عليه. قيل: يعني بقربه. (ثم إذا رفع) أي جبهته. (فليرفعهما) أي الكفين أيضاً. (فإن اليدين) أي الكفين. (تسجدان) تعليل لوضع الكفين على الأرض كما وضع الجبهة عليها. وقيل: تعليل لوضع الكفين والرفع كليهما، وإشارة إلى أن سجدة الوجه كما أنه لا بد لها من رفع الرأس كذلك سجدة الكفين لا بد لهما من رفعهما. واختلف فيمن لم يرفع يديه عن الأرض بين السجدتين، ففي قول للمالكية: يبطل صلاته، قال الزرقاني: لأن رفعهما فرض، إذ لا يعتدل من لم يرفعهما. وقال في شرح الكبير: والمعتمد صحة صلاة من لم يرفع يديه عن الأرض حال الجلوس بين السجدتين حيث اعتدل- انتهى. وفي قول ابن عمر هذا إشارة إلى حديث العباس: إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه. أخرجه الترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه، وغيرهم. وإلى حديث ابن عباس: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم. وفيه أيضاً إشارة إلى أنه يستحب أن يستقبل بأصابعه القبلة. واعلم أنه اختلف في تعيين المقصود من قول ابن عمر هذا، فقيل: أراد بيان وجوب وضع اليدين على الأرض للسجود، وقد تقدم أن القول الراجح هو وجوب وضع الأعضاء السبعة جميعاً، وفيها اليدان فيجب وضعهما. وقيل: أراد بيان موضع اليدين في السجود، وأنهما تكونان قريباً من الوجه، وإلى هذا المعنى أشار محمد في موطئه حيث قال بعد ذكر هذا الأثر: وبهذا نأخذ، ينبغي للرجل إذا وضع جبهته ساجداً أن يضع كفيه بحذاء منكبيه- انتهى. والمسألة مختلفة فيها، فكل من ذهب إلى أن الرفع في افتتاح الصلاة إلى المنكبين، جعل وضع اليدين في السجود حيال المنكبين، ويؤيده ما روى البخاري وغيره عن أبي حميد الساعدي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع اليدين حذو المنكبين. ومن ذهب في الرفع في الافتتاح إلى حيال الأذنين جعل وضعهما في السجود حيال الأذنين، وهكذا روي في مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله. قال ابن الهمام: لو قال قائل: إن السنة أن يفعل أيهما تيسر جمعاً للمرويات، بناء على أنه - عليه السلام - كان يفعل هذا أحياناً، وهذا أحياناً، إلا أن بين الكفين أفضل؛ لأن فيه تلخيص المفاجأة المسنونة ما ليس في الآخر، كان حسنا. وقيل: أراد بيان كشف اليدين وإبرازهما في السجود، وإليه مال الزرقاني كما يظهر من شرحه، ويؤيد هذا القول ما رواه مالك قبل هذا عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان إذا سجد وضع كفيه على الذي يضع عليه وجهه. قال نافع: ولقد رأيته في يوم شديد البرد، وأنه ليخرج كفيه من تحت برنس له حتى يضعهما على الحصباء، ويؤيده أيضاً ما رواه ابن أبي شيبة عن أبي هند، قال: قال ابن عمر: إذا سجد أحدكم فليباشر بكفيه الأرض، وهذه(3/226)
كما يسجد الوجه)) . رواه مالك.
(15) باب التشهد
{الفصل الأول}
913- (1) عن ابن عمر، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعد في التشهد، وضع يده اليسرى على
ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة أيضاً مختلفة فيها كما تقدم. قال ابن رشد في البداية: واختلفوا أيضاً هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة وموضوعة على الذي يوضع عليه الوجه، أم ليس ذلك من شرطه؟ فقال مالك: ذلك من شرط السجود، أحسبه شرط تمامه. وقالت جماعة: ليس ذلك من شرط السجود- انتهى. قلت: أقرب الأقوال في بيان الغرض من قول ابن عمر هذا هو القول الأول، ثم الثالث، وأبعدها الثاني، والله أعلم. (كما يسجد الوجه) أي الجبهة والأنف. (رواه مالك) عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه من قوله. ورواه أحمد (ج2: ص6) وأبوداود، والنسائي والحاكم، وصححه من طريق ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفعه فليرفعهما.
(باب التشهد) قال القاضي: سمي الذكر المخصوص تشهداً لاشتماله على كلمتي الشهادة، تغليباً لها على بقية أذكاره لشرفها.
913- قوله: (إذا قعد في التشهد) أي لأجله، وهو أعم من الأول والثاني. (وضع يده اليسرى) أي بطن كفها باسطا لأصابعها مستقبلاً بها القبلة كما يأتي. (على ركبته اليسرى) أي على قربها فوق فخذه اليسرى جمعاً بين الأحاديث. (ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى) وضع اليدين على الركبتين في التشهد مجمع على استحبابه، ولعل حكمة وضعهما على الركبتين المحافظة من العبث والمراعاة للأدب. (وعقد) أي اليمنى. وهذا بظاهره يدل على أن العقد من أول القعود كما هو مذهب الشافعية لا عند الإشارة، أي رفع المسبحة عند قوله: لا إله إلا الله، كما هو مختار الحنفية. قال القاري في تزيين العبارة: المعتمد عندنا لا يقعد إلا عند الإشارة، لاختلاف ألفاظ الحديث، وبما اخترنا يحصل الجمع بين الأدلة، فإن بعضها يدل على أن العقد من أول القعود، وبعضها يشير إلى أنه لا عقد أصلاً مع الاتفاق على تحقيق الإشارة- انتهى. قلت: لا اختلاف بين ألفاظ الحديث أصلاً، فإن الروايات التي فيها ذكر القبض أو العقد كلها ظاهرة في أن القبض من ابتداء الجلوس لا عند الإشارة، وأما الاقتصار في بعض الروايات على مجرد الوضع والإشارة(3/227)
ثلاثة وخمسين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بدون ذكر القبض فليس فيها أدنى إشارة إلى عدم القبض، فإنها مطلقة تحمل على الروايات التي فيها التنصيص بذكر القبض، حمل المطلق على المقيد. وأما قول ابن الهمام: إن وضع الكف مع قبض الأصابع لا يتحقق حقيقة، فالمراد وضع الكف ثم قبض الأصابع بعد ذلك للإشارة، ففيه أن ذلك إنما يتم لو كان المراد بوضع الكف اليمنى بسطها، ولا دليل على ذلك، بل في قوله: "ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها" إشعار ظاهر بقبض اليمنى من أول القعود، وإشارة بينة إلى أنه لم يبسط اليمنى مطلقاً، بل كان وضعها مع عقد الأصابع وقبضها. والحاصل أن الروايات بظاهرها تدل على المعية لا البعدية. ولو سلم أن القبض كان عند الإشارة فلا يضرنا ذلك بل يوافقنا؛ لأن ظاهر الأحاديث يدل على أن الإشارة من ابتداء الجلوس، ولم أر حديثاً صحيحاً يدل عل كون الإشارة عند قوله "لا إله إلا الله" خاصة. وأما ما ورد في بعض الروايات عند أحمد، والبيهقي من قول الصحابي في بيان فعله - صلى الله عليه وسلم - "ولكنه التوحيد" أو "إنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك يوحد بها ربه عزوجل" أو "يشير بها إلى التوحيد" فليس فيه دليل على كون الإشارة أي رفع المسبحة عند قوله: لا إله إلا الله، بل فيه بيان حكمة الإشارة، يعني أنها للتوحيد، فإذا ثبت أن الإشارة من أول القعود وقد قالوا: إن القبض كان للإشارة ثبت أن القبض كان من ابتداء القعود وأوله، لا عند قوله: لا إله إلا الله. (ثلاثة وخمسين) وهو أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى، ويرسل المسبحة، ويضم الإبهام إلى أصل المسبحة مرسلة. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: وصورتها أن يجعل الإبهام معترضة تحت المسبحة- انتهى. وهذه هي إحدى الهيئات الواردة في وضع اليد اليمنى على الركبة اليمنى حال التشهد. والثانية: أن يقبض الأصابع كلها على الراحة، ويشير بالمسبحة، ففي رواية لمسلم من حديث ابن عمر مرفوعاً: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام. والثالثة: أن يعقد الحنصر والبنصر، ويرسل المسبحة ويحلق الإبهام والوسطى كما هو منصوص في حديث وائل ابن حجر الآتي. والرابعة: أن يضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى ويشير بالسبابة، ويضع إبهامه على إصبعه الوسطى كما في حديث ابن زبير الآتي، ولا منافاة بين هذه الأحاديث لجواز وقوع الكل في الأوقات المتعددة، فيكون الكل جائزاً. قال الرافعي: الأخبار وردت بها جميعاً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع مرة هكذا، ومرة هكذا. وقال الأمير اليماني: الظاهر أنه مخير بين هذه الهيئات- انتهى. والمختار الأحسن عند الحنفية والحنابلة هو التحليق. وقال البيهقي بعد رواية حديث وائل: ونحن نجيزه ونختار ما روينا في حديث ابن عمر، ثم ما روينا في حديث ابن الزبير لثبوت خبرهما، وقوة سندهما- انتهى. وقد رام بعضهم الجمع بين حديث ابن الزبير، ورواية العقد ثلاثة وخمسين، بأن يكون المراد بقوله: "على إصبعه الوسطى" أي وضعها قريباً من أسفل الوسطى، وحينئذٍ يكون بمعنى العقد ثلاثة وخمسين، وتكون الهيئات ثلاثة لا أربعة، وهذا هو الظاهر. وأما ما ورد في الرواية الآتية من حديث ابن عمر، وبعض روايات ابن الزبير من ذكر وضع(3/228)
وأشار بالسبابة. وفي رواية: ((كان إذا جلس في الصلاة، وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام، يدعوا بها، ويده اليسرى على ركبته، باسطها عليها)) . رواه مسلم.
914- (2) وعن عبد الله بن الزبير، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اليدين على الركبتين، والإشارة بالمسبحة بدون ذكر القبض، فليس ذلك دليلاً على هيئة أخرى غير ما تقدم، فإنها مطلقة فتحمل بعض الروايات التي وردت مقيدة بذكر القبض، والله أعلم. (وأشار بالسبابة) قال الطيبي: أي رفعها عند قول "إلا الله" ليطابق القول الفعل على التوحيد. وقال القاري: وعندنا يرفعها عند "لا إله" ويضعها عند "إلا الله" لمناسبة الرفع للنفي، وملائمة الوضع للإثبات، ومطابقة بين القول والفعل حقيقة. وقال الأمير اليماني: موضع الإشارة عند قوله "لا إله إلا الله" لما رواه البيهقي من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وينوي بالإشارة التوحيد، والإخلاص فيه، فيكون جامعاً في التوحيد بين الفعل، والقول، والاعتقاد. قلت: حاصل ما رواه البيهقي وغيره في ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يشير بالمسبحة إلى التوحيد، أو يريد بها التوحيد، أو يوحد بها ربه عز وجل، وليس فيه كما ترى تصريح بالإشارة عند قوله "لا إله إلا الله" خاصة. ولا نفي الإشارة قبل ذلك من ابتداء الجلوس. ومقصود الصحابي منه إنما هو بيان حكمة الإشارة ونكتتها، لا بيان محل الإشارة ووقتها. وظاهر الأحاديث الواردة في هذه المسئلة يدل على الإشارة من ابتداء الجلوس، فالراجح عندنا أن يعقد من أول القعود مشيراً بالمسبحة، مستمراً على ذلك إلى أن يسلم، والله أعلم. قال العلماء: خصت السبابة بالإشارة لاتصالها بنياط القلب، فتحريكها سبب لحضوره. (وفي رواية: كان إذا جلس في الصلاة) أي للتشهد كما بينته الرواية الأولى. (وضع يديه على ركبتيه) لكن مع اختلاف الهيئة كما علم من الروايات السابقة والآتية. (ورفع إصبعه) ظاهره أن رفع الإصبع، أي الإشارة بها كان في ابتداء الجلوس. (اليمنى التي تلي الإبهام) وهي المسبحة. (يدعو بها) وفي مسلم "فدعا بها" أي أشار بها. قال الطيبي: إما أن يضمن "يدعو" معنى "يشير" أي يشير بها داعياً إلى وحدانية الله بالإلهية، وإما أن يكون حالاً، أي يدعو مشيراً بها. قال ابن حجر: يدعو بها، أي يتشهد بها، وإنما سمى التشهد دعاء لاشتماله عليه، إذ من جملته "السلام عليك أيها النبي" إلى "الصالحين"، وهذا كله دعاء، وإنما عبر عنه بلفظ الإخبار لمزيد التوكيد. (ويده اليسرى) قال القاري: بالنصب في النسخ المصححة، وفي نسخة بالرفع، وهو الظاهر. (باسطها) بالنصب على الحال ويجوز الرفع. (عليها) أي حال كونه باسطاً يده على الركبة من غير رفع إصبع، وفيه إشعار بكون اليمنى مقبوضة. (رواه مسلم) الرواية الثانية أخرجها أيضاً أحمد والترمذي والنسائي.
914- قوله: (وعن عبد الله بن الزبير) بن العوام القرشي الأسدي يكنى أبابكر المكي ثم المدني، وهو أول مولود في الإسلام للمهاجرين بالمدينة، هاجرت به أمه أسماء بنت أبي بكر إلى المدينة وهي حامل، فولد بعد الهجرة في السنة الأولى(3/229)
إذا قعد يدعوا وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأذن أبوبكر في أذنه، ولدته أمه بقباء، وأتت به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعته في حجره، فدعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه وحنكه، فكان أول شيء دخل في جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعا له وبرك عليه، وكان كثير الصيام والصلاة شهيما ذا أنفة، شديد البأس فصيحا لسنا، قابلا للحق، وصولا للرحم، اجتمع له ما لم يجتمع لغيره. أبوه الزبير حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمه أسماء بنت الصديق، وجده لأمه الصديق، وجدته صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخالته عائشة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثمان سنين وحضر وقعة اليرموك. وشهد خطبة عمر بالجابية وبويع له بالخلافة عقيب موت يزيد بن معاوية سنة. (64) وغلب على الحجاز والعراقيين واليمن ومصر، وأكثر الشام. وكانت ولايته تسع سنين. وقتله حجاج بن يوسف بمكة، وصلبه يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادي الأخرى سنة. (73) وحج بالناس ثماني حجج. ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن تسع سنين. ومناقبه وأخباره كثيرة جداً، وخلافته صحيحة خرج عليه مروان بعد أن بويع له بالآفاق كلها إلا بعض قرى الشام. فغلب مروان على دمشق، ثم غزا مصر فملكها. ومات بعد ذلك، فغزا بعد مدة عبد الملك بن مروان العراق، فقتل مصعب بن الزبير ثم أغزى الحجاج مكة فقتل عبد الله. وقد كان عبد الله أولاً امتنع من بيعة يزيد بن معاوية، وسمى نفسه عائذ البيت، وامتنع بالكعبة، فأغزى يزيد جيشا عظيما فعلوا بالمدينة في وقعة الحرة ما اشتهر، ثم ساروا من المدينة إلى مكة، فحاصروا ابن الزبير، ورموا البيت بالمنجنيق، وأحرقوه، فجاءهم نعى يزيد بن معاوية وهم على ذلك، فرجعوا إلى الشام، فلما غزى الحجاج مكة كما فعل أسلافه، ورمى البيت بالمنجنيق، وارتكب أمرا عظيما، وظهرت حينئذٍ شجاعة ابن الزبير فحمى المسجد وحده، وهو في عشر الثمانين بعد أن خذله عامة أصحابه حتى قتل صابرا، محتسبا، مقبلا، غير مدبر، رضي الله عنه. له ثلاثة وثلاثون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بستة، وانفرد مسلم بحديثين. روى عنه خلق كثير. (إذا قعد يدعو) أي يتشهد. قال الطيبي: سمى التشهد دعاء لاشتماله عليه، فإن قوله: سلام عليك، وسلام علينا، دعاء. (وأشار بإصبعه السبابة) أي من ابتداء القعود للتشهد. (ووضع إبهامه) أي من أول جلوسه للتشهد. (على إصبعه الوسطى) تقدم الكلام عليه. (ويلقم) من الإلقام أي أحياناً. (كفه اليسرى ركبته) أي اليسرى، أي يعطف أصابعها على الركبة. يقال: ألقمت الطعام، إذا أدخلته في فيك. أي يدخل ركبته في راحة فه اليسرى حتى صارت ركبته كاللقمة في كفه. قال ابن حجر: ولا ينافي هذا ما مر من أن السنة وضع بطن كفيه على فخذيه قريباً من ركبتيه، بحيث تسامتها رؤس الأصابع؛ لأن ذاك بيان لكمال السنة. وهذا بيان لأصل السنة- انتهى. وقال النووي: قد أجمع العلماء على استحباب وضع اليد اليسرى عند الركبة، أو على الركبة.(3/230)
رواه مسلم.
915- (3) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنا إذا صلينا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان. فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، أقبل علينا بوجهه، قال: لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة، فليقل:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبعضهم يقول بعطف أصابعها على الركبة، وهو معنى قوله: ويلقم كفه اليسرى ركبته- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الدارقطني.
915- قوله: (قلنا) أي في قعود التشهد قبل مشروعيته. (السلام على الله قبل عباده) في المجمع: أي قلنا هذا اللفظ قبل "السلام على عباده"- انتهى. فجعل الظرف متعلقاً بالقول، والظاهر أنه من جملة المقول، وكأنهم رأوا "السلام" من قبيل الحمد والشكر فجوزوا ثبوته لله تعالى أيضاً. (السلام على فلان) وفي رواية "السلام على فلان وفلان" مكرراً. زاد في رواية ابن ماجه "يعنون الملائكة"، وللسراج: فنعد من الملائكة ما شاء الله. والأظهر أنه عليه السلام لم يسمعه إلا حين أنكره عليهم. وقوله "كنا" ليس من قبيل المرفوع حتى يكون منسوخاً بقوله "إن الله هو السلام"؛ لأن النسخ إنما يكون فيما يصح معناه، وليس تكرر ذلك منهم مظنة سماعة له منهم؛ لأنه في التشهد، والتشهد سر. (فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي فرغ من صلاته. (أقبل علينا بوجهه) يعني لا بمجرد الكلام، وقيل: إنه تأكيد، والجملة بدل من "انصرف" وجواب "لما" قوله. (قال: لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام) أي هو مالك السلامة ومعطيها، فلا يحتاج إلى أن يدعى له بالسلامة، كيف وهو المرجوع إليه بالمسائل والمدعو على الحالات، أو أنه تعالى هو السالم عن الآفات التي لأجلها يطلب السلام عليه، ولا يطلب السلام إلا على من يمكن له عروض الآفات، فلا يناسب السلام عليه تعالى. (فليقل) فيه دليل على وجوب قراءة التشهد في القعدة الأولى والثانية، وإليه ذهب أحمد وإسحاق، لكن عدا الحنابلة التشهد الأول واجباً، والثاني ركناً، وقريب منه مذهب الشافعية، فإنهم جعلوا الأول من الأبعاض والسنن التي تنجبر بالسجود، وجعلوا الآخر من الأركان. وعند الحنفية التشهد الثاني واجب، وأما الأول فقيل: واجب، وهو ظاهر الرواية، وقيل: سنة. وأما مالك فقال: بسنية التشهد مطلقاً كما قال الزرقاني. ويدل على الوجوب أيضاً قول ابن مسعود عند النسائي والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح: كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض علينا التشهد. فإن ظاهره أن التشهد في محله فرض ولذلك بوب النسائي عليه بلفظ "باب إيجاد التشهد". وقيل: يحتمل أن المراد قبل أن يشرع التشهد، واستدل على الوجوب أيضاً بما في رواية لأحمد: وأمره أن يعلمه الناس. وبما روي عن عمر، أنه قال: لا تجزيء صلاة إلا بتشهد.(3/231)
التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه سعيد بن منصور في سننه، والبخاري في تاريخه. (التحيات) جميع تحية، ومعناها: السلام، وقيل: البقاء. وقيل: العظمة. وقيل: السلامة من الآفات والنقص. وقيل: الملك. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركاً بين هذه المعاني وكونها بمعنى السلام أنسب هنا. وقال الخطابي والبغوي: لم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله، فلهذا أبهمت ألفاظها، واستعمل منها معنى التعظيم، فقال، قولوا: التحيات لله، أي أنواع التعظيم له. وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيى إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية تخصه، فلهذا جمعت، فكأن المعنى: التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقة لله. (والصلوات) قيل: الخمس، أو ما هو أعم من ذلك من الفرائض والنوافل في كل شريعة. وقيل: المراد العبادات كلها. وقيل: الدعوات. وقيل: المراد الرحمة. وقيل، التحيات: العبادات القولية، والصلوات: العبادات الفعلية، والطيبات: الصدقات المالية. (والطيبات) أي ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به. وقيل الطيبات ذكر الله. وقيل: الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء. وقيل: الأعمال الصالحة، وهو أعم من القول والفعل. قال ابن دقيق العيد: إذا حمل التحية على السلام فيكون التقدير: التحيات التي تعظم بها الملوك مثلاً مستحقة لله. وإذا حمل على البقاء فلا شك في اختصاص الله به. وكذلك الملك الحقيقي والعظمة التامة، وإذا حملت الصلاة على العهد أو الجنس كان التقدير: إنها لله واجبة لا يقصد بها غيره. وإذا حملت على الرحمة فيكون معنى قوله "لله" أنه المتفضل بها؛ لأن الرحمة التامة لله يؤتيها من يشاء، وإذا حملت على الدعاء فظاهر. وأما الطيبات فقد فسرت بالأقوال، ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى فتشمل الأقوال، والأفعال، والأوصاف، وطيب الأوصاف كونها بصيغة الكمال، وخلوصها عن شوائب النقص-انتهى. قال البيضاوي: يحتمل أن يكون الصلوات، والطيبات معطوفتين على "التحيات"، ويحتمل أن يكون "الصلوات" مبتدأ وخبرها محذوف، و"الطيبات" معطوفة عليها. والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة التي قبلها، والثانية لعطف المفرد على الجملة. وقال العيني: كل واحد من "الصلوات والطيبات" مبتدأ حذف خبره، أي الصلوات لله، والطيبات لله، فالجملتان معطوفتان على الأولى وهي "التحيات لله". (السلام) التعريف إما للعهد التقديري، أي ذاك السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك، أو للجنس، والمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل واحد، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله: {وسلام على عباده الذين اصطفى} وقيل: معنى "السلام عليك" الدعاء، أي سلمت من المكارة، وقيل معناه اسم السلام عليك، كأنه برك عليه باسم الله عزوجل. (عليك) أمرهم أن يفردوه بالسلام عليه لشرفه، ومزيد حقه عليهم، ثم أمرهم أن يخصصوا أنفسهم أولاً؛ لأن الاهتمام بها أهم، ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين، إعلاماً منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم. (أيها النبي) قيل: الحكمة في العدول عن الوصف بالرسالة مع أن الوصف بها أعم في حق البشر وأشرف أن يجمع له الوصفين،(3/232)
لكونه وصفه بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة، لكن التصريح بهما أبلغ. والحكمة في تقديم الوصف بالنبوة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله: {اقرأ باسم ربك} [96: 1] قبل قوله {يا أيها المدثر قم فأنذر} [74: 1، 2] . واعلم أن الأحاديث المرفوعة كلها متفقة على قوله في التشهد "السلام عليك أيها النبي" أي على لفظ الخطاب وحرف النداء، نعم ترك بعض الصحابة كابن مسعود وغيره الخطاب بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، ففرقوا بين حياته - عليه السلام - ووفاته، وقالوا "السلام على النبي" كما عند البخاري في الإستيذان، وأبي عوانة في صحيحه، والسراج والجوزقي وأبي نعيم الأصبهاني والبيهقي وعبد الرزاق، لكن جمهور الصحابة والتابعين وغيرهم من المحدثين والفقهاء مطبقون على التشهد المرفوع المروى بصيغة الخطاب والنداء، أي على عدم المغايرة بين زمانه - صلى الله عليه وسلم - وما بعده، وعلى هذا فلا بد من بيان توجيه الخطاب؛ لأنه يرد عليه أنه كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع كونه منهياً عنه في الصلاة؟ والجواب أن ذلك من خصائصه - عليه السلام -، فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق؟ كأن يقول "السلام على النبي" فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين. أجاب الطيبي مما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه الصحابة. وقال ابن الملك: روى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به أثنى على الله تعالى بهذه الكلمات، فقال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال عليه السلام: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله-انتهى. قال القاري: وبه يظهر وجه الخطاب، وأنه على حكاية معراجه – عليه السلام – في آخر الصلاة التي هي معراج المؤمنين – انتهى. وقال في "مسك الختام" في شرح " بلوغ المرام" بالفارسية ما معربه: ووجه الخطاب إبقاء هذا الكلام على ما كان في الأصل، فإن ليلة المعراج قد خاطب الله تعالى رسوله بالسلام، فأبقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت تعليم الأمة على ذلك الأصل، ليكون ذك مذكراً لتلك الحال-انتهى. وتمام بيان القصة مع شرح ألفاظ التشهد في الإمداد كذا في رد المختار. وهذا المروي لم أقف على سنده، فإن كان ثابتاً فنعم التوجيه هذا، لكن يقصد على هذا التوجيه بألفاظ التشهد معانيها مرادة له على وجه الإنشاء كأنه يحيى الله تعالى ويسلم على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وعلى نفسه، وأولياءه، ولا يقصد مجرد الإخبار والحكاية عما وقع في المعراج عنه - صلى الله عليه وسلم -. وقد ظهر بما ذكرنا عدم صحة استدلال القبوريين بصورة النداء والخطاب في التشهد على حضوره - صلى الله عليه وسلم - في كل موضع، وعلى جواز ندائه في غير التشهد، وهذا لأن كون النداء فيه نداء حقيقياً ممنوع، فإنه ليس فيه طلب شئ، بل هو نداء مجازي يطلب به استحضار المنادي في القلب فيخاطب المشهود بالقلب. قال الإمام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: وقوله: يا محمد! يا نبي الله! هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب فيخاطب المشهود بالقلب كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،(3/233)
ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عبد الله الصالحين – فانه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب-انتهى. وعلى هذا فليس هذا النداء مما يدعيه هؤلاء القبوريون. وقال بعض شيوخ مشائخنا ما حاصله: أن تشهده - صلى الله عليه وسلم - كان مثل ما علم الأمة، فكان - عليه السلام - يقول في التشهد "السلام عليك أيها النبي" كما أمر به الأمة، كما هو مصرح في حديث عبد الله بن الزبير عند الطحاوي، والبزار، والطبراني، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد والطبراني. قال الزرقاني في شرح المواهب نقلاً عن النووي بعد ذكر ألفاظ التشهد ما نصه: وفي هذا فائدة حسنة، وهي أن تشهده - عليه السلام - بلفظ تشهدنا- انتهى. ومن المعلوم أن التشهد المروي في الأحاديث عام للحاضرين من الصحابة، وللغائبين والموجودين في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، ولمن جاء بعده، إذا الخطاب في قوله: "إذا صلى أحدكم" وقوله: "ولكن قولوا" يشمل الحاضرين والغائبين، والموجودين، والمعدومين الكائنين إلى يوم القيامة مثل سائر الخطابات الواردة في الوضوء، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغير ذلك، وليس هناك حديث يدل على أن للغائبين والمعدومين تشهداً آخر غير هذا التشهد، وأيضاً علمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - التشهد هكذا بلفظ الخطاب والنداء بدون التفريق بين الحاضرين منهم والغائبين عنه مع أن الصحابة كانوا يغيبون عنه - صلى الله عليه وسلم - في الغزوات، والسرايا، وغير ذلك من الأسفار، ولا يغايرون بين الحضور عنده والغيبة عنه، ولم يثبت ما تقدم من حكاية المعراج، فهذا كله يدل على أن ذلك مما لم نؤت علمه فينبغي لنا أن لا نبحث فيه، ونكل أمره إلى الله، قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [17: 36] ، وإذا يكون هذا الخطاب معدولاً عن العقل والقياس، فيكون مقصوراً على مورده، فلا يقتضى هذا الخطاب جواز خطابه - صلى الله عليه وسلم - ونداءه في غير تشهد الصلاة- انتهى. (ورحمة الله) أي إحسانه. (وبركاته) جمع بركة، أي زيادة من كل خير. (السلام) أي الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء. (علينا) أي محشر الحاضرين، يريد به نفسه، والحاضرين من الإمام، والمأمومين، والملائكة، والجن، وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء، وفي الترمذي مصححاً عن أبيّ كعب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، وأصله في صحيح مسلم. (وعلى عباد الله الصالحين) الأشهر في تفسير الصالح أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله، وحقوق عباده، وتتفاوت درجاته. قال الحكيم الترمذي: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة فليكن عبداً صالحاً، وإلا حرم هذا الفضل العظيم. (فإنه) أي الشأن أو المصلي. (إذا قال ذلك) أي قوله "وعلى عباد الله الصالحين" وهو كلام معترض بين قوله "الصالحين" وبين قوله "أشهد" إلى آخره. وإنما قدمت للاهتمام بها لكونه أنكر عليهم عد الملائكة واحداً واحداً، ولا يمكن استيعابهم لهم مع ذلك فعلمهم لفظاً يشمل الجميع مع غير الملائكة من النبيين، والمرسلين، والصديقين، وغيرهم بغير مشقة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم -، وقد ورد في بعض طرقه سياق التشهد متوالياً، وتأخير الكلام المذكور بعد، وهو من تصرف الرواة. (أصاب) فاعله ضمير ذلك. (كل عبد صالح) قيد به؛ لأن التسليم لا يصلح للمفسد.(3/234)
في السماء والأرض - أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعوه)) . متفق عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(أشهد أن لا إله إلا الله) زاد ابن أبي شيبة "وحده لا شريك له" وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ. (ثم ليتخير) أي ليختر. (من الدعاء أعجبه إليه) أي أحب الدعاء وأرضاه من الدين، والدنيا، والآخرة. (فيدعوه) أي فيقرأ الدعاء الأعجب. وقيل التقدير: فيدعوا به. كما في رواية أبي داود، فهو من باب الحذف والإيصال. وقيل التقدير: فيدعوا الله به. فحذف المفعول الثاني للعلم به. وفيه دليل على مشروعية الدعاء في الصلاة قبل السلام من أمور الدنيا والآخرة ما لم يكن إثماً؛ لأن ظاهر قوله "ليتخير من الدعاء أعجبه إليه" شامل لكل دعاء مأثور وغيره مما يتعلق بالآخرة كقوله "اللهم أدخلني الجنة". أو الدنيا مما يشبه كلام الناس كقوله "اللهم ارزقني زوجة جميلة، ودراهم جزيلة". وبذلك أخذ الشافعية، والمالكية ما لم يكن إثماً. وقصر الحنفية على ما يناسب المأثور فقط مما لا يشبه كلام الناس محتجين بقوله - عليه السلام -: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس". واحتج الأولون بظاهر حديث ابن مسعود، بقوله عليه السلام: سلوا الله حوائجكم حتى الشسع لنعالكم، والملح لقدوركم. واستثنى بعض الشافعية من مصالح الدنيا ما فيه سوء أدب كقوله: "اللهم أعطني امرأة جميلة" ثم يذكر أوصاف أعضائها. وقال ابن المنير: الدعاء بأمور الدنيا في الصلاة حظر، وذلك أنه قد تلتبس عليه الدنيا الجائزة بالمحظورة، فيدعوا بالمحظورة فيكون عاصياً متكلماً في الصلاة، فتبطل صلاته وهو لا يشعر، ألا ترى أن العامة يلتبس عليها الحق بالباطل، فلو حكم حاكم على عامي بحق فظنه باطلاً، فدعا على الحاكم باطلا بطلت صلاته، وتمييز الحظوظ الجائزة من المحرمة عسير جداً، فالصواب أن لا يدعوا بدنياه إلا على تثبت من الجواز- انتهى. ثم ظاهر اللفظ يدل على وجوب الدعاء قبل السلام بعد التشهد؛ لأن التخيير في آحاد الشيء لا يدل على عدم وجوبه كما قال ابن رشد، وهو المتقرر في الأصول، وقد ذهب إلى الوجوب أهل الظاهر، وروي عن أبي هريرة، وادعى بعض العلماء الإجماع على عدم الوجوب. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. واعلم أن حديث التشهد قد رواه أربعة وعشرون صحابياً، ذكر الحافظ في التلخيص (ص 102، 103) أسماءهم مع تخريج أحاديثهم، وبيان اختلاف ألفاظهم، واقتصر المصنف على إيراد أحاديث ثلاثة منهم: ابن مسعود، وابن عباس، وجابر. والروايات في ألفاظ التشهد مختلفة جداً، ولذلك اختلف الأئمة في اختيار بعضها دون بعض، وترجيح بعضها على بعض مع القول بجواز كل ما ثبت وصح، فاختار مالك تشهد عمر الموقوف عليه، ولفظه نحو حديث ابن عباس التالي إلا أنه قال "الزاكيات" بدل "المباركات"، وإنما رجح مالك تشهد عمر؛ لأنه علمه الناس على المنبر، ولم ينازعه أحد، فكان إجماعاً،(3/235)
ودل على تفضيله. وفيه: أن عدم إنكار الصحابة على عمر إنما يدل على جواز تشهده وإجزائه، لا على كونه أفضل التشهدات لاختيار أكثر الصحابة غير تشهده كما تدل عليه الروايات، ولم يكونوا ينكرون على أحد في الأمور المباحة، على أن تشهد عمر موقوف عليه. قال الدارقطني: لم يختلفوا في أنه موقوف عليه. وقال ابن عبد البر: ليس عند مالك في التشهد شيء مرفوع وإن كان غيره قد رفع ذلك، ومعلوم أنه لا يقال بالرأي. ولما علم مالك أن التشهد لم يكن إلا توقيفاً اختار تشهد عمر؛ لأنه كان يعلمه الناس، وهو على المنبر من غير نكير. قال: وتسليم الصحابة لعمر ذلك مع اختلاف رواياتهم دليل الإباحة والتوسعة. وقال ابن قدامة في المغني: أما حديث عمر فلم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما هو من قوله، وأكثر أهل العلم من الصحابة على خلافه، فكيف يكون إجماعاً على أنه ليس الخلاف في إجزائه في الصلاة، إنما الخلاف في الأولى والأحسن، والأحسن تشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي علمه أصحابه. وأخذوا به- انتهى. ولو سلم أن سكوت الصحابة وعدم إنكارهم على عمر دليل على إجماعهم فقد وقع إجماعهم على تشهد ابن مسعود قبل ذلك، فروى ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن ابن عمر: أن أبابكر كان يعلمهم التشهد على المنبر كما يعلم الصبيان في المكتب: التحيات لله، والصلوات، والطيبات. فذكر مثل حديث ابن مسعود. قال الحافظ: ورواه أبوبكر بن مردويه في كتاب التشهد له من رواية أبي بكر مرفوعاً، وإسناده حسن. واختار الشافعي تشهد ابن عباس الآتي، وقال هو أفضل التشهد. واختار أحمد، وأبوحنفية، وجمهور الفقهاء، وأهل الحديث تشهد ابن مسعود، قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين، وهو قول الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق-انتهى. وقال الحافظ: وذهب جماعة من محدثي الشافعية كابن المنذر إلى اختيار تشهد ابن مسعود-انتهى. وذكروا لترجيحه وجوهاً كثيرة، منها: أن الأئمة الستة اتفقوا على تخريج حديثه لفظاً ومعنى، وذلك نادر، وأعلى درجات الصحة عند المحدثين ما اتفق عليه الشيخان فكيف إذا اتفق عليه الستة لفظاً ومعنى. ومنها: أنه أجمع العلماء على أن حديثه أصح ما روي في التشهد. قال الترمذي: هو أصح حديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد. وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد قال: هو عندي حديث ابن مسعود، وروي من نيف وعشرين طريقاً، ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه، ولا أصح أسانيد، ولا أشهر رجالاً، ولا أشد تظافراً بكثرة الأسانيد والطرق، ذكره الحافظ في التلخيص، وقال بعد ذكره في الفتح: ولا اختلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة، وقال محمد بن يحيى الذهلي: حديث ابن مسعود أصح ما روي في التشهد. وقال بريدة بن الحصيب: ما سمعت في التشهد أحسن من حديث ابن مسعود، رواه الطبراني، وقال النووي: أشدها صحة باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس. ومنها: أن الرواة عن ابن مسعود من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره، قال مسلم: إنما اجتمع(3/236)
916- (4) وعن عبد الله بن عباس، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الناس على تشهد ابن مسعود؛ لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضاً، وغيره قد اختلف أصحابه، ذكره الحافظ في الفتح. ومنها: أنه تلقاه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقيناً؛ فروى الطحاوي من طريق الأسود بن يزيد عنه، قال: أخذت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقننيه كلمة كلمة. ومنها: أن فيه تأكيد التعليم ما ليس في غيره؛ ففي البخاري في الاستئذان: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد وكفى بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن. وفي أبي داود بسنده إلى القاسم قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده، فعلمه التشهد في الصلاة. ومثل هذا لا يوجد في غيره. ومنها: أن أبا بكر علمه الناس على المنبر كما تقدم. ومنها: أن رواته لم يختلفوا في حرف منه بل نقلوه مرفوعاً على صفة واحدة بخلاف غيره. ومنها: أنه ورد بصيغة الأمر مثل قوله "فليقل" وقوله "قولوا" ونحو ذلك، وأقله الندب والاستحباب بخلاف غيره، فإنه مجرد حكاية. ومنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم ابن مسعود التشهد وأمره أن يعلمه الناس، أخرجه أحمد. قال الحافظ بعد ذكره: ولم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيته. ومنها: أنه اتفق على روايته جماعة من الصحابة مثل أبي بكر، ومعاوية، وسلمان، وغيرهم. قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص578) : وقد رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معه ابن عمر، وجابر، وأبو موسى، وعائشة. وقال أيضاً (ج1: ص579) : وقد اتفق على روايته جماعة من الصحابة فيكون أولى. ومنها: أنه أخذ به جمهور الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من الفقهاء، وأهل الحديث بخلاف تشهد غيره. ومنها: ما ذكره في المغني: قال عبد الرحمن بن الأسود: عن أبيه، قال: حدثنا عبد الله بن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه التشهد في الصلاة، قال: وكنا نتحفظه عن عبد الله كما نتحفظ حروف القرآن: الواو، والألف. (أخرجه البزار، ورجاله رجال الصحيح) قال ابن قدامة: وهذا يدل على ضبطه، فكان أولى. ومنها: ما قال الحافظ في الفتح: ورجح أيضاً بثبوت الواو في الصلوات والطيبات، وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون كل جملة ثناء مستقلاً، بخلاف ما إذا حذفت، فإنها تكون صفة لما قبلها، وتعدد الثناء في الأول صريح فيكون أولى، ولو قيل: إن الواو مقدرة في الثاني- انتهى. وقد ذكروا لترجيح تشهد ابن مسعود وجوهاً أخرى وفيما ذكرناه كفاية لمن له بصيرة، فلا يشك في أن حديث ابن مسعود أرجح من جميع الأحاديث المروية في التشهد فالأخذ به أولى وأحسن، والله اعلم.
916- قوله: (يعلمنا التشهد) سمى باسم جزءه الأشرف كما هو القاعدة عند البلغاء في تسمية الكل باسم البعض. (كما يعلمنا السورة من القرآن) أي بكمال الاهتمام لتوقف الصلاة عليه إجزاء، ففيه دلالة ظاهرة على اهتمامه(3/237)
فكان يقول: التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)) . رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وإشارة إلى وجوبه. (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله) المباركات جمع مباركة، وهي كثيرة الخير، وقيل: النامية، قال النووي: تقديره "والمباركات، والصلوات، والطيبات" كما في حديث ابن مسعود وغيره، لكن حذفت الواو اختصاراً، وهو جائز معروف في اللغة- انتهى. قلت: حذف واو العاطف ولو كان جائزاً لكن التقدير خلاف الظاهر؛ لأن المعنى صحيح بدون تقديرها، فيكون جملة واحدة في الثناء، ولو سلم حذف الواو ههنا فتعدد الثناء صريح في تشهد ابن مسعود لذكر الواو فيه فيكون أولى من هذا. (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا) كذا رواه مسلم وأبوداود وابن ماجه، وأحمد في رواية له بتعريف السلام في الموضعين. ورواه الترمذي والنسائي والشافعي وأحمد في طريق أخرى بتنكير السلام فيهما. قال النووي: يجوز فيهما حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل، وهو الموجود في روايات الصحيحين. قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف ذلك في حديث ابن عباس، وهو من أفراد مسلم- انتهى. (وأشهد أن محمداً رسول الله) انفرد ابن عباس بهذا اللفظ، إذ في سائر التشهدات الواردة عن عمر، وابن مسعود، وجابر، وأبي موسى، وعبد الله بن الزبير كلها بلفظ "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". وأما قول الرافعي المنقول أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في تشهده "وأشهد أني رسول الله" فمردود بأنه لا أصل له، قاله القاري. قلت: روى النسائي وابن ماجه حديث ابن عباس هذا بلفظ: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. هذا، وقد تقدم أن الشافعي اختار تشهد ابن عباس. قال الحافظ في الفتح: قال الشافعي بعد أن أخرج حديث ابن عباس: رويت أحاديث في التشهد مختلفة، وكان أحب إلىّ؛ لأنه أكملها. وقال في موضع آخر، وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس: لما رأيته واسعاً، وسمعته عن ابن عباس صحيحا، كان عندي أجمع وأكثر لفظاً من غيره، وأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح، ورجحه بعضهم لكونه مناسباً للفظ القرآن في قوله تعالى: {تحية من عند الله مباركة طيبة} [24: 61] ، وأما من رجحه بكون ابن عباس من أحداث الصحابة فيكون أضبط لما روى، أو بأنه أفقه من رواه، أو يكون إسناد حديثه حجازياً، وإسناد ابن مسعود كوفياً، وهو مما يرجح به، فلا طائل فيه لمن أنصف-انتهى. (رواه مسلم) قال المجد بن تيمية في المنتقى بعد ذكر الحديث بلفظ المصنف: رواه مسلم، وأبوداود بهذا اللفظ، ورواه الترمذي وصححه كذلك، لكنه ذكر السلام منكراً، ورواه ابن ماجه كمسلم، لكنه قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ورواه الشافعي وأحمد بتنكير السلام، وقالا فيه "وأن محمداً" ولم يذكرا "أشهد" والباقي كمسلم. ورواه أحمد من طريق آخر كذلك لكن بتعريف السلام، ورواه النسائي كمسلم، لكنه نكر السلام، وقال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله- انتهى. والحديث(3/238)
ولم أجد في "الصحيحين" ولا في الجمع بين الصحيحين "سلام عليك" و"سلام علينا" بغير ألف ولام، ولكن رواه صاحب "الجامع" عن الترمذي.
{الفصل الثاني}
917- (5) عن وائل بن حجر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثم جلس فافترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أخرجه أيضاً الدارقطني في إحدى روايتيه بتعريف السلام فيهما. وأخرجه ابن حبان في صحيحه بتعريف السلام الأول وتنكير الثاني. وأخرجه الطبراني بتنكير الأول وتعريف الثاني. (ولا في الجمع) أي للحميدي. (بين الصحيحين) وكأنه لم يقل بينهما؛ لأنه علم، والعلم لا يتغير. ("سلام عليك" و"سلام علينا" بغير ألف ولام) قيل: أصل "سلام عليك" سلمت سلاماً عليك، ثم حذفت الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء لإفادة الثبوت والدوام، ثم زيدت "ال" للعهد الذهني، وقد تقدم توجيهه. (ولكن رواه) ابن الأثير (صاحب الجامع) أي للأصول الست. (عن الترمذي) وقد تقدم أن النسائي أيضاً رواه منكراً، وكذا الشافعي وأحمد والدارقطني في إحدى روايتيهما. ومقصود المصنف أن ذكر البغوي حديث ابن عباس بتنكير السلام في الموضعين في الصحاح مخالف لما في صحيح مسلم، ثم لا يخفى ما في قول المصنف "رواه صاحب الجامع" من التسامح، فإن الصحيح أن يقول: ذكره أو أورده صاحب الجامع؛ لأن ابن الأثير ليس من الرواة.
917- قوله: (عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرفوعاً في كيفية جلسته للتشهد، والأظهر أن يقول المصنف: عن وائل بن حجر أنه قال في صفة صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثم جلس، الخ. (قال) أي وائل بن حجر. (ثم جلس) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا عطف على ما ترك ذكره في الكتاب من صدر الحديث، وهو أن وائل بن حجر قال، قلت: لأنظرن إلى صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي، قال: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستقبل القبلة، فكبر، فرفع يديه حتى حاذتا بأذنيه، ثم أخذ شماله بيمينه، فلما أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، قال: ثم جلس. (فافترش رجله اليسرى) أي وجلس على باطنها، ونصب اليمنى، ففي رواية الطحاوي، وسعيد بن منصور: فرش قدمه اليسرى على الأرض، وجلس عليها. واستدل به الحنفية على تفضيل الافتراش في التشهدين، وأجيب بأن هذا الحديث محمول على التشهد الأول لحديث أبي حميد المتقدم في صفة الصلاة، ولما رواه النسائي في "باب موضع اليدين عند الجلوس للتشهد الأول " عن وائل بن حجر، قال أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة- الحديث. وفيه "وإذا جلس في الركعتين أضجع اليسرى، ونصب اليمنى" الخ. (ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى) أي ممدودة غير مقبوضة. وفي رواية للنسائي: وضع كفه اليسرى(3/239)
وحد مرفقه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض ثنتين، وحلق حلقة، ثم رفع إصبعه، فرأيته يحركها يدعو بها)) . رواه أبوداود والدارمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
على فخذه وركبته اليسرى. (وحد مرفقة) بصيغة الماضي مشددة الدال، عطف على الأفعال السابقة و"على" بمعنى "عن"، أي رفع مرفقه عن فخذه، وجعل عظم مرفقه كأنه رأس وتد، أو "على" بمعناه و"الحد" المنع والفصل بين الشيئين، ومنه سمي المناهي حدود الله. والمعنى: فصل بين مرفقه وجنبه، ومنع أن يلتصقا في حال استعلائهما على الفخذ. وجوز أن يكون "حد" اسماً مرفوعاً مضافاً إلى المرفق على الابتداء، خبره "على فخذه" والجملة حال، أو اسما منصوباً عطفاً على مفعول "وضع" أي وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ووضع حد مرفقه اليمنى، على فخذه اليمنى، وهذا الوجه هو الموافق لما في رواية للنسائي من قوله: وجعل حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، أي جعل غاية المرفق وطرفه مستعلياً على الفخذ مرتفعاً عنه. قال الشوكاني: والمراد كما قال في شرح المصابيح: أن يجعل عظم مرفقه كأنه رأس وتد. قال ابن رسلان: يرتفع طرف مرفقه من جهة العضد عن فخذه، حتى يكون مرتفعاً عنه، كما يرتفع الوتد عن الأرض، ويضع طرفه الذي من جهة الكف على طرف فخذه الأيمن. وجوز بعضهم أنه ماض من التوحيد، أي جعل مرفقه منفرداً عن فخذه، أي رفعه، وهذا أبعد الوجوه. (وقبض ثنيتين) أي الخنصر والبنصر من أصابع يده اليمنى. (وحلق) بتشديد اللام. (حلقه) بسكون اللام وتفتح، أي جعل الإبهام والوسطى كالحلقة. (ثم رفع إصبعه) أي المسبحة كما تقدم. (فرأيته) أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (يحركها) فيه أن تحريك المسبحة سنة، وقد أخذ به قوم. وذهب الجمهور إلى عدم التحريك لحديث ابن الزبير التالي، ولخلو غالب الروايات عن التحريك، قالوا: والمراد بالتحريك في حديث وائل هو حركة الإشارة لا حركة أخرى بعد الرفع للإشارة. قال البيهقي: يحتمل أن يكون مراده بالتحريك الإشارة بها لا تكرير تحريكها حتى لا يعارض حديث ابن الزبير. قال الشوكاني: ومما يرشد إلى ما ذكره البيهقي رواية أبي داود لحديث وائل، فإنها بلفظ: وأشار بالسبابة- انتهى. قلت: وإليه يظهر ميل النسائي حيث ترجم على رواية عبد الله بن الزبير التي فيها: أشار بالسبابة لا يجاوز بصره إشارته، بلفظ "موضع البصر عند الإشارة وتحريك السبابة" فكأنه أشار بصنيعه إلى أن المراد بتحريك السبابة حركة الإشارة، لا تكرير تحريكها؛ لأنه لم يذكر في هذا الباب رواية التحريك، بل اكتفى بذكر رواية الإشارة. وجمع بعضهم بين الروايتين بحملهما على أوقات مختلفة، فقال: كان يحركها تارة ولا يحركها أخرى. وقال بعضهم: حديث وائل أصح وأقوى من حديث ابن الزبير، وأيضاً حديث وائل مثبت وذاك ناف والمثبت مقدم على النافي فلا يجوز أن يعارض به حديث وائل. (يدعو بها) أي يشير بها، أي يرفعهما في دعائه، أي تشهده، سمي التشهد دعاء لاشتماله عليه. (رواه أبوداود) إلخ. وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة، والبيهقي. والحديث سكت عنه أبوداود، والمنذري. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(3/240)
918- (6) وعن عبد الله بن الزبير. قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها)) رواه أبوداود والنسائي. وزاد أبوداود: ولا يجاوز بصره إشارته.
919- (7) وعن أبي هريرة، قال: ((إن رجلا كان يدعو بإصبعيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحد أحد)) رواه الترمذي والنسائي، والبيهقي في "الدعوات الكبير".
920- (8) وعن ابن عمر، قال: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
918- قوله: (إذا دعا) أي تشهد، واستدل به على استمرار الرفع إلى آخر التشهد. وقد قدمنا أن الراجح أن يديم الرفع والإشارة إلى أن ينصرف من الصلاة بالسلام، وقد صرح شيخ مشائخنا السيد نذير حسين المحدث الدهلوي في بعض فتاواه بأن المصلي يستمر على الرفع إلى آخر الدعاء بعد التشهد، وقد نقل صاحب "غاية المقصود" فتواه بتمامها. (ولا يحركها) تقدم الكلام فيه آنفاً. (رواه أبوداود) وسكت عنه هو والمنذري. (والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه. وقال النووي: إسناده صحيح. (ولا يجاوز بصره) بضم الراء. (إشارته) بالنصب على المفعولية، أي بل كان يتبع بصره إشارته؛ لأنه الأدب الموافق للخضوع. والمعنى لا ينظر إلى السماء حين الإشارة إلى التوحيد، بل ينظر إلى إصبعه، ولا يجاوز بصره عنها. وهذه الزيادة أخرجها النسائي أيضاً.
919- قوله: (إن رجلاً) قيل هو سعد بن أبي وقاص كما في رواية أبي داود والنسائي من حديث أبي صالح عن سعد قال: مر علي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أدعوا بإصبعي، فقال: أحد أحد، وأشار بالسبابة. (كان يدعو) أي يشير. (بإصبعيه) الظاهر أنهما المسبحتان. (أحد أحد) كرر للتأكيد في التوحيد. أي أشر بإصبع واحدة؛ لأن الذي تدعوه واحد، وهو الله تعالى، وأصله وحد أمر مخاطب من التوحيد، وهو القول بأن الله تعالى واحد، قلبت الواو همزة. وإيراد المصنف هذا الحديث في التشهد يدل على أنه حمله على الإشارة في جلسة التشهد، وعليه حمله النسائي أيضاً حيث أورد حديث أبي هريرة هذا، وحديث سعد في التشهد، وترجم عليهما "باب النهي عن الإشارة بإصبعين، وبأي إصبع يشير؟ " وأخرجه الترمذي في الدعوات كالبيهقي، وصنيعهما يدل على أنهما حملاه على الدعاء، لا على الإشارة في التشهد، بل عداه أدباً من جملة آداب الدعاء، وهو الذي فهمه أبوداود حيث أخرج حديث سعد في الدعاء. ولا شك أن الحديث يحتمل كلا المعنيين، لكن الاحتمال الثاني الذي ذهب إليه الترمذي وأبوداود والبيهقي أي حمله على أدب الدعاء أظهر. (رواه الترمذي) أي في الدعوات وحسنه. (والنسائي) في الصلاة. ونقل المنذري تحسين الترمذي وأقره، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
920- قوله: (وهو معتمد) أي متكيء. (على يده) قال القاري: وفي نسخة "على يديه" وقال ابن رسلان في شرح(3/241)
رواه أحمد وأبوداود. وفي رواية له: ((نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السنن: الرواية الصحيحة "يديه" يعني بل يضعهما على ركبتيه وفخذيه، فالمراد بقوله: أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده، هو أن يضع يده في التشهد على الأرض، ويتكيء عليها. وقيل: هو أن يجلس الرجل في الصلاة، ويرسل اليدين إلى الأرض من فخذيه، والأول أقرب إلى اللفظ، ووجه الكراهة أن ذلك من شأن المتكبرين، وبه يزول استواء الجلوس، وظاهر النهي التحريم، وقد تقدم شيء من الكلام فيه في شرح قول ابن عمر قبل باب التشهد. (رواه أحمد) (ج2: ص147) . (أبوداود) وسكت عنه. (وفي رواية له) أي لأبي داود. (نهى أن يعتمد) أي يتكىء. (الرجل على يديه إذا نهض) أي قام. (في الصلاة) بل ينهض على صدور قدميه من غير اعتماد على الأرض، واحتج بهذه الرواية الحنفية ومن وافقهم على أن المصلي لا يعتمد على يديه عند قيامه، ويعتمد على ظهور القدمين، لكن هذه الرواية شاذة، والرواية الصحيحة هي الأولى، وذلك لأن حديث ابن عمر هذا في النهي عن الاعتماد على اليد في الصلاة. رواه أبوداود عن أربعة من شيوخه: الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن محمد بن شبوية، ومحمد بن رافع، ومحمد ب عبد الملك الغزال، واللفظ الأول لفظ أحمد بن حنبل، والرواية الثانية لابن عبد الملك، ولفظ ابن شبوية: نهى أن يعتمد الرجل على يده في الصلاة، ولفظ ابن رافع: "نهى أن يصلي الرجل وهو معتمد على يده"، ووضعه في باب الرفع من السجود ظناً منه أن الحديث في النهي عن الاعتماد في الرفع من السجود. والفرق بين هذه الروايات أن رواية ابن شبوية وابن رافع مطلقة، يعني أنها تدل على النهي عن الاعتماد على اليد في الصلاة مطلقاً، سواء كان في الجلوس أو النهوض، وإن كان ذكر ابن رافع حديثه في "باب الرفع من السجود" يدل على أنه حمله على حالة النهوض من السجود، لكن لفظ الحديث عام، والظاهر أن المراد منه أن يضع يديه على ركبتيه بعد الرفع من السجدة، وأما رواية أحمد بن حنبل فهي مقيدة بحالة الجلوس، فإنها تدل على أن النهي عن الاعتماد على اليد في حالة الجلوس، يعني إذا جلس في الصلاة سواء كان في التشهدين أو بين السجدتين، أو في جلسة الاستراحة، فلا يعتمد على يديه، وكذا رواية ابن عبد الملك أيضاً مقيدة لكن بحالة النهوض، وهي تدل على أن النهي عن الاعتماد على اليد في حالة النهوض من السجود، فقد تعارض القيدان، والحديث واحد، ورواية ابن عبد الملك شاذة لمخالفته من هو أوثق منه، وهو الإمام أحمد بن حنبل، فإنه إمام ثقة، مشهور العدالة، ومحمد بن عبد الملك- وهو ابن زنجويه البغدادي أبوبكر الغزال- وإن وثقة النسائي لكنه دون أحمد بن حنبل بمراتب، وقد ذكر الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة عبد الملك عن ابن أبي حاتم أنه قال: وهو صدوق، وقال مسلمة: ثقة، كثير الخطأ- انتهى. فلا شك أن أحمد بن حنبل أقوى وأوثق من ابن عبد الملك، فتقدم روايته لكونها أرجح على رواية ابن عبد الملك. ويرجح رواية الإمام أحمد أيضاً ما في البخاري من حديث مالك بن الحويرث بلفظ: واعتمد على الأرض، وعند الشافعي: واعتمد بيديه على الأرض، والله أعلم. ثم رأيت الشيخ أحمد محمد شاكر قد بسط الكلام في شرح هذا(3/242)
921- (9) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف حتى يقوم)) رواه الترمذي وأبوداود والنسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث في شرحه للمسند (ج9: ص157- 162) ورجح لفظ رواية الإمام أحمد، وقد أجاد وأصاب، فعليك أن تراجعه.
921- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأوليين) أي فيما بعدهما وهو التشهد الأول من صلاة ذات أربع أو ثلاث، وهذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي: كان إذا جلس في الركعتين الأوليين. ولفظ النسائي: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين. قال السندي: المراد في جلوس الركعتين في غير الثنائية، يدل عليه قوله: حتى يقوم. (كأنه) جالس. (على الرضف) بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة بعدها فاء، الحجارة التي حميت بالشمس أو النار، واحدتها رضفة، وهذا كناية عن تخفيف الجلوس. قال المظهر: أراد به تخفيف التشهد الأول وسرعة القيام في الثلاثية والرباعية، يعني لا يلبث في التشهد الأول كثيراً بل يخففه ويقوم مسرعاً كمن هو قاعد على حجر حار، فيكون مكتفيا بالتشهد دون الصلاة والدعاء. (حتى يقوم) وفي رواية النسائي: قلت: حتى يقوم؟ قال: ذاك يريد. قال السندي: "حتى" للتعليل بقرينة الجواب بقوله: ذاك يريد، ولا يناسب هذا الجواب كون "حتى" للغاية فليتأمل- انتهى. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، يختارون أن لا يطيل الرجل القعود في الركعتين الأوليين، ولا يزيد على التشهد شيئاً في الركعتين الأوليين، وقالوا: إن زاد على التشهد فعليه سجدتا السهو، هكذا روى عن الشعبي وغيره- انتهى. وهو الذي اختاره أبوحنيفة، وقال الشافعي: لا بأس أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت: الظاهر أن لا يزيد على التشهد، لكن لو زاد لا يجب عليه سجدتا السهو؛ لأنه لم يقم دليل شرعي على وجوب سجدة السهو على من زاد على التشهد في القعدة الأولى. (رواه الترمذي وأبوداود والنسائي) وأخرجه أيضاً أحمد والشافعي والحاكم من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه. قال الترمذي: هذا حديث حسن، إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه- انتهى. فالحديث منقطع، وإنما حسنه الترمذي مع انقطاعه لشواهده. قال الحافظ في التلخيص (ص101) بعد عزو الحديث إلى الشافعي وأحمد والأربعة، والحاكم: هو منقطع؛ لأن أباعبيدة لم يسمع من أبيه. قال شعبة عن عمرو بن مرة: سألت أباعبيدة هل تذكر من عبد الله شيئا؟ قال: لا. رواه مسلم وغيره. وروى ابن أبي شيبة من طريق تميم بن سلمة: كان أبوبكر إذا جلس في الركعتين كأنه على الرضف. إسناده صحيح. وعن ابن عمر نحوه، ثم قال: وروى أحمد وابن خزيمة من حديث ابن مسعود: علمه التشهد، فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة، وفي آخرها على وركه اليسرى "التحيات" إلى قوله "عبده ورسوله" قال: ثم إن كان في وسط الصلاة نهض حين يفرغ من تشهده، وإن كان في آخرها دعا بعد تشهده بما شاء الله أن يدعو ثم يسلم- انتهى. فهذه الروايات شواهد لحديث الباب حديث ابن مسعود.(3/243)
{الفصل الثالث}
922- (10) عن جابر، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله، وبالله، التحيات لله الصلوات الطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
922- قوله: (بسم الله، وبالله) قد تفرد بهذه الزيادة أيمن بن نابل الراوي للحديث عن أبي الزبير، عن جابر، وقد رواه الليث وعمرو بن الحارث وغيرهما عن أبي الزبير بدون هذا، وقال حمزة الكناني: لا أعلم أحداً قال في التشهد "بسم الله، وبالله" إلا أيمن- انتهى. قلت: ووقع التسمية في حديث عمر عند عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وغيرهما، وصححه الحاكم مع كونه موقوفاً، وعورض برواية مالك عن الزهري، فإنها ليست فيها هذه الزيادة، نعم ثبتت في الموطأ عن ابن عمر موقوفاً، قال البيهقي: الرواية الموصولة المشهورة عن الزهري، عن عبد الرحمن القاري، عن عمر ليس فيها ذكر التسمية، وأما الرواية التي فيها عن ابن عمر، فهي وإن كانت صحيحة، فيحتمل أن تكون زيادة من جهة ابن عمر، فقد روينا عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث التشهد ليس فيه ذكر التسمية- انتهى. وورد التسمية أيضاً في حديث ابن الزبير عند الطبراني في الكبير والأوسط من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن أبي الورد، عن عبد الله بن الزبير، قال الطبراني: تفرد به ابن لهيعة، وهو ضعيف ولا سيما وقد خالف، كذا في التلخيص. وقال في الفتح: وفي الجملة لم تصح هذه الزيادة، وقد ترجم البيهقي عليها "من استحب أو أباح التسمية قبل التحية" وهو وجه لبعض الشافعية، وضعف. ويدل على عدم اعتبارها أنه ثبت في حديث أبي موسى المرفوع في التشهد وغيره: فإذا قعد أحدكم فليكن أول قوله: التحيات لله- الحديث. كذا رواه عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة بسنده. وأخرج مسلم من طريق عبد الرزاق هذه، وقد أنكر ابن مسعود وابن عباس وغيرهما على من زادها. أخرجه البيهقي وغيره_ انتهى. وقال السخاوي في المقاصد لحسنة: زيادة التسمية في التشهد ليس بصحيح، وقال أبومحمد البغوي، والشيخ في المهذب: ذكر التسمية في التشهد غير صحيح. وقال ابن قدامة في المغني (ج1: ص580) : سمع ابن عباس رجلا يقول "بسم الله" فانتهره، وبه قال مالك وأهل المدينة وابن المنذر والشافعي وهو الصحيح؛ لأن الصحيح من التشهدات ليس فيه تسمية فيقتصر عليها، ولم تصح التسمية عند أصحاب الحديث، ولا غيرها مما وقع الخلاف فيه، وإن فعله جاز؛ لأنه ذكر- انتهى. وقال الباجي: ليس من سنة التشهد عند مالك البسملة في أول التشهد؛ لأنا قد بينا أن السنة هو تشهد عمر، وليس فيه(3/244)
رواه النسائي.
923- (11) وعن نافع، قال: كان عبد الله بن عمر إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، وأشار بإصبعه وأتبعها بصره، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لهي أشد على الشيطان من الحديد، يعني السبابة))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك- انتهى. (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً ابن ماجه، والترمذي في العلل، والحاكم من طريق أيمن بن نابل، عن أبي الزبير عن جابر، قال الحافظ في التلخيص: رجاله ثقات، إلا أن أيمن بن نابل أخطأ في إسناده، وخالفه الليث، وهو من أوثق الناس في أبي الزبير فقال: عن أبي الزبير، عن طاووس، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال حمزة الكناني: قوله "عن جابر" خطأ ولا أعلم أحداً قال في التشهد "بسم الله وبالله" إلا أيمن. وقال الدارقطني: ليس بالقوي خالف الناس. وقال يعقوب بن شيبة: فيه ضعف. وقال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال: خطأ. وقال الترمذي: وهو غير محفوظ. وقال النسائي: لا أعلم أحداً تابع أيمن بن نابل على هذه الرواية، وأيمن عندنا لا بأس به، لكن الحديث خطأ. وقال البيهقي هو ضعيف، وأورد الحاكم في المستدرك حديثاً ظاهره أن أيمن توبع عن أبي الزبير، فقال: حدثنا أبوعلي الحافظ: ثنا عبد الله بن قحطبة: ثنا محمد بن عبد الأعلى: ثنا معتمر: ثنا أبي، عن أبي الزبير به. قال الحاكم: سمعت أبا علي يوثق ابن قحطبة إلا أنه أخطأ فيه؛ لأن المعمر لم يسمعه من أبيه، إنما سمعه من أيمن-انتهى. كذا في التلخيص. وقال في الفتح: تفرد به أيمن بن نافل، وحكم الحافظ: البخاري وغيره على أنه أخطأ في إسناده، وأن الصواب رواية أبي الزبير عن طاؤس. وغيره عن ابن عباس. وفي الجملة لم تصح هذه للزيادة إلى آخر ما نقلنا من كلامه. وقال السيوطي في شرح سنن النسائي: قال الحاكم: أيمن ثقة تخرج حديثه في صحيح البخاري، ولم يخرج هذا الحديث، إذا ليس له متابع عن أبي الزبير من وجه يصح. وقال الدارقطني في علله: قد تابع أيمن الثوري وابن جريج، عن أبي الزبير-انتهى. قلت: لم يذكر السيوطي سند هذه المتابعة حتى ينظر فيه هل يصلح للمتابعة أم لا؟ فما لم يعلم سندها لا يحكم باعتبارها وكونها مصححة لحديث أيمن.
923- قوله: (وعن نافع) مولى ابن عمر. (إذا جلس في الصلاة) أي للتشهد. (وضع يديه على ركبتيه) بقبض اليمنى وبسط اليسرى. (وأشار بإصبعه) أي مسبحة اليمنى. (وأتبعها) أي الإشارة أو الإصبع. (بصره) حين الإشارة. (لهي) أي الإشارة إلى الوحدانية. (أشد على الشيطان من الحديد) المعنى: أن هذه الإشارة أشد على الشيطان من السيف والسهم، لما فيه من التوحيد، فيقطع طمع الشيطان من وقوع المصلي في الإشراك والكفر. (يعني) هذا كلام الراوي أي يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالضمير في "لهي". (السبابة) أي الإشارة بها، فعالة من السب،(3/245)
رواه أحمد.
924- (12) وعن ابن مسعود، كان يقول: من السنة إخفاء التشهد. روا أبوداود والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(16) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وهو الشتم، وسبه أيضاً قطعه، والحمل على المعنى الثاني أنسب لذكر الحديد، كأنه بالإشارة بها يقطع طمع الشيطان من إضلاله، قاله الطيبي. (رواه أحمد) (ج2: ص119) ونسبه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص140) إلى البزار أيضاً، وقال: فيه كثير بن زيد، وثقه بن حبان، وضعفه غيره- انتهى. وروى البيهقي في السنن الكبرى عن ابن عمر مرفوعاً: تحريك الإصبع في الصلاة مذعرة للشيطان. قال ابن حجر وغيره: سنده ضعيف.
924- قوله: (من السنة) قال الطيبي: إذا قال الصحابي "من السنة كذا، أو السنة كذا" فهو في الحكم كقوله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا مذهب الجمهور من المحدثين والفقهاء، وجعله بعضهم موقوفاً، وليس بشيء-انتهى. (إخفاء التشهد) كذا في جميع النسخ بلفظ المصدر، وفي جامع الترمذي وسنن أبي داود "أن يخفى التشهد" وهو يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل، ولما لم يسم فاعله، وفي رواية الحاكم "تخفى" فيكون مبنياً للفاعل فقط. والحديث دليل على أن السنة في التشهد أن يقرأ سراً. قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم. (رواه أبوداود والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب) وسكت عنه أبوداود، وأخرجه الحاكم (ج1: ص267) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. والحديث في سنده عند الثلاثة يونس بن بكير بن واصل الشيباني الكوفي. قال الحافظ: صدوق يخطىء. وقال الخزرجي: قال ابن معين: ثقة، وضعفه النسائي. وقال أبوداود: ليس بحجة، يأخذ كلام ابن إسحاق فيوصله أي بالأحاديث، روى له مسلم متابعة، وفيه أيضاً محمد بن إسحاق، وهو مدلس، وقد رواه معنعناً لكنهما لم ينفردا بهذا الحديث، فقد رواه أيضاً الحاكم في المستدرك (ج1: ص230) من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الحسن بن عبيد الله، عن عبد الرحمن بن الأسود بإسناده، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وأقره الذهبي. وعلى هذا فالحديث لا ينحط عن درجة الحسن.
(باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي باب حكم الصلاة وصفتها ومحلها. (وفضلها) أي ثوابها. قال المجد الفيروز آبادي: الصلاة: الدعاء والرحمة والاستغفار وحسن الثناء من الله عزوجل على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعبادة فيها ركوع وسجود، اسم يوضع موضع المصدر، صلى صلاة لا تصليه، دعا- انتهى. وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر أقوال القوم في معنى الصلاة: وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه، ثناءه عليه. وتعظيمه. وصلاة الملائكة وغيرهم عليه، طلب(3/246)
ذلك من الله تعالى. والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة، وقيل: صلاة الله على خلقه تكون خاصة، وتكون عامة. فصلاته على أنبيائه هي ما تقدم من الثناء والتعظيم، وصلاته على غيرهم الرحمة، فهي التي وسعت كل شيء. قال: وقال الحليمي: معنى الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيمه، فمعنى قولنا: اللهم صل على محمد: عظم محمداً، والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته، وتشفيعه في أمته، وإبداء فضيلته بالمقام المحمود. وعلى هذا فالمراد بقوله: "صلوا عليه" ادعوا ربكم بالصلاة عليه- انتهى. ولا يعكر عليه عطف "آله وأزواجه، وذريته" عليه، فإنه لا يمتنع أن يدعى لهم بالتعظيم، إذ تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به. وما تقدم عن أبي العالية أظهر، فإنه يحصل به استعمال لفظ الصلاة بالنسبة إلى الله، وإلى ملائكته، وإلى المؤمنين المأمورين بذلك بمعنى واحد- انتهى كلام الحافظ مختصراً. واعلم أنهم اختلفوا في أن الأمر في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] هل هو للندب أو للوجوب؟ ثم هل الصلاة عليه فرض عين أو فرض كفاية؟ ثم هل تتكرر كلما سمع ذكره أم لا؟ وإذا تكرر هل تتداخل في المجلس أم لا؟ فذهب ابن جرير الطبري إلى أن الصلاة عليه من المستحبات. وقيل: إنها تجب في العمر مرة في صلاة أو في غيرها، وهي مثل كلمة التوحيد، قاله أبوبكر الرازي من الحنفية، وابن حزم، وغيرهما، فهي عندهم فرض بالجملة، ولا تتعين في الصلاة، ولا في وقت من الأوقات، ومن صلى عليه مرة واحدة في عمره فقد سقط فرض ذلك عنه، وبقي مندوباً إليه في سائر عمره مقدار ما يمكنه، وبهذا عرف أن الصلاة عليه في التشهد الأخير من الصلاة سنة مستحبة عندهم، وإليه ذهب أبوحنفية ومالك والثوري. وقيل: تجب في القعود آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحلل، قاله الشافعي وأحمد ومن تبعهما، فهي عندهم من فرائض الصلاة وأركانها. والفرض منها عندهم متعين في الصلاة. وقيل: تجب في الصلاة من غير تعيين المحل، نقل ذلك عن أبي جعفر الباقر. وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد، قاله أبوبكر بن بكير من المالكية. وقيل: كلما ذكر، قاله الطحاوي، وجماعة من الحنفية، والحليمي، وجماعة من الشافعية. وقال ابن العربي من المالكية: إنه الأحوط، وكذا قال الزمخشري. وقال في الدر المختار: اختلف الطحاوي والكرخي في وجوبها على السامع والذاكر كلما ذكر، والمختار عند الطحاوي تكرار الوجوب كلما ذكر، ولو اتحد المجلس في الأصح، لا لأن الأمر يقتضى التكرار، بل؛ لأنه تعلق وجوبها بسبب متكرر، وهو الذكر فيتكرر بذكره، وتصير ديناً بالترك فتقضي؛ لأنها حق عبدكالتشميت، بخلاف ذكر الله تعالى. والمذهب استحباب التكرار، وعليه الفتوى، والمعتمد قول الطحاوي، كذا ذكره الباقاني تبعاً لما صححه الحلبى وغيره، ورجحه في البحر بأحاديث الوعيد كرغم، وإبعاد، وشقاء، وبخل، وجفاء- انتهى. وقيل: تجب في مجلس مرة، ولو تكرر ذكره مراراً، حكاه الزمخشري. وقيل: في كل دعاء، حكاه أيضاً. هذا إجمال الكلام في معنى الصلاة على(3/247)
{الفصل الأول}
925- (1) عن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: لقيني كعب بن عجرة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكمها. ويؤخذ مما أوردنا من بيان الآراء في حكمها بيان محلها وحكمها في الصلاة خاصة. ومن المواطن التي اختلف في وجوب الصلاة عليه فيها: التشهد الأول، وخطبة الجمعة، وغيرها من الخطب، وصلاة الجنازة. ومما يتأكد ووردت فيه أخبار خاصة أكثرها بأسانيد جيدة: عقب إجابة المؤذن وأول الدعاء ووسطه وآخره، وفي أوله آكد، وفي آخر القنوت وفي أثناء تكبيرات العيد وعند دخول المسجد والخروج منه. وعند الاجتماع والتفرق وعند السفر والقدوم، وعند القيام لصلاة الليل وعند ختم القرآن وعند الهمّ والكرب وعند التوبة من الذنب وعند قراءة الحديث العلم والذكر وعند نسيان الشيء، وورد ذلك أيضاً في أحاديث ضعيفة، وعند استلام الحجر وعند طنين الأذن وعند التلبية وعقب الوضوء وعند الذبح والعطاس، وورد المنع منها عندهما أيضاً، وورد الأمر بالإكثار منها يوم الجمعة في حديث صحيح، كذا في الفتح. وأما صفتها، فقال ابن قدامة في المغني (ج1: ص585) : الأولى أن يأتي بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفة التي ذكر الخرقي؛ لأن ذلك حديث كعب بن عجزة، وهو أصح حديث روي فيها. وعلى أي صفة أتى بالصلاة عليه مما ورد في الأخبار أي الصحيحة جاز، كقولنا في التشهد، وظاهره أنه إذا أخل بلفظ ساقط في بعض الأخبار جاز؛ لأنه لو كان واجباً لما أغفله النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال القاضي أبويعلي: ظاهر كلام أحمد أن الصلاة واجبة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حسب لقوله في خبر أبي زرعة: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر، من تركها أعاد الصلاة، ولم يذكر الصلاة على آله، وهذا مذهب الشافعي، ولهم في وجوب الصلاة على آله وجهان. وقال بعض أصحابنا: تجب الصلاة على الوجه الذي في خبر كعب؛ لأنه أمر به، والأمر يقتضي الوجوب، والأول أولى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بهذا حين سألوه تعليمهم، ولم يبتدءهم-انتهى. وسيأتي مزيد الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. وقد أطال الكلام في مسألة الصلاة عليه فأجاد، وأحسن العلامة الخفاجي في "نسيم الرياض" شرح "شفاء القاضي عياض"، والإمام ابن القيم في "جلاء الأفهام"، والسخاوي في "القول البديع في الصلاة على الشفيع" والقسطلاني في "المواهب اللدنية" من أحب رجع إلى هذه الكتب.
925-قوله: (عن عبد الرحمن بن أبي ليلي) الأنصاري المدني ثم الكوفي، ثقة من كبار التابعين، اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم سنة ست وثمانين. وقيل: إنه غرق بدجيل. ووالده أبوليلي الأنصاري صحابي، اسمه بلال، أو بليل- بالتصغير- ويقال: داود، وقيل: يسار- بالتحتانية- وقيل: أوس. شهد أحداً وما بعدها، وعاش إلى خلافة علي. (لقيني كعب) وعند الطبري: إن ذلك كان وهو يطوف بالبيت الحرام. (بن عجرة) بضم العين(3/248)
فقال: ألا أهدى لك هدية سمعتها من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلت: بلى، فأهدها لي. فقال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: يارسول الله! كيف الصلاة عليكم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المهملة وسكون الجيم، بعدها راء مفتوحة فهاء تانيث، البلوى حليف الأنصار، أبومحمد المدني، صحابي مشهور، نزل الكوفة قال الواقدي: استأخر إسلامه، ثم أسلم وشهد المشاهد، وهو الذي نزلت فيه بالحديبية الرخصة في حلق رأس المحرم والفدية. روى سبعة وأربعين حديثاً، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بمثلهما، روى عنه جماعة. مات بالمدينة سنة إحدى، وقيل: ثنتين، وقيل: ثلاث وخمسين. قال بعضهم: وهو ابن خمس، وقيل: سبع وسبعين سنة. (فقال) لي. (ألا) الهمزة للاستفهام. (أهدى) بضم الهمزة. (هدية) بتشديد الياء، وهي اسم مصدر، والمصدر إهداء؛ لأنه من "أهدى" والهدية ما يتقرب به إلى المهدى إليه توددا وإكراما. وزاد فيه بعضهم "من غير قصد نفع عوض دنيوي، بل لقصد ثواب الآخرة" وأكثر ما يستعمل في الأجسام لا سيما والهدية فيها نقل من مكان إلى آخر، وقد يستعمل في المعاني كالعلوم والأدعية مجازاً لما يشتركان فيه من قصد المواددة والتواصل في إيصال ذلك إليه. (فأهدها) بقطع الهمزة. (فقال: سألنا) بسكون اللام. والفاء للتفسير، إذ التقدير: أردنا السؤال. (فقلنا) أراد بإيراد صيغة الجمع نفسه وغيره من الصحابة ممن كان حاضراً. قال في الفتح: وقد وقفت من تعيين من باشر السؤال على جماعة، وهم كعب بن عجرة عند الطبراني، وبشير بن سعد والد النعمان في حديث أبي مسعود عند مالك، ومسلم، وزيد بن خارجة الأنصاري عند النسائي، وطلحة بن عبيد الله عند الطبري، وأبو هريرة عند الشافعي، وعبد الرحمن بن بشير عند إسماعيل القاضي في كتاب الصلاة، فإن ثبت أن السائل كان متعدداً فواضح، وإن ثبت أنه كان واحدا فالحكمة بالتعبير بصيغة الجمع الإشارة إلى أن السؤال لا يختص به بل يريد نفسه، ومن يوافقه على ذلك، ولا يقال هو من باب التعبير عن البعض بالكل، بل حمله على ظاهره هو المعتمد لما ذكر. وعند البيهقي والخلعي عن كعب بن عجرة، قال: لما نزلت: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [33: 56] الآية، قلنا: يا رسول الله! قد علمنا- الحديث. (كيف الصلاة؟) أي كيف لفظ الصلاة في الصلاة بعد التشهد؟ قال القاضي: يحتمل أن يكون سؤالهم عن كيفية الصلاة في غير الصلاة، ويحتمل أن يكون في الصلاة. قال: وهو الأظهر. قال النووي: وهذا اختيار مسلم، ولهذا ذكر هذا الحديث في هذا الموضع أي بعد أحاديث التشهد. (عليكم) فيه تغليب، ويدل عليه الحديث الآتي: كيف نصلي عليك؟ قاله القاري. وقال الحافظ: أما إتيانه بصيغة الجمع في قوله "عليكم" فقد بين مراده بقوله "أهل البيت"؛ لأنه لو اقتصر عليها لاحتمل أن يريد بها التعظيم، وبها تحصل مطابقة الجواب للسؤال حيث قال "على محمد وعلى آل محمد"، وبهذا يستغنى عن قول من قال: في الجواب زيادة على السؤال؛ لأن السؤال وقع عن كيفية الصلاة عليه، فوقع الجواب عن ذلك بزيادة(3/249)
أهل البيت؟ فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كيفية الصلاة على آله- انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي: المقصود السؤال عن كيفية الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وذكر أهل البيت تبعاً واستطراداً. وقيل: أهل البيت كناية عن ذاته - صلى الله عليه وسلم -، والأهل بمعنى الآل، وقد يقال: آل فلان، ويراد به نفسه وذاته فقط. كما قيل في آل داود ونحوه. وفي قوله "أهل البيت" تلميح إلى قوله تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [11: 73] والقرينة على إرادة هذا المعنى قوله الآتي: فإن الله قد علمنا، الخ. (أهل البيت) بالنصب على المدح والاختصاص، أو على أنه منادى مضاف، ويجوز جره لكونه عطف بيان لضمير المخاطب. (فإن الله قد علمنا كيف نسلم عليك) يعني في التشهد، وهو قول المصلي "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". والمعنى: علمنا الله كيفية السلام عليك على لسانك، وبواسطة بيانك، وفي رواية للبخاري: قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ وفي أخرى: أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ أي إن الله تعالى أمرنا بالصلاة والسلام عليك بقوله: {صلوا عليه وسلموا تسليما} [33: 56] ، وقد عرفنا كيفية السلام عليك بما علمتنا في التحيات من أن نقول: السلام عليك أيها النبي، الخ. فعلمنا كيف اللفظ الذي به نصلي عليك كما علمتنا السلام؟ فالمراد بعدم علمهم الصلاة عدم معرفة تأديتها بلفظ لائق به - عليه الصلاة والسلام -، ولذا وقع بلفظ "كيف" التي يسأل بها عن الصفة. قال القرطبي: هذا سؤال من أشكلت عليه كيفية ما فهم أصله، وذلك أنهم عرفوا المراد بالصلاة فسألوا عن الصفة التي تليق بها ليستعملوها-انتهى. والحامل لهم على ذلك أن السلام لما تقدم بلفظ مخصوص وهو "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" فهموا منه أن الصلاة أيضاً تقع بلفظ مخصوص، وعدلوا عن القياس لإمكان الوقوف على النص، ولاسيما في ألفاظ الأذكار، فإنها تجيء خارجة عن القياس غالبا، فوقع الأمر كما فهموا، فإنه لم يقل لهم: قولوا الصلاة عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولا قولوا: الصلاة والسلام عليك، الخ. بل علمهم صيغة أخرى. وفي حديث أبي مسعود البدري عند أحمد في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه، والدارقطني في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه: أنهم قالوا، يارسول الله! أما السلام فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ وفي رواية: كيف نصلي في صلاتنا؟ قال الدارقطني: إسناده حسن متصل- وقال البيهقي: إسناده حسن، صحيح، وصححه الحاكم أيضاً. واستدل به جماعة من الشافعية كابن خزيمة، والبيهقي على إيجاب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل صلاة في القعود آخر الصلاة بين التشهد والسلام. وتعقب بأنه لا دلالة فيه على ذلك، بل إنما يفيد إيجاب الإتيان بهذه الألفاظ على من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد. وعلى تقدير أن يدل على إيجاب أصل الصلاة فلا يدل على هذا المحل المخصوص، ولكن قرب البيهقي ذلك بأن الآية لما نزلت وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علمهم كيفية السلام عليه في التشهد، والتشهد داخل الصلاة، فسألوا عن كيفية الصلاة، فعلمهم، فدل على أن المراد بذلك(3/250)
قال: قولوا: اللهم صل على محمد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إيقاع الصلاة عليه في التشهد بعد الفراغ من التشهد الذي تقدم تعليمه لهم، وأما احتمال أن يكون ذلك خارج الصلاة فهو بعيد كما قال عياض وغيره. (قولوا) قال القسطلاني: الأمر ههنا للوجوب اتفاقاً، نعم اختلف هل يتعدد أم لا؟ فقيل: في العمر مرة واحدة، وقيل: في كل تشهد يعقبه سلام، قاله الشافعي. وقال الشوكاني في النيل: قوله في الحديث "قولوا" استدل بذلك على وجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، وإلى ذلك ذهب عمر، وابنه، وابن مسعود، وجابر بن زيد، والشعبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبوجعفر الباقر، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وابن المواز. واختار القاضي أبوبكر ابن العربي، وذهب الجمهور إلى عدم الوجوب، منهم مالك، وأبوحنيفة، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وآخرون. قال: ويمكن الاعتذار عنه بأن الأمر المذكور تعليم كيفية، وهو لا يفيد الوجوب، فإنه لا يشك من له ذوق أن من قال لغيره: إذا أعطيتك درهماً فكيف أعطيك أياه أسراً أم جهراً؟ فقال له: أعطيته سراً، كان ذلك أمرا بالكيفية التي هي السرية، لا أمرا بالإعطاء. وتبادر هذا المعنى لغة وشرعاً وعرفاً لا يدفع، وقد تكرر في السنة وكثر، فمنه: إذا قام أحدكم الليل فليفتتح الصلاة بركعتين خفيفتين-الحديث. وقد أطال الكلام على دلائل القائلين بوجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - في القعود آخر الصلاة، والاعتذار عنها. ومال إلى عدم وجوبها في الصلاة. والأحوط عندي هو وجوبها لما تقدم من تقرير البيهقي في الاحتجاج لذلك، ولما سيأتي. وقد ألزم العراقي من قال من الحنفية بوجوب الصلاة عليه كلما ذكر، كالطحاوي، ونقله السروجي في شرح الهداية عن أصحاب المحيط، والعقد، والتحفة، والمغيث، من كتبهم أن يقولوا بوجوبها في التشهد، لتقدم ذكره في آخر التشهد، لكن لهم أن يلتزموا ذلك، لكن لا يجعلونه شرطاً في صحة الصلاة. (اللهم) هذه كلمة كثر إستعمالها في الدعاء، وهو بمعنى ياالله، والميم عوض عن حرف النداء، ولا يدخلها حرف النداء إلا في نادر، كقول الراجز:
إني إذا مات حادث ألما ... ... أقول: يا اللهم يا اللهما
واختص هذا الاسم بقطع الهمزة عند النداء ووجوب تفخيم لامه، وبدخول حرف النداء عليه مع التعريف، وبالباء في القسم، وذهب الفراء من تبعه من الكوفيين إلى أن أصله ياالله! وحذف حرف النداء تخفيفاً، والميم مأخوذة من جملة محذوفة مثل أمنا بخير، وقيل: بل زائدة كما "زرقم" للشديد الزرقة، وزيدت في الاسم العظيم تفخيماً، وقيل: غير ذلك (صلى على محمد) قال الجزري في النهاية معناه: عظمه في الدنيا بإلا ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته. وقيل، المعنى: لما أمر الله سبحانه بالصلاة عليه ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك أحلناه على الله، وقلنا: اللهم صل أنت على محمد؛ لأنك أعلم بما يليق به. وهذا الدعاء قد اختلف هل يجوز إطلاقه على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ والصحيح أنه خاص به فلا يقال لغيره. وقال الخطابي: الصلاة التي بمعنى التكريم(3/251)
وعلى آل محمد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والتعظيم لا تقال لغيره، والتي بمعنى الدعاء والتبرك تقال لغيره، ومنه الحديث: اللهم صلى على آل أبي أوفى، أي ترحم وبرك. وقيل فيه: إن هذا خاص له لكنه هو آثر به غيره، وأما سواه فلا يجوز له أن يخص به أحداً-انتهى كلام الجزري. وأرجح للتفصيل إلى الفتح، والعمدة، وزاد المعاد، والقول البديع، قال الحليمي: المقصود بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - التقرب إلى الله بامتثال أمره، وكذا حق النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا، وتبعه ابن عبد السلام فقال: ليست صلاتنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاعته له، فإن مثلنا لا يشفع لمثله، ولكن الله لما أمرنا بمكافأة من أحسن إلينا فإن عجزنا عنها كافأناه بالدعاء فأرشدنا الله لما علم عجزنا عن مكافأة نبينا إلى الصلاة عليه. وقال ابن العربي: فائدة الصلاة عليه ترجع إلى الذي يصلي عليه لدلالة ذلك على نصوع العقيدة، وخلوص النية، وإظهار المحبة، والمداومة على الطاعة، والاحترام للواسطة الكريمة - صلى الله عليه وسلم -. واختلف في زيادة لفظ السيادة قبل محمد فجعله ابن عبد السلام من باب سلوك الأدب، ومال الشوكاني في النيل إلى أوليته. وقال الأسنوي: قد اشتهر زيادة "سيدنا" قبل "محمد" عند أكثر المصلين وفي كون ذلك أفضل نظر-انتهى. قلت: أما في الصلاة فالظاهر هو تركه وعدم زيادته امتثالاً للأمر، واتباعاً لللفظ المأثور، وأما في غير الصلاة فلا بأس بزيادته. قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد وابن ماجه وابن مردوية عن ابن مسعود، قال: إذا صليتم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحسنوا الصلاة، قالوا: فعلمنا. قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك، ورحمتك، وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين-الحديث. قال السخاوي: إن كثيراً من الناس يقولون: اللهم صل على سيدنا محمد، وأتى في ذلك بحثاً: أما في الصلاة فالظاهر أنه لا يقال اتباعاً لللفظ المأثور، وأما في غير الصلاة فقد أنكر - صلى الله عليه وسلم - على مخاطبة بذلك كما في الحديث المشهور، وإنكاره يحتمل تواضعا، أو كراهة منه أن يحمد مشافهة، أو لأن ذلك كان في تحية الجاهلية، أو لمبالغتهم في المدح، وقد صح قوله - صلى الله عليه وسلم -: أنا سيد ولد آدم، وقوله للحسن: إن ابني هذا سيد، وقوله لسعد: قوموا إلى سيدكم. وورد قول سهل بن حنيف للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا سيدي، في حديث عند النسائي، وقول ابن مسعود: اللهم صل على سيد المرسلين. وفي كل هذا دلالة واضحة على جواز ذلك، والمانع يحتاج إلى دليل سوى ما تقدم؛ لأنه لا ينهض دليلاً مع الاحتمالات المتقدمة-انتهى. (وعلى آل محمد) قد اختلف في المراد بالآل في هذا الحديث، فقيل: الراجح أنهم من حرمت عليهم الزكاة، فإنه بذلك فسرهم زيد بن أرقم، والصحابي أعرف بمراده - صلى الله عليه وسلم -، فتفسيره قرينة على تعين المراد من اللفظ المشترك، وقد فسرهم بآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس. وقيل: المراد بآل محمد، أزواجه وذريته؛ لأن أكثر طرق هذا الحديث جاء بلفظ "وآل محمد"، وجاء في حديث أبي حميد التالي موضعه "وأزواجه وذريته" فدل على أن المراد بالآل الأزواج والذرية. وتعقب بأنه ثبت الجمع بين الثلاثة كما في حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثالث، فيحمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ غيره، فالمراد بالآل في التشهد(3/252)
كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأزواج، ومن حرمت عليهم الصدقة. وتدخل فيهم الذرية، فبذلك يجمع بين الأحاديث. وقد أطلق على أزواجه - صلى الله عليه وسلم - آل محمد كما في حديث عائشة: ماشبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثاً، وفي حديث أبي هريرة: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً، وكأن الأزواج أفردوا بالذكر تنويهاً بهم وكذا الذرية. وقيل: المراد بالآل جميع أمة الإجابة. قال ابن العربي: مال إلى ذلك مالك. وقال النووي في شرح مسلم: هو أظهر الأقوال، قال: وهو اختيار الأزهري وغيره من المحققين-انتهى. وقيده القاضي حسين، والراغب، بالأتقياء منهم. وعليه يحمل كلام من أطلق، ويؤيده قوله تعالى: {إن أولياءه إلا المتقون} [8: 34] . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أوليائي منكم المتقون"، وإلى حمله على أمة الإجابة ذهب نشوان الحميري إمام اللغة، ومن شعره في ذلك:
... آل النبي هم أتباع ملته من الأعاجم والسودان والعرب
... لو لم يكن آله إلا قرابته صلى المصلي على الطاغي أبي لهب
ويدل على ذلك أيضاً قول عبد المطلب من أبيات:
... وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
والمراد بآل الصليب أتباعه. ومن الأدلة على ذلك قول الله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [40: 46] ؛ لأن المراد بآله أتباعه، وقد احتج لهذا القول بحديث أنس رفعه: آل محمد كل تقي. أخرجه الطبراني، ولكن سنده واه جداً. وأخرج البيهقي عن جابر نحوه من قوله بسند ضعيف، ويؤيد ذلك معنى الآل لغة. قال في القاموس: الآل أهل الرجل وأتباعه، وأولياؤه، ولا يستعمل إلا فيما فيه شرف غالباً، فلا يقال آل الإسكاف، كما يقال أهله- انتهى. وفي تفسيره أقوال أخرى كلها مرجوحة ضعيفة، فلا حاجة إلى ذكرها، ولولا ضعف حديث أنس وكون سنده واهياً جداً لتعين تفسير آل محمد في التشهد بأتقياء أمته، ثم لعل وجه إظهار محمد في قوله "وآل محمد" مع تقدم ذكره هو أن استحقاق الآل بالإتباع لمحمد، فالتنصيص على اسمه آكد في الدلالة على استحقاقهم، والله تعالى أعلم. (كما صليت على إبراهيم) ذكر في وجه تخصيصه من بين الأنبياء وجوه، أظهرها كونه جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمرنا بمتابعته في أصول الدين أو في التوحيد المطلق والانقياد المحقق، قاله القاري. (وعلى آل إبراهيم) هم ذريته من إسماعيل وإسحاق كما جزم به جماعة من الشراح، وإن ثبت أن إبراهيم كان له أولاد من غير سارة وهاجرة، فهم داخلون لا محالة. ثم إن المراد المسلمون منهم بل المتقون فيدخل فيهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون دون من عداهم. وفيه ما تقدم في آل محمد، قاله الحافظ. وقال الباجي: "وآل إبراهيم" أتباعه، وهذا يحتمل أن يريد به أتباعه من ذريته، ويحتمل أن يريد أتباعه من كل اتبعه، أي من غير تخصيص بذريته، قال: والأظهر عندي أن الآل الأتباع والعشيرة. واستشكل هذا التشبيه؛ لأن المقرر كون(3/253)
المشبه دون المشبه به، والواقع ههنا عكسه؛ لأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وحده أفضل من إبراهيم وآله. وأجيب عن لك بأجوبة، منها: أن التشبيه إنما هو لأصل الصلاة بأصل الصلاة لا للقدر بالقدر، فهو كقوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} [4: 163] وقوله: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [2: 183] وهو كقول القائل: "أحسن إلى ولدك كما أحسنت إلى فلان"، ويريد بذلك أصل الإحسان لا قدره. ومنه قوله تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} [28: 77] ورجح هذا الجواب القرطبي في المفهم. ومنها: أن الكاف للتعليل كما في قوله تعالى: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم} [2: 151] وفي قوله: {واذكروه كما هداكم} [2: 198] . ومنها: أن قوله: اللهم صل على محمد، مقطوع عن التشبيه فيكون التشبيه متعلقاً بقوله: "وعلى آل محمد". يعني أنه تم الكلام بقوله" اللهم صل على محمد" ثم استأنف"وعلى آل محمد" أي وصل على آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، والمسؤل له مثل إبراهيم وآله، هم آل محمد - صلى الله عليه وسلم - لا لنفسه. وفيه أن هذا الجواب وإن نقله أبوحامد عن نص الشافعي، لكنه خلاف الظامر. وتعقب أيضاً بأن غير الأنبياء لا يمكن أن يساووا الأنبياء، فكيف تطلب لهم صلاة مثل صلاة التي وقعت لإبراهيم والأنبياء من آله؟ ويمكن الجواب عن ذلك بأن المطلوب الثواب الحاصل لهم لا جميع الصفات التي كانت سبباً للثواب. ومنها: أن المسؤول مقابلة الجملة بالجملة، ويدخل في "آل إبراهيم" خلائق لا يحصون من الأنبياء، ولا يدخل في "آل محمد" نبي، وطلب إلحاق هذه الجملة التي فيها نبي واحد بتلك الجملة التي فيها خلائق من الأنبياء. ومنها: أن التشبيه لمحمد وآل محمد من صلاة كل فرد فرد فيحصل من مجموع صلاة المصلين من أول التعليم إلى آخر الزمان أضعاف ما كان لآل إبراهيم. وعبر ابن العربي عن هذا بقوله: المراد دوام ذلك واستمراره. ومنها: دفع المقدمة المذكورة أولاً وهي أن المشبه به يكون أرفع من المشبه، وأن ذلك ليس بمطرد، بل قد يكون التشبيه بالمثل بل وبالدون كما في قوله تعالى: {مثل نوره كمشكاة} [24: 35] . وأين يقع نور المشكاة من نوره تعالى؟ ولكن لما كان المراد من المشبه به أن يكون شيئاً ظاهراً واضحاً للسامع حسن تشبيه النور بالمشكاة، وكذا ههنا لما كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم بالصلاة عليهم مشهوراً واضحاً عند جميع الطوائف حسن أن يطلب لمحمد وآل محمد بالصلاة عليهم مثل ما حصل لإبراهيم وآل إبراهيم، ويؤيد ذلك ختم الطلب المذكور بقوله "في العالمين"، أي كما أظهرت الصلاة على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، ولذا لم يقع قوله "في العالمين" إلا في ذكر آل إبراهيم، دون ذكر آل محمد على ما وقع في الحديث الذي ورد فيه، وهو حديث أبي مسعود عند مالك ومسلم وغيرهما. وعبر الطيبي عن ذلك بقوله: ليس التشبيه المذكور من باب إلحاق الناقص بالكامل، بل من باب إلحاق ما لم يشتهر بما اشتهر. ومنها: ما قال السندي: أما تشبيه صلاته - صلى الله عليه وسلم - بصلاة إبراهيم فلعله بالنظر إلى ما يفيده واو العطف من الجمع والمشاركة، وعموم الصلاة المطلوبة له ولأهل بيته - صلى الله عليه وسلم -، أي شارك أهل بيته معه في الصلاة، واجعل الصلاة عليه عامة له ولأهل بيته كما صليت على إبراهيم كذلك، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى أن(3/254)
إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاة عليه من الله تعالى ثابتة على الدوام كما هو مفاد صيغة المضارع المفيد للاستمرار التجددي في قوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [33: 56] فدعاء المؤمنين بمجرد الصلاة عليه قليل الجدوى، بين لهم أن يدعوا له بعموم صلاته له ولأهل بيته ليكون دعاءهم مستجلباً لفائدة جديدة، وهذا هو الموافق لما ذكره علماء المعاني في القيود أن محط الفائدة في الكلام هو القيد الزائد، وكأنه لهذا خص إبراهيم؛ لأنه كان معلوماً بعموم الصلاة له ولأهل بيته على لسان الملائكة، ولذا ختم بقوله: "إنك حميد مجيد"، كما ختمت الملائكة صلاتهم على أهل بيت إبراهيم بذلك. ومنها: ما قال بعض المحققين: وجه الشبه هو كون كل من الصلاتين أفضل وأولى وأتم من صلاة من قبله، أي كما صليت على إبراهيم صلاة هي أتم، وأفضل من صلاة من قبله، كذلك صل على محمد صلاة هي أفضل وأتم من صلاة من قبله. قال السندي بعد ذكره: ويمكن أن تجعل وجه الشبه مجموع الأمرين من العموم والأفضلية. (إنك حميد) فعيل من الحمد بمعنى محمود وأبلغ منه، وهو من حصل له من صفات الحمد أكملها. وقيل: هو بمعنى الحامد أي إنك حامد من يستحق أن يحمد من عبادك، وقيل: هو بمعنى المستحق لجميع المحامد لما في الصيغة من المبالغة. (مجيد) مبالغة ماجد من المجد وهو الشرف، والمجيد صفة من كمل في الشرف، وهذا تذييل الكلام السابق وتقرير له سبيل العموم، أي إنك حميد، فاعل ما تستوجب به الحمد من النعم المتكاثرة والآلاء المتعاقبة المتوالية، مجيد، كريم الإحسان إلى جميع عبادك الصالحين، ومن محامدك وإحسانك أن توجه صلواتك، وبركاتك، وترحمك على حبيبك نبي الرحمة وآله، أو إنك حامد من يستحق أن يحمد، ومحمد من أحق عبادك بحمدك، وقبول دعاء من يدعوا له ولآله. (اللهم بارك على محمد) أي أثبت له وأدم له ما أعطيته من الشرف والكرامة، وزده من الكمالات ما يليق بك وبه. قال الحافظ: المراد بالبركة هنا الزيادة من الخير والكرامة. وقيل: المراد التطهير من الذنوب والتزكية. وقيل: المراد إثبات ذلك واستمراره من قوله: بركت الإبل أي ثبتت على الأرض، وبه سميت بركة ماء- بكسر أوله وسكون الثانية- لإقامة الماء فيها. والحاصل أن المطلوب أن يُعطوا من الخير أوفاه وأن يثبت ذلك ويستمر دائماً-انتهى. قال القاري: وهذا زيادة على أصل السؤال ووقع تتميماً للكمال. واستدل بهذا الحديث على تعين هذا اللفظ الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في امتثال الأمر، سواء قلنا بالوجوب مطلقاً أو مقيداً بالصلاة، وأما تعينه في الصلاة فعن أحمد في رواية، والأصح عند أتباعه لا تجب. واختلف في الأفضل فعن أحمد أكمل ما ورد وعنه يتخير، وأما الشافعية فقالوا: يكفي أن يقول: اللهم صل على محمد، واختلفوا هل يكفي الإتيان بما يدل على ذلك كأن يقوله بلفظ الخبر فيقول: "صلى الله على محمد" مثلاً؟ والأصح إجزاءه، وذلك أن الدعاء بلفظ الخبر آكد فيكون جائزاً بطريق الأولى. ومن منع وقف عند التعبد، وهو الذي رجحه ابن العربي، بل كلامه يدل على أن الثواب الوارد لمن صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يحصل لمن صلى عليه بالكيفية المذكورة. قال الحافظ في الفتح: واتفق(3/255)
كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أصحابنا على أنه لا يجزئ أن يقتصر على الخبر كأن يقول: الصلاة على محمد، إذ ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى، واختلفوا في تعين لفظ محمد، لكن جوزوا الاكتفاء بالوصف دون الاسم، كالنبي، ورسول الله؛ لأن لفظ "محمد" وقع التعبد به، فلا يجزئ عنه إلا ما كان أعلى منه. وذهب الجمهور إلى الاجتراء بكل لفظ أدى المراد بالصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وعمدتهم في ذلك أن الوجوب ثبت بنص القرآن بقوله تعالى: {صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] . فلما سأل الصحابة عن الكيفية وعلمها لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلف النقل لتلك الألفاظ اقتصر على ما اتفقت عليه الروايات، وترك ما زاد على ذلك كما في التشهد، إذ لو كان المتروك واجباً لما سكت عنه. وقد استشكل ذلك ابن الفركاح في الاقليد فقال: جعلهم هذا هو الأقل، يحتاج إلى دليل على الاكتفاء بمسمى الصلاة، فإن الأحاديث الصحيحة ليس فيها الاقتصار والأحاديث التي فيها الأمر بمطلق الصلاة ليس فيها ما يشير إلى ما يجب من ذلك في الصلاة، وأقل ما وقع في الروايات: اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم، ومن ثم حكى الفوراني عن صاحب الفروع في إبحاب ذكر إبراهيم وجهين، واحتج لمن لم يوجبه بأنه ورد بدون ذكره في حديث زيد بن خارجة عند النسائي بسند قوي، ولفظه: "صلوا عليّ، وقولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد"، وفيه نظر؛ لأنه من اختصار بعض الرواة، فإن النسائي أخرجه من هذا الوجه بتمامه، وكذا الطحاوي. واختلف في إبحاب الصلاة على الآل، ففي تعيينها أيضاً عند الشافعية والحنابلة روايتان، والمشهور عندهم لا، وهو قول الجمهور، وادعى كثير منهم فيه الإجماع. ونقل البيهقي في الشعب عن أبي إسحاق المروزي، وهو من كبار الشافعية، قال: أنا اعتقد وجوبها. قال البيهقي: وفي الأحاديث الثابتة دلالة على صحة ما قال-انتهى كلام الحافظ. وقال الأمير اليماني في شرح حديث أبي مسعود البدري عند مالك وأحمد ومسلم وغيرهم: الحديث يقتضى أيضاً وجوب الصلاة على الآل، ولا عذر لمن قال بوجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - مستدلاً بهذا الحديث من القول بوجوبها على الآل، إذ المأمور به واحد، ودعوى النووي وغيره الإجماع على أن الصلاة على الآل مندوبة غير مسلمة، بل نقول: الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - لا تتم، ولا يكون العبد ممتثلاً بها، حتى يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي فيه ذكر الآل؛ لأنه قال السائل: كيف نصلي عليك؟ فأجابه بالكيفية أنها الصلاة عليه وعلى آله، فمن لم يأت بالآل فما صلى بالكيفية التي أمر بها، فلا يكون ممتثلاً للأمر، فلا يكون مصلياً عليه - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك بقية الحديث من قوله: كما صليت، إلى آخره يجب، إذ هو من الكيفية المأمور بها، ومن فرق بين ألفاظ هذه الكيفية بإيجاب بعضها وندب بعضها فلا دليل له على ذلك- انتهى. وقال الشوكاني في تحفة الذاكرين بعد ذكر حديث أبي مسعود البدري: فيه تقييد الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة فيفيد ذلك أن هذه الألفاظ المروية مختصة بالصلاة، وأما خارج الصلاة فيحصل الامتثال بما يفيده قوله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] ، فإذا قال القائل "اللهم صل وسلم على محمد" فقد امتثل الأمر القرآني، وقد جاءت أحاديث في تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لصفة الصلاة عليه(3/256)
متفق عليه. إلا أن مسلماً لم يذكر: على إبراهيم، في الموضعين.
926- (2) وعن أبي حميد الساعدي، قال: ((قالوا: يا رسول الله!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيجزئ المصلي أن يأتي بواحد منها إذا كان صحيحاً كما قلناه في التشهد والتوجه، ولكنه ينبغي أن يأتي بما هو أعلى صحة وأقوى سندا كحديث كعب، وأبي مسعود، ومثل ذلك حديث أبي حميد الساعدي يعني الذي يأتي، ومثل ذلك حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري والنسائي وابن ماجه-انتهى. قال الحافظ: واستدل بالحديث على أن إفراد الصلاة عن التسليم لا يكره، وكذا العكس؛ لأن تعليم التسليم تقدم قبل تعليم الصلاة كما تقدم، فأفرد التسليم مدة في التشهد قبل الصلاة عليه، وقد صرح النووي بالكراهة، واستدل بورود الأمر بهما معاً في الآية، وفيه نظر نعم يكره أن يفرد الصلاة، ولا يسلم أصلاً. وأما لو صلى في وقت، وسلم في وقت آخر فإنه يكون ممتثلاً-انتهى. قال القاري في شرح الشفاء: الواو تفيد الجمعية لا المعية كما عليه الأصولية، فلا دلالة في الآية على كراهية إفراد الصلاة عن السلام، وعكسه كما ذهب إليه النووي وأتباعه من الشافعية، وقد أوضحت ذلك في رسالة مستقلة-انتهى. (متفق عليه) ولفظه للبخاري في ترجمة إبراهيم - عليه السلام - في كتاب الأنبياء. والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. (إلا أن مسلماً لم يذكر "على إبراهيم" في الموضعين) أي في قوله " كما باركت" أي واقتصر فيهما على قوله "على آل إبراهيم" وقد ظهر من سياق البخاري المذكور أن ذكر محمد وإبراهيم، وذكر آل محمد وآل إبراهيم ثابت في أصل الخبر فيحمل على أن بعض الرواة حفظ مالم يحفظ الآخر. قال الحافظ: لما اختلفت ألفاظ الحديث في الإتيان بهما معاً وفي إفراد أحدهما كان أولى المحامل أن يحمل على أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك كله، ويكون بعض الرواة حفظ مالم يحفظ الآخر، وأما التعدد فبعيد؛ لأن غالب الطرق تصرح بأنه وقع جواباً عن قولهم كيف نصلي عليك؟ ويحتمل أن يكون بعض من اقتصر على "آل إبراهيم" بدون ذكر إبراهيم، رواه بالمعنى، بناء على دخول إبراهيم في قوله "آل إبراهيم". تنبيه: ادعى ابن القيم أن أكثر الأحاديث بل كلها مصرحة بذكر "محمد وآل محمد وبذكر "آل إبراهيم" فقط أو بذكر "إبراهيم" فقط. قال: ولم يجيء في حديث صحيح بلفظ "إبراهيم وآل إبراهيم" معاً. وإنما أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن السباق، عن رجل من بني الحارث، عن ابن مسعود، ويحيى مجهول، وشيخه مبهم، فهو سند ضعيف، وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر قوي، لكنه موقوف على ابن مسعود، وأخرجه النسائي، والدارقطني من حديث طلحة، قال الحافظ بعد ذكر كلام ابن القيم هذا: وغفل أي ابن القيم عما وقع في صحيح البخاري كما تقدم في أحاديث الأنبياء في ترجمة إبراهيم - عليه السلام -، وكذا وقع في حديث أبي مسعود البدري، أخرجه الطبري، إلى آخر ما بسط الكلام في ذكر الطرق لأحاديث من ذكر اللفظين معاً.
926-قوله: (قالوا) أي الصحابة، ووقع عند السراج والطبراني في حديث كعب بن عجرة: أن أصحاب رسول الله(3/257)
كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قولوا: اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- صلى الله عليه وسلم - قالوا. (كيف نصلي عليك؟) . أي كيف اللفظ اللائق بالصلاة عليك. (صل على محمد) صلاة تليق به. (وأزواجه) أمهات المؤمنين كما ورد التقييد بذلك في حديث أبي هريرة الآتي. (وذريته) أي نسله أولاد بنته فاطمة رضي الله عنها. قال الباجي: أما الأزواج فهن معروفات. وأما الذرية فمن كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولادة من ولده، وولده ممن تبع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأطاعه- انتهى. وقال الحافظ: الذرية- بضم المعجمة وحكى كسرها- هي النسل، وقد يختص بالنساء والأطفال، وقد يطلق على الأصل، وهي من ذرأ- بالهمزة- أي خلق الإنسان، إلا أن الهمزة سهلت لكثرة الاستعمال. وقيل: بل هي من الذر، أي خلقوا أمثال الذر، وعليه فليس مهموز الأصل- انتهى. قال السخاوي: فالذرية الأولاد وأولادهم، وهل يدخل أولاد البنات. فمذهب الشافعي ومالك، وهو رواية عن أحمد أنهم يدخلون لإجماع المسلمين على دخول أولاد فاطمة في ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكى ابن الحاجب الاتفاق على دخول ولد البنات. قال: لأن عيسى من ذرية إبراهيم - عليهما السلام -، وسامحه الشراح في نقل الاتفاق. ومذهب أبي حنيفة ورواية أخرى عن أحمد أنهم لا يدخلون، واستثنوا أولاد فاطمة - رضي الله عنها - لشرف هذا الأصل العظيم-انتهى. والحديث قد استدل على أن المراد بآل محمد أزواجه وذريته كما تقدم البحث فيه في الكلام على آل محمد. واستدل به على أن الصلاة على الآل لا تجب لسقوطها في هذا الحديث وهو ضعيف؛ لأنه لا يخلو أن يكون المراد بالآل غير أزواجه وذريته، أو أزواجه وذريته، وعلى تقدير كل منهما لا ينهض الاستدلال على عدم الوجوب، أما على الأول فلثبوت الأمر بذلك في غير هذا الحديث، وليس في هذا الحديث المنع منه، بل أخرج عبد الرزاق من طريق ابن طاووس، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن رجل من الصحابة الحديث المذكور بلفظ: صل على محمد، وأهل بيته، وأزواجه، وذريته. وأما على الثاني فواضح. واستدل به البيهقي على أن الأزواج من أهل البيت، وأيده بقوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} [33: 33] . كذا في الفتح. (على آل إبراهيم) بذكر لفظ الآل في الموضعين. وبحذف "على إبراهيم" فيهما، وقد تقدم أن ذكر إبراهيم ثابت في أصل الخبر، وإنما حفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، ويحتمل أن يكون بعض من اقتصر على إبراهيم بدون ذكر إبراهيم رواه بالمعنى بناء على دخول إبراهيم في قوله "آل إبراهيم"؛ لأنه قد يطلق "آل فلان" على نفسه وعليه، وعلى من يضاف إليه جميعاً، كقوله - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة، وكقوله تعالى: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [40: 46] . ومعلوم أن فرعون داخل معهم. قال النووي في شرح المهذب: ينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه، وذريته، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال العراقي: بقي عليه مما في الأحاديث الصحيحة ألفاظ أخر، وهي خمسة يجمعها قولك: اللهم(3/258)
وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)) . متفق عليه.
927- (3) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى علي واحدة، صلى الله عليه عشراً))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته، وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه، وذريته، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد- انتهى. قال الشوكاني في النيل: وهذه الزيادات التي ذكرها العراقي ثابتة في أحاديث الباب التي ذكرها ابن تيمية في المنتقى، وذكرناها، وقد وردت زيادات غير هذه في أحاديث أخر عن علي، وابن مسعود، وغيرهما ولكن فيها مقال-انتهى. وقال الحافظ: قد تعقب الأسنوي ما قال النووي فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه، وقال الأزرعي: لم يسبق إلى ما قال، والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات، ويقول: كل ما ثبت هذا مرة، وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم ترد مجموعة في حديث واحد-انتهى. وكأنه أخذ من كلام ابن القيم فإنه قال: إن هذه الكيفية لم ترد مجموعة في طريق من الطرق. والأولى أن يستعمل كل لفظ ثبت على حدة، فبذلك يحصل الإتيان بجميع ما ورد، بخلاف ما إذا قال الجميع دفعة واحدة، فإن الغالب على الظن أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقله كذلك، قال: وقد نص الشافعي على أن الاختلاف في ألفاظ التشهد ونحوه كالاختلاف في القراءات، ولم يقل أحد من الأئمة باستحباب التلاوة بجميع الألفاظ المختلفة في الحرف الواحد من القرآن، وإن كان بعضهم أجاز ذلك عند التعليم للتمرين. قال الحافظ: والذي يظهر أن اللفظ إن كان بمعنى اللفظ الآخر سواء كما في "أزواجه، وأمهات المؤمنين" فالأولى الاقتصار في كل مرة على أحدهما، وإن كان اللفظ يستقل بزيادة معنى ليس في اللفظ الآخر ألبتة فالأولى الإتيان به، ويحمل على أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وإن كان يزيد على الآخر في المعنى شيئاً فلا بأس بالإتيان به احتياطاً. وقالت طائفة منهم الطبري: إن ذلك من الاختلاف المباح، فأي لفظ ذكره المرء أجزأ، والأفضل أن يستعمل أكمله وأبلغه. واستدل على ذلك بالاختلاف النقل عن الصحابة، فذكر ما نقل عن علي وهو حديث طويل موقوف أخرجه الطبري، وسعيد بن منصور، والطبراني، وابن فارس، وعن ابن مسعود أخرجه ابن ماجه، والطبري-انتهى كلام الحافظ مختصراً. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في ترجمة إبراهيم من كتاب الأنبياء، وفي الدعوات، وأخرجه أيضاً أحمد، ومالك، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
927-قوله: (من صلى علي واحدة) أي صلاة واحدة (صلى الله عليه عشراً) أي عشر صلوات، وكلما زاد زاده بتلك النسبة. قال الشوكاني: المراد بالصلاة من الله الرحمة لعباده، وأنه يرحمهم رحمة بعد رحمة حتى تبلغ رحمته ذلك العدد، وقيل: المراد بصلاته عليهم إقباله عليهم بعطفه، وإخراجهم من ظلمة إلى رفعة ونور كما قال سبحانه: {هو(3/259)
رواه مسلم.
{الفصل الثاني}
928- (4) عن أنس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى علي صلاة واحدة، صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} [33: 43] انتهى. وقال عياض، معناه: رحمه وضاعف أجره، كقوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [6: 160] . قال القاري: والظاهر أن هذا أقل المضاعفة. قال عياض: ويجوز أن تكون الصلاة على وجهها، وظاهرها كلاماً يسمعه الملائكة تشريفاً للمصلي وتكريماً له، كما جاء: وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم-انتهى. وقد يستشكل بأنه كيف يجوز أن يكون الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة وعلى المصلي عشرا؟ وأجيب بأن الواحدة صفة فعل المصلي، وجزاءها عشر صلوات من الله عليه على ما قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [6: 160] . ولا يفهم منه أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله تكون واحدة، فإن فضل الله واسع، ولو سلمنا أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله تكون واحدة، فلعل هذه الصلاة الواحدة من الله تساوي في الشرف مائة ألف صلاة، أو تزيد في الشرف والكرامة بمائة ألف مرة، كما أن الجوهرة الواحدة الثمينة النفيسة تساوي في الثمن مائة ألف فلس، والله أعلم. والجمع بين هذا الحديث وبين ما يأتي من حديث عبد الله بن عمرو، قال: من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة، بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم بهذا الثواب شيئاً فشيئاً، فكلما علم بشيء قاله، فعلم - صلى الله عليه وسلم - بأن ثواب من صلى عليه هو ما في الحديث الأول، وما ورد في معناه، فأخبر به، ثم علم بأن ثوابه هو ما جاء في الحديث الثاني فأخبر به. قال ابن العربي في عارضة الأحوذى (ج2: ص273) : الذي أعتقده - والله أعلم - أن قوله: من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً، ليست لمن قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هي لمن صلى عليه كما علم بما نصصناه عنه، والله أعلم-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، وفي بعض ألفاظ الترمذي: من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، وكتب له بها عشر حسنات. لكن رواية الترمذي هذه لم أجدها، وقد أشار إليها المنذري في الترغيب وذكر أنها رواية عند الترمذي، فكأنه لم يجدها في كتاب آخر.
928-قوله. (وحطت عنه عشر خطيئات) أي غفرت، وسترت، ووضعت، ولعله اختير لفظ "حطت" لمقابلة قوله: (ورفعت له عشر درجات) في الدنيا بتوفيق الطاعات، وفي القيامة بتثقيل الحسنات، وفي الجنة بزيادة الكرامات. قال الطيبي: الصلاة من العبد طلب التعظيم والتبجيل لجناب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة من الله تعالى أي(3/260)
رواه النسائي.
929- (5) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)) . رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في الجزاء إن كانت بمعنى الغفران فيكون من باب المشاكلة من حيث اللفظ، وإن كانت بمعنى التعظيم فيكون من الموافقة لفظاً ومعنى، وهذا هو الوجه لئلا يتكرر معنى الغفران، أي مع الحط. ومعنى الأعداد المخصوصة محمول على المزيد والفضل في المعنى المطلوب، كذا في المرقاة. قال ابن العربي: إن قيل قد قال الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [6: 160] فما فائدة هذا الحديث؟ قلنا: أعظم فائدة، وذلك أن القرآن اقتضى أن من جاء بحسنة تضاعف عشرة، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حسنة، فمقتضى القرآن أن يعطي عشر درجات في الجنة، فأخبر أن الله تعالى يصلي على من صلى على رسوله عشراً، وذكر الله العبد أعظم من الحسنة مضاعفة، قال: ويحقق ذلك أن الله تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلا ذكره وكذلك جعل جزاء ذكر نبيه ذكره لمن ذكره. قال العراقي: ولم يقتصر على ذلك حتى زاده كتابة عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفعه عشر درجات كما ورد في الأحاديث. (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه (ج1: ص550) وقال صحيح الإسناد. وأقره الذهبي، وله شواهد من حديث سعيد بن عمر الأنصاري عند أبي نعيم في الحلية، ومن حديث أبي بردة بن نيار، وأبي طلحة، كلاهما عند النسائي، ورواتهما ثقات، ومن حديث البراء بن عازب عند ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة عن مولى للبراء لم يسمه عنه.
929- قوله: (أولى الناس بي يوم القيامة) أي أقربهم مني في القيامة، وأحراهم باللحوق بي، وأحقهم بالفوز بشفاعتي. قال الطيبي: يعني أخص أمتي، وأقربهم مني، وأحقهم بشفاعتي، من الولى بمعنى القرب، وضمن معنى الاختصاص فعدى بالباء. (أكثرهم على صلاة) أي في الدنيا، وذلك؛ لأن الاستكثار من الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - يورث المحبة وهي تورث الاتحاد، وقال المناوي: لأن كثرة الصلاة عليه تدل على صدق المحبة وكمال الوصلة، فتكون منازلهم في الآخرة منه بحسب تفاوتهم في ذلك-انتهى. قال ابن حبان في صحيحه عقب هذا الحديث: فيه بيان أن أولاهم به - صلى الله عليه وسلم - في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم. وقال الخطيب البغدادي: قال لنا أبونعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها؛ لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخاً وذكراً، يعني كتابة وقولاً. (رواه الترمذي) وقال هذا حديث حسن غريب، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه كلاهما من رواية موسى بن يعقوب الزمعي عن عبد الله بن كيسان الزهري، وموسى هذا وثقة ابن معين وابن القطان، وقال الآجري عن أبي داود: هو صالح، وقال ابن عدي: لا بأس به عندي ولا برواياته.(3/261)
930- (6) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) رواه النسائي، والدارمي.
931- (7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يسلم علي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن المديني: ضعيف، منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي، كذا في تهذيب التهذيب (ج1: ص378) ، والميزان (ج3: ص221) وقال الحافظ في التقريب: صدوق، سيء الحفظ-انتهى. وأما عبد الله بن كيسان فقال عنه ابن القطان: لا يعرف حاله، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ: هو مقبول، وللحديث شاهد من حديث أبي أمامة بلفظ: صلاة أمتي تعرض علي في كل جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة، أخرجه البيهقي. قال الحافظ في الفتح: لا بأس بسنده.
930- قوله: (إن لله ملائكة) أي جماعة، منهم. (سياحين) صفة الملائكة، بالسين المهملة من السياحة وهي السير، يقال: ساح في الأرض يسيح سياحة إذا ذهب فيها، وأصله من السيح وهو الماء الجاري المنبسط على الأرض، في القاموس: ساح الماء، جرى على وجه الأرض، والسياح- بالتشديد- كالعلام مبالغة منها. (يبلغوني) من الإبلاغ أو التبليغ، قال القاري: وروي بتخفيف النون على حذف إحدى النونين. وقيل بتشديدها على الإدغام. (من أمتي السلام) أي يبلغوني سلام من سلم علي منهم قليلاً أو كثيراً وإن بعد قطره، أي فيرد عليه بسماعه منهم، وفيه حث على الصلاة والسلام عليه، وتعظيم له - صلى الله عليه وسلم -، وإجلال لمنزلته، حيث سخر الملائكة الكرام لهذا الشأن الفخم. قال الشوكاني: في الحديث الترغيب العظيم للاستكثار من الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إذا كانت صلاة واحدة من صلاة من صلى عليه تبلغه كان ذلك منشطاً له أعظم تنشيط، والاقتصار في الحديث على السلام لا ينافي إبلاغ الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، فحكمهما واحد كما يدل عليه حديث الحسن بن علي، وحديث أنس كلاهما عند الطبراني، وسنذكر لفظهما. (رواه النسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج2: ص421) وقال صحيح، وأقره الذهبي. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسن من حديث الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حيثما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني، وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به من حديث أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صلى علي بلغتني صلاته، وصليت عليه، وكتب له سوى ذلك عشر حسنات.
931- قوله: (ما من أحد يسلم علي) ظاهره الإطلاق الشامل لكل مكان وزمان، فيكون فيه دليل على حصول فضيلة رد السلام لكل مسلم قريباً كان أو بعيداً، وعلى أنه - صلى الله عليه وسلم - يرد السلام على من يسلم عليه من جميع الآفاق من جميع أمته على بُعد شقته، لكن فهم عامة العلماء منه أن المراد السلام عليه عند قبره، فيدل على تخصيص رد السلام بالقريب من(3/262)
القبر. قال الحفني: قوله ما من أحد أي مؤمن يسلم، الخ. ظاهره ولو بعيداً عن القبر، لكن خصه بعض الأئمة بالقريب منه، أما البعيد فيبلغه الملك-انتهى. وقال الحافظ العلامة محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي في "الصارم المنكي في الرد على التقي السبكي" (ص172) : قوله: "ما من أحد يسلم" يحتمل أن يكون المراد به عند قبره كما فهمه جماعة من الأئمة، ويحتمل أن يكون معناه على العموم، وأنه لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد، وهذا هو ظاهر الحديث، وهو الموافق للأحاديث المشهورة التي فيها "فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم، وإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" يشير بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبُعدكم منه، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً. والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تبلغه، وتعرض عليه، كثيرة-انتهى. وقال الشوكاني: ليس في الحديث ما يدل علىاعتبار كون المسلّم عليه على قبره، بل ظاهره أعم من ذلك-انتهى. قلت: إن كان المراد بالسلام في قوله: ما من أحد يسلم، الخ. ما هو بمنزلة سلام التحية الموجب للرد الذي هو حق المسلم، ولا يختص بالمؤمن، فإن الصحيح أن المراد في الحديث السلام عليه عند قبره كما فهمه كثير من العلماء؛ لأن سلام التحية على الميت يكون عند القبر لكن السلام المشروع عند القبر الذي هو سلام تحية ليس من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا روي أن الميت يرد السلام مطلقاً. فقد أخرج ابن عبد البر في الاستذكار والتمهيد عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه، ورد عليه السلام، صححه أبومحمد عبد الحق، قال: وهذا نص في أنه يعرفه بعينه، ويرد عليه السلام، وروى ابن أي الدنيا في كتاب القبور بسنده عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة، قال: إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام، وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه. وعلى هذا فالحديث يكون مختصاً بالحاضر عند قبره. وأما الغائب فلا يحصل له ذلك. وإن كان المراد بالسلام في الحديث ما أمر الله به في القرآن، أعني الذي يسلم على صاحبه كما يصلي على من صلى عليه، والذي يختص بالمؤمن ولا يوجب الرد ولا يستدعيه، بل هو بمنزلة دعاء المؤمن للمؤمنين والاستغفار لهم، وله فيه الأجر والثواب من الله ليس على المدعو لهم مثل ذلك الدعاء، خلافاً لسلام التحية، فحمله على العموم هو الظاهر بل هو المتعين؛ لأنه ليس في الحديث ما يدل على اعتبار كون المسلم عليه حاضراً عند قبره، ولأن السلام مأمور به في القرآن مع الصلاة عليه بقوله: {صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] مشروع له في جميع الأمكنة، لا يختص بمكان دون مكان، ولا مزية للسلام عليه عند قبره، كما لا مزية للصلاة عليه عند قبره، بل قد نهى عن تخصيص قبره بهذا كما روى: لا تتخذوا قبري عيداً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم. والراجح عندي أن المراد بالسلام في الحديث سلام دعاء لا سلام تحية، فيتعين حمل الحديث على العموم، ولا يكون في ذلك فرق بين القريب والبعيد، كما قال في "الصارم المنكي": ولا يكون الحديث مختصاً بالزائر للقبر، الحاضر(3/263)
عنده، بل يحصل ذلك لكل مسلم قريباً كان أو بعيداً، وحينئذٍ تحصل فضيلة رد النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام على المسلّم من غير زيارة وحضور عند قبره. قال القاري في شرح الشفاء: ظاهر حديث أبي هريرة الإطلاق الشامل لكل مكان وزمان، ومن خص الرد بوقت الزيارة فعليه البيان-انتهى. وسيأتي من حديث أبي هريرة ما يدل على أن سلام الغائب عن قبره يبلغه ويعرض عليه، وأما الحاضر عند القبر، الزائر له إن كانت الزيارة المعهودة ممكنة مقدورة فهل يكون كذلك أو يسمعه - صلى الله عليه وسلم - بغير واسطة؟ فقال القاري: الزائر إذا صلى وسلم عند قبره سمعه سماعاً حقيقياً بخلاف من يصلي ويسلم عليه من بعيد، فإن ذلك لا يبلغه إلا بواسطة لما جاء عنه بسند جيد: من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي من بعيداً علمته-انتهى. قلت: أخرج هذا الحديث أبوبكر بن أبي شيبة، والبيهقي، والعقيلي من طريق العلاء بن عمرو الحنفي، عن محمد بن مروان السدي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صلى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً عن قبري بلغته. قال العقيلي: لا أصل له من حديث الأعمش، وليس بمحفوظ-انتهى. قلت: قد تكلم ابن حبان، والأزدي في العلاء بن عمرو، فقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال الأزدي: لا يكتب عنه بحال. ومحمد بن مروان السدي متروك الحديث، متهم بالكذب، ورواه الطبراني من طريق العلاء أيضاً، ولفظه: من صلى علي من قريب سمعته، ومن صلى علي من بعيد أبلغته. وقد رواه أبوالشيخ في كتاب الثواب بلفظ الطبراني من رواية أبي معاوية عن الأعمش، قال في الصارم: وهو خطأ فاحش، وإنما هو محمد بن مروان السدي، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب. وقال ابن القيم في جلاء الأفهام: هذا الحديث غريب جداً، وقد ظهر بهذا أن قول القاري "بسند جيد" ليس بجيد، وكذا ما قال الحافظ في الفتح في رواية أبي الشيخ "أنه أخرجها بسند جيد" لا يخلو عن نظر وإشكال. وهذا، وقد ورد ما يدل على عدم السماع عند القبر، وهو ما روى البيهقي في الشعب بسند فيه محمد بن موسى الكديمي البصري، ومحمد بن مروان السدي، والكديمي متهم بالكذب، ووضع الحديث، والسدي متهم بالكذب، متروك الحديث عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً: ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكّل الله به ملكاً يبلغني. وفي رواية: من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكا يبلغني، الخ. واعلم أن الذي استحبوا سلام التحية في المسجد خارج الحجرة - وهم أحمد وأبوداود، وابن حبيب والبيهقي، وغيرهم - قد ذهبوا إلى أن المراد بالسلام في الحديث السلام عند قبره، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يرد على كل مسلّم عليه في صلاته في شرق الأرض وغربها، واحتجوا لما اختاروه بهذا الحديث، واعتمدوا عليه في مسألة الزيارة، لكن في الاستدلال به على استحباب سلام التحية في المسجد خارج الحجرة نظر. قال محمد بن عبد الهادي المقدسي في "الصارم المنكي" (ص105) : إن كان المراد السلام عليه عند قبره كما فهمه عامة العلماء فهل يدخل فيه من سلّم من خارج الحجرة، هذا مما(3/264)
تنازع فيه الناس، وقد نوزعوا في دلالته، فمن الناس من يقول: هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره كما كانوا يدخلون الحجرة على زمن عائشة فيسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يرد عليهم، فأولئك سلموا عليه عند قبره، وكان يرد عليهم، وهذا قد جاء عموماً في حق المؤمنين: ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، قالوا: فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره، بل سلامهم عليه كالسلام عليه في الصلاة، وكالسلام عليه إذا دخل المسجد وخرج، هذا هو السلام الذي أمر الله به في حقه بقوله: {صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] . وهذا السلام قد ورد أنه من سلم مرة سلم الله عليه عشراً، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً. وقال في (ص107) : وسلام الزائر للقبر على الميت المؤمن من باب سلام التحية. ولهذا روي أن الميت يرد السلام مطلقاً، فالصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - في مسجده، وسائر المساجد، وسائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. وأما السلام عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعاً لما كان ممكنناً بدخول من يدخل على عائشة. وأما تخصيص هذا السلام والصلاة بالمكان القريب من الحجرة فهذا محل النزاع، وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: منهم من ذكر استحباب السلام والصلاة عليه إذا دخل المسجد، ثم بعد أن يصلي في المسجد استحب أيضاً أن يأتي إلى القبر، ويصلي ويسلم، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد. ومنهم من لم يذكر إلا الثاني فقط، وكثير من السلف لم يذكروا إلا النوع الأول فقط، فأما النوع الأول فهو المشروع لأهل البلد، وللغرباء في هذا المسجد، وغير هذا المسجد. وأما النوع الثاني فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلاد والغرباء، سواء فعله مع الأول أو مجرداً عنه، كما ذكر ذلك ابن حبيب وغيره. وقال في (ص126) : وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له، والسلام عليه عند الحجرة. فبعضهم رأى هذا من السلام الداخل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام، واستحبه لذلك. وبعضهم لم يستحبه إما لعدم دخوله، وإما لأن السلام المأمور به في القرآن مع الصلاة وهو السلام الذي لا يوجب الرد أفضل من السلام الموجب للرد، فإن هذا مما دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه السلف، فإن السلام المأمور به في القرآن كالصلاة المأمور بها في القرآن كلاهما لا يوجب عليه الرد، بل الله يصلي على من يصلي عليه، ويسلم على من يسلم عليه، ولأن السلام الذي يوجب الرد هو حق للمسلم، ولهذا يرد السلام على من سلم وإن كان كافراً، وكان اليهود إذا سلموا يقول: عليكم، وأمر أمته بذلك. قال: ولا يجوز أن الكفار إذا سلموا عليه سلام التحية فإن الله يسلم عليهم عشراً، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيبهم على ذلك فيوفيهم، كما لو كان لهم دَين فقضاه، وأما ما يختص بالمؤمنين فإذا صلوا عليه صلى الله على من صلى عليه عشراً، وإذا سلم عليه سلم الله عيه عشراً، وهذا الصلاة والسلام عليه هو المشروع في كل مكان بالكتاب، والسنة، والإجماع، بل هو مأمور به من الله(3/265)
سبحانه وتعالى، لا فرق في هذا بين الغرباء وأهل المدينة عند القبر. وأما السلام عليه عند القبر فقد عرف أن الصحابة، والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه إذا دخلوا المسجد، وخرجوا منه، ولو كان هذا كالسلام عليه لو كان حياً لكانوا يفعلونه كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، كما لو دخلوا المسجد في حياته وهو فيه، فإنه مشروع لهم كلما رأوه أن يسلموا عليه، فهو لما كان حياً كان أحدهم إذا أتى يسلم، وإذا قام يسلم، ومثل هذا لا يشرع عند القبر باتفاق المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من عادة الصحابة، ولو كان سلام التحية خارج الحجرة لكان مستحباً لكل أحد، ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة، ولا بين حال السفر وغيره، فإن استحباب هذا لهؤلاء وكراهته لهؤلاء حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، ولا يمكن أحداً أن ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر. وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولم يشرع ذلك لأهل المدينة. فمثل هذه الشريعة ليس منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن خلفائه، ولا هو معروف من عمل الصحابة، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة، فقد روى عبد الرزاق عن معمر: ذكرت ذلك أي عمل ابن عمر لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك إلا ابن عمر، هكذا قال عبيد الله بن عمر العمري الكبير، وهو أعلم آل عمر في زمانه، وأحفظهم، وأثبتهم. قال الشيخ أي ابن تيمية: كما كان ابن عمر يتحرى الصلاة، والنزول والمرور حيث حل ونزل وغير ذلك في السفر، وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك، بل أبوه عمر كان ينهى عن مثل ذلك كما روى سعيد بن منصور في سننه. وقال في (ص129) : ومما اتفق عليه الصحابة، ابن عمر وغيره من أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا، بل يكره ذلك، يبين ضعف حجة من احتج بقوله: "ما من رجل يسلم إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"، فإن هذا لو دل على استحباب السلام من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك، ولم يفرق بين القادم من السفر وغيره، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسره علم أنه غير مستحب، بل لو كان جائزاً لفعله بعضهم، فدل على أنه كان من المنهي عنه كما دلت عليه سائر الأحاديث، وعلى هذا فالجواب عن الحديث: إما بتضعيفه على قول من يضعفه، وإما بأن ذلك يوجب فضيلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا فضيلة المسلم بالرد عليه. إذا كان هذا من باب المكافأة والجزاء حتى أنه يشرع للبر والفاجر التحية، بخلاف ما يقصد به الدعاء المجرد، وهو السلام المأمور به. وإما بأن يقال هذا مما هو في من سلم عليه من قريب، والقريب أن يكون في بيته، فإنه إن لم يحد بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع، ثم بسط الوجه الثاني، ثم ذكر في (ص131) كلام ابن تيمية في الرد على حجة من فرق بين الصادر من المدينة والوارد عليها، والوارد على مسجده من الغرباء، والصادر عنه. ثم قال في(3/266)
(ص136) : والمقصود أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين يدخلون المسجد ويصلون فيه الصلوات الخمس، ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسلمون عليه عند دخول المسجد وبعد دخوله، ولم يكونوا يذهبون ويقفون إلى جانب الحجرة ويسلمون عليه هناك، وكان على عهد الخلفاء الراشدين والصحابة حجرته خارجة عن المسجد، ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار. ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذي كانوا بالمدينة، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين. فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك، وكان الذي تولى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة فسد باب الحجرة، وبنوا حائطاً آخر عليها غير الحائط القديم، فصار المسلم عليه من وراء الجدار أبعد من المسلم عليه لما كان جداًرا واحداً. قال هؤلاء: لو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعاً في المسجد لكان له حد، ذراع أو ذراعان، أو ثلاثة، فلا يعرف الفرق بين المكان الذي استحب فيه هذا. ولمكان الذي لا يستحب فيه. فإن قيل: من سلم عليه عند الحائط الغربي رد عليه. قيل: وكذلك من كان خارج المسجد، وإلا فما الفرق؟ وحينئذٍ يلزم أن يرد على جميع أهل الأرض، وعلى كل مصل في صلاة كما ظنه بعض الغالطين، ومعلوم بطلان ذلك. وإن قيل: يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة. قيل: فما حد ذلك؟ ولهم قولان: منهم من يستحب القرب من الحجرة كما استحب ذلك مالك وغيره، ولكن يقال: فما حد ذلك القرب؟ وإذا جعل له حد فهل يكون من خرج عن الحد فعل المستحب؟ وآخرون من المتأخرين يستحبون التباعد عن الحجرة كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي فهل هو بذراع أو باع أو أكثر؟ وقدره من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربعة أذرع فإنهم قالوا: يكون حين يسلم عليه مستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، ولا يدنوا أكثر من ذلك، وهذا والله أعلم، قاله المتقدمون؛ لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن، كالصلاة عليه ليس المقصود به سلام التحية الذي يرد جوابه المسلم عليه، فإن هذا لا يشرع فيه هذا البعد، ولا يستقبل به القبلة، ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد. وبالجملة فمن قال: إنه يسلم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد من تحديد مكان ذلك، فإن قال إلى أن يسمع ويرد السلام، فإن حد في ذلك ذراعاً، أو ذراعين أو عشرة أذرع، أو قال: إن ذلك في المسجد كله أو خارج المسجد فلا بد له من دليل، والأحاديث الثابتة عنه فيها أن الملائكة يبلغونه صلاة من صلى عليه، وسلام من سلم عليه، ليس في شيء منها أنه يسمع بنفسه ذلك، فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان فلا بد له من حد. ومعلوم أنه ليس في ذلك حد شرعي، وما أحد يحد في ذلك حداً إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق، وأيضاً فذلك يختلف باختلاف ارتفاع الأصوات، وانخفاضها والسنة للمسلم في السلام عليه خفض الصوت، ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك بخلاف المسلّم من الحجرة، فإنه فرق ظاهر بينه وبين المسلّم عليه من المسجد، ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته، فالمسلّم عليه إن رفع الصوت(3/267)
أساء الأدب برفع الصوت في المسجد، وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة، وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله الذي يسلم الله على صاحبه كما يصلي على من صلى عليه، فإن هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر. وبالجملة فهذا الموضع فيه نزاع قديم بين العلماء، وعلى كل تقدير فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به، فعلم أن هذه الأحاديث. (يعني التي يوردها المبتدعون من القبوريين وغيرهم للاحتجاج لاستحباب السفر لمجرد زيارة قبره من غير قصد الصلاة في مسجد - صلى الله عليه وسلم -، وقد بين ما فيها من الكلام في "الصارم المنكي" مفصلاً) ليست مما يعرفه أهل العلم، ولهذا لما تتبعت وجدت رواتها إما كذاب، أو ضعيف سيء الحفظ، ونحو ذلك. وهذا الحديث الذي فيه "ما من مسلم يسلّم إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" قد احتج به أحمد وغيره من العلماء، فلو قدر أن هذا مخالف لما هو أصح منه، وجب تقديم ذلك عليه، ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جاء في غير هذا الحديث، ولو أريد إثبات سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفاً فيه للنزاع في إسناده وفي دلالته متنه. وقال في (ص145) بعد ذكر الأحاديث التي فيها تبليغ صلاة أمته وسلامهم عليه: فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان فصدق بعضها بعضاً، وهي متفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته فإن ذلك يبلغه ويعرض عليه، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي عليه والمسلّم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه - صلى الله عليه وسلم - تسليماً، ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به سواء صلى عليه وسلم في مسجده، أو مدينته، أو مكان آخر، فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه، وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً، كما يصلي على من صلى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان، وقد تقدم حديث أبي هريرة أنه يرد السلام على من سلم عليه، والمراد عند قبره، لكن النزاع في معنى كونه عند القبر هل المراد في بيته كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى إنما هو لمن كان عند قبورهم قريباً منها، أو يراد به من كان في الحجرة كما قاله طائفة من السلف والخلف، وهل يستحب ذلك عند الحجرة لمن قدم من سفر أو لمن أراده من أهل المدينة أو لا يستحب بحال؟ وليس الاعتماد في سماعه ما يبلغه من صلاة أمته وسلامهم إلا على هذه الأحاديث الثابتة، فأما ذاك الحديث. (يعني ما روي عن أبي هريرة بلفظ: من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيا بلغته) وإن كان معناه صحيحاً، فإسناده لا يحتج به، وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر، فإنه لا يعرف إلا من حديث محمد بن مروان السدي الصغير عن الأعمش، وهو عندهم موضوع على الأعمش، وهو لو كان صحيحاً فإنما فيه أنه يبلغ صلاة من صلى نائياً، ليس فيه أنه يسمع ذلك، فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم، ولا يعرف في شيء من الحديث، إنما يقوله بعض الجهال،(3/268)
إلا رد الله عليّ روحي، حتى أرد عليه السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقولون: إنه يوم الجمعة وليلة الجمعة يسمع بأذنيه صلاة من صلى عليه، فالقول بأنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه، وكذلك تبلغه إياه الملائكة، وقول القائل: إنه يسمع الصلاة من بعيد، ممتنع فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه فهذه مكابرة، وإن أراد أنه هو بحيث يسمع أصوات الخلائق من البعد فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم-انتهى. وقال العلامة الشيخ محمد بشير السهسواني في "صيانة الإنسان" (ص21-24) : إن زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - المعهودة في زماننا هل يرفع فيها الصوت ويجهر له بالقول أم لا؟ والأول منهي عنه لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [49: 2] . وقال: في هذا الشق يلزم ثلاث محذورات، الأول: رفع الصوت في المسجد. والثاني: رفع الصوت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثالث: رفع الصوت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: والشق الثاني أيضاً باطل، فإن السلام المشروع عند القبر سلام تحية لا سلام دعاء، وسلام التحية لا بد فيه من أن يفعل بحيث يسمعه المسلّم عليه حتى يرده على المسلّم. قال في المواهب وشرحه للزرقاني: ويكثر من الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه، بأن يقف بمكان قريب منه، ويرفع صوته إلى حد لو كان حياً مخاطباً لسمعه عادة-انتهى. وقال الزرقاني: والظاهر أن المراد بالعندية قرب القبر بحيث يصدق عليه عرفاً أنه عنده، وبالبُعد ما عداه وإن كان بالمسجد-انتهى. ولما سدت حجرة عائشة التي هي مدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبنيت على القبر حيطان مرتفعة مستديرة حوله، ثم بنى عليه جدران من ركني القبر الشمالين، تعذر الوصول إلى قرب القبر، فالزائرون اليوم إنما يسلمون من مسافة لو سلم على حي من تلك المسافة لما سمعه فكيف يسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرده عليه ولو سلم حياته - صلى الله عليه وسلم - في القبر؟ فإن قيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الممات يمكن أن يزداد قوة سمعه فيسمع من تلك المسافة. فيقال: أي دليل على هذا من كتاب وسنة. ومجرد الإمكان العقلي لا يغني عن شيء، علا أنه هل لذلك تحديد أم لا؟ على الثاني يستوي المسلم من بعيد والمسلم عند القبر، وهذا باطل عند من يقول بقربة الزيارة، فإنهم فضلوا السلام عند القبر على السلام من بعيد كالسبكي، وابن حجر المكي. وعلى الأول فلا بد من بيانه بدليل شرعي وأنى له ذلك؟. (إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام) هذا مشكل على من ذهب إلى أن الأنبياء بعد ما قبضوا ردت إليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، ووجه الإشكال فيه أن عود الروح إلى الجسد يقتضي انفصالها عنه، وهو الموت، وهو لا يلتئم مع كونه حياً دائماً، بل رد روحه يلزمه تعدد حياته ووفاته في أقل من ساعة، إذ الكون لا يخلو من أن يسلم عليه بل قد يتعدد في آن واحد كثيراً، وقد أجابوا عنه بأجوبة، أحدها: أن المراد بقوله: "رد الله على روحي"، أن رد روحه كانت سابقة عقب دفنه، لا أنها تعاد ثم تنزع. قال السيوطي في تأليفه الذي أفرده للجواب عن هذا الإشكال سماه "انتباه الأذكياء بحياة(3/269)
الأنبياء" ما نصه: أن قوله " رد الله روحي" جملة حالية، وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا صدرت بفعل ماض قدرت فيه "قد" كقوله تعالى: {أو جاءوكم حصرت صدورهم} [4: 90] أي قد حصرت، وكذا ههنا يقدر "قد" والجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد، و"حتى" ليست للتعليل بل لمجرد العطف بمعنى الواو، فصار تقدير الحديث: ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي قبل ذل: وأرد عليه، وإنما جاء الإشكال من أن جملة "رد الله علي روحي" بمعنى حال أو استقبال، وظن أن "حتى" تعليلية ولا يصح ذلك كله، وبهذا الذي قدرناه ارتفع الإشكال من أصله، ويؤيده من حيث المعنى أن الرد لو أخذ بمعنى حال أو استقبال للزم تكرره عند تكرار المسلمين، وتكرر الرد يستلزم تكرر المفارقة، وتكرر المفارقة يلزم منه محذورات، منها: تألم الجسد الشريف بتكرار خروج روحه وعوده، أو نوع ما من مخالفة تكرير إن لم يتألم، ومنها: مخالف سائر الناس من الشهداء وغيرهم، إذ لم يثبت لأحدهم أنه يتكرر له مفارقة روحه وعوده بالبرزخ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاستمرار الذي هو أعلى رتبة، ومنها: مخالفة القرآن إذ دل أنه ليس إلا موتتان وحياتتان، وهذا التكرار يستلزم موتات كثيرة وهو باطل. ومنها: مخالفة الأحاديث المتواترة الدالة على حياة الأنبياء. وما خالف القرآن والسنة المتواترة وجب تأويله-انتهى. وهذا الجواب هو أحسن الأجوبة وأقواها عند السيوطي كما صرح به في رسالته، وقد تلقى هذا الجواب عن البيهقي وسيأتي ما فيه من الكلام. الثاني: أنه يستغرق في أمور الملأ الأعلى، فإذا سلم عليه رجع إليه فهمه ليجيب من سلم عليه، قال السيوطي: لفظ الرد قد لا يدل على المفارقة، بل كنى به عن مطلق الصيرورة، وحسنه هنا مراعاة المناسبة اللفظية بينه وبين قوله: حتى أرد عليه السلام، فجاء لفظ الرد في صدر الحديث لمناسبة ذكره بآخره، وليس المراد بردها عودها بعد مفارقة بدنها، وإنما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبرزخ مشغول بأحوال الملكوت، مستغرق في مشاهدته تعالى كما هو في الدنيا بحالة الوحي، فعبر عن أفاقته من تلك الحالة برد الروح. وقال البيهقي: ويحتمل أن يكون رداً معنوياً، وأن تكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهية، والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم لتدرك سلام من يسلم عليه ويرد عليه-انتهى. وقد نظر في هذين الجوابين الحافظ أبوعبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي في "الصارم المنكي (ص 179، 203) فقال: في كل منهما نظر، أما الأول فمضمونه رد روحه - صلى الله عليه وسلم - بعد موته إلى جسده، واستمرارها فيه قبل سلام من يسلم عليه، وليس هذا المعنى مذكور في الحديث، ولا هو ظاهره، بل هو مخالف لظاهره، فإن قوله "إلا رد الله علي روحي" بعد قوله "ما من أحد يسلم على "يقتضي رد الروح بعد السلام، ولا يقتضي استمرارها في الجسد، وليعلم أن رد الروح بعد السلام للبدن وعودها إلى الجسد بعد الموت لا يقتضي استمرارها فيه، ولا يستلزم حياة أخرى قبل يوم النشور نظير الحياة المعهودة، بل إعادة الروح إلى الجسد في البرزخ إعادة برزخية لا تزيل عن الميت اسم الموت، وقد ثبت في حديث البراء بن عازب(3/270)
الطويل المشهور في عذاب القبر ونعيمه، وفي بيان الميت وحاله، أن روحه تعاد إلى جسده مع العلم بأنها غير مستمرة فيه وأن هذه الإعادة ليست مستلزمة لإثبات حياة مزيلة لاسم الموت، بل هي نوع حياة برزخية، والحياة جنس تحته أنواع، وكذلك الموت، فإثبات بعض أنواع الموت لا ينافي الحياة كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا استيقظ من النوم قال: الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور، وتعلق الروح بالبدن واتصالها به يتنوع أنواعاً، أحدها: تعلقها به في هذا العالم يقظة ومناماً. الثاني: تعلقها به في البرزخ، والأموات متفاوتون في ذلك، فالذي للرسل والأنبياء أكمل مما للشهداء، ولهذا لا تبلى أجسادهم، والذي للشهداء أكمل مما لغيرهم من المؤمنين الذين ليسوا بشهداء. والثالث: تعلقها به يوم البعث الآخر، ورد الروح إلى البدن في البرزخ لا يستلزم الحياة المعهودة، ومن زعم استلزمه لها لزمه ارتكاب أمور باطلة مخالفة للحس، والشرع، والعقل، وهذا المعنى المذكور في حديث أبي هريرة من رده - صلى الله عليه وسلم - السلام على من يسلم عليه قد ورد نحوه في الرجل يمر بقبر أخيه، فذكر ما رواه ابن عبد البر من حديث ابن عباس مرفوعاً: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه. حتى يرد عليه السلام، ثم قال: ولم يقل أحد إن هذا الرد يقتضي استمرار الروح في الجسد، ولا قال إنه يستلزم حياة نظير الحياة المعهودة، ثم ذكر آثاراً عن أبي هريرة، وعائشة بمعناه، وقال: قد روي في هذا الباب آثار كثيرة، وفي الجملة رد الروح على الميت في البرزخ، ورد السلام على من يسلم عليه لا يستلزم الحياة التي يظنها بعض الغالطين، وإن كانت نوع حياة برزخية، وقول من زعم أنها نظير الحياة المعهودة، مخالف للمنقول والمعقول، ويلزم منه مفارقته الروح للرفيق الأعلى، وحصولها تحت التراب قرناً بعد قرن والبدن حي مدرك سميع بصير تحت أطباق التراب والحجارة، ولوازم هذا الباطلة مما لا يخفى على العقلاء وبهذا يعلم بطلان تأويل قوله "إلا رد الله على روحي" بأن معناه: إلا وقد رد الله علي روحي، وأن ذلك مستمر وأحياه الله قبل يوم النشور، وأقره تحت التراب واللبن، فيا ليت شعري هل فارقت روحه الكريمة الرفيق الأعلى واتخذت بييت تحت الأرض مع البدن أم في الحال الواحد هي في المكانين؟ قال: وأما الجواب الثاني: وهو أن هذا رد معنوي، ففيه نوع من الحق، لكن صاحبه قصر فيه غاية التقصير، وهو إنما يصح ويجيء على قول أهل السنة من الفقهاء والمحدثين وغيرهم أن الروح ذات قائمة بنفسها لها صفات تقوم بها، وأنها تقارن البدن، وتصعد وتنزل، وتقبض، وتنعم، وتعذب، وتدخل، وتخرج، وتذهب، وتجيء، وتسأل، وتحاسب، ويقبضها الملك، ويعرج بها إلى السماء، ويشيعها ملائكة السموات إن كانت طيبة، وإن كانت خبيثة طرحت طرحاً، وأنه تحس، وتدرك، وتأكل، وتشرب في البرزخ من الجنة، كما دلت عليه السنة الصحيحة في أرواح الشهداء خصوصاً، والمؤمنين عموماً، ومع هذا فلها شأن آخر غير شأن البدن، فإنها تكون في الملأ الأعلى فوق السموات، وقد تعلقت بالبدن تعلقاً يقتضي رد السلام(3/271)
على من سلم، وهي في مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى، وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء على موسى قائماً يصلي في قبره، ثم رآه في السماء السادسة، ولا ريب أن موسى لم يرفع من قبره تلك الليلة لا هو ولا غيره من الأنبياء الذين رآهم في السموات، بل لم تزل تلك منازلهم من السموات، وإنما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء في منازلهم التي كانوا فيها من حين رفعهم الله سبحانه إليها، ولم تكن صلاة موسى بقبره بموجبه مفارقة روحه للسماء السادسة، وحلولها في القبر بل هي مستقرها، ولها تعلق بالبدن قوي، حتى حمله على الصلاة، وإذا كان النائم تقوى نفسه وفعلها في حال النوم حتى تحرك البدن، وتقيمه وتوثر فيه فما ظن بأرواح الأنبياء، وقد ثبت في الصحيح: أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها، وتسرح فيها حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، وهذا شأنها حتى يبعثها الله سبحانه إلى أجسادها، ومع هذا فإذا زارهم المسلم وسلم عليهم عرفوا به وردوا عليه السلام، بل ونسمة المؤمن كذلك مع كونها طائراً تعلق في شجر الجنة ترد على صاحبها، وتشعر به إذا سلم عليه المسلم، وقد قال أبوالدرداء: إذا نام العبد عرج بروحه حتى يؤتى بها إلى العرش، فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود. ذكره ابن مندة في كتاب الروح. قال: فهذه روح النائم متعلقة ببدنه، وهي في السماء تحت العرش، وترد إلى البدن في أكثر وقت، فروح النائم مستقرها البدن، تصعد حتى تبلغ السماء، وترى ما هنالك، ولم تفارق البدن فراقاً كلياً، وعكسه أرواح الأنبياء، والصديقين والشهداء، مستقرها في عليين، وترد إلى البدن أحياناً، ولم تفارق مستقرها، ومن لم ينشرح صدره لفهم هذا والتصديق به فلا يبادر إلى رده وإنكاره بغير علم، فإن للأرواح شأناً آخر غير شأن الأبدان، ولا يلتفت إلى كثافة طبع الجهمى، وغلظ قلبه، ورقة إيمانه، ومبادرته إلى تكذيب ما لم يحط بعلمه-انتهى. الجواب الثالث: أن المراد بالروح الملك المؤكل بإبلاغه السلام. الرابع: أن المراد بالروح هنا النطق من إطلاق اللازم وإرادته الملزوم، أي فهو - صلى الله عليه وسلم - في البرزخ مشغول بالمشاهدة كما كان في الدنيا، إلا أنه تعالى أعطاه قوة في الدنيا على تبليغ الأحكام: والاشتغال بالخلق ظاهراً مع شغل باطنه بشهود مولاه، وفي البرزخ لا شغل له بالخلق أصلاً بل بالشهود، فلا ينطق بالكلام إلا إذا سلم عليه شخص، فيرد عليه إكراماً له، فنطقه - صلى الله عليه وسلم - موجود بالقوة؛ فلما لم يوجد بالفعل لشغله بحضرة القدس صار كالممنوع من النطق، فلذا قال "رد الله علي روحي " أي نطقي. قال الخفاجي: استعارة رد الروح للنطق بعيدة وغير معروفة، وكون المراد بالروح "الملك" تأباه الإضافة لضمير، إلا أنه ملك موكل كان ملازماً له فاختص به، على أنه أقرب الأجوبة، وقد ورد إطلاق الروح على الملك في القرآن. الخامس: أن الأنبياء والشهداء أحياء، وحياة الأنبياء أقوى، وإذا لم يسلط عليهم الأرض فهم كالنائمين، والنائم لا يسمع ولا ينطق حتى ينتبه كما قال تعالى: {والتي لم تمت في منامها} [39: 42] الآية، فالمراد بالرد الإرسال الذي في الآية، وحينئذٍ فمعناه أنه إذا سمع الصلاة والسلام بواسطة أو بدونها تيقظ ورد، لا أن روحه(3/272)
رواه أبوداود والبيهقي في "الدعوات الكبير".
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قبض قبض الممات، ثم ينفخ وتعاد كموت الدنيا وحياتها؛ لأن روحه مجردة نورانية، وهذا لمن زاره. ومن بعُد عنه تبلغه الملائكة سلامه، ذكره الخفاجي. وقد استشكل هذا الحديث من جهة أخرى. وهو أنه يستلزم استغراق الزمان كله في ذلك لاتصال الصلاة والسلام عليه في أقطار الأرض ممن لا يحصى كثرة. وأجيب بأن أمور لا تدرك بالعقل، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة. قلت: هذا الجواب هو الجواب الحق الصحيح عن كل إشكال يرد على هذا الحديث، فنؤمن بظاهر الحديث، ونصدق به؟ ونكل علمه إلى الله ورسوله، ولا نقيس أمر البرزخ على ما نشاهده في الدنيا فإن هذا من قياس الغائب على الشاهد. وهو غاية الجهل والغباوة والظلم والضلال. (رواه أبوداود) في آخر الحج. (والبيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده كلهم من طريق أبي صخر حميد بن زياد. عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة. وقد سكت عنه أبوداود، وقال المنذري: أبوصخر حميد بن زياد قد أخرج له مسلم في صحيحه، وقد أنكر عليه شيء من حديثه، وضعفه يحيى بن معين مرة، ووثقه أخرى-انتهى. قلت: وضعفه النسائي أيضاً، لكن الظاهر توثيقه؛ لأنه وثقه أحمد، أبوحاتم والدارقطني وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن عدى بعد أن روى عنه ثلاثة أحاديث: وهو عندي صالح الحديث، وإنما أنكر عليه هذان الحديثان: المؤمن يألف. وفي القدرية، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً. وبهذا ظهر تعيين ما أنكر على حميد بن صخر، وليس منه هذا الحديث. ومقتضى هذا أن لا ينحط هذا الحديث عن درجة الحسن، وقد صرح الحافظ في الفتح بأن رواته ثقات. وقال النووي في الأذكار: إسناده صحيح. وكذا قال في الرياض. وقال الإمام تقي الدين ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: هذا الحديث على شرط مسلم. قال المقدسي في الصارم (ص169) : وفي ذلك نظر، فإن ابن قسيط وإن كان مسلم قد روى في صحيحه من رواية أبي صخر عنه لكنه لم يخرج من روايته عن أبي هريرة شيئاً. فلو كان قد أخرج في الأصول حديثاً من رواية أبي صخر، عن ابن قسيط، عن أبي هريرة أمكن أن يقال في هذا الحديث أنه على شرطه. واعلم أن كثيراً ما يروي أصحاب الصحيح حديث الرجل عن شيخ معين لخصوصيته به، ومعرفته بحديثه. وضبطه له، ولا يخرجون حديثه عن غيره لكونه غير مشهور بالرواية عنه، ولا معروف بضبط حديثه، أو لغير ذلك. فيجيء من لا تحقيق عنده فيرى ذلك المخرج له في الصحيح قد روى حديثاً عمن خرج له في الصحيح من غير طريق ذلك الرجل، فيقول: هذا على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم؛ لأنهما احتجا بذلك الرجل في الجملة، وهذا فيه نوع تساهل. فإن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره فلا يكون على شرطهما، ثم ذكر لذلك نظائر من الصحيحين ثم قال: وهكذا عادة مسلم غالباً، إذا روى لرجل قد تكلم فيه، ونسب إلى ضعف لسوء حفظه، وقلة ضبطه، إنما يروي له في الشواهد والمتابعات، ولا يخرج له شيئاً انفرد به، ولم يتابع عليه، فعلم أن هذا الحديث الذي تفرد به أبوصخر،(3/273)
932- (8) وعنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن ابن قسيط عن أبي هريرة، لا ينبغي أن يقال: هو على شرط مسلم، وإنما هو حديث إسناده مقارب، وهو صالح أن يكون متابعاً لغيره، وعاضداً له - انتهى.
932- قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي كالقبور في خلوها عن الصلاة والذكر والعبادة، بل اشغلوها بذلك. قيل: المراد منه كراهة الصلاة في المقابر، والمعنى: أعطوا البيوت حظها من الصلاة والعبادة. ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يعبد ولا يصلي فيها، فأحال على المقابر لكونها معهودة معروفة بهذه الصفة حساً وشرعاً. وقيل: المراد الحث على الصلاة والعبادة في البيت، فإن الموتى لا يصلون في بيوتهم، وكأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم وهي القبور، أو لا تتركوا الصلاة في بيوتكم حتى تصيروا كالموتى، وتصير هي كالقبور، فشبه المكان الخالي عن العبادة بالقبر، والغافل عنها بالميت، ثم أطلق القبر على المقبرة، ولا يبعد أن يكون المراد منه المعنيين كليهما، أعني النهي عن العبادة في المقابر، والندب إلى العبادة في البيوت. (ولا تجعلوا قبري عيداً) العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما يعود السنة، أو يعود الأسبوع أو الشهر، ونحو ذلك. وقال ابن القيم: العيد ما يعتاد مجيئة وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع والانتياب للعبادة عنده ولغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر، جعلها الله تعالى عيداً للحنفاء ومثابة للناس، كما جعل أيام العيد منها عيداً، وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بكعبة ومنى ومزدلفة وسائر المشاعر-انتهى. قيل: المراد بالعيد ههنا أحد الأعياد. أي لا تجعلوا زيارة قبري عيداً، والمعنى: لا تجتمعوا للزيارة اجتماعكم للعيد، فإنه يوم لهو وسرور وزينة وحال الزيارة مخالفة لتلك الحالة. قال المناوي: معناه النهي عن الاجتماع لزيارته. اجتماعهم للعيد إما لدفع المشقة، أو كراهة أن يتجاوزا حد التعظيم. وقيل: العيد ما يعاد إليه، أي لا تجعلوا قبري عيداً تعودون إليه متى أردتم أن تصلوا علي، فظاهره النهي عن المعاودة، والمراد المنع عما يوجبه، وهو ظنهم بأن دعاء الغائب لا يصل إليه. ويؤيده قوله: (صلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) أي لا تتكلفوا المعاودة إلىّ، فقد استغنيتم بالصلاة عليّ. قال المناوي: ويؤخذ منه أن اجتماع العامة في بعض أضرحة الأولياء في يوم أو شهر مخصوص من السنة، ويقولون هذا يوم مولد الشيخ، ويأكلون ويشربون، وربما يرقصون فيه، منهي عنه شرعاً، وعلى ولي الشرع ردعهم على ذلك، وإنكاره عليهم، وإبطاله. وقال الإمام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم": معنى الحديث: أي لا تعطلوا البيوت(3/274)
رواه النسائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحرى العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - أعقب النهي عن اتخاذها عيداً بقوله: "وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم"، وفي الحديث: "فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"، يشير بذلك - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً. قال: وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره - صلى الله عليه وسلم -. واستدل بالحديث (كما سيأتي) وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين، عن جده علي، وأعلم بمعناه من غيره، فبين أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذ له عيداً. وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد. ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً، فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت - رضي الله عنهم - الذين لهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا أضبط-انتهى. والحديث قد استدل به على منع السفر لزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -، لأن المقصود من زيارة قبره هو الصلاة والسلام عليه والدعاء له - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يحصل من بُعد كما يحصل من قرب. ولأن من سافر إليه وحضر مع ناس آخرين فقد اتخذه عيداً، وهو منهي عنه بنص الحديث، فثبت المنع من شد الرحل لأجل ذلك بإشارة النص، كما ثبت النهي عن جعله عيداً بدلالة النص، وهاتان الدلالتان معمول بهما عند علماء الأصول، ووجه هذه الدلالة على المراد قوله "تبلغني حيث كنتم"، فإنه يشير إلى البُعد، والبعيد عنه - صلى الله عليه وسلم - لا يحصل له القرب إلا باختيار السفر إليه، ففيه النهي عن السفر للزيارة. قال الإمام ابن تيمية: في الحديث دليل على منع شد الرحل إلى قبره - صلى الله عليه وسلم -، وإلى قبر غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها عيداً -انتهى. وهذه المسألة أي السفر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والأولياء والصلحاء هي التي أفتى فيها ابن تيمية، وذكر اختلاف العلماء فيها، فمن مبيح لذلك كالغزالي، وأبي محمد المقدسي، ومن مانع لذلك كابن بطة، وابن عقيل، وأبي محمد الجويني، والقاضي عياض، وهو قول الجمهور، نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب لحديث النهي عن شد الرحل إلا إلى ثلاثة مساجد، كما في الصحيحين، كذا في "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد". وارجع للتفصيل في هذه المسألة إلى "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية، و"جلاء الأفهام" لابن القيم، و"الصارم المنكي" لمحمد بن عبد الهادي المقدسي، و"أحسن الأقوال في شرح حديث لا تشد الرحال"، و"الرد على منتهى المقال" للعلامة القاضي بشير الدين القنوجي. (رواه النسائي) هذا من أوهام المصنف، فإن حديث أبي هريرة هذا لم يروه النسائي، اللهم إلا أن يكون المراد روايته في السنن الكبرى. والحديث رواه أبوداود في باب زيارة القبور في آخر المناسك، وقد تفرد بروايته من بين أصحاب الكتب الستة كما يظهر من "ذخائر المواريث" و"الصارم المنكي". وأخرجه أيضا أحمد، وقد سكت عنه(3/275)
933- (9) وعنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((رغم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أبوداود، وصححه النووي في الأذكار، وقال الإمام ابن تيمية: هذا إسناد حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير. لكن عبد الله بن نافع الصائغ المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه. قال يحيى بن معين: هو ثقة. وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبوزرعة: لا بأس به. وقال أبوحاتم الرازي: ليس بالحافظ هو لين تعرف من حفظه وتنكر، فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقهه، وأن الغالب عليه الضبط، لكن قد يغلط أحياناً، ثم هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر، لأنه سنة مدنية هو محتاج إليها في فقهه، ومثل هذا يضبط الفقيه. وللحديث شواهد من غير طريقه، منها: ما روى عن علي بن الحسن أنه رأى رجلاً يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم سمعته من أبي، عن جدي، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم. ومنها: ما روي عن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً، ولا تتخذوا بيتي عيداً، وصلوا عليّ وسلموا، فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم. روى هذين الحديثين من طريق أبي يعلى الموصلى، الحافظ الضياء المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي، ونحوهما، فإن الغلط في هذا قليل، ليس هو مثل صحيح للحاكم، فإن فيها أحاديث كثيرة، يظهر أنها كذب موضوعة، فلهذا انحطت درجته عن درجة غيره. وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد: أخبرني سهل بن سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى. فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. وقال سعيد بن منصور أيضا بسنده: عن أبي سعيد مولى المهرى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني. قال ابن تيمية: فهذان المرسلان: مرسل أبي سعيد مولى المهري أحد ثقات التابعين، ومرسل الحسن بن الحسن، من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث. لا سيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين. فكيف وقد تقدم مسنداً-انتهى.
933- قوله: (رغم) بكسر الغين وتفتح، أي لصق بالرغام، وهو تراب مختلط برمل كناية عن الذل والهلاك والخزي، رغِم يرغَم ورَغَم يَرغَم رَغْماً ورِغماً ورُغْماً، وأرغم الله أنفه، أي ألصقه بالرغام وهو التراب، هذا(3/276)
أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة)) رواه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هو الأصل، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره-انتهى. وهذا إخبار أو ادعاء. (أنف رجل) ذكر الرجل وصف طردي فإن المرأة مثل الرجل في ذلك. (ذكرت عنده) بالبناء للمفعول. (فلم يصل علي) قال الطيبي: الفاء استبعادية، وقيل: إنها للتعقيب فتقيد به ذم التراخي عن الصلاة عليه عند ذكره - صلى الله عليه وسلم -. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص25) : في الحديث دليل على وجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره؛ لأنه لا يدعو بالذل والهوان على من ترك ذلك إلا وهو واجب عليه-انتهى. (ثم انسلخ) أي انقضى. قال ابن حجر: وجه الإتيان بثم هنا أن بين ابتداء رمضان وانقضائه مهلة طويلة بخلاف سماع ذكره عليه السلام والصلاة عليه، فإنها تطلب عقب السماع من غير مهلة، وكذا بر الوالدين فإنه يتأكد عقب إحتياجهما المكنى عنه بالكبر. وقال الطيبي: "ثم" هذه استبعادية كما في قولك لصاحبك: بئس ما فعلت، وجدت مثل هذه الفرصة ثم لم تنتهزها. وكذلك الفاء في قوله "فلم يصل علي" و"فلم يدخلاه الجنة" ونظير وقوع الفاء موقع "ثم" الاستبعادية قوله تعالى. {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} [57:18] في سورة الكهف، و {ثم أعرض عنها} [22:32] في السجدة. وقد تقرر أن قوله "رغم أنف فلان" كناية عن غاية الذل والهوان، وأن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عبارة عن تعظيمه وتبجيله، فمن عظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظمه الله ورفع قدره في الدارين، ومن لم يعظمه أذله الله وأهانه، فالمعنى بعيد من العاقل بل من المؤمن المعتقد أن يتمكن من إجراء كلمات معدودة على لسانه، فيفوز بعشر صلوات من الله عزوجل، ويرفع عشر درجات له، ويحط عشر خطيئات عنه، ثم لم يغنمه حتى يفوت عنه، فحقيق بأن يحقره الله تعالى. ويضرب عليه الذلة والمسكنة، وكذا شهر رمضان، شهر الله المعظم الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن وجد فيه فرصة تعظيمه بأن قام فيه إيماناً واحتساباً عظمه الله، ومن لم يعظمه يحقره الله، وتعظيم الوالدين مستلزم لتعظيم الله تعالى، ولذلك قرن الله الإحسان إليهما، وبرهما بتوحيده وعبادته في قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} [23:17] ، فمستبعد ممن منح ووفق للإحسان إليهما لا سيما في حال كبرهما، وأنهما عنده في بيته كلحم على وضم، ولا كافل لهما سواه إن لم يغتنم هذه الفرصة، فجدير بأن يهان ويحقر شأنه-انتهى. (قبل أن يغفر له) قال الطيبي: الظاهر "ولم يغفر له" وإنما عدل تنبيهاً على أن تراخي الغفران من تقصيره، وكان حقه أن يغفر له قبل انسلاخه. (فلم يدخلاه) أي أو لم يدخله. (الجنة) لما كان دخول الجنة من الله تعالى بواسطة برهما والإحسان إليهما، أسند إليهما إسناداً مجازياً كما في قولك "أنبتت الربيع البقل" مبالغة، قاله الطيبي. (رواه الترمذي) في الدعوات وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه،(3/277)
934- (10) وعن أبي طلحة، ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء ذات يوم والبشر في وجهه، فقال: إنه جاءني جبرئيل، فقال: إن ربك يقول: أما يرضيك يا محمد! أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً؟) رواه النسائي والدارمي.
935- (11) وعن أبي بن كعب، قال: يا رسول الله!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح، وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد. (ج10:ص164-167) من حديث ابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث، وجابر بن سمرة، وأنس، وكعب بن عجرة، ومالك بن الحويرث، وأبي هريرة رضي الله عنهم. وأخرج مسلم في الأدب من صحيحه الجزء الثالث فقط من غير طريق الترمذي.
935- قوله: (وعن أبي طلحة) هو زيد بن سهل الأنصاري الصحابي المشهور، وقد تقدم ترجمته. (جاء ذات يوم) أي ساعة من النهار. (والبشر) بكسر الباء اسم من الاستبشار، أي الطلاقة وآثار الفرح والسرور. (في وجهه) أي لائح في بشرته. (فقال) أي بعد سؤال الصحابة كما في رواية للنسائي: فقلنا: إنا لنرى البشر في وجهك، فقال إنه، الخ. وعند الدارمي: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وهو يرى البشر في وجهه، فقيل: يا رسول الله: إنا لنرى في وجهك بشرا لم نكن نراه، قال: الخ. (إنه) أي الشأن. (جاني جبرئيل، فقال: إن ربك يقول: أما يرضيك يا محمد!) قال الطيبي: هذا بعض ما أعطى من الرضا في قوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [5:93] ، وهذه البشارة في الحقيقة راجعة إلى الأمة، ومن ثم تمكن البشر في أسارير وجهه صلوات الله وسلامه عليه حيث جعل وجهه ظرفاً ومكاناً للبشر والطلاقة. (أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً) أن مصدرية والمعنى: أما يرضيك عدم صلاة أحد إلا مقرونة بعشر صلوات مني. (ولا يسلم) الخ. فيه دليل على أن السلام عليه كالصلاة، وأن الله سبحانه يسلم على من سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي على من صلى على رسوله عشراً. (رواه النسائي) في الصلاة. (والدارمي) في الرقاق، وزاد الدارمي: قال يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلت بلى. وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده. (ج4:ص29، 30) وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه. (ج2:ص420) وابن أبي شيبة في مصنفه، وفي سنده عندهم سليمان الهاشمي مولى الحسن ابن علي وهو مجهول كما في التقريب، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال النسائي: سليمان هذا ليس بالمشهور، والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي وله طريق آخر عن أبي طلحة عند أحمد وغيره، وشاهد من حديث أنس عند الحاكم فالحديث صحيح.
935- قوله: (قال: قلت: يارسول الله!) أول الحديث عند الترمذي هكذا: قال (أى أبي بن كعب) كان(3/278)
إني أكثر الصلاة عليك. فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت. قلت: الربع؟ قال: ما شئت. فإن زدت فهو خير لك. قلت: النصف؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذا تكفي همك، ويكفر لك ذنبك))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناس! أذكروا الله، أذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه. قال أبي: فقلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! (إني أكثر الصلاة) أي الدعاء، فالمراد بالصلاة هنا الدعاء، ومن جملته الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس المراد الصلوات ذات الأذكار والأركان. (فكم أجعل لك من صلاتي؟) أي بدل دعائي الذي أدعو به لنفسي، قاله القاري. وقال المنذري في الترغيب، معناه: أكثر الدعاء فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك؟. (ما شئت) أي اجعل مقدار مشيئتك. (الربع) بضم الباء وتسكن، أي اجعل ربع أوقات دعائي لنفسي مصروفاً للصلاة عليك. (أجعل لك صلاتي كلها) أي أصرف بصلاتي عليك جميع الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي. (إذا) بالألف منوناً. (تكفي) مخاطب مبني للمفعول. (همك) مصدر بمعنى المفعول، وهو منصوب على أنه مفعول ثان لتكفي، فإنه يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول المرفوع بما لم يسم فاعله، وهو أنت، والهم ما يقصده الإنسان من أمر الدنيا والآخرة، يعني إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة على كفيت ما يهمك من أمور دنياك وآخرتك، أي أعطيت مرام الدنيا والآخرة، فاشتغال الرجل بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يكفي في قضاء حوائجه ومهماته. (ويكفر) بنصب الفاء من التكفير. (ذنبك) بضم الباء الموحدة. ولفظ الترمذي "ويغفر ذنبك". وفي هاتين الخصلتين أي كفاية الهم ومغفرة الذنب جماع خير الدنيا والآخرة، فإن من كفاه الله همه سلم من محن الدنيا وعوارضها، لأن كل محنة لا بد لها من تأثير الهم وإن كانت يسيرة، ومن غفر الله ذنبه سلم من محن الآخرة؛ لأنه لا يوبق العبد فيها إلا بذنوبه. قال التوربشتي: معنى الحديث: كم أجعل لك من دعائي الذي أدعو به لنفسي؟ ولم يزل يفاوضه ليوقفه على حد من ذلك، ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحد له ذلك لئلا تلتبس الفضيلة بالفريضة أولا، ثم لا يغلق عليه باب المزيد ثانياً، فلم يزل يجعل الأمر إليه داعيا لقرينة الترغيب والحث على المزيد، حتى قال: أجعل صلاتي كلها لك، أي أصلي عليك بدل ما أدعو به لنفسي، فقال: إذا تكفي همك، أي ما أهمك من أمر دينك ودنياك، وذلك لأن الصلاة عليه مشتملة على ذكر الله تعالى وتعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والاشتغال بأداء حقه عن أداء مقاصد نفسه، وإيثاره بالدعاء على نفسه ما أعظمه، من خلال جليلة الأخطار، وأعمال كريمة الآثار. قال الطيبي: وقد تقرر أن العبد إذا صلى مرة على النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عزوجل عشرة، وأنه إذا صلى وفق الموافقة لله تعالى دخل في زمرة الملائكة المقربين في قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}(3/279)
رواه الترمذي.
936- (12) وعن فضالة بن عبيد، قال: ((بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد إذ دخل رجل فصلى، فقال: اللهم اغفرلي وارحمني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عجلت أيها المصلي! إذا صليت فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله، وصل علي، ثم ادعه. قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيها المصلي! ادع تجب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[33: 56] . فأنى يوازي هذا دعائه لنفسه؟ - انتهى. (رواه الترمذي) . أي في الزهد وقال: حديث حسن، وأخرجه أيضاً أحمد، والحاكم. (ج2: ص421) وصححه، وفي رواية لأحمد عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: إذاً يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك. قال المنذري: إسناد هذه الرواية جيدة، وأخرج الطبراني بإسناد حسن، عن محمد بن يحي بن حبان، عن أبيه، عن جده: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أجعل ثلث صلاتي عليك؟ قال: نعم إن شئت. قال الثلثين؟ قال: نعم إن شئت. قال: فصلاتي كلها؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا يكفيك الله ما همك من أمر دنياك وآخرتك.
936- قوله: (فضالة) بفتح الفاء بزنة سحابة. (بن عبيد) بالتصغير تقدم ترجمته. (فصلى، فقال) أي في آخر صلاته، وفي رواية النسائي: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في الصلاة، وفي بعض النسخ في صلاته. (اللهم اغفرلي وارحمني) وعند النسائي: لم يحمد الله ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -. (عجلت) بكسر الجيم ويجوز الفتح والتشديد، قاله الأبهري، أي حين تركت الترغيب في الدعاء وعرضت السؤال قبل الوسيلة، أي الحمد لله والصلاة على النبي. وفيه إشارة إلى أن حق السائل أن يتقرب إلى المسؤل منه قبل طلب الحاجة بما يوجب له الزلفى عنده، ويتوسل بشفيع له بين يديه ليكون أطمع في الإسعاف، وأرجى بالإجابة، فمن عرض السؤال قبل تقديم الوسيلة فقد استعجل، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - مؤدباً لأمته. (إذا صليت) بالخطاب الخاص المراد بع العام، يدل على ذلك رواية النسائي، ثم علمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (فقعدت) قال الطيبي: إما عطف على مقدر، أي إذا صليت وفرغت فقعدت للدعاء فاحمد الله، وإما عطف على المذكور، أي إذا كنت مصلياً فقعدت للتشهد فاحمد الله، أي اثن عليه بقولك "التحيات" انتهى. قال القاري: ويؤيد الأول إطلاق قوله: (فاحمد الله بما هو أهله) من كل ثناء جميل. قلت: ويؤيد كونه قبل الفراغ من الصلاة رواية النسائي المذكورة بلفظ: "يدعو في الصلاة". والروايات بعضها يفسر بعضاً. (ثم ادعه) بهاء الضمير، وقيل: بهاء السكت. (قال) أي فضالة ابن عبيد الراوي للحديث. (فحمد الله وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -) أي ولم يدع. (تجب) على بناء المجهول مجزوما على جواب(3/280)
رواه الترمذي وروى أبوداود والنسائي نحوه.
937- (13) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأمر دلهما عليه السلام على الكمال، وزاد النسائي في روايته "وسل تعط". وروى أبوداود عن فضالة بن عبيد، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله، ولم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو بما شاء. وأخرجه أيضاً أحمد (ج6: ص18) والترمذي وصححه، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي. قال العلامة الأمير اليماني السبل: الحديث دليل على وجوب ما ذكر من التحميد، والثناء، والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، والدعاء بما شاء، وهو موافق في المعنى لحديث ابن مسعود وغيره؛ لأن أحاديث التشهد تتضمن ما ذكر من الحمد والثناء، وهي مبنية لما أجمله هذا. ويأتي الكلام في الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا إذا ثبت أن هذا الدعاء الذي سمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الرجل كان في قعدة التشهد، وإلا فليس في هذا الحديث دليل على أنه كان ذلك حال قعدة التشهد، إلا أن ذكر المصنف. (أي الحافظ ابن حجر) له هنا يدل على أنه كان في قعود التشهد، وكأنه عرف من سياقه- انتهى. قلت: وكذا يدل على ذلك صنيع البغوي في المصابيح كما لا يخفى. والحديث قد استدل به القائلون بوجوب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، قال الأمير اليماني: قد ثبت وجوب الدعاء في آخر التشهد كما عرفت من الأمر به، والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - قبل الدعاء واجبة لما عرفت من حديث فضالة، وبهذا يتم إيجاب الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد قبل الدعاء الدال على وجوبه-انتهى. قال الحافظ: قد طعن ابن عبد البر في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب فقال: لو كان كذلك لأمر المصلي بالإعادة كما أمر المسيء صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم. وأجيب باحتمال أن يكون الوجوب عند فراغه، ويكفي التمسك بالأمر في دعوى الوجوب-انتهى. (رواه الترمذي) في الدعوات من طريق رشدين بن سعد، عن أبي هانيء الخولاني، عن أبي الجنبي، عن فضالة، وقال: حديث حسن، وقد رواه حيوة بن شريح عن أبي هانيء الخولاني-انتهى. قلت: أخرج من طريق حيوة أحمد، وأبوداود، والترمذي أيضاً، وقد ذكرنا لفظه، ورواية الترمذي التي ذكرها المصنف، عزاها الهيثمي للطبراني، وقال: فيه رشدين بن سعد، وحديثه في الرقاق مقبول، وبقية رجاله ثقات- انتهى. وأخرجها أيضاً النسائي في باب التمجيد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة لكن من طريق ابن وهب عن أبي هانيء. (وروى أبوداود) قد تقدم لفظه. (والنسائي ونحوه) أي بمعناه. ذكر النسائي مع أبي داود لا يخلو عن نظر؛ لأن المتبادر منه أن رواية النسائي مثل رواية أبي داود، والأمر ليس كذلك، فكان الأولى أن يقول: رواه الترمذي، والنسائي، واللفظ للترمذي، وروى أبوداود، والترمذي أيضاً نحوه، والله أعلم.
937- قوله: (كنت أصلي) أي الصلاة ذات الأركان بدليل قوله الآتي: فلما جلست. (والنبي - صلى الله عليه وسلم -) أي حاضر(3/281)
وأبو بكر، وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله تعالى، ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعوت لنفسي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سل تعطه، سل تعطه)) . رواه الترمذي.
{الفصل الثالث}
938- (14) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو جالس ونحوه. (وأبوبكر وعمر معه) جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى وهي حال من فاعل "أصلي". (سل تعطه) الهاء إما للسكت كقوله "حسابيه"، وإما ضمير للمسؤول عنه لدلالة "سل" عليه. وفي الحديث مشروعية تقديم الحمد والصلاة قبل الدعاء في قعود التشهد ليكون وسيلة للإجابة، وهو يوافق ما روي عن ابن مسعود، قال: يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي، ثم يدعو لنفسه، أخرجه الحاكم بسند قوي، قال الحافظ في الفتح بعد ذكره: هذا أقوى شيء يحتج به للشافعي، فإن ابن مسعود ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمهم التشهد في الصلاة، وأنه قال: ثم ليتخير من الدعاء ما شاء، فلما ثبت عن ابن مسعود الأمر بالصلاة عليه قبل الدعاء دل على أنه اطلع على زيادة ذلك بين التشهد والدعاء، واندفعت حجة من تمسك بحديث ابن مسعود. (في التشهد) في دفع ما ذهب إليه الشافعي مثل ما ذكر عياض، قال: وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه له النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه ذكر الصلاة عليه، وكذا قول الخطابي: إن في آخر حديث ابن مسعود: "إذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك"، لكن رد عليه بأن هذه الزيادة مدرجة، وعلى تقدير ثبوتها فتحمل على أن مشروعية الصلاة عليه وردت بعد تعليم التشهد-انتهى. (رواه الترمذي) في أواخر الصلاة من طريق محمود بن غيلان، عن يحي بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود. وقال: حديث حسن صحيح، قلت: وأخرج أحمد في مسنده (ج1: ص25، 26، 38) من رواية عمر حديثاً طويلاً، وفيه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة كذاك في الأمر من أمر المسلمين، وأنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلي في المسجد، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع قراءته، فلما كدنا أن نعرفه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد. قال: ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: سل تعطه، سل تعطه- الحديث. وأخرجه ابن ماجه في فضل ابن مسعود في أواخر السنة عن الحسن بن علي الخلال، عن يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود ما يتعلق بأمر القراءة فقط.
938- قوله: (من سره) أي أعجبه. (أن يكتال) بفتح الياء أي يأخذ الأجر والثواب، فحذف ذلك للعلم به. وقيل بضم الياء، أي يعطي الثواب. (بالمكيال) بكسر الميم، وهو ما يكال به. (الأوفى) عبارة عن نيل الثواب الوافي على نحو قوله تعالى. {ثم يجزاه الجزاء الأوفى} [53: 41] . وفيه دليل على أن هذه الصلاة أعظم أجراً من غيرها، وأوفر(3/282)
إذا صلى علينا أهل البيت، فليقل: اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثواباً. وفيه الترغيب العظيم إلى أن تكون الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - على تلك الصفة، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر. وقيل: لو حلف أحد أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصلاة فطريق البر أن يأتي بالصفة المذكورة في حديث كعب بن عجرة، أو أبي حميد، أو أبي سعيد الخدري عند البخاري؛ لأن تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه الكيفية بعد سؤالهم عنها يدل على أنها أفضل كيفيات الصلاة عليه؛ لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل، والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة هذا لقوله: من سر أن يكال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا-الحديث. (إذا صلى علينا أهل البيت) الأشهر فيه النصب على الاختصاص، ويجوز إبداله من ضمير "علينا" وقيل: هو عطف بيان منه فيكون مجروراً في هاتين الصورتين. (فليقل) قال الطيبي: قوله "إذا صلى" شرط، جزائه "فليقل" ويجوز أن يكون "إذا" ظرفاً والعامل "فليقل" على مذهب من قال: إن ما بعد الفاء الجزائية يعمل فيما قبلها كما في قوله تعالى: {لإيلاف قريش} [106: 1] ، فإنه معمول لقوله: {فليعبدوا} . (النبي) بالإدغام، ويجوز فيه الهمزة، وهو فعيل بمعنى الفاعل أو المفعول من النبأ بمعنى الخبر، أو من النبوة بمعنى الرفعة، واللام هنا للعهد، واختير النبوة على الرسالة لعموم أحواله، أو للمبالغة، فإنه إذا كان يستحق الصلاة بصفة النبوة فبالأولى أن يستحق بصفة الرسالة. (الأمي) منسوب إلى الأم وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، كأنه على أصل ولادة أمه بالنسبة إلى الكتابة وقراءة الخط. قال أبوالسعود: نسبة إلى الأم كأنه باقٍ على حالته التي ولد عليها لا يقرأ الخط ولا يكتب، وقد جمع مع ذلك العلوم الباهرة. قال تعالى: {وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} [29: 48] . وقيل: نسبة إلى الأمة وهي أمة العرب، وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب، ومنه الحديث: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. وقيل: نسبة إلى أم القرى، وهي مكة، والأول أولى، وكونه أمياً من أكبر معجزاته وأعظمها. قال السيد الغبريني المقري شارح البردة: إن كونه أمياً معجزة له كما قرروه، حتى لا يرتاب أحد في كلام الله، يرد عليه أنه لو تم قيل عليه: لم خلق أفصح الناس ولم يخلق غير فصيح؟ حتى يعلم أن ما يتلوه من الكلام المعجز ببلاغته ليس كلامه. قال الشهاب في الريحانة: قوله هذا ليس بشيء؛ لأن الأمية سابقة في أكثر فصحاء العرب، وهم في غناء عن الكتابة، وأما عدم الفصاحة فلكنة وعيب عظيم، منزه عنه، عال مقامه، وطاهر فطرته وجوهر جلبته-انتهى. وهل صدر عنه ذلك في كتابة صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور أو أنه لم يكتب؟ وإنما أسند إليه مجازاً، وقيل: إنه صدر عنه ذلك على سبيل المعجزة، وتفصيله في فتح الباري. (وأزواجه) أي نساءه الطاهرات. (أمهات المؤمنين) أي من جهة التعظيم والتكريم. (وذريته) أي أولاده وأحفاده، قال في المجمع: الذرية اسم(3/283)
وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد)) . رواه أبوداود.
939- (15) وعن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل علي)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يجمع نسل الإنسان من ذكر وأنثى، وأصله الهمز فخفف وتجمع على ذريات وذراري مشدداً، وقيل أصلها من الذر بمعنى التفرق؛ لأن الله ذرهم في الأرض. (وأهل بيته) قال الطيبي: من عطف العام على الخاص على طريقة قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} [15: 87] انتهى. والحديث قد استدل به القائلون بأن الزوجات من الآل، والقائلون بأن الذرية من الآل، وهو أدل على ذلك من حديث أبي حميد المتقدم لذكر الآل فيه مجملاً ومبنياً، قاله الشوكاني. (رواه أبوداود) عن موسى بن إسماعيل، عن حبان بن يسار الكلابي، عن أبي مطرف عبيد الله بن طلحة بن كريز، عن محمد بن علي الهاشمي. (أبي جعفر الباقر) عن المجمر، عن أبي هريرة. والحديث سكت عنه أبوداود، والمنذري. وقال الشوكاني: وقد اختلف فيه أبي جعفر، وأخرجه النسائي في مسند علي من طريق عمرو بن عاصم، عن حبان بن يسار الكلابي، عن عبد الرحمن بن طلحة الخزاعي، عن أبي جعفر، عن محمد بن الحنفية، عن أبيه علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ حديث أبي هريرة، وقد اختلف فيه على أبي جعفر، وعلى حبان بن يسار-انتهى. قلت: حبان بن يسار الكلابي، قال أبوحاتم عنه ليس بالقوي ولا بالمتروك. وقال ابن عدي: حديثه فيه ما فيه لأجل الاختلاط الذي ذكر عنه. وذكره البخاري في التاريخ وأعل حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبوداود: لا بأس به. وقال الحافظ: صدوق اختلط.
939- قوله: (البخيل) أي الكامل في البخل كما يفيده تعريف المبتدأ. قال الشوكاني: تعريف المسند إليه يقتضي الحصر، فينبغي حمله على الكامل في البخل؛ لأنه بخل بما لا نقص عليه فيه ولا مؤنة، مع كون الأجر عظيماً، والجزاء موفوراً. قال الفاكهاني: وهذا أقبح بخل وشح لم يبق بعده إلا الشح بكلمة الشهادة. (الذي من) قال الطيبي: الموصول الثاني مقحم بين الموصول الأول وصلته تأكيداً، كما في قراءة زيد بن علي: {الذي خلقكم والذين من قبلكم} [2: 21] أي بفتح الميم- انتهى. (ذكرت) بصيغة المجهول. (عنده) أي ذكر اسمى بمسمى منه. (فلم يصل علي) ؛ لأنه بخل على نفسه حيث حرمها صلاة الله عليه عشراً إذا هو صلى واحدة، قاله المناوي. وقال القاري: فمن لم يصل عليه فقد بخل ومنع نفسه من أن يكتال بالمكيال الأوفى، فلا يكون أحد أبخل منه، كما يدل عليه رواية "البخيل كل البخيل"- انتهى. والحديث دليل على وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكر، وهو مذهب طائفة من العلماء، منهم الطحاوي والحليمي، ويدل عليه أيضاً ما تقدم من حديث أبي هريرة بلفظ: رغم أنف رجل ذكرت عنده، الخ. وما روى من حديث كعب بن عجرة عند الحاكم(3/284)
رواه الترمذي.
940- (16) ورواه أحمد عن الحسين بن علي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بلفظ: بعد من ذكرت عنده فلم يصل علي. ومن حديث جابر عند الطبراني مرفوعاً بلفظ: شقى عبدذكرت عنده فلم يصل علي. ومن مرسل قتادة عند عبد الرزاق: من الجفاء أن أذكر عند رجل فلا يصلي علي. ومن حديث عمار بن ياسر عند الطبراني بلفظ: من ذكرت عنده فلم يصل علي فأبعده الله. وله شواهد من حديث مالك بن الحويرث، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث عند الطبراني أيضاً. قال الحافظ في الفتح: قد تمسك بهذه الأحاديث من أوجب الصلاة عليه كلما ذكر؛ لأن الدعاء بالرغم والإبعاد والشقاء، والوصف بالبخل والجفاء يقتضي الوعيد، والوعيد من علامات الوجوب، وأجاب عنها من لم يوجب ذلك بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه، وفي حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدناً-انتهى. قلت: ظاهر الأحاديث هو الوجوب كلما ذكر، وأما حملها على المبالغة وعلى من اتخذ ترك الصلاة عليه عادة فهو تأويل بعيد يأباه ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك، وقد استدل أيضاً بهذه الأحاديث من قال بوجوب الصلاة عليه بعد التشهد الأخير؛ لأنها تدل على وجوب الصلاة عليه عند ذكره، وقد ذكر هو في التشهد، وهذا من أحسن ما يستدل به على هذا المطلوب. (رواه الترمذي) أي في الدعوات من طريق سليمان بن بلال عن عمارة بن غزية عن عبد الله بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن حسين بن علي بن أبي طالب عن علي بن أبي طالب. قلت: اختلف نسخ الترمذي في تعيين الصحابي ففي بعضها الحديث من مسند علي بن أبي طالب، وهكذا وقع في طبعات الهند، وكذا يظهر من كلام المنذري في الترغيب حيث ذكر الحديث من رواية الحسين بن علي بن أبي طالب وعزاه للنسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم، ثم قال: والترمذي، وزاد في سنده علي بن أبي طالب، وقال" حديث حسن صحيح غريب" وكذلك عزاه إليه من حديثه النابلسي في الذخائر (ج3: ص14) ، والجزري في جامع الأصول (ج5: ص155) . وفي بعض النسخ للترمذي هو من مسند الحسين بن علي بن أبي طالب كما وقع عند غيره ممن أخرجه، ومنهم من جعل ذلك من اختلاف الرواة فقد قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر الحديث من المسند برواية الحسين بن علي: ورواه الترمذي من حديث سليمان بن بلال، ثم قال: هذا حديث حسن غريب صحيح، ومن الرواة من جعله من مسند الحسين بن علي، ومنهم من جعله من مسند علي نفسه-انتهى. قال الشيخ الألباني: وقد اختلف على عبد الله بن علي بن حسين في إسناده كما أخرجه إسماعيل القاضي مبسوطاً لكن الحديث صحيح فإن له شاهداً من حديث أبي ذر، وآخر عن الحسن البصري مرسلاً بسند صحيح عنه، أخرجها القاضي، وثالث من حديث أنس عزاه الفيروز آبادي للنسائي، وقال: وهذا حديث صحيح-انتهى.
940- قوله: (ورواه أحمد) (ج1: ص201) . (وعن الحسين بن علي) بن أبي طالب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا رواه(3/285)
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
941- (17) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً أبلغته))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النسائي وابن حبان في صحيحه والحاكم (ج1: ص549) وصححه ووافقه الذهبي، وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني في الكبير وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة (ص14) قال الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم، وإسماعيل القاضي، وأطنب في تخريج طرقه، وبيان الاختلاف فيه من حديث علي ومن حديث ابنه الحسين، ولا يقصر عن درجة الحسن-انتهى. والحسين بن علي هو الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبوعبد الله المدني سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، ولد لخمس ليال خلون من شهر شعبان سنة أربع، وكانت فاطمة علقت به بعد أن ولدت الحسن بخمسين ليلة، وقد حفظ الحسين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه، وأخرج له أصحاب السنن أحاديث يسيرة، ومناقبه كثيرة، استشهد بكربلاء يوم الجمعة، يوم عاشوراء سنة. (61) وله ست وخمسون سنة. وقد بسط الحافظ في تهذيب التهذيب (ج2: ص348- 353) وفي الإصابة (ج1: ص333: 334) قصة قتله، ثم قال: قد صنف جماعة من القدماء في مقتل الحسين تصانيف فيها الغث والسمين، والصحيح والسقيم، وفي هذه القصة التي سقتها غنى-انتهى.
940- قوله: (من صلى علي عند قبري) أي في بيتي قريباً من قبري، هذا هو الظاهر لكنه غير ممكن اليوم، لكون بيت عائشة الذي هو مدفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد سد، وبنيت على القبر حيطان مرتفعة مستديرة حوله. لا يمكن لأجلها الدخول في الحجرة، والوصول إلى قرب القبر. وقيل: المراد في حجرتي مطلقاً، وهذا أيضاً غير مقدور. وقيل: المراد أعم من ذلك، أي ولو كان المصلي في المسجد خارج الحجرة، ولا يخفى ما فيه من الخدشات، وقد تقدمت الإشارة إليها في كلام الحافظ المقدسي، والعلامة السهسواني. (سمعته) أي سمعاً حقيقياً بلا واسطة. (ومن صلى علي نائياً) أي بعيداً عن قبري من نأي فلانا وعن فلان ينأى نأياً: بعد عنه. (أبلغته) بضم الهمزة على بناء المفعول من الإبلاغ، وفي بعض النسخ بلغته أي بصيغة المجهول مشدداً من التبليغ. قال المناوي: أي أخبرت به على لسان بعض الملائكة؛ لأن لروحه تعلقاً بمقره الشريف، وحرام على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فحاله كحال النائم-انتهى. والضمير المنصوب راجع إلى مصدر "صلى" كقوله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [5: 8] ، والحديث يدل على الفرق بين صلاة الحاضر عند قبره، وصلاة الغائب عنه، فيسمع صلاة المصلي عند قبره بنفسه، ويبلغ صلاة من صلى نائياً عنه، وقد استدل به على أن للصلاة عند قبره مزية وفضيلة على الصلاة من بعيد عنه، واحتج بذلك على استحباب زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم -،(3/286)
رواه البيهقي في شعب الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى ندب السفر لمجرد قصد الزيارة، لكن الحديث ضعيف جداً لا يجوز الاحتجاج به أصلاً لما عرفت ولما ستعرف. ولأن لفظ هذا الحديث مختلف، فاللفظ المذكور يدل على إثبات السماع عند القبر، وقد روي عن أبي هريرة نفسه ما يدل على عدم السماع عند القبر، فقد روى البيهقي في شعب الإيمان: أخبرنا أبوعبد الله الحافظ: حدثنا أبوعبد الله الصفار إملاء حدثنا محمد بن موسى البصري: حدثنا عبد الملك بن قريب: حدثنا محمد بن مروان- وهو يتيم لبني السدي- عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكل الله به ملكاً يبلغني وكفى أمر آخرته ودنياه، وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة". وقال أبوالحسين بن سمعون: حدثنا عثمان بن أحمد بن يزيد: حدثنا محمد ابن موسى: حدثنا عبد الملك بن قريب الأصمعي: حدثني محمد بن مروان السدي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكاً يبلغني، وكفى أمر دنياه وآخرته، وكنت له يوم القيامة شهيداً أو شفيعاً". وليس أحد من اللفظين أي اللفظ الدال على السماع عند القبر، واللفظ الآخر الدال على عدم السماع عند القبر أولى وأرجح من الآخر، فإن مدار الروايتين كلتيهما على محمد بن مروان السدي، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب، فتساقطت الروايتان جميعاً. ولأن حديث أبي هريرة هذا قد عارضه أحاديث كثيرة حسنة، مروية في السنن، والمسانيد، والمعاجم، كحديث أبي هريرة عند أبي داود، وحديث الحسين بن علي بن أبي طالب، وحديث علي بن أبي طالب عند الضياء المقدسي ونحو ذلك، فإنها متفقة على أن من صلى عليه من أمته فإن ذلك يبلغه ويعرض عليه، سواء كان المصلي حاضرا عند قبره قريباً منه، أو غائباً بعيداً، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي عليه بنفسه، إنما فيها أنه يعرض عليه ويبلغه من غير فرق بين القريب والبعيد. ولأنه ينافيه ما تقدم من النهي عن اتخاذ قبره عيداً، والأمر بالصلاة عليه حيث ما كان المصلي، ولأنه يخالفه حديث النهي عن شد الرحل إلا إلى ثلاثة مساجد؛ لأن تحصيل مزية الصلاة عليه عند قبره لا يتيسر لمن كان على مسافة بعيدة منه إلا بالسفر إليه. وقد نهى عن شد الرحل إلى بقعة غير المساجد الثلاثة. (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وأخرجه أيضاً أبوبكر بن أبي شيبة، والعقيلي، والطبراني كلهم من رواية العلاء بن عمرو الحنفي، عن أبي عبد الرحمن، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال البيهقي: أبوعبد الرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى، وفيه نظر-انتهى. قلت: هذا الحديث واه جداً لا يحتج به، فإن العلاء بن عمرو ضعيف، لا يجوز الاحتجاج به، وأبوعبد الرحمن محمد بن مروان السدي الصغير متروك الحديث، متهم بالكذب، وأخرجه أبوالشيخ في كتاب الثواب من رواية أبي معاوية عن الأعمش، وهو خطأ فاحش، وإنما هو محمد بن مروان السدي، وقد تفرد به. قال الحافظ محمد بن عبد الهادي المقدسي في الصارم المنكي: إسناده لا يحتج به فإنه لا يعرف إلا من حديث محمد بن مروان السدي الصغير عن الأعمش كما ظنه البيهقي، وما ظنه في هذا هو متفق عليه عند أهل(3/287)
942- (18) وعن عبد الله بن عمرو، قال: ((من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة، صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة)) رواه أحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المعرفة، وهو عندهم موضوع على الأعمش. وقال في (ص190) : هذا الحديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يحدث به أبوهريرة، ولا أبوصالح، ولا الأعمش، ومحمد بن مروان السدي متهم بالكذب والوضع، ورواه عنه العلاء بن عمرو الحنفي، ورواه عن العلاء جماعة. قال أحمد بن إبراهيم بن ملحان: حدثنا العلاء بن عمرو: حدثنا محمد بن مروان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً من قبري أبلغته". رواه العقيلي عن شيخ له، عن العلاء بن عمرو، وقال: لا أصل من حديث الأعمش، وليس بمحفوظ. ورواه الطبراني من رواية العلاء أيضاً، ولفظه: "من صلى علي من قريب سمعته، ومن صلى علي من بعيد أبلغته". وقد تكلم أبوحاتم بن حبان، وأبوالفتح الأزدي في العلاء بن عمرو، فقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال الأزدي: لا يكتب عنه بحال، وقد روى بعضهم هذا الحديث من رواية أبي معاوية عن الأعمش، وهو خطأ فاحش، وإنما هو محمد بن مروان تفرد به، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب. ثم ذكر كلام أئمة الجرح فيه مفصلاً. وبالجملة حديث أبي هريرة هذا ضعيف غاية الضعف، واهٍ، ساقط، بل لو ادعى أحد كونه موضوعاً لا يكون فيه شيء من المبالغة، والعجب من المصنف أنه أورد هذا الحديث من غير أن يذكر ما فيه من الكلام الموجب لسقوطه عن الاحتجاج والاستشهاد والاعتبار.
942- قوله: (واحدة) أي صلاة واحدة (صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة) قد تقدم الجمع بين هذا وبين ما تقدم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً. وقيل: إن حديث أبي هريرة من باب الحسنات بعشر أمثالها. وهذا الحديث من قبيل مضاعفة الثواب، فيجوز من فضل الله تعالى أن يضاعف أكثر من ذلك إلى سبع مائة كما ورد في تضعيف أجر بعض الحسنات، وزيد هنا صلاة الملائكة وهم تابعون لأمر الله تعالى، فإذا صلى الله تعالى صلى كل شيء من مخلوقاته. وقال القاري: لعل هذا مخصوص بيوم الجمعة، إذ ورد أن الأعمال في يوم الجمعة بسبعين ضعف. (رواه أحمد) (ج2: ص172، 187) بإسناد حسن، قاله المنذري في الترغيب، وكذا حسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (ج1: ص160) وفيه ابن لهيعة، وقد تقدم الكلام فيه، وتمام الحديث: فليقل عبد من ذلك أو ليكثر، والحديث وإن كان من كلام عبد الله بن عمرو لكنه في حكم المرفوع إذ لا مجال للاجتهاد في بيان ثواب الأعمال، ومقداره، وكيفيته، قال السخاوي في القول البديع بعد ذكر الحديث: رواه أحمد وابن زنجوية في ترغيبه بإسناد حسن، وحكمه الرفع إذ لا مجال للاجتهاد فيه.(3/288)
943- (19) وعن رويفع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من صلى على محمد، وقال: اللهم أنزله المقعد
المقرب عندك يوم القيامة. وجبت له شفاعتي)) . رواه أحمد.
944- (20) وعن عبد الرحمن بن عوف، قال: (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى دخل نخلاً، فسجد، فأطال
السجود حتى خشيت أن يكون الله تعالى قد توفاه. قال: فجئت أنظر، فرفع رأسه، فقال: ما
لك؟ فذكرت له ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
943- قوله: (عن رويفع) بالتصغير، وهو ابن ثابت بن السكن الأنصاري المدني تقدم ترجمته. (من صلى على محمد، وقال) أي بعد الصلاة عليه، ففي الحديث الجمع بين الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - وسؤاله أن ينزله المقعد المقرب عنده يوم القيامة، فمن وقع منه ذلك استحق الشفاعة المحمدية وكانت واجبة له. (المقعد المقرب عندك) وصف المقعد بالمقرب باعتبار أن كل من كان فيه فهو مقرب عند الله فهو من قبيل وصف المكان بوصف المتمكن فيه، فعلى هذا "المقرب" اسم مفعول، ويجوز أن يكون اسم مكان، أي مقعد هو مكان التقريب، والقرب عنده، ثم قيل: هو المقام المحمود لقوله: (يوم القيامة) وقيل: المراد به الوسيلة التي هي أعلى درجة في الجنة، لا تكون إلا له - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا، المراد بيوم القيامة الدار الآخرة. (وجبت) أي ثبتت، ووقعت، وتحتمت بمقتضى وعدالله الصادق. (له شفاعتي) أي نوع من أنواع شفاعاته - صلى الله عليه وسلم - الخاصة ببعض أمته من رفع درجته أو نحوها. (رواه أحمد) (ج1:ص108) وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة (ص21) وفي سنده ابن لهيعة، وعزاه المنذري في الترغيب، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج10:ص163) للبزار، والطبراني في الكبير، والأوسط. قال المنذري: وبعض أسانيدهم حسنة، وقال الهيثمي: وأسانيدهم حسنة.
944- قوله: (حتى دخل نخلاً) أي بستان نخل، وفي رواية لأحمد (ج1:ص191) : فتوجه نحو صدقته، فدخل، فأسقبل القبلة، فخر ساجداً، وفي رواية لأبي يعلى: خرجت على أثره فوجدته قد دخل حائطاً من الأسواف – وهو بالفاء موضع بالمدينة – فتوضأ، ثم صلى ركعتين، فسجد سجدة، فأطال السجود. (فسجد) أي سجدة كما في رواية أبي يعلى. (قد توفاه) أي قبض نفسه فيها: ففي رواية أحمد المتقدمة: فأطال السجود حتى ظننت أن الله عزوجل قبض نفسه فيها. (قال) أي عبد الرحمن. (فجئت أنظر) هل هو حي أو ميت، وفي رواية أحمد فدنوت منه. (فرفع رأسه) أي من السجدة. (فقال) أي - صلى الله عليه وسلم -. (مالك؟) أي أى شيء عرض لك حتى ظهر أمارة الحزن والفزع عليك؟ وفي الرواية المذكورة من هذا؟ فقلت: عبد الرحمن. قال: ما شأنك. (فذكرت له ذلك) أي الخوف المرادف للخشية التي مستفادة من خشيت، وفي الرواية المتقدمة: قلت يا رسول الله! سجدت سجدة خشيت أن يكون الله عزوجل قد قبض نفسك فيها.(3/289)
قال: فقال: إن جبرئيل عليه السلام قال لي: ألا أبشرك أن الله عزوجل يقول لك: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه) رواه أحمد.
945- (21) وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: ((إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يعد منه شيء حتى تصل على نبيك))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ألا أبشرك أن الله عزوجل) بفتح "أن" وقيل: بكسرها؛ لأن في البشارة معنى القول. (من صلى عليك) أي صلاة (صليت عليه، ومن سلم عليك) . أى سلاماً. (سلمت عليه) زاد في الرواية المتقدمة: فسجدت لله شكراً، وقد تقدم ذكر الأحاديث المفسرة المصرحة بأن الله تعالى يصلي على من صلى على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة عشرة صلوات. (رواه أحمد) (ج1:ص191) قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وأخرجه أيضاً الحاكم، وقال: صحيح الإسناد. ورواه أيضاً إسماعيل القاضي (ص5، 6) والبيهقي (ج2:ص370) وابن أبي الدنيا، وأبويعلى، ولفظه: قال كان لا يفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منا خمسة أو أربعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ينوبه من حوائجه بالليل والنهار، قال فجئته وقد خرج، فأتبعته، فدخل حائطاً من حيطان الأسواف، فصلى فسجد، فأطال السجود، فبكيت، وقلت: قبض الله روحه، قال فرفع رأسه فدعاني، فقال: مالك؟ فقلت: يارسول الله! أطلت السجود، قلت: قبض الله روح رسوله لا أراه أبداً. قال: سجدت شكراً لربي فيما أبلاني في أمتي، من صلى على صلاة من أمتي كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، لفظ أبي يعلى. وقال ابن أبي الدنيا: من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً. وفي إسنادهما موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف. ورواه أيضاً إسماعيل القاضي بنحو أبي يعلى، وفيه أيضاً موسى بن عبيدة الربذي.
945- قوله: (لا يصعد) بفتح الياء. (منه) أي من الدعاء جنسه. (حتى تصلي على نبيك) قال الطيبي: يحتمل أن يكون من كلام عمر رضي الله عنه فيكون موقوفاً، وأن يكون ناقلا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحينئذٍ فيه تجريد، جرد - صلى الله عليه وسلم - من نفسه نبيا وهو هو، وعلى التقديرين للخطاب عام، لا يختص بمخاطب دون مخاطب، والأنسب أن يقال: النبي مشتق من النبوة بمعنى الرفعة، أي لا يرفع الدعاء إلى الله تعالى حتى يستصحب الرافع معه، يعني أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الوسيلة إلى الإجابة-انتهى. والحديث يقوي قول من ذهب إلى وجوب الصلاة في قعود التشهد الأخير. قال ابن العربي: ومثل هذا يقال من قبل الرأى فيكون له حكم الرفع-انتهى. قال الحافظ: وورد له شاهد مرفوع في جزء الحسن بن عرفة أخرج العمري في عمل يوم وليلة عن ابن عمر بسند جيد، قال: لا تكون صلاة إلا بقراءة، وتشهد، وصلاة علي. وأخرج البيهقي في الخلافيات بسند قوي عن الشعبي، وهو من كبار التابعين. قال: من لم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد فليعد صلاته. وأخرج الطبري بسند صحيح عن مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين، قال: كنا نعلم(3/290)
رواه الترمذي.
(17) باب الدعاء في التشهد
{الفصل الأول}
946- (1) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت. ((كان رسول الله يدعو في الصلاة، يقول: اللهم إني
أعوذبك من عذاب القبر،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التشهد، فإذا قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يحمد ربه ويثني عليه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يسأل حاجته-انتهى. وقد تقدم ما روى عن ابن مسعود، قال: يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي ثم يدعو لنفسه، أخرجه الحاكم بسند قوي، وهو أقوى شيء يحتج به للشافعي في وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قعود التشهد الأخير. (رواه الترمذي) في الصلاة من طريق أبي قرة الأسدي. عن سعيد بن المسيب، عن عمر مرفوعاً، لكن للوقف في مثل هذا حكم الرفع؛ لأن ذلك مما لا مجال للاجتهاد فيه. قال ابن العربي في العارضة (ج2:ص273، 274) : مثل هذا إذ قاله عمر لا يكون إلا توقيفاً؛ لأنه لا يدرك بنظر، ويعضده ما خرج مسلم: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى علي صلاة، صلى الله بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة-الحديث. قلت: لكن رواية عمر هذه ضعيفة؛ لأن أبا قرة الأسدي مجهول كما صرح به الحافظ في التقريب، والذهبي في الميزان، وأخرج الطبراني في الأوسط عن علي بن أبي طالب قال: كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد - صلى الله عليه وسلم - وآل محمد. قال المنذري: إنه موقوف، ورواته ثقات، ورفعه بعضهم، والموقوف أصح-انتهى. وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وأخرجه البيهقي في الشعب من حديثه، وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بلفظ: كل دعاء محجوب حتى يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي إسناده محمد بن عبد العزيز الدينوري، قال الذهبي في الضعفاء: منكر الحديث، ويشهد لذلك كله ما تقدم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعاً، وفي الحصن الحصين (ص247) : قال الشيخ أبوسليمان الداراني: إذا سألت الله حاجة فابدأه بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ادع بما شئت، ثم اختم بالصلاة عليه، فإن الله سبحانه بكرمه يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما-انتهى.
(باب الدعاء في التشهد) أي في آخره أو عقبه بعد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي كيفية الانصراف عن الصلاة.
946- قوله: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو في الصلاة) أي في آخرها بعد التشهد قبل السلام للحديث الآتي عقب هذا. ففيه تعيين محل هذه الاستعاذة بعد التشهد الأخير، وهو مقيد، وحديث عائشة هذا مطلق فيحمل عليه. (يقول) بدل أو بيان. (اللهم إني أعوذبك من عذاب القبر) هو ضرب من لم يوفق للجواب بمقامع من حديد وغيره من العذاب، كشدة(3/291)
وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الضغطة ووحشة الوحدة، والمراد بالقبر البرزخ، والتعبير به للغالب، أو كل ما استقر فيه أجزاءه فهو قبره. وفيه إثبات لعذاب القبر، ورد على المنكرين لذلك من المعتزلة. والأحاديث في الباب متواترة كما تقدم. (وأعوذ بك من فتنة المسيح) قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار. قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره، وقد تطلق على القتل، والإحراق، والنميمة، وغير ذلك. والمسيح - بفتح الميم وكسر السين المخففة آخره هاء مهملة – وفيه ضبط آخر، وهذا المشهور الأصح، يطلق على الدجال، وعلى عيسى بن مريم عليه السلام، لكن إذا أريد الدجال قيد به، واختلف في تلقيب الدجال بذلك، فقيل: لأن إحدى عينيه ممسوحة، فعيل بمعنى مفعول، أي عينيه ذاهبة. وقيل:؛ لأن أحد شقى وجهه خلق ممسوحاً لا عين فيه ولا حاجب. وقيل: فعيل بمعنى فاعل من المساحة؛ لأنه يمسح الأرض إذا خرج، أي يقطعها بتردده فيها في أيام معدودة إلا مكة والمدينة، فإن الله تعالى حماهما منه بفضله، وآخر الأمر يقتله المسيح عيسى بن مريم في محاصرة القدس. وأما عيسى، فقيل: سمى بذلك؛ لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. وقيل: لأن زكريا مسحه. وقيل:؛ لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ. وقيل:؛ لأنه كان سياح يمسح الأرض أي يقطعها بسياحته وكثرة سيره في الأرض. وقيل:؛ لأن رجله كانت لا أخمص لها. وقيل: للبسه المسوح. وقيل: أصله "ما شيخا" بالعبرانية، وهو المبارك، فعرب المسيح. وقيل: المسيح الصديق. وذكر المجد الشيرازي صاحب القاموس أنه جمع في وجه تسمية عيسى بذلك خمسين قولاً، أوردها في شرح مشارق الأنوار. (الدجال) أي الخداع الكذاب، فعال من الدجل، وهو الخدع، والكذب، والتغطية، والمراد به هنا الكذاب المعهود الذي سيظهر في آخر الزمان، وفي معناه كل مفسد مضل. والمراد بفتنة المسيح الدجال هي ما يظهر على يده من الأمور الخارقة للعادة التي يضل بها من ضعف إيمانه كما اشتملت على ذلك الأحاديث المشتملة على ذكره، وذكر خروجه وما يظهر للناس من تلك الأمور. (وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات) المحيا بالقصر مفعل من الحياة كالممات من الموت، والمراد الحياة والموت، ويحتمل أن يريد زمان ذلك ويريد بذلك محنة الدنيا وما بعدها، ويحتمل أن يريد بذلك حالة الاخضار وحالة المسألة في القبر، وكأنه استعاذ من فتنة هذين المقامين، وسأل التثبيت فيهما، قاله القرطبي. وقال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا، والشهوات، والجهالات، وأعظمها-والعياذ بالله – أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قيل ذلك ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقد صح يعني حديث أسماء عند البخاري "إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال". ولا يكون مع هذا الوجه متكرراً مع قوله "عذاب القبر"؛ لأن العذاب مرتب عن الفتنة، والسبب غير المسبب. وقال الطيبي: "فتنة المحيا" الابتلاء مع زوال الصبر والرضاء، والوقوع في الآفات، والإصرار على السيئات،(3/292)
اللهم إني أعوذ بك من المأثم ومن المغرم. فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال: إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وترك متابعة طريق الهدى، و"فتنة الممات" سؤال منكر ونكير مع الحيرة والخوف، وعذاب القبر وما فيه من الأهوال والشدائد، وهذا من العام بعد الخاص؛ لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا. (من المأثم) أي مما يأثم به الإنسان، أو مما فيه إثم، أو مما يوجب الإثم، أو الإثم نفسه، مصدر وضع موضع الاسم. (ومن المغرم) قال الجزري: هو مصدر وضع موضع الاسم، يريد به مغرم الذنوب والمعاصي. وقيل: المغرم كالغرم وهو الدين، ويريد به ما استدين فيما يكرهه الله أو فيما يجوز ثم عجز عن أدائه، فأما دين احتاج إليه وهو قادر على أداءه فلا يستعاذ منه-انتهى. وقال الحافظ: المغرم الدين، يقال: غرم-بكسر الراء- أي أدان. قيل: والمراد به ما يستدان فيما لايجوز، أو فيما يجوز ثم يعجز عن أدائه. ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك، وقد استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من قلبة الدين-انتهى. وقال السندي: الظاهر أن المراد ما يفضي إلى المعصية بسبب ما. (فقال له قائل) في رواية للنسائي أن السائل عن ذلك عائشة، ولفظها: قلت: يارسول الله! ما أكثر ما تستعيذ، الخ.. (ما أكثر) بفتح الراء فعل التعجب. (ما تستعيذ) في محل النصب وما مصدرية، أي استعاذتك، كأن هذا القائل رأى أن الدين إنما يتعلق بضيق الحال ومثله لا يحترز عنه أصحاب الكمال. (إن الرجل) المراد به الجنس، وغالب حاله. (إذا غرم) بكسر الراء أي لزمه دين، والمراد استدان واتخذ ذلك دأبه وعادته كما يدل عليه السياق. (حدّث) بتشديد الدال أي أخبر عن ماضي الأحوال لتمهيد عذر في التقصير. (فكذب) ؛ لأنه إذا تقاضاه رب الدين ولم يحضره ما يؤدي به دينه يكذب ليتخلص من يده ويقول: لي مال غائب إذا حضر أودي دينك. (ووعد) أي في المستقبل بأن يقول: أعطيك غداً أو في المدة الفلانية، (فأخلف) في وعده، وبما تقرر علم أن "غرم" شرط و"حدث" جزاء، و"كذب" عطف على الجزاء مرتب عليه، و"وعد" عطف على "حدث" لا على"غرم" و"أخلف" مرتب عليه. وحاصل الجواب: أن الدين يؤدي إلى خلل بالدن فلذلك وقعت العناية بالمسألة وقد استشكل دعاءه - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر مع أنه معصوم مغفور له ما تقدم وما تأخر. وأجيب بأجوبة، أحدها: أنه قصد التعليم لأمته. ثانيها: أن المراد السؤال منه لأمته فيكون المعنى هنا: أعوذ بك لأمتي. ثالثها: سلوك طريق التواضع، وإظهار العبودية، وإلزام خوف الله، وإعظامه، والافتقار إليه، وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقق الإجابة؛ لأن ذلك يحصل الحسنات، ويرفع الدرجات. وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك؛ لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع، فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين. وقيل: على الثالث يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقق عدم إدراكه، ويدل عليه(3/293)
متفق عليه.
947- (2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال)) رواه مسلم.
948- (3) وعن ابن عباس، رضي الله عنهما ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: قولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قوله في الحديث الآخر عند مسلم: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه-الحديث. والله أعلم، كذا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي.
947- قوله: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر) أي آخر الصلاة ولو كان أولا. وفيه تقييد لحديث عائشة السابق، وبيان أن الاستعاذة المأمور بها بعد التشهد الأخير، ويدل التعقيب بالفاء وقوله "إذا فرغ" أنها تكون قبل الدعاء المخير فيه بما شاء. وفيه رد على ابن حزم فيما ذهب إليه من وجوبها في التشهد الأول. قال النووي: فيه التصريح باستحبابه في التشهد الأخير والإشارة إلى أنه لا يستحب في الأول. وهكذا الحكم؛ لأن الأول مبني على التخفيف. (فليتعوذ بالله) ظاهره وجوب الاستعاذة مما ذكر، وقد ذهب إليه ابن حزم، وروى عن طاووس، وحمله الجمهور على الندب، وادعى بعضهم الإجماع على الندب، وهو لا يتم مع مخالفة من تقدم. (من أربع) ينبغي أن يزاد على هذه الأربع التعوذ من المأثم والمغرم المذكورين في حديث عائشة. (من عذاب جهنم) قدم فإنه أشد وأبقى، بدل بإعادة الجار. (ومن شر المسيح الدجال) قيل أخره هنا؛ لأنه إنما يقع آخر الزمان قرب الساعة. قال القاري، قيل: له شر وخير، فخيره أن يزداد المؤمن إيماناً، ويقرأ ما هو مكتوب بين عينيه من أنه كافر، فيزيد إيقاناً. وشره أن لا يقرأ الكافر ولا يعلمه. (رواه مسلم) في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
948- قوله: (كان يعلمهم) أي أصحابه أو أهل بيته. (هذا الدعاء) أي الذي يأتي. (يقول: قولوا) ذهب طاووس إلى وجوبه، وأمر ابنه بإعادة الصلاة حين لم يدع بهذا الدعاء فيها، وإليه ذهب ابن حزم، والجمهور على أنه مستحب، (اللهم إني أعوذبك من عذاب جهنم) فيه إشارة إلى أنه لا مخلص من عذابها إلا بالالتجاء إلى بارئها. (وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال) أي على تقدير لقيه. (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) هذا تعميم بعد تخصيص، وكرر "أعوذ" في كل(3/294)
رواه مسلم.
949- (4) وعن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال ((قلت: يارسول الله! علمني دعاء أدعو به
في صلاتي. قال: اللهم إني
ـــــــــــــــــــــــــــــ
واحدة إظهار لعظم موقعها، وأنها حقيقة بإعادة مستقلة. (رواه مسلم) في الصلاة، وأخرجه أيضاً مالك، وأبوداود في أواخر الصلاة، والترمذي في الدعوات، والنسائي في الاستعاذة.
949- قوله: (وعن أبي بكر الصديق) هو عبد الله بن عثمان أبي قحافة-بضم القاف- ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمي أبوبكر الصديق الأكبر، خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار، وإنما سمي عتيقاً؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: من أراد أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر، وهو أول الرجال إسلاما. وقال ميمون بن مهران: لقد آمن أبوبكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - زمان بحيراء الراهب، واختلف بينه وبين خديجة حتى تزوجها. وذلك قبل أن يولد علي، وكان مولد أبي بكر بمكة بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أياماً، وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد كلها، ولم يفارقه في الجاهلية، ولا في الإسلام، وكان أفضل الصحابة، ولأبويه، وولده، وولده ولده صحبة، ولم يجتمع هذا لأحد من الصحابة. كان أبيض، أشقر، لطيفاً، نحيفاً، مسترق الوركين، خفيف العارضين. قال عمر: أبوبكر خيرنا وسيدنا، وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومناقبه وفضائله كثيرة جداً مدونة في كتب العلماء. مات بالمدينة ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الأخرى سنة ثلاث عشرة من الهجرة بين المغرب والعشاء، وله ثلاث وستون سنة، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس، فغسلته، وصلى عليه عمر، ودفن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر. روى مائة واثنين وأربعين حديثاً، اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بأحد عشر، ومسلم بحديث، ولم يرو عنه من الحديث إلا هذا القدر القليل لقلة مدته بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وترجمته في تاريخ الشام في مجلد ونصف. (أدعو به في صلاتي) أي عقب التشهد الأخير والصلاة عليك والاستعاذة، وإليه جنح البخاري في صحيحه حيث قال "باب الدعاء قبل السلام"، ثم ذكر حديث أبي بكر هذا. قال ابن دقيق العيد في الكلام على هذا الحديث: هذا يقتضى الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين محله، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين إما السجود وإما بعد التشهد؛ لأنهما أمر فيهما بالدعاء، ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد بظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل. ونازعه الفاكهاني، فقال: الأولى الجمع بينهما في المحلين المذكورين أي السجود والتشهد. وقال النووي: استدلال البخاري صحيح؛ لأن قوله "في صلاتي" يعم جميعها، ومن مظانه هذا الموطن. وقال العيني: ظاهر الحديث عموم جميع الصلاة. ولكن المراد بعد التشهد الأخير قبل السلام؛ لأن لكل مقام من الصلاة ذكراً مخصوصاً فتعين أن يكون مقامه بعد الفراغ من الكل وهو آخر الصلاة، وبيانه أن للصلاة قياماً،(3/295)
ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وركوعاً، وسجوداً، وقعوداً، فالقيام محل قراءة القرآن، والركوع والسجود لهما دعاءان مخصوصان، والقعود محل التشهد، فلم يبق للدعاء إلا بعد التشهد قبل السلام. (ظلمت نفسي) أي بملابسة ما يوجب العقوبة، أو ينقص الحظ والأجر. (ظلمًا كثيراً) يروى بالمثلثة وبالموحدة فيخير الداعي بين اللفظين، ولا يجمع بينهما؛ لأنه لم يرو إلا أحدهما. وقيل: يأتي مرة بالمثلثة، ومرة بالموحدة، فإذا أتى بالدعاء مرتين فقد نطق بما نطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - بيقين. قال الحافظ: في الحديث أن الإنسان لا يعري عن تقصير، ولو كان صديقا. قال السندي: بل فيه أن الإنسان كثير التقصير وإن كان صديقاً؛ لأن النعم عليه غير متناهية، وقوته لا تطيق بأداء أقل قليل من شكرها، بل شكره من جملة النعم أيضاً فيحتاج إلى شكر هو أيضاً كذلك، فما بقي له إلا العجز والاعتراف بالتقصير الكثير، كيف وقد جاء في جملة أدعيته - صلى الله عليه وسلم - "ظلمت نفسي" انتهى. (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) فيه إقرار بوحدانية الباري تعالى، واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار كما قال تعالى: علم أن له رباً يغفر الذنب. ويأخذ بالذنب، وقد وقع في هذا الحديث امتثال لما أثنى الله تعالى عليه في قوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} [3: 135] ، فأثنى على المستغفرين، وفي ضمن ثناءه بالاستغفار لوح بالأمر به كما قيل: إن كل شيء أثنى الله على فاعله فهو آمر به، وكل شيء ذم فاعله فهو ناه عنه. وقوله "لا يغفر الذنوب إلا أنت" كقوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} . (مغفرة) نكرها للتعظيم أي مغفرة عظيمة، وزادها تعظيماً بوصفها بقوله: (من عندك) ؛ لأن ما يكون من عنده لا تحيط بوصفه عبارة. وقيل، معناه: من محض فضلك من غير سابقة استحقاق مني، أو مغفرة لائقة بعظيم كرمك. قال الطيبي: دل التنكير على أنه غفران لا يكتنه كنهه، ثم وصف بقوله "من عندك" مبالغة في ذلك التعظيم؛ لأن ما يكون من عند الله ومن لديه لا يحيط به وصف واصف كقوله تعالى: {وعلمناه من لدنا علماً} [18: 65] . وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين: أحدهما الإشارة إلى التوحيد المذكور، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت فافعله لي أنت. والثاني- وهو أحسن- أنه إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها، لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره، فهي رحمة من عنده بهذا التفسير ليس للعبد فيها سبب، وهذا تبرؤ من الأسباب، والإدلال بالأعمال والاعتقاد في كونها موجبة للثواب وجوباً عقلياً، وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي فقال: المعنى هب لي المغفرة تفضلاً وإن لم أكن لها أهلاً بعملي. (إنك أنت الغفور الرحيم) هما صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما قبله، فالغفور مقابل لقوله "اغفرلي" والرحيم مقابل لقوله "ارحمني" وهي مقابلة مرتبة. وفي هذا الحديث من الفوائد: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه عند طلب الحاجات، واستدفاع المكروهات، وأنه يأتي من صفاته في كل مقام ما يناسبه كالغفور الرحيم عند طلب المغفرة والرحمة، ونحو. {وارزقنا وأنت خير الرازقين} [5: 114] عند طلب الرزق، والقرآن والأدعية النبوية مملوة بذلك. وفيه أيضاً استحباب طلب التعليم من العالم(3/296)
متفق عليه.
950- (5) وعن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: ((كنت أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سيما في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
950- قوله: (عن عامر بن سعد) بن أبي وقاص الزهري القرشي، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة أربع ومائة. (عن أبيه) سعد بن أبي وقاص تقدم ترجمته. (كنت أرى) بفتح الهمزة. (يسلم عن يمينه) قال الطيبي أي مجاوزاً نظره عن يمينه كما يسلم أحد على من في يمينه. (وعن يساره) فيه مشروعية أن يكون التسليم إلى جهة اليمين ثم إلى جهة اليسار. (حتى أرى بياض خده) قال الأبهري: أي وجنته الخالية عن الشعر، وكان مشرباً بالحمرة- انتهى. والمعنى حتى أرى بياض خده الأيمن في الأولى، والأيسر في الثانية، وفيه دليل على مبالغة في الالتفات إلى جهة اليمين، وإلى جهة اليسار. واعلم أن السلام للتحلل عن الصلاة فرض لا يقوم غيره مقامه، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد. وقال أبوحنيفة: لا يتعين السلام للخروج من الصلاة بل إذا خرج بما ينافي الصلاة من عمل، أو حدث؛ أو غير ذلك جاز. قال العيني: اختلف العلماء في هذا؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم: إذا انصرف المصلي بغير لفظ التسليم فصلاته باطلة؛ وذهب أبوحنيفة وأبويوسف ومحمد إلى أن التسليم ليس بفرض حتى لو تركه لم تبطل صلاته- انتهى. قلت: السلام عند الحنفية واجب يجب إعادة الصلاة بتركه كما صرح به بعض الحنفية، وهذا مبني على ما أصلوه من التفريق بين الواجب والفرض، قال في البدائع: أما الخروج عن الصلاة بلفظ السلام فواجب عندنا على ما هو القاعدة عند الحنفية أن خبر الواحد يعني قوله "تحليلها التسليم" يفيد الوجوب-انتهى. والحق ما ذهب إليه الجمهور من تعيين السلام للخروج عن الصلاة، وأنه لا يقوم غيره مقامه وأنه يبطل صلاة من تركه. والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتحليلها التسليم" فإن الإضافة تقتضي الحصر فكأنه قال: جميع تحليلها التسليم أي انحصر تحليلها في التسليم لا تحليل لها غيره. ولأنه أحد طرفي الصلاة فكان فيه نطقاً واجباً. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم من صلاته، ويديم ذلك، ويواظب عليه ولا يخل به، وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي. ولأنه قد تواتر العمل عليه من لدن صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، وتلقاه الكافة عن الكافة طبقة عن طبقة، فهو ثابت متواتراً عملاً، وطبقة عن طبقة، وهذا كالقعدة الأخيرة عند الحنفية، فإنها فرض عندهم تبطل الصلاة بتركها، ولا دليل على فرضيتها إلا أخبار الآحاد أو تواتر العمل. وأما ما قيل: من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم السلام المسيء في صلاته، ولو وجب لأمره به؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ففيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه كل الواجبات، بدليل أنه لم يعلمه التشهد والقعود وغيرهما، ويحتمل أنه اقتصر على تعليمه ما رآه أساء فيه. وأما ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمساً(3/297)
فلما سلم أخبر بصنيعه، فثنى رجله، فسجد سجدتين، أخرجه الجماعة عن ابن مسعود بطريق متعددة، وألفاظ مختلفة. قال الطحاوي: في هذا الحديث أنه أدخل في الصلاة ركعة من غيرها قبل التسليم، ولم ير ذلك مفسداً للصلاة، فدل ذلك على أن السلام ليس من أصلها، ولو كان واجباً كوجوب السجدة في الصلاة لكان حكمه أيضاً كذلك ولكنه بخلافه فهو سنة. ففيه أنه ليس فيه إلا تأخير السلام لا تركه رأساً، وهذا لا يدل على كون السلام من غير أصل الصلاة مع أن ذلك كان في حالة النسيان، وعلى ظن عدم الزيادة والإدخال، والكلام هنا فيمن ترك السلام عمداً، وخرج من الصلاة بغير السلام مما ينافي الصلاة. وأما ما روى عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته. أخرجه أبوداود والترمذي، وسيأتي في "باب مالا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه". ففيه أنه حديث ضعيف مضطرب، قد تفرد به عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وضعفه أكثر الحفاظ. قال الترمذي بعد إخراجه: ليس إسناده بذاك القوي، وقد اضطربوا في إسناده- انتهى. وفيه أيضاً أنه مخالف للحديث الصحيح "وتحليلها التسليم" فلا يقوى على معارضته بل يؤخذ بالأصح، قال الخطابي في المعالم (ج1:ص175) : هذا الحديث ضعيف، وقد تكلم الناس في بعض نقلته، وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم- انتهى. وأما ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد عبد الله بن مسعود فعلمه التشهد في الصلاة، ثم قال: إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد. أخرجه أحمد وأبوداود والدارقطني. ففيه أن قوله: إذا قلت هذا، الخ. مدرج من قول ابن مسعود، قال الدارقطني: الصحيح أن قوله "إذا قضيت هذا فقد قضيت صلاتك" من كلام ابن مسعود، فصله شبابه عن زهير بن معاوية، وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب ممن أدرجه، وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود على حذفه، كذا في المنتقى. قال الشوكاني: أما حديث ابن مسعود فقال البيهقي في الخلافيات: إنه كالشاذ من قول عبد الله، وإنما جعله كالشاذ؛ لأن أكثر أصحاب الحسن بن الحر لم يذكروا هذه الزيادة، لا من قول ابن مسعود مفصولة من الحديث، ولا مدرجة في آخره، وإنما رواه بهذه الزيادة عبد الرحمن بن ثابت عن الحسن، فجعلها من قول ابن مسعود وزهير بن معاوية عن الحسن، فأدرجها في آخر الحديث في قول أكثر الرواة عنه، ورواها شبابه بن سوار عنه مفصولة كما ذكر الدارقطني. وقد روى البيهقي من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود ما يخالف هذه الرواية بلفظ: مفتاح الصلاة التكبير وانقضاءها التسليم، إذا سلم الإمام فقم إن شئت. قال: وهذا الأثر صحيح عن ابن مسعود. وقال ابن حزم: قد صح عن ابن مسعود إيجاب السلام فرضاً، وذكر رواية أبي الأحوص هذه عنه. قال البيهقي: إن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - التشهد لابن مسعود كان قبل فرض التسليم ثم فرض بعد ذلك، وقد صرح بأن تلك الزيادة المذكورة في الحديث مدرجة جماعة من الحفاظ، منهم الحاكم والبيهقي والخطيب، وقال البيهقي في المعرفة: ذهب الحفاظ إلى أن هذا وهم من زهير(3/298)
ابن معاوية. وقال النووي في الخلاصة: اتفق الحفاظ على أنها مدرجة- انتهى. وقد رواه عن الحسن بن الحر حسين الجعفي، ومحمد بن عجلان. ومحمد بن أبان، فاتفقوا على ترك هذه الزيادة في آخر الحديث مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وغيره عن ابن مسعود على ذلك- انتهى كلام الشوكاني. وقد تأول القاضي أبوبكر بن العربي في شرح الترمذي (ج2:ص199) حديث ابن مسعود هذا بأنه إنما يعني به "فقد قضيت صلاتك فاخرج منها كما دخلتها بإحرام"- انتهى. وهو تأويل حسن جيد ظاهر من السياق. وقال ابن حجر: معنى "قضيت" قاربت أو قضيت معظمها، وهذا على تقدير تسليم أنه من الحديث وقد عرفت مما قدمنا أن الحق هو كونه مدرجاً في آخر الحديث من كلام ابن مسعود، وقد عارضه ما صح عن ابن مسعود عند البيهقي، وابن حزم من إيجاب السلام فرضاً، والله أعلم. ثم إن حديث سعد هذا يدل على مشروعية التسليمتين على اليمين واليسار، واختلف فيه أيضاً فالتسليمتان معاً فرض في المشهور عن أحمد لكن صحح في المغني والشرح الكبير (ج1:ص594) أن الفرض تسليمة واحدة، والثانية سنة. ونقل ابن المنذر والنووي إجماع العلماء على ذلك، وأما عند الحنفية فالأولى واجبة، والثانية سنة، وقيل: كلتاهما واجبتان عندهم على ما صرح به الشامي، وصاحب البرهان، والكبيري، وعليه يدل كلام صاحب البدائع. وأما عند الشافعي فالأولى فرض، والثانية مستحبة. قال في الأم (ج1: ص106) بعد رواية أحاديث التسليمتين ما نصه: وبهذه الأحاديث كلها نأخذ فنأمر كل مصل أن يسلم تسليمتين، إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً، ونأمر المصلي خلف الإمام إذا لم يسلم الإمام تسليمتين أن يسلم هو تسليمتين ويقول في كل واحدة منهما: السلام عليكم ورحمة الله. (ثم قال) : وإن اقتصر رجل على تسليمة فلا إعادة عليه، وأقل ما يكفيه من تسليمه أن يقول: السلام عليكم، فإن نقص من هذا حرفاً عاد فسلم- انتهى. وأما عند مالك فغير المأموم وهو الإمام والمنفرد يسلم واحداً قبالة وجهه، ويتيامن قليلاً، والمأموم يسلم ثلاثاً أي عن يمينه أولا ثم يرد على إمامه، وإن كان على يساره أحد يرد عليه. وقد ظهر بهذا كله أن الاختلاف ههنا في شيئين: الأول في عدد الواجب، فالجمهور على أن الواجب واحد والثاني سنة، خلافاً للمشهور عن أحمد والحنفية في قول. والثاني في عدد السنة، فعند الجمهور المسنون تسليمتان لكل مصل إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً. وقال أنس وعائشة وسلمة بن الأكوع من الصحابة والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز من التابعين، والشافعي في قول: إن المشروع تسليمة واحدة لكل مصل. وقال مالك: يسلم غير المأموم سلاماً واحداً قبالة وجهه، والمأموم ثلاثاً إن كان على يساره أحد. واستدل على ذلك بما روى في موطئه عن ابن عمر من فعله أنه كان يسلم عن يمينه، ثم يرد على الإمام، فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه أيضاً. وأخرجه أيضاً البيهقي في سننه، وهذا من متفردات ابن عمر، لم يوافقه عليه أحد من الصحابة. والحق أن المشروع تسليمتان فقط لكل مصل، والواحدة منهما ركن لا تجزئ الصلاة إلا بها، والتسليمة الثانية سنة يدل على ذلك(3/299)
رواه مسلم.
951- (6) وعن سمرة بن جندب، قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه))
رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأحاديث الواردة في المسئلة، وفيه جمع الأخبار، وأقوال الصحابة في أن يكون المشروع والمسنون تسليمتين، والواجب واحدة، وقد دل على صحة هذا الإجماع الذي حكاه ابن المنذر والنووي فلا يعدل عنه. قال ابن العربي في العارضة: التسليمة الواحدة إن كان حديثها عن عائشة معلولة لكن نقلها بصفة الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواتر فهي مقدمة على رواية الآحاد: فسلموا واحدة التحليل من الصلاة كما أحرمتم بتكبيره واحدة، وسلموا أخرى تردون بها على الإمام، والذي على يساركم، واحذروا عن تسليمة ثالثة، فإنها بدعة- انتهى. ويأتي بقية الكلام في شرح حديث عائشة في الفصل الثالث. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه والبزار والدارقطني وابن حبان، وفي الباب أحاديث كثيرة فيها ذكر التسليمتين ذكرها الشوكاني في النيل (ج1:ص193) والحافظ في التلخيص (ص104) والزيلعي في نصب الراية، قال الأمير اليماني في السبل: حديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة بأحاديث مختلفة، ففيها صحيح، وحسن، وضعيف، ومتروك.
951- قوله: (إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه) معناه إذا فرغ من الصلاة استقبل المأمومين لضرورة أنه لا يتحول عن القبلة قبل فراغ الصلاة والتسليم، وفي الباب عن زيد بن خالد الجهني، قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف. (أي من صلاته) أقبل على الناس- الحديث. وعن أنس، قال: أخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل، ثم خرج علينا، فلما صلى أقبل علينا بوجهه- الحديث. أخرجهما البخاري. وعن يزيد بن الأسود، قال: حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع، قال: فصلى بنا صلاة الصبح، ثم انحرف جالساً فاستقبل الناس بوجهه- الحديث. أخرجه أحمد. وفي هذه الأحاديث دليل على مشروعية استقبال المؤتمين بعد الفراغ من الصلاة، والمواظبة على ذلك لما يشعر به لفظ "كان". قيل: والحكمة في استقبال المؤتمين أن يعلمهم ما يحتاجون إليه، وعلى هذا يختص بمن كان في مثل حاله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاحية للتعليم والموعظة. وقيل: الحكمة فيه أن يعرف الداخل انقضاء الصلاة إذ لو استمر الأمام على حاله لأوهم أنه في التشهد مثلاً. وقال الزين بن المنير: استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحق الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، فاستقبالهم حينئذٍ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين- انتهى. هذا وحديث البراء الآتي بعد حديثين يدل بظاهره على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل على من في جهة اليمين لا على المؤتمين جميعاً، وسيأتي وجه الجمع هناك. (رواه البخاري) في عشرة مواضع مطولاً ومقطعاً في الصلاة(3/300)
952- (7) وعن أنس، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه)) رواه مسلم.
953- (8) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أن
حقاً أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ينصرف عن يساره))
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والجنازة والبيوع والجهاد وبدء الخلق وصلاة الليل، والأدب، وأحاديث الأنبياء، والتفسير، والتعبير، وأخرجه أيضاً مسلم والترمذي والنسائي كلهم في الرؤيا.
952- قوله: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن يمينه) وفي رواية لمسلم: أكثر ما رأيت رسول الله ينصرف عن يمينه. وكذا في رواية النسائي، وهذه الرواية تدل على أن أكثر انصرافه - صلى الله عليه وسلم - كان عن اليمين بخلاف الرواية التي ذكرها المصنف فإنها يمكن أن تحمل على أنه كان يفعل ذلك أحياناً. وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث ابن مسعود التالي. (رواه مسلم) وأخرجه النسائي.
953- قوله: (لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته) هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: لا يجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءا، وفي رواية أبي داود نصيبا. (يرى) بفتح أوله، أي يعتقد، ويجوز الضم، أي يظن، وهو استئناف كأن قائلاً يقول: كيف يجعل أحدنا حظاً للشيطان من صلاته؟ قال: يرى. (أن حقاً) أي واجباً. وفي رواية النسائي: أن حتماً. (عليه أن لا ينصرف) أي يعتقد أنه حق عليه أن لا ينصرف إذا فرغ من الصلاة. (إلا عن يمينه) أي جانب يمينه، فمن اعتقد ذلك فقد تابع الشيطان في اعتقاده حقية ما ليس بحق عليه، فذهب كمال صلاته. قال ابن المنير: فيه أن المندوبات قد تنقلب المكروهات إذا رفعت عن رتبتها؛ لأن التيامن مستحب في كل شيء، أي من أمور العبادة، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته، قال الطيبي: في الحديث أن من أصر على أمر مندوب وجعله عزماً ولم يعمل بالرخصة فقد أصاب منه الشيطان من الإضلال فكيف من أصر على بدعة أو منكر؟ ذكره القاري. قال السندي: قوله "أن حقاً عليه أن لا ينصرف" أورد عليه أن حقاً نكرة، وقوله "أن لا ينصرف" بمنزلة المعرفة، وتنكير الاسم مع تعريف الخبر لا يجوز. وأجيب بأنه من باب القلب، أي يرى أن عدم الانصراف حق عليه. قلت: وهذا الجواب يهدم أساس القاعدة إذ يتأتى مثله في كل مبتدأ نكرة مع تعريف الخبر، فما بقي لقولهم بعدم الجواز فائدة، ثم القلب لا يقبل بلا نكتة، فلا بد لمن يجوز ذلك من بيان نكتة في القلب ههنا. وقيل: بل النكرة المخصصة كالمعرفة، قلت: ذلك في صحة الابتداء بها، ولا يلزم منه أن يكون الابتداء بها صحيحا مع تعريف الخبر، وقد صرحوا بامتناعه، ويمكن أن يجعل اسم "أن" قوله "أن لا ينصرف" وخبره الجار والمجرور وهو "عليه" ويجعل "حقاً" حالاً من ضمير "عليه" أن يرى أن عليه الانصراف عن يمينه حال كونه حقاً لازماً- انتهى كلام السندي. (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ينصرف عن يساره)(3/301)
متفق عليه.
954- (9) وعن البراء، قال: ((كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولعل ذلك؛ لأن حاجته - صلى الله عليه وسلم - غالباً الذهاب إلى البيت، وبيته إلى اليسار، فلذلك كثر ذهابه إلى اليسار، ووقع في رواية مسلم: أكثر ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف عن شماله، فأما رواية البخاري فلا تعارض حديث أنس الذي ذكره المصنف عن مسلم كما لا يخفى على من له أدنى تأمل. وأما رواية مسلم التي ذكرناها الآن فهي معارضة في الظاهر لحديث أنس عند مسلم بلفظ: أكثر ما رأيت رسول الله ينصرف عن يمينه؛ لأنه عبر في كل منهما بصيغة أفعل. ووجه الجمع بينهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر هذا مدة وهذا مدة، فأخبر كل واحد بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه، فدل على جواز الأمرين، ولا كراهة في واحد منهما. وقد صح الأمران عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما تخطئة ابن مسعود فإنما هي لاعتقاد أحدهما واجباً بعينه، وهذا خطأ بلا ريب، واللائق أن ينصرف إلى جهة حاجته، سواء كانت عن يمينه أو عن شماله، كما روى ابن أبي شيبة عن علي أنه قال: إذا قضيت الصلاة وأنت تريد حاجة، فكانت حاجتك عن يمينك أو عن يسارك، فخذ نحو حاجتك- انتهى. فإن استوى الجهتان في الحاجة وعدمها فاليمين أفضل بلا وجوب لعموم الأحاديث المصرحة بفضل التيامن. ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر، وهو أن يحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد؛ لأن حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت من جهة يساره في حال أداء الصلاة، ويحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود لأنه أعلم، وأسن، وأجل، وأكثر ملازمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس، وبأن في إسناد حديث أنس من تكلم فيه وهو السدي، وبأنه متفق عليه بخلاف حديث أنس الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال؛ لأن حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت على جهة يساره، كذا في الفتح. والحديث رواه أبوداود، وزاد في آخره: قال عمارة. (يعني ابن عمير) : أتيت المدينة بعد، فرأيت منازل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يساره، ورواه أحمد (ج1:ص459) من طريق عبد الرحمن بن الأسود ابن يزيد النخعي، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً يسأل عبد الله بن مسعود عن انصراف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته: عن يمينه كان ينصرف أو عن يساره؟ قال: فقال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصرف حيث أراد، كان أكثر انصراف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته على شقه الأيسر إلى حجرته. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
954- قوله: (أحببنا أن نكون عن يمينه) لكون يمين الصف أفضل، هذا هو الذي فهمه النسائي فقد ترجم على حديث البراء هذا "باب المكان الذي يستحب من الصف"، وكذا ابن ماجه حيث عقد عليه "باب فضل ميمنة الصف".(3/302)
يقبل علينا بوجهه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وبوب عليه النووي في شرحه لمسلم "باب استحباب يمين الإمام". وقيل في بيان السبب لكونه - صلى الله عليه وسلم - (يقبل علينا) أي على أهل اليمين. (بوجهه) أي عند السلام أولاً قبل أن يقبل على من يساره، أي فنحب أن يقع بصره - صلى الله عليه وسلم - علينا عند التسليم أولاً. وعلى هذين الوجهين لا دليل في الحديث على أنه كان يلتفت بعد الانصراف من الصلاة إلى أهل اليمين ويستقبلهم في حالة الجلوس بعد انحرافه عن جهة القبلة، فلا منافاة بينه وبين ما تقدم من حديث سمرة بن جندب الدال على استقبال جميع المؤتمين. قال القاضي: يحتمل أن يكون التيامن عند التسليم وهو الأظهر؛ لأن عادته - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف أن يستقبل جميعهم بوجهه- انتهى. وقيل: معنى الحديث يقبل علينا بوجهه أي يستقبل في حالة الجلوس بعد الانصراف من الصلاة والانحراف عن جهة القبلة أهل الميمنة لا جميع المؤتمين، فلذلك نحب أن نكون عن يمينه، وعلى هذا المعنى يعارض هذا حديث سمرة المتقدم. واختلفوا في وجه الجمع بينهما، وبيان محمل الحديثين، ومحمل أحاديث الانصراف عن اليمين وعن اليسار. فمنهم من أوّل حديث سمرة إلى حديث البراء، وجعل حديث البراء مفسراً الحديث سمرة، وقال: المراد بقوله "أقبل علينا" في حديث سمرة أي على بعضنا وهم أهل اليمين، أو أن سمرة كان يصلي في الميمنة فقال ذلك باعتبار من يصلي في جهة اليمين. ومنهم من جمع بين الحديثين بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان تارة يستقبل جميع المؤتمين، وتارة يستقبل أهل اليمين، قالوا فالإمام مخير إن شاء استقبل القوم بوجهه، وإن شاء انحرف يمنه ويسرة أي يجعل يمينه إليهم ويساره إلى القبلة، أو عكسه. قال الشوكاني: يمكن الجمع بين الحديثين بأنه كان تارة يستقبل جميع المؤتمين، وتارة يستقبل أهل الميمنة، أو يجعل حديث البراء مفسراً لحديث سمرة، فيكون المراد أقبل علينا أي على بعضنا، أو أنه كان يصلي في الميمنة، فقال ذلك باعتبار من يصلي في جهة اليمين- انتهى. ومنهم من فصل وقال: إنه كان من عادته - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا أسلم تحول عن القبلة، وانحرف يميناً أو شمالاً، ولم يمكث مستقبل القبلة، بل يسرع الانتقال إلى المأمومين، فإن كان هناك حاجة وضرورة إلى خطاب الناس جلس مستقبلاً لجميع المؤتمين، وخاطبهم وكلمهم، كما في حديث سمرة، وزيد بن خالد الجهني، وأنس، ومن وافقهم، وإن لم يكن هناك شيء يتعلق بخطاب القوم فتارة جلس منحرفاً يمنه بأن يجعل يمينه إلى القوم ويساره إلى القبلة، كما يدل عليه حديث البراء على المعنى الثالث. وتارة جلس منحرفاً يسره بأن جعل يساره إلى القوم ويمينه إلى القبلة، وتارة لا يجلس بل يذهب إلى جهة حاجته سواء كانت عن يمينه أو عن شماله، والأحاديث التي فيها ذكر الانصراف عن اليمين والشمال مطلقاً كحديثي ابن مسعود وأنس الذين ذكرهما المصنف، وكحديث هلب عند الترمذي، وأبي داود، وابن ماجه بلفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمنا فينصرف عن جانبيه جميعاً على يمينه وشماله. وكحديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه بلفظ: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة" تتناول جميع هذه الصور. ومنهم من حمل أحاديث الانصراف المطلقة على الذهاب إلى البيت، والانصراف إلى موضع الحاجة، وقال: إن الإمام إن كان لا يريد الجلوس بعد السلام بل يريد الذهاب إلى بيته سلم(3/303)
قال: فسمعته يقول: رب قني عذابك يوم تبعث - أوتجمع- عبادك)) رواه مسلم.
955- (10) وعن أم سلمة، قالت: ((إن النساء في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن إذا سلمن من المكتوبة
قمن، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن صلى من الرجال ما شاء الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وانصرف إلى موضع حاجته يمنه أو يسره، وذهب إلى بيته، وإن كان يريد المكث والقعود في مصلاه فالسنة أن يستقبل جميع المؤتمين، فسنة الجلوس هي استقبال جميع المؤتمين، لا استقبال أهل اليمين أو أهل اليسار فقط، فجلوس الإمام منحرفاً يمنة أي استقبال أهل اليمين، أو يسرة أي استقبال أهل اليسار وإن كان مباحاً لكنه ليس من السنة في شيء، فمن كان يريد السنة فلينصرف بعد السلام إلى بيته وموضع حاجته إن لم يرد المكث والجلوس، وهذا هو محمل روايات الانصراف المطلقة، أو يجلس مستقبلاً لجميع المؤتمين. قلت: هذا القول الأخير هو الراجح عندي، وقد جنح إليه البخاري حيث عقد على أحاديث سمرة، وزيد بن خالد، وأنس "باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم"، فجزم بأن سنة الجلوس هو استقبال القوم جميعاً، ثم ترجم بعد بابين "باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال"، وذكر فيه أثر أنس بأنه كان ينفتل عن يمينه ويساره، ثم ذكر حديث ابن مسعود. قال القسطلاني في شرحه "باب الانفتال" أي لاستقبال المأمومين "والانصراف" أي لحاجته إلى اليمين والشمال، وكأنه أخذ ذلك من كلام الزين بن المنير حيث قال: جمع البخاري في الترجمة بين الانفتال والانصراف، للإشارة إلى أنه لا فرق في الحكم بين الماكث في مصلاه إذا انفتل لاستقبال المأمومين وبين المتوجه لحاجته إذا انصرف إليها-انتهى. (قال) أي البراء. (فسمعته يقول) أي بعد التسليم. قال ابن الملك: ويحتمل أنه سمعه في الصلاة. (رب) بحذف ياء المتكلم. (قني) أمر من وقي يقي وقاية. (عذابك) أي احفظني منه بفضلك وكرمك وهو تعليم لأمته أو تواضع مع ربه. (يوم تبعث أو تجمع عبادك) شك من الراوي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي وأبوداود وابن ماجه وأبوعوانة في مسنده الصحيح.
955- قوله: (قمن) أي خرجن إلى بيوتهن. (وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي قعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكانه بعد قيامهن ليتبعه الرجال في ذلك حتى تنصرف النساء إلى البيوت، فلا يقع اجتماع الطائفتين في الطريق، ويحصل الأمن من الفتنة باختلاط الرجال بالنساء في الطريق. (ومن صلى) عطف على "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي وثبت من صلى معه. (ما شاء الله) أي زماناً شاء الله أن يلبثوا فيه. وزاد في بعض الروايات: قالت فنرى- والله أعلم- أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. والحديث فيه أنه يستحب للإمام مراعاة أحوال المأمومين، والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور. وفيه اجتناب مواقع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت، ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالاً فقط أن لا يستحب هذا المكث، وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة الآتي:(3/304)