إماطة الأذى عن الطريق صدقة
وقوله صلى الله عليه وسلم: (تميط الأذى عن الطريق صدقة) ، نحن نقول لأمناء البلديات والذين ينادون بالحضارة والمدنية وبالنظافة، والذين يتغنون بسويسرا أنه لا تجد في الطريق ورقة، ولا تجد قشرة فاكهة، فنقول: تعالوا إلى سنة رسول الله، فهو من قبل أربعة عشر قرناً يحث على إماطة الأذى عن الطريق، وكيف تميط الأذى عن الطريق؟ ترفعه، فمثلاً: إذا وجدت قشرة موز في الأرض أخذتها، كي لا ينزلق بها البعير أو الإنسان الغافل، فهي مثل الصابون، فإذا كان رفعك لها عن الطريق صدقة، فكيف بك في عدم إلقائك إياها في الطريق؟!! إذاً: نتمدح بالحضارة الغربية، وعندنا هذا الأصل من السنة النبوية، ونقول لأولئك الذين يلقون بفضلات بيوتهم في قارعة الطريق، ونقول لأولئك الذين يبنون العمارات ويرمون النفايات في قارعة الطريق، نقول لأولئك الذين يحفرون الحفر من بيارات وغيرها ولا يضعون حواجز ولا علامات عليها، نقول لكل من يلقي قذارة في طريق المسلمين: إنك خالفت سنة رسول الله، فخذ السنة.
ينبغي أن تكون البلدية أحرص ما تكون على تطبيق هذه السنة، والمناداة بتطبيقها لا بنظام كذا، ولا بقانون كذا، ولا بعرف كذا، بل نقول: هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكلمة (الأذى) لا حد لها، جاء في الحديث: (ترفع العظم عن الطريق) ، وفي بعض الآثار أن الأذى حينما ترفعه يشكرك ويقول: حفظت الناس من أذاي، أو ترفع حجراً عن طريق المسلمين يشكر لك أنك جنبت الناس شره، وإذا جئت إلى كلام الفقهاء تجدهم يقولون: من ألقى أذى في الطريق وتسبب بذلك في جناية على إنسان أو حيوان فهو مسئول ويضمن، ويمثل الحنابلة، لذلك فيقولون: لو أنك سكبت الماء مع الصابون في الطريق فجاء بعير وانزلق فكسرت رجله فأنت ضامن، فالطريق ليس حقك وملكك لوحدك، بل الطريق لجميع المسلمين؛ ولذا نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على قارعة الطريق، وليس للنجاسة كما يظن البعض، ولكن لأنك تغتصب حق المسلمين، وتمنع من يريد أن يمشي، فالطريق جعلت للمشي لا للصلاة، فلا تحتكر شيئاً لعامة الناس لمصلحتك أنت، فلا يجوز لك أن تصلي على قارعة الطريق، واتفق العلماء على أن من حفر حفرة بيارة أو غيرها، ولم يجعل عندها نوراً أو شبكاً يمنع الإنسان من السقوط في ظلام الليل، ويمنع الأطفال من السقوط فيها، فسقط أحد الناس فتلف فصاحبها ضامن.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الإيمان بضعاً وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى، ويستحب بعض العلماء حينما تميط الأذى عن الطريق أن تتلفظ بقولك: لا إله إلا الله؛ لتجمع بين طرفي شعب الإيمان، فأمطت الأذى وهو أدناه، وذكرت أعلاها: لا إله إلا الله، فتكون بذلك قد جمعت بين طرفي شعب الإيمان.
هذا الحديث جزئياته لا تنتهي، وطرق الخير كثير، وحينما قال الرجل: إذا لم أستطع ذلك، قال: (تكف شرك عن الناس فإنها صدقة) ، صدقة عليك وصدقة عليهم، تريحهم من الأذى، وتريح ملائكتك من التسجيل عليك، فكف شرك عن الناس صدقة.
وبالله التوفيق.(58/8)
الأربعين النووية - الحديث السادس والعشرون [2](59/1)
فضل صلاة الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: روى مسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم: (ويجزئ عن ذلك كله ركعتا الضحى) ، وفي بعض النسخ: (ركعتي الضحى) يعني: صلاة ركعتي الضحى.
والبحث هنا في جانبين: كون النبي صلى الله عليه وسلم جعل مكان تلك الأنواع من الصدقات ركعتي الضحى، والمطلوب ثلاثمائة وستون صدقة، فكأن الحديث يقول: صلاة ركعتي الضحى تعادل ثلاثمائة وستون صدقة.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم يجعل الصلاة من حيث هي عوضاً عن فقد النقد والمادة، بينما القرآن يجعل العوض الصوم؛ لأن المولى سبحانه جعل في كفارة الظهار عتق رقبة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء:92] أي: ستين يوماً، وفي كفارة اليمن عتق رقبة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] ، وفي كفارة القتل خطأً: عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، وفي كفارة الظهار عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً بالترتيب.
فالقرآن اعتبر الصوم محل المادة في العجز بل إنه يجبر العجز في الحج: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [البقرة:196] ، ما قال: طواف ستين أو سبعين شوطاً، بل قال: {فَصِيَامُ} [البقرة:196] ، فجعل الصوم مكان هدي التمتع.
إذاً: في نصوص القرآن نجد الصوم نيابة عن المادة في تصحيح الحج بالصوم عن دم الهدي.
حتى أيضاً في فدية الأذى، في حلق الشعر، وهو من محظورات الإحرام، حمل كعب بن عجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرة هوام رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أرى أن بلغ بك الأذى ما أرى) ، ومما ذكر له: (صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين) ، وكل ذلك فيما يتعلق بالدماء إن عجز عنها.
وإن أتينا إلى أمور الأسرة، وإلى الظهار، وإلى كفارة الظهار: وجدناها صوم شهرين، وإذا جئنا إلى كفارة اليمين وجدنا صوم ثلاثة أيام، وإذا جئنا إلى كفارة القتل خطئاً عوضاً عن عتق رقبة وجدنا صيام شهرين، فباب المادة والمال نجد أن العوض عنها الصوم، وهنا المطلوب صدقة، فإذا عجزوا عن الصدقة لم يرشدهم إلى الصوم كما جاء في القرآن.
فالسؤال الأول: ما الفرق بين الصوم في البدل ونيابة المادة في كتاب الله وبين الصلاة من حيث هي؟ أرجو من الإخوة طلبة العلم أن يبحثوا فيه، فإني لم أجد في ذلك إلا ما يوحي به بعض كلمات الشراح من أن الصدقة عن الأعضاء تعوز المتصدق إلى المال، والصدقة مطلوبة هنا عن جسم الإنسان، فقيل: إن الصلاة هنا بدل من الصوم أو غيره؛ لأننا نريد زكاة هذا البدن شكراً لله على ما فيه من نعم، فإذا قمت وصليت لم يبق عضو في الجسم إلا تحرك شكراً لله.
فإذا مشيت من البيت إلى المسجد خطوت إلى المسجد، وإذا وقفت في المحراب أو استقبلت القبلة وحركت يديك وقلت: (الله أكبر) ، نطق لسانك، وتحركت يديك، وانثنى صلبك، وارتفعت، وسجدت، وقامت جميع أعضاء الجسم، فتلك السلامى كلها تحركت في شكر الله تعالى.
إذاً: هذا الحديث مغاير لأسلوب القرآن في استبدال الصوم عن المادة في موقعه؛ لأن الصدقة هنا مطلوبة لذات البدن بخلاف الصوم في الظهار، وكفارة اليمين، فهو خارج عن موضوعها، وذلك من فضل الله على الأمة، فلم يقفل أمامها طريقاً إلا أوجد لها ما تعوض به عنها.
السؤال الثاني: إذا كانت الصلاة هي التي تؤدي به هذا الواجب، والجسم يؤدي واجبه بنفسه فيشكر الله على ما فيه من نعم، حتى العين والأذن تشكر لله، فالعين تنظر إلى القبلة أو تبصر إليها أو تنظر إلى كتاب الله لتقرأ في الصلاة، والأذن تسمع التسبيح والتحميد، والقلب مع هذا كله قد عقد النية شكراً لله، فلماذا اختصت بهذا صلاة الضحى؟ إن كان ولابد من صلاة فكم من نافلة يصليها الإنسان! وكم من وقت صالح لأداء الصلاة، كما في قوله سبحانه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] ، وهذه جاءت في وضح النهار في الضحى، ولم تأت في جوف الليل، فلماذا؟
الجواب
بعض العلماء يختصر الطريق ويقول: لعل في صلاة الضحى سر لا يعلمه إلا الله، فنكف ألسنتنا؛ لأن جميع العبادات فيها أسرار، وإن علمنا بالبعض منها فلا يستطيع إنسان أن يدعي الإحاطة: لماذا الصبح ركعتين بعد نوم طويل وراحة، والظهر أربع ركعات في وقت عناء النهار، وكذلك العصر والمغرب، والعشاء عند النوم وفيه الراحة أربع ركعات؟ لا تستطيع أن تعلل شيئاً، وإن قلنا: أوقات الصلاة ربطت بآيات كونية {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، آيات كونية تتغير وتوجب الشكر، وتوجب النظر في ملكوت الله، وتستظهر القدرة الإلهية في حركة هذا العالم، فتأتي الصلاة مع القدرة متوازيان، ولكن لماذا كانت هذه اثنتين، وتلك ثلاث، وتلك أربع؟! حكم لا يعلمها إلا الله.
وبعض الفقهاء حاول الكلام في هذا، ولكن حقيقة الأمر عند الله، وإذا استقر الأمر على الضحى، فبقي سؤالان: حكم صلاة الضحى، واختلاف الصحابة فيه، واختصاص الضحى عن بقية الصلوات.(59/2)
حكم صلاة الضحى
هذا الحديث من أقوى الأدلة في مشروعيتها، وأنصح إخواني الطلبة أن يرجعوا إلى التمهيد في الجزء الثامن، فإن ابن عبد البر استوفى هذا البحث إلى أقصى حد، في الحديث الذي رواه مالك عن أم المؤمنين عائشة قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح سبحة الضحى قط) .
انظروا إلى هذا التصريح: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح -يعني تنفل- سبحة الضحى قط) يعني: نافلة الضحى، أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة تقول هذا! بينما جاء عن أم هانئ في الصحيحين قالت: (عام فتح مكة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به يغتسل وفاطمة تستره، فسلمت، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ، وقالت: إن علياً يزعم أنه قاتل فلاناً وقد أجرته، فقال: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ! فلما قضى غسله التحف بملحفة وصلى ثمان ركعات) وعند بعض رواة الحديث من أهل السنن: (سألته: ما هذه الصلاة يا رسول الله؟! قال: الضحى) .
بعض العلماء يقول: إنها صلاة شكر على الفتح، وخالد بن الوليد أحياناً كان يصليها إذا فتح الله عليه مدينة من المدن.
وقد تنازع العلماء في مشروعية الضحى؛ لأن أم المؤمنين وهي أقرب الناس إليه، وأعرف بصلاته في الداخل تقول: (ما رأيت) .
وقيل لـ عبد الله بن عمر: أعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى؟ قال: لا، ولا أبا بكر ولا عمر! ولكن مالك رحمه الله يتمم حديث عائشة وأنها قالت: (وإني لأسبحها) ، وفي رواية: (وإني لأحبها) ، وفي رواية: (ولو بعث لي أبواي ما تركتهن) .
فكيف الجمع بين قولها هذا وقولها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها قط) ؟ ورد في بعض الروايات: (كان صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحبه كراهية أن يفرض على الناس) .
وأحسن من تكلم على هذه المسألة صاحب كتاب: (طرح التثريب) ، فقد ذكر حوالى عشرة أوجه في الإجابة عن قول عائشة، والجمع بين قولها: (ما رأيته قط) ، وقولها: (وإني لا أتركها ولو بعث لي أبواي) .
قالوا: لم تره، وإنما بلغها.
وقال بعض الناس: عائشة كانت تاسعة تسع من زوجات رسول الله، فليس بلازم في كل نوبتها أن يصلي، ولعله كان يصليها عند غيرها، ولكن ابن عبد البر يضعف هذا الوجه.
إذاً: كان يخفي أمرها مخافة أن تشتهر عند الناس، وتفرض عليهم، وبعد أن أنتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أمن جانب الفرضية، كما وقع في قيام رمضان، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى العشاء ودخل بيته، ثم قام من الليل إلى المسجد فصلى في رمضان في الليل، وكان بعض الناس في المسجد فصلوا خلفه، فلما كان من الغد صلى العشاء ودخل، فتسامع بعض الناس، فانتظروا بعد الصلاة ولم ينصرفوا، وخرج صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل في رمضان فصلوا خلفه، وفي الليلة الثالثة تسامع أهل المدينة جميعاً أن رسول الله صلى في الليل، وصلى وراءه أقوام، فلما صلوا العشاء ودخل صلى الله عليه وسلم بيته، ما قام إنسان من مكانه، ومكثوا ينتظرون خروج رسول الله، فلما جاء وقت خروجه قال لـ عائشة: ما بال الناس مجتمعين؟ ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى.
قال: وماذا ينتظرون؟! قالت: ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى أقوام بالأمس وقبله، فلم يخرج، فأخذوا الحصباء ورموا باب الحجرة، فما خرج إلى صلاة الصبح وقال لهم: ما خفي عليّ صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً، ولكني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم فلا تستطيعون) .
فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم وهو يعلم أنهم منتظرون مخافة أن تفرض عليهم فيعجزون عنها.
ثم في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه نظّم التراويح على إمامين، أحدهما أبي بن كعب، وأمره أن يصلي بالناس أولاً ثمان ركعات، ولكن كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وربما انصرفوا قبل أن ينادي المؤذن للفجر، فجمع القراء، وكلف سريع القراءة أن يقرأ بثلاثين آية في الركعة، وبطيء القراءة أن يقرأ خمساً وعشرين آية في الركعة، وخفف من القراءة، وزاد في عدد الركعات، وجعلها عشرين ركعة، واستمر الأمر على ذلك من عهد عمر إلى اليوم.
ويهمنا أن عمر لما أمن الفرضية -لأنه لا فرضية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- نظّمها، كما أن بعض السلف قال: الصلوات خمس، أي: لا سادسة، وهي الضحى، فقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم ربما كان يخفيها لئلا يتتابع عليها الناس؛ مخافة أن تفرض عليهم، فلما كان الأمر كذلك، وعلمت صلاته صلى الله عليه وسلم لها في مكة، قالوا: هذه سنة، وشكر للفتح.
ويروون عن الطبري أنه قال: أنه جاءت فيها أحاديث تعادل التواتر، ولكن لم نقف على ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فعلى طالب العلم أن يبحث هذا، إلا أنه جاء في الصحيحين عن أبي هريرة تارة، وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنهما تارة، أبو ذر يقول: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى) ، وكذلك أبو هريرة قال: (أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن ما حييت: صيام ثلاث أيام من كل شهر، ولا أنام إلا على وتر، وأن أصلي ركعتي الضحى، فأنا أصليهن في الحضر وفي السفر) .(59/3)
عدد ركعات الضحى
أما عدد الركعات فقد ذكر ابن عبد البر في الجزء الثالث عشر من التمهيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعي إلى الطعام في بيت أم سليم فقال: (أين تريدون أن أصلي لكم؟ يقول أنس: فقمت إلى حصير قد درس من طول اللِبث أو اللُبث فنضحته بالماء، فصلى، وصففت خلفه أنا وفلان، والعجوز من ورائنا) ، وبعضهم يقول: صلى ثمان ركعات، وفي روايات أم هانئ: (يسلم من كل ركعتين) ، وفي حديث ابن عمر (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) .
وعلى كلٍ فالروايات ثابتة في صلاة الضحى، مثل هذا الحديث عند مسلم: (ويجزئ عن ذلك كله ركعتا الضحى) ، وكم تكون صلاة الضحى؟ يتفق العلماء على أن أكملها ثمان، وأوسطها أربع، وأقلها ركعتان.
ويذكر البيهقي: أن أقصاها اثنتي عشرة ركعة، ولكن الحديث فيه ضعف ولم يأخذ الجمهور به.
إذاً: أقل صلاة الضحى ركعتان، وأوسطها أربع، ونهايتها ثمان كما عند الجمهور، وعلى هذا ثبتت مشروعية الضحى من حيث هي.
لماذا اختصت صلاة الضحى بهذا دون غيرها من النوافل؟ وما هي النوافل؟ لكل فريضة في الإسلام نافلتها: فالشهادة التي هي مفتاح الإسلام تجب في العمر مرة، ولكنها تتعدد في كل صباح ومساء نافلة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض في العمر مرة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فبمقتضى هذه الآية أصبح فرضاً على كل مسلم أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب يتأتى بمرة ما لم يأت ما يدل على التكرار، وقد جاء في هذا ما يدل عليه: (حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر وقال: آمين آمين آمين، فقالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن، علامَ أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: شهر رمضان من أدركه ولم يدخله الجنة باعده الله فقل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة باعده الله في النار فقل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل: آمين، فقلت: آمين) اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ويأتي الحديث الآخر: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) إلى آخره.
نأتي إلى أركان الإسلام الأخرى: الصلاة وهي عماد الدين، لكل فريضة نافلتها، يتفقون على القبلية ويختلفون في البعدية، فالصبح قبله ركعتان، والظهر قبله ركعتان وبعده ركعتان، والرواية الأخرى: أربع وأربع، والعصر قبله أربع ركعات، والمغرب بعده ركعتان أو ست ركعات، والعشاء بعدها ركعتان.
ثم تأتي بعد ذلك النوافل غير المرتبة مع فريضة: فتأتي صلاة الليل بلا عدد ولا حد، كما بيّن سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:1-4] ، ولا حد في ذلك على التحقيق، وكان السلف بعضهم يقوم الليل بكتاب الله كاملاً، وبعضهم يقوم الليلة بسورة الفاتحة.
يأتي بعد ذلك إقامة القائلة -أي: الصلاة بين الظهر والعصر- وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنه يحيي القيلولة، فقيل له في ذلك، فقال: الناس نيام وأحب أن أعبد ربي، مع أن وقت القيلولة يستعان بها على قيام الليل، وابن عمر هو الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (نعم العبد عبد الله بن عمر لو كان يقوم الليل) كما روت ذلك حفصة رضي الله عنها، يقول عبد الله: ما نمت ليلاً بعد أن سمعت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يقوم القيلولة بين الظهر والعصر.
وكما جاء عن سعيد بن المسيب: أن رجلاً قال له: إن بني فلان يقيمون الهاجرة، يذهبون إلى المسجد في الظهر ويقيمون هناك إلى صلاة العصر يتعبدون، فهل تستطيع أن تفعل مثلهم؟ قال: يا ابن أخي! ليست هذه بالعبادة، العبادة تأمل في كتاب الله وأحكامه، وبيان أمره ونهيه إلى آخره.
ومنها: الصلوات ذوات الأسباب من كسوف، وخسوف، واستسقاء، وجنازة إلى غير ذلك.
قالوا: لقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى بالذات؛ لأنها ليست مرتبطة بفريضة تتممها.
إذاً: الضحى ليست مرتبطة بغيرها، فركعتا الفجر مرتبطة بالفجر، أما الضحى فلا، وحينما كنت أبيّض تتمة أضواء البيان في قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:1-2] ، {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] ، يلفت النظر هنا أن الله يقسم سبحانه فيقول: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] ، تقول: سجى الليل: إذا غطى بظلامه، فلان مسجّى، يعني: نائم مغطى، إذاً: الليل الساجي: هو الليل الذي غطى الكون بظلامه، وهذا أقوى أوقات الليل في الظلام، ويقابل هذا في النهار الضحى، وكأن وقت الضحى هو ألطف أوقات النهار كله بالنسبة إلى أشعة الشمس؛ لأن قبل الضحى لم يكتمل نورها، وبعد الضحى يشتد حرها، ثم تأتي إلى الزوال، ومن الزوال إلى الغروب تبدأ في النقصان.
إذاً: أكمل أوقات النهار هو وقت الضحى.
ويقسم المولى سبحانه بأوثق الزمنين وأقواهما في موضوعهما: الليل الساجي والضحى في إشراقه مع هدوء الشمس، وإذا جئنا إلى السورة الثانية: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:1-2] ، وأكمل الليالي وأفضلها هي التي فيها القمر يكتمل، وهي الأيام البيض: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر؛ لأن لياليها مضيئة بضوء القمر، فهي بيضاء ونهارها أبيض بأشعة الشمس.
إذاً: الضحى أفضل أوقات النهار، ويكون العبد في إشراقة نفسه، وفي وضوح ووضاءة وإشراقة قلبه ونور ربه معه، يأتي في هذا الوقت اللطيف ويركع لله ركعتين، فتكون شكراً محضاً لله لا على مقابل شيء، ولهذا فللضحى خصائصها، ويكون لهذا الوقت شرفه واختصاصه دون بقية الأوقات، ولهذا تجد أقوى ما تكون النفس إشراقاً وأقوى ما يكون البدن نشاطاً في ذلك الوقت، فإذا زاد بعد ذلك واجهه حر الشمس، وواجهه عناء النهار إلى غير ذلك من العوامل الأخرى، وإذا نظرنا إلى ما يوحيه قول ابن عباس في قوله سبحانه في خصلة داود: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص:18] والعشي: ما بعد الزوال إلى المغيب، والإشراق: هو إشراق الشمس، يقول: كانت العصر والضحى واجبتان على داود، فبقيت العصر عندنا، ورفعت الضحى عنا، أي: من باب الفريضة.
وقوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] يختلف العلماء في الصلاة الوسطى ما هي؟ فـ مالك رحمه الله يقول: الفجر؛ لتوسطها بين العشاء وبين الظهر، وهما أبعد الوقتين، ولثقلها على المنافق.
والجمهور يقولون: هي العصر.
لو جئت إلى صلوات خمس في دائرة، فأي نقطة على دائرة المحيط تكون منتصف الدائرة، فما الذي خص نقطة العصر في ذلك؟ لو تأملنا إلى الوسطية من حيث الزمن وأوقات الصلاة وإقامتها؛ نجد طرفي النهار: الفجر في أوله والعشاء في آخره، فإذا جئنا ما بين طلوع الفجر إلى زوال الشمس، ففيه صلاة الفجر وصلاة الظهر بعد الزوال، وهذا الزمن طوله ست ساعات تقريباً، وإذا جئنا من زوال الشمس إلى غروبها وجدنا ست ساعات أيضاً فنجد الظهر في منتصف النهار ونجد المغرب في نهاية النهار، وبين الفجر والظهر كما بين الظهر والمغرب، وفي الوسطين نجد صلاة العصر في ربع المسافة بين الزوال والغروب، ونجد الضحى في ربع المسافة بين الإشراقة والزوال، فالضحى متعادل مع العصر سواء بسواء.
إذاً: الضحى تعادلة الصلاة الوسطى التي نص القرآن عليها.
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ} [النور:36-37] .
الغدو: الغدوة وليس ذلك الفجر إنما بعد طلوع الشمس، والآصال: بعد العصر وقبل المغرب.
إذاً: قبل كل شيء: لصلاة الضحى سر يعلمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن لو ذهبنا نلتمس أسباب أو مسببات هذا التخصيص والتفضيل ربما وجدناه على النحو الذي مر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(59/4)
وقت صلاة الضحى
ما هو الوقت الصحيح لصلاة الضحى؟ يتفق العلماء: أن الصلاة النافلة لا تصح عند طلوع الشمس، ويقولون: حتى ترتفع الشمس قدر رمح، وعلي رضي الله تعالى عنه لما رأى بعض الناس يصلي الصبح ويجلس فإذا أشرقت الشمس صلى وذهب، قال: ما بالهم ينحرونها؟ لماذا لا ينتظرون حتى تكون في الجبهة؟ أي: تكون الشمس في جبهة القائم، وارتفاع الشمس قدر رمح، ويدرك ذلك من كان في خلاء وفضاء، أو كان على ساحل بحر؛ فإنه يرى الشمس كأنها تنبت من الأرض في نهاية الأفق -كما يقولون- الميل، والميل حينما تنظر إلى الأمام -كلٌ بحسب نظره قوة وضعفاً- في منتهى الإبصار ترى أن السماء قد مالت على الأرض، والتقت في زاوية حادة عند نقطة الصفر، فحينما تخرج الشمس من تلك النقطة -نقطة الميل- وترتفع عن نقطة صفر في الأرض صاعدة إلى السماء تأخذ تدريجياً حافة القرص أولاً، ثم ينتصب، ثم يكمل ظهوره، ثم يأخذ الانفصال والارتفاع عن سطح الأرض، وإذا بلغ ارتفاع قرص الشمس عن سطح الأرض مقدار رمح حلت الصلاة، والرمح هو الآلة التي كان يستخدمها الناس في القتال، وغالباً ما تكون بقامة إنسان أو دون ذلك، وحينئذٍ جاز أن تصلي النافلة.
ولكن جاء في الحديث: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) والفصال جمع فصيل، وهو ولد الناقة، يمشي في بكرة النهار مستريحاً، ولكن إذا اشتدت الشمس وارتفعت أكثر من رمحين قبل أن تصل إلى الزوال، أي: في ربع السماء، ومعنى ربع السماء: أي: نصف الدائرة من نقطة الشروق إلى نقطة الغروب، فنصفها هو وقت الزوال، ومن نقطة الزوال إلى الشروق منتصف المسافة الربع الشرقي، ومن نقطة الزوال إلى نقطة الغروب منتصف المسافة الربع الغربي، فإلى أن تأتي الشمس في ربع السماء الشرقي هناك ترمض الفصال، تحتر الأرض الرملة -وهي الرمضاء مثل الرماد الحار- فالفصيل الصغير لا يقوى على المشي؛ لأن الرمل يحرقة تحت خفه فلا يقوى عليها فيربض في الأرض، قالوا ذلك الوقت هو: صلاة الأوابين، وأحسن أوقاتها ذلك الوقت.
إذاً: أول وقت الضحى: إذا ارتفعت الشمس قدر رمح، وآخر وقتها: حينما ترمض الفصال، وعدد ركعاتها -كما أشرنا- أقلها ركعتان، وأكملها ثمان، وأوسطها أربع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
لو جئت إلى قوله: (ويجزئ عن ذلك: ركعتا الضحى) حينما تفكر في الركعتين إن جئت إلى الحسنات التي يمكن أن تتميز فيها في الركعتين، كيف تفعل؟ يعني: لو جئنا على سبيل العرض والإيراد من باب لفت النظر أول عمل في الصلاة: تكبيرة الإحرام، ثم تقرأ الفاتحة، ثم تكبر، ثم تركع، وتسبح ثلاث مرات، ثم ترفع وتقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد إلى آخر الذكر، ثم تكبر وتسجد، ثم تسبح ثلاث مرات، ثم تكبر وتجلس، ثم تدعو، ثم تكبر وتسجد، ثم تسبح ثلاث مرات، ثم تقوم للركعة الثانية، فلو أحصيت هذه الحركات وتلك الأذكار بالإضافة إلى سورة الفاتحة فقط، والفاتحة تشتمل على مائة وثلاثة حروف كما يقول النيسابوري في عده للحروف، فلو جمعت جميع ما يكون من تلك الحركات، والتكبير والتسبيح تصير حوالى ستين حسنة مستقلة، فلو ضربت الستين في اثنين صارت مائة وعشرين، ولو ضربت مائة وثلاثة في اثنين صارت مائتين وستة، واجمع إليها مائة وعشرين تصير ثلاث مائة وستة وعشرين، ولعل الباقي يأتي في الدعاء أو في خطواتك إلى المسجد، ولو أراد إنسان أن يستخرج بعض الشيء: كيف تعادل الركعتان ثلاث مائة وستين، ربما يجد في الركعتين ما يعادل ذلك إذا اعتبرناها على انفرادها.
وكل هذا من باب تفتيح الذهن، وربط حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضوعه، لماذا خص ركعتين؟ ولماذا لم يقل: أربع؟ ولماذا لم يحيل على الصوم؟ ولماذا لم يجعلها في الليل؟ وكل ذلك موضع لأسئلة العلماء.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يشرح صدورنا لما يحبه ويرضاه، وأسأله أن يرضى عنا.
اللهم علمنا ما جهلنا، وذكرنا ما نسينا، وتقبل منا إنك على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(59/5)
الأسئلة(59/6)
مواطن استحباب قراءة سورة الضحى
السؤال
ما هي المواطن التي يستحب فيها قراءة سورة الضحى؟
الجواب
يقول بعض العلماء: من الأحسن في صلاة الضحى أن تقرأ سورة الضحى في الأولى وألم نشرح في الثانية، ولهم في ذلك أسرار، كما أن السنة في ركعتي الصبح وفي سنة الطواف أن تقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فتبدأ صباحك قبل الفريضة بقراءة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وتبرأ من عبادة الكفار وتلجأ إلى عبادة الله وحده، ثم تقرأ سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وفيها إقرار بالوحدانية لله سبحانه وتعالى في ذاته وأسمائه وصفاته، وكذلك بعد ركعتي الطواف وهي آكد، والسر في ذلك عظيم؛ لأن العرب كانوا يعبدون الأصنام، فجاء الإسلام وحطم الأصنام وطهر الكعبة، وفي الوقت الذي يكسر الأصنام الحجرية يقبّل الحجر الأسود، فهنا الشيطان يجد مجالاً للوسوسة، ويقول: كيف تكسرون تلك الأحجار التي صنعها آباؤكم وتقبلون هذا الحجر؟ فيكون الجواب على ذلك: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] .
وعمر رضي الله تعالى الذي كان في الجاهلية يصنع لنفسه إلهاً من تمر، يحرسه عند رأسه، فإذا أصبح معافى أكله، أتى إلى الحجر الأسود وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، وكان علي رضي الله تعالى عنه وراءه، فقال: لا يا أمير المؤمنين! إنه ينفع ويضر قال: بأي شيء؟ قال: إذا كان يوم القيامة جاء وله لسان يشهد لكل من قبّله.
وكل من كتب في تاريخ مكة وبناء الكعبة يورد آثاراً عديدة جداً، ولا تصل في الصحة إلى درجة الصحيحين، لكنها في مجموعها يعضد بعضها بعضاً، وفيها أن الحجر الأسود نزل من الجنة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة ما مررت عليه إلا وسلم عليّ) ، فإذا كان حجر من حجار مكة يسلم على رسول الله، فما الذي يستبعد أن ينزل حجر من الجنة؟ والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقت صلاة الضحى بخلاف الأوقات الخمسة، فهي تأتي في وقت شبه هدوء للإنسان، بخلاف الظهر فإنه يكون منهمكاً في عمله فيترك عمله ليصلي، ومثلها العصر؛ لأن العصر تكون وقت انشغال الناس، وما كل الناس يقيل من الظهر حتى العصر.
إذاً: من خصائص صلاة الضحى: أنها وقت انشغال الناس، ولذا فهي صلاة الأوابين، والأواب: شديد الأوب، أي: الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.(59/7)
وضع اليد على الصدر في الصلاة
السؤال
ماذا على المصلي إذا لم يضع يديه على صدره؟ متى يضعها؟ وهو ساجد، أو جالس، أو راكع، أو ارتفع من الركوع، أو في القراءة؟ لأنا نظرنا إلى بعض الناس يضعون أيديهم في محلات لا ندري عنها.
المهم: إذا كان عند القيام قبل أن يركع، فهذه هي السنة، وقد ذكرها الإمام مالك رحمه الله في موطئه، وهو حجة على المالكية الذين يسدلون، وكما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: لا نترك ما أورده مالك بخطه في موطئه لما كتبه خليل وغيره.
والعجيب! أن البخاري ومسلم وجميع علماء السنة لم يرووا حديث وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة إلا من طريق مالك، وسندهم الوحيد هو من طريق مالك، كل علماء الحديث يروون حديث القبض أو وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة من طريق مالك، فهذه سنة، ولكن لنعلم أنها من كمال الهيئة، والصلاة لها هيئة في قيامك للقراءة؛ فهذه هيئتها، وعند ركوعك يدك مفرجة الأصابع على ركبتيك هذه هيئتها، وفي رفعك ترفع يديك حذو منكبيك وترسلهما بجانبيك، فإذا قبضتهما كما يفعل بعض الناس فهي هيئة بعد الرفع مثل الهيئة عند القراءة، وكل ركن في الصلاة له هيئته، فإذا سجدت بسطت كفيك وسجدت بين كفيك في سجودك، وإذا جلست بين السجدتين وضعت كفيك على فخذيك، وهل تضع اليمنى على اليسرى وأنت جالس بين السجدتين؟ لا؛ لأنها خاصة بالقيام، فإذا سجدت تبسط كفيك أمامك، وإذا جلست للتشهد لا تضع اليمنى على اليسرى وأنت جالس للتشهد، بل تضعهما على فخذيك، لكل ركن في الصلاة هيئته.
إذاً: وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حال القيام للقراءة هو السنة، ولكن لنعلم أن الصلاة تصح بوضعهما وبدون وضعهما، ولكن السنة وضع اليمنى على اليسرى، وأحب أن أقول ذلك حتى لا يكون وضع اليدين وإرسالهما موضع خلاف ونزاع بين الناس، فالسنة هي أن تفعل ذلك، فإذا رأيت إنساناً لا يفعلها، وتعلم أنه متأثر بقول في مذهبه، فاعذره، ولا ينبغي أن تبالغ بالإنكار عليه، وخاصة إذا كان طالب علم يفهم، وهذه المسألة لا ينبغي أن ندخلها في الخلاف حتى توجد نزاعاً بيننا، بل من وضع يديه فقد عمل بالسنة وهو الأكمل والواجب على كل إنسان، ومن تركها لقول عنده أو تأوّل عنده فلا ينبغي لنا أن نجعل ذلك محل خصام ونزاع وتفريق بين إخواننا، والله تعالى أعلم.(59/8)
هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم مسدلاً؟
السؤال
قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مسدلاً؟
الجواب
هذا يقولونه حينما صلى جالساً، فحينما سقط عن الفرس وألم في فخذه وفي حوضه، وكذلك في مرضه صلى جالساً وأسدل يديه، وقلنا: هيئة صلاة الجالس نفس المالكية وغيرهم يذكرون فيها خلاف، هل تجلس كجلستك للتشهد أو تجلس متربعاً؟ فإن جلست جلستك للتشهد قبضت، وإن جلست متربعاً وضعت يديك؛ لأن هيئة المتربع تكفي بأن يعلم بأنه في قراءة، أما إذا جلست جلسة المتشهد فيظن الرائي أنك تتشهد، فتضع يديك على صدرك؛ لأن وضع اليدين علامة على القراءة؛ ولهذا يختلفون في هيئة الصلاة للجالس، فإن صلى متربعاً وضع يديه على كفيه، وهذا هو السدل، أي: في صلاة الجالس، لا في صلاة القائم.(59/9)
القاعدون
السؤال
من هم القاعدون؟
الجواب
القاعدون الذين لم يجدوا ما يسافرون عليه: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92] ، هؤلاء بذلوا وسعهم وبكوا أسفاً على أنهم لم يجدوا، وأولئك وجدوا وتخلفوا، والذين وجدوا وجاهدوا مفضلون على هؤلاء، وهؤلاء لهم فضل النية والقصد والحرص.(59/10)
كفارة اليمين
السؤال
هل كفارة اليمين بالتخيير؟
الجواب
كفارة الظهار جاءت بالترتيب، ولكن كفارة اليمين جاءت بالتخيير، وهو المعروف عن الأصوليين الواجب المخيّر، ونازع فيه المعتزلة وقالوا: كيف يكون واجباً؟ وكيف يكون على التخيير؟ لأن التخيير يتنافى مع الوجوب، لكن الوجوب في الإلزام، والتخيير في اختيار النوع، إن شئت كفرت بعتق، وإن شئت أطعمت عشرة مساكين، وإن شئت كسوتهم، هذا على باب التخيير.(59/11)
مواطن رفع اليدين في الصلاة
السؤال
ما هي مواطن رفع اليدين في الصلاة؟
الجواب
في عدة مواطن: حينما يركع، وعندما يرفع من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده، وكذلك إذا قام من الركعة الثانية إلى الثالثة، أما بين السجدتين أو حينما يريد أن يسجد فلا يرفع يديه، وبعضهم يكره ذلك وبعض العلماء يكره رفع الإصبع في التشهد، ويقول: إن قدرت على كسرها فافعل، ولا أدري لماذا قال هذا؟! وقد جاء في الحديث الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في التشهد عقد ثلاثاً وخمسين) .
وكان للعرب عقود إشارات بالعدد، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وقبض إصبعه في الثالثة) ، أي: مرة ثلاثين، ومرة تسعة وعشرين، وكانت للعرب عقود في الحساب، وأعتقد أنه علم قد اندرس، وعقد الوسطى مع البنصر للثلاثة والخمسين عطف الإبهام على أصلها.
وبعضهم يزيد في الحركة بالإصبع ويقولون: توقظ الوسنان، وتطرد الشيطان، وبعضهم يقول: تنبه القلب، لكن نقول: القلب على اليسار وليس على اليمين! على كلٍ، جاء الحديث بالحركة وبالسكون، فيظل رافعاً إصبعه إلى أن يختم الشهادتين أو يختم التشهد أو يسلم، كل ذلك وارد في هذا، فتحريك الإصبع وارد عند بعض العلماء، وتسكين الإصبع وارد عند البعض الآخر، والله تعالى أعلم.(59/12)
شرح الأربعين النووية - الحديث السابع والعشرون(60/1)
شرح حديث: (البر حسن الخلق)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) رواه مسلم.
وعن وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتيت تسأل عن البر؟ قلت: نعم، قال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) حديث حسن، رويناه في مسندي الإمامين أحمد بن حنبل والدارمي بإسناد حسن] .
يسوق الإمام النووي رحمه الله هذين الحديثين في موضع واحد كحديث واحد لاتحاد موضوعهما، وإن اختلفت الألفاظ والرواة والتخريج، فالأول عن النواس بن سمعان رواه مسلم، والثاني عن وابصة بن معبد رواه أحمد والدارمي، وكلا الحديثين صحيح.
الحديث الأول: عن النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك) .
والحديث الثاني: عن وابصة، وفي بعض الروايات أنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من قومي، وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة عام الوفود، قال: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، وحوله أصحابه، فأخذت أتخطى الرقاب لأدنو منه، فقالوا: دونك يا وابصة! هذا رسول الله! فقلت: دعوني أصل إليه، فقال: دعوه، فدنوت منه حتى لمست ركبتاي ركبتيه، فقال: يا وابصة! أخبرك بما جئت تسأل عنه أم تسأل وأخبرك؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! بل أخبرني، فقال: جئت تسأل عن البر والإثم، فقلت: والذي بعثك بالحق! عن هذا جئت أسأل!) ، وهذه الرواية لها نظير في باب الحج حينما (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في مسجد الخيف فأتاه رجلان: أحدهما من ثقيف، والآخر من الأنصار، فقال الحاضرون: قدّموا هذين فإنهما على سفر، فقال الثقفي للأنصاري: سل، وقال الأنصاري للثقفي: سل، فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئتما سألتما، وإن شئتما أخبرتكما عما جئتما تسألان عنه! فقال الأنصاري: بل أخبرنا أنت يا رسول الله! قال: جئت تسأل عن حجك وما لك فيه، وعن خروجك من بيتك تؤم البيت وما لك فيه، وعن طوافك بالبيت، وطوافك بين الصفا والمروة، وعن وقوفك يوم عرفة، وعن حلقك الشعر، وعن رميك الجمرات، وعن نحرك الهدي، قال: والذي بعثك بالحق! عن هذا جئنا نسألك يا رسول الله!) ، فذكر لهما النبي صلى الله عليه وسلم أجر المناسك كلها حتى نهاية الحج، والطواف بالبيت، فقال في آخره: (تطوف بالبيت، ويأتي ملك يربض بكفه بين كتفيك، ويقول لك: استقبل عملاً جديداً، فصحيفتك بيضاء نقية) .(60/2)
فوائد دلائل النبوة
والأحاديث بهذه الطريقة قد تصدر من النبي صلى الله عليه وسلم؛ تقوية ليقين السائل، وإظهاراً للمعجزة لأحد الحاضرين ممن تكون عنده بعض الشبه، أو عنده بعض الترددات، فيأتي مثل هذا الأسلوب فيذهب ما في نفسه، ويقوى يقينه، ويجعل عند الناظر أو السامع زيادة إيمان ويقين بالله.
وقد روي: (أن أعرابياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو وأصحابه يأكلون، فقال: أنت محمد بن عبد الله؟ قال: نعم، قال: أنت رسول الله؟ قال: نعم، قال: من يشهد لك أنك رسول الله؟ قال: القصعة التي تأكل منها، فرفع القصعة إلى أذنه فسمعها تسبح الله، وتشهد الشهادتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله! فقال: والله! إنها لتسبح، وإنها لتقول: كذا وكذا! فقال رجل آخر: أسمعنيها يا رسول الله! فقال: سمّعه، فأخذها وسمعها، فقال ثالث: أسمعنيها؛ فقال: لا، يكفي شاهدان، حطها) .
فـ وابصة أتى وافداً مع قومه، فصار يزاحم حتى يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أن آداب المجلس تمنع من المزاحمة، ولكن للعاطفة وللشعور أحكام فوق الآداب كما يقولون، وقد ثبت أنه جاء نفر ثلاثة إلى مجلس رسول الله صلى عليه وسلم، فرجل وجد فرجة فجلس، ورجل استحى أن يزاحم الناس فجلس من ورائهم، ورجل لم يجد مكاناً فمشى، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيى من الله فاستحى الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه) .
ونذكر قصة وفد عبد القيس، وهم من الخليج من نهاية الجزيرة من الشرق أو الشمال الشرقي، يسافرون الشهر والشهرين، فلما وصلوا المدينة، إذا بالوفد سرعان ما نزلوا عن رواحلهم، وتركوها وأسرعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما أميرهم أشج عبد القيس يتريث، ويجمع الإبل ويعقلها، ويجمع المتاع ويسفطه، ثم يعمد إلى عيبته فيخرج أحسن ثيابه، ثم يغتسل ويلبس الثياب الطيبة، ثم يمشي على تؤدة بعد أن وصل أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوقت طويل، فيأتي على طمأنينة، فيجد القوم قد اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً أفسح له بجواره، وقال: (إنك امرؤ فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم، والأناة -فانتهزها فرصة- وقال: يا رسول الله! خلق تخلّقت به أم جبلة جبلني الله عليها؟ قال: بل جبلة جبلك الله عليها، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يرضي الله ويرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فكان الوفد واحداً، ولكن جلهم ما استطاعوا الصبر؛ لأن قلوبهم جياشة بالعاطفة لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد سفر شهرين، وأحدهم استطاع أن يضبط أعصابه، وأن يتحكم في عاطفته، فأتى بتأنٍ.
فهذا وابصة يتخطى الناس، وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه قال: (جئت يا رسول الله! وأنا أريد ألا أدع براً ولا إثماً إلا سألت عنه، فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بادره رسول الله فقال: تخبر أم أخبرك أنا؟) ، وهذا من المعجزات التي كانت تتجدد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض روايات وابصة أنه قال: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع أصابعه الثلاث -ولم يذكر لنا أحد كيفية جمعها- ودفع بها في صدري وقال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس) إلى آخر الحديث، ودفعه في الصدر تنبيه للقلب.
وهذا الحديث برواياته يدل على مدى شفافية قلب المؤمن، ومدى إشعاع نور الإيمان والبصيرة في قلبه، وهو يرد الإنسان المؤمن حقاً إلى فطرته التي فطره الله عليها، ولذا جاء في الأثر: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله) .(60/3)
معنى البر
في هذين الحديثين يبين لنا صلى الله عليه وسلم بكلمتين: (البر حسن الخلق) ، (الإثم ما حاك في النفس) ، ويقابل صلى الله عليه وسلم بين معنيين متضادين، وكلاهما جمع باباً بجميع فروعه.
يقولون: البر من أسماء الجنة كما قال الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، وقد يكون اسماً جامعاً لجميع أعمال الخير كما قال الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان} [المائدة:2] ، وانظر المقابلة! قالوا: البر ما كان للخلق في التعامل: من اللطف، والمسايرة، والمجاملة، وطلاقة الوجه، واصطناع المعروف، وغير ذلك، والتقوى: ما كان بينك وبين الله، فتجمع بين الأمرين: حسن المعاملة بينك وبين الخلق، وبينك وبين الخالق، أو أن البر أمر إيجابي في فعل المعروف، والتقوى أمر سلبي في اجتناب المحرمات، أي: تعاونوا على فعل المأمورات، وتعاونوا على ترك المنهيات، فبفعل المأمورات تأتون على البر، وبترك المنكرات تأتون على التقوى؛ لأن التقوى اتخاذ الوقاية بترك المعاصي، ويقابلها قوله: {ولا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ} [المائدة:2] أي: من الذنوب التي بين الإنسان وبين ربه، {والْعُدْوَان} [المائدة:2] أي: من الذنوب التي تتعلق بحقوق الآخرين.
وقال بعض العلماء: البر فضائل الأعمال، وقيل: البر كل ما كان فيه قربة لله من الفرائض والمندوبات والنوافل.
قال الشاعر ويروى عن عمر: أبني إن البر شيء هين وجه طليق وقول لين وفي رواية للبيت أخرى: أبني إن البر شيء هين فعل جميل وقول لين فكلاهما علامة على حسن الخلق.
قوله: (البر حسن الخلق) يقول علماء النحو: مبتدأ وخبر، ويقول علماء البيان: جملة اسمية إسنادية من باب القصر؛ لأن كلاً منهما معرّف، فالبر معرّف بأل، وحسن الخلق معرّف بالإضافة، وعلماء الكلام يقولون: محمول وموضوع، ويقول علماء البيان: قصر البر في حسن الخلق، وعندهم القصر: حقيقي ومجازي، فمن أي النوعين هذا الحديث؟ هل هو قصر حقيقي أو هو من باب المجاز أو أن المعنى أكثر البر حسن الخلق؟(60/4)
حسن الخلق
يقول بعض العلماء: الشريعة الإسلامية كلها حسن الخلق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، وهو الوصف الكاشف الذي تميز به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء في كتاب الله كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، (فهذا الوصف) عنوان كلي على كمال النبي صلى الله عليه وسلم.
سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت للسائل: أتقرأ القرآن؟! قال: نعم، قالت: كان خلقه القرآن) يعني: كان متأدباً بآداب الكتاب الكريم، فيأخذ أوامره، ويترك نواهيه، ويعمل بآدابه وإرشاداته ونصائحه، والقرآن الكريم يحث على هذا الباب كقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ، وقوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] ، فكان خلقه القرآن، فكل ما في القرآن: من تعاليم، وآداب، وتوجيهات؛ كانت خلقه صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق) ، وقال: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، فحسن الخلق هو الرسالة المحمدية، قال الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ} [البقرة:177]-الذي هو: حسن الخلق- {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] ، شهادة من الله بأنهم صدقوا في إيمانهم، وصدقوا في أعمالهم، وصدقوا في أقوالهم، فقال: {آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] ، فأركان الإيمان كلها في هذا البر، ثم ذكر فروع وأركان الإسلام، ثم ذكر مكارم الأخلاق من الصبر في البأساء والضراء وحين البأس، ثم تأتي شهادة الله لهم بالصدق، فهذه الآية: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة:177] إلى آخر تلك الصفات هي البر، فإذاً: البر حسن الخلق، ولو أخذت كلمة: (حسن الخلق) ، وجئت بهذه الآية: (ولكن البر) في الحديث، لحلت محل حسن الخلق، فالبر حسن الخلق، والآية ذكرت الإيمان والعقائد والأعمال الصالحة والأقوال الطيبة ومكارم الأخلاق، فكل هذه الصفات تدخل في الآية، فيكون حسن الخلق عنواناً لكل ما جاءت به الشريعة الإسلامية، ومصداق هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) .
وإذا نظر الإنسان فإنه صلته بربه في طاعته وامتثال أوامره، وصلته بالناس في معاملاتهم، وكيف يعامل الناس؟ قال الإمام علي رضي الله تعالى عنه: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم) ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسن الخلق يذيب الذنوب كما تذيب الشمس الجليد، وسوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل) .
ومن حسن الخلق قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، فلا ينفعك أن تنفق مثل جبل أحد ذهباً مع المن والإيذاء، قال الله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، ولكن قل كلمة طيبة: الله يوسع علينا وعليك، الله يفتح علينا وما ننساك، الله يكرمنا وإياك، فضل الله واسع، دون مؤاخذة لم يبق في يدي شيء الآن، كلمة طيبة يسمعها منك السائل أو المسكين، وإذا لم يكن في المال سعة فأقل شيء الكلمة الطيبة، والابتسامة، وطلاقة الوجه.(60/5)
الخلق الكريم وسط بين رذيلتين
وكلمة حسن الخلق لا يستطيع الإنسان أن يوفيها حقها، ويقول علماء الأخلاق: كل فضيلة تجدها وسطاً بين طرفي الإفراط والتفريط، فمكارم الأخلاق هي الفضيلة الوسطى، وهي الصراط المستقيم بين طرفين مذمومين، فمثلاً: كرم المال تجده وسطاً بين التقتير والتبذير، فالشخص الذي ينفق ماله بغير وجه حق يقال: هذا سفيه مضيع ماله، والذي يمسك ماله عن كل وجه حق يقال: هذا بخيل مقتر حتى على نفسه، ولكن الشخص الوسط في نفقاته، هو شخص كريمٌ في محله.
والشجاعة وسط بين رذيلتين: بين الجبن والإحجام وبين التهور وعدم التبصر في العواقب، لكن من أقدم حينما يكون للإقدام محل، ويفر ويرجع حينما يكون للفرار محل، فهو الشجاع.
وكذلك الحلم له موضع، وللسيف موضع، وللتأنيب موضع، فكل مكارم الأخلاق وفضائلها وسط بين طرفين مذمومين، إما إفراط أو تفريط.
وهذا الحديث في بلاغته مع إيجازه من كبريات الإعجاز في التعبير النبوي، فإنه يجمع التشريع كله في كلمتين متقابلتين: برٌ وإثمٌ.(60/6)
طمأنينة النفس
وقال في حديث وابصة: (استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، فذكر هذا الميزان، وهذا المقياس، فاطمئنان النفس يدل على حل الشيء، وعدم الطمأنينة بالشيء يدل على الإثم، وجاء في بعض الآثار: (إياك وحزَّاز القلوب، أو حوّاز القلوب) ، وحزاز القلوب هو: الشيء الذي يحز في النفس ولا تتحمله، ويورث قلقاً واضطراباً، وحوّاز: من الحوز، أي: الذي يشتمل على القلب ويغلب عليه.
وقد يشكل هذا الحديث على بعض الناس فيقول: هل نرجع في بيان الحلال والحرام والبر والإثم إلى النفوس؟ وأي تلك النفوس؟ وأي مقياس لها؟ قال العلماء: لا، لا تنس الحديث الذي تقدم: (إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور متشابهات) ، إذاً: طلب طمأنينة القلب والنفس عند عدم الركون إلى أحد الجانبين، وفيما هو وسط بين الطرفين الواضحين، فالحلال بيّن ليس فيه تردد، والحرام بيّن ليس فيه تردد، ولكن بينهما أمور شفافة دقيقة رقيقة لا تتضح لكل إنسان، فهي مشتبهات متموجة، (لا يعلمهن كثير من الناس) ، فإذا كان الإنسان أمام أمر فلينظر -بإجماع المسلمين- هل فيه نص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قال الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً} [النساء:65]-أي: ضيقاً- {مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] ؛ ولهذا كم من موقف كان الحق ثقيلاً على المؤمنين، ولم تطمئن إليه نفوسهم كقوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] ، فهم لم يكونوا يريدون القتال في بدر، بل يريدون الغنيمة، ولكن الله أراد شيئاً آخر، ولذا قال سعد بن معاذ: (يا رسول الله! امض لما أمرك الله، فلعلك خرجت تريد أمراً، والله يريد أمراً غيره، فامض إلى ما أراد الله يا رسول الله!) .
وكانوا في الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) فهل بادروا بالتحلل؟ لا، بل وقفوا وقالوا: (يا رسول الله! أي الحل؟! قال: الحل كله، قالوا: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟) ، كانوا مستنكرين هذا، وأخيراً شرح الله صدورهم وأطاعوا.
وفي صلح الحديبية ذهب عثمان رضي الله تعالى عنه ليفاوض قريشاً، ويخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء معتمراً، وما جاء مقاتلاً، فتأخر عليهم، وأشيع أنهم قتلوه، فماذا فعل الرسول؟ بايع أصحابه على الموت أو على ألا يفروا، فبايعوا جميعاً، وهي بيعة الرضوان التي كانت تحت الشجرة، وقد ذكرها الله في كتابه، ثم انكشف أن عثمان لم يقتل، وحينما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بايعوني، أخذ بيده الأخرى، وقال: وهذه عن عثمان) ، وهل يبايع عن عثمان وهو ميت، أو فعل ذلك إشعاراً بأن عثمان لم يمت؟ الله أعلم، ولكن يسر الله سبحانه وتعالى تلك البيعة، وسجل لهم ذلك الفخر والفضل في القرآن.
وبعد هذا جاء سهيل بن عمرو للمفاوضة، وقبل صلى الله عليه وسلم ما شرطوا عليه، وماذا كان موقف عمر؟ جاء إلى أبي بكر وقال: (ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! لماذا لا نقاتلهم؟!) فهل كان عمر راضياً بهذه البيعة؟ وهل اطمأنت نفسه لها؟ لا، فهو كان يتطلع لشيء آخر، لكن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: (يا عمر! إنه رسول الله) ، يعني: هو يمشي بوحي من الله، فلا تعترض يا عمر! ؛ لأنه من عند الله، لكن عمر يأخذه الحماس، ويذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعيد الكرة عليه، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! أنا عبد الله ولن يضيعني الله) ، قال عمر: (والله! لم أزل أصوم وأتصدق وأعتق تكفيراً لتلك الكلمة) ، ثم أنزل الله سورة الفتح وفيها: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح:27] ، وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:1] ، أي: لا تقدموا الآراء والاقتراحات، فهذا رسول الله، وقد سمى الله هذا الصلح فتحاً مبيناً.(60/7)
متى يرجع إلى طمأنينة القلب؟
إذاً: حينما يكون الأمر فيه نص من كتاب أو سنة رسول الله، فليس لاستفتاء القلب محل، ولا لاستفتاء عالم من العلماء مدخل؛ لأن النص في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي على ذلك، ولكن إذا لم يكن في الأمر نص، من الحوادث التي تتجدد، أو أن النص مجمل، أو يوجد نص آخر يعارضه في الظاهر، ولا تستطيع الجمع بين النصوص، ولا معرفة الراجح، ولا يعرف ذلك إلا النقاد الحذاق من العلماء الذين جعل الله في قلوبهم شفافية، فهنا إذا كنت في أمر خفي لم يطلع عليه أحد، (استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك) ، مثلاً: يتخاصم اثنان إلى القاضي، والله يعلم المحق من المبطل، والقاضي بشر قد يخطئ، وقد قال سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: (إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر أقضي لكم على نحو ما أسمع، فلعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر، فأقضي له على نحو ما سمعت، فمن حكمت له أو قطعت له شيئاً من حق أخيه إنما أقتطع له قطعة من النار!) ، فقد يدخل خصمان على الحاكم، وهو لا يعلم الغيب، فيأتي أحدهما بشهود زور، أو بينة مزورة، ويقضي القاضي بظاهر الأمر، والقاضي لا يحكم حتى بعلمه، فيحكم القاضي، والخصمان هما اللذان يعلمان حقيقة الأمر، وهل الحكم حق أم لا، والقاضي معذور في حكمه بالظاهر، فإن: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، فإذا خرج الخصمان بحكم صدر من القاضي، والمحكوم له يعلم يقيناً في قرارة نفسه أنه مبطل، فهل يحق له أن يأخذ ما حكم به القاضي؟ لا، وحينها يستفتي نفسه، فهل تطمئن نفسه إلى ما حكم به القاضي؟ لا والله! فهو يذهب إلى البيت ولا يستقر قراره؛ لأنه أولاً كان ظالماً، والآن هو ظلوم وظلام، أول الأمر كان يظلم نفسه، ويظلم خصمه، والآن ظلم القاضي وظلم الشهود، ولذا يقول العلماء جميعاً ما عدا الأحناف: حكم الحاكم لا يحل حراماً، وعند الأحناف أنه إذا قضى الحاكم فالمحكوم له الظاهر، لكن إذا كان يعلم في حقيقة الأمر أن المال ليس حقه، فكيف نقول حكم الحاكم يحله له؟! والله! لا تهضمها النفس أبداً.
إذاً: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) .
ورجوع الإنسان إلى قلبه، على أي ميزان يكون؟ لا يوجد مقياس مليمتري، ولا ميزان بالدرهم والشعرة والذرة، لا، إنما يرجع في ذلك إلى نور الإيمان في قلب المؤمن، وإلى الفطرة التي فطره الله عليها، والفطرة إن تركت على ما كانت عليه، فهي تهدي إلى الخير، أما إذا اعترتها العوارض، واجتالتها الشياطين، فلا يرجع إليها، وقد جاء في الحديث: (إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم) ، فعند ذلك تأتي الشبهات، ويأتي أكل الحرام، ويغلف هذا القلب، ويطمس هذا النور.
حينما قال سعد بن أبي وقاص: (يا رسول الله! سل الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، قال: أطب مطعمك تستجب دعوتك) ؛ لأن الجسم ينبت على الطعام، فإذا كان الطعام حلالاً نبت الجسم شفافاً، ليس كالزجاج، ولكن لا يكون كثيفاً بالظلمات، فيكون القلب على فطرته ونوره كما جاء في الحديث.(60/8)
مثل نور الإيمان في القلب
الإيمان في القلب كنور السراج داخل السراج، وكلما أديت العبادة لله كلما ازداد نور السراج، كما ضرب الله مثلاً للنور في قوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: زيتها صافٍ معتدل، لا شرقية تسطع فيها الشمس من الصباح، ولا غربية من الزوال إلى الغروب، ولكن بين بين، تأخذ من ضوء الشمس ما يكفيها، ولا تتأثر بحرارتها، فتكون أطيب زيتاً، {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي: نور الفطرة، ونور العمل الصالح يذكيان هذا السراج، فإذا أذنب ذنباً نكت فيه نكتة سوداء، فإذا أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أخرى، وهكذا حتى يتغلف القلب، كما قال الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ، ولا يزيل هذا الران، وينقي تلك النكت السوداء إلا حرارة الندم، والتوبة، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
والقلب حينما يكون على الفطرة وعلى الحالة الأولى، إذا عرض له شيء تكون حساسيته شديدة، وقد يسميها بعض الناس: الحاسة السادسة، ونحن نسميها: حاسة الإيمان، وحاسة اليقين، فنور البصيرة تضيء للعبد طريقه.
ومن أمثلة الحاسات المعنوية التي لا ندرك كنهها، قصة الصديق رضي الله تعالى عنه عندما جاءه غلامه بطعام، فاستنكر الطعام، طعام يأتيه غلامه به فيستنكر هذا الطعام! ليس فيه مرارة ولا ملوحة ولا حرارة ولا حريف ولا شيء؛ لكن أحس أن فيه شبهة، عنده حساسية حلال وحرام، ليس حساسية حلو ومر وحامض ومالح، بل حساسية حلال وحرام، وجسم الإنسان ليس فيه خلايا الحلال والحرام، لكن فيه خلايا الذوق في طرف اللسان، فيميز الحلو والمر والمالح والحامض وكل شيء بطرف اللسان فقط، لكن الجسم ليس فيه خلايا حلال وحرام، لكن نور الإيمان هو الذي يبصرها، فقال للخادم: من أين هذا الطعام الذي جئتني به؟! انظروا! (الإثم ما حاك في الصدر) ، فقال: كنت في الجاهلية تكهنت لرجل ووعدني بكهانتي، ووالله! ما كنت أعرف الكهانة، ولكني نصبت عليه، فلقيني فأعطاني، فاشتريت به هذا الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) ، (ونهى عن حلوان الكاهن) ، فكيف ينهى عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم يشتري به لـ أبي بكر؟ فاستقاءه أبو بكر، وأخرجه من بطنه! وكذلك عمر لما جاءه غلامه بحليب، فاستنكر طعم هذا الحليب، وقال: من أين هذا؟ فقال: أرسلتني لآتيك بحليب من إبلك، فذهبت فإذا الراعي قد أبعد، فوجدت في طريقي إبل الصدقة، فقلت: احلبوا لي، فحلبوا لي، فهذا حليب من إبل الصدقة، وعمر لا تحل له الصدقة، فوضع أصبعه في جوفه فتقيأ! نرجع إلى الحديث، قوله: (البر ما اطمأنت إليه النفس) الطمأنينة متى يرجع إليها؟ يرجع إليها حينما لا يكون نص في المسألة، أما عند النص فلا.
وما هي النفوس التي ينظر في طمأنينتها؟ هي النفوس المؤمنة؛ ولهذا قال في المقابل: (والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، وبعض الأشخاص يرتكبون الأعمال السيئة، ولا يستترون من الناس أو فيما بينهم، ولو فعل أحدهم شيئاً من المنكر، وكان معه بعض زملائه الذين على شاكلته، لا يكره أن يطلعوا عليه، حتى أن بعضهم لم يطلع عليه أحد ثم يأتي ويتفاخر بالمعصية عند زملائه عياذاً بالله! فيحكي بعضهم لبعض ماذا كان من أمرهم، يسافر أحدهم إلى بلد ما للمعصية، ويستر الله عليه، ثم يأتي لزملائه وأمثاله فيخبرهم بما صنع، ولا يستحي منهم، وفي الحديث: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فالمسلم يستحي مِن أهل الحياء، ومن أهل المروءة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استح من الله كما تستحي من رجلين من ذوي المروءة من قومك) .
فقوله: (البر ما اطمأنت إليه النفس) أي: إذا لم يكن في المسألة نص، وترددت المسألة بين الحلال والحرام، فلينظر هل تطمئن النفس بفعل ذلك أم لا؟(60/9)
معرفة طمأنينة القلب
في الرواية الأخيرة أن وابصة قال: وكيف ذلك؟ أي: كيف أعرف أن قلبي قد اطمأن؟ فقال: (ضع يدك على قلبك، فإن القلب يطمئن للحلال، ولا يطمئن للحرام) ، والآن عند التحقيق مع المجرم يضع المحقق يده في قلب المتهم مثل الطبيب الذي يكشف عليه، فإذا وجه إليه سؤالاً في صميم الموضوع نبض قلبه بسرعة، وإذا كان السؤال بعيداً عن الموضوع وليس فيه ريبة، فإن النبض معتدل، فيستدل بتغير نبضات القلب مع تغير الأسئلة على حالته النفسية وعلاقته بالجرم، وهذا مذكور في علم الجنايات.
وهنا نأتي إلى لفتة صغيرة لإخواننا طلبة العلم الذين يجدون في أنفسهم الكفاءة للاجتهاد، ويعرضون عن فهم السلف رحمهم الله، ويستبدون بآرائهم في الفقه والفتوى حينما تكون المسألة لا نص فيها، أو فيها خلاف كثير، فنقول لهم: لا ينبغي لكم هذا، لا سيما في معرض الاستفتاء، فلو قدر أنه اجتمع الأئمة الأربعة وأصحابهم وأنت معهم، وعرضت قضية لا نص فيها، وتردد فيها النظر، فرجعت الفتوى إلى القلب، فأي القلوب أولى أن نأخذ بطمأنينتها؟ قلوب السلف بلا ريب، فلو مرت مسألة ليس فيها نص على سلف الأمة، واجتهدوا فيها وأفتوا، وكانت الفتوى صادرة بما اطمأنت إليه قلوبهم، فإذا عرضت عليك اليوم هذه المسألة، واستفتيت قلبك، وكان لك رأي فيها، ولسلف الأمة ذوي القلوب الحية والقلوب المستنيرة رأي فيها، وخالف رأيك رأيهم فيها، فما هو الحكم؟ وما الذي ترجح؟ وما الذي تعمل؟ هل تأخذ بفتوى قلبك وطمأنينته أو بفتوى أولئك الأخيار الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير؟ تأخذ بفتوى السلف، فكلنا يعلم بمدى تقواهم، ومدى ورعهم، ومدى علمهم، ومدى فتح الله عليهم، ولو قيس علمنا بأولئك ما وصلنا إلى عشر علمهم وتقواهم، فماذا نفعل؟ هل نضرب بأقوال سلف الأمة عرض الحائط، ويقول القائل: أنا نفسي مطمئنة لهذا؟ لا، فيجب عليك أن تحتقر نفسك، ولا تتبع هواك؛ لأنه إذا كانت المسألة متوقفة على طمأنينة القلوب، فأولى المقاييس هي: قلوب الصالحين من سلف هذه الأمة، فإذا كان لهم رأي، وأنت لك رأي مغاير لآرائهم، فهل تتهم رأيك أو تتهمهم؟ فعلى طالب العلم قبل أن يستبد بحكم مسألة أو رأي أن يستنير بأقوال السلف، وينظر ماذا قالوا فيها، وما هي وجهة نظرهم.
يقول بعض العوام: الحيوان يعرف البر من الإثم! وذلك بالطمأنينة والقلق، فسمعت من بعض كبار السن يقول: الغنمة تعرف الحلال والحرام، فقلت: كيف هذا؟! قال: هل عندكم غنم؟ قلت: عندنا، قال: وهل الجيران عندهم غنم؟ قلت: عندهم، قال: ارم البرسيم في الشارع، فيجتمع غنم الشارع كله ويأكل منه، وتجد الغنم حق الناس تجري، وغنمكم واقفة، لماذا؟ لأن غنمك تعرف أنه برسيمك، وغنم الجيران تعرف أنها معتدية وليس لها حق فيه، وهذا كلام صحيح.
قال: حتى القطة إذا كنت تأكل، وجاءت إليك فأعطيتها، فإنها تأكل بجانبك، لكن لو خطفت منك شيئاً، فهي تعرف أنه ليس لها حق فيه، فتشرد بها، لتأكلها بعيداً عنك!! إذاً: الحيوان يدرك الحلال من الحرام، والحلال البين ليس فيه استفتاء، والحرام البين ليس فيه استفتاء، ولكن الاستفتاء فيما كان بينهما، وهذه المنزلة والمرتبة -كما يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه-: شفافة جداً،ومقياسها التحرج، قال عليه الصلاة والسلام: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ، فإذا حصل في النفس حزازة، وحصل في النفس احتكاك، والصدر ليس بقادر أن يستريح بها، فاتركها، وإذا تركتها استرحت.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، هذه مسألة نسبية، ولكن الإنسان من جبلته ألا يمتنع أن يرى الناس منه العمل الحسن، ويكره أن يرى الناس منه العمل السيئ، فهذا الحديث يعتبر مقياساً لشفافية القلوب فيما بينها وبين الله.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا ونواصيكم إلى الحق، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(60/10)
تنبيه
روي في بعض الكتب عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه سئل عن السند، وعن الرواية، عن النص، وعن والاجتهاد والتقليد، فقال رحمه الله: إن جاءنا عن الله فنعم، وإن جاءنا عن رسول الله فنعم، وإن جاءنا عن صحابي من أصحاب رسول الله فنعم، لكن إن جاء عن تابعي فهم رجال ونحن رجال، فنقول: كلام حق وصحيح بالنسبة له، فهو توفي سنة مئة وخمسين هجرية، ويوم وفاته هو مولد الشافعي، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ، فـ أبو حنيفة كان في وسط القرون الخيرة، فإذا كان الأمر كذلك فله حق أن يقول: الكتاب والسنة والصحابة على العين والرأس، وأما التابعون فهم رجال ونحن رجال، فهو من طبقة أتباع التابعين، وبعض الأحناف يدعي أنه تابعي، وأنه رأى بعض الصحابة، والآخرون يخالفونهم في ذلك، فليكن ما يكون، فإذا قال: هم رجال ونحن رجال، فهو من عصر أولئك الرجال، لكن نحن الآن لا نقول: نحن رجال وهم رجال، قال الشاعر: وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس كيف تقول الآن: نحن رجال وهم رجال؟! والله! ما أدري أي رجل هذا؟ أنا أعجب لمن يقول هذا في هذا الوقت الحاضر! أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كانوا يبيتون ليلهم في عبادة يعلمها الله، قيل عن الشافعي: إنه صلى الفجر بوضوء العشاء عند مالك فكيف نقول: هم رجال ونحن رجال؟ والله! هم رجال ونحن عيال! ولو قبلوا أن نكون عيالاً معهم لكانت نعمة كبرى.
وهذا الموضوع يثير شعور الإنسان؛ لأني أسمع عن أشخاص كثيرين أنهم يتجرءون في هذا الباب، وأنصح كل طالب علم أن يحتاط، وأن يوقر السلف، وأن يعرف قدر نفسه، وما عنده من علم، وأن يستنير بنور السابقين، والله تعالى أعلم.(60/11)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن والعشرون [1](61/1)
شرح حديث: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين.
وبعد: عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
إن لهذا الحديث شأن عظيم، وهو حديث جامع، ويعطي صورة مشرقة لذلك الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والوقت الذي قيل فيه كان بعد عودته صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، وجاء في بعض آثار وطرق هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد، وخطب الناس، قال أنس وغيره: (كأنه يودع الأموات والأحياء) .(61/2)
من صفات المؤمنين لين قلوبهم لذكر الله
جاء في بعض الآثار: أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى الصبح صعد المنبر وخطب الناس بهذه الموعظة البليغة، وأثر ذلك فيهم الحسن: بلاغة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولحسن استماع أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وكانت النتيجة كما قال العرباض: (وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) .
هذا الوصف -أيها الإخوة- يقف الناس منه اليوم على طرفي نقيض، ومن صفات المؤمنين ما ذكره العرباض: وجل القلوب عند ذكر الله، وذرف الدموع مخافة من الله، وقد قال في بيان صفة المؤمنين: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] .
وجاء في بيان قسوة القلب، وضرب ذلك المثل بالحجارة، فقال الله سبحانه وتعالى مبيناً حال قلوب القساة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] ، وجاء في وصف كتاب الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [الحشر:21] ، وقال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ، حقاً: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في بيان السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ، وجاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يَعِسُّ بالمدينة ليلاً، فسمع قارئاً يقرأ داخل البيت، فتأثر عمر حتى حمل إلى بيته، وصار الناس يزورونه في بيته وما به مرض! ومن قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما طلب من بعض أصحابه أن يقرأ عليه القرآن، فقرأ حتى جاء إلى الآية الكريمة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] ، فقال: (حسبك، قال: فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم تذرف دموعه) .
وهكذا -أيها الإخوة- يكون حال المؤمن إذا ذُكر الله عنده، وإذا ذَكر الله في نفسه، وإذا سمع القرآن الكريم، المؤمن حقاً يكون صافي القلب، ويقشعر جلده ويلين لذكر الله.
أما من ران قلبه بالمعاصي، وحجب عن نور الإيمان فإنه لا يتأثر، ولا يكون لآيات الله ولا لذكر الله عنده تأثير، وكما أشرت فالناس في هذا الباب على طرفي نقيض: رجل قاسي القلب، وآخر يتصنع الخشوع والبكاء، والأمر يبقى على حقيقته عندما يكون العبد ملتزماً بكتاب الله وسنة رسوله حقاً، فإنه بلا شك يتأثر إذا سمع كتاب الله، وإذا كان مدعياً ذلك بغير حق فإنه كما يقال: لابس ثوب عارية، وثوب العارية شفاف لا يقي ولا يستر.
وطريق الخشوع ما بينه العلماء أن الإنسان إذا قرأ كتاب الله، وتلا آياته، أمعن فيها، وبذلك يصل إلى قلبه، ويعي ما يقول، وبهذا يتأثر بما يقرأ، وكان بعض السلف يقوم الليل يقرأ، فتوقفه آية يظل يرددها حتى يطلع الفجر! وهكذا هنا قال الراوي: (موعظة بليغة) ، ومن أبلغ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ موعظة يسمعها أصحاب رسول الله، ومن خير من أصحاب رسول الله؟ أولئك الذين أشربت قلوبهم الإيمان بالله وبرسوله، وأولئك الذي زادت شفافية قلوبهم وأرواحهم، وتأثروا فعلاً بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يأتي حنظلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (نافق حنظلة يا رسول الله! قال: وما ذاك؟! قال: نكون عندك فتذكرنا وتعظنا، فتذرف الدموع، وتخشع القلوب، فإذا انقلبنا إلى بيوتنا وعافسنا الأهل، نسينا ذلك كله، فقال صلى الله عليه وسلم: ساعة وساعة يا حنظلة! والله! لو دمتم على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرق، ولزارتكم في البيوت) ، نعم ساعة فساعة! وأي ساعة أجلّ وأعظم وأعلى من ساعة يقضونها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! يقول ابن مسعود: (والله! لقد أنكرنا قلوبنا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولما ندفنه بعد) .
هكذا يبيّن لنا العرباض رضي الله تعالى عنه أثر الموعظة البليغة من النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، والواجب على المسلم حقاً أن يجعل لنفسه ساعة يخلو فيها بربه، ويخلو مع نفسه، كما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لبعض أصحابه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) ، أليسوا مؤمنين؟! بلى، ولكن ليزدادوا من الإيمان، ويجددوا اليقين بما يتذاكرون من آيات الله، فحبذا لو يجعل الفرد لنفسه ساعة من الليل حينما تنام العيون، ويغفل الناس، فيتآنس مع ربه في ذكره لآياته، وشكره لآلائه، فوالله! ثم والله! إنها لأسعد لحظات في حياة الإنسان، وحينما يجد اللذة والحلاوة في تلك المناجاة الكريمة ينسى الدنيا بما فيها، ويكفي بياناً لذلك أن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه! إنها حلاوة المناجاة بينه وبين الله، ولذة القيام في تلك اللحظات؛ ولذا يقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!!) شكراً لله على نعمائه يقوم بذلك، وقد قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) .(61/3)
أهمية الوصية في الإسلام
نرجع إلى الماضي البعيد وإلى التاريخ التليد إلى تلك الحالة التي كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تنبهت قلوبهم، وعلموا بحقيقة الموقف، وأدركوا ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: كأنها موعظة مودع -يا رسول الله- فأوصنا! هذا هو المطلب الحقيقي، وهذا هو الفقه والإيمان الحقيقي، أدركوا حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم المغايرة للحالات السابقة معهم، فأجابهم فقال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة) ، وقد أشرنا إلى أهمية الوصية ومنزلتها في الإسلام ,وأنها لا تنطلق إلا عن شفقة ورأفة من الموصي إلى الموصى إليه، والصلة القوية بين (وصى) و (وصى له) ، كلاهما فيه صلة معنوية أو حسية، والإسلام بكامله يأتي بالوصايا، بل أفرد الله تعالى سورة في بيان أهمية الوصية فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] ، حتى إن الشافعي رحمه الله يقول: لو لم ينزل على الناس إلا سورة العصر -أي: في التوجيه والإرشاد والنصح- لكفتهم هذه السورة.
والمولى سبحانه يوصي عباده، كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] ، وكذلك جبريل عليه السلام يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال بعض الأنصار: (جئت مع قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدناه قائماً ومعه رجل يحادثه، فأطال القيام معه حتى أشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول قيامه، فلما انصرف عنه الرجل قلت: يا رسول الله! من هذا الرجل الذي أطال القيام معك؟! لقد أشفقت عليك من طول القيام! قال: هل رأيته؟! قلت: نعم، قال: هذا جبريل، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، فجبريل يوصي رسول الله في حق الجار.
وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أوصاني جبريل بالسواك) ، وقال: (السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب) ، وكذلك حديث: (إن ربي أوصاني بخمس) ثم ذكر صلة الرحم، وأشياء عديدة، ولقد ألممنا بكثير من الوصايا فيما جمعناه في كتاب (من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم) ، مثل وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة بقوله: (أوصاني خليلي بثلاث: ركعتي الضحى، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام) وجاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال له: (إنك رجل ضعيف فلا تطلب الإمارة) ، فأوصاه أيضاً بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والنوم على وتر، وقال له: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) ، والأحاديث كثيرة في باب الوصية، ومن تتبعها وجد حقاً أن الإسلام قد جاءت فيه الوصايا من جميع النواحي.(61/4)
تفسير سورة العصر
سورة العصر يوصي الله فيها عباده المؤمنين، فيقول: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1] ، وهل هو وقت صلاة العصر؟ لا، بل المراد به الزمن كله، وهذا أعم وأشمل؛ لأن العصر بمعنى الزمن الذي تقع فيه الأحداث، وفيه الدورة الكونية المتجددة التي ما انتهت إلا وبدأت دورة أخرى، وفيها تعاقب الليل والنهار، وتكرار الجديدين، وأمم تمضي وأمم تأتي ونبات ينبت وثمرة تثمر وإنسان يولد وآخر يموت وعالم البحار والأشجار والأنهار والعالم كله مدروج في ظرف الزمان والمكان، فقوله: {وَالْعَصْرِ} يبين ما في الزمن من آيات تبين قدرة الله سبحانه وتعالى.
قال: {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] ، وقد أشرنا -أيها الإخوة- أن مبحث القسم في كتاب الله معجزة، وليت من يتصدى لها ويتتبعها، فما من قسم في كتاب الله ومقسم عليه إلا وبينهما ارتباط ومناسبة قوية جداً، وهنا: العصر من حيث هو زمن، سواء كان زمناً كلياً مطلقاً أو زمناً جزئياً محدوداً، فيقسم سبحانه بهذا الزمن الذي هو محل العمل والكسب، والشخص إذا عمل لا يخلو عمله من أحد أمرين: إما أن يكسب في عمله وإما أن يخسر، وإن أعظم خسران للعبد هو في عمره، فهو رأس ماله في حياته، إن اكتسب فيه خيراً فهو رابح، وإن اكتسب فيه شراً فهو خاسر، وتقدم الحديث الذي فيه: (كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) .
إذاً: أعظم خسران على الإنسان أن يضيع جزءاً من عمره، ولا يسلم من هذا الخسران أحد قط ولو كان تاجراً رابحاً: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ، فالتاجر إن ربح مال الدنيا فلن يصل إلى غنى قارون، وإن ملك وتسلط فلن يصل إلى ملك فرعون، ولا إلى ملك النمرود الذي كان في عهد إبراهيم عليه السلام، وكما يقال: (ما ملك الدنيا إلا رجلان: أحدهما مسلم، وهو النبي سليمان، والآخر كافر، وهو النمرود) ، وهذا ذو القرنين مكن الله له في الأرض، وأعطاه من كل شيء سبباً، وكل ذلك مضى وانتهى، ولكن الكسب الحقيقي هو ما بين سبحانه: (الإيمان وعمل الصَّالِحَاتِ) ؛ لأن الكسب المادي مدته مدة حياته، فإذا انقضت الحياة انتهى ذلك الكسب والملك، والحياة الحقيقية هي الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] .
إذاً: الكسب الحقيقي والسلامة من الخسران حقاً هو بالإيمان والعمل الصالح: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ومن الصالحات ما أفرد وخص في هذه السورة الكريمة: (وَتَوَاصَوْا) أي: يوصي بعضهم بعضاً، وفي هذا أهمية إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن كلاً من المؤمنين يوصي الآخر، وبأي شيء يتواصون؟ (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) ، وفيه كل الخير في الدنيا والآخرة، وفيه كتاب الله وسنة رسوله، وما بعد الحق إلا الضلال، فإذا تواصوا بالحق وتناهوا عن المنكر: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ، وفيها إشارة إلى أن كل من تمسك بالحق، وقام يدعو إليه، ويوصي الناس به، فلابد أن يصيبه ما يحتاج إلى الصبر معه، ويقول الله سبحانه في الآية الكريمة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:33-34] ، فالحسنة تكون من جهة الداعي إلى الله، ومن أين تكون السيئات التي تأتي إلى الداعي إلى الله؟ تأتي ممن يدعوهم إلى الخير ولا يهتدي في بادئ الأمر.
ثم يقول الله في آخر السياق: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:34-35] ، وهنا يقول: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] .
إن هذا الحديث بما فيه من ذكر الوصية بالذات، يجمع كل خير في الدنيا، وكل تشريع إسلامي يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا بلاغة البلغاء، وكما يقول الراوي: (كأنها موعظة مودع) ، والمودع يختصر القول؛ لأنه مقبل على سفر؛ فلذا جمع صلى الله عليه وسلم ما يريد أن يلقيه إلى الأمة في تلك اللحظات الحرجة، وبين ما طلبوه في هذه الكلمة (أوصيكم) أي: استجابة لطلبكم أوصيكم، وحينئذ تنفع الوصية، وتقع وتستقر في القلوب؛ لأنهم هم الذين طلبوها منه.(61/5)
الوصية بتقوى الله والسمع والطاعة
ينبغي للداعية ولطالب العلم أن يتحين المواعظ عند مناسبتها، حتى يجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، فلما طلبوا الوصية بادرهم بها، وجمع لهم كل الخير: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة) ، فجمع بين الأمرين: التقوى في كل حقوق الله سبحانه وتعالى، وإقامة حدوده، والسمع والطاعة في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، ولقد علم أصحاب رسول الله بحقيقة السمع والطاعة، وقد كان من شرط الإسلام والإيمان أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، حتى لو حكم رسول الله في ذوات أنفسهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] ، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] .
هكذا مبدأ الإسلام في حفظ نظام الأمة، وحقن دمائها، وصيانة أموالها، والحفاظ على أعراضها؛ لأن الخلاف وعدم السمع والطاعة سيؤدي إلى شقاق ونزاع ثم إلى قتال يفسد العالم؛ ولذا كان يأمر صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة لكل أمير يرسله، ينصحه هو بتقوى الله، ويوصي أصحابه بالسمع والطاعة، وهكذا كان المسلمون على هذا المبدأ.
ثم بين صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لهذا المبدأ: (ولو تأمر عليكم عبد) ، يا ترى هل للعبد إمارة؟ وهل يكون العبد ولي أمر للمسلمين؟ أجمع المسلمون بأن الخلافة على المسلمين لا تكون إلا للأحرار، ويأتي نص آخر: (الأئمة من قريش) ، ولكن قد يتغلب العبد فيأخذ الولاية، كما حصل في دولة المماليك، والأصل أن الولاية لا تكون إلا في قريش: (الخلفاء من قريش) كما جاء في أثر علي رضي الله تعالى عنه، ولكن قد تصير الخلافة في غير قريش، ففي الحياة تطور، وفي الحياة تغير، فإن تأمر عليكم عبد، وأخذ الإمارة، فالزموا الطاعة! وهذا يكون على سبيل المبالغة، كما جاء في الحديث (من بنى لله بيتاً ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتاً في الجنة) ، وهل مكان القطاة التي تبيت فيه يصلح أن يكون بيتاً لله؟! لا، لكن قالوا: هذا على سبيل المبالغة، ومهما يكن من شيء فإن السمع والطاعة من سيم المسلمين مع أمرائهم، وقد أشرنا أن الله سبحانه وضع المبدأ الذي يتعلق بين الحكام والمحكومين في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ، وهذا واجب الأمراء والحكام.
والجانب الثاني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ، فهذا مبدأ ارتباط الوالي بالرعية، والرعية بالوالي.(61/6)
الالتزام بسنة الرسول وخلفائه عند الاختلاف
ثم يحذر صلى الله عليه وسلم من الاختلاف فيقول: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) ، فهنا محط الرحل، وموضع الإعجاز، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أن من يعيش ويطول عمره فسيرى الاختلاف بين الناس.(61/7)
اتخاذ عثمان للأذان الأول يوم الجمعة
ثم قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، وسنة الخلفاء مثل ما فعله عثمان عندما اتسع العمران في المدينة، فسن عثمان الأذان الأول يوم الجمعة قبل الوقت، وجعل هذا الأذان على الزوراء، وكانت تبعد عن المسجد نحواً من مائتين متراً تقريباً؛ وذلك لأجل أن يرجع الناس من أسواقهم إلى البيوت، ليتهيئوا لأداء الجمعة؛ ولذا يمكن لقائل أن يقول: لعل عثمان رضي الله عنه أخذ ذلك من المصلحة التي تقتضيها.
ويمكن أن يستند لهذا الفعل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، وقد أجمع الفقهاء أن من كان بعيد الدار، ولو مكث في مكانه حتى يسمع النداء لم يدرك الخطبة أو يفوته شيء من الصلاة، فإنه يتعين في حق هذا بالذات أن يسعى إلى ذكر الله قبل النداء إليها، كما في القاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ، فرأى عثمان رضي الله تعالى عنه أن أهل السوق لو بقوا في أسواقهم حتى ينادى للجمعة عند دخول الوقت، فإنه لا يسعهم أن يأتوا إلى صلاة الجمعة من دكاكينهم وأسواقهم، ويحتاجون إلى الرجوع إلى البيوت للاغتسال أو الوضوء، فلم يبق عندهم وقت، فرأى أن يجعل أذاناً قبل الوقت لهذه المصلحة.
ومن هنا أخذ الفقهاء أنه إذا اتسعت البلدة فيشرع أن يجعل أكثر من مؤذن، كما قال مالك: إذا اتسع المعسكر فإن على القائد أن يجعل عدة مؤذنين لتنبيه الناس، إلا أذان صلاة المغرب لضيق الوقت.
ولذلك شرع الأذان الأول لصلاة الصبح، وهذا من أصل السنة، ويمكن أن يقال: إن عثمان قاس أذان الجمعة على أذان الصبح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سن أذانين للفجر سوى الإقامة، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم،) فكان بلال ينادي قبل الفجر، ويجوز بعد ندائه الأكل والشرب للصائم، حتى إذا نادى ابن أم مكتوم أمسك من يريد الصوم عن الأكل والشرب، وقال: (الفجر فجران: فجر يحل فيه الطعام، وتحرم فيه الصلاة، وفجر تحل فيه الصلاة، ويحرم فيه الطعام) ، وهكذا كان الخلفاء الراشدون لهم من السنن ما يستند إليه العلماء فيما بعد.(61/8)
حكم صلاة ركعتين بين الأذان الأول والثاني يوم الجمعة
وبهذه المناسبة ننبه على كثيراً ما يتساءل الناس عنها ويخلطون فيها وهي: حينما يؤذن المؤذن على المنارة، وقبل أن يصعد الإمام على المنبر، في تلك البرهة لم يعد هناك زمن بين الأذانين، مع أنه في السابق كان هناك زمن يسع لفعل ما، ,نجد الناس جلوساً في المسجد فإذا سمعوا الأذان الأول قاموا فصلوا ركعتين؛ لأن أذان عثمان الذي شرعه في الأسواق نقله بنو أمية إلى باب المسجد، ثم نقله من بعدهم إلى عند المنبر، وأصبح الأذان الأول الذي كان للتنبيه قبل دخول الوقت على باب المسجد بدلاً من السوق، ثم انتقل من باب المسجد إلى عند المنبر، فأصبح أذان الوقت مع الأذان الأول ليس بينهما إلا برهة وجيزة، ومعلوم أنه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يوجد هذا الأذان، وإنما أذان الوقت والإقامة فقط، ولم يكن هناك متسع لصلاة ركعتين، أما الآن فإذا أذن المؤذن على المنارة قام الناس يركعون ركعتين، فإذا انتهوا من هاتين الركعتين صعد الإمام على المنبر ثم سلم، وقام المؤذن يؤذن أذان الوقت الذي تصح بعده الصلاة، فيتساءل الناس عن هاتين الركعتين اللتين هما بين الأذان على المنارة وبين الأذان الذي بين يدي الخطيب: أهما سنة جمعة؟ نجد ابن القيم يقول عبارة شديدة: من ظن أنها سنة فهو أجهل من حمار أهله! ولكن نجد شيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله يقول: إن هاتين الركعتين ليعلم كل إنسان أنها لم تكن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن إلا أذان واحد، يؤذن المؤذن على سطح المسجد، ويبدأ صلى الله عليه وسلم في الخطبة، فليس هناك مجال للصلاة، والناس يستمعون إلى الخطبة، ولا يقوم أحد للصلاة، ولكن حيث أن عثمان قد أنشأه فهو سنة خليفة راشد، فطالب العلم في حد ذاته لا يفعلها؛ لأنه يعلم يقيناً أنها ليست سنة، أما بقية عوام الناس فهل ينكر عليهم أو يتركهم على ذلك؟ ينظر: إن كان أولئك العوام يرونه موضع ثقة، ويقبلون منه، فإنه يبين لهم، وإن كان لو نهاهم عنها ظنوا أنه ينكر السنة، وسينفرون عنه، ولا يستطيع أن يبين لهم ما هو أهم من ذلك؛ فليتركهم وليلتمس لهم عذراً من عموم قوله صلى الله عليه وسلم (بين كل أذانين صلاة) ، وإن كان الحديث يعني الأذان والإقامة، إلا أن هذا فعل عثمان، وهو فعل خليفة راشد، فنعتبره ونلتمس العذر لعوام الناس.
انظر إلى حكمة الدعوة عند ابن تيمية! وانظر إلى شدة القول عند تلميذه! وعلى هذا اعتبر ابن تيمية رحمه الله ما فعله عثمان سنة خليفة راشد، وبهذا تلتمس الأعذار لعوام الناس.
ومن سنة الخلفاء الراشدين المهديين أن عمر رضي الله تعالى عنه نهى عن بيع أم الولد، وكان قبله مباحاً، لكنه سمع جلبة وأصوات، فقال: ما هذه الجلبة؟ قالوا: رجل باع أم ولده، وفرق بينها وبين أولادها، فبكى الأولاد لأمهم، فمنع عمر من بيع أم الولد، وجعلها تعتق من رأس ماله، ولو لم يكن عنده سواها، وانعقد إجماع المسلمين أنه لا تباع أم الولد بعد موت مولاها، بل تعتق بعد موت مولاها حالاً، ولو لم يوص بعتقها، ولو لم يكن في تركته سواها.
وهكذا رأى عمر رضي الله تعالى عنه عام الرمادة رفع قطع اليد في السرقة، والتمس عذراً للناس، إلى غير ذلك من الأحكام التي انفرد بها الخلفاء الراشدون من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(61/9)
التحذير من البدع والضلالات
ثم قال عليه الصلاة والسالم: (وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة) ، وهذا التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم يقف عنده العلماء طويلاً، ويبحثون فيه بحثاً وافياً واسعاً، وأوسع من كتب في هذا الباب هو الإمام الشاطبي رحمه الله في كتاب الإعتصام، وكذلك القرافي في الفروق بين السنة والبدعة، فعلى طالب العلم ومريد المعرفة حقاً أن يرجع إلى هذين الكتابين ليعرف حقيقة السنة من البدعة.
ومجمل ما يقال في ذلك: إن البدعة، والإبداع، والابتداع، مأخوذة من البِدْع، والبِدْع والبِدْء في اللغة بينهما تقارب، تقول: هذا بدء الشيء، وفلان ابتدأ العمل الفلاني، وتقول: هذا بدع، وفلان ابتدع الأمر الفلاني، وليس بين البدء والبدع إلا العين والهمز، ويقول علماء فقه اللغة: إذا توافقت المادتان في أكثر الحروف واختلفت في حرف واحد، كان بينهما صلة وقرابة في المعنى والدلالة، وبقدر اقتراب الحرفين المختلفين من مخرجهما كان قرب هاتين الكلمتين في المعنى، وإذا نظرنا إلى بدأ وبدع، وجدنا الهمزة والعين من حروف الحلق، تقول: (أء) ، وتقول (أع) ، إلا أن العين أقرب، فكل بدع له ابتداء، وتميز البدع ببدء شيء لا نظير له، أي: وجود شيء على غير مثال سابق، ومنه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ؛ لأن الله بدأ خلقهما على غير مثال سابق، فخلق السماوات والأرض يجتمع فيه البدء والبدع؛ لأن البدء هو بدء خلقهما، والبدع لأنهما على غير مثال سابق.
وكذلك قوله سبحانه في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: قد تقدمه رسل متعددون، ولم يكن هو في بداية مجيئه بدعاً على غير مثال، بل سبقه رسل في أمم.
وهكذا قالوا: البدعة هي إيجاد شيء ليس له نظير في الشرع، ولم يعرفه الصدر الأول عمن له حق التشريع من كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الخلفاء الراشدين.(61/10)
تحذير السلف من الابتداع في الدين
مدح السلف السنة، وذموا البدعة، والسنة هي الطريقة، كما قال القائل: من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها أي: طريقة يلتمسونها.
والبدعة لم تكن سنة سابقة، ولكنها أمر جديد لا عهد له من قبل، ولذا قال مالك رحمه الله: من سن سنة وزعم أنها حسنة -يعني: ابتدع شيئاً لم يكن موجوداً وظن أنه حسنة- فقد اتهم محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ الرسالة.
وقد ورد عن ابن المبارك أنه قال: من ابتدع بدعة في الإسلام فقد خون رسول الله في الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فبعد الإكمال والإتمام من الذي يدعي النقصان؟! فـ مالك رحمه الله يرى أن من ابتدع في الدين شيئاً وقال: هذا حسن اعملوا به، أو خذوه عني، ولم يكن لهذا الأمر سلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه، فإنه يكون ابتداعاً جديداً في دين الله، والآتي به يلزمه أنه خون رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ؛ لأن الله قال: (أَكْمَلْتُ لَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ، وليس بعد الكمال إكمال، ولا بعد الإتمام إتمام، فالدين قد كمل، فإذا جاء إنسان وقال: خذوا بهذا، فمعنى ذلك: أنه بقي في الدين ثلمة، وهذه تتمتها! فيتعارض مع (أَكْمَلْتُ) و (أَتْمَمْتُ) .
قال الإمام مالك قاعدة مشهورة وهي: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم التشديد في البدع حيث قال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: مردود على صاحبه، والعلماء يتكلمون عن المبتدعات في مراتبها وأحكامها، وقد تغلظ البدعة بحسب الزمان أو المكان، فشدد صلى الله عليه وسلم البدعة في خصوص المدينة، ولعن من أحدث فيها بدعة فقال: (لعن الله من أحدث فيها، أو آوى محدثا) ، لماذا؟ لأن المدينة عاصمة الإسلام، وموئل الإيمان، وهو يأرز إليها كما تأرز الحية إلى جحرها، ويأتي إليها المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، فلابد أن تبقى المدينة على السنة المطهرة، نيرة واضحة لا تخالطها بدعة؛ لأن من رأى البدعة فيها ظن البدعة سنة.
وأشد الناس في التحذير من البدع مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى، ففي ترجمته أن ابن مهدي -وهو من العلماء المشهورين- جاء وصلى في المسجد النبوي في الصف الأول، وألقى رداءه بين يديه، فلما أنهوا الصلاة، أخذ الناس ينظرون إلى الرداء وينظرون إلى مالك فقال: من هنا من الحراس؟ فجاء اثنان، فقال: خذاه إلى الحبس، فذهبا به إلى الحبس، وفي رواية أخرى: جاءه الحراس فقال: إلى أين؟! قالوا: إلى الحبس، قال: لماذا؟! قالوا: بأمر أبي عبد الله، قال: اذهبوا بي إلى أبي عبد الله، فذهب الحراس به إلى أبي عبد الله مالك بن أنس، فقال: تحدث في مسجد رسول الله ما لم يحدثه أحداً قبلك؟! قال: يا أبا عبد الله! إن الجو حار كما ترى، وثقل عليّ ردائي فطرحته بين يدي، قال: آلله ما أردت مخالفة من قبلك؟ قال: والله! ما أردت مخالفة من قبلي! قال: لا تعد لذلك، ولا تحدثن في مسجدنا ما ليس فيه! هكذا يعتبر مالك طرح الرداء بين يديه وهو يصلي حدثاً، ويأمر بفاعله إلى الحبس! ويقول ابن سرحون: في القرن السابع الهجري كان هناك خدام في المسجد النبوي، فإذا أقيمت الصلاة نظروا: فمن صف وحده خلف الصف، ولم ينضم إلى الصفوف الأولى انتظروا حتى يسلم، فيأخذون به إلى الحبس؛ لأنه أحدث في مسجد رسول الله ما ليس منه، ولماذا لا يقف مع الصفوف الأولى؟ وكان من يطرح السجاجيد في الصف الأول ثم يذهب، يأخذونها إلى بيت مال المسلمين، لماذا يحجز في المسجد ما ليس له حق فيه؟ وجاء رجل إلى مالك رحمه الله وقال: أريد أن أحرم من المسجد النبوي، قال: لا تفعل، أحرم من حيث أحرم رسول الله من ذي الحليفة، قال: يا مالك! وما الذي يمنعني أن أحرم من مسجد رسول الله من عند القبر الشريف؟! قال: أخشى عليك الفتنة، قال: وأي فتنة في أميال أزيدها؟ قال: هذه هي الفتنة التي أخافها عليك، أن تظن بنفسك أنك سبقت إلى عمل لم يسبقك إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: تظن في نفسك أنك في إحرامك زدت أميالاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظروا إلى هذه الدقة! ولهذا صدر منه هذا التشديد: (من سن سنة وزعم أنها حسنة، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة) .
ولـ مالك في هذا مواقف عديدة، وهو من أوسع الأئمة في سد الذرائع.
فمثلاً: كره أن يتبع الصائم ستاً من شوال برمضان، مع أن الحديث فيه: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) ؛ لذا يقول المالكية: لا تجعل صيام الست من شوال عقب رمضان مباشرة، بل وزعها خلال الشهر بعيداً عن رمضان؛ لأن هذا الأصل موجود في السنة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه، أي: مخافة أن يتخذه الناس سنة، ويلازمون عليه فيلحقونه برمضان، فصانت السنة رمضان من أن يزاد في أوله أو يلحق في آخره، فالعيد في آخره يحرم صومه، ويوم الشك في أوله يحرم صومه، ليبقى رمضان على عدته لا يزاد ولا ينقص منه.
والله سبحانه يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] ، فالذين من قبلنا فرض عليهم صيام رمضان ولكنهم ضيعوه، كما فرضت عليهم الجمعة فضيعوها، وبأي شيء ضيعوا رمضان؟ جاء في بعض الروايات أنهم كانوا يصومون يوماً قبله احتياطاً، ويوماً بعده احتياطاً، ولما طال الزمن أدخلوا الاحتياط في صلب الفرض، وهكذا عدة مرات حتى زادوا فيه خمس مرات، أي: عشرة أيام، وأصبح رمضان عندهم أربعين يوماً، وإذا جاء رمضان في شدة الحر وعجزوا عن صومه، نقلوا الصوم إلى الربيع! وهذا هو صوم النصارى كما نعلم.
فرأى مالك رحمه الله مع وجود الحديث كراهية أن يلصق ستاً من شوال برمضان، ويقول الشاطبي: وما خافه مالك قد وقع بالأندلس؛ لأن الأمراء هناك كانوا يلزمون الذين يوقظون الناس للسحور بالبقاء على مراسم الصوم في رمضان ستة أيام من شوال، فإذا انقضت قاموا بشعائر العيد، ولقد أدركنا أشخاصاً يصومون رمضان إلى يوم العيد، ويبدءون الصوم حتى اليوم السابع من شوال، ثم يجعلون اليوم الثامن عيداً! فما خاف منه مالك وقع فيه بعض الناس.(61/11)
معنى قول عمر: (نعمت البدعة هذه)
والسنة الحسنة والسنة السيئة هي مجرد تسمية، فهذا عمر رضي الله تعالى عنه جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يصلي التراويح جماعة في رمضان، وعمر جعلها جماعة على إمام واحد، ثم جاء يوماً والناس يصلون خلف إمام واحد فقال: (نعمت البدعة هذه) ، و (نعمت) و (بدعة) كيف يجتمعان، والبدعة ضلالة؟ ويجيب عن ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله: بأن البدعة من حيث اللغة هي: الإيجاد على غير مثال سابق، وعمر هنا وافق أصلاً شرعيا، ً ومن هنا وضع المقياس والميزان، فكل ما وجد بعد زمن رسول الله والخلفاء الراشدين نقيسه على ميزان الشريعة، فإن وافق أصلاً فيها فهو حسن، وهو إحياء لسنة مماتة، وإن خالف فيها الشرع المعلوم بالكتاب والسنة رددناها على صاحبها.
أما فعل عمر رضي الله تعالى عنه فقالوا فيه: مجرد الصلاة في ليل رمضان هو قيام الليل، وقيام الليل يشرح طول السنة: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1-4] وقيام الليل من حيث هو مشروع، وخصوصاً رمضان، وجاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، ولم يعزم علينا) ، ثم بعد ذلك بين فقال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ، (ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ، ولكن كان الناس في المسجد النبوي يصلون فرادى، ويتتبعون حسن الصوت فيقتدون به، فتجد الرجل الذي يحفظ القرآن يصلي وراءه الخمسة والستة، والآخر يصلي وراءه العشرة والعشرون، كل بحسب صوته وقراءته، فرأى عمر هذه التفرقة فقال: لو جمعتهم على إمام واحد لكان أولى، فجمعهم على أبي بن كعب.
فأصل قيام الليل كان مشروعاً، ثم قيام رمضان كان مسنوناً، وأما جمعهم على إمام واحد فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العشاء في العشر الأواخر، ثم قام فصلى في المسجد، وكان يوجد بعض الناس فصلوا بصلاة رسول الله، وفي الليلة التي تليها قام ويوجد بعض الناس في المسجد فصلوا بصلاة رسول الله، فلما كان بعد الليلة الآخرة أشيع في المدينة أن أناساً صلوا بصلاة رسول الله في المسجد، فاجتمع الناس، وبعد أن صلوا العشاء مكثوا في أماكنهم ولم يغادروا، فرأى صلى الله عليه وسلم اجتماع الناس فقال: (يا عائشة! ما شأن الناس مجتمعين؟ أليس قد صلوا العشاء؟! قالت: بلى، ولكن ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون معك كما صلى أقوام معك بالأمس وقبله، قال: أو فعلوها؟! فما خرج عليهم بعد، ومكث في بيته، فانتظروه واستبطئوه حتى أخذوا الحصباء فحصبوا الباب، فلم يخرج إليهم إلا في الفجر، فقال: أيها الناس! ما خفي عليَّ صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً، ولكني خشيت أن أخرج إليكم وأصلي بكم، فتفرض عليكم فتعجزون عنها) .
نعم بالمؤمنين رءوف رحيم! كما راجع ربه في الصلاة ليلة الإسراء من خمسين صلاة إلى خمس صلوات.
فلما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى جمعهم عمر رضي الله تعالى عنه، وكما يقول الفقهاء: (الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً) فلما أمنت الفرضية سن عمر أن يقوم الناس على إمام واحد.
إذاً: عمر لم يبتدع شيئاً في الدين، ولكن أوجد شيئاً يطابق السنة الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم، والفرق بين ما فعله صلى الله عليه وسلم وما فعله عمر أن في الفعل الأول خشيت الفرضية والعجز، وفي الفعل الثاني لم تخش هناك فرضية، وصارت التراويح على السنة، وصلاة الناس بإمام واحد، وفي جماعة واحدة، مقصد من مقاصد الشرع، وهو توحيد الناس وعدم تفريقهم، وهكذا صارت سنة متبعة إلى اليوم ولله الحمد.(61/12)
أقسام البدعة
وقوله: (إياكم ومحدثات الأمور، فكل محدثة بدعة) ، يختلف العلماء في حد البدعة والقرافي يقسم البدعة إلى الأقسام الخمسة: واجبة ومحرمة ومكروهة ومندوبة ومباحة، ورد الشاطبي هذا التقسيم كله، وقال: لا توجد بدعة إلا ضلالة، أما قول عمر: نعمت البدعة، فإنه أراد بذلك الصورة والهيئة التي لم تكن موجودة من قبل، ولكنه بذلك التشريع موافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أن عمر أمر في رمضان أن تسرج المساجد، فجاء علي ووقف وقال: (نور الله عليك قبرك -يا ابن الخطاب - كما نورت مساجدنا) ، وهذا من المصالح العامة، ويقول الشاطبي: لا بدعة حسنة أبداً؛ لأن البدعة في الدين شيء غير موجود من سابق، ولكن يندرج كل جديد فيه مصلحة للأمة تحت باب: المصالح المرسلة، فما لم يكن يخدم باباً من أبواب ضروريات الأمة فليس مشروعاً، وقد يقسم العلماء البدعة من حيث الوجود والظهور إلى قسمين: قسم في عادات الناس أي: في أمور الدنيا، ولا دخل له في العبادة.
وقسم في العبادات، والعادات أمور دنيوية، لكن صورتها يجب أن تكون موافقة للشرع مثل كيفية الأكل، لكن أن تأكل خبزاً أو تأكل بسكويتاً، كل ذلك مباح في الدين، ولكن بعض الناس يدخل في البدعة استعمال منخل الدقيق؛ لأنه ترف في الحياة، لكن يقول أحمد رحمه الله: عجبت لمن يترك لين العيش ويذهب إلى خشنه والله يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] ، ولا يوجد أحد حرمها على الناس، فلا شيء في ذلك أبداً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه عندما قدم المدينة، وجدهم يؤبرون النخل فقال: (لم تؤبرونه؟! قالوا: لأجل أن يثمر، قال: لا عليكم إن كتب الله لأحدكم رزقاً جاءه، وإلا فلا، فتركوا التأبير، فجاء النخل كله شيصاً في تلك السنة، فقال صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمور دنياكم) .
ولهذا لا يقول إنسان: إن ركوب السيارة بدعة؛ لأنها لم تكن موجودة، ولا السفر في الطائرات بدعة؛ لأنه لم يكن موجوداً، هذه أمور دنيوية لا يتوقف عليها ثواب ولا عقاب.
وكذلك اللباس فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يلبس الجبة أو البردة، ورأى عمر حلة تباع في السوق فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (اشتر هذه تلبسها للوفود والأعياد والجمع، فنظر إليها رسول الله وقال: إنما هذا لباس من لا خلاق له) ؛ لأن قماشها حرير، ولكن الجبة من حيث هي جائز لبسها في المناسبات وغيرها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كانت له بردة يصلي بها العيد، وكان يقابل بها الوفود، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (ماذا على أحدكم لو اتخذ ثوباً لجمعته، سوى ثوب مهنته؟) أي: ماذا على أحدكم إذا كان الله قد وسع عليه أن يتخذ ثوباً خاصاً ليوم الجمعة، إظهاراً لنعمة الله عليه في ذلك.
إذاً: لا مانع أن يلبس الإنسان ما شاء من أنواع اللباس، ولكن لا يلبس لباساً على هيئة لباس النصارى واليهود، مثل أن يشد زناراً في الوسط، ويشبه بغير المسلمين، وقد نهانا صلى الله عليه وسلم عن مشابهة اليهود، ونهى الرجال عن التشبه بالنساء، والنساء عن التشبه بالرجال، بل نهى عن مخالطة اليهود والنصارى كما في حديث أبي ثعلبة الخشني: (إنا نكون بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا) ، فبعض العلماء شرح هذا وقال: لأننا إذا جاروناهم وتعاونا معهم، وأخذنا وأعطينا، كانت الألفة والمودة بيننا، ووقع الركون إلى عادتهم، فتسري عاداتهم إلى بيوتنا، وبعضهم يقول: في الحديث تتمة وهي: (أنأكل في آنيتهم وهم يطبخون الخنزير ويشربون الخمر) ، يعني: في تلك الأواني فقال: (لا، إلا ألا تجدوا غيرها، واغسلوها) يعني: اغسلوها غسلاً جيداً ثم كلوا فيها، وفي بعض الروايات: (ولا نجد غيرها) أي: عند الحاجة مع غسلها لا مانع من ذلك.
إذاً: التشبه بغير المسلمين لا يجوز، لماذا؟ سداً للذريعة، وهكذا الزيادة في الدين بدعة، هناك نوع من اللباس يضيق فيه الكم يسمى (الكبك) ، لا ينبغي لأحد أن يقول: إنها بدعة؛ لأنها لم تكن في زمن رسول الله، فقد جاء عن المغيرة بن شعبة في غزوة تبوك أنه لما ذهب صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته، وأراد أن يتوضأ قال: (أراد أن يخرج يده من كمه فضاق الكم على يده، فأخرجه من تحت إبطه) إذاً: الجبة التي كان يلبسها صلى الله عليه وسلم ضيقة الكم؛ ولهذا يرى بعض العلماء أن توسيع الكم إلى ذراع أو نصف ذراع بدعة؛ لأنه لم يكن على عهد رسول الله، ولكن يقال: اللباس يخضع لعادة الناس وعرفهم، فيترك ذلك للناس على حسب مصالحهم، وبالله التوفيق.(61/13)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن والعشرون [2](62/1)
التواجد والصراخ عند سماع ذكر الله سبحانه وتعالى
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الصادق الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: إذا كنا قد ألممنا بمعنى الحديث إجمالاً، فإن في الحديث مواطن تثير السؤال، وتستوجب الإجابة، ونستعين بالله سبحانه وتعالى على أن نورد ما يسر الله من ذلك: من تلك المواطن: قوله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة) ، إلى أي حدود تكون الطاعة؟! ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) ، ما نوع هذا الاختلاف؟ وما الفرق بين الاختلاف والمخالفة؟ وما هو موقف كل مسلم من الخلافات الموجودة بين الأئمة الأربعة؟ النقطة الثالثة: ما يوجد من بعض الإخوان من تتبع بعض الشواذ من الأحاديث غير المعمول بها، وإثارة مواضيعها؛ مما يسبب اختلافاً كثيراً بين الناس.
وفي حديث العرباض رضي الله تعالى عنه أن تأثير الموعظة البليغة من النبي صلى الله عليه وسلم، هو: أن وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، ويوجد في هذه الآونة بعض الناس إذا سمع موعظة ضعف أمام عاطفته، وأخذ يصرخ ويتواجد، وتأتيه حالات غير عادية، فما حقيقة هذا الموقف؟ هذه النقاط كلها ذات أهمية كبرى، ويتساءل عنها الإخوة من أول يوم تناولنا فيه هذا الحديث بالبيان، وبعد أن انتهى الكلام على مجمل الحديث، نعود إلى تلك النقاط، ونستلهم الله تعالى الرشد، ونستعينه ونستهديه.
أما النقطة الأولى حسب الترتيب الإيرادي في الحديث، فهي نقطة أثر الموعظة في قلب المؤمن.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن التواجد عند سماع الذكر أو الموعظة أمر جبلي، وإذا رق قلب المؤمن عند سماع الموعظة أو ذكر الله فقد تعتريه تلك الحالة، ولكن كان الصحابة يسمعون ما هو أعظم مما يسمعه أهل زماننا -أي: في زمنه في القرن السابع والثامن-، ولم يكن لهم تواجد ولا صراخ، فيقول: كانوا أقوى شخصية، وأثبت قدماً، عندما يسمعوا موعظة أو ذكراً، فهم ضبطوا أنفسهم، واستطاعوا السيطرة على عواطفهم وشعورهم، وكان ما يظهر منهم فوق طاقتهم هو ما وصفه العرباض رضي الله تعالى عنه: (وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) .
وهكذا يذكر كثير من العلماء -وخاصة المشتغلين بالتربية- أن الشخص الذي يتواجد ضعيف الشخصية، وضعيف التحكم في عواطفه، بحيث تستهويه بعض المواعظ أو بعض الذكر إذا تعرض إلى شيء من هذا القبيل، فالأكمل في الرجال هو القدرة على التحكم في عواطفهم في مثل هذه المواقف، وقد جاء أن من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله: (رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) ، وقال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ، وقال في الآية العظيمة: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .(62/2)
حكم طاعة ولي الأمر الذي لم يحكم بشرع الله
النقطة الثانية في إيراد الحديث، هي قوله صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد) ، ويذكر العلماء أن من شروط ولي الأمر: حسن السلوك، والاستقامة، والمعرفة، والاجتهاد في دين الله لمصلحة عباد الله، فإذا كان عند التولية مستوفياً لشروطها، ثم طرأ عليه بعد ذلك ما ينقص هذه الشروط بأن ظهرت معصيته أو فسقه، أو عطل شيئاًَ مما يجب أن ينفذ، فماذا يكون موقف الأمة منه؟ وما مدى الإلزام في وجوب طاعة من لم يحكم بكتاب الله؟ وهذا السؤال وارد من قديم، ولما أنزل الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] ، {الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] تساءل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكلم السلف في هذا المعنى، أتلك الآيات في اليهود والنصارى؛ لأنها جاءت عقب ذكر التوراة، وجاء بعدها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، فهل هي في أهل الكتاب خاصة أم في هذه الأمة؟ من أراد الوقوف على النصوص في ذلك، فليرجع إلى أمهات التفسير مثل القرطبي وابن كثير، وهما أوثق التفاسير، وابن جرير كما قال ابن تيمية: أولى التفاسير في الرواية تفسير ابن جرير، حيث يفسر بالسند وبالرواية عن سلف هذه الأمة، والحقيقة أن والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه ناقش القضية، وقال كما قال مجاهد: نزلت في أهل الكتاب، (وإنكم لتتبعون سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم.
ولكن: ما حكم ولي أمر الأمة إذا لم يحكم بما أنزل الله؟ أنصح طالب العلم أن يرجع إلى كتب التفسير، وإلى كتب العقائد كالطحاوية، وهي من أسلم وأصح ما كتب في عقيدة السلف.
يتفق الجميع أن من لم يحكم بما أنزل الله من هذه الأمة له حالات: الحالة الأولى: إن ترك الحكم بما أنزل الله معتقداً بأنه غير ملزم بذلك، وهو مخير إن شاء حكم به وإن شاء تركه، أو أنه لا يرى فيه المصلحة، ويرى أن ما تعارف عليه الناس أولى وأصلح، أو تركه استخفافاً به؛ فكل ذلك ردة عن الإسلام، وكفر مخرج من الملة.
إذاً: من ترك الحكم بكتاب الله، ويرى أنه مخير وليس ملزماً به، فهو رد لما أمر الله به، وإن ترك الحكم بما أنزل الله ويرى عدم صلاحيته، فهذا استخفاف بكتاب الله، وبأوامر الله؛ فهو كفر مخرج من الملة، وإن كان مستهيناً به لا يبالي به، فالحال كذلك.
الحالة الثانية: إذا ترك الحكم بكتاب الله، وهو يعلم أنه حكم الله، وأنه من عند الله، وأنه يجب العمل به في خلق الله، ولكنه إما عجز عن تنفيذه أو غلبته نفسه وهواه وأعرض عن الحكم بكتاب الله، وهو يعلم أنه آثم في إعراضه، وهو يعلم أن حكم الله هو الأحق وواجب التنفيذ، ولكن حال دون ذلك حائل، فتركه الحكم بكتاب الله -وهو يعلم أن الواجب تحكيم كتاب الله- كبيرة من الكبائر، أو كفر دون كفر، أو كفر بالنعمة، أو كفر بالتشريع، لكن لا يخرج من الملة، ويتفق أهل السنة أن مثل هذا الذنب داخل تحت المشيئة، لقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] .
ويقول بعض العلماء: الشخص العادي الذي يعلم أن في كتاب الله الأمر بالقطع والجلد: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2] ومع ذلك يقدم على السرقة أو يقدم على الزنا فهل عمل بما حكم الله؟ إنه ارتكب معصية، وهو يعلم النهي عنها في كتاب الله، فيقول أهل السنة: لا نكفر أحداً بكبيرة، ولكن نترك أمره إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى.
إذاً: ولي الأمر إذا ظهرت منه المعصية، وظهر منه ما يوجب فسقه، فماذا نفعل؟ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن من صفات ولاة الجور تأخير الصلاة، وقال: (تعرفون منهم وتنكرون) ، وقال: (فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع) ، أي: رضي ما هم عليه، ووافقهم عليه، فهذا متابع ومشارك لهم، أما إذا لم يرض بذلك، وغاية ما في وسعه إنكاره بقلبه؛ لأنه لا يستطيع أكثر من ذلك فهو معذور، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمراء قالوا: (أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا الصلاة) .
وهذه الناحية خطيرة! ولا تنقضي في لحظات ولا في مجلس، ولكن الذي يهمنا التنبيه عليه: أنه لا يحق لأحد من الأمة أن يخرج على ولي أمرها لمجرد ظهور معصية أو فسق منه، وليس بأعظم من كبيرة في العقيدة دعا إليها الداعي في أوائل الدولة العباسية، حينما قالوا: بخلق القرآن، وامتحنوا العلماء، وسفكت الدماء، وامتحن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة، وثبت على ما أصابه فيها، وبقي على ما يعتقده السلف بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومع ذلك فأهل الخير والصلاح ما قاموا على أولئك أصحاب تلك الدعوة، ولا نقضوا عهدهم، ولكن صبروا وصابروا حتى كشف الله تلك الغمة.
إذاً: الطاعة لولاة الأمر واجبة، ما لم يأمروا بما يعارض الإسلام ويعطل أركانه، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلهم السمع والطاعة وعدم الخروج عليهم، ما لم تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.(62/3)
الخلاف والمخالفة وموقف السلف منهما
النقطة الثالثة هي قوله: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) ، لنعلم -أيها الإخوة- أن الاختلاف والمخالفة شيئان متغايران.
أما المخالفة فهي عن قصد وعمد، وأما الاختلاف فهو عن وجهة نظر بين اثنين فأكثر، واختلاف وجهات النظر لم تخل منها الأمة، بل ولا الأمم السابقة، وقد أورد علينا القرآن الكريم ما وقع من اختلاف في قضية واحدة، والله سبحانه وتعالى أعطى كلاً حقه، ولم يعتب ولم يؤاخذ أحد الطرفين، وذلك في القضية المشهورة بين نبي الله داود وابنه سليمان عليهما السلام في قضية الغنم التي نفشت في الحرث، وجاءوا إلى نبي الله داود فحكم بأن يعطى أصحاب الحرث من الغنم ما يعادل تلف حرثهم، وهذا إذا جئنا إلى قانون القضاء وجدناه حكماً عادلاً؛ لأن من أتلف شيئاً عليه تعويضه، وهؤلاء غنمهم أتلفت حرث القوم، فقال داود عليه السلام: يؤخذ من أغنامهم بقدر ما أتلفوا، ولما مروا على سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، سأل: ماذا قضي لكم؟ قالوا: قضي بكذا قال: لو كنت أنا الذي أقضي ما قضيت بذلك، وأقضي بأن تسلم الغنم بكاملها إلى أصحاب الحرث، لينتفعوا بألبانها وأصوافها، ويسلم الحرث لأصحاب الغنم ليصلحوه حتى يعود كما كان، فتعود الغنم إلى أصحابها، ويتسلم أهل الحرث حرثهم، وقد أمر الله سبحانه وتعالى كلا الحكمين: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] ، يعني: أقر داود أنه قضى بحكم وعلم، وليس عن جهل، وكذلك سليمان شرك داود في الحكم والعلم، ولكن فهمناها سليمان، والقضاء يحتاج إلى الفهم أكثر منه إلى الحفظ؛ لأن فهم ظروف القضية هو صلب القضاء، وكما قالوا: معرفة المدعي من المدعى عليه صلب القضاء، وعلي رضي الله تعالى عنه لما ولاه رسول الله قضاء اليمن، قال: أتبعثني قاضياً وأنا لا أعرف القضاء؟ فقال: (إذا أتاك الخصم فلا تقضي له حتى تسمع من خصمه) إلى آخره، وعمر رضي الله تعالى عنه لما كتب إلى أبي موسى الأشعري كتابه في القضاء الذي يعتبر إلى الآن منهج القضاء في العالم كله، حتى إن أوروبا تأخذ بمنهج عمر في هذا القضاء، ويهمنا أنه كتب إليه: (إذا أدلي إليك فالفهم الفهم) أي: إن فهم القضية قبل كل شيء، والقاضي إذا لم يفهم القضية بتوجيهاتها كالسمك في الماء، أما إذا فهمها ورسم الخطة التي يسير الخصوم عليها فإنه يصل إلى نتيجة حتمية، وهكذا ما عاب الله على داود، ولكن أثنى عليهما معاً، ورجح جانب سليمان، وهو حكم في قضية واحدة.
وقد وقع الخلاف في صدر هذه الأمة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع الخلاف في غيبته وآل الأمر إليه فأفتى فيه، ووقع من بعده في عهد خلفائه الراشدين، ومن بعد الخلفاء وقع الخلاف بين أئمة الأمة رحمهم الله تعالى.(62/4)
نماذج من الخلاف الذي وقع زمن النبي صلى الله عليه وسلم وموقفه منه
وقع من الخلاف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمور عديدة، ومن أهمها وأعظمها عند العلماء: نقض اليهود للعهد حال وقعة الخندق، ثم رجع المشركون إلى ديارهم: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:25] ، وقد نقض اليهود عهدهم، وكانوا من قبل في عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كتب صحيفة عهد بين المسلمين وبين اليهود، وكان مما اشترط على اليهود: أن يعاونوا المسلمين إذا دوهموا، وألا يعينوا عليهم عدواً إذا حاربهم، ولما قدر الله سبحانه وتعالى أمره في الأحزاب، وكفى الله المؤمنين القتال بجنده، وأرسل عليهم الريح لتطفئ نارهم، وتكفئ قدورهم، وتقتلع خيامهم، قال أبو سفيان: لا مقام لكم، فانصرفوا، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها، فإذا بالباب يطرق، ورجل يسلم، فخرج صلى الله عليه وسلم مسرعاً، فنظرت فإذا دحية الكلبي يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع صلى الله عليه وسلم ونادى في الناس: (من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) ، فجبريل جاء في صورة دحية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذهاب إلى بني قريظة الذين نقضوا العهد ساعة العسرة، وكان ذلك قبل أن يؤذن العصر، فخرج الناس، وفي طريقهم إلى بني قريظة، وجب وقت العصر، فانقسموا إلى قسمين: قال قوم منهم: لا صلاة إلا في بني قريظة، انتقل وقتها، وتعين صلاتها حيث أمر رسول الله في بني قريظة.
وقال آخرون: لا، ليست المسألة على حرفيتها، بل على روحها ومعناها، وروحها ومعناها: أن نبادر بالذهاب إلى بني قريظة، وهذا وقت الفريضة، نصلي ونبادر بالمسير.
فقسم صلى العصر في وقتها في مكانه، وقسم أخر صلاة العصر حتى جاء إلى بني قريظة، وكانت قد غربت الشمس، فصلوا العصر بعد غروب الشمس في بني قريظة، وهنا وقع الخلاف بينهم، فمن الذين نال موافقة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرضوا عليه الأمر، فما عاتب أحد الفريقين، ولا أنكر عليه، وهنا يقول العلماء: إذا جاء النص واختلف فيه السامعون، وعمل كل بما أداه إليه اجتهاده بقصد الوصول إلى تحقيق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؛ فحينئذ قد أدى كل منهم ما عليه، فهؤلاء إن كانت الصلاة قد انتقل وقتها ومكانها إلى بني قريظة فالذين صلوا في الطريق صلاتهم في غير وقتها، وإن كانت الصلاة على وقتها كان الذين أخروها قد أخروها حتى خرج وقتها، فيلزم أحد الفريقين الإعادة.
ولكن: لما أقر الفريقين، ولم يعاتب المبادرين بالصلاة، ولم يعاتب المؤخرين، عرفنا أن كلا الفريقين محق ومعذور فيما ذهب إليه؛ ولذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) .
هذا خلاف بين يدي رسول الله.
وخلاف آخر وقع قبل ذلك في أسارى بدر، لما جيء بهم وهم سبعون أسيراً، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: (ماذا نفعل بالأسارى؟) .
فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! بنو عمنا وإخواننا نقبل منهم الفداء، ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، فيكونون عوناً للمسلمين، ونستعين بالفداء الذي نأخذه منهم، فسكت، فقال عمر: يا رسول الله! أرى أن تمكن من كل إنسان منا قريبه فيضرب عنقه، حتى يعلم الكفار ألا هوادة بيننا وبينهم، فسكت، وقال آخر: يا رسول الله! أرى أن تجمعهم في وادٍ كثير الحطب، وتؤجج ناراً فتحرقهم، فسكت، ثم دخل بيته صلى الله عليه وسلم ثم خرج، وهم يقولون: لا ندري برأي من يأخذ! ومن الغد يقول عمر رضي الله تعالى عنه: جئت فإذا رسول الله وأبو بكر والمسلمون يبكون، فقلت يا رسول الله! أخبروني على ماذا تبكون، فإن وجدت بكاءً بكيت معكم، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (لو نزل عذاب ما نجا إلا ابن الخطاب) ، ثم قال: (مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام حينما قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36] ، وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] ) ، ثم نزلت الآية: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ.
} [الأنفال:67] إلى آخره، فعاتب الله رسوله في أمر الفداء، ولكن أباحه لهم فاختلف أبو بكر مع عمر في بادئ الأمر، ولم يكن هذا الخلاف مؤدياً إلى شقاق بينهم، وقضي الأمر من الله سبحانه وتعالى.
ومن الخلاف ما وقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيداً عنه، وانتهى الأمر إليه، وذلك أن رجلين كانا في سفر، فلما لم يجدا ماءاً تيمما وصليا في الوقت، ثم وجدا الماء قبل انتهاء الوقت، فتوضأ أحدهما وأعاد الصلاة، ولم يتوضأ الآخر، عملان مختلفان! وهذا اختلاف وليس مخالفة، فلما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضا عليه الأمر، فقال للذي توضأ وأعاد: (لك الأجر مرتين) ، وقال للذي اكتفى بالتيمم ولم يتوضأ ولم يعد: (أصبت السنة) .
ولسنا بحاجة بعد ذلك أن نقيم النقاش والخلاف في أي الطرفين أولى، هل الذي أصاب السنة أو صاحب الأجرين؟ وهل الذي أخذ الأجر مرتين خالف السنة؟ لو خالفها ما حصل على شيء، المهم أقر النبي صلى الله عليه وسلم كلا الرجلين فيما عمل، وكل منهما خالف الآخر في عمله.(62/5)
نماذج من الخلاف الجائز الذي وقع في عهد الخلفاء الراشدين
ومن الخلاف الذي وقع في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، ما قدمنا من قضية أبي بكر رضي الله تعالى عنه في جمع القرآن في صحف، وكذلك ما كان في زمن أبي بكر مع عمر في قتال أهل الردة ومانعي الزكاة، لما قال أبو بكر: (والله! لو منعوني عناقاً أو عِقالاً -أو عَقالاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) ، فيقف عمر أمامه: يا أبا بكر! أتقاتل قوماً يشهدون أن لا إله الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله؟!) فقال أبو بكر: (يا عمر! أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟! ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحقها؟) إن الزكاة من حقها، والله! لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، فشرح الله صدر عمر إلى ما ذهب إليه أبو بكر رضي الله تعالى عنهما) .
فهذه وجهة نظر خلاف وليست مخالفة.
وفي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه صعد عمر أمير المؤمنين على المنبر، وأراد أن يحدد مهوراً للنساء، على قدر مهور زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبناته، فقامت امرأة وقالت: يا عمر! لم تحرمنا من شيء أحله الله لنا؟! قال: وما ذاك، قالت: في قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] ، فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر! ورجع عما كان يريد أن يفعل.
وكذلك في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، كانوا في طريقهم إلى الحج، وجاء المقداد بن الأسود إلى علي رضي الله تعالى عنه وقال: يا علي! ألا ترى ما قال عثمان! قال: وما يقول؟ قال: يقول: ليس هناك قران الحج والعمرة، وليس هناك إلا التمتع أو الإفراد، وفي رواية الموطأ: وعلي على يده أثر العجين والخبز، فدخل على عثمان فقال: ما هذا الذي سمعت منك؟! قال: شيء رأيته، فقال: ألم نفعل ذلك مع رسول الله؟! فلم يحر جواباً! قال: شيء رأيته ليكثر الوافدون إلى بيت الله، فقال علي: لبيك -اللهم- حجة وعمرة معاً، فـ علي كان مفردا، ً فأضاف العمرة إلى الحج في ذلك الموقف ليبين بأن السنة التي كانت زمن رسول الله يعمل بها ولا تعطل، فهل عارض عثمان علياً؟ هل تخاصم عثمان مع علي؟ لا، بل بقيا على ما هما عليه من الخير والمودة.
ولما جاء عثمان إلى منى وعرفات أتم الصلاة، فتحدث معه عبد الرحمن بن عوف، فبين له وجهة نظره، فقال: إني اتخذت أهلاً بمكة، ولي مال بالطائف، وإن الأعراب لما قدموا للحج قالوا: إن الرباعية في مكة صارت ركعتين، وأخشى أن يأخذ الأعراب مني ذلك، فأردت أن أتم الصلاة ليعلموا أن الرباعية على ما هي عليه، فقال له ابن عوف: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام يقصر، والأعراب يأتون من كل مكان، وكان أبو بكر كذلك، وكان عمر كذلك، وكنت أنت في أول خلافتك تصلي الركعتين، فلماذا؟ فما أجابه بشيء، ورجع ابن عوف من عنده، ولقي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، فقال له ابن مسعود: إذا صليت مع قومك فصل ما شئت، وإذا صليت معه فوافقه، وإني لأوافقه في الأربع، فقال ابن عوف: أما أنا فقد كنت أصلي مع قومي ركعتين، والآن أصلي أربعاً، مجانبة للخلاف.
وهكذا في زمن علي رضي الله تعالى عنه، والخلاف في زمنه أكثر من أن يحصى!(62/6)
خلاف الأئمة رحمهم الله تعالى
كان الأئمة الأربعة رضوان الله تعالى عليهم لا يريدون إلا الحق، ولا يقصدون إلا تطبيق كتاب الله وسنة رسوله، وقد تكلم الإمام ابن تيمية رحمه الله في هذا الباب، ومن أجود ما كتبه في ذلك كتابه: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، وذكر فيه عشرة أسباب تؤدي إلى الخلاف بينهم، وكل معذور فيما ذهب إليه، وبين أنه ليس لأحد من الأئمة المعتبرين أن يخالف قصداً وعمداً نصاً من كتاب الله أو من سنة رسول الله، حاشا وكلا، ولكن: قد يبلغه الحديث بسند لا يثق بصحته، أو يأتي الحديث له عدة معان، أو يظن أن فيه نسخاً أو غير ذلك، فيعمل بحسب ما يغلب على ظنه.
والأئمة الأربعة رحمهم الله متقاربين في الزمن فيما بينهم، فكان أبو حنيفة رحمه الله قبل مالك، ومالك أدرك عهد أبي حنيفة، ثم جاء الشافعي فأدرك مالكاً، وأخذ عنه الموطأ، وقدم محمد بن الحسن صاحب أبي حنفية إلى المدينة فأخذ الموطأ عن مالك، وله موطأ خاص باسمه: موطأ محمد وقد مكث في المدينة ثلاث سنوات، وأحمد رحمه الله لقي الشافعي، وتداولوا وكانوا في الزمن متقاربين، ولكل واحد منهم مبادئ التزمها، وبنى عليها مذهبه، وأصبح لكل بعض الاختلافات التي أدى إليها اجتهاد كل منهم.
ومع ما كان بينهم من خلاف، فما كان يوقع بينهم عداوة ولا شحناء، بل كل يكن للآخر التقدير والتبجيل، ونعلم أن أحمد رحمه الله كان يرى الوضوء من أكل لحم الجزور، فيسئل: لو رأيت إنساناً أكل لحم الجزور -وهو لا يرى الوضوء منه- أكنت تصلي خلفه؟ قال: وكيف لا أصلي خلف سفيان الثوري وأمثاله؟ فالخلاف في وجهة النظر في حكم فرعي لا تؤدي إلى المخالفة بين المسلمين.
وهكذا -أيها الإخوة- كان أحمد يصلي مع الشافعي، وكان الشافعي كان يصلي مع أحمد، والشافعي يصلي مع مالك مع أنه يرى أن مجرد لمس المرأة ينقض الوضوء، ومالك وأحمد لا يريان النقض باللمس، والشافعي يقول: مجرد اللمس ينقض، ومع ذلك ما كان الشافعي يمتنع من الصلاة خلف مالك، ولا كان يختلف مع أحمد.
وأصحاب الأئمة رحمهم الله فيما بينهم قد يختلفون إذا كانت المسألة موضع بحث أو موضع اجتهاد لا نص صريح فيها، ولقد وجدنا أحمد ينفرد بمسائل، وألفت المؤلفات كـ (مفردات مذهب أحمد) ، وكذلك الشافعي انفرد بمسائل، ووجدنا ابن كثير ألف كتاباً (فيما انفرد به الشافعي عن الأئمة الثلاثة) ، بل وجدنا الخلاف داخل المذهب الواحد، فهذا الدبوسي من علماء الأحناف يؤلف كتابه: (تأسيس النظر) جمع فيه مسائل خالف فيها أبو حنيفة أصحابه أبا يوسف ومحمد وزفر، ثم مسائل أخرى خالف فيها أبو يوسف أصحابه: أبا حنفية ومحمد وزفر، ومسائل أخرى خالف فيها محمد أصحابه: أبا حنفية وأبا يوسف، وهكذا كل يخالف أصحابه في عدة مسائل، ولم يقع نزاع ولا خلاف في المذهب.
ورأينا رسالة لا زالت مخطوطة لـ ابن عبد البر بعنوان: (ما خالف فيه أصحاب مالك مالكاً) ، يعني: أصحابه يخالفونه في بعض المسائل، ولم يقع النزاع ولا الخصومة بين المالكية أنفسهم.
وهكذا يوجد الخلاف فيما يقتضيه النظر، بلا نزاع ولا شقاق، ومما سبق يتبين لنا أنهم كانوا يختلفون لا ليخالف بعضهم بعضاً، ولكن ليصلوا إلى الحقيقة المرجوة، وإذا تحقق النص أو ظهرت الحقيقة فسرعان ما يتناولونها ويقفون عندها، وهذه قصة أبي يوسف رحمه الله صاحب أبي حنيفة الأول، يأتي مع الرشيد إلى المدينة، ويجالس مالكاً، ويأتي البحث في مقدار الصاع، فقيل لـ مالك: كم مقدار الصاع؟ فقال مالك: الصاع عندنا خمسة أرطال وثلث، فيقول أبو يوسف: لكنه عندنا ثمانية أرطال، كما قال بذلك إمامنا أبو حنيفة، فقال مالك رحمه الله للجلساء عنده: من كان عنده صاع -تخرج فيه زكاة الفطر- من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتنا به غداً، ومن الغد يأتي الرجل ويخرج من تحت ردائه الصاع ويقول: حدثتني أمي عن جدتي أنهم كانوا يخرجون به زكاة الفطر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر يقول: حدثني أبي عن جدي، والآخر: عمي عن جدي، والآخر: خالي عن كذا واجتمع عند مالك نحواً من خمسين صاعاً، يقول أبو يوسف: ونظرت فيها فإذا هي متقاربة، فأخذت واحداً منها وذهبت إلى السوق، وعايرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث، يقول أبو يوسف: فرجعت إلى العراق، وقلت لهم: جئتكم بعلم جديد، قالوا: وما ذاك؟ قال: الصاع خمسة أرطال وثلث في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: خالفت شيخ القوم! يعني: أبا حنفية، فقال: وجدت أمراً لم أستطع له مدفعاً، وإلى الآن عند الأحناف أن مذهب أبي يوسف أن الصاع خمسة أرطال وثلث، والصاع عند محمد وعند أبي حنفية وزفر ثمانية أرطال، فهل اختلف أبو يوسف مع أصحابه وتنازعوا وانشقوا؟ لا والله! ونذكر موقف مالك رحمه الله من الخلاف الذي لا يمكن أن يرفع، حينما جاء إلى دار الإمارة فطلب منه الرشيد أن يأته بالموطأ، ليقرأه على الأمين والمأمون، فاعتذر مالك وقال: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فقال: اجعل لنا موعداً، فجعل له موعداً، فجاء الخليفة إلى بيت مالك! فأبطأ عليه مالك في الخروج، فقال: يا مالك! طلبناك فامتنعت علينا، وجئنا فحبستنا على دارك، لماذا؟! قال: أما طلبك إياي فقد علمت أنك ما طلبتي لمال ولا لرياسة وإنما للعلم، والعلم يؤتى إليه ولا يأتي، وإن موقف الخلفاء والأمراء على أبواب العلماء ليزيدهم شرفاً، بخلاف موقف العلماء على أبواب الملوك والأمراء، قال: أريد أن تقرأ عليّ كتابك، قال: يا أمير المؤمنين! إن هذا العلم لا ينفع سراً، قال: ما تريد؟ قال: في حلقة الدرس في المسجد مع عامة الناس، فامتثل لذلك، وعلم الخدم فهيئوا كرسياً للخليفة، فجاء مالك وجلس مجلسه وبدأ بحديث: (من تواضع لله رفعه الله) فقال: يعنيني، أخروا هذا الكرسي، وجلس فسمع، وبعد أن سمع من الموطأ قال: إني عزمت على أمر، قال: ما هو؟ قال: أن أعلق الموطأ على الكعبة، وأبعث نسخاً منه إلى الأمصار، وأمنع أي مذهب سواه، وأحمل عامة المسلمين على ما فيه توحيداً لهم.
انظروا إلى هذا العرض أيها الإخوة! ماذا كان موقف مالك؟! قال: لا يا أمير المؤمنين! لا تفعل، قال: لماذا؟ قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار، وحدث كل بما سمع من رسول الله، واستقر عمل كل مصر على ما بلغهم عن رسول الله، فلا تغير على الناس ما هم عليه.
انظروا -أيها الإخوة- بعد هذا النظر! مع وجود الخلاف وإرادة حمل الناس على كتابه ما فرح بذلك، قال: لا، دع الناس على ما هم عليه.(62/7)
التحذير من تتبع الشواذ
النقطة الأخيرة: تتبع الشواذ من الأحاديث، بعض الناس يرى حديثاً في بطون الكتب لا يعمل به، فيأتي به ويثيره ويعرضه على الناس، فيقع في أذهان الناس اضطراب، نقل ابن عبد البر في مقدمة التمهيد عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، أنه ضرب رجلاً لأنه كان يتتبع شواذ الكلمات، ويتتبع مواطن الغموض في كتاب الله، فضربه عمر لتساؤلاته المثيرة التي توقع الشبه عند الناس، ثلاث مرات وهو يضربه فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلة شريفة، وإن كنت تريد شفائي من دائي فقد -والله- شفيتني! فكتب بإخراجه إلى البصرة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد، حتى طال الزمن عليه، وحسنت سيرته، فسمح له بمخالطة الناس.
وقال عمر رضي الله تعالى عنه -كما ينقل عنه ابن عبد البر -: (أحرج على كل مسلم -انظر إلى هذه العبارة، أحرج يعني: أجعل كل إنسان في حرج، وفي ضيق- أحرج على كل مسلم يحدث بحديث ليس العمل عليه) .
هذا أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه، يحرج على كل مسلم أن يحدث بحديث عن رسول الله، وهذا الحديث متروك العمل به، فإذا كان متروك العمل به، ويأتي إنسان يثيره عند الناس، فمعناه أنهم عطلوا حديث رسول الله، والسلف ما تركوه رغبة عنه، ولا استخفافاً به، ولكن ثبت عندهم ما هو أولى وأقوى منه.
فالحذر -أيها الإخوة- من تتبع الشواذ، ويقول ابن الحاج في مدخله في تتبعه للبدع، وكذلك الشاطبي: إني لأخشى على أولئك الذين يتتبعون شواذ المسائل أن يدخلوا في آية أوائل سورة آل عمران {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، والوقف على لفظ الجلاله ثم: (والراسخون في العلم) ، وهذا له مبحث آخر، والمهم قولهما: نخشى على أولئك الذين يتتبعون شواذ الحديث أن يكونوا من الذين في قلوبهم زيغ.
ولهذا -أيها الإخوة- ينبغي للمسلم إذا سمع شيئاً أو رأى شيئاً أن ينظر ما عليه سلف الأمة، ولا ينبغي أن يخرج عما هم عليه،؛ لأنهم -بلا شك- أوسع إحاطة منا بسنة رسول الله، وأقوى جهداً وورعاً، وأمكن في علم الاستنباط والاستدلال، ومجموع النصوص بأطرافها هم أعلم بها منا، لكن العقل ينظر ما هو الأرجح ومما يرتضيه ديناً وعلماً.
وجزا الله سلف هذه الأمة عن خلفها أحسن الجزاء.
وبالله تعالى التوفيق، والله أسال أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(62/8)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [1](63/1)
تربويات متعلقة بحديث معاذ رضي الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله ونفعنا بعلمه آمين: [عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] ، حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ} [السجدة:19] ، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا، قلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح] .(63/2)
نبذة مختصر عن راوي الحديث
هذا الحديث عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، هذا الصحابي الجليل الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل) .
ومعاذ رضي الله تعالى عنه كما يقال في الاصطلاح الحاضر تولى عدة مناصب، قد كان معلِّماً لأهل مكة، وذلك إثر فتح مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك بُعث إلى اليمن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما وجهه قال: (بم تقضي يا معاذ؟ قال: أقضي بما في كتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله) .
وهذا الحديث عمدة في باب القضاء، وإن كان بعض المتأخرين يتكلم على سنده، ولكن جميع علماء الحديث تلقوه بالقبول وسطروه ولم يضعفوه.
وبعد أن توفي النبي عليه الصلاة والسلام، عاد في خلافة عمر إلى المدينة، فبعثه عمر بن الخطاب إلى الشام لحاجة أهل الشام إلى من يفقههم في الدين.
وعند مالك في الموطأ من رواية الليثي: 1711 - وحدثني عن مالك عن أبي حازم بن دينار عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: (دخلت مسجد دمشق فإذا فتى شاب براق الثنايا، وإذا الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن قوله، فسألت عنه فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك لله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، قال: فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه وقال: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في) .(63/3)
التخصص العلمي أسلوب نبوي
وأحب أن أشير لكم بأن منهج التخصص العلمي المادي كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا معاذ تخصص في معرفة الحلال والحرام، وهذا زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (أفرضكم زيد) ، يعني: أعرفكم بالفرائض.
وكذلك قال في علي رضي الله تعالى عنه: (أقضى أمتي علي) ، وقال في أبي عبيدة: (أمين هذه الأمة أبو عبيدة) ، وقال في ابن عباس -حبر هذه الأمة-: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل،) .
فكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذا اختلفوا في مسألة من تلك المسائل رجعوا إلى صاحبها إذا أشكلت عليهم آية في كتاب الله رجعوا إلى ابن عباس، وإذا أشكلت عليهم مسألة في الميراث رجعوا إلى زيد بن ثابت، وإذا أشكل عليهم شيء في الحلال والحرام رجعوا إلى معاذ بن جبل.
ومن تلك النماذج ما جاء عن ابن عباس في مجلس عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد كان يدني ابن عباس وهو شاب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو غلام، قد ناهز الاحتلام، كما جاء في حديثه في مِنى في حجة الوداع قال: جئت على أتانٍ والناس يصلون بمنى فمررت بين الصفوف حتى وجدت فرجة، فتركت الأتان ترتع ونزلت وصليت، وقد ناهزت الاحتلام حينئذٍ.
وحجة الوداع في أخريات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان شاباً ناهز -قارب- الاحتلام، ومع ذلك كان عمر يدنيه ويدخله في مجلسه، وفيه شيوخ قريش، فقال بعضهم: علام يدخل عمر علينا هذا الغلام، ولنا أولاد مثله، فعلم بذلك عمر، فأراد أن يعلمهم قدر ابن عباس، وأنه لا يدخل ابن عباس معهم لمجرد قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب -وإن كانت هذه لها قيمتها، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] ، فله حق القربى- ولكن لشيءٍ آخر اختص به.
يقول ابن عباس عن نفسه: فدعا عمر ذات يوم الناس ودعاني، فعلمت أنه ما دعاني إلا لأمر، وهذا من الفقه والذكاء، فلما اجتمعوا سأل عمر رضي الله تعالى عنه: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ، فقالوا: بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح وانتشار الإسلام، وابن عباس ساكت، قال له عمر: ما تقول أنت يا ابن عباس، قال: لقد نَعَت إلينا رسول الله وهو بين أظهرنا قال: وكيف فهمت ذلك؟ قال: لأن الله يقول: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1-2] ، والله قد أرسل رسوله ليبلغ الرسالة، فإذا كان الأمر كذلك فقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وجاهد في سبيل الله حتى علت كلمة الله، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فكأنه أتم رسالته وأدى مهمته، ولم يبق إلا أن يتوجه ويلقى ربه لينال جزاءه.
فقال عمر: وأنا أرى فيها ذلك.
وسألهم عن ليلة القدر فتكلموا فيها بنصوص كثيرة حتى سأل ابن عباس فقال: لسبع بقين أو لسبع خلون من العشر الأواخر.
يعني إما في ليلة ثلاث وعشرين وذلك من قوله: لسبع بقين من الشهر، أو ليلة سبع وعشرين لقوله: لسبع مضت من العشر الأواخر، قالوا: وكيف هذا؟ فذكر لهم ابن عباس توجيه ذلك.(63/4)
أساليب التعليم عند النبي عليه الصلاة والسلام
يهمنا أن معاذاً رضي الله تعالى عنه راوي هذا الحديث أعرف الأمة بالحلال والحرام، ويظهر فقهه في سؤاله، وقد جاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: على طالب العلم أن يتعلم السؤال قبل أن يتعلم الإجابة؛ لأن سؤال الشخص ينبئ عن عقله وعن فهمه.
وكم وجدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، إذا سأل طالب سؤالاً علمياً في محله يقول: جزاك الله خيراً إنك طالب علم، وإذا سأل إنسان سؤالاً لا يدري يميناً أو يساراً، يقول: أنت في حاجة أن تذهب إلى الطبيب يعطيك إبرة، لأن تفكيرك يحتاج إلى علاج، وذلك من باب المزح مع الطالب، ومن باب التفريق بين سؤال وسؤال.
وإذا جئنا إلى منهج السؤال في العلم، نجد الباب واسعاً، ونجد القرآن الكريم قد أورد أسئلة وأجاب عليها، كما قال ابن عباس: أقل الأمم سؤالاً هذه الأمة، سألت عن اثنتي عشرة مسألة، وورد الجواب عنها في القرآن، سألوا عن الأهلة، وسألوا عن المحيض، وسألوا عن الأشهر الحرم، وسألوا عن الصيد، وسألوا، وسألوا، والقرآن يجيبهم عليه.
وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يورد السؤال، ومعاذ ممن ورد عليه سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كنت يوماً رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم.
الحديث.
ويستفيد طالب العلم والمعلم أساليب التربية والتعليم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يسأل معاذاً يعلم أن معاذاً لا يعلم الإجابة، ومع ذلك يورد عليه هذا الأسلوب أتدري؟ ولذا قال: الله ورسوله أعلم.
إذاً لماذا يقدم السؤال؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن ينبه حسه ويجمع شعوره؛ ليجتهد في طلب معرفة ما لا يعرفه، ونحن لو تمكنا من الكشف عن نفسية معاذ وعن فكره وعقله، لوجدنا كل قواه تركزت لتلقي الجواب عن هذا الموضوع الذي سئل عنه، وهو يجهله، قال: الله ورسوله أعلم، ماذا ينتظر معاذ؟ إنه ينتظر معاذ سماع الجواب من الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن يدخل من لا يشرك به شيئاً الجنة) .
ومعاذ هنا يسأل رسول الله في شيءٍ جال ودار في نفسه، يقول: يا رسول الله! دلني أرشدني بين لي عملاً، وهو من أوائل المسلمين ومعلم الناس في مكة، ومعلم الناس في اليمن، ولكن لعله انتهز فرصة خلوته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ينتهز الطالب شيخه إذا اختلى به، وله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موقف آخر، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا معاذ! والله إني لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) .
فلما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن رسول الله عليه الصلاة والسلام قيمة هذا السؤال، فقال: (لقد سألت عن عظيم) .
إذاً: طالب العلم حينما يستطيع أن يصيغ السؤال يكون حقاً له استعداد وقدرة على استيعاب الجواب، وهنا كما كانوا يقولون عن الإمام أبي حنيفة، جاء شخص وجلس في المجلس وله هيئة وهيبة، وكان الإمام أبو حنيفة يتكلم عن مسألة فطر الصائم عند غروب الشمس، فقال ذلك الرجل: يا شيخ: إذا تأخر غروب الشمس إلى نصف الليل ماذا نفعل؟ وقد كان أبو حنيفة يأنف مد رجليه احتراماً لهذا الرجل ذي الهيبة، فلما سمع منه هذا الكلام الذي ينبئ عن شخصية هذا الرجل، قال: آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله معاذ عن هذا السؤال المهم جداً، نبه ونوه صلى الله عليه وسلم، وقال: (لقد سألت عن عظيم) .
ومثل هذا فيه تشجيع من رسول الله عليه الصلاة والسلام لطالب العلم.
نظير هذا سؤال أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: (لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد قبلك) .(63/5)
الجمع بين: (عمل يدخلني الجنة) وبين: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)
وقد ورد في رواية أخرى لهذا الحديث: يقربني من الجنة ويباعدني من النار.
وهنا مسألة: فرواية (يدخلني الجنة) فيها تعارض مع حديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) فإن قيل: فبماذا يدخل المؤمنون الجنة؟ قلنا: بفضل الله، لأن مدار عمل العامل العابد الزاهد الورع القائم الصائم مهما كان، فهو يعمل بفضل الله عليه، إذاً: عمله فضل من الله عليه، كما قال موسى عليه السلام: يا رب إن قمت صليت فبك قمت، وإن صمت فبك صمت، وإن بلغت الدعوة فبك بلغت، فكيف أشكرك، قال: الآن الآن يا موسى شكرتني عرفت أن كل شيءٍ من عندي فشكرتني.
وكذلك مهما صلى المصلي الطاقة التي قام وتحرك بها هي من الله، والتوجه إلى العبادة دون المعصية، والهداية والتوفيق بأن يأتي إلى المسجد بدل أن يذهب إلى المقهى، فالذي وجهه ومنحه هذه الهداية والتوفيق هو المولى سبحانه، وكل ذلك فضل من الله عليه، إذاً:" عملك الذي تريد أن تعتد به ليس من عندك، إنما هو من عند الله فضلاً عليك.
وهنا مسألة: هل يوجد تعارض بين قوله عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) ، وبين قوله تعالى: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] ؟ قال العلماء: الآية الكريمة تقول: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} ولم تقل: التي دخلتموها، لأنه فرق بين دخول الجنة، وبين التوارث في الجنة، فدخول الجنة محض فضل من الله، أما التنعم فيها والدرجات، فهذا كله بسبب العمل، وكمثال: لو أن إنساناً وجه لشخص بطاقة دعوة في وليمة، ولم يكتب له في الدعوة أن لا تأكل إلا كذا، قد يعين له رقم كرسي، ولكن لا حجر عليه فيما يأكل، ففضل الوليمة من صاحبها، وتنوع الأشياء الداخلية أنت وذوقك.
فقالوا: التوارث في الجنة المولى سبحانه جعل لكل إنسان سيأتي من ذرية آدم إلى آخر الدنيا منزلتين، منزلة في النار ومنزلة في الجنة، فإن وفقه الله لاتباع رسله، وكان من أهل الجنة، تعطلت منزلته في النار، وإن خذله الله -عياذاً بالله- وخالف رسل الله، وكان من أهل النار، خلت منزلته في الجنة.
إذاً: بعد دخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار، يبقى نصف الجنة خالياً أو أكثر أو أقل، فيها منازل خالية، بقدر ما في النار من أشخاص، وتلك المنازل لا تترك خالية، بل يورثها الله من دخل الجنة، ويورثها بأي شيء؟ ليس هناك {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، فالذكر والأنثى في الجنة سواء، ولكن يبقى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] ، تتساوى هناك الدرجات وتتفاضل بحسب الأعمال، زوجة فرعون قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ} [التحريم:11] ، فاختارت الجار قبل الدار، {ابْنِ لِي عِنْدَكَ} ثم {بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} ، يعني إرادتها جوار ربها أكثر من رغبتها في دار في الجنة.
ويقول العلماء: ذلك التوارث بحسب درجات عمل المؤمن، فمنهم من يعطى منزلة، ومنهم من يعطى منزلتين وثلاثاً أو أكثر أو أقل، بحسب التفاوت في الأعمال.
إذاً: معاذ حينما يقول: (دلني على عمل يقربني من الجنة) ، فإنه لا يتعارض مع (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) ، وحديث: دلني على عمل يدخلني الجنة، معناه: أي يكون سبباً في رضا الله عني وتقبله مني، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها، ما أمنت مكر الله.
قوله: يدخلني أو يقربني فيها إيجاز وحصر، لأن دخول الجنة هو كل خير يسعى إليه المسلم، والابتعاد عن النار هو كل شر يفر منه المسلم، وكما قالوا في الدنيا، مطامع العقلاء في هذه الدنيا لأحد أمرين: إما لجلب نفع وإما لدفع ضر ولذا يقولون: إذا أنت لا تنفع فضر فإنما يراد الفتى كيما يضر وينفع أي: يضر العدو وينفع الصديق، وهنا معاذ سأل عما يقربه من أعظم خير يسعى إليه وهو الجنة، وعما يباعده عن أعظم شر يفر منه وهو النار، وكما جاء في حديث الأعرابي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! علمني دعاءً ولا تكثر، لعلي أحفظ فإني لا أحفظ دندنتكم هذه، قال: وأنت بماذا تدعو؟ قال: أنا أقول اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: (حولهما ندندن) .(63/6)
علو همة الصحابة في السؤال
ولا يخفاكم قصة كعب بن ربيعة خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قال له عليه الصلاة والسلام: سلني، قال: أمهلني إلى غد، فذهب ومن الغد جاء -يقولون: حاور زوجته، قالت: أو يفعل ما تقول، قال: نعم، قالت: سله مرافقتك إياه في الجنة -كلام ينم عما وراءه من عقله وفطنة-.
فأين أمثال هذه المرأة في نساء اليوم التي تنظر إلى أعظم الغايات الجنة!! ولعلها فقهت معنى قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ، وفقهت قول حملة العرش في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر:7-8] ، الملائكة حملة العرش يدعون الله للمؤمنين بدخول الجنة وأن يلحق بهم زوجاتهم حتى يتم سرورهم، فهي إذا ضمنت أن زوجها سيرافق النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة، فستكون هي ملحقة به.
فهنا جاء الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله!! وعدتني كذا؟ قال: نعم، قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال له: (إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود) .(63/7)
سهولة ويسر أحكام الدين لكل الناس
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (لقد سألت عن عظيم) ، وهو كذلك؛ لأنه أعظم ما تتعلق به آمال البشر، (وإنه ليسير على من يسره الله عليه) ، سهل لمن سهله الله عليه.
ويأتي الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، وتأتي الآية الكريمة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، لأن الإسلام طريق الرحمة واليسر، ولا توجد مسألة في الدنيا إلا وأتى لها بأسهل وأوفق الحلول، ولم يسد الطريق على أحد أبداً، ففي الصلاة من لم يستطع الصلاة قائماً صلى جالساً أو مضطجعاً، ومن لم يستطع الصوم لمرض فعدة من أيامٍ أخر، والزكاة لا تجب إلا على غني عنده نصاب وحال عليه الحول، والحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلاً، والجهاد ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج، كل ذلك من باب التيسير.
وتقدم معنا في الأحاديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، فيرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يعوضهم عن غنى المال، تسبحون تحمدون تكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتختمون المائة بلا إله إلا اله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) .
وجاء: (كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) .(63/8)
ما يدخل الجنة من الأعمال
ثم أخذ يبين صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الميسر، فقال: (تعبد الله لا تشرك به شيئاً) ، ولكن بأي شيء تعبد الله؟ العنوان العام: تعبد الله.
ومعاذ كان يعلم الناس الإسلام، ويعرف بما يعبد الناس الله وكما يقول الإمام ابن تيمية وغيره: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، والعبادة من العبودية، وهي من التعبيد أو التعبد، وهو التذلل والخضوع، تقول: طريق معبد أي: مذلل مسهَّل.
فكذلك المسلم في عبادته منقاد لله مسهل له.
ثم قال: (تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، تصوم رمضان ... ) هل هذا تكرار أو تفصيل للإجمال؟ الواقع أن هذا ليس تكراراً ولا تفصيلاً، وإنما المراد من قوله: (تعبد الله) أي: في حالة كونك تعبده لا تشرك به شيئاً، أي: أوقع العبادة خالصة لوجه الله تعالى أياً كانت: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] .
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] إذاً: المراد بالفقرة الأولى وضع قاعدة الأساس التي يكون منها المنطلق، أن تعبد الله وفي عبادتك لله لا تشرك بالله شيئاً.(63/9)
لماذا يستحق الله أن نعبده وحده لا شريك له؟
ومن باب التحاكم العقلي، هل يجوز للإنسان أن يشرك مع الله في عبادته شيئاً آخر، كما فعل قوم نوح أو كفار قريش في الجاهلية؟ إذا نظرنا إلى القرآن الكريم في مواطن متعددة، نجد حق العبادة مربوط بحق الربوبية للمولى سبحانه، فمن الذي خلقك وسواك وعدلك، {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] ، ثم أخرجك إلى الوجود، ثم أنزل من السماء ماءً، {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:25-32] .
من الذي أنزل الماء من السماء، وشق الأرض للنبات، فيخرج ضعيفاً ثم يشتد عوده، وتخرج السنبلة وتأتي الثمرة بكل أنواع النبات والفاكهة لك، من يقدر على ذلك، من الذي بيده هذا غير الله عز وجل.
إذاً: إذا قمت تؤدي العبادة فأدها لصاحب هذا الخلق المبدع، ولذا نجد الله عز وجل يلزم قريشاً بعبادته؛ لأنه هو الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، كما في قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:2-4] ، والإطعام من جوع والأمن من خوف أعظم نعمتين في الوجود، فكبريات الدول إذا توفرت فيها نعمة العيش وفقدت نعمة الأمن، كانت حياتها في قلق واضطراب، واقرءوا كيف يعيش الغرب عندما فقدوا نعمة الأمن التي نحن لا نحمد كثيراً عليها، حتى إن الواحد منهم إن خرج من بيته يخرج ومعه بعض المال ليعطي من يتعرض له من قطاع الطريق، ليخرج من أذيتهم، وإلا ضربوه وأهانوه، بل قد يقتلوه عياذاً بالله، فكيف تكون عيشة هؤلاء؟! والحديث يقول: يأتي على الناس زمان تسير الضعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله والذئب على الغنم.
ونحن والحمد لله في نعمة تستوجب الشكر، وشكر الشكر على هذه النعمة.
نسأل الله أن يديمها علينا وعلى عامة المسلمين، فإنها ليست نعمة قاصرة على أهل البلاد، ولكن ينعم فيها الوافدون إلى بيت الله الحرام، هذا من باب التنبيه على {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ} [قريش:3-4] .
كذلك أول نداء في المصحف (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، لم يقل: (يا أيها الذين آمنوا) ؛ لأنه نداء عام يلزم جميع الخلق، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ، ثم جاء بالتعريف للرب سبحانه ونعمه على المربوب {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:21-22] ، يعني خيمة كبيرة أرضها مفروشة، وهي مسقوفة، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} وداخل هذا البيت الكبير {وأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ} [البقرة:22] من تلك الأرض {مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] خلقكم وآواكم ورزقكم {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، لأنه لا ند لله في ذلك، لا في خلقكم ولا في خلق من قبلكم، ولا في جعل الأرض فراشاً، ولا في جعل السماء بناءً، ولا في إنزال الماء، ولا في إنبات الثمرات رزقاً لكم، إذا {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، وهذا كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: هو مضمون لا إله إلا الله.
يأتي بعدها مضمون: (محمد رسول الله) {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] ، أي: إن كنتم في ريب من القرآن ورسالة رسولنا إليكم، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] ، أي: ادعوا جميع من تستشهدون وتستظهرون، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] ، انظر إلى التحدي، فإنه تحد مركب {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} على باب الحكاية، وأيضاً (وَلَنْ تَفْعَلُوا) وفعلاً لم يفعلوا {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:24-25] .
إذاً بادئ الأمر أن تعبد الله لا تشرك به شيئاً؛ لأنه ليس من حق أحدٍ أن يُشرك مع الله، لأنه لا يوجد موجود هو ند لله، ولا شريك مع الله في ملكه، ولكن كما قال صلى الله عليه وسلم عن ربه: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم) .
يأتي الحديث القدسي: (إني والجن والإنس في نبإ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري) ، وبهذه المناسبة فإن العبادة ليست مجرد صلاة في القبلة، وصيام في رمضان، وزكاة للفقير، وحج إلى بيت الله بل كل أوامر الله عبادة، فأنت حينما تأكل الطعام تعرف أنه من عند الله، حينما تأتي إلى الشاة لتذكيها لو أنها ماتت دون أن تذكيها، أو جاء مشرك وقال باسم اللات والعزى، وأراق دمها فإنها تحرُم عليك، وإذا جئت وقلت باسم الله، حلت لك لماذا؟ فالسكين واحدة في يد المسلم أو يد المشرك، قطع العروق واحد، إراقة الدم والتخلص من فاسده سواء، ولكن تلك يد مشرك ذبح لصنمه، وهذه يد مسلم سمى وذبح لربه، والفرق بينهما أن المشرك معتد ظالم، والمسلم عابد ملتزم طائع لله، عرف بأن الذي كونها وخلقها ورعاها في بطن أمها هو الله، والذي أخرجها إلى الوجود هو الله، والذي أنبت لها المرعى هو الله، والذي أنبت لحمها وشحمها هو الله، فالخالق لها هو الله، فحينما تريد أن تأكلها تستأذن الله أي: رب أنت أحللتها لي باسمك، باسم الله الله أكبر تقول: باسم الله الله أكبر، لا تقل: بسم الله الرحمن الرحيم، تقول باسم الله الله أكبر؛ لأن الذي أقدرك عليها هو أكبر منك، فتتذكر عظمة الله، تأتي للبعير وأنت لا تساوي قدر رجل من رجليه، وتنيخه أو تطعنه وقد عقلت إحدى يديه، فالله سخر لك هذا المخلوق الكبير تنحره وتسلخه وتأكل لحمه، فهو أكبر سبحانه وتعالى.
(تعبد الله لا تشرك به شيئاً) : هذه الفقرة كما يقول العلماء هي التي من أجلها أرسل الله الرسل، وقامت بين الرسل وأممهم تلك المعارك، وهي التي قاتل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة، لما قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] ؛ لأنه يقول: اعبدوا الله وحده ولا تجعلوا معه شركاء، مع أن العرب كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك فهم معترفون بأن آلهتهم تحت سلطة الله سبحانه، وكانوا يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، لكن اتخذوهم شركاء مع الله، فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقولوا: لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث لـ معاذ ويقصد به الأمة جمعاء، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمري لواحد منكم كأمري لكم جميعاً) .
وهكذا يضع صلى الله عليه وسلم القاعدة، وهي أن تكون العبادة لله وحده لا شريك له، ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال أحدهم: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً، قل: ما شاء الله وحده) ، فلا نبي مرسل ولا ملك مقرب، وكل ما يخطر على بالك فليس له حق شعرة ولا جزء من مليون من شعرة في هذا الكون، يستحق لأجله شيئاً من العبادة مع الله.
وإذا تقرر هذا المبدأ لدى المسلم وأصبح خالص العبودية لله، فهل يستوي هو ومن يجعل مع الله إلهاً آخر، هل تستوي شخصية ونفسية الذي يعبد الله مع شخصية ونفسية الذي يعبد غير الله؟! بل وتجد الشخص الذي يعبد الحجر عنده شيء من الوهم، وعنده شيء من الوهن والضعف، لكن الذي يعبد الله وحده، كأن الدنيا كلها ملك له؛ إذاً: بعد تثبيت هذه القاعدة وإقرارها تأتي التفصيلات.(63/10)
إقامة الصلاة
(تقيم الصلاة) .
أما كان معاذ يقيم الصلاة؟ معاذ الذي تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة يعلم الناس ألم يكن يقيم الصلاة؟ فهذا مما يؤكد أن المقصود بهذا الأمة كلها، ومعاذ فرد منها.
وهنا أيضاً لفظة (تقيم) ، فلم يقل: تؤدي، أو تصلي، فلفظة تقيم مأخوذة من الإقامة، تقول: قامت الحرب على ساقها، بمعنى أنها كانت في أوج قوتها وقدرتها، وكذلك العوام يقولون: السوق نائمة، يعني ليس فيها حركة، وكذلك إقامة الأمر أي: أداؤه على أكمل وجه، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي معاذاً لا بمجرد أداء الصلاة بشكلها أو بطقوسها فحسب، بل يوصيه بأن يؤدي الصلاة على أكمل وجه تقام عليه.
أما الكلام عن إقامة الصلاة فأعتقد أن جميع كتب المسلمين مليئة بالكلام عنها، وقد اهتم الدعاة والوعاظ قديماً وحديثاً بالصلاة، ولكن يهمنا التنبيه على شيء وهو ما سبق الكلام عنه في حديث أبي مالك الأشعري: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور) ، ليعلم الإنسان أن أداء الصلاة ليس مجرد أداء حق لله لا يعود عليه منه شيء، بل الصلاة أعظم من هذا، فإنها منهج حياة.
وكل أركان الإسلام كذلك، والكل يكمل بعضه بعضاً حتى يكون المسلم متكامل الشخصية، فالصلاة جاء فيها قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ، فإذا كانت الصلاة معك فأنت في حصن يقيك من الوقوع في الفحشاء والمنكر، ومعنى ذلك أن المجتمع الذي تؤدى فيه الصلوات مجتمع طاهر نقي مثالي، بعيد عن مواقع الفحشاء والمنكر، وأقل ما يكون أنها لا تظهر فيه.
وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (والصلاة نور) ، بل وهناك ما هو أعظم مردوداً عليك، كما في قوله سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ، فالصلاة عونٌ للإنسان، وليس عوناً مادياً، بل أعظم من ذلك، فهي عونٌ على النوائب التي تنتاب الإنسان، وعون على ملازمة طاعة الله، وعون على الوصول إلى الله، لأنك تقف بين يدي الله وتناجيه بلا ترجمان، وتحمد الله وتشكره وتثبت له صفات الجلال والكمال إلى آخر ما في سورة الفاتحة التي قال فيها المولى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) وتلك الطمأنينة التي تكتسبها حينما تستقبل القبلة وتكبر.
والرسول صلى الله عليه وسلم صدّر بذكر الصلاة في هذا الحديث، بعد قاعدة توحيد الله وإفراده سبحانه بالعبادة وحده، ومن المعلوم أن الصلوات خمس، وحينما ينادي المنادي حي على الصلاة حي على الفلاح، يجب على المسلم حينما يسمع ذلك أن يبادر، فمهما كان في يده من عمل هام كبير، فالله أكبر من ذلك، ولا فلاح لمن لم يجب داعي الله، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] .(63/11)
إيتاء الزكاة
ويعقب ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وتؤتي الزكاة) ، كما يقول الصديق رضي الله تعالى عنه: الزكاة أخت الصلاة أو قرينة الصلاة.
والصلاة والزكاة والصيام والحج كلها كانت في شرائع الأمم المتقدمة، ففي شريعة عيسى عليه السلام يقول الله على لسانه: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:31] ، وكذلك إبراهيم عليه السلام: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] .
إذاً: إيتاء الزكاة كما يقول بعض العلماء: لو لم يؤكد عليها الإسلام لكانت واجباً اجتماعياً.
المولى سبحانه يمتحن الغني بغناه والفقير بفقره، لينظر هل يشكر الغني نعمة الغنى، وهل يصبر الفقير على بلاء الفقر، والكل من عند الله ابتلاءً لخلقه، كما قالوا: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل متى يعيل يعني: متى يفتقر.
وما تدري وإن زمرت ثقبا يكون لك أو لغيرك الفصيل أي: لو ولدت ناقتك وأنت جئت وزمرت أي: أنت أخذت منها تلك المادة، ونظفت واعتنيت به، فلا تدري هل يكون لك أو لورثتك، إذاً: الغنى والفقر ابتلاء في الدنيا وليس بكدك ولا بحجاك وعقلك.
لو كانت الأرزاق تأتي على قدر الحجا لماتت من جهلهن البهائم إذاً: سعة الرزق من عند الله سبحانه وتعالى، لكن الله جعل في أموال الأغنياء حقاً للفقراء، وكما يقول علي رضي الله تعالى عنه: لقد جعل الله في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء، فما اشتكى فقير إلا بتقصير غني، فيوجد تكافل اجتماعي إلزامي، لكن بعض الناس قد يشح، وبعض الناس قد يجود، ومن السلف من خرج من ماله عدة مرات لوجه الله.
إذاً: (تؤتي الزكاة) ، هل يقصد الزكاة المفروضة أم أن معها الصدقة النافلة؟ الحديث هنا يتكلم عن الفرائض، وقد تقدم التنبيه على أن النوافل تكمل الفرائض، وأحب ما يتقرب به العبد إلى الله أداء ما افترض عليه، ثم لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه الله سبحانه.
والكلام على الزكاة أيضاً في نصابها وفي أنواعها وفي مخارجها وفي آدابها، كل ذلك تقدم التنبيه عليه.(63/12)
صوم رمضان
ثم قال: (وتصوم رمضان) ، إذاً: الأول: تعبد الله لا تشرك به يعني لا إله إلا الله، والثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: صوم رمضان.
وكلنا يعلم فريضة الصوم ولكن ليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، لكن كما قال جابر رضي الله تعالى عنه: لا يكون صوم العبد صوماً حقيقة حتى تصوم جوارحه، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ، وقال: (والصوم جنة ما لم يخرقها، قالوا بأي شيء يخرقها يا رسول الله!! قال: بكذب أو بسباب أو بفسوق) أو غير ذلك.
صوم رمضان يعني الصوم الحقيقي، وكما أشرنا بأن جميع العبادات كانت في الأمم الذين قبلنا، فالصوم قال الله عنه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] فإذا علم المسلم أنه كتب على من قبلنا فقاموا به ولم يقصروا، فيجب أن نكون أعظم قياماً منهم؛ لأنا خير أمة أخرجت للناس.(63/13)
حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً
يأتي الركن الخامس: (وتحج البيت) ، وحج البيت منهج إسلامي متكامل، إن كان من جهة العبادة وإفرادها لله، فهي في شعارك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، وإن كان في إقامتك للصلاة فأنت تصلي في سفرك للحج، وتلزم بركعتي سنة الطواف، وإن كان في الصوم {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} [البقرة:196] ، فيأتي الصيام أيضاً في الحج.
وكذلك الزكاة؛ لأن الحج يستلزم نفقة في سبيل الله، وهكذا جميع العبادات تأتي ضمن أعمال الحج.
ومن قال إن الحج مجسم مصغر للإسلام فليس قوله بعيداً، بل أعمال الدين والدنيا ماثلة في الحج؛ من حل وارتحال، وأعمال مالية وبدنية وتعاون الجميع؛ كل ذلك ماثل في الحج.
ولعل بهذه الأركان على سبيل الإجمال نكون قد مررنا على تعداد ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق.(63/14)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [2](64/1)
أبواب الخير
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلا زلنا في حديث معاذ، وقد وصلنا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على أبواب الخير) ، فبعد أن بين صلوات الله وسلامه عليه أركان الإسلام كلها، كأنه فيما سيأتي سيبين آثار تلك الأعمال على الفرد والجماعة.
أما الأبواب فهي جمع باب، وهو في الأمور المعنوية كالأمور الحسية، إذا دخلت البيت وفي البيت غرف ومجالس، لكل غرفة باب، فإذا فتح هذا الباب اجتزت إلى الغرفة، ثم وجدت في الغرفة جزئيات، إن كانت للجلوس وجدت مقاعد، وإن كانت للنوم وجدت الفراش وما يتعلق به، وإن كانت للطعام وجدت أنواع الطعام، وهكذا، فداخل هذا الباب جزئيات.
وكذلك أبواب كتب الفقه، تقول (باب الوضوء) ، إذا فتحت هذا الباب وجدت كيفية الوضوء من بداية غسل الكفين إلى غسل الرجلين، كل ذلك داخل باب الوضوء، وكذلك باب الصلاة وباب الصيام، أو كتاب الصلاة، ويأتي تحت هذا الكتاب أبواب، باب وجوب الصلاة، باب حكم الجماعة، باب أوقات الصلاة، باب القراءة خلف الإمام، كل هذه أبواب داخل الكتاب، فالكتاب كله كالبيت والقصر الكبير، وداخل هذا القصر غرف، ولكل غرفة بابها، وداخل الغرف جزئيات، فداخل الباب فصول ومسائل ومباحث.
وهنا بوجه صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى عناوين كلية، أو إلى أبواب إذا فُتح الباب منها وجدت فيه جزئيات عديدة، كأنه يقول: أعطيك رءوس أقلام.
(ألا أدلك على أبواب الخير؟ قال: بلى يا رسول الله، فقال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل) .
فذكر الصيام والزكاة والصلاة، وقد ذكرت من قبل في قوله: (تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان) ، فعاد إليها مرة أخرى ولكن بوجه غير الوجه الأول، فالوجه الأول بيّن فيه أركان الإسلام، وهنا بين فيه النوافل التي هي من أبواب الخير الواسعة، فبدأ بالصوم وآدابه وأحكامه وعوامل حفظه وصيانته، وكأنه قال: أولاً تصوم رمضان ثم قال: أنت طلبت ما يدخلك الجنة، والصوم جزءٌ منها، ولكن كيف تصومه؟ كأنه يقول: إن الصوم الذي يؤتي ثماره ويظهر مفعوله، هذا هو الذي يكون لصاحبه جنَّة.(64/2)
معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة)
قوله عليه الصلاة والسلام: (الصوم جنة) الجُنَّة: يقول علماء فقه اللغة: إذا اجتمعت الجيم والنون المضعَّفة جُنَّ، جَنَّة، جنين، جِنٌّ، كل هذه الألفاظ ترتبط في صلة قرابة في الدلالة بصفة عامة على شيءٍ مختفٍ مستتر، أو تدل على الخفاء والاستتار، فتقول: الجنين، هو موجود في بطن أمه مستتر عنا، تقول: الجن، نحن لا نراهم، والجُنَّة: هي ما تجِن الإنسان، أي: تقيه وتستره عن الضربات، والمِجَن: هو ما يتقي به الفارس ضربات عدوه.
فكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كنتُ أتَّقي ثلاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ ومُعْصِرُ يعني: وقايتي من أعين الناس، وعلى هذا يتفق العلماء على أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبَّه الصوم بالجُنَّة، ولو جئنا بدل النون باء، وضعنا النقطة من تحت صارت جبَّة، فإذا لبست الجبة كانت ساترة لك عن أعين الناس، وإذا تلبَّست بالصوم كان جنة لك عن الشيطان، وجُنَّة لك عن المعاصي، ولهذا جاء الحديث: (والصوم جنة ما لم يخرقها، قالوا: بم يخرقها يا رسول الله، قال: بكذب أو غيبة أو سباب) أو نحو ذلك.
أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(64/3)
المعنى الحقيقي للصوم
ولذا العلماء يقولون: الغيبة والكذب تخرق والاستغفار يرقع، فتخرق الجنة بكذب أو غش أو غيبة، فإذا استغفر رقعت خرقته، والثوب المرقع على كلٍ أحسن من الممزق.
إذاً: تصوير الصوم بأنه جنة كيف يتحقق؟ إذا جئنا إلى النصوص الواردة في الصوم وجدنا أن الإنسان يصوم عن شهوتي الفرج والبطن، حتى حال غيبته عن الناس عندما تثور عنده شهوة المأكل والطعام أمامه فإنه لا يتناوله، وإذا ثارت عنده شهوة الفرج وزوجته الحسناء على فراشه فلا يقربها، وهذا كله امتثالاً لأمر الله عز وجل، كما جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ، ومن هنا كان الصوم مربي الضمائر، وثمرته التقوى، كما قال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ، أي: لعلكم أن تكونوا على جانب عظيم من التقوى، وتكون لكم الوقاية من عذاب الله.
ومن هنا أيضاً جاء الحديث: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم) ، فالصوم يجعلك في جُنَّة، فلا ترد على من سابك أو شاتمك، فهل يمكن أن تبدأ أنت بالاعتداء؟! لا؛ لأنك بصومك تستجن وتتقي، ولا ترد على من يعتدي عليك، بل من سابك أو شاتمك تقول له: (إني امرؤ صائم) ، أي: لا أستطيع أن أجيبك لأني صائم، صائم عن ماذا؟ صائم عن الحلال الطعام والشراب، فكيف أفطر على هذا المحرم؟ ولهذا جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه: لا يتم صوم العبد حتى تصوم جوارحه.
فالعين تصوم فلا تنظر إلى ما حرم الله، واليد تصوم فلا تمتد إلى ما حرم الله، لا بأخذ مال الناس، ولا بالبطش بالضعفاء، والأذن تصوم فلا تصغي إلى حديث محرم، والرجل تصوم فلا تسعى إلى مكان محرم، والنفس تصوم فلا تتمنى وتحلم أحلام اليقظة في شيءٍ محرم، لأن أحلام اليقظة يمكن أن تجر إلى العمل الفعلي، فيدخل الإنسان في المعصية والإثم ظاهراً وباطناً، وتتعود وتتمرن تلك الجوارح شهراً كاملاً على الصوم، حتى تعتاد هذه الجوارح الطاعة، ولا تنتكس في حمأة المعاصي بسهولة، ولضمان استمرارية هذه الآثار ندبنا الله إلى الإكثار من صيام النافلة.
والنافلة قد تكون مقيدة ومطلقة، فمن المقيد بالزمان نجد صيام ست من شوال، يوم عاشوراء، يوم عرفة، الإثنين والخميس، ثلاثة أيام من كل شهر، ومن الصوم المطلق قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) ، أي يوم كان بدون تحديد.
إذاً: (فالصوم جنة) ، لكن قد تخرق هذه الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم مبيناً ذلك: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ، وكلمة (قول الزور) ، ليست مجرد شهادة زور في المحكمة بين اثنين، بل كل كذب فهو زور، لأنهم يقولون في اللغة: الزور ما كان جانبياً، تقول: فلان جاء زائراً، أي: من جانب البيت، وزور الإنسان مع الفم في مؤخر الحلق، فالقول الزور هو القول المنحني عن طريق الحق والاستقامة، فكل قول ليس مستقيماً مع الحق فهو زور، سواء كان غشاً في مبايعات، أو كان تدليساً، أو كان كذباً أو كان إيهاماً، أو كان سباباً، كل هذا من الزور.(64/4)
الحكمة من جعل قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم ... ) بين آية الصوم وآية الأهلة
ولذا في قوله سبحانه في {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] ، جمع باباً واسعاً من الآداب، وهنا كذلك: (الصوم جنة) ، وإذا استمر الإنسان في جُنَّة الصوم إلى أن جاء العيد وخرج رمضان، هل يمزق هذه الجُنَّة أو يحافظ عليها؟ يحافظ عليها، لكن ليس الحفاظ عليها من الطعام والشراب؟ لأن ذلك أصبح مباحاً له، بل يحافظ عليها مما حرم الله.
ولذا نجد أن الله لما ذكر فريضة الصيام في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ذكر بعدها مباشرة {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] وجعلها قبل آية الأهلة التي هي من لوازم الصوم، وبها يتحدد ويدخل الشهر، ولماذا هذا؟ أما كان يستطيع أن يجعل قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} قبل آية الصوم، أو بعد آية الأهلة، أو في سورة أخرى؟ والمقصد من ذلك -والله أعلم-: كأن المولى سبحانه يوقف الصائم عن الحلال، يقول الآن انتهيت من صومك، ويأتي الهلال وتفطر لشوال؛ لكن اعلم إن كنت صمت فعلاً شهراً كاملاً عن الحلال، فلا تفطر من الغد على الحرام، وتأكل أموال الناس بالباطل وتدلي بها إلى الحكام لتأكل فريقاً من أموال الناس بالإثم.
فتنعم بالاستتار في جبة غير ممزقة مرة من الزمان، فإن عرض لها شيء من الخرق جاء رمضان آخر ليجدد لك جبتك من جديد.
ولا أعتقد أن إنساناً فاتته لذة الاتقاء بجنة الصوم، حينما يكون في رمضان ويأتيه من يسول له بالمعاصي -يدفعه الشيطان دفعاً- فإذا به يتمالك نفسه ويصبر ويترك هذا ويقول ونفسه مرتاحة ومطمئنة: إني صائم، كل إنسان يشعر بهذا، وبالتأكيد من يسول بالمعاصي عندما يجد هذا الموقف من هذا الصائم سيستحي، ولذا يقول العلماء: هل يقول هذه الكلمة -إني صائم- في سره ليمنع نفسه، أو يقولها علانية يُسمع خصمه ليكف أذاه عنه؟ والأولى هنا -والله أعلم- أن يظهرها ويسمع خصمه مقالته.(64/5)
سبب إعادة ذكر الصوم والصلاة والصدقة في الحديث
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف ذكر لـ معاذ (تعبد الله لا تشرك به شيئاً) ، وحقيقة ذلك تحقيق لا إله إلا الله، بأن تنفي جميع الآلهة، ولا تعبد إلهاً قط إلا الله، بخلاف المشركين الذين يقولون: أجعل الآلهة كلها إلهاً واحداً، لأنه كان لهم ثلاثمائة وستون صنماً في الكعبة، وهو يريد أن يلغي هذا كله إلى إله واحد.
فحقيقته توحيد الله هو أن تعبد الله وحده، ويتحقق هذا في قولك (لا إله إلا الله) ، فلا مألوه ولا معبود بحق إلا الله، ثم جاء بعد ذلك بالصلاة والصيام وغيرها.
وهنا يقول له: (ألا أدلك على أبواب الخير) ، أليست الصلاة والصيام التي ذكرها أولاً من أبواب الخير؟ نعم هي منها، بل هي الخير كله، ولكن لماذا يعيدها هنا في أبواب الخير؟ للحديث النبوي مثلما يقولون ذوق وحلاوة، وله نور وطلاوة، ذكر صلى الله عليه وسلم أصول الإسلام التي تدخل الجنة؛ لكن أبواب الخير هي محل المنافسة، وهي محل الزيادة، فالصلوات الخمس وصوم رمضان وزكاة الفريضة وحج البيت، الكل في ذلك سواء، أهناك شخص عليه ستة فروض وآخر عليه أربعة؟ أهناك شخص عليه صيام شهر والآخر نصف شهر أو شهرين؟ الناس متساوون في هذا، نصاب الزكاة على الجميع سواء، عشرون دينار في الذهب، ومائتا درهم في الفضة، وأربعون شاة في الغنم، وخمس من الإبل، كل هذه معروفة عند الجميع وهم متساوون فيها، ولكن أبواب الخير تزيد وتتسع، وتضيق وتقل، فهي قابلة للزيادة، ولكن أركان الإسلام لا تقبل زيادة ولا نقصاً، فهي خمس صلوات، وكل صلاة لها عدد مخصوص.
يدلنا على هذا المعنى الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) ، والفرض ليس فيه زيادة ولا نقص ثم قال: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) ، لماذا قال (يتقرب) ولم يقل (يقرب) ؟ سبحان الله العظيم، لو قلت (يقرب) لتحقق بخطوة واحدة، لكن يتقرب، تدل على أنها خطوات، قد تزيد وقد تنقص نافلة بعد نافلة.
وذكر الصوم مرة أخرى ليس من باب التكرار بلا فائدة، فحديث البلغاء يتنزه عن ذلك، والمصطفى صلى الله عليه وسلم هو سيد البلغاء، إذاً: إعادة الصوم هنا تحت عنوان أبواب الخير لا يتنافى ولا يتعارض، ولا يكون مكرراً مع الصلاة والصيام التي ذكرت في أول الحديث، لأنها ذكرت هناك على سبيل الفرض والتحديد والإلزام، وذكرت هنا على أنها من أبواب النافلة وأبواب الخير التي تترك لجهد العامل.
وقد جاء عند مسلم: (أن أعرابياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! جاءنا رسولك يخبر أنك رسول الله، أحقاً ما يقول؟ قال: بلى، قال: فبالذي رفع السماء ونصب الجبال، وبسط الأرض وجعل فيها ما جعل، آلله أرسلك؟ قال: بلى.
قال: وأخبرنا رسولك أن الله افترض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، فبالذي رفع السماء، ونصب الجبال، وسط الأرض وجعل فيها ما جعل، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم) الحديث، وذكر فيه الزكاة والصوم والحج.
والرجل الذي جاء للرسول في المسجد فقال: أخبرني ماذا كتب الله علي من الصلاة؟ قال: (خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع) ، ثم ذكر الصيام والزكاة والحج، ثم قال: (والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال: أفلح إن صدق) .
وهنا الرسول يقول لـ معاذ: (ألا أدلك على أبواب الخير) ، لماذا لم يقل كن مثل ذلك الأعرابي؟ الأعرابي جاء بنفسه وأخذ نفسه بحد السيف، قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد ولا أنقص، فهو التزم وألزم نفسه بشيءٍ كبير، ما هو بهين، الذي لا ينقص مما فرض الله عليه، هذا التزام بأقصى ما يكون، فالرسول أخبر بأنه إذا نفذ هذا أفلح، ولكن معاذاً يسأل عن العمل الذي يقربه إلى الجنة، ومعاذ راغب في الخير، فكان هذا بياناً للأمة في شخصية معاذ.(64/6)
الصوم باب من أبواب الخير في كل وقت وحين
ومن هنا نجد بعض الناس إذا جاء رمضان قال: يا الله أعنا عليه، وإذا ذهب رمضان قال: الحمد لله الذي جعله يذهب بالسلامة، ونحن والله نقولها، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا أقبل رمضان قال: اللهم أعنا على رمضان، ونقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، إياك نعبد وإياك نستعين، اللهم سلمنا لرمضان وسلم رمضان لنا، فإذا انتهى رمضان قلنا: ربي لك الحمد والشكر، ثم نعيد ونفرح؛ لأننا أدينا ما افترض علينا، فهذه فرحة كبيرة.
ولكن يأتي الحديث ويعطي طعماً وهدية، ويدعو الناس للمواصلة، (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ، لكأن الحديث يقول إذا انتهى رمضان فلا تقفل باب الخير، ودعه مفتوحاً، فصم ستاً من شوال، وإذا صمت ستاً من شوال بعد رمضان فكأنك صمت الدهر كله، وبعد شوال في غيره من الشهور استُحب لك صيام الإثنين والخميس، أو ثلاثة أيام من كل شهر، وإذا جاءت العشر الأيام الأول من ذي الحجة ندب لك صيام التسعة الأول منها، ثم يأتي شهر الله المحرم الذي يكون فيه الصوم حبيباً إلى الله، وفيه يوم عاشوراء، وهكذا فيستمر باب الخير مفتوحاً ولا يغلق حتى الممات.
ولذا جاء في الحديث: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون) ، هذا باب من أبواب الخير وهو (الصوم جنة) ، وبقدر صومك، وبقدر حفظك لصومك تعظم تلك الجنة.
أظن أنك لو ذهبت للسوق، ورأيت الملابس الجاهزة أو الأقمشة الصوفية والقطنية، فلن تشتري إلا بقدر ما عندك من مال، فشخص يلبس جبة خفيفة على قدر ماله، وآخر من أحسن ما يكون من الأقمشة، ومن أحسن ما يكون من الخياطة والتفصيل، وكذلك بقدر الحفاظ على صومك بقدر نفاسة وغلاء جبتك، وبقدر ما هي غالية ونفيسة وقوية، بقدر ما تقيك الحر والبرد.
إذاً: هذا الباب واسع، لذا نجد أن هناك من كان يصوم الدهر، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم الدهر كله، ويتعين عند الجمهور تحريم صوم يومي العيدين وصوم يوم الشك، وأيام التشريق في منى فيها الخلاف فيمن لم يجد هدياً ويتعين عليه صوم ثلاثة أيام في الحج.(64/7)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صوم النفل
نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر، وقالت أم المؤمنين عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان) .
وجاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة، ثم رجع إلى قومه، وبعد سنة جاء ووقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وألقى عليه السلام فرد، ولم يعرفه، فقال: يا رسول الله! أما عرفتني؟! قال: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي وقفت عليك في العام الماضي، قال: ما الذي غيرك؟ قال: منذ فارقتك لم أفطر يوماً، قال: (لا صام من صام الدهر، صم ثلاثة أيام من كل شهر، فذاك صوم الدهر كله، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (صم الإثنين والخميس) ، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (صم يوماً وافطر يوماً) ، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: (أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) .
وبعض الصحابة في المدينة، حينما شدد على نفسه في الصوم مع قوله الرسول صلى الله عليه وسلم له: (أحب الصيام إلى الله صيام داود) ، وقوله: (صم يوماً وأفطر يوماً) ، فلما كبر وشق عليه ما اعتاده من الصوم قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقصد أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فحسب.
إذاً: المولى سبحانه وتعالى جعل رسول الله عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين، ومما أنزله قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، ومن رحمته ورأفته صلى الله عليه وسلم بالأمة، بل من صميم الرسالة؛ ألا يكلف أحداً ما لا يطيق من العبادات.
والنفر الثلاثة الذين تذاكروا عباداتهم، وقالوا: نذهب لبيت أمهات المؤمنين ونسأل عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، فسألوا أم المؤمنين عائشة، فقالت: ينام ويقوم، ويصوم ويفطر، قالوا: هذا عبد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أرقد، وقال الثاني: وأنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء.
وأم المؤمنين تسمع كلامهم من وراء الحجاب، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرت له مقالة النفر الثلاثة؛ سبحان الله! عباد الأصنام صاروا يتسابقون في الطاعة! ولكن هل سرّه ذلك ورضي به، وقال: الحمد لله الذي جعل أصحابي هكذا؟ لا والله، جاء إلى المسجد وجمع الناس وخطب وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما إني لأتقاكم لله وأعلمكم بالله، وإني لأنام وأقوم وأفطر وأصوم وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
وهل هم راغبون عن سنته عليه الصلاة والسلام والله يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ، وهذا باب من أبواب الخير؟!
الجواب
لا.
ولكن هذا باب فتنة عظيم، بل إن الشيطان ما جاء للبشر وأوقعهم في عبادة الأصنام والحجارة إلا من هذا الباب، باب الغلو في العبادات؛ لأن الإنسان له طاقة محدودة لا يطيق ما فوقها، كفرس حملته فوق طاقته فإنه تخور قواه ويسقط تحتك.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) ، وكذلك الجسم هو الفرس للإنسان، يواصل عليه السير إلى نهاية المرحلة التي كتبها الله له، مع تخلل فترات راحة بين الفينة والأخرى، كما في الحديث: (ساعة وساعة) حتى نصل إلى المراد دون أن تخور القوى وتضعف.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) ، تريد أن تسابق الإسلام أقوى منك إذاً: خاف صلى الله عليه وسلم على الناس الغلو، لأن الغالي يغلو ثم يعجز فإذا عجز هدم ما فات.(64/8)
الغلو في الدين وسبب الانحراف
والشيطان أوصل الناس إلى عبادة ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر من هذا الباب، وهو الغلو، فقد كان هؤلاء رجالاً صالحين قبل زمن نوح عليه السلام، ولما ذهب هؤلاء الناس جاء الشيطان لأولادهم، فقال: ما هذه العبادة التي لا تساوي شيئاً، آباؤكم وأجدادكم كانوا يقومون الليل ويصومون النهار، ويفعلون ويفعلون، اجتهدوا بالعبادة مثلهم سبحان الله، فهذا الشيطان يحث الناس على الاجتهاد في العبادة؟! وخالف النفس والشيطان فاعصهما وإن هما محضاك النصح فاتهم إذا كان بينك إنسان عداوة، وجاءك يوماً مبتسماً ويضحك، ونصحك فقال: اذهب من هذا الطريق فهو قريب؛ فاعرف أن في هذا الطريق مهلكة لك، لأن النصح لا يأتي من عدو، فالشيطان يأتي لهؤلاء ويحثهم على الزيادة في العبادة مع أنه يحترق من كثرة العبادة؛ لكن يرسم للخطوات نحو الكفر والوثنية بصبر وجلد.
فقاموا واجتهدوا ثم قال لهم: أنتم ما فعلتم شيئاً.
قالوا: ماذا نفعل أكثر من هذا.
قال: صوروا تماثيل للآباء في معابدهم، حتى كلما رأيتموهم نشطتم في العبادة! ، فأخذوا بالنصحية.
ونام الشيطان على أعصابه، حتى ذهب هذا الجيل ولا يدري عن الأجداد شيئاً.
ثم جاء للأبناء فقال: أين أنتم ضائعون? قالوا: ماذا؟ قال: لماذا لم تأتوا عند هذه الصور، ولم تلتفتوا إليها، وتلتفوا حولها ولو مرة واحدة في السنة.
قالوا: بماذا؟ قال: واحدة من العبادات اجعلوها لها.
قالوا: نعبد الله وحده.
قال: لا مانع، لكن واحدة فقط لهؤلاء الآباء والأجداد.
قالوا: واحدة لا بأس! وهكذا قليلاً قليلاً، وبدلوا الصور بالأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل.
ثم قال لهم: لا حاجة لأن تأتوا هنا، كل واحد يأخذ تمثاله أو معبوده، فيضعه في بيته يعبده.
وانتقلت العبادة من الله إلى الأصنام، ومن المعابد إلى البيوت، وعندئذٍ استراح وبلع ريقه عن كل المدة التي حرقت أعصابه فيها.
والسبب في هذا الغلو والمبالغات، ولذا فالرسول صلى الله عليه وسلم يحذر الأمة من الغلو، فنهى عن صيام الدهر، لأنه يأتي وقت ويعجز عنه، وربما كره هذه العبادة.
إذاً: الصوم في النوافل له أقسام، فمنه ما يكون في أزمنة معينة، ومنه ما يكون مطلقاً، وكل إنسان يأخذ على قدر طاقته وهمته واجتهاده.(64/9)
الصدقة برهان على صدق الإيمان
ثم نأتي إلى المال، هناك قال: (تؤتي الزكاة) ، وهنا قال: (والصدقة) ، لاحظ المغايرة في التعبير بين: الزكاة الصدقة، وكلاهما لفظ يستعمل مكان الآخر، بقول الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ،والتي يأخذها الرسول صلى الله عليه وسلم من المال هي زكاة فريضة؛ لأن الصديق يقول: (والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) ، وإنما يقاتلهم على الفريضة لا على النافلة.
ففي أول الحديث وضع أصول وقواعد ما يقرب إلى الله ويدخل الجنة من الفرائض وسماه زكاة، وهنا عند أبواب الخير فذكر الصدقة؛ ليؤكد أنها من النوافل وليست من الفرائض.
فقال: (والصدقة تطفئ الخطيئة) ، وإذا بحثنا عن العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي نجد أن بينهما ارتباطاً، فكلمة (صدقة) وكلمة (صدق) بينهما ارتباط في الصاد والدال والقاف، وهي الحروف الأصلية للكلمتين، أما التاء المربوطة فهي للتأنيث، إذاً: المادة الأساسية مشتركة بين صدقة المال وبين صدق القول، وحينما يقول القائل: أنا آمنت بالله وباليوم الآخر، يقول علماء البلاغة: هذه جملة خبرية، والجملة الخبرية هي ما تحتمل الصدق أو الكذب، فكل جملة تحتمل الصدق أو الكذب فهي جملة خبرية، وما لا تحتمل الصدق أو الكذب فهي جملة إنشائية كقول القائل: (قم يا زيد) فلا تحتمل صدقاً ولا كذباً، لأنها عبارة عن طلب قيام لم يكن موجوداً قبل الكلام، لكن (زيد قائم) يمكن يقول لك: لا، بل هو قاعد.
فالذي يقول: آمنت بالله واليوم الآخر.
هذا القول منه يحتاج إلى دليل على صدقه.
وقد جاء من قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان) ، والبرهان كما يقول علماء اللغة: الإشعاع الذي يكون أمام قرص الشمس، فكأنه نور يدل على حقيقة خفية، فالصدقة برهان على إيمان العبد بالله واليوم الآخر، لأن الأصل في تعامل الأفراد أن يكون على سبيل المعاوضة، تقدم له خدمة فيقدم لك مثلها، كأن تدفع له دراهم وتأخذ منه سلعة، فالبيع والشراء والإجارات كل هذا معاوضة.
لكن في الصدقة تدفع مالاً لفقير فأين العوض؟ هل أنت أخذت عوضاً في دفعك الصدقة للمسكين؟ لا، لكن يقينك يقول لك: إن العوض لن يكون هنا في هذه الدار، إنما سيكون في الدار الأخرى، فلا يدفع المسلم صدقة إلا ليبرهن على الاعتقاد الذي وقر في قلبه، بل ويعتقد ويوقن بأنه سيلقى أكثر مما قدم؛ لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245] ، وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ} [البقرة:261] .(64/10)
لفتة في بلاغة القرآن
وأريد أن ألفت النظر إلى أسلوب القرآن الكريم في هذه الأمثلة التي يخرج فيها المعنوي في صورة المحسوس، ففي هذه الآية قال: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ} فيجعلك تسرح بخيالك عند وضع الحبة وانفلاقها، وارتفاعها وسقيها، وظهور الأوراق الخضراء، ثم تفرعها إلى سنابل، وكل سنبلة فيها مائة حبة، وهكذا يمر على ذهنك شريط إيحاءات وتأملات تستوقف كل مؤمن أمام عظمة صاحب هذا الكتاب سبحانه وتعالى.
فالقرآن الكريم يوقف الشخص عند تلك التعبيرات، ويجسد له الصورة، مثلاً: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد:14] ، يضرب الله مثلاً للذي يدعو غيره فلا يستجيبون له، كمثل من وقف على حافة بئر، وفتح فاه ليبلغه الماء، فهل سيبلغه شيء؟! لن يصله شيء ولو انتظر عمره كله.
ومثال آخر قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] ، فليست هذه الصورة مثل قوله لو قال: (لا تنفعهم عبادة أصنامهم بشيء) ، فهنا جسد وجعل المعنوي في صورة المحسوس،.
والخضر مع موسى عليهما السلام، بعد نهاية الرحلة ومعرفة الجواب على الأسئلة، لم يقل لموسى: علمي بالنسبة لعلم الله لا يساوي قطرة من بحر، إنما أرسل الله عصفوراً، ووقف على حافة السفينة، ومد منقاره وشرب من البحر، فقال الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر.
الخلاصة: أن المؤمن بالله حقاً إذا تصدق كانت صدقته برهاناً على صدق إيمانه بالله، وأن العوض ينتظره يوم القيامة، ومن هنا كان المؤمن كلما قوي إيمانه ويقينه وتصديقه، كلما كان أشد إخفاءً لصدقته عن الناس، لأنه ليس له معهم غرض، ولا ينتظر منهم شيئاً، بل يخفيها على من تصدق بها عليه، وهو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) .(64/11)
الصدقة ليست حصراً على المال فحسب
(قوله: والصدقة تطفئ الخطيئة) .
والصدقة أوسع الأبواب؛ لأن الصدقة لا تتوقف على المال والغنى، بل الفقير له حظ في ذلك، وقد جاء أن فقراء المهاجرين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكوا له فقالوا: (ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم.
قال: أوليس الله قد جعل لكم ما تصدقون: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليله صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة ... ) إلى آخره.
والحديث الآخر: (كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) .
إذاً: باب الصدقة واسع ولو بالشيء الحقير، قال عليه الصلاة والسلام: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) .
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تأكل عنباً، ويأتي سائل، فتأخذ حبة وتعطيه، فيأخذها المسكين ويقلبها يميناً وشمالاً، فهذه حبة عنب، لكن لا تستقلها، فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] ، انظر كم في الحبة من مثاقيل الذر! وفي يوم من الأيام كانت عائشة صائمة، وأتاها مسكين، فقالت: لـ بريرة: أعطيه، قالت: ما عندي شيئاً، قالت فتشي، قالت: لا يوجد إلا قرص شعير تفطرين عليه في المغرب -وكان الوقت بعد العصر- قالت: أعطي المسكين وعند المغرب يرزق الله.
تمشي بريرة متثاقلة فدفعت القرص للمسكين، وجاء المغرب وقامت أم المؤمنين عائشة تصلي، وقبل أن تختم صلاتها إذا بطارق يطرق الباب، وتنتهي أم المؤمنين من صلاتها وتلتفت فإذا شاة بقرامها، أي: شاة ناضجة بلوازمها، قالت: ما هذا يا بريرة؟ قالت: رجل -والله ما قد رأيته أبداً- أهدى إلينا.
قالت: كلي، فهذا خير من قرصك.
ثم تقول بهذه القاعدة: لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أقوى مما في قبضة يده.
وكما يقول بعض العلماء، إذا كان الأجل محدوداً والرزق مضموناً، فهم تخاف؟ ولماذا تتعب نفسك؟ ما عليك إلا أن تأخذ بالأسباب وتتوكل على الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الصدقة تكون بأي شيء ولو بكلمة طيبة.(64/12)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [3](65/1)
الصدقة باب عظيم من أبواب الخير
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فلا زلنا عند حديث معاذ، ووصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ، تلك عادة الحياة.
أن الضد يقضي على الضد، فالماء ضد النار، والماء أقوى من النار.
ومن عجب أن يأتي حديث: (أن الملائكة لما وجدت خلق الجبال عظيم، قالت: يا رب هل خلقت خلقاً أعظم وأقوى من الجبال؟ قال: بلى، قالوا: ما هو؟ قال: الحديد، قالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من الحديد؟! قال: بلى، قالوا: ما هو؟ قال: النار -النار تذيب الحديد-، قالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من النار؟ قال: بلى، الماء، وقالوا: هل خلقت خلقاً أقوى من الماء؟ قال: بلى، المؤمن يخفي صدقته فلا تعلم شماله ما أنفقت يمينه) ، هذه قوة نفسية ومعنوية عجيبة.
فالضد يقضي على الضد، فالماء يطفئ النار، وهذا على سنن الحياة، ولكن قدرة المولى فوق هذا كله، فهو الذي أعطى النار خاصية الإحراق، ويقدر على أن يسلبها تلك الخاصية فتكون ناراً بلا إحراق.
وهذه نار النمرود، مكثوا سنين يوقدون النار ويجمعون لها، وبالمنجنيق ألقوا إبراهيم، فقال الله لها: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ، فسلبت خاصية الإحراق.
الماء سائل شفاف يضربه موسى بعصا صغيرة، قال الله: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18] ، هي عصا عادية، فيضرب بها البحر فينفلق: {كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] ، فالذي سلب الماء سيولته هو الذي سلب النار إحراقها.
وكذلك الحال في ناقة صالح عندما خرجت من جبل أصم، وعصى موسى يلقيها في الأرض فتصير حية تسعى، ويمسكها فترجع إلى سيرتها الأولى.
فمظاهر القدرة الإلهية في هذا الكون تبين لنا أن الله فاعل مختار، يفعل ما يشاء سبحانه، وذلك حتى ينتزع من الإنسان الجحود العنيد، وليوجد عنده الإقرار بقدرة المولى سبحانه وتعالى التي لا يجحدها إلا معاند: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] .
فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بوقائع قانون الحياة: بأن الماء يطفئ النار، وهذا شيء مشاهد ملموس، وكما أشرنا سابقاً، فإن السنة والكتاب يصوران المعنويات في صورة محسوسة، فالصدقة هي شيء من الطعام أو من المال تخرجه، فيكون لهذه الصدقة تأثير على الخطيئة، وهذا الأثر أمر لا ندركه بالحس ولا بالعقل؛ لأنه ليس عندنا إمكانيات لنتصور هذا الأمر، فيحيلنا صلى الله عليه وسلم على محسوس ملموس ندركه.
لكن ما هي العلاقة بين الصدقة والخطيئة والماء والنار؟ الماء سائل شفاف بارد، والنار مادة ملتهبة محرقة ليس لها جرم.
فكذلك الخطيئة معصية، والصدقة طاعة، وكلاهما ضد الآخر، والخطيئة لها تأثير في النفس، والصدقة لها تأثير على النفس، هذه بالطمأنينة والارتياح، والخطيئة بالقلق والانزعاج، ولا تجد إنساناً يخطئ خطيئة ويطمئن أبداً.
والذي يهمنا: أن الصدقة في مقابل الخطيئة تلغيها، كما أن الماء في مقابل النار يطفئها، بأي كيفية؟ الله تعالى أعلم.
ويذكر بعض العلماء لهذا الحديث رواية عند أحمد: (الصدقة تطفئ غضب الرب) ، وليس بينهما مناكرة، لأن حرارة الخطيئة من أثر غضب الرب، ولولا غضب الله سبحانه وتعالى على الخطيئة ما كان لها أثر يؤثر على الإنسان بالقلق والاضطراب، ولو كان المولى يرضاها ويحبها ما أثرت على الإنسان بشيء.
إذاً: لكونها داخلة تحت ما يغضب الله كان لها هذا التأثير، و (تطفئ غضب الرب) ، أي: أثر الخطيئة التي أغضبت المولى سبحانه؛ إذاً لا منازعة ولا معارضة بين الروايتين.
وقد جاء في الترغيب في الصدقات: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ، (كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس) ، ومن السبعة الذين يظلهم الله: الرجل الذي تصدق وأخفى الصدقة.(65/2)
قيام الليل من أبواب الخير
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم من أبواب الخير نافلة أخرى، فقال: (وصلاة الرجل في جوف الليل) ، وسُئِل صلى الله عليه وسلم: (أي الليل خير؟ قال: جوفه) ، وفي الرواية الأخرى: (ثلثه الأوسط) ، فصلاة الرجل في جوف الليل أول ما يتبادر أنها قيام الليل.
والأحاديث الواردة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، ويهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث وأضاف إليه الآية القرآنية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يستدل بكتاب الله على سنة رسوله، والسنة والكتاب متلازمان، وعند الشافعي قاعدة عجيبة يقول: كل حديث لرسول الله عليه الصلاة والسلام له شاهد من كتاب الله، لكن لا يدرك ذلك كل إنسان، فهنا قرأ صلى الله عليه وسلم الآية مستدلاً بها على صلاة الرجل في جوف الليل.
وقد يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية في موقف لا يشابه ما نزلت بسببه، ويستدل بعموم اللفظ بصرف النظر عن خصوص السبب، ولذا قال الأصوليون: العبرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن ذلك حينما جاء صلى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة يوقظهما لصلاة الليل، فقال علي رضي الله تعالى عنه: (إنما أنفسنا بيد الله متى ما شاء أن يبعثها بعثها، فيخرج من عنده صلى الله عليه وسلم وهو ينفض ثوبه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] ) ، وهي إنما نزلت في سبب آخر، لكن أخذها صلى الله عليه وسلم بعموم لفظها واستشهد بها على قضية علي، إذاً: الآية تشمل كل جدال وقع من إنسان في أي موقع.(65/3)
أفضلية العبادة في الليل على النهار
قوله في الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة:16] ، هي من صميم الموضوع الذي يتحدث عنه عليه الصلاة والسلام، فقول الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] إنما يكون ذلك في الليل.
إذاً: الموضوع متحد، واستدلاله صلى الله عليه وسلم بالقرآن مع السنة تقوية للدليل.
ويتفق العلماء على أن أفضل وقت لأداء النوافل ما كان ليلاً، سواء كانت ذكراً عاماً أو خاصاً، أو صلاة أو تلاوة لكتاب الله، أو تفكراً في خلق السماوات والأرض امتثالاً لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] ، وتفكرهم في ملكوت الله جعلهم يذكرون البعث والجزاء، ويخافون من النار، ويطلبون الله أن يقيهم عذاب النار نسأل الله أن يقينا وإياكم والمسلمين النار.(65/4)
قيام الليل عون للداعية على دعوته
ومعلوم أن قيام الليل كان فرضاً في حق النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، عسى: للترجي، وقوله: {يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} مبني على التهجد من الليل.
وقد أرشد الله رسوله إلى الاستعانة بقيام الليل على أداء الرسالة التي كلف بها: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1-2] ، ولم يكلفه قيام الليل كله حتى لا يكون في ذلك مشقة عليه، ولذا قال: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:2-4] ، فالزيادة مردها إلى الطاقة والاستطاعة بدون تحديد، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4] ، هنا يجمع المولى سبحانه في هذا التشريع بين قيام الليل بالصلاة وترتيل القرآن.(65/5)
المفاضلة بين إطالة القيام والإكثار من الركعات
وهنا مسألة سئل عنها ابن عباس: إذا كان في رمضان فأيهما أفضل: تقليل الركعات وإطالة القراءة، أم العكس؟ كل واحدة فيها مزايا؛ فكثرة الركعات فيها تكبير وركوع وسجود، وكل ركعة لها أجر، وأقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، وطول القراءة فيها إمعان وتدبر لكلام المولى سبحانه، وقد أجاب ابن عباس فقال: أنت مرتاد لنفسك، فاختر لنفسك.
والمرتاد: الراعي حينما يكون له غنم يرتاد لها مواطن الرعي، فحيثما يجد الخصب والمرعى الصالح يرتع، فكذلك المسلم هو يرعى ويسوم نفسه في مرعى وحدائق ورياض العبادة، فالعمل الذي يحبه ولا يراه شاقاً عليه فليفعله فأحياناً يرغب في القراءة، ويكون ذهنه حاضراً فيها، والله سبحانه وتعالى يشرح صدره، ولعله لو قرأ آية وأمعن فيها أن يفتح الله عليه بسببها ما لا يعلمه إلا الله، وأحياناً يكون ذهنه مشغولاً، أو فكره مشوشاً، وربما أن الحركة تكون أنسب له، في إذهاب ما يشغله، فأي الحالتين قدر عليها وسهلت عليه فهي الأولى بالفعل.
وهنا الله سبحانه وتعالى يجمع لرسوله {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:2-4] ، يهمنا في قيام الليل ترتيل القرآن قليلاً كان أو كثيراً.
وقد جاء عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يقرأ القرآن في ليلة، وقد ذكرنا بعض حالات من السلف، كان الواحد يقرأ القرآن في ليلة، فبدأ يتأمل حتى آل أمره إلى أن يقوم الليل كله بسورة الفاتحة، يتدبرها ويتأملها ويراجعها.
وقال الله عن جوف الليل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6] ، ناشئة الليل المقصود بها، صلاة الليل، كما عليه الجمهور، ويكفي ما أشارت إليه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في وصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ولما سئل عن ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) .(65/6)
معنى قوله تعالى: (يدعون ربهم خوفاً وطمعاً)
وهنا في قوله سبحانه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة:16] ، لعل {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} عامة، و {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أخص العبادات لأنه كما جاء في الحديث: (الدعاء هو العبادة) ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .
وهل الإشارة في قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يقصد منها الدعاء بذاته، أم الصلاة التي فيها الدعاء؟ ذكر ابن كثير عند هذه الآية الكريمة أن معاذاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت مع النبي في سفر فدنوت منه فسألته وذكر هذا الحديث، ثم روى ابن كثير حديث: (عجب ربنا لرجلين، رجل نهض من فراشه ومن تحت لحافه ومن بين أحبته وقام يصلي لربه) فالحديثان يدلان على أن القيام المقصود منه الصلاة، وهكذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق عبد الله بن عمر: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) ، فيقول سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: فما ترك قيام الليل بعدها.
وبعض العلماء يفسح المجال مع الصلاة للذكر ومدارسة العلم.
وقد قيل لـ سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه: انظر إلى بني فلان، يذهبون في وقت القيلولة إلى المسجد يصلون الظهر ويحيونه إلى صلاة العصر، يذكرون الله، قال: يا ابن أخي ليست هذه بالعبادة، العبادة التأمل في كتاب الله والتدبر في معانيه واستنتاج المسائل والفقه إلى آخره، وأشرنا إلى الشافعي الذي كان يبيت ليله مستلقياً يتأمل في حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى الصبح بوضوء العشاء.
إذاً: يدعون ربهم هنا عامة، فقد يجلس إنسان يدعو ربه، أو يتأمل في ملكوت الله في سكون الليل وليس هناك ما يشوش عليه، فيستجمع حسه كله، ويوجه فكره كله إلى هذا العالم، وما يجري فيه، ويستدل بهذا المحسوس على ما غاب عنه.(65/7)
أمّن يجيب المضطر إذا دعاه
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الدعاء عند الاضطرار مستجاب، ولو كان الداعي كافراً، لأنه يتوجه إلى الله في تلك الحالة ويدعوه وحده، ففي تلك اللحظة يكون مؤمناً بقدرة من توجه إليه ودعاه، ويعلم بأنه قادر على إجابة مطلوبة، كما جاء في الحديث: (لأنصرن المظلوم ولو كان كافراً، علم أن له رباً فدعا) ، أي: لجأ للدنيا كلها فما أنصفه أحد، فتوجه إلى الله، فهل يتركه الله؟ لا.
يقولون في بعض السير أن الله سبحانه عتب على موسى عليه السلام في حق قارون، فعندما أمر الله الأرض أن تأخذه، فكان يغوص فيها أمام مرأى ومسمع من موسى عليه السلام، وكان ينادي موسى عليه السلام، فلم يجبه، فقال الله لموسى: يا موسى يناديك قارون في حالة الشدة فلم تجبه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته.
سبحان الله، ماذا كان يريد المولى منه إلا أن يرجع إليه، هل المولى كان يريد من قارون أن يظل في طغيانه، أو يريده أن يرجع له ويتراجع طغيانه وكبره؟ كان يريده أن يرجع إلى العبودية، فلو آمن قارون بما جاء به موسى عليه السلام لقبله الله؟ {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ، سبحان الله، موسى كليم الله يوحي إليه الله أن يذهب إلى فرعون الطاغية ليقول له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى، وليقول له: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18-19] ، ما جاء له وقال له: يا كافر يا بعيد يا خسيس كما يفعل بعض الناس مع إنسان يقع في هفوة، فيقوم بالسب واللعن، لماذا يا أخي؟ ما الفرق بينك وبينه؟ الذي ابتلاه قادر على أن يتبليك أنت بأخس من هذا؟ فإذا رأيت أن الله هداك ووفقك وجنبك هذا الخطأ، ورأيت أخا لك في الله، زلت به قدمه وتورط في خطيئة، فلا تزده ورطة إلى ورطته، بل مد له يدك لتنقذه.
الرسول صلى الله عليه وسلم لما جيء برجل قد شرب الخمر جلده، فتكلم رجل عليه بكلمة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (لا تعن الشيطان على أخيك عليه) أي: أنك أنت إذا سببته فر منك، وإذا فر منك ذهب إلى الشيطان، كرد فعل عكسي!(65/8)
اللين والحكمة في الدعوة إلى الله
فهنا تعليم وتوجيه وإرشاد للدعاة إلى الله بالرفق: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} لا بالعصا، بل {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] .
وأذكر قصة هنا: رئيس المحاكم الشيخ عبد الله بن مزاحم الله يغفر له، في عام (63هـ) جاء إلى المدينة مع الشيخ ابن صالح والشيخ الخيال، وكان في منطقة بدر شجرة يعظمها الناس -مثل ذات أنواط- فأرسل رجلاً من الهيئة إلى أمير بدر ليأتي إلى تلك الشجرة ويقطعها.
عمر رضي الله تعالى عنه قطع الشجرة التي وقع تحتها بيعة الرضوان؛ لأنه لما حج ونزل هناك، وجد الناس، يصلون ثم يذهبون فسأل: أين تذهبون؟ فقيل له: يذهبون ليصلوا تحت الشجرة التي بايع عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعها مخافة أن يفتتن الناس بها-.
الخلاصة: ذهب مندوب الهيئة ليقطع الشجرة، فذهب ليصلي المغرب، ومن الغد سينفذ مهمته، جاء إلى المسجد لصلاة المغرب ينتظر الأذان، فيأتي رجل فلاح فصادف أن جلس بجوار هذا الشخص الذي من الهيئة، وعند الجلوس قال: يا رسول الله، فالتفت إليه مندوب الهيئة وقال له: هل أنت مشرك؟ لا تقل هذا، بل قل: يا ألله! ولا تناد غير الله، فالتفت إليه الرجل وقال: أنا مشرك، بل المشرك أنت وأبوك وجدك.
وحصل نزاع بينهما، وفضَّه الناس.
ومن الغد ذهب مع رجال الأمير إلى الشجرة وقطعوها وانتهت قصتها.
وعلى رأس السنة ذهب الشيخ عبد الله في جولة إلى منطقة بدر، وبقدر الله الفعال لما يريد يدخل ذلك المسجد وينتظر الصلاة ويأتي ذاك الرجل نفسه ويجلس بجواره ويقول: يا رسول الله، فيلتفت إليه هذا العالم الجليل، ويقول: اللهم صل وسلم وبارك عليه، صلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله.
وقال للرجل: أرى أنك تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: إي والله أحبه بأمي وأبي.
قال: ولكن أرأيت ما تقوله أنت عند قيامك وقعودك أحب إليك أم الذي كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا قام أو قعد.
قال: لا والله الذي كان يقوله عليه الصلاة والسلام أحب إلي ولو كنت أعلمه ما تركته.
قال: كان يقول: يا ألله، إذا جلس وإذا قام قال: يا ألله، وفي كل شئونه يقول: يا ألله.
فالتفت إليه الرجل وقال: يعلم الله إن وجهك وجه خير، في العام الماضي جاءنا واحد وجهه وجه شر، وذكر له قصته.
ثم قام هذا الرجل من عنده، وقال له: أين أنت نازل؟ قال له: عند الأمير.
ذهب هذا الرجل لأمير قبيلته، وعرض عليه أن يستضيف هذا الرجل، فأضافه عنده، ودار بينهما هذا الحوار.
قال الشيخ لهذا الرجل: أتحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: عجباً والله! هل من مسلم في الدنيا لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل الإيمان إلا بعد محبة رسول الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) ، وأخذ الرجل يبكي.
قال له: علام تبكي.
قال: أبكي على ما سفك من دماء منا ومنكم.
قال له: لماذا؟ قال: جاءنا أشخاص جهال يكفروننا لأننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلمونا حقيقة التوحيد، فلو جاء مثلك، وقابلنا أول الأمر أمثالك، والله ما اختلفنا معكم في شيء.
أقول أيها الإخوة: إن من صلب الدعوة إلى الله -لكل من يتصدى لهذا الأمر- أن يلتزم الداعية الحكمة والرفق بالمسلمين.
هذان شخصان مع شخص واحد وفي موضوع واحد، وفي لفظ واحد، كيف كانت نتيجة كل منهما؟ الأول خصومة ومشاجرة، والثاني محبة وقبول للحق ودعوة إليه، المولى عز وجل يقول: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] ، أي: لا تسبوا أصنامهم فيسبوا الله، بل اتركوهم وخذوهم بالحكمة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف يدعو ثقيفاً، وكان موقفهم في غاية من الإساءة، حتى سلطوا عليه السفهاء، فرموه بالحجارة، حتى أدموا قدميه، ويقف ذلك الموقف العظيم فيقول: (إلى من تكلني، إلى قريب يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن رحمتك أوسع لي، أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) وينزل ملك الجبال يقول له: تريد أن أطبق عليهم الأخشبين يقول: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) .
ويدخل مكة في جوار رجل مشرك، والأصنام معلقة مثبتة في جدران الكعبة بالحديد والرصاص، ويبقيها على ما هي عليه، ويأتي وقت الهجرة، ويخرج تحت ظلال السيوف، {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، ويأخذ التراب ويضعه على رءوسهم ثقة بالله، الذي ملأ قلب رسوله يقيناً عندما أُسري إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى السماوات.
وجاء في فتح مكة، فماذا فعل؟ يدخل في رحاب الكعبة، وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81] ، وبالقضيب يشير إلى الأصنام فتتهاوى وتتساقط.
مع العلم أن الأصنام كانت موجودة من أول بعثته صلى الله عليه وسلم، وربما استند إلى بعضها، ولم يلتفت إليها؛ لأن الوقت ما حان ليكسرها، ولو كسر صنماً واحداً لكسروا شوكة المسلمين، ولن يقاومهم أحد.
ولما جاء الأوان كان يهدمها بإشارة -قبل أشعة ليزر- قضيب يشير به، يقول ابن كثير: ما أشار لوجه صنم إلا خر لقفاه، ولا أشار في قفا صنم إلا انكب على وجهه.
فعندما دخل مكة في جوار رجل مشرك، قد كان يستطيع أن يأمر ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، لكن حكمة الدعوة وسياستها اقتضت غير ذلك.
وقبل الهجرة بفترة يأتي جبريل إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومعه البراق، ويركب إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماوات السبع، وإلى سدرة المنتهى، ثم كان قاب قوسين أو أدنى إلى آخره، ويرجع إلى مكانه.
ولما أُمِر بالهجرة، هيأ أبو بكر الرواحل، وجهِّز الزاد، وبحث عن الدليل، وكان رجلاً مشركاً - ابن أريقط - ليمشي بهم في طريق غير مسلوك، ويخرجون في الليل ويدخلون الغار.
سبحان الله أما كان بإمكان البراق أن يوصلهم في نصف الليل؟! لا.
لأن رحلة الإسراء والمعراج رحلة تكريم وتشريف وإيناس، فقد كانت مواساة لما لاقاه النبي عليه الصلاة والسلام من أهل الطائف وأهل قريش، فالأنبياء يستقبلونه في بيت المقدس، ويقدمونه فيصلي بهم، فهذا تعويض كبير جداً، بل عرج به إلى سدرة المنتهى، بل يتجاوز السدرة ويقف جبريل ويقول هذه نهايتي تقدم أنت يا محمد.
ماذا يقدر الإنسان إذا كان موقف {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:8-18] .
{دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} من يستطيع أن يحدد الدنو المكاني أو المكانة، أين الذات وأين المكان وأين الزمان وأين وأين، فهذه أمور لا يقدر العقل على تصورها، وتترك إلى قدرة المولى سبحانه.
وفي الغار وأبو بكر خائف يأتي المشركون بعددهم وبسيوفهم فيقفون على فم الغار، أعينهم تقول لهم: الأثر ينتهي هنا، وعقولهم تقول لهم: لم يدخل الغار أحد، وإلا لكان قد مزق نسج العنكبوت، وكسر بيض الحمام ولم يعلموا أن العنكبوت والحمام من جند الله، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ، فأرسل لهم جنوده، بل أرسل أضعف جنوده احتقاراً لهم، كأنه يقول: كيدكم وجمعكم وعددكم وعدتكم لا تساوي نسج العنكبوت عند الله.
يقول الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله، لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا.
وبكل طمأنينة، وبكل ارتياح، وبكل يقين يرد عليه: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ، يقول الله حاكياً عن ذلك: {إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ماذا؟ ما قال اثنين، قال: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] ، حتى لا يقال: يمكن العدد ليس له مفهوم، فيمكن أن يكونوا ثلاثة أو أكثر.
{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] ، والغار لا منفذ له إلا من جهة من يطلبونهما، {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وهذا هو برد اليقين الذي أخذه من رحلة الإسراء والمعراج؛ لأنه رأى ملكوت الله، ورأى آيات الكون، ورأى ثمار أعمال أمته، ورأى الجنة ودخلها، ورأى قصور بعض أصحابه، رأى قصراً لـ عمر بن الخطاب وفيه الجواري فأراد أن يدخل فرجع، يقول: تذكرت شدة غيرتك يا عمر، فيبكي عمر ويقول: أو منك أغار يا رسول الله؟ فالغيب عنده أصبح حاضراً مشاهد! نرجع إلى الحديث: الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) ، وذكر الصلاة في جوف الليل، واستطرد الحديث إلى الرفق في الدعوة، وإلى ما كان منه صلى الله عليه وسلم في صبره على قومه، وترك الأمور لأوقاتها ومناسباتها، وترك الأصنام معلقة، وجاء يوم الفتح ويشير إليها بقضيب، وانتهى الأمر وقضي على دولة الشرك في النهاية، نزل {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ، ونزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] .(65/9)
لطائف في الدعاء
ويبين صلى الله عليه وسلم من نوافل العبادات اليقظة أو الانتباه أو المجافاة {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} .
وبيَّن (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ، انظر كلمة (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ، لماذا لم يقل: يدعون الله، مع أن الدعاء يتناسب مع الله، لأن الدعاء مخ العبادة، والعبادة إفراد الله بالعبادة.
الجواب -والله أعلم- أن لفظ الربوبية أقرب إلى العطاء، وإلى جلب الخير ودفع الشر، كما في أول الفاتحة: {رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] ، فالربوبية أقرب إلى العطاء، والألوهية أحق بالعبادة والإفراد لله وحده.
قال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} لأن ربهم عودهم العطاء، إذاً: عطاء من الرب لعباده، والألوهية استحقاق للإله على عباده، فالربوبية إعطاء العباد ما يربهم، أي: يصلحهم، والألوهية: تستوجب على العباد إفراد الله بالعبادة، ولذا يقول علماء العقائد: الربوبية فيض من الله على العبد، والألوهية عمل العباد إلى الله، فهي إفرادك الله بالعبادة، فلا تعبد غيره، وهو لا إله إلا الله.
الربوبية تفيض بفضلها وخيرها على العباد، والألوهية تطلب إفراد الله بالعبادة.(65/10)
الدعاء إما لرغبة في شيء أو رهبة من شيء
فهنا {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} وصورة الدعاء فيها مقابلة عجيبة، {خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف:56] ، فيجتمع الخوف والطمع، فالعادة أنك لا تخاف من إنسان مع كونك تطمع فيه، ولكن المولى سبحانه هو القادر على هذا وهو محله، أنت في حياتك دائر بين الخوف والطمع، وكما قالوا: مطالب العقلاء في أحد أمرين: جلب نفع أو دفع ضر.
هل عندك طلب في حياتك أكثر من أن تجلب لنفسك نفعاً أو تدفع عن نفسك ضراً؟ لا يوجد.
الذي يهمنا في هذا أن الشخص عندما يقوم في جوف الليل ويسأل ربه، فإنه إما أن يقول: أعطني أو اكفني: أعطني دنيا أعطني ديناً أعطني ولداً أعطني صحة أعطني رضاك أعطني الجنة أو: اكفني شر نفسي شر الشيطان شر المعصية شر خلقك شر كل ما تعلم أنه شر يا ألله.
ولذا من الآثار: أسألك من خير ما سألك منه نبيك صلى الله عليه وسلم وما علمت منه وما لم أعلم وأستعيذك من شر ما استعاذك منه نبيك صلى الله عليه وسلم، ما علمت منه وما لم أعلم.
إذاً {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا} بأن يكفيهم ما يخافونه، وأشد ما يخافه الإنسان هو النار.
{وَطَمَعًا} أعظم ما يطمع فيه العبد هو الجنة والنظر إلى وجه الله الكريم.
ولذلك لما أنشد النابغة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً قال: إلى اين يا أبا فلان، قال: إلى الجنة، قال: إن شاء الله، وقصة ربيعة بن كعب مع الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا ربيعة سلني.
قال: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال له عليه الصلاة والسلام: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود) .(65/11)
متى يغلب جانب الخوف على الرجاء والعكس؟
وهنا يذكر بعض العلماء: أن الإنسان عند أول عمره وشبابه الأفضل له أن يغلب جانب الخوف على جانب الرجاء؛ لأن جانب الخوف يجعله يبتعد عن المعاصي، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] ، وإذا كان في منتهى العمر وحالة الضعف فليغلب جانب الرجاء، لأنه كما في الحديث: (أنا عند ظن عبدي بي) ، (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) .
وجاء عن الحجاج لما حضرته الوفاة، فعاده بعض من يتشفى به، فلما خلا بنفسه قال: يا ألله، كل الناس يسيئون الظن بي، وأنا أحسن الظن بك يا ألله.
إذاً: يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، أي: منهم من يدعو ربه خوفاً، ومنهم من يدعو ربه طمعاً، بل إن الإنسان في ذاته يكون ساعة في خوف وضيق وحرج، فيسأل الله الفرج، كالثلاثة الذين انطبق عليهم الغار فدعوا ربهم لينجيهم.
وكذلك إذا كان في سعة من العيش، وإذا كان بعيداً عن الضيق، فإنه يسأل الله ربه العافية، ويسأل ربه طمعاً في الخيرات.
إذاً: (خَوْفًا وَطَمَعًا) تدور عليها مطامع العقلاء، وتتوزع عليهما أحوال الداعين، سواءً كانوا في مقتبل العمر أو في منتهاه، أو كانوا في ضيق أو في سعة، والآية جمعت بهذين اللفظين اللذين عليهما مدار السؤال كله أينما كان، وكيفما يكون.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(65/12)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [4](66/1)
تيسير الخير لمن وفقه الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فلا زلنا عند حديث معاذ، ولنا وقفة عند قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله) ، قوله صلى الله عليه وسلم: (على من يسره الله) ، فيها وقفة ضراعة وإنابة، ووقفة عودة العبد إلى ربه، وقفة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .
لنعلم أيها الإخوة أن حقيقة التوفيق بيد الله، فكم من قوي في بدنه يشق عليه أن يركع وينحني لله، وكم من غني في ماله تشح نفسه أن تجود بدرهم في سبيل الله، وصدق الله العظيم: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ، والخشوع عمل القلب، و (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء) .
قوله: (وإنه ليسير على من يسره الله) : فمن وجد نفسه على طريق مستقيم وتيسرت له عبادة ربه فليحمد الله، ولا تغرنه نفسه، وليعلم أن هذا تيسير من الله له، وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه يقول: والله إني لا أهتم لإجابة الدعاء فقد وعد الله بها، ولكني أهتم للدعاء نفسه، فإذا وفقت للدعاء فقد استجاب الله لي.
حتى الدعاء فإنك ترفع أكف الضراعة إلى المولى تسأله من خيري الدنيا والآخرة، فتلك نعمة من الله عليك.(66/2)
فتح أبواب الخير لمن أراد الزيادة
ووصلنا في هذا الحديث أيها الإخوة إلى أبواب الخير، وذكرنا منها: (الصوم جنة) ، والصوم له باب في الجنة يقال له الريان يدعى منه الصائمون.
وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم باباً لمن يقوم الليل، وباباً لمن يتصدق في السر، وباباً لمن يجاهد، وكما هو معلوم أن أبواب الجنة ثمانية، يدعى كل جنس وطائفة من باب خاص بهم، قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله! ما على من يدعى من تلك الأبواب ضرورة، وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم) وإن لم يكن أبو بكر منهم فمن يكون؟ الصديق الذي يقول صلى الله عليه وسلم في حقه: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم) ، فلا يستبعد أن يدعى منها كلها.
قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} لماذا؟ {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] ، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124] .
فهو أمة وهو إمام، وذلك لأنه ابتلي فوفى، {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] ، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:104-107] .
فقوله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ} كان هذا البلاء بالتكاليف التي كلِّف بها، وقد ابتلاه الله ولم يبتلِ أحداً كما ابتلى إبراهيم عليه السلام.
وقد توقفنا عند قوله عليه الصلاة والسلام: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل) ، والمقصود بالصلاة في جوف الليل: صلاة النافلة، كما كان الكلام على الصوم وعلى الصدقة فكذلك الصلاة، أي أن أبواب الخير هنا هي للنوافل، وما ذكِر في أول الحديث عند قوله: (تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت) ، يخص الفرائض، وأما الشهادتان فداخلة في قوله: (تعبد الله لا تشرك به شيئا) .
وأبواب الخير هنا هي التزود من النوافل، وأشرنا إلى أن الفريضة محدودة، وأن النافلة مجالها واسع، ونجد أن الإسلام جعلها من درجات التفاضل بين العباد، فعلى حسب همة العبد ويقينه يكون أخذه منها.(66/3)
حكمة الله في تكليف عباده بما يطيقون وجوباً وبما زاد تطوعاً
وهنا نقطة أود أن تظهر وتنكشف لنا جلياً، وهي أن الإسلام يضع حداً أدنى يستوي فيه الجميع، ثم يترك المجال مفتوحاً، ويجعل سلَّم العروج إلى الملأ الأعلى مفتوحاً، وكل بحسب استطاعته وقدرته، كما جاء في قارئ القرآن أنه إذا جاء يوم القيامة يقال له: (اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) ، فكل آية يقرؤها يصعد درجة، ويقف عند آخر آية يقرؤها، فكذلك أعمال الخير، يكون لها حد أدنى يستوي فيه التكليف للجميع، وأما الحد الأعلى فكل بحسبه، والتسابق والمنافسة في فضائل الأعمال باب مفتوح.
نأتي أولاً إلى نص القرآن في الصوم، نعلم جميعاً بأن الله افترض الصوم بالتدريج، وكان فيه التخيير، ثم قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:183-184] ، كلمة (يطيقونه) ربما يجد طالب العلم في بعض التفاسير زيادة لفظة (لا) فيكون المعنى: (لا يطيقونه) ، وقراءة علي رضي الله تعالى عنه تفسر المعنى: (يَطَّوَّقُونَه) بين قولهم: والشخص يَطَّوَّق الفعل، ويُطِيْق الفعل، فرق بعيد، فالذي يطيقه أي أنه في طاقته وحدود قدرته، لكن (يَطَّوَّقه) بوزن يتفعَّلهن، والمعنى: يستطيع أن يأتي به ولكن في أقصى درجات الطاقة، والمقصود من الآية: والذين يجهدهم الصوم مع القدرة عليه فعليهم فدية -هذا كان أولاً- {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] ، فهذا حد أدنى للجميع، {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] ، أي: أطعم أكثر من مسكين بأن أطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر، على قدر جهده وطاقته، فذلك خير له.
ثم رجع إلى الصوم، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] ، فهذا في التطوع، لأن الصوم يرجع على النفس.
نأتي في المعاملات {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] ، ثم قال بعدها: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ} [النحل:126-127] ، فيعطيك حد المساواة الأدنى: من اعتدى عليك فلك الحق أن ترد بمثل ما اعتدي عليك، ولكن إن صبرت ولم ترد، ولم تجاز السيئة بسيئة مثلها فقد دخلت باب التسابق في الخيرات {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] ، ويأتي {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] .
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} [النحل:126] ، أي إن عاقبتم فعاقبوا بالمثلية، ولكن إن صبرتم عن العقوبة لهو خير للصابرين، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} [النحل:127] ، إذاً: هناك تدرج.
وإذا جئنا في هذا المجال عند الأدباء أو عند علماء الاجتماع في المعاملة بالمعروف أو بالإحسان أو بالمقاصة في المعاملة، نجد الشاعر يقول: إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب تارة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه يقول لك: سامح واعف حتى لا تصير منعزلاً وتعيش وحيداً، يعني اشتر صديقك بأن تصفح عنه، ولكن القرآن يقول: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:126-127] ، فيدعوك أن تصبر لوجه الله لا للمكافأة، ومن خير ما قيل في هذا عند الأدباء: وكنت إذا الصديق أراد غيظي وأشرقني على حنق بريقي غفرت ذنوبه وعفوت عنه مخافة أن أعيش بلا صديق وهنا يقول تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126] ، أي: هو خير لهم عند الله، فكأن المؤمن يتدرج في الكمال بالعفو والمسامحة لوجه الله لا لعوض يرجوه في المجتمع.
وإذا جئنا إلى العبادات نجد جميع نوافل العبادات بابها مفتوح، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) ، والمرأة التي جعلت لها حبلاً في السقف، حتى إذا غلبها النوم كانت تمسك الحبل، فقال صلى الله عليه وسلم: (مه! ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) ، وقال أيضاً: (خذوا من الأعمال ما تطيقون) .(66/4)
صلاة النافلة من أبواب الخير
قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} [السجدة:16] نص في قيام الليل، وهذا باب جديد من أبواب الخير بعنوان الصلاة، الأول كان بعنوان: الصوم، والثاني كان بعنوان: الصدقة، والثالث هنا بعنوان: الصلاة.(66/5)
هل المرأة داخلة في قوله: (وصلاة الرجل في جوف بيته)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلاة الرجل ... ) هل يؤخذ هنا بمفهوم المخالفة، فلا تدخل المرأة في هذا الحديث، أم أنها داخلة؟
الجواب
من المعلوم أن الرجال مقدمون على النساء، وإذا ذكر الرجال في القرآن فالنسوة تبع، إلا إذا جاء نص يدل على خروجهن، ويدل على هذا الدخول أيضا ما جاء في الحديث: (رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) .(66/6)
فضل قيام الليل
من المعلوم أن أحاديث صلاة الليل مستفيضة وكثيرة جداً، ويكفي في ذلك سورة المزمل، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ، أي: في ظلمة الليل.
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} ثم قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] ، أي: أنهم جمعوا بين الصلاة والزكاة.
{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، فلا تعلم أي نفس عملت خيراً ما ستجازى عليه مقابل ذلك الخير، ولا يعلم أي إنسان جزاء أداء فرائض الصلاة والصيام والجهاد في سبيل الله، لكن هنا {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} فلماذا خص قيام الليل بهذا الحكم مع أنه عام لكل عمل؟
الجواب
لما كانت عبادتهم خفية على الخلق والناس نيام، كان الأجر كذلك كأنه يقول: أنت عملت لي في خفاء عن العالم، وأنا أخبئ لك أجرك فلا يعلمه أحد والجزاء من جنس العمل.
وإذا كنت تعلم أن أجر هذا العمل خفي، لم يطلع عليه أحد إلا الله، فستكون نفسك مشتاقة إليه، بخلاف الشيء المكشوف الذي يعرفه الكل، ولذا كلما كان الأجر خفياً كلما كانت النفس تتطلع إليه أكثر.(66/7)
صلاة النافلة تجبر نقص الفريضة
ومما يجدر التنبيه إليه أن لكل ركن من أركان الإسلام نوافل، وهذه النوافل بمثابة الضمان لما عسى أن يكون في الفريضة من نقص، وذلك مثلما تسافر بسيارة فتأخذ العجلة الاحتياطية معك، فأنت لا تمشي على تلك العجلة الزائدة، لكن من باب الاحتياط، حتى إذا حصل على عجلة من عجلاتها أو إطار من إطاراتها خلل، بدلته بالعجلة الاحتياط الجاهزة عندك، وكذلك نوافل العبادات، كما جاء في الحديث عن الصلاة: انظروا هل لعبدي من تطوع، قالوا: بلى، قال: اجبروا نقص فريضته من نافلة صلاته.
يقول ابن عباس: وهكذا جميع الأعمال.(66/8)
أقسام صلاة النافلة
ونافلة الصلاة تنقسم إلى قسمين: راتبة مع كل فريضة، وقسم مطلق، والمطلق منه ما هو مقيد بزمن، ومنه مطلق لا يقيد بزمن.
وأهم النوافل رواتب الفريضة، ورواتب الفريضة أيضاً تتفاضل، فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات كان يصليها بالليل والنهار) ، وجاء حديث آخر: (من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة) .
والعلماء يختلفون في عددها تارة ويتفقون تارة، فيجمعون على ركعتين قبل الفجر، وعلى ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، فهذه عشر ركعات، ثم تأتي الزيادات في الظهر فبعضهم يجعلها أربعاً قبلهاً وأربعاً بعدها، ويأتون بأربع قبل العصر لحديث (رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً) ، وكانوا يصلون قبل المغرب بين الأذان والإقامة ركعتين، وحديث: (بين كل أذانين صلاة) عام لكل الصلوات.
وهناك من يضيف إلى العشر ركعتين قبل العشاء، ثم يأتون بزيادات على ذلك بين المغرب والعشاء، وهي: ست ركعات، وبعضهم يقول إنها صلاة الأوابين، ثم صلاة الوتر تكون بعد العشاء؛ فتلك هي النوافل الراتبة للصلوات الخمس، ولكن آكد هذه النوافل ركعتا الفجر وصلاة الوتر، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يتركهما حضراً ولا سفراً.
وجاء في قضية وقعة نخلة أنهم لما رجعوا من الغزوة قال صلى الله عليه وسلم: من يكلؤنا الليلة لا نرقد عن صلاة الفجر؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله.
فناموا ونام بلال، وما استيقظوا إلا على حر الشمس، فقام عمر فكبر، وكان جهوري الصوت، ولم يكونوا يجرءون على أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعله في برحاء وحي، فلما سمع أصواتهم استيقظ، فرأى الشمس، فقال: يا بلال! ألم تقل إنك ستكلأ لنا الفجر.
وبعض الروايات تقول: إن أبا بكر كان بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استيقظ على حر الشمس قال: يا أبا بكر! كأني بالشيطان قد جاء إلى بلال وهو مستيقظ أو ينتظر الفجر يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى أخذه النوم.
فقال بلال: والله يا رسول الله! لقد أنخت راحلتي وأسندت ظهري إليها، ووجهت وجهي إلى الشرق فإذا بالشيطان يأتي إلي ويهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت.
فقال أبو بكر: أشهد إنك لرسول الله.
هنا قال رسول الله: تحولوا عن هذا الوادي فإن فيه شيطاناً، وخرج من الوادي، وأمر بلالاً أن يؤذن، وصلوا ركعتي الفجر أولاً، ثم أقام بلال وصلوا الفجر.
والروايات مستفيضة بأنه صلى الله عليه وسلم كان في السفر يوتر على راحلته حيثما توجهت به، يذكر ذلك العلماء في باب استقبال القبلة والتسامح فيها في صلاة السفر، ويذكرونه أيضاً في باب صلاة النوافل.
فركعتا الفجر والوتر من أهم النوافل، بل إن الأحناف أوجبوا الوتر، لكن الواجب عند الأحناف ليس كالواجب عند الأئمة الثلاثة، فما ثبت بدليل قطعي، أي: بسنة متواترة أو بقرآن فهو فرض، وما ثبت بسنة آحاد فهو واجب.
والواجب عند الأحناف يساوي السنة المؤكدة عند غيرهم.
إذاً: ركعتا الفجر والوتر من أهم نوافل الصلوات.(66/9)
الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها
وهنا مسألة: هل يصح أن تؤدى هذه السنن في جميع الأوقات، وإذا فاتت هل نقضيها أم لا؟ الأَولى قضاؤها ما لم يكن بعد العصر، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عملاً أحب المداومة عليه، والنوافل تؤدى في جميع الأوقات ما عدا الأوقات المنهي عنها، والأوقات المنهي عنها سبعة: الأول: ما بين أذان الفجر وصلاة الصبح، فلا يجوز لإنسان أن يتنفل سوى ركعتي الفجر فقط لأنه وقتها، ومن نام عن الوتر فله أن يوتر في ذلك الوقت قبل أن يصلي ركعتي الفجر، فإذا جاء إلى المسجد ووجد الناس يصلون فليدخل حالاً مع الإمام، ثم بعد أن يفرغ من صلاة الفريضة؛ إن شاء صلى ركعتي الفجر، وإن شاء أخرها حتى تطلع الشمس.
إذاً: الوقت الأول من أوقات النهي ما بين أذان الفجر وصلاة الصبح، فلا تجوز فيه النوافل إلا ركعتي الفجر لمن فاتته قبل الفريضة، وهو بالخيار.
الثاني: عند بداية بزوغ قرص الشمس بالطلوع حتى ترتفع قدر رمح، أي عن وجه الأرض في نظر الرائي، فأول ما تطلع الشمس كأنها تشق الأرض وتخرج منها، فإذا ارتفع قرص الشمس عن سطح الأرض في نظرك قدر رمح، أي طول قامة الإنسان جاز لك أن تصلي بعد ذلك.
الوقت الثالث: حينما تكون الشمس في كبد السماء، أي: إذا انتهت من نصف الدورة الشرقي، ولم تبدأ في نصف الدورة الغربي حين تكون في كبد السماء فلا تصح الصلاة.
الوقت الرابع: بعد صلاة العصر حتى تتهيأ للمغيب.
الخامس: عند بداية نزول القرص في المغيب حتى يتلاشى.
السادس: إذا صعد الإمام المنبر يوم الجمعة وبدأ الخطبة، فإنه يمتنع التنفل على الجالس، بخلاف القادم من الخارج فله أن يصلي ركعتين ويتجوز فيهما.
هذه الأوقات لا ينبغي لإنسان أن يتنفل فيها، وللشافعية كلام في ذوات الأسباب، والأسباب عندهم مقارنة أو سابقة أو لاحقة.
فالسبب المقارن: كصلاة الكسوف، وذلك لوجود الحدث في وقت الصلاة مقارناً لها.
والسبب السابق على الصلاة: كمن دخل المسجد، فإنه يؤدي تحية المسجد عند الجمهور ما لم يكن في أوقات الكراهة، وعند الشافعية لا كراهة على ذات سبب سابق.
والسبب اللاحق: كمن أحرم، فإنه يندب له أن يصلي ركعتين عقب إحرامه، لكن في غير أوقات الكراهة، حتى عند الشافعية.(66/10)
كيفية صلاة الوتر
والوتر كما يقولون أقله ركعة، وأكثره ثلاث عشرة ركعة، وقد عاب بعض العلماء أن تصلى ركعة واحدة منفردة، واستحبوا أن تصلى قبلها ركعتين.
وإذا صلاها ثلاثاً قال الأحناف: يصليها كصورة صلاة المغرب، والحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام يخالف ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تشبهوا الوتر بصلاة المغرب) ، والجمهور يقولون: إذا أراد أن يوتر بثلاث فإن شاء جاء بالركعات الثلاث دون أن يتشهد التشهد الأوسط، وإن شاء أوتر بثلاث ولكن يسلم من ركعتين، ويأتي بالثالثة مفردة، أو يأتي بخمس وهو في الخمس أيضاً بالخيار، إن شاء تشهد بعد كل ركعتين، ويأتي بالخامسة مفردة، وإن شاء صلى أربعاً متصلة لا يجلس إلا في الرابعة، ثم يأتي بالخامسة مفردة، وإن شاء جعلها خمساً متصلة لا يجلس إلا في الركعة الخامسة ويتشهد.
وكذلك الوتر بسبع يفعل كما يفعل في الخمس إلى تسع إلى إحدى عشرة إلى ثلاث عشرة، هذه كيفية الوتر.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من لم يوتر فليس منا) ، (أوتروا يا أهل القرآن) ، إلى غير ذلك من النصوص التي جعلت الأحناف تقول إنه واجب.
وهناك نوافل أخرى لا علاقة لها بفريضة، منها قيام رمضان، فهو مستقل بذاته، وقيام رمضان له بحث طويل، وأقل ما يقال فيه: إنه سنه ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، وكان عمر أول من جمع الناس على أبي بن كعب في صلاة التراويح، واستقر الأمر من عمر إلى اليوم عشرين ركعة.
وبعد صلاة التراويح يأتي أيضاً الضحى يومياً، وهو نافلة مستقلة، وما عدا ذلك لا حد فيه ولا توقيت.
وبعض العلماء كان يتحرى ما بين الظهر والعصر يجعله إحياءً لوقت قيلولة الناس حينما ينامون.
ويأتي بعد هذا قيام الليل، قيام الليل ليس فيه حد وليس فيه تقدير، وكما أشرنا أنه كان بعض العلماء والسلف ربما قرأ القرآن كله في ليلة، ثم انتهى به الأمر إلى أنه ربما يقوم الليل كله بسورة الفاتحة.
ويذكر أحمد رحمه الله في مسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يقرأ القرآن في ليلة، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بلغني عنك كذا، قال: بلى، قال: (اقرأه في شهر) ، قال دعني أستمتع بقوتي فإني أطيق أكثر من ذلك، قال اقرأه في عشرين في خمسة عشر في عشرة مسند أحمد لا يذكر شيء غير هذا، وغير مسند أحمد يقول انتهى به الأمر إلى ثلاث أو إلى عشر.
إذاً قيام الليل ليس فيه حد.(66/11)
حكم صلاة النافلة في السفر
بقي سؤال، وهو: إذا كان الإنسان مسافراً هل يصلي تلك النوافل أم لا؟ كثر السؤال في هذه المسألة، وبعض الأخوة يأخذ بحديث ابن عمر لو كنت متنفلاً في السفر لأتممت الفريضة، ويقول: ليس هناك نافلة في سفر.
قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله صحيحاً مقيماً) ، وقد ذكر الشوكاني ما استدل به المانعون كـ ابن عمر ومن وافقه، وذكر عن جملة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم كانوا يصلون الرواتب في السفر، وذكر عن علي وعن عمر وعن أنس وعن ابن عباس وعن أبي ذر ونسيت اثنين آخرين، ذكر عن سبعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم عمر وعلي من الخلفاء الراشدين، ومنهم أنس وابن عباس حبر هذه الأمة، وأبي ذر كل هؤلاء منقول عنهم بأنهم كانوا يصلون نافلة الرواتب في حالة السفر.
ويناقش العلماء مقالة ابن عمر، يقولون: إذا كانت الفريضة قد قصرت، فهذا تخفيف من الله على العبد، والنافلة متروكة لجهد الشخص، وإن كان يستطيع أن يصليها فأهلاً وسهلا، وإن لم يستطع فهذا أمر عائد له، وليس مكلفاً بها ولا يعاتب على تركها، بل إن كان عاجزاً فإن الله يأمر الملائكة أن تكتب له ما كان يفعل في حال قدرته واستطاعته.
والخلاصة: أن صلاة راتبة الفريضة في السفر أمرها متروك للشخص نفسه، فإن شاء صلاها، وإن شاء تركها، والجمهور مع الأول.
هذا هو الباب الأخير في أبواب الخير التي ذكرها صلى الله عليه وسلم.(66/12)
الكلام على قوله عليه الصلاة والسلام: (رأس الأمر الإسلام ... )
ولكن أليس هناك أبواب خير أخرى؟ يذكرون الجهاد، ويذكرون الإصلاح بين الناس، ويذكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن الحديث اقتصر على تلك الأبواب لأنها في استطاعة كل إنسان.
ثم يأتي بعد هذا ويقول صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه) ، ما هذه التشبيهات؟(66/13)
المقصود بالأمر
رأس كل شيء أعلاه، هذا في المحسوس، مثل: رأس الجبل رأس الإنسان وفي المعنويات: أقوم شيءٍ فيه وعماده وأساسه، كما قالوا: الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فإيمان بلا صبر كجسد بلا رأس.
رأس الأمر: الأمر مفرد أوامر، ويأتي مفرد أمور، تقول هذا أمر ثقيل أو عصيب، وتقول هذا أمر شائع ويتبين هذا من ذاك بصيغة الجمع.
فرأس الأمر: أي الأمور، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: ليس عليه تعليمي وتوجيهي وسنتي، فهنا قالوا: المراد بالأمر هنا: الشيء الجامع الذي فيه الكلام، والكلام هنا في أي شيء؟ فيما يدخلنا الجنة ويباعدنا عن النار، أي: في أعمال الإسلام التي ذكرها صلوات الله وسلامه عليه من أركان الإسلام وأبواب الخير، فرأس الأمر كما تقول: رأس المال الذي تتحرك به في السوق هو الإسلام.
وأما ما تقدم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فكلها أركان الإسلام التي لا تقبل أصلاً إلا بعد الدخول في الإسلام، كأن المشرك مهما كان عنده من عمل، ومهما قدم من خير، ومهما فعل يكون جوابه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، لأنه ليس عنده رأس الأمر.
إذاً: رأس الأمر في بدايته الإسلام، فإذا أسلم ودخل في جماعة المسلمين، فكل شيء بعد ذلك يتدارك، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، مادام دخل في حيز الإسلام، هذا هو رأس الأمر.
فإذا حصل على رأس مال الإسلام، فله تشغيل رأس المال بالربح في نوع من أنواع الخير وأبوابه، هذه تتمة وتكملة.
ولا ننسى بأن الإسلام أو الإيمان قول وعمل، وليس معنى ذلك أن يدخل في الإسلام ويترك العمل.(66/14)
التشبيه النبوي للصلاة بالعمود الذي يقوم عليه البناء
ثم قال: (وعموده) ، كأن الأول رأس الأمر، وهنا يقول: (وعموده) ، أي عمود الإسلام، وهو الصلاة، وإذا انتقلنا إلى كلمة عمود، ففيها كما يقول البلاغيون: استعارة مكنية؛ وهي تشبيه شيء بشيء مع حذف المشبه به ويأتي بلازم من لوازمه، كقول الشاعر: وإذا المنية أنشبت أظفارها ألقيت كل تميمة لا تنفع هل المنية -انقضاء الأجل- لها أظفار؟ أو أن هناك تشبيهاً حُذِف أحد طرفيه، فقد شبه المنية بالأسد، وحذف المشبه به -الأسد- وأتى بلازم من لوازمه -الأظفار-.
وهنا كأنه يقول: الإسلام كالبيت والبيت له عمُد وطنُب، وأهم ما في البيت ليقوم بناؤه، عموده وهو الصلاة، إذاً: كأنه يقول: الإسلام كالبيت، والعمود الذي يرفع هذا البناء إنما هي الصلاة، وقد جاء صحيحاً (بني الإسلام على خمس) .
إذاً: كأن الإسلام بناء، وذلك لأن كل إنسان في هذه الدنيا يحتاج إلى بيت، حتى الحيوانات تحفر لها جُحراً يقيها الحر والبرد والأعداء وكل شيء، فكذلك الإسلام.
بل قد جعل الشرك بيتاً ولكن كبيت العنكبوت، وأي قوام لبيت العنكبوت، والمسلم يعيش في بيت يقوم على عمد وركائز وطنُب، إذاً: هنا تشبيه واستعارة مكنية، فالإسلام كالبيت، والبيت له عمُد، وعمود هذا البيت الذي يقوم عليه إنما هو الصلاة.
إذاً رجعنا للصلاة مرة ثالثة، نجد أنه بدون الصلاة فلا بيت، وإذا كان المرء بلا بيت فإنه يكون في العراء، والصلاة عماد الدين، أي: العمود الذي يقام عليه البيت، ولولا هذا العمود في هذا البناء لما وجدنا أين يوضع السقف، لأنه لا يقيم بيتاً بلا عمُد إلا المولى، {رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] ، والقدرة الإلهية شيء آخر، جعلت السماء بيتاً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:21-22] ، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] ، الأيد: القوة، تلك قدرة المولى سبحانه.(66/15)
مقصد النبي عليه الصلاة والسلام من تكرار الصلاة في الحديث ثلاث مرات
إذاً: عمود هذا البيت الذي أوى إليه المسلم وابتناه وسكن فيه يقيه حر الحيرة، ويقيه برد الشك، وهو بيت الإسلام، ولا يقوم هذا البناء إلا على الصلاة، ولهذا جاء في الحديث: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) .
إذاً: يؤكد صلى الله عليه وسلم على أمر الصلاة ثلاث مرات، الأولى عند قوله: (تقيم الصلاة) ، والثانية عند قوله: (وصلاة الرجل في جوف الليل) أي: من النوافل.
والثالثة:) وعموده الصلاة) .
ولذا جاء في الحديث أنه أول ما يُسأل عنه العبد الصلاة، فإن قبلت قبل معها سائر العمل.
وليس هنا تعارض بين هذا الحديث وحديث: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) ، فأول ما يسأل عنه العبد من حقوق الله عليه الصلاة، وأول ما يسأل عنه من حقوق الخلق الدماء، وهذا إن لم يقض فيها في الدنيا.
ولذا يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: إن هناك قضايا، لن يقضى فيها إلا يوم القيامة، ربما تكون -كما يقولون- قيدت ضد مجهول، أي: أننا ما عرفنا الجاني، أو أنه تكون هناك ملابسات تجرم البريء وتعفي الجاني.
وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى في باب الجنايات قصة نوردها هنا، قال: كان عند رجل جزار شاتان، وعند الفجر قام ليذبحهما، فذبح واحدة وشردت الأخرى فتبعها، فدخلت خربة، فدخل وراءها فأمسك بها، فإذا برجل يتشحط في دمه في تلك الخربة، ودخل الحرس فوجدوا الجزار والسكين في يده ملطخة بالدم، والرجل القتيل يتشحط في دمه، قالوا: أنت قتلت هذا؟ قال: نعم.
فأخذوه وذهبوا به إلى الوالي، كان في زمن علي رضي الله تعالى عنه، قالوا: هذا ذبح هذا، والسكين في يده، قال: قتلته؟ قال: نعم، وحكم عليه بأن يقتل قصاصاً، وحدد اليوم والساعة لتنفيذ القصاص، وعندما حانت الساعة سيق إلى الميدان ليعدم، وجيء به، والناس مجتمعون، فإذا برجل من وسط الجموع يخرج ويقول: لا تقتلوه، أنا القاتل.
وأُوقف القصاص وذهبوا به إلى الإمام علي، فقال للجزار:: أنت القاتل؟ قال: لا، والله ما قتلته، القاتل جاءكم بنفسه، قال له: فلماذا قلت في المرة السابقة أنك القاتل؟ فقال الجزار: وجدت نفسي في موقف لا ينفع فيه الإنكار مهما أنكرت ومهما أقسمت، فهذا قتيل يتشحط في دمه، وهذه سكين في يدي بدمها، لو قلت دم الشاة أو دم غيرها من يصدقني، فأردت أن أختصر الطريق وأهون على نفسي التعذيب.
قالوا للآخر: وأنت ما الذي جاء بك؟ قال: والله تذكرت، وقلت: الذي قتلته عدو وخصم لي، وهذا المسكين البريء كيف أتسبب في قتله ولا ذنب له، فعظم علي في نفسي أن أتحمل نفسين في وقت واحد -فكأن بذرة الإيمان لا تزال فيه- فقال علي رضي الله تعالى عنه: لئن كنت قتلت نفساً فقد أحييت نفساً، وطلب من أولياء الدم العفو ودفع الدية من عنده.
فالحديثان، (أول ما يحاسب به العبد الصلاة) ، هذا في حق الله، و (أول ما يقضى فيه بين الناس في الدماء) ، هذا في حقوق العباد، وهي الدماء والأعراض والأموال، لكن الدماء قبل كل شيء.
وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين.(66/16)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [5](67/1)
ذروة سنام الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فلا زلنا عند قوله عليه الصلاة والسلام لـ معاذ: (رأس الإسلام.
وذروة سنامه الجهاد) .
وإذا تأملنا في هذا الحديث النبوي الشريف وجدنا أنواع التشبيهات والاستعارات، أولها: الإسلام كالرأس للإنسان، والثاني: الصلاة كالعمود للبيت الذي يقوم عليه، والثالث: الجهاد كسنام البعير (وذروة سنامه الجهاد) ، وبتأمل هذه التشبيهات الثلاثة نجد كل مثال في موضعه يعطي حكم موضوعه.(67/2)
روعة البلاغة في كلام النبي عليه الصلاة والسلام
رأس الأمر الإسلام لأن الجسم بلا رأس لا قيمة له، فهو جثة هامدة، وكذلك كل الأعمال بدون الإسلام وإعلان الشهادتين لا قيمة لها.
والبيت بعموده، فكذلك الصلاة هي عماد الدين، وقد جاء في الحديث أنه بني الإسلام على خمس، وذكر صلى الله عليه وسلم الصلاة، وبيّن في أحاديث أخرى بأن ذاك البناء لا يقوم إلا بالصلاة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) ، واعتنى بها صلى الله عليه وسلم في تنشئة الصبيان والأطفال والناشئة فقال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع) ، إلى آخر ما يتعلق بهذين المثالين.
وإذا جئنا إلى سنام البعير نجد أحوال المسلمين وموضوع الجهاد أشبه ما يكون بسنام البعير، لأن السنام هو ذروة البعير وأعلاه، وسِمَن السنام عنوان على صحة البعير وقوته وخصب مرعاه، وضعف السنام واضمحلاله يدل على ضعف البعير وقلة مرعاه وهكذا الأمة الإسلامية كلما قويت شوكتها سمنت ذروة سنامها، وكانت في أقوى ما تكون وأكمله.
وإذا ما تضعضعت، ذاب السنام ولصق الجلد بالعظام، وهكذا ذروة السنام.
ومن ناحية أخرى نجد أن الأعمال بدون الإسلام لا قوام لها، وكذلك البيت بلا عمد لا ظل ولا إيواء، بل هو طنب مطوية أو لائطة بالأرض، أما السنام فقد يسمن ويكبر، وقد يهزل ويصغر والبعير قائم على حاله، كذلك الجهاد بالنسبة إلى الإسلام تارة فتارة، تارة يكون واجباً فرض عين، وتارة يكون مندوباً إليه، وتارة يكون فرض كفاية، فتتغير أحوال الجهاد في الأمة كما يتغير حال السنام في البعير.
والجهاد كما يقول العلماء: بذل الجهد، وهو أقصى ما يستطيعه الإنسان، تقول: فلان يجتهد في حمل الصخرة، ولا تقول يجتهد في حمل النواة، لأن النواة لا تحتاج إلى بذل جهد، تقول: أخذ الكتاب بيده، وتقول: حمل الكيس الكبير أو حمل الصخرة الثقيلة بعد جهد جهيد.
ومن هنا أخذ الاجتهاد في مسائل العلم، وهو: بذل الطاقة والجهد في البحث والتنقيب، فكذلك جهاد العدو، لأن المجاهد يبذل غاية جهده وطاقته ليتغلب على عدوه، وليس بعد الدفاع عن نفسه والظفر بعدوه من جهد، ومن هنا كان الجهاد شاقاً وثقيلاً على النفس؛ لأنه يكلفها أقصى جهدها وطاقتها.(67/3)
ميادين الجهاد في سبيل الله
أما ميادين الجهاد فأعلاها وأقواها ميادين الكر والفر وقتال العدو الكافر، وبعضهم يقول: طلب العلم ومعرفة الحلال والحرام، ولذا يقولون: يوم القيامة يكون مداد العلماء ودماء الشهداء سواءً بسواء.
والواقع أن القضية نسبية، والقرآن سوى بين الأمرين، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] ، أي: لا يمكن أن ينفروا جميعاً لأنهم يتركون الذراري، ويتركون العجائز ويتركون الأعمال والزراعة والإنتاج، {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] ، فندب القرآن لطائفة أن تنفر في سبيل الله، وطائفة أن تنفر في طلب العلم.
واستدل القائلون بأن طلب العلم أهم من الجهاد بأنه -أصلاً- لن يجاهد إنسان إلا بعد العلم والمعرفة، ولن يرسم طريق الجهاد الصحيح إلا العلماء، وعليه طلب العلم أولاً ثم الجهاد، وليس كل واحد منهما يعطل الآخر.
ثم أيضاً الجهاد يكون بالسنان وباللسان وبالمال وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10-11] ، فقدم الأموال، والعادة أن التقديم له تأثير، فكيف يقدم المال على النفس، والجندي المجاهد هو الشهيد؟
و
الجواب
لأن الجهاد بالمال أعم وأشمل، وهو جهاد الصغير والكبير والمرأة والرجل، وكل من يملك المال يمكن أن يتبرع، وماذا يفعل الرجل بنفسه إذا لم يجد ذخيرة أو زاداً يتزود به؟ وخاصة في مثل أيامنا، حيث صارت الحرب حرب اقتصاد والغلبة غلبة إنتاج، وليست كثرة رجال وصليل سيوف، أصبحت الآن المعدات الحربية والتكتيك العسكري له تأثير عظيم، وقد كان الاعتماد سابقاً على قوة الرجال، أما اليوم فبقوة الآليات، والآليات تحتاج إلى مال لكي تشتريها.
وهكذا تقديم المال يعطي الصورة الحية لسعة مجال الجهاد الحقيقي، ثم يأتي الرجال بعد ذلك.
وميادين الجهاد عديدة، منها: قتال العدو، طلب العلم، حرب المنكرات، جهاد النفس، جهاد الهوى، كل ذلك من ميادين الجهاد، كما أن الجهاد يبحث أيضاً في آلته: الجهاد بالكلمة، الجهاد بالإنتاج، قائد القوات البريطانية في الحرب العالمية الأخيرة كان يأتي بشخصيات غير بريطانيين للجيش فعِيب عليه، فقال: الجندي الذي يعمل في الميدان يحتاج إلى سبعة جنود وراءه لتمويله، من يخبز له، ومن يطبخ له، ومن يخيط لباسه؟ ومن يقدم له عتاده؟ ومن يشغل المصانع التي تمونه بالذخيرة؟ ومن يمهد له الطريق؟ ومن يوصل له حاجاته؟ وكل أولئك جنود يعملون.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة) ، السهم الواحد يُرمى في سبيل الله يدخل فيه ثلاثة الجنة (صانعه، والممد به، والرامي به في سبيل الله عز وجل) .
فهذا الجندي في الميدان وراءه عدة جنود، إلا أن موضوع التموين كان في صدر الإسلام كل جندي يمون نفسه، وكل جندي مدرب قبل أن يأتي الإسلام، فقد كانوا كل يوم في غارة وكل يوم في قتال، فهم مدربون بفطرهم، لحماية أنفسهم أو للبغي والغارة على غيرهم، كما قال الشاعر: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا(67/4)
دروس الجهاد من غزوة الأحزاب
إذاً: أنواع الجهاد متعددة، وقد ظهر جهاد الكلمة في غزوة الأحزاب بمظهر عجيب، كلمة فعلت أكثر مما تفعل الجيوش، فإنه لما جاء الأحزاب -قريش وأحلافها مع غطفان- وعلم صلى الله عليه وسلم تحرك المشركين، وحفر الخندق بعد مشورة سلمان رضي الله تعالى عنه، وبهذه المناسبة كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: خطة الخندق خطة فارسية، حينما أخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه بما عزمت عليه قريش وأحلافها ومجيئهم يستأصلون المدينة كلها، فقال: (أشيروا علي) ، قال سلمان: كنا إذا حوربنا خندقنا، يعني اتخذنا الخندق حولنا، فأعجبته الفكرة وأخذ بها.
وحبذا لو دُرِست غزوة الخندق، من ناحية الأسباب والنتائج ومواقف الناس فيها، لتكون منهجاً في حالة السلم والحرب؛ لأن فيها من المبادئ العسكرية الشيء الكثير، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجيش تحت لواءين، لواء للمهاجرين ولواء للأنصار، وقسم الجميع عشرات، في تسلسل هرمي ينم عن عقلية عسكرية فذة.
واختلفوا في سلمان هل يكون تحت لواء المهاجرين أم تحت لواء الأنصار، المهاجرون يقولون: هو منا لأنه جاء مهاجراً من بلاد فارس، والأنصار يقولون: بل هو منا لأنه كان موجوداً حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية النزاع، ويقول: (سلمان منا أهل البيت) ، فبأي صلة وبأي رابطة ارتفع نسب سلمان الفارسي، وليس في دمه قطرة دم عربية حتى يصل إلى بيت النبوة!! إلى بني هاشم ذروة النسب والحسب في العرب بأي شيء وصل ذلك؟ هو عبَّر عن هذا فقال: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم أبوك من يا سلمان؟ لم يقل فلان ابن فلان، مع أن أبوه كان من سدنة بيت النار، لكن كل ذلك أُلغي، فقال: أبي الإسلام.
فحفروا الخندق بإشارة سلمان، وحينما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واجه تيارات فكرية مختلفة، وأزمات اقتصادية، فالمدينة محصورة بين لابتين، والإنتاج لا يكفي كل من يأتيها، وليس هناك ميادين عمل، علي رضي الله تعالى عنه يؤاجر نفسه على أن ينزع كل دلو ماء بتمرة، لكن القضية ليست قضية إنتاج واقتصاد، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبين المهاجرين أنفسهم، ووجد المهاجرون قوماً يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فآثروهم بأموالهم واتسعت صدورهم لهم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9] ، والمهاجرون يتعففون عن أموالهم.
عبد الرحمن بن عوف يقول له أخوه من الأنصار: هلم أقاسمك مالي، ولي زوجتان، فانظر إلى من شئت منهما أطلقها وتعتد وأزوجك إياها.
فيقول: بارك الله لك في مالك وفي زوجاتك، دلني على السوق.
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ، يقابلهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .
يأتي القسم الثالث: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] .
ومن هنا يقول الإمام مالك رحمه الله لما سأله المهدي هل للخوارج حق في الفيء؟ قال: لا، كل من يبغض سلف الأمة وأصحاب رسول الله ليس له شيء من الفيء؛ لأن الله قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:7-8] ، يقابلهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا} [الحشر:8-9] .
فمن لم يقل في سلفه {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} ولم يقل {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ، فليس له في الفيء نصيب، وكل من كان في قلبه غل لصحابي واحد فليس له في الفيء نصيب.
كان هذا هو المجتمع الأول، ماذا يفعل مع اليهود وهم أصحاب وطن وأصحاب إقامة؟ كتب وثيقة عهد المسلمين وبين اليهود، واليهود ثلاث قبائل، وكل قبيلة لها حلف مع الأوس أو الخزرج.
فعالجها صلى الله عليه وسلم بتلك الوثيقة، وأصبح مرد النزاع في المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في تلك الوثيقة أن على اليهود ألا يعينوا عدواً على المسلمين، وأن يدافع الجميع عن المدينة إذا داهمها عدو من الخارج، لأنها بلد الجميع.
فلما جاء الأحزاب نقضوا العهد وعزموا على قتال المسلمين مع المشركين، وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رجلين فقال: اذهبا وتحسسا، فإن رأيتما حقاً فارمزا لي رمزاً، وإن كان غير ذلك فاجهرا وصرحا، والعلة في عدم تصريحهم بنقض اليهود حتى لا يقع الروع في قلوب المسلمين، فذهبا وجاءا فقالا: عظل والقارة.
وفهِمها صلى الله عليه وسلم.(67/5)
نعيم بن مسعود والأحزاب
في تلك الأثناء جاء نعيم بن مسعود، قال: يا رسول الله إني أسلمت ولم يعلم بإسلامي قومي، فمرني بما تريد؟ قال صلى الله عليه وسلم: أنت رجل فرد، يعني لو حملت السلاح ماذا تفعل، كواحد من الجماعة، ولكن ثبط عنا -الحرب الباردة- فذهب إلى يهود وكان حليفاً لهم، قال: يا معشر يهود لقد تورطتم مع أبي سفيان، ونقضتم العهد الذي بينكم وبين محمد، وأبو سفيان جاء بقريش، وجاء بالعرب من مكة ليس له هنا عشيرة ولا أموال ولا رباع، إن وجدها له استمر، وإن وجدها عليه رجع وترككم مع الرجل ولا طاقة لكم به قالوا: فماذا نفعل؟ وأنت صديقنا فماذا تنصحنا؟ قال: أنصحكم أن تتثبتوا من أبي سفيان، قالوا: بأي شيء؟ قال: اطلبوا منهم أربعين رجلاً يكونون عندكم كرهائن حتى لا يفر ويرجع ويترككم.
قالوا: صدقتنا.
وذهب إلى أبي سفيان فقال: يا أبا سفيان! إن اليهود ندموا على نقض العهد مع محمد، ولن يقاتلوه معك، وقد فكروا في مكيدة وسيطلبون منك أربعين رجلاً رهائن، ليقدموهم لمحمد ليضرب أعناقهم تكفيراً عن خطئهم في نقض العهد، قال: وما الرأي؟ قال الرأي إذا طلبوا منكم فلا تعطوهم.
قال: صدقتنا.
ومن الغد -وكان ذلك يوم جمعة- أرسل أبو سفيان لليهود طال الحصار، ونريد أن نناجز الرجل، فقالوا: لا يا أبا سفيان، تعلم أن يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً، وتعلم ما وقع لأسلافنا في يوم السبت.
معلوم أن الله سبحانه وتعالى مسخهم قردة وخنازير كما في قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] .
فقالوا: يوم السبت لا عمل، ومع ذلك أيضاً لن نقاتل محمداً معك حتى تقدم لنا رهائن، لئلا تتركنا وتذهب عنا ونبقى مع الرجل وحدنا، فقال أبو سفيان: صدقنا نعيم.
فقال أبو سفيان: والله ما نعطيكم رجلاً واحداً، فقالوا: صدق نعيم.
ومن الغد وقع النزاع بين الفريقين، وحصلت الفرقة بينهما.
فكلمات قليلة عملت أعظم مما قد يعمله جيش بأكمله، وكانت النهاية أن الله سبحانه وتعالى رد المشركين بغيظهم لم ينالوا خيراً، وأرسل عليهم الرياح تطفئ نارهم وتكفأ قدورهم وتهدم خيامهم إلى آخره.
إذاً: (ذروة سنامه الجهاد) ، الجهاد يكون بالمال، وبالنفس، وبالكلمة.
وقد يكون بأكثر من هذا، ولكن كل ما يمكن أن يخطر في بالك يدخل في باب المال، تقدم المستشفيات، تقدم العلاج، تقدم السلاح، تقدم اللباس، تقدم أي شيء للغزاة في سبيل الله، يقول صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا) .(67/6)
من أحكام الجهاد(67/7)
جهاد النفس
وهناك كلام في جهاد النفس لبعض العلماء، ويستدلون بحديث يتفق العلماء على تضعيفه (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) ، وهو جهاد النفس.
والمعنى صحيح ولكن ليس على هذا الأساس، حقيقة الجهاد الأكبر جهاد النفس، من حيث إنك تجاهدها في العبادات على الإخلاص في العمل، وتجاهدها على أداء الواجب من إقام الصلاة التي قال الله عنها: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] فتحتاج إلى جهاد.
الصدقة يقول صلى الله عليه وسلم: (ما تصدق إنسان بدرهم حتى يفك عنه سبعين لحي جمل) .
فالشح كأنه بمثابة سبعين جملاً، يمسكون على المنفق ليردوه عن نفقته، ولا يتصدق التصدق إلا بعد انفكاك منها، ولن يكون ذلك إلا إذا كان عنده يقين وإيمان وتصديق بما سيعوضه الله من الأجر عن صدقته يوم القيامة.
ولهذا قالوا: جهاد النفس مقدم على غيره من أنواع الجهاد، وقال بعض العلماء بتقديم جهاد العلماء؛ لأن الأصل أن الشخص لن يحمل السيف بيده ويذهب إلى المعركة إلا بعد جهاد داخلي يقتنع عن طريقه بحقيقة الجهاد الخارجي، أما أن نترك الجهاد للعدو، ونعتكف ونجلس لنهذب أنفسنا ونروضها ونترك قتال العدو، فهذا لا يقوله عاقل.
والقرآن أشار إلى أمر عجيب، يرجع إلى هذه القضية ويبين أن جهاد النفس وإصلاحها هو المرتبة الأولى، لكنه لا يكون مقدماً عملياً على جهاد العدو.
أعتقد أن أكبر غزوة في الإسلام هي بدر الكبرى، مع أن صلح الحديبية كان فتحاً، لكن بدراً كانت غزوة غير متوقعة، بل كما قيل: كانت بدر بقيادة السماء.
ومن المعلوم أن كل غزوة لا بد لها من مقدمات، ولا بد لها من تهيئة، ولا بد لها من سوابق، إما أن تفرضها أنت أو تفرض عليك، وفي كلتا الحالتين تكون عالماً بظروف العدو عدداً وعدة وزماناً ومكاناً ودوافع، وبدر بخلاف هذا كله، فإنهم خرجوا لعير يأخذونها، وليس فيها إلا أربعين رجلاً، فخرجوا خفافاً: (من كان ظهره حاضراً فليركب) ، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، فيندبهم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، ليستردوا بعضاً من أموالهم التي تركوها في مكة وأخذها كفار قريش، إذاً: أخذ المسلمين للعير ليس قطع طريق كما يقول المغرضون في ذلك، بل إعادة للحق إلى أهله.
خرجوا ولكن ذهبت العير وأتى النفير، ويخبر الله عما كان يجيش في صدور الصحابة فقال: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} [الأنفال:7] ، فيأتي النفير، ويشاور النبي أصحابه، فيتفقون على النفير، ثم يأتي أرض المعركة، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] ، {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَان مَفْعُولاً} [الأنفال:44] ، حتى الحِس يختلف، ترونهم قليلين، ويقللكم أيضاً في أعينهم، فكما تنظرون إليهم قلة هم ينظرون إليكم قلة، ليطمع الكل في الثاني، سبحان الله! ويصف الموقف:: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] ، منزل المسلمين يكون في العدوة الدنيا، هي أرض رملة تغوص فيها الأقدام، ومنزل المشركين أرض سبخة صلبة قوية، وحينما يتراءى الجمعان ينزل الله المطر من السماء، فتتماسك الرملة وتثبت عليها الأقدام، والأرض السبخة حينما يسقط عليها المطر تصير أرضاً زلقة، فالمطر ينزل فيكون لأقوام نصراً ولأقوام هزيمة، وهذا كله {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42] .
إذاً: ميادين القتال عديدة، ووسائل الجهاد أيضاً متعددة، وجهاد النفس مقدم، وما انتهت معركة بدر إلا والمسلمون أسروا سبعين وقتلوا سبعين، ورجعوا بالغنائم، وقد نزلت الملائكة تقاتل معهم يقودهم جبريل.
وبعد المعركة اختلفوا في أمرين: في الأسارى والغنائم، وقد جاء فيها قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] ، وأول حديث عن غزوة بدر لا يتكلم عن الانتصارات ولا عن الصبر ولا عن الثبات، إنما تكلم عن الأنفال أنها لله وللرسول، وأنتم اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم سبحان الله، أي: قبل أن تنتصروا على العدو لا بد أن تنتصروا على ذات بينكم، لأن الجماعة إذا لم تكن مصلحة ذات بينها ومتلاحمة كالجسد الواحد وكالبنيان، فلن تستطيع أن تنتصر على عدوها فمن لم ينتصر على داخليته، ويحسن الارتباط بينه وبين أخيه، لن يستطيع أن ينتصر على عدوه الخارجي ولا أن يصلح غيره من بعده.
إذاً: لا شك أن جهاد النفس هو المبدأ، حيث ينطلق بعد إصلاح نفسه إلى قتال العدو، ولا أقول بترك قتال الأعداء، والجلوس لترويض وتهذيب أنفسنا في المساجد أو في المعتكفات، ونترك العدو يحتل الديار، لا يقول هذا عاقل أبداً.(67/8)
منزلة الجهاد في سبيل الله بين الأعمال
بقي حكم الجهاد في سبيل الله، قلنا: إن أنواع الجهاد كثيرة، منها جهاد في طلب العلم، جهاد في العبادة، جهاد للعدو، وكلٌ بحسبه، وقد ثبت في الحديث: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله) .
وجاء إليه آخر فقال: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: إيمان بالله، قال ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) .
وجاء آخر فقال: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: إيمان بالله، قال ثم ماذا: الصلاة على وقتها) .
سبحان الله سؤال واحد والإجابة مختلفة جهاد، بر والدين، صلاة؛ لأن كل شخص له ما يلائمه، أو أن كل زمن له جهاده، فإذا كانت المعركة مقبلة، فالأفضل أن تحمل السلاح، وإذا كان سلماً ورأيت شخصاً عاقاً أو مقصراً في حق والديه فالأفضل أن تأمره ببر والديه، وإن جدت شخصاً مقصراً عن أداء الصلوات في أوقاتها أمرته بالمحافظة على الصلاة في أول وقتها.
إذاً: المفتي طبيب يصف الدواء على حسب الحاجة، فمن كان أهلاً لحمل السلاح وجهناه للسلاح، ومن كان ذا أبوين يحتاجانه وهو مقصر في حقهما وجهناه إلى والديه، وهكذا في أمر الصلاة، بل ونقول في جميع الأمور، كل بحسب صلاحيته.
وأشرنا سابقاً إلى الشاب الذي خرج على المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم في مجلسه مع أصحابه، وكله نشاط وحيوية، فقال أحد الجلساء: لو كان هذا في سبيل الله -أي: لو كان هذا النشاط وهذه الطاقة توجه إلى سبيل الله- فقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على ولده فهو في سبيل الله، وإن خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وتفاخراً فهو في سبيل الشيطان) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يجعل الساعي ليعف نفسه أو ليكفها عن الحرام ويعول أسرته -أبويه أو زوجه أو أولاده- في سبيل الله.
إذاً: الجهاد ميادينه واسعة وكل بحسبه.
نأتي إلى الجهاد في الميدان وهو الذي يكثر فيه الكلام وينصرف إليه المعنى عند الإطلاق.(67/9)
حكم الجهاد في سبيل الله طلباً ودفعاً
يتفق العلماء على أن الجهاد قسمان، ما يسمى الآن بالهجوم، وما يسمى بالدفاع، ويصطلح عليه الفقهاء الجهاد ابتداءً وطلباً، والجهاد دفاعاً وصداً.
فالجهاد الذي هو دفاع عن النفس لا ينبغي لاثنين أن يختلفا في حكمه، لأن في شرعة كل كائن حي أن من هوجم يدافع، أرأيت لو جئت إلى دجاجة معها فراخها وهاجمتها ماذا تفعل معك، أتستسلم لك أم تدافع عن نفسها؟ تدافع.
فالدفاع عن النفس فرض عين حتى عند الدجاج إذاً: هذا القسم لا ينبغي لأحد أن يتكلم فيه.
ولهذا أجمع المسلمون على أن الجهاد قد يكون فرض عين على كل شخص، رجل، امرأة، صغير، كبير، بإذن، بدون إذن، وذلك حينما يداهم العدو بلدة وجب مدافعته على كل مستطيع من أهل تلك البلدة.
بل كما يقولون: حتى لو لم تجد المرأة سلاحاً، فلها أن تدافع ولو بغطاء القِدْر.
الدفاع عن النفس لا ينبغي لأحد أن يتكلم فيه ولا يثير فيه خلافاً، إنما الخلاف والكلام في القتال ابتداءً وطلباً، حينما يذهب المسلمون إلى الكفار في ديارهم ويقولون: الإسلام أو الجزية أو القتال.
فهذا قتال طلبي وهذا الذي شُرِع على المسلمين لكن بتدرج، يقول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... ) الحديث، إذا القتال ابتداءً مفروض في الإسلام، ولكن حينما تكتمل لهم القوة، ويقدرون على ذلك، وقد أخذ هذا النوع في الإسلام باب التدرج، ففي مكة كان المسلمون يصبرون على التعزير، ويصبرون على العذاب، وربما يموت الشخص تحت التعذيب، ومع ذلك لم ينتصر واحد لنفسه، ولما جاء الأنصار وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة قالوا: يا رسول الله! ائذن لنا أن نميل على أهل الموسم بأسيافنا.
فيقول: إنا لم نؤمر بقتال بعد.
لماذا لم يدعهم وتكون هذه مقدمة تخوِّف العرب؟ لأنه لم يؤمر؛ ولأن الوقت لم يحن، فإذا كان المسلمون في حالة تجمع وحالة وحدة وحالة قوة، فرض عليهم أن يذهبوا إلى الكفار ويدعوهم إلى الإسلام، فإن لم يسلموا فالجزية، فإن لم يدفعوها استعانوا بالله وقاتلوهم.
ولكن اليوم كل دولة بحدودها وسيادتها، وكل دولة لا تستطيع أن تتدخل في شئون الأخرى، ولا توجد دولة من الدول تستطيع أن تفعل ذلك وحدها، أخبروني من هي الدولة التي تستطيع أن تذهب إلى روسيا أو إلى بريطانيا أو إيطاليا أو أمريكا وتقول: أسلموا أو الجزية أو القتال؟ إذاً: القتال ابتداءً فرض على مجموعة المسلمين، وفي الوقت الحاضر إذا استطاعوا القيام بالنوع الثاني -الدفاع عن النفس ومجاهدة العدو والاحتفاظ بما بأيديهم- فذلك ظفر كبير.
أما إذا دوهمت دولة من الدول -عربية كانت أو إسلامية- واستنفر إمام تلك الدولة الشعب على قتال عدوه، وجب على الجميع أن ينفر معه، وإذا عيَّن، وقال: عندنا قتال في الجهة الفلانية ويصلح له فلان وفلان وفلان، لخبرتهم أو لمعرفتهم، فيتعين على هؤلاء أن يجيبوا، وكذلك الشخص المتطوع في الحراسة في الثغور، إذا نشبت الحرب وجب عليه أن يشارك، ولا يحق له أن يرجع.(67/10)
لمن يكون الإعلان للنفير العام؟
أما ما عدا ذلك فهو فرض كفائي، إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
وقضية إعلان الجهاد وإعلان الهدنة باب واسع، يقول الماوردي: على الأمة أن تجيب ولي أمرها في أربع حالات: إعلان الجهاد على العدو، وقبول الهدنة معه، ونوع المكيال والميزان، ونوع العملة التي يتعاملون بها.
فإذا أعلن ولي أمر المسلمين حرباً وجب على الأمة أن تساعده، وإذا أعلن قبول الهدنة وجب على الأمة أن تساعده، وإن كان في نظرهم غير مصيب؛ لأن النظر في هذه الأمور لا يكون إلا لولي الأمر، كما وقع في صلح الحديبية، حيث قبل صلى الله عليه وسلم شروط المشركين على مضض، ولم يقبلها عمر، وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري) ، أي: أسير على نور الله من الله، وبتوجيه من الله، فلا ينبغي للأفراد أن يختلفوا على ولي أمرهم إذا أعلن حرباً أو قبل هدنة، أو أنزل عملة ما، أو مكيالاً وميزاناً ما؛ لأن هذا من المصالح العامة التي هي من حق الإمام.(67/11)
ملاك الأمر كله
ثم بعد ذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله.
الحديث) ، ملاك الأمر: هو جماع الأمر، وما يملك أطرافه وصلبه وحواشيه، كأنه يقول: ما تمتلك به كل ما تقدم.
فأخرج صلى الله عليه وسلم لسانه وقال: (أمسك عليك هذا) ، ولم يقل: أمسك عليك لسانك، بل أخرج لسانه صلى الله عليه وسلم وأشار إليه بإصبعه، ليجعله في صورة حية أمام معاذ، مع أن معاذاً يعرف اللسان ويفهم الكلام، لكن ليبرز الموضوع عملياً، فقال معاذ: (أوإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟) ، أي: بالصغير والكبير!! قال: (ثكلتك أمك) ، الثكل هو: إذهاب الأولاد حتى لم يبق إلا واحد.
ثم قال: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم -شك من الراوي- إلا حصائد ألسنتهم) ، وهذا تشبيه ثان، الإنسان في الحياة يزرع والحياة مزرعة، والحصاد يكون يوم القيامة، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: (الدنيا سوق) ، وقوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه) ، فتارة تكون الدنيا سوق وأنت السلعة، وتارة تكون مزرعة وأنت الزارع، ما تزرع هنا تحصده هناك.
(حصائد ألسنتهم) ، لم يقل: حصاد، بل: حصائد، كأن اللسان يزرع أنواعاً، ومن زرع الشوك يجني شوكاً، ومن زرع الورد يجني ورداً وفلاً.
ومن زرع الخير يجده، ومن زرع غير ذلك يجد ما زرع؛ لا ظلم اليوم.
إذاً: الكلمة هي من أخطر ما يكون، ولا يمكن أن يوفي إنسان حصاد اللسان في لحظات، ولكن لنعلم أن أخطر حصاد اللسان الصدق والكذب، (وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) ، والكذاب مآله إلى النار.
يقول الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: إبليس استحيا من أن يكون كذاباً حينما قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] ، ثم قال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] .
لو لم يستثن هذه لكان كذاباً لأن هناك أشخاصاً لا يغويهم، فاحترس لذلك لئلا يكون كذاباً.
وأبو سفيان وهو أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، عندما مُثل بين يدي هرقل، وقال له هرقل: إني سائلك عن هذا الرجل، ويقول لمن معه: كونوا من ورائه، فإن صدق صدقوه، وإن كذب كذبوه.
ثم سأله، فلما خرج من عنده قال: ما منعني أن أكذب وأحقر من أمر محمد عنده إلا أنني خشيت أن يؤثر عني الكذب!! إلى هذا الحد.
إذاً هذا الموضوع مهم جداً، ويكفينا دلالة على ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم في التحذير من آفات اللسان -ومصداقاً لذلك فقد قال الشافعي: كل حديث له دليل من كتاب الله- قوله سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، ويجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويجعلنا وإياكم من الصادقين، وأن يجنبنا وإياكم الكذب والغيبة والنميمة، وكل ما لا يرضى سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(67/12)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [6](68/1)
الترهيب من آفات اللسان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلا زلنا في حديث معاذ الذي جاء فيه: (قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] ، حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ} [السجدة:19] ، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا، قلت: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم) .
هذا الحديث الطويل الذي بيّن أصول الإسلام، وبيّن الأركان والنوافل وأبواب الخير المتعددة، وشبه فيه الإسلام بالرأس للجسد، والصلاة بالعمود للبيت، والجهاد بالسنام.
ثم بعد ذلك يقول صلوات الله وسلامه عليه: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) ، ملاك ذلك وامتلاك ذلك: هو الشيء الذي يجمع أطراف الشيء، تقول: امتلكت البيت بأي شيءٍ امتلكته؟ بزمامه، بصكه، بمفتاحه.
فملاك الأمر: قوامه الذي به تجتمع أطرافه كلها، وهنا يقول معاذ: (بلى يا رسول الله) ، فيأتي صلى الله عليه وسلم إلى اللسان ويشير إلى لسان نفسه، ويقول: (كف عليك هذا) ، وكما يقول البلاغيون وعلماء النحو: اسم الإشارة يعين مسماه، أي: للتعيين والتحديد، وكما يقول علماء الوضع: أسماء الإشارة موضوعة لموضوع خاص، فكلمة (هذا) صالحة لكل ما تشير إليه.
ولكن لا يستعمل إلا لفرد واحد معيَّن عند الاستعمال، تقول: هذا الرجل هذا الكتاب هذا العمود فتعيَّن هذا العمود دون عمد المسجد كلها، مع أنها صالحة أن تستعمل مع كل عمود على حدة، ولذا كان التعيين بلسانه صلى الله عليه وسلم لأهمية الأمر.(68/2)
فوات بعض الأحكام عن بعض الصحابة لا بنقص من مكانتهم
فيقول معاذ: (وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟!) ، كأن معاذاً لم يكن يعرف إجابة هذا السؤال وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ) ؛ لكن فات عليه أنه يؤاخذ بما يتكلم به.
إذاً: لا غرابة أن تفوت بعض الأحكام على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرفها الآخرون، أو لا يعرفونها ويسألون عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت نماذج عديدة من ذلك، ويستدل ابن رجب وابن القيم وغيرهما بهذا الحديث على أن كثيراً من آحاد الأحكام قد تخفى على بعض الصحابة ثم تتبين لهم بعد ذلك بأن لم يكونوا سمعوا فيها خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يجتهدون في المسألة ويوفقون إلى طبق ما جاء فيه النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكنا نشير إلى نماذج من تلك النماذج ما وقع بين عمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب، كل هؤلاء في المسجد النبوي الشريف اختلف رجلان في هذا المسجد إذا وطئ الرجل زوجته ولم ينزل هل عليه غسل أم لا؟ فقال عثمان: لا غسل عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء) وقال الآخر: عليه غسل، فقال عمر لـ علي: ما تقول أنت يا علي في هذه؟ مسألة في كل البيوت وتخفى عليهم، فيقول علي: علام تسألني وتسأل غيري، وبجوارك أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن، إرسل إليهن فسلهن.
فيرسل عمر رضي الله تعالى عنه إلى أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فتقول سلوا عائشة فإنها أعلم بذلك مني.
ويسألونها فتقول: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويغتسل، وقالت: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها ثم جهدها فقد وجب الغسل) ، وقالت: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل) .
وجاء الخبر إلى عمر فقال: لا أسمح أحداً يقول: لا غسل، إلا جعلته مثلاً لغيره، فقال ابن كعب على رسلك يا أمير المؤمنين! كنا في بادئ الأمر لا نغتسل إلا من الماء -نزول المني-، ثم عُزِم علينا فيما بعد، يعني أن الذي قال: لا غسل عليه، أخذ بما كان في أول الأمر، والذي قال: عليه الغسل، أخذ بما كان في آخر الأمر، وصاحب المقالة الأولى لم يبلغه الحديث الثاني.
وأيضاً: فقد جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال: يا ابن عباس ما لي أرى الناس اختلفوا في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لم يحج إلا مرة واحدة، قال: وفيم ذلك يا بن أخي؟ قال: بعضهم يقول: أهلّ في مصلاه قبل أن ينصرف، وهناك من يقول: أهلّ حينما ركب راحلته، وهناك من يقول: أهلّ حينما صعد البيداء، ولا أدري من أين أهلّ، قال: يا ابن أخي! أنا أخبرك.
أما الذي قال إنه أهل في مصلاه فقد سمع هو ذلك ولم يسمعه غيره، وأما الذي قال إنه أهل حينما استقلت به راحلته فقد سمع ذلك ولم يسمع ما قبله، وأما الذي قال إنه أهلّ حينما استوى على البيداء فقد سمع ذلك ولم يسمع ما قبله، وكلٌ أخبر بما سمع، والكل صادق.
فهذه مسائل قد تخفى، ومما وقع لـ عمر رضي الله تعالى عنه حينما ذهب إلى الشام، وفي طريقه بلغه أن الطاعون وقع بالشام في عمواس، فوقف هل يدخل على الطاعون ومعه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو يرجع عما كان يريد، فاستشار الناس فاختلفوا عليه، يقول ابن عباس: قال لي عمر: ادع من كان هنا من المهاجرين، فجاءوا فسألهم فاختلفوا عليه، فبعضهم يقول: لا تدخل، وبعضهم قال: توكل على الله وادخل، فقال: انفضوا عني، ادع لي من كان هنا من الأنصار، واختلفوا عليه أيضاً، وأخيراً قال: ادع لي مشيخة قريش، فجاءوا فلم يختلف عليه واحد منهم، وقالوا: يا أمير المؤمنين جئت بوجوه القوم وخيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معك، فلا نرى أن تدخل بهم على الطاعون ونرى أن ترجع، فنادى في القوم: إني مصبح على ظهر.
فلما سمع القوم المنادي ينادي، سمع عبد الرحمن بن عوف ولم يكن حاضراً تلك المشاورات، قال: ما الأمر؟ فأخبروه بما كان، فقال: عندي في ذلك علم عن رسول الله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) ، فكبر عمر رضي الله تعالى عنه وحمد الله أنه وافق رأيه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذاً جاءنا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءنا خبر عن صحابي من أصحاب رسول الله يخالف هذا الحديث، فلا يكون ذلك طعناً في الصحابي، ولا يكون طعناً في الحديث يضعفه، ولكن نقول: هذا الحديث رواه صحابي آخر سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الصحابي الجليل الذي لم يوافق ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع بهذا الحديث، ولو سمع لكان أسبق الناس إليه.
وعلى هذا يحترم العلماء آراء الصحابة والتابعين، ويلتمسون الأعذار لمن لم تبلغه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونخطو خطوة أخرى إلى الأئمة الأربعة، ونقول لطلبة العلم، ونؤكد عليهم أن يرجعوا ويقرءوا كتاب الإمام ابن تيمية رحمه الله: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، حيث ذكر فيه أسباب الخلاف وجعلها عشرة، ومنها ألا يبلغه الحديث فيكون معذوراً، أو يبلغه ولكن لم يصح سنده عنده، وقد يصح عند غيره، وقد يبلغه ويصح سنده لكن يتعارض مع ما هو أقوى منه عنده، وقد يبلغه ويصح سنده ولا يتعارض عنده ولكن يختلف في فهمه مع الآخرين.
إذاً: كل هذا من الأعذار التي تكون سبباً في اختلاف الأئمة رحمهم الله في بعض المسائل، وليس ذلك عيباً، وليس ذلك نقصاً، وليس ذلك من باب الفرقة فيما بينهم.
وهذا معاذ رضي الله تعالى عنه وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعرف الأمة بالحلال وبالحرام، ومع ذلك لا يعلم بأن الإنسان مؤاخذ بكل ما تكلم به، مع أن في هذه القضية قرآناً يتلى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، الرقيب العتيد يحصي عليه ما يقول ليحاسب بمقتضاه، لا أنه يكتب ولا محاسبة! فالشخص العادي لا يفعل هذا صاحب الدكان يأخذ دفتراً ويقيد كل صغيرة وكبيرة حتى يعمل حسابه إذاً: رقيب وعتيد هذا كله يدل على أن كل ما يتلفظ به الإنسان أنه يكتب، ولا يكتب إلا للازم الفائدة وهو المحاسبة عليها.(68/3)
معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ثكلتك أمك!) نحوه
ثم نأتي إلى جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك) : الثكل هو فقد الولد، كما جاء عن بعض الأعراب (ثكل أرأمها ولداً) ، وهي امرأة كان لها ولدان أحدهما فارس شجاع جيد، والآخر عادي مُهمَل، فكان تعنى الأم بالولد النجيب الفارس وتهمل الثاني، فقُتِل الولد النجيب -والمثل موجود في كتب الأدب- فلما قتل النجيب لم يبق إلا ذاك المسكين الضعيف، صارت الأم تحنو على هذا، فقالوا: هنيئاً لك أمك تحنو عليك، قال: ثكل أرأمها ولداً.
أي: ثكلها بولدها الذي ذهب هو الذي جعلها تعطف علي، وقبل هذا ما كانت تسأل عني.
وهنا مسألة: من المعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن سباباً ولا لعاناً ولا فاحشاً، فكيف يصدر منه في حق معاذ قوله: (ثكلتك أمك) وهو الذي قال له: (والله إني لأحبك؟!) .
يقول العلماء: تلك ألفاظ تقال ولا يراد معناها، وإنما هي عبارات تجري على اللسان كضرب المثل، تعبر عن عدم الرضا، وقد جاء أبعد من هذا، فلما كان صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وبعد أن طاف بالبيت سأل عن صفية -وكانت نوبتها- فقالت له عائشة: إنها حائض.
فقال (عقرى حلقى -لغة قريش- أحابستنا هي؟ ثم قال: أكنت أفضت -طفت- يوم النحر.
قالت: نعم قال: فانفري إذاً) .
فهنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى) ، العقر: إصابة بمصيبة، يقولون: عقر الدابة إذا ضرب عرقوبها، والعاقر التي لا ولد لها.
وهل يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجة من زوجاته أن تكون عاقراً لا تلد! هذا أكبر عيب في النساء.
حلقى: يعني حالقة شعر رأسها، والمرأة لا تحلق الشعر إلا في أكبر المصائب، إذاً: هل الرسول يدعو على زوجة من زوجاته بهذه الألفاظ؟ قال العلماء: إنما هي كلمات تجري على الألسنة دون إرادة معناها.
كالوالد أو الوالدة عندما يجري على لسانه بالدعاء على ولده إذا غضب عليه ولا يقصد ذلك.
فهذه أشياء تجري على اللسان غير مرادة، وما هنا كذلك، لكنه يبين عظيم خطر الموقف، لأن هناك لو لم تكن طافت طواف الإفاضة فإنها ستحبسهم أسبوعاً حتى تطهر، والناس كلهم متجمعون ولن ينفر أحد قبل أن ينفر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحصل مشقة على الناس.
وهنا يستعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نهمل حصائد الألسنة فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ) .
وهل يكب: إذا سقط الشخص على ظهره يقال له: استلقى على قفاه، وإذا سقط على وجهه يقال: انكب على وجهه، وهنا: (وهل يكب) استفهام، لكن من باب الاستنكار، ولذلك قال: (وهل يكب الناس على وجوههم في النار) ، ما قال يلقيهم، بل قال: يكبهم على وجوههم، لأنه أشد من الإلقاء، أو قال: (على مناخرهم) ، وليس هناك تعارض، لأن المناخر من الوجوه، ولكن ذكر المناخر لأنها موضع الأنفة والكبر، ولذلك قال الله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] فجعل موضع الأنفة والاستكبار أول ما يلامس الأرض ليعبر عن مدى مهانة صاحبه.(68/4)
دخول اللسان في أغلب المعاصي
قوله: (إلا حصائد ألسنتهم) فيه تشبيه كلمات اللسان بالزرع الذي ينبت، فليتأمل كل واحد ماذا زرع؟ لأنه لابد غداً أنه سيحصده، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
يقول العلماء: أخطر حديث فيما يتعلق بنطق اللسان حديث معاذ هذا، ثم أخذوا يفصلون بعض العلماء يقول: لا يوجد ذنب ولا توجد معصية إلا ومعها اللسان يتكلم، لكن قد توجد بعض المعاصي بدون اللسان.
وقالوا: أعظم حصائد اللسان المحرمة الكذب والنميمة والغيبة، وأعظمها عند الله الشرك بالله، كمن دعا غير الله، {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19-20] .
{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم:23] ، والذي سماها هو اللسان، فاتخاذ الند لله ومع الله من حصائد الألسن، ومعها اعتقاد القلب، لكن اللسان هو الذي يعبر عنه إذاً: كل ما في القلب يعبر عنه اللسان.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً وإن كان هذا يقوله علماء الكلام لقضية أخرى، لكن اللسان ترجمان الإنسان.
ويقول آخر: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فالإنسان نصفان: نصف مع القلب يريد ويرغب، والنصف الثاني مع اللسان الذي يعبر عما يريد القلب ويرغب فيه.
ولذا الأخبار في هذا الباب طويلة جداً وأجمعها ما جاء في الأحاديث أن كل يوم يصبح الإنسان، تأتي الجوارح وتقول للسان: اتق الله فينا، لأن بك الصلاح وبك الفساد.(68/5)
استثناء إبليس لئلا يكون كذاباً
اللسان يتكلم والجوارح كلها تتحمل التبعة، ولذا جاء: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه) .
فاللسان والقلب مرتبطان، وإذا جئنا إلى قضية الكذب والصدق، نجد بأن كل مخلوقات الله إلا الإنسان بل وذوو المروءة من بني الإنسان أيضاً يتحاشون الكذب، فمن ذلك ما كنا نسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه أنه كان يقول: إبليس يتحاشى الكذب حتى لا تؤخذ عليه غلطة، وذلك حينما قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39-40] ، فقالوا: حينما أقسم بعزة الله ليغوينهم أجمعين، أدرك بأن بعض عباد الله سيفلت منه، فاستثنى وقال: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] .
قدمنا سابقاً أن يحيى أو زكريا لقي الشيطان، فقال: أخبرني عن أقسام الناس وتصنيفهم عندك؟ قال: ثلاثة أقسام: قسم أنت وإخوانك الرسل، يئسنا منهم، وعجزنا عنهم.
وقسم استرحنا منهم، لأنهم رهن الإشارة حيثما نشير إليهم يأتوننا، وهم الجهال وصفاتهم كذا وكذا.
وقسم لم نيأس منهم ولم نطمع فيهم.
قال: من هؤلاء؟ قال: بقية الناس الذين نحتال عليهم ويقعون في الذنوب ويرتكبون المعاصي، ونكدسها عليهم، ففي لحظة ينتبه الواحد منهم ويستغفر الله فيغفر الله له؛ فلم نيأس منهم لأننا نقدر عليهم، ولم نطمع فيهم لأنهم يستغفرون! إذاً: الشيطان مع جهده احترز عن الكذب بالاستثناء بين يدي الله سبحانه.(68/6)
نظرة الجاهلية إلى الكذب
بل من المعلوم أن أصحاب المروءات لا يرون الكذب من شيم الرجال، بل نجد ذلك -أيضاً- حتى عند أهل الجاهلية الذين كانوا على عبادة الأوثان، وخير شاهد على ذلك قصة أبي سفيان حينما كان بين يدي هرقل.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أرسل بكتب إلى الملوك، وممن أرسل إليهم قيصر الروم، فلما جاءه الخطاب وقرأه وفيه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] إلى آخره، فقال لوزرائه: إذا جاء وفد من العرب فأخبروني، مع أنه كان عالماً بالنجوم، وقد رأى نجم نبي الختان قد ظهر، فقال: أي الأمم تختتن، قالوا: العرب، قال: إذا جاء وفد من العرب فأخبروني، فلما جاء وفد أبي سفيان وجماعة معه، قال: أنتم من العرب؟ قالوا: بلى.
جئتم من الحجاز؟ قالوا: بلى أظهر فيكم من يقول إنه نبي؟ قالوا: بلى.
قال: من أقرب الناس إليه نسباً فيكم؟ قالوا: أبو سفيان.
قال: ادن، واجلسوا أنتم من ورائه، إني سائله أسئلة، فإن صدق فصدقوه وإن كذب فكذبوه.
فقال: إني سائلك عن هذا الذي ظهر عندكم، أكان أبوه ملكاً؟ قال: لا، قال: أكان في قومه من يدعي النبوة؟ قال: لا.
قال: أجربتم عليه كذباً؟ قال: لا.
قال: أقاتلتموه؟ قال: بلى.
قال: كيف كان القتال بينكم؟ قال: سجالاً؛ تارة لنا وتارة علينا.
قال: أخبرني عمن يدخل في هذا الدين، أيخرج منه أحد بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: أيكذب عليكم؟ قال: لا.
ثم قال: سألتك: أكان في آبائه ملك فقلت لا، فلو كان أبوه ملكاً لقلت يطلب ملك أبيه الضائع.
ثم سألتك: أكان في قومه من يدعي النبوة فقلتَ لا، ولو كان فيهم لقلت: يدعي ما ادعاه غيره.
وسألتك: أحاربتموه، قلت: بلى والحرب سجال، وهكذا شأن الأنبياء مع الأمم.
وسألتك: أيخرج أحد ممن دخل في دينه بعد أن دخل فيه فقلتَ لا، وهكذا بشاشة الإيمان إذا خالطت القلوب.
وسألتك: أيغدر، قلت لا.
وسألتك: أيكذب، قلت: لا يكذب.
فإذا كان لا يكذب على الناس فلن يكذب على الله.
ثم قال أبو سفيان: ألا أخبرك بما تعلم أنه يكذب؟ قال: وما هي؟ قال: ويزعم لنا أنه أتى مسجدكم هذا، ورجع إلينا في ليلة واحدة، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً في المجيء وشهراً في العودة.
هذه التي وجدها أبو سفيان.
ثم قال أبو سفيان بعد أن خرج من قصر الملك: والله ما منعني الكذب عليه بين يدي هرقل إلا أن يؤخذ عني الكذب.
حينما قال: ألا أخبرك بما تعلم أنه كذَب، وقال: لقد أخبرنا أنه أتى إلى مسجدكم هذا وصلى فيه ورجع من ليلته، هذه أكبر دليل عند أبي سفيان على الكذب، وكان دهقان من دهاقنة بيت المسجد على رأس الملك، قال: نعم وقد علمت تلك الليلة، قال: وما علمك بهذه الليلة.
أبو سفيان يأتي بالقصة من أجل أن يتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكذب، والله يأتي بالدهقان ليصدق على ما قال أبو سفيان بأنه جاء وصلى ورجع في ليلة.
فقال له الملك: وما علمك بذلك؟ قال: كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، وفي تلك الليلة غلقت الأبواب إلا باباً واحداً، فعالجته، فدعوت الخدم واجتمعنا عليه فلم نستطع فدعوت النجاجرة، -هكذا يقول ابن كثير في القصة- فدعوت النجاجرة فنظروا إليه فقالوا: إن الجدار أو السجاف قد نزل على الباب، والليل مظلم ولا نستطيع أن نفعل شيئاً، فدعه إلى الصباح لنرى من أين أُتِي ونصلحه، فتركته على ما هو عليه، ومن الغد في الصباح بادرت إلى الباب فإذا به كالعادة يقفل ويفتح، ونظرت إلى صخرة عند الباب فإذا بها مخروقة وبها أثر دابة، فعلمت أن هذا لا يكون إلا لنبي! والذي يهمنا أن أبا سفيان وهو لا زال على الشرك عدواً للإسلام، يقول: ما كذبت -يعني أحب ما يكون إليه أن يكذب رسول الله عند هرقل يقول: ما منعني أن أكذب على رسول الله إلا خشية أن تؤخذ علي كذبة، فلا يصدقني في خبر بعد ذلك.
فكيف به بعد إسلامه، وهكذا يُسأل صلى الله عليه وسلم: أيسرق المسلم؟ فيقول: نعم أيفعل أيفعل حتى إذا سئل: أيكذب؟ فقال: لا.
سبحان الله، والحديث الآخر: (وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً) .(68/7)
بشاعة تصوير الكتاب والسنة للغيبة
وتأتي قضية الغيبة والنميمة، والآثار الكبيرة فيها، يقول تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:12] .
يشبه القرآن الكريم المغتاب بشخص ذهب إلى المقبرة ونبش القبر وأخرج الميت وانهال عليه يأكل من لحمه، وهذه صورة فظيعة، ويا لفظاعتها! وصورة قريبة من تلك الصورة حكاها النبي صلى الله عليه وسلم عندما (كان يمشي مع جماعة من الصحابة، فتكلم شخص بكلمة عن شخص غائب، ثم مر صلى الله عليه وسلم بجيفة حمار شائل، فقال: أين المتكلم بكلمة كذا؟ قالوا: هذا هو، قال: انزل فكل من هذه الجيفة، قال: يغفر الله لي ولك، ومن يأكل من هذه؟ قال: للكلمة التي قلتها أشد جيفة من هذه) .
انظر التشبيه العملي، نلاحظ أنه لما سمع عليه الصلاة والسلام كلام ذلك الرجل سكت عنه، لكن لما رأى تلك الجيفة تكلم تصديقاً لكتاب الله {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات:12] فجعله كمن يأكل من لحم أخيه ميتاً؛ لأن الأخوة تقتضي الحفاظ عليه، والأخوة تمنع من أن تعضه بالفم وهو حي، أو أن تناله بأبسط مكروه، فكيف بأكله ميتاً؟ بل لو كان حياً وبينك وبينه عداوة وقد مات، فلن يبقى للعداوة أثر بعد الموت.
وأما النميمة -عياذاً بالله- فتوقع بين القوم فتناً، والفتنة أكبر من القتل، فقد تقع بين القبائل حروب تأتي على الأخضر واليابس بسببها، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) .(68/8)
صور ونماذج من مزح الصحابة
وفي المزح قد يبحث الشخص عن كلمة سواء كانت حقاً أم باطلاً ليضحك القوم، أما لو كانت طرفة أدبية، أو نكتة لطيفة، أو كان فيها توجيه، فلا مانع منها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه ولا يقول إلا حقاً.
والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أيضاً يمزحون، ومما يروى أن أعرابياً جاء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأناخ راحلته عند باب المسجد، وجاء بعض الصحابة وقالوا: يا نعيمان!! نحن منذ فترة من الزمن ما أكلنا اللحم، قال: فماذا تريدون أن أفعل؟ قالوا: انحر لرجل ضيف عند رسول الله، وسيعطيه الرسول بدلاً عنها من إبل الصدقة، وتكاثروا عليه حتى نحرها، وتقاسموا لحمها، وخرج الرجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد ناقته، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فسأل النبي أصحابه عنها، فأخبروه بأن نعيمان ذبحها وفرق لحمها، فدعاه وقال له: ما الذي حملك على هذا؟ قال: الذين دلوك علي هم الذين حرضوني، فضحك صلى الله عليه وسلم وأعطى الأعرابي ثمن ناقته من عنده.
لا نقول إن هذا من باب إجازة التسلط على أموال الناس، لا، فالصحابة لم يفعلوا ذلك إلا بمقصد حسن، وبحسن ظن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما إذا كان عن تعد، كما فعل غلمان عندما أخذوا ناقة لرجل من الأعراب، فذبحوها وأكلوها، فلما خرج، قال: من فعل هذا؟ قالوا غلمان حاطب، فلما سئلوا عن علة ذلك، قالوا: كنا جائعين، فغُرم سيدهم قيمة الناقة مثلين، وألزم بالنفقة التي تكفي لغلمانه فلا يجوعون فيعتدوا على أموال الناس.
ففرق بين هذا الذي جاء عن تقصير، وذاك الذي عن حسن قصد أو عن رغبة فيما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أمثلة ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ظاهر من زوجاته شهراً، وكان عمر في العالية وجاء زميله الذي كان يقاسمه الأيام، فقد عمر بن الخطاب وجاره لهما بستان في العالية، ولا يستطيعان أن ينزلا معاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع الأحاديث، ولا يستطيعان أن يجلسا معاً ويتركا المسجد، فتناوبا، فيجلس هذا في البستان وينزل هذا يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين يأتي في الليل يسمِّعه ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغداً ينزل الآخر، وهكذا يتناوبان.
فيوم جلس عمر ونزل صاحبه، فلما عاد إليه قال: يا ويح عمر! قال: ماذا حصل، هل داهم الأعراب المدينة؟ قال: لا، ولكن طلق رسول الله زوجاته.
فنزل عمر وبدأ بـ حفصة بنته، فقال لها: ما بالك طلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لم يطلقني، فقال لها: فأين هو؟ قالت: هو في العلية.
قال: فماذا حصل؟ قالت: نساؤه طلبنه النفقة.
فطعنها عمر في خاصرتها، وقال لها: أغرك أن جارتك أوضأ منك وجهاً، وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم قال: والله لأصعدن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأضحكنه.
فلما صعد قال: السلام عليك يا رسول الله! فرد عليه السلام.
فسأله: هل طلقت أزواجك يا رسول الله؟! قال: لا.
ولكنهن يطلبنني النفقة.
قال: والله يا رسول الله! لو رأيت بنت فلان -يعني: زوجة عمر - وهي تقول وتقول إلى أن ذكر أشياء ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما جئت هنا إلا من طلباتهن كذا وكذا.
فـ عمر رضي الله تعالى عنه تعمد أن يأتي بالأخبار التي تضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أنه غضبان من زوجاته.
وقد جاء عن عمر أنه لقي رجلاً فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! أريد أن أطلق زوجتي.
قال: ولم، قال: لا أحبها، فزجره وقال: ثكلتك أمك، وهل كل البيوت تبنى على المحبة، أين الوفاء وأين المروءة وأين مكارم الأخلاق، وأين وأين حتى رجع الرجل.
ومرة أخرى يأتي إنسان إلى بيت عمر، ثم يرجع من بابه، فيعرف خبره عمر، فيسأله عن سبب عودته من بابه، فيقول: والله يا أمير المؤمنين لقد جئت أشتكي زوجتي إليك، وكثرة نزاعها معي، فلما وصلت إلى باب بيتك فإذا بي أسمع زوجك ترفع صوتها عليك، فقلت: إذا كان هذا أمير المؤمنين يصبر على زوجه، فلماذا لا أصبر أنا كذلك.
فقال له عمر: وكيف لا أصبر عليها وهي أم ولدي، وفراشي، وحافظة مالي، وطاهية طعامي، ومنظفة ثيابي.
فهذا هو عمر رضي الله عنه الذي جاء يقول إن زوجتي تقول وتقول، حتى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الكلمة التي يقولها الإنسان لا يريد إلا أن يضحك القوم دونما غاية وراء ذلك، هذا هو العبث، أما إذا كان لإصلاح ذات البين أو لتفريج هم إنسان، كأن تجد إنساناً يخنقه الغضب، وتحتبس العبرة في عينه، ومع كلمات هادئة أو كلمات لطيفة، تسرِّي عنه كل الذي يعانيه، فتكون هذه أعظم صدقة منك عليه؛ فهذا لا بأس به.
وأعظم ما يكون من ذلك: عندما يتكلم الإنسان في العلماء، ولا يلقي لذلك بالاً، بل قد يكون عن قصد وتدبير.
وكم جاءت الأحاديث أن شر الناس رجل خبب زوجة على زوجها، أو عبداً على سيده، وما ذلك إلا باللسان أو بالكلام.
ويذكرون أن عمر رضي الله تعالى عنه دخل على أبي بكر فإذا به ممسك طرف لسانه -جاذباً له- وهو يقول: تب إلى الله أوردتني المهالك! قال: مه يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لولاه استرحت.
فإذا كان الصديق رضي الله تعالى عنه يحاسب لسانه عملياً كما يقولون، فكيف يكون بالآخرين؟ وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال:- على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ، جعل صلى الله عليه وسلم فيه أعمال اللسان زرعاً، والزرع لا بد له من حصاد، فمن يزرع الشوك لا يحصد إلا الشوك، وعلى هذا يكون التشبيه من حيث العمل ومن حيث النتيجة، وكما ذكر صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج مما رآه عند قوم يحرثون ويبذرون فيطلع ويحصدون في يومهم ثم يعود النبات مرة أخرى، وكلما حصدوا طلع النبات، وذكر أن هذا هو الجهاد في سبيل الله، وأنه ثمرة أو حصاد زرعهم.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا وإياكم زلات اللسان، وما الغمز ولا اللمز ولا الهمز ولا الاستهزاء ولا السخرية ولا الكذب ولا الغيبة ولا النميمة ولا الفتنة إلا من حصائد اللسان.
وبعض العلماء يقول: واعجبا! اللسان محبوس وراء أربعة جدران، ومع هذا ينفذ منها، أنت تطبق عليه الفكان بأسنانهما، والشفتان بطرفيهما، ومع ذلك يفلت منهما ويأتي بالكلمات التي لا تليق.
ويقولون: كل سهام يمكن تداركها إلا سهم اللسان، فإذا نفذت الكلمة من الشفتين لم تستطع أن تستردها.
نسأل الله تعالى أن يقينا وإياكم شر ألسنتنا، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
وخير ما نختم به هذا الموضوع قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، يا لسان! قل خيراً فتغنم أو اصمت فتسلم لأنك بين أحد أمرين إن كنت متكلماً فلا تتلكم إلا لتغنم، وإلا فاصمت لتسلم والله تعالى أعلم.(68/9)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [1](69/1)
شرح حديث: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: [عن أبي ثعلبة الخشني جرثوم بن ناشر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره] .
هذا الحديث يعتبره علماء الحديث من أجمع الأحاديث لأحكام الشريعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم أحكام الشريعة كلها إلى: · فرائض.
· وحدود.
· ونواهٍ.
· ومباحات.
ولا يوجد حكم في الشرع إلا وهو داخل تحت قسم من هذه الأقسام، ولذا يقولون: هو أجمع حديث لأحكام الشريعة الإسلامية.(69/2)
تعريف الفرض لغة
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض) : الفرض في اللغة: القطع، ولو جئت إلى فقه اللغة لوجدت التقارب بين القرض بالقاف، والفرض بالفاء، فالفرض: القطع، والقرض تقول: قرض الفأر الثوب بمعنى: أكله وقطعه، وقرض الحبل الحجر: إذا حزَّ فيه من طول اللُبث أو طول الحركة، ومنه: الفرائض (المواريث) فلكل شخص حصة من التركة مقطوعة من رأس المال، وهكذا قالوا: الفرض هو الحد والقطع والتحديد.
ويقول الفقهاء فيما اصطلحوا عليه في أصول الفقه: الفرض والواجب مترادفان إلا في الحج.
والواجب لغة الثابت، فكل ما فرضه الله فهو ثابت، فبينهما ارتباط، ولذا قالوا: هما مترادفان، ومن استدلالهم على أن الواجب: الثابت قول الشاعر: أطاعت بنو بكر أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب واجب، بمعنى: ساقط وثابت.
وقال في الآية الكريمة عن البُدن: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] ؛ لأن الإبل والبدن تنحر قائمة، فإذا نحرت سقطت على جنبها، وثبتت في مكانها فلا تبرحه.(69/3)
تعريف الفرض عند الفقهاء
يقول الفقهاء: الفرض والواجب مترادفان في جميع العبادات إلا في الحج؛ لأن الفرض والواجب سواء، فهما ركنان في العبادة ولا تصح إلا بهما.
والحج فيه الفرض والواجب والركن والواجب.
والركن: جزء الماهية، وليس شرطاً في صحتها؛ ولكن جزء منها.
وفرق بين الركن والشرط، والصلاة فيها ركوع وسجود وقراءة، وهذه الصلاة لا تصح إلا بطهارة وباستقبال القبلة؛ ولكن الطهارة عمل خارج عن عملية الصلاة، تتطهر في بيتك وتصلي في المسجد، وكذلك استقبال القبلة؛ فاستقبال الجهة خارج عن ماهية الصلاة، ثم تكبير وقراءة وركوع وسجود وسلام.
فالركن جزء الماهية، فيقولون: الركن والفرض والواجب كله سواء إلا في الحج، فالركن في الحج: ما لا يتم الحج إلا به، وإذا فات فلا حج، والواجب في الحج يُجبر بدم.
ومثلوا لهذا بالوقوف بعرفة فهو ركن في الحج، وكذا الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة واجب، ورمي الجمار واجب لو تركه يُجبر بدم، والحج صحيح، وطواف الوداع يُجبر بدم والحج صحيح؛ لأنه واجب، خلافاً لـ مالك.
إذاً: الحج فيه أعمال يفوت إن تركت، سواء كانت خطأً أو نسياناً أو عمداً، من فاته الوقوف بعرفات فلا حج له؛ لحديث: (الحج عرفة) ، ويبقى بإحرامه، ويأتي الكعبة ويطوف ويتحلل بعمرة، وعليه الحج من عامٍ قابل، وإذا أخر طواف الإفاضة لم يتم حجه إلى أن يطوف بالبيت؛ لذا قالوا: الفرض والواجب في جميع العبادات سواء ما عدا الحج.(69/4)
الفرض والواجب عند أبي حنيفة
عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله اصطلاح في الفرض والواجب، فالفرض: ما ثبت بدليل قطعي من كتاب الله، والواجب: ما ثبت بطريق الآحاد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: عنده زكاة المال: فرض، بينما زكاة الفطر واجب؛ لأن زكاة المال جاءت بكتاب الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، و {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:55] ، والمقصود هنا زكاة المال، سواءً كانت من الحبوب والثمار أو من الذهب والفضة أو عروض التجارة أو بهيمة الأنعام؛ لكن صدقة الفطر إنما جاءت بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الصلوات الخمس فروض، أما الوتر فهو عنده واجب؛ لأنه ثبت بسنة الآحاد، والجمهور يقولون: الوتر سنة؛ لكن لما كثرت فيه الأحاديث ارتقى عند أبي حنيفة إلى الوجوب، لكن ليس كالفرض، وهو يعادل السنة المؤكدة عند الجمهور.
قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى فرض فرائض) ، الجمهور على أن هذه الفروض هي: أركان الإسلام، وما أوجب الله العمل به، فلا شك أن الصلاة واجبة، والطهارة لها واجبة، إذ هي فرض لا تصح الصلاة إلا بها، والزكاة واجبة في جميع أصناف الأموال الزكوية، والصوم واجب، والحج والجهاد واجب بشروط، وهكذا كل ما أمر الله أن يُفعل، ورتب على تركه عقوبة، فهو فرض أو واجب، وكلاهما بمعنى واحد عند الجمهور.(69/5)
معنى قوله: (فلا تضيعوها)
قال عليه الصلاة والسلام: (فلا تضيعوها) كأنه يقول: لا تضيعوا الصلاة؛ ولكن بم تضيَّع؟ بأحد أمرين: · إما بتركها حتى يخرج الوقت، وهذا تضييع لها.
· وإما بإتيانه إياها بغير خشوع ولا خضوع ولا تأمل فيها ولا ولا إلى آخره، كما جاء في الحديث: (إن العبد إذا صلى الصلاة بخشوع وخضوع وتلاوة صعدت إلى السماء، ولها رائحة زكية، كلما مرت بسماء قالت ملائكتها: ما هذا؟ قالوا: صلاة فلان، فأخذت تصلي عليه وتدعو له إلى أن تصل إلى عرش الرحمن، وإذا صلى الصلاة وضيعها؛ تأتي فتطرق السماء فلا تُفتح لها أبواب السماء، وتُلف كما يُلف الثوب الخَلِق، ويرمى بها إلى وجهه، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني) ، والتضييع: التفويت، كما قال عمر رضي الله تعالى عنه حينما حمل رجلاً على فرس له في سبيل الله، ونعلم أن عمر لن يقتني فرساً إلا فرساً يتجاوب مع شجاعة عمر ومع قتاله، فلما حمل على هذا الفرس الجيد الأصيل الرحل الذي حمله عليه، وأخذه هبةً من عمر لم يستطع أن يؤدي واجب هذا الفرس؛ لأن الفرس قد يكلف أكثر من الولد: في طعامه ونظافته وترويضه وأداء واجبه إلى آخره، قال عمر: (فرأيت الذي أخذه قد ضيعه) ، بأي شيء؟ بعدم أداء واجبه، وإهمال حقه.
إذاً: الإهمال تضييع، والصلاة تضيَّع إما بتركها حتى يخرج وقتها، أو بأدائها في آخر الوقت كما جاء في بعض الروايات: (ينظر إلى الشمس حتى إذا ما اصفرَّت قام ونقرها نقر الغراب) ، وإما أن يصليها فرادى في أول وقتها، ويترك الجماعة وهو يستطيع أن يحضرها، أو يصلي جماعة وقلبه مشغول، ولذا قال في الآية الكريمة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] ، يقول بعض السلف: الحمد لله الذي قال: {عَنْ صَلاتِهِمْ} ولم يقل: في صلاتهم؛ لأنه قلَّ أن يسلم مسلم من أن يسهو في صلاته بنوع ما؛ ولذا شرع الله سجود السهو تداركاً لما عسى أن يقع من نقص، والإنسان لا يسلم وليس معصوماً من السهو، ولكن فرق بين أن يدخل في الصلاة ويكبر، ثم يذهب يحسب حساب البيع والشراء، ومكسب وربح، ورواح ومجيء، إلى آخره!(69/6)
وجوب حفظ الفرائض وعدم تضييعها
الفرائض يجب أن تحفظ، جاء في الحديث: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن حفظها وحافظ عليها ... ) ، (حفظها) : أي: بواجباتها، و (حافظ عليها) أي: أداها في وقتها.
وجاء في الحديث: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الصلاة في أول وقتها) .
وجاء سائل آخر فقال له: (.
إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله) .
وجاء ثالث فقال له: (إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) .
وقد أشرنا سابقاً بأن المفتي يجب عليه أن ينظر إلى شخصية المستفتي، وما الذي يصلح له؟ وهل كانت هذه الأسئلة في أوقات مختلفة؟ فحينما كانوا في حالة جهاد قال: (جهاد في سبيل الله) ، وحينما لم يكن هناك جهاد بل سلم قال: (الصلاة في أول وقتها) ، ولم يكن لهؤلاء أحد من الأبوين، وعندما جاء السائل وله أبوان، وعلم أنه مقصر في حقهما قال: (بر الوالدين) ، فأعطى كل سائل ما يناسبه.
مثلما يأتيك إنسان ويسأل: أي العمل أفضل؟ فتتأمل فيه وتقول له: الجندية؛ لأنك تجد فيه نشاطاً وطموحاً، وهناك إنسان تجد فيه الهدوء فتقول له: البيع والشراء خير لك، وتجد إنساناً آخر فتقول له: العمل في الدائرة الفلانية يناسبك.
وكثير من الجامعات لها برامج، ولها اختيار لبعض الأشخاص، وقد كان الشيخ محمد بن إبراهيم -يغفر الله له- يصنف الفوج الذي سيتخرج من كلية الشريعة أو كلية اللغة قبل أن يتخرجوا؛ على أساس ما يرى فيه من ملامح، وما يصلح له إما لتدريس أو لقضاء أو لتفتيش أو لعمل إداري.
ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الأفضلية حديث: (أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله) ثم جعل قرين الإيمان بالله الصلاة على أول وقتها، بل إن الله سمى الصلاة إيماناً، فلما تحولت القبلة وأسف بعض الناس عمن مات ولم يصلِّ إلى الكعبة، وقالوا: ما يكون حال هؤلاء؟ أنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ، الإيمان موجود؛ لكن سمى الصلاة إيماناً.
حديث -: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة) ، فإذا ضيع العمود أو كان هزيلاً لا يحمل البيت، وإن ضيعته ولو كان قوياً ما بنيت بيتاً، وإن جئت بعود هزيل كان لا قيمة له، وجاء في الحديث: (كم من مصلِّ ليس له من صلاته إلا التعب، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) .
وروي حديث أن امرأتين استأذنتا في الحر أن تفطِرا في غير رمضان، فقال: (تعالَيا، ويأتي بقدح للأولى، فإذا بها تقيء دماً ولحماً عبيطاً إلى نصف القدح، ثم الثانية تكمله، فقال: تصومان عن الحلال والحرام وتفطران على لحوم الناس؟!) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) .(69/7)
علاج الوساوس في الصلاة
حظ الإنسان من صلاته ما عقل، وكثير من الناس يشتكي مما يعتريه من الوسوسة في الصلاة وشرود الذهن، فما علاجه؟ نحن وأنتم سواء، هذه أمور تغلب على الإنسان؛ ولكن كما ذكر العلماء: أكبر ما يعينك على نفسك في صلاتك: أن تتمعن وتستحضر معاني ما تقرأ، وتُسمع نفسك، لا أن تمرر القراءة على ذهنك كالتذكار أو كأحلام اليقظة، وتجهر بالقراءة بقدر ما تسمع نفسك فقط، لكي تشغل ذهنك بما تسمع.
قالوا: اتخاذ السترة في الصلاة من أسبابه، فتحجز النظر من أن يطيش أمامك، فإذا كنت قائماً فنظرك في حدود السترة، إذا ركعت كان نظرك في منتصف المسافة ما بين السترة وأطراف أصابع القدمين، فإذا سجدت كان نظرك في أرنبة أنفك من الجانبين، فإذا جلست للتشهد كان نظرك في حدود السترة، وهكذا حاسة النظر تكون محصورة.
أما من حيث حركات الصلاة والهيئات فإنك إذا بدأت بـ (الله أكبر) ورفعت يديك كأنك تركت كل شاغل دنيوي وراء ظهرك، واستدرت بقلبك ووجهك إلى القبلة، ثم قرأت واستمعت، فإذا انتهيت من ركن القراءة وتريد أن تنتقل إلى ركن الركوع ينبِّه الفقهاء بأن التكبيرة التي تأتي عند الانتقال لا تأتِ بها قطعاً إنما ائت بها مداً لتشغل فراغ انتقالك، فأنت قائم لا تقل: الله أكبر وتركع، لا.
بل قل: الله أكبر تبدأ في لفظ الجلالة وتنتهي بالتكبير عند استوائك راكعاً، فتكون في حركة الانحاء إلى الركوع مشتغلاً بلفظة (الله أكبر) ، فإذا استقر الظهر راكعاً اشتغلت بالتسبيح ثلاثاً، فإذا أردت الرفع من الركوع قلتَ: سمع الله لمن حمده، وتستغرق حركة الاعتدال في هذا الذكر، فلا يبقى حينها وقت للوسوسة، وهكذا إذا هويت إلى السجود شغلت حركة الهُوِيِّ بقولك: الله أكبر.
أهم الفروض التي افترضها الله على المسلم خمس صلوات في اليوم والليلة، قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تضيعوها) ، بأي شيء؟ · إما بتأخيرها عن وقتها.
· وإما بالتشاغل عن أدائها وعدم إعطائها حقها.
ولكي يساعد الإنسان نفسه بنفسه انظروا إلى سماحة الشرع وإلى التنبيهات اللطيفة: فعندما تكون في مزرعتك، في مصنعك أو مكتبك أو أي عمل كان، فبغتةً تسمع المنادي: الله أكبر، ومهما كنت في أي عمل ستُصغي إلى قوله: (الله أكبر) ، وقد قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن -فلا تتركوه وتهملوه وتصكوا آذاناكم- فقولوا مثل ما يقول) ، فإذا كان هو ينادي الناس من أجل حضور الصلاة، فلماذا نحن نردد خلفه؟! من أجل أن نتفاعل، فهو في الأعلى فوق المنارة وبأعلى صوته، والآن وضعوا مايكروفونات، حتى يبلغ أبعد ما يكون.
وحينما تقول مثل ما يقول المؤذن تكون في شبه فترة انتقال، انتقال من عملك وأنت مفرغ جهدك كله، وشعورك وإحساسك كله، مستغرق فيما كنت فيه، فإذا بدأت تقول وأنت في عملك: (الله أكبر، الله أكبر) ، انشغل الذهن بتكبير الله، وتجاوب القلب مع المنادي، فلما يصل إلى (حي على الصلاة) تقول: نعم، الآن يجب أن أترك العمل، و (حي على الفلاح) تقول: إي والله! الصلاة هي الفلاح، وليس في العمل، و (الله أكبر، الله أكبر) تقول: نعم، الله أكبر من كل عمل، و (لا إله إلا الله) تقول: هي التي من أجلها خلقنا، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .
فيدُك تترك ما فيها، إن كنت كاتباً تركت القلم، وإن كنت مزارعاً تركت آلة الزراعة، وإن كنت صانعاً تركت آلة الصناعة، وأجبت المنادي، فذهبت تتوضأ، واستعملت الماء، لأي شيء؟ هل أنت حرَّان تريد أن تتبرد؟ هل أنت متسخ تريد أن تتنظّف؟! لا، إنما تجيب (حي على الصلاة) (حي على الفلاح) وأنت على أحسن حالة، فهي نظافة في الظاهر، وتنبيه للنظافة في الداخل، وأنت في تلك اللحظات سمعت النداء واستجبت إليه وجمعت شعورك وتوضأت وخطوت خطاك إلى المسجد.
جاء في الحديث: (إذا توضأ الإنسان فغسل يديه، تناثرت ذنوب كفيه مع آخر قطر الماء، وإذا تمضمض تناثرت ذنوب فيه، وإذا غسل وجهه تناثرت ذنوبه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل قدميه تناثرت ذنوب القدمين، وكان له بممشاه إلى الصلاة بكل خطوة حسنة، ويُمحى عنه بكل خطوة سيئة أو خطيئة، ويرفع له بها درجة، وكانت صلاته له نافلةً) يعني: صلاتك زيادة خير لك عن هذه الحسنات.
فاستحضر من أول لحظة أن قوله: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) إنما هو عملية تحضير للذهن وللقلب، وجمع للشعور، فإذا جئت ووقفت في الصف وقلت: (الله أكبر) ، فحينها فعلاً دخلت على ربك، يقول الحسن رضي الله تعالى عنه: (إذا أردت أن تدخل على الله بلا استئذان وتكلمه بلا ترجمان؛ فأسبغ الوضوء، ثم ائت المسجد واستقبل القبلة وكبر للصلاة) .
مَن استأذنت وأنت داخل من الباب؟ ما استأذنتَ أحداً، فالباب مفتوح، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] ، ثم تدعو بأي لغة كانت، ونحن نرى هذا خاصةً في الحرمين، جميع الألسنة واللغات تقف في صف واحد، وكل يسأل ربه بلغته دون أن يحتاج إلى ترجمان بينه وبين الله، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] .
من ناحية أخرى: انظروا إلى النوافل، فقبل كل فريضة سنة، ربما وفقك الله واستيقظت من النوم مبكراً قليلاً، وسمعت الأذان وأجبت وتوضأت وجئت وفيك نوع من الكسل، فصليت سنة الصبح، ثم أقيمت الصلاة وصليت الفجر.
فحينما أتيت على تلك التهيئة أو التعبئة التي عبأتك إياها كلمات الأذان، ثم جئت وصليت ركعتين كمقدمة أو تهيئة؛ فكأنك قمت بين يدي الله بركعتين زيادة في التهيئة، وليسمح لي الجماعة الرياضيون الذين يقولون: قبل أن يدخل الرياضي الملعب يسخن؛ لأن أعضاءه وعضلاته جامدة، فيأتي ببعض الحركات الآلية العضلية حتى لا يصاب بشد عضلي، ثم يدخل إلى الميدان أو الملعب وهو متهيئ.
فنقول: المسلم يؤدي النافلة قبل الفريضة تهيئةً لقيامه بين يدي الله وهو في أكمل ما يكون استحضاراً، وهذه زيادة تحضير، وسمِّها ما شئت؛ لأنها تعطيك زيادة تنبُّه ويقظة ورغبة فيما عند الله.
فإذا دخلت في الفريضة عفوياً ربما تحتاج إلى شيء من التحضير؛ لكن إذا صليت السنة كان التهيؤ أكمل، وكل فريضة -كما أشرنا- قبلها نافلة، فهذا الفجر له ركعتان قبلية، وتلك الظهر لها ركعتان أو أربع قبلية، وتلك العصر قبلها أربع، والمغرب كانوا يصلون قبلها ركعتين، يقول الراوي: (حتى إن الغريب إذا دخل المسجد رأى الناس قد بادروا إلى السواري فيظن أن الناس قد صلوا المغرب) ، وجاء في الحديث: (صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، وقال في الثالثة: لمن شاء) ؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة لازمة، وقال: (بين كل أذانين صلاة) ، والمغرب كغيره له أذانان، وهما: الأذان والإقامة.
وهكذا قبل صلاة العشاء نافلة، وبعدها نافلة.(69/8)
حرص الشيطان على إفساد صلاة المسلم
أن تلك التقدمات من الأذان والوضوء وتجاوبك مع المؤذن في كلمات الأذان تهيئة للدخول في الصلاة؛ ثم يأتيك الشيطان، ويقول: اذكر كذا، اذكر كذا لشيء قد نسيته، وأظنكم تعلمون قصة الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فقد كان جالساً في المسجد فإذا برجل يقول: يا إمام! لقد دفنت مالاً لي ونسيته، فكيف أحصل عليه؟ قال: إذا انتصف الليل فقم وتوضأ وأسبغ الوضوء وصلِّ ركعتين لله ولا تحدِّثَنْ نفسك فيها بشيء، فإذا فرغت من الصلاة فستعرف أين المال؟ فمن الغد جاء وقال: جزاك الله خيراً! لقد وجدت المال.
فقال أصحاب أبي حنيفة: ما علاقة صلاته في الليل بالمال الذي كان قد دفنه؟! {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف:63] فالشيطان هو الذي أنساه، فإذا جاء ليصلي تلك الصلاة بخشوع وخضوع وعدم محادثة نفسه فيها بشيء خالصةً لوجه الله، فهذه تحرق الشيطان، ولا يستطيع أن يصبر عليها، فيشغله فيها بأن يذكره موضع المال.
وقالوا للرجل: كيف عرفت مكان المال؟ قال: فعلتُ كما قال لي الإمام، وحرصت ألَّا أحدث نفسي فيها بشيء، فإذا بي حينما جلست للتشهد أسمع من يقول لي: المال كان في المحل الفلاني، فعجَّلت بالتشهد، وذهبت إلى المال فوجدته.
ونقول: ستجيئكم صلاة العشاء، وحينما تسمعون المقيم يقول: قد قامت الصلاة، فانظر في ساعتك، وحينما يقول: السلام عليكم ورحمة الله، انظر في الساعة، فالأربع ركعات كم أخذت؟ ست أو خمس دقائق، ولا يمكن أن تصل إلى عشر أبداً، اجعلها تصل إلى ثمان دقائق بحيث تأخذ كل ركعة دقيقتان ثمان دقائق ولا يقدر الإنسان أن يضبط نفسه فيها!! لكن الشيطان عدو مبين، ومهما يكن من شيء فلا ينبغي للإنسان أن يسترسل معه، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ، فيرجع حالاً، فربما يأخذك الشيطان ويذهب بك إلى مكة، ويضحك عليك، ويقول لك: ستذهب إلى عمرة وتطوف وتسعى، ثم لا تشعر بنفسك إلا وأنت على الصفا، لكن إذا انتبهت وأنت في رابغ فارجع، ولا تذهب معه إلى مكة.
وقد يأتي للتاجر: البضاعة وصلت إلى المحل الفلاني، والباخرة في المحل الفلاني، وفيها كذا، وفيها الآن كذا وكذا.
فيحاول أن يذهب بك حتى تشتغل به وتتجاوب معه.
وطالب العلم قد تأتيه المسألة التي كانت شاغلة لباله: تجدها في محل كذا، اطلبها في كتاب كذا كل إنسان يأتيه من الباب الذي يستجيب إليه.
وليس هناك إنسان يستطيع أن يمتنع نهائياً من الوسوسة، وليس معصوماً من ذلك؛ لأن الشيطان يجند كل قواه عند الصلاة، وكما يقول بعض العلماء: هل السارق يدخل بيتاً خرباً؟ لا، لكن يختبئ فيه فقط؛ لكن ليسرق منه فلا.
لكن أين يذهب السارق ليسرق؟ إلى البنوك أو الخزائن الكبيرة أو البيوت العامرة، والمؤمن حينما يكون بين يدي الله فإن الخزينة ملأى، فهو يريده في تلك اللحظة.
إذاً: (فرض فروضاً فلا تضيعوها) ، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً للحفاظ على فروضه سبحانه وتعالى.(69/9)
فروض ضيعها العباد(69/10)
تضييع الصلاة
باب الصلاة -يا إخواني- كبير، ولذا يقولون: من الحفاظ على الصلاة: المحافظة على النوافل الراتبة، حتى قال بعض العلماء: من تعمد ترك النوافل تسقط شهادته.
وإذا كان كذلك؛ فما القول في الرجل الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص) ، ويقسم صلى الله عليه وسلم على فلاحه إن صدق، قالوا: ذلك رجل أخذ نفسه بحد السيف، وبالعزم القاطع، فهو لا له ولا عليه، وحافظ على فروضه؛ ولذا جاء في الحديث: (أفضل ما تقرب إلي عبدي بما افترضته عليه، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل -فنوافل العبادات هي مرتقى الصالحين في وصولهم إلى الغاية القصوى- حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها) .
فهذا بالنوافل، أما الفرائض فهي الحد الأدنى؛ لأنك إذا التزمت بالفرائض فقط فوقع تقصير فسيقع في الفرائض؛ لكن إذا التزمت النوافل مع الفرائض فوقع تقصير فسيقع في النوافل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن لكل ملك حمى، كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ؛ لكن إذا جعل بينه وبين الحمى قدر ميل، فعندما تشذ منه غنمة هل تنزل في الحمى أم في المسافة التي بينها وبين الحمى؟ في المنطقة المحايدة -كما يقولون-، لكن إذا اقترب بغنمه على حدود الحمى فلو أن شاة شذت عنه متراً واحداً فستدخل في الحمى، أرأيت لو كان هذا الحمى ناراً مؤججة هل ستدنو منه؟ أرأيت لو كان بحيرة أو بئراً عميقاً هل ستدنو منه؟ ستبتعد مخافة أن تسقط فيه.
وهكذا النوافل هي حمى وحفاظ لتلك الفرائض كما جاء في الحديث: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ -أي: حينما يُنظر في صلاته- فتقول الملائكة: نعم -يا رب- له نوافل، فيقول: اجبروا فريضته من نافلته) ، يعني: احتياطاً، يقول ابن عباس: وهكذا بقية العبادات.(69/11)
تضييع الصوم
نأتي إلى الصوم، كيف يضيع الصوم؟ · إما بالتساهل في أمره، وعدم الصبر على الجوع والعطش -عياذاً بالله- ويفطر.
· وإما أن يمسك شكلياً عما أحل الله، ويفطر على المحرمات، وتقدم لنا: (والصوم جنة -أي: يحفظه ويقيه- ما لم يخرقها، قالوا: بم يخرقها يا رسول الله؟! قال: بكذب أو بسباب أو بغيبة أو نميمة) وما هي قيمة هذه الجنة المخرَّقة؟ ما تحمي بشيء، السيارة المصفحة إذا كان فيها خرق بقدر خمسة سنتيمترات فستنفُذ منها الرصاصة؛ لكن كما قال جابر رضي الله تعالى عنه: (لا يصوم العبد حقاً حتى تصوم جوارحه) ، والحديث أعم: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) .
إذاً: تضييع الصيام: إما بتركه بالكلية، وإما بإهمال مراعاة حقوقه.
وكذلك للصوم نوافل، فقد جعل الله سبحانه وتعالى لرمضان ستاً من شوال، وجعل في أول السنة وفي آخرها عشراً من ذي الحجة ويوم عاشوراء، ويوم عرفة، والاثنين، والخميس، ومن كل شهر ثلاثة أيام، كما في وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة وأبي ذر كلاهما قال: (أوصاني خليلي بثلاث: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وألَّا أنام حتى أوتر، وركعتي الضحى) .
وصوم ثلاثة أيام -كما يقول مالك - ليس فيه تحديد، إن شاء جعلها في هذا الشهر من أوله، والشهر الثاني من آخره حتى لا يهجر الأيام كلها عن الصوم، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم ترتيب ذلك فقال: (لا تختصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام) إن كان يقوم فيقوم ليالي الأسبوع كلها، ولا يفرد ليلة الجمعة بالقيام خاصة، وإن كان يصوم فيصوم من الأيام ما شاء، ولا يفرد يوم الجمعة بصوم، وجاء في الحديث: (من صام يوم الجمعة فليصم يوماً قبله أو يوماً بعده) ، حتى لا يُفرد هذا اليوم بصيام، وجميع الأيام صالحة لصوم التطوع ما عدا يومي العيدين ويوم الشك، وفي صوم ثلاثة أيام منى لغير من لم يجد الهدي خلاف.
إذاً: الصوم مما فرض الله سبحانه وتعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ؛ فلا تضيعوه.
ومن عجيب ما يذكر! أن عثمان رضي الله تعالى عنه مر على شاب في رمضان وهو سكران، فقال: ويحك! أطفالنا صيام وأنت مفطر!.
وبعض قضاة المدينة مر على شاب وهو مفطر في رمضان فأخذه وجلده، فقال: ألا تستحِي! الأطفال في البيوت صائمون، وأنت في رمضان مفطر! فتكلم عليه، فقال: تكون هذه الأولى والأخيرة، ولم يُرَ بعد ذلك مفطراً! والصحابة رضي الله تعالى عنهم ائتمروا بما في حديث: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) ، وكذلك كانوا يفعلون في الصوم، فقد كانوا يروضون الأطفال على الصوم والجوع، فإذا بكى الطفل أعطوه اللعب يتلهى بها، فطفلٌ يُجَوَّع ساعةً أو ساعتين، وطفل يُجَوَّع أربع أو خمس ساعات، وطفل يُجَوَّع نصف النهار، وهكذا كان أمهاتنا يصنعن بالأطفال الصغار، فحينما يبكي يقلن له: فيما بعد، فيما بعد، أجيء لك بالطعام، وأصلحه لك، إلى أن تمر بعض الساعات وهو يشعر بشيء من الجوع، فكانوا يعودون الأطفال على الصيام كما يعودونهم على الصلاة.(69/12)
تضييع الزكاة وخطره
أما الزكاة فمجالها واسع، وتضييعها يكون بما يلي: إما أن يتركها بالكلية.
وإما أن يتغاضى عن بعض ماله، فلا يخرج الزكاة عن بعضه.
وإما أن يدقق في الحساب، وإذا أراد أن يعطي النصاب المفروض فتَّش، هل يخرج هذه؟ لا، هل يخرج هذه؟ لا، هذه كذا، وينظر في الأصلح له، فهذا تضييع، بخلاف المؤمن الذي يتعامل بصدقته مع الله.
ولعلكم تذكرون قصة الصحابي مع عامل الزكاة الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملاً إلى جهة الحنكية والنخيل وهذه النواحي الشرقية، فمر على صاحب إبل عند الماء، فكانت الإبل خمساً وعشرين، فقال: عليك بنت مخاض؛ لأن زكاة الإبل كل خمس فيها شاة إلى عشرين، فخمس وعشرون فيها بنت مخاض، وست وثلاثون فيها بنت لبون، إلى آخره، وبنت المخاض التي ولدت العام الماضي وأمها حامل هذه السنة، فهي بنت سنة وبدأت في الثانية، فقال له: زكاة إبلي بنت مخاض؟! قال: نعم، قال: ليست ظهراً فيُركب، ولا ضرعاً فيُحلب، لكن هذه ناقة كوماء خذها في سبيل الله، فقال العامل: لا أستطيع أن آخذها، فما فرض الله عليك إلا هذه الصغيرة، يعني: وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وحد حدوداً فلا تعتدوها) ، والمفروض عليك في إبلك بنت المخاض الصغيرة هذه، (فاختصم العامل مع صاحب المال، فهو يقول: فريضتك بنت المخاض، فيقول الآخر: لا، خذ ناقة كوماء) .
هل رأيتم خصومة مثل هذه؟! هل سمعتم بمثلها؟! العامل يقول: ائت بالصغيرة هذه، وصاحبها يقول: لا، خذ هذه الكبيرة.
لماذا؟ لأنه يتعامل مع الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] .
فحينما اشتدت الخصومة قال العامل: لا تتعب نفسك، ولا تتعبني، إن كنت مصراً عليها فدونك رسول الله بالمدينة، اذهب بها إليه، أنا لا أقدر أن آخذها، لاحظوا أمانة العمال إلى أي حد وصلت؛ فجاء مع العامل بناقته، فقال العامل للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هذا الرجل جئت إلى إبله، وقص عليه القضية، فقال صلى الله عليه وسلم لصاحبها: (أطيبةً بها نفسك؟ قال: نعم والله يا رسول الله! كيف أدفع بنت مخاض في سبيل الله، وهي ليست ظهراً يُركب، ولا ضرعاً يُحلب؟! لكن أحب أن تأخذ مني هذه الناقة، فقال للعامل: خذها، وقال لصاحبها: بارك الله لك في إبلك) .
ثم عاش الرجل إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنهما، وكان يعطي العشرات من الإبل في زكاة إبله؛ ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: (بارك الله لك في إبلك) ، فهذه الدعوة لا تذهب سدى.
وهكذا -أيها الإخوة- فحفظ الزكاة وعدم تضييعها يكون: بضبط نصابها، وبوفاء حقها.
ولذا قال الفقهاء: إخراج زكاة الحبوب والحيوان والثمار من أوسط النوع، لا من جيده فيكون إرهاقاً على المالك، ولا من رديئه فيكون تضييقاً على المسكين.
ولذا عمر رضي الله تعالى عنه لما مرت عليه أنعام الصدقة وجد شاة حافل ضرعُها فقال: والله ما أعطى هذه أهلُها بطيب نفس.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (وإياك وكرائم أموالهم! واتقِ دعوة المظلوم -لأنك إذا أخذت كرائم الأموال ظلمتهم فيدعون عليك- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) .
من أخطر أنواع تضييع الفرائض تضييع الزكاة، فقد يجتهد في حسابها، ويتخير نوعها، ويقدمها بأكمل ما تكون؛ ولكن يحبطها ويبطلها، كمن يصنع بركة عسل ويضع فيها قطرات من الصَبِر والثوم، والله تعالى يقول: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] .
إذاً: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263] .
تضييع الزكاة أخطر من تضييع الصوم والصلاة؛ لأنه قد تكون بشيء ما من الرياء أو الإيذاء، ويجب أن يحفظ شعور المسكين الذي يدفع له، ولا يتمنن عليه بما يعطيه؛ فهو حق واجب، {وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] .
كلف الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحمل مسئولية جمع الزكاة وليس له شيء منها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعطاها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله عزمةً من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، فهو يقوم بجمعها وتوزيعها وليس له منها شيء.
ومنذ أن عُطِّلت الزكاة وقُطعت الصلة بين الغني والفقير ووُجدت الفجوة، جاءت المبادئ التي تهدم وتنتزع البركة، وجاءت مبادئ يُنادَى بأن يحل محلها غيرها! والله لا يؤدي واجب الزكاة إلا الزكاة؛ لأنها كما قال تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة:103] ، تطهر الغني من دنس الشح، وتزكي الفقير من درن الحقد، فالزكاة عامل ربط وتعاطف ومؤاخاة، والله أعلم، وبالله تعالى التوفيق.(69/13)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [2](70/1)
أسرار الحج
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ولي الصالحين، والصلاة والسلام على نبي رب العالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فمما فرض الله على المسلمين وضيعوه الحج.(70/2)
من عبادات
والحج خاتمة أركان الإسلام، وبعضهم يتورع عن هذه الكلمة ويقول: خامس أركان الإسلام، ومهما يكن من شيء فالحج يجمع جميع أركان الإسلام فروعاً وأصولاً.
ففي العقيدة فيه توحيد الله سبحانه بادئ ذي بدء: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ، فقد جمعت هذه التلبية التوحيد بأقسامه الثلاثة: توحيد الربوبية: (النعمة لك والملك) .
توحيد الألوهية: (لا شريك لك) .
توحيد الأسماء والصفات: فيما يوصف الله من صفات الجلال والكمال.
ثم تأتي بعد ذلك بقية الأركان: ففيه الصلاة: تصلي ركعتي الطواف.
وفيه الصوم: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] .
وفيه إنفاق المال: (ما الاستطاعة يا رسول الله؟! قال: الزاد والراحلة) .
ولما كان أعظم الأركان، ويشمل الكثير من العبادات، وفيه مشقة الرحلة والسفر؛ جعله الله سبحانه وتعالى على المستطيع.(70/3)
سبل المحافظة على الحج حسياً
كيف يؤدَّى هذا الركن العظيم، وكيف يحافَظ عليه ولا يضيَّع؟ يلفت النظرَ إلى ذلك قولُ عمر رضي الله تعالى عنه: (الوفد كثير، والحج قليل) ، فيحتاج الحج إلى حفاظ عليه، وقيام بواجباته، حتى يكون حجاً حقيقياً.
أول خطوة في الحج ليست التجرد ولبس الإزار والرداء وقولك: (لبيك) في الميقات، لا، فالحج يبدأ عند جمع المال للحج، يبدأ الحج مع كل إنسان من موطن كسبه لرزقه؛ فيبدأ مع العامل في عمله، والزارع في مزرعته، والصانع في مصنعه والموظف في مكتبه.
لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع لنا القاعدة الأساسية العامة فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، وقال: (من حج بمال حلال وزاد حلال وراحلته حلال، فوضع رجله في الغرز فقال: لبيك اللهم لبيك، قيل له: لبيك وسعديك، حجك مبرور، وذنبك مغفور.
وإن حج بمال حرام، وزاد حرام، وراحلته حرام، فقال: لبيك، قيل له: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً) .
ولو جئنا إلى البديهة العقلية والنظام الاجتماعي: فأنت وافد على الله في بيته، أتفد عليه بما حرم عليك؟ أتسرق وتقول: يا رب! أنا جئتك؟! لا يا أخي! رد المال لصاحبه، وابق في محلك وقل: لبيك، ولا تأت بمال حرام! وهذا يشبه لو أنك سرقت ثوب جارك، ثم دعاك لوليمة العرس عنده، فهل تلبس الثوب الذي سرقته منه لتحضر وليمته؟! وبم تفسر هذا الفعل يا أخي؟! نعم الله على الإنسان كثيرة، ويدعوك إلى بيته: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] ، فبأي صفة تأتي؟ يجب أن تأتي بما يناسب مجيئك، ومن جئت إليه.
ولهذا تأتي محظورات الإحرام لتهذب الإنسان، وتحوره في شخصيته، وتجعله خلاف الشخصية الأولى، قال صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ، قالوا: وبر الحج بأن يرجع صاحبه وقد صار خيراً مما كان، أنت ذهبت والاستقامة عندك (50 %) أو (60 %) أفترجع وأنت (90 %) ؛ لكن إذا ذهبت وأنت (70 %) ثم ترجع وأنت (50 %) ، فستكون هذه انتكاسة، كإنسان دخل المستشفى وهو مريض (50 %) ، والمفروض ما دام أنه في مستشفى طيب، وعنده تجاوُب للعلاج، وعناية فإنه سيخرج متعافٍ بالكلية، أو حتى في النقاهة (90 %) ، وكذلك الحج يعتبر مصحة نفسية بل وبدنية؛ فعلى الإنسان أن يراعي هذا العمل.(70/4)
سبل المحافظة على الحج معنوياً
الحج له مقدمات وآداب ونتائج، فإذا تهيأت لك النفقة والزاد الحلال وجئت إلى الميقات، يقال لك: قف! إنك ستدخل منقطة جديدة فيها تُحَوَّر الشخصية، ستدخل في بوتقة، وتخرج من باب آخر بغير الشخصية الأولى، فتتجرد من ثيابك، وهل نزع الثياب ولبس الإزار والرداء مجرد شكليات أم أن وراءه شيء؟ لا والله! بل وراءه أشياء.
دخلنا إلى الميقات، وفيه مصري وشامي ومغربي وهندي وعربي وأعجمي، وغني وفقير، وو إلى آخره، وخرجنا من الباب الثاني سواسيةً، إزار ورداء، المصري ترك ثوبه أو جبته، وهذا ترك برنسه، وهذا ترك عباءته، والكل خرج بشكل واحد، الغني الذي كان يلبس ثياباً فاخرة رجع للإزار والرداء، والفقير الذي كان ثوبه مهلهلاً خرج بإزار ورداء، لا فرق لغني على فقير، ولا لكبير على صغير، ولا لمأمور على أمير، الكل سواسية.
إذاً: حصل تحوير أم لا؟ حصل مبدئياً.
وحينما تنزع ثيابك العادية تغتسل، وهل ثَمَّة نجاسة أو وسخ تريد أن تزيله؟ لا، لكن حينما تغتسل للإحرام تشعر بأنك تزيد في النقاء والتطهر، ويجب أن تنظر إلى الداخل، وتطهر صدرك، فلعله كان هناك تطاول على خلق الله، أو كان هناك غمز ولمز، أو كانت هناك سخريات، أو تفاخر، فيجب أن يغسَّل هذا كله: (الطهور شطر الإيمان) ، وألزم ما يكون من الطهارة أن تطهر داخليتك، فهل تنظف الظاهر والداخل تتركه على ما هو عليه؟! فتخرج من الميقات وأنت فعلاً تقول: لبيك اللهم لبيك، أقبلت عليك -يا رب- بكليتي قلباً وقالباً.
ومن تلك اللحظة تسير على مثال ملاك في شخصية إنسان، وتعلن التلبية، سِلْم لكل خلق الله، شعرك لا تنتف منه أي شعرة، وظفرك لا تأخذ منه أي وصلة، والصيد لا تمد يدك إليه، {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] لماذا؟ {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] سبحان الله! محرم يقول: لبيك يا رب! والصيد أحل الحلال ويقول له: لا تأكله! والجمَّال أو السائق أو التاجر معك في سيارة واحدة يقتل الصيد ويأكل! مَن أولى بأكل الصيد؟ المحرم؛ ولكن لا.
زوجتك التي معك أحلها الله لك بكلمة الله، وقبل أن تقول: لبيك، أنت معها في الفراش، وحينما قلت: لبيك، قال: قف! لا تمسها.
ما السبب؟ أنت لما دخلت منطقة الميقات، دخلت من أجل تحوير شخصية، حتى تتعود العفة، وكف اليد عن الإيذاء والتعدي، وضبط النفس عن محارم الله؛ لأن الشخص الذي يكف يده عن الصيد لا يمدها إلى المال الحرام، والشخص الذي يتعفف عن زوجته لا يعتدي على محارم الآخرين، وهكذا تمشي وأنت سِلْم للطير في الهواء، وللوحش في الفلاة، وللزوجة التي معك حتى تقضي نسكك، فأنت في هذه الفترة في محل التمرين والتدريب والترويض، فإذا نجحت في هذه المرحلة نجحت في غيرها، فإذا وقع منك اعتداء أخذت جزاءه، فإن قتلت صيداً {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] ؛ وإن قربت زوجتك فعليك أن تمضي في هذا الحج على فساده، وعليك حج من عام قادم.(70/5)
آداب الحج
قال الله في ذكر الآداب: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] ، حتى المجادلة والمناقشة لا تجوز في الحج ولو كانت في حق، اللهم إلا مناقشة في مسألة علمية، بما يصحح إحرامك وحجك وصلاتك في سفرك، وفيما يتعلق بأمر دينك دونما جدال، بل على سبيل المفاهمة، وليس على سبيل المجادلة.
ما الفرق بين المفاهمة والمجادلة؟ المفاهمة: طلب الفهم، وكل واحد من المتفاهمَين يحاول أن يفهم من غيره ويفهِّمه.
ولكن الجدل: هو أن تفتل الحبل بقوة حتى يصير صلداً، والجديلة: هي القوية؛ من برم الحبال وظفرها بعضها مع بعض.
فالجدال فيه نقاش بشدة وحدة، أما المفاهمة فعلى سبيل المعروف والأخذ والعطاء، والقصد الوصول إلى الحق.
كل من الجدال والفسق والرفث ممنوع في كل وقت؛ لكنه في الحج ألزم.
لماذا؟ إذا كان كل اثنين سيتجادلان، ويأتي عربي وأعجمي، ويأتي واسع الصدر وضيق الصدر أحمق، فإذا حصلت مجادلة مع كل اثنين تخاصما فسيصير الحج فوضى.
لكن لا، فالذين يأتون من كل فج عميق هم في حاجة إلى التآلف والتعارف.
ومن هنا وجب أن يكون عمل المسلم في الموسم كله لأداء مناسكه، أما أن نشغل وقت الموسم لغير ذلك فهذا هو العبث، وخروج بالحج عن مجاله، فضلاً عن إفساده أو تضييعه.
فالحج ملتقى للمسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، والحرم مأمن لكل من يفد إليه، حتى الطير والوحش، وكانوا في الجاهلية يحترمون ذلك، فقد كان الرجل يرى قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع إليه نظره، ويتركه.
لماذا؟ حرمةً للبيت، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] .
فإذا خرج من الحرم قلنا: شأنك به.
إذاً: آداب الحج تبدأ منذ أن تحرم، وتلتزم بتلك الآداب: والرفث هو: حديث النساء بحضرة النساء، أنتم جئتم لتحجوا أم جئتم لتتغزلوا؟! هذا لا ينبغي.
والفسوق هو: الخروج عن الطاعة، ومنه: قولهم: فسقت النواة من الرطبة، وفسقت الحبة من الرحى: خرجت عن طحنها، وخرجت النواة من رطبتها، والفسق: الخروج عن طاعة الله، والفويسقة: الفأرة تخرج ليلاً للإفساد.
فلا فسوق في اللسان: بسباب أو جدال أو قذف.
ولا فسوق في اليد: بالاعتداء وإيذاء الآمنين.
ولا فسوق في العين: بالنظر والتتطلع إلى ما لا يجوز لها.
ولا فسوق في الأذن: بالاستماع إلى ما لا يحل لها.
ولا فسوق للقدم والرجل: بالسعي إلى ما لا يجوز لها.
((وَلا فُسُوقَ)) : عامة في كل ما هو خروج عن جادة الإسلام، فمن أدى مناسك الحج على تلك الآداب كيف تكون عاقبته؟!(70/6)
هيئة قدوم الحاج إلى مكة ودخوله إليها
كل ما يتقدم عرفة تهيئةً لذلك اليوم العظيم.
فتمشي على تلك الحالة ملتزماً آداب الحج، ملبياً لله سبحانه، مؤمِّناً كل مخلوق من شرِّك، اللهم إلا المعتدي، كما يقال: سلم لمن سالمنا، وحرب لمن عادانا، ولا نقول مثلما يقول النصارى: إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن، لا والله! فإن اعتدوا علينا اعتدينا عليهم؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والعقرب والحدأة والغراب والكلب العقور) ، إذا جاءت الحدأة وخطفت منا الأكل أنتركها؟ أو جاءت الفأرة أو العقرب، أو الحية أنستسلم لها؟ لا؛ لأن هذه مفسدات.
إذاً: المحرم سِلْم لمن سالمه، وحرب لمن عاداه، فإذا سار في طريقه حتى وصل مكة شرفها الله، يدخلها متذكراً دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فإنه دخل متواضعاً خافضاً رأسه حتى يكاد جبينه الشريف أن يمس رحل الراحلة تواضعاً لله أن فتح عليه مكة، وأنت شكراً لله أن منَّ عليك بهذا المجيء، وتأكد أنه ليس لوفرة مالك؛ فكم تركتَ أغنى منك في بلدك! ولا بقوة بدنك؛ فكم تركت من هو أقوى منك.
جئت بدعوة من الله، ولذا تقول: لبيك، وفي اللغة: حينما يناديك إنسان تلبي أي: تجيب الداعي، وأي نداء تلبيه أنت؟ يقول العلماء باتفاق: إن الله سبحانه لما كلف خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام برفع القواعد من البيت قال: يا إبراهيم! نادِ في الناس: إن الله ابتنى لكم بيتاً فحجوه، وهو قوله سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] .
{رِجَالاً} يعني: على أرجلهم، وليس المعنى رجالاً دون النساء، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} : ذكر هذا في مقابل الرجال، والآن يأتون بسيارات، أو طائرة أو باخرة أو غواصة، {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} .
{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] : هل يمكن أن تتحقق المنافع مع الجدال والخصومة واتخاذ المناسك شعارات خاصة؟ لا والله! لا تتم المنافع للناس إلا بالتآلف والتآخي واعتبار ذلك نعمة من الله؛ لأنه أعظم مؤتمر إسلامي ينظر فيه المسلمون مصالحهم.
فإذا وصلت إلى البيت، حمدت الله سبحانه، واستشعرت نعمته عليك، وأول ما تبدأ: الطواف بالبيت، كشخص ملهوف، وشخص له وجدان، وله إحساس ينتظر تلك اللحظة من زمن بعيد، فيأتي كالعاشق الولهان يطوف حول البيت تعبيراً عن اشتياقه لله، وأداءً للنسك الذي أوجبه الله عليه.
لما بنى إبراهيم البيت قال الله له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} : نادِ في الناس: إن الله ابتنى لكم بيتاً فحجوه.
قال: وأين يبلغ ندائي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ.
فصعد إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس ونادى: أيها الناس! -وأين الناس الذين عنده؟ هو بوادٍ غير ذي زرع؛ ولكنه أمر الله- إن الله ابتنى لكم بيتاً فحجوه.
فلبى كل من أراد الله له الحج، حتى الذراري في الأصلاب، من لبى مرة حج مرة، ومن لبى أكثر حج أكثر.
أنت الآن تجلس بمذياع صغير قَدر الكف تضعه في جيبك وتحرك إبرةً صغيرةً، فيدور بك العالم من شرق إلى غرب ويأتيك بالأصوات، إذاعات على حسب موجات الأثير، تعطس في المذياع فيسمعك من كان في آخر الدنيا، إذا كان هذا صنعُ البشر، فكيف بالخالق سبحانه وتعالى؟! فهو قادر أن يُبلغ الأصوات للخلق جميعاً حتى الذراري في أصلاب آبائهم.
وكما جاء في حديث خطبة الوداع في منى، يقول راوي الحديث: (ففتح الله أسماع الحجيج حتى سمعوا خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في خيامهم) ، الرسول عليه الصلاة والسلام يخطب في منى في مسجد الخيف، والله يفتح الأسماع ويبلغ الأصوات، فسمع كل من كان في منى، أكانت هناك مكبرات صوت؟! لا، لكن الله سبحانه وتعالى هو القادر على كل شيء؛ فكل من كان في منى سمع خطبة رسول الله، (بلغوا عني ولو آية) ، (رب مبلغ أوعى من سامع) ، وخطبهم وبين لهم أحكام الإسلام بمجملها في ذلك اليوم في تلك الخطبة.
إذاً: حينما تقول: لبيك، فهو إجابة لذلك النداء: إن الله بنى لكم بيتاً فحجوه، وقلت: لبيك، وأنت في صلب أبيك.(70/7)
الحفاظ على أعمال الحج
نقول أيضاً: كيف تحافظ على طوافك، وهو أول أركان العمل؟ قد يكون طواف قدوم، أو طواف حج، أو طواف عمرة! فإذا طاف الطائف حول البيت والحِجر تم طوافه، أما إذا فعل مثل أولئك الذين يختصرون الطواف من داخل الحجر، فيدخل ويخرج من الباب الثاني، ويترك الحجر عن يمينه، فما طاف بالبيت، وضيع حجه.
إذا جاء وحافظ على طوافه، ثم جاء إلى السعي بين الصفا والمروة، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} [البقرة:158] إلى آخر السياق، فيؤدي هذا النسك كما أمر الله سبحانه وتعالى.
وهكذا وتجردك وتهذيب نفسك وكفها عما أحل الله فضلاً عما حرم، وطوافك بالبيت، والتزامك الملتزَم، وتقبيلك الحجر، وصلاة ركعتي الطواف خلف المقام.
وتذكر: أيُّ مقام هذا؟ ولمن؟ كان إبراهيم عليه السلام يقوم ببناء البيت ومعه إسماعيل، وهذا الحجر كان يرتفع به إبراهيم عند البناء وينزل به، ما كان هناك (مصعد) ، ولا كانت هناك آلات رافعة، وتتذكر مع كل ذلك نعم الله وقدرته.
فإذا جئت إلى الصفا والمروة تذكرت الآية الكبرى، وأخذت الدرس الأكبر في حياتك من قصة أمنا هاجر، وفي الأثر: (اسعوا كما سعت أمكم هاجر) .
وأنت تطوف وتهرول ثلاثة أشواط، لماذا تهرول؟ تذكر حينما كانوا في صلح الحديبية، وكتبوا الصحيفة وأبرموا الاتفاقية على أن يرجعوا ويأتوا من عامهم القادم معتمرون ثلاثة أيام ويرجعون، فجاءوا لقضاء العمرة.
فلما جاءوا إلى البيت وأرادوا أن يطوفوا لعمرتهم في السنة التي تلي عمرة الحديبية، وهم على مقتضى الشرط عزل، إلا السيوف في قرابها، فلما أصبحوا في بطن مكة بين يدي العدو، وأهل مكة قد أخلوا لهم الطرقات، وخرجوا على رءوس الجبال لينظروا ماذا يفعل محمد ومن جاء معه? فيأتيهم أستاذهم الأكبر إبليس، ويقول لهم: أين أنتم؟ هؤلاء قد جاءوا من يثرب، وقد أنهكتهم حمى يثرب، وأنهكهم السفر، لو ملتم عليهم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم واسترحتم، انظروا إلى هذه المكيدة! فبيننا وبينهم عهد، وهذا العهد كما يقال: حبر على ورق، ليس له قيمة، ومن سيحاسبهم بعد هذا؟! يحرضهم على أن ينقضوا العهد وأن يقتلوا المسلمين داخل المطاف! أسألكم بالله لو نفذوا هذه الفكرة ماذا يفعل المسلمون؟ هل عندهم مدد يأتيهم من المدينة؟ ومتى يجيئهم؟ هل عندهم مدد من القبائل المجاورة؟ ولا يستطيعون أن يعاونوا هؤلاء على قريش؛ ولكن كما يقول علماء التربية: لا يفل الحديد إلا الحديد.
فيأتي جبريل عليه السلام ويخبر رسول الله بما أتى به إبليس.
إذاً: تلك فكرة متوجهة للمسلمين، ويجب أن نبطلها بفكرة مناقضة، لا تكن كالشخص المريض البردان الذي لا يقدر أن يحرك نفسه، لا، بل شَمِّر وهروِل، فنزلوا الطواف مهرولين مشمرين، والمشركون ينظرون إلى هؤلاء يقفزون مثل الغزلان، فقال بعضهم لبعض: يقولون: أنهكتهم حمى يثرب وأضعفهم السفر، والله! إنهم ليطوفون وكأنهم الغزلان، ما لنا طاقة بمثل هؤلاء، وأبطلت الخدعة أو الفكرة في محلها.
تأتي أنت اليوم يقول لك المطوف: اضطبع وهرول، فنقول: أولئك لما طافوا كانوا خائفين، ونحن اليوم آمنون ولسنا خائفين! فلماذا نهرول؟ فنقول لك: من حكم العقل في الشرع أبطل السنة.
جاء رجل إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! لقد هرولنا مع رسول الله حينما كنا خائفين، والآن نحن آمنون فعلام نهرول؟ قال: يا ابن أخي! لقد هرولنا ونحن خائفون، وهرول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ونحن آمنون وهرولنا معه، فتلك سنة رسول الله.
أنت الآن آمن والحمد لله، أدامها الله علينا وعلى المسلمين جميعاً، وحينما تهرول وتسأل عن الحكمة، يقال لك: أصحاب رسول الله وقع عليهم كذا وكذا، فتتذكر فضل الله عليك، وتعرف مدى حقهم علينا؛ لأننا نعيش في ظل كفاحهم وجهادهم، وننظر كم ضحوا من أجل الإسلام والمسلمين من بعدهم.(70/8)
عبرة وعظة من السعي بين الصفا والمروة
تأتي إلى الصفا والمروة، فيقال: اجرِ بين العلَمين، أيضاً ستسأل: لماذا أجري؟ ومن العجب! أني سمعت شخصاً يقول له صبيٌّ صغيرٌ: اجرِ هنا، قال: لماذا؟ قال: لأن سيدتنا هاجر كانت تجري هنا لما كانت تطلب الماء لولدها.
فكان جوابه: هي تطلب الماء لولدها، وأنا ما علاقتي؟! هذا من قلة الفهم! الرسول صلى الله عليه وسلم كم بينه وبين هاجر؟ ومع هذا كان يجري ويسرع بين العلَمين؛ لأنك عندما تمشي تلك الخطوات تأخذ هذا الدرس في هذا المكان، وثق أن كل خطوة وكل شبر تخطوه في مناسك الحج هو درس وعبرة! نعلم جميعاً أن أرض الشام تسمى أرض النبوات؛ لأن جميع أنبياء بني إسرائيل كانوا في الشام، فلما صار بنو إسرائيل غير صالحين لحمل الرسالة للبشر نقلها الله إلى البيت الحرام، وإلى ذرية إسماعيل، ونقلها إلى تلك البقعة في شخصية إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال الله: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] ، ومن الابتلاء أنه حرم الولد، وما رزقه إلا بعدما بلغ الثمانين من عمره، ومن الابتلاء ما وقع له في بادئ أمره مع أبيه، ومع النمرود ومع قومه حتى تحداهم في الأصنام وكسَّرها، فأوقدوا له النار، وصبر عليها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، ثم هاجرَ، وكل ذلك ابتلاء من الله، وإبراهيم يتم ويوفي: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37] .
{فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124] ، ومن الابتلاء: أنه لما رُزِق الولد، لم يقر عنده، وتطيب نفسه به لله، ثم بأمر من الله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، كأن قوله: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} يريد به: عوضاً عن الزرع والمياه ونحوها.
ثم تأتي الدعوة: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً} [إبراهيم:37] ما قال: أرجلاً أو عيوناً أو أشخاصاً، لا.
بل {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37] ، تكون في أقصى الشرق أو أقصى الغرب وقلبك يهوي إلى بيت الله الحرام، وربما ترسل الهدايا إلى البيت، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل هديه من المدينة إلى مكة وهو جالس في بيته.
فترك إبراهيم هاجر وطفلها الرضع، وتأتي هنا المعجزة والدرس لكل من يسعى بين الصفا والمروة، امرأة مع طفل رضيع، ومعها سقاءٌ من ماء بواد غير ذي زرع، يضعها إبراهيم ويعود راجعاً.
فتسأله: إلى أين أنت ذاهب؟ - راجع إلى الشام.
- لمن تدَعْنا هاهنا؟ - لله.
- آلله أمرك بهذا؟ لأنه شيء غير معقول! - نعم.
- اذهب فلن يضيعنا الله.
لاحظوا إيمان امرأة معها طفل تخاف عليه، ما دام أن هذا أمر الله فاذهب فلن يضيعنا.
أي إنسان عنده هذا اليقين بالله؟ {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} ، ولا ماء ولا أنيس ولا جليس ولا شيء، وهي وحدها ومعها طفلها، فقالت: ما دام أن هذا من أمر الله فاذهب؛ فنحن في رعاية الله ولن يضيعنا.
أيوجد اتكال على الله أكثر من هذا؟! ثم الماء الذي في السقاء انتهى، فأخذت تبحث عن الماء، وتريد أن تستطلع الوادي؛ لأن مكانها عند البيت منخفض، وإلى الآن تجدون محل الكعبة منخفضاً، حتى إن السيول كانت تدخل الحرم.
فنظرت إلى أقرب مرتفع إليها لتصعده وتستطلع ما وراءه لعلها تجد غادياً أو رائحاً يسعفها بماء، فكان الصفا، فصعدت عليه ولم تجد شيئاً.
فنظرت إلى أقرب مرتفع آخر تستطلع ما وراءه فإذا به المروة، وحينما تنزل من الصفا إلى بطن الوادي ينخفض مستوى النظر ويغيب عنها طفلها، فتسرع حتى تأتي إلى الجانب الثاني لترى ولدها، فتمشي مشياً عادياً، وهكذا بقيت ذاهبة آتية سبع مرات، فإذا بالمولى الكريم سبحانه وتعالى يغيثها بجبريل، فيأتي ويشق زمزم.
ولِم لَم يكن هذا من أول مرة؟
الجواب
لما كانت آمالها مرتبطة بأسباب الأرض والخلق تُركت حتى تخلصت من تلك العلائق البشرية، ولم يكن أمامها مطمع في مخلوق، واتجهت إلى الخالق بكل إخلاص، فكان الفرج من عند الله.
وهكذا المولى سبحانه يريد أن تخلص اتجاهك إليه، وإذا رفعت أكفك وقلت: يا ألله.
لا يكون في القلب سواه، فإذا توجهت حقيقة بقولك: يا ألله، كان لله، وليس لأحد سواه، فثق عندها بالإجابة.
وبعضهم يقول: هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب.
لكن أقول: لا، عند الاضطرار والتوجه بصدق، فإن أي اسم من أسماء الله يجري على لسانك يجيبك به؛ لأن المولى يريد أن تخلص له بالدعاء، كما جاء في حديث نصرة المظلوم: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) ، لماذا؟ لأنه علم أن له رباً فدعاه، فالكافر المشرك الذي يعبد الصنم أو يقول: الله ثالث ثلاثة، أو يقول: عزير ابن الله، هذا يفعله في حالة الرخاء والسعة، وعند الشدة يترك كل شيء، ويتجه إلى الله الواحد الأحد؛ لينصره من مظلمته، وهنالك يستجيب الله له؛ لأنه رفض كل الآلهة، واتجه إليه وحده.
حصين لما جاء وسأله رسول الله: (كم لك من إله؟ قال: سبعة.
ستة في الأرض، وواحد في السماء.
قال: من الذي لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) .
يعني: عند الرغبة أطلب منه، وعند الرهبة أخاف منه، والبقية لست خائفاً منهم، ولا أطلبهم، فإذا كان الذي لرغبتك ورهبتك هو الذي في السماء، وهو الله سبحانه، فإذاً أنت مؤمن بالله في حالة الطلب.
وهكذا أمنا هاجر حينما سعت وترددت كان ترددها بمثابة صقل لهذا القلب، ونزع لكل خيوط الأمل من الأرض والبشر، حين تتوجه التوجه الخالص إلى الله، فجاء جبريل يشق الصخرة، وتنبع عين زمزم على وجه الأرض، حتى ترى الماء عند ولدها، وتأتي وتقول: زمِّي زمِّي، ويقول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله هاجر! لولا أنها زمَّتها لكانت زمزم نهراً يجري) .
إذاً: كيف تحافظ على السعي؟ وكيف تستفيد منه؟ الشخص الذي هذب نفسه، وجدد يقينه بالله، وتوكل عليه حق اتكاله؛ ينقلب إلى بلده وهو لا يرجو ولا يخشى ولا يعبأ بأحد إلا بالله.(70/9)
دروس من منى وعرفات
ثم تأتي إلى عرفات، وقد هيئت تهيئةً كاملةً في العفة وفي الأمانة وفي التوكل، فتأتي إلى عرصة عرفات وأنت عبد رباني حقاً، وهناك يتجلى المولى سبحانه لأهل الموقف، كما جاء في الحديث: (إذا كان عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا يباهي بأهل الموقف ملائكةَ السماء) ، أهل الموقف يخطئون ويصيبون، وملائكة السماء {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] ، لكن يباهي الله بأهل الموقف الملائكةَ ويقول: انظروا (انظروا إلى عبادي! جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فيقولون: يا رب! يرجون رحمتك، ويخشون عذابك.
فيقول سبحانه: أُشهدكم -يا ملائكتي- أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم، ولمن شفعتم فيه) .
بعد هذا تنزل إلى منى، وتبدأ برمي جمرة العقبة، والقضية ليست حصيات ترميها أو تتمرن على هدف؛ فقد كنت قبل الحج مثقلاً بذنوب، ومكبلاً بقيود أوثقك بها عدوك إبليس، وحمَّلك إياها، وأنت قد جئت إلى بيت الله، وها أنت تفيض من عرفات لا قيد عندك ولا وزر عليك، فهل تكون نشيطاً أم كسلاناً، قوياً أم ضعيفاً؟ لا شك أنك قوي، فتأتي إلى عدوك وتأتي إلى الجمرات وهي رمزٌ للشيطان، كان يبدؤك بالعداوة وبالنكال وبالحرب وينتصر عليك، وأنت الآن في موقف القوي المنتصر، فتعلن عليه الحرب: باسم الله، الله أكبر، رجماً للشيطان، وإرضاءً للرحمن.
والذي يبدأ بالحرب على عدوه، ويعلنها عليه، أينام له ويسكت؟ لا، بل يكون في يقظة دائمة.(70/10)
وقفة مع نحر الهدي ورمي الجمرات
ثم تذهب وتنحر الهدي وتتذكر فداء إسماعيل، وتتذكر بر الوالدين، وتذكر قول إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] ، لو جاء أبوك الآن وقال: أريد أن أذبحك، أريد أن أقطع إصبعك، ماذا ستقول؟ ستقول: يا أبي! ماذا بك؟! ما الذي صار في عقلك؟! بل لو قال: أريد نصف مالك لامتنعت.
وهذا إبراهيم يقول لولده: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الصافات:102] ولاحظ قوله: (إن شاء الله) ، فهي أكبر عون للعبد {مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] ، ويتم الأمر: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:103-105] هنا انتهت المهمة.
ومن هذا تأخذ درسك: إن كنت ولداً فإلى أي حد تبر أبويك؟! وإن كنت والداً فإلى أي مدى تطيع الله فيما أمرك؟! وكذلك الأم.
جاء الشيطان إلى إسماعيل وقال له: أين تذهب مع أبيك؟ قال: لينفذ أمر الله.
قال: مره فلينتظر حتى يأتي الوحي عياناً؛ فيأخذ الحصاة ويرميه.
فيذهب للشيخ: أين تذهب بولدك؟ قال: لأنفذ أمر الله.
قال: انتظر حتى يأتيك الوحي عياناً؛ فيأخذ الحصاة ويرميه.
فيذهب للأم هناك: تركتِ ولدك مع هذا الشيخ! أتدرين ماذا يفعل به؟ فتقول: إلى أمر الله، إنه أبوه.
قال: سيذهب الآن ليذبحه.
قالت: إنه أمر الله، وتأخذ الحصاة وترميه.
ويقولون: هذا سبب رمي الجمرات الثلاث، والله تعالى أعلم.
قال إبراهيم: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة:128] ، والله أراه المناسك، ولا زالت من زمن إبراهيم حتى اليوم مناسك المسلمين.
وهكذا يجب عليك أن تكون محافِظاً على حجك دونما ضياع ولا إهمال، حتى تقضي حجك.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فضل الحج من مجيئك وخطو راحلتك، وطوافك وسعيك ووقوفك بعرفة إلى طوافك بالبيت وفيه: (تطوف بالبيت ويأتي ملك يربد بكفه بين كتفيك ويقول: استقبل عملاً جديداً، فصحيفتك بيضاء نقية) .
وهكذا نكون قد حافظنا على الحج بما أوجب الله سبحانه وتعالى.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.(70/11)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [3](71/1)
فريضة الجهاد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: من الواجبات التي ضيعها الناس الجهاد.
وقد يكون الجهاد واجباً عينياً، وقد يكون واجباً كفائياً؛ ولكن يهمنا أن الله سبحانه وتعالى أوجبه في الجملة، والحفاظ عليه مسئولية على الأمة الإسلامية، لا مسئولية فرد من الأفراد، ولا جماعة من الجماعات، ولا دولة من الدول، بل مسئولية العالم الإسلامي كله.
وتضييع الجهاد يكون بأحد أمرين: 1- تركه بالكلية.
2- أو ترك إعداد العدة له.(71/2)
من إعداد العدة: الاهتمام بالصناعات العسكرية
إن الله سبحانه وتعالى أمر الأمة أن تعد العدة للقتال ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ.
} [الأنفال:60] إلى آخره.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اتبعتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) .
فاتباع أذناب البقر دليل على الاشتغال بالزراعة، والتبايع بالعينة دليل على الاشتغال بنوع من أنواع البيوع المختلف في حكمها، والجمهور على تحريمه، ومعنى هذا: ترك الجهاد والاشتغال بأمور الدنيا.
وقد بين المولى سبحانه ذلك فقال: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ، وفسرها الصحابي الجليل أبا أيوب الأنصاري بأن ذلك بترك الجهاد في سبيل الله، وذلك حينما اصطف المسلمون مع أعدائهم في بعض المعارك، فقام فارس من المسلمين واخترق صف العدو حتى نفذ من الجهة الأخرى، ثم كر راجعاً، فقال بعض القوم: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال: لا والله! أنتم تفسرون هذه الآية على غير ما نزلت، كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نجاهد مع رسول الله، فقلنا ذات يوم: لقد فتح الله على رسوله، وانتشر الإسلام، وعلت راية المسلمين، لو رجعنا إلى مزارعنا فأصلحناها، وإلى تجاراتنا فأدرناها؛ فنزلت الآية الكريمة: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] أي: بترك الجهاد، والاشتغال بأمور الدنيا.
ومدار الأمر كله في هذا الباب على إعداد العدة، وكل شيء يعد، والآية الكريمة لم تحدد نوعاً من العدة، وتركت ذلك لتقدير المسلمين بحسب ظروف الحياة، فالعدة في سابق الزمن كانت بالخيل والسيف والرمح، واليوم بكل ما وُجد.
ويقول الخبراء العسكريون: السلاح اليوم هو الإنتاج.
ويقول النووي من قبل: إن تعلم الصناعات واجب كفائي، وعلى الأمة أن تتعلم كل صناعة حتى الإبرة -يقول ذلك في مقدمة المجموع -وهو موسوعة فقهية- حينما تكلم على أقسام العلوم، وما يجب على الأمة أن تتعلمه، وأنه يجب تخصص طوائف للفنون المختلفة- ويقول: لو قصرت الأمة الإسلامية في صناعة الإبرة لاحتاجت إلى عدوها في جلب الإبرة وتحكم العدو فيها في تلك الإبرة، فتجلس عرياناً لا تستطيع أن تخيط ثوباً، هكذا يقول النووي رحمه الله.
ونحن اليوم شاهدنا جانبين في الحرب والسلم، وإن كنا لا نتتبع الإذاعات والأخبار فقد استفاضت الأخبار في مد روسيا أنابيب لصربيا، فأمريكا ماذا فعلت؟ أعلنت عليها حرباً، بأي شيء؟ لا بالقذائف ولا بالنوويات ولا بالصواريخ، بل منعت عنها القمح، امتنعت من تصدير القمح لها، فقامت روسيا تفرج عن رصيد ذهبي من رصيدها لتشتري القمح من كندا.
وفي أثناء معركة رمضان -حرب العبور- وقفت روسيا قطع الغيار عن الجيش المصري حتى يدفعوا الثمن نقداً، ويقوم الملك فيصل -الله يغفر له ويرحمه- ويقدم شيكاً مفتوحاً، ويدفع قيمة قطع الغيار فوراً.
وأي نكاية أكثر من هذه؟! في أثناء المعركة تمنع القطع وتقول: أعطونا الثمن فوراً، بلد في حرب، واقتصادها متحمل الشيء الكثير، وفي تلك اللحظة تقول: أعطونا؟! فمعنى ذلك أنكم ضدنا في هذه الحرب! إذاً: المنتج للسلاح هو المتحكم في العالم.
قال الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] : القوة تكون في السلاح والإنتاج والاقتصاد والتعليم، وأصبحت الأسلحة الآن كيماوية وغيرها.
الأمة اليوم ضيعت الجهاد في سبيل الله بتضييع إعداد العدة التي تقابل سلاح العدو، وكما يقولون: لا يفل الحديد إلا الحديد، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] ، بأي شيء يدفعون؟ كلما تعادلت القوتان أمن الناس من الحرب، أما إذا غلبت كفة إحدى الجانبين فما الذي ينتظر؟ أن ينقض القوي على عدوه؛ لكن إذا عرف أن هناك ما يقابل سلاحه تعادلت الكفتان فتوقفتا.
فالأمة اليوم ضيعت الجهاد، وكان السلف رضي الله تعالى عنهم يقاتلون قدر الطاقة، وكان هارون الرشيد رحمه الله يغزو سنة، ويحج أخرى.(71/3)
من إعداد العدة: التدريب والتعليم
الجهاد في سبيل الله مما أوجبه الله، فكيف نحافظ عليه كما نحافظ على أركان الإسلام؟ نعد له العدة، والعدة هذه هل ستعمل بذاتها تلقائياً أم أنها تحتاج إلى أيدٍ تُعْمِلها؟! تحتاج إلى أيدٍ عاملة.
إذاً: يجب إعداد الرجال والشباب، وتدريبهم وتعليمهم وتمرينهم حتى تكون هناك قوة.
وليس الجندي مجرد الذي يحمل السلاح في الميدان، بل كذلك من يخدم هذا الجندي في مصانع الأسلحة والأنسجة، فهناك من يصنع له الفراش، وهناك من يصنع له الثياب، فكل من يؤمِّن طلبات الجندي فهو في الجندية، وهو في سبيل الله.
من عظيم أجر الفارس أن فرسه ما ترتع في مرعى، ولا تشرب من ماء ولا تصعد شرفاً، ولا تهبط وادياً، ولا تروث روثاً، إلا كان ذلك كله في حسناته، أما المجاهد بنفسه فيكفي تلك الصفقة التي بينه وبين الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] .
{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10-11] .
إذاً: مما يجب على الأمة الإسلامية مجتمعة: أن تعيد النظر في أمر الجهاد في سبيل الله، وقد أشرنا أنه قبل أن نرفع السلاح ونقاتل العدو؛ يجب أن نصلح ذات بيننا، كما جاء في مطلع سورة الأنفال، وهي في ذكر أعظم انتصار للمسلمين في غزوة بدر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] ، فقبل أن يتكلم عن المعركة ونتائجها قال: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} ، وهذا باب واسع، ويهمنا التنبيه عليه فقط.
ننتقل إلى القسم الثاني من الحديث، وقد انتهينا من جعل القسم الأول: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها) أي: بالحفاظ عليها وإقامتها.(71/4)
الحدود في الإسلام
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها) : هذا القسم الثاني من الحديث، ويستوجب من طالب العلم أن يقف عنده طويلاً أكثر من قوله: (فَرَض فرائض) ؛ لأن: (حدَّ حدوداً) أعم من تلك الفرائض.(71/5)
تعريف الحد لغة
الحد في اللغة: المنع، تقول: هذا حد البيت، أو: هذا حد الملك، وكل عين من العقارات لها حدود أربعة: شرق وغرب وشمال وجنوب، وفائدة هذا الحد: أن تمنع المحدود أن يخرج عن حده، وتمنع غير المحدود أن يدخل داخل تلك الحدود، فهو مانع، وكما قالوا: إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند يعني: امنعها.
وقالوا: سميت العقوبات لبعض الجرائم حدوداً؛ لأنها تمنع الناس من الوقوع فيها، وسماها صلى الله عليه وسلم حداً في قضية المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، ثم سرقت ورُفع أمرها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وصدر الأمر بقطع يدها، فأرسلوا إليه حب رسول الله وابن حبه أسامة يشفع فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) قالوا: قطع اليد حد في السرقة، والجلد حد في الشرب أو القذف أو الزنا للبكر، والرجم حد في زنا الثيب.
وهذه الحدود موانع وزواجر عن وقوع الإنسان في هذه المعاصي التي جُعلت لها هذه الحدود.
ويقال عن المتوفَّى عنها زوجُها: هي في حداد؛ لأنها مُنعت من الزينة، سمي الحديد حديداً لقوة مناعته.
إذاً: الحد في اللغة: المنع.(71/6)
تعريف الحد شرعاً
الفقهاء يقولون: الحد: هو ما شرعه الله عقوبةً على المعاصي، قال صلى الله عليه وسلم: (إقامة حد خير من مطر أربعين يوماً) ، وهذا من بركة تحكيم كتاب الله.
ويطلق الحد على المعنى الأصلي: التعريف والتمييز.
ويقول المناطقة: الحد هو ذكر الجنس مع الفصل، فحد الإنسان عند المناطقة: أنه حيوان: وهذا الجنس، ناطق: وهذا الفصل؛ لكي يميزوه عن الصاهل والناهق.
إلى آخره، فالكل حيوان؛ لكن يأتي الفصل الذي يختص بهذا النوع فيميزه ويحدده.
وتقول: حد الشفعة كذا، وحد الواجب كذا، أي: تعريفه وتمييزه عن غيره.
فقالوا: الحد: كل ما نهى الله عنه وبينه وميزه عن غيره، فأصبح محدوداً بتعريف الشرع إياه.
وبعضهم يقول: الحد هو الشرط.(71/7)
ذكر الحد في سورة البقرة
لو تتبعنا كتاب الله في لفظة الحد بكل تأنٍّ نجدها جاءت في سورة البقرة عدة مرات، وفي النساء، والتوبة، والمجادلة، والطلاق، فلننظر في هذه الألفاظ التي جاء فيها لفظ الحد: أول ما يصادفنا لفظ الحد في سورة البقرة، في آية الصيام وحكم الاعتكاف: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] .
وإذا تأملت المصحف من أول {الم} [البقرة:1] تجد تقسيم الناس الثلاثي: مؤمنين وكافرين ومنافقين، ثم تجد سياقاً طويلاً مع بني إسرائيل: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى.
} [البقرة:60] {أَفَتَطْمَعُونَ.
} [البقرة:75] {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة:92] ، إلى أن يأتي قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} .
إذا وقفنا عند حدود الله تلك نجد بعض المفسرين يقول: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] ، يعني: لا تقربوا النساء وأنتم عاكفون.
ويجيب البعض الآخر ك أبي حيان ويقول: لا، هذا مفرد، {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} [البقرة:187] هذا شيء واحد؛ ولكن (تِلْكَ) : اسم إشارة ترجع إلى آيات الصيام بكل ما فيها من أحكام، وآيات الصيام نجد في أولها: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} [البقرة:184] ، ثم: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى} [البقرة:187] ، ثم: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] .
إذاً: آيات الصيام فيها حدود من المحرمات، وفي النهاية قال: {فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] .
ولكن قبل آية الصيام تجد آية الوصية عند الموت: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] ، وتجد قبل الوصية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] ، وقبلها: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] ، وقبلها: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة:176] .
وقبلها: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ} [البقرة:173] .
ثم ذكر المحيض، ثم الإيلاء والحلف على الزوجة، ثم الطلاق: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227] .
وسياق عشرة الزوجة طويل، من آية نكاح المشركات والمشركين، وكل ذلك موضوعه يتعلق بعشرة الزوجة ابتداءً وعشرةً وفراقاً.
إذاً قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:229] يعني: محارمه التي حرَّمها وحدَّها وميَّزها وجعلها بين الحلال والحرام، {فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] .(71/8)
ذكر الحد في سورة التوبة
ننتقل إلى سورة التوبة قال الله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97] ، هذه الحدود عامة، سواء كانت في العقوبات أو في الحلال والحرام.
ثم في نفس السورة بعد الأولى بعدة آيات نجد قوله تعالى:: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة:112] ، وهذه شاملة، وفيها مدح للذين يحفظون حدود الله ومحارمه مطلقاً.(71/9)
ذكر الحد في سورة المجادلة
ننتقل إلى سورة المجادلة قال الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:1-2] ، بعد منكرٍ وزور عفوٌّ عفور، لاحظوا فضلَ الله! {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً.
} ، قد تحتاج: (والله شديد العقاب) ؛ لكن (والله عفو غفور) ، والله! إنها لسعةُ فضل من الله؛ لأنها قضايا قد تقع بين الزوجين، وكأن الله يرشد الزوجين إلى المغفرة والرحمة فيما يقع بينهما، لا أن يقفا بسوط وبعصا، ويعاقب كل منهما صاحبه، مع أن الظهار لا يأتي إلا في حالة الغضب، فلو قال: (والله شديد العقاب) ، إذاً: فدَعْه يأخذ حقه منها؛ لكن (عفو غفور) فبدلاً من أن تقول لها: أنت علي كظهر أمي، قل لها: أنت كأختي عاطفةً ورحمةً ومودة، أنت تقول منكراً من القول وزوراً، والله يقول لك: أنا عفو غفور! ثم بعد هذا المنكر من القول والزور من العبد يأتي الحل وفض المشكلة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3] : ليس معنى (يَعُودُونَ) أي: إلى قوله: أنتِ عليَّ كظهر أمي، لا، بل يعود إلى التي قال لها: أنت علي كظهر أمي، يعود إليها كزوجة، ولكن قبل ذلك: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] ، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [المجادلة:4] ، وما قال: (فمن لم يجد) ؛ لأن هذا راجع إلى الاستطاعة، والصيام موجود.
{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [المجادلة:4] : هم مؤمنون من السابق؛ ولكن لتؤمنوا بفرائضه وتشريعاته، والإيمان بالله يستلزم السمع والطاعة، وكأنه يقول: إيمان عمل، إيمان تنفيذ.
{ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ.
} [المجادلة:4] : لأنه قال: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة:4] ، فمن لم يؤمن بتشريع الله، ولم يعمل بهذه الحدود ويقيمها كما أمر الله يكون كافراً، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة:4] .
إذاً قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة:4] لقضية الظهار بكاملها، والإيمان بالله يكون اعتقادياً، وعملياً.(71/10)
أقسام خطاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن
ويقول الله في سورة الطلاق: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق:1] ، وهذا نداء خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذا ويقول العلماء: إذا جاء الخطاب بخصوص النبي صلى الله عليه وسلم فله عدة حالات: - تارة لا يدخل هو في الخطاب أبداً، وليس هو معنياً به، والأمة معنية به في شخصيته.
- وتارةً يكون خاصاً به فلا يشركه أحد غيره.
· وتارةً يكون الخطاب خاصاً به، والأمة تشترك معه فيه.(71/11)
قسم لا يتناوله ولا يمكن أن يدخل تحت نطاقه
مثل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23] : (الكاف) هذه متوجهة إلى المخاطَب بها، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23-24] : أين أبَوَا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُف} سبحان الله! أبوه توفي وهو حملٌ في بطن أمه، وأمه توفيت وعمره خمس سنوات، والقرآن نزل عليه بعد أن جاوز الأربعين من عمره.
فكيف يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء:23] ، وهما غير موجودين الآن؟ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] ، هو ليس بقائل لهما.
{وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] : هما ليسا موجودَين حتى ينهرهما؛ فالخطاب -إذاً- خاص بشخصه صلى الله عليه وسلم، والحكم لغيره.
ولماذا جاء الخطاب بخصوصه مع أنه ليس داخلاً فيه؟ إعظاماً لحق الأبوين، أي: لو كان أبواه على قيد الحياة لكان هذا حكمهما، حتى ولو ماتا على الكفر، قال سبحانه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] .
تحسسوا رحمة الله يا إخوان! تحسسوا سعة فضل الله، الأبوان كافران يجاهدان الابن على أن يشرك بالله، والمولى سبحانه الذي يأمران بالإشراك به يقول: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] : يحرضاني على الشرك وتقول لي: صاحبهما بالمعروف! أبواك هما سبب وجودك، حقي أنا متساهل فيه؛ لكن حقهم عليك لا تضيعه، ما دمت مسلماً لي وعبداً من عبادي؛ فإني أريدك على المثالية العليا، لا أريد عبداً من عبادي يضيع حقاً واجباً عليه.(71/12)
قسم يختص به وحده
مثل قضية المرأة الواهبة نفسها، قال الله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] : أبداً، ما أحدٌ له دخل في هذه الآية، ولذا لا يحق لمسلم أن يستبيح بضع امرأة بوهبها نفسها إليه، فهل تقول: وهبتُ نفسي إليك، فيقول: قبلت، وتباح له؟ لا.
بل هذه خالصة للنبي، لماذا؟ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] فهو ولي من لا ولي له، كما لو كانت لك أمة وتعتقها وتتزوجها، لا تحتاج إلى إنسان يعقد لك عليها؛ لأنك أنت وليها.
ولذا حينما صعَّد النظر فيها وصوَّب وتركها، قام رجل وقال: (زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، قال: ماذا عندك لتدفع لها صداقاً؟ ثم قال: زوجتكها بما معك من القرآن) ، وهل قال لها: ائت بأبيك أو أخيك أو عمك أم أنه هو الذي تولى زواجها؟ هو الذي زوَّجها لا غيره، وكانت تريد أن تزوج نفسها به، وهذا معناه: أنها بعيدة عنه، وتحل له، وليس هو من محارمها، ومع ذلك يقول: (زوجتكها) .
لماذا؟ لأن له حق الولاية على كل مسلم، فتصح الهبة إليه، أما أنت فلا ولاية لك على غيرك.(71/13)
قسم خاص به وتشترك معه الأمة
مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [التحريم:1] ، ولا أخص من هذا: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] ، وهذا خطاب خاص بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم:1] ، أي: أنت.
{مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1-2] ، كان يقول والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه-: الخطاب ابتداءً للنبي؛ ولكن الأمة معه بدليل: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] ، ولو كان خاصاً به لقال: (قد فرض الله لك تحلة يمينك) ؛ ولكن لما جاء إلى الحكم وإلى إصلاح هذا الأمر شمل الأمة.
إذاً: الأمة داخلة في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، فيشملها الحكم؛ لكن سبب الحكم كان خاصاً برسول الله.
يقول الله: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق:1] ، هذا خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ومعه غيره.
{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} : أولاً.
{لِعِدَّتِهِنَّ} : ثانياً.
{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} : ثالثاً.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] أي: لا تخرجوهن أنتم اعتداءً وغضباً، وكذلك هن لا يخرجن؛ لأن لها الحق أن تبقى إلى العدة ما دامت رجعية.
{وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق:1] : خمسة أحكام، فقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق:1] ، راجعة لجميع ما تقدم من آداب وأحكام الطلاق من إحصاء العدة وإبقاء الزوجة في بيت الزوجية ولا تُخْرَج ولا تَخْرُج {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .(71/14)
الفرق بين (تعتدوها، وتقربوها) في الحدود
في هذا الحديث قال: (وحد حدوداً فلا تعتدوها) ، وفي الآية: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] ) .
ولو رجعنا إلى المواضع في كتاب الله التي ذُكرت فيها الحدود، وعمل لها أحد فهرساً سيجدها قد شملت جميع أبواب الحرام في كتاب الله، فمنها: · ما يتعلق بالعبادات في الصيام.
· وما يتعلق بالدماء.
· وما يتعلق بالأحكام عند الموت في الوصية.
· ثم يأتي إلى الاعتكاف تتمةً للعبادات.
· ثم يأتي إلى موضوع الطلاق.
· وما يتعلق أيضاً بنوعية الزواج من المشركات والمشركين.
· وما يتعلق بالإيلاء.
وكل ذلك من أحكام الأسرة والأحوال الشخصية كما يقولون.
إذاً: يستطيع الإنسان أن يقول: فرق بين (تَقْرَبُوهَا) و (تَعْتَدُوهَا) ، ولو جئنا إلى ما يتعلق بالطلاق والخُلع والأخذ من الزوجة، {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229] ، كلها أمور مالية، ومعالِم لا يجوز أن تُتَخَطَّى.
ولكن إذا جئنا إلى {فَلا تَقْرَبُوهَا} أي: كونوا بعيدين عنها قليلاً، نجدها ليست في الماليات، وليست في الحقوق الشخصية الذاتية؛ ولكن {بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ} [البقرة:187] إذاً: هذا في حِلِّيَّة الوطء في ليل رمضان.
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] ، فلو قال هنا (فلا تعتدوها) ، فمعناه: أننا جئنا إلى نقطة الصفر مع الفجر؛ لكن {فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] أي: أمسكوا عن الأكل والشرب والنساء قبل الفجر، ولا تقربوا الفجر بهذه الأمور.
فقوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] : إذا حملنا المباشرة على الوطء فقوله: {فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] فيه تحريم اللمس والقبلة ونحو ذلك.
إذاً: قضية {فَلا تَقْرَبُوهَا} تستلزم الابتعاد، وتجعل هناك منطقة محرمة، ولذا ناسب معها {فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] ، أما بقية الحدود الأخرى أو الأحكام الأخرى فهي أمور عادية ليس فيها حظ للنفس والشهوة؛ لأن ما يتعلق بالغريزة يجب أن يبتعد عنه.
لعل في هذا القدر من شرح هذا الحديث يكفي لبيان ما جاء في هذا الحديث.
وقد شرحنا قوله: (فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها) .
وبقي معنا قوله: (ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم ... ) ، وستأتي تتمة للكلام عن باقي الحديث فيما بعد إن شاء الله.
وبالله تعالى التوفيق.
وأسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن يقيم حدود كتاب الله، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(71/15)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثلاثون [4](72/1)
الحدود ولزوم الوقوف عندها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فما زلنا في شرح الحديث الثلاثين من الأربعين التي جمعها الإمام أبو زكريا النووي رحمه الله تعالى، وهو حديث أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) ، حديث حسن، رواه الدارقطني وغيره.
أيها الإخوة! إن هذا الحديث النبوي الشريف -كما قال العلماء-: أجمع حديث اشتمل على جوانب التشريع الإسلامي، ولا يوجد حكم يخرج عن نطاقه؛ لأنه جمع الفرائض والحدود والمنهي عنه والمباح، وهذه هي أقسام التشريع.
(إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها) ، أي: حافظوا عليها، والفرائض ما أُمر بفعله، وتقدم الكلام عليها، ثم قال: (وحد حدوداً فلا تعتدوها) ، ثم قال: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) : وتقدمت الإشارة إلى نوع من الاشتراك في: (وحد حدوداً) و: (حرم أشياء) ، واختلف العلماء في المراد بالحدود، فقيل: هي العقوبات والزواجر، مثل: حد السرقة قطع، وحد الزنا رجم أو جلد، والقذف.
إلى آخره.
وقيل: المراد بـ (حد حدوداً) أي: ميَّز أحكاماً وبينها (فلا تعتدوها) .
وتقدم الكلام على ما جاء في كتاب الله من قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] فيما يتعلق بالصيام والاعتكاف.
وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] ، فيما يتعلق بأمر الطلاق والنساء.
وما يتعلق بالمواريث والأنصباء في سورة النساء.
وما جاء في سورة التوبة بحفظ حدود الله.
وما جاء في سورة المجادلة في الظهار بين الرجل وزوجه.
وما جاء في سورة الطلاق في أمر العدة.
ويرى بعض العلماء أننا لو حملنا حدود الله على تلك المسميات لكان تكراراً للمعاني، (نهى عن أشياء) ، (حرم أشياء) ، والواقع أنه بالتأمل يظهر أن هناك فرقاً بين حدود الله وبين ما حرم الله، والكل فيه التحريم والمنع.
فمثلاً قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] ، وقد ذكرنا قول أبي حيان رحمه الله: (تلك) اسم إشارة للجمع، و (حدود) مجموعة، و (تلك) إشارة لمؤنث، وقد يُشار بها إلى البعيد، فتشمل أحكام الصيام كلها.
ولو رجعنا إلى الآيات قبلها بقليل لوجدنا الوصية والقصاص.
فنقول: إن في مسمى الحدود هنا معالم محددة معدودة: فالاعتكاف أيام معينة.
والصيام كذلك أيام معدودات.
والوصية في شيء محدود.
والقصاص في نفس.
إلى آخره.
وهكذا آية البقرة: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ.
} [البقرة:229] فهو أيضاً معدود، {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا.
} [البقرة:229] إلى آخره.
وكذلك آية النساء في المواريث أنصباء محددة معدودة.
وفي الظهار كفارة معينة معدودة.
وفي سورة الطلاق بيان للعدة: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] .
فيكون شيء معين محدد؛ فلا تعتدوا تلك الحدود التي حدها الله.(72/2)
أثر انتهاك المحرمات
نأتي إلى القسم الثالث في الحديث، وهو: (وحرم أشياء) ، وإذا جئنا إلى النصوص القرآنية نجد أن التحريم الوارد في كتاب الله للأشياء إنما يتعلق بصفات المحرمات، وكما يقول الأصوليون: (الحكم لا يتوجه إلى العين؛ ولكن إلى صفة فيها) .
وكلمة: (وحرم أشياء) نقف عندها وقفة خفيفة، وهي: إن الحق في فرض الفرائض وتحديد الحدود وتحريم الأشياء إنما هو لله وحده، ولا يحق لمخلوق أياً كان أن يقتحم هذا الباب ويقول: هذا حلال وهذا حرام، بل عاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم حينما حرم على نفسه مباحاً فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] ، بل قال سبحانه محذراً: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] ، وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] .
إذاً: حق التشريع بالفرض والتحديد والتحريم إنما هو لله سبحانه، وكذلك الإباحة والحلية كما قال الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] ، فلا أحد يملك ذلك.
ويقول علماء اللغة والمنطق: أعم العمومات كلمة: (شيء) ؛ إذ لا يخرج منها موجود في هذا الوجود، فكل موجود يصدق عليه أنه شيء من الأشياء، و (شيء) هنا لفظ مجمل، ولو جئنا إلى نصوص القرآن نجد -بنوع من التأمل- أن النصوص تنقسم إلى قسمين: قسم يكون عقوبة وابتلاءً.
وقسم يكون إرشاداً وتوجيهاً لمصلحة المكلف في ذاته.
فمن القسم الأول -وهو التحريم- قول الله سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] أي: بسبب ظلمهم واعتدائهم.
وقد يكون امتحاناً كما كان لليهود في قضية طالوت مع الجنود: {إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
} [البقرة:246] ، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] ، وهذه مقاييس مادية في تولية الرئاسة.
والله يرد عليهم بمقومات الرئاسة والقيادة الفعلية الصحيحة: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] أولاً اختاره الله واصطفاه، واختيار الله لا يكون إلا للأصلح، وهنا {وَزَادَهُ} عليكم {بَسْطَةً فِي} مقومات القيادة و {الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} ؛ فالعلم يعرف به كيف يدير الجيش، وكيف يدير المعارك، وكيف يسوس الأمة، وملك جاهل لا يستطيع أن يسوس أمة، بلقيس لما كانت عاقلة وجاءها خبر سليمان، فكرت واستشارت {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34] ، فكرت بعقلها، ولم تقل كما قال جندها: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} [النمل:33] ، الجندي يعرف السلاح والقوة؛ ولكن الملك يعرف السياسة وبُعد النظر والتدبير، ولهذا إذا دخل العسكري في السياسة أفسدها؛ لأن عمله في الميدان.
إذاً: من مقومات القيادة السليمة: العلم والجسم؛ فالعلم يخطط ويدبر، والجسم بقوته ينفذ.
وحينما فصل طالوت بالجنود ماذا قال لهم؟ قال: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ} [البقرة:249] ، ما قال لهم: (معطيكم نهراً) ، بل {مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] .
وهنا يأتي
السؤال
لماذا يبتليهم بهذا النهر؟ ليعلم حقيقة الطاعة؛ لأنه رغم أنفهم صار ملكاً عليهم، فهو بدون اختيارهم، ومن هنا تظهر نتيجة العلم، وهل يقابل عدواً بقوم لم يرتضوه ملكاً؟ وهل يثق فيهم؟ وهل الثقة متبادلة بينهم أم منفية؟ منفية من جهتهم؛ لأنهم {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة:247] ، استبعدوا أن يكون ملكاً عليهم، فهو مفروض عليهم، فهل سيخلصون معه في قتال العدو؟ وليس الأمر كما يقول بعض المفسرين: إنهم كانوا في الصيف الحار، وإذا شربوا امتلأت بطونهم، وإذا قابلوا العدو لا يستطيعون القتال، وهذا كلامٌ لا يُقال؛ فهم ليسوا أمام العدو حتى لا تكون هناك فرصة لأن يشربوا، فما زالوا بعيدين، وما وصلوا إلى العدو إلا بعد حين.
والذي يهمنا: أن في هذا امتحاناً لهؤلاء القوم؛ ليعلم حقيقة الطاعة والامتثال.
فقال الله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:249] أي: أنهم بفعلهم قالوا: نحن لن نطيعه؛ وعليه فإنهم سوف يعتزلون القتال.
علي رضي الله تعالى عنه قبل محاربة الخوارج أرسل إليهم ابن عباس وناقشهم، ورجع منهم عشرة آلاف مقاتل، فقال لهم: (أما أنتم فاجتنبوا، لا تقاتلون معنا ولا مع عدونا) ، فهو لم يطمئن إليهم؛ لأنهم لتوهم رجعوا إليه، ودخلوا في صفه، فإذا جاءوا معه وقابلوا إخوانهم الذين كانوا معهم، فمن يضمن أن العاطفة تغلب عليهم، وينقلبون عليه؟ بل لا لنا، ولا علينا.
وهنا طالوت امتحنهم.
نأتي إلى هذه الأمة، ونجد أيضاً موضوع الامتحان في قول الله سبحانه: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] ابتلاء (ليبلونكم) ، وقال: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] .
إذاً: هنا ابتلاء، {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] .
فهم خافوا الله، والله يعلم منهم ذلك، فإن الله لا يخفى عليه شيء من قبل أن يوجد العالم؛ لكن ظهرت فضيلة هذه الأمة، وعلم الناس حقيقة مكانة الأمة المحمدية، لماذا؟ لأن هناك أمة قد ابتُليت بمثل هذا، وامتُحنت فرسبت، قال الله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] ، فماذا فعلوا؟ ما صبروا، وألقوا الشِباك يوم الجمعة، وجاءت الحيتان يوم السبت، وأخذوا الشباك يوم الأحد مليئة بالحيتان.
فتلك أمة احتالت على ما حرم الله في الصيد، وهذه أمة حافظت على حدود الله ومحارمه؛ فلما خرجوا في عمرة الحديبية ما امتدت يد صحابي واحد إلى صيد من طير أو من غزال أو من حيوان في الأرض، ويأتي الصيد يتحداهم، كما وصفه الله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] ، يأتي الصيد فيقف على سن الرمح الذي هو أداة صيده، أَمِنَ ويتحدى ويقف على سن الرمح، وتناله اليد! فيقال له: اذهب لا تمتحني فيك.
أبعد من هذا: يمر صلى الله عليه وسلم بظبي يستظل في ظل شجرة، يريد أن يستريح، فيوقِف عنده رجلاً لئلا يهيجه أحد، ليس فقط نكف عن صيده، بل نحافظ عليه وعلى أمانه وراحته لئلا يأتي واحد فيروعه ويفر.
إذاً: هذا (ابتلاء) ليعلم حقيقة هذه الأمة التي وصفها الله بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] .(72/3)
مقارنة بين ابتلاء بني إسرائيل وأمة محمد عليه الصلاة والسلام
الشيء بالشيء يُذكر، امتُحن بنو إسرائيل في مادةٍ امتُحنت فيها هذه الأمة، ورسب بنو إسرائيل، ونجحت هذه الأمة.
حينما خرج بنو إسرائيل من البحر وقال لهم الله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] ، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ.
} [المائدة:22] {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ، قالوا كلمة تستحي منها العجائز! الله يقول: {الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] ، أي: وعدهم الله أنهم سوف يأخذونها، وقال رجلان منهم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23] .
ومع هذا كله يقولون: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] ، وأما هذه الأمة في غزوة بدر، يخرجون وهم نفر قليل (314) شخصاً، معهم (70) بعيراً فقط، وفرسان، ويذهبون لأخذ قافلة لقريش بلغهم خبرها، وليس هذا من قطع الطريق، بل هو جزءٌ من المعاملةٍ بالمثل؛ لأن من هاجروا من مكة تركوا ديارهم وأموالهم، واستولى عليها المشركون هناك.
صهيب رضي الله عنه لما خرج مهاجراً، لحق به أهل مكة، وقالوا له: والله! لا تذهب، جئتنا صعلوكاً لا مال لك، فصرت غنياً، ثم تريد أن تخرج بنفسك وبمالك! هذا لا يكون، قال: أرأيتم إن وصفت لكم مكان مالي، أتذهبون تأخذونه وتتركونني؟ وتعلمون أني رامٍ، والله! لا يطيش لي سهم أبداً، وكنانتي مليئة، فترك لهم المال، وأخذوا ماله عنوةً، بيعٌ رابح وصفقة رابحة، كما قال له صلى الله عليه وسلم: (ربحت الصفقة) .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح قيل له: (أين تنزل غداً يا رسول الله؟! يعني: في أي البيوت؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو عقار؟!) فهم أخذوها وباعوها.
إذاً: المشركون سبقوا بالتعدي على أموال المهاجرين، وهذه قافلة خرج إليها صلى الله عليه وسلم؛ ولكن يريد الله أمراً كان مفعولاً.
العير نجت، والنفير أقبلت، {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] ، توقيت من الله سبحانه وتعالى.
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن العير التي هي الغاية فاتت، ومعه وعد من الله، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال:7] لا بعينها، ولكن واحدةً منهما، وهذا نوعٌ من الترغيب؛ ولكن أيُّهما يا رب؟ {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] هذه رغبتكم؛ ولكن الله يريد {أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} [الأنفال:7] .
فلما علم بأن العير قد نجت، والنفير قد أقبلت، استشار أصحابه، وتكلم المهاجرون وأحسنوا، وقال قائلهم: (والله يا رسول الله! لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ؛ ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله! لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ويقول سعد: يا رسول الله! لعلك تعنينا معشر الأنصار! قال: نعم.
فيتكلم رضي الله تعالى عنه ويقول: والله إنا لصبر عند اللقاء، والله! لو خضت بنا إلى برك الغماد لجالدناهم عليه) .
هؤلاء يقولون: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ، وهؤلاء يقولون: نخوض البحر معك! إذاً: كان الحكم على هذه الأمة بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، حكم بحيثياته وموجباته، وهذا فضل من الله سبحانه.
إذاً: التحريم ابتلاء وامتحان لتظهر حقيقة المكلف.
وكل التكاليف ابتلاءات تعبدية، والواقع أنها -وإن كانت تعبدية- فهي لعلل موجودة ترجع إلى المكلف.(72/4)
أنواع المحرمات
هذه الجملة في هذا الحديث: (وحرم أشياء) ، تأتي على كلِّ ما حرمه الله، وما حرمه الله بالتصوير الكلي في أمر الإسلام ينقسم إلى أقوال وأفعال.(72/5)
المعتقدات المحرمة
من المعتقدات المحرمة: الشرك بالله، وتكذيب الرسل، قال الله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] ؛ لأنه قبلها قال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136] ، وحرموا بعض بهيمة الأنعام مثل البحيرة والسائبة وغيرهما، والله هنا ناقشهم في ذلك: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ، الإبل والبقر والضأن والماعز، كأنه قال لهم: الذكور والإناث ما العلة في التحريم لأحدهما: الذكورة أم الأنوثة؟ {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي} [الأنعام:143] ؛ لأنها لا تخرج عن ذلك؛ إما لعلة الذكورة أو الأنوثة أو اشتمال الرحم عليه، فلا موجب للتخصيص.
ثم قال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ.
} [الأنعام:145] .
ثم هناك فيما بعد في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] فإذا جئنا إلى هذا التقسيم فيما يتعلق باعتقادات وأقوال وأفعال نجد من أول المعتقدات: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151] ، فمن أول ما يكون محرماً في الاعتقاد: الشرك بالله، وما يتعلق بتصديق الرسل، وبأخبار الأنبياء والمرسلين والأمم الماضية، وكل ما جاءك عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعتقد صدق ذلك أو وجوب العمل به إذا صح لك سنده.
إذا جئنا إلى الأقوال المحرمة، فهي: كل ما كان مغايراً للحق من كذب أو غيبة أو نميمة، أو كل ما يتكلم به اللسان، ويتفاوت بعضه عن بعض، ومنه الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) .
إذاً: من الأشياء التي حرمها الله ما يتعلق بالمنطق أو باللسان.
نأتي إلى غير العقائد وغير الأقوال: الأفعال: نجد محرمات في المطعومات والنكاح وفي الأزمنة والأمكنة.(72/6)
المطعومات المحرمة
قال الله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ} [الأنعام:145] ، وقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ.
} [المائدة:3] ، وكل هذه المسميات في هذه الآية حرام.
وتأتي السنة في هذا الباب وتزيد: كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع، وتأتي السنة أيضاً بتحريم الحمر الأهلية؛ فسواء كان التحريم في نص كتاب الله، أو في سنة رسول الله فهي داخلة ضمن: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) .
ومما يدل على عموم استحقاق السنة وتأهيلها للتشريع استقلالاً ما جاء في هذه المسميات: كل ذي ناب، وكل ذي مخلب، والحمر الأهلية، وتكلم العلماء في جزئيات من المحرمات تدخل تحت قاعدةٍ عامة في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وهي صفة مكتوبة في التوراة والإنجيل {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، فالخبائث: جمع خبيثة، وما هي تلك الخبائث التي اندرجت تحت هذا العنوان؟ نعلم جميعاً أن كل ما نص عليه الشارع بالتحريم فهو خبيث شرعاً، بقي العرف والعادة، فهناك أشياء لم يأتِ النص عليها بأعيانها، وقد بحث هذه المسألة والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في أضواء البيان عند قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ.
} [الأنعام:145] إلى آخر الآية، وذكر في هذا البحث ما فيه خلاف أو وفاق، على مبدأ: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، فذكر من الطيور بعض ما لم يأتِ مسماه كالبوم والغراب والحشرات والحيوانات، وذكر الخلاف في الخيل والبغال والحمير وبقية السباع والضبع، وذكر حكم الزواحف، ومن كره الضب، ومن أباح الحيات والعقارب، وعند المالكية خلاف في الحيات هل تؤكل أو لا تؤكل؟ وكل ما يتعلق بحشرات الأرض، وذكر كل موضع وفاق أو خلاف.
وإذا كان الإسلام يحرم الخبائث فهو دين النزاهة، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4] .
إذاً: الخبائث محرمة.
وما حد الاستخباث؟ وهل كل ما استقذره الإنسان فهو خبيث؟ يقولون: المقياس في ذلك هم ذوو المروءات من أوساط الناس في المجتمع، لا في شدة الجوع، ولا في زيادة الترف، بل في الحالات العادية.(72/7)
الأنكحة المحرمة
إذا جئنا إلى ما يتعلق بالأسرة وبالنكاح نجد قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ.
} [النساء:23] ، وذكر التحريم بالنسب وبالسبب وبالمصاهرة.
فالتحريم بالنسب: الأصول والفروع مثل: الأمهات وجداتها، والبنات وبناتها، والأخوات والخالات والعمات، وبنات الأخ.
ثم جاء إلى المصاهرة: ما كان من زوجة الأب أو زوجة الابن.
ثم جاء إلى السبب: وهو الرضاع، الأخت من الرضاع والأم من الرضاع.
وجاء القرآن بنوع: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] والسنة جاءت بزيادة: (لا تجمعوا بين المرأة وخالتها أو المرأة وعمتها) .(72/8)
الأزمنة المحرمة
ثم نأتي إلى الأزمنة: إذا نظرنا إلى التشريع في الإسلام من الزمان: فالله سبحانه وتعالى فاضَلَ في الأزمنة كما فاضَلَ في الأمكنة وكما فاضَلَ في الخلائق كلها.
فمن الأزمنة الفاضلة من أيام الأسبوع: يوم الجمعة، ومن أيام السنة: يوم عرفة، ومن ليالي السنة: ليلة القدر.
إذاً: هذه أزمنة فاضلة.
ولكن التفاضل في جانب، والذي يهمنا في باب التحريم قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] ، تلك الأربعة الحرم حرم الله سبحانه الاعتداء فيها، بل وجعل النسيئة زيادة في الكفر، وكان العرب حينما يمر عليهم ثلاثة أشهر: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم يستطيلون تحريم ثلاثة أشهر لا يقاتلون فيها ولا يسلبون ولا ينهبون.
وقد أشرنا سابقاًَ إلى الحكمة الإلهية الجليلة في تحريم تلك الأشهر الحرم؛ لأن العرب كانوا يعيشون نظاماً قبلياً: (من عَزَّ بَزَّ، ومن غلب سلب) ، وكانوا يحجون إلى البيت وهم على شركهم، فمنهم من يأتي من أقصى الجزيرة من الخليج، ومنهم من يأتي من أقصى الجنوب من اليمن، وإذا أراد أن يحج فالقبائل أمامه تعترضه، فالله جعل أشهر الحج ضمن الأشهر الحرم التي يحرم الاعتداء فيها، قال الله سبحانه: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] ، فكانوا يحترمون الهدي إذا سيق إلى البيت، والقلائد، وآمين البيت الحرام، فإذا عرفوا أنهم عمَّار أو حجاج كفوا عنهم.
فجعل الله الحج متزامناً مع الأشهر الحرم ليأمن الحاج من أقصى الجزيرة إلى البيت ذهاباً وإياباً فكان يأتي في ذي القعدة وجزء من ذي الحجة، ويرجع في جزء من ذي الحجة وكامل المحرم، وهكذا يتم حجه في الأشهر الحرم آمناً على نفسه وهديه، ورجب الفرد محرم أيضاً.
إذاً: هذه أشهر حرَّمها الله فلا تعتدوا فيها على أحد.(72/9)
الأمكنة المحرمة
المكان المحرم: الحرم بكامله والمدينة: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، وإنما أبيحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً من نهار) .
فإذا قتل المحرمُ صيداً ماذا عليه؟ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] ، فيُعاقَب.(72/10)
الأموال المحرمة
إذا جئنا إلى الأموال بصفة عامة؛ فإن الله يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ} [البقرة:188] {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:1-2] .
فحرم الأموال، وجاءت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم تقرر هذا في الحج: (أي يوم هذا؟! أي شهر هذا؟! أي بلد هذه؟! -أسئلة عجيبة! وأسلوب فيه تنبيه وإيقاف لم يعرفه العرب! سؤال عن المعلوم، ليستجمعوا قواهم ويسمعوا- فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، أليس هو اليوم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام؟! قالوا: بلى -يعني: تحريم ثلاث مرات- ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، فحرُمت تلك المقومات الثلاث: الأموال، والأعراض، والدماء.
وهي مقومات كل مجتمع، وكما يقول الأصوليون: الجواهر الست هي: الأديان.
والعقول.
والأبدان.
والأموال.
والأنساب.
والأعراض.
وهذه إذا لم تحفظ في أي مجتمع فلا قوام له، وإذا اضطرب الأمن لا يأمن الإنسان على نفسه أو ماله أو عرضه، فلا استقرار ولا حياة.
إذاً: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) : يجب أن نحافظ على ما حرم الله، وكما قال الشافعي: لو أن الأمة أخذت بسورة {وَالْعَصْرِ} [العصر:1] لكفتها، ونقول: لو أن الأمة أخذت بهذا الحديث لكفاها.
لكن هل بيَّن تفصيل المحرمات ما هي؟ لا، وقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم.
فلو أن الأمة جماعات وأفراد وقفوا عند ما حرم الله، ولم ينتهكوا حرمات الله؛ لكانت السعادة.
وقد ذكر صلى الله عليه وسلم بأن المدينة حرام ما بين لابتيها، وما بين عَير إلى ثور يحرم فيها الصيد؛ ويكاد يتفق العلماء بأن الصيد في المدينة فيه تعزير، وليس فيه جزاء، وبعضهم يقول: يؤخذ سلب الصائد، إلى غير ذلك من أحكام أخرى.
ويهمنا أن الله حرم من الأزمنة أوقات، ومن الأمكنة أماكن، ومن المطعوم مطعومات، ومن الزواج زوجات، وكل ما يتعلق بحياة الإنسان الاجتماعية بيَّن الله سبحانه وتعالى ما يحل له وما يحرم.(72/11)
فضل الله في الترخيص في بعض المحرمات للضرورة
ومن فضل الله سبحانه الترخيص للضرورة فيما هو حرام من المطعوم فقط فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] ، وقال: {فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] .
فتلك المطعومات بعمومها محرمة، وعند الضرورة تباح، ويتفق الجميع على ذلك بالنص القرآني: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ.
} [المائدة:3] ، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] ، قالوا: الباغي: الذي كان في سفره باغياً.
والعادي: الذي يتعدى حاجته في الأكل، أي: يجوز أن يأكل قدر حاجته ولا يتزود منها.
والآخرون يقولون: إذا كان في فلاة وليس أمامه إلا هذه الميتة، ولا يعلم أنه سيجد ميْتةً ثانية أو لا، فإن له أن يتزود منها إلى أن يجد الطعام الحلال، وهذا تيسير واسع، ومن فضل الله سبحانه أنه لم يجعل على المسلم طريقاً مسدوداً أبداً.
فهذا المطعوم الحرام عند الاضطرار يحل وليحيي نفسه، من باب ارتكاب أخف الضررين، ولو تأملت جميع ما جاء النص فيه بالتحريم لوجدت الحكمة من وراء ذلك ترجع إلى المكلفين، فإن الله غني عن أن يشرِّع لنفسه أو لحكمة ترجع إليه، وتقدم لنا: (لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً) .
لو تأملتم جميع أنواع المحرمات لوجدتم الحكمة ترجع إلى المكلفين، حتى في الابتلاء؛ لكي يتأدبوا، وقضية الابتلاء ظهر فيها المخالف من الموافق، وقضية الصيد فترة تمرين وتدريب؛ لأنه ليس الصيد وحده المنهي عنه، بل زوجته معه، وتكون معه في فراشه وسفره، فلا تمتد يده إليها، لماذا؟ لأنه في فترة يقول فيها: (لبيك اللهم لبيك) ، والذي يقول هذا لا يلبي داعي الغريزة في ذلك الوقت، فإذا استطاع أن يرفض دواعي الغريزة وينصرف إلى تلبية الله وحده، واستطاع أن يكف يده عن الصيد المباح؛ فلَأَن يكف نفسه ويعفها وهي محرمة عن مال الغير، وحيوان الغير فمن باب أولى.
وكذلك إذا جئنا إلى الميتة والدم ولحم الخنزير حتى ما أهل لغير الله به، تجد الحكمة راجعة إلى المكلفين؛ لِمَا فيها من أضرار بالغة، وهذا باب واسع في بيان حكمة التشريع.
ولو جئنا إلى الربا: فيه الفساد الأخلاقي، والفساد الاقتصادي، بعض الدول الآن بدأت تقلل من نسبة الربويات أو الفوائد الربوية؛ لِمَا وقعوا فيه، وكارثة الدولار والأسهم في أوروبا التي ضج لها العالم كان سببها ارتفاع نسبة الربا.
يهمنا: أنك لن تجد شيئاً حرمه الله لغير حكمة، حتى في النكاح، فإن الأمهات والبنات والأخوات ما حرمها الله إلَّا لحكم متعددة، وليس لحكمة واحدة.
إذاً: (وحرم أشياء فلا تنتهكوها) ، وهناك في الحدود: (فلا تعتدوها) ، وهنا لماذا لم يقل: (فلا تقربوها) ؟ لأن التحريم كحجاب قائم بين العبد المكلف وبين ما حرم الله، فاجعل هذا الحجاب قائماً وحافظ عليه، واجعل لك وقاية من عذاب الله بعدم ارتكاب المحرم، والذي يرتكب المحرم فكأنه انتهك الحجاب الذي أقامه الله؛ لأنه يقتحم الحمى، (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) .(72/12)
المباح وموقعه من التشريع
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان) .
ما حكم هذه الأشياء التي سكت عنها؟ وهل هناك أشياء ليست داخلة في الفرائض ولا الحدود ولا المحرمات؟ نعم؛ لأن الأشياء إما فرائض مأمور بها، وإما حدود محدودة ومنهي عنها، والباقي مباحات، والإباحة حكم، وإذا سكت عنها فلماذا تدخلوا فيها؟ قالوا: تركها لحياة الناس، فلا هي من ضمن المحرمات التي لا ينبغي تناولها، ولا هي من ضمن الفروض التي يتعين الالتزام بها، وهذه شئون الحياة التي بين الناس، ما لم يكن فيها نص من الله، فقد تكون الأمور دنيوية فيما تأكل وتلبس، وتعاملك مع الناس مما ليس فيه ضرر ولا ضرار وأكل لأموال الناس بالباطل، فإذا سلم من المنهيات ولم يأتِ تحت نطاق اللوازم، فهو من المباح المسكوت عنه.
فإذا جدَّ جديد ولم يكن له نص في كتاب الله بماذا نلحقه؟ هل بالفرائض أم بالحدود أم بالمنهي عنه أم بالمسكوت عنه؟ قالوا: بالمسكوت عنه، والأصل في المسكوت عنه الإباحة، ويتفق على ذلك الأصوليون ما عدا المعتزلة.
فالأصل في الأشياء قبل ورود الشرع فيها أنها مباحة.
فإذا سكت الشرع، وجاءت أشياء مستجدة، فنقول: الأصل فيها إن كانت ضمن ما حرم الله، أو ضمن العلة التي من أجلها حرم الله، كما حرم الخمر لعله الإسكار، قال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر) ، فربط الحكم بالوصف، أي: بالعلة المسكرة، فلو جاءنا عسل من نوع من النحل مسكر لقلنا: هو حرام؛ فقد حرَّم ما يضر بالجسم، ولو وجدنا حيتاناً في البحر سامة قلنا: هي حرام، لأنه داخل تحت عموم تشريع نهي وتحريم.
لكن لو وجدنا أصنافاً ليست فيها مضرة، لا تضر بالعقائد، ولا تتعلق بالعقول فتفسدها، ولا بالأبدان، ولا بالأنسال فهي حلال، ولا يجوز للإنسان أن يتناول طعاماً يضر بالنسل، أي: يضيع منه الرجولة، ويعدمها، ويفقدها، ولا يفسد التخصيب الذي جعله الله فيه، وكذلك المرأة لا يحق لها أن تتناول طعاماً أو عقاراً جديداً يفسد عليها جهازها، ويمنعها من الحمل؛ لأن هذا مضر بالجسم، ويتعارض مع حقيقة مقصوده شرعاً: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم) ، إلى غير ذلك، وهذا على سبيل المثال.
فقوله: (سكت عن أشياء) ، من هنا كان التحذير من التعمق في السؤال في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة:101] .
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أعظم الناس ذنباً رجل يسأل عن شيء لم يكن محرماً فيأتي تحريمه بسبب سؤاله) ، ولذا كانوا يكرهون السؤال، بل ويخافون من الأسئلة، ويفرحون حينما يأتي الأعرابي الآفاقي ليسأل ويسمعون.
وهكذا ينبغي على الإنسان عدم التعنُّت والتنطُّع في الأسئلة، ويروى -والله أعلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال عودته من مكة مر على حوض ماء، فقام رجل وقال: (أخبرنا يا صاحب الحوض! هل ترد السباع والكلاب على حوضك أم لا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، إنه فيه تنطُّع، نرد على السباع، وترد السباع علينا، لها ما أخذت في أجوافها شراباً، ولنا ما أبقت شراباً وطهوراً) .
المهم هنا: (يا صاحب الحوض! لا تخبرنا) ؛ لأن هذا الرجل فيه تنطُّع.
وكذلك روي في أثر: (تأتينا الأجبان من الشام، وعندهم الميتة وعندهم المجوس، فهل نأكلها؟ قال: سموا الله وكلوها) .
سئل علي: (إن أهل اليمن يصبغون الثوب بالبول -لما فيه من الحموضة، فكانوا يضيفونه في الألوان ليثبتها- فقال: إن علمت أن فيه بولاً فلا تصلِّ فيه -أي: في شخصك أنت-، وإذا كنت لم تتأكد ولم تتيقن فأنت مع الناس) .
ومن هنا نقول للذين يتساءلون عن الذبائح أو اللحوم المستوردة: إن علم في حد ذاته طريقة ذبحها أو تحضيرها، وأنها محرمة في نظر الشرع فيكف عنها، أو أخبره من يثق به فلا مانع، أما أن يحكم بتحريمها على الناس فلا.
وعلى كلٍّ فإنهم كانوا يكرهون التنطُّع في الأسئلة مخافة أن يأتي الشرع بتحريم المسئول عنه.
جاء عن ابن عمر أنه قال: ما وجدتَه في سوق المسلمين فخذه، يعني: على سبيل العموم، وعلى هذا لا ينبغي للإنسان أن يتعمق في الأسئلة حتى يحرم على العامة ما ليس محرماً عليهم، أو يشدد عليهم فيما ليس فيه تشديد.
(وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وفي بعض الروايات: (وما كان ربك نسياً) .
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(72/13)
الأسئلة(72/14)
كيفية التمييز بين الذبائح
السؤال
كيف نستطيع أن نميز بين الذبائح الحلال والمحرمة؟
الجواب
هناك قرائن، فهناك ذبائح تأتي من بلاد وثنية لا يعرفون أي دين سماوي، لا يهودية ولا نصرانية، ونعلم قطعاً أن تجهيزها ثم على أيدي أولئك اللادينيين، فإذا كان الأمر كذلك فأعتقد أن هذه واضحة، وما تحتاج إلى توقف في أنها محرمة؛ لكن التي تأتينا من دول أهل الكتاب كبريطانيا أو إيطاليا أو غيرها من الدول التي تدين بدين سماوي، فالله سبحانه وتعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] فـ {أُوتُوا الْكِتَابَ} يشمل اليهود والنصارى، وبإجماع المسلمين أن المراد بطعامهم الذبائح وليس اللبن ولا الفاكهة؛ لأنها ليست من أطعمتهم، فهي من نبات الأرض أو الحيوان.
فطعامهم الذي لهم دخل في إيجاده هو الذبيحة، ويتفق الفقهاء على أننا إذا جهلنا ماذا يصنع فيها فلا حرج علينا فيها، وإذا علمنا أن طريقته موافقةً لطريقة المسلمين فلا شبهة فيها؛ ولكن مَن علم رأي العين أو عن طريق إخبار الثقة، وتأكد بأنه فعل فيها ما لو فعله مسلم لا يجوز أكلها، بأن خنقها، أو غمسها في الماء، أو صعقها بالتيار الكهربائي، فكل ذلك لو فعله مسلم لا تحل به الذبيحة.
الجمهور على عدم جواز أكلها، ما عدا ابن العربي من المالكية فإنه يقول: لو رأيت الكتابي يسلُّ عنق الدجاجة لأكلتها، على عموم: (وطعامهم) .
ولكن هذا وإن كان عاماً فإنه يخصص بقوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] ، وكذلك ذبائح المجوس فإنها ميتة، ولا يحل للمسلم أن يأكلها.
وعلى كلٍّ فالمراد بهذه الخاتمة للحديث: عدم التعمق فيما لا شبهة فيه، أما لو ظهرت التهمة وقامت الشبهة: ف (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) .
والله تعالى أعلم.(72/15)
حكم الجمع بين الأختين في النكاح
السؤال
الله سبحانه وتعالى ذكر المحرمات في النكاح، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، وهناك: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5-6] ؛ فأطلق عموم الزوجات، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن جمع المرأة مع خالتها، أو مع عمتها، فهل هذا يكون ناسخاً لقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ؟
الجواب
الجمهور على أن السنة الآحاد لا تنسخ الكتاب، والخلاف مشهور عند الأصوليين: هل هذا جائز شرعاً وواقع فعلاً أم لا؟ ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: هو جائز عقلاً، ومُخْتَلَف في وقوعه فعلاً.
أما هذا الحديث مع تلك الآية فليس من باب النسخ؛ ولكنه من باب التخصيص، {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} من جميع الصور في الزوجات ما عدا المسمى، ويُخَصُّ من وراء ذلك خصوصُ الجمع بين المرأة وخالتها والمرأة وعمتها.
والشافعي رحمه الله يقول: ما من حديث عن رسول الله إلا وله أصل في كتاب الله.
ولعل هذا الحديث مأخوذ ومنطلَق من قوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23] ، ولما قيل لرسول الله: (تزوَّج بنت فلان، قال: لا تعرضوا علي نساءكم، فقالت: إن خير من يشاركني في خير أختي) ، فكانوا يرون أن الأخت تشارك الأخت في الخير، وعرضت بعض زوجات النبي أختها على رسول الله، فقال: (إنها لا تحل لي) .
إذاً: نقول: تحريم جمع المرأة مع خالتها، والمرأة مع عمتها، قريب من تحريم الجمع بين الأختين؛ لما فيه من قطيعة الرحم.
لماذا نهى الله أن نجمع بين الأختين؟ لأن هناك منافسة، ولئلا يكون هناك طلاق: (لا تطلب إحداكن طلاق أختها لتكفئ إناءها) يعني: لا تطلب طلاق أختها ليتزوج بها.
إذاً: يكون هناك منافسة وقطيعة، فكذلك المرأة مع بنت أختها والمرأة مع بنت أخيها.
والحنابلة يقولون: جمع المرأة مع بنت عمها يكون جائزاً؛ لأن العم أبعد قليلاً، وابن العم يتزوج ببنت العم، فكونه يجمع بين ابنتي العم فلا مانع، أو ابنتي الخالة فلا مانع، أما الخالة وابنت أختها فلا؛ لأن بنت الأخت مثل البنت، والخالة مثل الأم، فكأن الحديث له علاقة بما جاء في نص القرآن الكريم، وليس هذا من باب النسخ؛ ولكنه من باب التخصيص، وأجمع الأصوليون على جواز تخصيص الكتاب وتقييده بالسنة الآحاد كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان) ، فيكون هذا تخصيص لعموم قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] وكذلك الأمر هنا: تخصيص لعموم (ما وراء ذلك) .
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(72/16)
شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والثلاثون(73/1)
شرح حديث: (ازهد في الدنيا يحبك الله)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله سلم فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملتُه أحبني الله وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) .
حديث حسن، رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة] .
أيها الإخوة! نجد في ألفاظ هذا الحديث تصويراً لاتجاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبُعد غايتهم، فهذا رجل جاء يسأل رسول الله عن عمل، لا لمال يحصل عليه، ولا لرئاسة يتولاها، ولا لمفخرة في الدنيا؛ ولكن جعل نصب عينيه أن يكون في الدنيا محبوباً عند الناس، وفي الآخرة محبوباً عند الله، فمحبة الله سبحانه غايته، وهكذا حال الصحابة يسعون بكل أعمالهم للحصول على شرف محبة الله سبحانه، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ، وإن تبادل المحبة بين العبد وربه أمر عجيب! يصعب على إنسان أن يصوِّر كنهه، وهو -كما يقولون-: أمرٌ ذوقيٌّ، يتذوقه الإنسان ولا يستطيع أن يعبر عنه.
هذا الرجل أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الاتجاه؛ لأن غايته سليمة، ومطلبه كريم، ويوجهه إلى العمل الذي يحصل به على هذه المحبة من الله ومن الناس: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) .
إذاً: الزهد طريق المحبة، فإن كان لله فزهدك في الدنيا، وإن كان للناس ففي ترك ما في أيديهم.
ولو فتشنا تفتيشاً أدق قليلاً: فهل الذي بأيدي الناس كله والذي يزهد فيه الإنسان إنما هو جزء من الدنيا؟! ولكن عملياً: الزهد في عموم الدنيا هو الزهد في خصوص ما بأيدي الناس.(73/2)
تعريف الزهد في الدنيا
كثر كلام العلماء في تعريف الزهد، فترك الكسب ليس بمناسب، ويقول بعض العلماء: الزهد في السلطة أشد على النفس من الزهد في الدينار والدرهم، أو أشد على النفس من الزهد في الذهب والفضة، وفي التاريخ أن بعض خلفاء بني أمية جاءه رأس بعض الناس فنكت بالقضيب في وجهه وهو يقول: والله! إنك كنت لي صديقاً حميماً؛ ولكن هذا الملك عقيم، كان صديقاً ولكن خرج عليه، فقتله حفاظاً على الرئاسة والملك! وبعض الناس يتكلف ويقول: الزهد من ثلاثة حروف: زاي وهاء ودال، فالزاي: من الزينة، والهاء: من الهوى، والدال: من الدنيا، وكلها ترجع إلى مدلول واحد؛ لأن الزينة والدنيا شيء واحد.
وبعضهم يقول: حقيقة الزهد هو: القناعة بقضاء الله، والرضا بعطائه الذي أعطاكه.
ويقول أحمد بن حنبل: الزهد في الدنيا قصر الأمل فيها.
ويبحثون مسألة: أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ فيرجح كثير من العلماء أنه الغني الشاكر؛ لأن غناه مع شكره سينتفع به غيره.(73/3)
من زهد السلف
أويس القرني، أويس رجل من أهل اليمن أوصى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب به، فقال له: (إن استطعت أن يدعو لك فافعل) وذكر له صفته.
عمر وفود اليمن: أفيكم أويس القرني؟ إلى أن وجده فقال: ادعُ الله لي.
قال: كيف أدعو لك وأنت أمير المؤمنين؟! قال: ادعُ الله لي أولاً، فدعا له، ثم قال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصاني بك.
قال: أما وقد علمت بذلك فأنا أريد أن أخرج من المدينة.
قال: إلى أين ستذهب؟ قال: إلى العراق.
قال: سوف أعطيك خطاباً لعامل العراق.
قال: أريد أن أكون في عامة الناس، لا يعلم بي أحد.
ثم ذهب يعمل أجيراً عند رجل، فكان عمر يوصي وفود أهل العراق أن يسلموا عليه.
فكان الحُجاج يسألون عن أويس القرني: أين هو؟ وأين محله؟ وعند مَن؟ حتى استدل عليه رجل وقال: أوصاني عمر أن أبلغك السلام، فقال: ألقيت عمر؟ قال: نعم، فخرج من الكوفة، ولم يعلم به أحد فيما بعد! فهذا يريد أن يكون في عامة الناس، على ما هو عليه من منزلة عند الله، ولا يرغب في الدنيا، حتى عمر يقول له: أعطيك كتاباً كوصية، فرفض، والشخص منا عندما يكون له حاجة عند إنسان، ينظر! صديقه ليكون الواسطة، فيقول له: اعمل معروفاً وأعطني خطاباً له، ووصِّه عليَّ، وهذا أمير المؤمنين يريد أن يكتب لعامله ليكرمه، فيقول: لا أريد أحداً يعلم بي، أريد أن أكون في عامة الناس! وعمر بن عبد العزيز كان من أعظم الشباب تمتعاً، وفي أبهه.
يقول بعض المؤرخين: كان إذا لبس حلة وخلعها لا يرجع إليها، وإذا أرسل حلة للغسال ليغسلها فإن الناس يرسلون ثيابهم لتغسل عند هذا الغسال لتُغسل عقب ثياب عمر وتصيب من طيبها! وحينما تولى الخلافة خرج من هذا كله، وزوجته كان أبوها خليفة، وأخوها خليفة، فقال لها: يا فاطمة! أنا تركت الدنيا وخرجت منها واشتغلت بهؤلاء الناس، فإن كنت تريدين البقاء معي على ما أنا عليه فابقي أو فاذهبي إلى أهلك! فقالت: بل أكون معك.
وعندما أراد أن يُصْلِح بيته كانت تصنع الطين وتناوله إياه، فهذا هو الذي خرج من الدنيا فعلاً بعد أن امتلكها.
وكذلك مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرئ أهل المدينة، ويعلمهم الإسلام، فبعد بيعة العقبة الثانية ذهب إلى الأوس والخزرج على مياههم ليدعوهم إلى الإسلام.
يقول الذهبي في ترجمته: مَرَّ ذات يوم على أصحاب رسول الله فخفضوا رءوسهم حياءً لأنهم لا يجدون ما يكسوه، وكان عليه إزار مرقع بقطع من الأدم أي: الجلد!! وكانت أمه ذات ثراء، وكانت تكسوه اللين من الثياب، وتطعمه الناعم من العيش، فترك ذلك كله لله ولرسوله، وترك أمه وكل نعيمها وأموالها مسخرة لخدمته وترفيهه، فأسلم فخرج من هذا كله، وهاجر وصار رداؤه وإزاره مخرقاً ومرقعاً بجلد، وربما كان جلد قربة قديمة أو جلدَ فروة أو شيئاً من هذا يُرقَّع ثوبه به! ومع هذا كان هو الداعية الأول، والمعلم الأول في المدينة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها.(73/4)
حقيقة الزهد
نريد أن نبين موطنين في كتاب الله يكشفان لنا حقيقة الزهد.
فليس الزهد ترك العمل بالكلية، والعزوف عن الدنيا، والهروب منها، بل هو تسخيرها وتذليلها وجمعها وإنفاقها في سبيل الله وفي أوجه الخير.
الموطن الأول في سورة آل عمران: يصور لنا متاع الدنيا بمختلف مجالاتها، ويبين لنا أن من شُغل بتلك المفاتن وكانت غايته، فهي نهايته، ومن أعرض عنها ولم يقف عندها، وكانت وسيلة في يده وليست غاية، فهو حقيقة الزاهد وما له عند الله سبحانه أعظم.(73/5)
أهل الدنيا
قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران:14] ، وهذا أمر جِبِلِّي، وغريزة في الإنسان، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول: (حبب إلي من دنياكم ثلاثاً: الطيب والنساء -وهذان متلازمان- وجُعِلت قرة عيني في الصلاة) ، يعني: النساء والطيب ما شغلاني عن الصلاة، بل كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، فما شغله الفراش ولا الزوجات ولا الطيب عن أداء واجبه والتقرب إلى ربه.
قال تعالى: {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} ، مكدس بعضُها فوق بعض، {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} ، ليست خيلاً عاديةً هاملة، بل خيلاً عربية أصيلة، {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ} ، من البقر والإبل والغنم، {وَالْحَرْثِ} : كل المزروعات، {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، من المسمَّيات التي هي ألذ ملاذِّ الدنيا، وهل هناك مال آخر؟ الآن أصبح هناك العمارات، وهي داخلةً في هذا، فهي تقابل الحرث في السابق، عمائر فاخرة، ومبانٍ شاهقة، ولكن كل ذلك متاع، والمتاع شيء مؤقت.
قال تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، وهل وصفُ الحياة بـ (الدنيا) من الدنو والقرب أو الدناءة؟ من الدنو والقرب في مقابل الآخرة.
{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] أي: المرجع، وهو جنة الخلد.
إذا نظرنا في هذا: فإن تلك المسميات هي متاع الحياة الدنيا، وعلى الإنسان ألا يكون معها لمجرد المتعة، والنتيجة ذاهبة، لكن إذا كانت وسائل وليست غايات فلا بأس، فالمرأة هي سبيل الولد، والنكاح مقصد من مقاصد الحياة لبقاء النسل وعفة الإنسان، وإذا تزوج الرجل فإنه يعف نفسه، ويعف المرأة أيضاً، ويولد له من يذكر الله معه ومن بعده.
إذاً: ينبغي أن المرأة وسيلة للإعفاف، ولبقاء النسل، ولعمارة الكون، ولتكثير هذه الأمة، ولتحقيق رغبته صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) .
وينبغي أن يطلب الولد ليكون صالحاً يدعو له، أو يكون وديعة عند الله وشهيداً في سبيل الله، أو يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر عالماً بكتاب الله، وعمله في صحائف والده.
أما الخيل فقد أشرنا أنها على ثلاثة أقسام: أجر، وستر، ووزر.
وهكذا الأنعام إذا اقتناها، وأدى حق الله فيها وفي رقابها وظهورها؛ كان له بذلك الأجر العظيم.
عثمان رضي الله تعالى عنه جهَّز جيش العسرة، وإذا لم يكن عنده مال فكيف يجهز جيشاً؟! ولهذا يقول بعض الناس: كثير من الوعاظ يذم الدنيا ويقبحها وكأنها مصيبة وجريمة وقعت على الناس، هذه الدنيا إن لم تكن موجودة فكيف نكتسب الآخرة؟ فنحن لا نحصل على ثواب الآخرة إلا من الدنيا، فالدنيا مزرعة الآخرة.
وفي بعض الآثار: (من الناس من يسب الدنيا، فتقول له: قبح الله أعصانا لله! أنا الذي أعصي الله أم أنت؟!) ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فطلع لنا جبل أحد، فقال: (يا أبا هريرة! وددت لو أن لي مثل جبل أحد ذهباً، أقول به هكذا وهكذا -وأشار يميناً وشمالاً- فلا يمضي ثلاثاً وعندي منه شيء، إلا شيء رصدته لدَينٍ) ، فالرسول تمنى أن يكون عنده مثل أحد ذهباً؛ لكي ينفقه في سبيل الله.
إذاً: الأموال والقناطير المقنطرة يجب أن تكون: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) .
{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14](73/6)
فضل الزهد في الدنيا
هذه الأشياء محبَّبة ومزيَّنة عند الناس وكأنها كل شيء، لكن قال الله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران:15] ، من شهوة النساء والبنين والقناطير المقنطرة والخيل المسومة والأنعام والحرث، {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} اتقوا محارم الله ومعصيته ونواهيه سبحانه وتعالى، وامتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي.
{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران:15] .
إذاً: هؤلاء عندهم الحرث، والحرث جنات وحدائق وبساتين؛ ولكن ليس مثل هذه الجنات؛ لأن جنات الآخرة تجري من تحتها الأنهار، وجنات الدنيا كما قال الله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} [الكهف:32-33] ، لكن جنات الآخرة: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، وليس هو نهراً واحداً، بل المتنوعة الأصناف كما قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] .
وقوله تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] ؛ لا تظن أنه متاع الحياة الدنيا من أول آدم إلى يوم القيامة! لا، بل يقصد به مدة حياة الإنسان، والله سبحانه جعل لنوح عليه السلام عمراً طويلاً: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] ؛ وكما جاء في الأثر: (إذا كان يوم القيامة يؤتى برجل من أهل النار فيُغمس غمسة في النار، ثم يقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله! يا رب! ثم يؤتى برجل من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة ثم يقال له: هل مر بك بؤس في الدنيا قط؟ فيقول: لا والله! ما رأيت شيئاً) ، إذاً: نعيم الدنيا كله للكافر لا يساوي غمسة في النار! وفي الحديث: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يُدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع!) ، كم يأخذ هذا؟ هذا مثل الدنيا في الآخرة! وفي الحديث (لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، فالنعيم الحقيقي الذي لا يعادله شيء في الوجود، هو الدوام والخلود في الجنة، وأيُّ شخص في الدنيا سواء أكان عاقلاًَ أو نصف عاقل إذا قيل له: نبني لك مدينة خيالية؛ من أثاث ونعيم ومتاع وجوارٍ مدة حياتك، وبعد ذلك إلى النار -عياذاً بالله-، أو تعيش نصف حياتك في هذا النعيم والنصف الثاني في الصحراء، أو نبني لك عشةً وعندك من الماء ما تيسر، ومن الخبز ما يكفيك بالكفاف، وعندك الهواء الصافي، والظل، وتستمر فيها على استمرار، فأيهما تختار؟ سيختار الحياة العادية بصفة دائمة، ولن يختار المدينة الخيالية التي يعيش فيها نصف عمره، ثم النصف الآخر يُرمى به في الصحراء؟ فما الفائدة من النعيم ثم الجحيم؟ ولذا يقولون: لو أن إنساناً خير بين بيت من خشب دائم، وبيت من ذهب مؤقتٍ؛ لكان العاقل يختار البيت الدائم، فكيف ببيت من ذهب دائم تستبدله ببيت من خشب؟! حينما تتذكر الجنة -نسأل الله من فضله- تشعر بأن نعيمها هو النعيم المقيم {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران:15] ، فهو عطاء دائم، وأنت مخلد فيه، وأعتقد أنه لو نقص نصف هذا النعيم مع الخلود فيه فلن يضرك شيء.
إذاً: بقاء الجنة وخلود الإنسان فيها أكبر نعيم، وهو أكبر من نعيم الجنة نفسها، وهذا النعيم الدائم هو السعادة بكاملها، ومع هذا أيضاً: {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [آل عمران:15] .
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] ، عندما تنظر للمرأة في الدنيا ترى أن ثلاثة أرباع عمرها في حالة الله أعلم بها، وربع العمر ضائع في الدورة الشهرية؛ لكن نساء الجنة مطهرات من هذا كله، فالمرأة في الدنيا إذا ولدت فشهران يذهبان في النفاس، وشهر قبل النفاس في الوحم، وجِبِلَّة الإنسان يأكل ويفرِّغ؛ لكن أزواج الجنة مطهرات من ذلك كله، بل كما في الآية الكريمة: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] ، وأيضاً إذا عاد إليها وجدها بكراً.
إذاً: هناك فرق كبير، بل ليس هناك موضع مقارنة، قال تعالى: {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران:15] ، قال الله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] ، قال الله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران:15] ، ونضرب أمثلة لذلك -ولله المثل الأعلى-: إذا جئت ضيفاً على صديق، وشعرت بأن زيارتك لهذا الصديق تفرحه، ألا يكون ذلك إكمالاً لسرورك بوجودك في ضيافته؟! بخلاف إذا جئت ضيفاً عند شخص وشعرت أنه يستثقل وجودك.
فإذا شعر الإنسان أنه مخلد في جنة نعيمها كما بين سبحانه: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، وهو مخلد فيها، {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} ، ثم بعد هذا كله قال الله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} .
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15] بصير بأعمالهم، وسيجازيهم على قدر ما عملوا، وبحسب موقفهم فيما زُيِّن لهم من تلك المسميات.(73/7)
من صفات الزاهدين في الدنيا
انظر إلى وصف أولئك الذين وعدهم الله بالجنة التي هي خيرٌ من زينة الدنيا ومتاعها، فمن هؤلاء أصحاب النعيم؟ قال الله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16] ، ليس الإنسان معصوماً من الذنب، ولو لم يكن هناك ذنب، وطلبوا المغفرة فإن ذلك علو في درجاتهم، كما هو حال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ويقول: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، ويحث على الاستغفار فيقول: (إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة) وفي رواية: (مائة مرة) .
ولذا قالوا: استغفاره صلى الله عليه وسلم علو في درجاته، وبعضهم يقول: يستغفر للمؤمنين؛ لكن هذا جانب وذاك جانب آخر، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] .
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16] ، وهذه هي صفات الزُّهَّاد حقاً، فمَن اتصف بهذه الصفات فهو الزاهد حقاً، وما هي صفاتهم؟ قال الله: {الصَّابِرِينَ} [آل عمران:17] : الصابرين على ماذا؟ على تلك الشهوات التي زُيِّنت لهم، فإذا لم يجدها إنسان من هؤلاء {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} ، فماذا يكون موقفه؟ كما قال الله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] ، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) ، والصوم هو عين الصبر.
{الصَّابِرِينَ} : عن معصية الله، وعلى قضاء الله، وعلى أداء طاعة الله، وكل ما يمكن أن تأتي به من أفعال الخير والقربات والمكرمات والمروءة والإنسانية، فإنه يدخل تحت عنوان: {الصَّابِرِينَ} وأقوال العلماء في وصف الزاهدين تدخل تحت هذه الصفات الآتية.
إذاً: أول صفات الزاهدين حقاً أو المؤمنين حقاً الذين لم تغرهم زينة الحياة الدنيا: الإيمان واللجوء إلى الله وطلب المغفرة: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، ثم: {الصَّابِرِينَ} .
ثانياً: {وَالصَّادِقِينَ} [آل عمران:17] ، الصادقين في كل شيء، وليس في الحديث فقط، فالله يقول: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] ، الصدق في التعامل مع الله، الصدق في التعامل مع الناس، الصدق في التعامل مع النفس، الصدق في التعامل مع كتاب الله وسنة رسوله، فالصادقين عنوان عام في كل ما أتوه.
ثالثاً: {وَالْقَانِتِينَ} [آل عمران:17] : سبحان الله! (صابرين) و (صادقين) ! ولعل مجيء (صابرين) أولاً يوحي بأن الصدق يحتاج إلى صبر، فقد يحدث لإنسان موقف، والصدق قد يؤذيه أو يحمِّله مشقةً؛ لكن لم يضيع مبدأ الصبر، وانطلاقاً من الصبر تصدُق وتقول الحق وتتعامل بالصدق، فإذا كان صابراً صادقاً يأتي القنوت مع الله، والقنوت: الطاعة والخشية والخشوع والخضوع.
رابعاً: {وَالْمُنْفِقِينَ} [آل عمران:17] ، هؤلاء الصابرون الصادقون القانتون لهم في الدنيا الأموال والقناطير المقنطرة التي زُينت لهم وامتلكوها، فماذا فعلوا بها؟ أنفقوها، وفي حديث أبي هريرة: (لو كان لي مثل جبل أحد، ولقلت به هكذا وهكذا، ولا يبقى عندي منه شيء) ، ثم هو إنفاق إجمالي في كل أوجه الإنفاق، كما سيأتي في نظيرها في سورة الحديد {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد:18] ، فينفقون في كل أوجه الإنفاق وسبل الخير، مساعدة ضعيف، إعطاء فقير، تجهيز غازٍ، علاج مريض، كل أنواع الإنفاق التي جاءت أيضاً في سورة البقرة: {سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] ، {فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران:134] ، في كل أوجه الخير، وعلى جميع الحالات.
خامساً: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17] وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل يصلي ويستغفر في السحر.
وفي الحديث الصحيح: (إذا كان ثلث الليل الآخر، ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟) .
إذاً: هذه هي صفات المؤمنين حقاً، وهي صفات الذين سلموا مما زُيِّن للناس من حب الشهوات، ولم يقفوا عندها.
ثم قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:18-19] فهم التزموا به، وأقاموا حدوده وتعاليمه، هذا هو الموطن الأول في هذه السورة.(73/8)
قسوة القلوب وعلاجها
ننتقل إلى الموطن الثاني، وهو في سورة الحديد، وهو قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] .
في هذه السورة أمر عجيب! ففيها عرض حالة المؤمنين والمنافقين في القيامة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ.
} [الحديد:12] إلى آخره، ثم جاء محل الشاهد فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:16-18] ، يقول ابن عباس في هذه الآية الكريمة: (عاتبنا الله بعد بدء الوحي بثلاثة عشر عاماً، ويقول مجاهد: بعد أربع سنوات، لاختلاف إسلام بعضهم البعض.
قال الله: {أَلَمْ يَأْنِ} [الحديد:16] آن يئون، الأوان هو: الزمن، أي: ألم يحضر الوقت.
{لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد:16] أي: من هذه الأمة.
{أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] ، قالوا في التفسير: إن أصحاب رسول الله ملوا ملةً أو غفلوا غفلة فعاتبهم الله.
وقوله: {لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي: من الوحي.
وخشوع القلب يكون بما ذكر الله في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ، هذه حقيقة المؤمن حقاً، يتأثر بكتاب الله عند سماعه وتدبره.
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ، فأولئك الذين يقولون: نزهد في الدنيا، وننقطع إلى العبادة، إلى أي مدى يصلون؟! {تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} .
ثم يذكِّرهم بقوله: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} ، أي: من اليهود والنصارى.
{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} ، ومع طول الأمد جاء النسيان.
{فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} إذاً: النسيان وطول الأمل في الدنيا يقسِّي القلب، ويُنْسِي الإنسان ذكر الله، ولذا لما قيل لـ أحمد رحمه الله: ما الزهد؟ قال: عدم طول الأمل.
فمن لم يطل أمله في الدنيا فهو زاهدٌ فيها، فهي عنده سواء جاءت أو راحت.
{فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ، فما دام النسيان جاء، جاءت قسوة القلب، وكان الفساد كما في الحديث: (إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله ... ) إلى آخر الحديث.
ثم يأتي التنبيه وإيقاظ الفكرة: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، ولماذا ذكر الأرض هنا مع قسوة القلب؟ أي: كما أنه سبحانه القادر المقتدر على إحياء الأرض وهي جماد بعد موتها، فهو قادر على أن يحيي القلوب بعد موتها، فيحييها بالتذكرة بعد الغفلة، وبالإيمان بعد الكفر، وبالذكر بعد النسيان، وكأن هنا تنبيه! لا تيئسوا من رحمة الله، إن مضى عليكم شيء، ووقع على القلوب قسوة، فجدِّدوا ذكر الله، وجدِّدوا العلاقة مع الله؛ فإن الله قادر على أن يعيد لتلك القلوب حياتها، وتحيا بذكر الله، وما نزل من الحق، كما تحيا الأرض بعد موتها وأنتم تشاهدون.
قال: {اعْلَمُوا} ، وكأننا جهلنا أو نسينا أو غفلنا فلم نتأمل؛ فيعلِّمنا، ويقول: انظروا وتأملوا واعلموا من واقع الحياة عندكم، فكذلك القلوب القاسية.
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} ، ارجعوا إلى عقولكم، وانظروا إلى ما بين أيديكم، وقايسوا بعقولكم، فاعتبروا يا أولي الأبصار! وكل ذلك من آيات الله الكونية لنرجع إلى أنفسنا.
ما الذي يرجع القلوب إلى ما هي عليه؟ ما الذي يجدِّد الإيمان بالله؟ ما الذي يُذهب الغفلة؟ ما الذي يليِّن تلك القلوب القاسية؟ ترى الفقير وتعرض عنه، وتسمع أنين المريض أو المعتل أو المحتاج وتصك أذنك عنه، وترى ذا الحاجة والفاقة وتغمض عينيك عنه، ما هذه القسوة؟! متى تكون ليِّن القلب رحيماً؟
الجواب
إذا أحسنت إلى الفقراء، قال الله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد:18] ، وكأنه سبحانه يقول: قسوة قلوبكم موت لها، والمولى قادر على إحيائها كإحياء الأرض الميتة، فالأرض الميتة ينزل فيها المطر فيحييها، وقلوبكم ينزل لها الوحي فيحييها، واستجيبوا لهذا الوحي عملياً بأن تزهدوا في الدنيا بألَّا تكون غاية لكم، وبألَّا تعضوا عليها بالنواجذ، وبأن تحرصوا على فك العاني والتخفف عن المسكين وإعطاء المحتاجين.
وكأن سائلاً يسأل فيقول: يا رب! ما الذي يعيد لقلوبنا حياتها؟ وما الذي يذهب عنها قسوتها؟ فيقول: انظروا إلى ذوي الحاجات بعين العطف والرأفة والشفقة، ومدوا إليهم أيديكم بالعطاء، وفي الحديث: أن رجلاً شكا قسوة قلبه لرسول الله فقال: (امسح رأس اليتيم) ، وهل المراد مجرد مسح رأسه؟ وهل هذا المسكين حالقٌ شعرَه أو لا؟ وليس المراد مجرد إمرار اليد على رأسه، بل الغرض من هذا: التلطف والرأفة والرفق به، ومؤانسته وإذهاب البؤس عنه، وأن تشعره بأنه منك وأنت له.
إذاً: المراد بمسح رأس اليتيم هو الإشفاق والرأفة به، وإشعاره بالحفاظ على حسه وشعوره، وتشعره بأنه فرد من أفراد المجتمع، إن فقد أبويه فأنت له أب، وهذا من باب العطف على الناس والرحمة بهم.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد:18] ، والنساء شقيقات الرجال.(73/9)
كيفية استقراض الله من عباده
قال تعالى: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ} [الحديد:18] ، المسكين مصرفٌ للصدقة فقط؛ ولكن التعامل مع الله، فأنت تقرض الله، فهو أعطاك واستقرضك.
بعض الآباء يدلل بعض الأبناء فيعطيه ويعطيه ويعطيه ثم قد يقول له: يا فلان! أعطني خمسة ريالات، ثم أعطيك إياها في البيت.
فالولد يفرح، ويقول: أبي الذي أعطاني الآن يطلبني! تفضل! لأنه يعلم أن الذي طلب منه الخمسة الآن سيعطيه خمسيناً أو أكثر فيما بعد، لكن إذا قلتَ له: ما عندي شيء، وهو قد أعطاك في الصباح كذا وكذا، فسيقول: أعطيه ويبخل عليَّ؟! لكن رب العزة سبحانه يعطي ويتفضل، ثم يستقرض من عباده ليرحموا عباده، ويشفقوا عليهم، وليُشعر العبد بأن المال إنما هو من الله، وهو الذي سيجازيك؛ لأن من تتصدق عليه لا يستطيع أن يكافئك، فهو في حاجة إلى مساعدتك، فكيف يرد جميلك؟! لا يستطيع.
إذاً: حقيقة التصدق إنما هي إقراض لله سبحانه، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} والذي يقرض الله تكون نتيجته: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يضاعف له القرض، ومع هذا له أجر كريم، والله سبحانه يضاعف لمن يشاء بعد السبعمائة.(73/10)
شهادة الله للأمة بإيمانها بالرسل
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:19] ، وفي سورة آل عمران قال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16] ، ولم يقل هنا: ورسوله، بل ورسله؛ لأن مؤمني هذه الأمة يؤمنون بجميع الرسل؛ ولأن من كفر برسول واحد فكأنما كفر بجميع الرسل، وقد شهد الله لهذه الأمة بالإيمان بالرسل جميعاً فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] ؛ لأن الذي أرسل أولهم هو الذي أرسل آخرهم، والناموس واحد.
{أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ} [الحديد:19] ، يقولون: (الصِّدِّيقون) أعلى درجة بعد النبوة.
ثم قال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] ، أي: الذين آمنوا والذين تصدقوا، وبعض القراء يجعل {وَالشُّهَدَاءُ} ابتداء كلام جديد، وبعضهم يجعل (الشهداء) ثالث الثلاثة الأوصاف المتقدمة، (المصَّدِّقين) و (الصِّدِّقين) و (الشهداء) فالأصناف الثلاثة {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} .(73/11)
حقيقة الدنيا
ثم قال تعالى بعد هذا العرض: {اعْلَمُوا} [الحديد:20] : مرة أخرى، هناك {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْييِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [الحديد:17] ، لما ندبهم إلى الصدقة وإلى الإقراض والإيمان قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الحديد:20] .
هناك: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ} [آل عمران:14] إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَاِ} [آل عمران:14] .
وهنا قال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} مثل قوله: (زُيِّنَ) {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] وليس الكفر هنا بمعنى الكفر الذي هو ضد الإسلام، إنما معناه: الزُّرَّاع، كما في الآية الأخرى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] ، وهو المثل الذي ضربه الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} [الفتح:29] .
وهنا قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} يعني: الزُّرَّاع، والزارع يسمى كافراً؛ لأن الكفر في اللغة: الستر، والكافر سمي كافراً لأنه يستر آيات الوحدانية لله، وسمي ظلام الليل كافراً، ويقال: أدخلت يدها في كافر، أي: في ظلام الليل.
{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} ، انظر مَثَل الدنيا! انظر المراحل والتصوير البليغ! {كَمَثَلِ غَيْثٍ} ، نزل وتقبلته الأرض فأنبتت الزرع، وأعجب زارعه، ثم يهيج إلى أقصى حدود بهجته، (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) .
بعد هذا (فتراه) ، والفاء هنا للتعقيب القريب، بعدما يصل إلى زهرته وإلى أوج نضرته يرجع فيصفَرُّ، وبعد الاصفرار يبقى فترة قليلة، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] ، كيف ينطبق هذا المثال على الدنيا؟ مثال في بني آدم: أول ما يخرج من الرحم مثل الحشيش والنبات الذي نبت لتوِّه، ثم بعد ذلك يأخذ في النمو إلى أن يكتمل شبابه، ويبلغ أوج قوته، ثم يبدأ فيرجع إلى أن ينحني ظهره، ويتحطم ويصير {إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج:5] ، ويصير أقل من الطفل، وهكذا الدنيا: تبدأ تزدهر وتصل إلى كمالها، ثم تبدأ في العودة والرجوع حتى تصير حطاماً.
ثم قال تعالى في سورة الحديد: {وَفِي الآخِرَةِ.
} ، وهناك في سورة آل عمران: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] ، {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} للكفار الذين تقدم ذكرهم {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد:20] للذين آمنوا، والذين أقرضوا الله، والذين أنفقوا،.
إلى آخر صفاتهم.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ، وفي آل عمران: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] ، وقطعاً الحياة الدنيا متاع الغرور، فمن اغتر بها خسر، كما في قوله تعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] ، إذاً: الدنيا متاع الغرور، فاحذر أن تغرك الدنيا.
وأيُّ عاقل يغتر بهذه الدنيا؟! إن كنت تمتلك مالاً، فهل هو أكثر من مال قارون؟! وإن كان لك ملك وسلطان، فهل هو أكثر من ملك سليمان؟! أنت ضعيف، وكم من الحيوانات أقوى منك.
قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، ثم ماذا كان؟ {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] .
هل جُمِعت لك النساء؟! سليمان كانت له أكثر من مائة امرأة! هل جُمِعت لك الخيل؟! ومهما كانت كثرتها، وبأي حالة من الحالات فأنت فقير، فلم تغتر بالدنيا؟! ومن هنا من سلم من غرور الدنيا فهو زاهد، فالزاهد من سلم من آفاتها في ذاتها، كما قال بعض السلف: المدر والحجر سواء، وسيأتي التنبيه عليه.(73/12)
المخرج من فتنة الدنيا
قال الله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ، وأنت بالخيار، إن وقفت عند متاعها غرَّتك وأهلكتك فيها، وهذا نصيبك، وإن أعرضت عنها -كما أعرض غيرك- سلِمت منها كما سلِم غيرك، يقول بعض العبَّاد: إن لله عباداً فُطَنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيٍّ وطنا جعلوها لجةً واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا لله عبادٌ فُطناء، فالفَطِن الحقيقي هو الذي لا يغتر بالدنيا، ويضعها في موضعها، والغبي هو الذي تضحك عليه، فليس الزهد أن تعرض عن الدنيا بكل ما فيها؛ ولكن اجمعها بقدر ما تستطيع، وأنفقها في سبيل الخير بقدر ما تستطيع.
إذا كانت الدنيا متاع الغرور، وهذا تصويرها ومآلها، فما العمل؟ قال الله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] ، أعرضوا عن هذه الدنيا، والمسابقة إلى المغفرة تكون في الآخرة أم في الدنيا؟ في الدنيا، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] ، بأي شيء؟ بكل أنواع الخير، بدنية أو مالية، {سَابِقُوا} ولم يقل: (بادروا) ، بل {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا.
} [الحديد:21] مثل آية آل عمران: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} [آل عمران:16] ، {.
لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد:21] ، فالمسابقة إلى الخير ليست بعقلك ولا بجِدِّك؛ ولكنه فضل من الله سبحانه، فالمؤمن إذا وجد نفسه تسعى على طريق الخير فليعلم أنه فضل من الله، ولا يغرنك ذلك، ولا تقولن: هذا بجِدي وفَهمي وعلمي، لا والله! إنه {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:142] و: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد:27] ، واعلم أنها نعمة وفضل من الله لك، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] .
انظر إلى حقيقة الدنيا! وسبق أن بعضهم قال: الزهد الرضا بالقدر، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} [الحديد:22] ، تلك زينة الحياة الدنيا، وذلك العطاء المتفاضل، المنع والعطاء، كل ذلك {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:22-24] .
يقولون: مصيبة الأرض: الجدب وعدم المطر وغيره، وفي أنفسكم: المرض والعافية والفقر والغنى، وكل هذه الأشياء.
ما أصاب إنسان من مصيبة كونية أو بدنية أو مالية أيَّاً كانت إلا كانت هذه المصيبة مكتوبة عليه في كتاب من قبل أن يخلق، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] : والبرء هو: الخلق، ومن أسماء الله البارئ المصور.
وتقدَّم حديث: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) فإذا كنت تؤمن بالقدر حقاً رضيت عن الله سبحانه وتعالى، وإذا أقبلت عليك الدنيا لم تفرح بها، وإن ذهبت لم تحزن عليها، وأيُّ رفعة للعبد في هذا؟ وكما قيل: الحجر والمدر يستويان.
والعاقل لو تأمل! شيء فاتك أتحزن عليه؟! وما يدريك بنتيجة لو جاء؟ في غزوة أحد رجع رئيس المنافقين بثلث الجيش، وفات على المسلمين حضورهم القتال، وحزن المسلمون، ولكن لما انكشف الحجاب ماذا كان الأمر؟ قال سبحانه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] .
إذاً: رجوعهم وعدم حضورهم المعركة كان خيراً، وهكذا أنت قد تتمنى مالاً، أو تتمنى ولداً، أو تتمنى وظيفةً، وتتمنى وتتمنى ولكن ما تدري ماذا في تلك الأمنية إن حُقِّقت لك؟ والمجال ليس مجال ذكر القصص في هذا؛ ولكن العاقل لا يحزن على ما فاته بقدر الله.
ثم لا تكن شديد الفرح بما جاءك، ولذا يقول بعض الناس: (اجعل ما فاتك صبراً، واجعل ما أتاك شكراً) ، لا تحزن على شيء فاتك؛ لأنه بقضاء الله، ولا تفرح كل الفرح بما جاءك وتفخر به وتتمادى به.
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] : جاءت هذه الآية بعد {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا} [الحديد:23] .
صحيحٌ أن الإنسان يفرح بأي نعمة كانت، لو امتلك ثوباً جديداً سيفرح به؛ ولكن فرح شكر للنعمة لا فرح بطر، ولذا أعقبها بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] ، المختال الفخور هو الذي يختال بما جاءه.
إذاً: اجعل ما جاءك من الدنيا شكراً لله، واصرفه في مرضاة الله، ولا تجعله خيلاء وفخراً على عباد الله.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد.(73/13)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والثلاثون(74/1)
شرح حديث: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه في الصحيحين] .
هذا الحديث يعتبر أساساً وأصلاً في علم القضاء، والحديث مع إيجازه يبين واقع العدالة والإنصاف في الإسلام، وأن كل دعوى ليس عليها بينة فهي مرفوضة.
وقوله: (لو يعطى) يقولون في علم العربية: (لو) حرف امتناع لوجود (لو يعطى الناس بدعواهم) الدعوى بألف مقصورة، والدعوة بالتاء، والفرق بينهما: أن الدعوى المقصورة هي الادعاء والتقاضي، والدعوة بالتاء: هي الدعوة إلى الوليمة ونحوها.
الدعوى تجمع على دعاوى، والدعوة للطعام تجمع على دعوات.
يبين صلى الله عليه وسلم أنه لولا البينة ولولا العدالة، وأنه لا يعطى كل إنسان ما ادعاه؛ لتقدم أناس بالدعوى في أموال أشخاص ودمائهم أي: كل يدعي ما يشاء، وليس الأمر كذلك، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
يقول علماء العربية: (لكن) للاستدراك، ودائماً تأتي بين نفي وإثبات، تقول: ما جاء زيد لكن جاء عمر، ما جاء زيد صباحاً ولكن جاء مساءً، وهنا كذلك واقعة موقعها؛ لأن المعنى لا يعطى الناس كل ما ادعوه، وإنما يعطون بمقتضى البينة، فوقعت (لكن) بين النفي والإثبات في المعنى.
أما ألفاظه فقوله: (لو يعطى الناس بدعواهم) أي: فيما يدعون به، (لادعى رجال) ، وهل الحديث خاص بالرجال فقط دون النساء أو أن النساء كذلك؟
الجواب
النساء داخلة فيه كذلك، ولكن ذكر الرجال هنا للتغليظ؛؛لأن أكثر ما تكون الدعاوى بين الرجال.
(لادعى رجال أموال قوم ودماءهم) ، هنا جاء لفظ القوم بعد لفظ الرجال، فهل القوم هم الرجال أم أن كلمة القوم تعم الرجال والنساء معاً؟ يقولون في العربية: لفظ القوم خاص بالرجال ولا يدخل فيه النساء، واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] ، قالوا: لو أن كلمة (قوم) تشمل الجنسين لكانت تكفي عن إعادة ذكر النساء، واستدلوا بقول الشاعر: وما أدري ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساء فقابل بين النساء وبين القوم.
واستدل الآخرون بألفاظ وردت تدل على أن القوم يشمل الرجال والنساء معاً، ولكن قالوا: يشمله بقرينة التكليف في الشرع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي- جاء لفظ الحديث باسم الفاعل- واليمين على من أنكر) كان مقتضى السياق واليمين على المنكر، لكن قال في الأول: (البينة على المدعي) ، واليمين على من يقابل المدعي بالإنكار.(74/2)
القرائن ودورها في إثبات الحقوق
نرجع إلى قوله: (ولكن البينة) ما هي البينة؟ ابن القيم رحمه الله له كتاب نفيس جداً في هذا الباب وهو: الطرق الحكمية، وينبغي لطالب العلم أن يقرأ هذا الكتاب ولو لم يكن قاضياً، ولكن من باب العلم.
البينة مأخوذة من البيان، والبينة كل ما يبين الحق ويفصله عن الباطل، وليست قاصرةً على الشهود أو الإقرار فقط، فقد تكون قرينة من القرائن أقوى من مائة شاهد، وقد يتواطأ الشهود على شهادة الزور، وقد يقر الإنسان إقراراً غير واقع، ومن هنا ندعو جميعاً للقضاة: أن ينور الله بصائرهم، ويريهم الحق حقاً، ويرزقهم اتباعه؛ لأن الأمر دقيق جداً، وفي القرآن الكريم والسنة اعتبار القرائن، ومن ذلك ما يلي:(74/3)
قصة يوسف وما وقع فيها من قرائن معتبرة
في كتاب الله قصة نبي الله يوسف، ونحن نعلم القضية بكاملها، ولما حصل له الاتهام والسجن برأه الله بما أيده به من القرائن، ومنها: أن شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت، فمجرد شق القميص قرينة على الذي بدأ بالمراودة.
وقبل هذا كانت هناك قرينة كاذبة قابلتها قرينة أقوى منها، وذلك أن إخوة يوسف ألقوه في غيابت الجب، {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:16-17] سبحان الله العظيم! بكاء وجاءوا على قميصه بدم كذب ليخبروا أباهم بأن الدم قرينة على أن الذئب أكله، لكن أباهم كان أفقه منهم، فأخذ القميص ونظر فيه فرأى فيه الدم، ولكن فات عليهم أن يمزقوا القميص وقال: يا سبحان الله! متى كان هذا الذئب حليماً كيساً يأكل يوسف ولا يشق قميصه؟! {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18] ، فهم وضعوا في القميص دماً كذباً، وما كان عندهم مختبرات في ذاك الوقت لتحلل هذا الدم، ليروا هل هو دم شاة أم دم إنسان؟ لأنه بإجماع الطب أن دم الإنسان لا يتفق مع أي حيوان من الحيوانات الأخرى، ولا دم حيوان مع أي حيوان آخر، وهذه من حكمة المولى سبحانه، بل دماء البشر مختلفة فيما بينهم، وفيها فصائل مختلفة، وما كل إنسان دمه يتفق مع دم الآخر.(74/4)
قصة المرأتين اللتين ذهب الذئب بابن أحدهما
من تاريخ الأمم والأنبياء ما يرويه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (أن امرأتين ولد لكل واحدة منهما ولد، فغفلتا عن ولديهما، فجاء الذئب وخطف واحداً من الولدين، فاختلفتا في الولد الموجود، وكل واحدة منهما تدعيه لنفسها، فجاءتا إلى نبي الله داود، وسمع منهما، فحكم به للكبرى، فمرتا على سليمان، فسألهما عن خبرهما، فقالت: هذا ولدي حكم به داود لهذه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين، فقالت الصغرى: لا تفعل، هو لها، ولا تشق الولد، فانتزعه من الكبرى ودفعه إلى الصغرى) ؛ فالكبرى لم تمنع من شقه؛ لأنها وترت في ولدها وتريد أن توتر الأخرى مثلها، ولما رأى شفقة الصغرى من أن يشق الولد نصفين واختيارها أن يبقى حياً في يد الغير أولى من أن يكون ميتاً، فعرف من قرينة عاطفة الأم أن الولد لها، وعرف من تساهل الأخرى أنها لا تبالي، فانتزعه من الكبرى، ودفعه للصغرى.(74/5)
عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالقرائن مع حُيي بن أخطب وغيره
أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير إلى خيبر، وبعد سنة أو سنتين حاصر النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، وجاء حُيي بن أخطب وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل إليه ليكلمه، وفاوضه على الصلح بأن يخرجوا، وليس معهم إلا الثياب التي يلبسونها، ويتركون السلاح والمال والحيوان وكل شيء بشرط ألا يخونوا المسلمين، وإذا خانوا برئت منهم ذمة الله ورسوله، فوافقوا على هذا الشرط، فلما خرجوا سأل رسول الله حُيي بن أخطب عن الذهب، وكان قد خرج من المدينة عند الإجلاء بجلد ثور مليء بالذهب والحلي، فقال: الذهب فني، وأكلته الحروب، فقال صلى الله عليه وسلم: (العهد قريب، والمال كثير) ، يعني: المال كثير، وهذا الوقت القصير لا يأكل هذا المال الكثير، فمعنى هذا أنهم أخفوا المال، فأنكر فدفعه إلى الزبير فمسه بعذاب، وقيل: جاءت امرأة إلى الزبير وقالت: كنت أرى حُيياً يحوم حول تلك الخربة، فذهبوا إلى تلك الخربة، وفتشوا فيها، فوجدوا الذهب مدفوناً هناك، ويقولون في نظام التحقيق والمباحث: المجرم يحوم حول مكان الجريمة، فيراقبون مكانها، ولابد أن يدفعه أمر بدون شعور إلى أن يذهب إلى محل الجريمة ليرى فيها، فجيء به وضربت عنقه.
يهمنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم (العهد قريب، والمال كثير) فهذه قرينة على أن المال لم يصرف، بل هو باق، وهم قد جحدوا المال، ثم تبين أنه موجود.(74/6)
من أخبار القضاة
يذكر وكيع -صاحب أخبار القضاة- من فراسة القضاة ما يحار فيه العقل، ومما ذكر عن بعض القضاة أنه جاءه اثنان، فقال أحدهما: كنا في سفر، ونزلنا المنزل الفلاني، وأودعته مالاً، فلما جئنا أنكر المال، فراجعته فيما أودعته إياه ليحمله معه فإذا به ينكر، فسأله القاضي: هل لك بينة؟ قال: ليس عندي بينة، فقال له القاضي: لعلك نسيته في المكان الذي أودعته إياه، وذهب ولم يأخذه! قال: لا أنا متأكد أنه أخذه، وذهبنا والمال معه، فقال القاضي للمدعى عليه: اجلس، وقال للمدعي: اذهب إلى ذاك المكان، وفتش تحت الشجرة التي نمت عندها، وانظر لعلك تجد المال هناك، فذهب بناءً على أمر القاضي، واشتغل القاضي بقضايا الناس عنده، وبعد فترة فاجأ المدعى عليه وقال: صاحبك تأخر، ألم يكن قد وصل حتى الآن؟ فقال: لا، المحل بعيد، فقال: إذاً: أنت تعرف المكان! وحصل بينكما ما حصل، فسلمه للشرطة، وحكم عليه بدفع المال.
ويقولون: الإنسان إذا شاور اكتسب عقلاً إلى عقله، وإذا قرأ اكتسب عقلاً إلى عقله.(74/7)
ما وقع للشيخ من قضايا وعمل فيها بالقرائن
وللمناسبة، رفعت إليَّ قضية أربعة غير سعوديين، ادعى أحدهم على شخص منهم بخمسة وثمانين ألف ريال -والقضية طويلة، وانظروا -يا إخواني- ما يعانيه القاضي-، وفيها اعتراف وتوقيع فلان، وكتابته: تكلفت بدفع مبلغ كذا لفلان، هو موقع، ويشهد عليه اثنان، والشهود كانوا غير موجودين، فالمدعى عليه أنكر وقال: هذا أنا لا أعرفه، وهذا ليس اسمي، وأخرج إقامة له فيها اسم غير الاسم المكتوب في السند، لو كنتم كلكم قضاة ماذا تقولون؟ ادعى على إنسان، واسم الإنسان ليس موجوداً، وهذا الشخص يحمل إقامة رسمية باسم غير الاسم الموجود في السند، ويقول: هذا الشخص عمري ما رأيته ولا أعرفه، فهل بقي للقاضي شيء بعد هذا يا جماعة؟! ما بقي له شيء، إلا أن الله يحق الحق، فقلت: أخبرني -يا فلان- كيف كتب هذا السند؟ وكيف كتب باسم غيره؟ فضحك شخص، فقلت: لماذا تضحك؟! وراء هذا شيء! فقال: اسمه الحقيقي هو الذي في السند، وسُفر سابقاً وجاء إلى المحل الفلاني، ودخل بهذا الاسم الجديد الذي في الإقامة، وهذه جريمة ثانية! قلت: وهل تعرفه؟ قال: أعرفه من كذا سنة، ونحن بالمملكة يعرف بعضنا بعضاً، قلت: يا فلان! ماذا تقول؟ قال: أبداً.
لا أعرفه.
وبعد أن تركت القضية وجلسنا جلسة ثانية، والشهود لم يأتوا، وهذا الرجل في السجن، وتجري -قدراً من الله- مناقشة فيما بينهم في كتب السند، فإذا بهم يسكتون، فسألت المنكر- سؤالاً مباغتاً: أين كتب هذا السند في الرياض أو في المدينة؟ فالذي كان يقول: لا أعرف، وليس هذا اسمي قال: كتب هذا السند في المدينة.
إذاً: السند صحيح، فأراد أن يتراجع، ولكن قد أنطقه الله بالحق، ثم اعترف وقال: نحن أربعة التزمنا بالمال، فلماذا يدعي عليّ وحدي ويترك البقية؟ فهذا القاضي لما اختصم إليه اثنان، وليس عند المدعي بينة، هل قال: ليس لك عنده شيء، واحلف أنت أيها المنكر؟! لأنه إذا كان عنده استعداد أن يأكل مال الناس فما الذي يمنعه من أن يحلف؟ ولذا ابن القيم يقول: من حصر البينة على شاهدي عدل ربما أضاع حقوق الناس.
وكذلك من اعتمد على مجرد الفراسة ربما ظلم الناس، والفراسة تخطئ وتصيب، وإقامة البينة على الدعوى ليس مبدأً في كتاب الله وسنة رسوله فحسب، ولكن رب العزة سبحانه يعامل عباده بالبينة والإقرار قال سبحانه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، وقال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] ، فرب العزة لا يخفى عليه شيء، وإذا حكم لا معقب لحكمه، ولكن يأتي العبد يوم القيامة فيقول: ربي! لم أفعل هذا! قال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] ؛ لأن الكافر ينكر، فإذا أنكر وكذّّب الملائكة ينطق الله جوارحه، كما قال الله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] .
إذاً: كان رب العزة وهو سبحانه هو القائل عن نفسه: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ، ولا تخفى عليه خافية، وهو مع ذلك يعامل الناس بالبينة، فيجب على القضاة أن يحكموا بالبينة.(74/8)
قصة الجارية التي رض يهودي رأسها بين حجرين
الرسول صلى الله عليه وسلم جاءته قضية وهي مشهورة عند العلماء في باب الجنايات، وهي أن جارية وجدت وقد رُضّ رأسها بين حجرين، فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لها: (من فعل بك هذا؟ وهي لا تتكلم؛ لأنها في حالة لا تسمح لها بالنطق، فأخذوا يعرضون عليها: فلان! فلان! فلان! حتى نطقوا باسم شخص يهودي، فأومأت برأسها: أي نعم) ، فهذه قرينة على حصر الدعوى في فلان.
يقول مالك: التدمية لوثٌ، فإذا وجد إنسان يتشحط في دمه، وسئل: من فعل بك هذا؟ وقال: فلان، فـ مالك يعتبر هذا لوثاً، ويبني عليه القسامة، والآخرون يقولون: كيف نأخذ قول إنسان على خصمه؟ فنقول: هذا شخص في آخر لحظات من الدنيا، وأول قدومه على الآخرة، فالأصل أن يرجو فضل الله، ويتجنب الكذب والظلم، فمظنة الصدق منه موجودة.
ويهمنا في هذه القضية أن اليهودي وجد جارية عليها ذهب وحلي، فأخذها إلى خربة وأخذ الحلي ورضَّ رأسها بين حجرين.
ونقف وقفة ونقول: يا أصحاب الذهب والفضة والأموال! لا تقتلوا صبيانكم بأن تضعوا عليهم من الذهب ما يزيد عن الحاجة.
فالطفلة الصغيرة يكفيها شيء يسير جداً تفرح به؛ لأن الذهب أغرى ذاك اليهودي على قتلها، فأهلها شاركوا في قتلها، ومثل هذا تجد ولداً عمره اثنتا عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة، يشتري له أبوه سيارة، ويذهب الولد بدون رخصة فرحاً بالسيارة يلعب بها، ثم يرتكب حادثاً، فمن الذي تسبب في هذا الحادث؟ الذي تسبب هو أبوه، ولو مات الولد في الحادث فأبوه هو الذي ساعد على قتله؛ لأنه أعطاه شيئاً ليس كفؤاً له.
وتلك الجارية عرض عليها أسماء أشخاص من أصحاب السوابق، ولم يعرضوا عليها أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، بل عرضوا عليها من هم مظنة لهذا العمل.
إذاً: السوابق لها أثر، وصحيفة السوابق عند الشرطة لها أثر في التحقيق الجنائي، ولما قالت: فلان، هل بمجرد ادعائها أُخذ بذلك مع أنه يهودي؟ لا، وإنما جيء به فاعترف، فرضَّ رأسه بين حجرين، أي: عومل بمثل ما فعل بالجارية، ولو قتلها بسلاح لقتل به.
ويهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأخذ اليهودي بادعاء الجارية، وإن كان يهودياً فله حق الدفاع عن النفس، فلما أقرَّ أخذ بإقراره، وكان من الممكن أن ينزل وحي على رسول الله بذلك، ولكن لو جاء وحي إلى رسول الله فسيكون الحكم بمقتضى علم رسول الله، والقاضي لا يحكم بعلمه أبداً.
فرب العزة لا يخفى عليه شيء، وهو لا يحكم على العبد بعلمه حتى يقيم البينة عليه، مع أنه لا تخفى عليه خافية.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لو جاءه الوحي وأخبره فمن للقضاة بعد ذلك، وهم لا يأتيهم وحي؟ ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة: (إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر! أقضي نحو ما أسمع، فلعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر، فمن أقطعت له شيئاً من حق أخيه فإنما أقتطع له قطعةً من النار) سبحان الله العظيم! أقضي لكم على نحو ما أسمع.
فإذا جاء رجل يدعي على شخص آخر، والقاضي يعلم القضية، فينبغي على القاضي أن يقول للمدعي: لا تحتكم إليَّ، وتحاكم عند غيري، وادعني للشهادة، أما أن أكون شاهداً وقاضياً فلا يمكن؛ لأن القاضي لا يحكم بعلمه، ولو حكم بعلمه فسيقول المدعى عليه: القاضي والخصم عليَّ، لكن يذهب إلى القاضي، ويبحث عن شهود آخرين غير القاضي.
وفي هذا الباب جُعلت البينة على المدعي؛ لأن القاضي لا يحكم بعلمه، ولابد من تقديم البينة وإقامة ما يبين الحق، وهل البينة مجرد الشهود أو كل ما يبين الحق؟ يجوز للقاضي أن يحكم بالقرائن إذا اطمأن للقرائن، يقول ابن القيم: قد تكون القرينة أقوى من عدة شهود.
وقد وجدنا في كتاب الله أن القرينة قد تبطل بقرينة أقوى منها، فقرينة الدم في قميص يوسف بطلت بقرينة سلامة القميص.
إذاً: المسألة مسألة إقامة أدلة على صدق الدعوى، وإعمال القرائن لها منزلة كبيرة في الشرع، حتى لا تضيع حقوق الناس.(74/9)
الإقرار ليس حجة مطلقاً
يقولون: الإقرار ليس كل شيء، فقد يقر إنسان بما ليس واقعاً لمصلحة يرجوها من الإقرار، ويدرك ذلك من زاول القضاء، وما كل إنسان يدركه.
يذكرون عن بعض القضاة أنه دخل عليه شيخ وشاب وادعى الشيخ على الشاب ألف دينار، فقال له القاضي: ما تقول في دعوى المدعي؟ قال: نعم، هي في ذمتي، فقال: اذهبوا وائتوني غداً.
وكان القضاة يحضرهم العلماء والفقهاء للمشاورة، فلما قال القاضي: ائتوني غداً، قال جلساؤه: ما هذا التسويف؟! هما مدعٍ ومدعى عليه، والمدعى عليه معترف، فلماذا تؤخرهم إلى الغد؟ لماذا لا تحكم بمقتضى إقراره؟ فقال القاضي: ألم تروا سهولة إقراره؟! يعني: ما هي على العادة المعروفة، وكأنهما جاءا متفقين على هذا.
ومن الغد في الصباح الباكر جاء والد ذاك الشاب يشكو إلى القاضي ولده، قال: ماذا به؟ قال: أتلف مالي، وأفسد حالي، إذا أعطيته المال يضيعه، وإذا لم أعطه قامت أمه وفعلت وفعلت، والآن عجز أن يأخذ مني شيئاً، فذهب وتواطأ مع فلان ليدعي عليه بالألف، ويعترف وليس عنده شيء، فتحكم عليه بالسجن، وتصر علي أمه لأخلصه، وأدفع الألف، ويتقاسمانه بينهما! ويهمنا -يا إخوان- معرفة عدالة الإسلام في إقامة البينة على من يدعى عليه، وباب البينة باب واسع.(74/10)
الفرق بين المدعي والمدعى عليه
من هو المدعي؟ ومن هو المدعى عليه؟ لو التبس الأمر على القاضي، ولم يميز بين مدعٍ ومدعى عليه، فربما قال للمدعي: تحلف؛ ولهذا يتفق العلماء على أن التفريق بين المدعي والمدعى عليه هو أساس القضاء؛ حتى يستطيع القاضي أن يميز بين من يطالب بالبينة، ومن يوجه إليه اليمين.
والتفريق بين المدعي والمدعى عليه أن المدعي هو من إذا ترك ترك مع السلامة، والمدعى عليه لا يترك، بل يطالب ويطارد، والتعريف العلمي للمدعي هو: من ادعى شيئاً على خلاف الأصل، والمدعى عليه هو: من كان معه البراءة الأصلية.
مثلاً: لو ادعى رجل على آخر ألف ريال، فذمة هذا الشخص غير مرتبطة بشيء، ومعها البراءة من هذه الدعوى.
وهذا الذي يدعي الألف يدعي خلاف الأصل؛ لأن الأصل عدم شغل الذمة بحق الآخرين، فحينئذ لو أن القاضي قال لهذا: هات البينة! وقال: ما عندي، ثم قال له: احلف! فسيحلف؛ لأنه ما جاء يدعي إلا وهو مستعد لأن يأكل، فجانب المدعي دائماً أضعف من جانب المدعى عليه، كما يقولون: المدعى عليه بريء حتى تثبت إدانته.
قد يقول المدعي: ما عندي بينة، جاءني منتصف الليل، وقال: أنا ظروفي الآن قاسية، أعطني ألف ريال فقال: نكتب سنداً، فقال له: ليل وما عندنا كاتب، فقال له: الله وكيلنا، خذ الألف واذهب، ومن الغد جاء وقال له: ليس بيننا شهود ولا كتابة، فاذهب اشتكي بي أينما تريد! فحينما يعجز هذا عن البينة، نقول لهذا المدعى عليه: يمين الله.(74/11)
ليس كل دعوى يسمع لها
يقول المالكية: ما كل دعوى تسمع على كل من ادعي عليه، مثال ذلك: لو كان في وقت الموسم شخص مقيم في المدينة، فإذا رجل من خارج المملكة قال له: تعال! لي عندك عشرة آلاف ريال، وهذا المدعي حاج، وعمره ما جاء إلى المدينة من قبل، ولا سافر إلى الهند أو إلى مصر أو إلى أي بلد، فالقاضي إذا عرضت عليه هذه القضية قال للمدعي: بينتك، قال: ما عندي بينة، هل حالاً يقول للمدعى عليه: احلف أنه ليس له عندك عشرة آلاف ريال؟ لا، بل يفكر أولاً: ما هي الرابطة والمناسبة التي ربطت بينهما في عشرة آلاف؟ وليس مجرد ما ادعى نسمع منه.
لو أن إنساناً يريد أن يؤذي رجلاً مستقيماً في خلقه وفي أمانته، مستغن في ماله، ما عرف عنه الحِيَل ولا النصب، ولا يقترض من الناس، ومعروف للجميع أنه من علية القوم استقامةً وديانةً ودنيا، فلو جاء إنسان وقال: أنا أدعي على فلان الشيخ الكبير الفلاني أو الأمير الفلاني عشرة آلاف ريال، فنقول له: لماذا أعطيته؟ قال: قرضة حسنة أحتاجها وأعطيته إياها، فنقول له: خذها منه، قال: هو أنكرني، فهل بمجرد هذه الدعوى نأتي بالشيخ الفاضل ونقول له: احلف يا فلان؟! ربما هو يريد أن يحرجه ليعرض عليه اليمين فيفتدي عن يمينه بشيء، وهذا الذي يريده المدعي.
ليس كل من ادعى دعوى تسمع منه، ولكن إن وقع للقاضي ما يدل على ذلك فلا مانع أن يحلف كبير القوم، وقد اختصم أُبي بن كعب مع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في جذاذ نخل، كل يدعيها له، فقال أُبي: إنك أمير المؤمنين، قال: لا، ولكن اختر من نحتكم إليه، قال: زيد بن ثابت، فذهبا إلى زيد بن ثابت، فسلما عليه، فرد عليهما السلام، وقال: ها هنا يا أمير المؤمنين؟! فقال: لا ما جئتك أميراً للمؤمنين، إنما جئتك متحاكماً مع خصمي، قال: إذاً: اجلس مع خصمك، ما دعواك يا أُبي؟ قال: جذاذ نخيل لي عنده، قال: ألك بينة عليه؟ قال: لا، ولكن أطلب يمينه، أُبي يطلب اليمين من عمر، فـ زيد تأخذه العاطفة -وهذا ضعف في القضاء- فقال: أو تعفي أمير المؤمنين من اليمين؟ فصاح به عمر: ويحك -يا زيد - أكل الناس تعفيهم من اليمين أم قلت: عمر أمير المؤمنين، وتطلب أن نعفيه؟ لماذا لا يحلف عمر إذا كان صادقاً؟ قال: أتحلف؟ قال: نعم أحلف، فحلف أن النخل له، وليس لـ أُبي، فصرف القاضي دعوى أُبي لعدم إثباته دعواه، وعدم إقامة البينة، وليمين المدعى عليه، فخرج عمر مع أُبي، وعند باب البيت استوقفه عمر وقال: هل انتهت القضية؟ قال: نعم، قال: ألك عندي شيء؟ قال: لا، ليس لي عندك شيء، قال: النخل لك هديةً مني، فقيل لـ عمر: ولماذا لم تفعل ذلك قبل اليمين؟ قال: مخافة أن يتخذها الناس سنة، ويقولون: عمر لا يحلف، ولكن إن كان محقاً فليحلف وليستحق، وإن كان غير محق ونكل فليحكم عليه.
بينما عثمان رضي الله تعالى عنه اُدعي عليه مبلغ تسعة آلاف، ادعاها المقداد، فقال عثمان: هي سبعة آلاف، قال: أتحلف أنها سبعة، وأترك الألفين؟ قال: لا، احلف أنت أنها تسعة، وأعطيك التسعة، وهذا يسمى في نظام القضاء: (رد اليمين على المدعي) ، فإذا رد المدعى عليه اليمين على المدعي، وحلف بمقتضى طلب المدعى عليه، أخذ بذلك القاضي، وإن كان بعض العلماء ردوا ذلك، فحلف المدعي أنها تسعة، فأعطاه تسعة آلاف، فقيل لـ عثمان: عرض عليك اليمين وأنت متأكد أنها سبعة، فلماذا ترد عليه اليمين وتعطيه المال؟ قال: نعم خشيت أن أحلف، فيأتي قدر من الله في أمر ما، فيقول عوام الناس: هذا لأنه حلف كاذباً فجاءه ذلك، يعني: افتدي يمينه بأن ردها على المدعي.
وكذلك عبد الله بن عمر باع غلاماً، فجاء المشتري وادعى بأن فيه عيباً كتمه عنه ابن عمر، فقال ابن عمر: ما علمت أن فيه عيباً، ولا كتمت عنك، وكان القاضي عثمان فقال: لك بينة على أن العيب كان موجوداً عند البيع وأخفاه عليك؟ قال: ما عندي بينة، لكن يحلف، فقال ابن عمر: قل له: يقبل العبد على ما هو عليه وإلا رده عليَّ وأخذ ماله، فرده عليه ورد عليه ماله، وبعد سنة باعه بزيادة قدر نصف القيمة زيادة على ما كان عليه.
إذاً: بعض الناس قد يحلف، وبعض الناس قد يترك، لكن المبدأ الأساسي أن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر.(74/12)
المسائل المستثناة من قاعدة (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)
هناك مسألتان جاءتا على خلاف الأصل، وهما، اللعان، والقسامة في القتل.
واللعان هو: أن الرجل يقذف زوجته -عياذاً بالله- بشخص أجنبي، فالحكم أنه إن أنكرت المرأة يتلاعنا، فيقسم هو أربع مرات أنها زنت، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وهو المدعي عليها، ويدرأ عنها العذاب أن تقسم أربع مرات.
إلخ.
إذاً: في قضية اللعان بدأ المدعي بالأيمان، فلماذا لا يأتي بالبينة؟ من باب الستر جعل الله سبحانه وتعالى إثبات حد الزنا بأربعة شهود، ولكن كما قال سعد: أتركه، وأذهب آتي بأربعة شهود، ويكون قد قضى حاجته منها؟! لئن رأيته والله! لأضربنه بالسيف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني) .
وكما يقال: لا يوجد في الإسلام طريق مسدود، فلولا اللعان لكان كل امرأة أدخلت بيت زوجها من شاءت وقالت: ما عنده بينة، فجعل الله مخرجاً للزوج بالأيمان.
إذا جئنا إلى الزوجين، رجل يجاهر ويصرخ بأنه وجد زوجه على كذا، من يستطيع أن يخبر بهذا الخبر دون أن يكون واقعاً؟ إذاً: ضخامة الجريمة أنطقته أمام الناس، وجعلته يفضح نفسه وأهله، فكان لوثاً قوي جانبه في ادعائه، ويحتمل أن يكون صادقاً، فالأيمان دائماً في جانب الأقوى من الطرفين، وهي يدرأ عنها العذاب بالأيمان.
وكذلك القسامة، فإنها تثبت مع اللوث، فإذا كان هناك قبيلتان متعاديتان، فوجدت أحد القبيلتين بين بيوت القبيلة الثانية قتيلاً منهم، فجاء أولياء القتيل وقالوا: تلك القبيلة التي تعادينا هم الذين قتلوه، فكلامهم فيه رائحة القوة بسبب العداوة التي بينهم، لكن إذا لم تكن هناك عداوة ولا خصومة ولا شيء، فما الذي يأتي بالتهمة على هؤلاء؟ فيمكن أن يكون هناك جماعة قتلوه ووضعوه عند هؤلاء الناس، وأنتم تعلمون قضية قتيل بني إسرائيل، وكانت المدينة مقسومة قسمين، وكان رجل له بنت، فطلب ابن أخيه من عمه أن يزوجه ابنته فامتنع؛ لأن له مالاً، والخاطب فقير، فماذا فعل الولد؟ قتل عمه ليأخذ ماله، ويتزوج ابنته، ثم حمله إلى جانب القرية من الجهة الثانية، ثم أصبح من الغد يشتكي إلى نبي الله موسى: هؤلاء قتلوا عمي! اخرج لي قاتل عمي، واقتص لي منه! فقالوا: والله! ما قتلناه ولا علمنا بقتله، فقال الله لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] ثم ذبحوا البقرة وقال: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] ، (كذلك) فيه إشارة إلى أمر مطوي في القصة (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) ، فضربوه فأحياه الله، وأخبرهم من قتله، وقال: قتلني ولد أخي! فمثل هذا الإحياء الذي شاهدتم وعاينتم كذلك يحي الله الموتى.
إذا كان هناك لوث فمدعي الدم له حق أن يبدأ بالقسامة كما جاء في قضية حويصة ومحيصة في خيبر.
إذاً: اليمين في جانب من هو أقوى في الدعوى، وتفاصيل ذلك في كتب الفقه في باب القضاء.
ولكن يهمنا في هذا الباب اليمين، واليمين شهادة، وحينما جاء المدعي وادعى بأنه أعطى فلاناً ألفاً مثلاً، وأنكر المدعى عليه أن يكون أخذ شيئاً، وجاء المدعي بشاهدين، وقالا: نشهد أنه أعطاه، ماذا يفعل القاضي؟ يتحتم عليه أن يحكم عليه بمقتضى الشهادة، فيحكم القاضي بشهادة رجلين، مع أنه يمكن أن يكونوا كاذبين، فإذا أعوز المدعي حضور الشهود فهل يضيع الحق؟ لا، بل يأتي باليمين، وما معنى اليمين؟ يقول للقاضي: أنا يعوزني الشهود، ما كان عندنا أحد، ولكن رب العزة شاهد، ويقال للمدعى عليه: أتشهد الله بمعنى: تحلف بالله بأن دعوى خصمك كاذبة، وأنك لم تأخذ منه شيئاً؟ فحينما يقوم المدعى عليه ويقول: أحلف بالله! إنه لكاذب في دعواه، فمن الذي يكون حقاً حاكماً وشاهداً في تلك القضية؟ إنه الله؛ لأن معنى اليمين، أن المدعى عليه يقول: أشهد الله الذي لا تخفى عليه خافية، والذي يعلم صدق المدعي أو كذبه، ويعلم صدقي أو كذبي، فإنه عالم مطلع أنه ليس له عندي شيء، فالذي يصير خصماً للمدعى عليه بعد هذا اليمين هو الله، ومن هنا نعلم معنى الحديث الصحيح: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وما علاقة الشرك بالحلف بالله؟ لأنك عندما تحلف بغير الله كأنك تعطي غير الله بعض صفات الله، إذا حلفت بنبي بملك بصالح بأي شخص، فكأنك أعطيت المحلوف به صفة العلم والاطلاع والقدرة على الانتقام، وهذه لا تكون إلا لله، ولهذا يقول ابن مسعود: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغير الله صادقاً) لأن الكاذب يعلم بأنه كاذب، وربما يرجع فيستغفر، لا أن يصل إلى حد الشرك، وربما يأتي يستسمح من المدعي، وربما يأتي ويقر ويعترف، وربما خاف من القضاء والسجن وذهب في الخفاء إلى صاحبه وأعطاه الحق، كل ذلك ممكن.
إذاً: اليمين معناها: إقامة الله سبحانه شاهداً على رد الدعوى، فإن كان صادقاً فالحمد لله، وإن كان كاذباً فالله هو خصيمه.
ولهذا لو تتقصى أحوال الناس، وتتتبع الذين يقسمون بالله كذباً -وهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار- تجد أن الله يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولعل الكثيرين يسمعون أخباراً في ذلك، ولا يقتصر الأمر على يوم القيامة.
ومن قضايا اليمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المنبر هنا في المسجد النبوي بعد العصر إذا كانت قضيةً كبيرة، مثلاً في مبالغ كثيرة أو دعوى لها خطرها، فيشرع أن يقسم المدعى عليه بالله بعد العصر عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيماً لليمين، وتنبيهاً للمدعى عليه.(74/13)
صيغة اليمين التي يحلفها المنكر
صيغة اليمين كما جاء في الأثر: (أن يقسم: والله! الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) .
ويروى عن الحسن أنه ادعى على شخص دعوى، وتوجه اليمين إلى الخصم، فقال: الحسن: أنا أحلفه، فقال: قل: والله! ليس له شيء، فقيل: لماذا لم تحلفه بالصيغة: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة؟ قال: لا، أنا لا أريد هذا كله، بل قل: والله! لم آخذ شيئاً، فحلف، فأصيب بما أصيب، فقالوا للحسن: ما السر أنك لم تقبل صيغة اليمين الطويلة العريضة؟ قال: خشيت أن يرحمه الله لأنه عظمه -يعني في قوله: الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة-، فيمهله، وفعلاً كان ما كان.
هذا الحديث أظن أنه من اختصاص القضاة، وفي هذا الباب نعلم مدى عدل الإسلام وسماحته، وليخش أولئك الذين يقتحمون أبواب الأيمان الكاذبة أن يعاقبهم الله، وليعلموا أن اليمين تكون على نية المستحلف لا على نية الحالف.
والله أسأل: أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(74/14)
شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والثلاثون [1](75/1)
رعاية الشريعة لوشائج الأخوة من ناحيتي العدم والوجود(75/2)
النهي عن الحسد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وسيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه) رواه مسلم.
هذا الحديث الجليل جمع عدة خصال يبين فيها صلى الله عليه وسلم كثيراً من حقوق المسلمين لبعضهم على بعض، ويعالج شخصية المسلم في نفسه وفي تصرفه.
ويبدأ صلى الله عليه وسلم بأولى خطايا الخليقة، ألا وهي الحسد، فيقول: (لا تحاسدوا) .
ويقول العلماء: الحسد قسمان: حسد مذموم، وحسد ممدوح ويسمى الغبطة، والحسد المذموم: هو تمني زوال نعمة الله عن عبده، والغبطة: أن يتمنى الإنسان من نعمة الله مثل ما أنعم على فلان دون أن يتمنى زوال تلك النعمة، وهو الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) .
وكون الإنسان يعطى الحكمة ليقضي بها بين الناس، أو المال ينفقه في سبيل الله ليس فيه مضرة على أحد، ولكن الحسد المذموم -الذي هو أول خطيئة وقعت- هو أن تستكثر النعمة على العبد وتزدريه أمامها، وتستصغره بالنسبة إليها، وتستكثرها عليه، وتتمنى زوالها عنه.
ومن هنا قالوا لما خلق الله سبحانه وتعالى أبانا آدم بيديه كرمه وأسجد له الملائكة، وكان إبليس في صف الملائكة، ولا نقول: كان من الملائكة.
وكان من عمّار الأرض في عالم الجن أو الحن أو البن -عالم قبل الإنس-، وقاتل في سبيل الله، ويقولون: لم يبق شبر في الأرض إلا وله فيه سجدة، فرفعه الله إلى مصاف الملائكة، ولكنه -ولا حول ولا قوة إلا بالله- أعجِب بنفسه، فلما رأى خلق آدم، وأن أصله من طين، ونظر فإذا المولى سبحانه لم يقل له كبقية الكائنات (كن) فكان، ولكن خلقه بيده، وصوّر حلقته بيده، كما جاء في حديث عبد الله بن عمر: ثلاثة خلقها الله بيده، خلق آدم بيده، وغرس جنة عدن بيده، وخط الألواح لموسى بيده.
فلما رأى إبليس تلك النعم العظمى استعظمها على هذا الذي خلِق من حمأ مسنون، ولذا لما أُمر بالسجود امتنع، وقال كما حكى الله تعالى عنه: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، يقول علماء الأصول: هذا أول قياس فاسد ويسمونه فساد الاعتبار، والقياس الفاسد الاعتبار هو القياس في مقابل النص، فالمولى يقول له: اسجد.
فيذهب إلى القياس فيرى أن أصله من نار، وأصل آدم من طين، ويخطئ في النتيجة، فجعل النار خيراً من الطين، وامتنع اعتزازاً بأصله واحتقاراً لأصل غيره، فما لك وللأصل، وما لك وللمقايسة، إن قال: (اسجد) ، فاسجد ولكن -كما يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه- أخطأ في المقدمة وفي النتيجة.
فمَن الذي قال: إن النار خير من الطين؟ فالنار محرِقة مدمِّرة، والطين مثمر منيبت، فعندما تأتي بالنواة وتلقيها في النار فإنها تضيع وتحترق، وعندما تأتي بالنواة وتلقيها في الطين تصير نخلة ولها طلع هضيم، فأيهما أفضل وأخير؟ لكن الضلال -عياذاً بالله- والكبر والازدراء يعمي البصيرة، فلما استعظم النعمة على آدم احتقر آدم، فتكبر فكان جزاؤه -عياذاً بالله- الطرد المؤبد، وهكذا المعصية تجر إلى معصية أخرى، كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله، وكما يقول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (إذا رأيت الحسنة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيت السيئة من الشخص فاعلم أن لها عنده أخوات) أي: أنهن عناوين، والشيء يدل على غيره.
وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا) ، وإذا جئنا نحتكم إلى العقل فإنه إذا أعطى الله شخصاً مائة والثاني تسعين فليس للثاني أن يعترض، فهل الذي أعطى صاحبك مائة أنقص من حقك -يا صاحب التسعين- شيئاً؟ وهل أخذ من حقك وأعطاه، أم أنه أعطاه من واسع فضله؟ فإن كان هناك شيء من حقك فخذه، وإذا كان تفضلاً من الله فأعطى وزاد فلا يقال: لِم لَم يكن الحد الأدنى للجميع عشرة؟ فهذا تحكم على الله.
فالحاسد يحارب الله، والحاسد معترض على قسمة الله، والله يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف:32] ، وانظر في الفرائض، فالبنت لها النصف، والأخت الشقيقة لها النصف فهل لك أن تقول: يا رب! لماذا أعطيت هذا؟ ولماذا أعطيت هذا؟ وإن كان هناك وراء ذلك كله حكم باهرة، لكنه عطاء الله، وليس لك أن تتحكم في عطاء غيرك.
فلو قدم عشرة أشخاص أضيافاً على إنسان، فأعطى أحدهم طاقية، وأعطى الثاني عمامة، وأعطى الثالث غير ذلك، فهل لأحدهم أن يقول: لماذا لم تعطني مثل فلان؟ فالله تعالى أعلم بما يصلح العبد، وفي الحديث: (وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك) ، فهو بصير بعباده، والعطاء كله من الله، والإمام علي رضي الله تعالى عنه يقول: (لو نظر الناس في أعطياتهم، ونظروا بعقل وتدبر لوجدوها متساوية متعادلة) ، فربما أعطي شخص ألف الدنانير، وأعطي غيره عشرة دنانير فقط، وفي باب الصحة أعطى صاحب الألف دينار عشرة في المائة من الصحة، وأعطى صاحب العشرة تسعين في المائة، فأعطى، وساوى في مجموع المال والصحة.
والعقل والذكاء والعلم والتوفيق كلها أعطيات، فلو جمعت ما أعطاك الله في صحة البدن، وفي عقلك، وفي ذكائك وفي ارتياحك النفسي وطمأنينتك في حياتك خرجت بنتيجة متعادلة، فينقص هذا ويزيد ذاك والناس كلهم عند الله سواء، وكلهم عباد الله، وهو أدرى بأعطياتهم.
وليس لك حق في أن تعترض على عطاء الله لغيرك، والواجب عليك أن ترضى بما أعطاك، فإذا رضيت بما أعطاك لا تتطلع إلى ما أعطى غيرك، ولعله لو زادك كانت الزيادة تطغيك وتهلكك، فإنسان حُرم الولد، فعاش حَجِلاً من الناس لا يدري لو جاء له ولد ماذا يفعل معه؟ فيمكن أن يتمنى على الله أنه لم يأت هذا الولد، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] .
فالخضر عليه السلام قتل الغلام مخافة على أبويه، قال تعالى عنه: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80] ، فقتله ليَسْلَم الأبوان من شره.
وكذلك قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] .
فاحمد ربك أنه جنب عنك الطغيان، ومهما أوتي العبد فما عساه يكون حاله ومآله، وتأمل مصير فرعون وهامان وقارون، بل وأهل الدنيا كلهم، فماذا أخذوا منها؟ وأين ذهبوا؟! فإذا تحاسد الناس تقاطعوا وتخاصموا، وانقطعت الصلات بينهم، ولكن إذا تحابوا وتقاربوا وتراضوا وتعاطفوا كانت المجتمعات كلها أمة واحدة، فالداء الذي قتل الأمم هو الحسد.
ولذا بعض الناس يقول: الحاسد عينه تتقلب في نعم الله، وقلبه يتوقد ناراً.
وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان مع أصحابه فقال: (يخرج عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة) ، فإذا رجل يخرج حاملاً نعليه في يديه تقطر لحيته ماءً من وضوئه، وفي اليوم الثاني في نفس المجلس قال صلى الله عليه وسلم: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) ، فإذا الرجل الذي جاء بالأمس هو الذي جاء.
فقال عبد الله بن عمرو: إن هذا ليس من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الملازمين له، وليس له شأن يميزه عن غيره، فيجب أن أرى السر الذي جعله من أهل الجنة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، فتبعه حتى عرف بيته، فجاءه بعد العشاء وطرق الباب، وقال له: بيني وبين أبي ما قد يكون بين الولد وأبيه، ولا أريد أن أبيت عنده، وأريد أن أكون ضيفك الليلة.
وأراد أن ينظر إلى ما يكون من عمله في الليل، فكان أن تعشى الرجل وتعشى معه ضيفه، وناما إلى أذان الفجر، فقام وتوضأ فأوتر وصلى ركعتي الفجر، وذهب وصلى الفجر.
فقال: ما هناك شيء جديد، ولعله في تعب، أو لعله يستحيي مني، إلا أنه فعل في الليلة الثانية والثالثة ما فعل في الأولى، فقال عبد الله: يا فلان! أصدقك الحديث، أنه ليس بيني وبين أبي شيء، ولكن وقع كذا وكذا، فأخبرني ما هي خبيئة السر التي لك عند الله؟ قال: يا ابن أخي! ليس عندي إلا ما رأيت، وليس لي شيءٌ خاص أخفيته عنك، فهذه حياتي.
فذهب ولم يظفر بشيء، وبعدما ذهب ناداه فقال: إن يكن من شيء -أي: إن كان هناك شيء يميزني- فإنا نبيت وليس في قلوبنا غلٌ لأحد.
فمن يقدر على هذ!؟ فهذه صفة أهل الجنة، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر:47] ، فوجود الغل يتنافى مع الأخوة، فالأخوة رقيقة شفافة لطيفة هادئة، لا تناسب ولا تجانس الغل ولا الحقد ولا الحسد.
فهي مثل المسك الطيب لا يتجانس مع الروائح الكريهة أبداً، فهذا الرجل في الدنيا يعيش بقلب رجل من أهل الجنة، ولذا يبشره صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو حي يمشي على قدميه.
فإذا رجعتم إلى بيوتكم، وأخذتم مضاجعكم، وأغمضتم الأعين فمن كان سليم الصدر فليحمد الله، ومن حدثته نفسه بشيء فليجلس وليتساءل: ماذا سأصنع؟ وما الذي سيعود علي؟ ولينتهر نفسه وليقل لها: أرقتيني وأتعبتيني فدعيني أنام.
لأن صاحب الحسد والحقد على الناس إنما يتعب نفسه، فخصمك وعدوك وقرينك في محله لا يدري عنك، وقد يكون هادئ البال في أحسن نوم، وأنت تحرق نفسك في فراشك، وهذا لا يجدي شيئاً.
ولكن قد يكون الحسد من ج(75/3)
تحريم التناجش في البيع والشراء
يعقب النهي عن الحسد قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تناجشوا) ، والتناجش أو النجش نتيجة للحسد، والناجش: السائم في السلعة بدون رغبة في شرائها.
كما إذا جاء إنسان إلى سلعة في السوق تباع بالمزاد العلني، فعرضت بخمسة، ثم صارت بستة، ثم بسبعة، فيأتي إنسان صديق للبائع أو خصم للمشتري -ومن هنا ينشأ النجش-، فيأتي وقد وقفت البيعة على سبعة فيقول: أشتريها بثمانية.
وإذا كانت بتسعة يقول: بأحد عشر.
فيدخل ويزيد، وغرضه بهذه الزيادة أحد أمرين: إما زيادة الثمن منفعة للبائع، وإما ارتفاع السعر تغريراً للمشتري، ولا تخرج عن هذين الأمرين، فعنصر الحسد موجود، والرغبة في المضرة موجودة، ومحاولة زيادة الثمن على المشتري موجودة، ولماذا تغرر به وتزيد عليه؟ إنه الحسد، حيث يحسده على شرائها.
وهنا يقول العلماء: لو وقع النجش في سلعة واشترى المشتري على اعتبار أن المتزايدين كلهم يرغبون في شراء السلعة وأن المزاد صحيح، ثم علم أن هناك من كان ينجش معه، فالجمهور على أنه بالخيار كل، فإن شاء أمضى البيع على ما رست عليه السلعة، وإن شاء ردها، وإن شاء أخذ فرق النجش من السعر الأصلي.
وهذا في باب المعاملات وباب البيوع، فليحذر أولئك الذين يريدون أن ينفعوا أشخاصاً على حساب الآخرين، فإن كان لك رغبة في الشراء مثل غيرك فاشتر، وإلا فارتك المساومة.(75/4)
النهي عن التباغض والتدابر
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تباغضوا) .
فبدأ بالحسد، والحسد جر إلى تكليف المحسود بغرامة، وليس الحسد في النفس فقط، ولكنه تعدى إلى الضرر، فهو يجر إلى التلف وإلى الغرامة، وعندما تغرِّم إنساناً شيئاً في غير محله أيحبك أم يبغضك؟ فالحسد هو أصل الخطأ في التباغض، فكم أدى إلى أن يبغض الناس بعضهم، وإذا كان الناس يعيشون متحاسدين متباغضين يبغض بعضهم بعضاً، فأية حياة هذه؟ فقوله: (ولا تباغضوا) أي: لا يبغض بعضكم بعضاً.
وإذا ما تباغض الناس فهل يتصافحون ويتعانقون أم يتدابرون؟ ولهذا قال: (ولا تدابروا) ، والتدابر: أن يعطي كل واحد ظهره للآخر، فبدلاً من أن يقبل عليه بوجهه يوليه ظهره، ويدبر عنه، والتدابر هذا نتيجة البغض، والبغض جاء من الغرامة التي كانت في النجش، والنجش وسببه الحسد؛ فرجعت هذه الخطايا كلها إلى الحسد.
وقوله هنا: (ولا تباغضوا) لكون هذا العمل كأنه يهدم كل ما جاءت به الشريعة الإسلامية؛ لأن الإسلام جاء ليؤلف بين الناس، فأذهب الحواجز التي تفرق بين غني وفقير، وأمير ومأمور، ولذا قال صلى الله عليه وسلم فيما سيأتي: (وكونوا عباد الله إخواناً) ، فحقيقة الإسلام، وحقيقة الرسالات في الأمم كلها المؤاخاة بين بني الإنسان؛ لأنهم في الأصل إخوة أبوهم واحد وأمهم واحدة.
ولكن الحسد الذي يتعدى إلى الضرر يأتي بالتباغض والتدابر، وإذا وقع التدابر وقع التباغض.
وهل قوله: (ولا تباغضوا) ، يتضمن النهي عن النجش وعن هذه الأمور؟
و
الجواب
أن كل ما فيه إيجاد التباغض بين أفراد الأمة يجب على الإنسان أن يتجنبه، إن لم يكن تديناً فمن باب المروءة.
فعلامَ تبغض إنساناً مثلك فإن أخذ لك حقاً فإما أن تعفو وتصفح وتغفر، وإما أن تأخذ حقك بالمساواة، وبلا تباغض.(75/5)
النهي عن أن يبيع المسلم على بيع أخيه
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع بعضكم بعضكم على بيع بعض) ، وكأنا رجعنا إلى السوق مرة أخرى، فهناك نهي عن النجش، وهو أن يزيد في السلعة وهو لا يريد شراءها، وهنا نهي لعامة التجار إذ قال: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) ، وجاءت منهيات أخرى تضم إلى قوله: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) حيث ورد: (ولا يسم المسلم على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبته) ، فلا ينبغي لإنسان أن يبيع على بيع أخيه، ولا يساوم على سومه ليشتري على شراء أخيه ولا يخطب امرأة على خطبة أخيه؛ حفاظاً على التآخي، ومنعاً للتشاحن والتباغض.
وبيعك على بيع أخيك يصوره العلماء بعدة صور: منها: تاجران متجاوران، أو شخصان متقاربان علم أحدهما أن صاحبه باع سلعة لفلان، وفلان المشتري ذهب ليشاور، أو ليأتي بالنقد، أو كان بينهما موعد بعد يومين أو ثلاثة، فيذهب التاجر الآخر إلى المشتري فيقول له: كيف فعلت؟ فيقول: اشتريت من فلان سلعة، فيقول: بكم؟ فيقول: بعشرين.
فيقول: هي عندي بثمانية عشر.
أو يقول: باعك سلعة مغشوشة، وأنا عندي سلعة جيدة أبيعكها بعشرين ولا أزيد عليك.
فما الذي يحمله على هذا البيع المتذرع به؟ هل رغبة في نفع نفسه فقط، أم لإيقاع المضرة بغيره؟ فإن كان فيه نفع لك فإنك أوقعت المضرة بغيرك إذا علم صاحبك بهذا، ومن هنا يأتي التباغض والتدابر، وتقطع الأرحام، وتتباغض النفوس.
ويقولون: يكون هذا ممنوعاً إذا اتفق المتساومان، أما لو كانت السلعة في السوق، وإنسان يسوم بخمسة، وآخر بستة فلا نقول له: لا تساوم على سومه، ولا تتقدم عليه؛ لأنها معروضة في المزاد للجميع، وليس هناك اتفاق من البائع مع أحد، فهي في سلم السوم، وما دام أنه ليس هناك نجش فلا مانع أن تساوم، لكن إذا انقطع السوم، أو كانت في محل بدون مزايدة، واشترى شخص السلعة واتفق معه، فلا يجوز لك أن تأتي من الخلف لتفسد البيع عليه، فتقول له: أنا آتيك بأحسن منها.
وسواءٌ أكانت عنده سلعة أم كان دلالاً في السوق، فلا يفسد على الناس البيع الذي وقع.
ومن صور السوم على سوم المسلم: أن المشتري يذهب بعد الاتفاق على السلعة للاستشارة، أو ليحضر المال، وهناك شخص واقف عند المكان يسمع، فيسأل صاحب السلعة: لماذا لم يأخذ المبتاع السلعة؟ فيقول له: اتفقنا وذهب ليأتي بالمال، فيقول له: الفلوس حاضرة، فخذها وأعطني السلعة.
فإذا كان مالك حاضراً فسمت على سوم أخيك الذي ذهب، وأغريت البائع بأن يدفع إليك السلعة لكون الذي ذهب لا يعرف هل يأتي أم لا، أو إذا كانا اتفقا على عشرين بعشر، فتقول له: خذ واحداً وعشرين وأعطني فهذا سوم على سومه.(75/6)
النهي عن أن يخطب المسلم على خطبة أخيه
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخطب على خطبته) .
إذا تقدم شخص إلى أسرة وخطب امرأة، وأصبحوا يتفاوضون ويتفاهمون في كيفية الزواج ومقدار الصداق، وكانوا قد اطمأنوا إليه فإنه يكون قد ركن بعضهم إلى بعض.
وقد يأتي شخص يرى نفسه فوق ذاك الخاطب الأول، ويعلم من نفسه أنهم يطمعون فيه، فيأتي ويخطبها، وحينئذٍ فأقل شيء يقولونه أن يقولوا: لو تقدمت قبله، ليتك تقدمت من زمان، فبنتنا ضاع نصيبها مع هذا.
فيفسد عليهم رضاهم بالخاطب الأول، فإذا ضعُفَت نفوسهم وقالوا: قبلناك يأتي الأول فيقولون له: لقد تأخرت، فيقول: نحن متفقون، فدعونا نتفاهم.
فيقولون: لا.
وحقيقة أمرهم أن المال جاء من جهة، والطمع والفساد جاءا من جهة أخرى.
وهنا يقول الحنابلة: إن كانوا قد ركنوا إليه، وجاء خاطب وخطب فقبلوه فُسِخ العقد؛ لأنه معتدٍ، ولا يحق له أن يدخل عليها، ولو دخل عليها يفسخ هذا النكاح عند الحنابلة.
وهذا من المزاحمة المذمومة وشح النفس.
فإذا حسنت المعاملات، انقضى خطر الحسد، ومنع التناجش، وإذا لم يكن هناك بيع الآخرين، ولا تدابر فإنه سيصبح المجتمع بغير حسد، ولا بغض، ولا تدابر، ولن تجد إنساناً يتمنى مضرة لأخيه، وسيصبحون عباداً لله إخواناً.
ومن عمل شيئاً من تلك المسميات فبعيد أن يكون من عباد الله المتآخين، وإنما يكون منتهكاً حرمة الأخوة بين الناس التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا) .
لو نظرنا وتأملنا فما أطيب كلمة (إخوان) ، فأنت أخي، وأنا أخ لك، والله تعالى يقول: (إنما المؤمنون إخوة) ، أما الأحساب والأنساب والمراكز والمواقف والعطاءات والأشكال فكلها نسبية، فإذا كان إنسان في أعلى نسب في الأمة، فهل كان له كسب وعمل حتى صار نسيباً؟ فالله سبحانه وتعالى أراد لك أن تأتي من أبوين شريفين نسيبين نسباً عالياً، وأنت حينما حُملت في البطن ونزلت إلى الدنيا ليس لك فضل في كونك حسيباً.
وفرق بين النسب والحسب، فالنسب: هو صفة الأبوين، وما ينتميان إليه من هذه القبيلة أو تلك والحسب: هو ما يوجد لأسلافه من أمجاد مكتسبة يحسبها ويقول: كان أبي كذا.
وكان جدي كذا.
وخالي عالم، وابن عمي صفته كذا.
وأمي من كذا.
ويحسب أشياء مما يتفاخر بها الناس من المكتسبات.
فكونك نسيباً لا فضل لك فيه، إنما هو شرف حصلت عليه فضلاً من الله، وكذلك كونك حسيباً، فماذا فعلت أنت حتى تشرف بفعلك؟ أتتشرف بفعل غيرك؟ فغيرك قد حسبوا، وأصبحوا من أهل الحسب الرفيع والفخار الكبير.
كبعض الناس الآن، حيث يتشدق قائلاً: كانت لنا الدنيا وكنا قادة.
فهؤلاء يقال لهم: وماذا فعلتم أنتم؟ هدمتم ذاك الحسب، وضيعتم ذاك الحسب، فاعملوا كما عمل أولئك.
وتجد صاحب المال الكثير يتعالى على الفقير المسكين، فهو مال وعرض، وظل زائل يأتي ويذهب، كما قيل: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وقيل: وما تدري إذا يممت أرضاً بأي الأرض يدركك المبيت وكم من غني يصبح لا شيء عنده، وكم من فقير تفتح له الدنيا زهرتها؛ لأنه ليس لها قيمة، فهل هذا يطغيه أو يلهيه أو يشغله؟ فكل هذه الأشياء لا ينبغي أن تفرق بين بني الإنسان.(75/7)
الأمر بالتآخي
قال صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخواناً) .
قوله صلى الله عليه وسلم: (وكونوا) يوجه فيه إلى الناس الكينونة، كأنهم باستطاعتهم أن يصبحوا إخواناً، وهل هذا على ظاهره في هذا المقام؟ إذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أن أخوة المسلمين فيما بينهم لها أصلان: أصلٌ منحة وهبة من الله تعالى، وأصل أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.
أما الأصل هو الذي هو هبة من الله فإنه سبحانه يذَّكر عباده ويمتن عليهم به فيقول: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] .
وهي نعمة الإسلام، فلقد رأينا في مطلع فجر الإسلام الأجناس المختلفة من الأقطار المتباعدة تتآخي تحت ظل دوحة الإسلام، فها هو صلى الله عليه وسلم في مكة يأتيه صهيب الرومي، ويأتيه بلال الحبشي، وفي المدينة يأتيه سلمان الفارسي، وكل أولئك إخوة في الله الذي جمع العرب مع العجم.
يقول الشاعر: أبي الإسلام لا أب لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم فحينما اختلف سلمان المهاجرون والأنصار في غزوة الخندق كان المهاجرون يقولون: سلمان منا، جاء مهاجراً من بلاد فارس.
والأنصار يقولون: سلمان منا كان موجوداً حين قدم علينا رسول الله، فهو فارسي يتنافس فيه المهاجرون والأنصار، ويقضي فيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (سلمان منا أهل البيت) ، ولم يكن هاشمياً أو قرشياً فكان من آل البيت أعلى قمة نسب في العالم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فأنا خيار من خيار) ، وذلك بالإيمان، قال تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] .
تلك الأخوة كانت أقوى وأعز من أخوة النسب والدم، حتى إنهم كانوا يتوارثون بها، وظهرت آثارها عملياً في ثلاثة مواطن يعجز خطيب أو كاتب أو شاعر أو أديب أو معبر بأي أسلوب أن يصور حقيقة المعنى.
ففي غزوة أحد سنة ثلاث من الهجرة يأتي المشركون وكان فيهم ابن أبي بكر الصديق، ولم يكن أسلم بعد، ونظام القتال أوله المبارزة، فيخرج الابن ويقول: من يبارز؟ فينهض أبو بكر ليبارز ولده، فيمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أبق على نفسك يا أبا بكر، فهذا أب يبارز ابنه، فهو قاتل أو مقتول، فإن قَتل قَتل مَن؟ وإن قُتل قُتل بيد من؟ فهما مصيبتان.
فـ أبو بكر إذا قتل قتل بيد ولده، فذلك أشد على نفسه من أن يقتل على يد أبي جهل أو غيره.
وفي غزوة المريسيع حدث أن غلاماً لـ عمر وغلاماً لأنصاري ازدحما عند الماء فضرب غلام عمر غلام عبد الله بن أُبي أو الأنصاري، فصاح أحدهما: ياللمهاجرين، وصاح الآخر: ياللأنصار؟ ودبت فيهم نحوه سابقة، فبلغت تلك المقالة عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين فقال: أو قالوها؟! ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
فبلغت المقالة رسول الله فشغل الناس بالسير في القيلولة حتى وصل باب المدينة، وهناك أنكر مقالته التي قالها واعتذر وكذب الخبر، وجاء الوحي وكذبه، قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] ، فأتى عبد الله بن أبي إلى أبيه عند أبواب المدينة واستل سيفه وأمسك زمام ناقة أبيه، وقال: والله لن تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله.
ويقولون: كان من أبر الشباب بأبيه.
فأين ذهبت الرابطة النسبية؟ وأين ذهبت الأبوة والبنوة والبر؟ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، وقال تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، فتلك الأخوة التي هي نعمة من الله أقوى تلاحماً وترابطاً من البنوة والأبوة في النسب.
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر عبد الله مع أبيه أرسل إليه أن: دعه يدخل.
فدخل بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد فترة تنافل الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أبي، فيأتي ولده ويقول: يا رسول الله! سمعت أنك تريد قتل فلان -وما قال أبي، فإن كنت فاعلاً لا محالة فمرني آتيك برأسه؛ إني لأخشى أن تأمر غيري فيقتله، فلا أستطيع أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأقتله فأهلك؛ لأني قتلت مسلماً بكافر.
فانظر إلى أي حد بلغ هذا، فهو مستعد أن يتولى قتل أبيه حرصاً على المسلمين؛ لأنه -من باب الحمية- لا يقوى على أن يرى قاتل أبيه، ولو كان أبوه كافراً وقاتله مسلماً، فيندفع وراء تلك الغريزة فيقتل قاتل أبيه، وبما أن قاتل أبيه مسلم، فحينئذٍ يكون قد قتل مسلماً بكافر، وهذه مصيبة لا يرضاها، بل هي الهلاك فقوله تعالى: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، هو العنصر العملي الذي كلفنا به من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الحجرات قوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] ، وقال تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] ، وإذا أخذت من أول السورة بعد آدابها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد الإصلاح بين الطوائف المسلمين في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائفَتَان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9-10] .
والآية تزيل عوامل البغضاء والقتل، بداية من سوء الظن بأخيك، ثم الانتقال إلى عدم التجسس وراءه، ثم الانتقال إلى ألاَّ تتبع التجسس بالغيبة، إلى آخر ما أتى في السورة.
ومما يهمنا هنا فعله صلى الله عليه وسلم في غرس المحبة، حيث يقول: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا) ، فالجنة لا يدخل فيها إلا المتحابون، أما المتباغضون فليس لهم محل؛ لأن الجنة لا تصلح للتباغض، وهي أطهر من أن تسع متباغضين، والمولى سبحانه -كما جاء في الأحاديث- في بعض ليالي السنة المفضلة يطلع على أهل الأرض فيغفر لهم جميعاً إلا المتخاصمَين، فيقول: (أرجئوهما حتى يصطلحا) ، فكيف نتباغض؟ وكيف نكون متباغضين في الجنة؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ -فهي وسيلة المحبة التي يمكن أن تكتسبوها أنتم- أفشوا السلام بينكم) ، وجاء الحديث الآخر: (تهادوا تحابوا) ، والهدية تسل الضغينة من الصدر، فأرشد صلى الله عليه وسلم إلى أن تتعاطف مع أخيك أن تبدأه بالسلام، وأن تبادله الهدايا، وجاء الحديث الصحيح: (حق المسلم على المسلم ست) ، فإذا أديت حق أخيك وأدى حقك، عندها تكونان متحابين، وهذه الخصال الست هي قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) .
فإذا لقيته سلم عليه وقل: (السلام عليكم) ، وإن دعاك لوليمة فأجبه، وإذا طلب منك النصح فانصح له، وإن غاب عنك أو مرض فعده، وإذا قضى نحبه ومات فشيعه.
فإذا وفى كل إنسان حق أخيه عليه كان الناس عباد الله إخواناً.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانا) ، قد يقول قائل: على أي شيء هذه الأخوة؟ فيقال: مبدأ الإسلام المؤاخاة، فالمسلم -حقيقة- أخو المسلم، ولا يقال: كيف يكونان أخوين وأحدهما عربي والآخر عجمي، وهذا من الشرق وهذا من الغرب، فمن أين جاءت الأخوة؟ فأخوة النسب لا كسب لك فيها، فأخوك شقيقك لا تستطيع أن تلغي أخوته، وهي مفروضة عليك شئت أم أبيت، ولكن الأخوة التي لك هي أن تتخذ كل من قال: (لا إله إلا الله) أخاً، وهذه الكلمة هي النسب الأعلى، فالمسلم أخو المسلم، سواءٌ أكان إخباراً بالواقع أم أمراً في صورة الإخبار، كما قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة:233] ، فهو إخبار بالإرضاع، أو تكليف بأن يرضعن.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم) ، ومقتضى تلك الأخوة ليس ادعاءً، وليس -كما يقول بعض الناس- إشارة في إثبات الهوية أو في جواز السفر، فليس الإسلام بالبطاقة كما يعبر بعض الناس، وإنما هو عمل، وما دام المسلم أخا المسلم فمقتضى الأخوة وثمنها ألا يظلمه، فظلمك أخاك عجب، وإذا ظلمت أخاك فمن ستنصف؟ ولذلك قال: (لا يظلمه) ، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخذله) وفرق بين الظلم والخذلان، فالظلم: أن يصدر منك ما يؤذيه، والخذلان: أن تترك غيرك يظلمه وأنت تنظر، وهذا ليس من صفة المسلم، ولا من مقتضيات الإخاء، فالأخ حقيقة هو الذي يناصر أخاه، وقد جاء في الأثر: (ما من امرئ مسلم يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من حقه وينتهك فيه عرضه إلا خذله الله في موطن يجب فيه نصرته ... ) فيأتيك وقت تحتاج فيه إلى النصرة فلا تجد؛ لأنك فرطت في نصرة أخيك.
وجاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
فقال رجل: يا رسول! الله أنصره إذا كان مظلو(75/8)
النهي عن غش المسلم واحتقاره
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يكذبه) .
يقولون: يكفي الإنسان دناءة أن يحدث إنساناً بحديث يظنه صادقاً فيه والمتحدث يعلم كذبه، وأعتقد أن هذا منتهى ما يمكن أن ينزل إليه الإنسان، فشخص يأتمنك ويأخذ كلامك مأخذ الصدق كيف يسوغ لك أن تكذب عليه؟ وإذا أخذنا بهذه فقط -أي: (لا يكذبه) - وعملنا بها صلح المجتمع كله.
فعند الحسد لا تحسده، والناجش يقال له: إذا كنت تسوم سوماً صحيحاً فافعل، وإلا فلا تناجش، ولا تبغض أخاك.
ففي المعاملات، وفي المواعيد، وفي العهود، وفي كل ما يمكن في حياة الإنسان إذا استمسك الجميع بقوله (لا يكذبه) كان الجميع على صفاء وعلى صراط مستقيم.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحقره) ، وهذا عود على بدء، وهذا من أساليب القرآن الكريم والسنة النبوية، فإنه إذا طال المقام يعاد للتذكير بما تقدم.
ففي سورة البقرة يقول تعالى في أولها: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:2-3] ، وفي آخر سورة البقرة يقول تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ،فبدأت السورة بالإيمان، وانتهت ورجعت إلى الإيمان.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يكذبه) ، سلم الجميع.
(ولا يحقره) ، يرجع إلى أول شيء وهو الحسد، وسبب الحسد أنك احتقرت الإنسان على ما أعطاه الله من نعم، فاستكثرتها عليه، ولو أنك لم تحتقره لما استكثرت النعمة عليه.
ولو كان شخصاً كبيراً وعظيماً ذا شأن لاستقللت النعمة عليه، ولقلت: هو يحتاج إلى زيادة، لكن احتقرته بالنسبة لما أعطاه الله؛ لأن منشأ الحسد أن تحقر المحسود، ثم تتكبر وتتعاظم عليه.
ومن هنا كانت نتائج تلك الأخوة بين المتآخيين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه) ، فالإنسان لا يظلم نفسه، فكذلك لا يظلم أخاه.
ومن فضائل تلك الأخوة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنها من دواعي ومن أسباب إكرام الله للمتآخين يوم القيامة بأن يظلهم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله) وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) .
ومن العجيب أيضاً أن تلك الأخوة في الله تصحب هؤلاء المتآخين إلى الجنة بكل رحابة صدر وسلامة، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] ، والأخوة في الله لا يستطيع إنسان أن يعطيه حقها، ويترتب على ذلك -كما أشرنا- ألا يظلمه، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) .
فقال: (يا عبادي!) ولم يقل (يا مسلمون) أو: (يا مؤمنون) .
فالله سبحانه وتعالى حرم الظلم على العباد ولو كانوا كافرين، ولا ينبغي للإنسان أن يظلم غيره، بل يقول العلماء: لا تظلم أحداً ولو حيواناً، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن المرأة البغي التي سقت الكلب لما اشتد به العطش، فشكر الله لها فغفر الله لها ذنوبها.
ولما سأل الصحابة رضي الله تعالى عنهم: (يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) ، ولا يجوز أن تحمل الدابة فوق طاقتها.
فالظلم ممنوع، وكما جاء في الحديث: (الظلم ظلمات يوم القيامة) ، ولو كان المظلوم كافراً فأنت مخطئ، فقد جاء في الحديث: (واتق ودعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) .
والمشركون كانوا إذا جاءتهم الشدائد والعواصف في البحر وغيره يدعون الله وحده، كما جاء في قصة عكرمة لما هرب عام الفتح وركب في السفينة وهاج بهم البحر، فقال ربان السفينة: أيها الناس! سلوا الله وحده أن ينجيكم، والله لا ينجي من هذه إلا الله فقال عكرمة: إذا كان لا ينجي في البحر إلا الله فلا ينجي في البر إلا الله، لئن أنجيتني -يا رب- من هذه لآتين محمداً فأضع يدي في يده.
فهو هارب من الإسلام، وهارب من قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] ، والمشركون يقولون -كما حكى الله تعالى عنهم-: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، فلمّا علم أنه ليس هناك عند الشدة إلا الله، قال: نرجع إليه وحده.
وحصين لما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء) ، ومع هذا الكفر يحرم الله تعالى ظلمهم.
فإذا كان هذا مع الحيوان ومع الكافر فكيف بالإنسان المسلم، وله عليك أخوة الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه ولا يخذله) ، وخذلانه أن تراه في موقف يذل فيه، وتستطيع أن ترفع عنه الذلة وتتركه.
ولذلك يقولون: زكاة الجاه كزكاة المال، فزكاة الجاه والمنصب أن تتدخل لنصرة أخيك المسلم إذا استطعت أن تنصره، فلا تسلمه لعدوه، ولا تخذله حينما يستنصر بك وأنت قادر على نصرته؛ لأنه من حق الأخوة، وإذا تركته يُخذل وأنت ترى بعينك فإنه أيضاً سيتركك إذا أوذيت، فتقف معه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.(75/9)
شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والثلاثون [2](76/1)
تحريم الكذب على المسلم
يقول صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يلظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره ... ) فنهى عن الكذب عليه بقوله: (ولا يكذبه) ، فمن أعظم الخيانة أن تحدث الرجل بالحديث يظنك صادقاً وأنت كاذب.
فليس هناك خسيسة أردأ من الكذب؛ لأن الإنسان ما عنده حبل يقاد ويربط به إلا الكلمة التي يقولها، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء:34] ، فالوفاء يكون بالعهد وبالعقود، فتقول الكلمة وتلتزم بها، وقد جاء في قصة أبي سفيان حينما قدم الشام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل الكتب للملوك، فسأله هرقل أسئلة كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان ما استطاع أن يكذب، فكان يحاول أن ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل، ولكن بغير كذب، فلم يجد إلا شيئاً واحد أراد أن يغمز به، وحين سأله: أيغدر بكم إذا عاهد؟ قال: لا.
وبيننا وبينه عهد ولنا منه فترة لا نعلم ما حدث فيها.
أي: لا نعلم في الفترة هذه ما الذي حصل.
وأراد أن يدخل شيئاً آخر فقال: ألا أخبرك بما يدل على أنه كاذب؟ قال: ما هو؟ قال: أخبرنا أنه في ليلة جاء من المسجد الحرام إلى مسجدكم هذا وصلى فيه ورجع في ليلته، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراً عودة.
فهذه التي أراد أن يدخل منها، فإذا ببطريق على رأسه يقول: نعم لقد علمت بتلك الليلة.
فالتفت إليه هرقل فقال: وما أعلمك بها؟ قال: كنت لا أنام حتى أغلق أبواب المسجد، وفي ذات يوم جئت إلى باب عجز البوابون عن إغلاقه، فدعوني فجئت، فدعوت أهل النجارة فنظروا فإذا السجاف قد نزل على الباب، فقالوا: لا نستطيع أن نحرك فيه شيئاً، فدعه إلى الغد حتى يطلع النهار، فتركناه مفتوحاً، ولما جئت في الصبح وجدت الباب يفتح ويقفل، ووجدت الصخرة التي عند الباب مخروقة وفيها أثر ربط دابة، فقلت والله ما أمسك بابنا هذه الليلة إلا لنبي، وقد جاءه وصلى فيه.
فلما خرجوا من عند هرقل -وكانت جماعته معه- قالوا: يا أبا سفيان! أنت بين يدي هرقل، وما منعك أن تكذب على محمد كذبة تنزل من شأنه عنده؟ قال: خشيت أن يأخذ علي كذبة فلا يصدقني بعد ذلك.
فهو رجل مشرك يحتاط لنفسه أن يكذب كذبة فتسقط كلمته.
فإذا كان أبو سفيان وهو مشرك، مع هرقل وهو مسيحي، ومروءة أبي سفيان وهو على شركه تأبى عليه أن يكذب فكيف بالمسلم.(76/2)
الاحتقار ناتج عن الحسد
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحقره) .
هنا -كما يقولون- محط الرحل، وعود على بدء، فأول الحديث (لا تحاسدوا) ، وأشرنا إلى أن سبب الحسد بين الناس هو الكبر من جهة والاحتقار من جهة أخرى، أي: احتقار صاحب النعمة واستكثارها عليه، كأنه ما يستحقها.
فالله أنعم عليه بالعافية، أو بالأخلاق، أو بمال، وأكثر ما يكون الحسد بين الناس على المال الزائد، أما الأدب والأخلاق والديانة فما يُحسد عليها، ويحسدون على الشيء الفاني العاجل.
فمنشأ حسد الشخص للآخر أن يحتقره أمام تلك النعمة عليه، وأول خطيئة في الخليقة حسد إبليس لآدم، والحسد يجر إلى الكبر، والكبر يجر إلى العصيان، والعصيان -عياذاً بالله- يطرد من رحمة الله.
وهناك مسألة أسميها فلسفة المعصية؛ فإننا وجدنا آدم قد عصى ربه ونسي، وإبليس عصى ربه وامتنع، فكلاهما وقعت منه المعصية، ولكن معصية آدم كانت أن الله سبحانه وتعالى نهى آدم أن يأكل من الشجرة فأكل، وإبليس أمره الله أن يسجد لآدم مع الملائكة فامتنع، فكلاهما وقع في معصية.
ولكن بالنظر إلى تحليل -ولا نقول: فلسفة- المعصية والدافع لها نجد أن آدم عليه السلام حينما أكل من الشجرة ما جاء بطواعية وإصرار، فقال: ما علي من هذا النهي، فأنا آكل على ما أريد، وإنما أتاه الشيطان وما زال يغريه، كما قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:21-22] ، وكذلك قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] ، وهما لا يريدان شيئاً غير الخلود في الجنة، فجاءهما من الطريق الذي يرغبان فيه، (وَقَاسَمَهُمَا) أي: حلف وأقسم لهما أنه ناصح، وهو كاذب، فزلت بهما القدم.
لكن لما عرف آدم أنه أخطأ تاب إلى الله، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] ، فتلقى الكلمات ورجع وأناب إلى ربه لأن معصيته لم تكن عن سبق إصرار، بل كانت عن جهالة ونسيان وخطأ.
ولكن إبليس أول ما رأى خلقة آدم جعل يطوف حوله ويضحك، وأخيراً قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، فمعصية إبليس كانت عن سبق إصرار وتكبر واحتقار لآدم، فهناك فرق بين المعصيتين، فكانت نتيجة معصية إبليس اللعن والطرد عياذاً بالله، ونتيجة معصية آدم أنه أناب إلى ربه فتاب إليه فاجتباه وهدى، وتلقى كلمات من ربه وتاب عليه.
وعوداً على بدء، ففي أول الحديث (لا تحاسدوا) ، فإذا سلم الإنسان من أن يحقر أخاه لن يحسده، وكل ما يراه من نعمة الله على أخيه يقول: (يستحق) و: (زاده الله) ؛ لأنه في نظره كبير، وليس في نظره حقيراً، فلا يقارن بين النعمة وبين هذه الشخصية إلا بالمعادلة الكريمة، فكلما أعطاه الله نعمة عظُم في عينه، لا أن يحقره على ذلك.
وفي مسألة الكذب يقول بعض العلماء: هناك مواطن قد يحسن فيها الكذب -ولكن لا نريد أن نتوسع فيها- ومن ذلك إذا كان الإنسان يسعى بالصلح بين متخاصمين لإصلاح ذات البين، ولكنه كذب ممدوح، بمعنى أنه علم أن اثنين متخاصمان، فيأتي إلى الأول ويعاتبه على خصومته لأخيه، ويخبره أن صاحبه نادم على ما يقول، وأنه يتمنى لقاءه، مع أنه ما سمع منه شيئاً، فهذا يبدي أيضاً رغبة في اللقاء، فيذهب إلى الآخر.
ويقول نفس الشيء، فيبدي رغبة في اللقاء، فيأخذ وعداً من كل منهما ويتلاقيان على المصافحة، وعلى الصفح، وعلى التلاقي والأخوة، فهذا لا بأس به.(76/3)
كرامة العبد بالتقوى
هناك نقطة جوهرية في الحديث، وهي موضع افتراق الطرق بين الناس، في قوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى ها هنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا) ، ويشير إلى صدره الكريم ثلاث مرات.
وبهدوء وبرفق نقف عند هذه الإشارة إلى التقوى في الصدر، والصدر فيه القلب، فإذا نظرت إلى سياق الحديث (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا) ، وجئنا إلى تصحيح ذاك الخطأ في التعامل، فالمسلم أخو المسلم، ولا يحق له أن يحسده، ولا أن ينجش عليه، ولا أن يبغضه، ولا أن يلقاه مدبراً عنه؛ لأنه أخوه، والمسلم لا يظلم أخاه، والمسلم لا يكذب على أخيه، والمسلم لا يحقر أخاه.
ويحقر الإنسان الإنسان لأنه صغر في عينه، فإما أن يكون فقير المال، وإما أن يكون نحيل الجسم، وإما أن يكون دنيء المنزلة، وغيرها من عوامل الدنيا التي يقيس بها الناس، فإذا كان فقيراً أو كان ضعيفاً أو لا منزلة له ولا حسب ولا نسب سقط من أعين بعض الناس.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يضع لنا قاعدة، بل قضية منطقية، فلماذا يحقر بعضكم بعضاً؟ أللفقر، أم لضعف الجسم، أم لعدم فصاحة القول؟ فهذه مقاييس فاسدة، وهذا مقياس باطل، لقد جاء القرآن الكريم وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، فمقياس الكرم، ومقياس الرفعة، ومقياس المنزلة العالية عند الله التقوى.
فمقاييس الناس عند الله بالتقوى، وكرم الناس عند الله بالتقوى، وهذا تصحيح للمفاهيم الخاطئة؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يعدون أكرمهم أرفعهم حسباً، وأغناهم، وأقواهم، وتصحيح الشريعة للمفاهيم الخاطئة في قضايا عدة، ومنها حديث: (ليس الشديد بالصرعة) ، فنحن نعرف الشخص القوي فينا أنه الذي يصرع الآخرين، فهذا هو المقياس عندنا.
فجاء الإسلام وصحح هذه الناحية، وقال: تلك قوة حيوانية، فهذا الشخص الذي يصرع اثنين الثور أقوى منه، وأقوى من أربعة من مثله، وكذا الحمار يحمل أكثر منه، فهي قوة بهيمية، ثم بين الشدة فقال: (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ، وليس في الحيوانات من يقدر على ذلك، وهذا خاص بالإنسان.
فصحح وعدل مقياس القوة في البشر بأنها قوة نفس، وقوة أخلاق، وقوة ضبط لأعصاب عند الغضب.
وفي تصحيح مقياس آخر يقول: (أتدرون من المفلس؟) ، أي من هو في نظركم ومقاييسكم المفلس؟ قالوا: المفلس فينا -يا رسول الله- من ليس له درهم ولا دينار ولا متاع.
أي ليس لديه فلس، وهذا مقياس عند كل الناس.
قال: (المفلس من أمتي يوم القيامة من يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وضرب هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرح عليه، ثم طرح في النار) .
فمن كان يخطر على باله هذا الإفلاس.
كالحال في الدنيا، كرجل عنده الملايين، ولكن أخذ من هذا وضيَّع، وأخذ من هذا وضيَّع، وأخذ من ذا ومن ذا، فجاء أصحاب الحقوق يطالبون بحقوقهم، حينها الحاكم يحجر عليه، ويبيع أملاكه ويوزعها على الغرماء، فكان ذا مال ورصيد في البنك ومن الغد أصبح صفر اليدين، لكن في الدنيا يمكن أن يعمل ويبدأ من جديد، فيقترض أو يعطف عليه الناس ويتصدقون عليه، لكن يوم القيامة لا يستطيع، فهذا من تصحيح المقاييس.
وهنا في الدنيا تحقر أخاك؛ لأنه لا مال له، وتعظم غيره؛ لأنه صاحب مال! فتحقر هذا؛ لأنه ضعيف نحيل، وتكرم ذاك؛ لأنه ذو جسد وجسم مهيب! وتحقر هذا؛ لأنه عيي لا يتكلم، وتعظم ذاك؛ لأنه فصيح خطيب بليغ! وتلك المقاييس المادية خاطئة وباطلة، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، وبالتقوى تكون الكرامة، والتقوى في الصدر، فلا تعلم حقيقة الشخص أمامك، ولا يمكن أن تحكم عليه بمظهره؛ لأن حقيقة الحكم عليه بالتقوى، والتقوى ليست أمراً ظاهراً، ولذا جاء في الأمثلة العملية منه صلى الله عليه وسلم أنه كان صلى الله عليه وسلم جالساً، فمر رجل ذو هيئة، فقال صلى الله عليه وسلم لرجل عنده جالس: (ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا -والله- حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا) .
فأنت قد تمتدح شخصاً لمنظر العين والأمر المادي المحسوس، وغيره إن خطب من عندك فلن تزوجه، وإن شفع عندك لا تقبل شفاعته، وإذا تكلم لا تسمع لكلامه، وتتركه، لكن هذا عند الله خير من ملء الأرض من ذاك، فهل المفاضلة بالشكل أم بما وقر في القلب؟(76/4)
حقيقة التقوى
علماء الحديث والسلف على المعنى المتقدم في معنى قوله: (التقوى هاهنا) ، وبعض الناس ذهب إلى فهم خاطئ، وقال: (التقوى هاهنا) ، معناه أنه إذا كان القلب تقياً فلا عليك من أي شيء بعد ذلك، ولو أنك ما صليت ولا صمت ولا حججت ولا زكيت ولا فعلت شيئاً، كما يقولون: طهِّر قلبك.
فهذه خدعة، ومتى يكون القلب طاهراً نقياً مليئاً بالتقوى وهو يترك الصلاة والصيام والزكاة والحج؟ فهل هذا تقي؟ بل شقي، فهذا فهم خاطئ فهمه بعض الناس.
وهذا مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] ، فيقول الصديق رضي الله تعالى عنه: من الهدى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فليس المعنى أن عليكم أنفسكم، ولا يضركم من ضل! فمن الاهتداء أن تأمروا وتنهوا، فإذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وقمتم بواجبكم فبعد هذا يتحقق قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] .
فالحديث بين أيدينا يصحح مفاهيم الناس، ويمنعهم أن يحتقر بعضهم بعضاً لأمور مادية، بل يقول: إن مقياس الكرامة ومنع الاحتقار إنما هو في التقوى، والتقوى ليست لها معالم ظاهرة، ولكنها تقر في القلب.
وقد جاء في الحديث الصحيح: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ، فكيف يدعي أناس أن القلب إذا ملئ بالتقوى اكتفى؟ فالحقيقة أنه إذا ملئ بالتقوى فاض على الجسم والجوارح كلها بالتقوى.
وجاء حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم مرّ على شخص يصلي ويعبث في الأرض أمامه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) .
فالقلب يسيطر على الجسم، فإن ملئ بالتقوى فكل الأعضاء تبع له، وكما يقولون: القلب هو الملك وسلطان الجسم، فكيفما يكون القلب يكون الجسم تبعاً له، فإذا كان تقياً طاهراً فالجسم كله تبع له.
فلتصحح المفاهيم في قوله صلى الله عليه وسلم: (التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا) ، رداً على من يحتقر غيره لأمر مادي.(76/5)
احتقار المسلم خطيئة موبقة
قال صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) .
(بحسب) أي: بكفيه، نقول: حسبي كذا.
بمعنى: يكفيني.
وامرؤ: مذكر امرأة.
لأن الأصل في الوضع في اللغة للمذكر، ويؤتى للمؤنث بالعلامة الفارقة، وهي الزائدة؛ لأن الزيادة تدل على الفوارق، فامرؤ مؤنثه امرأة.
وإذا كان التعبير هنا بلفظ المذكر فدائماً وأبداً يقولون: إن المذكر يغلب، فلو وجد مائة امرأة ومعهم طفل ذكر لرجع الضمير على المذكر.
فالمعنى: بحسب امرئ وامرأة كذلك من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
والآية الكريمة تفصل، حيث يقول تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] ، والسخرية قد تكون بالغمز واللمز، وقد تكون بالإشارة، وفي بعض الآثار أن بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت وخرجت، فواحدة قالت: حسبك منها أنها -أي: غير طويلة- وأشارت بيدها، فقال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ، ما قال: بماء العين؛ لأن مياه العيون عذبة، والماء العذب أقل شيء يغيره، لكن ماء البحر مالح، وملوحته وكثافة الملح فيه تجعله يحتمل الكثير، ولا يتغير إلا بالشيء الكثير جداً يزيد عن الملوحة وكثافته.
فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، وهنا يقول العلماء: في هذا اللفظ أيضاً مقارنة، فالشخص الذي يحقر الثاني لأي شيء يحقره؟ فإذا كان يرى نفسه مثله، فهل يحقره؟ وهل هناك إنسان يحقر إنساناً مثله؟ فلو أن طالبين كلاهما راسب في الفصل، أيحقر أحدهما الآخر؟ ولو كانا ناجحين أيتفاخر أحدهما على الآخر؟ إلا في حال كون درجات أحدهما أكثر، لكن لو كانت درجات كليهما متساوية فهل من حق أحدهما أن يفخر على الآخر؟ فلا يحقر الإنسان إنساناً وهو يرى نفسه مساوياً له، بل إن وجد نفسه على قمة الجبل ووجد الثاني ينحدر في الوادي فحينئذ يحقره، أو كان يسكن في قصر عالٍ جداً وهذا في كوخ، أو كان يركب فرساً جواداً، وذلك يمتطي سلحفاة.
فلا يحقر إنسان إنساناً إلا إذا رأى لنفسه عليه فضل زيادة، وفضل الزيادة المقابل للاحتقار التكبر، ولذا يأتي الحديث: (العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعنى في شيء منهما عذبته) ، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) .
ولذا كان جزاء الاحتقار قوله: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه) ؛ لأن من لوازم احتقاره لأخيه المسلم أن يتعاظم في نفسه، وإبليس ما حسد آدم واحتقره إلا حين رأى نفسه أنه من عنصر ناري فوق الخلق، فكانت الطامة عليه، عياذاً بالله.(76/6)
كل المسلم على المسلم حرام
وعوداً على بدء مرة أخرى ينتقل الحديث إلى الخاتمة، فلا تظلم أخاك المسلم، ولا تنجش عليه فتزيد في الثمن ليؤكل ماله بالباطل، ولا تحقره، واحفظ عرضه، ولا تسخر منه.
وفي قوله: (كل المسلم على المسلم حرام) إشارة إلى أن المراد كل المسلم، فما قال: كل المسلمين؛ لأن السور الكلي يحيط بالفرد، وإنما المراد المسلم بمجموعه، ومجموع المسلم هيكله وجسمه وماله وعرضه وسمعته، أي: بهيكله حساً ومعنى، فالمسلم كله بمجموعه حرام على المسلم الآخر.
ونص صلى الله عليه وسلم على أمور أساسية، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعد الإجمال بالتفصيل، وبدأ بدمه ثم ماله ثم عرضه، وأهم ما في الإنسان دمه، أي: نفسه، وماله الذي يكتسبه، والمال صنو النفس، وعرضه الذي إذا مات في سبيل الدفاع عنه مات شهيداً.
فالإنسان قد يخاطر بنفسه في سبيل حماية عرضه، وقد يخاطر بنفسه في سبيل حماية ماله، فالثلاثة متساوية، النفس والمال والعرض.
وإذا كان دم المسلم على المسلم حرام، فلا يجوز له أن يسفك قطرة منه، فهي حرام، وهذا الأمر بالذات يعلنه صلى الله عليه وسلم في أعظم المواقف وأشدها حرمة، وهو يوم الحج الأكبر، فبعد أن حج الناس، وطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، وجاؤوا إلى عرفات، وفي عشية عرفة يتجلى المولى سبحانه يباهي بهم الملائكة، ورموا الجمرات، ونحروا الهدي، وجعلوا الشعر، فإنهم يتطهرون من ذنوبهم، ويخرجون منها كيوم ولدتهم أمهاتهم.
فأصبحوا في طهارة ونقاء، فليلزم كل إنسان تلك الصفة، وليحافظ عليها، ولا يدنسها ولا يكدرها بشيء، ففي يوم الحج الأكبر قال صلى الله عليه وسلم: (أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟، أي بلد هذا) ، فكلما سأل صلى الله عليه وسلم كانوا يسكتون، قال الرواي: حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
فلعله يأتي الوحي ويغير الأسماء، وأخيراً قال: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا) .
فأروني صيغة تحذير مثل هذه! فيحرم الرسول صلى الله عليه وسلم دماء الناس وأموالهم وأعراضهم فيما بينهم حرمة مكررة مضاعفة ثلاث مرات كحرمة اليوم والشهر والمكان، فهل بعد هذا يستبيح مسلم دم مسلم؟ لا والله.
والأصوليون يقولون: إن شرائع الإسلام كلها، والشرائع السماوية ما جاءت إلا لتحمي تلك الأمور الخمسة التي هي: الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسب ومعه العرض.
فتلك الخمس إذا صينت في أي مجتمع كان مترابطاً، وكان مجتمعاً سعيداً، وإذا ما ضاعت تلك الأمور في أي مجتمع فلا قوام له، فمجتمع بلا دين لا يوجد، ولذا يقول علماء الاجتماع: لا يمكن أن تجد أمة بلا دين، سواء أكان صحيحاً أم باطلاً، فمن الممكن أن ترى مدينة بلا ملعب ولا مسبح، أما بدون معبد فلا يمكن أبداً، فلا بد من الدين، فالدين أمر فطري، وقد يخطئ الناس فيه وقد يصيبون.
وكذلك حفظ النفس، فالحيوان يدافع عن نفسه، وهل وقعت خصومة بين اثنين إلا من إحدى الطرق الثلاث، إما اعتداء على الدم، أو على المال، أو على العرض، فإذا حفظت النفس وحفظت الأموال وصينت الأعراض فلا خصومة في المجتمع بعد ذلك.
فكل المسلم على المسلم حرام، ويتبع حفظ الدم حفظ الجوارح أيضاً، حتى جاء أنه كان الصحابة مجتمعين، فقام رجل وبيده حبل يجره، فقام رجل وأمسك بالحبل فأفزعه، فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفزع المسلم أخاه، ونهى المسلم أن يأخذ عصا أخيه جاداً أو هازلاً، فتأخذها تمزح معه وتروعه فيها، فيبحث عنها وأنت لا تريد سرقتها، ولكن تريده أن يبحث عنها قليلاً، فلا يجوز لك أن تخيفه بهذا الأمر، أو أنك تحزنه، أو أنك تفزعه في هذه الأمور.
والمال قل أو كثر لا يجوز لإنسان أن يأخذه من أخيه إلا بطيب نفس، ولو كان أقل ما يمكن أن يسمى مالاً، وكذلك عرضه لا يعتدي عليه، والعرض ليس معناه النسب فحسب، بل شخصه وذاته كذلك، ولذا حرم صلى الله عليه وسلم وحرم القرآن الكريم أن تغتاب أخاك المسلم، وجاء في الحديث أن ابن عمر نظر يوما إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) .
والله تعالى يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12] ، ولما سأل الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) ، والبهتان أن ترمي الشخص بما ليس فيه، والاغتياب: أن تذكره بما فيه.
فإذا كان لك عنده حق فما لك وله، ولماذا تذكره بما يكره؟ فنجد هذا الحديث النبوي الشريف في أعلى مراتب الكمال في الإسلام، ولذا يذكره الإمام مسلم -كما ذكر هنا النووي - في باب البر والصلة.
ويضاف إلى هذا الحديث الحديث الآخر: (حق المسلم على المسلم ست) ، فهنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا يظلمه ولايخذله، ولا يكذبه ولا يحقره) ، فأضف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) .
ولو أن المجتمع الإسلامي وقف عند هذا الحديث، وأعطى كل إنسان حق أخيه عليه، فهل سيوجد في العالم مجتمع فوق هذا؟ فـ أفلاطون يتكلم عن المدينة الفاضلة، ويتخيل مدينة مثالية خيالية في أهلها وأصحابها، لكن هل هناك مجتمع أفضل من هذا المجتمع المسلم في هذه الآداب؟ لا والله! وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا يخطب على خطبته) ، فإذا كان الخاطب الأول عنده زوجتان أو ثلاث ويريد أن يتزوج الرابعة، والآخر ما تزوج بعد، أو كان الخاطب الأول على النصف في الاستقامة، وهو يرى في نفسه كثرة استقامة فليس له أن يذهب ويخطبها ويبعدها عن ذاك الشخص ما داموا قد ركنوا إليه، والغالب أن أهل المرأة لا يركنون إلا بعد البحث، اللهم إلا إن كنت تعلم من أمر الخاطب ما لا يرتضيه الله في دينه أو دنياه، أما لو كان عنده ثلاث أو اثنتان أو عشرون جارية وزوجتان، فليس لك شغل في هذا، وأما أمر الدين في الأمور الظاهرة فإنهم إن جاءوا يستشيرونك فلك أن تبين بقدر الحاجة في بابها، وما عدا ذلك لا حق لك فيه، وما يدريك لعلها تسعد مع ذاك أكثر من سعادتها معك! فلا ينبغي للإنسان أن يرى في نفسه الخير على غيره، ويتقدم إلى خطبة المرأة نظراً لأنه أحق بذلك، فإذا ركنوا إليه فلا تتقدم بعده.
والله تعالى أعلم.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الإخوة المتحابين في الله، العاملين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(76/7)
شرح الأربعين النووية - الحديث السادس والثلاثون [1](77/1)
تفريج الكرب عن المؤمن وجزاؤه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وسيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم بهذا اللفظ.
إن هذا الحديث المبارك الطويل يشتمل على عدة أمور، وكلها توجيه إلى الخير، من تعاون بين المسلم وأخيه، وسلوك الطريق القويم، وطلب العلم وذكر الله سبحانه وتعالى.
ويبدأ الحديث بهذه الجملة النبوية الكريمة: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) .
و (نفَّسَ) على وزن (فعَّلَ) من النَّفَس، والنفَس هو الذي به قوام الحياة، وإذا منع النفس عن الإنسان فقد حياته، وهكذا جميع الحيوانات لابد لها من التنفس، فإذا ما ضيق الخناق على إنسان، وضيقت عليه مجاري التنفس قرب من الموت، واشتدت كربته، إلا إذا جاء إنسان وفك هذا الخناق ونفَّس عنه، أي سمح للنفَس أن يجري.
وما من كربة أشد على الإنسان من أن يُخنق خنقاً ويمنع النفس حتى يوافيه أجله، وما من نعمة على الإنسان أعظم من أن يسمح له أن يتنفس نسيم الحياة.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يشبه كل كربة تقع بأي إنسان يضيق بها صدراً ويضعف عندها بالشخص الذي خُنق وضُيق عليه الخناق، ولا يدري ماذا يفعل، فيأتي إنسان فاعل خير ينفس عنه تلك الكربة أياً كان نوعها، سواء أكانت في بدنه، أم في ماله، أم في عياله، أم في عرضه، أم في أية مهمة من مهام حياته.
كالحال في إنسان مريض ضاق صدراً بمرضه، وجاء طبيب وأعطاه الدواء، ووافق فضلاً من الله وتعافى، كان ضيق النفس فأصبح مستريحاً، فلو أن شخصاً رأى آخر قد أخذه (الربو) حتى ضاق صدره، فجاء وأعطاه ما ينفس عنه فقد نفس كربته.
أو كان إنسان مديناً، وضاق ذرعاً بدينه، وأصبح لا يستطيع أن يواجه الغرماء، فجاء إنسان وكلّم غرماءه ليمهلوه ويصبروا عليه، أو يضعوا من ديونهم فإنه يكون قد نَفَّسَ عنه، أو جمع له من أهل الخير ودفع الدين عنه فإنه يكون قد نفس عنه كربة من كرب الدنيا.
وكذلك لو سُجِن في أمر مادي، فذهب وشفع وجمع المال وخفف من سجنه فإنه يكون قد نفس عنه.
وهكذا في جميع أموره، كما لو كان ولده سجيناً، أو مريضاً، أو كان مكروباً بأية حالة من الحالات، فسعى في رفع كربته بأية حال يكون قد نفس عن مؤمن كربة.
وكل ما يشق على الإنسان في حياته فهو كربة، وكل من يخفف عنه تلك المشقة فهو منفِّس عنه.
وتقدمت الإشارة إلى أن الحياة معاوضة، وأن مطالب الناس فيها إما جلب النفع، وإما دفع الضر، فكل من جلب لك نفعاً كان لك فيه نظرة، وكانت لك به علاقة عاطفة ومودة بقدر ما جلب لك من نفع، وكذلك دفع الضر.
وقد وصف القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الوصفين وزيادة، قال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، فكل ما فيه عنت على الإنسان يشق عليه صلى الله عليه وسلم أياً كان ذلك.
ومن أمثلة ذلك: ما كان منه صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج لما كلِّف بخمسين صلاة، وقال له كليم الله موسى عليه السلام: هذا أمر كثير! بلوت بني إسرائيل قبلك بأقل من ذلك فلم يطيقوا، فارجع إلى ربك فسله التخفيف فرجع، ونفَّس عن الأمة، فبعد أن كانت خمسين أصبحت خمساً.
وفي رمضان صلى في المسجد وصلى جماعة بصلاته، ثم صلى الليلة التالية فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: (قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم) .
وكذلك قوله وقد أخر صلاة العشاء (إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) .
(لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء مع كل صلاة) .
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف؛ شفقة على أمه) .
، فالأم حين تكون في الصلاة وتسمع ولدها يبكي تكرب لأجله وتنشغل فنفَّسَ عنها.
فكل إنسان يسعى بشفاعة أو بمال أو بأية وسيلة من الوسائل ينفِّس عن المؤمن كربة، فالجزاء من جنس العمل، ففي يوم القيامة ينفس الله عنه كربة مقابل تلك، وكرب القيامة ليست مثل كرب الدنيا، فكرب الدنيا مهما كانت ستمضي، وآخرها الموت، بخلاف كرب القيامة.
ولو تتبعنا حياة الآخرة كما جاء في النصوص -وهي عندنا يقين أكثر من يقيننا بأنفسنا- فإننا سنجد أنه من أول خروج الروح يضيق الإنسان، فإذا ما حشرجت الروح وبلغت الحلقوم فكيف يكون حال الإنسان؟ وحينئذ ينفِّس الله عنه كربة.
فإن خرجت الروح جاء إلى القبر وسئل، وكم من كربة هناك، فينفس الله عنه من كرب القبر.
فإذا جاء المحشر يوم القيامة، وجاء الموقف، وجُمع الناس يلجمهم العرق، فمنهم من يصل العرق إلى قدميه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى صدره، ومنهم من يصل إلى فمه، وكل ذلك من كربات يوم القيامة، فينفس الله عنه.
كذلك عند تطاير الصحف لا يدري الإنسان من أين يأتيه كتابه، فيُكرب عندها، ويفرج الله عنه.
وكذلك حينما يرد الناس على حوضه صلى الله عليه وسلم ويذاد أقوام كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] .
وفي ذلك اليوم يقول تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] .
هناك يناديهم المنافقون فيقولون -كما حكى الله تعالى عنهم-: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] ، وأيّ كربة أشد من ذلك؟ وهكذا عند الميزان، وكل مواقف القيامة كرب، ويفرج الله سبحانه على عبده مقابل ما فرج عن أخيه في الدنيا.
وأيهما أحب إليك؟ أن تسعى لتفرج كربة أخيك المسلم في الدنيا مقابل تفريج كربة عنك يوم القيامة، أم أن تضيق عليه فيُضيق عليك؟! وإنك إن استشعرت ذلك فوالله لتدفعن المال، ولتعملنَّ جاهداً بقدر استطاعتك، ما دام أن المسألة فيها معاوضة إلى هذا الحد، فكل إنسان يخشى كرب يوم القيامة.
وانظر إلى عطاء المولى سبحانه، وهذا لأنك حينما تسعى لتفرج كربة المؤمن فإن هذا المؤمن عبد الله.
وإذا كان جار لك مسافراً، وأولاده في بيتك أو في بلدك، وأصاب أحدهم مكروه، وقضي عليه ما قضي، فذهبت في غيبة والده إلى المستشفى، وقمت باللازم وكأن والده موجوداً، وأنهيت المشكلة، فإذا جاء أبوه فماذا سيفعل لك؟ وكيف يقدر لك هذا الجميل؟ فإذا كان في حق العبد مع العبد في نطاق محدود فرب العزة سبحانه -ولله المثل الأعلى- أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
فكيف حالنا مع بعضنا؟ هل نأتي بالمشاكل على بعضنا، ونضيق الخناق، ونسعى في الإيذاء، أو أننا ننفس عن كرب إخواننا؟ أعتقد أن الطريق السوي واضح، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) .(77/2)
فضل التيسير على المسلمين في الدين
قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) .
التيسير: الرخاء، والتعسير: الصعوبة، فإذا كان الإنسان مع أخيه المؤمن فلييسر في معاملته، فإذا جاء وطلب منك أمراً يسرت عليه، سواء أكان في أمر دين أم أمر دنيا، يقول العلماء في هذه: إن جاء إنسان واستعار منك شيئاً فتلفت تلك العارية، فقل: لا عليك، أنت في سعة حتى يتيسر لك ردها.
أو اقترض منك وجاء الأجل ولم يستطع السداد، فلا تعسِّر عليه وتكرب أمره، بل يسِّر له وافسح له في المدة، واجعل له من أمره فرجاً، فإن يسَّرت عليه وهو معسر لا يستطيع السداد فاسمع ما قاله صلى الله عليه وسلم: (من أنظر معسراً فله بكل يوم مِثْله صدقة) ، فإن تصدقت فلك بالصدقة حسنة، وإن أقرضت وأنظرت المعسر كان لك بكل يوم مِثْله صدقة.
وقد تتصدق على إنسان في غنى، أو ليس في شدة حاجة، أو أن من عادته أن يسأل، فإن لم تعطه أنت أعطاه غيرك، ولكن المقترض لا يأتيك إلا عند الشدة وعند الحاجة، وقد لا يجد من يعطيه، فإذا حل الأجل وأنظرته كان لك في كل يوم كأنك تصدقت عليه بهذا الدين.
ومن التيسير ما قاله العلماء: لو أن إنساناً جاء واستفتى طالب علم، وعنده في فقه المسألة طريقان: طريق وعر شديد صعب، وطريق هين ميسر، فأيهما الأولى: أن يسلك به طريق الصعوبة والعسر، أم يسلك به طريق السهولة واليسر؟ قالوا: الأولى أن يسلك به طريق اليسر لا طريق العسر، مادام موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله.
يحكى أن ملكاً بالأندلس في ذات مرة في رمضان واقع أهله، فأحضر المفتي وسأله: ما كفارة الوطء في نهار رمضان؟ قال: صوم شهرين متتابعين.
فلما اجتمع به العلماء قالوا له: لماذا لم تذكر له العتق؟ قال: خشيت أن أقول له: العتق والعبيد عنده بكثرة، فيتساهل ويعتق ويواقع أهله، فجئته بصيام شهرين لأنه يعجز عن ذلك.
فمع من الحق؟ هل مع هذا الذي سلك طريق الصعوبة، أم مع الثاني الذي معه النص، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه أعرابي يضرب صدره، وينتف شعره، ويقول: هلكت وقعت على امرأتي وأنا صائم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا والله قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام.
-يعني عجزت عن شهر رمضان، فهل صوم شهرين؟ - قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: والله ما عندنا شيء.
ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فقال: أين السائل؟ فقال: أنا.
قال: خذ هذا فتصدق به.
فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: أطعمه أهلك) .
فأي يسر بعد هذا، وقد جاء في سياق الحديث أنه لما وقع منه هذا الشيء ذهب إلى جماعته فقال: قوموا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي أجد عنده حلاً لهذه المشكلة.
قالو: اذهب وحدك، نخشى أن ينزل علينا عذاب.
فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته بوعاء فيه تمر، جاءهم، فقال: جئتكم فلم أجد عندكم إلا الشدة والقسوة، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده الرحمة.
فطالب العلم ليس صاحب سلطة وعصا وقسوة يهلك العباد، فإذا وجدت طريقاً ميسراً يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله فاسلكه، فهذا الواجب عليك.
ثم إن هذا المفتي الذي أفتى الملك بالأندلس قال له العلماء: أخطأت في ذلك؛ لأن الشرع حكيم والرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بالعتق أولاً، ثم انتقل من العتق إلى الصوم، ومن الصوم إلى الإطعام، ألا ترى أن الملك لو صام عشرين شهراً بدلاً عن شهرين فلن ينفع الناس بصيامه شيئاً، بل يمكن أن يعجز عن أداء مهمة ملكه، ولكن إذا أعتق رقبة واحدة ألا تتحرر تلك الرقبة، وكل من يأتي من نسلها يكون محرراً إلى يوم القيامة؟! فأيهما أولى -كما يقول الأصوليون-: النفع المتعدي أم النفع القاصر؟ المتعدي بلا شك.
وفي الحديث أن تاجراً ممن كان قبلنا كان يوصي عامله: خذ ما تيسر واترك ما تعسر، وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا.
فقال الله سبحانه وتعالى: (قد تجاوزت عنك) .
إذاً: فالمولى سبحانه وتعالى يعامل الإنسان بمثل معاملته لخلقه، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يرفق بالناس في كل حال، وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (: ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ، ولماذا تجد طريقاً سهلاً معبداً فتتركه وتذهب إلى الوعر في قمم الجبال؟ ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا) .
وإذا نظرنا في العبادات فالأمر كذلك، فقد جاء أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ورجع إلى أهله، وبعد سنة جاء وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلم فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامه، وكأنه لم يحتف به، فقال: ألم تعرفني يا رسول الله؟ قال: (من أنت؟ قال: أنا الذي جئتك العام الماضي في كذا وكذا.
قال: فإنك أتيتني وجسمك ولونك وهيئتك حسنة، فما بلغ بك ما أرى؟ قال: مذ فارقتك ما أفطرت يوماً.
قال: صم يوماً من الشهر.
فقال: زدني قال: فصم يومين.
حتى قال: فصم ثلاثة أيام من الشهر) .
وعبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم بالقرآن كاملاً في الليلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتقرؤه في ليلة؟ قال: نعم.
قال: اقرأه في عشرين.
قال: دعني استمتع بقوتي.
قال: اقرأه في خمس عشرة، إلى سبع ليالٍ) وهذا في مسند أحمد رحمه الله، وبعضهم يقول: نزل معه إلى ثلاثة ليال.
وذكر الآخرون أنه كان يصوم ولا يفطر، فخيره النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبُر قال: (يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه) .
فحينما يسلك الإنسان طريق اليسر يستطيع أن يواصل إلى ما شاء الله.
مثلاً: أنت تريد أن تأتي إلى مكة تمشي على قدميك على افتراض أنه ليس هناك سيارة ولا طائرة، ومشيت على سعة، فحينما تتعب من المشي تجلس في ظل شجرة ثم تواصل السير، وإذا جاءك النوم نمت، فإنك لو أردت أن تتجاوز البحر إلى السودان وأفريقيا والمغرب إلى ما شاء الله فإنك تستطيع أن تواصل، وعقلاً يمكن ذلك.
لكن إذا ذهبت جرياً إلى أقصى ما تستطيع من الجري، أتستطيع أن تصل إلى منطقة قريبة؟ وهكذا إذا أخذ الإنسان طريق اليسر فإنه يستطيع أن يواصل إلى ما شاء الله.
ولهذا -كما يقول العوام- الدين يسر، بل جاء الحديث: (عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا) ، وقال صلى الله عليه وسلم:.
(ولن يشادّ هذا الدين أحد إلا غلبه) ، فتعمل بقدر استطاعتك، ولما دخل صلى الله عليه وسلم فرأى حبلاً معلقاً في السقف سأل: لمن هذا؟! فقيل: لـ زينب، إذا غلبها النوم أمسكت بالحبل.
فقال: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم النوم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب نومه؛ إن أحدكم لعله أن يذهب يستغفر الله فيسب نفسه) .
وقال: (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى) .
فمبدأ الإسلام التيسير، والله سبحانه وتعالى قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6] .
فسمة الإسلام التيسير، وليست التعسير، فمن يسر على مسلم في أي شيء من أمور الدنيا كالمعاملات أو في أمور الدين كالعبادات، أو في أي شيء ما دام في نطاق الحق ولم يخرج عنه يسر الله تعالى عليه.
ويكفي في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وأقدرهم على طاعة الله ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.(77/3)
فضيلة ستر المسلم
قال صلى الله عليه وسلم: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) .
بعض العلماء يقف وقفة تنبيه عند الألفاظ، فالحديث في أوله (من نفس عن مؤمن) ثم: (من يسر على معسر) ، وهناك قال: (من ستر مسلماً) .
ففي تنفيس الكرب جاء بالمؤمن، وستر العورة جاء فيه بالمسلم، مع أن في بعض ألفاظ الحديث أيضاً ذكر المؤمن، كما في: (الرحلة في طلب العلم) .
يقول العلماء: الكربة قد تكون ظاهرة أو خفية، والإيمان من أعمال القلب خفي.
فأركان الإيمان كلها اعتقادية، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وكلها خفية، لكن الإسلام صلاة وصيام وزكاة وحج، وكلها أمور ظاهرة.
فكذلك ستر العورة، فأكثر ما تكون تكون ظاهرة، وأما في أي شيء يكون ستر العورة، فبعضهم يقول: في العورة الشرعية الحسية التي تبطل الصلاة بانكشافها.
فإذا وجدته فقيراً ما عنده ثوب أعطيته ثوباً وسترته، أو وجدت إنساناً بلغ ويريد الزواج، ويخشى على نفسه العنت، ويريد أن يستر عورته ساعدته على الزواج، فهذه عورة أيضاً تتصل بالعورة الأولى، وساعدت على ستر عورته حساً.
ولكن معنى الحديث أعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما جيء بـ ماعز قال لـ خالد: (هلا سترته بردائك بدل أن تأتيني به) .
فالستر على المسلم في عورته في كل ما يخشى أن يفتضح فيه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) ، فإذا ما كان إنسان مستقيماً وزلت به قدمه في أية ردية كانت، فقال باللسان وأخطأ في غيبة إنسان، أو يد امتدت إلى شيء مما لا يليق، أو زلت به قدمه إلى حد من حدود الله ولم يرفع إلى ولي الأمر فإنك تستره.
جاء رجل إلى ابن مسعود وقال أنا ذاهب إلى الشرط أستدعيهم، قال: لماذا؟ قال: جارنا فلان يشرب الخمرة.
قال: ارجع، هل نصحته؟ قال: لا.
قال: اذهب إليه فانصحه أولاً.
والذي يهمنا أن ستر العورة يكون للعورة الإنسانية البشرية، ويكون لمعنى أعم من ذلك، سواءٌ أكان في النكاح وستر الإنسان أم في ارتكاب خطيئة.
ولـ أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قصة يذكرنا بها هذا الحديث، فإنه رضي الله عنه سمع أن الحديث في مدينة الفسطاط بمصر، فشد رحاله راحلاً في طلب هذا الحديث إلى مصر، فلما قدم الفسطاط أمر من يستأذن له على الأمير، وقال: فلان عندك؟ قال: مرحباً أبا أيوب الأنصاري، ما حاجتك؟ قال: لي حاجة عند فلان، فابعث معي من يدلني على منزله.
فذهب معه من يدله على منزله، فقال: قل له: أبو أيوب في الباب، فأخبره، فجاء الرجل وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب إلى مصر؟ انزل.
قال: لا.
سمعت حديثاً لم يبقَ أحد سمعه إلا أنا وأنت فجئت أتوثق منه، سمعنا حديثاً في ستر عورة المسلم.
قال: نعم.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر عورة مسلم في الدنيا ستر الله عورته في الدنيا والآخرة) ، فلوى عنان بعيره وقفل راجعاً، فقال له: انزل.
قال: لا.
وهنا نعلم أن العلماء رضي الله تعالى عنهم وأصحاب رسول الله وأهل الحديث ما كانوا يرحلون لزينة ولا لزخرف، ولا لأي شيء إلا لطلب العلم، وإذا حصل طلبته عاد حالاً.
وفي هذه القصة يقولون: ما أدركت جائزة الأمير أبا أيوب إلا بعد أن وصل العريش، فالأمير أرسل بجائزة وهدية إلى أبي أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصاحب الهدية أسرع وراءه فما أدركه إلا في العريش، وما كان هناك قناة السويس؛ إذ كانت الصحراء متصلة عائد إلى المدينة.
ومن المناسبة التنبيه إلى ما يتخصص فيه طالب العلم ويتفرغ لعلمه الذي جاء إليه أو لمهمته في مادته التي ابتعث من أجلها.
يقولون في ترجمة ابن القاسم صاحب مالك لما جاء إلى المدينة: جاء الفيل في يوم من الأيام فهرع الناس كلهم ينظرون إلى الفيل، وبقي ابن القاسم عند مالك، فقال له: لم لم تقم تنظر إلى الفيل وليس بأرض قومك؟ قال: إنما جئت أطلب العلم من مالك، ولم آت لأرى الفيل.
فهذا جاء لطلب العلم، وما أغراه شيءٌ من الغرائب.
وكذلك أبو أيوب، ونحن نعلم طبيعة الصحراء وطبيعة الجزيرة وطبيعة المدينة، ونعرف طبيعة مصر بنيلها وبأشجارها وبهواءها وبكل ما فيها، فلم يغره شيءٌ من ذلك كله ليجلس أو يستريح من السفر يوماً أو يومين، بل جاء في طلب علم وحصّله ورجع.
فرحل أبو أيوب من أجل هذا الحديث من المدينة إلى فسطاط عمرو بمصر من أجل أن يتثبت في هذا الحديث.
يقول العلماء: الستر على المسلم ما لم يفضح نفسه هو، بمعنى أن يجاهر ولا يبالي.
فهذا الشخص الذي لا يبالي بشعور الناس ولا بإحساسهم قد هتك ستر نفسه، أما الشخص الذي يستتره والذي يستحيي، والذي يقع منه الخطأ على غير قصد فهو الذي يستره والعصمة في البشر للرسل فقط.
فليس في البشر معصوم إلا الرسل، فلا ينبغي لإنسان أن يبادر حالاً، ولا ينبغي لإنسان أن يتتبع عورات المسلمين، وفي بعض الآثار: (من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) ، فدل أن تستره تتبعه حتى تكشف أمره! فهذا لا ينبغي.
وإذا جئنا من ناحية المروءة والإنسانية فإن الوقوع في زلة مرض وخطأ، فإذا وجدت إنساناً مريضاً أتزيده مرضاً على مرضه، أم تحاول أن تداويه ليتشفى من هذا المرض؟! وإذا كنت تمشي في الطريق وفيه حفره، ووجدت إنساناً في غفلة منه سقط في تلك الحفرة، أتأتي وتهيل عليه التراب، أم تقول: لا بأس عليك.
وتمد يدك إليه، وتنبهه إلى أن يحذر في المرة القادمة، فأيهما ينبغي للإنسان وتقتضيه مروءته؟ فهذه الفقرة من هذا الحديث لو وقف عندها إنسان وكررها مراراً فإنها تنفعه، فليحذر المسلم أن يتتبع عورات الناس، وإذا وقف على شيءٍ قدراً لا ينبغي أن يشيعه، ولا ينبغي أن يفضح إنساناً وهو قادر على أن يستره، ولو شفع في أمره قبل أن يصل إلى السلطان فلا مانع، ولكن إذا وصل إلى الحاكم فهناك لا شفعة، ولا تدخل لأحد.
قال صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) .
الله رب العزة مالك الملك بيده ملكوت السموات والأرض يكون في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.
وما سعة عونك أنت، وأنت تحتاج إلى من يعينك، ولكن -تفضلاً من الله- مادمت في عون عبد من عباد الله يكون الله في عونك.
فإنسان له عدة أولاد، فقدم إنسان معروفاً لأحد أولاده، فهو بالجبلة يشفق عليه، أو يكرمه، أو يحفظ له جميله، ورب العزة سبحانه الذي بيده ملكوت كل شيء وإذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون؛ يكون في عونك مقابل أن تكون في عون أخيك.
فتنفيس الكربة عن المكروب عمل في عونه، وستر عورة إنسان عمل في عونه، والتيسير على معسر عمل في عونه، فكأن هذه الجملة تذييل على كل ما تقدم، فما دمت في عون أخيك في كشف كربته، أو ستر عورته، أو تيسير أمره فالمولى سبحانه في عونك، وهل أتريد أن تتخلى عن عون الله؟ فهو طريق يُسِّر لك وفُتِح أمامك لتستجلب عون الله، وفي الحديث: (يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني! قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟!) .
والنصوص في هذا كثيرة يبين سبحانه وتعالى فيها أن من يحسن إلى عبد من عباد الله كأنه أسدى الجميل إلى لله كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ، والله في غنى، والله هو الذي أعطاك، لكن عليك أن تعطي عبده حتى لا يعاتبك: مرض عبدي جاع عبدي عري عبدي، كما في الحديث: (يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! قال: يا رب! وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدتني ذلك عندي؟) ، أي: أكافئك وأجازيك.
فالذي يفعل الخير مع عباد الله متعامل مع الله، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] .
وبهذا الوعد الصادق: (والله في عون العبد) ، تأتي آحاد الجزئيات، فمن اقترض وهو ينوي السداد فالله في عونه حتى يسدد، من تزوج بنية العفاف فالله في عونه.
وكانت أم المؤمنين ميمونة تقترض.
وهي في غنى عن القرض، فقيل: كيف تستدينين وليس عندك وفاء؟ قالت: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ دينا وهو يريد أن يؤديه أعانه الله عز وجل) .
فقوله:: (والله في عون العبد) ، فيه مقابلة عجيبة؛ فرب العزة سبحانه يكون في عونك مقابل أنك في عون أخيك، مثل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث:: (من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً) ، فاللهم صل وسلم وبارك عليه.
فهل هناك أسمى وأكمل وأطيب من هذه التوجيهات النبوية الكريمة، فبعد هذا التوجيه ينبغي أن يكون بعضنا عوناً لبعض، كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، ولا يكن بعضنا على العكس للآخر يكيد له ويضايقه وصدق صلى الله عليه وسلم في قوله:: (والله في عون العبد) ، حتى قالوا: إن كلمة العبد أعم من مؤمن ومسلم، فلو جاءك ذمي أو معاهد أو مشرك، وطلب منك العون على أمر دنيوي وعاونته فإن الله يعينك.
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل كبد رطبة أجر) ؟ فإذا كان الأجر في الحيوان فكيف ببني الإنسان؟! لما سقت المرأة البغي الكلب لشدة عطشه رحمها الله.
والمرأة لما حبست الهرة فلم تطعمها ولم تتركها عذبها الله في النار.
إذاً: فالإنسان كيفما كان مشركاً أو كافراً أعنه في أمر الدنيا.
وأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه مر في المدينة فإذا برجل(77/4)
العلم وفضله(77/5)
فضل العلم والعلماء
يأتي ختاماً لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) ، ما معنى سلك؟ السلك: هو الخيط الصغير تسلكه في عين الإبرة.
(طريقاً) الطريق: فعيل من الطَّرْق.
والطَّرْق: الدق.
فالطريق تطرقه بقدميك.
فقال:.
(من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة) .
فإذا جئنا إلى جانب من العرض النبوي الكريم نقول: تلك الأبواب المتقدمة لا يستطيع إنسان أن يلجها كلها إلا عن طريق العلم.
وإن جئنا من جانب آخر قلنا: كلها طرق خير مفتحة، ولكن طلب العلم خير من ذلك كله؛ لأن طلب العلم أوسع أفقاً، ويستطيع طالب العلم أن ينتفع وينفع أكثر من أولئك جميعاً، ولذا جاء الحث على طلب العلم، وهذا باب واسع جداً، أوسع من تلك الأبواب المتقدمة.
وأُلِّفت التآليف في ذلك، وأحسن ما ألف في هذا لـ ابن عبد البر: (جامع العلم وفضله) ، وما من كتاب إلا وفيه بيان فضل العلم.
وأعلى قمة لشرف طلب العلم والعلماء هذا السياق الكريم، وهو قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] .
فمن الذي شهد؟ الله الذي شهد أنه لا إله إلا هو، فالشاهد الله، والمشهود عليه (أنه لا إله إلا هو) .
وَالْمَلائِكَةُ عطف على شهادة الله، والثالث أُوْلُوا الْعِلْمِ فيكفي شرفاً لأهل العلم أنهم ثالث ثلاثة في الشهادة على أعظم شيءً في الوجود، وهو وحدانية المولى سبحانه؛ لأن غير أهل العلم لا يعرفون ذلك، فلا يعلمون ولا يشهدون.
ويأتي قوله تعالى من باب المقارنة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] .
فهل تستوي الظلمات والنور، أو الظل والحرور؟ فشرف العلم وطلبه باب واسع جداً لا يستطيع إنسان أن يوفيه في حديث أو حديثين.
ولكن نأتي بدعابة علمية، أو ببيان لطالب العلم في آثار تفضيل العلم، وهو أن الله سبحانه وتعالى كرّم كل فرد عالم في جنسه على عموم الجنس.
فالمولى سبحانه وتعالى حينما أخبر الملائكة أنه يستخلف آدم، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] ، فالملائكة قالت: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} فلم يقل: أقدر.
ولم يقل: قادر.
وقال: أصنع ما أشاء بل قال:.
{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] ، فاحتج عليهم بالعلم.
وبعد ذلك قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31-33] فالقضية كلها ماشية في فلك العلم.
وبعد هذا كله أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد لآدم، فالله سبحانه أراد أن يبين شرف آدم المخلوق الجديد الذي كانوا يرونه من طين وصلصال وفخار، ولكن المولى نفخ فيه من روحه.
فبم ظهر فضل وشرف آدم على غيره، أو بم استحق أن تحييه الملائكة، أو يؤمر الملائكة أن تسجد إليه؟ بالعلم.
ثم نزل آدم إلى الدنيا فقال الله تعالى له: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] .
وقال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] .
فسلك طريق الهدى وطريق العلم.
ثم نأتي إلى نبي الله سليمان وما أعطاه الله من الملك، فقد كان تحت يده من الجنود من الجن والإنس والطير ما لم يؤته أحد، فيأتي في موقف من المواقف ويستعرض هذه فقال لما حكى الله عنه: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:20-22] ، فحالاً جاء، فلم يعتذر عن غيابه، ولم يسأل ماذا قال عني؟ وكما -كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه- صاحب علم دنيوي جغرافي وحده قدراً يأتي ويتطاول به على نبي الله {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22] .
فذاك الهدهد الصغير يأتي ويقول لنبي الله سليمان: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ) ، فما قال: علمت ما لم تعلم.
بل قال: (أَحَطتُ) من الإحاطة، بعد أن كان الحكم عليه بالعذاب أو الذبح، لكنه جاء بسلطان العلم.
{قَالَ سَنَنظُرُ} [النمل:27] ، أي: أؤجل الحكم حتى نتأمل، ونتروى {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] ، فقدّم الصدق كأنه توجس من أنه غير صادق، ولا يتأتى للهدهد أن يتطاول على ملك وعلى نبي الله سليمان إلا وعنده بعض الشيء، فقال له: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا} [النمل:28] ، فكان محكومنا عليه بالإعدام، وإذا بالحكم يوقف تنفيذه ويصبح سفيراً مفوضاً، {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:28] ، وكانت السفارة موفقة، فبعد المفاوضة والمراسلات والمشاورات جاءت، وأسلمت لله رب العالمين.
فهذا الهدهد ذهب وأتى وقص عليه قائلاً -كما حكى الله تعالى عنه- {جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:22-24] ، فالهدهد يميز بين السجود لله وحده، وبين السجود للشمس والقمر من دون الله، ثم قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:25] ، والمفسرون يقولون: هذا من كلام الهدهد اعترض عليهم أنهم لا يسجدون لله سبحانه، ويسجدون للشمس والقمر.
فالهدهد يدرك، وبفضل العلم الجغرافي الذي اكتسبه سلِم من القتل ومن التعذيب، وأصبح سفيراً مفوضاً بين سليمان وبلقيس.
وفي أول سورة المائدة يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ * وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:3-4] .
فالكلب إذا علمته الصيد فعند أن تزجره ينزجر -أي: يسمع الأوامر- إذا أمسك عليك أكلت مما صاد لك، والأسد وهو سلطان الوحوش لا يجوز أكل ما ترك من فريسة؛ لقوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة:3] ، وكلها محرمة معطوفة على الميتة، فإذا أكل السبع -وهو سلطان الوحوش- ولم ندرك الصيد ونذكه فهو ميتة، وأما ما صاده الكلب المعلم فيجوز لنا أن نأكل، والفرق بينهما -مع فوارق الجنسين-: العلم.
فما سلك إنسان طريقاً يلتمس فيه علماً إلا سهل الله له طريقاً إلى الجنة.
وهذا الحديث يشعر بالرحلة في طلب العلم، وقد ألفت في ذلك الكتب.
وأبو الدرداء كان في البصرة، فجاءه شخص وسلم عليه، فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: جئت لحديث عندك.
قال: آلله! ما جاءت بك حاجة ولا تجارة؟ قال: لا -والله-، ما جاء بي إلا حرصي على أن أسمع حديثاً عندك.
قال: أبشر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) .
ونحن نعلم أن المولى سبحانه جعل سلوك طريق لطلب العلم قرين الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] ، فطائفة تذهب تقاتل، وطائفة تذهب تتفقه في الدين لترجع وتنذر قومها بما عملت.
إذاً فالنفر في طلب العلم كالنفر في الجهاد سواءً، وجاء الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (من أتى إلى مسجدي هذا لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) .
وسلوك الطريق يحصل بأية وسيلة كانت، وسواء أكان سلوك الطريق للرحلة والسفر، أم كان سلوك الطريق إلى الأستاذ أو المدرسة أو الجامعة.(77/6)
العلم علمان: غاية ووسيلة
والعلم هنا هو علم كتاب الله وسنة رسوله، وما يساعد عليه، وأمور الدنيا خاضعة لذلك، أي: من سلك طريقاً لعلم الهندسة ليبني لنا بيوتاً تؤينا، أو سلك طريق علم الزراعة لينبت لنا طعاماً يقيتنا، أو سلك طريق الدفاع والسلاح لينتج سلاحاً يقينا العدو، أو أي مجال سلكه لله ولرسوله ولأمة المسلمين، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال:60] ما دام يبتغي بذلك وجه الله.
ولكن العلماء ينبهون على أن المراد في هذا الذي عليه الحث هو علم الكتاب والسنة، وما يساعد على فهمه، والعلماء الحاضرون، أو علماء المناهج يقسمون المواد إلى قسمين: قسم أساسي، وقسم تكميلي، أو قسم غاية، وقسم وسيلة، فمثلاً تفسير القرآن ومعرفة معاني كتاب الله غاية، ولكن لا يمكن أن تفهم كتاب الله إلا بمعرفة اللغة العربية التي أنزل بها، فلابد أن تعرف الفاعل من المفعول، ولابد أن تعرف المسند من المسند إليه، ولابد أن تعرف المبتدأ من الخبر، ولابد أن تعرف الحال من الصفة، وتعرف كل ما يتعلق بعلم العربية، وتعرف من شواهد العرب في أشعارها وأقوالها ما يفسر لك كلمات القرآن التي بها أنزل هذا الكتاب وذاك الحديث، حتى علم المنطق المتأخر، وليس المتقدم الذي فيه الفلسفة، إذا كان للدفاع عن شبه العقيدة على من يُدخل على الناس الشبه فيها، وعلم الحساب من أجل أن تعرف الفرائض وتقسم التركات، فإذا لم تعرف الحساب والجمع والضرب والطرح والقسمة لا تستطيع أن تقسم الفرائض ولا تعرفها.
فكل علم كان وسيلة لغاية فهو شريف، فالوسيلة تأخذ حكم الغاية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ومن هنا ينبه العلماء على ضرورة معرفة أصول الفقه لكل من يشتغل بالكتاب والسنة، وكان دائماً والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: جهلة الأصول عوام العلماء.
فلا يستطيع أن يتفقه في حديث، ولا في آية، ولا أن يستنتج حكماً لواقعة حدثت ليس فيها نص إلا إذا كان عالماً في الأصول يرجع للقواعد، ويستطيع أن يدخل النازلة تحت قاعدة من القواعد العامة.
وقوله: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً) ، يدخل فيه أي طريق طويلاً أو قصيراً، وفي الحكمة التي على لسان الناس: اطلبوا العلم ولو في الصين.
وفي الحديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ، أي فيما يتعلق بالأمور الشخصية، وحق الله على العباد.
ويهمنا التنويه على بعض المسائل لنعلم جميعاً أن طلب العلم -كما أشرنا- فريضة على كل مسلم فيما يتعلق بحق الله عليه، وفرض كفائي فيما عدا ذلك من عموم علم الكتاب والسنة، وما يتطلبه من مكملات أو من أسباب توصل إلى الغايات.
فمن الأسباب التي توصل إلى الغايات في علم كتاب الله علم العربية التي بها يفهم كتاب الله، وعلم الأصول -كما قالوا- فيما يتعلق بدلالة العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وغير ذلك.
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ما يتعلق بطرق معرفة صحة الحديث ومصطلح الحديث عند العلماء، ومعنى (مصطلح) : أي: ما اصطلح عليه العلماء في أسماء الأحاديث باعتبار المتن أو السند، كتسميتهم الحديث مرفوعاً، أو موقوفاً، أو متصلاً، أو منقطعاً، أو معلاً، أو شاذاً، أو غير ذلك.
وكل ذلك حق وواجب على طلبة العلم.(77/7)
شرح الأربعين النووية - الحديث السادس والثلاثون [2](78/1)
فضل العلم في الحياة وبعد الممات
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فعلى كل أمة أن توفر طلبة للعلم ينقطعون لذلك أداءً للواجب على الأمة، ومن نفع العلم لصاحبه ما جاء في الحديث الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، والعلم الذي ينتفع به ما حصل به النفع ولو مسألة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله) ، وكقوله: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم) .
وسبب ورود حديث: (الدال على الخير كفاعله) أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل يطلبه أن يعينه ويساعده، فدله على آخر، فلما ذهب إليه فساعده قال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله) .
ومن هنا أجمع العلماء على أنه ما من مسلم في الإسلام إلى يوم القيامة يكتب له في صحيفة حسناته حسنة إلا وللرسول صلى الله عليه وسلم مثلها في صحيفته؛ لأنه الدال عليها، وهكذا طالب العلم، وما دل عالمٌ جاهلاً على مسألة له فيها أجر إلا وكان لهذا العالم مثل أجر العامل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة من غير أن ينقص من أجورهم شيء) .
ويذكر الذهبي في ترجمة عروة بن الزبير أنه اجتمع هو ومصعب وعبد الله وكلهم أبناء حواري رسول الله الزبير بن العوام، ومعهم عبد الله بن عمر، فاجتمعوا في الحجر في ظل الكعبة، فقالوا فيما بينهم: تمنوا، فقال عبد الله: أتمنى الخلافة، وقال مصعب: أتمنى إمارة العراق، وقال عروة بن الزبير: أتمنى أن يأخذ الناس العلم عني، وتمنى ابن عمر فقال: أتمنى المغفرة.
يقول الذهبي عن راوي هذا الخبر: وقد نال كل واحد منهم أمنيته، فنال عبد الله الخلافة، ونال مصعب الولاية على العراق، ونال عروة جمع العلم والحديث ونرجو لـ عبد الله بن عمر أن يكون قد نال أمنيته أيضاً.
عبد الله بن الزبير بويع بالخلافة على الحجاز ونالها، ومصعب بن الزبير نال ولاية العراق، وكان شجاعاً كريماً معطاءً، وقُتل عبد الله في مكة في خلافته، وقُتل مصعب بالعراق في ولايته، وبقيت أمنية عروة بن الزبير وأمنية عبد الله بن عمر، أو لسنا الآن ننعم ونعيش ونجد العلم مما رواه عروة رضي الله تعالى عنه؟ فأي الأماني والأمنيات بقيت لأصحابها؟ فالخلافة قتلت صاحبها، والإمارة قُتل في ظلها صاحبها، ولكن أخذ الناس عن عروة العلم هو الذي بقي، وما زلنا كلما ذكرنا اسمه نترضى عنه.
فلو تأملنا نتائج الأفراد وأعمالهم فلن نجد مثل العلم أمنية ولا طريقاً يسلكه الإنسان، وقالوا: ولو كان مسألة واحدة.
فتعلم مسألة واحدة خير من عبادة ستين سنة عُمل بها أو لم يُعمل.
ونأتي إلى ما بعد ذلك في التاريخ فنجد قضيتين أيضاًَ في شخصيتين عظيمتين هما مالك بن أنس رحمه الله وأبو جعفر المنصور وهو في الخلافة، فيأتي أبو جعفر إلى مالك ويقول: يا مالك! لم يبق في الناس أعلم مني ولا منك، أما أنا فقد شغلتني الخلافة، وأما أنت فوطئ للناس كتاباً يسيرون عليه، وإياك وعزائم وشدائد ابن عمر ورخص ابن عباس يقول مالك: علمني التأليف آنذاك فلا هو في الشدة النهائية، ولا في التراخي والتسيب، بل وسط بين هذا وذاك.
ولما وضع مالك كتابه وتوفي أبو جعفر جاء هارون الرشيد إلى المدينة ومعه ابناه الأمين والمأمون صاحبا ولاية العهد، ونزل هارون في بيت الإمارة، وطلب من مالك أن يأتي بموطئه إليه ليقرأه على ولديه، فأجابه مالك: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي.
فعلم هارون أنه ينبغي أن يذهب إليه، فجاء هارون إلى بيت مالك، فوجد جارية تستأذن له على مالك، فأوقفته عند الباب واستبطأ عليه في الإذن ثم أذن له، فقال هارون: ما هذا يا مالك؟! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فحبستنا على بابك! قال: نعم.
طلبتني وأجبتك أن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، وجئتني فعلمت أنك لم ترد دنيا ولا جاهاً ولا منصباً إنما تريد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أتهيأ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلت وأخذت أحسن ثيابي وأذنت لك.
قال: هلم بكتابك فاقرأه علينا، قال: إن هذا العلم لا ينفع سراً، قال: وماذا تريد؟ قال: في المسجد مع طلبة العلم.
فعلم خدام هارون ونصبوا كرسياً في المسجد للخليفة، فجاء مالك إلى المسجد للدرس فوجد الخليفة على كرسي والناس من حوله، فبدأ حديثه بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم قال: من تواضع لله رفعه، فعلم هارون أنه المعني، فأمر بتنحية الكرسي وجلس مع الناس.
فأين وقف الخليفة أبو جعفر؟ وأين وقف هارون؟ لقد وقفا على باب مالك؟ وأما الموطأ فهو الكتاب الأول أو الثاني بعد كتاب الله آنذاك، وأول ما دوِّن من سنة رسول الله، كما قال الشافعي: ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك، وإن كان بعض الناس يقول: جاء بعده صحيح البخاري، ولكن هذا مبحث ندعه في جانب.
فلا زال الموطأ -بحمد الله- يتربع في قلوب العباد، ويستنير طلبة العلم بما حواه.(78/2)
الرحلة في طلب العلم
طلب العلم لا يساويه شيء، وفضل العلم لا يوازيه فضل، وشرف العالم بعلمه والعامل بمقتضاه ليس بعده شيء، وهذا فيما يتعلق بمن سلك طريقاً يطلب فيه علماً.
ونجد السلف في رحلتهم لطلب العلم قد ضربوا أروع الصور، فـ أبو أيوب الأنصاري يرحل إلى الفسطاط في مصر لطلب حديث، وجابر بن عبد الله يرحل إلى دمشق في طلب حديث، حتى ألف العلماء: الرحلة في طلب العلم.
ونبي الله موسى سأله الناس: هل يوجد من هو أعلم منك؟ فقال: لا.
فقال الله له: إن عبداً من عبادي أعلم منك.
قال: وأين مكانه؟ فأخبره، فقال: كيف أعرفه؟ قال: خذ معك حوتاً مطبوخاً، وذلك ليتغذى به، فمشى على جانب البحر حتى إذا جاوز المكان قال لغلامه -كما حكى الله عنه-: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:62-65] .
وهناك فرق بين قوله: (عجباً) و (سرباً) ، فالتعجب من إحياء الحوت الذي كان للغداء، ولكن حينما كان رفيق موسى معه واستراح عند الصخرة، إذا بالحوت يتحرك في مكتله، ويأتي إلى الماء وينزل، فقال تعالى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:61] ، أي: جاعلاً سراباً وراءه؛ ليعلم القارئ والناظر أن الحوت حينما وصل إلى الماء لم يختفِ فيه ويذهب؛ لأن هذا يعني أنه قد يكون ميتاً على ما كان عليه، ولكن بعد أن أحياه الله ومشى في الماء ترك السراب وراءه، أي: جعل الماء منشقاً ليتأكد الرائي بأن الحوت قد عادت إليه حياته، ولم يكن مجرد سقوط في الماء ليرسب في قاعه أو يكون في وسط الماء.
فشق طريقاً سرباً ليرى الرائي وليسمع القارئ ويعلم أن الحوت عادت إليه حياته.
والذي يهمنا أن موسى عليه السلام سعى إلى الخضر ليتعلم ما لم يكن يعلمه، ويذكر العلماء في قصة موسى مع الخضر آداب العالم والمتعلم، فقد نبهه الخضر فقال: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:67-69] .
فقد يكون طالب العلم في بداية أمره يسمع من شيخه حديثاً أو حكماً أو مسألة لا يدرك أو لا يحيط بها فكراً، أو لا يقوى على فهمها وإدراكها، فلا يكن ذلك سبباً في انتقاده لشيخه، او اعتراضه عليه، أو انصرافه عنه وعدم ملازمته والأخذ عنه.
ونعلم جميعاً أن الله سبحانه أعطى الخضر ما لم يعط موسى، وأعطى موسى ما لم يعطِ الخضر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى لو صبر لرأينا علماً واسعاً) .
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يضرب الرجل أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجد عالما أعلم من عالم أهل المدينة) ، ويرى كثير من السلف أن المعني به مالك بن أنس، وينازع في ذلك ابن حزم ويقول: مالك كان في عصره كثير من زملائه وأقرانه، ومالك كان من قبله علماء ومن بعده علماء.
ولكن يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلن أنه يأتي على الناس وقت يضربون فيه أكباد الإبل لطلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم بالمدينة.
وإذا أخذنا ذلك مع حديث (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) علمنا أن الإيمان لا يكون إلا عن علم، وبوب البخاري رحمه الله: (باب العلم قبل العمل) ؛ لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] ، فاعلم أولاً، وإذا لم يكن العلم وكان الجهل اتخذوا آلهة متعددة، ولما جاءهم الوحي وأمروا أن يقولوا: (لا إله إلا الله) قالوا لجهلهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] ، ولكن إذا نظرنا إلى هذا الحديث: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) عرفنا من باب اللزوم أن من لازم إرز الإيمان إلى المدينة أن يسبقه العلم ويلتقيان بها.
فتظل المدينة -بحمد الله- دار العلم وعاصمة العلم ومقره، وإن كان قد جاء عليها زمن تعطل فيها بعض الشيء، ولكن لم ينقطع؛ لأنه حينما انتقلت الخلافة إلى الشام كان العلماء هناك، ولما انتقلت إلى العراق كان العلماء هناك، وما خلت المدينة في عصر من عصورها من العلماء، لكن يقلون أو يكثرون.
وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من راح إلى مسجدي لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) .
ويذكر البخاري في كتابه الأدب المفرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي أقوام من أقطار الدنيا -أو سيأتيكم أقوام من أقطار الدنيا- يطلبون العلم فأقووهم وعلموهم) .
ومعنى (أقووهم) ساعدوهم، أو: آووهم، فكان ابن مسعود كلما جاءه طالب علم يقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.(78/3)
المسجد النبوي منارة العلم الأولى
نحن نعلم بأن العلم في أقطار الدنيا، والجامعات الإسلامية وغيرها في المدينة وغيرها من أقطار العالم الإسلامي، ولكن حينما يأتي الطالب إلى الجامعة، ويسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي مرة أخرى إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى جامعات العالم الإسلامي يجد للحديث تلاوة جديدة لا يجدها في غير ذلك المكان؛ إذ كان أول مدرس ومعلم في تلك المدرسة جبريل عليه السلام، فكان يلقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمع المسلمون منه، كما جاء في حديث عمر رضي الله تعالى عنه: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
قال: صدقت.
فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.
قال: صدقت قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان قال: ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) .
وهكذا كان المسجد النبوي أولى الجامعات الإسلامية بالمسمى الحديث، وكان أول معلم فيه جبريل عليه السلام، فيأتي إلى رسول الله ابتداءً بالوحي، ويأتي إلى جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام فيعلمهم أمر دينهم، ومن ثم ما وجد كتاب كتب في العالم، ولا أقيمت صلاة في العالم، ولا نادى مناد على منارة في العالم، ولا صيم رمضان في العالم، ولا أديت زكاة في العالم، ولا جاء حاج من العالم إلا من آثار تعليم هذه الجامعة المحمدية.
فإذا جاء إنسان إلى أكبر جامعات العالم، وسمع كتاب الله، وسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء هو بنفسه وسمع تلك الآية وسمع ذاك الحديث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ثم والله ليجدن لتلك الآية ولهذا الحديث من الأثر في قلبه ما لم يجده هناك؛ لأن الإنسان يتأثر، ومقوماته تتأثر بالزمان وبالمكان.
فإذا ذهبنا إلى المدرسة أو إلى المعهد، وسمعنا المدرس يشرح حديثاً، أو يشرح آية، ثم جئنا إلى صلاة الجمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعنا الإمام على المنبر يتلو تلك الآية، أو يتلو ذلك الحديث وجدنا لهذه التلاوة الجديدة ولهذا الحديث -لانطلاقها من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- أثراً أعظم في نفوسنا.
وبهذه المناسبة أنبه طلبة العلم بالمدينة أنهم مكلفون من جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمّلهم الوصية والأمانة بأن كل من قدم من الخارج من أقطار الدنيا يطلب علماً فإنه يجب عليهم أن يعلموهم، ويجب عليهم أن يستقبلوهم، ولئن كانت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة فتحت أبوابها واستقبلت طلابها، فإن الأحق بذلك والأسبق إليه هو المسجد النبوي الشريف، وأسأل الله تعالى لي ولكم جميعاً التوفيق لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم من طلبة العلم العاملين به، وبالله تعالى التوفيق.(78/4)
طلب العلم حصن واقٍ من الشيطان وشَرَكِهِ
كل ما ذكر في الحديث من تنفيس عن مكروب، وتيسير على معسر، أو ستر على إنسان أعمال فردية، أو أعمال شخصية، ولكن طلب العلم -كما قالوا- أعم؛ لأن خيره ومردوده للآخرين، ولذا قالوا: عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
وجاء في بعض الآثار أن الشيطان جاء إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني العالم الجليل، والعابد الفاضل، فجاءه في محرابه في الليل وهو يتهجده وأضاء له نوراً شديداً في المحراب، ونادى: يا عبد القادر! أنا اليقين قد أتيتك فأسقطت عنك التكاليف، كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ، وها أنا اليقين.
فقال: إخسأ يا لعين! لو أن التكاليف تسقط عن أحد لكان أحق المكلفين بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فانقلب النور إلى دخان، وقال: والله لقد نجوت مني بعلمك، ولقد أضللت مائة عابد بذلك(78/5)
فتوى العالم سبيل نجاة
ذكر في الحديث أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعاً وتسعين نفساً، فجاء إلى عابد راهب في صومعته فقال: أرايت لو تبت أيتوب الله علي؟ قال: أعوذ بالله، فبعد تسعة وتسعين لا توبة لك.
فأكمل به المائة، ثم جاء إلى عالم فقال: هل لي من توبة؟ قال: سبحان الله! ومن يحول بين العبد وربه، تب يتب الله عليك، ولكن إذا كنت عشت في هذه البلدة، وقتلت مائة نفس فلا تبق فيها، فاخرج منها إلى تلك القرية الفلانية، فإن فيها أقواماً صالحين يعبدون الله فكن معهم، وهنا نعرف خطر الجليس السيء، وبركة وخير الجليس الطيب.
كما جاء في الحديث: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء ... ) ، فالجليس الخبيث كنافخ الكير إن لم يأتك شرر ناره يؤذك بريحه، أما الجليس الصالح فكبائع المسك إن لم تشتر منه فإنه سيحذيك، فبعض الناس يمر على صاحب العطر، ويسأله: أعندك عود طيب؟ فيقول: نعم.
ويفتح القارورة ويطيبه، فهذا أقل شيء.
فأقل شيء أنك ستشم الريح الطيب من بائع المسك.
فخرج قاتل المائة، وفي أثناء الطريق أدركته المنية فمات، فتأتي ملائكة الرحمة وتأتي ملائكة العذاب ويختصمون فيه، فملائكة العذاب تقول: هذا ما عمل حسنة واحدة، وملائكة الرحمة تقول: هذا رجل مقبل علينا، تاب إلى الله توبة نصوحاً، والتوبة تجب ما قبلها، فاحتكموا فيما بينهم أيهم يتولى أمره، فأرسل الله سبحانه إليهم ملكاً على صورة رجل، فقال: قيسوا ما بين البلدين، فأيهما كان أقرب إليها ألحقوه بأهلها.
فقاسوا فإذا المسافة بينه وبين البلدة التي خرج إليها أقل بذراع واحد فقط.
وفي بعض الروايات أن الله أوحى إلى هذه أن تباعدي وإلى تلك أن تقاربي، وزوى الله الأرض، وفي بعض الروايات: فأومأ -وهو ميت- بصدره إلى جهة القرية التي خرج إليها، فتولته ملائكة الرحمة.
والذي يهمنا أن ذاك العابد الجاهل جهله قتله، وهذا العالم أفتى بعلم فنجا، ونجى هذا الرجل من الموت والهلاك والأمثلة في هذا عديدة، ونرجو المولى سبحانه أن يوفق الجميع لسلوك طريق العلم مهما كان، وبأية وسيلة.(78/6)
صبر طالب العلم وزهده في الدنيا
وأحب أن أذكر إخواني طلبة العلم بأن الله تعالى يسر وجود الجامعة، فهي تأتي بكل إمكانات مساعدة الطالب، من إسكان، ونقليات، ومكافأة، ومستشفيات، وجزى الله المحسنين خيراً.
ولكن في المسجد النبوي شاهدنا ورافقنا وجالسنا في حلقة العلم أشخاصاً كانوا في الصباح تجدهم في الأسواق يحملون للناس على مناكبهم، وفي الصباح يحملون الماء إلى البيوت، وفي الصباح في الأسواق يتسببون، وإذا جاؤوا إلى صلاة المغرب تجدهم كالنجوم اللامعة في نظافتهم، وفي إنارة وجوههم بتقوى الله، ويجلسون بكتب الحديث يتلقون العلم على المشايخ في هذا المسجد، فهم في النهار خدام، وهم في المغرب أعلام.
فطلب العلم ليس له طريق يمنعه، وليس هناك في علم الإسلام سن يحدده، وليس هناك شيءٌ يحول دونه، بل قوله صلى الله عليه وسلم: (سهّل الله له طريقاً إلى الجنة) -وهي أعلى منزلة وأعظم عطاء- يفيد أنه من باب أولى أن يسهل له طريقاً في الدنيا، فهل يُسهل له طريق الجنة ويعسَّر عليه طريق الدنيا؟! لا والله.
وطالب العلم قنوع يكتفي بما يكفيه، ولو وقفنا عند هذه الجملة من هذا الحديث لطال بنا الكلام عليها، وأعتقد أنه يكفي العلم شرفاً وفضلاً كونه علماًً، فهو يتحدث عن نفسه كما يقولون.(78/7)
فضيلة حلق الذكر في المساجد
قال صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) .
ذكر في الحديث (في بيت من بيوت الله) ، وبيوت الله العرف خص بها المساجد، وهذه إضافة تشريف وتكريم، وإلا فالعالم كله لله، وكما جاء في القرآن الكريم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] ، وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] ، فهذه البيوت المضافة إلى الله إنما هي المساجد، وهي إضافة تكريم وتشريف، كما في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13] ، وكل الإبل والنوق في العالم لله، وهو الذي خلقها، ولكن هذه بالذات أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى لتميزها بآية خاصة، وكذلك المساجد تميزت عن بقية البيوت، بيوت الملوك والأمراء والفقراء والأغنياء، وفي حديث الأعرابي حينما ترك ناقته خارجاً ودخل، ثم أخذ جانباً في المسجد، وجلس يريق بوله فزجره الصحابة الكرام قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه) ، فلما قضى بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعاه: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن) ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدعا الأعرابي وقال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً) ؛ لأنه وجد الرحمة، ووجد التيسير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد الشدة من الآخرين.
والأصوليون يقولون: إذا وقع الخطأ يُنظر فيه ويرتكب أخف الضررين، وهذا ما حصل في حديث الأعرابي، وذكر الله هو كل ما يعرف الإنسان بربه ويصله به.
فقوله: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله) ، جاء في بعض الروايات بلفظ: (في المسجد) ، وفي بعضها الآخر: (في مجلس يذكرون الله) ، فالعبرة هنا بعموم الذكر، وأشرنا إلى أن ذكر الله أعم عمومات العبادات، فهو ليس في حق الإنسان، ولا في حق الحيوان، بل ولا في حق الشجر والمدر، فالذكر عبادة جميع الكائنات، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] .
فالحصى في كفه صلى الله عليه وسلم سبح، والجذع الذي كان يتكئ عليه للخطبة حينما تحول إلى المنبر حن لفراقه وبكى، ونزل إليه صلى الله عليه وسلم وخاطبه قائلاً: (إن شئت غرست في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت غرستك في الجنة) ، فاختار أن يغرس في الجنة، فهو جذع خشب يؤمن بأن هناك جنة.
وفي الموطأ في يوم الجمعة وفضله ورد: (وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة) .
فالدواب تعلم أن هناك ساعة، وتعرف أنها ستكون يوم الجمعة، وتعرف أنها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس، ونحن ما كنا نعرف هذا.
فأهم ما يكون على العبد ذكر الله، وقد قالوا: هو غذاء القلب، وهو للإنسان كالماء للسمك، فالشخص الذي يغفل عن ذكر الله كالسمك إذا أخرجته من الماء، ولذا جاء الذكر في جميع التكاليف.
فحينما تأوي إلى فراشك للنوم فإن السنة تأتيك، وتقول لك: اضطجع على شقك الأيمن وقل: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، اللهم إن أمسكت روحي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها) .
وإذا استيقظت من نومك في الليل ذكرت الله.
وإذا استيقظت في الصباح تقول: (اللهم بك أصبحنا وبك نمسي) .
فإذا جئت إلى الصلاة، ذكرت الله في سجودك، وذكرت الله قبل سلامك، وذكرت الله بعد الصلاة.
وإذا رجعت إلى بيتك وتناولت طعامك تقول: باسم الله.
شبعت من طعامك تقول: الحمد لله.
فذكر الله في كل صغيرة وكبيرة.
وفي الصيام يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن (للصائم فرحتين، فرحة عند فطره، وفرحة وعند لقاء ربه) ، وله دعاء مستجاب، وكذلك إخراج الزكاة، وكذلك في الحج، فالحج كله ذكر لله.
وكذلك إذا لبست ثيابك، أو خلعت نعلك، وفي كل أحوالك.
ولذا يمتدح الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] ، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] ، ويأتي أيضاً بخواص الذكر فيقول تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .
فالذكر من حيث هو عام، وأخص ما يكون إذا ذكر منفرداً خالياً بقلب خاشع.
فالسبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله يبدأون بإمام عدل، وينتهون بقوله: (ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) ، فاضت عيناه رغبة أو رهبة.(78/8)
المقصود بالذكر في الحديث، وحكم القراءة الجماعية
وللذكر آداب عديدة، ويهمنا موضع الحديث (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله) ، يقول ابن رجب في هذا الحديث: الحديث نص على اجتماع قوم يذكرون الله في المساجد.
وهنا يأتي خلاف العلماء في نوع الذكر المقصود، فالحديث فيه: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه) ، فيقول: إن حملنا الذكر على خصوص التلاوة والمدارسة، بمعنى الفقه والعلم بكتاب الله، فهذا لا إشكال عليه، ولذا كان بعض السلف إذا صلوا الصبح اجتمعوا وقرأوا كتاب الله، وتدارسوه فيما بينهم، وتعلموا الفرائض، والفرائض من كتاب الله.
وإن كان المراد عموم التلاوة فقط فعلى أية صفة؟ ويذكر أن أهل دمشق وحمص ومكة كانوا إذا صلوا الصبح اجتمعوا لقراءة القرآن، إلا أن أهل دمشق وحمص يجتمع النفر منهم ويقرأون جميعاً في وقت واحد من سورة واحدة، ولكن أهل مكة كانوا يجتمعون فالشخص الواحد يقرأ العشر الآيات والبقية يسمعون، ثم يقرأ الآخر عشر آيات والبقية يسمعون، وقال: وهذا لا بأس به.
واستدل بعمومات، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع القرآن من ابن مسعود، وكذلك عمر كان ربما يأمر الرجل يقرأ، ويسمع هو وأصحابه، واستمعوا إلى أبي موسى الأشعري، وكان عمر يقول له: اقرأ ونحن نسمع.
وقد يستدل لذلك بعموم قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] ، وبعض العلماء يقول: هذه خاصة في الصلاة، وبعضهم يقول: هي أعم من ذلك كله.
والذي يهمنا أن قراءة قارئ وسماع المستمعين لا غبار عليه، ولكن كونهم يجتمعون ويقرأون جميعاً فإن ابن رجب قال في شرح هذا الكتاب المبارك: بلغ ذلك مالك بن أنس، وتكلم مع رجل من أهل الشام فقال: أنتم تجتمعون لكذا وكذا! فقال: نعم.
قال: أما نحن فكان عندنا المهاجرون والأنصار، وما كانوا يفعلون ذلك، وكان الواحد منهم إذا صلى الغداة جلس يذكر الله ويسبحه، ولا يكلم بعضهم بعضاً اشتغالاً بالذكر.
ومن هنا اختلفوا في جواز اجتماع القوم ليقرأوا القرآن بصوت واحد في موضع واحد، أي: أن نأخذ المصحف ونقرأ مثلاً قوله تعالى: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] في نفس واحد، أو أن الكل يصغي ويستمع وينصت ورجل واحد يقرأ ونحن نتأمل القراءة ونستمع إليه.
يقول ابن رجب في هذه الصورة: لا بأس بها للعمومات الواردة من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وعمر كان يأمر غيره فيقرأ وهم يستمعون.
أما أن يقرأوا جميعاً، فيحصل اللغط من بعضهم على بعض فهذه هي الصورة التي يقول عنها مالك: إن اجتماعهم لذلك في المسجد بدعة.
وعلى كلٍ فالحديث معنا فيه: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه) ، وهل التلاوة التي كان يفعلها أهل مكة وحمص والشام كانت تلاوة فقط، أم تلاوة مع مدارسة؟ فإن كان مع التلاوة مدارسة وفهم القرآن، وعلم التفسير وما يتعلق بذلك فالحمد لله، وبها ونعمت، وإن كانت تلاوة فقط فكما قال ابن رجب: الصورة الجماعية هذه هي المكروهة، وصورة كون شخص واحد يقرأ والبقية يسمعون داخل في عموم الذكر، وفي سماع النبي صلى الله عليه وسلم من غيره.
فهذا الحديث متعلق بالقرآن تلاوة ومدارسة، وأما إذا جلس يستغفر الله، أو جلس يسبح الله، أو جلس يحمد الله، أو جلس يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جلس لأي نوع من أنواع الذكر فيما بينه وبين الله فلا مانع من ذلك، وقد جاء الحديث: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة، تامة) .
وجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا صلى الغداة ينتظر إلى طلوع الشمس، فإن عرض له عارض كتجديد الوضوء يترك رداءه، ويقوم ويقول: انتظروا مجيئي فسمعه بعض الناس فقالوا: من تكلم؟ فليس عندك أحد؟ قال: أكلم جلسائي فالملائكة تحف ذاكري الله.
وجاء في الحديث الآخر: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض فإذا وجدوا أقواما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى بغيتكم فيجيئون فيحفون بهم إلى سماء الدنيا) .
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر) ، وليس معنى (حلق الذكر) الصور المعهودة عند بعض الناس التي استحدثت، إنما هي الواردة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاجتماع الملائكة أو بحثهم عن رياض الجنة -وهي مجالس الذكر- وارد في السنة، وقد ألّف العلماء الكتب في ترتيب وآداب ونصوص الذكر الوارد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(78/9)
آداب الذكر وأحكامه
يقول العلماء: إن أهم آداب الذكر إخلاص النية لله وحضور القلب؛ لأن العبرة بذلك، كما في الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) ، فينظر إليها على أساس الإخلاص لله.
ويقول بعض العلماء: إذا كان جالساً في مجلسه يذكر الله فالأولى له استقبال القبلة، وبهذه المناسبة ننبه بعض الأشخاص الذين يصلون في المسجد، ويجلسون ينتظرون الصلاة في الصف الأول، فيستدبرون القبلة ويستقبلون الناس، ويتلون كتاب الله، فقد جاء في بعض الآثار أن السلف كانوا يمنعونهم، ويقولون: لا تحولوا دون الملائكة والقبلة.
لأن هناك ملائكة تصلي، فلا ينبغي أن يحول الجالس دون القبلة، فإذا استقبل القبلة كان هو وغيره سواءً، أما أن يجلس مستدبراً الكعبة مستقبلاً الناس فهذا جاء عن السلف أنهم كانوا يكرهون ذلك، فمن الآداب استقبال القبلة في الذكر.
وكذلك نقول للذي يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره، ويريد الدعاء بعد أن يفرغ من السلام أن عليه أن يتحول عن ذاك المكان ويستقبل القبلة ويدعو الله سبحانه وتعالى؛ لأن الكعبة هي قبلة الذكر وقبلة الدعاء، ومن هنا يقول الإمام أبو حنيفة: إذا أردت أن تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تأتِ مواجهاً؛ لأنك تستدبر القبلة، وإنما تأتي من الروضة، وتجعل الحجرة الشريفة عن جانبك وأنت مستقبل القبلة؛ لأنك حينما تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت في أقرب القربات إلى الله.
ولكن وجدنا في مسند أبي حنيفة نفسه ما يوافق رأي الجمهور، وهو مطبوع مع مسند الشافعي.
ومن الآداب أن يكون على طهارة، فإن لم يكن على طهارة فلا مانع ما لم يكن جنباً، وله أن يذكر بجميع أنواع الذكر إلا القرآن إذا كان جنباً، فإذا كان جنباً فلا ولا حرف.
كما جاء في حديث علي رضي الله تعالى عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً) .
ولهذا كره العلماء كراهة تحريم للجنب وللحائض أن يقرأا القرآن، وللحائض مباحث في ذلك عند مالك خاصة، ذكرها ابن رشد في بداية المجتهد، وهو أن المرأة إن كان لها ورد من حفظها فإن تركت القرآن مدة حيضتها ضاع عليها حفظها تيممت وقرأت وردها فقط؛ لئلا تنسى ما حفظت.
ومن باب آداب الذكر توخي الأوقات الفاضلة، كما بين الأذان والإقامة، وكذلك الدعاء وأنت ساجد، وغير ذلك من الآداب التي تذكر في كتب الأذكار الواردة يومياً.
والله تعالى أعلم.(78/10)
الجائزة الإلهية للمجتمعين للذكر في المساجد
ويختم صلى الله عليه وسلم هذا الحديث بتلك العبارة الخاتمة: (إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة) ، فكل ذلك للذاكرين الله سبحانه.
والسكينة تجد كثيراً من الناس يتكلمون في معناها.
وجاء في بعض روايات الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شخص ببصره إلى السماء، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون الله تعالى.
فنزلت عليهم السكينة يحملها الملائكة كالقبة، ولما دنت منهم تكلم رجل منهم بباطل فرفعت عنهم) .
فالسكينة أمر معنوي، فتأتيهم الملائكة كالقبة لتغطيهم، ومعنى (وغشيتهم الرحمة) أي: غطتهم.
ويمكن أن يقال: إن السكينة من السكون والطمأنينة، والقرآن الكريم يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، فالسكينة التي ينزلها الله على الذاكرين هي ما يشعرون به من طمأنينة القلب، وارتياح النفس، وسعادة لا يعادلها شيء، فلو جئت إلى إنسان يملك الدنيا وهو قلق النفس مضطرب، فما قيمة هذه الدنيا عنده؟ ولو جئت إلى إنسان عنده قوت يومه وليله، وهو معافى في بدنه وقرير العين مطمئن القلب، فماذا ينقصه؟ لا شيء.
فهذه هي السكينة.
ومن هذا المعنى ننطلق إلى الروضة الوارد ذكرها في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ، وكل المعاني التي يوردها العلماء عليها وارد، وعليها اعتراض، ولكن لو قلنا: إن قوله: (روضة من رياض الجنة) معناه: أن من لوازم تلك الروضة أن يكون المتعبد فيها يشعر بالطمأنينة والسكينة إلى حد لا يشعر به خارج المسجد، كبيته والسوق فلا مانع من ذلك.
قوله: (وغشيتهم الرحمة) .
الغشاء: هو الغطاء، كأن الرحمة رداء ينتشر عليهم.
قال: (وحفتهم الملائكة) ، فالملائكة تحفهم بأجنحتها إما رأفة بهم، وإما إعجاباً بهم، وإما تطييباً لخواطرهم.
كما قال تعالى في ليلة القدر: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4] ، قالوا: من علامات القبول في تلك الليلة، أو من علاماتها أن يشعر الإنسان بروحانية في تلك الليلة.
قال: إذاً: (وذكرهم الله فيمن عنده) ، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) ، ويقولون: هذه الخصائص والفضائل لمن يذكرون الله سبحانه، سواءٌ أكانوا جماعة أم كان الذكر فرداً.
وفي الخاتمة قال: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) .
فالمطلوب هو العمل بما جاء في الحديث من الفرص وأعمال الخير، من تنفيس الكرب عن المكروبين، ومن تيسير العسر على المعسرين، ومن ستر العورات، ومن ذكر الله سبحانه، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولذا جاء في الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن أوليائي إلا المتقون) ، ووقف صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: (يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً) .
فالنسب فيما يتعلق بالدنيا ليعرف الإنسان نفسه والآخرين ليتعامل معهم، أما في الآخرة فلا.(78/11)
شرح الأربعين النووية - الحديث السابع والثلاثون(79/1)
كتابة الحسنات والسيئات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فهذا الحديث السابع والثلاثون في فضل الله ورحمته.
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: (إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة) رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذه الحروف.
في هذا الحديث النبوي الشريف يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه أنه كتب الحسنات والسيئات، و (كتب) هنا بمعنى: أعلم الملائكة كيف تكتب الحسنات والسيئات على بني آدم، وما يكون موقفهم عند عمل العبد فعلاً أو عزمه على العمل، وبين لهم الهم بالفعل والتنفيذ العملي، وعلمهم ماذا تكتب الملائكة على الإنسان في هذا كله.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الحسنات والسيئات) بمعنى: بين منهجاً للملائكة كيف تكتب إذا عمل العبد فعلاً أو عزيمةً.
وقيل: المعنى يرجع إلى القضاء والقدر، أي: أن الله قدر الحسنات والسيئات، ولكن تتمة الحديث تؤيد المعنى الأول؛ لأن الحديث يبين ماذا للعبد في عمله وماذا للعبد في عزمه على العمل فهو بيان الإحصاء، وكيفية تسجيل الملائكة على العباد أعمالهم.
فبين النبي صلى الله عليه وسلم الأقسام الأربعة وهي: الهم بالحسنة، وفعل الحسنة، والهم بالسيئة، وفعل السيئة، ويلحق بذلك ترك فعل السيئة، فهي أربعة أقسام يلحقها قسم خامس، وبدأ صلى الله عليه وسلم ببيان أمر الحسنة فقال: (من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات، ويضاعف الله لمن يشاء إلى سبعين ضعفاً، إلى سبعمائة ضعف، إلى إضعاف كثيرة) هذا مبدئياً، ويقابل هذا قوله: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة) ؛ لأنه ترك السيئة، ولو فعلها كانت سيئة واحدة.
متى يكون العزم أو الهم مؤاخذاً عليه أو غير مؤاخذ عليه؟ وهل المضاعفة قاعدة عامة مطردة أم أن لها أحوال استثنائية فتتضاعف السيئات وتتضاعف الحسنات؟(79/2)
أجر الهم بالحسنة
قوله عليه الصلاة والسلام: (من هم بالحسنة) ، الحسنة هي: كل ما جاء في الشرع الحث على فعله من الواجبات أو من المستحبات، من الفروض ومن النوافل، سواء كانت قولاً أو فعلاً، فلو أراد أن يصلي ركعتين، فجاء إنسان وجلس إليه وشغله عنها، فله حسنة، أو أراد أن يصوم يوماً فجاء ضيف وشغله عن الصوم، فله حسنة، وأراد أن يتصدق بجزء من المال فعرضت له حاجة ملحة فأنفق فيها هذا المال، فله حسنة، فكل هذه الأعمال من هم بها، ولكن عرض له عارض أوقف إتمام العمل بها، فحكم هذه النية الحسنة والهم بتلك الحسنة الطيبة، أن يكتب الله له في ذلك أجر، ويكتبها الله عنده حسنة كاملة.
وجاء التأكيد بكلمة: (كاملة) حتى لا يظن ظان بأنه يكتبها حسنة دون الحسنات المعتادة، بل هي حسنة بكمالها.
ويستدل العلماء على اعتبار النية والقصد، -خاصة في فعل الخير- بما جاء في الحديث: (إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً فهو يعرف حق الله فيه، فيؤدي حق الله، فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالاً وأعطاه علماً، فقال: لو أن لي مالاً لعملت فيه من الخير والحسنات كما يعمل فلان، فهما في الأجر سواء) ، فهذا شخص لم يعط مالاً ولم ينفق، ولكن لما كان حريصاً على الخير، ولم يمنعه منه إلا قلته أو عدم وجوده، كان بحسن نيته وبعزمه على الفعل مع الفاعل بالفعل متساويين في الأجر.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات: (إن بالمدينة أقواماً ما هبطتم وادياً ولا صعدتم مرتفعاً، إلا شركوكم في الأجر، أقعدهم العذر) .
إذاً: حسن القصد وحسن النية يلحق العبد -إذا لم يتم له الخير لعجز أو تقصير أو مانع- بمن فعل ونفذ الفعل مباشرة، ومن هنا ينبه العلماء على أنه ينبغي للعبد أن يحرص على نية الخير، وعلى تجديد العزم، وعلى فعل الخير دائماً، يقول ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: جاء رجل يطوف في المسجد الحرام، ويقول: من يدلني على عمل أداوم عليه ويرضي ربي؟ فقالوا له: جدد العزم دائماً على أن تفعل الخير، فإن لك أجر الخير ما دمت ناوياً فعله.(79/3)
مضاعفة ثواب الحسنات
يكون للمؤمن بحسن النية أجر على ما لم يفعله، فإن عمل الحسنة بالفعل كتبت له عشر حسنات، وهذا هو الحد الأدنى في محاسبة المولى سبحانه لعباده، كما قال الله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] وهذا هو الحد الأدنى لجميع الناس في جميع الحسنات، ولكن في الحديث يقول: (إلى أضعاف كثيرة) أي: يضاعف لمن يشاء إلى أكثر من سبعمائة ضعف، وجاء في القرآن الكريم إلى سبعمائة كما جاء في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] والسبعة في مائة تساوي سبعمائة {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] يعني: فوق السبعمائة، فيضاعف الحبة فوق ذلك لمن يشاء.
فأي الحسنات التي تتضاعف، وأي الحسنات التي تقف عند العشر؟ يقول العلماء: المضاعفة ليس مردها للفعل من حيث هو، ولكن للفاعل ولظروف الفعل، فإذا كان الإنسان مقبلاً على العمل بنية خالصة وإقبال على الله، وراغباً في الخير، ومؤمناً بوعد الله، فهو ليس كشخص يساق إلى العمل سوقاً، فإذا وجبت الزكاة على رجل، فتلكأ فيها حتى أخذها منه الإمام، فليس كالشخص الذي يبادر، وينتقي خير ماله، ويدفع الزكاة طيبة بها نفسه، وهو يرجو فضل الله! أيضاً: لا يستوي الشخص الذي يؤمن بجزائه على عمله، ويعلم أنه يتعامل مع الله على حد قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ؛ والشخص الذي يخشى من الإمام، ويخاف عقابه لعدم إخراج في الزكاة، فيحاول أن يخرج الواجب فقط، فذاك شخص يريد الكمال في الأداء؛ وهذا شخص يريد أن يقف عند أدنى حد الإجزاء فهل هما سواء؟! ليسوا سواءً، فالشخص الذي يحاول أن يقف عند أدنى حد فيما يجزئه؛ ليس كالشخص الذي يصل إلى القمة فيما يجب عليه، فالمولى سبحانه ينظر إلى قلب هذا المؤمن، وقلب هذا المؤمن، فيضاعف لمن يشاء بقدر قوة إيمان كل منهما: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم) فبقدر الإخلاص في القلب، وبقدر الإيمان تكون زيادة الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
فمثلاً: في الصلاة يكون الناس في صف واحد، يركعون ركوعاً واحداً، ويرفعون رفعاً واحداً، ويسجدون سجوداً واحداً، ويكون ما بين صلاة هذا وذاك كما بين المشرق والمغرب! فهل هما سواء، ليسوا سواءً.
وبعض العلماء يقول: المضاعفة تكون خاصة للصدقة في سبيل الله، وما كان من الأمور الأخرى كصدقة لفقير أو مسكين أو لقضاء حاجة فهي تضاعف إلى حد العشرة، والذي في سبيل الله هو الذي يتضاعف إلى سبعمائة، ولكن قد تضاعف صدقة المسكين في حاجة، من الحاجات أشد خطراً، وأعظم بالاً، وأشد احتياجاً عند هذا المسكين من تلك الأموال التي تذهب في سبيل الله، فالمضاعفة تكون بحسب الواقعة وبحسب الشخص.
وقالوا أيضاً: الحسنات تزداد وتتضاعف بحسب قلب صاحبها ويقينه وإيمانه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالحلق والتقصير للتحلل من الحج أو العمرة أنه دعا للمحلقين ثلاث مرات فقال: (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، وفي الثالثة قال: والمقصرين) فحينما دعا صلى الله عليه وسلم بهذه الصورة، قالوا: يا رسول الله! ما بال المقصرين؟ أي: لماذا لم تترحم عليهم؟ وما بال المحلقين تخصهم بهذا الدعاء؟ قال العلماء: المحلقون ما كانوا في أي شك، وما شكوا في الأمر بالتحليق، فحلقوا شعورهم وهم موقنون كل اليقين بأن هذا هو الحق، وأن هذا هو الحكم، وأن هذا هو امتثال أمر الله ورسوله؛ لأنه أمرهم أن يحلقوا رءوسهم، ولكن المقصرين لم يطمئنوا لذلك، فكأن المقصر يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، والمقصر مقصر في حد ذاته كما يقولون.
إذاً: ليسوا سواء، وفرق بين الذي يقبل على العلم إيماناً ويقيناً وبين الذي يدفع إليه دفعاً.
إذاً: تتضاعف الحسنة بحسب ميزان الإيمان في قلب المؤمن.(79/4)
مضاعفة الحسنات في الأوقات والأماكن الفاضلة
وتتضاعف الحسنات أيضاً بحسب المكان والزمان، ومضاعفة الحسنات في الزمان والمكان جاءت فيه النصوص الكثيرة، فمن حيث الزمان نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم فضل بعض أوقات الزمن من ساعة ومن يوم ومن ليلة ومن شهر على بعض، وكل ذلك جاءت فيه النصوص.
فمن المفاضلة في ساعة من الأربع والعشرين الساعة ساعة يوم الجمعة، قال عليه الصلاة والسلام: (فيه ساعة لا يوافقها عبد قائم يصلي، يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه) ، وهذه ساعة في يوم الجمعة، ويوم الجمعة بكامله أيضاً أفضل أيام الأسبوع، وقد حثنا صلى الله عليه وسلم على كثرة الصلاة والسلام عليه في ذلك اليوم، ووهو يوم خلق فيه آدم عليه السلام، وفيه أسكن الجنة، وفيه سرت الملائكة إليه، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه.
وكذلك عرفة، قال عليه الصلاة والسلام: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم عرفة) ، وصوم يوم عرفة يكفر سنتين، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة، فتلك الأيام لها فضائلها، وتتضاعف فيها الأعمال ما لا تتضاعف في غيرها.
وشهر رجب جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً جاءه وسلم عليه، فرد عليه السلام وكأنه لم يبال به، فسأله: ألم تعرفني يا رسول الله؟! قال: من أنت؟! قال: أنا الرجل الذي جئتك العام الماضي وأسلمت ورجعت، قال: قد تغير حالك، وكانت صفتك كذا وكذا، فقال: منذ فارقتك ما أفطرت يوماً أي: كان مداوماً على الصيام قال: صم من كل شهر ثلاثة أيام، أو صم الإثنين والخميس، أو صم يوماً وأفطر يوماً، وصم من الأشهر الحرم وأفطر) ، فالأشهر الحرم يستحب الصوم فيها، والصوم فيها أفضل من غيرها.
وكذلك العشر الأول من ذي الحجة، بين صلى الله عليه وسلم: (أنه ما عبد الله في أيام خيراً منها) ، وأقسم الله بها في قوله: {وَالْفَجْرِ} [الفجر:1] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:2] .
وكذلك ليلة القدر هي خير من ألف شهر، أي: من ثلاث وثمانين سنة، فهذه من الأوقات الفاضلة التي فضلها الله على غيرها، والتي تتفاضل فيها الأعمال.
ونأتي إلى الأمكنة: فهذا المسجد النبوي (صلاة فيه تعدل ألف صلاة) ، وهذا لا يتعلق بالمصلي، إنما أوقعت الصلاة في مكان منحه الله فضل مضاعفة الصلاة، وجاء في حديث ضعيف مذكور في أعذب الموارد: (رمضان بالمدينة يعدل سبعين رمضان في غيرها) ، لكن هذا حديث سنده ضعيف، لكن حديث (ألف صلاة) صحيح ثابت.
وإذا جئنا إلى مكة: (فصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة) ، فالأمكنة تتضاعف فيها الحسنات.(79/5)
مضاعفة السيئات
وهل السيئات تتضاعف أيضاً؟ الحديث فيه: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) ، إن قيل: كيف يهم بالسيئة وإذا لم يفعلها تكتب له حسنة، فكل الناس يهمون بالسيئات؟!
الجواب
إذا هم بالسيئة وترك فعلها، فإنا نسأل: ما موجب الترك؟ هل تركها رغبة عنها من أجل خوفه من الله، أو تركها لعارض منعه قهراً؟ يختلف العلماء في هذه النقطة فقط، فبعضهم يقول: إن هم بالسيئة ولكنه لم يفعلها لمانع قاهر له، فإنه يأثم على هذا الهم، يقولون: لأنه يوجد خاطرة وفكرة، وهمٌّ وعزيمة.
فالفكرة والخاطرة: شيء يخطر بالبال ويمر، ولا يبقى عندك، ولا تتردد الخاطرة في فكرك، فإن استقرت في قلبك فهي هَمٌ وتصميم، فإن أردت التنفيذ فهو العزم، فالعزم هو: الهم الأكيد، والهم والهمة: أخذ الأهبة للعمل.
فإذا هم الرجل بسيئة فننظر: هل أخذ في أسباب تحقيقها أم هو مجرد خواطر تجول في ذهنه؟ فإذا كان مجرد تفكير بلا عزم، والهم بالتنفيذ لم يأت بعد، فيتفق العلماء على أن مجرد الخواطر ومجرد التفكير قبل الأخذ في أسباب التنفيذ لا يؤاخذ عليها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم) فحديث النفس خواطر لا يؤاخذ بها.
لكن إذا جالت الفكرة في فكره وذهنه ثم رسخت وأصبحت عزماً، وهم بالفعل، ولكن عرض له عارض خارج عن إرادته منعه من التنفيذ مع وجود التصميم منه، فهل يقال: تكتب له حسنة، أو تكتب عليه سيئة؟ بعض العلماء يقول: هذه لا يسلم منها؛ لأنه ما منعه من السيئة إلا شيء خارج عن إرادته، وعزمه لا زال موجوداً، فهذا العزم المؤكد على فعلها الذي لم يتراجع عنه يؤاخذ عليه، واستدلوا بحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) ، وهذا الذي كان حريصاً على قتل صاحبه هل موقفه مجرد الحرص ومجرد العزم أم أنه باشر أسباب القتل؟ باشرها، والتقى بخصمه، وجعلا يتضاربان ولكنه عجز، فوجد مع الهم: العزم والتصميم والأخذ في الأسباب ومباشرة السبب، ولكنه عجز، فهذا يأثم على همه هذا، ومثله كمثل شخص أراد أن يسرق، وجلس في بيته، وقال: والله! فلان بيته خالٍ، فلو كسرت القفل، ودخلت لآخذ الفلوس، ثم أشتري سيارة وأذهب إلى مكان كذا، وأخذ يبني قصوراً على الرمال في الخيال وهو في محله! وقال: ليس هذه الليلة، لكن غداً، حتى ما قال: إن شاء الله غداً أذهب وأنفذ، وبات على هذا، وجاء بالمقص الذي يقص القفل، وتركه عنده إلى يوم الغد، ولكن في الغد لم يذهب، وقال: ربما تأتي الشرطة، وربما يأتي صاحبه، وربما المسألة تصل إلى قطع اليد، فترك السرقة، ماذا تقولون في مثل هذا؟ إنه ترك السرقة مع عدم الأخذ بالأسباب، ولم يأت إلى خطوة التنفيذ، فتكتب له حسنة؛ لأنه رجع من قبل نفسه، لكن إذا ذهب بالمقص، ووضع المقص على القفل، وصار يحاول كسره، فسمع نحنحة الحارس آتياً فرمى بالمقص وهرب، فهل هذا هم بسيئة فلم يفعلها، فتكتب له حسنة؟ بل تكتب عليه سيئة واحدة فقط، وهذا من رحمة الله الواسعة، فإنه لم يكتبها سيئتين، وهذه الصورة لا يسلم منها، ولا تكتب له حسنة، والحديث يقول: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) ، فهل ندخل بينه وبين رحمة الله الواسعة؟! لا، ولكن لا نترك الناس يعبثون.
إذاً: اختلف العلماء فيمن هم بالسيئة، وأعد لها كل العدة، ولم يمنعه منها إلا مانع قهري، فقيل: كيف تكون له حسنة في ذلك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم وإن أطلق لكن مقتضيات الأحكام العامة أو مقتضيات النصوص كلها تدل على أنه يأثم، كحديث: (إنما الدنيا لأربعة ... ) وذكر أن أحدهم قال: لو أن لي مالاً لعملت من الخير مثلما يعمل فلان، فهما سواء في الأجر، (ورجلاً لم يعطه الله مالاً، ولم يعطه علماً) ، فلم يعرف حق الله فيه، فهو في أسفل السافلين؛ لأنه صرف ماله في معصية الله، وعمل المعاصي بالفعل، والرجل الثالث: لم يعطه الله مالاً، ولم يعطه علماً، فقال: لو أن لي مثل مال فلان لعملت من الخير ومن المتعة والشهوة مثل ما يفعل فلان، فهو مثله في الإثم، فهذا ليس لديه المال، ولكن تمنى أنه لو تمكن لفعل كما فعل فلان، فلحق به في الدرك الأسفل، فهو همّ وتمنى أن يكون ولكن أعجزه قلة المال.
فإذاً: العزم المصمم الذي يجعل الشخص حريصاً على المعصية، ولم يكف عن المعصية إلا لعارض منعه قهراً؛ فهذا يأثم.(79/6)
أنواع الهم
خلاصة كلام العلماء في قوله: (هم بحسنة، وهم بسيئة) : الهم همان: 1- هم مؤكد ومصمم على الفعل بعزم، ولم يمنع منه إلا العجز، كحديث: اللذين التقيا بسيفيهما، فالقاتل موجود همه وعزمه، والمقتول لا ينقص عنه في الهم والعزيمة، ولكن القاتل ظفر بالقتل، والمقتول عجز، فقبل وقوع القتل هما لا يتفاوتان في الهم والعزيمة بل هما سواء، فكل منهما حريص على قتل الآخر، فوجد الحرص والهم المؤكد من كل منهما.
2- هم بمجرد الخطرات، مثل رجل أراد أن يسرق وفكر وعمل كل التخطيط، ولكن لم يرد التنفيذ، وما عنده عزم، بل هو مجرد خاطرة في البال، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نقنع بالقليل، ونترك الذنب، فتأتي الفكرة تراوده مرة أخرى في أن يسرق دكان فلان، ثم يقول: لا، هذا مال زائل، وسيأتي ثم يذهب في طريقه، وما أتى بالحرام سيذهب في الحرام، وسأقنع بما أعطاني الله، فهذا الذي يفكر في مجرد السرقة، ولم يكن عنده التصميم والعزم الأكيد، ولم يذهب بالفعل إلى المحل الذي يريد سرقته، فله حسنة.
إذاً: الهم الذي يصحبه العزم المؤكد شيء، والهم الذي هو مجرد خاطرة في البال شيء آخر، ومن هنا يبحث العلماء في تفسير قوله تعالى في قصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع زوجة الملك: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ، هل كان الهم من الجانبين متساوياً؟ لا والله! قالوا: إن همها كان مع سبق الإصرار والعزم المؤكد؛ لأنها كما قال الله: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] أي: هلم، أو تهيئت لك، فعندها عزم مؤكد وتصميم سابق على ما تريد، ولكن هم يوسف هو أمر خاطر، وهمه بها ليس هو الهم الذي يؤدي إلى الفعل، فرأى برهان ربه، فهمه هو: الخاطر والغريزة الجبلية في الإنسان، لكنه قاومها ودافعها، ولم يسترسل مع خواطر نفسه مثل زوجة العزيز، فإنها لم يمنعها من تنفيذ ما كانت تريده إلا ما قاله الله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] ، فهمها وهم يوسف مختلفان، ولذا قال الشاهد من أهلها: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين.
يهمنا قوله في الحديث: (من هم بسيئة فلم يعملها ... ) ، لماذا لم يعملها؟ جاء في بعض الروايات: (إنما تركها من جرائي) ، أي: تركها مخافة الله، فهذا الخوف من الله هو سبب الحسنة التي تكتب له، فكأنها توبة من جديد.
إذا قدر أنه عمل سيئة بالفعل: سرق أو زنا أو كذب فتكتب له سيئة واحدة، ولم يقل: كاملة كما نبه عليه المؤلف رحمه الله، فالحديث أكد الحسنة بأنها كاملة، حتى لا يظن أنها الحسنة رقم اثنين أو رقم ثلاثة، بل هي حسنة كاملة رقم واحد، وجاء هنا بسيئة، وما قال: سيئة كاملة؛ لأن سيئة الفعل ليست كحسنة الفعل، بل قال: (كتبها سيئة واحدة) ، وكأن في كلمة (واحدة) نوع من التقليل، نعم هو لم يقل: ناقصة، لكن الفرق في اللفظ واضح، وهو يعطينا نوع تخفيف، ويشعرنا بذلك أنه جاء في بعض الآثار أن العبد إذا أذنب يقول ملك الحسنات لملك السيئات: انتظر لعله يستغفر، انتظر لعله يتوب، إذاً: هي سيئة واحدة، لكنها قابلة للمحو، وقابلة للإزالة، فقد تزول بأي مكفر من مكفرات الذنوب.
يقول العلماء: الحسنة والسيئة تتضاعف -كما أشرنا- بالزمان، وتتضاعف بالمكان، وتتضاعف بالأشخاص، فالصلاة تتضاعف في هذا المسجد النبوي الشريف، والحسنة أيضاً تتضاعف في مكة، وجاء في حديث مضاعفة السيئة في مكة، ولم يأت ذلك في المدينة، بل في مكة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] ، فقال: (ومن يرد) ، وقد سئل أحمد رحمه الله: هل يحاسب العبد على همه بالمعصية؟ قال: لا، إلا بمكة، ولو كان في عدن ونوى قتل إنسان عند البيت لكتب عليه الوزر، ولو كان خارج مكة ونوى ارتكاب الإثم في مكة فإنه يضاعف له الإثم على ذلك.
ولذلك يقول العلماء: من عصى الملك في بلاطه أو على بساطه ليس كمن يعصي الملك وهو في آخر مملكته وفي آخر بلاده، ولله المثل الأعلى، فحرمة البيت عظيمة عند الله؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فلا تحل لأحد، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها إلى يوم القيامة) ، ومن هنا كان لها أحكام خاصة، وقال الله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] ، يأمن فيه الإنسان والحيوان والطير، بل حتى الشجر يأمن أن تقلعه أو تعتدي عليه؛ لأنه في حرم الله، فهو مأوى كل مسلم من مشارق الأرض ومغاربها، فإذا لم يكن الإنسان آمناً على نفسه، آمناً على ماله فكيف يؤدي حق الله؟!(79/7)
الأشهر الحرم
وجعل المولى سبحانه في السنة أزمنة محرمة، وكان العرب في الجاهلية يعظمونها، وكانوا يكفون عن القتال والأذى فيها، وهي الأشهر الحرم.
قال الله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة:36] أي: تعظيم حرمات تلك الأشهر {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] ، والأشهر الحرم هي: شهر رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثلاثة أشهر متواليات، ورجب الفرد.
وقال الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، وما هي الأشهر المعلومات؟ هي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فشوال انفرد بأشهر الحج، والمحرم انفرد بالأشهر الحرم، وذو القعدة وذو الحجة اشتركا في أشهر الحج والأشهر الحرم، فإذا كان شوال وذو القعدة وذو الحجة هي أشهر الحج، والمحرم من الأشهر الحرم، فالمولى سبحانه يقول: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] ، فيحرم على الناس في منازلهم، وعلى القبائل في أماكنهم، أن يحلوا شعائر الله، ولا آمين البيت الحرام الذين يبتغون فضلاً من الله.
أي: فلا تحلوا الأشهر الحرم، ولا تحلوا الشعائر، ولا القلائد، ولا آمين البيت، وهم قاصدو البيت الحرام من الحجاج والمعتمرين، فقد كان الحاج من قبل يأتي من أقصى الجزيرة أو من البحرين أو من دول الخليج متجهاً إلى مكة، ويحتاج في مجيئه إلى نحو شهر ونصف، فلو خرج من نصف شوال، وجاء إلى مكة، وأدرك عرفة، فيقضي شهراً ونصفاً في سفره وحجه، ثم إذا أراد أن يرجع فمعه بقية ذي الحجة وشهر المحرم، فيذهب الحاج الذي من أقصى الجزيرة ويرجع إلى أهله في الأشهر الحرم، وهو معصوم الدم، آمناً من تلك القبائل، فوقت الحج يتزامن مع الأشهر الحرم لتحفظ حرمة الحاج.
وفي الوقت الحاضر يأتي الحجاج من الصين، ومن موسكو، ومن واشنطن، ومن أقصى العالم، فقد يصل في عشر ساعات بالطيران، فيأتي ويرجع في الأشهر الحرم، وإذا وصل إلى مكة فهو في الأشهر الحرم، وفي البلد الحرام، فحينئذٍ يؤدي حجه آمناً مطمئناً، قد أمنه المولى، ومن اعترض الحاج، ومن أزعج الحاج أو أزعجه أو أقلقه أو أخافه؛ فهو محارب لله؛ لأن الله أمنه، فيأتي هذا ويخفر ذمة الله.
الله يقول: يا عبادي! هلم إلى بيتي آمنين، بيتي أعددته لكم ومن دخله كان آمناً، ثم يأتي هذا ويتعدى على من أمنهم الله! وهم في غفلة عن هذا، فكل من أهاج حاجاً، وكل من آذى مسلماً جاء للحج، وكل من أخاف إنساناً في حرم الله، فقد توعده الله بالعذاب الأليم.
لو أن إنساناً دخل بيتك، ثم جاء إنسان وفتح الباب واعتدى عليه، فقد اعتدى على صاحب البيت أيضاً، فالمولى سبحانه جعل الحرم آمناً، وجعله عتيقاً من الجبابرة، وأمن هواءه وأرضه وسماءه، ثم يأتي إنسان فيستهين بتلك الحرمة، ويعتدي على حرم المولى لعباده الذي جعله آمناً فوالله إنه لإجرام كبير، ولا يؤمن على هذا المعتدي مكر الله.(79/8)
حرمة المسجد الحرام
إذاً: الحسنة تتضاعف، والسيئة تتضاعف بعظم حرمة المكان؛ ولهذا قالوا: من قتل في الحرم نفساً خطأً فالدية تغلظ، ونحن نعلم بأن القتل نوعان: عمد وخطأ، والعمد فيه القصاص إلا أن يعفو أهل الدم، والخطأ فيه الدية مائة من الإبل، لكن إذا وقع القتل خطأً في الأشهر الحرم أو في حرم مكة، فينص الحنابلة على أن الدية تتضاعف، أي: تغلظ، والدية قد تكون مغلظة وقد تكون عادية، فالدية العادية مائة من الإبل أياً كانت، ولكن المغلظة منها أربعون ناقة حاملاً، وأين يجد أربعين ناقة حاملاً؟ فهذا من باب التغليظ بسبب حرمة المكان والزمان.
قالوا: من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، إلا إذا كان في مكة، فإنه يؤاخذ على هذا الهم، فإن عملها ضوعفت عليه السيئة، قال مجاهد وهو ممن أخذ عن ابن عباس: الحسنة تتضاعف في مكة والسيئة كذلك، ومن هنا لما أمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ابن عباس أن يقيم للناس الحج، أي: يكون مفتياً للحجاج، قال: لا أستطيع أن أسكن بلداً تتضاعف فيه السيئة كما تتضاعف فيه الحسنة، ولكن أسكن الطائف، وإذا جاء وقت الحج نزلت إلى مكة مدة الحج، فسمح له بذلك، ثم توفي ابن عباس في الطائف لهذا السبب.(79/9)
فضل الله تعالى في مضاعفة الحسنات
فهذا الحديث يبين كيفية تعامل العبد مع ربه، وكيفية تعامل الملائكة مع العبد، وقد روي عن ابن مسعود وعن أحمد قالا: ما أهلكه من غلبت عشراته آحادُه، أي: الحسنة بعشر، والسيئة بواحدة، ومع هذا فمن الناس من يأتي يوم القيامة وسيئاته أكثر عدداً من حسناته! فالمولى يضاعف لك الحسنة بعشر، ولا يحاسبك على السيئة إلا بواحدة ما لم تتب وتستغفر، ومع هذا كله تكون حصيلة السيئات عندك يوم القيامة أكثر من الحسنات! فلا يهلك على الله إلا هالك.
روى النسائي وأبو داود وأحمد رحمهم الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان لا يحافظ عليهما مسلم إلا دخل الجنة، وهما يسيرتان، وقليل من يفعلهما! إذا قال بعد كل صلاة: سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، عشراً عشراً، فتلك خمسون ومائة) أي: لأن كل واحدة عشر مرات، فهي ثلاثون، يقول ذلك عقب كل صلاة، فثلاثون في خمس صلوات بمائة وخمسين، قال: (وإذا أوى إلى فراشه سبح الله وحمد الله وكبره مائة مرة، فتلك خمسمائة وألفا حسنة) أي: لأن مائتان وخمسون في عشرة بـ (2500) ، قال: (وهو لن يفعل سيئات بهذا العدد) ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث والتوجيه النبوي الكريم معادلة، لتعرف كم حسناتك في اليوم وكم سيئاتك، فإذا حرصت على سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، عقب كل صلاة عشراً عشراً، كان مجموع ذلك مائة وخمسين؛ فمائة وخمسون في اللسان، ولكن في الميزان تكتب ألفاً وخمسمائة؛ لأن مائة وخمسين في عشرة بألف وخمسمائة، وعند النوم تقولها مائة مرة، فهي بألف، فيكون لديك ألف وخمسمائة عقب الصلوات ولديك ألف عند الإيواء إلى الفراش، فمجموع الحسنات عند الله ألفان وخمسمائة حسنة، ولن يعمل العبد إن شاء الله سيئات بقدر ذلك.
فلو عملنا هذا، فحصيلة الحسنات أكثر بلا شك، فما عمل من خير بعد ذلك فهو فضل له، وهو سيعمل خيراً غير هذا؛ فسيلقي السلام، وسيلقى أخاه بوجه طلق، وسيعاون هذا، وسيتصدق، وسيقول كلمة الحق، وكل ذلك حسنات له، ومع هذا كله يأتي إنسان يوم القيامة وسيئاته أكثر من حسناته!! نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(79/10)
الأسئلة(79/11)
مضاعفة أجر الصدقة بحسب حاجة المسكين
السؤال
هل الصدقة تتضاعف بحسب شدة حاجة المسكين؟
الجواب
أليست الحسنات في ذاتها أيضاً تتفاضل؟ قال الله سبحانه: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] يقول أبو حيان: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) فيها احتمالان: الأول: الحسنة من حيث هي من باب الحسن، والسيئة من حيث هي من باب الإساءة لا يستويان، فهذه حسنة معروفة، وهذه سيئة قبيحة، فهما متباعدان ونقيضان.
الثاني: ولا تستوي الحسنة في ذاتها، بل يوجد حسنة رقم واحد، وحسنة رقم اثنين، وحسنة رقم عشرة، وكذلك السيئة تتفاوت، وقد أشرنا إلى تفاوت الحسنات بحسب عمل العبد، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (سبق درهم مائة ألف درهم!) ، والدرهم واحد، لكنه يقول لهم: (سبق درهم مائة ألف درهم!!) فميزان العقل والمنطق والحساب والرياضيات يتساءل: كيف هذا والجنس واحد؟! فالدرهم هو الدرهم، وهذه مئات الآلاف من الدراهم، فكيف هذا العدد كله يتأخر ويسبقه درهم واحد؟! فبين صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (رجل معه درهمان، فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها) .
فانظروا هذه المقارنة، فشخص عنده درهمان فقط، فتصدق بواحد، فنسبة الصدقة من رأس المال (50%) ، والباقي معه بعد الصدقة (50%) ؛ لأن الباقي واحد فقط، وهذا الذي عنده مال كثير، مثلاً مليون، وجاءه مشروع من المشاريع، فمرة يبيع بيته أو يبيع أرضه فربح عشرات الملايين، وقال: هذه مائة ألف، أو مائتا ألف ريال صدقة، فلو تصدق صاحب عشرة ملايين بمائتي ألف، فالمائتا الألف من العشرة الملايين، نسبتها واحد من مائتين، فأين واحد من مائتين من خمسين في المائة؟! فهي نسبة مئوية بعيدة جداً.
ولو أن صاحب العشرة الملايين تصدق بمليون، فهي عشرة بالمائة وسيبقى له بعد ذلك تسعة ملايين، ولا يشعر بشيء خسره.
إذاً: هناك فرق كبير بين القلب الذي يسخو بنصف رأس ماله ولم يبق بيده إلا درهم واحد، والشخص الذي تصدق بشيء لم يشعر به، ويبقى عنده ما يغطي ما تصدق به عشرات المرات، فالدرهم الواحد إذا خرج من قلب نقي، وصاحبه يكثر من ذكر الله، فهو أفضل من صاحب المئات التي خرجت من قلب لا يحس بأثرها كإحساس قلب صاحب الدرهمين، ومن هنا تتفاضل الحسنات فيما بينها.
وأنت لو تصدقت لإنسان محتاج، وعنده (70%) من قدر حاجته، فأعطيته (30%) لسد حاجته، وأتيت لإنسان محتاج لـ (100%) ، وأعطيته (20%) من حاجته، فهل صدقة (20%) التي أعطيتها لهذا تعادل (30%) التي كملت بها لصاحب السبعين؟ وأيهما أشد سداداً لصاحبها؟ فصاحب (70%) لا بأس بحاله، حتى لو كان صاحب (50%) ، لكن هذا الذي ليس عنده شيء، فهو مسكين لاصق في الأرض كما قال الله: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] ، وليس لديه شيء يحركه، فأنت حركته وأنعشته بصدقتك، فهي أفضل.
إذاً: الحسنة في ذاتها تتفاوت بحسب حاجة المحتاج، كما أنها تتفاوت بتفاوت الزمان والمكان، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه.(79/12)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن والثلاثون(80/1)
شرح حديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... )
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري] .(80/2)
الزيادات التي لم تثبت
هذا الحديث النبوي الشريف يعتبر عند العلماء من أشرف وأخص ما جاء في فضل أولياء الله سبحانه.
وهذا الحديث بهذه الألفاظ قال النووي هنا: رواه البخاري، وظن بعض الناس أن البخاري انفرد به، ولا يوجد الحديث في كتب السنن سوى البخاري، ولكن يوجد هذا الحديث أيضاً في حلية الأولياء، وذكره السيوطي في رسالة مختصرة، وكتب فيه الشوكاني كتاباً مستقلاً سماه: قطر الولي بشرح حديث الولي، وقد طبع كتابه هذا، وذكر أن أحمد رحمه الله ذكره في كتاب الزهد، وكذلك البيهقي؛ ولكن لضيق الوقت لم أتمكن من الاطلاع عليه في كتابي أحمد والبيهقي، وهو موجود بنصه في الجزء الثامن من حلية الأولياء، وأنصح طالب العلم ألا يكتفي بكتاب البغية الذي فهرس أحاديث الحلية؛ لأن هذا الحديث بالذات سقط من الفهرس، وهو يوجد في الجزء الثامن في ترجمة الحسن بن يحيى بن الحسنين.
وقد تكلم عليه ابن حجر فيما لا يقل عن خمس أو ست صفحات في الجزء الحادي عشر من فتح الباري في كتاب التواضع.
واستشكل بعض العلماء فقال: ما علاقة هذا الحديث باب التواضع؟ وإذا رجع طالب العلم إلى مرجعه فسيجد الجواب على ذلك مفصلاً، ويقول الشوكاني في كتابه على هذا الحديث: لم يكن عندي أثناء شرح هذا الحديث سوى فتح الباري لـ ابن حجر.
إذاً: هذا الحديث له أهميته، وعني به شراح الأربعين النووية، وفعلاً عني به أيضاً ابن حجر، وشرحه على ما جاء بألفاظه التي سمعنا.
ونحب أن ننبه أنه سبق وأن ذكرنا هذا الحديث عرضاً في بعض الليالي، وذكرنا في آخره زيادة كنا نحفظها أثناء الطلب، وسمعناها من مشايخنا، وفسروها لنا بما يتفق مع معنى الحديث، والزيادة هي: (وجعلته عبداً ربانياً يقول للشيء: كن، فيكون) ، وتساءلنا: ما معنى (عبداً ربانياً يقول) إلى آخره؟ فقالوا: يجعله مجاب الدعوة، ولكن بما أن الأمر نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بحثنا عن تلك الزيادة في المراجع فلم نجدها، وبلغني أن بعض الإخوة يجتمعون عند فضيلة الشيخ حماد الأنصاري -وكلنا يعرف سعة مكتبته وعلمه- ويبحثون عن تلك الزيادة، وأعتقد أن تلك المراجع كلها لم تذكرها؛ ولذا أحببت التنبيه على ذلك؛ ليعرف طالب العلم أنها لا توجد في كتب السنن، والأولى التحفظ من ذكرها، وما جاء في الحديث في صحيح البخاري فيه الكفاية؛ لأن الله سبحانه قال: (لئن سألني لأعطينه، ولئن استنصرني -وبعض الروايات- استنصر بي لأنصرنه) وسيأتي تفصيل ذلك.
وفي هذا المسجد النبوي الشريف دروس وعبر لطالب العلم، وأذكر هذا لا اعتذاراً في الموقف، ولكن بياناً للمنهج، وقد اجتهد عمر رضي الله تعالى عنه، وأراد أن يحدد المهور اجتهاداً منه، فتقوم امرأة وتقول: ليس لك ذاك يا عمر! والله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء:20] فكيف تحدد شيئاً لم يحدده الله في كتابه؟! فقال عمر وبملء فيه، وعلى رءوس الأشهاد، وعلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخطأ عمر، وأصابت امرأة.
ولقد رفع ذلك عمر عند أصحابه.
وفي هذا المكان بالذات، وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في دروس رمضان في التفسير، وعند الآية الكريمة: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة:36] إلى آخر الآية، قال: أيها الإخوة! كنا قلنا سابقاً أن تلك الأشهر قد نسخت، ونسختها آية السيف -كما يقول بعض المفسرين-، ولكن بعد التأمل والبحث ظهر لنا أنها لم تنسخ، وأنها باقية على حرمتها، فأحببنا أن ننبه الإخوان على ما سبق أن قلناه.
وهكذا أيها الإخوة! يبلغ الحاضر منكم الغائب أن تلك العبارة بحثتها شخصياً في تلك المراجع، فلم أجد لها ذكراً في تلك المراجع؛ ولذا نقف على ما جاء في صحيح البخاري، وما جاء في الحلية بزيادة بعض الألفاظ فنعرض لها عند شرح الحديث إن شاء الله، وأحمد الله مرة أخرى، وأشكر الإخوة الذين نبهوا على ذلك، والحمد لله.(80/3)
من هو الولي؟
يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه أنه قال: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ، هنا يقف العلماء عند: (من عادى لي ولياً) من هو الولي؟ وكيف يعاديه؟ وكيف يؤاذنه الله بالحرب؟ وهل كل عداوة تدخل في هذا؟ يقول العلماء: الولي من نص القرآن الكريم عليه بقوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] من؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] ومن قانون اللغة العربية في البلاغة -في مبحث الوصل والفصل في البيان- أن الجملة إذا كانت جديدة تعطف بالواو، وإذا كانت مفسرة أو مرتبطة بما قبلها كأن تكون جزءاً من كل، أو بياناً لمجمل، فإنها لا تعطف بالواو ولكن تأتي تابعة لها، وأشرنا إلى ذلك مراراً، وهذه القضية البلاغية تحل إشكالات كثيرة عند طلبة العلم في مآزق المواقف، وخاصة في مواقف العقائد.
بيان لذلك: تجد في مستهل المصحف الشريف قوله سبحانه: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] (هُدًى) لمن؟ (لِلْمُتَّقِينَ) ثم جاء بعد ذلك بأوصاف لأشخاص، وهل الأوصاف جاءت معطوفة بالواو أو جاءت متصلة بدون عطف؟ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:2-3] ولم يقل: (هدى للمتقين والذين يؤمنون بالغيب) لا، يقول البلاغيون: لو قيل: ومن المتقون الذين يهتدون بالكتاب؟ قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] ، ولو جاء بالواو لكانت مفرقة، وكان عندنا قسمان: لو قيل: (هدى للمتقين، والذين يؤمنون بالغيب) يبقى عندنا متقون، وعندنا مؤمنون بالغيب.
إذاً: الوصل والفصل في البيان هو سر البلاغة، ومن هنا: أجاب أحمد بن حنبل رحمه الله على من استشكل أمر المعية، وهي إثبات ما جاء في كتاب الله بدون تأويل ولا صرف للمعنى، وذلك في قضية نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، عندما قال المولى سبحانه لما أرسله وأخاه إلى فرعون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7] وبمجموع هاتين الآيتين قال أحمد رحمه الله: إن معية الله لموسى وأخيه تفسر بما بعد المعية {إِنَّنِي مَعَكُمَا} ولم يقل: (وأسمع وأرى) ، وإلا كانت معية سمع ورؤية، ولكن قال: (أسمع وأرى) ، وهي عين المعية التي بينها سبحانه وتعالى، فهي معية تأييد ونصرة، وهي عين المعية في غار حراء مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الهجرة عندما خرج صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، قالها صلى الله عليه وسلم حينما قال أبو بكر: والله! يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى تحت قدمه لأبصرنا، قال: (ما بالك باثنين الله ثالثهما؟) ، المولى سبحانه وتعالى بين لموسى بقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، ومعية الله العامة هي لجميع الخلق بالعلم والاطلاع: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] ، وأحمد قال: اقرأ ما قبلها واقرأ ما بعدها {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا} [المجادلة:7] وآخرها: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] قال: بدأها بالعلم وختمها بالعلم فهي معية علم، ومعية العلم لجميع الكائنات مستوية، ولكن معية التأييد والنصرة خاصة لرسله ولأوليائه.
إذاً: الولي من الموالاة، والموالاة القرب، والعداوة من العدوة، والعدوة البعد يقال: عدوة الوادي أي: كل واحدة في جانب، وهنا قوله: (من عادى لي) يقول ابن حجر: واستشكل العلماء كلمة (عادى لي) ، فالمفاعلة هنا معاداة مع أن ولي الله لا يعادي أحداً؛ لأنه متصف بالحلم ومكارم الأخلاق وسعة الصدر، فكيف تكون المعاداة بين ولي الله وبين شخص آخر؟ وأجيب عن ذلك: بأن المعاداة هنا: إنما هي من جانب واحد، كما تقول المعاناة حين تعاني الأمر، وكذا يقال: المسافر وليس مفاعلاً مع شخص آخر، والمقاتل والمزاحم معه شريك، والمناقش والمجادل معه شريك، ولكن المسافر ليس معه إنسان مفاعل معه، إذاً: المعاداة هنا تكون من جانب واحد.(80/4)
المعاداة التي تستوجب محاربة الله
هل كل معاداة لولي تستوجب حرباً لله؟
الجواب
لا، ولقد وقع النقاش والخلاف في أمور دنيوية بين خيرة الأمة وأكرمها عند الله، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل كانت معاداة؟ قالوا: لا، والخصومة في أمر الدنيا من طبيعة البشر، فـ عمر رضي الله عنه اختصم مع أبي بن كعب في نخيل، وقال أبي: ألأنك أمير المؤمنين؟! وهذه خصومة، فقال: لا والله! اختر من شئت نحتكم إليه، قال أبي: نحتكم إلى زيد بن ثابت، ويذهب أمير المؤمنين مع خصمه إلى دار زيد، ويدخلان معاً، فيقول زيد: هلم يا أمير المؤمنين! فيقول عمر: لا، ما جئتك أميراً للمؤمنين، إنما جئتك مختصماً مع خصمي، فقال: اجلس مع خصمك، فيجلس مع خصمه، فقال زيد: ما دعواك يا أبي؟! قال: نخل لي في كذا وكذا، قال زيد: ألك بينة عليها؟ قال: لا، وأطلب يمينه، فتساهل زيد وقال: أوَتعفي أمير المؤمنين من اليمين؟ فصاح عليه عمر: ويحك! جرت في الحكم، أكل الناس تشفع فيه في الحكم؟! لماذا لا توجه إليّ اليمين؟! قال: أتحلف؟ قال: نعم أحلف، فحلف عمر، وبمقتضى عدم البينة، وحلف المدعى عليه، برئت ذمته، وحكم بالنخيل لـ عمر، وصرف النظر عن دعوى المدعي، وهذه خصومة في القضاء، لكن هل هي معاداة لولي الله؟ لا والله! إنما هي أمور جبلية في أمور الدنيا، ومن هنا يقول العلماء: (من عادى لي ولياً) ، ليس منه المطالبة بحق شرعي، ولنأت إلى سر الحديث وإلى البلاغة التي تُشم ولا تُلمس في هذا اللفظ النبوي الكريم، تحسسوا معي يا إخوان! (من عادى لي ولياً) ، ولم يقل: من عادى ولياً لي، بل (من عادى لي ولياً) ، فهل تجدون فيها فرقاً أم لا؟ الذوق البلاغي هنا: بتقديم (لي) على (ولياً) ، فإن تقديم الجار والمجرور هنا، وإضافته إلى المولى سبحانه يُشعر بأن المحاربة تكون لمن عادى الولي لكونه ولياً لله، أما لو قال: (من عادى ولياً لي) ، فقد يكون هذا الولي عنده ما يوجب المعاداة، لكن (من عادى لي) ، يعني: من أجلي وبسببي وباسمي، فمن عاداه وهو ينتمي إليّ فقد آذنته بالحرب، والحديث في بلاغته يُشعر بأن العداوة المنهي عنها والمحذر منها هي أن يعاديه لكونه ولياً لله، ومن الذي يعادي ولي الله لولايته لله؟ نعلم جميعاً أن ولاية الله لا تحصل بالمعصية والفسوق والخروج على كتاب الله وسنة رسوله، ولا بمخالفة الإجماع وشق عصا المسلمين، فهذا الحديث -كما يتفق العلماء- يعتبر فاصلاً بين الحق والباطل.
ولي الله فعلاً كما جاء في الكتاب الكريم: {الَّذِينَ آمَنُوا} [يونس:63] ، ومقتضى الإيمان: الإيمان بالله وبكتابه وبرسوله، والإيمان يستلزم العمل بالحق والتمسك به، فقولك: آمنت بالله، تؤمن بكل صفات الله، وتؤمن بكل ما جاء عن الله، ومما جاء عن الله كتابه سبحانه ورسوله الذي ارسله إلينا، فمن مقتضى الإيمان الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فتلتزم كل ما جاءك به.
عندما تقول: (لا إله) نفيت الآلهة كلها بكلمة (لا) ، فإذا جئت تقول: (إلا الله) ، (إلا) أداة استثناء، وما بعدها يغاير ما قبلها، فنفيت عموم الآلهة كلها، وأثبت إلهاً واحداً وهو الله، فإذا اتخذت شريكاً مع الله، وقربت قرباناً لغير الله، ناقضت ذلك، ولم تكن ملتزماً بها، فلا يصح قولك: (لا إله إلا الله) إلا بنبذ جميع الآلهة سوى الله، وقد فهم ذلك المشركون تماماً وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، فلا يكون مع الله أحد.(80/5)
أول نداء في القرآن
بمقتضى إيمانك برسول الله، تؤمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسله الله رسولاً، وأعطاه مقومات البعثة، وهي شواهد الصدق والإرسال، كما اء في أول سورة البقرة، يقول والدنا الشيخ الأمين: هو أول نداء في المصحف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21-22] هلموا! اعبدوا ربكم! الرب الموجد المربي المدبر كما روي في الحديث: (أدبر عبادي بما أعلم في قلوبهم) ، فرب العالمين هو خالق الكون والعوالم كلها، ومربيها على نعمه وعلى أرزاقه، وتدبيره لخلقه بما يصلحهم، هو خلقك، والذي خلقك هل يتركك؟ لا, هل خلقك وحدك؟ لا، {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ثم بعد خلقك أقام لك بيتاً كبيراً جداً، فجعل الأرض فراشاً مستوية مهداً، تنبت لك تحفر فيها تشقها مسخرة لك، ليست من الحديد الصلب فتعجز عن زراعتها، وليست من الصخور التي تعجز أن تشقها، والأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، فهي ممهدة مثل البيت الممهد بفراشه، لو فرشها لنا حريراً لكنَّا نعجز؛ لأن الحرير ما ينبت، والتربة التي عليها هي اختيار المولى تفعل فيها ما شئت، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} مثل القبة، وفي هذا البناء بمهاده وقبة بنائه ينزل الماء من السماء، فتقبله الأرض المهاد الفراش فتنبت، قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24-32] .
من الذي أنزل الماء من السماء صباً؟ من الذي شق الأرض للنبات الرطب الناعم؟ من الذي جعله مثمراً حباً وعنباً وقضباً وزينوناً ونخلاً؟ من الذي ينبت هذه ويثمرها؟ إنه الله.
إذاً: يا ابن آدم! كن عاقلاً، واشكر النعمة وقابلها بأداء حق صاحبها، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22] والند المماثل المعاند، يقال: فلان شريك لفلان، الشريك قد يكون له العشر، وقد يكون ضعيفاً، وقد يكون غشيماً، شريك بتجارة وعمره ما باع بدرهم، شريك في مصنع وعمره ما صنع بآلة، ويطلق عليه شريك، لكن الند المماثل وقد يكون أحسن منك، أنت تاجر وأنا أتجر منك، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} معانداً مضاداً لله في خلقه، ثم تصرفون العبادة له، ((وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة:22] ، يقول والدنا رحمه الله: هذه دلالة صدق على لا إله إلا الله {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ، لا والله! ما خلقنا من غير شيء، ولا خلقنا أنفسنا، إذاً: الله خلقكم غصباً عنكم، ثم يأتي دليل على أن محمداً رسول الله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] ، عبدنا الذي اصطفيناه وأرسلناه برسالة، ثم أنتم تكذبون بالرسالة، أنتم ما كذبتم بعبدنا، فأنتم تعرفون محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وتعرفون مولده ونشأته: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] هم ما أنكروا محمد بن عبد الله، ولا أنكروا صدقه ولكن أنكروا الذي جاءهم به {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] يا سبحان الله! {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32] أهم يقسمونها؟ لا.
هذه رحمة الله يجعلها حيث شاء، إن كنتم في ريب من هذا الكتاب الذي أنزلنا على عبدنا وهو محل الرسالة، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23] هاتوا شهداءكم، احضروا وتجمعوا وتعاونوا: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] انظروا هذه العظمة يا إخوان! ((فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا)) وأعلم أنكم لن تفعلوا، وهل فعلوا؟ لا والله، ما فعلوا وصدق الله في قوله فيهم: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) .
، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والحِجَارَة} [البقرة:24] سبحان الله العظيم! إذاً: تصديق الرسالة أن تؤمن بهذا الكتاب، فإذا قلت: محمد رسول الله، صدقت بالرسالة التي جاء بها، ومقتضى تصديقك بالرسالة أن تعمل بمقتضاها، ونضرب مثلاً في العصر الحاضر بما يسمونه السلك الدبلوماسي، أي دولة في العالم مستقلة بذاتها، ولكن كما يقولون: الناس للناس من بدوٍ وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم لا يوجد دولة في العالم تعيش لوحدها أبداً، ولا يوجد فرد يعيش في العالم وحده، كل دولة محتاجة للأخرى، تترابط معها في تجارة في سياسية في علم، كيف تفعل؟ هل رئيس كل دولة يذهب إلى كل رئيس؟ لا أبداً، كل دولة تجعل لها سفيراً، فالدولة عندما ترسل سفيراً لها، السفير هذا ليس مرسلاً من أفراد الشعب، بل من رئيس الدولة، فحينما يذهب السفير نسمع أنه يقدم أوراقاً لرئيس الدولة التي جاء إليها، فيأخذها وزير الخارجية، ويعرض الأوراق على رئيس الدولة، وتعمل له مراسيم رسمية، ويُعلن بأن سفير الدولة الفلانية عندنا هو فلان.
فإذا جاءهم بقصاصة ورق جاءهم بتلغراف جاءهم بهاتف هل هو من عند شخصيته أم من عند الدولة التي أرسلته؟ من عند الدولة التي أرسلته؛ لأننا حينما قبلنا أوراق اعتماده فهو يعبر عمن أرسله فيما بعد، فإن كانت العلاقة دبلوماسية وسياسية ماشية طيبة فأهلاً وسهلاً، وكل شيء على العين والرأس، وإذا اختلت السياسية والعلاقة نبدأ نسوف له، والأجوبة تكون سياسية، فيقال: عفواً ما عندنا إمكانيات وطالما كانت العلاقة حسنة كانت الاستجابة سريعة، وعندما تسوء العلاقة يحصل التواء في المعاملة، فإذا وصلت إلى القمة في الإساءة قالوا: خذوا سفيركم من عندنا.
وهكذا عياذاً بالله حينما تسوء علاقة العبد بربه! يرفض معنى الرسالة! ويرفض معنى رسول!(80/6)
من لوازم الولاية اتباع السنة
قولك (محمد رسول الله) التزام منك برسالة محمد بكل ما جاء به، فتتبع كتاب الله وسنة رسوله، والسنة مع الكتاب سواء، كما قال السيوطي: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته وتعبدنا بتلاوته، وهو القرآن، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة، وقرأ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .
وفي الآية الكريمة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] إلى آخره.
إذاً: الولي هو الذي يقوم بكتاب الله، وسنة رسوله، ويؤمن باليوم الآخر وغيرها من أركان الإيمان الستة، ولا يكفي التصديق بمجرد يوم سيأتي، بل يلزم أن يؤمن بكل مواقفه، وما جاء من أخبار اليوم الآخر من البعث والحساب والميزان والصراط والجنة والنار وحوض لكل رسول، وللرسول صلى الله عليه وسلم حوض، فكل ما جاء به الخبر عن يوم البعث فهو داخل تحت عنوان: (والإيمان باليوم الآخر) .
فولي الله حقاً هو الذي التزم بحقيقة الإيمان بالله، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] .
إذاً: معاداة ولي الله، لا تكون بأذيته في البيت والجوار أو بحد الأرض، لا والله، إنما تكون فيما كان به ولي لله بإيمانه وتقواه، فمن عادى ولياً مؤمناً تقياً في إيمانه وتقواه فهو المحارب لله، يأتي جاهل ويحارب العلماء! يأتي حاقد ويحارب ويكره ويبغض أصحاب رسول الله! يأتي حاقد ويكره إنساناً مسكيناً متبعاً ملتزماً مصلياً صائماً تقياً! يكون معادياً له لضعفه وتجنبه إيذاء الناس، فهذا عاداه في أمر دنيوي أو فيما هو به ولي لله؟! وهكذا من عادى مؤمناً لإيمانه، أو عادى تقياً لتقواه، أو عادى عالماً لعلمه، أو عادى داعياً لله لدعوته، فهؤلاء هم المحاربون لله، وفعلاً هؤلاء هم الذين يحاربهم الله؛ لأنهم يعادون من؟ من ينضمون إليه، وتحت لوائه، وينتسبون إليه: (من عادى لي ولياً) .
وهنا يبحث العلماء عن لوازم مقتضيات الولاية، فلوازم الولاية هي التمسك بالكتاب والسنة، والمبادرة إليها، وتقوى الله والورع والزهد، وتاريخ المسلمين مليء بذلك، فإذا ادعى الولاية لله مع تركه كتاب الله وسنة رسوله، ومع وجود المعاصي، نعم، ليس معصوماً، ولكنه يجاهر بالمعصية، ويستمر عليها، فهو كاذب، أما المتقون فقال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ، الولي لا يقول: إنه لا يخطئ، لا، ليس معصوماً، ولكن هل يستمر في الخطأ؟ هل يأتيه عمداً؟ قد تزل به قدم، قد قد.
فهو ليس معصوماً، ولكن سرعان ما يرجع إلى الله سبحانه وتعالى.(80/7)
الكرامات والفرق بينهما وبين المعجزات
قالوا: من علامات الولاية الكرامة، وليس صحيحاً، كم من ولي لله لم تجر على يده كرامة، وكم من شخص عادي قد تجري على يده الكرامة.
والكرامة: أمر خارق للعادة، يجريها الله على يد من شاء من خلقه، ولكن إن كانت على يد رسول فهي معجزة، فالمعجزة للرسول، والكرامة للولي، والفرق بينهما: أن المعجزة تجري على يد النبي والرسول في موقف التحدي.
أما الكرامة فتأتي من باب الإكرام، فلا يقف ولي ويتحدى ويقول: سأفعل كذا لا، ولكن الرسول هو الذي يقول ذلك عندما يتحداه قومه، ولكن الولي تأتيه عفواً، وغالباً ما تكون الكرامة له في مقام الدعوة إلى الله، يؤيد الله بها دعاة الحق؛ ولذا يقول العلماء: كرامات الأولياء معجزات للأنبياء؛ لأنه ما جرت على يده تلك الكرامة إلا لاتباعه لذاك الرسول صلى الله عليه وسلم.(80/8)
هل خوارق العادات من الكرامات؟
ويذكر العلماء أيضاً: إذا جرى خرق العادة على أيدي بعض الناس، ننظر أهو على وصف القرآن له أم لا؟ فقد تجري خوارق العادات على أشخاص غير مرضيين، كما يذكرون عن بعض الأشخاص في الهند، يستدرجه الشيطان، ويجري على يده شيئاً من خوارق العادات، كل ذلك لا عبرة له، ننظر لهذا الشخص الذي جرت الكرامة على يده هل هو من أولياء الله حقا، أو هو من أولياء الشيطان عياذاً بالله؟! وذكروا كرامات جرت على يد الصحابة والتابعين وتابعيهم، والله سبحانه وتعالى فضله واسع على عباده ولا مانع من أن تجري الكرامة على يد عبد صالح في أي وقت، وفي أي زمان ومكان، ما دام أنه على ما وصف الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] .(80/9)
قصة عمر بن الخطاب في ندائه لسارية
ذكر الشوكاني وابن كثير قصة سارية، وللأسف أن بعض الناس قد يتكلم فيها، ولكن وجدناها ذكرها الشوكاني، وهو رجل محدث ومتحرٍ، ويحارب التقليد، ويلزم بالاجتهاد، وهي قصة عمر رضي الله تعالى عنه في هذا المسجد على هذا المنبر وهو يخطب، وكان جيشه في أفغانستان أو ما وراء النهر، فعندما تقدموا انكشفوا، وأراد العدو أن يلتف عليهم، فسمعوا من يقول: يا سارية! الجبل، فيرجع سارية إلى الجبل ويعتصم به، ويقابل العدو ويقاتل فينتصر، ويأتي البشير بالفتح، ويسأله ماذا كان أمركم؟ فقال: كدنا أن نهلك لولا أننا سمعنا صوتاً ولا ندري من أين يكون، يا سارية! الجبل فرجعنا إلى الجبل وانتصرنا! وقد طعن في هذه القصة بعض الناس، والشوكاني من أعلام القرن الثالث عشر يثبتها في كتابه في شرح هذا الحديث.(80/10)
سماع سعيد بن المسيب الأذان من حجرة النبي صلى الله عليه وسلم
سعيد بن المسيب من أجل التابعين وكبار الفقهاء السبعة في المدينة، في وقعة الحرة تعطل الأذان والصلاة في هذا المسجد ثلاثة أيام، لم يستطع إنسان أن يأتي إليه، وكان هو وحده الذي يأتي إلى المسجد، ويقول: أربعون سنة ما أذن المؤذن إلا وأنا في المسجد، وما رأيت قفا رجل في الصلاة.
أي: كان مداوماً على الصف الأول، فقيل له: ألا تخشى الفتنة؟ فيقول: لا، ويأتي إلى المسجد، وتذكر كتب المؤرخين بأنه في تلك الأيام الثلاثة كان يأتي إلى المسجد، وليس هناك مؤذن، فكان يسمع الأذان من داخل الحجرة النبوية، فينهض ويقيم الصلاة ويصلي، من كان يؤذن له؟! أمور خصه الله بها، لا تقل: كيف يأتي ذلك؟ كيف يكون؟ ليس للعقل حكم فيها ولو كان للعقل حكم فيها، ما كانت خارقة للعادة.(80/11)
قصة العلاء بن الحضرمي في نزول المطر وركوبه البحر
يذكرون روايتين عن العلاء بن الحضرمي أنه حينما ذهب إلى البحرين: رواية ابن كثير تقول: عندما اشتد عليهم العطش وكادوا يموتون، صلى ركعتين، وسأل ربه أن يغيثهم، فجاءت سحابة تقبل من بعيد، حتى أظلت عليهم، وأمطرت، فشربوا وسقوا دوابهم، وملئوا أوعيتهم، ثم انصرفوا.
والشوكاني ذكر رواية أخرى ذكرها صاحب الحلية، وذكرها السيوطي عنه، يقول: اشتد عليهم العطش، فدعا ربه، فمشى قليلاً فإذا نهر يجري من السماء، يعني: من ماء المطر يجري، فشربوا وملئوا أوعيتهم، وسقوا دوابهم ومشوا.
فرجع شخص من القوم إلى ذلك المكان فلم يرَ له أثراً.
يقول ابن كثير في قصته: ولما وصلوا إلى البحر -وهذا كان في الدهماء في الربع الخالي حينما وصلوا إلى البحرين- وجدوا العدو قد علم بهم، ولم يجدوا السفن ليركبوها إلى الجزيرة، ووقفوا أمام البحر، فقالوا: ماذا نفعل؟ جئنا مسيرة شهر، فهل نرجع؟ لا، فقال العلاء: أيها القوم! إن الله قد أراكم في البر آية، وهو قادر على أن يريكم في البحر آية، وإني عازم عزماً، قالوا: وما هو؟ قال: أخوض هذا البحر! قالوا: على بركة الله، فوقف وقال: أيها البحر! أنت تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر إلى عدو الله، فجمد الماء وعبر المسلمون، يقول ابن كثير: فلم يترجل الفارس ولم يحتفِ المتنعل، ومشوا على الماء، وقاتلوا العدو وانتصروا.(80/12)
قصة رجل مات فرسه فبعثه الله له
ذكر الشوكاني أيضاً وغيره: أنه في بعض الغزوات مات فرس شخص، فقالوا له: هلم متاعك نحمله معنا! قال: أمهلوني ساعة، فذهب وتوضأ وصلى وقال: يا رب! لا تجعل لأحدهم عليّ منة، أعرني فرسي إلى البيت، فتحرك الفرس وقام، فركب إلى أن وصل إلى البيت، جاء ولده يستقبله وقال: يا ولدي! لا تُدخل الفرس، خذ المتاع، ودع الفرس فإنه عارية! فلما أخذ المتاع عن ظهره سقط ميتاً!(80/13)
الكرامات وأثرها في الناس
لا نطيل الكلام في ذلك، وهذا أمر ثابت لا ينبغي لأحد أن ينكره، ولا ينبغي لأحد أن يسترسل فيه ويثبت ما يتخيله، ولكن ما كان واقعاً بالفعل صدقناه، كما ذكر عن بعض السلف حينما جاء الأسد وكلمه، وكان تائهاً في الطريق، فيأتي الأسد فيدله على الطريق حتى يعرف مكانه إلى غير ذلك من الأمور التي أثبتها العلماء، وهذا أمر لا دخل للعقل فيه، والمرجع فيه للسند والإثبات، وكل ما أثبته الثقات من العلماء مما وقع من مثل ذلك صدقناه، ووقوع مثل هذا ليس مجرد كرامة لصاحبه، ولكنه تجديد إيمان من يسمع بذلك، ألم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يرون المعجزة من المعجزات يزدادون إيماناً؟ في غزوة الخندق استعصت عليهم الكدية، وتكسرت معاول القوم، فجاء إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعوله، وفي رواية أنه توضأ ونضح الماء عليها، ثم نزل إليها وضرب الضربة الأولى، فأبرقت فرأى قصور عدن، ثم ضرب الضربة الثانية فأبرقت ورأى قصور صنعاء، وتكسرت أكثر، ثم الثالثة وكل مرة يكبر صلى الله عليه وسلم، ويقول: (فتحت كذا وفتحت كذا) أبو هريرة إنه أسلم عام خيبر، لكن يروي عمن حضر، أنه كلما خرجت سرية أو جيش ليقاتل، يقول: اذهبوا حيث شئتم، فلا تفتحوا بلداً إلا وقد أخبرنا رسول الله عنها علماً.
الصحابة لما كانوا يحفرون الخندق، يقول جابر أو غيره: والله! لقد كان أحدنا يخاف عندما يذهب يقضي حاجته، اليهود حولهم من كل جهة، والأحزاب يأتون من هنا واليهود من هنا فكان الموقف حرجاً، قال تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] ، فلما جاءت الكدية وكبر رسول الله وقال: (فتحت كذا وفتحت كذا) أليس ذلك من باب الطمأنينة عندهم؟! وكذلك تكثير الطعام! وكلما رأى الصحابة معجزة لرسول الله ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، وكذلك المؤمن عندما يرى خارق العادة على يد مؤمن متقٍ داع إلى الله، يكون هذا أدعى إلى تصديقه.
إذاً: المؤمن التقي الذي يدعو إلى الله، ويقوم بحق الله سبحانه! يجب التعاون معه، وتجب نصرته، لا أن نعاديه، فإن عاداه أحد فهل عاداه لشخصه أو عادى ربه؟ إذاً: يصدق عليه قوله: (فقد آذنته بالحرب) .(80/14)
المواطن التي أعلن الله فيها الحرب على من عصاه
في حد علمي لم يعلن الله المحاربة إلا في ثلاثة مواطن، هذا الموطن الأول: (من عادى لي ولياً) .
الموطن الثاني: الربا قال الله فيه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:279] الموطن الثالث: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33] الذين يخيفون الناس ويقطعون الطرق، فالله هو الذي يحاربهم، لماذا؟ لعظم جريمتهم.
إذاً: الجريمة تعظم وتصغر، وكذلك الحسنة تعظم وتصغر، وقد يكون بالنسبة للشخص بعينه تعظم سيئته أو حسنته.
فآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل هم كسائر الناس؟ لا، قال تعالى في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب:28] أي: فلكنّ الذي تردنَ {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29] ، يعني: نساء النبي صلى الله عليه وسلم {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] يعني: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32] وهناك يقابل بقوله: {يُضَاعَفْ لَهَا} {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:31] انظروا الجزاء! عندما يأتي بعد هذا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] يعني: المسلمين والمسلمات، لكل من اتصف بتلك الصفات مغفرة وأجر عظيم، ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من يقنت منهن وتعمل صالحاً لها الأجر مرتين، ولها رزق كريم، المقام يختلف! والشخصية تختلف! وهنا المعصية لما كانت محاربة لولي الله، ولما كان المحارب يحارب الله ورسوله والمؤمنين جميعاً، كان الجزاء ناجزاً والعقوبة مضاعفة، القتل الصلب القطع من خلاف، النفي من الأرض.
كذلك الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279] وهذه الجملة الأخيرة (فقد آذنته بالحرب) أحب إليّ أن تترك، كما يقول العلماء في أحاديث الوعيد: تمرر كما جاءت، فإن التفصيل يهونها، (آذنته بالحرب) لو كررتها دونما شرح كانت أشد إرهاباً، وأوقع في النفس من أن يقال: يأخذه بذنبه يفعل به يسوي به لا، اتركه لأنه معلن عليه الحرب من الله، وأي إجرام أكثر من هذا؟! وأي إخافة أشد من ذلك؟! أي دولة أعلنت الحرب على دولة تستمر الثانية في طوارئ ليلاً ونهاراً، وتعمل خنادق وتؤدي وتعمل، وتظل عاجزة، لأنهم بشر، ويمكن أن تستعين بأمة أخرى، ولكن هذا بمن يستعين على الله؟ إذاً: نترك تفسير هذه العبارة على ما هي عليه، ومن أراد الزيادة في ذلك فليرجع إلى ابن حجر في فتح الباري، فسيجد أقوالاً موجودة، وسيرجع بعد التفصيل إلى الإجمال مرة أخرى.(80/15)
شرح قوله: (وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)
ثم يأتي البيان، وكأنه قيل: يا رب! ومن أولياؤك الذين لا نحاربهم؟! من أولياؤك الذين لا نعاديهم؟! ومن أولياؤك الذين تحارب أعداءهم؟! الولاية قربة أو لا؟ الولاية قربة، الولي متقرب إلى الله، يقول: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل) كأن الحديث يقول: حقيقة أولياء الله الذين أدوا الفرائض المفروضة عليهم، وزادوا في اجتهادهم بالنوافل، إذاً: الذين يدعون الولاية ولا يؤدون الفرائض، يبقون أولياء من؟! الذين يدعون الولاية وهم كعامة الناس لا أزيد عن الخمس ولا أنقص، وغيره يجتهد في النوافل هل يكونون سواء؟ ليسوا سواء.
إذاً: هذا الحديث كما يقول العلماء: فاصل بين الحق والباطل، فاصل بين الدعوة والدعاية، فاصل بين الحقيقة والادعاء، فلو رأينا خارق عادة على إنسان هل نحكم بأنه ولي؟ لا، فمجرد رؤية خارق العادة قد تكون بخدعة لا ندركها، بعض الناس قد يأتي بأمور عجيبة لخفة يدٍ أو سحر فتظن أنها كرامة! سحرة فرعون سحروا أعين الناس، فنحن ننظر أولاً -قبل أن ننظر إلى خارق العادة- إلى من جرت على يده، وما موقفه من الدين؟ يقول أئمة وعلماء التصوف الحقيقيون الذين ينقل عنهم ابن تيمية؟: كل دعوى بدون بينة فهي باطلة، والبينة على الدعاوى شاهد عدل، وكل من ادعى دعوة في الإسلام بدون شاهدي عدل فدعواه مرفوضة، وشاهدا العدل عندنا كتاب الله وسنة رسوله، فإن كان يقيم البينة على أنه من أولياء الله، {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] ، فإيمانه كرامة، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: ليس بلازم أن نراه يطير في الهواء أو يمشي على الماء، لا، قد يكون مجرد توفيقه في عمله ودعوته إلى الله، وإصلاح الناس على يده من أكبر الكرامات، نحن قد نجد كثيراً من الناس لهم مجهودهم الكبير في الدعوة إلى الله، وما خلفوا للمسلمين من تراث علمي نافع، ولا نستطيع أن نقول: هؤلاء أولياء الله، والله والاهم.
إذاً: ليس مجرد وجود خرق العادة يكون لازماً أنه من ولي، إنما لازم الاتباع، الحكم السليم على شخصيته أولاً.
والله تعالى أعلم.(80/16)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والثلاثون(81/1)
شرح حديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي: الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه) حديث حسن، رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما] .
هذا الحديث يتكلمون على سنده، ويكثر العلماء من القول فيه، وأكثرهم على ضعف سنده، ولكن تحسين المؤلف له لا عن طريق السند، ولكن عن طريق الشواهد، وما يتقوى به من غيره، والقاعدة عند علماء الحديث: أن الحديث إذا كان ضعيف السند، -أي: أن في رجاله من يتكلم فيه- ولكن المعنى صحيح، ويتقوى بنصوص أخرى هي صحيحة؛ فإنهم يحسنونه، وهو المعروف بالحسن لغيره، وهذا الحديث مما صح معناه، وشهدت له نصوص أخرى سواء من القرآن الكريم أو من السنة النبوية، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي) التجاوز: التعدي، تقول: جاوزني فلان، أي: تعداني، وتقول: تجاوزت عن حقي الذي عند فلان أي: تعديته وأسقطته، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي) بمعنى: أسقط لي عن أمتي.
وقوله: (الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه) ، هذه مسائل يخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الله أكرم الأمة برسوله في ذلك، ومفهوم المخالفة: أن الله لم يتجاوز لنبي غيره لأمةٍ من الأمم عن تلك الثلاث، وهذا المنصوص عليه، لأن الأمم الماضية كانت تؤاخذ بما أخطأت، وبما نسيت، وبما أكرهت عليه، أما الخطأ والنسيان والإكراه، فكما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: أنها عندما نزلت قرأها صلى الله عليه وسلم، فكان كلما قرأ واحدة منها يقول الله تعالى: (قد فعلت، قد فعلت) .
إذاً: هذه الأمور الثلاث كانت الأمم من قبل مؤاخذة بها، وهي الإصر والأغلال التي كانت عليهم، ومما أكرم الله أيضاً هذه الأمة مع تلك الثلاث التوبة، فقد كانت توبة بني إسرائيل -كما بيّن سبحانه وتعالى- أن يقتلوا أنفسهم، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:54] ، كانت توبتهم في تلك الواقعة أن يقتل بعضهم بعضاً، وهذه الأمة جعل الله لها التوبة: الندم على ما فات، والعزم على عدم العودة، وكراهية الذنب كما يكره أن يقذف في النار.
فمن توافرت فيه تلك الشروط الثلاثة صحت توبته، ولو عاد بعد ذلك بدون إصرار فإن الله سبحانه وتعالى أيضاً يتوب عليه ما دام صادق النية، والتوبة تكون فيما بينه وبين الله، وقد أتى الرجل الذي اقترف ما اقترفه مع امرأة أجنبية إلا أنه لم يجامعها، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أصبت حداً فطهرني، قال: وما ذاك؟ قال: وجدت امرأة في أقصى المدينة، ما تركت شيئاً يفعله الرجل مع المرأة إلا فعلته، غير أني لم أجامعها، فنزل قوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فقال الرجل: ألي هذا يا رسول الله؟! قال: بل لك ولأمتي جميعاً) .
إذاً: كانت الأمم الماضية توبتها غير توبة هذه الأمة في الكيفية، وكانوا يؤاخذون بالخطأ والإكراه.
أما قضية الإكراه فجاء في الحديث: (مر رجلان مسلمان في طريقهم على قوم لهم صنم نصبوه على قارعة الطريق، لا يسمحون لأحد أن يمر من هذا الطريق إلا إذا قرب إلى صنمهم قرباناً، فقالوا لهذين الرجلين: قربا قرباناً واجتازا، فقالا: ما كنا لنقرب لغير الله شيئاً، فقالوا: قربا ولو ذباباً، فقال: أحد الرجلين: أما الذباب فأمر هين، فقرب ذبابة فخلو سبيله فدخل النار، وأما الثاني فقال ما كنت لأقرب لغير الله ولو ذبابة، فضربوا عنقه فدخل الجنة) فهذا امتنع في مقام الإكراه على تقريب ذبابة، فقتل فدخل الجنة، وجاء في حق مؤمني هذه الأمة: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] .
فهذا بيان من الله سبحانه بأن من تكلم بكلمة الكفر مكرهاً معفو عنه، وقد نزلت تلك الآية الكريمة وما بعدها في عمار بن ياسر، أخذه المشركون وأخذوا أبويه ياسراً وأم عمار سمية وعذبوهم، وقتلت سمية، وتكلم عمار بما يريدون فتركوه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلكت يا رسول الله! قال: وما ذاك؟ قال: الأمر كذا وكذا قال: كيف تجدك الآن؟ قال: قلبي مطمئن بالإيمان بالله وبرسوله، قال: أنت على ما أنت عليه الآن، وإن عادوا فعد) .
وهكذا الإسلام ما كان الشخص في موقف شدة إلا وجاءت الرخصة، ولا في موقف ضيق إلا وجاء الفرج.
وهنا يتكلم العلماء في حكم الخطأ والنسيان، وحكم الإكراه، فقوله: تجاوز لي، أي: تسامح الله عما يقع من المسلم عن طريق الخطأ أو طريق النسيان أو طريق الإكراه، وكيف يكون هذا؟ يقسم العلماء ما يقع فيه الخطأ والنسيان والإكراه إلى أمور قولية وفعلية، ثم يأتون من جانب آخر فيقولون: المخطئ والناسي هل هما في وقت الخطأ والنسيان مكلفان أو مرفوع عنهما التكليف؟ جاء في الحديث الآخر: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق) أي: أن العقل مات، وهو أداة الإدراك ومناط التكليف، وإذا عمل الرجل عملاً مخطئاً فيه أو ناسياً إياه أو مكرهاً عليه، ففي الحديث الذي هو القاعدة العامة يقول: (إنما الأعمال بالنيات) ، وهذا يفعل الفعل ناسياً إياه، إذا كان قد أقسم ألا يدخل بيت فلان، فنسي ودخل فهل له قصد في الدخول؟! لا، وإذا أخطأ في دار فلان عن دار فلان، أو بثوب فلان عن ثوب فلان فهل قصد؟ لا.
يقول العلماء: الخطأ قسمان: خطأ ضد الصواب، وخطأ ضد الطاعة، فالخطأ الذي فيه الكلام هنا هو الخطأ ضد الصواب، فإذا أراد إنسان شيئاً وأخطأ ففعل غيره فمعفوا عنه، مثل القتل، فالقتل يكون عمداً وخطأ، والآخرون يقولون: عمد وشبه العمد، وخطأ وشبه الخطأ، فالقتل العمد: هو ما كان عن قصد، وقد سبق إصرار لشخص بعينه، وأما الخطأ فهو: أن يقوم الشخص ليفعل شيئاً مأذوناً له فيه، فإذا به يصيب غير المأذون فيه، ومثلوا له: لو أنه أخذ سهماً ورمى صيداً، وكان وراء الصيد شخص نائم، وهو لا يدري عنه، فنفذ السهم من الصيد وأصاب النائم، هل هذا يكون عامداً لقتله؟ ليس عامداً لقتله، وإنما قتله خطأ، لأنه كان قصد الصيد، وإصابة الإنسان المعصوم ليس في ذهنه، ولم يخطر له ولم يرد ذلك أبداً، فهذا خطأ ضد الصواب، ومن هنا جاء الحديث يشهد لذلك: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ -أي: الخطأ ضد الصواب- فله أجر) أي: أجر على اجتهاده وإن لم يصب الحق، وقد امتدح الله سبحانه نبيه سليمان وداود في قضية واحدة، وقال في حقهما: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] .
أما الخطأ الذي هو ضد الطاعة، فهذا معصية، تقول: فلان أخطأ، وفلان أطاع.
ولذا يقال في الأول: مخطئ، وهو الذي جانب الصواب، ويقال في مقابل الطاعة: خاطئ، فالخاطئ الذي يفعل المعصية عمداً، ويترك الطاعة قصداً، والمخطئ هو الذي يقع فيما لا يريد أن يقع فيه، فلهذا قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ) ولكن هل كل خطأ متجاوز عنه؟ يقولون: الفعل إما حق لله، أو حق للآدمي أو مشترك بينهما، فما كان حقاً لله فإنه يتجاوز الله عنه، وما كان فيه حقاً لآدمي فإنه لا يعفى من حق الآدمي نتيجة خطئه.
ولذا يقول الأصوليون: هناك ما يسمى بخطاب التكليف، وخطاب الوضع، فخطاب التكليف فيه الأمر بالفعل أو بالنهي، وخطاب الوضع فيه العلامات والشروط والضمان وغير ذلك، فإذا جاء إنسان يمشي وبدون قصد كسر إناء لشخص، فإن كسر الإناء بدون قصد منه فيه أمران: إتلاف مال المسلم، والتعدي على حق الغير، فإثم التعدي مرفوع عنه؛ لأنه لم يتعمد التعدي على حق الغير، ولكن تعويض هذا المال الذي أتلفه لا يسقط عنه، فعليه أن يدفع القيمة، ويرفع عنه الإثم والخطأ، لأن ضمان المتلف لا يسقط عن الصغير، بل لا يسقط عن الدابة والبهيمة، فإذا كان هناك طفل صغير دخل بيت إنسان مع أبيه، ثم أخذ يعبث وأتلف شيئاً لصاحب البيت، فإن والد الصغير ملزم بضمان ما أتلفه الصغير، وإن كان الصغير غير مكلف.(81/2)
الخطأ في تعيين القبلة وقت الغيم
يبحث العلماء فيما يترتب على الخطأ، والنسيان، فيقولون فيما يتعلق بالخطأ: لو أن جماعة في صحراء وحان وقت الصلاة، وأرادوا أن يستقبلوا القبلة في صلاتهم، فاجتهدوا في ذلك، ثم تبين لهم بعد أن خرج الوقت أنهم أخطئوا في تعيين جهة القبلة، فما حكم صلاتهم التي أخطئوا فيها في استقبال القبلة؟ إذا كانوا يعلمون أن القبلة في جهة معينة، ثم خالفوا واستقبلوا جهة أخرى عمداً فإن صلاتهم باطلة؛ لأنها تفتقد شرط الصحة، أما إذا كانوا لا يعلمون، واجتهدوا بكل ما في وسعهم، واقتضى رأيهم أنها في الجهة الفلانية وصلوا إليها، ثم بعد ذلك تبين لهم أنهم لم يصيبوا القبلة، فإن أدركوا ذلك في الوقت، كأن جاء إنسان من أهل البلدة وأخبرهم بالقبلة فعليهم أن يعيدوها؛ لأن الوقت باقٍ، وأما إذا لم يعلموا بذلك إلا بعد خروج الوقت فالصلاة قد مضت، ولذا جاءت الآية الكريمة: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] ، وقد وقع هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه، صلوا ثم طلعت الشمس، فتبين لهم أنهم قد صلوا لغير القبلة، وعظم عليهم ذلك، فعفا الله عنهم، وقبلت صلاتهم، هذا فيما يتعلق بالقبلة للنص الوارد فيها؛ وقد جاءت نصوص أخرى تبين أن الله سبحانه يقبل صلاة المسافر في نوافله إذا استدبر القبلة قصداً، وكان صلى الله عليه وسلم في عودته من مكة يصلي النافلة وهو مستقبل المدينة، والكعبة من ورائه، ويقول سبحانه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] .
هذا إذا وقع الخطأ ولم يتبين إلا بعد خروج الصلاة، أما إذا أخطأ في شيء غير ذلك هل يمكن تداركه أم لا؟ إن كان في صلب الصلاة، فيوجد تفصيلات عديدة طويلة محلها كتب الفقه والفروع.(81/3)
حكم من نسي ركناً من أركان الصلاة
من نسي ركناً من أركان الصلاة هل يعيد الصلاة؟ الركن هو: جزء الماهية، فإنه حينئذٍ عليه أن يتدارك ما نسيه؛ لأن الركن لا يمكن أن يجزئ عنه غيره، وننبه على خطأ من يقول: إن سجود السهو يجبر كل سهو في الصلاة، لا، وقد أجمع العلماء على أن سجود السهو لا يجزئ عن ركن الصلاة، لا عن ركوع، ولا عن سجود، ولا عن سجدة كاملة، إنما يجزئ عما يسمى بالواجبات، كما سجد صلى الله عليه وسلم للسهو عندما قام في الثانية ولم يجلس للتشهد الأول، ومرة صلى الرباعية وفي الركعة الثانية، فقال له ذو اليدين: (أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال: كل ذلك لم يكن) ، وهذا يسمى عند المناطقة بـ (كلية السلب) ، فقال: (بل كان ذلك يا رسول الله! وفي القوم أبو بكر وعمر فقال صلى الله عليه وسلم: أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم -يا رسول الله! - فرجع واستقبل القبلة، وجاء بركعتين ثم سجد سجود السهو، ثم سلم بعد ذلك) .
إذاً: من سها عن شيء في الصلاة فإن كان ركناً من أركانها فعليه أن يأتي بما نسي، ولا تجبر سجدتا السهو ما كان ركناً؛ لأن الركن جزء الماهية.(81/4)
حكم من أكل أو شرب ناسياً في نهار رمضان
كذلك إذا نسي الصائم فأكل أو شرب، الجمهور يقولون: جاء النص في خصوص الصوم: (من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) ، قالوا: هذا امتنان من الله على العبد بأنه أطعمه وسقاه، فقال: الأئمة -ما عدا مالك رحمه الله: لا قضاء عليه ولا إثم، ويقول مالك رحمه الله: أما الإثم فلا إثم عليه، ولكن عليه قضاء يوم مكان اليوم، واستدل على ذلك بقوله سبحانه: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، قال: هذا الذي أكل أثناء النهار ما أتم، قالوا: إنه ناسٍ قال: لا إثم عليه، ولكن عليه أن يأتي بيوم مكان اليوم.
والصحيح -والله تعالى أعلم- ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه لو كان يلزمه قضاء يوم مكانه لبينه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز في حقه صلوات الله وسلامه عليه تأخير البيان عن وقت الحاجة.(81/5)
حكم من جامع امرأته محرماً أو في نهار رمضان ناسياً
كذلك لو نسي في نهار رمضان فوطئ زوجته، أو كان محرماً بالحج فنسي ووطئ، هل هذا النسيان يعفيه من نتائج الوطء في الصوم أو في الإحرام؟! الجمهور يقولون: نعم، وكيف ينسى الوطء؟! الوطء ليس كالأكل والشرب، وبعضهم يفرد القضية في الأكل وفي الوطء بأن العبرة بالقصد في فعله، فإذا تحقق أنه كان ناسياً فلا شيء عليه، وكذلك في الحج قالوا: حجه صحيح ويمضي فيه، والذين لا يعتبرون نسيانه في مثل هذه الصورة، قالوا: قد فسد حجه، وعليه وزوجه حج من عام قادم.
وهكذا يتكلمون في سائر العبادات، كما لو حلف يميناً طلاقاً أو يميناً بالله ألا يدخل بيت فلان، فنسي ودخل، فهل يؤاخذ بدخوله ويكون حانثاً في يمينه، وعليه كفارة أو تطلق الزوجة أو أنه لم يحنث في يمينه؟ إذا لم يكن يحنث بنسيانه فلا طلاق ولا كفارة.
بعض العلماء: يمكن أن يقال: إن هذا الحديث وإن كان ضعيف السند، فيعتبر نصف الشريعة؛ لأن الإنسان المكلف يعمل العمل على أحد أمرين: قد يفعله ذاكراً قاصداً متعمداً لذلك بإرادة واختيار، وقد يفعله نسياناً أو خطأً أو مكرهاً.
إذاً: هذا الحديث يتناول حالة النسيان، والإكراه، وحالة الخطأ، فاعتبروا أن هذا الحديث يعادل نصف التشريع تماماً.(81/6)
خلاف العلماء في اعتبار الإكراه
أما مسألة الإكراه فأكثر العلماء يقولون: الإكراه في الأقوال لا شيء فيها، ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: كل من أكره على قول شيء، وقاله مكرهاً فإنه مؤاخذ بذلك، حتى ولو أكره على قول الكفر، فمن تكلم بكلمة الكفر عومل معاملة المرتد ظاهراً، أما بينه وبين الله فعلى ما في نيته مع الله.
وقال الجمهور: المولى سبحانه يقول في ذلك: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ، فقال أبو حنيفة: هذا في أول الإسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بمكة في الحجر، فقالوا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ أي: تسأل الله النصر لنا، وذلك عندما كانوا يعذبون، فكان المشركون يعذبون ضعفة المسلمين، فقالوا: (يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن من كان قبلكم كان يؤتى بالرجل من قبلكم، وتحفر له الحفرة، ويؤتى بالمنشار، فيوضع على مفرق رأسه فينشر حتى يشق نصفين ولا يرجع عن دينه) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: هذا يورده رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المدح؛ فلا يجوز للإنسان أن يترخص بكلمة الكفر؛ لأن من كان قبلنا كانوا ينشرون بالمناشير فلا يرتدون عن دينهم، وجاء في حديث أبي ذر من ذكر وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم العشر الطويلة قال: (ولا تشرك بالله وإن قطعت أو أحرقت) ، قال أبو حنيفة رحمه الله: هذا نهي من رسول الله، وتحذير له من أن يتكلم بكلمة الكفر، ولا يترخص.
وأجاب الجمهور: أنه في بدء الأمر في مكة كان واجباً عليهم أن يصبروا ويتحملوا، أما بعد ذلك فإذا نطق بكلمة الكفر فإنها لا تضر الإسلام ولا المسلمين، وقد أباح الله سبحانه وتعالى ذلك بنص الآية الكريمة، فالآية مقدمة على ذلك الحديث، ولا سيما إذا كان الحديث متقدماً، ونزلت الآية بعده، والآية أثبت وأقوى دلالة، وعلى هذا الجمهور يقولون: من أكره على كلمة الكفر، فقالها وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا شيء عليه، وهو ما يشهد له كتاب الله، فإنه قد بيّن {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] ، فإذا كان يقولها وهو منشرح الصدر فهذا كافر حقاً بلا إشكال، أما إذا قالها مكرهاً فلا إثم عليه، وجاء عن ابن مسعود أنه قال: لو أن كلمة تنجيني من سوطين لقلتها، فقالوا: هذا ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: لو أن كلمة يكون فيها تعريض بديني وتنجيني من السوطين لقلتها، اعتماداً على ما جاء في القرآن الكريم في أصل العقيدة: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل:106] .
وهكذا في اليمين: لو أن إنساناً أكره أن يحلف يميناً بالله، أو يميناً بطلاق، فما حكم هذه اليمين؟ وما حكم المحلوف عليه؟ جاء عن بعض السلف أن رجلاً كان عنده متخف من سلطان ظالم، فجاء أعوان السلطان وسألوه عنه، فقال: ما رأيته، قالوا: أتحلف بالله، فحلف بالله أنه لا يعلم عنه، وقال: لأن أحلف بالله كاذباً وأنجي مسلماً خير من أن أسلم مسلماً للقتل ظلماً.
وكان بعض الأمراء له من يتتبعون الأخبار، فجاءه شخص وقال: إن بمجلس فلان -وهو من سلف الأمة من تابعي التابعين- أناس يتكلمون عنك في مجلسه، فأرسل إليه، فقال: ما حصل هذا، قال: أتحلف بالله؟ فحلف بالله، فرجع السلطان على من أخبره وجلده سبعين سوطاً، فجاء ذاك المخبر إلى ذاك الشخص وعاتبه؛ لأن الوالي ضربه سبعين سوطاً، فقال له: لأن تضرب سبعين سوطاً خير من أن تسلم مسلماً للقتل ظلماً.(81/7)
حكم من أكره على الطلاق
لو أن إنساناً أكره على الطلاق، ماذا يكون الحكم؟، يروي الإمام مالك في الموطأ أن رجلاً تزوج أم ولد لـ عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، فأحضره عبد الرحمن مقيداً، وأتى بالعصا ثم قال له: طلق وإلا ضربناك، فطلق ثم ذهب إلى عبد الله بن عمر واستفتاه، فقال: ما طلقت عليك، فذهب إلى ابن الزبير وأخبره بفتوى ابن عمر، فكتب إلى عامله بالمدينة أن رد الزوجة لزوجها، وعاقب فلاناً، وهذه رواية الموطأ لا إشكال فيها.
ويذكر ابن قدامة في المغني أن رجلاً كانت زوجته تطلبه الطلاق فيمتنع، فذهب مرة معها يجني عسلاً، وكان العسل على صفحة جبل، ولا يمكن أن يصل إليه من أسفل، ولا أن ينزل إليه من أعلى، فماذا يفعل؟ تدلى إليه بحبل، وربط الحبل في صخرة، ثم نزل على الحبل إلى أن وصل إلى موضع العسل، وبينما هو يجني العسل، جاءت زوجته من أعلى، وأخذت الفأس وقالت: طلق وإلا قطعت الحبل ومت، فأخذ يعتذر إليها ويترجاها قالت: أبداً الآن أن طلقني وإلا قطعت الحبل؟ قال: أنت طالق ثلاثاً، فجاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه وأخبره، فقال: لم تطلق عليك، وأدبها، فهنا عمر رضي الله تعالى عنه لما وجد الرجل مكرهاً على الطلاق لم يعتبرها مطلقة عليه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا إغلاق في طلاق ولا إعتاق) ، أي: لا يغلق على الإنسان بأن يضيق عليه حتى يطلق، ولا إعتاق، ولا يغلق الرهن على صاحبه، فإذا أغلق على الإنسان مسالكه، وضيق عليه وأكره لعتق عبده، أو ليطلق زوجاته، فإن هذا لا ينفذ؛ لأنه تحت الإكراه، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) .(81/8)
حد الإكراه
ما هو حد الإكراه الذي يرفع عن الإنسان حكم ما فعل عند العلماء؟ بعضهم يقول: حد الإكراه في البدن بالضرب، أو بالجرح، أو بالقتل.
وبعضهم يقول: حد الإكراه بالبدن أو بالمال، والإمام مالك رحمه الله يروون عنه أنه ما كان يرى الإكراه في المال، لأن المال يفادي به دينه، والجمهور على أن من أكره في ماله، أو أكره في نفسه أو ولده وأهله، فإن ذلك الإكراه يجعله في حل مما أكره عليه، وبعضهم يقول: الإكراه بالسجن والقيد يعتبر إكراهاً، والواقع أن الناس ليسوا سواء، فهناك من يضرب ويجلد ولا يؤثر فيه، وهناك من توجه إليه العبارة فتكون أثقل عليه، فالناس يتفاوتون في الإكراه.
ويذكر عن أحمد بن حنبل رحمه الله عندما كان يضرب في محنته وهو في السجن، ففي يوم من الأيام جاء سجين إلى أحمد وقال: يا أحمد! أتعرفني؟ قال: لا، فقال عن نفسه: إنه سارق مال فلان، وهو عندي، وقد دفنته في المكان الفلاني، وهأنذا أقر لك، وأنت تراني كل يوم أضرب فلم أقر أمامهم أبداً، أما أنت -يا أحمد - فانظر إلى ما وراء الأسوار من أقلام ومحابر تنتظر ماذا ستقول في قضية القرآن، يقول أحمد: والله! لقد شجعني، فهذا شخص يضرب كل يوم على مال، ويتحمل الضرب ولا يبالي به، فهل مثل هذا لو ضرب سوطاً وسوطين وعشرة، يقال: قد أكره على الطلاق؟ لا.
بعد هذا البحث في نوعية ما يقع فيه الإكراه، قالوا: يقع الإكراه على المال، وعلى الطلاق، وعلى شرب الخمر، وعلى السرقة، لكن لكن هل ممكن أن يكره على الزنا؟ وهل يمكن أن يكره على قتل شخص آخر؟ أما الشافعي رحمه الله وغيره فيقولون: الإكراه في كل شيء إلا القتل، ويمكن أن يكره على الزنا، وقال الآخرون: لا، كيف يكره على الزنا، والزنا لا يتأتى إلا باختيار من الرجل، وبإرادة منه، وبانتشار يتأتى به الفعل؟ ويجيب عن ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله بأنه يصح ابتداءً أن يكون مكرهاً، أما عندما يتعرض للفعل وتتهيأ الأسباب، فإن الجبلة الإنسانية لا تعرف بعد ذلك إكراهاً أو غير إكراه، فإذا تهيأت الأسباب، وجئ بالفتاة وخلي بينه وبينها، وأخذت تراوده على ذلك، فإنه حيوان يتفاعل وينفعل، فهو ابتداء أكره على ذلك، وحين يقع الفعل خرج عن طور إكراهه وإرادته.
إذاً: يتأتى الإكراه على الزنا، والعلماء مختلفون في إكراه الرجل على الزنا، فماذا يقولون في المرأة إذا أخذت بالقوة وكتفت، فهل يتأتى الإكراه لها أم لا؟ وهل يشترط في المرأة ما يشترط في الرجل؟ أجمع المسلمون أن المرأة إذا أكرهت على الزنا فلا حد عليها، ولا ذنب عليها، ويأتي النص القرآني الكريم ليبين ذلك: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] .
وهذا نص صحيح من كتاب الله صريح في موضوع إكراه المرأة، وما الذي يخرج الرجل؟ هل كونه لا يتأتى إلا باختيار؟ قد تكون الغريزة فيه بدون اختيار، وعلى هذا يطرد الباب فيما يتعلق بالزنا، وبالخمر، وبالسرقة إلى غير ذلك.
أما الإكراه على القتل، فلو أكره إنسان على أن يقتل آخر وإلا أخذ ماله، فقتله، فبإجماع المسلمين أنه لا يعذر، وإذا كان الإكراه بالضرب فقتل فبإجماع المسلمين أنه لا يعذر، وإذا كان الإكراه بتهديده بالقتل: اقتل وإلا قتلت، وكان المهدد قادراً على أن ينفذ ما هدد به فقتل فما حكمه حينئذٍ؟ هنا تأتي المعادلة، ما قتل المكره إلا مفاداة لنفسه، فكأنه فادى نفسه بغيره، إذاً: هو آثم ومؤاخذ، ولكن هل يقتل هو لأنه مباشر للقتل؟ المكره له اتخذه آلة للقتل، كمن جاء إلى صبي صغير وأعطاه السلاح وقال: اذهب فاقتل ذاك، فالجمهور يقولون: الصبي غير مكلف، ولكن الذي دفعه وأعطاه السلاح هو الذي يقتل، والصغير جزء من آلة القتل، لكن الصغير لا تكليف عليه ولا حساب، يقولون: ليست عليه مسئولية السؤال والحساب، فهو فاقد أهلية المسئولية كالمجنون، ولكن العاقل يتحمل المسئولية، وله أهلية السؤال والمسألة، فكيف يقدم قصداً على قتل إنسان ليسلم هو، إذاً فادى نفسه بغيره، فيقتل باتفاق، وهناك من يقول: المُكْرِهُ والمُكْرَه كلاهما يقتل لأنهما اشتركا في القتل، ويهمنا أن قضية الإكراه على القتل خارجة عن هذا الموضوع، لنص خاص، ولعصمة النفس، وللمقابلة في مفاداة نفس بنفس.
أيها الإخوة الكرام! إن هذا الحديث يبين فضل الله على هذه الأمة، ويبين تجاوز المولى ومسامحته لها، وما يوجد في الإسلام طريق مسدود قط.
وهذا الحديث وإن كانوا قد تكلموا في سنده من جهة الرجال، فإن كل جزئية فيه لها شواهدها، ولهذا حكم عليه النووي بأنه حسن، أي: حسن لغيره، وعليه العمل، وتلقته الأمة بالقبول.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والسلام عليكم ورحمة والله وبركاته.(81/9)
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون(82/1)
شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقال المصنف رحمه الله: [عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري] .
هذا الحديث ترتيبه في هذه المجموعة المباركة خاتمة الأربعين حديثاً، ولعل المؤلف رحمه الله جاء به في هذا الموضع لعظيم أثره، وواسع مدلوله، فمعناه أكبر عون للإنسان على حياته.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما مبيناً تلك الصورة المؤنسة، الدالة على الشفقة والرحمة والملاطفة من سيد الخلق وأكرمهم صلوات الله وسلامه عليه.
(أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي) .
والمنكب هو أعلى الكتف، وهو -كما يقال- أعلى شيء وأقواه في جسم الإنسان، ومنه يقول بعض العلماء في التوجيه الاجتماعي في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] ، أي: في جميع أجزائها، قمم جبالها، وسفوحها، وكل شيء منها؛ لتستخرجوا ما أودعه الله سبحانه وتعالى فيها من كنوز، فالمنكب هو أعلى الكتف، وهو أقوى موضع في جسم الإنسان، ويمكن أن يحمل عليه الأشياء الثقيلة.(82/2)
ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يحدثه
في هذه الصورة ملاطفة ومؤانسة منه صلى الله عليه وسلم لمن يريد أن يحدثه، ومثل ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي في كفه) ، أخذ كف ابن مسعود وجعلها في كفه وهو يعلمه.
وهذا الحديث الذي جاء عن ابن عمر وجاء أيضاً عن ابن عباس فعن مجاهد رحمه الله أنه رُؤي حزيناً، فقيل له: مالك حزين؟! قال: تذكرت قول عبد الله، -يعني ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بكفي بين كفيه وقال: يا عبد الله! كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) ، ومجاهد وعطاء بن أبي رباح من كبار أصحاب ابن عباس الذين أخذوا عنه العلم والتفسير، وقامت بهم مدرسة مكة.
إذاً: رواية مجاهد عن ابن عباس توازي رواية ابن مسعود رضي الله تعالى عن الجميع في كيفية معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومن قبل هذا معاملة المعلم الأكبر الرسول الكريم جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر بن الخطاب: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه) .
يقول العلماء: (على فخذيه) الضمير راجع لجبريل عليه السلام وهو في صورة رجل، أو للنبي صلى الله عليه وسلم، ومهما يكن فإنهم يقولون: إن هذه الصورة من دواعي تثبيت العلم عند السامع، ويقول علماء التربية: إن ربط المعاني بالمحسوس يثبتها، مثلاً: الطلاب أيام الامتحانات لهم مذكرات شخصية، وصور تمر بهم، إذا جاء -مثلاً- إلى المسجد النبوي ومعه كتاب الحديث، أو ذهب إلى النزهة ومعه كتاب الأدب، أو ذهب إلى مكان كذا ومعه كتاب الفقه، فإذا جاء وقت الاختبار تذكر أنه حينما كان في المسجد كان يقرأ في الحديث، وتذكر الصورة المحسوسة حيث كان يجلس، وكان معه فلان وفلان، فالصورة تعيد له الذاكرة، وتجمع له حسه فيما كان يذاكره، وهناك جماعة كانوا يسمون (المشائين) ؛ لأنهم كانوا يدرسون العلم وهم يمشون، فيتذكرون أنهم في المكان الفلاني قرءوا كذا، وعند الشجرة الفلانية تذاكروا كذا، فتكون المعالم المحسوسة كالضوابط أو كالمنبهات أو كالعلامات مناراً في طريق الإنسان في علمه.
وهنا ابن مسعود رضي الله تعالى عنه حينما يتذكر وضع يده بين كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لن ينسى ما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً، وكذلك ابن عمر حينما يتذكر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبه لن ينسى أبداً ما قيل له في تلك الحالة، وهكذا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وبعد هذه التهيئة، أو بعد هذا التنبيه، أو بعد إيقاظ الشعور والتطلع إلى ما سيقال بعد هذه اللمسة، يقول صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله) ، وكلاهما اسمه عبد الله: عبد الله بن عمر، عبد الله بن عباس: (كن في الدنيا) ، والدنيا تأنيث الأدنى، وهي الحياة، والأخرى: هي الآخرة، ومعنى هذه الموعظة، وهذا التنبيه والإرشاد: وجودك في الدنيا ليس حالة المقيم الجالس المستوطن الذي لن يرحل، بل حالك حال الغريب وعابر سبيل: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) يقول بعض العلماء: (أو) بمعنى (بل) وكأنها إضرابٌ عما تقدم، أي: بل كن كعابر السبيل، وتحتمل أن (أو) هنا للتنويع، وهو الظاهر عندي.(82/3)
الدنيا مزرعة للآخرة
قوله: (كأنك غريب) جميعنا يعلم أن الغربة تقتضي وطناً، وأن الغريب موجود وقت الغربة في غير وطنه، فإذا كنا غرباء في هذه الدنيا فأين موطننا الأول؟ وإذا كنا غرباء فإن كل غريب يحن إلى موطنه الأصلي، ويقطع أمله في مجتمع هو فيه غريب، فلا يعزم منه على تشييد القصور، ولا على غرس الأشجار، وكل غريب في بلد يسلك طريق السلامة، وقلّ أن يأنس إلى الناس، وكل غريب في بلد يلزم الأدب والاحتياط في غربته.
والعوام يقولون: (يا غريب كن أديب) ، فالغريب عابر سبيل في رحلته، ولابد له من غاية يقصدها، ويحب أن يصل إليها.
إذاً: الغريب وعابر السبيل متلازمان، فكل غريب عابر سبيل، وكل عابر سبيل غريب، إلا أن عابر السبيل أخف، فلو تأملنا في الإنسان من بداية أمر هذا العالم: فما هي بدايته؟ نحن لا ننسى أن أبانا وأمنا آدم وحواء كان مسكنهما الأول الجنة كما قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] .
إذاً: مسكن الإنسان الأول هو الجنة، ومنذ أن خرج منها فهو في غربة، ولذا يقول العلماء: فترة الحياة مرحلة عابر السبيل، وسبقتها مراحل: المرحلة الأولى: تناقل الإنسان في أصلاب آبائه حتى جاء إلى الرحم، وفي الآية الكريمة: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] ؛ فالذرية كلها من الأصلاب بالتسلسل إلى يوم القيامة: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] .
إذاً: عالم الذر والنطف تتناقل في الأصلاب في مراحل خفية، لا نحكم عليها ولا نتحكم فيها، ولا دخل لنا فيها.
المرحلة الثانية: مرحلة التكوين المادي، وهي فترة الحمل في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، ظلمة المشيمة، ظلمة الرحم، والمولى سبحانه يودعه في: {قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:21-23] ، ثم يخرج إلى الدنيا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، وبعد تلك المرحلة يخرج من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، وهي رحلة التزود بما أمره الله، وهي مرحلة الابتلاء: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] ، فكيفما تزودت في هذه المرحلة فهو زادك في طريقك، وهو مآلك، ومن يزرع الشوك لا يحصد إلا شوكاً، ومن يزرع الورد يجني الورد، فما تزرعه في الدنيا هو زادك إلى الآخرة.
وقد ذكرنا رحلة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى الفسطاط في مصر؛ لطلب سماع حديث، فلما وصل سأل عن الصحابي الذي عنده الحديث، فقال: دلوني على بيته، فذهب إلى البيت، وطرق الباب، وكلم الخادم فأخبر سيده، وجاء الصحابي فوجد أبا أيوب صاحب رسول الله على الباب، فقال: أبو أيوب! ما الذي جاء بك؟ قال: جئت أسمع منك حديثاً سمعته أنا وأنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق أحد سمعه إلا أنا وأنت فخشيت أن أنساه، فذكر له الحديث، فإذا به يركب راحلته، ويلوي عنانه، ويرجع إلى الحجاز، وأمامه مغريات الحياة، وقد وصف الله الحجاز بوادي غير ذي زرع، رجل أبو أيوب إلى أرض تجري أنهارها، وتتنوع ثمارها، فلم يغره شيء من ذلك؛ لأنه كان غريباً عابر سبيل، جاء لمهمة وغاية يقصدها.
وأنت -أيها الإنسان- في هذه الدنيا غريب وعابر سبيل لغاية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ، ولمهمة: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] ، فلينظر الإنسان ماذا فعل في رحلته وغربته، فهو لا يدري متى يرحل؟ ولا يدري متى يناديه داعي الموت؟ ولا يدري متى تنتهي المهمة؟ ولكن الخطر كل الخطر في الأمل، وورد أن بعض العلماء قال لأحد العارفين بالله: ما هو أملك؟ فقال: وأي أمل لمن نَفَسُهُ في يد غيره؟! فهل تملك أنت أن توقف هذا التنفس الذي تتنفسه؟ وإذا أوقفه الله هل تستطيع أن تجريه؟ لا.
{َ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] .
ولهذا ابن عمر لما سمع هذا التوجيه وتصور حقيقة المعنى قال: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) ، وأعتقد أننا لا نستطيع أن نوفي هذا الحديث قدره، إلا إذا تذوقنا حلاوة الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يتحقق لإنسان زهد في دنياه إلا إذا تحقق عنده الرغبة في آخرته؛ لأن الدنيا والآخرة ضرتان، ولا يمكن أن تصلح بينهما أبداً، إذا أرضيت إحدى الضرتين فعلى حساب الأخرى، فاختر من ترضي ومن تسترضي، وكن في الدنيا كأنك غريب، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما بنى المسجد قال: (عريش كعريش أخي موسى، والأمر أقرب من ذلك) .
يا سبحان الله! رسول الله جاء لدعوة، وتكوين أمة، ودولة ورسالة تعم العالم، ويقول: (والأمر أقرب من ذلك) أي: أعجل.
ولو نظرنا إلى تاريخه صلى الله عليه وسلم من أول البعثة، ثم من أول الهجرة، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.
كيف كانت حياته صلى الله عليه وسلم؟ حقاً لقد كان كالغريب أو عابر سبيل، فما ركن إليها يوماً، ولا أنس بها يوماً، وكان في كثير من الأوقات، في غزوات، والمولى سبحانه وتعالى يهيئ له أموراً عجيبة، خرج من مكة، ثم دارت المعارك، وجاءت الحديبية، ويأتي الصلح بوضع الحرب، وبالهدنة عشر سنوات، لكن لم يبق من عمره صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، فيجعل الله سبحانه سبباً نقض قريش للمعاهدة من أجل فتح مكة بعد سنتين!! فنقضوا عهدهم، وفتحت مكة، وجاء عام الوفود، وبعدها حجة الوداع، فكان صلى الله عليه وسلم عابر سبيل، وكانت حياته لغاية يحققها ومهمة يقصدها.
ولما نزلت السورة الكريمة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] بكى أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
وابن عباس رضي الله عنه قال: لقد نعى ربنا إلينا رسول الله وهو حي بين أظهرنا، فقال له عمر: وكيف أخذت ذلك؟ فقال: لقد أرسله الله برسالة يبلغها للناس، فإذا أتم الرسالة وقام بالبلاغ، وأدى الأمانة، وأصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فما الذي بقي من مهمته؟ وكما يقول بعض العلماء: إذا كان لك عبد أرسلته إلى بلدة ليقضي لك حاجة، فيجب أن يسرع في طريقه ويقضي الحاجة ويسرع في العودة، أما إذا مكث فيها وركن إليها فلك أن تعاقبه.
وابن مسعود يقول: (بيّن لنا صلى الله عليه وسلم حياة الإنسان وأمله، فخط لنا خطاً دائراً) .
وبعض العلماء يرسمه مربعاً، وخط خطاً داخل هذه الدائرة، والخط الذي ينصف الدائرة هو قطب الدائرة، والقطب ينتهي عند محيط الدائرة، وكل جزء من النقطة يسمى وتر، فمحيط الدائرة الخط الذي يصل طرفي المحيط أو يتصل بنقطتين من المحيط، وخط صلى الله عليه وسلم خطاً زائداً عن الدائرة.
إذاً: هي دائرة فيها قطر، وأحد طرفي القطر خارج عن حد الدائرة، وخط خطوطاً جانبية، وقال صلى الله عليه وسلم عن محيط الدائرة: (هذا أجل الإنسان، وتلك الخطوط الجانبية ما ينتابه في حياته، وهذا الجزء الزائد عن الدائرة هو الأمل، فينقضي الأجل قبل أن ينتهي أمله) .
يقولون: من سائل الإيضاح في علم التربية أن يأتي المدرس بالصورة ويشرح عليها الدرس، وها هو صلى الله عليه وسلم يبين لنا ذلك بأجلى معاني الإيضاح، فأجلك محدود في دائرة تدور فيها يميناً ويساراً، وأملك يسبقك عن دائرة الأجل، أنت تريد أن تبلغ الأمل، ولكن يأتي دونه الأجل.(82/4)
الزهد في الدنيا
إذاً: جاء في الأثر (الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة في الدنيا وطول الأمل يحزن القلب ويشقي الجسم، وليس معنى الزهد في الدنيا تركها، ولكن أن تجمعها من حلها، وأن تضعها في حلها، لا كما يقولون: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد والجوانب والمعاني في هذا الحديث فوق أن يحصيها إنسان: (كن في الدنيا كأنك غريب) ، وأنت فعلاً غريب، وكما قالوا: الإنسان في الدنيا ساعته تهدم يومه، ويومه يهدم أسبوعه، وأسبوعه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان بل أقل من الثواني.
والعجيب! أن الإنسان يستطيع أن يقف عند الغنى والفقر، وعند القوة والضعف، وعند العزة والذلة، وعند كل معاني الحياة، لكنه لا يستطيع أن يقف عند الحياة والموت، قال سبحانه: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] .
ارجعوها وأوقفوها عن الخروج! أمدوه بلحظة واحدة! لا والله! لو اجتمع العالم كله، إنسه وجنه وملائكته على أن يمحنوا الإنسان في اللحظات الأخيرة ثوانٍ لا يستطيعون، وانظر الإعجاز القرآني: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعة} [الأعراف:34] ما قال: (يستقدمون) ، قال: (لايستأخرون ساعة) ، وما هي ساعة زمنية ستون دقيقة، لا، بل ساعة لغوية، وقدم (لا يستأخرون) ؛ لأن كل إنسان يود أن يتأخر: {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، ولو أراد أن يعجل موته لحظة لا يستطيع؛ لأن هذا ليس له.
والغريب في حياته يعمل لما ينجيه أو يسلمه من أهل المدينة التي حل فيها.
وعابر السبيل ماذا يحمل معه؟ هل يجمع الحطب والحجر، والخشب والحديد ويحملها معه؟! لا يحمل معه إلا الزاد الذي يوصله.
عابر السبيل قبل كل شيء يطلب الراحلة التي توصله، ويكتفي في زاده بما يكفي في سفره، فلو رأى أمامه مئات الأطنان من الفاكهة والعسل واللبن وجميع أصناف الطعام ما أخذ منها إلا ما يوصله.
ولذا السلف كانوا كما قال الشاعر: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا وهكذا حال المسلم، وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج الإنسان من الدنيا تبعه ثلاثة: ورجع منها اثنان، وبقي معه واحد، تبعه أهله وماله وعمله) فأهله يشيعونه، يكون منه ما يتبعه، فيرجع المال والأهل ويبقى معه العمل.
وجاء في الأثر: (ما من إنسان يخرج من الدنيا إلا وهو آسف حزين، إن كان محسناً يقول: يا ليتني استزدت، وإن كان مسيئاً يقول: ليتني أقلعت) ، وما هي الغاية من جمع الدنيا والتكالب عليها؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (من أصبح معافىً في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) ، ولا يدرك هذا إلا العقلاء، وكل إنسان مهما كان رصيده وماله، وممتلكاته، فلن يأكل الورق ولا الذهب ولا الفضة، وكم ستأكل من الطيبات؟ ما عندك خزان أكبر من بطنك، ومستودعات الطعام قبل أن تأكله لا تدري من سيأكل المستودع، لكن أنت ستأكل على قدر نفسك، (ابن آدم يقول: مالي مالي، وليس له من ماله إلا ما لبس فأبلى، أو أكل فأفنى، أو تصدق فأبقى) .
إذا تصدق الإنسان أبقى كما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه ذبح عندها شاة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! انتهت الشاة وقسمناها ولم يبق إلا رجلها، فقال: لقد بقيت كلها إلا رجلها) هي تقول: نفدت كلها ولم يبق منها إلا رجلها، فيقول صلى الله عليه وسلم: (بل بقيت كلها إلا الرجل هذه) ؛ لأن الذي وزع قرض حسن عند الله، وهي وديعة، وأمانة ينميها المولى سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] .(82/5)
حال السلف في الزهد
حقيقة حالنا أننا غرباء، ولا يوجد إنسان في العالم إلا وهو غريب، فالغربة مفروضة.
يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يتلو قوله سبحانه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1-2] فقال: قف! بعثوا ورب الكعبة! قال: ما أدراك أنهم بعثوا؟ قال: من قوله: {زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2] ، فالزائر لا بد أن يرحل، ولا يوجد ضيف يستقر في محل الزيارة.
ودخل شخص على أبي الدرداء، فنظر في البيت فلم يجد شيئاً، فقال: يا أبا الدرداء! لم أر لك متاعاً في البيت، فقال: صاحب البيت لا يتركنا نجعل متاعاً.
وسالم بن عبد الله دخلوا بيته فلم يجدوا في بيته ما يساوي كذا، فقيل له في ذلك: فقال: الأمر أعجل من هذا.
هذا الكلام في الزهد وترك الدنيا بالنسبة لنا الآن بعيد، وكأنه خيال! فكيف نترك المفروشات والثلاجات، والغسالات والسيارات، فهو شيء بعيد؛ لأن أذواقنا بعدت جداً، ولأن قلوبنا أصبح بينها وبين هذا الكلام حجاب، فلا يمكن أن نتذوق هذا الكلام، ولكن لنرجع رويداً ونقول: ماذا سنأخذ من هذا كله؟ ولا أقول لك: تترك هذا كله، ولكن الخطر كل الخطر أن يمتلئ قلبك بكل ما تملك، ولذا فإن بعض العلماء يقول: يا رب! لا تجعل الدنيا في قلوبنا، واجعلها في أكفنا.
كنت أسمع بعض مشايخنا رحمه الله يقول: ما عقدت عقد بيع قط أطلب ربحه، ولا أقرضت قرضاً أنتظر رده.
لو استطاع الإنسان أن يرد نفسه عن التعلق بزخرف الدنيا وزينتها، يسهل على نفسه الخروج منها، أما إذا كان متعلقاً بها كل التعلق، فإنه يأسف عند الخروج منها، كأناس سافروا إلى بلاد غربة، فواحد منهم اشترى له أرضاً وبنى له قصراً، فجاءوا ليرجعون ويرحلون، فيقول صاحب الأرض: لا أرجع، وإذا رحل يمشي قليلاً وهو ينظر إلى البستان والقصر غصباً عنه.
وقوله في هذه الوصية النبوية الكريمة: (كن في الدنيا كأنك غريب) ، معنى الغربة: التزام الأدب، والسلوك الحسن، ولا تعقد الأمل.
ويبلور لنا هذه المعاني الجليلة ابن عمر فيقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح) ، لو قدر أن سرية أو مجموعة نزلوا مساءً وخيموا في مكان، فإنهم لا يدرون متى يكون المسير، (وإذا أصبحت لا تنتظر المساء) ، يمكن يأتي الأمر بالسفر في الظهر، أو في الضحى، أو في العصر، ومراد ابن عمر هنا: إذا أمسيت فلا تؤخرن عملاً يجب أن تؤديه في المساء إلى الصباح، وهو راوي حديث الوصية: (ما حق امرئشٍ مسلم عنده شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) .(82/6)
اغتنم حياتك قبل موتك
يقول بعض شراح هذا الحديث: قدم (إذا أمسيت) على (إذا أصحبت) ؛ لأن المساء محل الغفلة والنوم، والصباح محل الحركة، فأحرى بك في المساء ألا تتحرى الصباح، فإذا أصبحت ولديك شيء من العمل فلا تنتظر المساء، فلو كان عندك واجب في النهار فلا تؤخره إلى الليل، وانتهز فرصة النهار قبل أن يأتي الليل، لأنك لا تدري أتدركه أم لا؟ وجاء في بعض الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) .
الإنسان يجب أن ينتهز ويغتنم فرصة الشباب؛ لأن أمامه هرم، والهرم هو الكبر في السن، فإذا كنت في شبابك لا تعمل، فماذا ستفعل في هرمك؟ إذاً: من لم يغتنم شبابه، ويدخر فيه لوقت الهرم ضيع نفسه.
ولذا يقول العلماء في موضوع الحج في باب الاستطاعة: من ليس عنده مال، ولكن عنده صنعة، ويستطيع أن يرافق القافلة، ويعمل ويكتسب ويأكل حتى يصل إلى مكة بكسب يده مع القافلة، فإنه مستطيع مادياً.
يقول النووي: ويشترط الشافعي أن يكون أجر عمل يومٍ يكفي لنفقة يومين، أما إذا كان عمله في اليوم لنفقة يوم واحد، فليس بمستطيع، فلعله يمرض، واليوم الذي يمرض فيه يموت من الجوع، لكن إذا كان أجر يوم واحد يكفي لنفقة يومين، فيمكن أن يمرض يوماً أو يومين في الشهر أو في الأسبوع، ويبقى عنده مال مدخر، وهكذا أنت في شبابك، إذا لم تدخر في شبابك ما ينفعك في هرمك، فماذا تفعل؟ والدول تتعامل (بالتقاعد) ؛ لأنها استغلت العامل والموظف مدة شبابه وقوته، فلما جاءه الكبر أحالته على التقاعد، ولم تتركه.
وهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه رأى عجوزاً ذمياً يتكفف السؤال، فقال: ما شأنك يا رجل؟! قال: أنا من أهل الذمة وكلفت بالجزية، قال: ما أنصفناك، كلفناك شاباً، وتركناك شايباً، لا، وأسقط عنه الجزية، وفرض له من بيت مال المسلمين ما يكفيه.
إذاً: اغتنم شبابك قبل هرمك، وهذه قضية منطقية عقلية، لكننا لسنا في باب المادة، فالله سبحانه قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] ، ولكن نحن نعمل للآخرة، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص: (بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ القرآن كله في ليلة، فدعاه فقال: اقرأه في شهر؟ قال: إني أستطيع أكثر من ذلك قال: اقرأه في عشرين ليلة، فقال: إني أستطيع أكثر من ذلك، وهكذا حتى نزل معه إلى ثلاثة أيام) وهو يقول: إني أستطيع أكثر من ذلك، أي: غداً يأتيني الكبر ولا أقدر أن أقرأ، فكان يغتنم شبابه لهرمه، وكان يستطيع أن يصلي شيئاً من الليل، ويستطيع أن يصوم بعض الأيام، ويستطيع أن يكتسب ويتصدق، فلما جاءه الهرم عجز.
(وصحتك قبل مرضك) والصحة والمرض شيء بيد الله، ولكن يفوت على الإنسان شيء كثير مع المرض، ومن فضل الله على المسلم أنه إذا كان يعمل في صحته من أبواب الخير ويداوم عليه فمرض أو سافر وعجز عن ورده، أمر الله الملائكة أن تكتب له مدة مرضه وسفره ما كان يعمل في الصحة والإقامة حتى يعافى أو يرجع إلى بلده.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) فهل يقبل الله منك وأنت معافى، ثم أنت مريض يتخلى عنك؟ لا والله! فهو أكرم الأكرمين.
وكذلك (غناك قبل فقرك) ، إذا كان المال معك، فانتهز أبواب الخير، أنت لا تدري ماذا يصير؟ سبحان الله! وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل كم من إنسان بات في القمة، وأصبح في الهاوية، أي: فما دام بيدك المال، وعندك الغنى، ووفرة المال، فافعل الخير، ولعل الخير الذي تفعله يحفظ لك مالك.
من يصنع الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب الخير بين الله والناس وقوله: (وفراغك قبل شغلك) ، هذه نصيحة نقدمها لطلبة العلم قبل كل شيء، عليه أن ينتهز فراغه للتحصيل قبل أن يخرج من الدراسة إلى الحياة، ويواجه المشاكل العملية، فهو في فترة الدراسة متفرغ لها، وبعد ما يتخرج ويأخذ الشهادة ويخرج إلى ميدان الحياة يشغل، وأول شاغل يلقاه الزوجة والأولاد، ولذا كان بعض السلف يقول: (ذبح العلم بين أفخاذ النساء) ، وقد تكون الزوجة تعين طالب العلم على دراسته، لكن مشاكل الأولاد ضريبة لابد أن تؤديها في طريق الحياة، ويفرض عليك أن تشغل بما ليس من طلب العلم، وقد يكون عملك لطلب العلم، ولكن ليس كوقت التفرغ، ولهذا يروى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يقول: لا ينبغي لإنسان أن يتولى القضاء أكثر من سنتين قالوا: لماذا؟ قال: مخافة أن ينسى العلم، لأن مشاكل الناس تنسي العلم، ولكن الآخرون يقولون: كلما زاول القضاء كلما تمكن فيه وتمرس، وعرف طرق الخصوم.
وقوله (وحياتك قبل موتك) ، الحياة أمامك، ولكن الموت ليس عندك وليس بيدك، فالمولى سبحانه وتعالى قدر لكل أجل كتاب {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] .
إذاً: على العاقل أن يغتنم هذه الأمور الخمس، وقد جاء في الحديث الصحيح: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل به) .
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، وأن يوفقنا وإياكم للعمل بما علمنا، وأن يتقبل منا، وأن يعاملنا سبحانه بلطفه وكرمه، وإحسانه، فما أضعف الإنسان وما أطول الأمل! وما أوسع فضل الله سبحانه وتعالى! وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(82/7)
شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والأربعون [1](83/1)
شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) .
حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح] .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: وبعد تلك الرحلة الطويلة مع هذا المجموع المبارك من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي المؤلف رحمه الله تعالى -وقبيل الأخير بحديث واحد- بهذا الحديث الذي هو بمثابة المقياس والميزان للمؤمن حقاً في إيمانه اعتقاداً وقولاً وعملاً.(83/2)
ترجمة موجزة لراوي الحديث
يقول النووي رحمه الله: (عن أبي محمد عبد الله بن عمرو بن العاص) وهو رضي الله تعالى عنه من خيرة أصحاب رسول الله، وكلهم أخيار.
كان صلى الله عليه وسلم يقدمه على أبيه؛ لأنه سبق أباه إلى الإسلام، ولم يكن بينه وبين أبيه سوى ثلاث عشرة سنة، وقيل: إحدى عشرة سنة، أي: أن أباه تزوج صغيراً وأنجب، وكان من أكثر أصحاب رسول الله حديثاً، كما قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (ما كان أحد أكثر مني حديثاً إلا عبد الله بن عمرو بن العاص حيث كان يكتب ولا أكتب) .
وهكذا يظهر أثر كتابة العلم وتدوينه، وقد قال عبد الله: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فِيه، فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) ، وهذا كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .(83/3)
رتبة حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)
ذكر النووي رحمه الله هذا الحديث، وإن كان لم يُخرَّج في الست، ولكن خُرِّج في كتاب: الحجة على من لم يسلك الطريق والمحجة للمقدسي.
ويقول العلماء: إنه كان رجلاً شديداً في الله، متحرياً في السنة، محارباً للبدعة، فأحسنوا الظن به فيما يرويه.
ولكن كما أشرنا سابقاً، أن من قواعد مصطلح الحديث والأصول عند الأصوليين والمحدثين: أن الحديث إن ضعف سنده من حيث الرجال، وشهدت له نصوص أخرى من الكتاب والسنة؛ فإنها تقويه ويصير حسناً لغيره.
ويكفينا أن النووي وهو هو في الحديث وفي الفقه وفي العلم والفضل يستحسنه، ولهذا الحديث شواهد من الكتاب ومن السنة.(83/4)
الفرق بين متعلقات الإيمان ومتعلقات الإسلام
الحديث يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ، هذه كلمات معدودات تضع الميزان الحق في ادعاء الإيمان اعتقاداً وقولاً وفعلاً.
فالإيمان: تصديق بالقلب واعتقاد بالغيب، بخلاف الإسلام الذي هو امتثال الجوارح ظاهراً، كما في حديث جبريل عليه السلام: عندما سأله عن الإسلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) والشهادة نطق، (وتقيم الصلاة) والصلاة حركة، (وتؤتي الزكاة) وهي: إخراج جزء من المال، (وتصوم رمضان) والصيام: إمساك، (وتحج البيت) رحلة وعودة.
كل هذه أعمال ظاهرة بمعنى الاستسلام والانقياد لأوامر الله، ثم جاء في الحديث: (أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) ، كل هذه أمور غيبية ليس عندنا منها شيء محسوس، حتى الكتب التي أنزلها الله ليس عندنا حقائقها؛ لأن اليهود والنصارى غيّروا ما أنزل الله، ولم يبق إلا القرآن الكريم بين أيدينا، وهو داخل في عموم كتبه، وما عدا ذلك: فرب العزة سبحانه غيبه عنا، لكن آياته وقدرته ودلائل وجوده سبحانه مستقرة في أنفسنا وفي الكون كله من حولنا.
والملائكة أخبرنا الله عز وجل عنهم، وقد رآهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عياناً.
وكذلك الرسل كما أخبر سبحانه عنهم في كتابه، وبلغ عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
والبعث هو إحياء الناس بعد الموت.
والآيات عليه في كتاب الله من الناحية الكونية ومن الناحية العقلية، بل ومن الناحية العملية متوفرة.
أما من حيث الكون فيقول سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] .
وأيضاً قصة بني إسرائيل وقتيلهم، {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْييِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] أي: فأحياه الله ونطق وقال: قتلني فلان، ثم مات، فكهذا الإحياء يحيي الله الموتى.
وإبراهيم عليه السلام قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْييِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ، لأن العلم عن إبلاغ لا يساوي العلم عن مشاهدة، ولذا ذكر الله سبحانه في سورة التكاثر: (علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين) .
فقال الله له: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} [البقرة:260] ، فقطعها، ووزعها، ثم ادعها تأتك سعياً.
وقصة أصحاب الكهف إذ لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنوات -ثلاثمائة ميلادية، وهي ثلاثمائة وتسع هجرية قمرية- ثم يُبعثون ويذهبون ليبحثوا عن طعام ليأكلوه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف:21] .
وهكذا الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] .
وكذلك قصة عزير العزير مع حماره وفاكهته، فقد شاهد عياناً كيف يُنشز الله العظام بعد موتها وكيف يكسوها اللحم! وكذلك موسى كان معه حوت مقلي ومملَّح فاتخذ سبيله في البحر سرباً! طيور حيوانات حيتان بشر، كل ذلك آيات عملية، ونموذج مصغر للبعث، وإحياء نفس واحدة كإحياء الناس جميعاً.
فالإيمان يتعلق بالمغيبات، ولذا من لم يؤمن بمطلق الوعد أو الخبر وجاء عند المعاينة وأعلن إيمانه فلا قيمة لهذا الإيمان؛ لأنه لم يؤمن عن مجرد الخبر، وكما حصل لفرعون حيث آمن عند المشاهدة، فقيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس:91] وكذلك الحال مع عامة الناس، كل من تاب قبل أن يغرغر، وقبل أن يرى الحقائق، وينكشف له الغيب فإن الله يقبل توبته، أما إذا أصر وسوَّف حتى يعاين حقائق البعث والجزاء والآخرة، ثم يقول: تبتُ، فإن التوبة لا تقبل منه.(83/5)
سبب اشتراط تبعية هوى المؤمن للشرع
يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن) أي: لا يصدق أحد حقيقة ويطبق الإيمان عملياً حتى يكون إيمانه الذي يدعيه وينتسب إليه ويتلبس به، يحمله على أن يكون الهوى والميل والرغبة فيه تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ وما هي علاقة الإيمان بهذا؟ لأنك مبدئياً تؤمن بالله، فتشهد أن لا إله إلا الله، وتقول: الله ربي ورب العالمين، تعلنها سبع عشرة مرة في يومك وليلتك في الصلوات الخمس: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أي: خالقهم ورازقهم، محييهم ومميتهم، مدبر أمورهم بالربوبية، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لأنه المستحق للألوهية والعبادة منا له.
وتشهد أن محمداً رسول الله أي: تشهد أن الرب سبحانه وجل جلاله أرسله إليك وإلى الناس كافة برسالة وبلَّغها.
إذاً: إن كنت تؤمن حقاً بهذه المبادئ، وأنه فعلاً لا معبود بحق سواه، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسوله، جاء بالرسالة من عنده؛ فلا يتم هذا الإيمان ولا يكون عملياً إلا إذا كان هواك تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا كلمة (هواه) يقولون في اللغة -واللغة العربية فلسفتها عجيبة- هوى وهواء، وثنى وثناء، وغنى وغناء، والثرى والثراء، كل هذه بينها فوارق.
الثرى والثراء، المقصور معناه: التراب، والممدود معناه: الغنى ووفرة المال.
الغنى والغناء، الغنى: ضد الفقر، والغناء: اللهو واللعب.
والهوى هو: الميل والرغبة، والهواء: هو هذا الذي نتنسمه والذي يملأ الفراغ بين السماء والأرض.
إذاً: (حتى يكون هواه) ، أي: ميله ورغباته، تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا يقول العلماء: في هذا الحديث لفت نظر؛ لأن كلمة (الهوى) غالباً ما تستعمل في الأشياء التي هي ضد الحق يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] يعني: ميوله ورغباته.
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26] فالحق يقابله الهوى، والهوى في مقابلة الحق يكون باطلاً.
فقالوا: كيف يكون هذا الهوى -الذي هو غالباً يستعمل في الجوانب التي هي ضد الحق أو في الشر- موضِع تحقيق الإيمان ويجعله تابعاً لرسول الله؟ ويُجاب عن ذلك والله تعالى أعلم: بأن البلاغة النبوية تضع الإنسان في رغباته كلها من بدايتها إلى أقصاها وهو الميل الفطري والرغبة الإنسانية في الغرائز وفي الميول وفيما تهواه النفس وتميل إليه من الجانب البشري، وكل ما ينزع بالإنسان إلى جانب آخر، ولكن تلك الرغبات التي تشذ بالإنسان أو تجنح به إلى اليسار لا يمكن أن يكون صاحبها مؤمناً إلا إذا كانت نزعات الأهواء والميولات النفسية خاضعة وتابعة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: حب الآخرة، والميل إلى العمل الصالح هي الفطرة، (كل مولود يولد على الفطرة) أي: الفطرة الإسلامية الحنيفية السمحة، وهي من باب أولى تابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا أصبح هواه وميوله الذي يشبع رغباته وشهواته، ويدعوه إلى تحقيق مطالبه البشرية ورغباته الحيوانية متبلوراً ومتمرناً وتابعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، فمن باب أولى أن جانب الخير فيه سيكون تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم.
ولذا يقولون: الإنسان فيه شبه بالسبُع في الافتراس وقوة الغضب، وفيه شبه بالملائكة في اللين والتواضع، والإنسان مكون من روح وجسد، فالروح -دائماً- تسمو إلى مكارم الأخلاق وعلو الهمة، وطاعة المولى، والاستئناس بالعبادة وبذكر الله، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] .
والجسم يخلد إلى الأرض في شهواته ورغباته، فالجسم يميل إلى طبيعته الحيوانية، والروح تميل إلى الجوانب الروحية العلوية الإلهية.
ولذا يقولون: إذا غلبت طبائع جسمه روحَه كان حيواناً: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] ، وإذا غلب الجانب الروحي كان ربانياً، ممن يعلمون ويتعلمون ويطيعون الله سبحانه، ولذا انقسمت الأمم الماضية إلى قسمين: قسم: غلَّبوا جانب البدن، وهم اليهود، وأصبحوا ماديين يحتالون على ما حرم الله ليأكلوه.
والقسم الآخر: النصارى الذين أرادوا أن يكبحوا جماح المادة في اليهود، فابتدعوا الرهبانية، فما استطاعوا أن يواصلوا بها.
وجاء الإسلام وطابق ووازن بين مركبات الإنسان مادة وروحاً، فأذن له أن يأكل ويشرب ويتحرى الحلال، وأن يصلي ويصوم، ويجمع بين الأمرين بكفتين متعادلتين ويطير بجناحين سليمين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10] .
ولذا يقول علماء الاجتماع: الإسلام دين ودنيا، وعلى هذا يخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمن أحدنا، حتى تكون طبائعه وغرائزه وهواه وميوله كلها تابعة لما جاء به صلى الله عليه وسلم.(83/6)
تقديم محبة الرسول وما جاء به على النفس والولد والوالد
هذا الحديث بهذا اللفظ وإن قال فيه النووي: رواه صاحب الحجة؛ فإننا نجد له الشواهد من الصحيحين منها: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) .
وقال عمر: (يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر!) ، أي: الآن كملت المحبة.(83/7)
الأمور الغريزية الدافعة للمحبة
لو أردنا أن نوازن ونقارن -قبل أن نعرف حقيقة تلك المحبة- بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاءك عنه، وبين ولدك ووالديك ومالك والناس أجمعين؛ سنجد فرقاً عظيماً.
يقول القاضي عياض: إن دواعي الأمور الفطرية الغريزية واحدة من أربع، حيثما وجدت واحدة من تلك الأربع فإنها تستدعي المحبة، قال: جلب النفع، ودفع الضر، فأيما إنسان جلب لك نفعاً وجدت في نفسك الميل إلى حبه بشكل طبيعي، وأيما إنسان دفع عنك ضراً وجدت في نفسك الميل إلى محبته.
قال: وجمال الخلقة والخلق؛ فالإنسان من حيث هو قد ينظر إلى لوحة رسم زيتية فيها شجر ونبات ونهر ومنظر طبيعي، فلا يمل النظر إليه جِبلَّة، وترى الطائر الجميل كالطاوس مثلاً فتحب هذا الشكل أمامك.
وأما جمال الخلُق، فإنك تجد الإنسان دمث الأخلاق الذي يعامل الناس بالإحسان وبمكارم الأخلاق وحسن السيرة، فتجد في نفسك أنك تحبه لمكارم أخلاقه، ولو لم تتعامل معه.(83/8)
اجتماع مقتضيات المحبة في رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول القاضي عياض: وقد اجتمعت تلك الأمور الأربعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا يوجد نفع أعظم مما جاءنا به صلى الله عليه وسلم فإنه عرّفنا بربنا عز وجل.
ومعرفة العبد بربه لا يوازيها شيء، فأنت عرفت ربك وخالقك الذي خلق السماوات والأرض، وعرفت رب العالمين، فمثلاً لو أن شخصاً اكتشف جهازاً ما أو اكتشف أي شيء مجهول، أو جاء للعالم بأي اكتشاف جديد، وعرف ما لم يعرفه الناس؛ تطاول إلى السماء، وأنت تعرف خيراً مما عرف؛ لأنك تعرف رب العالمين عز وجل.
ومن النفع الذي جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءنا بما يدخلنا الجنة فعرّفنا طريق الجنة، فأيُ شيء يوازي الجنة؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، وعرّفنا بالإسلام، وعرفنا بالعبودية لله، وكيف نعبد ربنا ونتقرب إليه، وعرّفنا بالملكوت الأعلى كله.
ودرأ عنا كل شر في حياتنا، فصان وعصم دماءنا، وأموالنا، وصان فروجنا وأعراضنا، وكفَّ بعضنا عن بعض، كل شر في الدنيا سد طريقه عنا، وسد عنا أبواب النار، وبيّن لنا الطريق الذي به نسده.
ولذا لما خطب القوم قال: (ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد بينته لكم) ، فماذا نريد أكثر من هذا؟ والترجمة القرآنية لرسول الله تقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} [التوبة:128] ، (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) أي: يشق عليه ما يلحقكم من عنت ومشقة، وحريص على جلب الخير لكم، ثم يتوج ذلك بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ؛ عليه الصلاة والسلام! القسم الثالث: جمال الخِلقة، يقول بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله ما ملأت عيني من محمد في جاهلية ولا إسلام، أما في الجاهلية فكراهية أن أنظر إليه، وأما في الإسلام فحياءً من أن أنظر إليه) ، سبحان الله! فهذا كما قال القائل: أهابك إجلالاً وما بك سلطة علي ولكن ملء عين حبيبها يهابها وهي ضعيفة ليس لها سلطة عليه، ولكن من شدة وفرط المحبة، وهنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: والله لو طُلب من أحدنا أن ينعت رسول الله لما استطاع، يقولون: ما كنا نستطيع أن نملأ أعيننا منه حياءً وإجلالاً.
وأما جمال الخُلُق فلو اجتمع العالم كله من أوله إلى آخره فلن يستطيعوا أن يصفوا أخلاق رسول الله بما وصفها الله وجعلها قرآنا يتلى ونتعبد به: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، تقول أم المؤمنين عائشة لما سُئلت كيف كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: (أتقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن) ، يعني: يأتمر بأوامره، وينتهي بنواهيه، ويعمل بمكارمه ومحاسنه وآدابه.
إذاً: لو قارنا الولد والوالدين مع دوافع المحبة التي ذكرنا فسنجد الفرق العظيم، صحيح أن الوالدين لهما الحق الثاني بعد الله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] حتى في حالة الكفر: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا} [لقمان:15] سبحان الله! لم يقل وعاشرهما، بل قال: وصاحبهما، أي: اجعلهما كصديق، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] وذلك لأنهما تسببا فيما يتسبب فيه أي زوجين من الحيوانات، ورزقهما الله من عنده هذا الولد.
وأما الولد فقد قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] .
وأما المال فقد قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] ، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7] .
إذاً: الناس أجمعون لن ينفعوا شيئاً (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) .(83/9)
المحبة الحقيقية التي يطالب بها العبد
إذاً: العالم كله مع الله سبحانه وتعالى لا شيء، والعالم كله في موازنة ما جاءنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء، فإن من حقه علينا وفاءً بحقه إعطاؤه تلك المحبة، وليست محبة ذات، ولا محبة هوى، ولكنها محبة جميل مقابلة عرفان إيمان تصديق تكريم، كل المعاني السامية تنطوي تحت محبته صلى الله عليه وسلم.
كانوا في الحرب أو في الجهاد أو في المعاملات، وفي كل شيء يقدمونه على أنفسهم، نحن نعرف في الوقت الحاضر أنه في أي مجموعة عسكرية جميع الفرق تفدِّي قائدها وهي أمور ارتباط دنيوية، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم؟(83/10)
محبة العمل والاتباع
(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه) ، ما هي تلك المحبة؟ هل هي لوحة أكتب فيها: أنا أحب رسول الله؟
الجواب
لا، بل يجب أن تُترجَم تلك المحبة عملياً، واعتقاداً في القلب وإيناساً وإشعاراً وطمأنينة وارتياحاً وميولاً، وأن تترجم في القول، إذا جئت لتعمل أي شيء فتنظر هل هذا العمل يحبه رسول الله أو يكرهه؟ فإذا كان يحبه وفعلته محبة لرسول الله فقد ترجمت حبك لرسول الله اتباعاً وفعلاً لما يحبه، وإذا كان عملاً يكرهه رسول الله وتأتيه جهاراً وإسراراً فهل هذا يتناسب مع دعوى محبة رسول الله؟ لا والله! لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع يضرب لنا صحابي جليل مثلاً رائعاً لم يأت التاريخ بمثله، عندما أخذه المشركون إلى مكة وباعوه ممن كان قد قتل واحداً منهم في بدر، وأعلموه يوم قتله، وقبل أن يقتل أراد أن يلقى ربه نظيفاً حساً ومعنىً، أراد أن يستحد من شعره، فطلب من امرأة في البيت أن تعطيه الموسى، فأخذ الموسى في يده، وأتى إليه طفل صغير يحبو فرأت أم الطفل هذا الأسير في يده الموسى والطفل عنده فصاحت تخشى أن يقتله؛ لأنهم سيقتلونه، فضحك وقال: أتظنين أني أقتل الطفل البريء لا والله! وسلّمه إليها.
وحينما أخذوه وأخرجوه من الحرم إلى الحل وأرادوا قتله، وكان أسيراً عند من اشتروه، وحينما قُدِّم قال: أنظروني أصلي ركعتين؛ فصلى بخشوع وبدون جزع، وقال: والله! لولا أني أخشى أن تقولوا فزع من الموت لأطلت.
ثم قالوا له كلمة -وهي محل الشاهد- حينما صلبوه: أتود أن محمداً مكانك الآن وتُضرب عنقه وتسلم أنت؟ انظروا هذا العرض! السيف على عنقه، ومحمد صلى الله عليه وسلم بعيد عنهم في المدينة، فيعظم عليه أن يخطر بباله هذا الخاطر، ويقول: لا والله، ولا أن يشاك بشوكة وهو في مكانه بالمدينة! لماذا لا يقول ذلك ليفكوا أسره ويدَعوه يذهب لحاله؟ لم يحتمل ولم يقو، إحساسه وإيمانه ورقة عاطفته مع رسول الله تأبى أن تقبل ورود خاطرة أن يشاك صلى الله عليه وسلم بشوكة وهو في المدينة! يريد أن تُضرب عنقه مراراً ولا أن يتصور شوكة يشاك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، أترون هذا يعصي رسول الله؟ أترون هذا يخالف ما يحبه رسول الله؟ لا والله! والأمثلة في هذا الباب عديدة.
بل أتت بعض الأحاديث في بيان من يأتي بعد رسول الله، ومدى تعلق قلوبهم به ومنها: (إخواني يأتون من بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله) .(83/11)
محبة ضبط الهوى
قوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ، يقول العلماء: ما ارتكب إنسان معصية إلا وخالف هواه سنة رسول الله؛ لأنه عند الإقدام على تلك المعصية عنده وازعان، وصوتان في أذنيه: أحدهما صوت السنة تقول: أقلع فهذا حرام.
والآخر صوت الهوى يدعوه: هذه لذة فمَن يجيب؟ إن غلب داعي الهوى مال معه، وإن غلب داعي السنة عُصِم ونجا.
ولذا يقول العلماء: اتباع السنة تدريب، ونحن إذا نظرنا إلى جزئيات بسيطة يقولها بعض العلماء، إنما هي من باب التعويد وترويض النفس.
فمثلاً: نأتي في الأكل والشرب واللبس والنوم والأمور الفطرية العادية: أنت تريد أن تأكل الطعام وأول طريق الطعام الفم، لو حملت الطعام باليمنى أو باليسرى إلى فمك ووصل إلى الفم ذهب في طريقه، ولكن إذا أخذت الطعام باليسرى جاءت السنة وقالت: لا، السنة أن تترك اليسرى، وتأخذ باليمنى.
وإذا أردت أن تشرب كذلك وإذا أردت أن تلبس قدمت الكم الأيمن فتلبس الثوب، ولكن إذا امتدت اليسرى قالت السنة: لا، البدء باليمنى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله، في طعامه وشرابه ومنامه، وفي كل شيء.
إذا جئت إلى فراشك وأردت أن تضطجع استلقيت على ظهرك، أو نمت على بطنك أو على يسارك أو على يمينك، ولكن عندما تستلقي على يسارك تقول لك السنة: لا، انقلب على اليمين، وعندما تنبطح على بطنك تقول لك السنة: لا، النوم على البطن مكروه؛ لماذا هذا كله؟ لأنك إذا أصبحت وأمسيت تأخذ بالسنة في الصغيرة والكبيرة صرت سنياً بالاتباع، ولهذا عندما يُقدم الإنسان على عمل، أو يُدعى إلى تركٍ فلينظر وليأت بالميزان، داعي الهوى يدعوه إلى المخالفة، وداعي الاتباع يدعوه إلى الموافقة والاتباع، فيوازن بين الكفتين، وقد قدمنا أن هذا الحديث هو ميزان لرغبات الإنسان مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا يقول بعض العلماء: إذا كانت كفة الهوى ثقيلة جداً ومائلة ومعها الشيطان والنفس، وداعي السنة في الضمير، بعيد وخافت، فكيف أفعل؟ يقول العلماء: توقف لحظة بسيطة جداً، وانظر إلى ما بعد رجحان كفة الهوى، أين ستؤدي بك؟ وماذا سيتم؟ لنفرض أنها من الرغبات النفسية أو الشهوة، فإن لذتها لحظة، ثم ماذا بعدها؟ فالمؤمن يرجع على نفسه باللوم والندامة، وسيأتي الحديث عن موقف الإنسان إذا أذنب واستغفر.
إذا كان مثلاً أخذ مالاً سرقة، أو اغتصاباً، أو جحد عارية، أو أي شيء من هذا الذي تدعو إليه النفس، فما آخر هذا؟ المال سيذهب، وستحل مكانه خطيئة.
وفي الجملة ضع الجنة في كفة اتباع السنة، وضع النار مع ميل الهوى، وبناء عليه فانظر إلى أين تميل؟ ما زلنا في هذا الميزان النفس تدعو إلى الشهوات وإلى المخالفة ومعها النار، والسنة تدعو إلى الاتباع والطاعة، فإذا كان الإنسان في إحدى الكفتين فسيسقُط في إحدى الجانبين، إن كنت في جانب الشهوة والهوى فستميل بك الكفة، وتسقط في النار عياذاً بالله، وإن كنت في كفة السنة والطاعة ومخالفة الهوى إيماناً برسول الله، فستسقط بك الكفة في الجنة.
الله أكبر والله إن الحق لواضح، لكن غلبة الهوى على الإنسان تجعله يميل إلى المخالفة.
وهنا وقفة بسيطة يا إخوان! لماذا يرغب الإنسان في تلبية رغبات نفسه؟ لعل بعض الناس يقول: هذه مصلحة ظاهرة أو منفعة عاجلة.
نقول: ألا تعلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يأمرك بشيءٍ أو ينهاك عن شيء، فهو أعلم بما فيه مصلحتك، فلو جئت مكتباً استشارياً واستشرته في مسألة ما، كأن تبني بيتاً في مكان ما، ولك رغبة في ذهنك، وقال لك المكتب الاستشاري: لا، هذا المحل لا يصلح لهذا الشيء، فإنك لن تقدم على إقامة العمارة في محل لا يصلح للبناء؛ لأنك استشرت من هو أعرف منك فاقتنعت بفكرته ومشورته، وإن كانت مخالفة لرغبتك.
وكذلك إذا جئت إلى طبيب وعندك شيء ما، ونصحك الطبيب ألا تتناول العمل الفلاني أو الطعام الفلاني، فإذا رجعت إلى نفسك، فأنت ترى الطعام وتشتهيه، وتسمع نداء الطبيب من ورائك: احذره لا يتناسب مع صحتك، فأيهما أولى بأن تسمعه؟ والعقل ماذا يقول لك؟ أتأكل وتشرب ولا تدري ماذا بعد ذلك؟ أو تسمع نصح الطبيب؟ لا شك أنك تسمع نصح الطبيب لأنه أعرف منك.
فإذا كان طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه، وطبيب الأبدان وطبيب الأرواح والسراج المنير الذي جاءنا بالصراط السوي من عند الله يقول: اسلك هذا الطريق وتجنب كذا وكذا، فهو أولى بأن تسمع كلامه صلى الله عليه وسلم.
والله سبحانه وتعالى يقول في الآية: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] ، ثم يقول بعدها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:153] .(83/12)
قصة صلح الحديبية ومواقف بعض الصحابة منه
ونأتي إلى مثال قريب، قد يكون اجتهاداً في الدين، وقد يكون لك رغبة في شيء، ولكن السنة على خلافه.
في صلح الحديبية، حينما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح بينه وبين المشركين على شروط الصلح، وكانت عجيبة جداً، لو عرضناها على العقل وميل الهوى فإنه يرفضها؛ لأنها كانت كما يقولون في العرف السياسي أو العسكري: إملاء القوي على الضعيف؛ لأن الصلح عقد على رجوع المسلمين من مكانهم ولا يصلون إلى مكة.
والمسلمون قدموا من المدينة وعندهم البشرى من رؤيا رسول الله بأنه سيأتي البيت، وقد مرت عليهم ست سنوات وهم مهاجرون لم يروا مكة، وكانوا قد فرحوا بالبشرى، ثم يمنعون من ذلك! ولو منعوا قبل ذلك لكان هيناً، ولكن عندما يأتون إلى النهر ويمدون أيديهم للشرب، فيقال لهم: ارفعوا أيديكم، فهذا صعب جداً.
وصلوا إلى حدود الحرم، ونزلوا على الحد بين الحل والحرم.
فكان من الشروط التي اشترطتها قريش على المسلمين: - ترجعون هذا العام وتعتمرون من العام المقبل.
- وهدنة بيننا وبينكم عشر سنوات.
- وأن الذي يأتيكم منا مسلماً بدون رغبتنا تردونه علينا، والذي يأتينا منكم لا نرده عليكم.
كيف هذا؟! الذي يأتينا منكم مسلماً لله نرده إلى الكفر، والذي يأتيكم منا مرتداً عن الإسلام تأخذونه ولا تردونه؟! لم لا تجعلونها واحدة بواحدة؟ إما أن يُرد الجميع، أو يُترك الجميع.
فيقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يأتي عمر رضي الله تعالى عنه يقيس المسألة عسكرياً مع إيمانه بالله، ليس لهوى أبداً، فيذهب إلى أبي بكر ويقول: يا أبا بكر! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ أي: لماذا نقبل هذه الشروط؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا عمر! إنه رسول الله فالزم غرزه، أي: هذا رسول الله، فكن تحت ركابه، وامش في ظل بعيره، ولا تتطاول ولا تعارض ولا تقل شيئاً، فما هو بالشخص الذي سنعرض آراءنا عليه ونوجهه، بل ربه هو الذي يوجهه.
ثم ذهب إلى رسول الله وقال نفس المقال، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم نفس
الجواب
(يا ابن الخطاب! إني رسول الله ولن يضيعني الله أبداً) .
وفعلاً قبِلوا فحلقوا شعورهم ونحروا هديهم وتحللوا ولم يتحرك أحد هم جاءوا للعمرة! ولكن يحدث شيءٌ عجيب، وتحدث أمور هي مقاييس في الإسلام ونحن بعيدون عنها عند المفاوضة للصلح ينتدب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ليبلغ قريشاً بأنا جئنا عُمَّاراً ولم نأت مقاتلين، فائذنوا لنا أن نعتمر ونخرج.
فقال لـ عمر: (اذهب يا عمر) فيقول: أنت تعرف عداوتي لهم يا رسول الله، وليس هناك من يحميني، لكن عليك بـ عثمان فهناك من أهله من يحميه.
وينتدب عثمان، فيذهب ويفاوضهم فيقولون: أما أنت يا عثمان فدونك البيت فطف به واقض عمرتك أيّ سبق وأيّ شرف هذا، لكن عثمان في ارتباطه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي محبته لرسول الله يقول: والله لا أطوف بالبيت ورسول الله ممنوع عنه.
سبحان الله! يطوف ولو واحد منهم فقط، ليصدق الرؤيا.
فيرجع ولم يطف، أين المقاييس التي تحدد هذا الحب؟! بأي مقياس إلكتروني أو ذري يقاس هذا الحب؟ إن مقياس الإيمان هو الذي يحدد هذا فعلاً، وقد كافأه رسول الله على ذلك في غيبته حينما تأخر عثمان وبلغه أنه قد قتل فبايع الصحابة جميعاً رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وعدم الفرار، ولما بايعوا رسول الله بأيديهم وصافحوه على البيعة فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول باليد الأخرى: (وهذه يد عثمان) يد رسول الله بدلاً عن يد عثمان! أظن أن هذا فيه إشارة خفية بأن عثمان لم يقتل؛ لأن البيعة لا تكون عن ميت، وفيه إشعار بأنه حي، وفيه شرف وتكريم لـ عثمان.
ويكتب الله الرضا فيقول: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] أي سكينة لجماعة ذاهبين يعتمرون ويبايعون على مداهمة أهل مكة في عقر دارهم بعددهم وعدتهم؟! فهذا لا يكون أمراً عادياً أبداً، لكنها سكينة من عند الله، وجعل الله هذا الصلح الذي تم فتح قريباً.
يهمنا أن عمر رغب في أمر وردَّه أبو بكر، وأبو بكر لا شك أنه كان يرغب فيما يرغب فيه عمر، ولكن هواه وميوله ورغباته تبعاً لما جاء به رسول الله، لذا كان عمر يقول: (فعملت لذلك أعمالاً) أي: كنت أعتق وأصوم تكفيراً لتلك الكلمة.
وقد ذكر الله في القرآن الكريم في نهاية سورة الفتح قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح:27] إلى آخرها، وبعد سورة الفتح مباشرة تأتي سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] .
من هنا منطلق جديد، وهو أنه لا يصح إيمان العبد إلا إذا كان هواه تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم مبينا للأمة: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
إذاً: أنت -مهما كنت- إن غلَّبت الهوى ومِلت عن الاتباع فأنت إلى الهوان، وإن عملت عملاً ليس عليه أمر رسول الله، ولست متبعاً فيه لرسول الله؛ فهذا العمل مردود، فكيف يضيع الإنسان بين الهوان ورد العمل؟ ولذا كان على المسلم أن يحمل نفسه أولاً بالاجتهاد في الدعاء أن يوفقه الله لاتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله أسأل أن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين أحسن ما جازى نبياً عن أمته، ونسأله تعالى أن يرزقنا وإياكم محبته ومحبة سنته.
وهذا فضل من الله عندما يحبب الله للإنسان الإيمان: {وَلكنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7-8] ، وبالله تعالى التوفيق والله أعلم.(83/13)
شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والأربعون [2](84/1)
وقفة مع قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)
فإنه يتعلق بهذا الحديث العديد من القضايا الكبرى في علاقة الأمة بأكملها بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وجميع شراح الحديث يوردون في شرحه الآية الكريمة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] .
وبهذه المناسبة ننبه على ما سبق أن نبهنا عليه مراراً، بأن الاستدلال في كتاب الله، وفهم معنى كتاب الله ودلالاته لا تؤخذ جزئية، ولا موضعية، ولكن تؤخذ وحدة موضوع متكاملة، وهذه الآية الكريمة سيقت في سورة النساء، فنأخذ ما قبلها من أول نصف الحزب قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58] .
ثم يأتي بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] .
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: معرفة سبب النزول تعين على فهم النص، الأصوليون يقولون: (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) .
فنأتي إلى هاتين القاعدتين سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، لما فتح الله مكة على المسلمين -ونحن نعلم أن أعظم وأشرف مكان في الأرض هو الكعبة، ومفتاح الكعبة هو أغلى وأثمن ما يحرص عليه كل إنسان- أراد صلى الله عليه وسلم دخول الكعبة، فطلب المفتاح من آل شيبة، من عثمان بن طلحة، وكان هو سادن الكعبة، ففتح صلى الله عليه وسلم الكعبة، ودخل فصلى وخرج، فقال علي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطنيه يا رسول الله! قال له: خذ، فجاء عثمان يطلب المفتاح ويقول: الأمانة التي أعطيتك، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، وهنا علي بعد أن أخذ المفتاح، هل يتمسك به أو يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله من عند الله ويسلم المفتاح طائعاً مختاراً؟ الذي فعل أنه سلم المفتاح.
ثم نأتي إلى عموم اللفظ (يَأْمُرُكُمْ) ، والمخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على جميع الأمة أن تؤدي الأمانات إلى أهلها، وأعظم أمانة عند الفرد هي ما ائتمنه الله عليه من دينه، حتى يقول العلماء: إن الوضوء أمانة، ويقول مالك: إن الصلاة أمانة.
الغسل للجنابة أمانة، من منا يعلم عن الثاني أمتوضئ أم غير متوضئ؟ فهو أمر ائتمنك الله عليه.
وفي قوله تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] قالوا: الأمانات التي ائتمن الله العباد عليها.
{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ، وفي آية أخرى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] ؛ لأن العدل من تعادل كفتي حمل البعير إذا كان الحمل متعادلاً متوازياً، أما إذا كانت كفة ثقيلة، والأخرى خفيفة، فإنها تطيش الخفيفة وتنزل الثقيلة ويجنح البعير ولا يستطيع المشي.
الخطاب هنا: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، هل هو خطاب لعموم الرعية أم للحكام؟ المخاطب بهذا هم الحكام، فالله فوق الجميع، والحاكم الذي ليست فوقه سلطة إلا لله يأمره الله أن يحكم بالعدل، ولم يقل: إذا حكمتم بين المؤمنين، لكن قال: إذا حكمتم بين الناس.
أي: ولو كانوا كفاراً.(84/2)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ... )
وبعد ما رتب الأمر مع الحكام، ورسم المنهج للعدالة، جاء للرعية فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ) أولاً، ثم قال تعالى: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فوقع عطْف وتكرار في الفعل: أطيعوا وأطيعوا وعندما ذكر (أُوْلِي الأَمْرِ) لم يأت بفعل الطاعة؛ لأن طاعة الله طاعة مستقلة، وطاعة رسول الله طاعة مستقلة، ولذا قد ينفرد صلى الله عليه وسلم بتشريع حلال أو حرام في السنة النبوية.
فمثلاً: الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ، وجاء الرسول بالسنة وقال: (لا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ، فهذا تشريع مستقل من السنة، فأولو الأمر يطاعون ولكن ضمن طاعة الله وطاعة رسوله.
وهنا فريقان: حكام أُمروا أن يحكموا بالعدل، ومحكومون أُمروا أن يطيعوا، وقد يقع النزاع بين الطرفين، وحينئذٍ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] .
(لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه) ، هذا الفصل وهذا الموقف يرتبط بالإيمان بالله، سواء كانوا حاكمين أو محكومين، لأن الحاكم إذا لم يؤمن بالله ويصدق بكتاب الله ويعمل به فما هو برادٍ إليه، وكذلك الرعية إذا لم تؤمن بالله وبكتاب الله فلن ترجع إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله.
(إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) أي: تجازون على أعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي: الرد إلى الله وإلى رسوله خير من الذهاب يميناً ويساراً.
وهنا كما يقول العلماء: الرد إلى الله معناه الرد إلى كتاب الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يخاطب كل واحد منا، ولا أحد منا عنده أهلية وصلاحية ليخاطب الله، فالرد إلى الله أي: إلى كتاب الله، والرد إلى رسوله في حياته صلى الله عليه وسلم بأن نأتيه شخصياً ونعرض عليه قضيتنا ونحكمه فيها، ومن بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى نرد الأمر إلى سنته.
فبإجماع المسلمين أن الرد إلى الله أي: إلى كتابه، والرد إلى رسوله أي: إلى سنته.(84/3)
قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا ... ) وسبب نزولها
يأتي في المقابل بعد هذه الآية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] .
في الآية الأولى قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا) ، وهنا يُعجِّب رسوله من قوم فيقول: (أَلَمْ تَرَ) أي: تأمل هؤلاء! (الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) .
الآية الأولى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يثبت الإيمان قطعاً، وهنا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) من كتب ومن وحي إلى غير ذلك، ما موقفهم؟ {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} وهذه النزغة من أين أتت؟ {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] .(84/4)
سبب نزول قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك)
من هم أولئك الذين يزعمون؟ وما علاقة هذا الزعم والتحاكم إلى الطاغوت حتى يأتي في مقابل المؤمنين الذين يتحاكمون إلى كتاب الله وسنة رسوله؟ أغلب المفسرين على أنها نزلت في القضية المشهورة، وهي: أن رجلاً يسمى بشراً من المنافقين، كانت بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: تعال بنا إلى محمد نحتكم إليه، قال المنافق: لا، بل إلى كعب بن الأشرف وهو من سادات اليهود.
اليهودي يقول: نذهب إلى محمد الذي تعلن إيمانك به، فإذا به يقول: بل نذهب إلى كعب بن الأشرف سيد اليهود.
فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت} [النساء:60] ، والطاغوت كما يقول علماء اللغة: على وزن (فاعول) ، من الطغيان وهو: تجاوز الحد.
وكعب بن الأشرف من أشد الطواغيت في ذلك الوقت، وكان يظهر العداوة لرسول الله ولأصحابه ويهجوهم.
فاليهودي غلب المنافق وجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم رسول الله على مقتضى قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] فحكم لليهودي، ولم يحكم لليهودي لشخصه بل أقام العدالة، بصرف النظر عن المحكوم له أو المحكوم عليه.
ولما خرجوا قال المنافق: أنا لا أرضى بهذا، ولكن تعال نذهب إلى أبي بكر، فالرسول مشغول وما عنده وقت وما يفهم منا، وأبو بكر يعطينا سعة أكثر، فجاءوا إلى أبي بكر، وقصوا عليه القضية فحكم لليهودي، فقال المنافق: لا، لنذهب إلى عمر، فـ أبو بكر مثل محمد مشغول، فلما أتيا عمر لقياه عند الباب، فبدره المنافق ليقص قصته فقاطعه اليهودي وقال: يا عمر! لا تتعب نفسك، لقد جئنا قبلك إلى محمد فحكم لي ولم يقبل، وجئنا إلى أبي بكر فحكم لي ولم يقبل، فقال عمر للمنافق: أهكذا كما يقول اليهودي؟ قال: بلى، احكم أنت.
فقال عمر: انتظرا، ودخل بيته وخرج بسيفه وضرب عنق المنافق وقال: هذا حكمي فيمن لم يرض بحكم الله ورسوله.
فجاء أهل المقتول يطلبون الدية، وجاء جبريل عليه السلام، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فرق عمر بين الحق والباطل، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أنت الفاروق) ، ومن ذاك الوقت سمي عمر بـ الفاروق.
هنا نأخذ حقيقة اتباع رسول الله، وهو أن يكون هوى الإنسان تبعاً لما جاء به رسول الله.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: أولئك المنافقين {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61] هذا يهودي يدعوك لرسولك وأنت تصد وتقول: بل نذهب لـ كعب بن الأشرف.
{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء:62] المصيبة هي ما وقع على الرجل من عمر.
(جَاءُوكَ) أي: أولياؤه يطلبون الدية ويقولون: والله! ما نريد إلا الإحسان والإصلاح.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63] كشف الله سبحانه وتعالى حقيقة ما تخفي قلوبهم، من الإعراض عن كتاب الله، والصد عنه؛ فهؤلاء يعلم الله ما في قلوبهم فاتركهم.(84/5)
لماذا لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين؟
ولذا كانوا يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أمر المنافقين ولكن لم يقتلهم، وقد سئل عن ذلك، فقال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) أي: إن هؤلاء يدعون أنهم أصحابي أفأقتلهم؟ (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) بعضهم يقول: الموعظة تكون عامة كقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام) ، (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ) أي: بينك وبينهم، لكن الصواب الوجه الثاني وهو أن الموعظة: التخويف والزجر.
وقوله: (فِي أَنفُسِهِمْ) : حتى يرحموا أنفسهم بأنفسهم، قل: أنتم على ضلال أنتم ضائعون، نبههم على الخطر الذي يحدق بهم، وكأن: (عِظْهُمْ) تعني كلاماً عاماً، لكن (فِي أَنفُسِهِمْ) أي: في خواص أشخاصهم؛ لأنهم أولى من يكون أن ينقذ نفسه.
(وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) القول البليغ هو: الذي يبلغ الإنسان غايته، كما تقول: بلغت الغاية، والبلغة: الغاية المقصودة، والشيء الذي يبلغك إلى غايتك، والكلام البليغ بخلاف الكلام العيي؛ فالكلام البليغ: هو الذي ينقل المعنى من مكان إلى مكان آخر، فإن كان بليغاً فصيحاً واضحاً حمل المعنى ونقله، وإن كان مفككاً -مثل حالتنا- فإن المعنى يتعثر.
إذاً: (قَوْلًا بَلِيغًا) يعني: ينفذ من عندك إليهم، وكما قالوا: ما خرج من القلب وصل إلى القلب، وليس بعد بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيراده الخبر بلاغة، فقد أُعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] ، (بإذن الله) هل يعني: بما أمر الله أم بتوفيقه، والويل لمن لم يوفقه الله؟ نحملها على المعنى الأول، وإن كان المعنى الثاني أيضاً متلازماً مع المعنى الأول.(84/6)
قبول توبة المنافقين واستغفار رسول الله لهم إن تابوا
ثم يخفف الله عنهم ويبين علاج الموقف فيقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [النساء:64] أي: بالتحاكم إلى الطاغوت والصدود عنك وعما أنزل الله {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء:64] على ما كان منهم من صدود، وعلى ما كان منهم من خطأ وإعراض عنك.
وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] ؛ هل كل مذنب لا يُقبل منه استغفار ولا رجوع، أو لا تقبل له توبة حتى يأتي إلى رسول الله يستغفر له؟ الآية تقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} أي: بالمعصية، سواء كانت عامة أو خاصة في هذه القضية (جَاءُوكَ) يا محمد {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] ، هنا الشرط: لو أنهم جاءوا واستغفروا واستغفرت لهم لوجدوا المغفرة، هل المغفرة لا تقع لمذنب إلا إذا جاء واستغفر له رسول الله، أم أن التوبة بينك وبين الله وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد؟ يقول تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] .
ويقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] ، فلا واسطة، لكن لماذا كانت الواسطة هنا؟ ف
الجواب
أننا ننظر في قضية المنافق هنا هل هو أعرض عن كتاب الله وحكمه فقط، أم أنه صد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً؟ الجواب: أنه صد عن رسول الله أيضاً، إذاً: الرسول له حق في هذه القضية، فكأن مجيء المنافق إلى رسول الله ليستغفر الله بين يديه، إعلان لرجوعه وتوبته، وإذا استغفر له رسول الله فمعنى ذلك أنه أسقط حقه على ذلك المنافق، فيكون أهلاً لأن يغفر الله له.
فمجيء المسيء في ذلك الوقت إلى رسول الله كان لحق رسول الله؛ لأن إعراضه عن حكم رسول الله فيه تعدٍ عليه وانتقاص له صلى الله عليه وسلم.
وهذا مثال بسيط: لو جئنا إلى دائرة من الدوائر وفيها المدير، واثنان من الموظفين تنازعوا فيما بينهم، والدائرة كبيرة وفيها أقسام وكل قسم فيه رئيس، هؤلاء العمال في هذا القسم لديهم رئيسهم، فلما حصل النزاع فيما بينهم تركوا رئيسهم وذهبوا إلى رئيس قسم آخر، ثم بعد مدة سمع رئيسهم بهذا؛ فما الذي سيكون في نفسه؟ سيقول: ذهبتم إلى غيري! معناه: أني لست كفؤاً لكم، وأنكم غير محسني الظن بي وهذا فكأن فيه هضماً لحق رسول الله فيما هو حق له في أن يحكم بين الناس بالعدل فتخطي هذا المنافق لرسول الله وإعراضه عن حكمه فيه هضم وتعدٍ على حقوق رسول الله؛ فكان من الواجب لرد هذا الاعتبار والحق أن يأتي إلى رسول الله لا أن يستغفر رسول الله، بل لكي يستغفر له رسول الله.
وهل رسول الله سيستغفر له وهو ساخط عليه أم بعد أن يسامحه؟ إذاً: استغفار رسول الله لهذا الجائي إليه دليل على أنه سامحه، فإذا سامحه رسول الله فإنه سيجد الله تواباً رحيماً.
وأمرهم بإتيان النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقروا بذنبهم؛ لأن الذنب هنا مشترك: جانب في حق الله، وجانب في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فمَن في المشرق ومَن في المغرب ومن تحت الثرى، ومن في أعماق المحيط ومن في مركبة فضائية في الهواء، وسأل الله ودعاه؛ يجد الله أقرب إليه من حبل الوريد.(84/7)
وقفة مع قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم؟
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] .
فقوله: {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:65] ، ما الذي أحوجه إلى هذا القسم؟ وبماذا أقسم؟ ما قال: فورب السماء والأرض إنهم ولا قال: ورب الشعرى ولا قال: ورب السماوات والأرض ولا قال: ورب النفوس ولا قال: ورب الملائكة ولا قال: ورب جبريل بل قال: {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:65] ، لماذا؟ لأن المنافق حينما أعرض عن حكم رسول الله نزَّل من حقه صلى الله عليه وسلم، فيرفع المولى مكانة رسوله بأن يقسم بربه، لكن هنا ربط القسم {فَلا وَرَبِّكَ} ، يعني: فلا تأخذ في خاطرك منهم {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا قيمة لهم ولا إيمان ولا تصديق ولا اعتبار لهم أبداً في مجال الإيمان {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} ، وليس هذا المنافق فقط بل الكل.
{فِيمَا شَجَرَ} شَجَر: الشجار أصله مأخوذ من الشجر، والشجر إذا كانت أغصانه متقاربة فإنها تتداخل فيقال: متشابك متشاجر ولذا يقولون في اللغة العبرية: (مُوشَى) ماء وشجر، يعني: الذي وجد والتقط ما بين الماء والشجر، وغير العربية يقدمون المضاف إليه على المضاف، (موشى) يعني: شجر الماء.
فهنا: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ} يعني: تداخل والتبس عليهم.
وهنا نقف وقفة ونقول: قد يحتكم الإنسان إلى من لا يرضى حكمه، فالمنافق لما جاء مع اليهودي إلى رسول الله هل احتكم معه عن رضا؟ لا.
فحقيقة إيمان الأمة أن تأتي في الحكم إليه طائعة راضية إلى أقصى حد، ولا تجد في النفس حرجاً أبداً مما يصدر من قضائه صلى الله عليه وسلم {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} والحرج: الضيق.
{ثُم لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: تسليماً مطلقاً عن رضا بهذا القضاء.
وأعتقد أنه لا يوجد في العالم قاض يستحق هذا الحكم من الناس أبداً.
يقولون: في بعض أسباب نزول الآية أيضاً شيءٌ آخر وهو: قضية سقي الزبير وجاره بالماء، ولا نريد أن نطيل المقام هنا.
ننتقل إلى مثال آخر: لو كان هناك شخص مريض وجاء إلى طبيب كافر، فقال له الطبيب: أنت تحتاج إلى شق البطن وإلى خياط كذا، وإخراج كذا، وعملية جراحية كبيرة.
إذا كان المريض ذا ثقة بهذا الطبيب الذي يملي عليه شروطه، تفعل كذا ولا تفعل كذا ويأتي يبنجه ويسلب إرادته بعد أن يوقع بالموافقة على العملية، فإذا وافق على العملية ومات فليس له دية ما دام الطبيب مشهوراً مجرباً، لا شخصاً متطبباً يتعلم الطب في أجسام الناس، فإنا نجد المريض في أمر بدنه -الذي نهايته الموت بهذا أو بذاك- يسلم كل التسليم، ويُسلب الإرادة والإحساس، ويقطع ويمزق ويخيط ويرقع فيه الطبيب الكافر كما شاء.
وبعد أن ينتهي يقال له: يا دكتور! ما رأيك؟ إن شاء الله العملية تنجح! إذا كان هذا التسليم في أمر بدنك، فكيف برب العالمين يُعطي رسوله صلى الله عليه وسلم حق الحكم فيما شجر بينكم؟!.
انظر الصورة العملية! انظر التشريع! من أول آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، ومن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، ومن قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] .
أي: فلماذا لا يحكمونك؟ ولماذا لا يرضون بحكمك وأنت تأخذهم بالرفق والحكمة، وأنت بالمؤمنين رءوف رحيم؟(84/8)
قوله تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم ... )
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء:66] أي: لا أن يتحاكموا إليك، بل: {أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:66] وهذا من حقه أن يكتب علينا ما شاء، وقد كتبه على بني إسرائيل.
فماذا سيكون موقفهم؟ {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} .
إذاً: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] أي: في قولهم آمنا.
جاء يهودي إلى عمر رضي الله تعالى عنه قال: لستم مثلنا، إن الله قد حكم علينا أن نقتل بعضنا بعضاً، وأنتم لم تؤمروا بذلك، فقال عمر: والله لو أمرنا ربنا أن يقتل بعضنا بعضاً لفعلنا، ولكن الحمد لله الذي لم يكلفنا ذلك.
فهنا يبين المولى سبحانه بأنه لو أمرهم بهذا الحكم القاسي الشديد على النفس؛ ما كانوا يمتثلون إلا قليل منهم.
إذاً: احمدوا ربكم الذي لم يكلفكم بهذا، وإنما كلفكم أن تتحاكموا فيما شجر بينكم إلى الحاكم العادل صلى الله عليه وسلم، ولو أنكم فعلتم هذا لكان خيراً لكم، وكان أكثر تثبيتاً على الإسلام والإيمان.
{وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:67] ، إذاً: {لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} مطلقاً من أدنى التكليف إلى أقصاه، لوجدوا خيراً وآتاهم الله من لدنه أجراً عظيماً.(84/9)
قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول ... )
{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:68] بسبب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
ما هو الصراط المستقيم؟ هو هذا: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُول} [النساء:69] .
لنأخذ من أول آية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] .
ثم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا} [النساء:64] .
و {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] .
و {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء:69] .
انظر الآيات الأولى في المنافقين والوعيد الذي توجه إليهم، وهنا ذكر حق الذين يطيعون الله ورسوله! {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] .
سبحان الله! مع هؤلاء الذين بلغوا القمة {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، فإذا دعيت إلى اتباع رسول الله فأطعت، فأنت مع أولئك المذكورين، {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] .
ارجع إلى سورة الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6-7] .
في الآية السابقة: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] .
ولذا جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سمعته صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير يقول: (في الرفيق الأعلى! في الرفيق الأعلى!) {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:69-70] .
فإذا وجد إنسان نفسه في ميوله وفي اختياره وفي رغباته تبعاً لما جاء به رسول الله، فليعلم بأنه على فضل عظيم من الله.(84/10)
ترك الخيار في أمر الله ورسوله
ولننتقل إلى سورة الأحزاب، فسنجد أن المولى سبحانه يعطل اختيار الفرد مع رسول الله، ولم يجعل للمؤمن حق الاختيار في أمره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية (36) من الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ، أي: ليس لهم حق في ذلك.
وهذه القضية تأتي في صميم حياة المسلمين، وفي أقرب من يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في زينب ابنة عمته، فقد جاء صلى الله عليه وسلم وخطبها، فظنوا أنها لرسول الله ففرحوا، فتبين أنه يخطبها لـ زيد، وكان زيد مولى وكان الرسول قد تبناه، فأنزل الله القرآن وألغى التبني، فغضبوا وكرهوا خطبتها لـ زيد، كيف وهي في القمة من النسب من قريش؟! فهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيزوجونها لهذا؟ لكنه أمر الله، فلما كرهت وكره أخوها؛ نزلت الآية الكريمة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ، فجاء أخوها حالاً فقال: يا رسول! ماذا تأمرني؟ وحالاً تم العقد.
في الواقع يبدأ الإنسان يقول: في بادئ الأمر هم معذورون، ولكن لا يعلمون ماذا عند الله؟ فإن الله يريد أن يشرِّع، وسبحان الله يا جماعة! فإن معضلات المشاكل العربية القبلية تُهدم في بيت رسول الله! كان العرب في الجاهلية يرون أن زوجة الابن بالتبني لا يمكن أن يتزوجها الأب، فيأمر المولى سبحانه رسوله أن يزوج زينب من زيد، وكان زيد ابناً بالتبني، ثم بعد ذلك يحصل النزاع بينهما، فيقول لها: اصبري! ويقول له: اصبر! لكن بعد ذلك: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37] {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الأحزاب:37] أي: أمن أجلهم كلهم يتحملها هو؟ قد كان بالإمكان أن يتزوجها قبل أن يمسها أحد.
ولذا نرد على المستشرقين وعلى أولئك الذين يفتحون أبواقهم، وكذلك من يصيخ لهم السمع في تلك القضايا.
ونقول: ابنة عمته كانت عنده قبل أن يتزوجها زيد، ولو كانت له رغبة فيها أو تطلع إليها لتزوجها قبل ذلك وهي أكمل ما تكون، فلما طلقها زيد (زَوَّجْنَاكَهَا) بالأمر لا بالاختيار.
وبعد أن تزوجها زيد قد يمكن أن تكون نفسه لا تريدها أو أنه في غنى عنها، وعنده زوجات، لكن يُلزمه الله سبحانه وتعالى أن يتزوجها، ليقضي على تلك العادات، ويرفع ما كان عند المؤمنين من حرج في شخصية رسول الله.
إذاً: لم يكن للمؤمن مع أمر الله ومع أمر رسوله أي اختيار، فهو مسلوب الإرادة، مسلوب الاختيار، بمعنى أن يلغِي اختياره وهواه، ويلغي ما يرغب فيه، وهكذا كان سلف الأمة.(84/11)
الأنصار وطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم
جاء في الموطأ عن جابر أنه جاء إلى أهل قباء وقال لهم: (لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير، ولكن طاعة رسول الله أولى لنا، نهى أن تؤجر أو تكرى الأراضي على الماذيانات ورءوس الجداول) .
كان الرجل يعطي أرضه لمن يزرعها على أن لصاحب الأرض ما يكون على القناطر وعلى رءوس الحياض؛ لأنه يكون نامياً وقوياً، والتي في أوساط الحوض التي تكون ضعيفة تكون للزارع، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر أن يكون الأجر نسبة معينة: العشر الربع الثلث الخمس فلا مانع لأنه يعم الصالح والطالح.
فقوله: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير أي: تكسبون منه، لكن طاعة رسول الله خير لكم، ونفذوا طاعة رسول الله، وكانوا يحكِّمون رسول الله في أخص ما يكون لديهم.
لما قدم صلى الله عليه وسلم مهاجراً ونزل بقباء، وكلنا يعلم أن المدينة كانت موطن الأوس والخزرج، وكانوا في قتال مرير قبل الإسلام بخمس سنوات، وكانت القبيلتان كفرسي رهان كما يقولون، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البيعة الثانية التي حصلت عند العقبة من الأوس والخزرج معاً، فأول ما نزل في قباء، والمشهور أنه وصل يوم الإثنين، فسأل عن أسعد بن زرارة، وكان سيد قومه، فقالوا: يا رسول الله! الأوس لا يذهبون إلى ديار الخزرج، والخزرج لا يأتون إلى ديار الأوس، لأن بينهم الحروب والقتال، فلما كان ليلة الأربعاء، أي بعد مجيئه صلى الله عليه وسلم بليلة وجاءت الثانية، جاء أسعد متلثماً بالليل بين المغرب والعشاء، يعني: جاء خفية عن هؤلاء الناس خائفاً على نفسه، فسأله صلى الله عليه وسلم: كيف جئت ديار القوم على ما بينك وبينهم؟، قال: يا رسول الله! ما كنت لأسمع بمجيئك في مكان إلا أتيتك.
فالتفت إلى بني عمرو بن عوف وهم الذين كان نازلاً عندهم وقال: (أجيروا أسعد) ، ونحن نعلم بأن الشخص إذا قال: فلان في جواري؛ فلا يمكن لإنسان أن يمسه بشيء إلا إذا خفرت الذمام وقامت الحرب.
فماذا قالوا؟ قالوا: أجره أنت يا رسول الله فإن جوارنا من جوارك.
وهذا يعني أنه أصبح محكماً فيهم، قال: (يجره رجل منكم) .
ونظام الجوار أن الضيف لا يجير، إنما يجير الأصيل في القبيلة، حتى الشخص الذي بالجوار أو بالانتماء لا يجير، والتابع لا يجير على المتبوع الأصيل فقام فلان وقال: هو في جواري، فبات عندهم تلك الليلة، ومن الغد ذهب إليه مجيره هذا إلى بيته متأبطاً يده ظهراً ونادى وقال: فلان في جواري، فقال بنو عمرو بن عوف كلهم: كلنا جوار لـ أسعد.
يهمنا قولهم: (أجره أنت يا رسول الله) .
كذلك في قضية سعد في غزوة الأحزاب عندما جاء المشركون ومعهم غطفان وهوازن فقال صلى الله عليه وسلم: نعرض عليهم الصلح، فشاور سعد هذا وسعد بن عبادة في أن يصالح الأحزاب على جزء من الثمرة، فقالوا: يا رسول الله! أشيء تحب أن نفعله لك فعلناه، قال: (قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة) .
قالوا: لا والله يا رسول الله! كنا وإياهم على الشرك فما طعموها إلا قرى أو شراء، والآن أكرمنا الله بالإيمان والله ما يطعمون منها شيئاً، وليس بيننا وبينهم إلا السيف.
الشاهد قولهم: (أشيء تحبه يا رسول الله نفعله لك؟) ومن هنا أيضاً كانوا رضي الله تعالى عنهم في المواقف وفي الشدة يفدُّونه بأنفسهم، فهذا أبو طلحة يترِّس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُحد حتى يوجد في جسمه حوالي سبعين ما بين طعنة برمح ورمية بسهم، كان كلما مر عليه إنسان يقول: هات ما عندك من سهام، ثم ينظر صلى الله عليه وسلم فيقول له: يا رسول الله! فداك أبي وأمي لا تنظر حتى لا يصيبك سهم من سهامهم.
ويصاب بسبعين طعنة ورمية، لماذا؟ يفديه بنفسه؛ فمن باب أولى أن يكون هواه وميوله تابعاً له صلى الله عليه وسلم.(84/12)
التزام سنته صلى الله عليه وسلم من طاعته
وجاء في حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله! لكأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور!) إلى آخر الحديث.
نرجع إلى الحديث مرة أخرى من جهة الأحكام لا إيمان لعبد إلا بأمرين معاً: أن يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله، وأن يكون رسول الله أحب إليه من نفسه وولده ووالديه والناس أجمعين.
وتبعاً لهذا فقد وردت أقوال للسلف في هذا الباب، منها: ما جاء عن مالك رحمه الله أنه قال: (لا يَصلُح آخر هذه الأمة إلا بما صلُح به أولها) ، وهو الاتباع والمسير على سنة رسول الله.
(عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ) وهي الأنياب، كناية عن الحرص عليها لئلا تفرطوا.
وأيضاً ورد عن مالك أنه قال: (من سن سنة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة) .
وذلك لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فالمسألة منتهية، (من سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء) .
وجاء عند ابن ماجة: (من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من الناس لا ينقص من أجور الناس شيء) .
فما يهمنا هو اتباع السنة، وهذا الباب واسع، ولعل ما سبق فيه الكفاية بالتنبيه لهذا الحديث، والله تعالى أعلم.
نسأل الله أن يرزقنا اتباعه وحسن محبته، وأن يرزقنا شفاعته صلى الله عليه وسلم، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(84/13)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني والأربعون(85/1)
شرح حديث: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) .
رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح] .
هذا الحديث هو خاتمة الأربعين حديثاً التي جمعها الإمام الجليل النووي رحمه الله، وذلك عملاً بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً) .
وهذا نوع من أنواع جمع الحديث، فقد يجمع العالم أربعين حديثاً عامة، وقد يجمع أربعين حديثاً خاصة؛ كأربعين حديثاً في فضل المدينة، أو أربعين حديثاً في فضل الاستغفار، أو أربعين حديثاً فيما يتعلق بالحج، فقد يفرد بعض العلماء أربعين حديثاً في موضوع واحد.
والإمام النووي رحمه الله جمع لنا هذه الأربعين المتنوعة، التي اشتملت على التوجيهات النبوية الكريمة بما فيها من أخلاق ومواعظ وتوجيه، وهذا هو الحديث الختامي.
لقد أشار علماء الحديث الذين تعرضوا لهذا المجموع في الحديث الحادي والأربعين في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ، إلى أن هذا الحديث ينبه كل مسلم بأنه يجب عليه أن يروض نفسه على أن تكون ميوله ورغباته واتجاهاته كلها تابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أشرنا إلى ذلك، وذكرنا ما يتعلق بالحديث من الأحكام من محاربة البدع ولزوم اتباع الكتاب والسنة، وأن ميزان إيمان المؤمن هو في رضاه بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك نفي الإيمان عمن لم يرض بحكم رسول الله وقضائه، ومن لم يسلم له تسليماً.
وفي الختام كأن النووي رحمه الله يختم هذه المجموعة بهذا الحديث، ليعظم في نفس كل مسلم رجاء رحمة الله.
وليعلم بسعة فضل الله.
وهذا الحديث من أرجى أحاديث السنة النبوية، فهو يربط العبد بربه، ويجعله فسيح الأمل والرجاء في واسع فضل الله سبحانه وتعالى.
نأتي إلى شرح ألفاظ الحديث وجمله، ثم يأتي التعليق عليه بما تيسر، والله أسأل أن يعيننا وأن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
هذا حديث أنس، وأنس هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه: إن الله سبحانه وتعالى يقول: (يا ابن آدم!) ، وأول ما يلفت الانتباه هنا تعميم هذا النداء، فلم يقل: أيها المسلمون! ولا أيها المؤمنون! إنما نص على بني آدم، فقال: (يا ابن آدم!) ، من أبينا الأكبر آدم عليه السلام إلى نهاية ذريته، وفيهم المسلم والكافر، والبر والفاجر، والعاصي والتقي، كل بني آدم داخل في هذا النداء الذي يدعوهم به المولى سبحانه.
و (آدم) : هل هو من أديم الأرض أو من الأُدمة وهي السمرة؟ قالوا: لقد أُعطي آدم جمالاً عظيماً، وأُعطي يوسف ثلاثة أعشار جمال آدم عليه السلام، ولم يكن آدم أسمر أو فيه أُدمة، ولكن اشتق اسمه من أدمة الأرض، أي: من وجه الأرض، والأرض طبقات متنوعة، فجمع الله طينة آدم من مختلف أنواع طينة الأرض، وخلقه ونفخ فيه من روحه، ومن هنا جاءت ذرية آدم على اختلاف طبائع الأرض منهم الصعب القاسي، ومنهم الهين اللين، ومنهم الأبيض، والأحمر، والأسود، كما في قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر:27] .
وقوله: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني) ، يقولون: (ما) هنا مصدرية ظرفية، أي: مدة دعائك إياي ورجائك فيما عندي.
(إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي) ، وهنا يطرح
السؤال
هل هذا الشرط وجزاؤه يفيد أنه مهما دعوتني غفرت لك على ما كان منك أم أن المقصود الدعاء مع مراعاة آدابه التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم؟ الثاني(85/2)
من آداب الدعاء
ننظر إلى ما قيل في آداب الدعاء على سبيل الإجمال: أولاً وقبل كل شيء: الإخلاص، فحينما تتوجه إلى الله بالدعاء يجب أن تكون مخلصاً في دعائك.
وكذلك لا تدع بقطيعة رحم ولا بإثم، أي: لا تدع أن يسهل الله لك طريق معصية، ولا تدع بأن تقطع رحماً قريباً لك، ولا تدع على قريب لك بالسوء.
فإذا دعوت الله بما ينفعك في دينك ودنياك كان الدعاء في محله متوجهاً توجهاً صحيحاً، وعليك بعد ذلك أن تنظر: أي المسألة تقدم؟ وفي أي الأوقات تدعو؟ وأي الأمكنة تتخير؟ وكل ذلك يذكره العلماء في آداب الدعاء.(85/3)
أوقات إجابة الدعاء
الأوقات التي يُتحرى فيها الدعاء رجاء أن يستجاب فيها كثيرة، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم بعض أوقات الإجابة.
ومن ذلك ساعة في يوم الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم في بيان فضيلة يوم الجمعة: (فيه خلق آدم، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه قبض، وفيه تقوم الساعة، وما على الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا ابن آدم، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم قائم يصلي يسأل الله فيها حاجته إلا أعطاه إياها) ، ومتى تلك الساعة؟ فيها خلاف بين العلماء.
قيل: بعد الأذان، أي: وقت الصلاة، وقيل: حينما يصعد الإمام على المنبر، وهناك من يقول: بعد أن يفرغ من الخطبة وقبل الصلاة، وهناك من يقول: إنها بعد العصر، وهذا اختيار مالك رحمه الله.
واستشكلوا: كيف يصلي ويسأل وبعد العصر لا توجد صلاة؟ قالوا: جاء في الحديث: (إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له! اللهم ارحمه) فمن جلس في المسجد ينتظر الصلاة فلا يزال في صلاة حتى يصلي، فهو إذا صلى العصر وجلس ودعا الله فقد يصادف تلك الساعة.
ومهما يكن من شيء، ففي يوم الجمعة ساعة إجابة أخفيت ليجتهد الإنسان في جميع ساعات يوم الجمعة.
وأيضاًَ: ليلة القدر الدعوة مجابة فيها، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنها في الوتر من العشر الأواخر، وقد ثبت أن النبي أراد أن يعينها ولكن تلاحى رجلان في ذلك المجلس فأخفيت ليجتهد الناس في ليالي العشر الأواخر كلها.
وأيضاً: يوم عرفة، وفي الحديث: (يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي! شعثاً غبراً ضاحين جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُر يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة) .
أيضاً: في السجود في الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) .
فهذه أوقات حري بمن دعا الله فيها أن يستجاب له.(85/4)
أماكن إجابة الدعاء
أما بالنسبة للأماكن التي يستجاب فيها الدعاء فمنها الأماكن المقدسة: ما بين الركن والمقام، وفي حجر إسماعيل، وفي المناسك كلها تشرع الأدعية، وجاء الحث عليها فهي حرية بالقبول.
كل هذه من مباحث زمان ومكان إجابة الدعاء.(85/5)
استكانة العبد وتضرعه عند الدعاء من أهم أسباب الإجابة
وقوله في هذا الحديث: (ما دعوتني ورجوتني) ، فيه أن أهم ما يكون في وقت الدعاء حالة الداعي، فحينما يدعو الإنسان في غير حاجة يكون دعاؤه عادياً، وحينما تلم به ملمة ويتوجه إلى الله بالدعاء يكون تعلقه بالله، وقلبه مع الله، ورجاؤه في عظيم فضل الله؛ أكبر وأعظم مما إذا دعا في أمر عادي.
ولذا فإن أحرى أوقات الإجابة حينما يتوجه العبد إلى الله بصادق النية، وبعظيم الرجاء، وهو يشعر بضعفه وحاجته إلى سعة فضل الله عليه.
ففي تلك اللحظة لا تسل: بم تسأل ربك أو بم تدعوه؟ ما جرى على لسانك من أسمائه الحسنى ودعوته به يكون توفيقاً من الله إليك بما يستجيب لك به.
ومن المشاهد أن كل إنسان حين يمر بمواقف أو بأزمات، ويتوجه إلى الله؛ فإنه في تلك الحالة يحس من نفسه بأنها ليست كالأوقات العادية.
ونتصور هذا في موقف يتكرر كثيراً وهو السعي بين الصفا والمروة، فسببه سعي هاجر عليها السلام، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسعوا فإن أمكم قد سعت قبلكم) .
وهاجر عليها السلام هي التي جاء بها إبراهيم عليه السلام ومعها طفلها إسماعيل، وتركهما في مكان قال تعالى فيه: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، فلما أراد أن يرجع إلى الشام تبعته أم إسماعيل وقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا.
لقد أعلنت إيمانها ويقينها وتوكلها على الله بأنه لن يضيعها.
ذهب إبراهيم، وبقيت هناك وعندها سقاء فيه ماء، وعندما انتهى الماء الذي في السقاء، وبدأ يبكي الطفل عطشاً؛ قررت أنه لابد أن تأخذ بالأسباب مع إعلان توكلها على الله، (لا يضيعنا) ، فلم تجلس وتنتظر السماء أن تنزل عليها الماء، بل أخذت بالأسباب.
وهنا درس عملي يفيد بأن قوة التوكل على الله لا تمنع الأخذ بالأسباب، والأخذ بالأسباب لا يمنع التوكل على الله.
فسيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ظاهر بين درعين، أي: لبس درعين، والفارس لا يمكنه أن يلبس درعين أبداً؛ وذلك بسبب الوزن الذي يتوجب عليه حمله، فلا يمكنه من التحرك بيسر في المعركة.
فبالرغم من توكله على الله، وبالرغم من قول الله سبحانه وتعالى له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ، مع كل ذلك يأخذ بالأسباب، ويأتي ويصف المسلمين، ويتدرع بالجبل من ورائه، ويضع الرماة على جبل الرماة حتى لا يأتيهم العدو من ورائهم خطط حربية مرسومة كاملة.
فكذلك هاجر، ما هي الأسباب التي أخذت بها؟ هي في بطن الوادي لا تستطيع أن ترى شيئاً، وإذا أراد الإنسان أن يستكشف مكاناً إلى أبعد مسافة ممكنة فإنه يبحث عن محل مرتفع ويشرف منه، فكان أقرب مرتَفَع لها في ذلك المكان هو جبل الصفا، فصعدت إلى الصفا ونظرت حولها فلم تجد شيئاً، ثم بحثت عن مرتفع آخر فلم تجد أقرب من المروة، فنزلت من الصفا إلى المروة، فلما انصبت قدماها في بطن الوادي اختفى عنها طفلها فأسرعت حتى جاءت إلى جانب الوادي الآخر، وحين رأت طفلها مشت مشياً عادياً، ثم صعدت على المروة وتلفتت حولها فلم تجد شيئاً، ثم لشدة تلهفها رجعت إلى الصفا، وهكذا.
وبتأمل هذا الموقف نجد أنها ما طلبت دون يقين بالله، ولا قطعت رجاءها في الله؛ لأنها متوكلة على الله، وكان الواجب عليها أن تأخذ بالأسباب، فأخذت بأسباب تقدر عليها، والتمست الفرج من الأرض على يد مخلوق من خلق الله فلم تجد، وتُركت تسعى إلى أن أكملت سبعة أشواط، وكلنا يدرك أنها في المرة الأولى لعلها كانت على أمل خمسين في المائة أو سبعين في المائة، ترجو أن تجد من يغيثها، فلما جاءت إلى المروة ولم تجد نزل هذا الأمل إلى ثلاثين في المائة، فلما جاءت إلى الصفا نزل هذا الأمل إلى خمسة وعشرين في المائة، ولما أعادت الكرة إلى المروة نزل إلى عشرة في المائة، وما أكملت سبعة أشواط إلا وقد انقطع رجاؤها من الخلق، وانقطعت آمالها في المخلوق وفي الأرض، وتوجهت بكل صدق إلى الله، فكانت الإغاثة حقاً، فجاء جبريل عليه السلام لا بسقاء ولا بقراب ولكن يشق الأرض فينبع الماء بزمزم.
لماذا لم يأتها جبريل من أول مرة؟ هي لم يكن عندها أحد، لكن كان يوجد في القلب نوع ميل ورجاء وأمل في مخلوق، فتُركت لما وجد في قلبها من ذلك النوع من الأمل في المخلوق، فسعت سبعاً، وكل مرة يقل رجاؤها في المخلوق، وكلما قلّ رجاؤها في المخلوق عظُم في الخالق، فالأمران متقابلان؛ كلما ضعف رجاؤها في المخلوق ابتعدت عنه واقتربت من جانب الله حتى انقطع الأمل تماماً في المخلوقين، وتوجهت بكليتها إلى الله، فكان الفرج الكبير، وهكذا يجب أن يكون المسلم.
(يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني) ، إذا كنت مع الدعاء قوي الرجاء وعظيم الرجاء في الله، فهناك يحصل المطلوب، أما أن تدعو بقلب لاه فقد جاء في الحديث: (لا يستجيب الله دعاءً من قلب غافل لاه) .
أي: تدعو ربك وأنت مشغول بغيره أو تدعو ربك وأنت تفكر بغيره.
وفيما وقفت عليه في ترجمة عطاء -أو بعض العلماء- في مكة، أن عبد الملك بن مروان -وهو خليفة- دخل الكعبة فوجده فيها، فقال: ألك حاجة يا فلان؟! قال: (إني لأستحي أن أسأل مخلوقاً وأنا في بيت الله) .
فمثلاً: إنسان ضيف عندك، وجاء ضيف ثانٍ، وله حاجة، فحينما يتوجه إليك بطلب حاجته يكون أقرب إليك وأحسن من أن يتوجه إلى هذا الضيف.
فلما خرجا إلى الخارج قال: الآن نحن خارج الكعبة، فسلني حاجتك.
قال: والله ما سألت الدنيا ممن يملكها، فلا أسألها ممن لا يملكها.
حينما كان داخل الكعبة كان قلبه مع الله، واستشعر أنه من قلة الحياء أن يكون في جوف الكعبة ويسأل مخلوقاً: أعطني كذا، كيف ورب البيت أقرب؟! وهكذا الإنسان حينما يكون رجاؤه عظيماً بالله، وقلبه متعلقاً بالله، وفي وقت الشدة يكون أقرب إلى الله، تكون الطاقة في التوجه قوية جداً.(85/6)
قصص أخلص أصحابها الدعاء فاستجاب الله لهم
قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، فأتت الصخرة وسدت عليهم الغار.
فجعلوا يحاولون تحريكها فلم يقدروا عليها، فرجعوا إلى الله، وقالوا: تعلمون أنه لا يعلم أحد بكم، ولا ينجيكم من هذا إلا الله، فكل واحد منا ينظر ماذا له عند الله من خبيئة سر؟ وأيّ عمل أرجى له عند الله؟ فليسأل الله به.
فقام الأول يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى ببر والديه، وقام الثاني يتوسل إلى الله بحفظ حق الأجير وأداء الأمانة، وقام الثالث يتوسل إلى الله بالكبرى والعظمى وهي العفة عن الحرام، وكلما قام واحد منهم وتوسل إلى الله بما له عند الله تتزحزح الصخرة قليلاً، حتى إذا استكمل الثلاثة دعاءهم تنحت الصخرة، وخرجوا يمشون.
ولو تساءلنا: الأول منهم حينما توسل إلى الله وبقدرة الله تزحزحت الصخرة، فالله الذي زحزحها سنتيمتراً واحداً يستطيع أن يزحزحها كيف شاء، فكان من الممكن أن تنزاح الصخرة عند أول توسل، ولكن من فضل الله علينا أنه أنظرهم حتى يخرج الثلاثة ما عندهم، ونعرف كيف يكون أثر الأعمال الخالصة لوجه الله.
إذاً: العمل الصالح، والإخلاص، والرجاء فيما عند الله؛ إن توجه إلى الجبل أزاحه، وإن توجه إلى الماء جمد، وتتسخر كل القوى الطبيعية للعبد الذي يتوجه إلى الله بإخلاص.
هذا العلاء بن الحضرمي حينما أتى إلى البحر والعدو ينحاز بالسفن، فماذا قال؟ أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر.
ماء يمشي ويجري، فيجمد لهم ليعبروا، ويقاتلون وينتصرون! بأي شيء؟ بقوة الرجاء في الله، وبالإخلاص لله.
وهذا سفينة مولى رسول الله، حينما رأى الأسد معترضاً للناس، أتى إليه وقال له: ابتعد، أنا سفينة صاحب رسول الله.
وذات مرة ضاع في الصحراء، ولم يدر أين يذهب، فإذا بالأسد يأتيه ويحوم حوله ويمشي معه حتى يدله على الطريق! ماذا نقول؟! إن الحيوانات والوحوش تذل عند عظيم الرجاء في الله، وإن الماء يجمد والصخرة تنزاح عند التوجه إلى الله بصادق النية.(85/7)
هل تستجاب دعوة الكافر؟
قد يستجاب الدعاء مع شدة الرجاء فيما عند الله ولو كان من كافر، فلا تستعظموا ذلك! فإن الله لا يتعاظم عليه شيء.
إذا قام الكافر وهو في شدة وكربة وتوجه إلى الله، وصار يستصرخ ويصيح ويسأل ربه أن يفرجها عنه، فالله سبحانه لا يرد سائلاً، ولا نقول: هذا كافر، أليس ربه هو الذي خلقه، وهو الذي رزقه، وأعطاه ما أعطاه؟ وفي الحديث: (إياكم ودعوة المظلوم وإن كان كافراً فإنه ليس لها حجاب دون الله تعالى) .
حينما يتوجه الكافر إلى الله بالمسألة فيما يخصه ليفرج الكرب عنه، فهو في تلك اللحظة مؤمن بمن يدعوه ويلجأ إليه ويرجوه.
ولذا قال حصين حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد إلهاً؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء.
قال: فأيهم تعد لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي في السماء) .
لأنه لم يخش ولم يرج إلا الذي في السماء سبحانه وتعالى، والبقية تلك كما يقولون: على الهامش، لا قيمة لها عند الشدة وعند الحاجة.
وأيضاً: الكافر حينما يتوجه إلى الله، ويقول: يا رب! الآن أنا مسلم، فهل يرده عن هذا، ويقول له: لا، أنت كنت كافراً؟ لا، فإن (الإسلام يجب ما كان قبله) .
ويذكرون في كتب التفسير أن فرعون حينما جاءه الغرق صار ينادي: يا موسى! يا موسى! عدة مرات، وموسى لم يلتفت إليه، فالله سبحانه وتعالى عاتب موسى فيه، وقال: يا موسى! يناديك عبد من عبادي لتغيثه فلم تلتفت إليه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته! وفضل الله أكبر من هذا.
ولذا يا إخوان! يجب على كل مسلم أن يُعلِّم الخلق سعة فضل الله، وأن يُعظِم رجاءهم في الله، ثم بعد ذلك يأخذهم إلى كتاب الله وسنة رسوله.
ومما جاء في الآثار عن موسى أنه سأل ربه عن أحب شيء إليه؟ قال: أن تحببني عند خلقي.
فلا تُيئس الناس من رحمة الله، وسع لهم المجال، ثم خذهم بالكتاب والسنة، وعلمهم ما يجب من حق الله عليهم، وحق العباد على بعضهم البعض.
(يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني) ، يقول العلماء: الرجاء وقت الدعاء من شرط الإجابة، أما إذا كان يدعو من دون رجاء فكأنه غير مهتم وغير مبال، وفي الحديث: (أنا عند ظن عبدي بي) ، فإذا دعا وهو يحسن الظن بالله تعالى يجيب دعاءه أجاب الله دعاءه.
وكثير من العلماء يقولون: من دواعي استجابة الدعاء أن يكون المطعم حلالاً، لا أن يكون حراماً.
كيف تتغذى بالحرام معاندة ومخالفة لله، ثم تتقدم وتسأل الله بجسم غذي بالحرام؟! أما إذا دعوت بجسم غذي بالحلال، وتوجهت إلى الله، كان ذلك حري بالاستجابة، وهذا من المراتب العليا للمؤمنين كما روي عنه صلى الله عليه وسلم حينما سأله الرجل وقال: (يا رسول الله! ادع الله لي أن أكون مجاب الدعوة، فقال: أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة) ، إذا كان طعامك من حلال فإن دعوتك مجابة.
وهكذا في جميع العبادات كما جاء في الحج: (إذا خرج الرجل حاجاً بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور) ؛ لأن كل مقوماته بالحلال.
إذاً: هذا الجزء من هذا الحديث من أعظم ما يُرجِي العبد.(85/8)
هل يقدم الإنسان الرجاء أم الخوف؟
جاء في سيرة الحجاج -الذي سفك الدماء، وسعى في الأرض فساداً- أنه عند النزع في آخر أمره توجه إلى الله وقال: (يا رب! كل الناس يسيئون الظن بي، وأنا أحسن الظن بك) يا الله! مع سيرته الظالمة وأخلاقه السيئة وما سفك من دماء بريئة يقول هذا! والعلماء يأتون بمبحث لطيف ويقولون: هل الواجب على الإنسان والأولى له أن يغلِّب جانب الرجاء، أو يقدم جانب الخوف لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] أو يجمع بينهما لقوله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] ؟ قالوا: المسلم كالطائر يطير بجناحين: جناح الرغبة وجناح الرهبة، فجناح الرغبة يدفعه إلى فعل الخير، وجناح الرهبة يمنعه من فعل الشر، فهو بين رغبة ورهبة، ولكن يقولون: إذا كان في نهاية عمره، أو عند عجزه فيقدم جانب الرجاء كما جاء في الحديث: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) ، أما إذا كان في شبابه وفي قوته وفي نوازع الهوى وفي مخاوف الفتنة فيقدم جانب الخوف.
إذاً: في حالة القدرة على العمل ومخافة الفتنة والوقوع في الشبهات وغيرها يكون جانب الخوف أسلم له، وإذا كان في الطرف الثاني فليقدم جانب الرجاء.
وهكذا يقولون في سلوك العبد مع الله سبحانه وتعالى وإعظام الرجاء في فضل الله، ويصور هذا بعض الشعراء بقوله: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو المجرم ما لي إليك وسيلة إلا الرجاء وجميل عفوك ثم إني مسلم وهذا تصوير الواقع -يا إخوان- فإن عظمت ذنوب الإنسان فليعلم بأن عفو الله أوسع.
الرسول صلوات الله وسلامه عليه في عودته من الطائف سلطوا عليه السفهاء وجاءه ما جاءه منهم، فوقف يدعو ربه: (اللهم! إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أو إلى قريب ملكته أمري! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي) ، فعفوا الله أوسع، فالإنسان قد يبتلى وقد يصبر وقد يتحمل، ولكن عفو الله أوسع، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] .
(يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء) ، وسيأتي بيان نوعية هذه الذنوب، ويهمنا قوله: (عنان السماء) ويقولون: العنان هو السحاب، ويقولون: إن هذا على سبيل التقريب، ولو بلغت إلى السماء الدنيا، مهما كثرت ذنوبك ثم استغفرت ربك يغفرها لك.
وقوله: (على ما كان منك) ، يقول بعض العلماء: ولو تكررت ذنوبك ثم استغفرت وبعد استغفارك عدت للذنب ثم استغفرت غفر لك، ولكن لا على سبيل التلاعب والتهكم والاستهتار، بل تصدُق عند استغفارك، يقول بعض السلف: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار) ، يعني: استغفارنا ليس أكيداً، ولم يكن نابعاً عن قلب صحيح نادم راجع.
ولذا يقولون: الاستغفار هو عين التوبة، والتوبة إقلاع عن الذنب، وندم على ما مضى، وعزم على عدم العودة، فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة كانت توبة نصوحاً.
وإن قُدِّر بعد ذلك أن وقع في الذنب بدون إصرار سابق فإنه يستغفر، وقد جاء في الحديث: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) .
إذاً: مهما كان الذنب فلا يتعاظم إنسان ذنباً على الله، وشاهد ذلك قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم أتى إلى شخص عابد وسأله: هل لي من توبة؟ قال له: بعد قتل تسعة وتسعين نفساً! ليست لك توبة، فقتله فأكمل به المائة.
ثم بقيت نفسه تنازعه فأتى عالماً عارفاً فسأله، فأجابه العالم وقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟، تب إلى الله يقبل توبتك، ثم نصحه قائلاً: اخرج من هذه البلدة التي قتلت فيها مائة نفس، واذهب إلى القرية الفلانية ففيها رجال صالحون فاعبد الله معهم، فلما خرج أدركته المنية في الطريق، واختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ثم أرسل الله لهم ملكاً في صورة رجل وقال: قيسوا ما بين الأرضين، ثم أمر الله هذه بأن تمتد، وتلك بأن تنزوي، فصار أقرب إلى أهل الخير بذراع، فقبضته ملائكة الرحمة.
وفي الحديث: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة) .
إذاً: عمل بعمل أهل النار وأصبح يستحق النار، ولكن بلطف الله سبق عليه الكتاب، وتحوّل وعمل بعمل أهل الجنة، وكانت الخاتمة خيراً، والأعمال بالخواتيم.
وهكذا أيها الإخوة! يبين المولى سبحانه في هذا الحديث أنه لا يتعاظم الإنسان ذنباً على الله أبداً، ومهما كان عظم هذا الذنب فرحمة الله أوسع، ولكن يجب عليه في ذات الوقت التأدب مع الله، فلا تكون توبته ولا يكون استغفاره من باب التلاعب أو من باب التساهل.
ويذكر ابن رجب أثراً يعزوه إلى الترمذي (وفيه: (لا يتخذ الرجل امرأة حليلة وكلما قضى حاجته منها يستغفر الله، ثم يرجع إليها، فيقول الله له: لا، اتركها أغفر لك) .
أما كونك كل ساعة تعود للذنب، ثم ترجع وتقول: أستغفر الله، وأنت مصر على هذا؛ فلا.
وفي الأثر: (إن الله لا يغفر لثلاثة: -وذكر منهم- رجل يزني بامرأة وكلما قضى حاجته منها استغفر ثم رجع، ورجل يأكل مال غيره، وكلما أكل شيئاً قال: أستغفر الله، فيقول الله له: لا، اترك ماله أغفر لك) .
إذاً: الإصرار على الذنب ذنب.(85/9)
فضل الاستغفار
الاستغفار يجبّ ما قبله، والاستغفار هو سيد العبادات، وقد بيّن سبحانه وتعالى أن هذا النوع من عبادة الله ينفع في الدنيا والآخرة، فقال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10-12] .
وبعض العلماء يقول: هناك صيغ وألفاظ واردة قد يكون بعضها أولى من بعض، ولكن حينما تستغفر فأنت تتوجه إلى الله وتطلب منه المغفرة، فاستغفر على وزن (استفعل) كما تقول: استقدم: أي طلب القدوم، واستقرض: أي طلب القرض، واستغفر: طلب المغفرة، تقول: اللهم! اغفر لي، دعاء بالمغفرة، وتقول: أستغفر الله: أي: أطلب من الله المغفرة.
وسيد الإستغفار: (اللهم! أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) ، فهذا سيد الاستغفار، فمن داوم عليه أصاب خيراً.
ويحث العلماء كل إنسان على أن يكثر من الاستغفار ولو بدون ذنب؛ لأنه رفع لدرجاته، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله! إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) .
فهذا سيد الخلق الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كانوا يعدون عليه في المجلس الواحد يستغفر الله مائة مرة! وغيره كيف يكون حاله؟ فينبغي للعبد أن يكثر من الاستغفار سواءً كان من ذنب معين أو مطلقاً، والله تعالى أعلم.(85/10)
الشرك بالله تعالى من الذنوب التي لا تغفر
وقوله سبحانه في هذا الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) ، (قُراب الأرض) : يقول بعض العلماء في اللغة: هذا الشيء قريب من هذا، أو هذا قريب من هذا في الطول، أو هذا المكان قريب من هذا في السعة، يعني ليس عين السعة وليس عين الطول ولكن مقارب، فقالوا: (قُراب) بمعنى مُقارِب، يعني: لو أتيتني بما يقارب ملء الأرض، وقالوا: قراب الأرض، أي: قِرابها أو ملؤها، وهو كناية عن امتلائها بالكلية.
(لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) ، يقول (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً) ، إذاً: هناك فرق بين المغفرة والاستغفار وبين الدعاء وعظيم الرجاء.
قلنا: في قوله: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني) ، شملت كل عبد لله من بني آدم، ولكن هنا يقول سبحانه: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً) ، إذاً: قراب الأرض من الخطايا التي ليس فيها الذنب الأكبر وهو الشرك، كما بين ذلك سبحانه في قضية لقمان مع ابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] .
فمهما كان على الإنسان من خطايا، ولقي الله موحداً لا يشرك بالله شيئاً لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا في صفاته، كان هذا القراب الكثير من الخطايا موضع المغفرة.
وفي القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] ، أي ما دون الشرك من الخطايا.
إذاً: ((دُونَ ذَلِكَ)) فيه نص على أن الخطايا تتفاوت، فهناك الشرك وهو الظلم الأعظم، وهناك قتل النفس، وهناك الزنا، وهناك السُّكْر، وهناك السرقة، وهناك السَّب، وهناك نظرة العين، فهي تتفاوت، ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ)) ، فالحديث مطابق للآية الكريمة.
قال: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا) ، والخطايا: جمع خطيئة، وهي: ما يفعله الإنسان من الذنوب عامداً، وهي بخلاف الخطأ الذي يقع من المرء بدون قصد منه، وتقدم في الحديث: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، فالخطأ ليس عمداً وليس معصية، ولكنه ينتج عندما يفعل المرء شيئاً جائزاً فيخطئ فيه إلى ما ليس بجائز، أي: بدون إصرار ولا قصد للخطأ والمعصية.(85/11)
الإيمان بصفات الله تعالى دون تكييف
هذا الحديث يسوق عنده العلماء الحديث الآخر: (وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) ، والأحاديث التي تدخل في باب الصفات ليس لإنسان أن يحكِّم العقل فيها، ولا أن يورد عليها تكييفاً من عنده؛ لأن الكيف لا ينبغي من الإنسان في حق المولى سبحانه، وقد نهانا عن ذلك وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ، ومذهب السلف الصالح كما قال مالك عندما سئل عن الاستواء، فأطرق وأخذه العرق واشتد به الأمر، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب) .
وكذلك قال ربيعة الرأي شيخ مالك، وكذلك قالت أم سلمة، فكلهم حينما سُئلوا عن الاستواء كان جوابهم واحداً.
ويقول الشافعي رحمه الله في هذا الباب: (نؤمن بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، ونؤمن برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله) .
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (نحن كلفنا بإيمان تصديق لا بإيمان تكييف) .
ولهذا سلف الأمة يثبتون صفات المولى سبحانه على مراده، ويقولون: إثبات بلا تكييف ونفي بلا تعطيل، إثبات الصفات بلا تكييف لها: فلا يقال: كيف كذا وكيف كذا، ونفي لما لا يليق بجلال الله دون تعطيل المولى عن صفاته الحقة.
وهكذا قوله في هذا الحديث: (إن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً) ، نحن ندرك الشبر والذراع، ولكن المولى من يدركه من خلقه؟ (وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) ، فهذه الصفات لا ندرك حقائقها كما نتصور إلا في المخلوق، وأما في ذات المولى فلا.
وكما جاء في الحديث (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) ، وأين السماء من عظمة الله؟ (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة) .
فكيف نتصور بالعقل المحدود أن المولى ينزل إلى السماء الدنيا، وهل هو كنزولنا؟ لا والله! وهل السماء تسعه؟ لا نستطيع أن نكيف فالعقل محدود، ويعجز أن يكيف صفة من صفات الله.
فيجب أن نثبت صفات الله كما جاء عن الله وعن رسول الله، ولا أعلم بوصف الله من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وختاماً أيها الإخوة! نحمد المولى سبحانه أن امتن علينا بهذه النعمة، ونشكره سبحانه أن وفقنا وإياكم إلى نهاية هذا المجموع المبارك، ونسأل المولى أن ينفعنا وإياكم وكل مسلم بما علَّمنا، وأن يوفقنا للعمل بما علّمنا، وأن يرزقنا حسن الإخلاص وحسن التوجه إليه، وأن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يرزقنا وإياكم شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجزيه عنا وعن الإسلام والمسلمين أفضل ما جازى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(85/12)
الأسئلة(85/13)
حكم العمرة عن الوالدين إذا لم يوصيا بها
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يعتمر عن والديه ولو لم يوصياه بذلك؟
الجواب
الأئمة الثلاثة يجيزون أن يعتمر الإنسان عن أبويه ولو بدون وصية، ومالك رحمه الله يقول: إن أوصيا عملت بالوصية، وإن لم يوصيا فلا عليك.
ولكن جاء في السنة ما يؤيد رأي الجمهور، فقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن امرأة أتته وقالت: (إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟) ، فما سألها: هل أوصت أم لم توص؟ بل (قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فالله أحق بالوفاء) .
فلو مات إنسان وعليه دين لإنسان، ولم يوص بسداد الدين، فجاء متبرع وسدد الدين عنه فقطعاً تبرأ ذمته، وقد كان في بادئ الأمر يأتون بالجنائز ليصلي عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسأل: هل عليه دين أم لا؟ فإن قالوا: نعم، قال: (صلوا على صاحبكم) .
لأن المدين يحبس في قبره بدينه، وإن قالوا: ليس عليه دين، صلى عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فجيئ برجل فقيل: إنه مدين بدينارين، فقال: (صلوا على صاحبكم) ، والميت ما أوصى بسدادها، فقال أبو قتادة رضي الله عنه: (يا رسول الله! دينه عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حق الغريم وبرئ منها الميت؟ قال: نعم، فتقدم صلى الله عليه وسلم وصلى عليه) .
فهل هذا الرجل كان أوصى أن يسدد عنه؟ لم يوصِ.
إذاً: إذا تبرع الولد لأبويه بعمرة فلا مانع من ذلك، ولا يحتاج أن يتوقف على الوصية، والله تعالى أعلم.(85/14)
متى تبدأ أحكام السفر؟
السؤال
متى تبدأ أحكام السفر؟
الجواب
هناك قضية يخطئ فيها الكثير من الناس، وهي أنه حينما يريد السفر ويعزم عليه، ويأتي وقت الفريضة كالظهر مثلاً، فيجمع الظهر والعصر في مسجد بلده الذي يصلي فيه عادة، ويقول: أنا عازم على السفر، فيجمع العصر مع الظهر وهو لا زال في بلده أو عند بيته أو في مسجد حيه، فهذا لا يجوز ولا يصح، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما عزم على الحج في حجة الوداع، اغتسل ولبس إزاره ورداءه، وتهيأ للسفر، وحضرت صلاة الظهر، فصلى الظهر أربعاً، ولم يجمع معها العصر، بل أخرها حتى جاء إلى ذي الحليفة، ولما دخل وقتها صلاها ركعتين.
إذاً: الترخص بأحكام السفر لا يحل حتى يتحقق السفر فعلياً بأن يخرج من أطراف القرية.
وقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان خارجاً من الكوفة فصلى الظهر أربعاً، قالوا: لماذا لا تقصر ونحن قد خرجنا للسفر؟ قال: لولا هذا الخصيص - خص تابع للقرية- لصلينا ركعتين، فـ علي رضي الله تعالى عنه يرى أنه مادام يوجد طرف من أطراف البيوت ولو خُصيصاً فإنه لا زال في حيز البلد، ولا زال في حدودها، ولم يخرج عنها، فلا يحق له أن يقصر الصلاة.
إذاً: لا يحق الجمع لإنسان مر بسيارته بالمسجد النبوي وهو من أهل المدينة، فلا يحق له أن يجمع العصر مع الظهر؛ لأنه لم يخرج بعد، ويمكن أن يأتيه أمر يرجعه عن السفر.
فلا ينبغي لإنسان أن يبدأ القصر وكذلك الفطر في رمضان قبل أن يخرج من بلده.(85/15)
من شروط التوبة رد الحقوق إلى أهلها
السؤال
هل من شروط التوبة رد الحقوق إلى أهلها؟
الجواب
روي في حديث: (ثلاثة لا يغفر الله لهم: رجل زنى بامرأة، كلما قضى حاجته منها استغفر ثم رجع، ورجل يأكل مال الغير ويقول: أستغفر الله، فيقول الله: لا، حتى ترد ماله، ... ) إلخ.
إذاً: يشترط لصحة التوبة أن ترد الحقوق إلى أهلها.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(85/16)