شرح الأربعين النووية - الحديث الأول [1](1/1)
مقدمة عن مؤلف الأربعين النووية وسبب تأليفها
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) متفق على صحته، رواه البخاري ومسلم] .
فهذا أول حديث في مجموع النووي رحمه الله، المسمى بالأربعين النووية، والنووي رحمه الله يتفق علماء الرجال ويتفق المحدثون والفقهاء من بعده: على أنه إمام جليل، زاهد ورع، فقيه محدث، وهو محل اتفاق على جلالته وفضله في العلم، وله مصنفات عديدة وكلها نفع الله بها طلبة العلم، سواءً في الفقه كالمجموع شرح المهذب، ولا أعتقد أنه توجد موسوعة فقهية تضاهي هذا الكتاب، اللهم إلا إن كان المغني لـ ابن قدامة عند الحنابلة.
وله أيضاً كتاب روضة الطالبين في الفقه الشافعي، وله شرح مسلم، وله رياض الصالحين من أحاديث خاتم النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وكلها بحق مراجع في بابها.
وهذا الكتاب الذي اشتهر عند الناس بالأربعين النووية، نسبة إلى مؤلفه الإمام النووي، الذي ينسب إلى نَوى، وهي منطقة تتبع الجولان من أعمال دمشق، ونشأ بها، ثم تعلم في دمشق أي في الجامع الأموي، ورحل إلى عدة أقطار وتعلم، ونفع الله سبحانه وتعالى به وبمؤلفاته.(1/2)
سبب تسمية الأربعين النووية
وأصل كتابه هذا الأربعين النووية، يقول بعض العلماء: إن كثيراً من العلماء قد ألفوا في الأربعينيات، فمنهم من يجمع أربعين حديثاً في موضوع واحد، كفضائل العلم، ومنهم من يجمع في فضائل البلدان، أو في المسلسلات أو في غير ذلك.
وأما سبب التحديد بهذا العدد فقد ورد حديث ضعفه البعض، ولكنهم عملوا به في فضائل الأعمال: (من حفظ على أمتي أربعين حديثاً على أمتي من أمور الدين أدخله الله الجنة، أو جعله الله من المتقين) ، ورتب صلى الله عليه وسلم جزاءً على من جمع أربعين حديثاً من أمور الدين.
قالوا: وإن كان ضعيفاً إلا أن كثيراً من العلماء جمعوا أربعينات في مواضيع مختلفة، وأصل الأربعين النووية كما ذكر ابن رجب في مقدمة شرحه: أن ابن الصلاح وهو من أجل علماء الحديث في الشام، جلس في يومٍ مجلساً ليملي أحاديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، فأملى ستةً وعشرين حديثاً في مجلسه ذاك، فجاء النووي رحمه الله وأخذ هذه الستة والعشرين وأضاف إليها ما أكمل الأربعين، وبالتحديد اثنين وأربعين حديثاً، انتخب فيها الأحاديث الجامعة التي تعد كأصل أصيل في الإسلام.
وبعضها يقول عنه بعض العلماء: ربع التشريع، أو ربع الدين، أو ثلث الدين، هناك أحاديث عامة كما جاء عن أحمد رحمه الله: أن ثلاثة أحاديث تدور عليها الشريعة كلها: حديث عمر بن الخطاب: (إنما الأعمال بالنيات) ، وحديث: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وحديث: (إن الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك المتشابهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) .
ويقول أحمد لأن الأعمال كلها لا تقبل إلا بنياتها، والأعمال الفرعية لابد أن تكون مطابقة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحديث الثاني، والثالث: أن الأعمال منها ما هو بين حلال، ومنها ما هو بين حرام وبينهما المشتبهات، وجميع أحكام الفقه هكذا: إما حلال بين وإما حرام بين، وإما مشتبه بينهما، ليس هناك قسم رابع، (فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه) فيقول أحمد رحمه الله: لم يخرج حكم تشريعي عن هذه الأحاديث الثلاثة.
ويروون عن أبي داود رحمه الله أنه يقول: جمعت أربعمائة ألف حديث، ووجدتها تدور على أربعة أحاديث، وذكرها ابن رجب في مقدمته، إلى غير ذلك من الأحاديث التي تعتبر قواعد عامة، وأخذوا ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: (أوتيت جوامع الكلم) ، فهو صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم والحكم؛ لأنه يجمع المعنى الكبير جداً في كلمتين، كما في هذا الحديث: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، فلو جئت بجميع أعمال المكلفين في الطهارة أو الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج.
إلخ، فقسه على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن كان موافقاً لما جاء فيها فبها ونعمت، وإلا فهو مردود، ويشهد له قوله سبحانه، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .
والشافعي رحمه الله كان له بحث أو له جمع آية وحديث، يقول: إن جميع الأحاديث النبوية لها أصل يشير إليه في كتاب الله، ولكن ما كل إنسان يجد هذا.
يهمنا أن العلماء جمعوا أربعينات في مسائل مختلفة، وكان ممن جمع فيها النووي رحمه الله، وكان جمعه في جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وقد جمعت هذه الأربعين دون أن يلاحظ فيها التناسق بين الأحاديث، والمهم أنها موجودة في هذا المجموع لو استوعبها إنسان لكأنما استوعب جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.(1/3)
ما استدركه بعض العلماء على الإمام النووي
ويورد عليه بعض العلماء مما ترك من الأحاديث التي تعتبر الأم في بابها قالوا: ترك حديثاً في الفرائض هو أصل للفرائض (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى ذكر وارث) .
وقد اتفق علماء الفرائض أن هذا الحديث أصل في باب الميراث، والاتفاق على أن الإرث يكون بالفرض والتعصيب، إذاً: ألحقوا الفرائض على ما جاء في كتاب الله، فإن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، وبين ميراث الزوجين عند وجود الولد وعدمه، وبين حق الذكر مع الأنثى في الأولاد والأخوة والأخوات، وبين حق الأم والأب إذا كان هناك أولاد أو ليس هناك أولاد، وبين ميراث الجميع، وما بقي فلذوي العصبات، (لأولى رجل ذكر) .
فيقولون: إنه لم يذكره وكان من حقه أن يذكره مع هذه الأحاديث، ولذا جاء ابن رجب رحمه الله وأخذ الأربعين أو الاثنين والأربعين وأضاف إليها ثمانية حتى كملت الخمسين حديثاً وأدخل فيها هذا الحديث، وما شاكله مثل: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهذا أيضاً أصل في بابه، فلم يفصل في ذكر المحرمات وأحال ذلك إلى ما ذكر من المحرمات من النساء في القرآن.
ومهما يكن من شيء فلا يمكن لأي إنسان أن يدعي لنفسه الكمال، والنووي بنفسه في هذا المجموع ما قال: جمعت كل شيء، إنما جمع ما وقع عليه اختياره في هذا الباب.
وهذا الحديث الذي بدأ به هذا المجموع المبارك يتفق العلماء على أنه أصل من أصول الدين، وعلى أنه ثلث أو ربع أو خمس الدين، ويتفق العلماء أيضاً على أن هذا الحديث يدخل في كل باب من أبواب الفقه، ولذا جاء عن بعض السلف أنه قال: لقد بدأ البخاري كتابه بهذا الحديث تنبيهاً على وجوب إخلاص النية في العمل لله، ولو ألفت كتاباً لجعلت مقدمة كل باب: (إنما الأعمال بالنيات) نأتي إلى هذا الحديث وإلى منطوقه ومضمونه وما يتناوله بقدر المستطاع إن شاء الله.
يروي النووي رحمه الله هذا الحديث عن عمر مباشرة، وقد أشار في مقدمته أنه التزم أمرين: - حذف السند ليسهل الحفظ.
- وصحة الحديث لنطمئن إليه، فلا يوجد في الأربعين النووية حديث ضعيف.(1/4)
تلقيب عمر بن الخطاب بأبي حفص والفاروق
وفي بداية الحديث عن هذا الإيراد لعلنا نتساءل عن هذه الألقاب والكنى والأسماء، أمير المؤمنين أبو حفص الفاروق عمر يبين علماء اللغة: أن العلم اسم يعين المسمى مطلقاً كما قال ابن مالك في الألفية، ثم بين أنه يأتي كنية وعلماً واسماً ولقباً، والعلم هو ما يعين مسماه بدون قرينة، وسمي الاسم اسماً لأنه وسم أي: علامة على صاحبه، وأصل الوسم العلامة للإبل ونحوها، وهو مأخوذ أيضاً من السمو وهو العلو، ومنه السماء، سما يسمو سمواً، لكأن الاسم سمة علت على صاحبها فميزته عن غيره.
والكنية ما صدرت بأب أو بأم كأبي حفص وأبو بكر، واللقب ما أشعر بمدح كالفاروق وذي النورين أو بذم.
السؤال هنا: ما هو سبب هذه الألقاب التي لقب بها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؟ أما أمير المؤمنين فيقولون: إنه في خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانوا يقولون لـ أبي بكر خليفة رسول الله، فلما جاء عمر كانوا يقولون: خليفة خليفة رسول الله، وطال الأمر فقالوا: جاء وافد من العراق يسأل أين أميركم؟ قالوا: من أميرنا؟ قال: عمر، قالوا: جئت بها، فسموه أمير المؤمنين، وقالوا: إنه هو الذي قال: أنتم المؤمنين وأنا أميركم فأنا أمير المؤمنين، يهمنا أنه لقب جاءه بعد توليه الخلافة.
أبو حفص الحفص: الأسد قالوا: كني أبو حفص عمر بذلك لشجاعته وقوته وخفته، ويذكرون عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يمسك أذن الفرس بيد ويثب على ظهر الفرس، دون أن يعتمد على شيء، وذلك لنشاطه وخفته، وهذا القصد والوثب من سمات الأسد والنمر، فلقب أبو حفص لهذه الصفة كما يقولون.
أما الفاروق فقد لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لقب خالداً بسيف الله، ويذكرون ذلك في قصة إسلامه وأنه كان أشد الناس على المسلمين إيذاء، وفي يوم أخذ سيفاً، ومضى يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتله، فلقيه رجل وقال: أين يا عمر؟ قال: أريد قتل محمد.
قال: هل ترى بني هاشم تاركيك؟ فقال له عمر: صبأت، قال: أدلك على أعجب من ذلك، أختك وزوجها أسلما.
فبدل أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت أخته، وكان عندها وعند زوجها خباب بن الأرت يقرئهما القرآن ويخفيان إسلامهما، فلما جاء عمر وسمع خباب صوته اختفى داخل البيت، ودخل عمر إلى البيت فقال لأخته وزوجها: ما هذه الهمهمة التي سمعتها، قال له زوج أخته: ما هو إلا حديث بيننا -وكانا يقرءان سورة طه-، فعدا على زوج أخته، فقامت أخته تدافع عن زوجها فلطمها فأدماها، فلما رأى الدم من أخته أسف على ذلك.
ثم قالت له أخته: رغم أنفك يا عمر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقال: أريني الصحيفة التي كنتما تقرآنها، قالت: لا.
إنك رجس وهذا كتاب الله، اذهب فاغتسل، فذهب ثم جاء وأخذ الصحيفة وقرأ ما فيها ثم قال: أين محمد الآن؟ فلما سمع خباب قول عمر نادى وخرج وقال: أبشر يا عمر! لعل دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخميس أصابتك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم أعز الإسلام بـ عمر بن الخطاب أو بـ عمرو بن هشام) قال: أين محمد الآن؟ قال: في الدار التي بأعلى الصفا.
فذهب عمر رضي الله تعالى عنه فوجد حمزة على الباب رضي الله تعالى عنه ومعه رجال، فلما رآه حمزة قال: لقد جاء عمر إن كان أراد الله له خيراً فالحمد لله، وإلا فقتله يسير علينا، فلما طرق الباب وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته خرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسك بتلابيبه وبحمالة سيفه وقال: أما آن لك أن تسلم يا عمر!! قبل أن يخزيك الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
ثم جلسوا في الدار فقال عمر: يا رسول الله! ألسنا على الحق أحياءً وأمواتا؟ قال: والذي نفسي بيده إننا على الحق أحياءً وأمواتاً، قال: فلماذا نجلس هنا أفلا نعلنها، وخرج عمر وخرج رسول الله في صفين على أحدهما عمر وعلى الآخر حمزة وذهبا إلى البيت وطافا بالبيت، فساءت وجوه قريش، وقالوا: الآن انتصف المسلمون منا.
فحينئذٍ سماه الرسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق، كأنه فرق في ذلك اليوم بين الخفاء بالدعوة وبين ظهورها، أو بين المسلمين والمشركين، حيث تميزت جماعة المسلمين حينما دخل عمر في الإسلام وكان ابن مسعود يقول: (إسلام عمر فتح، وهجرته نصر، وخلافته رحمة) من هنا سمي الفاروق، وذلك كما سمى الله سبحانه وتعالى يوم بدر يوم الفرقان؛ لأنه يوم فرق الله فيه بين قوة الشرك الطاغية وبين قوة الإسلام الداعية إلى الله.(1/5)
شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات)
نأتي إلى حديث النية منطوقه ومضمونه وما يتناوله بقدر المستطاع إن شاء الله: أولاً: من حيث اللفظ (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرأة ما نوى) هاتان جملتان متقاربتان لفظاً مختلفتان مضموناً.
كلمة (إنما) تعتبر عند علماء اللغة أداة قصر، ومعنى القصر أو الحصر هو أن تقصر المبتدأ على الخبر، ومن أساليب القصر النفي والإثبات (ما وإلا) مثل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144] ، وكذلك تقديم ما حقه التأخير مثل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فأصلها (نعبدك ونستعينك) ولكن تقديم المعمول يدل على أنه محصور على ما بعده، فالمعنى: (إياك وحدك نعبد) فقصر العبادة على مرجع الضمير المتقدم هنا (إياك) وكان أصله ضمير وصل وهو الكاف: (نعبدك) فلما فصل جيء بـ (إيا) فصار (إياك) لأنه لا ينطق بالكاف وحده، فصارت الجملة هكذا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لا نعبد غيرك ولا نستعين بغيرك.
ومن أساليب الحصر أيضاً: تعريف كل من المبتدأ والخبر كقوله: (الكاتب زيد) فزيد معرفة والكاتب عرف بأل، والمعنى أنه لا كاتب إلا زيد، وكقول البعض: الشاعر شوقي أو الشاعر المتنبي فقصر الشعر على المتنبي كأن غيره لا يذكر معه، فتعريف الطرفين، وتقديم ما حقه التأخير، والنفي والإثبات، و (إنما) كلها أساليب قصر، وأم الباب هي (إنما) {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ} [الرعد:7] فكلمة (إنما) هي أداة حصر وحدها.
وهنا (الأعمال) هي المحصور والمقصور على النية، فجميع الأعمال مقصورة ومحصورة ومتعلقة بالنية.(1/6)
هل تدخل النية في جميع الأعمال
وهنا (الأعمال) معرف بأل فيشمل جميع الأعمال، ومن هنا قال جمهور العلماء: كل عمل لابد أن يتعلق بالنية.
بعض العلماء يقول: هذا العام مخصوص خرج منه ما لا يحتاج إلى نية، كالأمور التي ليست مقصودة للتعبد، كالأمور الجبلية، كالأكل والشرب والنوم واللبس، فهذه أمور جبلية لا تحتاج إلى نية، وتحصل بدون النية، فإذا أكلت شبعت ولو ما نويت الشبع، وإذا لبست سترت وإن لم ترد الستر.
ويقول الآخرون: الحديث على عمومه ولا يخرج منه شيء، حتى الأمور الجبلية داخلة في هذا الحديث؛ لأنك إذا أكلت لتشبع شكراً لله على النعمة، أو لتتقوى على طاعة الله، فإن نيتك في الأمور العادية تحولها إلى عبادة، فإذا لبست تنوي الستر كان لك أجر، وإذا لبست تنوي الفخر والخيلاء كان عليك وزر، إذاً: ما خرج من هذا الحديث شيء.
ويقول آخرون: إذا كانت عندك أمانة أو وديعة أو عليك دين، فعندما ترد الوديعة لمودعها، وتؤدي الأمانة لصاحبها، وتقضي الدين، فهذه الأمور لا تحتاج إلى نية، والآخرون يقولون: بل النية تدخل هنا أيضاً، فإن كنت تريد أن تأكل الأمانة، أو أن تجحد الوديعة، أو ألا ترد الدين، وجاء الحاكم وأخذها منك قهراً ليوصل الحق لصاحبه، فأنت أثمت بنية الخيانة أو الغدر، وإذا دفعتها إليه عملاً بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] كان لك أجر بنية الوفاء امتثالاً لأمر الله.
وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تستدين، فقالوا لها: لماذا تستدينين وقد تكونين في غنى عن الاستدانة؟ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من استدان وهو ينوي السداد كان الله في عونه حتى يسدد دينه) .
إذاً: النية لها دخل حتى في العادات، فإذا كان الإنسان يريد عملاً ما من أمور الدنيا أو أمور الآخرة فله من الجزاء بحسب نيته، مثل إنسان بنى بيتاً يستتر فيه ويأوي إليه عياله، ويتركه لعياله من بعده فله أجر على هذا العمل، ألا ترون الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة يضعها في فيَّ امرأته فله بها أجر) ، وقال: (أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: أرأيت لو وضعتها في حرام أليس عليك وزر) .
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال) عامة لا يخرج من ذلك عمل قط.(1/7)
كلام العلماء على نية القصد
والنية في الأعمال على قسمين: - نية بالقصد.
- ونية للتعيين والتمييز.
النية التي للقصد، تكون في الأعمال الأخروية التي قد يدخلها الرياء والسمعة، وقد يدخلها مصلحة أخرى، فهذه الأعمال أجرها متعلق بالنية الخالصة لوجه الله.
أما المميزة فتأتي في الصلاة والصيام، وهي التي يهتم بها علماء الفقه.
وقد جاء في نية القصد أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله الرجل يقاتل حمية، الرجل يقاتل ليرى مكانه، الرجل يقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، فالنية نية القصد أي: ماذا قصد بقتاله؟ ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وسمع أن ثقيفاً اجتمعت له وأراد أن يخرج إليهم، فأراد أن يخرج مسلمة الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتاجوا إلى دروع وإلى سيوف وإلى عتاد، فأرسل إلى صفوان وكان على دين قومه -لم يسلم بعد- يطلب منه أن يعيره أدرعاً، قال: غصباً أم عارية؟ قال: بل عارية مؤداه أو قال: مضمونة، وجاء صفوان بنفسه وهو على دين قومه، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، وحينما فوجئ المسلمون بهوازن ترشقهم بالنبال كالجراد رجع من رجع من المسلمين، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة وقال قائل: هؤلاء أصحاب محمد لا يردهم إلا البحر، فقال صفوان: والله لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن، وإنما قال ذلك حمية لقريش لا غير.
وهكذا الأعمال التي يقصد بها وجه الله فالنية فيها بمعنى القصد {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ، ولهذا جاء في الحديث أنه سبحانه وتعالى يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً وأشرك معي فيه غيري تركته وشركه) ويؤتى يوم القيامة وينادى من عمل عملاً يرائي به غير الله فليطلب جزاءه ممن كان يرائي، والأحاديث في هذا كثيرة.(1/8)
طروء الرياء وإحباط أجر العمل
ويبحث العلماء في مسألة: إذا دخل الرياء عملاً أصله لوجه الله ولكن طرأ عليه مقصد جانبي، فهل يبطل هذا العمل لقوله: (تركته وشركه) ، أو أنه يبطل منه بالقدر الذي دخل فيه الرياء؟ نعلم جميعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من الرياء وقال عنه إنه الشرك الخفي، والرياء: أن ترائي بعملك فتعمل بقصد أن يذكرك الناس، أو يمدحوك، ولذا قيل في الذي يجاهد حمية: (يأتي يوم القيامة فيذكره الله تعالى بنعمه عليه فيذكرها، فيقول له: فما صنعت فيها؟ فيقول: خرجت بمالي وبنفسي وجاهدت في سبيل الله، فيقول: كذبت! خرجت ليقال فلان شجاع، وقد قيل، ويؤتى بالعالم فيعرفه الله نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا فعلت بها؟ فيقول: تعلمت وعلمت ليعلم دينك، فيقول: كذبت! إنما تعلمت ليقال عالم وقد قيل) ولهذا يقول الإمام مالك والإمام أحمد رحمهما الله: من تعلم العلم ليماري به العلماء أو يجاري السفهاء أو يلفت أنظار الناس إليه فالنار فالنار، ويقول ابن عبد البر: من تعلم ليماري العلماء فقد قسا قلبه، أي: ضاع عن التحصيل؛ لأنه لم يرد بتعلمه وجه الله، وهذا مما يوقف طلبة العلم على أحرج المواقف، لأن الشهرة أمرها خطير، ولأن طلب الرياء عند الناس أخطر، فليتق الله كل طالب في نفسه وفي علمه وليرجُ وجه الله فيما علم وفيما علَّم، سواء استفاد منه الناس أم لا.
وفيما يتعلق بالرياء هل هو يحبط جميع الأعمال أو العمل الذي راءى فيه، وإذا قصد بعمله وجهاً سوى وجه الله، هل يكون له في ذلك حض؛ كمن حج ليتجر، وكمن قاتل ليغنم مع إعلاء كلمة الله.
يقول العلماء: إن كان القصد الأول هو وجه الله وما جاء من غيره فإنما هو تبع، فلا شيء في ذلك، والمسلمون كانوا يخرجون ويقاتلون وكانوا يغنمون، ولا يؤثر ذلك على قصدهم في إعلاء كلمة الله.
وبعضهم يقول: إن قاتلوا وغنموا فقد فاتهم ثلثا أجر الغزاة، وإن قاتلوا ولم يغنموا فلهم أجر الغزاة كاملة.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغزو ويقاتل ويغنم، ويأخذ من الغنيمة خمسها ويقسم على أصحابه، ولا يؤثر ذلك؛ لأن القصد الأول إنما هو إعلاء كلمة الله.
ولذا كان مالك رحمه الله يكره النفل أي: تنفيل الإمام أو القائد للغزاة في أول الأمر في ذهابهم، والنفل هو أن يقول القائد: من قتل مشركاً فله سلبه، يقول مالك: الأولى ترك هذا في الذهاب مخافة أن يذهب هذا المسلم لا لإعلاء كلمة الله ولكن لقتل المشرك ليأخذ السلب، فكرهه حتى لا تغلب المادية على نيته وعلى قصده، أما في العودة فلا مانع؛ لأنهم قد تحدد القصد عندهم وانقضى، فلا تأثير هنا على القصد.
وجاء في الحديث (يخرج جيش يريد الكعبة فيخسف الله بهم الأرض، قالت عائشة: يا رسول الله!! يكون فيهم السوقة وغيرهم فما ذنبهم؟ قال: يخسف بهم جميعاً ويبعثون على نياتهم) ، فبعضهم نيتهم هدم البيت، وبعضهم لا قصد لهم، ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، إنما صحبوا ذلك الجيش ليبيعوا ويشتروا ويربحوا، فيبعث كل واحد منهم على نيته.
وهكذا نية القصد تأتي في الأعمال التي يراد بها وجه الله، فهذا الذي حج ويتجر إن كان خروجه للحج، وإنما يتجر ليستعين على نفقة الحج، فلا مانع من ذلك؛ لأن القصد هو الحج والاتجار إنما هو وسيلة وليس بغاية، أما إذا كانت غايته التجارة والحج جاء تبعاً فهذا بقدر جزئية النية في الحج يكون له أجر، وهكذا في جميع الأعمال.
وهذا يتكلم فيه علماء العقائد وعلماء التوجيه والتربية.(1/9)
كلام العلماء على نية التعيين والتمييز
القسم الثاني من النيات: وهي نية التمييز والتعيين، يقول الفقهاء في قوله: (إنما الأعمال بالنيات) : إن العمل قد يقع ولو لم توجد نية، فالصلاة استقبال وقيام وركوع وسجود إلى آخره، فلو أن إنساناً استقبل القبلة وكبر ووضع يديه وركع ورفع وسجد وسلم، فقد أتى بالصلاة وحصَّل العمل، لكن النية غير موجودة، قالوا: فإن كان في الفريضة فلا تصح فريضة إلا بالنية، وهل تنقلب هذه الصلاة نافلة وتصح أم أنها باطلة؟ خلاف بين العلماء.
ومثل آخر: سنة الفجر ركعتان، والفريضة ركعتان، فالذي يميز بين ركعتي الفريضة وركعتي النافلة هو النية، فإذا نوى بالركعتين الأوليين النافلة، ونوى بالركعتين الأخريين الفريضة فقد ميز بين الصلاتين بالنية.
ومثال آخر في باب الطهارة: إنسان في شدة الحر انغمس في بركة أو في حوض، أو دخل تحت الدش يتبرد من الحرارة، وأراد أن يصلي، فلابد له أن يتوضأ؛ لأن نيته ليست لاستباحة الدخول في الصلاة، إنما اغتسل للتبرد.
والخلاف في هذا بين أبي حنيفة رحمه الله والجمهور؛ فالجمهور يقولون: إن النية تكون في الأعمال الأساسية التي هي المقصد، أما الوسائل فلا تحتاج إلى نية، فإذا لبست ثيابك من أجل أن تستر عورتك للصلاة لم تحتج إلى تنوي عند اللبس أن تستر العورة لأجل الصلاة؛ لأن ستر العورة شرط لصحة الصلاة وليس غاية.
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الوضوء أيضاً ليس غاية بذاته وإنما هو شرط لصحة الصلاة، فإذا توضأت للتبرد لا بنية استباحة الصلاة وصليت بهذا الوضوء؛ صحت صلاتك بهذا الوضوء كما صحت صلاتك بذلك الثوب.
والجمهور يقولون: الوضوء بذاته عباده وليس هو مجرد شرط للصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث الصحيح: (إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت ذنوبه من فيه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل وجهه خرجت ذنوب وجهه مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل قدميه خرجت ذنوبه مع آخر قطر الماء، ويخرج من الوضوء لا ذنب له، وكانت خطواته إلى المسجد وصلاته نافلة له) ؛ قال الجمهور: فالوضوء بذاته عبادة؛ لأنه يكفر الذنوب.
والرجل الذي وجد امرأة في أقصى المدينة، وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! أصبت امرأة في أقصى المدينة، وما تركت شيئاً يفعله الرجل مع امرأته إلا فعلته معها غير أني لم أجامعها، فطهرني يا رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: أصليت العصر معنا؟ قال: لا، قال: توضأ وصل، فلما توضأ الرجل وصلى نزلت الآية: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فدعا الرجل وقرأها عليه، فقال: ألي خاصة يا رسول الله!! قال: بل لأمتي كلهم) ، قال العلماء: إن وضوءه مع صلاته من مكفرات الذنوب، إذاً فالوضوء عبادة بذاته.
وإذا نظرنا أيضاً إلى أعمال الوضوء وجدناها تدور بين العادة وبين العبادة، فالاغتسال من الجنابة تعميم للبدن بالماء، والاغتسال يوم الجمعة تعميم للبدن بالماء، الاغتسال من التبريد والنظافة تعميم للبدن بالماء، وكل هذه الأغسال في صورة واحدة، فما الذي يميز ما كان واجباً عما كان مسنوناً وما كان عادة؟ النية هي التي تميز ذلك، ولهذا فالجمهور على أن النية شرط في صحة الطهارة.
نأتي إلى الصلاة كما أشرنا، فإذا صلى ركعتي الفجر ثم صلى الصبح لم يفرق بين ذلك إلا النية، وإذا أراد أن يجمع الظهر والعصر، فالنية تحدد الظهر وتحدد العصر وهكذا، إذاً: النية تدخل في العبادات في وسائلها وفي غاياتها.
وهل النية شرط في صوم رمضان؟ قال بعض العلماء: لا تشترط النية في صوم رمضان، فيكفي أن ينوي الصوم، ولا حاجة إلى تعيين النية، فكونه ينوي الصوم فذلك يكفي؛ لأن الإنسان قد يمتنع عن الطعام حمية، وقد يمتنع عن الطعام لعدم رغبة فيه، وقد يمتنع عن الطعام لعدم وجود الطعام، فإن كان في رمضان فظرف الصوم يعيِّن المقصود فلا حاجة للنية عن ذلك.
وقال بعض العلماء: بل النية واجبة، وتكون من الليل.
فإذا كان في غير رمضان، فهناك صوم قضاء رمضان، وهناك صوم كفارة، وهناك صوم تطوع، وهناك صوم نافلة، كالإثنين والخميس، فإذا أراد أحدنا أن يصوم يوماً قضاء أو كفارة أو نافلة أو نذاراً، فلابد من النية لكي يميز نوعية الصيام هنا.
فمن هنا يقول بعض العلماء: (إنما الأعمال بالنيات) أي: تعيينها وصحتها بالنية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يبيت الصيام بالليل فلا صيام له) .
وبعضهم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) أي: كمالها وفضيلتها.
والصحيح: أن كل عمل توقفت صحته على النية فإنه يقدر المحذوف في قوله: (إنما الأعمال) أي: إنما صحة الأعمال بنياتها، وإذا كان يؤدى بغير نية، كدين أخذ من صاحبه، بأن حكم الحاكم على مدين بدفع الدين فامتنع فباع ماله ووفّى الدائن حقه؛ صح السداد، ولا يتوقف سداد الدين على نية المدين؛ ولكن كمال أجر هذا العمل يتوقف على النية.
إذاً: النية تدخل في جميع الأعمال، فهي إما أن تصحح ما يفسد بدونها، وإما أن تكمل وتحسن ما يصح بدونها، ولهذا فالحديث عام في جميع الأعمال التي يتناولها التكليف.(1/10)
شرح الأربعين النووية - الحديث الأول [2](2/1)
أقسام العمل
(إنما الأعمال بالنيات أو بالنية) بالإفراد وبالجمع -روايتان- والأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أعمال اللسان.
القسم الثاني: أعمال البدن.
القسم الثالث: أعمال القلب.
فأعمال اللسان: النطق من ذكر، وتلاوة، وكلام، وغير ذلك.
وأعمال البدن -الجوارح-: الصلاة من قيام وركوع، والصيام والحج، والجهاد، وغيرها من الأعمال البدنية.
وعمل القلب: ما ينعقد عليه القلب من عقائد كالإخلاص والخوف والرجاء.
كما جاء عن بعض السلف، أظنه عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يخرج عليكم رجل من هذا الفج من أهل الجنة، فخرج رجل معلقاً نعليه في يده، فمضى، ومن الغد قال: يخرج عليكم رجل من هذا الفج من أهل الجنة، فخرج ذاك الرجل الذي خرج بالأمس، ثلاث مرات، قال: فتبعته فقلت: إنه قد وقع بيني وبين أبي ما يكون بين الولد ووالده، وقد أقسمت ألا آتيه ثلاثة أيام، فإن رأيت أن تؤويني هذه الأيام الثلاثة وجزاك الله خيراً، قال: تفضل، وبات عنده لكنه لم ير عنده شيئاً جديداً، فقال: لعله أن يكون اليوم تعب، وفي الليلة الثانية لم ير شيئاً، قال: لعله أن يكون مستحياً، وفي الليلة الثالثة قال له: يا عبد الله! والله لم يكن بيني وبين أبي شيء، ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيك: إنك من أهل الجنة، فطمعت أن يكون عندك عمل خاص، فجئت لأرى ما تعمل، قال: والله يا عبد الله ما هو إلا ما رأيت، فذهب، ثم ناداه وقال: ما هو إلا ما رأيت؛ غير أني أبيت وليس في قلبي غل لأحد، قال: هي هذه، وهي التي لا نطيق) ، كان يبيت كل ليلة صافي القلب، ليس في قلبه غل لأحد، مهما كان من الناس إليه من إساءة، ومهما صدر من الناس نحوه من تقصير فإنه لا يحمل غلاً على أحد.
ولهذا قال العلماء في قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] التطهير: التنقية، فإنها تطهر الغني والفقير معاً، تطهر الغني من أدران الشح والبخل، ومن أن يمسك ماله عن الفقراء، وتطهر الفقير من أن يحقد أو يحسد الغني على ما أعطاه الله؛ لأنه يأخذ حقه منه، فإذا كان الفقير يأخذ حقه من مال الغني، فلا يحقد عليه، بل يدعو له بالبركة، لكن إذا أمسك الغني ماله ولم يزكه وحرم الفقير، يتمنى أن يذهب الله مال الغني، لأنه ما أعطى حق الله فيه.(2/2)
أهمية النية
فالنية من أعمال القلب، ولهذا يأتي في بحث القصد: أن النية إنما هي القصد إلى العمل، وليس هناك حاجة للتلفظ بها، فيكفي حينما تتوجه إلى القبلة أن ترفع يديك وتقول: الله أكبر! وتستحضر في قلبك ماذا ستصلي من فريضة أو نافلة، وإن كانت فريضة فتستحضر هل هي صلاة العشاء أم المغرب غيرها، وكل هذا محله القلب.
فهذا الحديث كما أشرنا يعتبر أصلاً من أصول الدين، ويدخل في كل باب، وفي كل عمل لفرد من أفراد المسلمين، سواء كان ابتغاء وجه الله أم لغرض دنيوي.
وبحسب ما يقصده العبد بعمله يكون أجره وثوابه، أو نكاله وعقابه، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) إذاً نية القصد قد تكلمنا الكلام عنها.(2/3)
دخول النية في العبادات وأثرها في صحتها وثوابها
قال الشافعي رحمه الله: هذا الحديث يدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه، وقال غيره: لو ألف مائة كتاب لجعلت مقدمة كل باب هذا الحديث، ولو أردت تتبع ذلك لطال بك المقام.
نية التعيين التي يتكلم عنها الفقهاء، مثالها: إذا عممت بدنك بالماء فإن أردت النظافة فلك ما نويت، وإن أردت رفع حدث بأعضائك فلك ما نويت، وكذلك أيضاً إذا كان هناك أمران يقتضيان غسلاً أحدهما واجب والآخر مسنون، فإذا نويت المسنون لم يسقط الواجب، وإذا نويت الواجب سقط المسنون ودخل ضمناً، كمن أصبح يوم الجمعة جنباً فاغتسل ينوي غسل الجنابة، فإنه يدخل غسل الجمعة معه، أما إذا نوى غسل الجمعة فإنه لا ترتفع عنه الجنابة؛ لأنه لم ينوها؛ والأعمال بالنيات.
وفي باب الصلاة أشرنا إلى أن الصلاة نافلة وفريضة، فإذا أراد النافلة لم تندرج تحتها الفريضة بحال، وإذا نوى الفريضة فقد تندرج معها النافلة، فإذا جئت والإمام في الصلاة في صلاة الصبح ونويت الفريضة دخلت تحية المسجد معها، وكذلك إذا أردت سنة الفجر ونويت تحية المسجد معها، دخلت تحية المسجد مع سنة الفجر؛ لأنها أقوى في الطلب، وهكذا النية تحدد وتعين وتبين المطلوب.
وهكذا إذا جئت إلى الصيام، فقد يكون فريضة أو قضاءً أو كفارة، فحسب ما نويت يكون لك ما نويت في صيامك، وإذا جئنا إلى الحج أيضاً، فإذا أخرت طواف الإفاضة ونويت معه طواف الوداع أجزأك ذلك، بل إن الإمام مالكاً يقول عن الذي يأتي متأخراً: قد يحج حجه كله بطواف واحد بالبيت، يعني إذا ضاق عليه الوقت، فإن طاف طواف القدوم فاته الوقوف بعرفات، فيسرع ليدرك الموقف في عرفات ويترك طواف القدوم، فإذا جاء ونزل من عرفات إلى منى، وبقي هناك بعد رمي الجمار أيام التشريق، ثم نزل إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة ويسافر فإنه يطوف طواف الإفاضة فيسقط القدوم تبعاً لأنه بالنسبة إليه قدوم، وهو ركن في الحج وهو طواف الإفاضة، ويجزئه أيضاً عن طواف الوداع.
وهكذا نجد جميع الأعمال فيما يتعلق بالعبادات في تعيينها وفي تصحيحها.(2/4)
أثر النية في المعاملات
وإذا جئنا إلى المعاملات، وأهم ما يكون في ذلك الأيمان: إذا حلف إنسان على شيء وكان اللفظ يحتمل معنيين فإن ما نواه هو الذي تنعقد عليه اليمين.
ويقولون في باب القضاء، يمينك على ما يصدقك فيه خصمك، فإذا حلفت وكان القسم يحتمل أمرين، فإذا نويت غير ما يريده خصمك، تريد أن تدلس على خصمك، فلا ينفعك هذا التأويل إذا كان الأمر بخلاف ذلك، بل تنعقد عليك اليمين على ما يصدقك الخصم فمثلاً: شخص مظلوم وطولب باليمين، فحلف على نية تخرجه من ظلم الظالم فإنه على نيته، كما ذكروا أن جماعة خرجوا إلى رسول الله فلقيهم خصومهم فأخذوا عدي بن فلان فجاءوا إليهم وقالوا: ليس هذا خصمكم، إنه أخونا.
فامتنع القوم أن يحلفوا لهم، فتقدم رجل وحلف إنه أخي فتركه خصومه، فلما أتوا رسول الله وعرضوا عليه الأمر قال: (صدقت! إنه أخوك في الإسلام) .
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم حينما كان يمر على القبائل في الهجرة، فليقيهما هو وأبو بكر رجال، وخاف أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: من هذا الذي معك يا أبا بكر؟ -لأنهم يعرفونه، حيث كان تاجراً وعالماً بأنسابهم- فلم يقل: هذا رسول الله؛ لأنه يخاف على النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يرد عليهم بقوله: هذا هاد يهديني الطريق.
يقصد: إلى الله سبحانه وتعالى.
وهكذا إذا كنت في معاملة مع آخر، وتكلمت بكلمة لها معنيان ويمثل العلماء بما إذا قال لامرأة أو قال عند امرأة: فلانة طالق، ويعني بفلانة ناقة تطلق من عقالها، أو من رباطها، وكان ينوي ذلك، وكان عنده ناقة حقيقة، وهي طالق من العقال، ولم يرد طلاق زوجته، فالرواية عن أحمد رحمه الله أن زوجته لا تطلق لأنه لم ينو طلاقها.
وكذلك يورد العلماء مثالاً: لو أن رجلاً رأى امرأة أجنبية وظنها زوجته وقال: أنتِ طالق يريد الزوجة، فإن هذه لا تطلق لأنها أجنبية، وفي طلاق الزوجة خلاف، والراجح عند أحمد أنها تطلق؛ لأنه نواها بطلاقه.
ويتفق العلماء على أنه لو كان عنده أربع نسوة فقال: إحداكن طالق ولم يعين ولم يسم، أنه يسأل: من أردت بإحداهن؟ فإن عيَّن واحدة طلقت، والنية هي التي خصصت وهي التي حددت.
فكما قال الشافعي عن هذا الحديث: إنه يدخل في أكثر من سبعين باباً من أبواب الفقه، ولو تتبعنا الكلام في هذا لوجدنا جميع ما يعقد من أبواب الفقه يدخل فيه هذا الحديث، وقال العلماء: إنه يدخل بين العادة والعبادة فيصير العادة عبادة.
وقالوا: لو أنه نام للقيلولة ينوي بها التقوي والاستعانة على قيام الليل لكان نومه عباده، وله في ذلك أجر، ولو أنه أكل وشرب ليتقوى على الجهاد في سبيل الله لكان أكله وشربه عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما خرجوا في فتح مكة وكانوا يصومون قال: (إنكم دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم) ، فمن أفطر في ذلك اليوم وأكل بنية التقوي بأكله على قتال أعداء الله، فله على هذه النية أجر.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الذي يرتبط الفرس في سبيل الله -ينوي إعدادها للجهاد في سبيل الله- فما أكلت ورعت ولا استنت شرفاً، ولا شربت من واد؛ إلا كان في ميزانه) .(2/5)
ترغيب النبي عليه الصلاة والسلام في النية الحسنة والترهيب من ضدها
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ألا إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً، فعرف حق الله فيه فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالاً وأعطاه علماً فقال: لو أن لي من المال ما لفلان لعملت فيه كما يعمل، فهما في الأجر سواء، ورجل أعطاه الله مالاً ولم يعطه علماً، فلم يعرف حق الله فيه فهو في أسفل سافلين، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً فقال: لو أن لي مالاً لعملت فيه مثلما يعمل فلان، فهما في الوزر سواء) ، فالذي بلغه ماله وعلمه أعلى عليين أدركه صاحب النية الحسنة، وذاك جاهل يعمل في ماله بما لا يرضي الله، وذاك نوى لو كان عنده مال لعمل فيه مثل عمل الذي قبله، فأدركه في أسفل سافلين؛ لا لشيء إلا بالنية، والأخبار في ذلك طويلة.
إذاً: هذا الحديث من أهم الأحاديث التي تدخل في العبادات وفي العادات وفي المعاملات وفي جميع أحوال الناس.
وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وليس هذا تكراراً للمعنى، بل تقرير لصحتها ومرادها وتوجيهها، أي: كل عمل فهو بنيته.
والجملة الثانية: (وإنما لكل امرئ) امرئ: مذكر، مؤنثها: امرأة، وإذا جاء بلفظ امرئ فإنه يشمل المرأة فتكون داخلة فيه، بخلاف ما إذا عيَّن كقول من قال: (امرؤ القيس) فإنه خاص بشخص معين.
(وإنما لكل امرئ ما نوى) : (إنما) أيضاً للحصر، فلا يتعدى عمل العبد ما نواه، ثم فصل صلى الله عليه وسلم فقال: (فمن كانت هجرته) .
ذكر الهجرة خاصة مع أن هناك الجهاد وغيره: فمن كان جهاده لله فجهاده لله، ومن كانت صلاته لله فصلاته لله، وكذلك الزكاة، بل كل عمل يندرج تحت الأعمال بالنيات، ولكن نص على الهجرة بخصوصها.
والهجرة أصلها مأخوذ من الهجر، والهجر البعد والافتراق، والهجر مأخوذ من الهجير، والهجير شدة الحر في الظهر، ومنه الهاجرة، وهي شدة الحر، وانتقلت حقيقة اللغة المحسوسة -شدة الحر- إلى الهجرة بمعنى الانتقال إلى الهجران وهو المقاطعة، لأن الناس في وقت الهجير والهاجرة يعتكفون في ظلهم ويتقاطعون عن التواصل مخافة شدة الحر.(2/6)
حكم الهجرة وأهميتها
وكذلك الهجران: تهجر صديقك، أي: تقاطعه، وفي الحديث: (ولا يحل لامرئ أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، والهجرة انتقال وانقطاع عما كان فيه، إلى ما ذهب إليه.
وفي الاصطلاح: انتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو انتقال من بلد لا يستطيع المسلم أن يؤدي أحكام دينه فيها، ولا أن يعبد ربه على ما ينبغي إلى بلد آخر يستطيع فيه ذلك.
وقد سبقت الهجرة إلى الحبشة مرتين، وجاءت الهجرة الكبرى إلى المدينة المنورة، وكانت الهجرة إلى المدينة ركناً من أركان الإسلام حتى جاء الفتح، (فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) .
فالهجرة في بادئ الأمر كانت ركناً، حيث كان يجب أن ينتقل الأعراب وأهل القرى المدن من ديارهم إلى المدينة المنورة، ولماذا كانت ركناً؟ لأنها كانت بداية تكون النواة الأولى للدولة الإسلامية التي ستصبح عاصمتها المدينة، لذا كان لزاماً على كل فرد آمن بالله أن يهاجر إليها، لتتكون القاعدة الصلبة لهذه الدولة والتي منها ينطلقون إلى الأمصار، وفيما بعد رجعوا إلى مكة فاتحين، فكانت الهجرة في أول الإسلام واجبة ليتجمع المسلمون ويتحدوا ليفتحوا القرى والأمصار على ما تم ولله الحمد، وأكمل الله سبحانه الدين للأمة.
وبعد أن فتحت مكة طهرت الجزيرة من درن الأصنام، وقضي على دولة الشرك وبقيت البلاد إسلامية من أقصاها لأقصاها، ثم بدأ المسلمون ينطلقون منها إلى ما جاورها.
ثم انطلق خلفاؤه من بعده صلى الله عليه وسلم، فـ أبو بكر رضي الله عنه في خلافته تصدى للمرتدين من الأعراب ممن سولت لهم نفوسهم أمراً، حتى استتب الأمر وثبت الناس على دينهم، وبدأت الفتوحات في زمن عمر رضي الله عنه فانطلقت الجيوش وفتحت الأمصار، وفتح الله للمسلمين البلاد شرقاً وغرباً.
فقد كانت الهجرة في أمر الأمر واجبة، ثم بعد ذلك صارت مندوبة، أو صارت بحسب حال الفرد، فمن استطاع أن يؤدي أمور دينه في بلده فليثبت، ومن لم يستطع فليهاجر إلى المكان الذي يستطيع فيه تأدية شعائر دينه.
وأحب أن أنبه أنه في بعض البلاد تحدث مضايقات للدعاة ولشباب الحركات الإسلامية، مما يحدو بالبعض إلى الهجرة، وترك البلاد لما فيها من فساد، أقول: إذاً: لمن تترك تلك البلاد؟ ومن يقوم بأمر الدعوة فيها إذا تركها الدعاة والصالحون، بل الواجب الصبر، وأن يثبتوا في أماكنهم وأن يدعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لعلهم أن يدرءوا الشر عن ضعاف المسلمين، أو أن يكونوا ردءاً لضعاف الإيمان فيعلموهم ويبينوا لهم ما ينبغي أن يفعلوه، وما يجب أن يتركوه، ولكن مع مصانعة الأعداء بالحكمة.
ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يدعو إلى الله والأصنام مثبتة في بناء الكعبة، ويصلي إلى البيت وربما يقع الصنم على ظهره، وهو لم يغير شيئاً، حتى إذا أراد الله النصر وجاء الأوان، وفتحت مكة أخذ يشير إلى الأصنام بقضيب في يده ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81] فتتساقط تلك الأصنام مع أنها مثبتة بالحديد.(2/7)
الهجرة والتاريخ بها
إذاً: فقد كانت الهجرة أمراً عظيما وهي أعظم حدث في الإسلام، كما بين عمر رضي الله تعالى عنه حينما أراد أن يضع تاريخاً للمسلمين، والأمم متعودة أن تؤرخ بأحداثها العظام، كما أرخ الروم بمولد المسيح، فتفكر عمر رضي الله عنه فما وجد في الإسلام حدثاً أعظم من الهجرة، لأن بها تمكن الإسلام وانتشر في العالم، فجعلها مبدأ تاريخ المسلمين.(2/8)
الهجرة إلى الحبشة
والسؤال هنا: لماذا خصت الهجرة بهذا التنبيه، مع أن في لفظ الأعمال ما يفيد الاستغراق؟ وأيضاً ما هي الهجرة حقاً؟ نعلم جميعا أن أعظم حدث في الإسلام بعد الوحي وبعد الرسالة هو حدث الهجرة، وكلنا يعلم أن الهجرة من مكة إلى المدينة سبقتها هجرتان إلى الحبشة، ومجمل ذلك: أن المسلمين حينما ضاق عليهم الأمر بمكة واشتد عليهم إيذاء قريش، ما خرجوا فراراً من الإيذاء، ولكن خرجوا يرتادون موطناً رحباً يستطيعون أن يقيموا فيه شرع الله، ويؤدوا عباداتهم في بلد آمن، وكان ذلك بإرشاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال لهم: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد في جواره) .
وهنا وقفة: فهذا ملك نصراني وهو ملك في الحبشة، والرسول صلى الله عليه وسلم يصفه بأنه عادل، ومن هنا نعلم أن العدل من الكافر يثبت له ملكه، كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم.
فهذا كافر عادل، أي: يحكم بالعدل، ومن هنا ننبه على الحديث الصحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله.
إمام عال) وفي بعض الروايات: (عدل) وهي الصحيحة؛ لأن العادل قد يكون كافراً وقد يكون مسلما؛ لأن العادل الذي يعادل ويساوي بين المتساويين، والأصل في العدل والعدالة: عِدْلَة الحمل من البعير، وحمل البعير عِدلتان، عِدلة في اليمين وعِدلة في اليسار، فإذا ما كانت العدلتان مملوءتين من شيء واحد متعادلتين في الوزن كان التعادل بينهما حاصلاً، وإذا ما نقصت إحدى العدلتين مال الحمل إلى شق الثقيلة وطاشت كفه الخفيفة.
فالعدل والعدالة من العدلتين المتعادلتين في الحمل، وقد يعدل حمل كافر أو مسلم، وهكذا العادل في الحكم قد يساوي بين القوي والضعيف وبين الشريف وغير الشريف، وذلك لعدله في الحكم.
أما الإمام العدل: فالعدل هو نهاية أوصاف مكارم الأخلاق كما يقول ابن مسكويه في كتاب فلسفة الأخلاق: بأن جماع الفضائل في الإنسان هو أن يكون عدلاً، بأن يكون مؤمناً عفيفاً شجاعاً كريماً، فإن اجتمعت كل خصال الخير فيه كان إماماً عدلاً، ولذا يقول سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] أي: عدول في الشهادة موثوقين في نقل الأخبار لا يتهمون بكذب ولا بتزوير ولا بحيف، قد اجتمعت فيهم خصلة العدالة فأصبحوا عدولاً على الناس.
(إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد بجواره) وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إقرار بالحق وإن كان لكافر، فهو مستحق لهذه المدحة.
وفعلاً خرج المسلمون أولا وأتبعهم المشركون برسلهم وهداياهم وأرادوا أن يعودوا بهم، ولكن عدل الملك أبى عليه أن يسلم المهاجرين حتى يسمع ما عندهم، ولما تكلم جعفر رضي الله تعالى عنه عن رسالة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما كانوا عليه في الجاهلية، وبما أتاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما زاد ما جاء به رسولكم على ما جاء به عيسى ولا هذه القشة، وهكذا أعلن النجاشي إسلامه أو إقراره بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعلنها أكثر من ذلك، حينما قال: لولا ما أنا فيه من الملك لخلصت إليه وأتيته، وغسلت التراب عن قدميه.
وكانت الهجرة إلى المدينة، وقد كان أبو بكر يريد أن يهاجر فيمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: (انتظر يا أبا بكر! لعل الله يجعل لك صاحباً أو رفيقاً) ، وكان المهاجرون يخرجون خفية إلا عمر بن الخطاب، فقد ملأ كنانته وأخذ قوسه، وجاء إلى البيت وطاف به، ثم نادى في قريش: شاهت الوجوه! إني مهاجر، فمن أراد أن تثكله أمه أو تيتم أولاده، أو ترمل زوجه، فليلقني خلف ذاك الكثيب.
ولم يخرج وراءه أحد.(2/9)
قصة الهجرة إلى المدينة المنورة(2/10)
التخطيط للهجرة
وأخذ النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر يعدان للهجرة، فـ أبو بكر أخذ راحلتين وعلفهما من أجل الطريق الطويل، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الظهيرة، في وقت لم يكن يأتينا فيه، فقال لأبي بكر: أخرج من عندك! فقال أبو بكر: ليس إلا فلانة وفلانة وأمنه من أن يفشو سره، قال: أذن الله لي في الهجرة قال: الصحبة يا رسول الله.
قال: نعم.
وعرض على رسول الله الراحلة والزاد فقال بثمنها.
ثم رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق الخطة، على أساس أن يخرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ويأتي عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، وتأتي أخته بالطعام، ويأتي راعي أبي بكر بالغنم بعدهما ليعفي الأثر ويسقيهما اللبن.
واجتمع كبار كفار قريش وتآمروا في دار الندوة على حبس النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله أو نفيه، وجاءهم الشيخ النجدي فصوب رأي أبي جهل لعنه الله، ولكن الله سبحانه الذي اختاره صلى الله عليه وسلم واصطفاه والذي بعثه وأرسله كان يتولاه ويرعاه، فعصمه من السفاح قبل ولادته كما جاء في آثاره، وعصمه من كل سوء في طفولته، وشق صدره ليخرج منه خظ الشيطان، وهكذا تولته عناية الله.
ففي تلك الليلة يأتي جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: لا تبت في فراشك الليلة، ويأتي أول فدائي كما يقولون: بل أول مسلم من الشباب، علي بن أبي طالب، ويقول له صلى الله عليه وسلم: (نم في فراشي وتسجى ببردي، فلن يصلوا إليك بأذى) ، وهذا ضمان من الصادق المصدوق أنهم لن يصلوا إليه بأذى.
ويخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنوف أولئك الفتية، وهم واقفون بباب الدار، ولم يكفه أن يمر عليهم بل يأخذ التراب ويضعه على رءوسهم ويقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] فلم يبصره واحد منهم، ثم يذهب إلى الغار، وهنا تتجلى عظمة أبي بكر وتظهر محبته رضي الله تعالى عنه، فتارة يمشي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة يمشي وراءه، فإذا رسول الله يقول: (يا أبا بكر ما لي أراك تارة أمامي وتارة من ورائي؟ فيقول: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون وراءك، فيقول صلى الله عليه وسلم: أردت يا أبا بكر لو كان شيء يكون فيك أنت؟ يقول: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن أهلك أنا أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة) .
وقد رسمت الخطة للهجرة، وهذا يدل على أنه يجب على كل داع أن يسلك، إعداد العدة والتحفظ والاحتياط، وكل ما يكون في إمكانية البشر.
بل قبل سنة أو عدة أشهر من الهجرة كانت رحلة فريدة، وهي رحلة الإسراء والمعراج، وكانت رحلة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم رداً على المشركين، وعلى ثقيف، وعلى ما لقي في الطائف، وعلى ما لقي في مكة عند عودته، حيث منع من دخول بلده مكة، فلم يدخل إلا في جوار رجل مشرك، مع أن جبريل قال له: يا محمد! هذا ملك الجبال؛ إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين، قال: لا.
إني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله.
ودخل في حماية رجل مشرك، لماذا لم يدخل في جوار حمزة وعمر وأبي بكر؟ لأنه يسن ويشرع في سياسة الدعوة التي يجب على كل داعية أن يسلكها ويدرسها ذلك.
فأرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مطعم بن جبير ودخل في جواره وهو على دين قومه، وخرج مطعم وكان له أربعة من الأبناء الشباب، وقف كل ولد من أولاده عند ركن من أركان البيت متقلداً سيفه لابساً سلاحه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وجاء أبو سفيان وكشف عن الحقيقة، فقال له: أتابع أنت أم مجير، قال: إني مجير، قال: أجرنا من أجرت، وانتهت القضية.
فلو كان هذا المجير مسلماً وتابعاً لمحمد، لوقعت حرب أهلية حرب داخلية، تقضي على جميع المسلمين، وليسوا آنذاك بقوة تستطيع أن تقاوم تلك القوة.
وكما أشرت أن الداعية حسن البنا رحمه الله كان يريد أن يفتح مركزاً في قرية، وكان عمدة القرية ضد هذا المركز، فسبق أحد أبنائه إلى القطار قبل البلدة بمراحل، وركب معه القطار وأخبره، قال له: أرى أن ترجع، أرى ألا تذهب إلى المركز لأن عمدة القرية جمع رجاله وأعوانه، ويريد أن يضرب من يجتمع في هذا المركز، قال: هل علم بك أحد؟ قال: لم يعلم بمجيئي أحد، قال: إذاً فاسكت، فلما وصل القطار إلى محطة المركز، كان الناس ينزلون على الرصيف المرتفع وهو نزل من الخلف، ولم يشعر به أحد، وأخذ صاحبه بيده وترك المستقبلين المحتشدين عند القطار، وما علموا إلا بالشيخ حسن قد وصل المركز لكن لم يذهب إلى مركزه ولا إلى أحد من أبنائه ولا إلى أحد من أتباعه، بل ذهب إلى بيت العمدة بنفسه، سلام عليكم نحن ضيوفكم، فقام العمدة بأريحية أهل الريف بحق الضيافة، ثم بعد أن تناولوا القهوة أو الغداء قال: نحن جئنا لافتتاح المركز ولا يكون حفل الافتتاح إلا على شرف العمدة الذي هو أمير القرية.
فذهب العمدة مع حسن البنا بعد أن كان رجاله قد أعدوا لإحباط الافتتاح ولضرب الحاضرين فصاروا حراساً لهذا الحفل، ثم ما خرج من هناك حتى ولى العمدة رئاسة هذا المركز.
نرجع إلى موضوعنا: مشى الصديق رضي الله تعالى عنه مع رسول الله حتى وصلا إلى الغار وهناك قال أبو بكر: على رسلك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، ويدخل رضي الله تعالى عنه الغار ليلاً، يفادي بنفسه، ودخل حتى استبرأ الغار، فقال: على بركة الله باسم الله يا رسول الله، فينزل صلى الله عليه وسلم ويجلس.(2/11)
وقاية الله لنبيه من كيد المشركين
ومن الغد تأتي قريش بقلوب حاقدة وسيوف مصلطة يطلبون محمداً، الآثار تأتي بهم إلى فم الغار، لكن يكذب أعينهم عنكبوت قد نسجت خيوطها، ونبت قد تدلى، وحمامة قد باضت، فكيف سيدخل من أراد الدخول دون تمزيق هذا النسيج؟ فكذبوا أنفسهم ورجعوا.
نقول: نعم.
لقد ردهم الله ورد كيدهم، لا بالدروع والسيوف والجنود، ولكن أمام نسج العنكبوت، كأنه يقول لهم: قوتكم لا تساوي هذا النسج، لأن الباطل لا قوة له.
ثم بعد ذلك يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه، ويضع لنا معلماً عظيماً في طريقه حينما يأتي أم معبد وهي امرأة كانت في الطريق عند خيمتها، عندها عنز عجفاء لا تستطيع أن تلحق بالغنم في المرعى، فيقول لها الصديق رضي الله تعالى عنه، هل عندكم من قِرى؟ قالت: إن أردت القرى فاذهب إلى شيخ الحي، قال: وما هذه العنز قالت: إنها عجفاء.
فقال صلى الله عليه وسلم: عليّ بها.
وفي رواية: ذهب إلى الظل ثم جاءت المرأة بولدها وقالت: اذهب بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فليذحانها وليطعمانا وليطعما، فلما جاء بالعنز وبالمدية قال: رد المدية وأتني بقدح، قال: إنها عجفاء لا حليب فيها، فرد المدية وجاء بالقدح، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم على ضرعها ودعا الله، وحلب فشرب وشرب الصديق، وشرب دليلهم ابن أريقط وبقي الإناء مليئاً بالحليب، فذهب به إلى أم معبد فقالت: والله إن كان هذا ساحراً لهو أكبر السحرة، ولئن كان هذا هو الصابئ في مكة لهو صادق حقاً.
وفي امتناع الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذبح الشاة دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام يأبى أن يكون في هجرته وفي طريقه إراقة قطرة دم ولو كانت لشاة، ويختار على ذلك أن يدعو الله وأن يدر له الضرع، فيحلب ويشرب وتبقى العنز كما هي، إن في ذلك إشعاراً بأن الهجرة كانت هجرة خير وبر لا هجرة دم ولا انتقام.
ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأول من يعلن عن قدومه رجل من اليهود، ينادي: يا بني قَيْلة! هذا جدكم الذي تنتظرون! وهنا وقفة: فدليل الرحلة رجل مشرك، وفي الإعلام عن وصوله رجل يهودي، يا سبحان الله، دعوة الإسلام تنتقل إلى المدينة بقيادة رجل مشرك، ورحلة الإسراء والمعراج على براق جبريل عليه السلام، فتلك دعوة تكريم لن تكون لأحد بعده، ولن تتكرر لأحد، وليست للتشريع ولكن للتكريم، أما رحلة الهجرة فكانت للتشريع والتعليم، ولبيان المناهج الصحيحة لدعاة الإسلام.
فلكأن الله يشعر المسلمين، بأنه سخر المشركين لخدمة الإسلام، وسخر اليهود لخدمة الإسلام أيضاً، إذاً لا مانع أن يستخدم المسلمون المشركين في أمور دنياهم، ولا علاقة لدينهم بذلك.
كانت الهجرة المباركة ووصل صلى الله عليه وسلم إلى قباء، وبنى مسجد قباء، ثم نزل إلى المدينة وبنى المسجد النبوي وتمت الهجرة النبوية وكانت المدينة منطلق المسلمين وعاصمتهم الأولى.(2/12)
ثناء الله عز وجل على المهاجرين والأنصار
وهنا يسجل الله سبحانه للهجرة وللمهاجرين الأولين فضلهم، فيقول كما في سورة الحشر {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ، فهذه شهادة من الله للفقراء المهاجرين، فقد كانوا فقراء بعد الهجرة، وليسوا فقراء قبلها؛ لأنه يقول تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] إذاً كانت لهم ديار وكانت لهم أموال.
وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم لما جاء في فتح مكة وسئل في أي بيت من بيوتك ستنزل يا رسول الله؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من بيت أو دار؟ فالمشركون أخذوا بيوت المهاجرين وباعوها، واستولوا عليها، والمهاجرون تركوا ديارهم وتركوا أموالهم، وهذا صهيب لما خرج مهاجراً وأدركه المشركون وقالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك فلما أثريت بالمال تخرج وتهاجر، والله لا يكون ذلك أبداً، فقال: يا معشر قريش أويهمكم المال؟ إنكم تعلمون والله إني لرام لا يخطئ سهمي، وإن كنانتي ملأى، فإن كان همكم المال، فدونكم المال قد دفنته في مكان كذا، ارجعوا إليه فخذوه، فتركوه ورجعوا، وهاجر وبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ربح البيع أبا يحيى) .
إذاً خرج المهاجرون من ديارهم وأموالهم، لما هو أعز من ذلك، ولذا ننظر المعادلة، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ماذا كانت المعادلة من إخوانهم الأنصار {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9] ؛ هكذا المعادلة: مهاجرون تركوا ديارهم وأموالهم لله فوجدوا إخوانهم يؤثرونهم على أنفسهم؛ فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وسجل الله للفريقين الفضل العظيم والشرف الكبير، سواء المهاجرون الذين يريدون بهجرتهم نصرة الله ورسوله، ويقر لهم سبحانه بذلك، ويشهد لهم بأنهم صادقون في هجرتهم.(2/13)
علة اختبار المهاجرات دون المهاجرين
ويهمنا في ذلك القسم الثاني من المهاجرين وهو هجرة النسوة المؤمنات حيث يقول الله تعالى فيهن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة:10] .
فالمهاجرون من الرجال بين الله صدقهم في قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] فلا يحتاجون إلى امتحان، والنسوة يأتين مهاجرات فنمتحنهن، ويذكر ابن كثير في كيفية الامتحان أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول لإحداهن: والله ما خرجت من ضيق عيش، ولا هرباً من زوجٍ.
فلماذا هذا الامتحان؟ لأن الرجل حينما يخرج من مكة يعلم بأن عليه واجباً، ألا وهو القتال، إذاً: ما خرج من مكة إلا وهو مستعد ملتزم بهذا الأمر الشاق العظيم، فلم يكن لامتحانه حاجة، لأن واقع أمره يصدق فعله، أما النسوة فلا قتال عليهن، فقد تهاجر وتأتي وتتزوج، وقد تهاجر وتأتي ولا تطالب بضريبة الجهاد، إذاً: هجرة النسوة كانت محتملة، ومن هنا فلابد أن تمتحن.(2/14)
أقسام الناس في الهجرة
يقول عليه الصلاة والسلام: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله) كأولئك الذين شهد الله لهم بأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا، وأنهم ينصرون الله ورسوله، وأنهم صادقون (فهجرته إلى الله) ، أي: من كانت هجرته إلى الله ورسوله قصداً واحتساباً وصدقاً فهجرته إلى الله فعلاً، وجزاءه على الله سبحانه.
أما القسم الثاني: (ومن كانت هجرته إلى دينا يصيبها، أو امرأة يتزوجها) .
وخصت الهجرة من دون سائر الأعمال؛ لأنها أعظم حدث في تاريخ الإسلام، ولذا نوه بها صلى الله عليه وسلم إعظاماً لشأنها.
والله تعالى أعلم.
أما (فمن كانت هجرة إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها) ، فيذكر العلماء أن سبب الحديث أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة يقال لها: أم قيس فامتنعت عليه حتى يهاجر فهاجر ليتزوجها.
وكما جاء عن ابن مسعود: كنا نقول: مهاجر أم قيس، ويقول ابن رجب: لم يثبت هذا الأثر، أي: لم يثبت سنداً بهذا السبب، ولكن يهمنا الأمثلة التي يوردها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا نظرنا إلى هذا التحديد: دنيا، وامرأة، والمرأة من الدنيا، ودنيا إذا أطلقت فهي تأنيث الأدنى، وهي بالنسبة إلى الآخرة أدنى، سواء كانت أدنى زماناً، بأن يكون سبقها أزمان، أو أدنى منزلة بأنها بالنسبة إلى الآخرة لا تساوي شيئاً: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فهي دنية دنية، وسواء في ذلك المال أو الجاه.
إلى آخره.
الذي يهمنا أن أي إنسان هاجر لشيء فهجرته إلى ما هاجر إليه، وهنا حكم مبتدأ وخبر، هجرته إلى ما هاجر إليه، أي: هجرته إلى ما هاجر إليه لا إلى الله ورسوله.
وإذا تأملنا حال المهاجرين فقد يهاجرون حقاً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيجدون الكرامة ويجدون العوض عند الله عز وجل، ومن الناس من قد يهاجر لأجل الدنيا فيجدها، فيأتي فقيراً ويغنيه الله، وقد يأتي مهاجراً للزواج فييسر الله له زواجه.
ولذا نقول: وهل الهجرة للدنيا ممنوعة؟ وهل المرأة ممنوعة من السفر؟ إن السفر للتجارة الرابحة قد بينه سبحانه وتعالى، فالمرء إذا ضرب في الأرض ليبتغي من فضل الله، أو ليتزوج امرأة صالحة؛ فلا مانع، بل جاءت الرحلة كما في الحديث الصحيح، (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فليس هناك مانع، فمن أراد الدنيا فليعلنها: جئت للدنيا، ومن أراد الزواج فليقل: جئت لأتزوج، لا أن يأتي في إطار الهجرة لله ورسوله بينما يبطن في نيته دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها.
ومن هنا يرجع أول الحديث على آخره (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(2/15)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [1](3/1)
شرح حديث جبريل عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: عن أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟) .(3/2)
عظمة معاني هذا الحديث على غيره
إن هذا الحديث الشريف ليعتبر من أهم وأعظم وأجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض العلماء: إنه مدار جميع طوائف علماء الإسلام: من فقهاء ووعاظ وزهاد وعباد، وهو مع طوله يضع منهجاً تعليمياً بجانب المنهج العلمي، فقد أرشد فيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام جاء يعملهم أمر دينهم، فجمع الدين كله بتعليم من جبريل عليه السلام في هذا الحديث، ولهذا مهما عُني به الإنسان ومهما تناوله العلماء فلا أعتقد أن أحداً يوفيه حقه إلا إذا تكلّم على الدين كله.
يبدأ هذا الحديث بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وتقدمت ترجمة عمر في الحديث الأول: (إنما الأعمال بالنيات) .
يقول رضي الله تعالى عنه: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟) .(3/3)
المكان الذي أتى فيه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم
جاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل المتعلم، وفي بعض الروايات: (بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد) .
وكلمة: (بينما) أو (بينا) يتفق علماء اللغة والمحدثون على أن (بينما) أصلها (بين) الظرفية التي تأتي للزمان وللمكان، تقول: جئتك بين العشاءين، وجئتك بين الظهر والعصر، ولقيتك بين المنبر والحجرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ، وقد تأتي (ما) قبل (بين) وتكون موصولة، فإذا جاءت (ما) بعدها لم تضف (بينما) إلا إذا كانت بين مجموعتين لا بين فردين، و (ما) هنا ألحقت بها لتكفها عن الإضافة إلى الفرد فلا تعمل الجر بالإضافة فيما بعدها، ولهذا يعرب ما بعدها مرفوعاً على الابتداء.
(بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم) ، وفي بعض الروايات: (في المسجد) .
وهو المسجد النبوي الشريف، يأتي جبريل عليه الصلاة والسلام معلماً في صورة المتعلم، ولهذا حُقّ لطلبة العلم في المسجد النبوي أن يفخروا ويحمدوا الله سبحانه، لأنهم يدرسون في المسجد الذي جاء فيه جبريل عليه الصلاة والسلام معلماً في صورة المتعلم.(3/4)
تعظيم أهل الحديث لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم
وهو كذلك يعطينا أيضاً صورة طالب العلم كيف يأتي إلى المسجد النبوي وإلى المعلم بهذه الصورة: (شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر) فطالب العلم وخاصة العلماء تكون لهم هيئتهم ونظافتهم ومظهرهم.
وقد قالوا: كان مالك رحمه الله أشد الناس عناية باللباس، خاصة إذا درّس الحديث النبوي الشريف، وربما يبيع بعض أثاث بيته ليكمل هيئته في لباسه من أجل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي قصة مجيء هارون الرشيد إليه، حينما جاء إلى المدينة وعلم بموطأ الإمام مالك، وكان من قبل أبو جعفر المنصور أشار على مالك بهذا الكتاب المبارك.
وجاء هارون ومعه الأمين والمأمون وأراد لهما أن يسمعا الموطأ من مالك، فطلبه بكتابه إلى دار الإمارة، فامتنع من الذهاب إليه، وقال: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فجاء هارون الرشيد بنفسه ليسمع الموطأ من مالك، فلما وصل إلى باب بيته وأخبرته الخادمة أن هارون الرشيد على بابه، أبطأ حتى جاء إلى هارون وأذن له بالدخول، فقال له هارون الرشيد: ما هذا يا مالك! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فأوقفتنا على بابك؟! قال: يا أمير المؤمنين! إن وقوف العلماء على أبواب الأمراء يزري بهم، ووقوف الخلفاء على باب العلماء يعلي شأنهم، ثم إني علمت أنك جئت إلى بيتي، لا تريد دنيا ولا مالاً إنما تريد العلم، فذهبت فاغتسلت، ولبست ثيابي وتهيأت كي ألقي عليك من سنة رسول الله وأنا على أحسن حال.
وهكذا ينبغي لطالب العلم! كان بعض إخواننا الذين درسنا معهم في هذا المسجد النبوي الشريف كتاب بلوغ المرام، ورياض الصالحين، ونيل الأوطار، وهذا الكتاب المبارك الموطأ، كانوا في النهار يعملون في الأسواق على لقمة العيش بعفة وباستغناء عن الناس، فإذا جاء وقت الدرس بين المغرب والعشاء، كأنهم أقمارٌ في هذا المسجد في نظافتهم وهيئتهم ونور وجوههم، وهكذا: فقد كانوا في النهار عمالاً يسعون على أرزاقهم وعند الدرس لا تفرق بين أحسن إنسان في المسجد وبين هؤلاء الطلبة.
وهكذا يرسم لنا جبريل الطريق، ثم ها هو يأتي في بعض الروايات: (أنه وقف بعيداً وقال: يا محمد أأدنو؟ قال: ادن، ثم دنا قليلاً، وقال: أأدنو؟ قال: ادن، إلى أن وصل إلى مكانه وجلس) .
وبعض الكتب تذكر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مجلس خاص؛ لأن الأعراب حينما كانوا يأتون إليه لا يفرقون بينه وبين سائر المسلمين ولا يعرفونه، فجعل له مجلساً خاصاً يميزه عند من يأتيه وهو لا يعرفه فيقصده صلى الله عليه وسلم، ولكني لم أجد في من أرّخ للمسجد النبوي هذا المجلس الخاص يذكرون أسطوانة الوفود في الروضة، التي كان يستقبل عندها الوفود، ويذكرون غيرها من الأسطوانات مثل أسطوانة السرير عند الاعتكاف، وأسطوانة التوبة لـ أبي لبابة، وأسطوانة المخلقة التي كان يجلس عندها ويجلس عنده شيوخ بني هاشم أو شيوخ المهاجرين الذين يوجدون بالمدينة إلى غير ذلك من الأماكن.(3/5)
هيئة طالب العالم أمام شيخه
والذي يهمنا: أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس الذي هو فيه، وأنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم مجلساً خاصاً في المسجد النبوي يستقبل فيه الناس.
ومن هنا أخذ العلماء كيفية حالة الطالب مع شيخه حين طلبه للعلم بين يديه، ومجيئه بكل وقارٍ واحترامٍ لأستاذه كما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك من حق العالم أن يتخذ مكاناً في المسجد يجلس فيه، ولا يحق لأحد أن يسبقه إليه، وإذا سبقه إليه أحد فمن حقه أن يقيمه عنه، وهذا موضوع سبق النزاع فيه في هذا المسجد في القرن السابع الهجري، وقام ابن فرحون وكتب كتاباً - وهو مخطوط موجود في مكتبة عارف حكمت، وتوجد منه نسخة في مكتبة الجامعة- وذلك عندما نازعه أشخاص في أن يختص بمجلس له، فكتب الرد عليهم، وبين مشروعية ذلك، وأتبعه ب
السؤال
هل الأفضل للعالم بعد أداء الدرس أن يجلس مع طلابه يتناقشون في مسائل درسهم ويصلي مكانه، أو أنه يتركهم ويذهب إلى الصف الأول لفضيلته؟ ورجح أن جلوسه مع طلابه يدارسهم ويسألونه ويجيبهم عما أشكل عليهم في درسه أفضل له من أن يتقدم إلى الصفوف الأول؛ لأنه حاضرٌ قبل أن يتم الصف الأول.
وفي تلك الهيئة، يسند جبريل ركبتيه إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويضع كفيه على فخذيه، أي: فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، كما يذكر بعض العلماء، وفي رواية عند النسائي فيها التصريح بأن جبريل وضع كفيه على فخذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/6)
الهيئات التي رأى فيها النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام
وهنا وقفة: فهذا جبريل الملك الذي سد الأفق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:7-8] وذلك عندما طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يراه على هيئته الحقيقة، فرآه فإذا به يسد الأفق بجرمه، وهذا هو جبريل الذي رفع قرية قوم لوط على طرف جناحه، حتى سمعوا صياح الديكة والحيوانات في سماء الدنيا، ثم قلبها كما قال الله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] أي: المنقلبة، فإذا به يأتي ويظهر في سورة رجل، ويدخل المسجد من بابه، ويأتي إلى مجلس رسول الله، يسند ركبتيه إلى ركبتيه وكفيه على فخذيه.
كيف تحول جبريل عليه الصلاة والسلام من هذا القدر العظيم إلى هذه الصورة؟ هذا عالمٌ نوراني لا دخل للعقل فيه قط، وكذلك نرى من أحوال الجن وهو عالم نيراني -أي: من النار- ما يتشكل ويتجنس، وإذا تشكل في صورة أحكمته أحكام تلك الصورة.
فجبريل عليه الصلاة والسلام يتشكل بهذه الصورة، وأحيانا كان يتشكل كما قال صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي رضي الله عنه، وقد كان يأتي في خفاء عن الناس، وهنا يأتي ظاهراً عياناً لكأنه يُشهد الخليقة بأن هذا جبريل الذي يأتيني بالوحي ما كان خافياً فقد أصبح ظاهراً، وقد يراه بعض الناس وقد لا يراه.
وقد جاء في أحاديث حق الجار عن بعض الأنصار قال: (خرجت مع أهلي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا برجل يقاومه -يعني: قائمٌ معه، والمقاومة يكون فيها كلٌ شخص قائم لصاحبه- فجلست وظننت أن له حاجة، ولقد رثيت لرسول الله من طول القيام مع هذا الرجل، فلما ولى الرجل، جئت وقلت: يا رسول الله! والله لقد رثيت لحالك من طول قيامك مع هذا الرجل، قال: أرأيته؟ قلت: بلى، قال: أتدري من هو؟ قلت: لا.
قال: إنه جبريل، ولو سلمت عليه لردّ عليك السلام؛ ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) .
وحديث ابن عباس، وذلك لما (جاء العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذن ثلاث مرات فلم يؤذن له، والباب مفتوح والرسول أمامه، والعباس يرى رسول الله، ويستأذن عليه فلا يأذن له، فرجع مغاضباً -وكان في بني هاشم حدّة- فلما رأى ابن عباس أباه مغضباً، قال: يا أبت! لم تغضب؟ لعله مشغول بالرجل الذي عنده يحادثه، قال: وهل عنده رجل؟ قال: بلى، قال: ما أرى شيئاً، قال: ارجع، فرجع فإذا بالرجل الذي عنده ليس موجوداً، فاستأذن فأذن له رسول الله، فقال: يا محمد! جئتك واستأذنت عليك ثلاث مرات فلم تأذن لي وأنا أراك بعيني، والغلام يقول: لعلك كنت مشغولاً بالرجل الذي كان عندك، فقال: أرأيته يا غلام؟ قال: بلى، قال: أتدري من هو؟ هذا جبريل عليه السلام كان عندي آنفاً) .
إذاً: جبريل عليه السلام وهو ملك؛ إما أن يتحول في صورة البشر ويقترب من البشر، ويقترب من رسول الله فيما يمكن أن يأخذ عنه ويلقي إليه، وإما أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة الوحي، وهي أعلى منزلة في حالة البشرية العادية، حتى يتلقى عن الملك في حالته الملائكية، وهذا بناءً على ما أجرى الله لرسوله من تلك التهيئة البدنية على خلاف العادة، حينما شق صدره وهو غلامٌ صغير، فقد كان ذلك تهيئة لما سيتلقاه من الوحي الذي لا يمكن للبشر العادي أن يتلقاه.
وهكذا جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عياناً، وفي صورة رجل من أجل أن يؤدي المهمة العظمى ويعلم الناس أمر دينهم.(3/7)
سبب مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ولم يأت جبريل بهذه الأسئلة؟ قال بعض العلماء: لأنهم كانوا لا يحسنون السؤال، أو ربما يسأل الإنسان عما تحمله به زوجته، أو عما يأتي به الغد، أو عن أبيه من هو؟ ولهذا حظر الله عليهم كثرة سؤال الرسول، وجعل بين يدي سؤاله صدقة، فمن أراد أن يسأل رسول الله، فقبل أن يسأل عليه أن يتصدق، وليس كل إنسان يجد الصدقة، فيكف الناس عن كثرة الأسئلة ولا يسأل إلا من تصدق ومن كانت له حاجة ضرورية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] ، ثم قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة:13] .
(فإذا لم تفعلوا) أي: لم تستطيعوا، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة:13] ، وهذه الصدقة شرعت ثم نسخت، كأنها تقول: احذروا كثرة الأسئلة، فمن واجب الشخص قبل أن يسأل رسول الله أن يتصدق قبل السؤال، ويقولون: إنه لم ينفذ هذه الآية إلا علي رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يطعن في سند هذا الحديث بالنسبة لـ علي.
المهم عندنا أنهم أمروا أن يقيموا الصلاة، وأن يلتزموا بتعاليم الإسلام، فكفوا عن بعض الأسئلة، وكان يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (كنا ننتظر الأعرابي يأتي ليسأل فنفرح بسؤاله لنسمع الجواب) ؛ لأنهم كفوا عن الأسئلة، وما كانوا يسألون إلا في الضروريات، فإذا جاء إنسان من البادية، وليس عليه هيئة الحضر، ويسأل حاجته فيفرحون بالسؤال؛ لأنهم يسمعون الجواب، فها هو جبريل عليه السلام جاءهم بالمنهج السليم في طريقة السؤال، فهو عالم ومتعلم، وهو الذي جاء بهذه الأمور كلها بالوحي؛ ولكن ليعلم الحاضرين كيف يسألون، وليبين لهم حقيقة الدين ما هي.(3/8)
تخفي جبريل حتى خفي على النبي صلى الله عليه وسلم
قول عمر رضي الله تعالى عنه: (إذ طلع) ، هذه (إذ) الفجائية، كأننا فوجئنا بشخصٍ.
وانظر إلى دقة الوصف: (شديد بياض الثياب) ، كأنه خارج من الحمام، (شديد سواد الشعر) ، كأنه لم يمش خطوة في شارع، (لا يرى عليه أثر السفر) لنصاعة بياض ثيابه، ونقاء شعره من وعثاء السفر.
(ولا يعرفه منا أحد) ، أي: لا هو مسافر من بعيد، ولا هو من أهل البلد نعرفه، فلو كان من أهل المدينة لعرفه منا أحد، فلم يكن أحد من أهل المدينة يعرفه، ولم يكن قادماً من سفر، إذاً: من أين جاء؟ عمر يصف لنا الواقع، ويصف صورة مجيء جبريل التي تثير التساؤل! نحن الآن نفرض لو أننا جلوس ورأينا واحداً وهو قاعد في الوسط أطول من الحاضرين بمتر، لا نعرفه ولم نر عليه أثر السفر، نقول: من أين جاء؟ طلع من الأرض أو نزل من السماء؟! ما رأينا الأرض انشقت عنه، ولا رأينا السقف انفرج عنه ونزل، ولكن جاء بصورة رجل ودخل واستأذن، فهو رجلٌ؛ لكن من أين جاء؟ هل أحد قال: إنه رأى جدران المسجدان تنشق عنه وهو يخرج منها؟ فاقترب جبريل عليه السلام وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسند الركبتين إلى الركبتين، وأخذ كفيه وبسطهما ووضعهما على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (يا محمد!) .
ومعلوم بأن نداء النبي صلى الله عليه وسلم باسمه لا يجوز، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] ، وإنما يقال: يا نبي الله، يا رسول الله، فكيف جبريل نفسه يقول: يا محمد؟ هذا الأسلوب يتخذه الأعراب، فكأن جبريل جاء ويسأل على الأسلوب الجاري عند أهل البادية وعلى طريقتهم بدون كلفة أو ألقاب ومقدمات.
ثم قال: (أخبرني عن الإسلام) فأجابه صلى الله عليه وسلم.
وهنا نتساءل: هل الرسول عرف بأنه جبريل حينما قال: يا محمد، ثم جاراه في الأسئلة والأجوبة، أم أنه لم يعرفه، وكأنه رجلٌ من الرجال يسأل عن الإسلام وهو يجيبه؟ يرى بعض العلماء أنه لم يعرفه، ويروي في ذلك: (ما التبس عليّ جبريل قط حينما يأتيني إلا هذه المرة، وما عرفته إلا بعد أن ولى) ، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ما عرف السائل بأنه جبريل عليه السلام حتى ولى، فعرف من توليه أنه جبريل، وقال: (ردوا عليّ الرجل) .
لماذا يقول: ردوه؟ فما دام سأل وأخذ الجواب، فلماذا لم يتركه يذهب لحاله؟ لأنه تذكر بأنه جبريل عليه الصلاة والسلام.(3/9)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [2](4/1)
شرح أركان الإسلام الخمسة
أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن الإسلام بأركان الإسلام الخمسة التي هي: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت يا محمد! قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه) .
ونقف هنا عند هذه الأركان الخمسة، بالمقارنة بقوله: (أخبرني عن الإيمان) فأخبره بأمور كلها غيبية، قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) .(4/2)
دلالة الإسلام على الأعمال الظاهرة والإيمان على الغيبيات
أركان الإسلام كلها أعمالٌ ظاهرة، أولها: النطق بالشهادتين، فالنطق مسموع بالآذان.
وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة: وهي جزء من مالك تخرجه للفقراء.
وصوم رمضان: وهو كف الإنسان عن الطعام والشراب والمبطلات للصيام.
وتحج البيت: وهي رحلة طويلة إلى بيت الله الحرام لها مناسك معلومة في أيام معدودة.
ولذا قالوا: أركان الإسلام تنبعث من معنى الإسلام نفسه، فهو الاستسلام والانقياد، كما قال حكيم الجاهلية: وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة أطاعت فصبت عليها سجالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالا فيقول: أسلمت وجهي، بمعنى: استسلمت وانقدت لمن انقادت إليه العوالم العلوية والسفلية، الذي انقادت وأسلمت له المزن وهي السحب.
تحمل عذاباً زلالا: أي الماء حينما تساق السحب إلى أرض فتسقيها.
السجل: الذَنَوب الكبيرة؛ هذه السحب التي تحمل الماء العذب الزلال، من الذي أنشأها؟ ومن الذي ساقها؟ ولمن تستسلم في مسيرتها؟ لله الذي خلقها.
وهذه الأرض التي تحمل الجبال التي أرسيت بها، من الذي أرساها؟ يقول هذا الحكيم الجاهلي: أسلمت وجهي لمن أسلمت له تلك العوالم التي يشاهدها؛ فكذلك الإسلام: أن يستسلم العبد لله في أوامره بأن يأتي ما أمره الله به، وفي نواهيه بأن يجتنب ما نهاه الله عنه، وإذا كان الأمر كذلك؛ كانت عوامل الاستسلام ظاهرة.
وقد جاءت أحاديث تدل على أن الإسلام أعم من هذه الخمس، مثله قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي: بأن يكف عن الكذب، الغيبة، النميمة، الحسد، الحقد إلخ.
إذاً: الإسلام أوسع، وهو يشمل كل ما فيه معنى الاستسلام لله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] ، والآية تشير إلى: (يؤمنوا) (ويسلِّموا) أو كأن الإيمان والإسلام صنوان.
بينما الإيمان: أن تؤمن بالله، وإن لم تره ولم تلمسه، فهو أمر غيبي، ولكن توقن بوجوده استدلالاً بآثاره: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] ، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:16] الآيات.
وملائكته لم نرهم ولم نشاهدهم، وقد شاهد بعض الناس بعض الملائكة فرداً من أفراد الجنس، وإذا رأينا ملكاً واحداً لكأنما رأينا جميع الملائكة؛ لأنها جنس.
لو أن شخصاً ما رأى التمر قط، ثم جيء بتمرة واحدة، ولكنه يرى البرتقال والتفاح والموز، فقال: ما هو التمر؟ قيل: خذ، فإذا رأى تمرة واحدة حكم بها على جنس التمور بجميع أنواعه، وهكذا الواحد بالجنس، والواحد بالفرد، فهذا الملك قد رئي ورآه بعض الناس، ونحن نؤمن بالملائكة ولو لم نرهم؛ لأنه جاءنا الصادق المصدوق بأمرهم، كما سيأتي الكلام على أركان الإيمان.
ونحن نحتاج إلى وقفات عند كل ركن من هذه الأركان، ولكن لا نستطيع ذلك، وإلا لقضينا الوقت كله والليالي العديدة في هذا الحديث، كما يقول ابن رجب: ما من عالم من علماء المسلمين في فن من الفنون إلا ويرجع إلى هذا الحديث.(4/3)
معنى: (أشهد أن لا إله إلا الله)
قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله وأن محمداً رسول الله) .
قولك: (أشهد أن لا إله إلا الله) أي: معتقداً بذلك جازماً بأنه لا مألوه بحقٍ إلا الله، ومألوه بمعنى: معبود، لا معبود بحق إلا الله.
وجيء كلمة (بحق) لأن هناك معبودات كثيرة، كما اتخذ العرب في الجاهلية أصناماً متعددة، وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] ، وفي الحديث: (تعس عبد الدرهم والدينار) .
فالناس لهم معبودات كثيرة، ولكن المعبود بحق هو الله سبحانه وتعالى، وأنت تعلن ذلك في الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:4-5] .
فإذا قلت: لا إله إلا الله؛ فمعناها: لا مألوه ولا معبود بحق إلا الله، ولا ينبغي صرف شيء من العبادات لغير الله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ، وتقدم الكلام على نية الإخلاص ونية القصد، وهي قصد التوجه لله تعالى بأعمال الخير، وهنا إذا قلت: لا إله إلا الله، كان عليك أن تلتزم بلوازمها ومفاهيمها.(4/4)
معنى: (أشهد أن محمداً رسول الله)
إذا قلت: (أشهد أن محمداً رسول الله) ، فمعنى الرسالة أن الله أرسله، والرسول لابد أن تكون معه رسالة، إذاً لا يوجد رسول بدون رسالة، ولا يسمى رسولاً إلا برسالة معه، فتؤمن بالرسول وبالرسالة التي جاءك بها من عند من أرسله.
ومن لوازم (لا إله إلا الله) : أنك لا تعبد سواه، وتؤمن به وبكل ما جاء عنه، وإذا قلت: (محمد رسول الله) ، كان يلزمك أن لا تعبد الله الذي ما آمنت به إلا عن طريق هذا الرسول وبمقتضى الرسالة التي جاءك بها، فإن عصيت رسول الله، فحقيقة المعصية معصية لمن أرسله إليك، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] ، وقد قال اللهم بلغت اللهم فاشهد، وانتهى من المهمة، وبقي التنفيذ عليك، وبقي تمام الالتزام منك.
ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد) ، ويقول مرسله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] ، ثم يقول أيضاً: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .
إذاً: معنى قولك: (أشهد أن محمداً رسول الله) التزام طاعة رسول الله، وهي طاعةٌ لله: (من أطاعني فقد أطاع الله) ، ونحن نشبه ونقول إيضاحاً لهذا الالتزام: إنه في العرف الدبلوماسي يعبرون بقولهم: تبادل السفراء بين الدول؛ لأن الدولة لا تتعامل مع الدولة بأن يأتي وزراء الدولة كلهم إلى وزراء الدولة الأخرى بكل حاجياتهم، ولكن يختار رئيس الدولة مبعوثاً عنه يسمى سفيراً، فيأتي ويقدم أوراق اعتماده إلى الدولة التي هو سفير فيها، وبعد ذلك يكون سفيراً رسمياً بين الدولتين، وكل ما يأتي به هذا السفير من دولته إلى الدولة التي هو مبعوث إليها يكون كلامه لا باسمه الشخصي ولكن باسم دولته ورئيسها، فإذا قبلت تلك الدولة ما جاءهم بها كانت العلاقة حسنة وتواصلت الروابط الدبلوماسية، وإذا رفضت ما جاء به كان تعكر الجو السياسي، وسحب كل بلد سفيره، وربما قطعوا العلاقات الدبلوماسية، لأنهم رفضوا ما جاء به السفير من عند دولته، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بأوراق اعتماده من المعجزات الباهرات حسياً ومعنوياً.(4/5)
معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم من جنس معجزات الأنبياء
يقول السيوطي: ما أوتي نبي معجزة إلا وأوتي نبينا صلى الله عليه وسلم من جنسها.
فموسى عليه السلام أوتي العصا تنقلب حية تسعى، والرسول صلى الله عليه وسلم أعطى عكاشة في بدر قطعة خشب لما جاءه وقال: انكسر سيفي، فأعطاه عوداً من الخشب وقال: اضرب وقاتل بهذا، فأخذه فانقلب في يده سيفاً بقي عنده إلى ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
والرسول صلى الله عليه وسلم حينما لقي ركانة في مكة قبل الهجرة ودعاه إلى الإسلام، قال: (يا محمد! دعك عني، قال: أتصارعني، فإن صرعتني فلك شاة، فصارعه، فصرعه رسول الله، فقال ركانة: واعجبا تصرعني أنت، والله ما وضع أحد جنبي على الأرض قبلك، أتعود للثانية؟ قال: نعم، قال: ولك شاة.
ففعل ذلك ثلاث مرات، حتى قال ركانة: يا ويح ركانة، ماذا أقول لأهلي: شاة أكلها الذئب وشاة شردت عني، وماذا أقول في الثالثة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: لا أجمع عليك الغلبة والشياه، خذ شياهك، فعجب ركانة، قال: أتعجب يا ركانة! ألا أريك أعجب من هذا؟ قال: وما هو؟ فنظر إلى شجرة هناك فقال: تعالي، فجاءت تخط الأرض حتى وقفت بين يديه، ثم قال: عودي حيث جئت، فعادت، فقال: ركانة أمهلني أنظر في أمري) .
أكثر من هذا أن الجذع الذي كان يحن إليه صلى الله عليه وسلم، جذع له ثمان سنوات وهو يخطب عليه؛ لأن المنبر صنع سنة ثمان من الهجرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ على الجذع حينما يخطب، فلما تحول وصعد المنبر، فإذا بالجذع اليابس يحنّ لرسول الله كحنين الناقة العشراء، يسمعه جميع من في المسجد، فيأتي إليه ويمسح عليه، ويقول له: (إن شئت ذهبت وغرستك في البستان وصرت نخلةً تثمر تعود إليه الحياة، وإن شئت أن تكون غرساً من غرس الجنة أدفنك هنا في الروضة، فيجيب الجذع وهم يسمعون: بل أكون من غرس الجنة) .
موسى عليه السلام كان معه معجزة الحجر، كما قال الله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [الأعراف:160] ، يخرج الماء من اثنتا عشرة عيناً من الحجر الذي مع موسى بضربة من العصا.
والنبي عليه الصلاة والسلام في عدة مرات يقل عليهم الماء ويؤتى صلى الله عليه وسلم بمخضب -إناء صغير- فيه ماء، ويضع فيه كفه ويدعو الله بما شاء، فإذا الماء ينبع من بين أصابعه، فيتوضئون ويشربون ويرتوون.
ونتساءل أيهما أقرب إلى طبيعة الأشياء: انبجاس الماء من حجر وهو جزء من أجزاء الأرض التي تختزن الماء في جوفها، أو نبع الماء من بين دم ولحم؟ وأيهما أدخل في الإعجاز؟
الجواب
الذي من بين الأصابع، لأن الحجر يمكن أن تضعه في الأرض ويمتد له الماء من الأرض، والحجر من طبيعته أن ينبت الماء، ولكن أن يخرج الماء من بين الأصابع ويسقي الناس هذا عجيب!.
عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه ويحيي الموتى بإذن الله، وكم من مريض شفاه الله على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب حينما كان أرمد يوم خيبر، وجيء به يقاد بين اثنين؛ فيتفل في عينه صلى الله عليه وسلم فلا يرى رمداً بعد ذلك، وأبو قتادة الأنصاري سالت عينه على خده في أحد، وردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن العينين إبصاراً.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالمعجزات، وفي كل قومٍ يؤتى لهم بما يناسبهم.
جاء أعرابي وسلم وكانوا يتعشون، فجلس وقال: (يا محمد! من يشهد أنك رسول الله؟ قال: القصعة التي تأكل منها، فرفعها فإذا بها تقول: محمد رسول الله، فقال الذي بجواره: أسمعنيها يا رسول الله؟ قال: أسمعه، فلما طلب الثالث قال: ضعها في الأرض) ، ولم يتركها تتجول بين الناس؛ لأنها أمور خارقة للعادة.(4/6)
معجزة القرآن الخالدة
أعظم معجزة لرسول الله التي هي لها صفة الدوام والبقاء، والتي لها الإعجاز الأكبر: القرآن الكريم؛ لأن كل معجزة نبي كانت مؤقتة بوقته وبزمنه، فعصا موسى انقضت بموسى، إحياء الموتى لعيسى انقضى بعيسى، وآية إبراهيم: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ، وآية نوح ومجيء الطوفان انتهى أمرها وقضي الأمر واستوت على الجودي.
إذاً: كل معجزة لنبيٍ إنما كانت مرتبطة بشخصه وبزمنه؛ إلا معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي الباقية، وهي التي تحدى الله بها العقول، وليست خوارق للعادات، وإذا كان الأمر يتحدى العقول فإن العقلاء يقفون عند حد، أما إذا كان فوق العقول وفوق القدرات فإن الإنسان يقف منه موقف من يشعر بالعجز؛ لعجز الطاقة عن ذلك، فلا يستطيع البشر أن يأتي بحية من عصا، لكن هذا خارق فوق العادة ملموس.
أما القرآن فبلغتهم وبحروفهم وبكلامهم، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، كان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول في أوائل سورة البقرة: أول نداء في المصحف الشريف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا * وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21-22] ، مَنْ الند الذي يمكن أن يخلق أرضاً فراشاً، مَنْ الند الذي يمكن أن يوجد سماءً بناء؟ مَنْ الند الذي يمكن أن ينزل من السماء ماء؟ مَنْ الند الذي يمكن أن ينبت من الأرض نباتاً رزقاً لكم؟ لا يوجد.
ثم بعد أن أقام الآيات البينات على وجود الخالق سبحانه، دعاهم إلى عبادته لأنه خالقهم، والمستحق للعبادة وحده، ثم جاء بإثبات الرسالة: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] ، أي: في شك مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23] ، أي: ائتوا بالإنس والجن يعاونونكم على هذا.
القرآن ليس غريباً عنكم هو: {ألم} [البقرة:1] ، و: {كهيعص} [مريم:1] ، و: {ص} [ص:1] ، و: {ق} [ق:1] ، و: {ن} [القلم:1] ، و: {ألر} [يوسف:1] ، هذه الحروف التي تعرفونها، والتي تؤلفون منها أشعاركم، والتي تتكلمون بها في خطبكم، والتي تتحادثون بها فيما بينكم، لم يأتكم بشيء غريب عنكم، ولكنه منزل من عند الله.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] ، وهذا تحدٍ فوق التحدي، ائتوا بسورة من مثله، ثم يقول: وأنا أخبركم مقدماً أنكم لن تفعلوا.
ولم يفعلوا، ويبقى إعجاز في إعجاز وتحد في تحد.
إذاًَ: قامت البينة بأن ما أنزله الله على رسوله إنما هو وحيٌ من عند الله، وقامت البينة على أن القرآن الكريم هو وحيٌ من عند الله، وكان في ذلك إثبات لرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمنا بأن محمد بن عبد الله هو رسولٌ من عند الله أرسله بكتابه.(4/7)
معصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي معصية لله تعالى
فقولنا: (وأشهد أن محمداً رسول الله) : الرسول لا بد له من رسالة، وهذه هي رسالة الله إلى خلقه، جاء بها نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان لزاماً علينا أن نلتزم بتلك الرسالة، فإذا عطلنا شيئاً منها كان ذلك عصياناً لله وليس لرسول الله فقط.
ويجب أن نعلم أن المعصية لله ورسوله قسمان: معصية غلبة النفس والهوى، ومعصية التعنت والعناد، وهذه عياذاً بالله قد تخرج من الملة؛ فمن جحد شيئاً مما جاء به رسول الله، أو استحل شيئاً مما حرمه رسول الله، أو حرم شيئاً مما أحله رسول الله، وقال: إنه حرام، لا أنه امتنع منه، فإنه كافر برسالة رسول الله من عند الله، وليس صادقاً في قوله: (محمد رسول الله) .
وإننا نعلم أن كلمة (نشهد) بدل أقر أو أعترف أو أخبر بأن، والله سبحانه وتعالى قد أخبر عن قوم فقال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] ، قد قالوا: (نشهد إنك لرسول الله) فكيف يكونون كاذبين؟ لأنهم: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون:2] ، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
ولهذا كان حديث: (من قال: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة) معنى الحديث: أن يقولها خالصة من قلبه، وأن يلتزم بمدلولها.
وإذا كان الإسلام كله أعمالاً ظاهرة تؤيد مدلول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فإن العلماء يبحثون بعد ذلك: فيمن ترك ركناً من أركان الإسلام هل يصدق عليه: أنه مسلم أم أنه نقض الشهادة بتركه الركن؟ يبحث العلماء في هذا بحثاً طويلاً، ويختلفون في الأركان الثلاثة: الصيام والزكاة والحج، والاختلاف أقل في الصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حقها: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) .
وقد بوّب الشوكاني في نيل الأوطار: باب من يرى الكفر في ترك الصلاة، وبعد ذلك جاء بالنصوص، وجاء بباب آخر هو: باب من لا يرى الكفر في ذلك، والأحاديث في هذا عديدة، يصعب علينا أن نمليها وأن نتكلم فيها، لأنها تقتضي الوقت كله.
إذاً: جبريل عليه السلام سأل عن الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم أجابه بالأركان الأساسية، وهي: الشهادتان، وإقام الصلاة، وأداء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت بالشرط: إن استطعت لذلك سبيلاً.
هذا ما يتعلق بالإسلام، والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(4/8)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [3](5/1)
الكلام على الإيمان بالله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبيه ومن والاه.
وبعد: فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
وقد تقدم الكلام على أول هذا الحديث من مجيء جبريل عليه السلام، وكيفية جلوسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسؤاله: (أخبرني عن الإسلام؟) ، وجوابه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بأركان الإسلام الخمسة، وسيأتي زيادة بيان لهذا الجواب عن الأركان الخمسة، وعلاقتها مجموعة أو مفرقة في الحديث الثالث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) ، وليس ذلك تكراراً من النووي للحديثين.
بل يأتي التنبيه على نكتة مجيئه في موضعه.(5/2)
معنى الإيمان لغة وشرعاً
وقول جبريل عليه السلام: (أخبرني عن الإيمان؟) هذا سؤال ثانٍ منه عليه السلام بعد أن سأل عن الإسلام وتلقى الجواب، فسأل ثانية عن الإيمان.
والإيمان لغة: التصديق، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] أي: مصدقٍ لنا.
وإذا كان الإيمان لغة: التصديق، فإن الإيمان في عرف الشرع واصطلاحه عند سلف الأمة إنما هو: اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح.
ويبحث علماء الكلام في مفهوم الإيمان شرعاً: هل العمل داخل ضمنه، أم أن العمل من لوازمه؟ وهل الإيمان يزيد وينقص، أو لا يقبل زيادة ولا نقصاناً؟ وسيأتي التنبيه عليه إن شاء الله.(5/3)
علاقة الإسلام بالإيمان
وهنا يأتي
السؤال
كيف سأل جبريل عليه السلام السؤالين مرة عن الإسلام ومرة عن الإيمان؟ ومن هنا يبحث العلماء عن علاقة الإسلام بالإيمان، وعلاقة الإيمان بالإسلام، ويتفقون على أن الإيمان أخص من الإسلام، فكل مؤمن مسلم، وهل كل مسلم مؤمن؟ قالوا: لقد جاء القرآن الكريم وفرّق بين مسمى الإسلام ومسمى الإيمان، قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، ومن هنا أطال العلماء البحث في هذه المسألة وقد أورد الإمام الطحاوي في كتابه ما يتعلق بهذا الحكم، وكذلك السفاريني في عقيدته، وكلهم يتفق: على أن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان؛ يجتمعان إذا ذكر واحدٌ منهما، ويفترقان إذا ذكرا معاً.
فإذا قيل: أمة الإسلام بخير فيدخل المسلمون والمؤمنون، وإذا قيل: المؤمنون على خير، أي: والمسلمون، أما إذا ذكر معاً: فالإسلام خير والإيمان خير منه أو أخص منه، فلكل اسم ومسمى، ومثل ذلك لفظا (الفقير والمسكين) فإذا اجتمعا افترقا، أي: إذا ذكر الفقير والمسكين كان للفقير معناه وللمسكين معناه، وإذا ذكر واحدٌ منهما اشتمل على الثاني.
وعلى هذا: إذا أفرد الإسلام فقط، فإنه يتضمن ما تضمن معنى الإيمان، وإذا ذكر كل واحد مع الآخر، فكل واحدٍ له مسماه ودرجته، {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] .
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، والمسلمون كذلك.
ومثل هذا: (المسلمون والمسلمات بعضهم أولى ببعض) ، والمؤمنون من باب أولى أن يكون بعضهم أولى ببعض.
ومثال اجتماع لفظ الفقير والمسكين قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الآية.
إذا تبين لنا هذا؛ فما مدلول معنى الإيمان الذي أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في سؤاله؟(5/4)
أدلة الإيمان بالله
إذا كان الإيمان لغة: التصديق، وشرعاً: ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يخرج عن المعنى اللغوي ولكن أضاف إليه جزئية: (أن تؤمن بالله) ، ومعنى تؤمن هنا: تصدق وتعتقد وتلتزم.
ومعنى الإيمان بالله: التصديق بالله، وعلى أي شيء تصدق؟ هل على مجرد وجود الله؟ فإن الكفار والمشركين كانوا يؤمنون بذلك، والله سبحانه قد أقام الأدلة العقلية على وجوده، وجاءت النصوص النقلية بوجود الله سبحانه وتعالى.
كما جاء عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال: من الذي لرغبتك ورهبتك وحاجتك؟ قال: الذي في السماء) .
فمع وجود آلهة ستة في الأرض فهو يؤمن بالله، ولكن على المشاركة، وإيمانه بالله خاصٌ عند الشدة، كما قال الله عن المشركين إذا جاءتهم شدة: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] ، والإيمان بإله معبود أمرٌ من ضروريات البشر، ولذا لا تجد فرداً من بني آدم إلا ويؤمن بمألوهٍ عنده، سواء كان ذلك المألوه حقاً أو باطلاً، لماذا؟ لو نظرت إلى وجود الإنسان من حيث هو كما بين الله: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28] ، فهو ضعيف أمام قوى الطبيعة أو الكائنات أو الموجودات كما هو مشاهد، فهو يرى الجبال الشامخة، والسماء المرفوعة المسموكة، ويرى الأرض المبسوطة والمحيطات المتلاطمة كلها كائنات لم يخلقها ولم يعلم كنهها فيتساءل: ما الموجد لهذه القوى العظيمة؟ لابد في النهاية أن يرجع فكره إلى موجد لها: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] فهم لم يخلقوا من غير شيء، ولم يخلقوا أنفسهم.
إذاً: لم يبق إلا أن لهم خالقاً هو الله.
{أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الطور:36] ، لم يخلقوها ولم يدّعوا ذلك، إذاً: خالقها هو الله، فإذا كان العبد على توفيق من الله؛ كان مألوهه هو الله رب العالمين، وإذا حرم السعادة -عياذاً بالله- اتخذ له إلهاً على ما يزعم بأن يكون هذا المألوه عنده يحفظه من تلك القوى التي لا يقدر عليها، بأن يجلب له الخير أو يدفع عنه الضر، ولذا فالمولى سبحانه لما عاب على المشركين عبادتهم لأصنامهم، عاب عليهم بأنهم يعبدون ما لا ينفعهم ولا يضرهم، ولا يسمعونهم إذ يدعون.
ومن ناحية أخرى: حينما ينام الإنسان ويرى في منامه الأشياء الكثيرة، ويرى عوالم أخرى لا يدرك كنهها، فإنه يتطلع إلى وجود عوالم أخرى فيتساءل: أين تلك العوالم ومن أوجدها؟ ثم يذهب في نهاية الأمر إلى وجود موجد لها، والله سبحانه خلق في العبد عقلاً، وأمره أن ينظر في ملكوت السماوات، وأن يسير في الأرض وينظر في آيات الله الكونية ويتدبر فيها، ثم أرسل إليه رسلاً وأنزل إليه كتباً، وأعلمته الرسل بصدق دعواها الرسالة بما أثبت لها الله من آيات ومعجزات.
والمسلم قد التزم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ، وجاءه الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتاب الذي فيه آيات القرآن الكريم فيما يتعلق بحقوق الله سبحانه، فالإنسان من حيث هو لابد أن يجعل له مألوهاً يجلب له الخير لعجزه، ويدفع عنه الضر لضعفه، فإن وفقه الله واتبع رسله، كان مألوهه هو الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الإيمان بإلهٍ ضروري، ولذا تجد من الوثنين والصابئة من عبدة النجوم والكواكب والأحجار من يعتقد أن في ذلك جلب نفع إليه أو دفع ضرٍ عنه، حتى قال المانوية: إله الخير وإله الشر، وكل ذلك ضلال عقلي، والعقل السليم والفطرة السليمة تهتدي بفطرتها إلى الله، قال الحكيم الجاهلي: في الذَّاهبين الأَوَّلينَ من القُرون لنا بصائرْ لمَّا رأيْتُ موارداً للموت ليس لها مَصادِرْ أيقنْتُ أنِّي لا مَحالةَ حيثُ صار القومُ صائرْ وهذا الذي وقف في سوق عكاظ، وقال: سماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا تدل على العليم الخبير؟ فنظر في هذه العوالم الكونية حوله فعلم بأن لها موجداً، وأسلم لصاحب هذه الآيات الكونية، وكما أشرنا في قول القائل سابقاً: وأسلمتُ وجهي لمن أسملتْ له المُزْن تحمِل عَذْبّاً زُلاَلا إذا هي سيقت إلى بلدةٍ أطاعت فصبت عليها سِجالا وأسلمتُ وجهِي لمن أسلمتْ له الأرض تَحمِل صَخْراً ثِقَالا وهذه الفطرة حينما ينظر بها العقل السليم، يعلم بأن هذا الكون الفسيح لابد له من صانع.(5/5)
إلزام الفلاسفة بوجود الخالق
يقول علماء الكلام في إلزام الخصم عقلاً، كما يذكرون عن أبي حنيفة رحمه الله، ولم أدر عن صحة هذه الرواية ولكن فيها معقولية، فقد كان من الفلاسفة من يمنع وجود الله ويقول: لم نر ولم نسمع، ومثل هؤلاء العلمانيون الذين لا يؤمنون إلا بالمشاهد للملموس.
فالفلاسفة طلبوا من الخليفة أن يعقد لهم مجلساً مع أبي حنيفة يناظرهم في إثبات وجود الله على أي وجه.
يقولون في القصة -وقد تكون مختلقة أو منظمة لإثبات هذه القاعدة-: فأعطى الموعد، وانعقد المجلس فلم يأتهم، وتأخر عليهم ساعات عديدة ثم جاءهم، قالوا: كيف تكون إماماً وتخلف الوعد وفيه ما فيه؟ قال: مهلاً! لقد حرصت على المجيء في الموعد، ولكن بيني وبينكم البحر -أظن أهل بغداد يعرفون الأعظمية مقابل دار الخلافة- ولما تأخرت المركب مر رجلٌ يحمل حطباً فناديته وأخذت منه الحطب وأخذت ألقيه خشبة بعد خشبة، ثم جاء رجل حداد ومعه مسامير، فأخذت المسامير وألقيت واحداً بعد واحد إلى أن التأمت تلك الأخشاب مع تلك المسامير وصار مركباً فركبت وعبرت وجئتكم.
فقالوا: أنت بعقلك اليوم؟ قال: وما بي؟ قالوا: هل من المعقول أن تلقي بالأخشاب في الماء، ثم تلقي بالمسامير، فيتألف الخشب مع المسامير فيصير مركباً تركب عليه وتعبر دونما صانع يصنعه، قال: واعجباً لكم! تستبعدون تركيب سفينة بدون نجار يصنعها، ولا تؤمنون بوجود خالق لهذا الكون العظيم، أي: تقولون: السفينة الصغيرة هذه لابد لها من صانع، وتنكرون صانع هذا العالم بكبره، هل يمكن لهذا العالم أن يوجد بدون موجد.
فانتهى المجلس بهذا.
ولذا المولى سبحانه أقام الأدلة العقلية على وجوده سبحانه، وهي ضرورة، وهذا يسميه علماء الكلام: دليل الإلزام، ومن ذلك: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] .
يقول علماء الأصول: بالسبر والتقسيم لكل الاحتمالات العقلية في وجودنا وجدنا أنه لا يخلو الأمر من هذه الأقسام التي سماها الله: هل خلقنا من غير خالق، ومن غير مادة أساسية نخلق منها، بل جئنا هكذا من العدم.
أو نكون نحن خلقنا أنفسنا! العقل يقول: إن قلنا: إننا خلقنا من غير شيء فهذا لا يتأتى؛ لأن ما كان من غير شيء فهو عدم، والعدم لا يعطي وجوداً؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالملح لا يحل محل السكر.
إذاً بقي الاحتمال الثاني: هل أنتم خلقتم أنفسكم؟ ولو قال قائلٌ: نعم.
أنا خلقت نفسي؛ لقيل له: قبل أن تخلق نفسك، أين كنت: في العدم أو لا؟ ومن الذين أبرزك من العدم وصرت في الوجود حتى تخلق نفسك؟! إذاً: لا يمكن أن يدعيها إنسان.
في أول سورة البقرة قال الله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] ، أنتم الآن وجدتم، فهل تدعون أنكم خلقتكم آباءكم وأجدادكم الأولين؟ بل هم خلقوا قبل أن توجدوا أنتم في الحياة؛ فلا يمكن للإنسان أن يدعي أنه خلق من كان قبله، فإذا لم يكن البشر خلق من لا شيء، ولم يكن البشر خلق نفسه، فلابد له من خالق، وهو الله سبحانه وتعالى.(5/6)
معنى قولنا: إن الله واجب الوجود
إن الله سبحانه وتعالى واجب الوجود وليس جائز الوجود.
ومعنى (واجب) : أن وجود الله سبحانه لم يسبق بعدم، بخلاف جائز الوجود، مثلاً: أنت الآن لم تتزوج، ثم تزوجت ولكن لم تنجب ولداً، فولدك الذي في الغيب جائز الوجود وليس بواجب، بمعنى: أنه يجوز أن يولد لك ولد ويجوز أن لا يوجد لك ولد، فالأمر مستوي الطرفين: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49-50] ، فالولد الذي لم يولد بعد جائز الوجود وجائز العدم، فإذا ما وجد بعد العدم، فننظر: من الذي رجح أحد الطرفين المتساويين؟ أي: إذا كان الوجود والعدم متساويين بالنسبة لمن لم يولد، فمن رجح جانب الوجود على العدم، وجاء به إلى الحياة؟ إذاً: كل موجودٍ لابد له من موجد إلا المولى؛ لأن وجود المولى واجبٌ، لو قلنا: إن الله سبحانه وجد بعد أن لم يكن؛ فمن الذي أوجده سبحانه وتعالى؟! وإذا قيل إن هناك من أوجده فإن الذي أوجده أحق منه بالألوهية، فهو الإله؛ فلم يسبق وجود الله عدم؛ فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والقديم الذي لم يسبقه عدم.
{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] .
فالإيمان بالله بمقتضى نصوص الكتب السماوية وبمقتضى النظرة العقلية أمرٌ ضروري، ولذا كان كل من ينفي وجود الله فهو مكابر، كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] ، فكل البشر مقرون بوجود الله، ومن ينفي ذلك فهو مكابر.
وكما قال: المانوية الذين يقولون بإلهين اثنين: إله الخير وإله الشر، النور والظلمة، يقولون: النور أقوى من الظلمة؛ لأن النور إذا جاء انعدم الظلام، فهو أقوى منه، فرجعوا في النهاية إلى إله واحد، لكن لم يهتدوا إلى حقيقة من هو.
والكلام في هذا الموقف طويلٌ عريض، يدعو إلى الكلام عن صفات الله، والكلام في أسماء الله وفي أفعال الله، وكل ذلك مكانه كتب العقائد، وهي مسطرة وموضحة بحمد لله، ولكن الذي يهمنا في هذا الحديث في بيان الإيمان أولاً وقبل كل شيء: أن تؤمن بالله.
وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله؛ لأن منطلق كل إيمان ومنطلق كل عمل يرجع إلى هذا المبدأ؛ لأنك إذا آمنت بالله آمنت بأنه موجود، وأنه فعال لما يريد، وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب، وشرع وأمر ونهى، وأعد جنة وناراً إلى آخره.
فالمؤمن بالله أول خطواته إيمانٌ بكل لوازم الإيمان بالله، وهو كل ما جاء عن الله وأخبر به رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ولعلكم تجدون بعض الشراح لهذا الكتاب أو لهذا الحديث يذكرون وجود تكرار، وهل هناك إعادة بذكر الخبر بلفظ المبتدأ؟ (أخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن) ، أنا أسألك عن الإيمان، وأنت قلت: الإيمان أن تؤمن، كأنه يقول: فيه الدور والتسلسل؛ وليس بصحيح.
جبريل عليه السلام سأل عن الإيمان الذي يجب على الإنسان أن يصدقه ويعتقده العبد، فأجابه صلى الله عليه وسلم بمجموع المسميات في هذا الجواب، فكأنه يقول: هذه الخصال هي الإيمان الذي تسأل عنه.(5/7)
الإيمان بالله وصفاته
الواجب في هذا المقام الإيمان بوجوده وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وكل ما سمى الله به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله وكل ما أخبر الله به عن نفسه من فعل أو أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وجب الإيمان به.
على المبدأ الأساسي: نؤمن بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وبما جاء عن رسول الله في صفات الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقاعدة الأساسية لهذا الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ هي قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، فنفى عن نفسه سبحانه المثلية، وأثبت لنفسه سبحانه أنه السميع البصير، فإذا أردت أن تثبت سمعاً أو بصراً، فلا يخطر ببالك ولا بخاطرك ولا بفكرك أي سمع وأي بصر على أي مثال كان؛ لأنه (ليس كمثله شيء) ، فهو كما قال الشافعي رحمه الله: نحن مكلفون بإيمان تصديق وإثبات، لا إيمان تكييف وتمثيل.
ومن هنا: كان السلف يثبتون لله صفاته دون تشبيه، وينفون عنه النقائص دون تعطيل، فهو إيمان بلا تكييف ولا تمثيل، ونفي بلا تعطيل.
وعلى هذا قامت عقيدة السلف في الله سبحانه وفي أسمائه وصفاته، أما الذين قالوا: إذا أثبتنا سمعاً أثبتنا الأذن، وإذا أثبتنا بصراً أثبتنا عيناً؛ فالذي أوقعهم في هذا أنهم يقيسون صفات الله على صفات المخلوق.
والمولى لطفاً بعباده قدّم لهم القاعدة الأساسية: (ليس كمثله شيء) ، وذات المولى لا تشبه الذوات، والعقل لا يستطيع أن يتصور كنه ذات الله، إذ لما سألوا الرسول: أخبرنا عن الله، أهو من كذا أو من كذا؟ أقريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فجاء الجواب عن الأولى، وهو السؤال عن الذات: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، سألوه عن الذات فأجابهم بذكر الصفات؛ لأن الذات فوق العقل والإدراك، ولهذا فرعون لما سأل موسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] ؟ (وما) عند المناطقة يسأل بها عن الماهية، يقال: ما الإنسان؟
و
الجواب
حيوان ناطق، ما التمر؟ تمرة النخل، فلما سأل فرعون بـ (ما) التي للماهية، والماهية بالنسبة لله لا تشرح ولا تدرك، بل يعرف رب العالمين بصفاته وأفعاله، فأجاب موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] .
ثم قال: بل رسولكم مجنون؛ لأنني أسأله بـ (ما) التي لشرح الماهية فيذهب يجيب لي بصفاته.
وهل أنت يا مسكين تستطيع أن تدرك حقيقة الله، إبراهيم عليه السلام لما سأله النمرود عن ربه، قال: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] فوجده أبله، قال: على مهلك فإن ربي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب؟ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] ، يحاجه في صفات الله وأفعاله، فبهت الذي كفر.
ولهذا لما سألوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] .
وكذلك عندما قالوا: انعت لنا ربك من أي شيء هو؟ فقد كان لهم آلهة من حجر ومدر وذهب إلى آخره، فيريدون من النبي أن يبين ما ربه، فنزلت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، أحدٌ في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وعبوديته، فنعبده وحده: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .
قالوا: أحدٌ بخلاف واحد؛ لأن الواحد مقابل الاثنين والثلاثة، أما أحد فلا نظير له، تقول: جاء رجلٌ واحد، وفي الدار رجلٌ واحد، أي: ليس اثنين، ما في الدار إلا رجلٌُ واحد، فتنفي أن يوجد اثنان من جنسه، لكن: ما في الدار أحدٌ، تنفي الوجود بالكلية.
إذاً: أنت تؤمن بالله، وبوحدانيته سبحانه وتعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.(5/8)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [4](6/1)
الإيمان بالملائكة
قال صلى الله عليه وسلم: (وملائكته) .
يقولون: أصل الملك مألك، والمألك أو الألوكة الرسالة، والملائكة هم رسل الله إلى الخلق، وحقيقة الملائكة -أقصى ما نعرفه عنهم-: عبادٌ مكرمون، وهم عالمٌ نوراني خلق من النور، ويتفق أهل السنة على أن الملائكة ليسوا كالبشر، ولذا لا يقال فيهم: إنهم حيوان ناطق كالإنسان؛ لأن الإنسان حساس نامٍ، أي: يبدأ من الصغر ثم ينمو ويكبر، والملك ليس يحتاج إلى نمو، وإنما يخلق على ما هو عليه.
ولهذا لا طاقة للعقل في إدراك كنه الملك، وقد جاءت أحاديث توقف العقل عند حده.(6/2)
طوائف الملائكة وأعمالهم
جاء في أمر جبريل عليه السلام، لما طلب منه رسول الله أن يريه ذاته على طبيعته، أنه ظهر له وقد سد الأفق كله، وفي الصحيح: (ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد أو راكع يذكر الله) .
ويتفق علماء السنة أيضاً بأن الله جعلهم طوائف، ولذا: التاء في: (ملائكته) ليست للتأنيث ولكنها للطوائف المتعددة، فهناك ملك الوحي جبريل عليه السلام، وهناك ميكائيل الموكل بالأرزاق وما ينزل من السماء إلى الأرض، وهناك عزرائيل الموكل بقبض الأرواح ومعه أعوانه وجنوده، وهناك ملك الجبال ومن يساعده، وهناك ملائكة في البحار، وملائكة موكلة بالأرحام كما جاء في الحديث: (إن الله موكلٌ بالرحم ملكاً) ، فإذا جاءت النطفة أخذها وسأل ربه: مخلقةٌ أو غير مخلقة، ما أجله وما رزقه؟ وشقي أم سعيد؟ وهكذا ملائكة يتعاقبون فينا بالليل وملائكة بالنهار: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] .
وكما يقول العلماء: مع كل إنسان أربعة من الملائكة، أحدهم عن أمامه، والآخر عن يساره حفظة له، وهناك ملائكة يكتبون عليه أعماله: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وكذلك ملائكة موكلون بالسؤال في القبر وهما منكرٌ ونكير، وإن كان ابن رجب أو غيره ينفي هذه التسمية ويقول: (عبادٌ مكرمون) ، (كرام كاتبون) فهم كرامٌ وليسوا مناكير.
قالوا: منكر ونكير، أي: ليسوا على خِلقة الملائكة ولا على خلقة البشر، بل لهم شكل خاص، وبعضهم يقول: ملائكة المؤمن مبشر وبشير، وملائكة غير المؤمن منكر ونكير.
إذاً: الملائكة طوائف لا يحصيها إلا الله.
فهناك من وكل بأعمال العباد، وهناك من خلق لعبادة الله وحده، كما جاء في الحديث (البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة) ، وهناك من الملائكة من قد يرسل من الله بشيء خاص، كما جاء في صحيح مسلم: (بأن جبريل عليه السلام كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ سمع صوتاً فرفع رأسه إلى السماء، وقال: هذا باب في السماء فتح اليوم لم يفتح قبل اليوم قط، ثم قال: هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل إلى الأرض قبلها قط، ثم جاء وقال: السلام عليكم يا محمد! أهديك نورين، وذكر له الفاتحة وخواتيم سورة البقرة) ، وجاء في الأحاديث الأخرى تأتي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي الفاتحة وسورة البقرة ليلة الإسراء والمعراج من كنز تحت العرش.
وفي غزوة بدر لما كان صلى الله عليه وسلم يرتب المسلمين ويصفهم عندما نزلوا أول منزل، فجاء الحباب بن المنذر وقال: يا رسول الله! أمنزلٌ أنزلكه الله فلا قول لأحد، أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والمكيدة، قال: فإن الرأي عندي أن نتقدم إلى آخر بئر ونبني لنا حوضاً نملؤه ماء، ونغور بقية الآبار.
وإذ هو في هذه الحالة فإذا بملكٌ نزل وجبريل مع رسول الله في أرض المعركة، فقال: يا محمد! إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: الرأي ما قال الحباب، فنظر رسول الله إلى جبريل وقال: أتعرف هذا يا جبريل؟ فقال جبريل: ما كل ملائكة السماء يعرفها جبريل، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] .
فقال جبريل: ما كل ملائكة السماء يعرفها جبريل، ولكن ظاهر عليه أنه ملك وليس شيطاناً، فالجنس يعرف جنسه، وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى حيث أشار الحباب، ويهمنا أن ملكاً نزل بهذا.
وفي عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف لما اشتد أمر المشركين على رسول الله، قال جبريل: يا محمد! هذا ملك الجبال، إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل هذا، وهكذا السحاب له ملك يسوقه، وهكذا العالم كله بتدبير الله على ما يلقي من الأوامر على الملائكة.(6/3)
وجوب الإيمان بعالم الملائكة الغيبي ودليله
نحن إن لم نشاهد الملائكة فإننا آمنا بالله الذي أرسل رسوله وأنزل كتابه، وآمنا برسول الله الذي بلغنا عن الله وأخبرنا بوجود الملائكة، هل نقول: لا نؤمن بها لأننا لم نرها؟ لا والله، بل من لطف الله بالأمة أن يري بعض أفراد الأمة بعض آحاد الملائكة، وهذا ما أشرنا إليه عند قضية ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لما جاء العباس يستأذن على رسول الله ولم يأذن له وهو يراه بعينه داخل البيت، فرجع مغضباً، فقال له ابنه: لعله مشغول بالرجل الذي عنده، قال: وهل عنده أحد؟ قال عنده رجل: فرجع، ولما رجع كان الرجل قد ذهب، فقال: يا رسول الله! جئتك أستأذن عليك ثلاثاً فلم تأذن لي، ويقول هذا الغلام: إنك كنت مشغولاً برجل عندك، فقال صلى الله عليه وسلم للغلام: (هل رأيته يا غلام، قال: بلى رأيته، قال: هذا جبريل ذهب عني آنفاً) .
وجاء في صورة دحية الكلبي.
وكذلك قضية الرجل من الأنصار: خرجت مع أهلي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقاوم رجلاً، فجلست وظننت أن له حاجة، ثم صرت أرثي لطول قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب الرجل جئت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته، قال: (هل رأيت الرجل؟ قال: قلت: نعم، قال: تدري من هو؟ هذا جبريل، ولو سلمت عليه لرد عليك السلام، وما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) .
وخديجة رضي الله تعالى عنها لما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهراً، وكان من عادته أن يذهب هو وعلي رضي الله تعالى عنه في أي مكان من الأمكنة يعبدان ربهما، فلما غاب عنها قامت تطلبه، وخافت عليه من قريش، وأخذت غداءه معها، فلقيها جبريل في صورة رجل، قال: إلى أين أنت ذاهبة يا خديجة؟ قالت: ذاهبة إلى محمد، قال: وأين محمد؟ قالت: لا أدري.
فلما وجدت رسول الله وجاء إلى البيت جاء جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (أقرئها من الله السلام، وأن الله يبشرها بقصرٍ في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، يرى ظاهره من باطنه) ، إلى آخر الحديث، وهذه خديجة ترى جبريل في صورة رجل.
وكذلك الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم أتم المائة بالعابد، وخرج تائباً إلى القرية التي يعبد الله فيها، فمات في وسط الطريق فأتته ملائكة العذاب وملائكة الرحمة يختصمون فيه، فيرسل الله إليهم ملكاً في سورة رجل فيحتكمون إليه.
وكذلك الرجل الذي خرج يزور أخاه في الله في قرية، فأرسل الله إليه ملكاً على صورة إنسان، وقال: أين تذهب؟ قال: أزور أخاً لي في الله.
قال: هل بينك وبينه قرابة أو شراكة في تجارة؟ قال: لا، قال: أحبك الله الذي أحببته فيه.
إلى غير ذلك من الصور التي هي من آحاد رؤية بعض البشر لبعض الملائكة.
إذاً: على بقية أفراد البشر أن يؤمنوا ببقية أفراد الملائكة، وقد جاءت النصوص في عمومها تشمل أركان الإيمان المذكورة، قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] ، إلى غير ذلك، وهذا ما ينبغي على كل مسلم أن يؤمن به، أي: بأن لله ملائكة على أية حالة أو أي صفة كانوا.(6/4)
مسألة المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر
هناك قضية قد يخوض فيها بعض الناس وقد يكف عنها البعض، ونحن نشير إليها لأنه ربما يتناولها طالب علم، وهي: أي الفريقين أفضل من الآخر البشر أم الملائكة؟ وهل هناك مفاضلة بين الملائكة وبين بني البشر، أم ليست هناك مفاضلة؟ خير ما تقرأ في ذلك أيضاً: شرح العقيدة الطحاوية، فقد ذكر كلام الفريقين، وذكر بعض كلام العلماء في الإعراض عنها؛ لأنها لا يترتب عليها حكمٌ فقهي، ولأننا لسنا مسئولين عنها، ولكن إن عرض القول فيها فهناك من يقول: مؤمنو البشر وخواص المؤمنين والأنبياء خيرٌ من الملائكة، ويستدلون بأن الله لما خلق آدم ثم علمه الأسماء عرضهم على الملائكة، قال: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ} [البقرة:32-33] ثم قال: اسجدوا له، فلما خلق الله آدم بيده وأكرمه بالعلم، أمرهم بالسجود إليه.
ولكن أجاب عن ذلك الفريق الآخر: بأن يوسف عليه السلام حينما جاءه أبواه خروا له سجداً، وليس معنى ذلك أن يوسف أفضل من أبيه ومن سائر أهله، والسجود طاعة لله بأمر الله وهو امتثال لأمره، والسجود لا يقتضي الأفضلية؛ لأنه تكريم من الله لآدم وليوسف إلى أشياء عديدة في هذا الباب، ولكن كما أشرنا: لا حاجة إلى الخوض فيها، ولسنا مسئولين عنها، ولم يأت حديث صحيح صريح في هذا الباب، ومن أراد الاستزادة في هذا المبحث بالذات فليرجع إلى الطحاوية ففيه الكفاية.(6/5)
علاقة الملائكة بالبشر
وكما أن الملائكة في الدنيا فهم كذلك في الآخرة، وقد بين الله سبحانه ارتباط مؤمني البشر بالملائكة كما في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] الآية، وهذا نوع من الملائكة.
كما أن بعض المفسرين كـ القرطبي يذكر عند قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] ، قال: نوع من الملائكة مراقب على عامة الملائكة، وهنا يدخلون في فلسفة: هل الملائكة تحاسب وتسأل أم لا؟ وبعضهم يقول: والروح هو جبريل عليه السلام ومنهم: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] ، وهذا نوع من الأنواع زيادة في ذلك اليوم والله أعلم.
ونحن نؤمن بما أخبرنا الله تعالى به، وأخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7] ، أي: يؤمنون بالله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] ، برابطة الإيمان: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] ، فهؤلاء الملائكة يدعون للبشر، {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ} [غافر:8] ، إلى آخر السياق.
وهناك أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:30-31] ، ولاية وصداقة، ونصرة وتأييد من الملائكة للمؤمنين في الدنيا، وقد وجدنا ذلك فعلاً في غزوة بدر، حيث نزلت الملائكة وكانت تقاتل معهم.
ويوم القيامة: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23-24] ، فهؤلاء الملائكة أولياء للمؤمنين وتنزل عليهم في آخر لحظة، وهم طوائف عدة، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، وعلى هذا: فالواجب على المسلم الإيمان بالملائكة على ما يريد الله من حقيقة ذاتياتهم.(6/6)
الإيمان بالكتب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكتبه) .
الكتب: جمع كتاب، وأصله الكتب والكتابة يقولون: الخياطة، والكِتبة الغربة في القربة أو نحوها، وقالوا: الكتابة مأخوذة من الخياطة؛ لأن الكتابة رصف حرف بجانب حرفٍ كما ترصف الغرزة بالإبرة بجوار الأخرى، ومنه: الكتيبة، أي: جمع الأفراد تحت لواء واحد.
ويقول العلماء: لقد أنزل الله سبحانه وتعالى مائة كتاب، ومائة وعشرين صحيفة، ستين لشيث، وثلاثين لإدريس، وثلاثين لإبراهيم، ويختلفون في عشر، وهل نوح نزل عليه صحف آدم نزلت عليه؟ نحن نؤمن بما أنزل الله سبحانه، فكل كتاب أنزله الله على رسله فنحن نؤمن به، ونؤمن بأن القرآن الكريم هو خاتم الكتب، وقد وعى كل ما سبقه من الكتب، وصار مهيمناً عليها.
وكما يتفق العلماء بأن جميع الكتب السماوية المعروفة: التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى، وما سبق ذلك من الصحف، كلها تضمنها القرآن الكريم، ونحن نؤمن بوجودها، ولا نعمل إلا بخاتمها وهو القرآن الكريم، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عمر حينما جاء بصحيفة من التوراة يقرؤها مستحسناً ما فيها؛ فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: (يا ابن الخطاب ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو جاء موسى ما وسعه إلا اتباعي) .
وبعض العلماء يزيد خطوة ويقول: كل الكتب المتقدمة حواها القرآن، وكل القرآن حوته الفاتحة، ولذا سميت أم الكتاب وأم القرآن، وقالوا في معنى ذلك: لأن جميع أبواب الفقه أو التشريع أو العلوم التي جاءت في القرآن أصولها موجودة في الفاتحة؛ لأن القرآن بكل مدلولاته إما بيان حق لله، وإما بيان للماضي، وإما بيان للمستقبل، وإما بيان لحق الخلق فيما بينهم ولم يبق شيءٌ بعد ذلك.
فمن بيان حق الله: الحمد والثناء على الله، والاعتراف بأنه رب العالمين، وبصفاته: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وبالمستقبل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، وبحقه عليهم أيضاً {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، وبحق الخلق أيضاً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وتاريخ الماضي {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، (صراط الذين أنعمتَ) في الماضي، (عليهم) من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
جاء في التوراة أن الله كتب الألواح لموسى، وجاء في غير ذلك: أن الله أنزلها، ويذكر ابن كثير في قوله تعالى في سورة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ، أن القرآن نزل ليلة أربعة عشر، ونزلت التوراة يوم ستة أو اثني عشر، وبين أن الكتب السماوية كلها أنزلها الله في رمضان: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] .
وعلى هذا: فإن الإيمان بوجود الكتب المتقدمة، وإنزالها من عند الله هداية للبشر، وبياناً للصراط المستقيم، وبياناً لحق الله على الخلق، وفيما يصير عليه الخلائق فيما بينهم.
كل هذا من الواجبات.(6/7)
الإيمان بالرسل
قال صلى الله عليه وسلم: (ورسله) .
الرسل: جمع رسول، ولا يحصي رسل الله في الناس إلا الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] ، ولكنهم يتفقون على عدد معين، ويذكرون منهم أيضاً تمييزاً: أولي العزم من الرسل، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم.
والرسل هم من اصطفاهم الله من خلقه لخلقه، وهم بشر من البشر، لكن اصطفاهم الله وميزهم وطهرهم وأوجب لهم الطاعة بما أنزل عليهم.
وخاتم الرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] ، وهذا ردٌ على اليهود الذين لم يؤمنوا بعيسى ولا بمحمد، وردٌ على النصارى الذين لم يؤمنوا بموسى ولا يؤمنون بمحمد، والأمة الإسلامية تؤمن بجميع رسل الله، ومن جحد رسالة رسول واحد فكأنما جحد الرسالات كلها؛ لأن طريقها واحد.
ولذا نجد الإسلام يقر شهادة المسلم على الكافر، ولا يقر شهادة الكافر على المسلم؛ لأن المسلم يؤمن برسالات الأنبياء كلها التي يؤمن بها الكافر، وزيادة الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والكافر يقف عند حد رسوله موسى إن كان يهودياً، وعند حد عيسى إن كان نصرانياً، ولكن المسلم يؤمن بجميع رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
وهنا يتفق العلماء على أننا مع أننا نؤمن بجميع الرسل؛ لكن ليس لنا اتباع أحد إلا خاتم المرسلين، ولهذا بين صلى الله عليه وسلم أن نبي الله عيسى إذا نزل في آخر الزمان يكون متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد.(6/8)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [5](7/1)
الإيمان باليوم الآخر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) .(7/2)
معنى قوله: (واليوم الآخر)
إن الكلام عن الإيمان باليوم الآخر لهو الكلام عن الإيمان بالدين كله، والإيمان باليوم الآخر لهو الإيمان بكل أحداثه ومجرياته وما يكون فيه.
واليوم: جزء من الزمن على ما يجري تقديره عندنا، ولكن اليوم الآخر على خلاف هذه الأيام؛ لأن اليوم في اللغة هو ما يعقبه الليل، وليس في يوم القيامة ليل ولا نهار بل هو يوم واحد، ولكنه ليس كأيام الدنيا.
(والآخِر والآخَر) يتغايران، (فالآخِر) مقابل الأول: (هو الأول والآخِر) ، (والآخَر) بالفتح المغاير، تقول: جاء زيدٌ ورجل آخَر، وليس الآخَر هو الأخِير، ولكنه المغاير.
(والآخِر) هو النهاية، قيل سمي يوم القيامة يوم الآخِرة، واليوم الآخِر أي: بالنسبة إلى الأول وهو يوم الدنيا الذي بعده أيام؛ وذلك حينما كان العالم في العدم، فخلق الله الخلائق ثم أماتهم، فهذا يوم، ثم أحياهم في قبورهم للسؤال، وهذا يوم، ثم أماتهم إلى البعث، وذاك هو اليوم الآخِر.
وقيل الآخِر: يبدأ من ساعة خروج الروح إلى أن ينزل الناس منازلهم يوم القيامة: فهما داران لا دار للمرء سواهما؛ إما جنة وإما نار، نسأل الله السلامة والعافية.(7/3)
أثر اليوم الآخر على أعمال المؤمن به
الإيمان بهذا اليوم يعتبر القاعدة والمنطلق بعد الإيمان بالله لكل عمل من البشر، فمن آمن باليوم الآخر عمل بمقتضاه؛ فعمل الخير رجاء الثواب، وتجنب الشر مخافة الحساب.
إذاً: الإيمان باليوم الآخر هو قاعدة المنطلق للتكاليف بعد الإيمان بالله ابتداءً واعترافاً بالمولى سبحانه رب العالمين، ثم بعد ذلك يؤمن باليوم الآخِر.
فإن من آمن باليوم الآخِر عمل بمقتضاه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] أي: لذلك اليوم، ولذا لو أخذنا أول ورقة في المصحف سورة الفاتحة يقول الله فيها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5-6] أي: نستقيم عليه حتى نلقاك، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] .
هذا الكتاب هو الهداية، والمتقون هم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] ، وأول إيمان بالغيب هو الإيمان بالبعث، والإيمان بالله ليس غيباً؛ لأنك ترى آيات القدرة الدالة على وجود الله في كل لحظة من لحظات حياتك ترى آيات إثبات وجود الله في شخصك، في أكلك وشربك ونومك ويقظتك وتفكيرك، ونظرة عينك، وسماع أذنك، ونطق لسانك وتنفسك، وكل حركة أو سكون تجد قدرة الله فيها دالةً على وجوده.
لو نظرت في أي عالم من عوالم الكون لوجدت قدرة الله، لو نظرت في شروق الشمس وفي غروبها وفي انتظام هذه الأفلاك وفي إنبات النبات، لو نظرت في إنزال الماء وانشقاق الأرض وإحيائها بعد موتها وإنباتها وإيناعها بثمارها كيف تختلف تلك الثمار؛ تربة واحدة وتسقى بماء واحد ويختلف أكلها؛ يعجز إنسان أن يحيط ولو إجمالياً بآيات الله.
إذاً: الإيمان بالله ليس غيباً؛ لأن شواهد الحال قائمة عليه.
و (ملائكته) : لقد شاهد بعض أفراد الإنس بعض أفراد الملائكة، والواحد من الجنس يكفي في الدلالة على عموم الجنس.
(وكتبه) : لا يستطيع عاقل أن ينفي الكتب السماوية؛ لأنها توارت بها أخبار الأمم.
(ورسله) : كل أمةٍ تشهد على من قبلها بإرسال الرسل، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] ، فكل أمةٍ تشهد على من قبلها أنها جاءها رسول، وهذه الأمة شاهدةٌ على جميع الأمم بأنها جاءتها رسل الله، وقد تحتج الأمم يوم القيامة، كيف تشهدون علينا وإنما جئتم بعدنا {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] .
فنقول لتلك الأمة: نعم جئنا بعدكم وعندنا أخباركم، جاءنا بها صادق مصدوق، إذاً: الإيمان بالرسل ليس محض غيبٍ، فعندنا أخبار متناقلة ومستندها الحس، فكل أمةٍ سمعت وشاهدت وعلمت.
أما اليوم الآخر فلا دليل ملموس محسوس عليه، ما قام يومٌ آخر قبل ذلك حتى يكون عندنا علم منه، ولهذا كان الإنكار فيه شديداً، ونفت كثير من الأمم أو الطوائف شيئاً يقال له: بعث أو حياة بعد موت.
وسيأتي ما جاء في كتاب الله من أدلة ملموسة على إمكان مجيء يوم البعث حقّاً لا شك فيه.(7/4)
كل التكاليف منطلقها هو الإيمان باليوم الآخر
لو جئنا إلى أول الكتاب العزيز لوجدنا أن الإيمان بالبعث هو منطلق كل التكاليف: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:2-3] وتبعاً لهذا {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] يعني: يؤدون الزكاة تبعاً لهذا الإيمان، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] ، على ما أخبرتهم وعلموا أخبارهم كما فعل المشركون عندما جاءوا إلى اليهود وقالوا: أنتم أهل دين وكتاب أخبرونا بكذا وكذا، {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ، يؤمنون بالغيب، يقيمون الصلاة، مما رزقناهم ينفقون، يؤمنون بما أنزل إليك، يؤمنون بما أنزل من قبلك، أما في الآخِرة فقال: يوقنون، لأن الإيمان بالله وملائكته والأمم الماضية والرسل المتقدمة؛ كل ذلك فيه شواهد، ولكن اليوم الآخر يحتاج إلى إيمان ويقين جازم {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:4-5] .
يقول العلماء: هناك علم اليقين وهناك عين اليقين وهناك حق اليقين.
فالإيمان باليوم الآخر يجب أن يكون إيماناً حقيقياً، وهو حق اليقين، وعلم اليقين: العلم الذي لا يعتريك فيه شكٌ ولا تستطيع أن تدفعه، فتعلم يقيناً بأن الكل أكثر من الجزء، والجسم أكبر من الإصبع، وتعلم أنت وكل مسلم في العالم بأن قبلته هي الكعبة، ولا يشك مسلم في ذلك، ولو أراد أن يكذب نفسه ما استطاع، فإذا ما قدر له أن جاء إلى مكة وإلى المسجد الحرام، وأطل من باب المسجد ورأى الكعبة في وسطه، هل علمه بوجود الكعبة وهو في بلده يساوي علمه بوجود الكعبة وهو يعاينها أم زاد علمه؟ زاد علمه.
فإذا ما قرب من الكعبة وطاف بها ثم فتح له الباب ودخل إليها وأخذ يتردد في أرجائها، هل يكون علمه حين عاينها كعلمه حينما دخل في وسطها؟ لا.
فالأول: علم اليقين، والثاني: عين يقين، والثالث: حق اليقين، وهكذا الإيمان بالآخِرة يجب أن يكون واصلاً إلى اليقين الذي هو حق اليقين.
ولذا أنت تصلي وتحافظ على الصلوات، وتصوم وتتحمل الظمأ في شدة الحر، وتتحمل الرحلة إلى الحج، وتخرج من مالك الزكاة والصدقة موقناً بأن هناك يوماً يأتي تأخذ فيه جزاءك، وشهواتك ورغباتك تكف عنها، لماذا؟ لأنك توقن بأن هناك يوماً تأخذ فيه جزاءك أو تلقى عقابك، وهكذا جميع التكاليف أفعالاً وتروكاً منطلقها الإيمان باليوم الآخِر.(7/5)
جدال المشركين في التوحيد والبعث
لقد كانت المعركة قوية، والنزاع شديداً، بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في أمرين: كون الله إلهاً واحداً، وكون الناس يبعثون بعد الموت، ومكث صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة وهو يجاهد في هذين الأمرين، وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، ويأتي رجلٌ بعظم بالٍ من سنين ماضية ويفتته بين يديه، ويقول: من يحيى هذه العظام التي قد صارت رميماً؟ ويأتي الجواب بمنتهى الهدوء والإقناع بيقين: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79] .
فالمشركون استعظموا الأمرين: كون الآلهة إلهاً واحداً وهم يؤمنون بآلهة متعددة، ومشكلتهم في التعدد، لو قال لهم: آلهة متعددة؛ واحد في السماء والبقية عندكم ما خالفوه، كما قال عدي حين سأله صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً لك يا عدي؟ قال: سبعة، قال: أين؟ قال: واحد في السماء وستة في الأرض!) ، لو أن الرسول قال: الآلهة ثلاثة أربعة خمسة فلا مانع ولا نزاع، إذاً: هم يؤمنون بمبدأ التأله أو الألوهية، ولكنهم يعددون والرسول يدعوهم إلى التوحيد، فقال: (من الذي لرغبتك ولشدتك، قال: الذي في السماء) .
إذاً: قضية الألوهية موجودة، لكن الخلاف في التعدد.
وقضية البعث هم يستبعدونها؛ ولذا نجد أن القرآن الكريم عُني بهذه القضية، وبإقامة الأدلة عليها بما لا يدع مجالا لشك قط ولو مع أنصاف العقلاء.
لا أقول: كاملي العقول بل أنصاف العقلاء، فإنهم لو تأملوا أدلة القرآن الكريم لما أنكروا يوم البعث، ولو أن الشيوعيين الذين لا يؤمنون بآلهة ولا بأديان ولا برسل ولا بكتب ولا ببعث نوقشوا بهدوء في وجود الله سبحانه وفي وجود البعث لما أنكروا.
الدهريون قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] ، بطون تدفع وقبور تبلع، فهذه البطون التي تدفع من الذي يدفعها ومن أين جاءت؟! لو أعملوا عقولهم وتدبروا لوصلوا إلى نتيجة.(7/6)
أدلة البعث والنشور
ما هي أدلة البعث وأدلة وجود الساعة التي سجلها القرآن الكريم ليتدبرها الخلق جميعاً؟ نجد القرآن الكريم في أوائل ندائه للناس ينادي باسم المسلمين أو المؤمنين؛ بل باسم الناس؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من واجب الناس لا المسلم ولا المؤمن فقط، يقول سبحانه بعدما قسم الناس أمام دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ، وهم المؤمنون: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] .
والقسم الثاني الذين كفروا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] .
والقسم الثالث: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] .
ثم جاء بعد هذا التقسيم الثلاثي واقع الناس أمام هذه الدعوة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21] ، الناس: من ناس ينوس إذا تحرك أو صوت؛ لأن العالم لهم حركات على وجه الأرض: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] ، الرب الخالق، المصلح المدبر، المسيطر المسير، لكن فسره بما بعده: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] ، فهل ينفي إنسان بأن الله هو الذي خلقه، لقد ألزمهم الله بالقاعدة المتقدمة: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] ، لو أنهم نظروا في مجيئهم إلى هذا الوجود، ولعلموا أنهم لم يخلقوا من عدم ولم يخلقوا أنفسهم، وأن لهم خالقاً وهو الله.
{اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ، أي تكونوا متقين مؤمنين، وتقدم أنهم {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] ، وتقدم: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ، وهنا قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] .
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] ، عند هذه الآية الكريمة يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أقام الله في هذه الآية ثلاثة أدلة على وجود البعث والجزاء والحياة بعد الموت، أما الأول فقوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] ، ففيه إثبات البعث حين يقيم المولى سبحانه الدليل للإنسان من نفس الإنسان، وأقوى دليل في ذلك آية (يس) التي أوردناها؛ لأن الإنسان إذا تذكر وجود نفسه، وكيف جاء إلى الحياة، عرف أن الذي أوجده أول مرة قادر على أن يعيد مجيئه، ولذا قال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79] .
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:58] ، جئت زوجك وجاء المني، وذهب في طريق ولا تعلم أين ذهب، ولكن {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:59] ، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] ، فقد كنت ماءً مهيناً، {نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] ، أبوك من أين جاء؟ طريق طويل.
هناك أبونا آدم الشيخ الكبير، {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] .
نطفة جاءت، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] ، تقول: إنه ذهب في التراب، تقول إنه تفتت، تقول: إنه كذا الله سبحانه بكل خلق عليم، وهو الذي خلقه أول مرة، فهو قادر على أن يعيده، وهو أهون عليه.
فلو أن الإنسان لم ينس إيجاده، وتذكر كيف جاء لما سأل هذا السؤال؛ فالذي خلقهم أول مرة قادر على أن يعيدهم {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] ، فهذا دليل أول بأن الله سبحانه خلق الإنسان وأنه سيبعثه.
أما الدليل الثاني: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22] ، فانظر إلى هذه العوالم سفلية وعلوية، وهذا الكون العظيم الذي خلقه الله وسيره ودبر أمره، فيما نشاهد في الأرض من محيطات تتلاطم وما فيها من عوالم لا يعلمها إلا الله، وهذه الأرض وما عليها من جبال رواسٍ وما ينتب فيها من نبات، وهذه السماء وما فيها من أفلاك وكواكب، وما فيها مما نشاهد، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] .
والقادر على خلق الأكبر أهون عليه خلق الأصغر.
أما الدليل الثالث؛ فقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] ، فالماء ينزل وتتلقاه الأرض، ثم ينبت النبات من الأرض وقد كانت ميتة، فهذا هو الدليل الثالث، ويوضحه قوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39] .
أرض هامدة يابسة، يأتيها الماء من السماء، فإذ بها تهتز -والفلاح يعرف هذا- وربما تسمع صوتاً للماء وهو يجري عليها أو وهي تتفتح لتلقي هذا الماء في باطنها، ثم إذا بها تنبت، وإذا بها تأتي بالثمار، وبالحبوب وبكل شيء، إن الذي أحياها من موتها لمحيي الموتى، ولو جئنا إلى عدد الموتى من آدم إلى يوم القيامة ما كان أكثر من عدد حبات النبات التي تنبت.
فهذا هو الدليل الثالث.
إذا جئنا إلى الدليل الرابع، وهو إحياء الموتى في الدنيا، ونعاين نماذج ذلك، ونأتي إلى صورة النبأ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:1-9] .
فمن أدلة البعث: الحياة والموت في الدنيا، فهذا هو النبأ العظيم الذين يختلفون فيه، وجلّ المفسرين على أنه البعث.
{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8] والأزواج الأصناف؛ فهل تستطيع قدرة في العالم أن تتحكم في الأزواج والأصناف؟ لا والله؛ فالمرأة تحمل تارة ذكراً وتارة أنثى، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى:49] ، أما أنتم فما عندكم شيء.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:9-11] ، ماذا {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:12] ، أرضاً مهاداً وسبعاً شداداً، {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:13] ، {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14] ، {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:15-17] ، أليست هذه أدلة ألبعث؟ يوم الفصل هو يوم القيامة، لم تختلفون في النبأ العظيم وهذه أدلته؟ ثم نأتي إلى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9] ، هذه الميتة الصغرى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] ، تنام وتغيب عن الوجود، لا تدري ولا تدرك أنها ميتة صغرى، أهل الكهف ناموا ثلاثمائة سنة وتسع سنين بالتوقيت الهجري، فلما استيقظوا قيل: كم لبثتم؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] لم يعرفوا أنها ميتة صغرى، فأنت في كل يومٍ تشاهد آية البعث في نفسك؛ فإن الذي أخمد هذا الجسم والذي أنامه ثم بعد ذلك أرسله وبعثه هو الله، وما الفرق بين هذه النومة وبين تلك في القبر، وبين هذه اليقظة وبين تلك؟ الفرق بينهما: أن الجسم هنا لا زال على تركيبه، وما زال يتنفس ومقومات الحياة فيه، أما هناك فقد تفتتت أجزاؤه في الأرض، ولكن الله قادر على أن يجمعه.
وفي الحديث: أن رجلاً أوصى لأولاده إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم يأتوا في يوم شديد الريح ويذروه على ساحل البحر لينتشر على أمواج المحيط، فجمع الله جسمه من ذرات مسحوقة، وأعاده وسأله: لم فعلت ذلك؟ قال: مخالفة منك يا رب، فقال: قد غفرت لك.(7/7)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [6](8/1)
أمثلة لإحياء الله الموتى في الدنيا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن الله سبحانه أوجد الحياة بعد الموت في الدنيا، وعلى أنواع وصور وأشكال وأزمان، وفي أجناس متغايرة مختلفة، من الإنسان ثم الحيوان ثم الطير، ثم الحوت، ثم الميت غير الطبيعي، وكل ذلك نماذج صارت في الحياة والناس يعاينونها وكما يقولون: نموذج، تجربة، مثال.
فإذا عاينا نموذجاً ومثالاً حكمنا على بقية الأفراد بمقتضى ذلك.(8/2)
قتيل بني إسرائيل
قال الله سبحانه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] .
قتل قتيل في بني إسرائيل وتدافعوا في تعيين القاتل، فذهب القاتل بنفسه إلى موسى، وكان القتيل عمه قتله من أجل أن يتزوج ابنته ويأخذ ماله، فقال: عمي قُتل يا موسى، أريد أن تأخذ قاتله لتأخذ حقي، فتوجه موسى إلى ربه وناجى ربه، ثم قال: ائتوا ببقرة واذبحوها، فقاموا بتعنتهم وما كادوا يفعلون، فلما ذبحوها وفقدت الحياة.
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73] ، فضربوه فأحياه الله، وسألوه عمن قتله، فقال: قتلني فلان، ثم اضطجع، فكهذا الإحياء لهذا القتيل الذي شاهدتموه وسمعتم منه بآذانكم، يحيي الله موتاكم، وهذا نموذج في شخص قتيل.
وهنا نبه العلماء: إذا كانت النتيجة إحياء هذا القتيل بضربه بجزءٍ من البقرة ولماذا يذبحونها ولا يبقونها على قيد الحياة؟ قالوا: لا، إنما ضرب ببعضها بعد أن صارت ميتة مثله، لأن الميت لا يهب حياة، فلو ضربوه وهي في حياتها لقيل: عملوا له توصيلة، مثل السيارة المعدومة البطارية توصل لها من السيارة الصالحة فتوصل البطارية العاطلة بها، ويعمل لها اشتراك وتيار يتوصل إليها وتشتغل السيارة، ولكن هنا جاءت الحياة من البقرة المذبوحة إلى القتيل فردت إليه الحياة والميت لا يعطي حياة.
إذاً: إذا حيي القتيل بعد ضربه ببعض من بقرة ميتة، فمن أين جاءته الحياة؟ من الله، وقد شاهدتم ذلك، فكذلك يحيى الله الموتى!(8/3)
قصة موت العزير مائة سنة
مثال آخر: العزير عليه السلام حينما مر بالقرية، وقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259] ؛ لأنها خاوية على عروشها، {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259] ، فوجد الحمار عظاماً بالية.
هو أول ما نشأت نفسه كيف جاء؟ لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يريه ذلك بنفسه، قال: {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة:259] ، {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} [البقرة:259] أو ننشرها، ننشزها.
{فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] ، طعام يمكث مائة عام لم يتغير، وطعام الشام فواكه، يأخذون من التين ومن العنب ونحوه، وليس هناك تحنيط وهو نائم، ولا هو محفوظ في ثلاجة! إنها قدرة الله سبحانه، فلما رأى الحمار قام والعظام تأتي تتشابك، فقال: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] ، فهذا إنسان أماته الله ومعه حماره، وليس الإنسان فقط بل والحيوان.(8/4)
إحياء الله لأهل الكهف
قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:10-11] ، {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ} [الكهف:19] .
وقال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25] ، ولكن في تلك النومة: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:18-19] ، {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف:21] .
فلما أرسلوا أحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً، وجد أهل المدينة عملة قديمة من أمم ماضية منذُ ثلاثمائة سنة، فسألوهم: أين كنتم؟ من أين هذه العملة؟ من أين جئتم؟ قالوا: كنا نائمين، وجئنا نأخذ طعاماً، قالوا: إن الدولة التي تحملون نقودها هذه لها مئات السنين.
فلما جاء الملك وجاء الناس إلى إخوانهم وعرفوا أن هؤلاء من تلك الأمم وبعثوا الآن ماتوا جميعاً، وعلم الأحياء قدرة الله على البعث؛ لأن الله الذي أحيا هؤلاء بعد النوم، وبعد اللبث في الكهف ثلاثمائة سنة، وجاءوا يمشون على الأرض يطلبون الطعام، فعلموا أن الله قادر على إحيائهم مرة أخرى، {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21] .
وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم أو أكثر أو أقل، لكن هناك جماعات خرجوا من ديارهم {حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} [البقرة:243] ، فماتوا، {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] .(8/5)
إحياء الله لقوم موسى عليه السلام
موسى عليه السلام يختار من قومه جماعة ويطلبون من موسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [النساء:153] فيموتون.
فيرجع موسى إلى ربه، فيأمره بالرجوع إلى الناس ويقول موسى: رب لو شئت لأهلكتنا من قبل، وأهلكت الناس جميعاً، لكن هؤلاء تحملني جريمتهم عند الناس؛ فيرحمه الله سبحانه، ويحييهم له ويرجعون مع موسى عليه السلام.
فسواء كان فرداً أو قوماً أو ألوفاً، قتيلاً أو ميتاً ميتةً طبيعة، قد عادت الحياة إليه وهم يعاينون، وجاءنا القرآن يبين لنا ذلك، فوالله لكأننا نشاهد هذا عياناً.(8/6)
إحياء الله الطيور لإبراهيم عليه السلام
نأتي بعد الإنسان والحيوان إلى الطيور.
إبراهيم عليه السلام لما سأل ربه، وقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260] ، أي: أما عندك اليقين بالبعث يا إبراهيم؟ قال: بلى عندي، ولكن ليطمئن قلبي ويصل إلى حقيقة اليقين وعين اليقين، لا مجرد الإخبار، فقال: خذ أربعة من الطير وليس طيراً واحداً؛ لأن العملية كبيرة، فيأخذ أربعة طيور، يقول بعض علماء التفسير: ديك وطاووس وغراب ونسر، وأشياء ذكروها في كتب التفسير، ويهمنا التنويع.
قال تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة:260] ، قالوا: إنه أخذ الطيور وقطعها أجزاءً ثمانية أجنحة، وأربعة رءوس وثمانية أرجل، فمزقها وخلطها حتى اختلطت الدماء بعضها ببعض، وأخذ جناحاً من هذا ورجلاً من ذاك ورأساً لهذا وذهب به إلى الجبل، وأخذ جناحاً من ذاك وتتمة من هذا ووزع الأجنحة والأرجل والرءوس المختلفة، رأس النسر مع جناح الغراب، وجناح الديك مع رأس الطاووس، ثم قال: تعال يا نسر، تعال يا طاووس.
لما قال: تعال يا طاووس، الطاووس عنده جناح هنا، وجناح هناك، ورجل هنا ورجل هناك، عندها كل جزء من أجزاء هذا الطائر الذي دعاه يأتي إليه ويتركب بعضه مع بعض ويتكامل ويقوم طائراً بجناحيه على ساقيه.
تلك الأجزاء الممزقة كيف جاءت وتلاءمت وعرف بعضها بعضاً؟ وإذا جاءت وعرف بعضها بعضاً، كيف التحمت؟ الآن أرقى ما وصل إليه الطب زرع الكلية أو القلب لإنسان موجود، لكن هذه الأجزاء زرع عضوٍ خارجي يتحرك بكل لوازمه، لكن إلى الآن ما وصلوا إلى ذلك الالتحام.
وهذه الدماء التي ذهبت في التراب، كيف توافرت وتميزت وهو سائل ممتزج؟ كيف انفصلت كرياته الحمراء والبيضاء؟! وهنا يقال: إبراهيم عليه السلام طلب الاطلاع على الكيفية، والكيفية هي سر الصنعة، فهل المولى سبحانه أطلع إبراهيم على كيفية مجيء الجناح وكيفية التحامه وكيفية الحيوية فيه، وأطلعهُ على سر الصنعة؟ لم يطلع على كنه الإحياء؛ لأن هذا خاص بالروح، والروح من أمر الله، ولا يقوى عقل بشر على أن يطلع على ذلك أو يستوعبه، فهذه طيور إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة السلام.(8/7)
حوت موسى وإعادة الحياة إليه
نأتي إلى عالم البحار، فنجد حوت موسى عليه السلام، فإن موسى سأل ربه: هل هناك أحد أعلم مني؟ ليس هذا ادعاء العلم من موسى واستيعابه، ولكنه رغبةٌ في استزادة العلم، أي: إن كان هناك أحد أعلم مني أذهب إليه لأستزيد منه علماً، لا يظن أحد بأن موسى تطاول وادعى أنه أعلم الموجودين، ولكنه تطلع وتواضع من العالم في أن يطلب من هو أعلم منه ليستزيد من علماً.
فقال الله: نعم، عبدٌ من عباد الله اسمه الخضر، قال: أين مكانه؟ قال: مجمع البحرين، قال: وكيف أعرف مكانه؟ قال: خذ حوتاً يكون زاداً لك، ويكون موضع الحوت يخبرك عن مكانه، فخرج موسى عليه السلام مع فتاه، حتى إذا قال: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} [الكهف:62-63] .
في الآية الأولى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:61] السرب، والسراب: الشيء الممتد الذي تراه من لا شيء، و (سرباً في البحر) أي: اتخذ طريقاً ويشق طريقه في الماء كما لو جاء زورقاً ومشى بسرعة فإنه يترك وراءه سرباً في الماء -علامة- كي يكون سلوكه في الماء محسوساً ملموساً يشاهده الإنسان.
فهذا حوت كما يقول المفسرون: مشوي مملوح يحملونه لكي يتغدون به، قال الغلام: لا أدري عن الموضوع، ولا يدري عن السر الذي بين موسى وبين ربه، معه غلام رفيق له في الطريق ومعهما الغداء، وقال: أعطني الغداء، هذا الحوت المشوي المملوح يعيد الله إليه الحياة ويرجع إلى الماء ويسري فيه كما كان قبل أن يخرج من الماء، فمن الذي رد إليه الحياة وعاد إلى ما كان عليه؟! كل ما سبق من الأمثلة يعد من أدلة البعث التي اشتمل عليها كتاب الله، وهي أمثلة ملموسة للأمم كلهم، وقد جاءنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بذلك، وقد التزمنا بالتصديق بما يأتي به، وذلك من لوازم (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، وآمنا بالملائكة الذين جاءوا بالكتاب، والكتاب فيه البعث، وفيه تلك الأخبار كلها، ولهذا لم يعد أمر البعث مستغرباً أو مستبعداً؛ لأننا شاهدنا آثار وجوده وآحاده في الحياة.
ومن هنا كان الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان، وكان هو منطلق الالتزام بالتكاليف فعلاً وتركاً، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(8/8)
الأسئلة(8/9)
من مات وأحياه الله لسبب فإنه يموت ثم يحيا مرة أخرى
السؤال
تلك الأنفس أفراداً أو جماعات التي أماتها الله ثم أحياها، هل ماتت بعد ذلك، وهل تحيا بعد ذلك؟
الجواب
نحن قلنا: قتيل بني إسرائيل عاد إلى الحياة وصار يمشي عند الناس أو أدى الشهادة التي عنده، وقال: لقد قتلني فلان ثم مات من حينه، ونحن قلنا بأن هذه الأخبار جاءتنا عن الصادق المصدوق، ونؤمن بها كما لو كنا نشاهدها.
أقول: يذكر علماء السلف من بعض خوارق العادات وبعض كرامات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يضاف إلى تلك الأحداث السابقة، وذلك أنه في بعض الغزوات عند رجوعهم إلى المدينة، مات فرس أحد الصحابة، فقالوا: هات متاعك نحمله معنا، قال: أنظروني أصلي ركعتين وأسأل ربي، فصلى ركعتين وسأل الله أن يحيي له فرسه عارية يوصله المدينة، فانتفض الفرس وقام، وركب حتى وصل إلى المدينة وإلى باب بيته ولم يدخل الفرس داخل البيت، وقال لأولاده: أنزلوا المتاع عن الفرس فإنه عارية! وحينما أنزلوا متاعه سقط على جنبه.
وإذا صح السند لا قول لأحد، فأولئك الذين أحياهم الله لقضية معينة رجعوا إلى ما كانوا عليه إلا قتيل بني إسرائيل، ولكن الألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، الله يقول: (أماتهم ثم أحياهم) ، لكي يبين لهم بأن الموت يدركهم وأنهم غير هاربين منه.
وكذلك الذين اصطفاهم موسى عليه السلام واختار من قومه وذهب للمناجاة فأخذتهم الصاعقة وماتوا، وموسى عليه السلام قد كان اختار خيار القوم، وإذا رجع وحده فماذا يقول لقومه؟ فإنهم سيقولون له: أنت الذي أهلكتهم، ولذا اعتذر إلى ربه من فعلهم وأكرمه الله بإحيائهم ورجعوا معه مرة أخرى، وهؤلاء سيموتون، لكن حينما يأتي الأجل الحقيقي النهائي، والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/10)
حال من أماتهم الله ثم أحياهم في الموتة الثانية
السؤال
هل ذاقوا مرارة الموت في المرة الثانية؟
الجواب
أقف وأقول: الله تعالى أعلم، وهذا شرط بيني وبينكم، من أراد تحقيق ذلك فليرجع إلى النهاية لـ ابن كثير، كتاب النهاية لا البداية لـ ابن كثير، لعله يجد في هذا شيئاً أو يرجع إلى كتب التفسير، والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/11)
الفخذ عورة
السؤال
وضع جبريل يده على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، ألا يدل على أن الفخذين ليسا بعورة؟
الجواب
أقول: لا دليل في ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس جالساً مكشوف الفخذين، إنما هو اللمس وهو كالرؤية، وكل الناس ترى فخذاه وليس ذلك رؤية للعورة، وليس في هذا دليل من ذلك، ويتفق العلماء على أن عورة الرجل من الركبة إلى السرة، وهذا باتفاق، ولا ينظر ولا يسمع لمن يقول: الفخذ ليس بعورة ويستدل ببعض الآثار الواردة في ذلك، ويرويها أيضاً الصنعاني والشوكاني ولكن يردونها، والصحيح أن الفخذين عورة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد.(8/12)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [7](9/1)
حياة البرزخ
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإننا وصلنا في الحديث على أركان الإيمان إلى (الإيمان باليوم الآخر) ، وأوردنا أدلة البعث من كتاب الله فيما يذكره العلماء، وهي أربعة: خلق الإنسان من عدم، وخلق السماوات والأرض، وإحياء الأرض بعد موتها، وإحياء بعض الموتى في الدنيا من الإنسان والحيوان والطيور والحوت.
وقلنا: إن مجرد الإيمان بالبعث أو باليوم الآخر ليس هو المقصود وحده، ولكن المقصود الإيمان بما يكون في ذلك اليوم من أحداث غيبية، ومن حساب وجزاء وعقاب، وما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.(9/2)
خروج الروح
يتفق العلماء على أن بداية اليوم الآخر لكل إنسان بحسبه، أما يوم البعث ويوم الحشر فهو للجميع.
وبداية اليوم الآخر بالنسبة لكل فرد من بداية النزع، ولحظات سكرات الموت ومفارقة الدنيا والإقبال على الآخرة، ولذا يقول الفقهاء: من مات فقد قامت قيامته، يعني: انتهت دنياه وبدأ في طريق الآخرة.
أما الموت فلا ينكره أحد؛ لأنه شيء محسوس معاين، وتحدى الله سبحانه الخلائق كلها أن يوقفوا حركة الموت: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] .
وهل ارتجعت روح إنسان قط؟ لا والله، قد حاول العالم في الآونة الأخيرة إبقاء حياة فردٍ كان يحكم قريباً من نصف العالم، وغاية ما استطاعوا إمداد حركة القلب فقط مع موت الدماغ، والطب يقول: ليس الموت موت القلب ولكن الموت موت الدماغ، أما القلب فإنما هو آلة تضخ الدم، ويمكن الاستعاضة عنه بقلب اصطناعي، أما المخ فلا.
هذا الشخص اجتمعت له أطباء العالم حتى من معسكر خصمه، وبقي أسبوعاً وقلبه ينبض، ولكن ليس هناك حياة، فعجزوا ثم دفنوه واستراح، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:61] ، والمقصود بالساعة الساعة اللغوية، أي: لا يستأخرون عنها.
ومن عند الموت تبدأ أحوال الآخرة وأولها عملياً البرزخ، وكلمة البرزخ بدلاً من القبر؛ لأن البرزخ أعم من القبر، فمن أحرق فهو في برزخ، من أغرق وأكلته الحيتان فهو في برزخ، من أكلته السباع في الخلاء فهو في برزخ.
ويقول ابن كثير: ولو أحرق وذري في الهواء فهو في برزخ، أي: برزخٌ بين الدنيا والآخرة؛ لأن مرحلة وجود الإنسان أولاً في عالم الذر، وعندما أخرج الله ذرية آدم من ظهره، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
هذه مرحلة رجعوا منها إلى أصلاب الآباء وجاءوا منها إلى الأرحام فهي مرحلة.
ثم خرجوا إلى الدنيا، وهي محطة الزرع والتزود وينتقلون منها إلى البرزخ.
وهذه مرحلة.
ثم تأتي المرحلة النهائية وهي يوم القيامة واليوم الآخِر، وبحث العلماء في موضوع البرزخ هو: عذاب القبر ونعيمه وتفاوت الناس فيه، وسؤال العبد في قبره، وكون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار؛ عياذاً بالله!(9/3)
السؤال في القبر
أما السؤال في القبر فبالإجماع أنه واقع، وأشرنا بأن من الملائكة الذين نؤمن بهم: منكراً ونكيراً، وقالوا: هما في حق المؤمن: مبشر وبشير.
ومنكر ونكير، أي: على خلقة ليست على خلقة البشر ولا على خلقة الملائكة، إنما خلقوا لهذا الأمر.
والسؤال في البرزخ واقع باتفاق أهل السنة جميعاً، كما جاءت الأحاديث وتكاد أن تكون متواترة، وفي الحديث عن أنس وغيره قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نقبر ميتاً لنا بالبقيع، فأخذ عوداً وكنا مطرقين كأن على رءوسنا الطير، فقال: وذكر صلى الله عليه وسلم قال: أنا خير الأولين والآخرين يوم القيامة، وساق حديث الشفاعة العظمى، وذكر ما يتعلق بالقبر وقال: إن روح المؤمن إذا حضرتها النزع: وجاء ملك الموت لقبض روحه، جاءت ملائكة الرحمة بحنوط وكفن من الجنة، فلا تمهل الروح في يده طرفة عين، فيأخذونها يكفنونها ويحنطونها بما معهم من كفن وحنوط الجنة، ثم يصعدون بها إلى السماء الدنيا أطيب ما تكون ريحاً؛ فتفتح لها أبواب السماء وتقول الملائكة: من هذا؟ فيقال: فلان بن فلان، ويذكرونه بأطيب أسمائه، ثم يشيعه من كل سماء مقربوها، حتى يصعدون بروحه إلى المولى سبحانه فيقول: أعيدوه إلى الأرض وأفرشوه من الجنة، فإذا أعادوه إلى الأرض وأفرشوه من الجنة، جاءه الملكان وأجلساه وسألاه: من ربك؟ فيجيب: ربي الله، من نبيك؟ فيقول: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقال له: نَم نوْمة العروس.
وفي رواية أخرى: يفتح له باب من النار فيقال: ذاك كان مقعدك لو لم تؤمن، ثم يسد عنه ويفتح له باب من الجنة فيقال: ذاك مقعدك يوم القيامة، فيقول: يا رب أقم الساعة! ثم يأتيه رجل جميل الوجه مبتسم، فيقول له: من أنت! إن وجهك ليبشر بخير؟ قال: أنا عملك الصالح.
والكافر أو غير المسلم -عياذاً بالله- على العكس من ذلك.(9/4)
عذاب القبر ونعيمه
ومن هنا أثبت أهل السنة والجماعة سؤال القبر وعذابه ونعيمه، واستدلوا بالنصوص الأخرى كما في الموطأ في كتاب الجنائز، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت ليعذب في قبره من بكاء أهله) .
ولما سمعت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن ابن عمر رضي الله عنه يحدث بهذا، قالت: رحم الله أبا عبد الرحمن! ما كذب ولكنه نسي؛ إن الرسول قال ذلك في امرأة يهودية: (إنهم ليبكون عليها وهي تعذب في قبرها) .
وسواء كان في امرأة يهودية تعذب في قبرها، أو كان العبد يعذب في قبره ببكاء أهله عليه؛ فقد أثبت كل من الحديثين سواء على رواية ابن عمر أو على رواية عائشة أن في القبر عذاباً، سواء كان لليهودية أو كان لهذا الرجل الذي يبكي عليه أهله.
وقد جاء الحديث من غير طريق ابن عمر كـ عمر وزيد وغيرهم، من: (أن العبد يعذب في قبره ببكاء أهله) .
قالوا: ما ذنبه حتى يعذب بفعل الغير؟ وأجابوا: بأن الإنسان بين أحد أمور ثلاثة: الأول: إما أن يأمر أهله أن يبكوا عليه لزيادة مكانته وإظهار الحزن عليه، كما أوصى طرفة أن يبكوا عليه: إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد الثاني: أن لا يوصي بالبكاء، ولكن يعلم من أهله أنهم سيبكون عليه ولم ينههم وهو حي، وكان الواجب عليه أن يقول: لا تبكوا عليّ، واصبروا واحتسبوا.
الثالث: أنه يعلم ذلك لكنه حذرهم؛ فخرج من العهدة، فيكون الذي يعذب في قبره ببكاء أهله: إما أنه أوصى بذلك، وإما أنه يعلم ولم ينههم عن هذا، فيكون كالذي رضي بما سيفعلون فيما بعد، فيعذب بذلك.
إذاً: القبر فيه عذاب ونعيم، واستدل الجمهور أيضاً من القرآن الكريم فيما يتعلق بفرعون وأهله، {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، أي: يعرضون عليها باستمرار صباح مساء، ويوم تقوم الساعة يدخلون النار، فيكون عرضهم على النار غدواً وعشياً قبل قيام الساعة، وهذا هو رأي الجمهور.(9/5)
ثبوت أنه يفسح للمؤمن في قبره مد بصره
قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حق المؤمن: (ويفسح له في قبره مد البصر) ، هنا بعض الناس كما يقول الطحاوي وابن كثير: يدخلون العقل فينكرون ما جاء في خبر القبر.
والعجب الذي نريد أن ننبه عليه: ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، وهو عالم محدث ليس عرافاً: يذكر في قضية العلاء بن الحضرمي لما ذهب إلى البحرين غازياً لهم فوجدهم قد حازوا السفن إليهم، ودخلوا في جزيرتهم، وكان قد سار حوالي شهرين من المدينة إلى البحرين، فيقف يطالع في البحر والعدو قد انحاز بسفنه إلى الجزيرة، فماذا فعل؟ حينما كان يمشي في الصحراء نفذ ماؤه وماء السرية معه، وكادوا يموتون عطشاً وهم كما يقولون: في الدهناء لا ماء ولا شجر، فدعا الله تعالى؛ فإذا بالمولى سبحانه يغيث جنده، فيرون سحابة جاءت في الظهيرة تأتي على مرأى العين تقصدهم حتى إذا كانت فوق رءوسهم وقفت وتكاثفت وأمطرت عليهم الماء، فشربوا واغتسلوا وسقوا دوابهم وملئوا قربهم ومشوا في أمان الله.
فلما وصلوا إلى البحر ووجد السفن قد ذهبت بأهلها التفت إلى أصحابه وقال: أيها الناس! إني عازم على أمر، لقد أراكم الله في البر آية وهو قادر على أن يريكم في البحر آية، إني عازم على أن أخوض هذا البحر، وتقدم إلى البحر وقال: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله ونحن جندٌ في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن لنعبر نقاتل عدو الله! انظروا الأوامر من أين جاءت، انظروا إلى صياغة القرارات، أنت تجري بأمر الله، ونحن لسنا ذاهبين لتجارة ولا لزيارة ولا لغرض نفسي، بل جندٌ في سبيل الله، ونحن وأنت من جنود الله، وما دام الأمر كذلك فقد عزمت عليك لتجمدن لنعبر نقاتل عدو الله، الذي أنا وأنت تحت أمره، وخاض البحر.
يقول ابن كثير: فما ترجل الفارس ولا واحتفى المنتعل، أي: الذي هو راكب ما نزل، كان لابساً نعله ما خلعه، وعبروا إلى الجزيرة وقاتلوا عدو الله وانتصروا: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] ، فالله ربنا لا يريد منك قوة، فالقوة من عند الله، لكن يريد منك اتجاهاً إليه، وهو يسخر لك العوالم.
لما جاءوا راجعين أدركه مرضٌ في عنقه ومات منه، فدفنوه حيث كانوا، فجاء نفرٌ من أهل تلك الأرض، وقالوا لهم: إن كان ميتكم عزيزاً عليكم فلا تتركوه هنا؛ لأن هذه الأرض إذا جاء الليل تلفظ الموتى ولا تقبلهم، فقالوا: والله ما من حق ابن الحضرمي أن نتركه نهب السباع، فرجعوا إلى قبره وحفروا القبر ونبشوه فما وجدوا فيه شيئاً، ووجدوا القبر مد البصر.
هل يستطيع أن يتدخل العقل في هذا؟ لا.
يقول الطحاوي رحمه الله: وليس ذلك بالغريب أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، وبجواره قبراً آخر هو حفرة من حفر النار؛ لأن الله سبحانه قادر على أن يجعل حجارة القبر محماة حارة على صاحبها ونحن لا نشعر، ولو لمسناها لأدركنا ذلك، وإني لأعجب والله لعقلية هذا العالم الجليل، بل أقول: إن هذا فتحٌ من الله على لسانه، نحن الآن وهذا السلك فيه كهرباء نمسكه كالثلج، وإذا لامس التيار بعضه بعضاً كانت النار المحرقة، ولو انكشف عن هذا الحاجز العازل ولمسه البعير ولمسه أقوى إنسان لصعق في الحال؛ أين النار في هذا؟! الله سبحانه بقدرته قادر أن يجعل القبر بطبيعته ناراً على صاحبه وجاره لا يدرك شيئاً، بل أنت الآن تأتي إلى بيتك تفتح الثلاجة فتجد ثلجاً، وتلمسها من وراءها فإذا هي نار حامية، فلا حرارة الأسلاك خلفها تذيب الثلج، ولا الثلج يطفئ حرارة ما في ظهرها، وإذا كان صنع البشر بتمرير مادة باردة بطبيعتها تدفعه وتتحرك وتوجد هذا التبريد، فالمولى سبحانه أقدر على ذلك.
إذاً: لا ينفي عذاب القبر وأحواله إلا جاهل معاند، وإذا ذهب هناك فسوف يعاين الحق.
إذاً: أول مراحل القيامة البرزخ، وكما قال العلماء: ولو أنه أحرق وذرّ في التراب فهو في برزخ؛ يجد السؤال والعذاب أو النعيم، كما جاء في حديث الرجل: كان فيمن قبلكم من أوصى أهله إذا مات أن يحرقوه ويسحقوه، وفي يوم شديد الريح وعلى حافة البحر يذروه على أمواج المياه، ففعلوا ذلك، فأمر الله الرياح فجمعت ما أخذت، وأمر الله الأمواج أن ترد ما أخذت، وجمع الله خلقته كما كان، وسأله: لم فعلت هذا؟ قال: مخافة منك يا رب، قال: قد غفرت لك.
إذاً: القبر هو البرزخ مهما كانت حالة الإنسان فيه.(9/6)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [8](10/1)
أحداث يوم القيامة(10/2)
النفخ في الصور
من بعد البرزخ يأتي كما يقول ابن كثير والطحاوي وعلماء العقائد: النفخ في الصور، وفي حديث الصور الطويل: أن الله سبحانه أول ما خلق إسرافيل وخلق الصور ألقمه فمه ينظر إلى العرش ينتظر أمر الله له بالنفخ.
ويقولون: النفخات ثلاث؛ الأولى: نفخة الفزع، يفزع فيها من في السماوات ومن في الأرض.
والثانية: نفخة الصاعقة لا يبقى معها حيٌ على وجه الأرض.
والثالثة: نفخة البعث، وعند البعث يجمع الله أرواح الخلائق فيضعها في البوق الذي هو الصور، يقول صلى الله عليه وسلم: (والله إن فتحة البوق -الصور- لكما بين المشرق والمغرب! فإذا نفخ إسرافيل انتشرت الأرواح كالنحل، ودخلت في أجسام أهلها، وانتظروا البعث) .
والأمر في ذلك أحاديثه طويلة، لكن يهمنا البعث من القبور، وخروج الناس، وأحوال ذلك اليوم، فيجب الإيمان بما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الميزان، والصراط، وتطاير الصحف، والعرض، والجنة والنار.
هذه أهم أحوال يوم القيامة، وكذلك ما يتبع ذلك من شفاعة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.(10/3)
الميزان والصراط
أما الميزان والصراط؛ فيختلفون أيهما يكون أولاً.
فبعضهم يقولون: الميزان بعد اجتياز الصراط؛ وقد أجمع العلماء على أن الصراط جسر ممدود على متن جهنم، قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:71-72] .
والصراط كما يقول العلماء: أدق من الشعرة، وأحد من السيف، ويمر الناس عليه بحسب أنوارهم؛ لأن المؤمنين يبعثون من قبورهم بنور الإيمان كلٌ على حسب عمله، منهم من يكون معه النور كالجبل، ومنهم من يكون كالنخلة، ومنهم من يكون كالشمعة، ومنهم من يكون النور في إبهام قدمه ينطفئ تارةً ويضيء تارة، فإذا أضاء مشى وإذا انطفأ قام.
ويمرون على الصراط بحسب نورهم، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم إلخ.
فإذا اجتاز الناس الصراط فهناك يأتي الميزان، ونحن نؤمن بأن الله سبحانه يضع الموازين القسط ليوم القيامة، وهو ميزانٌ له كفتان محسوستان، ولكن هل يوزن الإنسان بعمله أو توزن الأعمال فقط؟ ومن أعظم أحاديث الميزان: حديث البطاقة: بأن رجلاً عرض على الميزان وله تسعٌ وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، وكلها أعمال سيئة فتوضع في كفة سيئاته، فيناديه ربه: هل ظلمك كتبتي أليست هذه أعمالك؟ يقول: بلى يا رب، فيقول: هل بقي لك عندنا شيء؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى! لك عندي أمانة، فإذا ببطاقة مكتوبٌ فيها لا إله إلا الله، يقول: يا ربّ وماذا تفعل تلك البطاقة بتلك السجلات، فيقول سبحانه: لا ظلم اليوم، وتوضع البطاقة في كفة الحسنات فترجح وتطيش كفة تلك السجلات بما فيها.
فلا شيء يوازن اسم الله، هكذا يقول علماء العقائد.
فالميزان موجود وهو محسوس، ولكن قد يقال: كيف توزن الأعمال وهي أمورٌ معنوية؟
و
الجواب
هذا مما ليس لك فيه دخل، بل إننا في الوقت الحاضر نجد موازين متعددة، موازين تزن الحرارة، موازين تزن البرودة، موازين تزن الضغط في الهواء، موازين تزن الكثافة في الحديد وفي الماء، موازين توصل إليها الناس كانت لا تخطر على قلب أحد.
إذاً: توزن الأعمال والصحف والإنسان، وليس في طاقة العقل أن يتكيف معه، وقد جاء في الحديث الصحيح عند مسلم: (سبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض) ، فـ (سبحان الله) تملأ الميزان، كيف وهي أمر معنوي؟ هل تتجسم الحسنات وتصير ملموسة لها ثقل؟ ليس لنا ذلك، الله سبحانه يفعل ما يريد، الذي يهمنا أن الله سبحانه أوجد الميزان.
ويتساءل العلماء: وما الحاجة إلى الميزان؟ بعض الفلاسفة يتبجحون ويقولون: إنما يحتاج إلى الميزان الفوّال والكيال، والله ليس في حاجة إلى ميزان.
والجواب: صحيح أنه ليس في حاجة إلى هذا كله، ولكن: لماذا لا تقولون: ما فائدة الصحف؟ ولماذا لا تقولون: ما الحاجة إلى وجود ملائكة كرام كاتبين؟ فإن الله لا يحتاج شيئاً من ذلك.
لكن المولى يقيم الحجة على الخلق لئلا يحتج أحدٌ على الله، فكما جعل كراماً كاتبين وجعل صحفاً، كذلك جعل الميزان لتقوم الحجة على الخلائق.(10/4)
الحوض
ومن الميزان إلى الحوض، وبعض العلماء يقول: إنه بعد الصراط والميزان، والقرطبي يرجح أن الحوض قبل هذا كله، لحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذا المسجد فأغفى إغفاءة ثم انتبه يتبسم، فقالوا: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليّ آنفاً سورة خيرٌ من الدنيا وما فيها: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ، أتدرون ما الكوثر؟ نهرٌ في الجنة آنيته عدد النجوم) ، وفي حديث ذكر حوضه صلى الله عليه وسلم.
وقالوا في الجمع بين الرواتين: إن الكوثر نهرٌ من أنهار الجنة فيه ميزابان يصبان في حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قدره كما بين مكة وبصرى، عليه أكوابٌ عدد نجوم السماء، تربته المسك واللؤلؤ.
وهنا جاء الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من يأتي بعدك ولم ترهم؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً، أكان يعرفها من بين الخيول؟ قالوا:بلى) ، والغرة: بياض الجبين، والتحجيل: والحجل هو موضع القيد للفرس، أي: في اليدين، فإذا كان الموضع فيه بياض فهو حجل، وهذه علامة خاصة بهذه الأمة.
وفي تتمة الحديث: (إن هذا العرض على الحوض هي المفازة الأولى) ، فحينما يبعث المنافقون مع المؤمنين والكل معه نوره، {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} [الحديد:12] ، فهنا المؤمنون يمضون في طريقهم بأنوارهم، فإذا ما وردوا على الحوض جاءت ملائكة تفرز الناس، فيذودون أقواماً عن حوض رسول الله لا يردونه، فينادي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (أمتي أمتي! فتقول الملائكة: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، إنهم غيروا وبدلوا، يقول صلى الله عليه وسلم: فأقول: سحقاً وبعداً لمن غير وبدل) .(10/5)
موقف أهل النفاق في الآخرة
قال تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، الكل يبعث بنوره حتى المنافق، لكن عند العرض على الحوض يمضي المؤمنون بنورهم ويرد المنافقون فتطفأ أنوارهم، وهناك ينادون: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أي: انتظرونا نمشي في نوركم، أو انظروا إلينا نقتبس نوراً: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} [الحديد:13-14] ، الريب هو الشك، وهذا الشك هو النفاق.
ولكن لماذا يبعث المنافقون بالأنوار مع المؤمنين؟ هو تفسير قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8-9] ، فكانوا يخادعون المؤمنين ويقولون: إننا آمنا، وإذا رجعوا إلى قومهم قالوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] .
فتركهم الله على نفاقهم واستفادوا بظاهر قولهم: آمنا، ولهم نصيب في المغانم والميراث والزواج، ويعاملون في ظاهر الأمر معاملة المؤمنين، ولكنهم يبطنون الكفر في داخلهم، وهكذا يستهزئون والله يستهزئ بهم؛ فإذا جاء يوم القيامة بُعثوا بأنوارهم وظنوا أن الخدعة مستمرة وأنهم مع المؤمنين في الأنوار، حتى تأتي المفرزة، فهناك يردون على أعقابهم وتطفأ أنوارهم ويطلبون من المؤمنين أن ينظروهم ليلتمسوا منهم النور، فيردونهم ويقولون: لا، ارجعوا فالتمسوا نوراً من ورائكم، وهناك تنتهي الفاصلة: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد:13] ، من جهة المؤمنين، {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] من جهة المنافقين.(10/6)
أنواع الشفاعة يوم القيامة
الحوض هو المرحلة الأولى، ثم تتطاير الصحف، ثم يكون العرض على الصراط، ثم يكون الميزان، ثم المصير بعد ذلك إما إلى الجنة، وإما إلى النار، وهناك الشفاعة، وبعضهم يذكر الشفاعة قبل ذلك، والصحيح أن الشفاعة هي آخر شيء حينما يمر الناس وحينما يصعب الأمر ويشتد على الخلق.
وبعضهم يقول: تكون الشفاعة العظمى قبل ذلك، ثم تأتي الشفاعات الشخصية الفردية.(10/7)
الشفاعة العظمى
والشفاعة العظمى -كما ذكر علماء السنة- أنها للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المقام المحمود الذي خصه الله به، يغبطه عليه الأولون والآخرون، وتكاد أحاديث الشفاعة تتواتر، وما نفاها إلا بعض الخوارج والمعتزلة، وبعضهم ينفي البعض منها ويثبت البعض.
ومجمل قضية الشفاعة حينما يشتد الأمر على الخلائق، وتدنو منهم الشمس -كما في الحديث- مقدار ميل، وهل هو ميل المكحلة أو ميل المسافة؟ الله أعلم.
يشتد الموقف على الجميع حتى يلجم الناس بالعرق؛ منهم من يكون إلى صدره أو ترقوّته أو ركبته حفاةً عراة غرلاً، وتقول أم المؤمنين: (واسوأتاه يا رسول الله! أيجتمع الرجال والنساء حفاةً عراة وينظر الرجال إلى النساء؟! قال: يا عائشة الأمر أخطر من ذلك، كلٌ مشغول بنفسه) .
فيموج الناس بعضهم في بعض ويتمنون فصل القضاء والنهاية ولو إلى النار، فيقول بعضهم إلى بعض: ألا تذهبون تستشفعون إلى ربكم، فيأتون آدم: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه وأسجد لك ملائكته إليك، وأسكنك الجنة، وعلمك الأسماء، ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول آدم عليه السلام: نفسي نفسي، إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، وقد نهاني ربي عن الشجرة فأكلت منها فأستحيي أن أسأل ربي شيئاً، اذهبوا إلى نوح، فيأتون إلى نوح: يا نوح عمرك الله في قومك، ونجاك بالسفينة، ألا ترى ما نحن فيه؛ اشفع لنا عند ربنا لفصل القضاء.
فيقول: أما أنا فقد استعجلت بدعوتي فدعوت على قومي فأهلكهم، إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضبه قبله مثله، اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، فيأتون إلى إبراهيم ويستشفعون به.
ويذكر إبراهيم عليه السلام الكذبة التي قالها، ويقول بعض العلماء: ليست بكذبة؛ لأنه لما جاء إلى مصر وأراد ملكها أخذ سارة، فلما علم ذلك وخاف عليها قال لها: إن سألك فقولي هذا أخي، وأنا أخوك في الإسلام.
إذاً: ليست بكذبة، والله سبحانه أكرمها وكشف عنها الشر، ولما علم ذلك الملك وعرف مكانتها ومنزلتها وأخدمها جارية وأهداها غنماً وإبلاً، والجارية هي هاجر، وسارة وهبتها لإبراهيم فيما بعد، وإبراهيم رزق منها بإسماعيل، وإسماعيل عليه السلام هو جد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو العرب، والرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل الكتب للملوك يدعوهم إلى الإسلام كتب إلى المقوقس ملك مصر، وكانت الإسكندرية عاصمتها آنذاك، فأكرم رسول رسول الله، وسأله المقوقس وقال: أليس تقول: إن محمداً نبي؟ قال: بلى، قال: لم لم يدع على قومه حينما أخرجوه ليلاً في هجرته، قال: ألست تقول: عيسى نبي، قال: بلى، قال: لِم لَم يدع على قومك حينما أرادوا صلبه؟ قال: إنك رجل حكيم، ثم قال: أخبر رسولك أني أومن به، ثم أراد أن يعلن ولكن خاف من بطارقته، وأهدى إلى رسول الله جاريتين وغلاماً وبلغةً وكسوة وطيباً وعنبراً، فأعطى النبي إحدى الجاريتين لصحابي، واختص بـ مارية القبطة التي رزق منها بـ إبراهيم.
بهذه المناسبة يقول صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط، إنكم ستفتحون مصر فاستوصوا بأهلها خيراً؛ فإن لهم ذمة ورحماً) ، يحفظ صلى الله عليه وسلم حق قطرٍ بكامله في رحم امرأةٍ واحدة.
نرجع إلى إبراهيم وإلى ذاك الموقف العظيم، حينما يموج الناس ويذهبون إلى آدم ويردهم إلى نوح، ثم يردهم نوح إلى إبراهيم، وكلٌ يعتذر، فيقول إبراهيم: اذهبوا إلى موسى، فيأتون إلى موسى فيعتذر، ويقول: لقد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروح منه، فيأتون إلى عيسى فيعتذر، ولم يذكر ذنباً، ثم يقول: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فيقول صلوات الله وسلامه عليه: (أنا لها، أنا لها، فآت فأسجد تحت العرش فيلهمني الله بمحامد لم أكن أعرفها من قبل ولم يلهمها أحد قبلي، فأحمد الله ساجداً ما شاء الله، ثم يقال لي: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع؛ فأقول: أمتي أمتي) .
والرواية الأخرى لـ أحمد وغيره: (فيأذن المولى سبحانه وتوضع الموازين، ويأتي المولى ويبدأ الحساب والعرض) ، وهذه هي الشفاعة العظمى والمقام المحمود؛ لأنها شفاعة لفصل القضاء بين الخليقة كلها، وهو مقام يغبطه عليه الأولون والآخرون.(10/8)
الشفاعات الأخرى
ثم بعد ذلك يشفعه الله سبحانه في أقوامٍ -وهي الشفاعة الثانية- تعادلت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع لهم فيدخلون الجنة، أي: بترجيح حسناتهم على سيئاتهم وبشفاعته صلى الله عليه وسلم.
الشفاعة الثالثة والرابعة: قوم يستحقون النار فيشفع فيهم فيدخلون الجنة دون دخول النار، ثم بعد ذلك يفصل بين الخلائق، ويدخل أهل النار النار، ويذهب بأهل الجنة إلى الجنة فيجدون الجنة لم تفتح، فيقولون: من يشفع لنا في دخول الجنة، فيأتي صلى الله عليه وسلم ويطرق الباب ويجيبه رضوان خازن الجنة، فيقول: أنا محمد، فيقول: أمرت أن أبدأ بك، لا أفتح لأحد قبلك، فيدخل أهل الجنة الجنة.
ثم يرجع صلى الله عليه وسلم إلى ربه ويسجد كما سجد أولاً، ويلهمه محامد كما ألهمه أولاً، ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع، فيقول: يا رب شفعني فيمن كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان من أمتي، فيشفعه الله، فيذهب ويخرج هذا الصنف، ثم يرجع بعد ذلك ويقول: يا رب! شفعني فيمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيشفعه الله فيهم، ثم يرجع الأخيرة: يا رب شفعني فيمن قال: لا إله إلا الله من أمتي، وهنا يقول سبحان الله: شفع النبيون والمؤمنون والصالحون والملائكة المقربون، وبقي أرحم الراحمين، ويخرج من النار إلى الجنة كل من قال: لا إله إلا الله.(10/9)
طلب الشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما حكم من طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم اليوم، فيتفق علماء السلف: بأن الشفاعة لا تكون بالشخص على سبيل الإقسام به على الله، فلا يقسم على الله بأحد، ولا بالتوسل بشخصية إنسان، فأنت لا تملك تلك الشخصية، ولكن بإيمانك وبمحبتك وباتباعك لهذا الشخص وهو النبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن الله وبما جاء به رسول الله، وبقدر إيمانك ومحبتك لرسول الله واتباعك له تكون شافعاً في غيرك.
والنصوص في ذلك: أن الله سبحانه جعل الشفاعة كرامة للشافع والمشفوع فيه؛ لأن الشفاعة حقٌ لله، ولا يظن إنسان أنها كشفاعة أهل الدنيا، حاشا وكلا؛ لأن الله يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] .
إذاً: الشفاعة يوم القيامة تكون أولاً كرامة للشافع كما أكرم الله سيد الخلق بالشفاعة العظمى، والمقام المحمود، وكذلك الصالحون من العباد يكرمهم الله، وجاء في الحديث: (إن العالم ليشفع في أربعين بيتاً من جيرانه) .
فالشفاعة كرامة من الله للشافع، وإكراماً من الله للمشفوع فيه، وهل يشفع إنسان في إنسان أدخله الله النار بغير إذن من الله؟ لا يمكن هذا.
نحن في الدنيا من أجل طلب الشفاعة يجب أن نكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسألها من الله، فنقول: اللهم إنا نسألك بإيماننا بك، ومحبتنا لرسولك واتباعنا لما جاءنا به، أن تشفعه فينا يا رب العالمين، نسأل الله تعالى أن يشفعه فينا وأن يجعلنا من أهل شفاعته، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا بيده الشريفة شربةً هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.
وبعد: فإن هذا الذي أوردناه هو مجمل ما يلزم على المؤمن أن يؤمن به تبعاً لإيمانه باليوم الآخر، وإن في اليوم الآخر أحداثاً ووقائع وأموراً يجب على المؤمن أن يؤمن بها قبلها عقله أو لم يقبلها؛ لأن وراء الموت عالم غيب، ولهذا كان الإيمان بالغيب منطلق الالتزام بالتكاليف فعلاً وتركاً كما أشرنا إلى ذلك، ودللنا عليه بقول الله: {ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1-3] .
ومن أهم الإيمان بالغيب: الإيمان باليوم الآخر، {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:3-4] .(10/10)
زيادة الإيمان ونقصانه
هذا الإيمان بأركانه، ويتفق علماء السلف على أنه يزيد وينقص، وخلاف العلماء في أن الإيمان يزيد وينقص لا نريد أن نطيل الكلام فيه، فمن الأئمة من يقول: لا زيادة ولا نقصان، وجمهور السلف على أن فيه زيادة وله نقصاناً.
وليس هناك خلافٌ حقيقي فيما أظن؛ لأن الذين يقولون إنه لا يزيد ولا ينقص ينظرون إلى الإيمان اللغوي الذي هو التصديق، والذين يقولون: يزيد وينقص ينظرون إلى الإيمان الشرعي الذي أمرنا به، وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
ومما قاله العلماء في زيادة الإيمان ونقصانه: لو أردنا أن نوازن بين إيمان أبي بكر رضي الله تعالى عنه وعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وزيد بن ثابت، وبين إيمان الناس في هذا الوقت، هل نجد معادلة بين إيمان أبي بكر بجميع معانيه وإيمان عامة الناس اليوم؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح بها) ، ونحن نعلم بأن أمور التصديق تزداد بالأمارات والعلامات، وأشرنا سابقاً إلى علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وبأن كل مسلم في مشارق الغرب يعلم يقيناً وجود الكعبة قبلة له، فإذا جاء إلى الحج ورآها عند باب المسجد زاد علمه بعين يقينه بوجود الكعبة أكثر مما كان يعلم وهو في بلده، فإذا جاء إليها وطاف بها ولمسها، وإذا فتح الباب ودخلها؛ كان إيمانه بالكعبة أقوى من إيمانه بها وهو عند باب المسجد.
وهكذا السلف الصالح عاينوا الأمارات، ولابسوا وشاهدوا وعايشوا المعجزات، وعاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يستوي هذا الفريق مع ذاك؟! والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا وحبيبنا محمد.(10/11)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [9](11/1)
السؤال عن الساعة في حديث جبريل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد بقي في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام سؤاله الأخير: (أخبرني عن الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها؟) .
وسؤال جبريل عليه السلام عن الساعة إنما هو لتعليم الحاضرين، ولأنهم قالوا: جاء رجل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أسئلة ما كان ينبغي إيرادها، منها أنه قال: إني تزوجت وامرأتي حبلى، فأخبرني ماذا حملت؟! إني خلقت ووجدت فأخبرني متى أموت؟! إنا في الدنيا فأخبرنا متى تقوم الساعة؟!(11/2)
معنى الساعة
الساعة لغةً: جزءٌ من الزمن أو لحظة، وفي اصطلاح العامة: جزءٌ من أربع وعشرين جزءاً من اليوم والليلة، وشرعاً: هو اليوم الآخر.
وسميت القيامة أو اليوم الآخر ساعة مع أنه فوق خمسمائة ألف سنة؛ إما لتسمية الكل ببعضه، أو لأن العبرة في ذلك بأوله، أي: أول مجيء هذا اليوم، أو بما يكون فيها من مباغتة الناس لحظة، أي: أول مجيئها.
والمهم أن السؤال عن الساعة إنما هو عن يوم القيامة، وقد سماها الله سبحانه كذلك، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55] ، تقوم الساعة، أي: القيامة، يقسم المجرمون على أنهم ما لبثوا في الدنيا غير ساعة، أي: ساعةً زمانية وجزءاً من اليوم.(11/3)
حكم السائل والمسئول عن الساعة
لما قال جبريل عليه السلام: (أخبرني عن الساعة؟) ، أجابه صلى الله عليه وسلم بتلك القاعدة العامة، ولكن بأسلوب أعم وأشمل، وإلا فقد كان مقتضى السياق أن يقول له: لست أعلم بها منك، ولكن لتعليم الحاضرين ألا يعودوا إلى السؤال عنها مرة أخرى، فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) .
وهل ذلك خاص بتلك الصورة المسئول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسائل جبريل أو مدى الدهر؟
الجواب
كلما سأل سائل عن الساعة ووجه السؤال لمسئول يكون الجواب: ما المسئول عنها -أياً كان هو ومتى كان السؤال- بأعلم من السائل؛ أياً كان هذا السائل وفي أي زمان ومكان، وهذا هو الذي يفهم من السياق.
ويقول بعض العلماء: إن هذا السؤال قد وقع قبل ذلك بين جبريل وعيسى عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام، ولكن السائل في ذلك الوقت كان عيسى عليه السلام، فلما سأل جبريل عليه السلام انتفض انتفاضةً وقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟ إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم وجوابه بهذه الصيغة يظل قاعدة عامة مطردة كلما سأل سائل ووجه السؤال إلى مسئول ويكون الجواب هو: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) .
وجبريل كان يعلم ذلك، وليس السؤال عن الساعة من حيث هي، فالساعة من حيث هي مسلمٌ بها من كل مؤمن بالبعث، ولكن السؤال عن زمنها، ومتى تكون؟(11/4)
يوم قيام الساعة
أخفى الله سبحانه وتعالى علمها على الخليقة كلهم، فلم يَطَّلِع عليها ملك ولا نبي ولا إنسان، ولكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم تحديد اليوم الذي تكون فيه وهو يوم الجمعة، كما جاء في رواية الموطأ عند مالك: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه سجدت الملائكة إليه، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائم يصلي يسأل الله حاجته إلا أعطاه، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة في الأرض إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة من بعد صلاة الفجر حتى مطلع الشمس إشفاقاً من الساعة) ، أي: إذا كان يوم الجمعة بعد صلاة الفجر فأنها تصيخ الدواب بسمعها وتنتظر سماع نفخة الصور لقيام الساعة.
وهذا من آيات الله: أن البهائم العجماوات تؤمن بقيام الساعة، وتعين يوم الجمعة من الخميس قبله أو السبت بعده، وتعلم أن يوم الجمعة هو يوم موعد قيام الساعة، ولكن متى؟ لا يعلم ذلك إلا الله.
وفي سورة يس: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:49-50] .
وروى البخاري رحمه الله: (تقوم الساعة بغتة، ويكون الثوب بين رجلين فلا يطويانه ولا يتبايعانه) ، أي: يأتي الشخص للتاجر كي يشتري ثوباً، فبينما هو ينظر ويساوم تقوم الساعة قبل أن يطوي الثوب البائع، وقبل أن يشتريه المشتري.
(ويحلب صاحب اللقحة حليبها فلا يشرب ما حلب، ويرفع صاحب الطعام الطعمة إلى فِيه فلا يأكلها) وهكذا النصوص الصحيحة في مجيء الساعة بغتة لا يعلم وقتها ولا يجليها لوقتها إلا هو {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:42-46] .
وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله متى الساعة؟ فأجابه جواباً لطيفاً: (ماذا أعددت لها؟) ، أي: ليس المهم أن تسأل عن مجيئها، ولكن المهم أن تعد لها العدة فقال: (ماذا أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله، قال: المرء مع من أحب) .(11/5)
نصائح لطلاب العلم(11/6)
وجوب إرجاع العالم علم ما لا يعلمه إلى الله
هنا يقف العلماء للتنبيه والتأكيد على كل طالب علمٍ: أنه إذا سئل عن شيء لا يعلمه أن يقول: لا أعلم؛ فهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي في الصغيرة والكبيرة، جاءه جبريل على أذىً في نعله وهو يصلي، يأتيه جبريل في كل ما يريد الله إبلاغه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك، بدل أن يقول: لا أعلم، قال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) ، يعني: لا تطمع في جواب من عندي.
ولذا كان علي رضي الله تعالى عنه يقول: (ما أشد بردها على قلبي، أن أسأل عما لا أعلم فأقول: لا أعلم) .
ويذكر العلماء عن مالك رحمه الله: أنه سئل عن أربعين مسألة جاء بها الآتي مسافراً يشد الرحل إليه، فيجيبه عن أربعة فقط، ويقول في الباقي: لا أعلم، فيقول له: ومن يعلم إذا لم تعلم؟ وكيف لا تعلم؟! فقال له: ارجع وأخبر كل من وراءك أن مالكاً لا يعلم.
وهكذا ابن مسعود يقول: (قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) ، ولهذا من أسلم ما يكون لطالب العلم عند عدم المعرفة بالمسئول عنه أن يبرأ إلى الله ولا يحمل ذمته أن يقول بما لا يعلم.
وهذه السنة النبوية، وهذا موقف الخلفاء الراشدين وأئمة المذاهب رحمهم الله وسائر العلماء، والعاقل لا يتخطى ذلك، لا تقل اليوم بشيء لا تعلمه، وربما تأخذ السؤال على أنه علم، ثم ينكشف الغيب فيما بعد بأنك قد أخطأت فيما قلت وأنك قلت بما لا تعلم، فكيف يكون الموقف؟ وفرقٌ بين من يتعمد القول فيما لا يعلم بأنه يعلم، وبين من يجتهد فيما إذا كان الموقف موقف اجتهاد ولديه أداة المجتهد؛ فيبذل الوسع ثم يقول بما وصل إليه علمه.(11/7)
الاجتهاد المأذون به شرعاً
جاء في بعض المواقف عن السلف في موقف الاجتهاد ما يصادف الحق؛ فيكون شدة الفرح عنده خير من الدنيا وما فيها؛ فقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه: أنه خرج إلى الشام في عام عمواس، فلما وصل إلى تلك القرية جاءه أمراء الأجناد في الشام قبل أن يدخل الشام بمراحل وأخبروه أن الطاعون قد فشا هناك.
فقال لـ ابن عباس: اجمع لي مشيخة المهاجرين، فجاءوا.
فسألهم: ماذا ترون؛ أنمضي بالجيش أم نرجع من الطاعون؟ فاختلفوا عليه، فمنهم من قال: أردت الخروج في سبيل الله فلا ترجع، ومنهم من قال: معك شيوخ الصحابة ووجوه القوم فلا تقدم بهم على هذا الطاعون ليهلكهم، ونرى أن ترجع، قال: قوموا عني.
ثم قال: أدخل عليّ شيوخ الأنصار، فاختلفوا عليه كما اختلف شيوخ المهاجرين، ثم قال: ادع لي من هنا من مشيخة قريش، فجاءوا فما اختلف عليه واحد منهم، وقالوا: نرى أن ترجع ولا تقدم على هذا الوباء ومعك خيار أصحاب رسول الله وبقيتهم.
فأعلن: إني مصبح على ظهر -أي: راجع- ولما أصبح جاءه عبد الرحمن بن عوف ولم يكن حاضراً، فقال: يا أمير المؤمنين! عندي في ذلك علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون بأرضٍ فلا تدخلوا عليه، وإذا نزل بكم في أرضٍ فلا تخرجوا منها فراراً منه) ، فكبر عمر، فقال: الحمد لله الذي وفقني لما أراد رسول الله.
وكذلك عبد الله بن مسعود لما جاءه السؤال في المرأة التي عقد عليها زوجها، ولم يسم لها صداقاً، ومات قبل الدخول بها، فدفع السائل عنه، فذهب إلى غيره ومكث الرجل أربعين يوماً في الكوفة يطلب من يفتيه فلم يجد، ثم رجع إليه مرة أخرى، قال: لم أجد ولن أرجع حتى أسمع الفتوى، فقال: أقول فيها برأيي؛ فإن أصبت فمن الله وبتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، أرى أن لها صداق مثيلاتها -بنت عمها وبنت خالتها وأختها-، ولها الميراث، وعليها عدة الوفاة؛ لأنها مأخوذ عليها.
فلما سمعه رجل من الصحابة جالس قام وقال: أشهد بالله لقد حكمت فيها بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، ففرح بذلك فرحاً شديداً لموافقته الحق بما اجتهد فيه.
والاجتهاد في الأحكام من خصائص الإسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بكتاب الله، ونصوص الكتاب آيات معدودة، وجاءت نصوص السنة النبوية وهي مهما كان مبلغها فأعدادها محصورة.
وكما يقول الأصوليون: النصوص محدودة، والأحداث -أي: طول الزمان- ليست محدودة، فلا يمكن أن تقف غير المحدودة عند المحدودة، فما يستجد من الأحداث التي لا تتناهى لا نتركها هملاً، ولا نفرغها عن حكم شرعي بل نرجع إلى القواعد العامة التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنطبق عليها القواعد العامة، وتندرج تحت هذا العموم، ويكون باجتهاد المجتهدين.
وأجمع العلماء على أن الاجتهاد من خصائص الإسلام، ومن ادعى قفل باب الاجتهاد فهو مخطئ.(11/8)
أهلية الصحابة للاجتهاد
أرشد النبي صلى الله عليه وسلم بأن علماء هذه الأمة، بل صدر الأمة جميعاً، تأهلوا ليكونوا قادة للعالم كله، وذلك في غزوة تبوك، فإنه لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وفي أيام من أيام سفره ذهب يتوضأ لصلاة الفجر، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يبعد إذا أراد الخلاء، فأبعد طويلاً وكان معه المغيرة بن شعبة، فتأخر عنهم وطال انتظارهم، فخافوا خروج الوقت بطلوع الشمس، فتشاوروا فيما بينهم: ماذا نفعل؟ ننتظر رسول الله فيخرج الوقت! أم نصلي الفرض الواجب علينا؟ فاتفقوا على أن يصلوا وقدموا رجلاً منهم، فلما صلى بهم إمامهم ركعة وقام للركعة الثانية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حضر، فهم المغيرة أن ينبه إمامهم ليرجع ليقوم النبي مقامه؛ وهذا حق الإمام الراتب، لو تأخر وجاء وقد أقاموا رجلاً منهم، فهو بالخيار؛ إن شاء أخره وقام مقامه، وإن شاء صف مع الناس.
فـ المغيرة رضي الله تعالى عنه أراد أن ينبه إمامهم ليرجع إلى الصف ويتقدم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنهاه رسول الله، وصف هو والمغيرة في صفوف المسلمين، ولما سلم الإمام قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتم الركعة التي فاتته، ولما سلم عظم على المسلمين أنهم يصلون أمام رسول الله، فهون عليهم وقال: (ما قبض الله روح نبي حتى يصلي خلف رجل من أمته) .
هذا الإشعار ليس حدثاً تاريخياً فقط: (ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلي خلف رجل من أمته) ، فلقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة وهم في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، لا يعرفون حقاً ولا ينكرون منكراً، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجعلهم سادة وقادة؛ إذ مهمة الرسول في الأمة: أن ينبه ويرشد ويعلم، ولكأنه بهذا قد ربى جيلاً، وربى قادة، وأوجد مجتمعاً الواحد منهم أصبح صالحاً لقيادة أمة، وأن يأتم به رسوله معه؛ بأي شيء؟ باجتهادهم بعملهم وبتحصيلهم، والباب واسع كما في حديث لـ معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، ثم قال: (بم تقضي يا معاذ؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلوا، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وإن كان بعض الناس يطعن في هذا الحديث لسنده، فالجمهور جميعاً على ما في هذا الحديث من هذا المبدأ.
وأدلة الاجتهاد لا تحتاج إلى إيراد، إنما يهمنا أن العالم إذا سئل عما لا يعلم فليقل: لا أعلم، وليتوقف وليسأل من هو أعلم منه.
وقد جاء في الموطأ: أن ابن عباس اختلف معه رجل، هل يغسل المحرم رأسه أم لا؟ فقال: يا فلان! اذهب إلى أبي أيوب الأنصاري، وقل له: إن ابن عباس يسأل كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فذهب الرجل، قال: فوجدت أبا أيوب يغتسل بين قرنين -القرنان هما البنايتان- ودونه ثوب يستره، وعنده غلام يصب له الماء، فسلمت عليه وأخبرته بما أرسلني به ابن عباس، فأخذ الثوب وطأطأه حتى ظهر رأسه، وقال للغلام عنده: صب يا غلام، فأقبل بيده وأدبر، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم، فرجع إلى ابن عباس وصاحبه وأخبرهما بما كان.
ولما اختلف عثمان رضي الله تعالى عنه ورجلاً آخر في الرجل يجامع أهله ولم ينزل؛ هل يسقط عنه الغسل لحديث: (إنما الماء من الماء) ، أو يغتسل لحديث: (إذا جلس بين شعبها ثم جهدها فقد وجب الغسل) .
وجاء عمر رضي الله تعالى عنه وهم مختلفون في ذلك، فقال عمر لـ علي رضي الله تعالى عنه: ما تقول يا علي في هذه المسألة؟ وهنا يرد علي الجميع إلى منبع العلم فقال: ولم تسألني ولم تسأل غيري وبجوارك أمهات المؤمنين، أرسل إليهن فاسألهن عن ذلك، فإنهن أعلم بهذه القضية؛ فأرسل إليهن وذهب الرسول إلى أم سلمة أولاً فقالت: سلوا عائشة، فذهبوا وسألوا عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: كنت أفعله أنا ورسول الله ونغتسل، وقالت لهم: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاوز الختان الختانَ فقد وجب الغسل) ، وقالت لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل؛ أنزل أو لم ينزل) ، فجاء الرسول إلى عمر وهو جالس، فقال: من فعل هذا وجب عليه الغسل وإلا أوجعته ضرباً وجعلته مثلة لغيره، فانتهى الخلاف.
إذاً: إذا سئل الإنسان عما لا يعلم فإنه يقف، ويكل العلم إلى الله، ثم عليه أن يجتهد، فإن أداه اجتهاده فيما لا نص فيه، أو لم يبلغه النص، ووقف على علم للسلف في ذلك فليقل بما علم، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.(11/9)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [10](12/1)
أمارات الساعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: ففي الحديث: قال جبريل عليه السلام: (أخبرني عن أماراتها؟) ، أي: إذا لم تكن تعلمها وأنا لن أعلمها، فهل لها أمارات وعلامات، أو لا؟ والأمارات: جمع أمارة وهي العلامة.(12/2)
معنى: (أن تلد الأمة ربتها)
قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأنت ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ، في هذا الموضع من هذا الحديث يكثر إيراد آراء العلماء على قوله: (أن تلد الأمة) .
الأمة: هي المرأة المملوكة بملك اليمين، والتي أخذت في أسارى الحرب من الميدان في المعركة؛ لأنه لا إماء إلا بقتال، أو متولدةً من أمة، وما عدا ذلك فلا رق في الإسلام.
(أن تلد الأمة ربتها) ، والربة تأنيث الربِّ، وجاء في بعض الروايات: (ربّها) ، أي: سيدها، وقد جاء في الحديث: (لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي) ، لكن المقام هنا مقام بيان.
واختلفوا في معنى: (تلد الأمة ربتها) أي: سيدتها، فقيل: أن تلد تلك المرأة المملوكة بملك اليمين سيدتها التي تملكها، قالوا: وهذا موجود في زمن رسول الله، كان يؤتى بالإماء وتوزع السبايا على الرجال، ويولد لهم منهن، وهذا محمد ابن الحنفية ابن علي رضي الله تعالى عنه من سبي بني حنيفة وقيل: وهذا الوجه لا يرد على هذا الحديث؛ لأن السؤال عن أمارات تقع فيما بعد وما وقعت في ذلك الوقت.
وقيل: (أن تلد الأمة ربتها) ، بمعنى: ملكها، بأن تصل السراري إلى بيوت الملك ويتسرى الملك بأمة، وتلد ولداً، ثم يتولى الولد الملك فيكون ملكاً على الرعية ومن ضمنها أمه؛ لكن يقال: كل ملك في العالم فهو ملك على الرعية وقد تكون أمه موجودة، فليس في ذلك جواب.
وقيل: هذا يدل على تفشي التسري حتى تصل الإماء إلى قصور الملوك، وكان العرب يأنفون أن يستمتعوا بالإماء ويتنافسون على الحرائر.
وقيل: قد يكثر الإماء ويكثر التسري بهن، وتباع الأمة وهي حامل، ثم تلد، ثم يشتريها رجل وتكون عنده وتلد ولداً يشتريه آخر ثم يعتقه، ثم يشتري هذا المعتق هذه المرأة التي ولدت هذا الولد، فيملك أمه وهو لا يدري.
وقيل: قد يكثر التسري، فيشتري الرجل الأمة، وتحمل منه وتضع له ولداً، ثم يبيع المالك المرأة ويبقى الولد، وتتناولها الأيدي بالبيع وتدور وتستدير وترجع إلى هذا الولد، فيشتريها وهو لا يعلم أنها أمه، وقد يستمتع بها بملك اليمين استمتاع السيد بإمائه وهو لا يدري.
وكل ذلك يقوله العلماء وينتهون بجملة واحدة، هي: أنه تنعكس المقاييس ويحصل الاختلاط وتنقلب الأوضاع، وهذا من علامات آخر الزمان، وقد جاءت النصوص في هذا الباب عديدة، وأفردها العلماء بكتب في الملاحم وأشراط الساعة وغيرها.(12/3)
معنى: (وأن ترى الحفاة العراة)
قال صلى الله عليه وسلم: (أن ترى الحفاة العراة) .
الحفاة: هم الذين لا ينتعلون في القدمين.
والعراة: الذين لا يلبسون شيئاً؛ وهل يصير الناس عرايا مثل إنسان الغابة لا يلبسون شيئاً، أو أن ذلك مبالغة في وصفهم بحالة الفقر وعدم امتلاك شيء؟ (رعاء الشاء العالة) العيلة الفقر، وكثرة العيل الأولاد، وما عال من اقتصد.
يعني: ما افتقر إنسان اقتصد في نفقاته، فالعالة: الفقراء، وغالباً أن الرعاة فقراء؛ لأن ما يرعونه من إبلٍ أو بقر أو غنم لملاكها، وهم خدمٌ عندهم مستأجرون، ثم ينقلب الوضع فيصير هؤلاء الناس وهذا الصنف يتطاولون بالبنيان، وفي رواية: (يتفاخرون) .
وهل البنيان من حيث هو ممنوع؟ نجد في جانب الزهد والورع من يورد آثاراً في النهي عن البناء بالكلية؛ حتى أوردوا عن عيسى عليه السلام أنه سئل: (لِم لَم تبن بيتاً؟ قال: لا أريد أن أدع شيئاً من بعدي أذكر به) .
وعن عمر بن عبد العزيز قيل له: (لم لا تبني بيتاً؟ قال: لا أريد أن أضع لبنة على لبنة ولا خوصة على خوصة) .
هذا مع أننا وجدنا الصحابة والسلف لهم البيوت والرسول صلى الله عليه وسلم بنى الحجرات لزوجاته رضي الله تعالى عنهن، ولكن لم يشيد ولم يتطاول، هذا قصر سعد بن العاص موجود في العقيق، ومن أراد أن يراه فهو إلى الآن قائم بالحجارة والنورة والجص، وقد انهدم بعضه وبعضه قائم حتى اليوم، لكن العبرة بالتطاول والتفاخر، فإذا كان الأمر في هذا الباب لا لمجرد البناء ولكن للتفاخر فيه فلا بأس، فقد كانت حجرات رسول الله لأمهات المؤمنين إذا وقف الواقف ومد يده ربما نال السقف، وحينما أريد هدمها وإدخالها في المسجد قام سعيد بن المسيب وقال: ليت حجرات زوجات رسول الله بقيت؛ ليرى الناس كيف كانت حياة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياته صلى الله عليه وسلم معهن؟! وفي أول الأمر حينما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المسجد كان هناك بستان، فقطع النخيل ووضع الجذوع بدل السواري وسقف المسجد، فقيل في بنائه، فقال: (عريش كعريش أخي موسى) ، أو قال: (الأمر أعجل من ذلك) ، فأخذوه على قيام الساعة، ولكن الظاهر -والله تعالى أعلم- أنه أعجل في الزمن؛ لأن حياته صلى الله عليه وسلم وبقاءه في الدنيا محدود، ومهمته أعظم وأوسع من أن يضيع وقته في بناء عريش أو غيره، ولكن في السنة السابعة من الهجرة لما رجع من تبوك بنى المسجد بالحجر والطين.
يهمنا أن الحديث يقول: ترى هذا الصنف من الناس تنقلب مقاييسهم؛ فبعد أن كانوا عالة حفاة رعاء، فإنهم يتطاولون في البنيان فيما بعد، والتطاول ليس مجرد بناء، بل هذا بنى بيتاً من طابق ويأتي آخر بجواره ويبنيه من طابقين، ويأتي الآخر ويبنيه من ثلاثة، والآخر يبينه من أربعة، وهكذا يكون التطاول هذا استطال وهذا يتفاعل، والتفاعل التقابل أي: يتسابق كل منهم إلى أن يكون بناؤه أطول بناء من الآخر، ولا نريد أن ندخل في تفاصيل في هذا الباب، من أن المباني أصبحت نوعاً من أنواع الاقتصاد أو أزمة السكن، أو شيء من هذا، إنما يهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأمر يكون من علامات الساعة.
ويأتي بعض العلماء من جانب الزهد والورع ويعيبون البناء، ولكن هذا الأمر يدخل في حياة الناس وفي اقتصادياتهم ومعيشتهم وتدابيرهم للحياة، ولا نستطيع أن نوقف هذا التقدم أو التطور، ولكن نقول: لا ينبغي أن يكون تفاخراً وتطاولاً وإيذاء، إذا كان للحاجة فلا مانع، أما للفخر والتطاول على الناس فهذا لا يجوز، وقد وضع الفقهاء قواعد لتطاول البنيان كما ينص الحنابلة.
فمن حق الجار على جاره: أن لا تطيل بناءك عليه فتسد عنه إلا بإذنه، وأن من حق جارك إذا بنيت بيتك وكان جارك بجواره ولم يبن جداراً بجوارك وأراد أن يسقف بيته، فمن حقه أن يضع أطراف خشب السقف على جدارك إذا كان في جدارك قوة تتحمل السقفين معاً، ولذا يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره -مالي أراكم عنها معرضين، والله لألقين بها بين أكتافكم-) .(12/4)
ما يستفاد من منصرف جبريل عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه وسلم
ماذا فعل جبريل بعد ذلك؟ انصرف.
بعض العلماء كـ ابن حجر في فتح الباري يقول: بعض الروايات يذكر فيها قوله: (صدقت) ، كما قالها سابقاً.
والذي يهمنا قول عمر رضي الله تعالى عنه: (فلبثت ملياً) ، أي: كان القوم لا يزالون جلوساً في هذا المجلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ردوا عليّ الرجل) ، أي: هذا الرجل السائل، قال عمر: فطلبناه فلم نجده.
فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! أتدري من الرجل؟ قلت: الله ورسوله أعلم) ، هذه العبارة يستعملها السلف رضوان الله تعالى عليهم حينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً، وفعلاً كل ما لم يعلمه الناس يرد علمه إلى الله وإلى رسول الله، والآن إذا سئلت عن شيء هل لك أن تقول: الله ورسوله أعلم، أو: الله أعلم، وتسكت.
نجد بعض الناس يقول: يجوز أن تقول: الله ورسوله أعلم، وبعضهم يقول: لا تقل الله ورسوله، قل: الله أعلم.
فقط؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهذا فيه إفراطٌ وهذا فيه تفريط.
والوسط في ذلك: إذا كان المسئول عنه من أمور الدين التي لم يخرج علمها عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مانع أن تقول: الله ورسوله أعلم، أما إذا كان أمراً دنيوياً وحادثاً اليوم فلا ينبغي أن تقول: ورسوله، بل تقول: الله أعلم، وهذا الذي ينبغي الوقوف عنده، وأحسن ما يقال في هذا المقام.
قال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، جِبريل، وجَبريل، وجبرائيل؛ كلها لغات في جبريل، وهو مضاف ومضاف إليه، وئيل بمعنى: لفظ الجلالة، ويضاف إليها ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، كلها من باب المضاف والمضاف إليه وهي غير عربية، وهي على حد وزن المضاف عبد الله، فكذلك هنا لفظة: (ئيل) بمعنى لفظ الجلالة.
في نهاية هذا الحديث يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاضرين أن هذا الرجل جبريل، وقد أشار عمر رضي الله تعالى عنه في أول الحديث حينما قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) .
هذا النظيف الظريف الذي هو شديد البياض في الثوب والشعر، وليس عليه أثر سفر، ولا يعرفه أهل المدينة: إما أنه من أهل المدينة فيعرفونه، وإما أنه قادم من خارجها فيكون عليه أثر السفر؛ وكل ذلك لم يكن.
إذاً: ليس من أهل المدينة، وليس قادماً من سفر، فلابد من وجود قسم ثالث، ما هو؟ إنه جبريل.
وقد أشرنا سابقاً بأن من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، وأن أركان الإيمان الستة كلها غيب، تؤمن بالله، الملائكة، الكتب، الرسل، القدر، البعث، وكلها أمور غيبية ليست محسوسة عندنا، ولكن في هذا الحديث فردٌ من أفراد الغيب، وهم الملائكة، يأتي إلى المسجد ويراه المسلمون بجوار رسول الله، ويخبرهم الصادق المصدوق بأنه جبريل.
إذاً: ركنٌ من أركان الإيمان الستة لم يعد غيباً بل أصبح مشاهداً محسوساً، وأشرنا إلى طبيعة جبريل والملائكة، فجِبريل حينما طلبه رسول الله أن يريه صورته على خلقته العادية ظهر إليه في الأفق وقد سده، والأفق هو ما بين السماء والأرض في منتهى النظر.
وأشرنا إلى أن عالم الملائكة عالمٌ نوراني، أعطاه الله القدرة على التكيف في الصورة التي يشاء، وأشرنا سابقاً إلى رؤية ابن عباس جبريل يتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوه العباس معه لم يره، وكذلك قصة خديجة لما ذهبت تطلب رسول الله بطعامه ولقيها وسألها: أين محمد يا خديجة؟ قالت: لا أدري، وذهب عنها، ثم جاء إليه بعد أن لقيته، وقال: السلام يقرئ خديجة السلام، أي: أنها لم تخبر بمكانه خوفاً عليه من المشركين.
إذاً: الملائكة قد يراهم الإنس، ثم ها هو صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم) ، جبريل معلم أو متعلم؟ وسائل أو مجيب؟ جبريل سائل، والرسول جعله معلماً، إذاً: المعلم قد يُعلِّم بطرح السؤال، السائل العالم قد يعلم بسؤاله بقدر ما يعلم العالم بجوابه، ولذا قال العلماء: حسن السؤال نصف العلم، وقد وردت مناهج تعليمية من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسأل الناس ليعلمهم، يسألهم فيما يعلمون ليعلموا حكم ما لا يعلمون، وقد سأل مرة عن شجرة مثلها كمثل المؤمن، فذهبوا في أشجار البادية، ثم أخبرهم أنها النخلة.
ولما سألته امرأة عن أم لها لا تستطيع الركوب، أينفعها أن تحج عنها؟ قال: (لو كان على أمك دينٌ فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: بلى، قال: فدين الله أحق) ، فاستخلص منها الجواب فيما سألت عنه، وأحالها بما لا تعلم على ما تعلم، وهكذا القياس؛ فهو إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق في حكمه؛ لاشتراكهما في علة واحدة.
ويهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، وقد علمهم الإسلام والإيمان والإحسان واليوم الآخر، فجعل صلى الله عليه وسلم الدين عنواناً للإسلام والإيمان والإحسان وما يتعلق بأخبار القيامة.
إذاً: كلمة الدين أعم مسمى، وجاءت الآية الكريمة: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] .
إذاً: الإسلام بمسمى، والدين بمسمى يشمل جميع ما جاء به رسول الله، وهناك أمورٌ لم يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الإسلام ولا الإيمان وهي من الإسلام والإيمان، جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) ، ولم يذكر في حديث جبريل: أن تقيم الصلاة وتصوم رمضان ويسلم الناس من لسانك ويدك.
وجاء أيضاً: (الدين النصيحة) ، وجاء في الإيمان: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) ، وما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا محبته من أركان الإيمان.
وقال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله خاب وخسر؟ قال: من لم يأمن جاره بوائقه) (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه فليكرم جاره فليقل خيراً أو ليصمت) .
الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ وأركان الإيمان ستة، فما هي تلك الشعب؟ قال: (أعلاها: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، فلا إله إلا الله هي أول أركان الإسلام، ومع هذا جعلها من شعب الإيمان، وإماطة الأذى عن الطريق من الأعمال الذي يكتسبها العبد، فجعلها من شعب الإيمان.
وهكذا جمع الجميع أيضاً في الدين، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) ، إذاً: كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في كتاب الله عن الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي، بأي موجب كان؛ فهو دين الإسلام.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(12/5)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث [1](13/1)
علاقة حديث جبريل بحديث (بني الإسلام على خمس)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فقد تقدم الحديث الثاني من هذا الكتاب المبارك، وهو حديث جبريل أنه جاء وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أخبرني عن الإسلام؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، ثم سأله عن الإيمان والإحسان وعن الساعة.
ثم ها هو الإمام النووي رحمه الله يأتي بحديث: (بني الإسلام على خمس) وهو جزء من الحديث الذي قبله، مع أنه اشترط في المقدمة أنه ينتقي ويختار، ومعنى الانتقاء والاختيار عدم التكرار.
فكان من الممكن أن يقول قائل: يجزئ عن هذا الحديث جزء الحديث الذي تقدم قبله، ولكن لفقه النووي رحمه الله، ودقة فهمه في الحديث، جاء بهذا الحديث ضرورة ليتمم جزءاً في الحديث الذي قبله من جهة الحكم، وبيان أهمية ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في سؤال جبريل، وهي خمسة أشياء، فما حكم تلك الخمسة؟ وما مدى ارتباط بعضها ببعض؟ وما أهميتها في ذاتها؟ فجاء النووي رحمه الله بهذا الحديث ليبين أن الإسلام الذي سأل عنه جبريل عليه السلام، وأجاب بمقتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن تلك المسميات هي: بناء الإسلام أي: أركانه! أي: ماهيته! أي: ضروريات وجود تلك المسميات ليوجد الإسلام! إذاً: ليس في هذا تكرار، ولكن فيه بيان لمجمل متقدم.(13/2)
ترجمة ابن عمر راوي الحديث
كنيته أبو عبد الرحمن والكنية: ما صدر بأب أو أم، وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنها يكنى بـ أبي عبد الرحمن كما جاء عن أم المؤمنين عائشة، لما ذكر تعذيب الميت في القبر ببكاء أهله، حيث قالت أم المؤمنين عائشة: (رحم الله أبا عبد الرحمن! ما كذب ولكنه نسي) .
فكان مشهوراً بكنيته وباسمه، فـ عبد الله اسمه، وأبو عبد الرحمن كنيته، وتقدم لنا في عمر رضي الله تعالى عنه أنه أبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب، الاسم واللقب والكنية، وهنا اجتمعت الكنية مع الاسم.(13/3)
فضله رضي الله عنه
يذكر علماء التراجم في ترجمة عبد الله بن عمر من الفضل والكرم والإحسان الشيء الكثير، وأهم ما يُذكر في ذلك أنه أسلم في مكة وهاجر إلى المدينة مع أبيه، ولما كان في غزوة بدر لم يحضرها، وعُرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، فمنعه صلى الله عليه وسلم لصغر سنه، حيث كان في الرابعة عشرة من عمره، وعرض عليه في غزوة الخندق بعدها بسنة فأجازه صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الروايات: (أن الرسول أراد أن يرده في غزوة الخندق، فجاء إلى أبيه عمر وقال: يا أبي! أجاز رسول الله عبد الله بن جابر وأنا والله أصرعه -يعني: أنا أقوى منه وأولى بالجهاد منه- فذهب عمر إلى رسول الله وأخبره، فأحضرهما وتصارعا بين يدي رسول الله، فصرعه؛ فأجازه) .
كانوا يتسابقون إلى الجهاد، وتأبى مروءة أحدهم وهو غلام أن يرد عن الجهاد في سبيل الله حتى يتقدم ويحتج على من منعه وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم! ورسول الله إنما منعه شفقة ورحمة به لصغره لأنه لم يكلف الجهاد بعد، والجهاد فرض كفائي على ما سيأتي الكلام عليه في أركان الإسلام، ومع ذلك دافع واشترك في الجهاد.
ومما يذكر عنه أنه رأى رؤيا في شبابه يقول: كانوا يرون الرؤى، فإذا رأى أحدهم رؤيا ذكرها لرسول الله وفسرها له، وفي بعض الروايات كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال: أيكم رأى رؤيا؟ ويقصون رؤياهم على رسول الله ويفسرها لهم؛ لأن الرؤيا الصادقة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة يراها الرجل الصالح أو ترى له.
قال: فوددت أني أرى رؤيا فأقصها على رسول الله، قال: فرأيت أني على حافة بئر عميق وفيه نار ملتهبة، فإذا برجل يقول: لم ترع لم ترع، ثم ذكر ذلك لـ حفصة، وفي رواية أخرى: أنه رأى أن بيده بطاقة وإنه في الجنة، وكلما أشار إلى جهة في الجنة طارت به تلك البطاقة، فقص الرؤيا لأخته حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنهما، وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم العبد عبد الله لو كان يصلي من الليل) يقول: (والله ما تركت صلاة الليل بعد ذلك) .(13/4)
روايته للأحاديث
وجاء أنه روى عن رسول الله ألفاً وستمائة وثلاثين حديثاً، وهو من السبعة الصحابة أصحاب الألوف في روايات الحديث وهو رابع العبادلة: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير.
وكذلك جاء في الروايات أنه أعتق أكثر من ألف عبد، وحمل على ألف فرس في سبيل الله، وكان من سبب كثرة عتقه العبيد أنه كان إذا رأى عبداً يصلي أعتقه، فقالوا له: يا أبا عبد الرحمن! والله إنهم يصلون يخدعونك؛ لأنهم عرفوا أنك تعتق من يصلي، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له.
وروي عنه أنه كان في حج، وركب بعيراً فأعجبه وكان حسناً، فأناخه ثم قلده وأشعره، وقال: يا نافع! أدخله في الهدي، فكان إذا أُعجب بشيء تصدق به {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فكان يكثر من الصدقة خاصة ما يحب.
ويقولون عنه رضي الله تعالى عنه: إنه مرض واشتهى العنب، فبحثوا عنه فجاءوه بقطف، فإذا بمسكين يقول: أطعموني، قال: أعطوه إليه، قالوا: كيف وقد عنينا من أجله، قال: لقد أحببته ولهذا أتصدق به، فأعطاه للمسكين، فذهب رجل من أهله واشترى العنب من المسكين، ورجع به فقدمه إليه، فإذا مسكين آخر قال: أعطوه العنب، وهكذا ثلاث مرات.(13/5)
قوة التشبيه والبلاغة في حديث: (بني الإسلام على خمس)
يروي عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه الشيء الكثير عن رسول الله، وكان أعلم الصحابة بالمناسك، وأشد الصحابة تمسكاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادةأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) .(13/6)
بناء الإسلام وروابطه القوية
قوله: (بني الإسلام على خمس) يقول علماء البلاغة: البنيان للمحسوس بأساس وجدار وسقف، والمعنويات ليس لها بناء، إنما لها تعابير وألفاظ تؤديها، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، وهو أفصح العرب والعجم، فيبين ويوضح ويبرز المعنوي الخفي في صورة المحسوس الملموس، وهذا هو أسلوب القرآن، وجميع تشبيهات القرآن عند علماء البيان من التشبيه التمثيلي الذي مبناه على التشبيه والاستعارة، وتفصيله يعرفه طلاب البلاغة.
والقرآن الكريم يبين لنا ذلك، انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] ، {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] .
فهذا الذي يدعو من دون الله ضرب الله له مثلاً، بمن يبسط كفيه إلى ما ليس بقابضه، يفرج أصابعه ويمدها إلى ماء في قعر البئر، أو يجري في النهر ويفغر فاه ينتظر أن يأتي إليه الماء، فهل الماء يأتي لإنسان من قعر البئر إلى يد مفرجة الأصابع؟! تخيل كأن بين يديك إنساناً شديد الظمأ، فاغراً فاه، ماداً يده إلى ماء بعيد عنه، تقول وأنت أمامه: لن يصل إليك شيء.
فلم يقل الله في القرآن الكريم: مثل الذين يعبدون العدم مثل الذي يطلب ما لا يدرك؛ لأن هذا خبر يمر ولا يعلق بالذهن، لكن عند أن يصور صورة لها أجزاء وأبعاض تقف أنت عندها؛ كما يقال: رسوم ساخرة (كاريكاتير) .
وهكذا كما بين في أمثلة القرآن في أمر المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17] أتى بحطب وأشعل النار {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] وقبلها: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة:19] فإذا وقفت أنت أمام هذا العرض {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:19] الصيب: المطر، لكن تجد فيه رعداً وبرقاً، تسمع بأذنك فتجزع! ترى بعينك فتخاف، فلكأنك تحكي أو تعايش هذه الصورة {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة:19] كأنه وقع بالفعل {حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:19] من هذا الصوت الشديد، فأنت حينما تسمع هذا الوصف لكأنك في شدة المطر والظلام، وتسمع الرعد وترى البرق، فهي صورة مكتملة.
وهنا يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث (بني الإسلام) والإسلام: اعتقادات بالقلب، وأقوال باللسان، وأفعال بالجوارح، وبيَّن بناءه وقوائمه، فلكأن الإسلام بيت، بل هو حصن، ولكنه حصن حصين، وقوائم هذا البيت ليست مسلحة بالحديد، ولا بالحجر والطين، ولا مبنية بالجيرانيت الذي هو أصلب حجر في العالم، ولكنه مبني بأعمال تستقر آثارها في القلب، وهذه الأعمال أقوى تلاحماً وترابطاً في الأمة الإسلامية من البناء الذي يشد بعضه بعضاً: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد) أي: جسد واحد يجمع مائة مليون أو مائتي مليون؟! ملايين المسملين الآن في العالم! المسلمون تعدادهم عظيم، وأي دين يبني بناءً عظيماً كهذا البناء في الأمة الإسلامية؟! ثم أي بناء يرابط بين أفراد البشر، بين الأخ وأخيه، وبين الأب وابنه، وبين الزوج وزوجه، وبين القريب والبعيد، فيجعل رابطة الإسلام بينهم أقوى من رابطة نسب الأبوة والبنوة؟! أي بناء إذا جئته لتهدمه بمعول هدمته، ولكن بناء الإسلام أقوى على طول الزمن، وقد ساير الزمن طيلة خمسة عشر قرناً ولكأنه بني بالأمس، لم تخلق لبناته! ولم تتخلخل بناياته! بل هو قائم على قوته ولكأنه أقيم بناؤه اليوم! وهذا هو القرآن الكريم يتلى ولكأنه بالأمس أنزل، تقرأ الفاتحة وتسمعها من الإمام مراراً في كل صبح ومساء فلكأنك تسمعها للمرة الأولى، تقف خلف الإمام في رمضان وتصلي خمساً وعشرين ركعة أو نحوها، تسمع فيها الفاتحة تتكرر على سمعك خمساً وعشرين مرة فلكأن الأخيرة هي الأولى.
وهكذا البناء؛ لأن كل تشبيه له ارتباط بالمشبه به برابط الشبه بينهما، ولكن قد يكون وجه الشبه في المشبه أقوى منه في المشبه به كما هو معروف في التشبيه المقلوب، ولكن هذا تشبيه على وجهه عند البيانيين.(13/7)
أمثلة ومواقف تدل على قوة روابط الإسلام
وما دمنا تعرضنا إلى هذه الناحية، فإن من قوة روابط بناء الإسلام فإنه لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، وكان فيها ما كان عند ماء يقال له: المريسيع، حيث نزل المسلمون وذهب غلمان المهاجرين وغلمان الأنصار يستقون الماء، فتزاحم غلامان وتضاربا، فضرب غلام عمر غلاماً لرجل من الأنصار، فذهبوا إلى ابن أُبي وكان معهم وهو رئيس المنافقين يخفي نفاقه، فقال لهم: ألم أقل لكم من قبل: لا تنفقوا عليهم ولا تسعوهم؟ ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمن كلبك يأكلك؛ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
فبلغت المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الفتنة بين المهاجرين والأنصار فشغلهم بالمسير وقت القيلولة، فجاءوا إلى رسول الله يعتذرون عن المشي في هذا الوقت، فقال لهم مقالة ابن أُبي، فجاء ابن أُبي يعتذر بنفسه، ولكن الوحي قد سبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] تلك قضية أثارها ابن أُبي، جاء الوحي بمقتضى ما قال، وهو عند الأصوليين: القول باللازم أو بموجب القول، ومعناه: صدقت يا ابن أُبي، صحيح لئن رجعتم إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولكن لمن العزة؟! قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] .
فلما وصلوا إلى المدينة، فهناك تأتي المعجزة والآية وقوة التلاحم بين أبناء المسلمين، ورابطة الإسلام وأخوة الإيمان، فيأتي عبد الله بن عبد الله بن أُبي ويمسك بزمام ناقة أبيه ويستل سيفه ويقسم بالله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
فأي قوة بناء تربط بين أفراد البناء كهذه القوة؟! مع أنهم يقولون: كان هذا الابن من أعظم الناس براً بأبيه، فبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مروه فليأذن له بالدخول، فدخل بعد إذن رسول الله، وعلم حقاً أن العزة لله ولرسوله.
ثم بعد أيام أشيع عند الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أُبي لمقالته ولإظهار نفاقه، فجاءه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أُبي وقال: (يا رسول الله بلغني أنك قاتل أبي إن كنت فاعلاً لا محالة فمرني أنا آتيك برأسه، فإني لا أقوى أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فأقتل مسلماً بكافر فأهلك) .
ولد يقتل أباه! لماذا؟ لأنه ضنين بأن يرى مسلماً قتل أباه فتأتي الحمية فلا يستطيع أن يصبر فيقتله، فلكي لا يقع في هذا المحظور أراد أن تكون مصيبته على يده لئلا يتعدى على أحد بعد ذلك، وكلاهما مصيبتان: قتل أبيه، وكتم غيظه في قلبه.
فأي بناء يكون أقوى من ذلك؟! قد نقول إن هذا موقف شاب، والحماسة قد تأتي في بعض الشباب، ولكن وجدنا العكس في غزوة أحد لما جاء المشركون فخرج من يطلب المبارزة من صفوف المشركين، وممن خرج لطلب المبارزة ولد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فأراد أن يقوم إليه أبوه أبو بكر؛ لكي يعلم المشركون أن لا هوادة بينهم، حتى قال رسول الله: (يا أبا بكر! أبق إلينا نفسك) أي: نحن نضن بك على القتل، وهنا
السؤال
إذا خرج أبو بكر لمبارزة ولده، فهو إما قاتل أو مقتول، إن قتل قتل من؟ ولده، وإن قُتل قتل بيد من؟ بيد ولده، كلاهما مصيبتان مركبتان، لأي شيء ذابت وذهبت رابطة النسب والدم والتراب، وعلت وسمت وقويت رابطة الدين؟
الجواب
لأن هذه الرابطة الإيمانية لم تكن تربط بين بني البشر فقط، بل إنها ربطت بين حملة عرش الرحمن ومؤمني هذه الأمة، بل ربطت بين الإنسان والحيوان، وبين الإنسان والجماد.
فمن روابطها بين حملة العرش والمؤمنين ما جاء في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] أي: برابطة الإيمان بينهما مع اختلاف الجنس، عالم نوراني في الملائكة، وعالم ترابي في البشر، ولكن الإيمان أنزل أولئك من منزلتهم، ورفع أولئك من موطنهم وارتبطوا برابطة الإيمان: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7-9] .
وهناك: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] تلك الولاية ظهرت في بدر حينما نزلت الملائكة تقاتل معهم بالفعل.
وهذه الرابطة أيضاً ربطت بين المسلمين وبين الحيوانات، بل الوحش من الحيوان كما جاء في الأثر أن الصحابي الجليل الملقب بـ سفينة، وكان عائداً من غزوته فوجد الأسد في الطريق حاجزاً الناس، ولم يستطيعوا أن يمروا، فتقدم إليه وواجهه وقال: أيها الأسد! أنا سفينة صاحب رسول الله، أمرتك أن تجوز عن الطريق، فاجتاز عن الطريق بقدر ما يمروا ومر الناس جميعاً.
ماذا يدرك الأسد من سفينة؟ وما هي الرابطة بينه وبين رسول الله؟ الإيمان، تلك الرابطة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلمان الفارسي، فـ سلمان ليس عربياً، لا هاشمياً ولا قرشياً ولا تميمياً ولا ولا إلى آخره، بل هو رجل فارسي يأتي إلى المدينة قبل مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخرج من بلده فارس لما رأى فيه من فساد علماء بلده، وكان أبوه يوقد النار ويشرف عليها، وعلم أن نبي آخر الزمن سيبعث في أرض الجزيرة، فجاء وأُخذ وبيع، حتى وصل إلى المدينة.
ومن موقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً قال: الآن سأعرف، وكان يعمل في بستان رجل يهودي، فجاء برطب وقال: (يا محمد! هذه صدقة مني عليك، قال: إني لا آكل الصدقة، وقدمها لمن معه) فقال سلمان: هذه واحدة، ثم رجع من الغد وقال: (يا محمد! هذا هدية مني إليك، فأخذها وأكل) فقال: هذه ثانية، ثم لما أراد أن يذهب ناداه تعال: -انظر إلى الثالثة- وكشف له ما بين كتفيه، فنظر إلى خاتم النبوة فقبله، وأعلن إسلامه، وقال: أشهد أنك رسول الله.
فإن الله أعلم رسوله بأن سلمان يعلم من علامات النبوة ثلاثاً: لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة، فلما رأى سلمان الأولى والثانية أخبره رسول الله بالثالثة قبل أن يتكلم بها سلمان، وقال فيه صلى الله عليه وسلم: (لو أن الإيمان في الثريا لناله رجال من فارس) .
ولما كانت غزوة الخندق في السنة الرابعة من الهجرة قسم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى لوائين: لواء للمهاجرين، ولواء للأنصار، فلما جاءوا إلى سلمان اختصموا فيه، المهاجرون يقولون: هو معنا؛ لأنه هاجر إلى المدينة كما هاجرنا، والأنصار يقولون: هو معنا؛ لأنه كان موجوداً بالمدينة قبل أن يأتي رسول الله، فلما اختصموا فيه قطع الخصومة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (سلمان منا آل البيت) فأي شرف هذا؟ ولذا قال سلمان: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم وماذا يريد بقيس أو تميم أو غيرهم بعد أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا آل البيت) ما الذي ربط سلمان الفارسي بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلى نسب في العرب؟ الإسلام.(13/8)
معنى شهادة أن لا إله إلا الله
إذاً: (بني الإسلام) فالإسلام بيت شامخ عظيم، وهو حصن حصين لكل من أوى إليه، ولكل من أقام بناءه، ولكل من التزم بأركانه، ما هي تلك الأركان؟ (شهادة) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو (شهادةِ) بالجر على أنه بدل من (خمس) المجرورة.
(شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ويقول العلماء: شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن الكفر بكل مألوه سوى الله؛ لأن العرب كانت تعبد آلهة كثيرة، وهي مركبة من قسمين: نفي وإثبات، لا إله: تنفي جميع الألوهية في الوجود، ثم يأتي الإثبات: إلا الله، فتثبت ألوهية واحدة لله الواحد القهار.
ولهذا لا يصح إسلام مسلم إذا كان يشرك مع الله إلهاً آخر، فحقيقة لا إله إلا الله: إفراد الله بالألوهية، ومعنى الألوهية: التأله، ومعنى التأله: المحبة والتعبد، فلا يعبد إلا الله، ثم يأتي مع ذلك يعتقد بوحدانية ذات الله، ووحدانية صفاته وأسمائه، لا يشاركه مخلوق لا في ذاته ولا في صفة من صفاته، ولا في اسم من أسمائه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، يفعل ما يريد وهو رب العالمين.(13/9)
معنى شهادة أن محمداً رسول الله
وشهادة أن محمداً رسول الله: التزام بشهادة أن محمد صلوات الله وسلامه عليه رسول من الله إلى الخلق؛ لأن الرسالة تقتضي وجود مُرسَل يحمل رسالة، والرسول لا بد له من مُرسِل، ولا بد أن يحمل رسالة يبلغها لمن أرسل إليهم.
فالإيمان برسالة نبينا محمد تتضمن الإيمان بالله مرسلاً، وبالقرآن الذي أرسل به، وبالسنة شارحة للكتاب، ولذا تدخل كل تعاليم الإسلام ضمن شهادة أن محمداً رسول الله؛ لأنك تلتزم بكل ما جاءك به الرسول في تلك الرسالة.
وقد تكلمنا مراراً على أن الرسالة تشبه في الوقت الحاضر بالسفير المفوض لدولة عند دولة أخرى، حيث يقدم أوراق اعتماده ثم يتكلم باسم الدولة التي يمثلها، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم قدم المعجزات، وجرت خوارق العادات التي أقنعت الصغير والكبير بأنه رسول من عند الله، وبعد ذلك كل ما يأتي به إنما هو من عند الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1-4] .
إذاً: الإيمان برسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم هو الالتزام بكل ما جاء به، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) لأنه جاء به من غير رسالة، ولذا يقول مالك رحمه الله: (من سن سنة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة) ، وذلك لأن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فإذا جاء إنسان وقال: خذوا هذه أضيفوها إلى الإسلام، والإسلام قد كمل، والكامل لا يقبل الزيادة، فلو جئت بكأس مليء بماء ووضعت فيه لؤلؤة، ثم وضعت فيه حجراً كريماً، ثم صببت فيه عسلاً، لفضفض من حواليه وتدفق منه الماء؛ لأنه لا يسع أكثر مما فيه.
وهكذا شهادة أن محمداً رسول الله ترد كل بدعة في الإسلام أياً كان موردها.
وبالله التوفيق، والله أعلم.(13/10)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث [2](14/1)
شرح بقية أركان الإسلام(14/2)
الصلاة وأهيمتها في الدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين؛ سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقوله: (وإقام الصلاة) الصلاة تحتاج إلى كلام طويل، ولكن معلوم أمرها وأن إقام الصلاة هو أهم شيء في الإسلام، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم لما سأله السائل: (أي العمل أفضل؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: الصلاة على وقتها) .
وكما في الحديث الآخر: (والصلاة عماد الدين) فإذا كان البناء من خمسة أعمدة أو خمسة أركان فإن للبيت عموداً في الوسط إذا رفع هذا العمود أقيم البناء، وإذا سقط هذا العمود سقط البناء، ولو كانت الأطراف قائمة؛ لأن هذا العمود هو الذي يثبت البناء ويرفعه، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم في شأن الصلاة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر) ، وجاء في الموطأ عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى عمّاله بالحث على الصلاة، وقال: (ألا إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) .
والعلماء يعقدون مباحث طويلة، هل الكفر في ترك الصلاة مخرج من الملة أم أنه كفر بالنعم، أو كفر دون كفر؟ فجمهور العلماء: على أنه كفر مخرج من الملة.
والبعض يقول: هذا الحديث في عمومه للزجر والوعيد، وقد جاء ما يصرفه عن هذا الظاهر لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن وفاها وأداها بحقها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحفظها ولم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد، إن شاء أدخله الجنة، وإن شاء أدخله النار) فقالوا: هو ممن يدخل تحت المشيئة.
ولكن الأئمة الأربعة اتفقوا على أن تارك الصلاة إذا رفع أمره إلى ولي أمر المسلمين أنه يستتاب، أي: ثلاثة أيام، وعند أحمد حتى يمضي وقت الصلاة الأولى فقط، فإن رجع وصلى خلي سبيله، وإن لم يصل قتل باتفاق الأئمة الأربعة، سواء كان جاحداً لها أو كان معترفاً بفرضيتها، ولكنه تركها عناداً أو كسلاً، فعند الأئمة الأربعة يقتل، ولكن عند أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله يقتل حداً كالزاني المحصن، وكقاتل النفس المعصومة، وعند أحمد: يقتل كفراً.
والفرق بينهما: أن من قتل حداً يعامل معاملة موتى المسلمين، إلا أن الإمام لا يصلي عليه، فترث منه زوجته، ويغسل، ويكفن، ويقبر في مقابر المسلمين، ويصلي عليه أولياؤه.
أما عند أحمد فلا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يورث ماله من بعده، وماله فيء لبيت مال المسلمين، ويوارى في التراب كما يوارى الحيوان عياذا بالله! ومن عظم شأن الصلاة أن الله سبحانه فرض كل أركان الإسلام وحياً بطريق جبريل، والصلاة فرضها على رسول الله مباشرة بدون جبريل ليلة الإسراء والمعراج، وكانت قد فرضت خمسين صلاة، وما زال موسى يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى ربك وسله التخفيف، فقد بلوت الناس قبلك، بلوت بني إسرائيل وكانوا أقوى أجساداً وبناية على دون ذلك فلم يستطيعوا، وكان يستشير جبريل فيشير عليه أن ارجع، فيرجع ويستشفع) فانتهت الخمسون إلى خمس صلوات، وبين سبحانه في الأخيرة: (هي خمس وهي خمسون) أي: في الأجر، والحسنة بعشر أمثالها.
وقد بين الله سبحانه حكمة الصلاة، ولكل ركن من أركان الإسلام فعاليته في سلوك المسلم، وفي روابط المجتمع، أما الصلاة فبين سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فإذا كانت تنهى عن الفحشاء والمنكر فهي عامل صيانة ووقاية للعبد.
ومثلها بنهر جار أمام بيوتكم يغتسل فيه أحدكم خمس مرات كل يوم، أترون يبقى على جسده شيء من الدرن؟.(14/3)
منزلة الزكاة من الإسلام
(وإيتاء الزكاة) .
والزكاة إنما هي في الأموال الزكوية مما تنبت الأرض من الحب والثمار، ومن النقدين الذهب والفضة، وما ناب عنهما من النقود الورقية وأمثالها، وبهيمة الأنعام، وعروض التجارة.
وقد جاء أمر الله سبحانه وتعالى بها، وبين الوعد والوعيد: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] وجاء: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] يقول العلماء: الطهارة والتزكية بمعنى واحد، ولكن تكون التزكية بمعنى النماء، والتطهير بمعنى النقاء، فهي تزكي مال الغني بما أنفق، وتطهر قلب الفقير من الحقد والحسد على هذا الغني فيما أعطاه الله، فإذا ما أخذ الزكاة كان قلبه طيباً لا يحقد على الغني، بل يتمنى له الزيادة.
وبحث الزكاة بحث طويل، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من أدى الزكاة طيبة بها نفسه فقد أجر عليها، ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) .
وهل يكفر مانع الزكاة كما يكفر تارك الصلاة؟ وهل يقتل مانع الزكاة كما يقتل تارك الصلاة؟ جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، ولو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) ولكن يقول العلماء: (قاتل) خلاف (قتل) ؛ لأن المقاتلة تكون عند المنع، أما القتل فهو عقوبة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أمر الزكاة أنه قال: (ومن منعها أخذناها وشطر ماله) ولم يقل: قتلناه.
إذاً: من منع الزكاة لا يقتل، وإنما تؤخذ منه عنوة، وعقوبة تركه أو منعه أن يشطر ماله، فتؤخذ الزكاة الفريضة، ثم ينصف المال ويؤخذ نصف ماله عقوبة له، وهذا من أدلة عقوبة المال في الإسلام، والباب في ذلك واسع.(14/4)
صوم رمضان
جاء الحديث بروايتين عن ابن عمر وعن غيره: تقديم الحج (تحج بيت الله) وجاءت رواية: (تصوم رمضان) فبعضهم يروي رواية تقديم الحج على ما سمع ابن عمر، وقد أنكر عليه رجل فقال: (لا تنكر ما لا تعلم، هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) والرواية نقلية لا يجتهد فيها الراوي.
وبإجماع المسلمين: أن صوم رمضان على كل بالغ قادر ليس مريضاً ولا مسافراً، على الذكر والأنثى والحر والعبد، فكل بالغ مسلم فعليه الصوم ما لم يقم به مانع أو رخصة.(14/5)
حج بيت الله الحرام
وفريضة الحج في العمر مرة، أما الصيام فيتكرر بتكرار الشهر، والصلاة تكرر بتكرار أوقاتها: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] فكلما تكررت الأوقات تكررت الصلاة، وكلما جاء شهر رمضان وجب الصيام.
أما حج البيت فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما أمر بالحج: (قالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت ولم يجبهم، ثم قال: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، الحج في العمر مرة) .
ويقول بعض العلماء: لماذا كان الحج في العمر مرة، مع أن أشهر الحج تتكرر كما يتكرر الصيام بتكرر رمضان؟ قالوا: الحج ليس للأشهر، والأشهر زمن للحج وظرف له، وإنما الحج للبيت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] والبيت واحدوليس متعدداً.
قالوا: لما كان المحجوج -وهو البيت- واحداً اكتفي بحج مرة واحدة، أما الصيام فإنه لذات الشهر: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فكلما جاء شهر رمضان وجب الصيام.
وهكذا أيها الإخوة نجد هذا الحديث مع الحديث الذي قبله يبين أن ما ذكر في جواب جبريل إنما هو بهذا الحديث أركان الإسلام.
ويقول بعض العلماء: لماذا لم يذكر الجهاد؟ لماذا لم تذكر الأمانة وغيرها؟ وأجيب عن ذلك: بأن البناء إنما هو للأركان الأساسية، كما إذا أردت أن تقيم بيتاً فبنيت الأعمدة والجدران فهذا هو قوام البيت، أما ما يكون بعد ذلك من اللياسة والبوية، والخشب، ومن الكهرباء، والماء، والبلاط، ومن تلك التتميمات فهي تتميم الإسلام، إنما الأركان الأساسية التي بها قوام البناء هي ما جاءت في هذا الحديث، فإذا ما سقط ركن منها سقط البيت أو مال من جهته، إذا انهدم عموده الأساسي -الصلاة- سقط كله، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
ولهذا كما تقدم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) فإذا أقمت العمارة كاملة، ونسيت تركيب باب أو نافذة أحدثت نقصاً في تلك العمارة بقدر هذا النقص البسيط، وإذا ما أكملتها وكانت موادها جيدة كان البناء حسناً.
وهكذا يتم تشبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام بالبناء بهذه المواد التي ذكرها صلى الله عليه وسلم.(14/6)
الآثار المترتبة على أداء أركان الإسلام
وهناك حديث آخر يضم إلى هذه الأحاديث الثلاثة ليبين منزلة هذه الأركان في حياة المسلم، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) هذا الحديث يبين لنا آثار تلك الأركان.
(الحمد لله) ثناء على الله بما هو له أهل.
(سبحان الله) تنزيه الله عما لا يليق به، فهي حقيقة لا إله إلا الله.
(وسبحان الله والحمد لله تملآن) هذا بيان الثواب.(14/7)
الصلاة نور
(والصلاة نور) كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في سورة الحديد قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13] وقال صلى الله عليه وسلم: (تبعث أمتي غراً محجلين من أثر الوضوء) نور في الجبين، ونور في القدمين موضع الوضوء.(14/8)
الصدقة برهان
(والصدقة برهان) : الصدقة هي الزكاة، ولكن هنا صدقة وصدق، والصدقة والصدق من مادة واحدة: الصاد والدال والقاف، فالصدقة برهان على صدق من قال: أنا مسلم؛ لأن حياة الناس مبناها المعاوضة، وأنت تدفع الثمن وتأخذ السلعة عاجلة، فإذا تصدقت بمالك ولم تأخذ عوضاً عاجلاً فأين العوض؟ المؤمن بالله واليوم الآخر يتصدق ويخفي صدقته؛ لأنه يتعامل مع من لا تخفى عليه خافية، ويدفع القليل والكثير رجاء ما سيكون له يوم يلقى ربه، فهي برهان على إيمانه بالله، وإيمانه باليوم الآخر، وبأن الله سيظله في ظل صدقته يوم القيامة.(14/9)
الصبر ضياء
(والصبر ضياء) : الصبر يشمل الصوم، ويسمى رمضان شهر الصبر؛ لأنك تصبر على العطش والجوع، والصبر تقوم به جميع الأعمال.
(والقرآن حجة لك أو عليك) إن اتبعته فهو حجة لك ودليل إلى الجنة، وإن خالفته فهو يتبعك ويطالبك، ويوم القيامة له معك موقف.
(كل الناس يغدو فبائع نفسه) إن باعها للرحمن فهي للجنة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] إلى آخر الآية، وإن باعها للشيطان فهذه بيعة خاسرة.
إذاً: (فمعتقها) إن باعها لله، (وموبقها) أي: مهلكها؛ إن باعها للشيطان.
إذاً يضم هذا الحديث إلى حديث (بني الإسلام) وإلى سؤال جبريل، فيتكون عندنا: معنى الإسلام ومعنى بنيانه، ومعنى آثاره على الأمة أفراداً وجماعات.
وبالله تعالى التوفيق.
اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، واجعلنا ممن أقاموا بناء الإسلام، واستظلوا بظله، وعاشوا في حماه، وأسأل الله تعالى أن يرد المسلمين شعوباً وحكاماً، صغيراً وكبيراً إلى الإسلام، فيدخلوا في هذا البناء الفسيح الرحب، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(14/10)
الأسئلة(14/11)
فضل صلاة الجماعة
السؤال
ما حكم من يصلي منفرداً فتفوته الجماعة؟ الإجابة: من إقامة الصلاة أن تؤدى في جماعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ، ولكن الجمهور يختلفون: هل الجماعة شرط في صحة الصلاة؟ فالجمهور على أن الصلاة تصح ولو منفرداً لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرء في جماعة أفضل من صلاته في بيته بخمس وعشرين درجة -أو- بسبع وعشرين جزءاً) فقالوا: إذا كانت تفضل عن صلاته فرداً، فالمفاضلة تدل على التساوي وزيادة أحد الجانبين، فزيد أطول من عمرو، معناه: عمرو طويل ولكن زيداً أطول منه.
إذاً: تشترك الصلاة منفرداً وجماعة في الصحة، ولكن الصلاة في الجماعة تفضل على الصلاة منفرداً.
وجاء في حديث آخر: (إذا كان أحدكم في غنمه، أو كان في بر وجاء وقت الصلاة؛ فليؤذن وليقم وليصل، فإنه يصف وراءه من الملائكة ما بين المشرق والمغرب) وجاء أيضاً: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) وذكر صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أدركته الصلاة فعنده طهوره ومسجده) فأيما رجل، أي: فرد، إذاً: صلاته منفرداً صحيحة.
ولكن الحفاظ على الجماعة أمر مهم، وكان السلف يقولون: (ما كنا نرى يتخلف عنها إلا منافق بيِّن النفاق) ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، وأنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى أولئك الذين تخلفوا عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم) وفي بعض الروايات: (لولا ما في البيوت من النساء والأطفال لحرقت عليهم بيوتهم) ، وذلك لترك الجماعة.
والذي جاء في الحديث الصحيح أو الحسن: (من صلى أربعين صلاة في مسجدي هذا، لا تفوته صلاة كتبت له براءة من النار وبراءة من النفاق، وأمن من عذاب القبر) .
نقول: أيها الإخوة! ليس المراد أربعين صلاة في ثمانية أيام ونودع الصلاة، ونقول: أخذنا براءة! لا والله، إنما المراد أن تتابع الجماعة بشرط ألا تفوتك صلاة، فإذا فعلت ذلك كان بمثابة الترويض والتعويد، وبمثابة أخذ علاج مكثف هو علاج حفاظك على الجماعة، فإذا رجعت إلى بلدك كنت قد أخذت دورة تدريبية على الحفاظ على الجماعة، وكان قلبك معلقاً بالمسجد، كلما نادى المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أجبت المنادي، وحضرت الجماعة.
وبالله التوفيق.(14/12)
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1](15/1)
شرح حديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ... )
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجميعن.
أما بعد: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) رواه البخاري ومسلم.(15/2)
ترجمة مختصرة لابن مسعود راوي الحديث
(عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه) وابن مسعود هذا من أوائل المسلمين قيل: كان سادس رجل مسلم، وكان سبب إسلامه: أنه رأى معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم حالاً: (كان غلاماً يرعى غنماً لرجل عنده، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فقال: هل عندك من لبن؟ قال: نعم، قال: اسقنا، قال: إني مؤتمن -أي: لا أملك أن أسقيكم من مال غيري، وهذه أمانة الأجير، فقد كان فعل ابن مسعود هذا قبل أن يسلم، وإنما حمله على ذلك المروءة والإنسانية.
فقال له صلى الله عليه وسلم: هل عندك من عنز لم ينزها الفحل؟ قال: نعم، قال: ائتني بها.
فجاءه بعنز لم يطرقها الفحل ولم تحمل، فأخذها صلى الله عليه وسلم ومسح بضرعها، ودعا الله، فامتلأ الضرع لبناً، فحلب فشرب وسقى أبا بكر رضي الله تعالى عنه، ثم قال للضرع: اقلصي.
فرجعت كما كانت لا لبن فيها، فلما رأى ذلك عبد الله شهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) .
وكان من أعلام الصحابة وعلمائهم، يقول: (والله ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت؟ وأين نزلت؟ ومتى نزلت؟ ولو أني أعلم رجلاً أعلم بذلك مني تصله المطية لرحلت إليه) .
وجاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه وقال: (إن عندنا رجلاً يملي المصحف من رأسه! فغضب عمر واشتد غضبه، ثم قال: ويحك من هذا؟! قال: ابن مسعود، قال: فسكن غضبه، وقال: ما من أحد اليوم أحق بذلك منه) .
وكان رجلاً نحيف الخلقة، دقيق الساقين، فذهبوا مرة يجمعون بعض ما يكون في شجر الأراك، فكشفت الريح عن ساقه وهي دقيقة، فضحك من رآها، فقال صلى الله عليه وسلم: (علام تضحكون؟ قالوا: لدقة ساق ابن مسعود يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من هذا! والله إنه عند الله لأثقل من جبل أحد) .
ويذكرون عنه الشيء الكثير في كرمه وأدبه وأخلاقه، وكان أشبه الناس آداباً بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أمين سره وصاحب نعليه ووسادته في السفر، وله المناقب العديدة.(15/3)
ابتداء ابن مسعود الحديث بقوله: (وهو الصادق المصدوق)
يروي لنا هذا الحديث بهذه الصيغة، قال: (حدثنا رسول الله) وعلماء الحديث في المصطلح بعضهم يقول: حدثنا، أخبرنا، أنبأنا كلها بمعنى واحد.
وبعضهم يقول: (حدثنا) بمعنى: قال وسمعنا حديثه، و (أنبأنا) قرئ عليه وهو يسمع، و (أخبرنا) مناولة أو إجازة، وهنا (حدثنا) ، أي: أحدث لنا كلاماً، وهو التحدث باللسان.
ثم نجد ابن مسعود في هذا الحديث بالذات يقدم له مقدمة لم تجر له في جميع أحاديثه، مع أن بعض العلماء يقول: روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا فوق الثمانمائة حديث.
يقول: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) رسول الله صادق ومصدوق قبل أن يقول ابن مسعود، وصادق ومصدوق في كل ما يحدث به، وهو صادق قبل البعثة وبعدها، وعلى خلق عظيم قبل البعثة وبعدها.
لقد جاء في سيرته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة أن قريشاً لما اختلفوا في وضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة، وتنازعوا في أي قبيلة يكون لها شرف وضع الحجر الأسود في مكانه من الجدار في الكعبة، حتى كادوا أن يقتتلوا، حتى ألهمهم الله وقالوا: علام نقتتل؟! نحكّم أول رجل يخرج علينا من هذا الفج، فكان أول من خرج عليهم هو محمد بن عبد الله، فلما رأوه جميعاً قالوا: الأمين ارتضيناه! وكان ذلك بمثابة انتزاع اعتراف منهم بأنه الأمين.
وجاء في السير أن هرقل سأل يوماً: أي الأمم تختتن؟ لقد رأيت نجم نبي الختان قد ظهر.
فقالوا: العرب يختتنون.
قال: إذا جاء وفد من العرب فأحضروهم إليّ.
فلما جاء أبو سفيان ومن معه في تجارة إلى الشام أحضروهم إلى هرقل، فسألهم: هل ظهر عندكم نبي؟ قالوا: نعم.
قال: لقد كنت أتوقع أن يظهر هنا، ثم قال: إني سائل عن هذا الرجل فأي رجلٍ أقرب إليه نسباً فيكم؟ قالو: هذا أبو سفيان.
قال: إني سائله، فكونوا من وراء ظهره، إن صدق فصدقوه، وإن كذب فأخبروني.
فسأله عدة أسئلة، ومنها: أكان يكذب عليكم قبل هذه الدعوى، أم كان صادقاً في الحديث؟ قال: ما جربنا عليه كذباً قط.
ثم سأله: أكان يغدر في العهد؟ قال: لا.
ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها! فأراد أبو سفيان أن يدخل دخيلة، وأن يدلس في كلامه.
ثم قال: ولكنه أيها الملك أخبرنا بأنه قد جاء إلى مسجدكم هذا ورجع إلينا في ليلة واحدة -وأراد أبو سفيان بذلك أن يبين بأن هذه كذبة ليست معقولة، ولكن الله أراد أن يحقق المعجزة- فقام دهقانٌ وكان قائماً على رأس الملك وقال: نعم، لقد علمت بتلك الليلة.
فقال له الملك: وما علمك بها؟ قال: كنت لا أنام حتى أغلّق أبواب هذا المسجد، وفي ليلة استعصى علينا باب كذا من أبوابه، فجاء الخدم وأخبروني، فدعوت النجاجرة فجاءوا وقالوا: لقد سقط النجاف على الباب فلا نستطيع تحريكه، فدعه إلى الصباح، فتركناه إلى الصباح، فلما جئنا في الصباح وجدنا الباب على ما كان عليه سابقاً، أي: يفتح ويغلق على ما كان عليه، وارتفع النجاف عن الباب، فعلمت أنه حبس على نبي يأتي تلك الليلة.
إذاً هو صلى الله عليه وسلم في بادئ أمره صادق، فلماذا يقدم ابن مسعود لهذا الحديث من الثمانمائة الحديث بقوله: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) ؟
الجواب
إذا سمعت بأن صحابياً يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبرني خليلي) (أخبرني حبيبي) (أخبرني الصادق المصدوق) توقع شيئاً عظيماً مما يختص به الخليل أو مما يحتاج إلى التنبيه والتأكيد، وهذا الحديث من ضمنها؛ لأنه يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاله لا يخفى على الناس، إذ ولد في مكة، واسترضع في الطائف، ورجع إلى مكة، ثم جاء إلى المدينة، وما دخل مختبراً، ولا معملاً، ولا جلس إلى طبيب، ولا شرّح امرأة، ولا سلّط أشعة على رحم، ولا علم شيئاً من ذلك مما يعلمه البشر، وإذا هو يخبر عن بَدْء خلق الإنسان من نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضعة إلى ما بعد ذلك من أطوار خلق الإنسان، فكان من حق ابن مسعود أن يقول: وهو الصادق المصدوق فيما سأخبركم بأنه حدثني به، فلا يتطرق الشك إلى أحدكم؛ لأنه لم يعلم شيئاً من ذلك من قبل، أو لأنها أمور خفية داخل الرحم، فهو يخبر بما جاءه علمه من فوق سبع سماوات يخبر عن المغيبات يخبر عن من لم يوجد متى سيوجد فيما يعلمه الله سبحانه وتعالى.
إذاً تقديم ابن مسعود لهذا الحديث بقوله: (وهو الصادق) أي: فيما يخبر، (المصدوق) فيما أخبر وأعلن فيه إشارة إلى أنه لم يخبر هذا الخبر من تلقاء نفسه، ولا يتوصل إليه إنسان عادي، إذاً لابد من أنه أخبر من جهة أخرى، وكان إخباره صدقاً، فهو صادق فيما يخبر، ومصدق فيما يتناوله الخبر، ومن الذي يعلمه بذلك؟ الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .(15/4)
معنى قوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه)
قال: (إن أحدكم -أي فرد من بني البشر- يجمع خلقه في بطن أمه) البطن داخله الرحم، وهذا من النطق بالأعم، ووجود الأعم يقتضي وجود الأخص، أي: أنه يدل عليه، وأخبر بالكل وأراد البعض.
(يجمع خلقه) يقول بعض العلماء: الجمع هو توحيد المفترق، وهو ضم الأفراد والأجزاء بعضها إلى بعض، فإما أن يراد بداية الجمع وهي النطفة؛ لأن النطفة من الرجل تجمع من جميع جسمه كما قال بعض العلماء من تحت الشعرة، وكما تأتي المشابهة في الطول أو القصر أو اللون أو غير ذلك، أو يجمع في أطواره، طوراً نطفة، وطوراً علقة، ثم مضغة، ثم يأخذ طريقه في بقية الأطوار حتى الولادة.
(يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة) وفي بعض الروايات: (أربعين ليلة) ولا منازعة في ذلك، فاليوم يقتضي الليلة، والليلة تقتضي اليوم، والنطفة: هي الماء الخالص أي القليل، تقول: نطف الماء إذا فاض، والنطفة هنا هي المني، ويقال في العلم: إن الحديث الملي متر المكعب يحتوي على ملايين الحيوانات المنوية، ولا يلقح بويضة المرأة داخل الرحم إلا واحد فقط من تلك الملايين، ووجود هذا الكم الهائل منها يؤدي إلى بقاء النوع، وهذه قضية مطردة في كل ما خلق الله من النبات والحيوان وغير ذلك، فإذا جئت إلى عالم النبات تجد حبة الطماطم فيها الكثير من البذور؟ والبذرة الواحدة تنبت شجرة، وتثمر عشرات الحبات، وفيها آلاف البذور، لكي يبقى النوع ويمكن أن ينمو، ويمكن أن يزرع ويعاد إلى ما شاء الله، ولو كانت الشجرة تنبت حبة واحدة ربما تلفت وضاعت.
وتأتي إلى الحيتان فتجد في السمكة الواحدة آلاف بل ملايين البويضات الصغيرة، كل هذه تنشأ عنها حيتان صغيرة، وهكذا، ويستثنى من ذلك الطيور، فالأنثى لا تنتج إلا حبة واحدة، لكن تتكرر البيضة كل زمن معين.
إذاً هذا الحيوان -النطفة- يجمع منه في بطن الأم واحداً من تلك البلايين، يقول بعض العلماء المتأخرين: لو أن حيوانات المني التي تلقح منها البويضات جمعت من عهد آدم وحواء إلى أن تقوم الساعة لم تملأ كستبان الخياط، يعني: لا تزيد عن اثنين سنتيمتر مكعب، هذه قدرة الخالق سبحانه، وهذا الحيوان الذي لا يرى إلا بالمجهر جعل الله فيه خصائص الشخص وطبائعه وأشكاله وغرائزه من بخل أو كرم، وشجاعة أو جبن، ولون، وطول، وشبه، كل ذلك يولد مع الإنسان في ملايين من تلك الحيوانات، وهذا ما يسمى في لغة العلم الأحيائي بالجينات.(15/5)
معنى قوله: (ثم يكون علقة مثل ذلك)
والعلقة كما يقول جميع المفسرين: قطعة دم جامدة، أو دم متجلط متجمد، ويخالف في ذلك علماء الأجنة فيقولون: العلقة ليست قطعة دم جامدة، ولا يمر بالجنين فترة تجمد قط، إنما العلقة: من العلوق؛ لأن الجنين بعد فترة النطفة يعلق بجدار الرحم، وترتيب ذلك عندهم: أن الله سبحانه كما أوجد في الرجل إحدى الخصيتين لإفراز الماء المنوي، أوجد في مقابله البويضتين عند المرأة، والجهاز التناسلي في الرجل يعادل تماماً الجهاز التناسلي في المرأة مع اختلاف في الشكل، فللرجل ذكر بارز، وللمرأة مهبل داخل، وللرجل إحدى الخصيتين لإفراز المني وطبخه، وللمرأة المبيضان لإفراز البويضات، ومن حكمة الله أن أحد المبيضين يفرز شهراً ويستريح آخر، والثاني يفرز شهراً ويستريح آخر، وفي كل شهر تأتي البويضة، ويقولون: إن أكبر خلية في جسم الإنسان هي البويضة، ولا تصل إلى حبة العدس في حجمها، فتخرج من المبيض وتأتي إلى قناة الرحم، وتنتظر عند فم الرحم، فإذا حصل لقاء الرجل بالمرأة، يسبق واحد من الحيوانات فقط فيعلق بالبويضة، وحينئذ يحصل التلقيح فتأخذ طريقها من قناة الرحم إلى أن تستقر في الرحم، وبعد سبعة أيام تنغرز وتنزرع تلك البويضة في جدار الرحم، وهناك تعلق ويستقر مصيرها، فأول يوم تمشي بالحيوان المنوي في قناة الرحم وتبدأ بالانقسام فتصير إلى خليتين، والخليتان تنقسمان إلى أربع، والأربع إلى ثمان، وهكذا في تكاثر حتى تصل إلى الرحم في شكل يعرف عندهم بالتوتة -أي حبة التوت- لأن حبة التوت عبارة عن خلايا متراصة فيما بينها، وهكذا تكون البويضة على شكل حبة التوت فتأتي إلى داخل الرحم، وجدار الرحم يكون كالإسفنجة فتعلق فيه تلك البويضة على شكلها الذي وصلت إليه ثم تبدأ تنقسم وتتزايد ويصير داخلها ماء سائلاً، وينقسم هذا الماء إلى متغذ، وإلى متغذىً به، وهكذا يبدأ تخطيط الجنين من الأسبوع الأول، بمعنى أن الله سبحانه بقدرته يقدر أوضاع هذا الجنين بعد أن قدر أنه مخلوق، ويمضي في نموه إلى أن يبلغ أربعين يوماً، ثم يبقى في تخطيطه الداخلي -أي: المقدر دون أن يرى ولا يشاهد- حتى إذا بلغ إلى المرحلة التي يكون قد استكمل فيها التخطيط خلال الأربعة الأشهر، هناك يأتي إليه الملك وينفخ فيه الروح بعد أن يكون قد خطط ورسم، ووضع كل جزء فيه في مكانه، وتميز الرأس عن المنكبين، واليدان عن القدمين، ووضعت أجزاؤه الداخلية، والقلب قد يوجد من الأسبوع الرابع أو قبل ذلك، وهكذا تتكون جميع أجزائه الداخلية والخارجية، وكل عضو فيه يكون قد وجد بالفعل وأخذ مكانه، فإذا جاء الملك ونفخ فيه الروح بدأ بالحركة، ومن هنا يقول العلماء: جعل الله سبحانه عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا.
أما المطلقة فإن عدتها تكون ثلاثة أشهر أو ثلاثة أقراء؛ لأن المطلقة زوجها حاضر إذا ادعت حملاً لم يكن موجوداً أو نفت حملاً هو موجود كان الزوج المطلق هو صاحب هذا الحمل، فإن ادعت حملاً معدوماً قام ونفى حتى لا تطالبه بنفقة العدة، أو أنها نفت حملاً موجوداً وذهبت لتسقطه قام يدافع عن ولده.
أما المتوفى عنها زوجها فليس لها ولي يطالب أمامها، وليس خصمها موجوداً فلا يمكن أن تدعي حملاً ليس موجوداً، ولا تستطيع أن تنفي حملاً موجوداً بالفعل؛ لأنه إذا بلغ الأربعة الأشهر ونفخ فيه الروح صار الجنين بعد ذلك يتحرك بداخلها، إن لم يكن في اليوم الأول ففي اليوم الثاني، أو الخامس، أو العاشر، فحينئذٍ إذا استكملت الأربعة أشهر وعشرة أيام وادعت بعد ذلك حملاً عرضت على النسوة، فإذا عرضت على ذوات الخبرة فلا يحتجن إلى أشعة، ولا إلى ماء وهرمونات، ولا إلى أن يضعن أيديهن على بطنها فيشعرن بالحركة، أي: أن الجنين يثبت نفسه، وإذا ادعت حملاً وعرضت على القوابل أو ذوات الاختصاص فلم يجدن عندها شيئاً، بطل ادعاؤها، وهكذا تتفق عدة الوفاة، وتتفق أطوار الجنين هنا عند الأربعة أشهر بنفخ الروح فيه.
وهنا في هذا الحديث: (أربعين يوماً علقة) والعلقة قال فيها جميع علماء التفسير: قطعة دم جامدة، والطب يقول: لا يأتي على الجنين فترة تجمد قط؛ لأنه في نمو منذ أن خلق، ويبدأ الانقسام بعد ثلاثة أيام، وسيترتب على هذا من الأحكام الفقهية ما سننبه عليه في آخر الحديث إن شاء الله.(15/6)
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [2](16/1)
تتمة حديث ابن مسعود في مراحل خلق الإنسان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(16/2)
معنى قوله: (ثم يكون مضغة مثل ذلك)
يقول العلماء: المضغة قطعة لحم بقدر ما يمضغ في الفم، نقول: إن هذا والله تعالى أعلم على مقتضى المعنى اللغوي، ولكن الذي يظهر أن معنى مضغة: لم يزل في حالته مجتمعاً لم تتفصل أجزاؤه، وإجماع المفسرين في هذه الحالة -مهما كان الأمر- أنه تأتي عليه هذه الثلاثة الأربعينات وهي تعادل مائة وعشرين يوماً، فإذا قسمناها على أيام الشهر ثلاثين يوماً كانت الأربعة الأشهر تماماً، فحينئذٍ بعد الأطوار الثلاث يكون قد تهيأ لنفخ الروح فيه، فيأتي الملك وينفخ فيه الروح.(16/3)
معنى قوله: (ويؤمر بأربع كلمات)
قال صلى الله عليه وسلم: (ويؤمر بأربع كلمات) هذه الكلمات التي أشرنا أنها نوع من أنواع القضاء والقدر الذي قدره الله قبل أن يوجد العالم، وهو القدر الخاص بكل فرد.
فيكتب أجله، وهذا الأجل لا يمكن أن يزيد ولا ينقص، ويكتب رزقه، وعمله، ويكتب نهايته شقي أو سعيد، ويختم صحيفته، ولا يزيد في عمره ولا ينقص منه.
ولقائل أن يقول: كيف يحدد رزقه فلا يزيد ولا ينقص منه، مع وجود الأحاديث الأخرى: (من أراد أن ينسأ له في أثره، ويوسع له في رزقه؛ فليصل رحمه) وكيف ينسأ له في أثره؟ بمعنى: يزيد أي: يؤخر كما في قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] أي: نؤخرها.
فقوله: (من أراد أن ينسأ له في أثره) أي: يؤخر ويطول عمره، (وأن يوسع له في رزقه ويزيد فليصل رحمه) ، مع أن الكلمات كتبت وحددت وعيّنت، وهناك الآية الكريمة: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ، فكيف يمكن الجمع بين ما سبق وبين هذا الحديث؟ فيجاب على ذلك بقول النووي رحمه الله في شرح مسلم: للعلماء في الجمع بين هذه النصوص أقوال: إما أن المولى سبحانه كتب في هذه الصحيفة في قدر الإنسان وهو يعلم في علمه الأزلي أنه سيزيد له من عمره، ولكن هذه الكتابة الظاهرة هي التي أطلع عليها الملك، والتي يمشي بمقتضاها الملائكة الموكلون بأمر الإنسان، ثم هو في علمه سيزيد، وبعضهم يورد على ذلك اعتراضاً: إذا جاء الأجل المكتوب سيأتي ملك الموت.
والآخرون يقولون: الزيادة في العمر والتوسعة في الرزق على سبيل المجاز وليس على سبيل الحقيقة، بمعنى إذا وصل رحمه بارك الله له في عمره بما قدر له، فلو كان عمره خمسين سنة، يبارك الله له في الخمسين، فيعمل فيها من الخير، ويحصل له فيها من توفيق الله كما لو كان يعيش إلى ثمانين أو تسعين سنة، وكذلك رزقه مقدر، له عشرة آلاف فهذه العشرة آلاف من أي نوع كان لن تكون أحد عشر ألفاً أبداً، كما لن تكون تسعة آلاف أبدا، ولكن هذه العشرة آلاف يطرح فيها البركة، بحيث تصبح أكثر من عشرين وثلاثين ألفا، وهناك عشرة آلاف منزوعة البركة لا تساوي ألفاً واحداً، فقالوا: (ينسأ له في أثره) أي: يبارك له في زمنه ووقته، كما لو عاش أكثر من ذلك.
ولقد وجدنا بعض العلماء وبعض الأشخاص في عمر قليل أنتجوا ما لم ينتجه الذين عمروا أضعاف ذلك العمر، وهكذا ما جاء في رزقه يبارك الله له فيه.(16/4)
الشقاوة والسعادة ونتائجها
قال: (وعمله وشقي أم سعيد) هذه الفقرة الأخيرة يقسم النبي صلى الله عليه وسلم على نتائجها، فيقول: (والله الذي لا إله إلا هو) ، وهنا أيضاً نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يقسم وهو الصادق المصدوق لا يحتاج إلى أن يقسم، ولكن الله سبحانه وتعالى كثيراً ما يقسم في كتابه، وقسمه صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو على أي شيء؟ (إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب -الذي كتب شقي أو سعيد- فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) فهنا يأتي التساؤل: كيف يعمل بعمل أهل الجنة ولم يبق بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، ما ذنبه؟ وماذا فعل؟ يجيب عن ذلك العلماء ويقولون: نعم، جاء في بعض الروايات: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة في الظاهر) أما الخفي والنية الخفية فلا يعلمها إلا الله، ولقد وجدنا قضية كبرى بينها سبحانه في قضية إبليس مع آدم والملائكة، لما قال سبحانه للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] يقول العلماء: (إني أعلم ما لا تعلمون) ما ظهر من موقف إبليس، حيث كان في ظاهر الأمر يعبد الله، وكان في الأرض من أشد خلق الله عبادة حتى رفع إلى مصاف الملائكة بعد أن قاتل الحن والبن ومن كان قبلهم، فلما وجد آدم ورآه تعاظم في نفسه واستنكر خلقته، ثم كان يستهزئ به، فلما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم أظهر ما كان خفياً وقال: أنا خير منه، فقدم قياسه ونظرته الفاسدة لنفسه على أمر الله له {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] ومن هنا كان يظهر عمله مع الملائكة، وكان يخفي استهزاءه وتكبره على آدم الذي خلقه الله بيديه.
إذاً: منكم من يعمل بعمل أهل الجنة، وإذا أخذنا في الاعتبار رواية في ظاهر الأمر، يكون كثير من الناس يعملون عملاً خيراً لكنه في الظاهر، وقلوبهم وبواطن أمورهم لا يعلمها إلا الله، ويكون القسم الثاني يعمل بعمل أهل النار، ولكن نبتة الإيمان في قلبه رطبة، وحسن اعتقاده بربه قوي، وأمله في الله ورجاؤه لا زال حياً، فهو على هذا الرجاء، وعلى ذاك الإيمان عندما يريد الله له الخير، ويتوجه بوجهته إلى الخير يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهناك يدخل الجنة ويسبق بسبق الكتاب إليه.(16/5)
نماذج ممن ختم لهم بالسعادة
النموذج الأول: ما قاله صلى الله عليه وسلم (كان رجلٌ فيمن كان قبلكم قتل تسعاً وتسعين نفساً، فجاء وسأل رجلاً عابداً: هل لي من توبة؟ قال: كيف تتوب وقد قتلت تسعاً وتسعين؟ فقتله فأكمل المائة، ثم ذهب وسأل عالماً، فقال له: نعم، ومن يحول بين العبد وربه؟ تب إلى الله يقبل توبتك، ولكن اخرج من هذه البلدة التي فيها قرناء السوء، واذهب إلى القرية الفلانية فيها رجال صالحون يعبدون الله فاعبد الله معهم، فخرج الرجل تائباً إلى الله، فلما انتصف به الطريق مات، فجاءت ملائكة الرحمة بكفن وحنوط من الجنة، وجاءت ملائكة العذاب بكفن وحنوط من النار، وكل جلس مد البصر ينتظر انتزاع الروح ليأخذها إلى جانبه، فاختصموا فيه فأرسل الله إليهم ملكاً على صورة رجل، فقال: قيسوا ما بين البلدين وألحقوه بأقربهما منه، فقاسوا ما بين البلد التي خرج منها والبلد التي ذهب إليها، وفي الحديث: إن الله قد أوحى إلى هذه أن تباعدي، وأوحى إلى تلك أن تقاربي- تنزوي الأرض، بقدرة الله- وفي بعضها: أن الله أقدره بأن نأى بصدره إلى الجهة التي خرج إليها، فكان الفرق ذراعاً فقط فأخذت روحه ملائكة الرحمة) .
النموذج الثاني: قصة الغلام اليهودي الذي كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، (افتقده الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فقالوا: إنه مريض.
قال: قوموا بنا إليه لنعوده، فذهبوا إليه فوجدوه في النزع، فقال صلى الله عليه وسلم للغلام: يا غلام! قل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فنظر الغلام إلى أبيه وكان عند رأسه، فقال له: أطع أبا القاسم، فنطق الغلام بما أملى عليه رسول الله قائلا: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وافتلتت روحه، فحينئذ قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تولوا أنتم أمر صاحبك) بمجرد أن قال: لا إله إلا الله أصبح صاحبنا، وأصبح المسلمون أولى به من أبيه، ماذا صلى؟ وماذا صام؟ وماذا زكى؟ وماذا فعل من خير؟ لا شيء، ولكنه كان يعمل بعمل أهل النار، وكان بينه وبينها أقل من ذراع فسبق عليه الكتاب فدخل الجنة.
ومن هنا كان السلف إذا تذكروا هذا الحديث بكوا وقالوا: لا ندري حينما كتب الملك هل كنا من الأشقياء أم من السعداء؟ كما يقولون: ما ندري عند نزع الروح أي الصنفين من الملائكة يكون عندنا؟ وما ندري كيف يكون حالنا عند خاتمة الأمر وعند تطاير الصحف وعند وعند؟ والعبد دائماً وأبداً دائر بين الرجاء والخوف.
ويقول العلماء: إذا كان العبد في مقتبل حياته فيغلب جانب الخوف ليجتهد في الخير ويبتعد عن الشر، وإذا كان في أخريات حياته يغلب جانب الرجاء في الله سبحانه وتعالى، وهكذا فقد جاء النووي بهذا الحديث بعد حديث جبريل، وبعد حديث: (بني الإسلام على خمس) ليبين أن الأعمال بالخواتيم، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف شاء) وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه، ويجعلنا وإياكم من السعداء، وأن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.(16/6)
أحكام فقهية متعلقة بإسقاط الأجنة أو الجناية عليها
إن هذا الحديث ليس مجرد وعظ، وليس مجرد إخبار عن الغيب، ولكنه يترتب عليه شيء من الأحكام الفقهية: من ذلك: أنه إذا سقط هذا الجنين قبل الولادة، فماذا يكون على من أسقطه؟ وما حكم هذا السقط من حيث الصلاة عليه وتكفينه ودفنه، وكذلك ميراثه؟ يبحث العلماء هذا الموضوع في باب الجنائز، وتغسيل الميت والصلاة عليه، واستحقاق الميراث، فيتفقون على أنه إن نزل واستهل صارخاً فإن له الميراث، وإذا جني عليه فإن من جنى عليه ملزم بنفس كاملة.
وإذا ما خرج قبل أربعة أشهر ماذا يكون حكمه؟ إذا نزل قبل الأربعة الأشهر يختلف الأمر فيه، إذ جاء في ذلك عن الشافعي قولان، وعن أحمد روايتان؛ بأنه يصلى عليه أو لا يصلي، أما بعد الأربعة الأشهر فإنه إذا نزل حياً أو ميتاً فإنهم متفقون أنه خرج بعد نفخ الروح فيه ولو بعد الأربعة الأشهر بيوم واحد، وعليه فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، فإن نزل ميتاً فلا ميراث له، وإن نزل متحركاً أو له ما يثبت الحياة الثابتة أي حركة مستقرة وكان بعد ستة أشهر -لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر- فله الميراث إن نزل حياً ثم مات بعد ذلك، فإذا جني عليه قبل أن يتحرك فإن في الجناية عليه غرة إذا انفصل عن أمه ميتا، أما إذا مات مع أمه -جني عليه مع أمه- ولم ينزل فديته تندرج في دية أمه، وإذا نزل ميتاً وأمه بقيت في الحياة فإن ديته غرة وليدة أمة أو عبدا.
بعد ذلك يأتي البحث: هل للمرأة أن تسقط الجنين قبل الأربعة الأشهر أم لا؟ فعلى قول بعض الفقهاء: النطفة التي تتكون خلال الأربعين يوماً الأولى لها أن تنزلها؛ لأنها لم تتطور.
ويقول الحنابلة والمتأخرون: إن النطفة حينما تعلق ببويضة المرأة لا يجوز إجهاضها، وهذا ما أقره الأطباء، حيث عقد في سنة ست وثلاثين وتسعمائة وألف المؤتمر الطبي العام في مستشفى القصر العيني، بحضور جميع أطباء مصر، وفي تلك الندوة قرروا: أنه لا يجوز لطبيب أن يجهض امرأة إذا علقت البويضة، ولو من أول يوم، وكل إجهاض فهو عمل جنائي.
أما كونها تحتاج إلى ذلك أو تضطر إليه فهذا أمر آخر، أما في الأحوال العادية التي لا يكون فيها خطر على الأم فلا يجوز إجهاض النطفة ولو بعد تلقيحها بثلاثة أيام، لأن الأطباء متفقون على أن البويضة مع الحيوان المنوي بعد التلقيح بثلاثة أيام تبدأ بالانقسام، وهكذا يبدأ في النمو كما ينمو البطيخ في عرقه، ولا يزال ينمو ويزيد ويتخلق إلى أن تنفخ فيه الروح فيصير إنساناً مكتملاً، وما كان على هذه الحالة فلا يجوز بحال من الأحوال أن تجهض المرأة نفسها أو تسقط جنينها بعد أن علق برحمها، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وهذا من المعجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لنا ما يتعلق بخلق الجنين في الرحم، ولم يطلع على ذلك أحد في ذلك العهد، وكما أشرنا لم تكن هناك أية وسيلة من وسائل الاطلاع على ما في الأرحام وإنما هو الوحي من الله، وكما قال ابن مسعود: وهو الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، والحمد لله رب العالمين.(16/7)
الأسئلة(16/8)
عدم معارضة علم الله بما في الأرحام مع ما وقع من تطور في علم الطب
السؤال
الله سبحانه وتعالى بيّن أنه يعلم ما في الأرحام وعلمها من الغيب، وإن بعض الهيئات الطبية الآن تطلع على ما في الأرحام، ويحددون ما إذا كان ذكراً أو أنثى كيف يكون الجمع بين ذلك؟
الجواب
أولاً: قضية الذكر والأنثى هذه ناحية أخرى يرجع أمرها إلى الرجل ولا دخل للمرأة في ذلك: {خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:45-46] وطريقة معرفتهم لما في الرحم هي: إما أن يأخذوا سائلاً من الماء الموجود في الرحم، وبعد أن يأخذوه يدخلوه إلى المعمل وينظرون إلى نوعية الهرمونات على اصطلاحهم، وهي كائنات خلايا البشر من ذكورة أو أنوثة، وهي تختلف، وقد بين الإسلام اختلافها في مواطن سوى ذلك، فبعد أن يعلموا نوعية الهرمونات التي تسبح في سائل الجنين، فعندها يمكنهم تمييز الجنين فإن كانت الهرمونات من إفراز ذكورة يكون ذكراً، وإن كانت من إفراز أنوثة يكون أنثى، وهم بهذا ما عرفوا ما بداخل الرحم إلا بعد أن أخرجوا السائل إلى الخارج ونظروا ماذا فيه، وهذا الأمر بسيط، فلو شققنا بطن المرأة وعملنا عملية جراحية فسنعرف الجنين أهو ذكر أم أنثى؟ فبدلاً من أن نشق البطن ندخل إبرة صغيرة ونأخذ من الماء ونحلله، إذاً دون هذه الطريقة لا يستطيعوا معرفة هذا الجنين، لكن السؤال: هل لهم أن يخبرونا بدون إخراج الماء السائل من رحم الأم، لو جاءوا بأشعة (إكس) أو جاءوا بأشعة (ليزر) أو جاءوا بأشعة كذا وكذا وقالوا: علمنا جنس الجنين، نقول: لقد دخلتم على الجنين واقتحمتم عليه بيئته ولم تعلموا جنسه وأنتم في الخارج، لكن دعوه في مكانه وأخبرونا بنوعه دون الدخول عليه! لا يستطيعون ذلك.
إذاً: لا يتنافى ذلك كله مع أن المولى سبحانه وحده هو الذي يعلم ما في الأرحام.
الموضوع الثاني: حبوب منع الحمل، هذه من مشاكل العصر، وقد زحفت علينا من أعدائنا، والبوابة الكبيرة التي أدخلتها علينا إسرائيل؛ لأنها من قبل سنوات كانت تشيع وتدعو وتجتهد في تصدير وتشجيع استعمال هذه الحبوب، وكانت هناك دعوى سابقة من ماركس اليهودي الأصل، الذي ادعى بأن العالم مقبل على هلاك من المجاعة لتزايد السكان تزايداً هندسياً، وتزايد مواد الغذاء تزايداً حسابياً، والتزايد الحسابي: واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، والتزايد الهندسي: واحد، اثنين، أربعة، ثمانية، ستة عشر، اثنين وثلاثين، أربعة وستين ومضاعفاتها، وكان يقول: بعد خمسة وعشرين سنة يتضاعف عدد السكان كذا مرة، والغذاء لا يواكب هذه الزيادة، فتكون النتيجة الهلاك، لكن ولله الحمد مضت على دعوته عشرات السنين ومئات السنين والعالم بخير، ومعدل الإنتاج يرتفع، والآن بعض الدول تتلف منتجاتها لتحافظ على الأسعار في الأسواق.
ومن الناحية الطبية فإن المبيض متصل بالرحم، وإذا كان الرحم خالياً فإن المبيض ينتج بويضة ويرسلها إلى الرحم، فإذا علق في الرحم بويضة مع حيوان منوي أفرز الرحم مادة تخبر المبيض: أن أوقف الإنتاج فلا محل عندي، فحبوب منع الحمل تعمل على إنزال هذا الهرمون الذي يفرزه الرحم لينذر المبيض بعدم الإنتاج، فتأخذ المرأة الحبوب ويقوم الرحم بإنذار مضلل مزيف: لا ترسل بويضات، فتبقى المرأة بدون إنتاج ولا يحصل هناك حمل، وهذه تسمى الطريقة الدوائية لمنع الحمل، وهناك طريقة أخرى غير دوائية لمنع الحمل تستعمل فيها العوازل لمنع الماء المنوي من أن يصل إلى البويضة فلا يقع تلقيح.
وهذه الطريقة يحذر منها العلماء؛ لأنها تعود بالمضرة على المرأة في أعصابها، وفي دورتها الشهرية، بل وفي الخلقة بعد ذلك، وعلى هذا فتعاطي حبوب منع الحمل معارض لما جاء في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) وقوله: (سوداء ولود خير من بيضاء عقيم لم تلد) ، والرسول صلى الله عليه وسلم -لما سألوه عن العزل- قال: (أوإنكم تفعلون؟) وفي بعض الروايات: (إنها الموءودة الصغرى) ، وجاء إليه رجل وقال: (إن لي جارية وهي ثانيتنا، وأريد منها ما يريد الرجل من المرأة أفأعزل عنها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله خلق الولد فأرقت الماء على حجر جاء الولد) وقد جاء مصداق ذلك -أي: أن الرجل إذا أفرغ ماءه على ثوب أو على فراش وجاءت المرأة ونامت في هذا الفراش أو لبست هذا الثياب، أو كان ألقاه على حجر وتمسحت به المرأة والماء رطب، فإن الحيوان المنوي له قدرة على البقاء إلى ست ساعات، ويستطيع أن يسري في الرطوبة حتى يصل إلى الرحم، وتحمل المرأة بدون وطء، وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أن رجلاً في زمنه كان قد خطب فتاة وأراد سفراً فذهب يوادع أرحامه، فما وجد أحداً في البيت ووجد خطيبته -وكان قد عقد عليها- فأرادها وحاول معها فعجز عنها، فضخ الماء بين فخذيها، ثم ذهب الرجل ومضت الأيام وظهر الحمل على الفتاة، فأُخبر بذلك عمر، فسألها، فأخبرته بالواقع، قال: إذا عاد من سفره أول من يكلمه عمر، فلما جاء وسأله عن يوم سفره أخبره كما أخبرت الفتاة، فقال عمر: إذا أرخيت الستور وحصلت الخلوة وجب كامل الصداق، ووجبت العدة، وألحق الولد بالزوج، وكان قبل ذلك يقول: من خلا بامرأة ولم يطأها وطلقها فلها نصف الصداق فقط ولا عدة عليها، لكن بعد هذه الحادثة -وقد حدث الحمل دون وطء- ظهر لـ عمر وجوب كامل الصداق والعدة، ولهذا يقول الحنابلة: أيما امرأة تحملت ماء زوجها بدون وطء منه وحملت ألحق به الولد، وعليها إذا طلقها العدة، وله الميراث، وكل أحكام الزوجية والأولاد تسري على هذا الحمل من هذا الماء، وكلنا يعلم أن التلقيح الصناعي إنما هو أخذ ماء فحل ووضعه في أنثى من جنسه، سواء كان في البقر والخيل أو كان كذلك في بني آدم، وقد عرف التلقيح الصناعي من قديم في زمن الفراعنة، ووجد على أوراق البردي بيان كيفية هذا التلقيح.
إذاً: قضية منع الحمل تعارض الكتاب والسنة، ولا ينبغي لمسلم أن يفعل ذلك، وقد يدعي بعض الناس قلة النفقة والعجز عن التربية، والله يرد على هذا الادعاء فيقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإياهم} [الأنعام:151] {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإياكم} [الإسراء:31] وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(16/9)
شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس [1](17/1)
شرح حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال النووي رحمه الله: عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
هذا هو الحديث الخامس من الأربعين النووية التي جمعها واختارها الإمام النووي رحمه الله، وفيها من التوجيه والأخلاق والآداب والمواعظ ما هو غني عن البيان.
وهذا الحديث النبوي الشريف يعتبر أصلاً من أصول الدين، وهو أبين وأوضح حديث يرد البدع على المبتدعين، ويلزم المسلمين جميعاً أن تكون أعمالهم وفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وقد تقدم حديث عبد الله بن مسعود الذي قال فيه: (حدثني الصادق المصدوق) وقلنا: إنه استهله بهذه العبارة؛ لأن موضوع حديثه يحتاج إلى يقظة، وإلى انتباه، وفيه بُعد عن العقل البشري.(17/2)
كنية عائشة رضي الله عنها
قال: (عن أم المؤمنين) ، وصفها بما وصفها به الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الوصف لأمهات المؤمنين، ثم كناها، فهي أم المؤمنين وأم عبد الله، والاسم إذا صدر بأب أو أم فهو كناية، كنيت بـ أم عبد الله وبأم المؤمنين، ويتفق العلماء على أن الأمومة للمؤمنين أمومة تكريم وتشريف، وليست أمومة محرم، فلا يحق لأي إنسان أن يخلو بها، ولا أن تكشف وجهها للغريب كما تكشف الأم لولدها، ولكنها أمومة تشريف وتعظيم وتكريم لحرمة نكاحها.
فلا يحق لأحد من العالمين أن يتزوج بإحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده، ومن هنا قيل عنهن: أمهات المؤمنين؛ لأنهن يحرمن على كل مؤمن كما تحرم الأم على ولدها، ولكن لا يخلو بها، ولا يرثها، ولا تكون هناك أحكام الأمهات بينهن وبين سائر المسلمين، قال الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] ، لماذا؟ تعظيماً وتكريم، وإذا كان الأمر كذلك، فالأم دائماً مشفقة على أولادها، وقد قال بعض الصحابة لأم المؤمنين عائشة: (يا أم المؤمنين! إني أريد أن أسألك عن شيء ولكني أستحي، قالت: ما كنت سائلاً أمك عنه فسلني، فقال: الرجل يأتي أهله ويكسل أعليه غسل؟ فقالت: مثلك مثل الفروج يسمع الديكة تصيح فيصيح معهم) تعني: أنت طويلب علم صغير، وتأتي إلى الأمور الدقيقة وتسأل فيها، وذكرت له الحكم.
زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم لماذا حرمن على جميع المسلمين وكن أمهات المؤمنين؟ يقول العلماء: الزوجة إذا ماتت والزوج إذا مات والتقيا في الجنة، فهل تكون الزوجة في الدنيا زوجة في الجنة؟ نعم، قال الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] فإن كتب الله للزوجين المسلمين دخول الجنة فالزوجة في الدنيا لزوجها في الآخرة، ولكن ما كل زوجين يمكن أن يحكم لهما بالجنة، ولكن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين مقطوع بدخولهن الجنة، ومقطوع بأنهن زوجاته في الآخرة، فإذا كن زوجاته في الدنيا وهن زوجاته في الآخرة، فيحرم على أي إنسان أن يتزوج بواحدة منهن.
والرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية كما أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وللحياة البرزخية أمور تدخل في هذا الباب، نقول: أمهات المؤمنين، من باب التشريف والتكريم، ولا تجري عليهن بقية أحكام الأمومة مع أولادهن.
يقال: هذه أم فلان إذا كان ولدها اسمه كذلك،، وأبو عبد الله، وأبو عبد الرحمن، إذا كان هذا اسم ولده، والتعريف بالكناية أشد وأعظم تكريماً من التعريف بالاسم العلم فقط.
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله يا عائشة إني أعرف متى تكونين راضية عني ومتى تكونين غير راضية؟ قالت: وكيف تعرف ذلك؟ قال: إذا كنت راضية قلت: ورب محمد! وإذا كنت غير راضية قلت: ورب إبراهيم) .
ويقال: يا أبا القاسم! تكريماً للرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: (تسموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي) ؛ فلا ينبغي للإنسان أن يكني نفسه (أبا القاسم) ؛ لأن هذه الكنية من الكنايات الخاصة به صلى الله عليه وسلم، لكن أن تسمي بمحمد وأحمد ومحمود، فلا مانع.
إذاً: كنيت عائشة رضي الله تعالى عنها تكريماً لها، وهل كان لها ولد اسمه عبد الله حتى كنيت بـ أم عبد الله؟! بعض العلماء يقول: كانت قد حملت وأسقطت وسمي السقط عبد الله، ولكن علماء الحديث يجزمون بأنها لم تحمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لم تلد من رسول الله قط، وإنما كنيت بابن أختها، ويجوز التكني بدون ولد، وهذا شائع في اللغة.(17/3)
تكنية الصغير ومن لا ولد له
وتقدمت معنا قصة الشافعي ومالك رضي الله عنهم جميعاً، عندما جاء الشافعي إلى المدينة، وكان قد بدأ الدراسة في مكة، ثم جاء إلى المدينة وهو في سن الثانية عشرة، ليقرأ الموطأ على مالك، واستضافه في بيته، وكانت ابنة مالك تسمع من أبيها: الشافعي جاء الشافعي ذهب، ويثني عليه لذكائه وحكمته وحرصه على طلب العلم.
فلما استضافه مالك يوماً من الأيام، قالت: اليوم سأرى كيف عبادته، فقدمت العشاء ثم أحضرت الوضوء، فلما جاءت في الفجر لتعطيه ماء للوضوء لصلاة الفجر، وجدت ماء الوضوء الذي وضعته له بعد العشاء، لم يمسه، ولم يكن هناك غيره، فلما أصبحت قالت لأبيها: تقول لي: الشافعي الشافعي وما أفعاله بأفعال طلبة العلم! قال: ولماذا؟ قالت: قدمنا له العشاء فأكل كثيراً وليس هذا من صفة طلبة العلم، وأحضرنا له الماء في إناء ليتوضأ ويقوم من الليل ويصلي، فما توضأ ولا صلى ركعة، قال: سأسأله عن هذا! فلما أصبح سأله، قال: نعم، أما كثرة الأكل، فإني منذ خرجت من عند أمي -أمه هي التي ربته وسبحان الله! مالك أيضاً أمه التي ربته؛ لأن أباه خرج في الغزو، وكذلك أبو حنيفة وأحمد رحمهم الله جميعاً- قال: منذ خرجت من عند أمي -وكان في غزة- ما شبعت من طعام قط؛ لأني أتحرج من الحرام، ولما جئت إلى بيت مالك، وهو إمام دار الهجرة، علمت أنه يتحرى الحلال، فأردت أن أشبع بالحلال فأكلت كثيراً، أما عدم الوضوء في الليل فإني لم أنم، ولم ينتقض وضوئي للعشاء، وصليت الفجر بوضوء العشاء، قال: ولماذا؟ ما الذي أزعجك أو أقلقك ولم تنم؟ قال: حينما جئت إلى المدينة، صرت أمشي في طرقاتها وأتذكر الماضي وأقول: من هنا خرج رسول الله، ومن هنا جاء رسول الله، وهنا أوقفته العجوز، وهنا كلم الغلام -وهذا محل الشاهد- إذ مر على غلام صغير معه طائر نغري، وهذا الطائر معروف بكثرة عند أهل المدينة، وكان يلعب به، ثم مات الطائر، ولما رجع رسول الله عليه الصلاة والسلام وجد الطائر قد مات، والطفل يبكي عليه، فقال له: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) أبو عمير هذه كناية، فكناه وهو صبي ليس له ولد، فأخذت أتفكر في هذه العبارة: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) ومعلوم أن المدينة محرم الصيد فيها، قال: فاستخرجت من هذا الحديث أربعين مسألة فقهية!! منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كنى هذا الغلام بما لم يولد له، فكذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كنيت بـ أم عبد الله وهي لم تلد قط.(17/4)
معنى (الإحداث) في هذا الحديث
قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .
يقول العلماء: إنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، مثل هذا النظم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، أربع كلمات تعتبر بمثابة القاموس، وتعتبر بمثابة القانون والقاعدة العامة الجامعة الشاملة لحفظ هذا الدين من أن يحدث فيه ما ليس منه، فكأنه إطار كامل جامع شامل لهذا الدين، لا يسمح لدخول محدثة في هذا الأمر، وهو كالقاعدة الأساسية، ولكن بقي علينا أن نقف طويلاً عند كلمتي: (أحدث) (أمرنا) ربما تجد إفراطاً وتفريطاً، في فهم الإحداث، وقد جاء في الحديث: (إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة) ، فما هي المحدثات؟.
أصل الحدث في اللغة: التجدد، يقال: حدث حادث، أي: هذا أمر حادث غير قديم، ويستعمل لفظ (حدث) عدة استعمالات بحسب السياق، وللغة استعمالاتها، وللشرع استعمالاته، فتقول: هذا حديث وليس بقديم، يعني: جديد، هذا حدث السن، أي: صغير، ويقال: هذه مدرسة الأحداث، أي: الصغار، ويقال: هذه حوادث، أي: جنايات، ولا يقال: حادثة إلا لأمر له خطورته؛ إذاً: معنى هذا أي: من أمر الدين.
ويأتي الحدث في اصطلاح الدين بمعنى نقض الوضوء كما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ، ونحن قلنا: الحوادث مثل: أو جريمة قتل، جريمة سرقة، أو حوادث تقع، مثل حوادث المرور، وتصادم السيارات، لكن ليس المراد هذا في الحديث، وقد سئل أبو هريرة عن الحدث فقال: (فساء أو ضراط) ، فالحدث كلمة عامة لكن المراد بها هنا حدثاً مخصوصاً ينقض الوضوء.
وجاء في صحيح البخاري، في قصة رجم اليهوديين الذين زنيا، قال الراوي: (قد أحدثا جميعاً) فهل هو الحدث الذي عناه أبو هريرة؟ لا، بل معناه حدثاً آخر وهو الزنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتوني بأعلم رجلين عندكم، فأتي بهما، فقال: ما تجدون حكم هذا عندكم في التوراة؟) ، إلى آخره، فقول ابن عمر: (جاء اليهود إلى رسول الله برجل وامرأة قد أحدثا) فهذا حدث غير الحدث الذي في حديث أبي هريرة.
وفي غزوة الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم: (من يأتي بالخبر؟) ، فقام حذيفة، قال: (اذهب وائتني بخبر القوم ولا تحدثن حدثاً) ، وهل قوله: (لا تحدثن حدثاً) هو الحدث الذي في حديث أبي هريرة أو حدث اليهودي واليهودية؟ لا، ولذا قال: والله! لقد رأيت أبا سفيان ينادي في القوم: الرحيل، وهو على راحلته، وإنها لمعقولة، فأخذت سهماً من كنانتي ولو شئت لقتلته، ولكن تذكرت قول رسول الله: (ولا تحدثن حدثاً) ، فكل هذا يسمى حدثاً، فجريمة القتل أو السرقة أو نقض الوضوء أو إتيان موجب لحد، كلها تسمى حدثاً، ونقول عند ذكر الحدث في الفقه: الحدث الأكبر والحدث الأصغر، فأي الأحداث المراد بها هنا في قوله: من أحدث؟ ما هو الحدث الذي يحدث في أمرنا؟ وما هو أمرنا؟(17/5)
معنى (أمرنا) في هذا الحديث
(أمر) مفرد لأوامر، ويأتي مفرد لأمور، يقال: أمرت أمراً، وصدرت أوامر، وتقول: حدث أمر وأمور كثيرة، فأمر مفرد أوامر بمعنى: تعليمات، وهي ضد النواهي، ويكون بمعنى أمور أي: أحداث تحدث.
و (أمرنا) هنا من القسم الثاني، وليس من باب الأوامر والنواهي، ولكن (أمرنا) أي: الشأن الذي نحن عليه، وماذا يقصد بالشأن الذي نحن عليه؟ نحن في أحد أمرين: إما أمر الدنيا، وإما أمر الدين.
وأمر الدنيا يشاركنا فيه كل العالم، المسلم والكافر فيه سواء، وأمور الدنيا ليست خاصة بالمسلمين بل هي عامة، فالأكل والشرب ليس من أمرنا خاصة، والسفر والحضر ليس من أمرنا خاصة، والنكاح والطلاق ليس من أمرنا خاصة، والدواء والصناعة ليس من أمرنا خاصة.
إذاً: أمور الدنيا ليست من أمرنا خاصة، ولكنها عامة للعالم كله؛ لأن أمر الحياة يقتضيها.
فقوله: (في أمرنا) معناه: في الشأن الخاص بنا وهو الدين.
إذاً: الحدث مرتبط بشيء خاص وهو الدين وليس متعلقاً بالدنيا، ومن هنا لا يجوز لإنسان أن يقول عن أمر من أمور الدنيا: هذا محدث هذا ممنوع هذا رد، لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحدث في أمرنا) ، من قبل كنا نسافر على الأقدام ونركب الدواب، ثم جاءت السيارات والطائرات، فهل يقول قائل: هذه أحدثت وهذه محدثة لم تكن موجودة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا، وليس لأحد حق في ذلك، بل جاء ما يرد عليه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أنه قال: (أنتم أعلم بدنياكم مني) ؛ لأنها أمور الدنيا، وأمور الدنيا في العالم كله ليست على وتيرة ومنهج واحد، بل لكل بلد منهجه في حياته، وحتى الصناعات لا تتفق في أنحاء العالم.
فالشرع الحنيف ترك أمر الدنيا للناس في دنياهم على ما تقتضيه مصالحهم، أما أمر الدين فهذا لله.(17/6)
لا يوجد بدعة حسنة في الدين
قال: (من أحدث في أمرنا) أي: من أوجد وابتكر وأحدث شيئاً كان معدوماً، وجاء بشيء حادث لم يكن موجوداً من قبل في الدين، (فهو رد) بمعنى مردود.
ما هي الأحداث التي ليست من أمر الدين؟ باختصار: كل جديد تراه وتسمع عنه فيما يتعلق بالتعبد، ويرجى فيه ثوابٌ عند الله، أو يخشى بتركه عقاب من الله، أي: يفعله العبد تديناً لله، فينظر هل هو مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وقد قال مالك رحمه الله: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
وقال مالك أيضاً: من سن سنة وظن أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فالذي يأتي بشيء جديد، ويقول: هذا من عندي، اعملوا به، وهو سنة حسنة، نقول له: هذا الذي جئتنا به، لماذا جئت به؟ هل الدين ناقص وتريد أن تكمله به، أو هو زائد على كمال الدين، فإن قال: الدين كان ناقصاً وأريد أن أكمله، نقول: كفرت بكتاب الله؛ لأن الله يقول: (أكملت) (وأتممت) .
وإذا قال: إنه زائد عما جاء من عند الله، فنقول: كذبت بكتاب الله؛ لأن الشيء الكامل والتام لا يقبل زيادة، إذاً: لا يمكن لأحد أن يأتي بشيء ويستحسنه ولا أصل له في الدين، ويكون حسناً أبداً.(17/7)
المصالح المرسلة ليست من البدع
وأشكل على بعضهم هذا فقال: كيف تقولون: لا إحداث ولا بدعة حسنة، بينما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه جمع الناس على إمام واحد، في التراويح في قيام الليل حينما كانوا يقومون جماعات أوزاعاً، ثم قال: نعمت البدعة؟ فكيف سماها بدعة ووصفها بأنها نعمة، والنعمة ضد النقمة والبأس؟
الجواب
من جاء بعمل لم يكن سابقاً، ولكنه من أمر الدين بمعنى: لم يخالف نصاً في كتاب الله، ولم يعارض نصاً من سنة رسول الله، بل يؤيد ويخدم ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله، فهذا من أمرنا وليس بعيداً ولا غريباً عليه.
ومن هنا قالوا: لقد جمع القرآن ولم يكن مجموعاً من قبل، فهل كان جمع القرآن حدثاً في ديننا؟ نعم هو أمر جديد، ولكن الصديق رضي الله عنه لما أشار عليه عمر بذلك نظروا في ذلك، فإذا جمع القرآن من صلب الدين، فشرح الله صدر أبي بكر لما قاله عمر، ووافق زيد وأبو بكر عمر فيما قاله، فهل كان القرآن مدوناً من قبل؟ لا، تدوينه محدث، وجمعه في صحف شيء جديد محدث لم يكن من قبل، ولكنه نصر للدين ومن صلب الدين؛ لأنه يحفظ الدين بكليته، ويحفظ كتاب الله من الضياع.
وكذلك السنة هل كانت مجموعة؟! ما كان هناك صحيح البخاري ومسلم، ولا السنن كلها، وما كان هناك المسندات: مثل مسند أحمد، لم تكن هذه العلوم مدونة، ومن ثم جمعت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن نقول: بداية تدوين السنة كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقول أبي هريرة لما قالوا: أكثرت يا أبا هريرة! فقال: لم يكن أحد أحفظ مني إلا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ لأنه كان يكتب وأنا لا أكتب.
ولما قالوا لـ عبد الله بن عمرو: (إنك تكتب كل شيء عن رسول الله، ورسول الله بشر يغضب ويرضى، فسأل رسول الله، فقال: اكتب، فإني والله! لا أقول إلا حقاً) .
إذاً: تدوين السنة كان من قبل، وقد كتب رسول الله للعمال ما يتعلق بأنصباء الزكاة، وما يتعلق بمقادير الديات، إلى غير ذلك.
ثم وجد بعد ذلك علم النحو، وعلم الفقه، وعلم الأصول، وعلم المصطلح، وكل هذه العلوم دونت فيما بعد، فهل هذه محدثات في الدين، أو هي من صلب الدين؟ من صلب الدين.
إذاً: قوله: (من أحدث في أمرنا) أي: شيئاً جديداً لا صلة له بالدين، (فهو رد) ، أما إذا كان من صلب الدين أو يخدم ما جاء به الدين، فليس رداً.
وكما قالوا في جمع القرآن الكريم ولم يكن موجوداً، كذلك أيضاً تدوين الدواوين بأسماء المجاهدين كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه سجل أعطيات المهاجرين والأنصار فيما يتعلق بالغنائم وبالفيء.
يقولون في الأصول: الإسلام جاء بجلب النفع ودفع الضر، فكل ما فيه جلب نفع للمسلمين فهو داخل في ديننا، ولكن النفع ليس متروكاً لأهواء الناس ولرغباتهم، ولكن ما شهد به الدين، وهذا باب المصالح المرسلة، وهو مفتوح على مصراعيه، فكل مصلحة لم ينفها الإسلام، وإن لم يأمر بها، لكنها تخدم جانباً من الجوانب الخمسة التي جاء الإسلام بحفظها وتدعيمها، وشرع الحدود لحفظها، فجمع القرآن وتدوين السنة وعمل الدواوين كل هذا لحفظ الدين، وكذا تدوين العلوم التي تخدم القرآن الكريم، وحفظ العقول بتحريم كل ما يضيع العقل، وكذلك حفظ النفس، وحفظ الأموال، وحفظ الأعراض، وحفظ الأنساب، فكل ما يعين على حفظ هذه الأمور فهو من الدين؛ لأن الإسلام جاء بذلك كله.(17/8)
شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس [2](18/1)
تابع شرح حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(18/2)
المحدثات قد تكون في العبادات أو المعاملات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: ما هي المحدثات؟ هي: كل ما كان في أمر الدين مما لم يكن من قبل، ولم يشهد له كتاب ولا سنة.
فإذا جاء إنسان بأمر جديد في عبادات أو في معاملات، فعمله مردود، فإن جاء بعبادة لم تكن معروفة من قبل فهي رد، وإن جاء بمعاملات وعقود بين الناس لم تكن موجودة فهي رد، وتكون العبادة باطلة ويكون العقد فاسداً.
يذكر العلماء من المحدثات: صلاة الرغائب وكانت معروفة في بعض البلدان سابقاً، حيث تصلى في شهر رجب، فيجتمع الناس في المساجد ويصلون صلاة الرغائب ويفعلون كذا، ويقولون كذا، فهذه بدعة مردودة على أهلها؛ لأنها محدثة في الدين، ولم يوجد نص في كتاب الله ولا في سنة رسول الله يدل عليها، ولا ثبت عن أحد من سلف الأمة أنه كان يفعل ذلك في تلك الليلة بالذات.
ومن المحدثات ما كان يفعله بعض الناس في الشام والعراق من التعريف ليلة عرفة في الأمصار، فكانوا يوم عرفة يجتمعون بعد العصر في المساجد تشبهاً بأهل عرفات في أرض عرفات، وكل ذلك ليس من الدين في شيء.
وممن يأتي بالبدع في الدين من يدعون التصوف وليسوا بصوفية، وإنما يأتون بما حرم الله زاعمين أنه من الدين والدين بريء منه، ويشهد على ذلك قول بعض علماء الصوفية الصادقين: كل عمل أو كل دعوى ليس عليها شاهدا عدل من الكتاب والسنة فهي مردودة.
فإذا جاء رجل وقال: خذوا هذه العبادة، فإنها حسنة، استحسنتها من فكري، نقول له: لا.
وقد عاب أهل السنة على المعتزلة وغيرهم التحسين والتقبيح العقليين، فقالوا: العقل لا يحسن ولا يقبح، ولكن يستحسن ما حسن الشرع، ويستقبح ما قبح الشرع.
إذا كانت العقود على مقتضى كتاب الله لا غرر فيها ولا ضرر ولا ضرار، وليس فيها أكل لأموال الناس بالباطل فهي صحيحة، أما إذا كان العقد يشتمل على ضرر وضرار، فهل يجوز برضا المتعاقدين؟ ولو تعاقد اثنان على شيء ولكن فيه ضرر على إنسان، أو تعاقدا على شيء نهى عنه الشرع، فهل نقول كما يقول أهل القانون: العقد شرعة المتعاقدين؟ لا.
والآن الحمد لله رجع رجال القانون عن هذا، وألحقوا في القانون المادي: العقد شرعة المتقاضيين ما لم يتعارض مع المصلحة، ولكن نقول لهم: أي المصالح تريدون، فلابد أن تقيد بالمصالح الشرعية.
عقد الربا بين اثنين، فهما حين يتفقان على خمسة في المائة أو اثنين في المائة، أليس هذا بتراضي الطرفين؟ نعم، وهل تراضي الطرفين على الربا يبيح هذا العقد؟ لا، بل هو فاسد، وكل عقد توجه النهي إليه في ذاته فهو فاسد، ولا ينفذ مقتضى العقد.
لو أن إنساناً باع بيعتين في بيعة، أو باع حلالاً وحراماً، فهل ينعقد هذا العقد وهل يصح؟ اختلف العلماء فيما إذا كان النهي موجهاً لعين المنهي عنه أو موجهاً لوصف خارج عنه، وهذه قضية أصولية توضيحها كالآتي: قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، فإذا بعت عند النداء للصلاة فحكمه باطل؛ لأن الله قال: (ذَرُوا الْبَيْعَ) أي: اتركوه.
ولو تعاقدا على دار أو على سلعة في هذا الوقت الذي نهى الله عن البيع والشراء فيه، فحكم هذا العقد أنه باطل.
الله سبحانه وتعالى حرم الخمر والخنزير والميسر، فلو بايع المرء رجلاً يهودياً أو كتابياً من أهل الذمة، وجاء ليدفع الثمن، فنقصت عليه القيمة، فدفع إليه زق خمر بتمام القيمة، فالخمر منهي عن بيعها وشرائها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله بائعها ومشتريها ... ) إلى آخره، وهل النهي عن بيع الخمر يساوي النهي عن العقد عند النداء ليوم الجمعة أو يختلفان؟ إذا نظرنا إلى النهي عن البيع والشراء وقت النداء للجمعة، هل هو منهي عنه لذات المبيع؟ بمعنى أنك إذا اشتريت ثوباً عند النداء، هل النهي لعين الثوب هذا، أو النهي لأمر آخر، وهو عدم الاشتغال عن الذهاب إلى الجمعة؟ النهي عن البيع والشراء عند النداء من أجل الجمعة، والجمعة أمر خارج عن المبيع، ولكن حينما أخذت زق الخمر في الثمن فالنهي موجه للخمر لكونها ثمناً في بيت أو ثوب، فالنهي لعين الخمر.(18/3)
متى يقتضي النهي فساد العقد، ومتى لا يقتضيه؟
إذا كان النهي موجهاً لذات المنهي عنه فهو باطل فاسد بإجماع المسلمين، فمن باع خمراً أو اشتراها فالعقد باطل، ومن باع ميتة أو اشتراها فالبيع باطل، ومن باع خنزيراً أو اشتراه فالبيع باطل، ومن باع ملك غيره مما لا يملكه فالبيع باطل، ولكن إذا اشترى وباع وقت النداء يوم الجمعة ففيه خلاف، وإذا باع ملك الغير فهل النهي لكونه حيواناً أو ثوباً أو لكونه اعتداء على ملك الغير؟ لكونه اعتداء على ملك الغير، والغير خارج عن صلب العقد، ولو أن الغير وافق وأمضى هذا البيع، فمن العلماء من يقول: يصح البيع ويمضي بالعقد الأول؛ لأن المالك قد أجاز.
من عقد عقداً وقت النداء إلى الجمعة، فالنهي لا لذات المعقود عليه، ولكن لأمر خارج عنه، فمن العلماء -ومنهم الحنابلة- من يلحق المنهي عنه لوصف خارج عنه بما نهي عنه لذاته، ولذا عندهم لو اغتصب سكيناً وذبح بها شاة، فالشاة ميتة؛ لأنه منهي عن غصب السكين، والجمهور يقولون: لا، ذبيحة الشاة حلال، وهذا مغتصب السكين، فحق الغصب لصاحب السكين، وهذا آثم لاغتصابه سكيناً، أما الشاة فقد أريق دمها بالسكين، وكل ما أنهر الدم وقطع الودجين فهو حلال.
وكذلك هناك من يقول: العقد صحيح ولكنه آثم؛ لأنه انشغل به عن صلاة الجمعة، ولذا لو أن هذا العقد بعينه أمضاه امرأتان أو صبي وامرأة، فالعقد صحيح؛ لأن المرأة والصبي ليس عليهما جمعة.
إذاً: ننظر في كل العقود، إن كان العقد منهياً عنه لذاته فهو باطل وحرام ولا يفيد التملك، وإن كان لوصف خارج عنه أو لازم له ففيه خلاف بين الأصوليين؛ فمنهم من يجعله كالمتوجه لذاته فهو باطل عندهم، ومنهم من يقول: جانب العقد يمضي، وجانب الاعتداء يأثم عليه، وتقدم في أصول الفقه حكم الصلاة في الأرض المغصوبة، فالمسلم منهي عن الغصب، ومأمور بالصلاة، فهل الصلاة في الأرض المغصوبة صحيحة أو باطلة؟ عند الحنابلة أن صلاته باطلة؛ لأنه بصلاته يثاب، وباغتصابه يعاقب، فكيف يثاب ويعاقب على فعل واحد؟! ولكن غيرهم يقولون: هو غاصب وآثم سواء نام أو لعب أو جلس، وليس الغصب موقوفاً على الصلاة، وهو مطالب بالصلاة سواء في أرض مملوكة له أو حرة أو مغصوبة، فالصلاة في طريقها تسقط الفرض عنه، والغصب في طريقه يحاسب ويعاقب عليه.
ويقولون بانفكاك الجهة، فإذا كان النهي منفك الجهة عن المنهي عنه، فالعقد صحيح وهو آثم، وإن كانت الجهة غير منفكة عنه فهو باطل ولا ينفذ فيه أو لا ينتج نتيجة التعاقد، وهذا الباب من أدق الأمور في الأصول، فحديث: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ، فإن كان عقداً لا يفيد التمليك، وإن كان عبادة لا تسقط الواجب، ولا تقبل، وترد على صاحبها.
فإذا كان المحدث الأول الذي جاء بالحدث والبدعة، وأخذها الناس عنه، عمله رد عليه، فما حكم من تابعه عليها؟ إن الذي يأتي بعد المحدث الأول يقول: أنا ما أحدثت، وهذا موجود من قبل.
فماذا نقول له؟ نقول: أنت ومن أحدثها في اللحظة الأولى سواء؛ لأن عملك الآن ليس من أمرنا فهو رد أيضاً، وكل من ادعى تقليداً لغيره فيما ليس من أمر الدين، فيقال له: أنت ومن قلدته عملكما مردود؛ لأنه إحداث في أمرنا لما ليس منه.
وعلى ذلك فمن أحدث في أمرنا ما كان منه فليس بمردود، كإحداث تدوين القرآن في صحف، وكإحداث جمع المصلين في رمضان على إمام واحد، وكإحداث تدوين العلوم والكتب والفنون التي تخدم المصلحة العامة، سواء كان ديناً أو دنيا، وكذلك كل ما فيه مصلحة المسلمين من تدوين الدواوين وبناء المدارس التي تملأ العالم الآن، والمعاهد، والكليات، وإحداث العلوم التي تدرس فيها لمصلحة الإنسان، فهل هذه من أمرنا أو خارجة عن أمرنا؟ كلها داخلة في أمرنا.
أما إذا درس شيئاً يخالف الدين، فنقول: هذا حدث ليس من أمرنا.
إذاً: ما أحدث وكان من أمرنا فليس مردوداً بل هو مقبول، وبالله تعالى التوفيق.(18/4)
المقصود بقول أهل الحديث: (متفق عليه)
قال النووي رحمه الله: رواه البخاري ومسلم، وهناك اصطلاح آخر فيما يرويه البخاري ومسلم فيقال: متفق عليه.
فـ النووي سمى الشيخين الجليلين، وهما يلتزمان الصحة، فلا يورد البخاري ولا مسلم في صحيحيهما إلا الحديث الصحيح.
قد يقول قائل: وجدنا في بعض أحاديث مسلم ما يتكلم في سنده، فنقول: مسلم يأتي بالحديث الأصلي في القضية ثم يتبعه بمتابعات وشواهد، وهي ليست الأصل في الباب ولكن شواهد وتوابع، فقد يتساهل في الشواهد وفي التوابع، أما في أصل الباب فليس فيه ضعيف قط.
ثم ذكر رواية أخرى فقال: وفي رواية لـ مسلم، يعني لا توجد في البخاري، فهما قد اتفقا على الرواية الأولى: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) ، وانفرد مسلم بالرواية الثانية، ولا توجد عند البخاري وهي: (من عمل عملاً) ، وعملاً نكرة، وهو مفعول به، والنكرة تفيد العموم، بمعنى: أي عمل كان، والقول والفعل والترك من العمل، في الحديث الأول قال: (من أحدث في أمرنا) ، وهنا قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وإذا جئنا إلى هذه الرواية مع تلك، نجد هنا: (من عمل عملاً) ، وهناك: (من أحدث) فقد يكون الإحداث بدون عمل يدعو إليه وبدون أن يعمل، لكن نقول: هو عمل أيضاً؛ لأنه تكلم به، والرواية الثانية تشمل من فعل فعلاً ولو لم يكن قولاً، ولو لم يدع إليه أحداً، بل هو مجرد عمل يعمله لكنه ليس من أمر الإسلام، وهذا يحتم على المسلم قبل أن يقدم على أي عمل أن ينظر، هل عليه أمره صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فإن كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم فبها ونعمت، ولابد أن يشهد له ما جاء به صلى الله عليه وسلم سواء كان نصاً أو قياساً يلحق الفرع بأصل سابق أو كان عليه سلف الأمة.
والخلاصة هي: الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما يتعلق بأمر الدين ومصلحة العباد، وبالله تعالى التوفيق.(18/5)
الأسئلة(18/6)
المقصود بسنة الخلفاء الراشدين
السؤال
ما معنى سنة الخلفاء الراشدين؟
الجواب
أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنة الخلفاء الراشدين، وقد قدمنا مراراً أن سنة الخلفاء الراشدين تبين سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن أقوال وأفعال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين لنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول الأصوليون: من الأصول التي يشرع عليها الأحكام: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهذا متفق عليه، وذكروا من غير المتفق عليه: قول الصحابي إذا لم يوجد له مخالف من الصحابة، فقول الصحابي وفعله إذا لم يخالفه نص أو يخالفه صحابي آخر فهو حجة يعمل به، ويكون دليلاً للتشريع، ودليلاً على جواز الفعل الذي فعله الصحابي رضي الله تعالى عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فذكر ثلاثة قرون، وهي القرون المشهود لها بالخيرية، فما كان في تلك القرون من أمر الدين والدنيا فهو جائز إلى يوم القيامة، ولكن النظر فيما حدث من الأمور الدنيوية التي لم تكن من قبل، هل نتقبلها أم لا؟ ننظر إن كانت محضاً من أمر الدنيا فلا بأس، وإن كانت لها علاقة بالدين لها علاقة بالعمل لها علاقة بالتعبد فيها شبهة من التشبه بغير المسلمين فنتركها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبه بأهل الكتاب فيما يختصون به، ولو كان في أمور الدنيا، يقول الفقهاء: لو شربت الحليب الصافي والماء النقي، في كئوس وأوان على شكل كئوس وأواني الفساق الذين يشربون فيها الخمر متشبهاً بهم فهذا حرام، أي: الصفة التي تشبهت بها، وهكذا لبس الزنار، ولبس القبعة التي هي خاصة بالمشركين، فلا ينبغي ذلك.
إذاً: الحلال بذاته لو جاء في صورة التشبه العمد بغير المسلمين فهو حرام.
وقوله: رد، بمعنى مردود، مثلما تقول: سد بمعنى مسدود.
وكلمة: (رد) راجعة على ما أحدث، (من أحدث في أمرنا) و (من) مثل (ما) كلاهما من صيغ العموم، (فهو رد) فيه ضمير مستتر، يعود على ما، في قوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي: هذا المحدَث مردود على صاحبه، وإذا قلنا: يعود على (من) أي: مردود قوله عليه، ولا يدل على الردة عن الإسلام قطعاً، لكن قد تأتي الردة من شيء آخر، إذا جاء مثلاً بشيء وقال: هذا فرض، أو جاء إلى ما أوجب الله وقال: هذا ليس بواجب، فهذا جاء بحدث، ولكن عارض به ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فهي ردة عن الإسلام عياذاً بالله، ومن الردة بعض القوانين في بعض البلاد التي تغير في المواريث، وتغير ما أنزل الله، وهذا هو عين الردة عن كتاب الله.(18/7)
معنى قول عمر في صلاة التراويح: نعمت البدعة
السؤال
كيف يوجه العلماء قول عمر: نعمت البدعة؟
الجواب
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: البدعة من حيث هي لها مدلولات كما قلنا في الحدث، فهي بدعة لغوية وبدعة شرعية، والبدعة اللغوية: هي وجود ما لم يكن موجوداً على غير مثال، كما جاء في قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:101] أي: أوجدها على غير مثال سابق يحاكيها، وهنا كذلك من حيث الصورة فقد كانوا يصلون أوزاعاً وأشتاتاً، فجمعهم على إمام واحد، وهو أمر محدث لا قديم، وعمر نظر إلى المدلول اللغوي فجمعهم على إمام واحد، وجعل إحداثه بدعة لغوية، وقال: نعمت البدعة؛ لأنها توافق مقصود الشرع من الدين؛ لأن اجتماع الناس على إمام واحد هو من الإسلام، أما تركهم أوزاعاً يذهبون ليتبعوا كل قارئ حسن الصوت، ويصبحون شيعاً وأوزاعاً في المسجد، فهذا ينافي الإسلام، فجمعهم على إمام واحد من أمرنا، فـ عمر رضي الله تعالى عنه قال: نعمت البدعة، وسماها بدعة؛ لأنها لم تكن لها صورة سابقة، والأصل في ذلك المشروعية؛ لأن الرسول ندب إلى قيام رمضان، والله سبحانه وتعالى ندب إلى قيام الليل، وثبت عن رسول الله قبل ذلك أنه صلى قيام رمضان بأناس في المسجد النبوي جماعة.
إذاً: أصل المشروعية موجود، وفعل عمر من أمرنا، وليس خارجاً عنه.(18/8)
معنى حديث: (هلك المتنطعون)
السؤال
ما معنى حديث: (هلك المتنطعون) ؟
الجواب
كلمة: نطع مثل كلمة مط، لما يكون في يدك مطاط وتشده تقول: مط، فتنطع، أي: زاد فيما شرع الله، فهو حين يتوضأ يفعل كذا وكذا من الزيادة، وكذلك في كل أعماله يزيد كذا وكذا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) ، وتعرفون حديث الثلاثة النفر الذين جاءوا إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوا عن أعماله فتقالوها! فقال أحدهم: أنا أقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: أنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الآخر: أنا لا آتي النساء، وهذا تكليف للنفس فوق طاقتها، فلما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (لكني أنام وأقوم، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) وليس من التنطع زيادة الرغبة في الخير، ومن التنطع: السؤال عن كل صغير وكبير، والخوض في دقائق الأشياء.
وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(18/9)
شرح الأربعين النووية - الحديث السادس [1](19/1)
شرح حديث: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن ... )(19/2)
معنى الحلال والحرام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذا الحديث السادس من هذه المجموعة المباركة عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) رواه الشيخان البخاري ومسلم.
يعتبر هذا الحديث عند العلماء ركن من أركان الإسلام، وفيه مباحث عديدة، من جوانب متعددة.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بيّن) ، يقول العلماء: حرف إن من أدوات التوكيد، والخبر يلقى مؤكداً للاهتمام به، أو لتنزيل السامع منزلة الغافل لينبه، كما قالوا في قول الشاعر: جاء سليك عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح الأصل: بنو عمك فيهم رماح، فجاء بإن؛ لأنه جاء معترضاً برمحه، وكأن عدوه ليس مستعداً للقتال والدفاع، فكان في منزلة المستهتر بعدوه المتغافل عن سلاحه، وهذا الحديث يشير إلى أمور يغفل عنها الناس: (لا يعلمهن كثير من الناس) ، فجاء في بادئ الأمر بأداة التوكيد تنبيهاً للسامع لأول وهلة، وكان مقتضى إلقاء الخبر عادياً أن يقول: (الحلال بيّن، والحرام بيّن) ولكن جاء بإن قبل الجملة ليؤكد مضمون هذا الخبر، ويسترعي الانتباه إليه.
والحلال ما أحله الله، وأصل حلّ من باب ضرب نصر، حَلَّ يَحِلُ كضَرَبَ يَضرِبُ، وحَلَّ يَحُلُ كنصر ينصُر، قالوا: اللازم من باب ضرب، والمتعدي من باب نصر، تقول: حلّ الحبل يحُله حلاً؛ لأنه متعدٍ إلى الحبل، وتقول: حلّ بالمكان يحل، يعني: نزل به، والحلال مادة مستقلة بذاتها، تقول: حلّ هذا الشيء يحِل أي يصير حلالاً، ولا تقل: يحُل، بل حل الحلال يحِل، بمعنى ثبت الحكم ونزل واستقر، كمن يأتي إلى مكان ويحل به ويستوطن ويستقر، فلا يتغير هذا الحكم ولا يتحول.
(إن الحلال) هو: ما أحله الله صرفاً، و (بيّن) من البيان والوضوح، ويقابل هذا: (وإن الحرام بيّن) والحرام هو: الممنوع، ومن شواهد ذلك: جالت لتصرعني فقلت لها: اقصري إني امرؤ صرعي عليكِ حرام يعني: ممنوع، ومنه: حريم البيت الذي يمتنع الدخول إليه، ومنه: محارم الإنسان وحرمه الممنوعات على غيره، ومنه: حرمة الرجل، أي: أنها محرمة وممنوعة على غيره، فالحرام ما حرمه الله، وهو بين وواضح.(19/3)
معنى الشبهات
قال: (وبينهما أمور مشتبهات) ، ولم يقل: متشابهات، وفرق بين المتشابه والمشتبه، قال الله في وصف ثمار الجنة: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] أي يقولون: الذي أكلنا قبل هذا هو شبيه به ولكن ليس هو، فمتشابه أي: بعضه يشابه بعضاً، وهذا يدل على وجود شيئين، ولكن مشتبه هو في ذاته، وليس هناك طرف ثان، والمادة متقاربة، فالمشتبه هو: ما يدور بين طرفين متغايرين يشبه هذا من جهة، ويشبه هذا من جهة أخرى، فيصبح في نفسه مشتبهاً، بخلاف المتشابهين، مثل: أخوين توأمين يكونان متشابهين، ولكنهما متغايران، كل واحد بشخصية مستقلة، لكن الأمر المشتبه يدور بين أمرين متغايرين، يأخذ من هذا بوجه، ويأخذ من هذا بوجه، فيصبح مشتبهاً في ذاته.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: من أحكام الشريعة، ومن معاني القرآن، ما هو بين واضح ليس فيه شبهة ولا يعذر أحد بجهله، سواء كان في الأوامر أو كان في النواهي، وتفسيره تلاوته، وذلك مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، فكل هذا من الأمور الواضحة، وكذلك في المحرمات قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] ، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] ، فهذا بين واضح لا لبس فيه، وقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] ، وقوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ، فالحلال واضح بين لا شبهة فيه، والحرام واضح بين لا شبهة فيه، ومثل قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الإسراء:33] ، وقوله: {لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12] ، فهذا حرام بيّن.(19/4)
أقسام تفسير القرآن
يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يعذر أحد بجهله، وقال ابن عباس تفسير القرآن على أربعة أنحاء: 1- قسم واضح لا يعذر أحد بجهله، وهو أصول وعموم ما شرع الله سبحانه وتعالى من الأوامر والنواهي.
2- قسم تعلمه العرب من لغتها، كما في قصة عمر رضي الله تعالى عنه لما نزل قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31] قال: الفاكهة عرفناها، وأما الأب فوالله ما نعرفه، حتى جاء أعرابي إلى المدينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يارسول الله! إني تركت ناقتي ترعى الأب) قال عمر: فعرفت أن الأب هو: مرعى الإبل.
ومثال آخر: (ذو) الطائية التي بمعنى الذي، كان ابن عباس يستشهد على معناها بقول الشاعر عندما تخاصم مع آخر في بئر فقال: فإن الماء ماء أبي وجدي بئري ذو حفرت وذو طويت يعني: بئري التي حفرتها والتي طويتها، وهذا القسم تعرفه العرب من لغتها على ما وضع لها في لغة العرب.
3- قسم لا يعلمه إلا الراسخون في العلم، وهذا القسم لا يعلمه كثير من الناس، مثاله: قصة المرأة التي وضعت حملها بعد زواجها بستة أشهر، وجيء بها إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فأراد أن يرجمها؛ لأن المعهود عند الناس أن المرأة تلد بعد تسعة أشهر، وهذه وضعت قبل التسعة بثلاثة أشهر، فظن الناس أنها تزوجت وهي حامل في ثلاثة أشهر، فجاء علي فقال: يا أمير المؤمنين! لا يمكن أن ترجمها؛ لأنها قد تكون ولدت لأقل مدة الحمل، قال: وما أقل مدة الحمل؟ قال: الله سبحانه وتعالى جعل لأقل مدة الحمل ستة أشهر، فقد تلد المرأة لستة أشهر، قال: وأين هذا في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه وتعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] ، وقوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] ، وقوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] ، والحولان الكاملان أربعة وعشرون شهراً، فإذا كان للفصال أربعة وعشرون شهراً فيبقى للحمل -وهو قسيم الرضاعة- ستة أشهر، وهي الباقية من الثلاثين، فكف عنها عثمان رضي الله تعالى عنه، فهذا الأمر ما كل الناس يعرفونه.
4- قسم استأثر الله بعلمه، كما قال في أول سورة آل عمران: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] ، قيل: الوقف على لفظ الجلالة ثم يستأنف كلاماً جديداً: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] ، وقيل: الوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] .
العلماء يبحثون هذا في علم الكلام، هل الراسخون في العلم يعلمون تأويله للعطف على لفظ الجلالة، أو لا يعلمون تأويله للوقف على لفظ الجلالة؟ كلا الوقفين صحيح كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وعلى الوقف على لفظ الجلالة يكون معنى (تأويله) : الحقيقة التي يئول إليها الشيء، وهذا لا نعلمه، وذكروا من ذلك صفات الله سبحانه وتعالى التي لا يدركها العقل، كقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] ، فلا يعلم من أين يكون مجيئه؟! وحديث: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا) كيف تسع الدنيا رب العالمين؟ وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، حقيقة الصفة في ذات الله لا يدركها العقل البشري، والله يعلمها، قالوا: ومن ذلك قوله تعالى في وصف ثمار الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] ، ماء الدنيا إذا وقف قليلاً أسن وتغير وتعفن، قال: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] ومن لبن خالص، ومن خمر سائغ، وكل هذه المسميات لها نظائرها في الدنيا، ولكن هل هي التي في الدنيا؟ لا إنما مجرد الاسم، أما حقيقة ذاك اللبن وحقيقة ذاك العسل وحقيقة ذاك الخمر فلا يعلمه إلا الله، وقد بيّن أن تلك الخمر {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] ، بينما خمر الدنيا ينزف ويسكر بها، ويصيب شاربها الصداع، إذاً: لا تساويها في الحقيقة، وإن اشتركت في اسمها، فمعنى: (لا يعلم تأويله) أي: مآله وحقيقة أمره إلا الله سبحانه جل جلاله.
إذاً: بعض الأمور مشتبه، تدور بين الحلال والحرام، ولا يعلم هذا المشتبه كثير من الناس.(19/5)
حكم ترك الشبهات
قال: (فمن اتقى الشبهات) ما يتعلق بما بين الناس ينبغي أن يتقيه، فالأمور ثلاثة: حلال بين مشروع، وحرام بين ممنوع، ووسط مشتبه، فماذا يكون موقف المسلم فيها؟ يأتي الحلال الواضح البين الحل، ويترك الحرام الواضح البين التحريم، والوسط ماذا يفعل فيه؟ أيأخذه تارة، ويتركه تارة؟ لا، بل قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ) أي: سلم من الحرام، لكن كيف يكون حد الشبهات؟ العلماء يبينون على سبيل المثال كيف يكون حد هذا الشيء المشتبه بين الحلال والحرام، فإذا قلنا: المنطقة ثلاثة أمتار، متر للحلال، ومتر للحرام، ومتر في الوسط للمشتبه، والمشتبه ربما يتزحزح إلى الحلال ويكون أقرب إلى الحلال، وربما يتزحزح إلى الحرام ويكون أقرب إلى الحرام؛ لأنه مشتبه بين طرفين متغايرين.
مثلاً: لو أن إنساناً تاجراً يبيع العسل والسمن واللبن والخمر، فماله الذي يكتسبه فيه حرام وفيه حلال، ففيه شبهة بقدر مبيع الخمر؛ لأن الحرام مختلط بكامل المال، لو كان عنده ألف درهم، كم تكون نسبة الحلال الصرف والحرام الصرف؟ هل تستطيع أن تقول: قيمة الخمر إلى حد عشرة في المائة أو عشرين في المائة، وقيمة السمن والعسل ثلاثين أو خمسين أو سبعين في المائة، وعشرة في المائة مشتبهة بينهما، الألف في يدك ماذا تقول فيه؟ فيه شبهة من ثمن الخمر، لكن قد تقرب إلى الحلال لأنها قليلة، وقد تقرب إلى الحرام لأنها كثيرة، ولهذا يقول الغزالي وغيره: إذا عرفت إنساناً يتعامل بحلال وحرام فإن في ماله شبهة، وهذا المشتبه إلى أي حد؟ هل تمتنع بالكلية عن أن تتعامل معه؟ وهل تمتنع بالكلية عن أن تأكل طعامه وتقبل ضيافته؟ أو يكون هناك جزء فيه حلال؟ أنا آتي بهذا المثال لأبين أن المشتبه ليس على خط واحد بين الحلال والحرام، لكنه كالزئبق تارة يميل إلى جانب التحريم فيكون أقرب إلى الحرمة، وتارة يميل إلى جانب الحلال فيكون أقرب إلى التحليل، والشبهة تقوى وتضعف.
قال الله: {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] ، لو أخذت كلب الصيد أو طائر الصيد أو أخذت سهمك وكنانتك وخرجت إلى البر فرأيت الصيد، ورميت السهم قائلاً: باسم الله، الله أكبر، وجئت إلى الصيد ووجدته قد مات، فهذا حلال بيّن، ولو جئت إلى الصيد ووجدته جريحاً وكان بوسعك أن تذكيه، ولكنك تركت تذكيته حتى مات، فهذا حرام بيّن، ولو جئت إلى الصيد وقد غاب عنك في المزرعة أو غاب عنك وراء الجبل، ومن الغد لقيته فوجدت فيه سهماً آخر لشخص آخر، ووجدته ميتاً، فهل مات من سهمك أو من سهم الآخر؟ فهذا مشتبه، سهمك وسهم الآخر متساويان، هل تأكل منه؟ لا، قد يكون من سهم غيرك وليس صيدك، وإنما سمى عليه غيرك وقتله.
ولو رميتة بالسهم وغاب عنك، ثم وجدته غارقاً في غدير من الماء، فهل مات بسهمك أم بالماء؟ لا تدري، فوجود سهمك داع للحلية، ووجوده غارقاً في الماء داع للحرمة، ففيه شبه بين الحلال البين وبين الحرام البين، فيتجاذب إلى هذا وإلى هذا، مثل عوامل المغناطيس التي تتجاذب الشيء ويكون بينهما على السواء، فهذا مشتبه يترك للشبهة.(19/6)
متى يكون ترك الشبهة واجباً؟
والترك للشبهة قد يكون واجباً متعيناً كما قالوا: ما لا يترك الحرام إلا بتركه فهو حرام، وكما قالوا: يجب ترك المشتبه لو اشتبهت مذكاة بميتة، كما لو أعطاك إنسان فخذ كبش، وبعد قليل أعطاك رجل آخر فخذ كبش أخرى، وأنت تعلم أنه يستبيح أن يأكل الميتة، وصار عندك الآن هذا اللحم وهذا اللحم، يا ترى! أيهما من لحم الميتة وأيهما من المذكاة؟! وكما قالوا: إذا اشتبهت أخته بأجنبية -وهذا مثال مذكور في أصول الفقه- فيحرم عليه وطء الأجنبية اتقاء لأخته.
وكذلك اشتباه المغصوب بالحلال، واشتباه سطل ماء طهور يمكن أن تتوضأ وتغتسل وتشرب منه، بسطل آخر مثله جاء إنسان فبال في أحد السطلين، ثم جاء شخص لا يعلم وغير مواضع السطلين، كما لو كانت إلى جهة الشرق والغرب، فجاء واحد وحولها شمالاً وجنوباً، وأنت كنت تعلم أن الذي في جهة الشرق هو الذي فيه البول، فهذا نجس بيّن، وذاك طهور بين، ولكن الآن اختلفت عليك السطول ولم تعد تدري بالنجس، حيث لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، فلم تستطع أن تحدد أيهما الطاهر، فهل يجوز لك أن تتوضأ بواحد منهما؟ حصل خلاف بين الفقهاء في ذلك فقيل: يتوضأ من هذا مرة ومن هذا مرة، هذا حاجة إلى ذكر الخلاف، ولو كان عندك إناءان فيهما عسل، وهما بشكل واحد، وحجم واحد، وجاء إنسان ووضع السم أمامك في أحد الطبقين، ثم ذهبت عنهما فقلت: السم في الذي في الجهة الغربية، والطبق الذي في الجهة الشرقية سليم ليس فيه سم، وأنا جائع أريد أن آكل، فجئت ووجدت الطبقين منحرفين، تغيرا عن وضعهما، فلا تدري أين الذي كان في الغرب وأين الذي كان في الشرق؟ فهل يمكن أن تمد يدك إليه؟ مستحيل أن تذوق واحداً منهما؛ لأنه اشتبه عليك الحلال بالحرام.
يقول العلماء في مسألة إذا قتل الرجل عبداً: هل فيه الدية أو فيه القصاص؟ هناك من يقول: فيه القصاص؛ لأن النفس بالنفس، وهو قول ابن حزم ومن يوافقه.
والجمهور يقولون: لا، هو وسط اجتمع على شبهين من طرفين مختلفين: فمن حيث أنه يباع ويشترى ويوهب ويكون من الميراث، فيشبه الأموال والمتاع، ومن أتلف متاعاً فعليه قيمته بالغة ما بلغت.
ومن جهة أنه يقيم الصلاة، ويصوم رمضان، ويذكر الله، وأنه مكلف بالعبادات أشبه الإنسان، ومن قتل إنساناً فحكمه؟ {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، إذاً: اشتمل على وجهين مختلفين، يشبه كل وجه جانباً من الجانبين، فكان فيه قياس الشبه، كما يقول الأصوليون، فمن غلب شبه الإنسان الحر ألحقه بالدية، ومن غلب شبه المتاع والمال غلب فيه جانب القيمة، ولو بلغت قيمته أكثر من دية الحر.(19/7)
عدم الطمأنينة علامة على الوقوع في الشبهة
بيّن لنا صلى الله عليه وسلم حكم الشبهات، وما دام أنك لست من القليل الذين يعلمون حكم هذا المشتبه، فعليك الكف والترك، وقد جاء في الحديث وسيأتي إن شاء الله: (البر ما اطمأنت إليه النفس) ، حينما تجد الصدر مشغولاً وفيه زوابع، وفيه أمواج تتلاطم، وفيه انفعالات وترددات: تقدم أو تحجم يجوز أو لا يجوز؟ عرفت عندها أن النفس لم تطمئن؛ لأن الطمأنينة الاستقرار، أما حركة التردد، وحركة القلق، وحركة الاضطراب، وحركة الانفعال بين حلال وحرام، فهذه علامات الشبهة، إذا وجد هذا الاضطراب ارتفعت تلك الطمأنينة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) فالأمر تعمله خفية، ولا تحب أن أحداً ينظر إليك؛ لأنه فيه إثم.
إذاً: البر ما اطمأنت إليه النفس، فإذا وجدت في النفس طمأنينة فهو واضح بعيد عن المشتبه، وإذا وجدت في نفسك شبهة، وترددت في أصل الأمر هل هو حلال أو حرام؟ فلو أقدمت عليه فستجد نفسك قلقلة.(19/8)
شرح الأربعين النووية - الحديث السادس [2](20/1)
تابع شرح حديث: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن ... )(20/2)
الترغيب في اتقاء الشبهات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن اتقاء الشبهات معراج أو سلّم أوله في الأرض وآخره في السماء، فبعض الناس يرى الكبيرة العظيمة (كذبابة على أنفه قال بها هكذا) كما جاء في الحديث، وبعض الناس يرى الشبهة كأنها جبل على رأسه، وما كل الناس في اتقاء الشبهات سواء، يوجد أشخاص نفسياتهم شفافة، لو نفثت عليها بالهواء تأثرت، كالمرآة الصقيلة في الشتاء إذا جعلتها إلى فمك وتنفست، يخرج من المعدة بخار، فيتكاثف مع برودة الجو على المرآة فيعمل مثل السحابة، فبعض الناس من شفافية نفسيته وتحريه للحلال فإن الشبهة تؤثر فيه كسحابة حرام، وبعض الناس يبلعها ولا يبالي، والأمر عنده واسع، فالناس ليسوا سواء.
وأقرب مثال عندنا قصة أبي بكر رضي الله تعالى عنه عندما جاءه خادمه بطعام، فلما أكله تأثرت نفسه، سبحان الله! الطعام ما وصل إلى جوفه إلا وأحس بحساسية، فنادى الغلام وقال له: تعال! من أين هذا الطعام؟! قال: كنت في الجاهلية تكهنت لرجل، وأنا والله! لست بكاهن -يعني: خدع الرجل- فلقيني الآن، وأعطاني حلواناً فاشتريت به كذا وكذا، فوضع أبو بكر رضي الله تعالى عنه أصبعه في حلقه واستقاء ما أكله، فما الذي حرك نفسية أبي بكر من هذا الطعام؟ هل كان فيه ملح زايد أو شطة أو شوك؟! كذلك عمر رضي الله تعالى عنه أرسل غلامه ليأتيه بحليب من إبله، فذهب وجاء فلما شرب الحليب استنكر طعمه، قال: تعال يا غلام! من أين جئتني بهذا الحليب؟ قال: والله! أرسلتني آتيك بحليب من إبلك، فوجدت الرعاة قد أبعدوا بها، ولقيت إبل الصدقة على الماء فقلت: احلبوا لي، فحلبوا لي، فجئتك بلبن من إبل الصدقة، فقال أمير المؤمنين: آكل الصدقات؟ أحس في نفسيته هذه الحساسية، ويمكن نسمي هذه الحاسة السادسة حاسة الحلال والحرام، لا يكشفها بارومتر ولا ترمومتر ولا أي شيء من هذه المقاييس المادية مهما كانت، وهي تكشف الأمور العضوية، والكثافة، والدسومة، والخفة، والحرارة، والبرودة، لكن الحلال والحرام فهي أمور حكمية واردة على العين الواحدة.
إذاً: الإحساس والتوقف عند المشتبهات ليس كل الناس فيه سواء، فأيما إنسان صفت نفسه، وتعود أكل الحلال، ونشأ على الحلال فأقل شبهة تؤثر على نفسه.
أبو حنيفة كان تاجر بز، وكان عنده ثوب فيه عيب، فجعله في جانب، وهو آخر ثوب عنده من ذلك الصنف وكان معه في المحل من يعمل معه، فذهب أبو حنيفة ليقيل ثم رجع فإذا الثوب الذي عزله في جانب غير موجود، فسأل عنه فقال العامل: بعته، قال: بكم بعته؟ قال: كما نبيع الثياب.
قال: هل أخبرت المشتري بالعيب الذي فيه؟ قال: لا، وهل فيه عيب؟ -لم يدر العامل- لكن أبا حنيفة تصدق بكامل قيمة الثوب، وكان يمكن أن يتصدق بقيمة العيب فقط ولكن فعل ذلك ورعاً منه.
ويذكرون عن الإمام أحمد رحمه الله أنه خُبز عجين بيته في بيت فلان فامتنع أن يأكل منه؛ لأن فلاناً في ماله شبهة.
سبحان الله! بعضنا قد يأتيه خبز وإدام وشراب من رجل في ماله شبهة فيتلقاه بكل رحابة صدر.
وإلى عهد قريب كان الشيخ محمد بن تركي شديد الورع، وأهل المدينة يعرفون ورعه وزهده في هذه الأمور، فقد كان ورعاً إلى حد بعيد.
يتعين على المسلم أن يتقي الشبهة، ولا يستطيع الإنسان أن يوفي هذا المقام حقه، ولكن عليه بالمقاربة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع الناس عليه) .
وهذا هو التقسيم الثلاثي، وبيان موقف الأمة من هذه الأقسام: الحلال بيّن، ويقدم عليه كل إنسان، والحرام بيّن، يجب أن يحجم عنه كل إنسان، وبينهما أمور مشتبهة، إن نظرت إليها من جهة قد تكون حلالاً، وإن نظرت إليها من الجهة الثانية قد تكون حراماً، إذاً: ماذا تفعل؟! القليل الذين يعلمون حكمها كما قال: (لا يعلمهن كثير من الناس) ، ومفهوم ذلك أن يعلمها القليل، ولا تخلو الأمة من هذا القليل الذي يعرف حقيقة المشتبه، وإليه يرجع الناس، فإن كنت أنت من هذا القليل، تحريت وتحققت ثم بعد ذلك أقدمت على مقتضى ما علمت، وإن كنت من الكثيرين الذين لا يعلمون حكم هذا فموقفك منه الكف، (من ترك شيئاً لله أبدله الله خيراً منه) .(20/3)
التعليم بضرب الأمثال
ثم ذكر في نهاية هذا الحديث التشبيه البليغ الواضح البين، وضرب الأمثال من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ورد في القرآن الكريم ضرب الأمثلة، وتشبيه الأمر المعنوي بالمحسوس، ليصبح واضحاً ظاهراً لكل الناس، من ذلك قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] ، ماء في قاع البئر أو في النهر أو في الغدير وهو بعيد عن لمس اليد، فيأتي رجل يبسط كفه إليه ويفتح فمه، وينتظر الماء أن يأتيه!! والماء لن يأتيه إذا ناداه أبداً، ولكن كأن هذه صورة -كما يقولون في العصر الحديث- كاريكاتورية لإنسان عطشان، ويتخذ طريقاً غير الطريق الذي يوصله إلى الماء، وهنا يبين صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمور المشتبهة ينبغي للإنسان أن يبتعد عنها؛ لأن من وقع في الشبهات وقع في الحرام، فيجب عليك أن تجعل بينك وبين الحرام حاجزاً، كما يقولون: منطقة محايدة، لا تقربها؛ لأنك إن دخلت تلك المنطقة لم يبق ما يحجزك عن الحرام، فإن زلت القدم زلت في الحرام، أما إذا جعلت منطقة محايدة وكنت خارج المنطقة، فإن زلت قدمك زلت في هذه المنطقة المشتبهة وترجع، لكن إذا اقتحمت المنطقة المشتبهة فزلت القدم فستنزل في الحرام، على سبيل المثال: هناك رأس جبل عنده هاوية، وهناك حافة حاجزة عن تلك الهاوية، فإذا مشيت من وراء الحافة، وصرت تلعب وتمرح خلفها، فإن سقطت وقعت على هذا الحاجز، لكن إذا مشيت فوق هذا الحاجز، وصرت تلعب عليه، فإن زلت قدمك وقعت في الهاوية، والراعي حول الحمى إن ابتعد عن الحمى كان في عافية من الحمى؛ لأنه بعيد جداً، لكن إن جاء على حدود الحمى فهل يضمن أن غنمه لن تفر إلى الحمى؟ لا، وإذا فرت واحدة منها إلى الحمى فالملك سيعاقبه ويأخذ غنمه كله، لكن إن بعد مسافة مائتين أو خمسمائة متر، فمهما شذت شاة عن الغنم لن تبعد عن مائة متر، ويمكنه أن يدركها قبل أن تنزل إلى الحمى، وهكذا.
ثم أتى صلى الله عليه وسلم بالتشبيه التمثيلي فقال: (ألا وإن لكل ملك حمى) ، ولا يمكن لأحد من الرعية أن يقتحم حمى الملك، وحمي الحمى مشروع، فقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم حمى جهة النخيل، وحمى جهة وادي الفرع، وكان يحمي لإبل الصدقة مواطن خاصة ترعى فيها ولا يدخل فيها نعم الناس.
وتقدم معنا قصة أنعام عثمان وعبد الرحمن بن عوف في درس الموطأ، فحماية الحمى لإبل الصدقة أو للمصالح العامة مشروع لا للأفراد ليستغلوه دون الآخرين، ويجوز أن يكون للملك حمى لدوابه ولمصالحه؛ لأنها تعود على مصالح الأمة، والله سبحانه له حمى في خلقه، ما هو الحمى الذي حماه الله، ومنع الناس أن يدنوا منه؟ حمى الله هي محارمه، ليست بأراضٍ ولا بساتين، ولا مراعٍ، رغم أن الأرض كلها ملك لله، ولكن الله حمى ومنع وحرم المحارم، ومن هنا يقول علماء الأصول في حكمة التشريع: ما أقامه الله من حدود على المحارم فقد جعله لتلك المحارم حمى، ونحن نعلم أن المحارم تدور حول الأديان والعقول والأنفس في الدماء والأموال والأعراض والأنساب، فحرم الله الردة حماية للدين، وحمى الردة البدع، فحرم البدعة؛ لأنها تسوق إلى الردة عن الدين عياذاً بالله، وعقوبة المرتد القتل لحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) ، ومن ابتدع لا يقبل عمله، لحديث: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ، وحرم قتل النفس وإراقة الدماء، وجعل فيها القصاص قال الله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، وجعل للنفس حمى، فلا تعتدي عليها بالضرب؛ لأنك إن اعتديت عليها بالضرب -وهو ليس قتلاً للنفس- جر الضرب إلى ضرب أكثر إلى أن يصل إلى ضربة قاضية، وحرم الله الزنا، وجعل فيه حد الجلد أو الرجم، وجعل للزنا حمى، إن ابتعدت بعيداً عن هذا الحمى سلمت، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يخلون رجل مع امرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) ، وقال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ، وقال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] ، فإذا كنت بعيداً عن هذا الحمى سلمك الله من الزنا، فالزنا حرمه الله وجعل له حمى ووقاية، منطقة محايدة، ومنطقة صيانة، فإذا لم يخل بامرأة، وغض بصره، فهل يصل إلى الزنا؟ لا يصل إلى الزنا.
وكذلك في الأموال حرم السرقة، وجعل للمال حماية، فنهى عن الغش وعن التدليس، وعن كل ما يسمى أكل أموال الناس بالباطل.
إذاً: من اتقى الشبهات فقد استبرأ، ومن ابتعد عن حمى الله سلم أن يقع فيه؛ لأنه إذا لم يخل بالمرأة، ولم يقع بينهما شيء من الملامسة لا يصل إلى الزنا، لكن إذا اجتمع بها وخلا بها، ووقع بينهما ما دون الزنا فما الذي سيمنعه ويحجزه عن الزنا؟ لا شيء، وهذا يسميه العلماء: التكميلات، أي: تكميلات لحفظ الضرورات التي جعل الله لها الحدود للزجر عنها.
(ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) يعني: إذا كانت هناك حالة مشتبهة بين أن تكون من محارم الله أو من المباحات فعليك أن تستبرئ لدينك وتترك الأمور المشتبهة حتى لا تقع في حمى الله الذي حرمه عليك.(20/4)
صلاح الأعمال بصلاح القلب وفسادها بفساده
ثم ذكر منطلق اتقاء الشبهات، والأصل في ذلك وهو: القلب، فقال: (ألا وإن في الجسد مضغة) ما علاقة هذه المضغة في الحمى وفي المحارم؟ لأن اتقاء الشبهات ليس عمل الجوارح بقدر ما هو عمل القلب؛ لأن اتقاء الشبهات بتقوى الله، وتقوى الله محلها القلب، (ألا وإن في الجسد) عموماً من شعره إلى إلى ظفر رجله (مضغة) والمضغة تشبيه بقدر ما يكون القلب، علماً بأن قلب كل حيوان بقدر قبضة يده، فقلب الطفل الصغير بقدر قبضة يده وهكذا قلب الفيل بقدر خفه، وقلب البعير بقدر خفه، وهذا مقياس في جميع الحيوانات، (ألا وإن في الجسد مضغة) أسلوب تقليل، أي: أنها من أصغر الأعضاء الموجودة في الجسم، فهي أصغر من الكبد، وربما تكون أصغر من الطحال في بعض الحالات، مع أن القلب أكبر من الطحال نوعاً ما، وأصغر من الرئة، وأصغر من اليد، وأصغر من الرجل، وأصغر من الرأس، فهذه المضغة صغير حجمها ولكن عليها مدار صلاح العبد.
(إذا صلحت صلح الجسد كله) صلحت من الناحية الصحية فيكون القلب سليماً، ومن الناحية الاعتقادية فيكون القلب نقياً طاهراً، الأمران معاً، ويتفق الأطباء الآن بأن مريض القلب يعتبر مريض الجسم كله، وأن صحيح القلب صحيح الجسم كله إلا ما ندر في بعض الجوانب، فصحة القلب دليل على الصحة العامة بالجسم، ولكن الأصل أن المراد هنا: الصحة المعنوية، وهي صحة الإيمان والعقيدة، وقوة اليقين بالله، فإذا صلح القلب مع الله سبحانه؛ صلح هذا الجسد في أعماله، وكان سلوكه صالحاً خالصاً لوجه الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم.(20/5)
ترك المشتبهات مراعاة لحال المجتمع
ذكرنا أن لكل ملك حمى، وقلنا: إن الملك قد يحمي بعض المواطن لرعي دوابه، وقد يحمي بعض المواطن لمواقف سياراته، وقد يحمي بعض المواطن لموارد مستودعاته، وكل هذا من الحمى الذي يكون للمصالح العامة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (استبرأ) أي: طلب البراءة، مثل: (استغفر) طلب المغفرة، وقوله: (واستبرأ لعرضه) هذا واجب على كل مسلم كما لا ينبغي أن تخالف عادات مجتمعك بأمر فيه شبهة وإن كان على حقيقته ليس منظوراً، ولكن فيه شبهة، فينبغي أن تتقي تلك الشبهة، وإن كانت في حقيقتها ليس فيها محظور، يفسر لنا ذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان معتكفاً، وجاءت صفية رضي الله تعالى عنها لتزوره، ومكثت عنده، ثم قام معها ليلاً ليقلبها إلى بيتها -وكان بيتها شمالي المسجد، فحجرات رسول الله كانت تحيط بالمسجد من القبلة فالشرق فالشمال- فمشى معها من محل معتكفه في المسجد إلى بيتها، فأحس برجلين يمشيان وراءه، فقاصر الخطوات حتى لحقا به ثم التفت إليهما، فقال: إنها صفية، -بين لهم حقيقة الأمر وأنها زوجه، وليس في الأمر أي لبس ولا اشتباه، ولكن الناس عندهم فيها شبهة، إذا رءوا امرأة ورجلاً يمشيان في الليل! - فقالا: سبحان الله، يا رسول الله! فقال: لا، أنا خفت عليكما أن يطرأ عليكما شبهة فتهلكا) ، فعلى كل إنسان أن يستبرئ لعرضة، فمثلاً مشي الرجال مع النساء في منتصف الليل فيه شبهة، فلو أخذت زوجتك تتمشى في ذلك الوقت ويدك في يدها، وهي زوجتك ويحل لك أن تضع يدك في يدها أو على كتفها لكن أمام الناس هل تستسيغه العامة؟! هل يستسيغه الناس؟! هل يجوز مروءة؟! لا، فمن حق هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يوقفوك، ويسألوك: من هذه المرأة التي معك؟ تقول: زوجتي، فيقولون: هات البطاقة، من حقهم هذا؛ لأنك أوقفت نفسك في موقف الشبهة، فلا ينبغي لك أن تفعل ذلك، ويجب عليك أن تبتعد عن مواطن الشبهة، إذا كان مثلاً في بلد من البلدان سوق العسل وسوق السمن وسوق الخمر، فجاء إنسان مسلم وقال: أتفرج على سوق الخمر! معلوم عند الناس أنه لا يمر بهذا السوق إلا زبون هذه المحلات، فهل من حقك أن تمر بها وتقول: أنا -والله- أريد أن اتعظ بهؤلاء المبتلين، الذين عافانا الله مما ابتلاهم به! نقول لك: لا، هذا موقع فيه شبهة، ولا يجوز لك أن تمشي فيه.
كان هناك جماعة يسمون الملاتية، يأتون أفعالاً يلام عليها الشخص، فقيل: لم تفعلون ذلك وقد نهيتم عنه؟ قالوا: حتى يقع الناس في أعراضنا بالغيبة فتكون لنا حسناتهم، لكن هذا تغرير بالناس، ولماذا تضيعون على الناس حسناتهم؟ فلا ينبغي هذا.
إذاً: من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ولو كان الأمر الذي تركه ليس حراماً.
ولذا يتوسع مالك رحمه الله في سد الذرائع، وسد الذريعة هو أن تترك من الحلال جزءاً ابتعاداً عن الحرام، وتترك بعض المباح ابتعاداً عما ليس بمباح، وهكذا يستبرئ الإنسان لدينه وعرضه، لدينه فيما حقيقته مشتبه، ولعرضه حتى لو كان في حقيقته حلال ولكن صورته صورة الشبهة، والله تعالى أعلم.(20/6)
الأسئلة(20/7)
نقل قلب كافر إلى مسلم هل يؤثر في الإيمان؟
السؤال
في عمليات زراعة القلب، كيف يكون الحال إذا نقل قلب كافر إلى مسلم؟
الجواب
هذا -والله- سؤال وجيه ووارد، فإذا كان صلاح المسلم بصلاح قلبه، فكيف بما جاءنا به العلم الحديث أو التكنولوجيا الحديثة من نقل لقلب المسلم إلى غير مسلم، أو بنقل قلب الكافر إلى المسلم، فهل يصبح الكافر مسلماً أو المسلم كافراً بنقل هذا القلب أم لا؟ وما أثر نقل القلبين من مكانهما؟ سئل عن هذا والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أوائل هذه العمليات، فقال: يفسر هذه القضية قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] قال: فالقلب إنما هو وعاء يجعل فيه نور الإيمان أو معصية الكفر، ويمكن أن نستشهد لهذا بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] ، فالمصباح يضيء بالزيت الذي يوجد فيه، ولذا نقول: الإيمان كالزيت النقي، فإذا جاء العمل الصالح وجاء اليقين اشتعل ذلك الزيت، وأضاء القلب، والمعصية تنكت في القلب نكتة سوداء حتى تغطي النور الداخلي، كزجاجة الفانوس إذا كثر عليها الدخان حجبت النور داخله، إذاً: لو نقل قلب المؤمن فإنما تنقل البضعة، وينقل اللحم والدم، أما حقيقة النور وحقيقة الإيمان فتبقى لصاحبها، وهكذا قلب الكافر ينقل السراج فقط أما الزيت فيبقى في محله، ولهذا لا تأثير لنقل قلب مسلم لكافر ولا لنقل قلب كافر لمسلم، والله تعالى أعلم.(20/8)
حكم نقل القلب
السؤال
ما حكم نقل القلوب وزراعتها طبياً؟ وهل هذا واقع فعلاً؟
الجواب
مسألة يجوز أو لا يجوز، أو صح أو لا يصح، أو عاش أحد بعده أو لم يعش أحد بعده، سبق بحث هذا في مؤتمر ماليزيا عام أربعة وثمانين، وقلنا: هذا من الترف العلمي، ولا يتأتى عملياً، والذين نقلت لهم قلوب وعاشوا أياماً إنما هي حالات قليلة، والله تعالى أعلم، ومن ناحية حكمه شرعاً فقد صدر بحث عن هيئة الإفتاء في مجلة البحوث العلمية فيما يتعلق بنقل الأعضاء، ومن شاء فليرجع إليه.(20/9)
إدراك الإمام راكعاً
السؤال
هل يشترط لمن أدرك الإمام راكعاً أن يدرك الطمأنينة مع الإمام حالة الركوع؟
الجواب
لا يعتد بتلك الركعة، إنما يعتد بالركعة لمن أدرك الإمام راكعاً، وركع معه، وأدرك معه طمأنينة، أما إذا جاء وركع، والإمام رافع ولم يشترك معه في الركوع، فلا يعتد بتلك الركعة.(20/10)
القراءة للأموات
السؤال
هل ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ للأموات؟
الجواب
لا، ولكنه أجاز قراءة القرآن على الأموات عند الاحتضار بسورة (يس) ؛ لأنها تسهل خروج الروح، أما بعد ذلك فالعلماء لهم كلام كثير في ذلك، فمن شاء فليرجع إلى المجموع للإمام ابن تيمية رحمه الله، فقد أطال الكلام فيها في كتاب الجنائز من مجموع الفتاوى.(20/11)
شرح الأربعين النووية - الحديث السابع [1](21/1)
تميم بن أوس الداري وحديثه في الجساسة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: قال رحمه الله تعالى في الحديث السابع من الأحاديث الأربعين النووية: [الدين النصيحة.
عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة.
قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم] .
هذا الحديث -السابع من الأربعين النووية- يعده بعض العلماء ربع الدين، ومنهم من يعده نصف الدين، وآخرون يعدونه ثلاثة أرباع الدين، ولو قال قائل: إنه الدين كله -كما قال صلى الله عليه وسلم لكان حقاً، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من الجميع.
وقبل الكلام على الحديث نقول: جرت العادة على التنبيه على بعض النوادر أو بعض الأشياء الغريبة فيما يتعلق ببعض الرواة، ومن هذا القبيل: فإنه من المعلوم عند علماء التاريخ وعلماء الحديث أنه إذا ذكر تميم الداري ذكر معه حالاً خبر الجساسة، وخبر الجساسة -كما رواه مسلم مطولاً- عن فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها، أنه دخل عليها بعض التابعين وقال: حدثينا حديثاً سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسندينه إلى أحد غيره -يعني: لا تجيئن بواسطة بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، بل بحديث تقولين: إنك سمعتيه مشافهةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقالت: تزوجت فلاناً وطلقني، وفلاناً ثم في يوم نادى المنادي: الصلاة جامعة، فحضر الناس المسجد وكنت في صف النسوة خلف القوم، فصعد صلى الله عليه وسلم المنبر وتبسم، وقال: (أتدرون لِمَ جمعتكم؟ ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة؛ ولكن حدثني تميم الداري بشيء كنتُ حدثتكم بمثله، فأحببت أن تسمعوا.
تميم الداري أن يتكلم فقام وقال: ركبنا سفينة بحرية في ثلاثين رجلاً -وكلمة بحرية قيد ليبين أنها سفينة كبيرة تبحر في البحار وليست سفينة نهرية صغيرة تمشي في النهر-.
قال في بعض الروايات: ركبنا البحر حينما اغتلم علينا، فهاج بنا شهراً، حتى أرفأْنا -يعني: رست السفينة- إلى جزيرة، فجئنا وركبنا في قُرُب السفينة -القُرُب: جمع قارب، ومن المعروف الآن أن مع البواخر الكبيرة: قوارب نجاة، وتكون تلك القوارب متصلة بالسفينة الكبيرة حتى وقت الحاجة الطارئة إذا أرادوا أن يذهبوا إلى ماء خفيف إلى الشاطئ، والعمق لا يحتمل السفينة الكبيرة فينزلونها لتكون أخف في الحركة وأسرع- فجلسنا في قُرُب السفينة ثم نزلنا إلى الجزيرة.
وفي بعض رواياته: فطلبنا الماء.
وبعض رواياته: فانكسرت السفينة فركب البعض منا على لوح منها.
كل تلك الروايات: فجئنا تلك الجزيرة، فلقيَنا دابةٌ أهلب كثيفة الشعر لا يُعرَف قُبُلها من دبرها -لايعرف مؤخرها من مقدمها من كثرة الشعر فيها- فقلنا: من أنتِ؟ قالت: أنا الجساسة.
قالت: ومن أنتم؟ وما خبركم؟ فذكرت لنا رجلاً وقالت: ائتوا ذلك الرجل في هذا الدير.
فلما ذكرت لنا رجلاً خفنا منها، وظننا أنها من الجن، فأسرعنا إلى الدير، فوجدنا رجلاً أشد وأكبر ما يكون، موثوقة يداه إلى رجليه ما بين الركبتين إلى القدمين في الحديد، فقال: من أنتم؟ فأخبرناه أمر الجساسة وقلنا: وجدنا دابة صفتها كذا وكذا، ثم قالت: هلموا إلى هذا الرجل في هذا الدير، فخشينا منها، فمن أنت؟ فقال: أنا المسيح، ومن أنتم؟ قلنا: قوم من العرب هاج بنا البحر وأرفأنا إلى هذه جزيرتك، فنزلنا فيها.
فقال: أما وقد علمتم مكاني، فإني أنا المسيح، أسألكم عن نخل بيسان.
قلنا: وعن أي شيء تسأل؟ قال: هل يثمر إلى الآن؟ قلنا: نعم يثمر.
قال: يوشك ألَّا يثمر.
ثم قال: أسألكم عن بحيرة طبرية: أفيها ماء؟ قلنا: نعم، مليئة بالماء.
قال: أسألكم عن عين كذا -وهي عين في أقصى الشام- هل تسيل؟ وهل يزرع أهلها؟ قلنا: ماؤها يفيض، ويزرع أهلها على مائها.
قال: يوشك ألَّا تجري، وألَّا يزرع أهلها.
ثم قال: أسألكم عن النبي الأمي: أظهر؟ قلنا: نعم، ظهر في مكة وهاجر إلى طيبة.
قال: ماذا فعل مع العرب، هل قاتلوه وقاتلهم؟ قلنا: نعم، قاتلوه وقاتلهم.
قال: ماذا فعل معهم؟ قلنا: لقد نصره الله عليهم وأظهره على كل من لقي وأطاعه العرب.
قال: هذا خير لهم.
ثم قال: إنه المسيح، ويوشك أن تُحلَّ قيوده وأن يظهر.
قال: فإذا خرجت فلن أترك قرية في الأرض إلا وطئتها إلا مكة وطيبة.
وبعض الروايات: ويثرب.
ورواية مسلم: وطيبة.
فإن على أنقابها ملائكة بأيديهم سيوف مصلتة.
وبعض الرويات: ملك يحرسها بيده سيف مصلت، فإذا جئت إلى أحد أبوابها ردني بسيفه.
ثم يقول تميم: أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال رسول الله: هل كنتُ حدثتكم بمثل ذلك من قبل؟ قالوا: نعم.
قال: أحببت أن أخبركم بخبر تميم يطابق ما كنت أخبرتكم به) .
هذه نبذة عن قصة الجساسة، وسميت جساسة؛ لأنها تتجسس الأخبار للدجال عما يحدث عند الناس، أوردنا هذا على غير العادة لأن اسم تميم الداري دائماً يصحبه خبر الجساسة.
وتميم الداري رضي الله تعالى عنه كان نصرانياً وكان راهباً متعبداً، قالوا: ولما أسلم جاء إبان عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، وأسلم ومكث على الاجتهاد في عبادته، وكان يقوم الليل وربما قرأ القرآن كله في ليلة، وربما قضى الليلة في آية واحدة، فكان متعبداً رضي الله تعالى عنه، ثم خرج بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الشام ومات بفلسطين.(21/2)
موافقة الواقع للخبر يزيد في اليقين
وهنا يقول العلماء: ما الحاجة إلى عرض الرسول صلى الله عليه وسلم خبراً عن تميم مع أنه كان يخبر أصحابه بمثل ذلك؟ نقول إن مثل هذه الأخبار، وتلك القضايا التي يأتي الواقع يصدقها تزيد في يقين المؤمن وتزيد في إيمانه، فهذا الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أول من يؤمن بكل ما أخبره الله به، وكان للمتقين إماماً، وكان أمة وحده، ومع ذلك يقول: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260] ألستَ مصدقاً؟ {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ، فالخبر حينما يأتي سماعاً ليس كالخبر حينما يأتي حساً مشاهداً، (ليس الخبر كالعيان) .
ولهذا إذا جاء المحسوس الواقع مطابقاً ومصادقاً للخبر السماعي زاده قوة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما يجمع الناس ويخبرهم بما سبق أن حدثهم به هل كان الرسول في شك من أمره؟ لا والله؛ ولكن أراد أن يعلن للناس واقعية ما كان قد أخبرهم به، وهذا يزيد في يقين الناس بما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.(21/3)
يقين أبي بكر وعمر فيما يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وإن كان بعض المؤمنين بمجرد أن يسمع الخبر لَكأنه رأى بعينه، ونذكر من ذلك ما جاء عند ابن كثير في البداية أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم قال: (إن رجلاً كان فيمن قبلكم ركب بقرة فضربها فقالت: يا هذا! لم أخلق لذلك، فقال الناس: واعجبا! بقرة تتكلم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: نعم.
وأنا أؤمن بذلك ومعي عليه أبو بكر وعمر - أبو بكر وعمر ليسا حاضرَين-، وما هما ثمة، ورجل كانت له غنم، فجاء ذئب وخطف شاةً فأدركه وخلصها منه، فالتفت إليه الذئب وقال: أنت خلصتها مني، من لها حينما لا يكون لها راعٍ غيري! قالوا: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! قال: نعم.
وأنا أؤمن بذلك ومعي أبو بكر وعمر، وما هما ثمة) وهنا يتجلى اليقين بمجرد سماعِ الخبرِ.
والصديق رضي الله تعالى عنه لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بأمر الإسراء والمعراج وقام أهل مكة يصفقون ويصفرون وذهبوا سراعاً إلى أبي بكر وقالوا: (اسمع ماذا يقول صاحبك! قال: ما يقول؟ قالوا: يقول: إنه ذهب البارحة وأتى إلى بيت المقدس، وأسري به إلى السماوات، ثم نزل إلى الأرض وجاء في ليلة، ونحن نضرب أكباد الإبل شهراً ذهاباً وشهراً إياباً.
قال: أقال ذلك؟ قالوا: نعم.
قال: لَإن قاله فهو صادق.
قالوا: كيف تصدقه على مثل ذلك.
قال: أنا أصدقه على ما هو أبعد من هذا، أصدقه على خبر السماء، فكيف لا أصدقه على بيت المقدس؟! إذاً: بعض الناس يكون اليقين والإيمان عنده بمجرد سماع الخبر ولا يعتريه أدنى شك.(21/4)
يقين علي والزبير فيما يأتي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وعلي رضي الله تعالى عنه لما كتب حاطب كتابه لأهل مكة فيما يتعلق بتهيؤ رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وسبق أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله قائلاً: (اللهم عمِّ عليهم الأخبار) ، ودعوته صلى الله عليه وسلم غالباً مستجابة، وأعطى حاطب الكتاب لضعينة -أي امرأة مسافرة- وقال لها: إن أوصلتِه إلى أهل مكة فلك كذا وكذا، فجاء جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا قال الله في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] وذاك قال فيه سبحانه: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21] لا شك في هذا ولا يحتاج الأمر إلى تثبت.
فقال لـ علي والزبير: (أدركا الضعينة في روضة خاخ، وخذا منها الكتاب) فأسرعا وأدركا الضعينة في الروضة التي أخبرهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: أخرجي الكتاب.
قالت: ما عندي كتاب.
ففتشا الزاد والرحل ولم يجدا شيئاً، فكادا أن يرجعا، فاستل علي سيفه، وقال: والله ما كذبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لصادق، ولابد أن تخرجي الكتاب، وإلا فتشنا الثياب.
فلم يكن علي رضي الله تعالى عنه في شك من إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! وقد هددها بالقتل وجزم بأن الكتاب موجود؛ لأن الرسول صادق، ما توقف حتى يفتش ويتيقن أهو موجود أم لا؟! لا.
وإنما قال قبل أن يفتشها: (لتخرجن الكتاب أو لأفتشن تحت الثياب -وتحت الثياب ممنوع- فأخرجته من عقاص شعرها) .
فيقين علي رضي الله تعالى عنه بصدق الخبر ومطابقته للواقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله كأنه يشاهد الكتاب، فما حمله على أن جزم بوجوده وهدد المرأة حتى أخرجت الكتاب.(21/5)
مراتب الناس في اليقين
الناس في اليقين على مراتب، إذ يتفاوتون بقدر صدق الإيمان وقوته، وبعض الناس يحتاج إلى تأليف قلبه حتى بالمادة، إلى أن يستقر الإيمان في قلبه.
وجاء أيضاً في باب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما يذكره العلماء- عند قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] ، هذا في سياق المنافقين.
وقبلها قال جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] إلى قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً * وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:65-66] .
فلو أن الله سبحانه وتعالى كتب عليهم القتل كما كتب على اليهود من قبل في توبتهم أو الخروج من ديارهم كما خرج المهاجرون من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، ما فعل هذا القتل أو الخروج إلا قليل منهم.
جاء بعض اليهود إلى بعض المسلمين -قيل: جاءوا إلى أبي بكر، وقيل: إلى عمر، وقيل: إلى بلال، وقيل: إلى فلان، فقالوا: (واعجباً! نحن كلفنا بأن نقتل أنفسنا توبةً لله ففعلنا، وأنتم يأتيكم رسول منكم تعرفونه وتؤمنون به وتتبعونه ولا تحكمونه فيما بينكم؟! فقال عمر رضي الله عنه: والله لو أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل نفسي لفعلت، والحمد لله لم يأمرنا -قالها يقيناً وامتثالاً- فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله اليهود رد عليهم بمقالتهم، فقال: إن هذا الإيمان لهو في قلوب بعض الناس كأمثال الجبال) .
أيحتاج إلى شواهد مادية؟! لا.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع الناس لأنه يحدثهم بأمر غيب وبأمر بعيد وو إلى آخره.
فلما جاءت قصة تميم الداري وسمع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع الناس وأخبرهم بما رأى تميم.
وهنا يقول بعض العلماء: الرسول يروي عمن؟ يقولون: هذا من رواية الأكابر عن الأصاغر، فقد يأتي إمام كبير جليل ويأتي أحد طلابه ويسمع حديثاً من جهة ما عن بعض الشيوخ بسند أطول ويسمعه شيخه منه ويكون الطالب عدلاً ثقة عنده، فيروي الشيخ عن تلميذه، وقد يروي الشيخ حديثاً ويسمعه طلابُه وينسى الشيخ ما حدث به، فيأتي الطلاب فيظلون يذكرونه: أنت حدثتنا كذا، فيقول: أنا نسيت، فيروي الشيخ مرة أخرى: حدثني فلان عني أني حدثتهم عن فلان عن فلان، فيجعل نفسه أحد الرواة بعد أن كان هو الشيخ الذي روى ذلك، وهذا باب في علم مصطلح الحديث، وهو يشف عن مدى التحري والصدق والأمانة في النقل.
وفي هذا الحديث لما ذكره تميم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إلا مكة وطيبة.
تقول فاطمة في بعض رواياتها: لكأني أنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخمش في المنبر بإصبعه: طيبة هذه، طيبة هذه) أي: المدينة المنورة، ومن أسمائها: طيبة، وطابة وذكر لها بعض العلماء في كتب التاريخ فوق الأربعين اسماً.(21/6)
شرح حديث: (الدين النصيحة ... )(21/7)
عموم النصيحة
قوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) : تجد في بعض النسخ: قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة.
ثلاثاً) ، فهل كلمة (ثلاثاً) اختصار في الكتابة، متعلقة بـ (قال) ، أو هي متعلقة بـ (النصيحة) .
الصحيح في الأسلوب أنها متعلقة بالنصيحة، وبهذا يكون السياق سليماً، مع احتمال أنه أراد الاختصار؛ ولكن صحت الرواية: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة) فرجح هذا أن (ثلاثاً) متعلقة بـ (قال) لاختصار الكتابة.
وهذا التكرار والتأكيد لبيان أن الدين بكامله من أول أركان الإسلام إلى أركان الإيمان إلى الإحسان إلى العقائد إلى كل ذلك، يجمعه كلمة (الدين) لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث جبريل بعد أن أجابه عن أسئلته (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، وجبريل سأل عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة، وفصل الجواب عنها، كل ذلك جمعه صلى الله عليه وسلم تحت عنوان: (الدين) .
إذاً: (الدين) في كلمة هو يحتاج إلى تقوية هذا الإخبار للسامعين.
وإذا كان هذا الحديث بهذه المثابة وهو من أبلغ كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هي النصيحة؟ النصحية لغةً: يقولون: الإخلاص أو التخليص.
والأصل في النصح: يقال: نصح العسل إذا صفاه عن الشمع.
وتقول أنت: نَقَح الحبّ -أو نَقَّح الحبّ- إذا صفى الحب من التبن.
وبهذا يجتمع كل تعريف النصيحة في الإخلاص والإصلاح، أو ما استخدم للإصلاح ولذا قالوا: النَّصْح، الإبرة نصاح، الخيط نصاح، الخياط ناصح؛ لأن الإبرة بالخيط في يد الخياط تصلح شق الثوب، أو تصلح الثوب لصاحبه.
فقالوا: النصح هو: الإخلاص.
وإذا كان النصح أو النصيحة هي الإخلاص، فالإخلاص لمن؟ قال: (لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم) : ماذا بقي بعد هذا؟ لم يبق شيء؛ حتى الحيوان تنصح له امتثالاً لأمر الله، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (في كل ذي كبد رطبة أجر) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء ... ) الحديث.(21/8)
شرح الأربعين النووية - الحديث السابع [2](22/1)
تابع شرح حديث: (الدين النصيحة ... )(22/2)
حصر الدين في النصيحة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله: (الدين النصيحة) هل هو على سبيل المبالغة، أو الحقيقة، أو الأغلبية؟ هذا يسمى عند البلاغيين: القصر، (الدين النصيحة) بمعنى: قصرت الدين في النصيحة.
قالوا: هذا على سبيل التغليب، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة) ، ففي الحج السعي والرمي والنحر.
كل هذا من الحج؛ ولكن يأتي (الحج عرفة) ، وبقية الأركان والأعمال الأخرى أليست من الحج؟ قالوا: أعظم أركان الحج عرفة، وإن كان السعي ركناً، والطواف كذلك، لكن كل عمل قد يُدرك في غير وقته إلا عرفة؛ لأنه إن فات عرفة فات الحج، والطواف والسعي الذي باسم الحج ينقلب إلى عمرة، وإذا فاته الوقوف بعرفة فلا رمي ولا شيء بعده، ولا اعتداد بالطواف والسعي الذي كان باسم الحج من قبل، فلو جاء وطاف طواف القدوم وسعى سعي الحج ثم فاته الوقوف بعرفة انقلب السعي من حج إلى عمرة، ويتحلل بعمرة.
إذاً: (الحج عرفة) و (الدين النصيحة) من باب التغليب والتنبيه على الأهم.
فإذا قلنا: ذلك كان أهم ما في أمور الدين النصيحة.
وإن جئنا إلى الشمول وأخذ اللفظ على ظاهر مدلوله فإن النصيحة بعمومها تشمل المسميات التي جاءت في هذا الحديث.
وعلى هذه فلمن تكون النصيحة؟(22/3)
النصيحة لله
تكون النصيحة لله أولاً.
قالوا: إذا كانت النصيحة هي تخليص الشيء، فنصيحتك لله: هي إخلاصك نيتك مع الله، ومحبتك لله.
ومن نصحك لله: أن تحببه إلى خلقه، وتحبب خلقه فيه.
ولذا جاء عن بعض العلماء: أعبد الناس إلى الله من حبب إليهم عبادته؛ لأنك إذا حببت العبادة إلى الناس جمعتهم على الله، وحببت الله لعباده، فصاروا يحبون الله.
إذاً: دللتهم على طريق محبته.
ولذا ينقلون عن القاضي عياض: المحبة أشد تعبداً من الخوف.
وقالوا: عن ابن المبارك وغيره: لو أن لك عبدين، أحدهما يحبك، والآخر يخاف منك، أيهما يكون أقرب إليك؟ الذي يحبك؛ لأنه يطيعك في حضورك، وينصح لك في غيبتك، وتأتمنه فيؤدي إليك أماناتك؛ لكن الذي يخافك، إن كنت حاضراً ربما استقام، وإن غبت عنه فلا خوف، فربما قصر في واجبك أو لم يؤد ما ائتمنته عليه.
إذاً: المحبة أشد من الخوف.
والنصح لله إما فرض وإما نافلة.
أما النصح لله الذي هو فرض على كل عبد فهو: إخلاص العبادة لله وعدم اتخاذ شريك، بمعنى ألا يشرك معه غيره في أي جانب من الجوانب، وأن يصف الله بما وصف به نفسه على سبيل الجلال والكمال، وأن ينفي عنه ما لا يليق بجلاله وكماله.
وأما النافلة فهو: أن يكون حبه لله، وما فيه مرضاة الله، أشد من حبه لنفسه.
ثم بعد ذلك يكون داعيةً إلى الله، فيكون ناصحاً فيما بينه وبين الله.(22/4)
النصيحة لكتاب الله
والنصح لكتاب الله: هو خدمة كتاب الله بكل ما أوتي من قوة، وذلك بحسن النية في اتباع الكتاب، وهذا عام في الجميع، وبمداومة تلاوته وتفهم معانيه، وكذلك اتباع أوامره واجتناب نواهيه.
ويندرج تحت النصح لكتاب الله ما قام به العلماء من بيان طريقة تفسيره وبيان طرق ومناهج معرفته وبيان مدلوله، فكل ما كتب في علوم القرآن وتفسير القرآن وتجويد القرآن، وما كان من كتابة القرآن وحفظ خط القرآن، وكل ما دوِّن من حرف في سبيل حفظ القرآن فهو نصح لكتاب الله.
ولهذا عمر رضي الله تعالى عنه لما رأى القتل يستشري بين القراء قال لـ أبي بكر: (أدرك كتاب الله من الضياع) .
إذاً: عمر لما جاء إلى أبي بكر يستحثه على جمع القرآن كان بدافع النصح لكتاب الله وحفظه من الضياع.
وهكذا كل ما يتعلق بالقرآن من حفظ وعلم وتعليم وتأمل وما يتعلق بهذا من جميع الجوانب.(22/5)
النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
(ولرسوله) صلى الله عليه وسلم في حياته صلوات الله وسلامه عليه، وقد رأينا النماذج من أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أنهم كانوا يفدونه بأنفسهم وبأموالهم وبأولادهم وبالعالم كله، فامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ومحبته في قلوبهم، ما هو إلا من شدة نصحهم له.
ونحن نعلم قضية خبيب بن عدي حينما أخذ أسيراً، ولما أرادوا أن يقتلوه أخرجوه إلى الحل وقالوا له: (هلم يا خبيب! أتود أن يكون محمد مكانك هنا ونخلي سبيلك) السيف مصلت على عنقه ويقولون: تمنَّ فقط، (أتتمنى أن يكون محمد -الذي هو سبب أخذك وأسرك- محلك هنا، تضرب عنقه وتسلم أنت، ونخلي سبيلك فماذا كان جوابه؟ لم يبال بسيوفهم ولم يبال بجمعهم ولم يبال بالحياة كلها بل قال: لا والله لا أرضى له ذلك، بل ولا أن يُشاك بشوكة وهو في مكانه بالمدينة.
فما الدافع لقوله هذا؟ الدافع هو شدة النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا امتثال الأوامر فيما ينفذه العبد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكثيرة هي تلك النماذج في ذلك، ومنها أيضاً: موقف علي رضي الله تعالى عنه لما نام في فراش النبي وهو خارج للهجرة، أيضاً كان سببه النصح لله ولرسوله.
وأبو بكر حينما مشى يوم الهجرة تارةً أمامه وتارةً خلفه، ولما قال له: (انتظر يا رسول الله! حتى أستبرئ لك الغار) ، كل ذلك من باب النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسنة كلها وتاريخ سلف الأمة من أصحاب رسول الله ومن بعدهم؛ يوضح جلياً مدى نصحهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتقدم لنا بأن التحاكم إلى كتاب الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم يعتبر من النصح لله ولرسوله، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] فالرد إلى الله رد إلى كتاب الله دائماً وأبداً، والرد إلى رسول الله في حياته إلى شخصه صلى الله عليه وسلم، وإلى سنته بعد مماته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
وكذلك الآن، من النصح لرسول الله في شخصيته صلوات الله وسلامه عليه النصح لسنته من بعده؛ لأنه قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي) .
فمن النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم النصح للسنة بنصرتها، وتدوينها، وحفظها، وبيانها، وعلم المصطلح الذي يبين صحيح الأحاديث من حسنها من ضعيفها، ومباحث الرجال وكل ما دون في علم الرجال وما يتعلق ببيان حال الرواة؛ فهذا الرجل ثقة نقبل حديثه، وذاك ضعيف نتوثق ونبحث له عن مستند وشواهد، وهذا كذاب، وهذا منكر الحديث، كل ذلك نصح للسنة، حتى لا نجمع بين الغث والسمين، ونتبين حقيقة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هؤلاء الرجال الأعلام أيدهم الله لإخلاصهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصحاً لله ولرسوله، فبينوا لنا الصحيح من السقيم، والمقبول من المرفوض في حق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يأتي بعد هذا العمل كان يأتيك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -آمراً إياك بأمر ما- ونفسك فيها شيء، وأنت بين أحد أمرين: · تنصح لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنصرها وتعمل بها وتترك رغبات نفسك؟! · أو تترك السنة وتأخذ رغبات نفسك؟! هنا يأتي النصح.
وكما سيأتي في باب الإجارات من حديث جابر رضي الله تعالى عنه لما جاء إلى أهل العالية قال: (جئتكم بأمر نهى عنه صلى الله عليه وسلم، كان لكم فيه خير؛ ولكن طاعة رسول الله خير لكم.
نهى صلى الله عليه وسلم عن تأجير الأرض بما يكون على رءوس الجداول والماذيانات) ؛ لأنهم كانوا يؤجرون الأرض على قسمين: قسم لصاحب الأرض، وقسم بين للذي يزرعها.
يقول صاحب الأرض: الذي يطلع على القنوات والذي في رأس الجدول أو رأس الحوض هذا لي، والباقي في أرض الحوض هذا لك أيها الزارع.
فقد يصح هذا ويموت ذاك أو يضعف، فيحصل عندها الغبن، فنهى صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع من التأجير وقال: (بذهب أو فضة أو جزء مشاع مما يخرج من الجميع) .
أخرجت -مثلاً- عشرة أوسق فيعطي صاحبها النصف أو الثلث أو الربع -بعد أن يُجمع (الماذيانات) ورءوس الجداول وأوساط الجداول، بنسبة مئوية مطّردة، فقال: (نهى عن أمر كان لكم فيه خير -أي: مصلحة- ولكن طاعة رسول الله خير لكم) .
هناك في آية أخرى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] يا سبحان الله! هنا والله تتجسد حقيقة الإيمان، وهنا يظهر المقياس الحقيقي للإيمان.
فـ زينب بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ زيد بن حارثة، ومن زيد بن حارثة؟ كان زيد قد أخذ أسيراً، فاشتراه حكيم بن حزام ثم أهداه إلى خديجة رضي الله تعالى عنها، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمه، فجاء أبوه وعمه بالفداء، وقال: (يا محمد! بلغنا أن ابننا زيداً عندك، وهذا فداؤه، قال: هل لك بخير من ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أناديه وأسأله إن كان يريدكم أخذتموه بغير فداء، وإن كان يريدني فما أنا بمفادٍ شخصاً يريدني.
قالوا: والله لقد أنصفتنا.
قال: تعال يا زيد! أتعرف الرجلين؟ قال: نعم.
هذا أبي، وهذا عمي.
قال: جاءوا بفدائك وأخبرتهم إن أردت أهلك فاذهب معهم بدون فداء، وإن اخترتني فما أنا بمستغنٍ عنك.
ماذا قال زيد؟ قال: والله! لا أختار أحداً عليك أبداً.
وهذا قبل أن يكون رسولاً، لما رآه من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة.
قال أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودية على الحرية؟ قال: وما لي لا أختاره؟! والله! ما قال لي لشيء فعلتُه قط: لم فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لم تفعله؟) .
إن الإنسان لا يصبر على هذا مع ولده، بل حتى على نفسه أحياناً، فقد يتضايق لأنه فعل هذا، ولم يفعل ذاك أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يؤنب خادمه على عدم فعله لأمر فضلاً عن أن يعاقبه.
بعض العلماء يبتلى بأن يكون له بعض الأولاد سيئي الأخلاق، فيقال له: يا أخي! أنت عالم وفاضل وهذا ولدك كذا لماذا لم تؤدبه؟ قال: لا أفسد أخلاقي بإصلاح أخلاق غيري.
قلت: إن هذا فيه تقصير؛ ولكن إلى هذا الحد بلغ به الخوف من أن تفسد أخلاقه؛ لأنه لو أخذ يعنف ويصيح ويعمل، فهذه صورة قد يأباها بعض الناس، ويكون بذلك يفسد أخلاقه من أجل أن يصلح غيره.
الذي يهمنا بأن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم عظيمة من قبل البعثة؛ لأنه كان في عهدة ربه، يتعهده من قبل أن يولد، وصانه من السفاح وو، ولما كان رضيعاً شُق صدره، وأُخذ حظ الشيطان منه، إلى آخره.
ولما رضي زيد واختار جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته رأى النبي أن يكافئه على ذلك كما جاء في الحديث: (فأخذه وطاف به حول الكعبة، وقال: أشهدكم يا معشر قريش! أن زيداً ابني) يعني: زيد ابنه بالتبني، وكان التبني قاعدة معروفة عند العرب، من تبنى أحداً كان بمثابة ولده لصلبه، يرث عنه ويرثه ويعقل عنه، كأنه واحد منهم وكفى.
وعلى هذا فإذا تزوج الابن بالتبني من امرأة صارت حليلته، وحليلة الولد لا تُنكح، فأراد الله أن يبطل التبني، ويبطل حرمة زوجة الابن على جهة التبني؛ ولكن ذلك كان درساً شديداً، فقد أبطل الله هذا التبني في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيمن تبناه، وفي ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فيأتي رسول الله ويخطب زينب لـ زيد بن الحارثة، فنريد أن نبين في معرض هذه القصة أن المؤمنين يسلبون الخيرة من أمرهم.
لكن وهذه القضية ليست عادية، فليس الأمر متعلقاً بثوب يلبسه ويخلعه، أو طعام يأكله وينتهي منه، أو بيت يسكنه ويخرج منه، لا.
بل هي قضية لها أبعاد بعيدة جداً في ذلك المجتمع: فـ زينب القرشية تعد في الذروة من حيث النسب، وزيد -مهما كان أصله- قد جرى عليه الرق، فهل هناك تقارب وتكافؤ في النسب بين زيد وزينب؟ ليس هناك تقارب إلا في حرف الزاي والياء فقط؛ لكن من ناحية النسب فهما بعيدين جداً.
فـ زيد جرى عليه رق، وزينب في القمة من النسب.
فكيف تواجه زينب المجتمع؟! كيف ترضى أن تتزوج برجل جرى عليه رق وهي في القمة من قريش؟! فهذه زيجة وعشرة وفراش ومعاشرة، فماذا سيقول الناس؟! وقد أجبرت على الزواج بشخص لا رغبة لها فيه، فـ زينب كانت تواجه المشكلة من جانبين: · جانب مواجهة المجتمع للفارق البعيد بينهما، إذ ليس هناك تكافؤ بينهما.
· وزينب تواجه أيضاً إباء في شخصيتها، أن تكون فراشاً لمولىً سبق عليه الرق، وأخوها يأبى ذلك.
ولكن ينزل قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] .
إذاً: الخيرة لمن؟ لله سبحانه وتعالى.
أليس الخلق كلهم عبيداً لله؟! هل يُمنع الخالق من أن يتصرف في خلقه؟! إذاً: من حق المولى سبحانه أن يحكم بما يريد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1] .
إذاً: حكم الله مقدم على رغبات الناس، وعلى اختياراتهم، ولذا جاء الحديث: (والله! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) هواه ورغباته تكون تبعاً لما جاء به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، لا أن تكون السنة والكتاب تبعاً لأهواء الناس، وكل يجرها إلى حيث شاء، بل الأهواء(22/6)
الأسئلة(22/7)
الدعوة ببصيرة وحكمة من النصيحة لدين الله
السؤال
هل من النصيحة لله ولكتابه ولرسوله: الدعوة إلى الله بالحكمة؟
الجواب
أشرنا بأن من النصيحة لله: أن تحبب الله إلى الخلق، ويصبح العبد يحب ربه أكثر مما يخافه.
والنصيحة لكتاب الله: أن تتعلم القرآن وتعلمه غيرك.
والنصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون موقفك من السنة كموقفك من كتاب الله.
أما كون الدعوة إلى الله نصحاً لله بأسلوب ما، فهذا محله: (ولأئمة المسلمين وعامتهم) ؛ ولكن فعلاً الدعوة إلى الله بما أمر الله: نصيحةٌ لله.
الله سبحانه وتعالى جعل للدعوة إليه قواعد وإطارات: · أولاً: يجب أن يكون الداعية قبل أن يتعرض للدعوة عالماً بما يأمر وبما ينهى.
· وأن يكون حكيماً في أسلوب أمره وفي أسلوب نهيه، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] والبصيرة: العلم، وكما يقول البخاري: (بابُ: العلم قبل العمل) ؛ لأن الله تعالى يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] .
· وبعد البصيرة ورؤية الأمور وتوقع نتائج الأمر والنهي: أنه لا يأتي بأشد من الموجود، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] ، فتبصرت أولاً وعرفت، فجئت للتنفيذ العملي: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ} [النحل:125] لم يقل: (والموعظة) فقط، وإنما {الْحَسَنَةِ} [النحل:125] .
إذاً: يفهم من ذلك الموعظة قد تكون حسنة، وقد تكون غير حسنة.
وهذا الذي سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ، وإن أدى الأمر إلى جدال أو نقاش: فـ {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] .
وسيأتي زيادةُ تنبيه عليه إن شاء الله.
وبالله تعالى التوفيق.(22/8)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1](23/1)
شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... )(23/2)
مشروعية الجهاد والدعوة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى ونفعنا بعلومه في الدارين آمين: [عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى) رواه البخاري ومسلم] .
هذا الحديث الذي اختاره الإمام النووي رحمه الله ضمن هذه الأربعين الحديث المختارة، يبين فيه صلى الله عليه وسلم حقيقة القتال في سبيل الله مع بيان حرمة المسلم وبما يعصم الإنسان دمه وماله.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأنفسهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) .
في هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه أُمر، ومن الآمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ليس أحد من الخلق له حق توجيه الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الآمر لرسول الله هو رب العالمين، وهناك في علم الحديث حينما يقول الصحابي: أُمرنا بكذا، قالوا: إن له حكم الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يتأتى أن يأمر صحابي صاحبياً آخر لمساواتهم في الصحبة، فيكون الآمر للصحابي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا إذا قال صلى الله عليه وسلم بنفسه: (أمرت) فلا يكون الآمر لرسول الله إلا رب العالمين.
فبماذا أمر صلى الله عليه وسلم؟ قال: (أمرت أن أقاتل الناس) ، وإذا كان الأمر موجهاً من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم كان مقتضى ذلك الوجوب، وليس عندنا في هذا المقام صارف يصرفه عن ذلك الحكم.
وبأي شيء أقاتل؟ المقاتلة: مفاعلة، وتكون دائماً بين طرفين، والمقاتلة هنا: أسندها صلى الله عليه وسلم لنفسه (أن أقاتل) ، وهل يقاتل وحده صلى الله عليه وسلم، أم أن أصحابه أمروا بقتال من أُمر صلى الله عليه وسلم بقتاله؟ هذا الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام، وأمته داخلون معه فيه.
وقد بيّن الله سبحانه وتعالى في الجملة موقف أصحابه رضي الله تعالى عنهم: فمن جانب المهاجرين يقول الله سبحانه وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] .
ثم بيّن موقف الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ} [الحشر:9-10] ، فهذا هو سبيل المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(23/3)
أقسام الناس مع الجهاد
إنما سمي الجهاد جهاداً لبذل الإنسان جهده وهو أقصى طاقته في قتال العدو، والنص الصريح هنا (أمرت أن أقاتل الناس) الناس: عامة، وكما يقولون: ناس ينوس إذا تحرك أو صوّت، وتشمل جميع الطوائف من غير المسلمين، فتشمل اليهود والنصارى وأصحاب الأوثان والصابئين وغير ذلك، ولكن جاءت النصوص الأخرى وخصت هذا العموم فأخرجت منه أهل الكتاب؛ لأنه يكتفى منهم بالجزية، فإما أن يسلموا، أو يؤتوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإما أن يقاتلوا.
أما بقية الناس من المشركين ومن لا كتاب لهم فإنهم ليس لهم إلا أحد أمرين: إما الإسلام، وإما القتال.
ويختلفون في بعض الطوائف كالمجوس وغيرهم، هل يُلحقون بأهل الكتاب لقوله عليه الصلاة والسلام: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) ؟ وهل ذلك يشمل الجزية؟ والذي يهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه أُمر بقتال الناس، واستثنى منهم الشيخ والمرأة والطفل، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا غزى أو جهز جيشاً أو بعث سرية، قال: (لا تقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً هرماً) أي: ما اجتنبوا القتال، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم، وقد جاء أيضاً: (ستجدون أقواماً عكفوا في صوامعهم فدعوهم وما اعتكفوا عليه) .
إذاًَ: (أمرت أن أقاتل الناس) عام وخصص منه أهل الكتاب، ثم الذين يقاتَلون والباقي بعد التخصيص أفراد منهم وطوائف لا تقاتل إلا إذا شاركوا في القتال، فالمرأة لا تقتل إلا إذا شاركت في القتال، والطفل لا يقتل، والشيخ الكبير لا يقتل إلا إذا شارك برأي أو بفكر أو بتخطيط أو مكيدة أو غير ذلك.(23/4)
عصمة الدم بالنطق بالشهادتين
قال صلى الله عليه وسلم: (حتى يشهدوا) يتفق علماء اللسان على أن حتى: حرف غاية، وأن ما بعدها يغاير ما قبلها (أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) فإذا شهدوا هل يستمر القتال، أم يتوقف؟ يتوقف، إذاً: (أقاتل) حتى يأتي ما بعد حتى، وهو: أن يشهدوا، والشهادة من المشاهدة، كما قال سبحانه {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ} [الطلاق:2] والشاهد سمي شاهداً: لأنه يشاهد ويعاين الحادثة التي يشهد عليها، سواءً كان برؤية أو بسماع، ومن هنا قال سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] أي: دخل عليه الشهر وهو حاضر، سواءً كان شهده بعينه، أو شُهد وأُخبر فسمع وعلم بدخول الشهر.
والشهادة بأن لا إله إلا الله يقر بمعناها، وينطق بمبناها، وتقدم في حديث جبريل عليه السلام حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: (أخبرني عن الإسلام ... ) وذكر له أول ما ذكر: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) .
ونلاحظ هنا في الحديث: (أن يشهدوا) ولم يقل: أن يقروا، فقد يقر الإنسان بشيء لم يشهده، فالشهادة أخص وآكد من الإقرار، ومن هنا كان قول المسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، كأنه يقر بأمر مشهود محسوس عنده بيقين، ولذا أجمع العلماء على أن العقائد لا يكفي فيها غلبة الظن كما هو في أمور العبادات والمعاملات، بل لا بد أن تكون على يقين وقطع جازم.
وهنا يبحث علماء الكلام: هل يكفي في إثبات العقائد أحاديث الآحاد وهي ظنية الدلالة، أو لا يدخل في باب العقائد إلا قطعي الدلالة من نص آية أو حديث متواتر؟ تجدون في كتب الأصول الخلاف في هذا، ومما بينه أو سجله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في مبحث نسخ الكتاب بالسنة هل وقع أو لم يقع؟ وجائز عقلاً ولم يقع شرعاً إلى غير ذلك، نص على أنه بناءً على أن الحديث وإن كان آحاداً إذا صح سنده، ثبتت به أمور العقائد، ولهذا كثير من الأسماء والصفات إنما جاءت بأخبار الآحاد، وتلقاها المسلمون بالقبول، والسنة وحي كما قال تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] .
قال: (يشهدوا أن لا إله إلا الله) فالعقيدة لابد فيها من جزم، ولابد فيها من قطع، كما تقر بمشاهد محسوس تراه بعينك أو تسمعه بأذنك أو تلمسه بيدك.(23/5)
معنى شهادة أن لا إله إلا الله
وقد جرى الاتفاق على أن شهادة أن لا إله إلا الله تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: نفي.
والقسم الثاني: إثبات، فـ (لا إله) نفي لجميع الآلهة، والإله بمعنى: المألوه، والمألوه: المتعلق به المحبوب، ومنه: الوله، ومنه: الولهان شديد الحب لما يحبه، والعبد متعلق بربه ولهان به، يجأر إليه ويلجأ إليه في كل أموره، ولهذا قالوا: إن القسم الأول نفي لكل مألوه أياً كان نوعه مما تألهه الخلق في جاهلية وغيرها من حجر أو شجر أو ملك أو فلك أو أي شيء، (لا إله) نفي لجميع المألوهين، و (إلا الله) إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى، فلا يؤله ولا يرجى ولا يحب ولا يرغب إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن في قولك: (لا إله إلا الله) إثبات إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية وهو غاية التوحيد.
والقسم الثاني من الشهادة: (وأن محمداً رسول الله) هنا في الشهادة كما قلنا: لابد أن ينطق بها قولاً، ويعتقدها قلباً، ويعمل بمقتضاها، فإذا قال: (لا إله إلا الله) بلسانه واعتقدها بقلبه ثم ناقض ذلك بفعله يكون فعله ناقضاً لقوله، فإذا قالها وتأله وعبد غير الله فلا ينفعه ذلك، وقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل حصيناً والد عمران بن الحصين فقال: (كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحداً في السماء، قال: من الذي تلجأ إليه عند الشدة، وتسأله عند الحاجة؟ قال: الذي في السماء) فهل هذا يكفي ليكون موحداً؟ لا، بل لابد أن ينفي جميع الآلهة.(23/6)
الاعتقاد بالشهادتين لا يكفي دون النطق بهما
وهنا ترد مسألة: هل الاعتقاد بالقلب يكفي عن النطق؟ فمثلاً: لو أن إنساناً يعتقد في قلبه أنه لا إله بحق أو لا معبود بحق إلا الله، فهل يكفي ذلك ليكون مسلماً؟ الاتفاق بأن ذلك لا يكفي.
ودليل ذلك أن عم النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده يقين في قلبه بصدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام لكن هذا اليقين الذي لم يتبعه الشهادة على ذلك باللسان والعمل لم ينفعه عند الله، ونجد هذا في قول عمه أبي طالب: والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً إذاً: الاعتقاد موجود، ولكن بقيت الكلمة -الشهادة- لكنه لم يقلها.
إذاً: مجرد الاعتقاد لا يكفي، والذين يقولون: الإيمان اعتقاد بالقلب وحسب، ويرد عليهم بهذا الحديث، وبهذه المحادثة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عمه، ولهذا أجمع علماء أهل السنة على أن: الإيمان قول واعتقاد وعمل، وبعضهم يقول: الإسلام: وهو العمل الظاهر، فالنطق بالشهادتين أقرب إلى مسمى الإسلام؛ لأنه استسلام، ولذا كان المنافقون في عداد المسلمين بقولهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكانوا مع الكفار باعتقادهم الداخلي.
إذاً: لابد من هذا النطق بـ (لا إله إلا الله) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأن محمداً رسول الله) لماذا لم يقل: (وأني رسول الله) جاء في بعض الروايات عن أبي هريرة: (وأني رسول الله) ، ولكن هنا في هذا الحديث: (وأن محمداً) فهل يتكلم عن شخص آخر، أم عن شخصيته صلى الله عليه وسلم؟ لكأنه يجرد من نفسه نفسه، ومن شخصه شخصه، هو الرسول محمد الذي أرسل، ويبعد حظ نفسه من ذلك؛ لأنه مبلغ عن الله، وهو بنفسه صلى الله عليه وسلم قد أعلن عن إيمانه بأنه في ذاته رسول: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285] .
إذاً: هو يعلن عن إيمانه برسالته وبوحي الله الذي أنزل عليه، وبهذه المناسبة ومثالها في باب التجريد -كما يقولون-: لما جاءت المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده ثم سرقته، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فعز على الناس أن امرأة مخزومية من بني مخزوم -من علية القوم- تقطع يدها في إناء سرقته، قالوا: من يكلم فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قالوا: أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ويحك يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) لم يقل فاطمة بنتي، فيكون الموضوع شخصياً يخصه صلى الله عليه وسلم، بل الأمر والقضية هي أنه مبلغ شرع، قال: (لو أن فاطمة بنت محمد) ومن هو محمد هذا؟ جاء في القرآن: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ، فالقرآن يسجل بأن محمداً هو الذي أرسله الله ليبلغ الرسالة للناس، فمحمد هذا يبلغ وينفذ الأحكام ولو على فاطمة، ولم يقل: فاطمة بنتي، بل قال: لو أن فاطمة بنت محمد، وأنتم تعلمون من محمد.
وهنا يقول: (وأن يشهدوا أن محمداً رسول الله) صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: (ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) لم يقل: (ويؤدوا الصلاة) بل قال: (يقيموا) لأن الإقامة من القيام، والقيام فيه عزيمة، وفيه ملازمة ومصابرة وقوة، ومنه قوامة الرجال على النساء، ومنه القوم تطلق على الرجال ولا تطلق على النساء، لوجود القوة والقوامة والإصلاح.(23/7)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [2](24/1)
تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... )(24/2)
عصمة الدم بإقامة الصلاة
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: إقامة الصلاة: هو أداؤها والحفاظ عليها بجميع شروطها في أوقاتها بصفة جماعية، تقول: قامت السوق على ساقها، إذا كانت السوق نشيطة، والحركة فيها دائمة وقوية، وهكذا: (يقيموا الصلاة) أي: يؤدونها ويحافظون عليها بكل لوازمها.
(ويؤتوا الزكاة) الصلاة كما قالوا: حق البدن، وهي محض عبادة لله، وأمرها تعبدي توقيفي، وليس لأحد في باب الصلاة اجتهاد، ولا يدخل في أمر الصلاة قياس ولا اجتهاد، فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الصلاة كما تلقاها عن جبريل عليها السلام؛ لأنه ثبت في ليلة الإسراء والمعراج أنه لما جاء صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ظهر يومها، جاء جبريل عليه السلام وصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر في أول وقتها، ثم نزل فصلى العصر في أول وقتها وهكذا الأوقات كلها، فعلمه كيف يركع، وكيف يسجد، وكيف يفعل بقية أفعال الصلاة حتى تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي اليوم الثاني نزل جبريل عليه السلام في آخر وقت كل صلاة إلا المغرب حيث نزل من الغد في الوقت الذي نزل فيه بالأمس، ثم قال: (يا محمد! ما بين هذين الوقتين وقت) ، وهكذا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إذا جاءه أعرابي ونادى: (يا رسول الله كيف الصلاة؟ قال: صل معنا، فصلى الأعرابي معهم أول يوم، فصلاها صلى الله عليه وسلم في أوائل أوقاتها، وصلى بهم في اليوم الثاني في آخر وقت كل صلاة إلا المغرب صلاها في اليومين في الوقت الأول، ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: ما بين هذين وقت) .(24/3)
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم الصلاة
أما الكيفية في ذاتها وأدائها: (فقد صعد صلى الله عليه وسلم منبر مسجده في المدينة واستقبل القبلة وكبّر وقرأ وركع، ثم رفع من الركوع، ثم نزل القهقرى من المنبر -وكان ثلاث درجات- وسجد عند آخر درجة من درجات المنبر التي هي الأولى ورفع من السجود وجلس بين السجدتين، ثم سجد الثانية، ثم قام للركعة الثانية وصعد المنبر مستقبلاً القبلة وركع ثم رفع من الركوع، ثم نزل القهقرى ولم يستدبر القبلة محافظاً على استقبال القبلة حتى نزل إلى الأرض وسجد السجدتين، ثم تشهد وسلم، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي) .
والسنة مليئة بأحاديث تعليم الصلاة من أول النداء إليها إلى السلام منها وتوابعها: من تسبيح وتحميد وتعليم للفرائض والنوافل، كل ذلك مبين موضح في كتب الحديث وفي كتب السنة.
(وإقام الصلاة) المقصود هنا الفريضة.
وقد جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء من قبل نجد وقال: (يا رسول الله! ما افترض الله علي من الصلوات؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، قال: ما افترض الله علي من الصيام؟ قال: شهر رمضان، قال: هل علي غيره، -إلى آخره- ثم قال: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فلما أدبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق) .
وجاء الحديث الآخر يبين معنى إقامة الصلاة عندما قال عليه الصلاة والسلام: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، من حفظها وحافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحفظها ولم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد) إلى آخر الحديث.
إذاً (إقام الصلاة) أداؤها بالحفاظ على كل شروطها ومستلزماتها وأداؤها في الجماعات، ولهذا عبّر صلى الله عليه وسلم بإقام الصلاة بدلاً من أداء الصلاة، أما حكم القتال عليها فسيأتي بعد إن شاء الله.(24/4)
عصمة الدم بإيتاء الزكاة
(ويؤتوا الزكاة) ، الزكاة هي فريضة المال، والأموال الزكوية في الجملة تحت عنوان واحد: الأموال النامية.
إذاً: الأموال الجامدة الصامتة التي لا نماء لها فلا زكاة فيها، وهذا في الجملة.
ما هي الأموال النامية؟ جرى الاتفاق على أن بهيمة الأنعام، وما يحصد من الزروع والثمرة، والذهب والفضة أنها أموال نامية ففيها الزكاة.
وبقي أنواع من الزروع اختلفوا فيها، كما اختلفوا في بعض الحيوانات فمن الأنواع النامية الموجودة: ما كان نماؤها مؤقت، مثل: الخضروات، فالأصل أنها نامية، ولكن ليست دائمة، ولهذا يتفقون على أن الزكاة في الحبوب الموسقة -من الوسق- والمقتاتة التي تقتنى، والخضروات لا تقتنى، فلو مضى عليها أربع وعشرون ساعة لذبلت وتلفت، والزكاة في قيمتها.
فاتفق على أصول الأموال الزكوية النامية من بهيمة الأنعام ومن الحرث والثمار المقتاتة والنقدين وما يتصرف منهما، وللزكاة فروع ولها تفصيلات أخرى فيما يتعلق بالركاز والمعادن وما شابه ذلك، وكذلك في العسل وفيما يؤخذ من البحر إلى غير ذلك، وهذه كلها فرعية في هذا الباب.(24/5)
لمن تؤدى الزكاة؟
قال: (ويؤتوا الزكاة) يؤتونها لمن؟ أيؤتونها للإمام، أم يؤتونها للمستحقين؟ جاء في قصة أبي بكر مع عمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين حينما امتنع قوم عن أداء الزكاة، وقالوا: لا نؤديها لـ أبي بكر فقد كنا نؤديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدعو لنا ويصلي علينا، والله تعالى قال لرسوله ولم يقل لـ أبي بكر: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] والرسول انتقل إلى الرفيق الأعلى، وجاء غيره وهو ليس مثله فلا نعطيها لأحد بعده، فمنهم من جحدها بالكلية، ومنهم من امتنع عن أدائها، ومنهم من كان يؤديها بنفسه ولا يسلمها إلى الخليفة، وسيأتي تفصيل ذلك.(24/6)
على أي شيء يعود اسم الإشارة في قوله: (فإن فعلوا ذلك)
قال: (فإذا فعلوا ذلك) هنا ناحية لغوية ينبه عليها علماء الحديث في أن: السياق يأتي في مقتضى صورة الشرط وجزائه (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا فإن فعلوا ذلك) ، ولكن جيء بـ (إذا) وهي لما يستقبل فقالوا: (إن) من باب التفاؤل، والحرص، والشفقة على الناس، قال: (فإذا فعلوا ذلك) أي: قبل القتال أو بعد القتال أو عند القتال، و (ذلك) : اسم إشارة للبعيد، يقول أهل اللغة: ذلك وذا وهذا كلها أسماء إشارة، ذا: للقريب جداً، هذا: للمتوسط، ذلك: للبعيد جداً، فقالوا: (إذا فعلوا ذلك) قد يكون المشار إليه حسياً في البعد والقرب والتوسط، وقد يكون المشار إليه معنوياً، وتستعمل (ذلك) للإشارة للبعيد لعلو مكانته وبعد منزلته، كما جاء في قوله سبحانه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1-2] مع أن (الم) جزء من الكتاب، فهو قريب جداً تنطق به، ولكن جاء لفظ الإشارة للبعيد لبعد المنزلة وعظم قدر القرآن الكريم.
فقوله: (فإذا فعلوا ذلك) اسم الإشارة (ذلك) راجعة على ماذا؟ على كل ما تقدم (حتى يشهدوا، وحتى يقيموا، وحتى يؤتوا) فمجموع ذلك إذا فعلوه (عصموا مني) وعصموا بمعنى: حفظوا، والعصمة الحفظ، والعصمة من الخطأ، والعصمة من القتل.
فإذاً: (عصموا) أي: حفظوا وصانوا وامتنع علي منهم دماؤهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، (عصموا مني) : منه وحده، أو من جميع المسلمين، أو من المقاتلين؟ لأن الأمر يرجع إليه هو صلى الله عليه وسلم، فمن قُتل قتل بأمره، ومن عُصم عصم بأمره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يوجه السرايا ويتوجه بنفسه بالجيوش، أو يكفها ويوقفها ويمنعها، بصفته المسئول عن الأمة والمتكلم باسمها صلى الله عليه وسلم وهو المأمور بذلك.(24/7)
الأصناف التي تستثنى من العصمة بالإسلام
قال: (عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام) ، وما هو حق الإسلام الذي يفك العصمة ويرفعها عن الدماء والأنفس؟ قالوا: ترفع العصمة عن ثلاثة: قاتل النفس غير معصوم الدم؛ لأن فيه القصاص، والمرتد عن دينه عياذاً بالله غير معصوم النفس، والثيب الزاني لأنه يرجم، عصمت الدماء جميعاً إلا بواحدة من تلك الثلاث: الثيب الزاني؛ لأنه يرجم، وقاتل النفس؛ لأنه يقتل قصاصاً، والمرتد عن دينه المفارق للجماعة، وحق الإسلام في هذه الثلاث.
قال: (وحسابهم على الله) أقبل وأكف وأعصم الدماء والأموال بتلك الأمور الظاهرة، والتي هي نطق يسمع، وصلاة تشاهد، وزكاة تدفع، فهذه كلها أمور ظاهرية ظاهرة واضحة والكل يشهدها.
(حسابهم على الله) في أي شيء؟ في نطقهم بالشهادتين، أكانت عن يقين واعتقاد واستسلام، أم عن نفاق، فهذا حسابه على الله، ولذلك فإن أسامة بن زيد حينما قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله وقال: (إنما قالها خشية السيف أو تحت السيف، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: أشققت عن قلبه) .
إذاً: أنت لست مسئولاً عما يكنه في داخله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] هذا أمر معاملة بينهم وبين الله لا تقوى أنت على تصفيتها، كالذي يأتي المسجد ليصلي، هل كانت صلاته حقيقة خالصة لله، أو جاء لشيء؟ صلى وصام لشيء كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صام إذاً: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) .
عندما يدفع المزكي زكاته هل يدفعها على أنها مغرم ويسلمها ليسلم، أو يدفعها معتقداً بأن الله سيخلفها عليه، وأنه يقرض الله قرضاً حسناً؟ مرد كل ذلك إلى الله.
وهنا يقف كثير من العلماء -وهو محل وقوف حقاً- فيقولون: إن ولي أمر المسلمين له ظواهر أحوالهم، ولا يحق لأحد أن ينقب ليكشف عما يبطنون أو يخفون، وليكل أمرهم إلى الله، ولذا كان معاوية رضي الله تعالى عنه يقول: من تتبع أحوال الأمة أفسدها.
ولذا نقول لأولئك الإخوة الذين يتتبعون عثرات الناس، وهفواتهم ليكشفوها: احذروا أن يكشف الله الستر عنكم، وقد جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن رجل يفعل منكراً: ماذا يصنع معه؟ قال: عظه ومره بالمعروف، وانهه عن المنكر، فإذا لم يمتثل لا ترفع أمره للسلطان لتستعديه عليه.(24/8)
علة عدم ذكر الصوم والحج في الحديث مع أنهما من أركان الدين
وهنا مسألة يجب أن نتوقف عندها: ذكر صلى الله عليه وسلم أنهم إن شهدوا الشهادتين وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، عصموا الحديث، لماذا لم يذكر بقية أركان الإسلام والتي هي الصوم والحج؟ إن جميع شراح الحديث وخاصة أصحاب الأربعين يقولون: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر الصوم ولم يذكر الحج لاحتمال أن يكون هذا الحديث قبل مشروعية الصوم، وقبل مشروعية الحج، والآخرون يقولون: هو إنما ذكر الأصلين لقسمي التكليف؛ لأن العبادات إما بدنية محضة وهي الصلاة والصوم، وإما مالية محضة وهي الزكاة، وإما تجمع بينهما كما في الحج والجهاد، فاكتفى صلى الله عليه وسلم بذكر الصلاة ويتبعها الصيام؛ لأنه عبادة بدنية، وذكر الزكاة ويتبعها الحج؛ لأن فيه عنصر المال، وهذه خلاصة أقوال شراح الحديث.
وهنا قول ثالث: إن الحديث جاء بأن أمر أن يقاتل الناس جميعاً حتى يعلنوا ما يمكن إعلانه، أما ما خفي فحسابهم على الله، والذي يمكن أن يظهر ويعلن ويشهد عليه: هو ما نص عليه في الحديث بأن يشهدوا فنسمع، ويصلوا فنشاهد، ويؤتوا فنقبض، أما الصوم فأمر خفي وأما الحج فعلى من استطاع إليه سبيلاً، والاستطاعة أمر خفي، فلذا نقول -والله تعالى أعلم-: لم يذكر صلى الله عليه وسلم الصوم؛ لأنه أمر خفي، وجاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي) لا من أجلكم أنتم، فلا يستطيع أحد أن يقول: نقاتل فلاناً؛ لأنه لم يصم، إلا إذا رأيناه يأكل بأعيننا، هذا شيء آخر، لكن بدون أن نراه يأكل أنستطيع أن نقاتله بدعوى أنه صائم، أو غير صائم؟ كما لا نستطيع، لا نستطيع أن نقاتل إنساناً لأنه لم يحج؛ لأن الحج مبناه على الاستطاعة، وقال صلى الله عليه وسلم في الاستطاعة (الزاد والراحلة) ونحن لا ندري حاله فيهما.
والخلاصة أن الأقرب في عدم التنصيص على الصوم وعلى الحج؛ لأن الصوم والحج عملان خفيان لا يطلع عليهما إلا الله عز وجل وليسا بظاهرين.
ويقول بعض العلماء المتأخرين: نحن نكتفي من الناس بقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فنحكم بالإسلام، فإذا التزموا بلا إله إلا الله محمد رسول الله حكمنا بإسلامهم، ومن ثم نطالبهم بالصلاة، ونطالبهم بالزكاة، ونكلفهم بالصوم، وبكل أركان الإسلام؛ لأنه إذا نطق بالشهادتين فمعنى ذلك أنه نفى كل الآلهة إلا الله واعترف بالله وحده، فإذا عبد غير الله ناقض شهادته، وناقض التزامه، وإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، وعبد الله بغير ما جاء به محمد الرسول، فيكون بذلك قد رفض شيئاً مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك أنه رد شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، والله يقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] قالوا: إذا نطق بالشهادتين حكمنا بإسلامه، ثم بعد ذلك نطالبه ببقية أركان الإسلام، فإن امتثل وأطاع وإلا اعتبرناه مرتداً وقتلناه، وليس قاتلناه، فإن لم قد تعلم بعد، نعلمه حتى يتعلم أركان الإسلام، ولهذا قالوا: أركان الإسلام وتعاليم الإسلام إذا قصر فيها حديث عهد بالإسلام سواء كان في الجاهلية أو اليوم نعذره ونمهله حتى يتعلمها وحتى نبينها له، فإذا التزم بها فبها ونعمت، وإلا كان مصيره آخر.
إذاً: عدم ذكر الصوم، وعدم ذكر الحج لا لأنهما غير مشروعين بل لما قد علمتم، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه يروي هذا الحديث وإنما أسلم في العام السابع من الهجرة، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خيبر، ومشروعية القتال والجهاد كانت موجودة قبل ذلك.
والصوم شرع في السنة الثانية من الهجرة في شعبان، إذاً: كان الصوم مشروعاً من قبل، وكذلك الزكاة في السنة الثالثة، إذاً: الصيام والزكاة كانا مشروعين فلا يقول إنسان: كان الحديث قبل مشروعية الصيام، ولكن الأولى أن يقال: إنه إذا التزم بالصلاة والتزم بالزكاة فحينئذ يكون الأمر على هذا، ويُلحق به البقية كما يقول البعض، ويستشهدون بحديث معاذ رضي الله تعالى عنه لما أرسله النبي إلى اليمن وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ولم يذكر صوماً ولا حجاً، ومعاذ إنما ذهب إلى اليمن في أخريات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ترك ذكر الصيام الحج إما لأنه أمر خفي، وإما لأن الأمر يأتي بالتدرج، فإذا التزم بالصلاة وهي عبادة بدنية أُلحق بها الصيام وهو كذلك عبادة بدنية.
والكلام عن الحديث بصفة عامة يرجع إلى حقيقة القتال، وعلى ما يكون القتال؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول هنا: (أمرت) فما دلالة الأمر هنا؟ وهل الحكم في ذلك يشمل من يأتي بعده؟ ثم يمكن أخذ موقف الصديق رضي الله تعالى عنه شاهداً على ذلك، مع بيان من الذين قاتلهم الصديق؟ وعلى أي شيء؟ ثم حكم الجهاد على الأمة أهو فرض عين، أم فرض كفائي؟ ومتى يسقط الجهاد عن الأفراد؟ ومتى يتعين؟ وعلى أي شيء يكون؟ وأحكام الحهاد وآدابه، وثمرة الجهاد وثوابه، وكل هذا يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.(24/9)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [3](25/1)
تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... )
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فلا زلنا عند حديث النبي: (أمرت أن أقاتل ... ) .
والكلام على هذا الحديث من عدة جوانب:(25/2)
هل الأمر في قوله عليه الصلاة والسلام: (أمرت) خاص به أم أن الولاة داخلون فيه؟
أولاً: في قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس) ، في هذه الجزئية يتكلم بعض الناس بأن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليس لمن جاء بعده أن يقاتل الناس، وأجيب عن هذا الادعاء بأنه باطل؛ لأن الله سبحانه قد يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ويكون المقصود في هذا الخطاب أحد ثلاثة أمور: فإما أن يكون الخطاب موجهاً للنبي عليه الصلاة والسلام ولا يراد به إلا شخصه فقط.
وإما أن يراد به النبي عليه الصلاة والسلام والأمة داخلة معه في ذلك الخطاب.
وإما أن يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام ويراد به أمته وحدها والنبي غير داخل في ذلك الخطاب.
فمن خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي اختص به لا يشاركه فيه أحد: ما جاء في أمر الواهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] ، فليس لأحد من الأمة أن يطأ امرأة بمجرد أن تهب نفسها له؛ لأن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو ولي من لا ولي له.
والخطاب الذي خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام والمقصود به أمته وهو غير داخل فيه ما جاء في حق الأبوين: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23] ولم يقل: (ربكم) قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] ، العبادة عامة للجميع {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] ، بعد عبادة الله قال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ} [الإسراء:23] لم يقل: (عندكم) {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] لم يقل: (فلا تقولوا لهما أف) {وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] ، وهناك الآية الأخرى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] ، أين كان أبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول الآية؟ هل يمكن لرسول الله أن يصاحب أبويه في الدنيا معروفاً؟ لقد مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، وماتت أمه وهو ابن سبع سنوات، فأين يصاحبهما في الدنيا معروفاً؟! فلا يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت هذا الخطاب أبداً، ولكن خوطبت الأمة في شخصية رسول الله عليه الصلاة والسلام تعظيماً لهذا الحق؛ لأن الأبوين هما صاحبا الحق الثاني على الإنسان بعد الله، فخوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحق والمراد به الأمة.
ويأتي الخطاب الخاص به أو الموجه إليه والمراد به الأمة بكاملها كما في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] ، قوله: (أَقِمِ الصَّلاةَ) هل هذا خاص به، أو عام للأمة؟ عام للأمة، ولهذا جاء في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] ، خطاب خاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، ثم يأتي: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] ، قال: لكم ولم يقل: لك، فهنا الخطاب موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بيّن بأن الأمة كلها داخلة معه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: (أمرت أن أقاتل الناس) وكل من يأتي بعده ويلي أمر المسلمين يقوم بهذا الأمر ويكون الأمر موجه إليه.
نظير هذا الخطاب قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، فهم بعض الناس الجهال الذين كانوا، حدثاء عهد بالإسلام بأن الزكاة إنما تدفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقط؛ لأن الله قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103] ولم يقل: (خذوا) وقال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] ، وسيأتي زيادة تنبيه على هذه الجزئية عند قوله: (وآتوا الزكاة) .(25/3)
جهاد الطلب وجهاد الدفع
إذا كان كل من جاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين، وولاة أمور الأمة الإسلامية مخاطبون بذلك، ومأمورون به، فما هو حكم قتال الكفار؟ ما حكم قتال الناس حتى يشهدوا شهادة الحق ويؤدوا ما عليهم من واجبات الإسلام؟ نجد الأمة مجمعة في القرون الأولى على وجوب مقاتلتهم، إلى أن اختلط المسلمون بغيرهم، وجاءت المدارس الغربية والشرقية، ونشأت أفكار جديدة باسم المقاربة بين المسلمين والمشركين، أو الكفار أو الكتابيين، ونادى بعض المتأخرين: بأن النصرانية انتشرت بالأخوة والتراحم والتعاطف، أما أنتم أيها المسلمون فنشرتم الإسلام بالسيف، فقام من هو مخدوع أو مخادع وقال: نحن كذلك، ليس عندنا سيف إلا دفاعاً عن النفس، ونشأت الفكرة الضالة، وأصبحت المعركة بين القديم والجديد: ما غاية الجهاد وقتال الناس؟ أهو الدفع عن الحوزة، والدفع عن البيضة، والدفع عن الإسلام والمسلمين، أم هو: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا ... ) الحديث؟ فالمدرسة الجديدة تقول: إن كفوا كُفوا عنهم، شهدوا أو لم يشهدوا، صلوا أو لم يصلوا، زكوا أو لم يزكوا، ولا دخل لكم بهم، وقام الجدل وكتبت الكتب، ومن يقرأ في هذا الباب لبعض الكتاب في حدود المائة سنة الماضية، أو السبعين سنة، أو أقل -بل إن بعض الكتاب قد يكون معاصراً إلى عشرات السنين- يرى هذا المنهج الفكري واضحاً.(25/4)
أدلة القائلين بأن الجهاد لم يشرع إلا للدفع
ونشأت هذه الأفكار أول ما نشأت وبقوة في الهند، ثم انتقلت إلى المسلمين في عقر دارهم، حتى الذي يقرأ تاريخ الطوائف الجديدة وبالأخص القاديانية: أنهم حرّجوا على المسلمين قتال المستعمر، وينادون بالسمع والطاعة، وألا قتال بعد ذلك، وفي بعض البلاد في أفريقيا يتركون دراسة باب الجهاد في الفقه ويقولون: لم يبق قتال لماذا؟ قالوا: ما بقي جهاد! ما شبهة هؤلاء؟ شبهة أولئك حدثت أولاً: غزو فكري إلى المسلمين فوجدت طائفة تقارب بين الفريقين وتسد الفجوة، والحق والباطل خطان متوازيات لا يلتقيات أبداً، ولبّسوا على الناس بآيات ظاهرها ما ذهبوا إليه لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61] ، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] لا تعتدوا بأي شيء؟ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] وقال: لا يكره أحد، والآن إلى عهد قريب بعض الكتب تدرس في بعض الجامعات في مقدمتها {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، ولكن ما معنى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} ؟ معناها: نكف عنهم، إذا لم يقاتلون، ما معنى: (لا تَعْتَدُوا) ؟ ما معنى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ؟ وتركوا أول سورة براءة، وآخر ما أرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة حينما أرسل أبا بكر رضي الله تعالى عنه يحج بالناس وجلس صلى الله عليه وسلم؛ لأن فتح مكة كان في العام الثامن من الهجرة، وكان المشركون في عهود مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة المشركين في الجاهلية أن يطوفوا بالبيت عرايا رجالاً ونساءً، وما كان لرسول الله أن يشهد هذا المشهد، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه، وأدرك أبا بكر في الطريق، فقال له أبو بكر كما يروي القرطبي: أمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور، قال: ما مهمتك؟ قال: أبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة براءة، فلماذا لم يأمر الرسول أبا بكر أن يبلغها عنه؟ قالوا: كان من عادة العرب أنه لا يبلغ عن الشخص إلا من عصبته وذويه، وعلي رضي الله تعالى عنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر فقد كان ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، فذهب وقرأ على الناس في يوم الحج الأكبر {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] ، ثم جعل لهم مهلة {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] ثم بين {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] .(25/5)
رد أهل العلم من السلف والخلف على من قال بأن الجهاد إنما شرع للدفع
ومن هنا يأتي الناظر الآن في هذا الباب ويجد من يحتج ببعض نصوص القرآن على أن الجهاد إنما هو دفاع عن النفس، ويجد سلف الأمة وأئمة المذاهب الأربعة، وعلماء التفسير، قد أجابوا عن ذلك وبينوه الناس، فيما يلي: الوجه الأول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] كلمة (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) إغراء على المقاتلة؛ لأنه لو لم يكن جهاداً في سبيل الله لكان قتالاً للمقاتلين (وَلا تَعْتَدُوا) ليس معناها: لا تعتدوا على الناس المسالمين، ولكن لا تعتدوا في قتالكم بقتل الصغير والمرأة والشيخ الكبير، هذا وجه.
الوجه الثاني: كانت تلك الآية وهي في البقرة سابقة لبراءة في النزول، والقتال في الإسلام أخذ طور التدرج، وقد جاء في السنة وفي السيرة: أن الأنصار رضي الله تعالى عنهم لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوا بيعة العقبة وكانوا سبعين رجلاً قالوا: (يا رسول الله! لو أذنت لنا أن نميل على أهل الموسم بأسيافنا، فقال صلى الله عليه وسلم: لا؛ إنا لم نؤمر بقتال بعد) تحمل وصبر ثلاث عشرة سنة في مكة لم يؤمر بقتال، وكلنا يعلم ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من أذى المشركين ولم يؤذوا واحداً، لقد خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، فكيف كان موقفهم منه صلى الله عليه وسلم؟ سلطوا عليه السفهاء، ورموه بالحجارة، وأدموا قدميه، ويصبر، وينزل ملك الجبال مع جبريل يقول له جبريل عليه السلام: (هذا ملك الجبال إن أردت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل، يقول: لا، إني لأصبر وأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله) .
ولذا جاء في آخر سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:125-126] .
وقد سلّى سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:127-128] لا تكن في ضيق من مكرهم، واصبر وما صبرك إلا بالله وقد صبر، ولذلك لما جاء إلى مكة وأراد أن يدخل مكة منعوه، حتى دخل في جوار رجل مشرك، كل ذلك ويصبر ويحتسب، ولم يعاقب أحداً، ولم يأت في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقب شخصاً واحداً في مكة قبل الهجرة، مع شدة إيذائهم له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه، لذا أذن لأصحابه بالهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم أذن لمن شاء أن يهاجر إلى المدينة، وأخيراً هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ونعلم كيف كانت ظروف الهجرة.
إذاً: (لم نؤمر بقتال بعد) ثم جاء إلى المدينة، وشُرعت الأحكام، وأُذن في القتال فهل كان دفاعاً عن النفس، أو كان لإعلاء كلمة الله (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) لم يقل: من قاتل ليرد الناس، أو ليحمي البلاد أو الأوطان أو غير ذلك، هنا كذلك: (أمرت أن أقاتل الناس) .
إذاً: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] في بادئ الأمر حينما كانوا في أوائل أمرهم وقلة عددهم كانوا مسالمين، ثم بعد ذلك لما قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا أمة {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] ثم كان بعد ذلك النهاية، وخاتمة المطاف أن تنزل سورة براءة ويرسل علياً بها رضي الله تعالى عنه لينبذ العهود إلى المشركين جميعاً، ويجعل لهم المهلة أربعة أشهر {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] فإذا انسلخ الأشهر الحرم ماذا تكون النتيجة؟ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] قاتلوهم حيث كانوا.
إذاً: كانت النهاية الأمر بالقتال العام، وقاتلوهم حتى يكفوا عنكم! أو حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وكذلك أيضاً: كيف يجيب العلماء على تلك الدعوة الجديدة الزائفة؟ قالوا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] قالوا على أهل الكتاب؛ لأن الله قبل منهم الجزية، أما المشركون فإما الإسلام وإما السيف، قالوا: إنها كانت متقدمة فجاءت براءة ونسختها، يقول بعض العلماء في مبحث الناسخ والمنسوخ: كل آية فيها موادعة فقد نسختها آية السيف.(25/6)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [4](26/1)
تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... )
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فلا زلنا في مسألة هل الجهاد شرع للطلب أم للدفع، وقد ذكرت لكم قاعدة ذكرها العلماء، مفادها: أن كل آية فيها موادعة للمشركين، أو مسالمة للأعداء، فقد جاءت آية السيف ونسختها: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] ، هل هذا يكون من باب الدفاع عن النفس؟! لا والله.(26/2)
الرد على المستدلين بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) على منع جهاد الطلب
تأتي الشبهة الكبرى التي قال بها أصحاب هذه الدعوى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] ، فإذا كان لا إكراه في الدين، فكيف تقاتلونهم وترغمونهم على الإسلام؟ وبرجوعنا إلى كتب التفسير عند السلف، نجد أن القرطبي يقول: فيها ستة أوجه للعلماء: الوجه الأول: أن الآية كانت في بادئ الأمر من باب المسالمة، ثم نسختها آية السيف على القاعدة العامة عند المفسرين.
الوجه الثاني: كان الأوس والخزرج قبل الهجرة وقبل الإسلام في عهود مع اليهود، فكانت المرأة المقلاة، -أي: التي لا يعيش لها ولد- تنذر إن عاش لها ولد أن تجعله يهودياً؛ لأنهم كانوا يرون أن دين اليهود خير مما هم عليه من الوثنية.
والوجه الثالث: أن المرأة من الأوس والخزرج ربما أرضعت ولدها من يهودية، أي: وجد ترابط بين الأوس والخزرج واليهود، فلما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود من المدينة، أراد اليهود أن يأخذوا أولئك معهم، وأراد آباؤهم الأصليون أن يمسكوهم عندهم، فجاءت الآية بالتخيير وليس بالإكراه.
وجاءت أوجه عديدة غير ذلك، ولكن خير ما يقال: القاعدة الأولى: (كل آية موادعة نسختها آية السيف) ولو أننا عملنا بآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] اليوم لفسد العالم، بمعنى: أن الدين جنسية وانتماء، فالإنسان إذا انتمى إلى الإسلام أصبح له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وبالنسبة لغير المسلمين فهو متميز عنهم ولا ينتمي إليهم، يشبه ما فيه العالم اليوم من التمايز إلى دول وتابعيات، فلو أن شخصاً الآن جاء من موسكو إلى واشنطن وأخذ جنسية أمريكية، وأصبح له ما للأمريكان في بلادهم، ثم انقلب إلى روسيا وجاء أمريكي إلى روسيا، ثم انتقل إلى غيرها، وأخذ من كل بلد ما يريد وينتقل فيها حيثما شاء، لضاعت جنسيات الأمم، وضاعت مصالحها فيما بينها، ولو أنه أجرم هنا، ثم انتقل هناك، وأجرم هناك، ثم انتقل إلى هنا، وكان تبعاً لدولة من الدول، بعيداً عن أن ينال عقاب على جريمته، وهنا في الإسلام وغير الإسلام أحكام شرعية وحقوق دينية، فلو أن غير مسلم أسلم، أو جاء وقال: إنه مسلم، فتزوج امرأة مسلمة، وورث من أقارب مسلمين، ثم انتقل إلى النصرانية، أين تذهب الزوجة المسلمة؟ ولو ذهب إلى النصارى وصار نصرانياً وتزاوج منهم، وورث منهم، ثم انتقل إلى اليهودية، لو حدث مثل هذا الأمر، مع عشرة أشخاص من كل جيل في كل شهر لماعت الحقوق وضاعت.
إذاً: كون الإنسان حر في اعتقاده هذا ليس صحيحاً، والدين لله ولا يترك للأفراد أن يتلاعبوا به، إذا شهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمداً رسول الله، أصبح ملتزماً بهذا العهد المنصوص في هاتين الشهادتين، فإن نكث قُتل.(26/3)
أدلة القائلين بأن الجهاد شرع إعلاءً لكلمة الله
إذاً: ليست هناك حرية في الأديان كما يقولون، وإذا جئنا إلى هذه القضية في هذا النص عملياً، نأتي ونقول: الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى المدينة شُرع القتال، وخرج إلى بدر، فهل كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً عن النفس، أم إلى عير وتجارة لقريش؟ وهل كان خروجه اختياراً أم اضطراراً؟ لقد كان خروجه اختياراً وابتداءً: قال لهم: (هذه عير لقريش اخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها) فخرجوا إليها، وفي الطريق علم صلى الله عليه وسلم أن العير قد نجت، وأن النفير قد أقبل، -قبل أن يصل إلى بدر- فكان بوسعه أن يرجع، ولكن يعلن ويقول: (إن الله قد وعدني إحدى الطائفتين: إما العير، وإما النفير) ثم ما وقع في تلك الغزوة من أمور فوق طاقة البشر تخطيط من المولى سبحانه {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] في الجبهة، الناحية نفسية كما يقولون: التعبئة يقلل هؤلاء في أعين أولئك، ويقلل أولئك في أعين هؤلاء، {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ} [الأنفال:43] لأنهم ذليلون ما لهم شيء، لو رأوهم على حقيقتهم ربما خافوا، فالمولى سبحانه يخطط لالتقاء الفريقين على غير موعد، ثم هو سبحانه يري هؤلاء أعداءهم أقل منهم، وبالعكس مع أننا عرفنا حقيقة الموازنة بأن هؤلاء: ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وأولئك: ما بين التسعمائة والألف، كل ذلك {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42] ، وقد بين سبحانه سير المعركة فقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] جاءت الملائكة.
إذاً: هذا أول شيء يجابه به أولئك الذين يقولون: القتال دفاع عن النفس.
لو تجاوزنا ذلك كله، وجئنا إلى غزوة تبوك، وهي على تخوم الشام، هل جاء الروم يقاتلون المسلمين؟ ما جاءوا، يقول: سمع بتجمعهم وتواعد معهم، ألم يكن من الممكن أن ينتظرهم عند خيبر، فلماذا ذهب إلى حدود الشام، وأوغل فيها وهو أصلاً لم ينته مما حوله بعد؟ وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي موقف أبي بكر مع أهل الردة، وعمر رضي الله تعالى عنه حينما يسير الجيوش إلى الشام، وإلى مصر، وتذهب إلى أفريقيا هل كان هناك عدو يقاتل المسلمين فيدفعونه عن أنفسهم؟ هل سمعنا بأن مصر قاتلت المسلمين في جزيرة العرب؟ بينما الجيش يذهب إليهم ويغزوهم ويفتح تلك البلاد، هل أفريقيا جهزت جيوشها لتقاتل المسلمين فيذهبون يدفعون عن أنفسهم؟ وتذكرون كلمة القائد المظفر الذي وصل إلى المحيط الأطلسي وخاض بفرسه البحر وقال: (والله لو كنت أعلم أن وراءك من المشركين من يقاتل لخضت هذا البحر إليه) ، الذين وراء البحر هل اعتدوا حتى يدفعهم عن نفسه؟ لا والله.
نرجع مرة أخرى ونقول: إن من يقول: إن الجهاد في الإسلام دفاع عن النفس، قتلوا روح الجهاد في سبيل الله، وصرفوا الناس عن التعبئة للجهاد في سبيل الله، وأصبحت كل دولة في موطنها تحافظ على حدودها، وتكون سعيدة إذا سلمت من غيرها، ودخلت السياسة في أمور الناس، وأصبح الوضع على ما هو عليه، بصرف النظر رفعت راية الجهاد أو لم ترفع، فإن القتال في سبيل الله مشروع وكتاب الله ينادي بذلك، وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... ) .
بقي من الذي سيقاتِل؟ ونقاتل من؟ إن وضع الأمة الحاضر بنظمها السياسية، وارتباط العالم بعضه ببعض على هذا الوضع، لا يمكن لأمة وحدها، أو: لدولة وحدها أن ترفع راية الجهاد لتقاتل جميع المشركين، ليس في وسعها ذلك، ولا نريد أن نتعرض إلى قرارات هيئة الأمم، وميثاق وحقوق الإنسان، والتزامات الدول وو إلى آخره, ولكن يهمنا من حيث البحث العلمي أن نعلن ونؤكد ونقول: إن باب الجهاد مفتوح، لإعلاء كلمة الله، وليشهد الناس أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عُصموا، وفي آية براءة {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] ، والأخرى {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] فإذا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، وإذا لم يفعلوا ذلك فالمعنى: أننا نقاتلهم، ولذا يجب أن تتوحد الأمة الإسلامية تحت راية واحدة راية: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعندها يجب ويتعين تسيير الجيوش إلى المشركين.
ولذا بعض العلماء يقول: من واجب إمام المسلمين أن يغزو سنة ويحج سنة، يقول: إعلان الجهاد كأداء مناسك الحج، كما كان هارون الرشيد رضي الله تعالى عنه يفعل ذلك، كان يحج سنة ويغزو سنة.(26/4)
هل الجهاد فرض عين أم فرض كفاية؟
إذا كان الأمر كذلك: فما حكم الجهاد على الأمة أو على الفرد؟ اتفق السلف -أما الخلف لا كلام لهم في هذا؛ لأنهم أسقطوه بالكلية- على أن الأصل في الجهاد أنه فرض كفائي، والفرض الكفائي المراد منه: وقوع المطلوب، ولا ينظر إلى من يقوم به، كما في أمور الجنائز، من تغسيل الميت، وتكفينه ودفنه، قصد الشارع إيواء جثة المسلم بتغسيلها وتكفينها ودفنها، من الذي يقوم بذلك؟ الأمة كلها مخاطبة بهذا، فإذا قام واحد من الأمة أسقط الواجب عن الجميع.
فكذلك قتال المشركين فرض كفائي، إذا قامت به جماعة من المسلمين سقط عن الباقين.
وأما من هو المطالب بهذا الأمر؟ فنحن نعلم جميعاً أنه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، كان المسلمون كلهم مجندون، كانوا في الجاهلية أهل حرب وقتال، كل ينشأ على الفروسية، ولا يحتاجون إلى ميادين تدريب، ولا إلى كليات يتعلمون فيها، صحراؤهم هي ميادينهم، فيأتي الأعرابي بفرسه ودرعه ورمحه وسيفه جندي مقاتل، وكل كان يجهز نفسه، وعندما رجعوا من تبوك ومروا بمدائن صالح، وعجنوا خبزهم من مياه مدائن صالح، أمر الرسول أن يعلفوا العجين للدواب، فقد كان المجاهد بنفسه يجهز ويمون نفسه ويأخذ طعامه معه، فهو يصنع طعامه ويحمل زاده، ويأتي بسلاحه.
أما بعد ذلك، حينما أصبح للمسلمين مردود، جاء عمر رضي الله تعالى عنه ودون الدواوين، أي: كتب الجنود في دواوين، وأصبح بعض الناس متخصصاً للقتال وله ديوان سنوي أو شهري، وأعطى المهاجرين والأنصار ورتب لهم، فكان هناك أشخاص مسجلون للقتال في أي وقت، يشبه في الوقت الحاضر الذي يسمونه: الجيش الاحتياطي: هم جماعة دربوا سواءً دربوا من الخارج للجيش، أو أحيلوا على التقاعد من الجيش، أو سُرحوا من الجيش، عند الضرورة يجمعون، فكان هؤلاء مدونون في الدواوين وعند أية غزوة إذا جاء النفير اجتمعوا.
ففي ذاك الوقت كان أشخاص يقومون بهذا الواجب، بعد ذلك دُولت الدول، وخصصت الطوائف، وأصبحت الجيوش رسمية، وأوجد جيش في كل دولة، إذاً: الفرض الكفائي يقوم به: الجيش النظامي، وهو القائم بالفرض الكفائي عن الأمة المسلمة الآن، ولذا المواطنون، أو القاعدة الشعبية لا تتدخل إلا عند استنفار الإمام لها، وعلى هذا: إذا دخلت الدولة في حرب مع العدو، من الذي يقوم بفرضها الكفائي؟ الجيش؛ لأن الجيش معد لذلك، وخاصة في تلك الآونة؛ لأن الحرب لم تعد سيفاً ورمحاً، بل أصبحت حرب آليات، تستخدم فيها التكنلوجيا العلمية، والأسلحة الكيميائية، والذرية.
إذاً: أصبحت الحرب الآن تقوم على علم وصارت إنتاجاً عسكرياً خاصاً، ولا يتعامل مع تلك الآليات إلا الدارس لها، إذاً: الفرض الكفائي اليوم يقوم به من؟ الجيش النظامي، كل في ميدانه، وأصبح هناك سلاح جوي، ومدرعات، وسفن، وغواصات، وكل ذلك مقابل سلاح يماثله لدى العدو.
إذاً: لا يتدخل في الفرض الكفائي شخص أعزل، لا أقول أعزل من السلاح، بل أعزل من العلم العسكري، أعزل من التدريب والتمرين العسكري، أعزل من معرفة التعامل مع تلك الآليات، وإلا كان تعريضاً لضياع نفسه، وكان فقداناً لنفسه بدون مقابل.(26/5)
متى يكون الجهاد فرض عين؟
إذاً: الفرض الكفائي يقوم به الجيش النظامي اليوم، ولكن قد يرتقي هذا الفرض الكفائي إلى فرض عين، ومعنى فرض عين: يجب على كل فرد، ويكون ذلك في حالتين فقط: الحالة الأولى: إذا لم يكن الجيش النظامي يكفي لصد العدو، واستنفر الإمام القوة الشعبية.
إذاً: يكون الجهاد فرضاً عينياً حينما يستنفر الإمام الأمة، حينما تقل إمكانيات الجيش النظامي، بقلة عدده أو بكثرة عدوه، ويحتاج إلى مساعدة، وليعلم الجميع بأن القتال ليس مجرد سلاح وإراقة دم العدو، بل أسلحة القتال متعددة: قد تكون بالكلمة كما جاء عن حسان رضي الله تعالى عنه حينما تكلم عن المشركين، فقال له صلى الله عليه وسلم: (كيف تهجوهم وأنا منهم؟ قال: أسلك كما تسل الشعرة من العجين، فأخذ يهجو المشركين ويثبط أمرهم، ويعلي من شأن المسلمين، حتى نصب له رسول الله كرسياً في هذا المسجد وقال: اهجهم وروح القدس يؤيدك) .
قد تكون المساهمة في الحرب بكلمة في الإذاعة، وقد تكون بكلمة في صحيفة، وقد تكون بأي نوع من الأنواع ولذا قال العسكريون الجدد: إن كل جندي في الميدان يتبعه سبعة جنود خارج الميدان، فالذي يزرع ويحصد ويقدم الحب لمخابز الجيش ليمون الجنود، جندي أم لا؟ الذي يجز الصوف ويقدم الغزل للمصنع لينسج البطانية للجندي ليتغطى بها، أو البدلة أو الحذاء ليلبسها، جندي أم لا؟ العامل الذي في مصانع الذخيرة، الذي يعد الذخيرة للجندي ليرمي بها، (إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: الذي يريشه، والذي يناوله، والذي يرمي به) وبعض المدافع تحتاج إلى ثلاثة أشخاص، وبعضها إلى أربعة، فليس المقاتل هو الذي يقذف بالقذيفة فحسب، بل الذي يقدمها إليه، والذي يعبد الطريق للآليات، والذي يمد الأسلاك للاتصالات، والذي يهيئ الماء ليشربوا، كل أولئك جنود يعملون في المعارك، ولكنهم جنود خلف الصفوف، ولذا قال العلماء: الزراعة والصناعة والتعليم فرض كفائي؛ لأن الأمة لا تستغني عنها، ويقول النووي رحمه الله تعالى في المقدمة: (إن تعلم الصناعات فرض على الأمة) فرض كفائي حتى الإبرة، ارجعوا إلى مقدمة المجموع للنووي.
ويقول: إذا قصرت الأمة الإسلامية في صناعة الإبرة فهي محتاجة إلى عدوها يتحكم فيها بقدر حاجة الإبرة.
ولو لم يكن عندنا إبر لصرنا عراة، لا نستطيع أن نخيط ثوباً.
إذاً: جعل العلماء الزراعة والصناعة من باب الجهاد أيضاً.
الحالة الثانية: إذا -لا قدر الله- دوهمت البلدة أو القرية التي أنت فيها من العدو، وجب على الصغير والكبير، ولا يُستأذن في ذلك أحد، حتى الولد لا يستأذن أبويه، ويخرج الرجال والنساء يدافعون عن قريتهم وعن أعراضهم وأموالهم، أما ما عدا ذلك وفي المرحلة الأولى: الفرض الكفائي، لو أراد إنسان أن يتطوع، هل أحد يمنع المتطوعين؟ لا، ولكن حينما يريد شخص الجهاد في سبيل الله في حال كونه فرض كفاية يكون بين أمرين: بين فرض كفاية وهو الجهاد، وبين فرض عين وهو طاعة وبر الوالدين، فيقدم فرض العين هنا على فرض الكفاية، وجهاده في بر الوالدين.
إذاً: حينما يكون القتال في المرحلة الأولى وهو: الفرض الكفائي، وأراد إنسان أن يتطوع، ويذهب للجهاد في سبيل الله، فلينظر: هل هذا التطوع يضيع واجباً عليه كفائياً أو عينياً، أم لا؟ إنسان عنده زوجة وأولاد، حقوق الزوجة والأولاد فرض كفائي، أو فرض عيني؟ فرض عيني، هل يترك زوجته، وأولاده في ضياع، ويقول: أذهب أقاتل في سبيل الله! لا والله، ولا ننسى الرجل الذي جاء من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وقال: (جئت لأقاتل معك في سبيل الله) قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألك أبوان؟ قال: نعم، قال: اذهب ففيهما فجاهد) لماذا؟ لأن قتاله مع رسول الله تطوع، والجهاد في بر أبويه واجب، فلا نهدم واجباً من أجل تطوع، والعاقل لا يهدم مصراً ليقيم قصراً.
والرواية الأخرى: (نعم، تركتهما يبكيان على خروجي، قال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما) .
وأعرف أنا قد نكون أطلنا في هذا الموقف، ولكن لضرورة الحال؛ لأننا سمعنا من سنوات عديدة من شباب ناشئ متحمس قد يغرر عليه، ويذهب ليقاتل في سبيل الله تاركاً أبويه تاركاً دراسته تاركاً أهله، كل ذلك بدافع الحماس، يغرر عليه عندما يقرأ لأشخاص مجهولين يقولون: القتال فرض عين على كل مسلم، وهذا لم يقله عالم مسلم قط، بل إن أهل أفغانستان يقولون: نحن في حاجة إلى المال والسلاح أكثر من الرجال، والواقع يصدق ذلك؛ لأنه كما قلنا: يذهب الواحد إلى بلد لا يعرف تضاريسه، ولا يقوى على تحمل طبيعته، فيحتاج إلى مران عسكري يجابه به تلك الحالة، فيكون عندها عالة عليهم حتى يتدرب.
أقول لأمثال أولئك: إنك إذا أردت مساعدة المجاهدين، فإنه لابد أن يكون وراء الجندي في الميدان سبعة جنود، فاعمل واكتسب وتبرع وأرسل إليهم قيمة السلاح، أو قيمة اللباس، أو قيمة الدواء، أو قيمة الطعام، ويكون ذلك جهاداً، ولذا فقد قسم صلى الله عليه وسلم أجر الجهاد بين اثنين: (من خلف غازياً في أهله بخير كُتب له نصف أجره، ومن جهز غازياً في سبيل الله، كان له مثل أجره) لأي شيء له مثل أجره؟ بتجهيزه؛ لأن التجهيز نوع من الجهاد.(26/6)
الحكم فيما إذا أقر بالشهادتين بغير الصيغة المعروفة
نواصل الكلام عن الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... ) إذاً: الغاية من قتال رسول الله للناس ما هي؟ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، لا أن يفكوا عن المسلمين قتالهم، لا وكلا.
بقي الحديث عن (يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) يبحث العلماء في منطوق الشهادتين من باب البحث العلمي: لو أن إنساناً جاء وقال: أشهد أن لا إله إلا الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا السميع العليم، ولم يقل إلا الله، فهل يجزئه ذلك أم لا؟ أو قال: أشهد أن أحمد رسول الله، ولم يقل: محمداً رسول الله، هل يجزئه ذلك أم لا؟ الجمهور يقولون: لا، وبعض من أهل المذاهب يقول: نعم تجزئ؛ لأن المطلوب الإقرار، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لعمه: (قل كلمة أحاج لك بها عند الله) إذاً هي كلمة مقصودة وهي: لا إله إلا الله، ثم لفظ الجلالة: الله، علم على الذات، ولا يشاركه سبحانه في هذا العلم أحد، بخلاف (الرحمن) فإن هناك رحمان اليمامة، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كاتبه في صلح الحديبية أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا: لا نعلم رحماناً إلا رحمن اليمامة، اكتب: باسمك اللهم) .
وكذلك (الرحيم) {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] سمي بها صلى الله عليه وسلم، كل صفات الله قد يشاركه فيها المخلوق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وكل حيوان يأكل ويشرب سميع بصير، ما عدا لفظ الجلالة: الله، كلمة: (إله) يمكن أن تطلق على معبود بغير حق، لكن: (الله) لا تطلق إلا على رب العزة سبحانه، إذاً: لا يغني ولا يجزئ عنها غيرها.
كذلك: محمد رسول الله، عيسى عليه السلام قال: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] إن قال: أشهد أن أحمد كما سماه القرآن يجزئ، وما عداه من الأسماء كالماحي والعاقب والحاشر إلى آخره لا يجزئ.
بصرف النظر عن هذا نقول: إذا كان يريد أن يقر بالإسلام لا يضيره أن يلتزم بما قاله صلى الله عليه وسلم ويقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) .
(ويقيموا الصلاة) إقام الصلاة جزء من الشرط على كف اليد عنهم أو على عصمة المال للمشركين، أن يشهدوا وأن يقميوا، فإذا لم يقيموا الصلاة، نكف عنهم، أو نقاتلهم عليها؟ يقول الجمهور: بأنهم إذا نطقوا بالشهادتين ولم يصلوا قاتلناهم عليها، وليس قتلناهم.(26/7)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [5](27/1)
تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... )
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فلا زلنا عند قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل ... ) .(27/2)
الحكمة في الأمر بقتل تارك الصلاة دون تارك الزكاة
وتعرض لنا هنا مسألة: لماذا فرق بين الصلاة والزكاة عند الامتناع عنهما، فالصلاة يقتل تاركها، والزكاة بخلاف ذلك؟ أما الفرق بين القتل على الصلاة، وعدم القتل على الزكاة لمن منعها؛ لأن الصلاة أمر فيه اعتقاد وفيه عمل بدني محض، لا تؤدى بإكراه، بخلاف الزكاة، تؤخذ بالقوة كما جاء في الحديث: (من أداها فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، ولكون الزكاة يمكن أن تؤخذ عنوة وقوة لا يقتل صاحبها، إنما تؤخذ منه ويخلى سبيله.
وهنا سأل بعض الإخوان: من كان ترك الصلاة مدة، ثم أراد أن يصلي، هل يلزمه قضاء ما مضى؟(27/3)
حكم تارك الصلاة وما يلزمه من قضاء الفوائت بعد التوبة
أما من ترك الصلاة جحوداً لوجوبها، فهذا مرتد عن الدين -عياذاً بالله-، كمن جحد أي شيء معلوم من الدين بالضرورة، والكلام عندهم فيمن كان تركها تكاسلاً وتهاوناً، ثم هداه الله وتاب ورجع إلى الله، وحافظ على الصلاة، ما حكم تلك الصلوات التي مضت؟ جمهور الأئمة الأربعة رحمهم الله على أنها دين في ذمته عليه أداؤها.
ويرى بعض المتأخرين: بأنه تكفيه التوبة، والإسلام يجب ما قبله.
إذاً: من قال بكفر تارك الصلاة يتعارض قوله مع إلزامه بأداء ما ترك منها حال كفره بعد توبته، وفي هذا الحكم تناقض؛ لأنهم إن حكموا عليه بالردة، لماذا لم يقتل ردة؟ ولماذا لم يحرموا عليه زوجته؟ ولماذا لم يعاملوه معاملة المرتدين؟ يتركونه في كل شيء، ولو مات لماذا يرثون ماله؟ وإذا مات مورثّه لماذا يرث منه، مع أنه لا ميراث بين مسلم وكافر، إذاً: يتناقضون في هذا الحكم.(27/4)
اعتراض ابن عباس على من أسقط قضاء الفوائت من الصلوات
وابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: (يا سبحان الله! إذا كان الترك بسبب النسيان أو النوم وقد أوجب عليهما النبي عليه الصلاة والسلام القضاء مع رفع القلم عنهما، فكيف لا نوجب القضاء على من تركها عمداً ( {فليصلها إذا ذكرها، فإنه لا وقت لها إلا ذلك) ، وقد ثبت أن المصطفى صلى الله عليه وسلم وجمع الصحابة في عودتهم من بعض الأسفار في غزوة نزلوا وعرّسوا، فقال النبي: (من يكلأ لنا الفجر، فانتدب بلالاً، فأسند بلال ظهره إلى راحلته، واستقبل المشرق بوجهه، ينتظر الفجر ليخبر ويوقظ النائم، فنام كما نام غيره، ولم يوقظهم إلا حر الشمس، بعد أن خرج الوقت) ، هل أسقطها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حتى إنه ليروى في ذلك: (بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما استيقظ وجاء أبو بكر آسفاً، قال: يا أبا بكر! لكأني بـ بلال قد جاءه الشيطان يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام، ثم ناداه: تعال يا بلال! أين كنت؟ قال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم) ، يعني: أنا مثلكم، فاعتذر بأمر واقع، قال: (والله يا رسول الله لقد أنخت راحلتي وأسندت إليها ظهري، واستقبلت المشرق أنتظر الفجر، فإذا بالشيطان يأتي ويهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت، فقال أبو بكر: أشهد إنك لرسول الله) ، هنا ماذا فعل رسول الله؟ هل قال: ما عليكم! خرج الوقت وانتهينا! لا؛ قال: (اجتازوا هذا الوادي فإن فيه شيطاناً، واجتاز الوادي، وتوضئوا، وأمر المؤذن فأذن، وصلوا سنة الفجر، ثم أمره فأقام وصلوا الفريضة) .
فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: (حينما تفوته بعذر مقبول شرعاً نوماً أو نسياناً تكلفونه بالأداء، وحينما يتعمد تركها تخففون عنه وتتركونه!) يعني: أمر متناقض.
إذاً: من ترك الصلاة متساهلاً، ثم هداه الله ورجع، يعلم بأن ما فات من الصلوات دين عليه، ولكن لا ينبغي أن نأتي ونقول: قم الآن وأد ما عليك قضاء السنوات الماضية، فيقعد سنة أو سنتين، أو شهر أو شهرين وهو معتكف يؤدي الذي عليه، وإنما عليه أن يكثر من قضاء الفوائت حسب الترتيب، وكما يقول الفقهاء من باب التخفيف عليه: يصلي مع كل فريضة مثلها إلى أن يقضي زمناً يعادل الزمن الذي ترك فيه الصلاة، وإن قُدر ومات في أثناء ذلك قبل أن يوفي فهو على نيته، والله أولى به.
ويقتل من ترك الصلاة، بعد رفع أمره إلى ولي أمر المسلمين المسلم، وحبسه وأمره بالصلاة؛ لكن كم ننتظر له؟ الإمام أحمد رحمه الله يقول: إلى أن يخرج وقت الصلاة التي جيء به فيها، ويقول البعض: يوم وليلة، وقول ويقول آخرون: ثلاثة أيام لأنها أكثر الجمع، فإن أصر على عدم الصلاة فيقتل، وهل يقتل ردة أم حداً، الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون: حداً وأحمد يقول: ردة وكفراً.
وإذا تواطأ جماعة على تركها قوتلوا حتى يؤدوها، حتى قال بعض المالكية والأحناف: لو تركت قرية إعلان الأذان، قالوا: نصلي بلا أذان، قاتلهم الإمام على ذلك؛ لأن الأذان من شعائر الإسلام.(27/5)
علة عدم ذكر الصوم والحج في الحديث
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) ، وأشرنا إلى أن العلة في على عدم ذكر الصيام والحج؛ لأن العبادات قسمين: بدنية ومالية، والعبادات البدنية هي: الصلاة والصوم، فإذا كانوا يقاتلون حتى يصلوا، فكذلك حتى يصوموا، والعبادة المالية هي: الزكاة، فيلحق الحج بالزكاة، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه في حق الحج أنه قال: (لقد هممت أن أبعث برجال لقبائل العرب ينظرون من يستطيع الحج ولم يحج فليفرضوا عليهم الجزية ما هم بمؤمنين ما هم بمؤمنين) ، ولكن ما قال: أقاتل، قال: أفرض الجزية؛ لأن استطاعة الإنسان للحج ليست قطعية، قد يكون في ظاهر الأمر مستطيعاً، وفي حقيقته غير مستطيع، ولكن يؤيد ما ذهب إليه عمر رضي الله تعالى عنه نص القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فمن استطاع ولم يحج قال عنه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] لم يقل: ومن لم يحج؛ لأن السياق {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ومن لم يحج، هل قال: هذا شأنه والله غني عنه! لا؛ بل قال: (وَمَنْ كَفَرَ) فأطلق الكفر على من لم يحج وهو مستطيع، وهذه خطورة كبيرة.(27/6)
الجهاد وسيلة وليس غاية
قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك) اسم الإشارة (ذلك) راجع إلى كل ما سبق من النطق بالشهادتين معاً، -ولا تجزئ إحداهما عن الأخرى- وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والصوم والحج كما قدمنا.
قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم) ويتفق علماء اللغة على أن (حتى) : حرف غاية، وما بعدها مغاير لما قبلها، من هنا يجب أن يقف المسلم وكل كاتب وخطيب وأديب وكل من يتعاطى الدعوة إلى الله ليعلن للعالم كله أن القتال في الإسلام ليس غاية لذاته، ولكنه وسيلة للوصول إلى غاية وهي: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) ، أي: يعبدوا ربهم الذي خلقهم، فإذا فعلوا ذلك: كانوا معصومي الدم.
إذاً: القتال من حيث هو، والجهاد من حيث هو في شرع الإسلام، ليس غاية لذاته، إذاً: لماذا يعيب أولئك على المسلمين حينما يعلنون القتال، وحينما يجاهدون في سبيل الله، لا في سبيل أنفسهم، ولا في سبيل مغنم يغتنمونه، ولا سلطان يقيمونه، كلا: إنما هو في سبيل الله، لكي يعبد الخلق خالقهم.
إذاً: القتال للمشركين ليس غاية في ذاته، ولهذا كان القتال في الإسلام هو آخر ما يمكن أن يعالج به المسلمون عقول وأفكار الكفار، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذاً إلى اليمن أنه قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم) والمسلمون الذين يجاهدون عشرات السنين، إذا جاءوا إلى أمة ووقفت أمامهم، ودخلوا معها في قتال، واستشهد من المسلمين من استشهد، فإذا قال العدو: لا إله إلا الله، كفوا عنه.
والذين قتلوا في سبيل ذلك من المسلمين ماذا بشأنهم؟ هؤلاء أجرهم عند الله، لا يتحمل المشركون دية الذين استشهدوا من المسلمين على أيديهم، مع أنه لو كان قتالاً بين المسلمين أنفسهم لتحملت كل طائفة ديات القتلى من الطائفة الأخرى، لكن هنا هم يستشهدون إلى ربهم؛ لأن الله قد عقد معهم صفقة ربح {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة:111] أجر المجاهد عند الله، لا يرجع المسلمون على الكفار بعوض ما فات على المسلمين من رجال وأموال لا؛ لأنهم خرجوا في سبيل الله، فكيف يعاب على المسلمين إذاً؟!.
قال: (فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد كتب عليهم) فقال هنا: الله، ليس الرسول أو أي أحد، بل الله؛ لأن هذا هو حق الله، خمس صلوات في اليوم والليلة، يقف المصلي يقول: الله أكبر، يسجد ويقول: سبحان ربي الأعلى، يركع ويقول: سبحان ربي العظيم، فهي حق لله، (فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وليست الزكاة ضريبة، ولا غنيمة للمسلمين، وكما جاء عن بعض السلف: أرسل عاملاً للزكاة فجاء وقال: أين الزكاة؟ قال: أرسلتني مزكياً أو جابياً؟ قال: مزكياً، قال: أخذتها من حيث كنا نأخذها زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنفقتها حيث كنا نصرفها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذتها من الأغنياء ورددتها إلى الفقراء، وهكذا فهي منهم ولهم، وهذا يجسد التعاون الاجتماعي بين الغني والفقير، وهو أمر إنساني، ولو لم يأت الإسلام به لتعين على كل مجتمع التضامن الاجتماعي.
إذاًَ: ما حظ المسلمين من ذلك؟ حظهم الشهادة في سبيل الله، وقد بين صلى الله عليه وسلم في قوله: (عصموا مني دماءهم وأموالهم) بأي شيء؟ بمجرد القيام بحق الله، ولذا غضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً على أسامة في بعض المعارك حينما قتل رجلاً مشركاً في المعركة وهو في الميدان بعد أن قال: (لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلما أخبر بذلك رسول الله قال: (قتلته بعد أن قالها! ماذا تفعل بلا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! قالها تحت شعاع السيف -أي: قالها خوفاً من السيف- قال: هل شققت عن قلبه؟ -بمعنى: هل أتدري ما في قلبه؟ - إني لم أؤمر أن أفتش عن بطونهم) .
وهكذا يبين صلى الله عليه وسلم أن من نطق بالشهادتين ولو تحت ظلال السيف فإنه يكف عنه، وتقدم لنا في الموطأ قول عمر رضي الله تعالى عنه: (لأن يسند العلج في الجبل فيقول: مترس، فيقتله إنسان، إلا جعلته مثلة لغيره) مترس بمعنى: مأمن أو أمان أو أمني إلى آخره، فيعيب عمر رضي الله تعالى عنه على من يقتل أعجمياً أو كافراً في الميدان بعد أن يطلب الأمان.
إذاً: القتال ليس غاية للمسلمين، وليس تشفياً من أعداء المسلمين، ولكنه كما يقول بعض الإخوان المسلمون في موقف الجهاد مثلهم كمثل إنسان نظر إلى شخص يعيش في دياجير الظلام يتخبط، لا يدري أيطأ شوكاً أو ورداً أيمسك حية أو حوتاً، لا يدري ماذا يفعل؟ في ظلام وجهالة وضلال، فأتاه وفي يده مشعل يضيء الطريق، فجاء وطرق الباب على هذا الضال الضائع، وقال: يا هذا! خذ هذا المشعل واستنر به.(27/7)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [6](28/1)
تابع شرح حديث: (أمرت أن أقاتل الناس ... )
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد:(28/2)
معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا بحق الإسلام)
فالحق هنا حق الإسلام الذي هو دين الله، ولم يقل: بحق المسلمين، أو بحق الرسول (إلا بحق الإسلام) أي: الحق الذي جاء به الإسلام من عند الله، وهنا يرد
السؤال
ما هو حق الإسلام؟.
جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيب زان، والنفس بالنفس -أو قاتل النفس- والتارك لدينه المفارق للجماعة) .(28/3)
ثبوت القتل بالرجم من سنة النبي عليه الصلاة والسلام
ويهمنا هنا أن هذا الحديث الصحيح يثبت وجود الرجم، وقد أنكر بعض الناس الرجم، وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه خطب الناس على المنبر وقال: (أيها الناس! لا يطولنّ الزمان بالناس فيقولون: أين الرجم لم نجده في كتاب الله؟ لقد نزلت آية الرجم، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا معه، ولولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها) ، وقد أجمع أنه كان فيما أنزل من القرآن: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله وكان الله عزيزاً حكيماً) ، ونُسخت وبقي حكمها، وكل علماء الأصول يعلمون أن النسخ: إما نسخ اللفظ وبقاء الحكم، أو نسخ الحكم وبقاء اللفظ.
وقد يرد
السؤال
ما الحكمة من النسخ بهذه الكيفية؟ قالوا: نسخ الحكم وبقاء اللفظ للتعبد، ليتذكر الناس تخفيف الله عليهم، ونسخ اللفظ وبقاء الحكم: للابتلاء والامتحان، هل يتركون العمل به بمجرد عدم وجوده، أم يظلون ممتثلين أمر الله ولو رُفع اللفظ؟ ثم إن بعض العلماء يقول: ما نسخ لفظ الرجم، بل إنه موجود كما في قصة اليهود، ففي حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (جيء بيهودي ويهودية قد زنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: ائتوني بأعلم رجلين، فجاءوا بابني صورية، فقال لهما: ما حكم ذلك في كتابكما؟ قالا: إن رهباننا قد غيّروا وجعلوا التحميم -تسويد الوجه- وتنكيس الوجوه في الركوب، فقال عبد الله بن سلام: مرهم فليأتوا بالتوراة فليقرءوها، فجاءوا بالتوراة وقرءوها، ولم يقرءوا آية الرجم، فقال ابن سلام: مره فليرفع يده -أي: القارئ- فرفع يده فإذا آية الرجم موجودة في التوراة) ، فقالوا: إن وجود آية الرجم في التوراة، وطلب الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقرأ على الحاضرين، علاوة على دلالة القرآن الكريم عليها والإحالة إلى موضعها في التوراة، لهو إثبات للرجم.
وهنا مبحث: هل شرع من قبلنا شرع لنا، أم لا؟ الجمهور: على أنه شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما ينسخه أو يدل على منعه.
ويكفي في إثبات الرجم الأحاديث المتواترة في ذلك، وقضية ماعز وقضية الغامدية وكل منهما قد رجم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ووقعت بعض الوقائع في زمن عمر ولم يكن نصاب الشهود كاملاً، فلم يطبق هذا الحد.
وهنا يبحثون أيضاً: لماذا يشترطون أربعة شهود في حد الزنا؟ بينما في القتل لو شهد اثنان على قتل أربعة لواحد لقتل الأربعة؟ قالوا: لأن كل جريمة شهادة على جانب واحد، لو أن إنساناً قتل إنساناً، نحن في حاجة إلى شهادة على القاتل أنه قتل، ولكن في الزنا هناك زان ومزني بها، فهناك طرفان، قالوا: وشهادة الأربعة لا تخص واحداً من الطرفين في الزنا، هذا فيه وجه آخر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يطلب الأربعة الشهود إلا أن يكون الطرفان موجودان، وما جاءت قضية يقر صاحبها وفتش عن الطرف الثاني.
فحينما جاء ماعز، ما قال له: بمن زنيت؟ وحينما جاءت الغامدية ما قال لها: من الذي زنى بك؟ لأن ذلك تفتيش وتنقيب عن الفواحش، والأمر مبني على الستر، فلما جاءت الغامدية اكتفى بمجيئها، ولما جاء ماعز اكتفى بمجيئه، لأنه: لو قال ماعز: زنيت بفلانة، وجيء بفلانة وقالت: يكذب، هل قوله: يسري عليها، لا وكذلك لو جاءت الغامدية وسئلت: من صاحبك، وقالت: فلان، وجيء بفلان، وقال: كذبت علي، هل يؤخذ بادعائها عليه، لا يؤخذ، إذاً ما الفائدة من المجيء، ولكن في قضية العسيف كما تقدم في الموطأ: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، فأفتيت بأن على ابني الرجم فافتديت ولدي بوليدة ومائة شاة، فاقض بيننا بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، أقضي بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم يردان عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام) .
إذاً: هذا هو الحكم بكتاب الله؛ لأن ولده بكر ليس بمحض، والتغريب من كتاب الله، لا كما تقول بعض المذاهب: زيادة على النص فهو ساقط، وعليه تغريب عام، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) لماذا أرسل إلى امرأة هذا؟ الاعتراف جاء من المرأة والأجير من قبل، ولكن اختلفوا في الحكم، فأُفتي ممن لم يعلم الحكم، فقام الرجل وافتدى ولده، والحدود لا يفتدى فيها، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، وذهب أنيس إلى المرأة فاعترفت فرجمها.(28/4)
المقاصد الشرعية من تغليظ حد الثيب الزاني
إذاً فممن يستحل دمه: الثيب الزاني، والثيب: هو الذي سبق أن تزوج، ودخل بامرأته في عقد لا بملك يمين، ووطأها وطئاً صحيحاً ولو مرة واحدة، بل كما يقول العلماء: ولو بمجرد مغيب الحشفة، ويرتبون على مغيب الحشفة نحواً من عشرين حكماً في الفقه، فإذا تزوج ودخل بالزوجة، ولو طلقها في الحال، أو ماتت أصبح ثيباً.
الخلاصة أن البكر إذا زنت تجلد مائة جلدة، والثيب إذا زنت رجمت.
الزنا واحد، والإيلاج واحد، وقضاء الوطر واحد فلماذا اختلف الحكم؟ ونجد البعض يقول: إن البكر لم يتذوق أمر النكاح، فهو لا يدري شيئاً عنه، ولذا فهو أقدر على الصبر عليه، أما الثيب فقد تذوق ولا يقوى على الصبر والعفة، فلماذا شدد في حكم الثيب دون البكر؟ أقول: إن الذي يتتبع مقاصد الشريعة يجد أن الحكمة فيما جاء به الشرع؛ لأن الثيب غالباً ما تكون ذات زوج، والبكر لا زوج لها، فإذا زنت البكر وحملت، وظهر حملها وجاء ولدها، هل يمكن أن يلصق بأحد؟ لا، متميز بذاته، ولكن الثيب إذا زنت وحملت من غير زوجها، فإنها تلحق بزوجها من ليس منه.
إذاً جرم الثيب أكبر، وجرأة الثيب في التساهل أكثر؛ لأنها ترى عليها غطاءً يسترها ألا وهو زوجها، والبكر لا تجد ذلك، إذاً: القضية ليست محل اجتهاد، وإنما هو تخرص واستنتاج، ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب الزاني) وتفاصيل هذا الأمر في كتب الفقه في باب الحدود.(28/5)
أقوال العلماء في قتل النفس بالنفس
قال عليه الصلاة والسلام: (والنفس بالنفس، أو القاتل ... ) أجمع العلماء على أن من قتل يقتل، لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] وبيّن في موضع آخر: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178] .
فإن قتل حر عبداً، أو العكس، أو قتل ذكر أنثى أو العكس، ماذا يكون الحكم؟ بينه قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فالذكر يُقتل بالأنثى، والأنثى تقتل بالذكر، ولكن بعض المذاهب يقول: إذا قتل رجل امرأة وطلب أهل المرأة القصاص من الرجل، دُفع لهم نصف الدية؛ لأن دية المرأة نصف دية الرجل، فيدفعون نصف الدية أو يقتلون الرجل، والجمهور يقولون: لا (النفس بالنفس) رجل بامرأة وامرأة برجل سواء، أما الحر بالعبد، فالجمهور يقولون: لا، الحر إذا قتل عبداً، العبد مال يقوّم، ويدفع لسيده قيمته مهما بلغت، ولو زادت عن دية الحر، وإذا قتل العبد حراً، ماذا يكون الحال؟ ليس على سيد العبد إلا تسليم العبد، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا امتلكوا، أو باعوا وأخذوا القيمة، ثم هناك القصاص في الجروح دون النفس وهذا له بحث خاص في موضعه.(28/6)
كلام العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (التارك لدينه المفارق للجماعة)
قال صلى الله عليه وسلم: (والتارك لدينه المفارق للجماعة) وهذا باب واسع يُبحث في باب الردة، ومن أراد أن يرجع إليه فليرجع، وفيه دقائق قد تخفى على كثير من العلماء، ومن تلك الدقائق: كل من سخر بعمل في الإسلام ولو كانت السخرية في سنة أو مندوب لكونه في الإسلام فهي ردة عن الإسلام، فإن رأى إنسان إنساناً بلحية طويلة فنظر إليه بسخرية وضحك منه لهذا الأمر، أو سخر إنسان من إنسان لأنه رآه يستاك، قال العلماء: كل من سخر من أي شيء ينسب إلى الإسلام أو استهان بشيء في الدين فإن الفقهاء يعتبرونها ردة.
وقوله: (التارك لدينه المفارق للجماعة) ، لا يفارق الجماعة إلا إذا انعزل عنها، وترك تعاليمها، وأبى أن يكون ضمن الأمة بكاملها في أوامرها ونواهيها وتعاليم دينها.(28/7)
معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله)
قال عليه الصلاة والسلام: (وحسابهم على الله) هذا من القواعد العامة أن المسلم لا ينبغي له أن ينقب ويتجسس ويتتبع عورات الناس، وها هو صلى الله عليه وسلم يؤكد هذا المعنى، وقد بيّن الله له حال المنافقين {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة:273] فيكاد يسميهم القرآن واحداً واحداً، وكان حذيفة يعرفهم بأفرادهم، حتى يأتيه عمر ويقول: (هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين) ، عمر يخشى من ذلك، بينما ابن أُبي رئيس المنافقين حين هم بعض أصحاب النبي بقتله، منعه وقال له: (لا؛ حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) يتركهم لشأنهم، فحسابهم على الله.(28/8)
النصيحة أولى من تتبع العورات
إذاً: لا ينبغي لولي أمر المسلمين، ولا لطالب علم، ولا لمتقدم للدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يتتبع عورات الناس، وإنما يكلهم إلى الله.
جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (أنه رأى رجلاً مسرعاً، فقال له: ما لك؟ قال: جاري يشرب الخمر في بيته، وأنا ذاهب إلى صاحب الشرط لأشتكيه، قال: هل نصحته، قال: لا، قال: اذهب إليه أولاً فانصحه) .
وهكذا: يروى عن أحمد رحمه الله أنه سئل: إذا نهيت جاري عن منكر يفعله فلم ينته، هل أستعدي عليه الحاكم؟ قال: لا.
مهمتك أن تنصحه وتنهاه، ما دام مستتراً ليس لك عليه سبيل، دعه في شأنه، لعل الله يهديه، وحاول بنصحك له، والتلطف معه، لعل الله يرحمه، أما إذا جاهر صاحب المنكر وأظهر منكره، فهذا كان في ستر الله فهتك الستر عن نفسه، وأصبح مرتكباً جرمين: جرم المنكر الذي يفعله، وجرم الاستهانة بإحساس المجتمع، ونشر الرذيلة على غيره، فهو كمورد الرذائل للمجتمع، فهذا أصبح بؤرة فساد وإغواء، فلا يترك، وعلى كل فرد من الأفراد أن يرفع أمره إلى الحاكم، ولا ينتظر من هو معين أو مسئول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا نُصح فلم ينتصح، ووُعظ فلم يتعظ، وأصبح يجاهر ويستهتر، ويفعل المنكر غير مبال، فهذا لا حرمة له.
إذاً: (وحسابهم على الله) فيما هو بينهم وبين الله، أما إذا كشف صفحته فهذا شيء آخر، وقد جاء في الحديث: (من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله، فمن كشف لنا صفحته أخذناه بفعله) إذاًَ ما دام يعصي الله سراً فلعل الله سبحانه وتعالى أن يتوب عليه.(28/9)
الفرق بين الجهاد في سبيل الله وقتال الأمم الأخرى
وهناك تتمة بسيطة: إذا قارنا بين الجهاد في سبيل الله، وقتال الأمم الأخرى، نجد الفرق عظيماً جداً، بين شناعة وفظاعة الأمم غير المسلمة إذا قدرت، فإنها -كما يقولون- تأتي على الأخضر واليابس، وتأتي بالأسلحة العامة الفتاكة التي تأخذ البريء والمذنب، والطفل والمرأة، والشاب والكبير، وكل إنسان، أما الإسلام: فإننا نجد فيه الآداب الحسنى: (لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً هرماً) أولئك كلهم لا يقتلون، ونهى عن استعمال السلاح في الدمار العام -كما في رواية الموطأ- أي: عن الغرق وإحراق النحل أو النخل والمرافق العامة، إلا إذا تترس بها الكفار، ولم نصل إليهم إلا عن طريقها.
وإذا وضعت الحرب أوزارها، وجاء أسارى في أيدي المسلمين، فهل يقتلون؟ هل يمثل بهم؟ هل هل إلى آخره؟ لا والله، انظر إلى قول تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] الأسير في أيدي المسلمين ليس مسلماً، وإنما هو كافر أخذ بحد السيف، ومع ذلك يطعمونه مع الأيتام ومساكين المسلمين، لأي شيء؟ {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:9-10] هكذا المسلم يعامل الأسير لوجه الله، ويتقي ويخاف الله فيه، بخلاف غير المسلمين، فهل بعد ذلك يعاب على المسلمين الجهاد في سبيل الله؟ لا والله.
وبالله تعالى التوفيق.(28/10)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع [1](29/1)
شرح حديث: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه)
بسم الله الرحمين الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم) رواه البخاري ومسلم] .(29/2)
ترجمة راوي الحديث أبي هريرة
هذا الحديث يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، وكنيته، واسمه: عبد الرحمن بن صخر كما ذكر النووي وللعلماء خلاف في حقيقة اسمه وكنيته: فقيل: كان اسمه عبد شمس في الجاهلية، فلما أسلم سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وكناه بـ أبي هريرة، وهريرة: تصغير هرة، قيل: كان في الجاهلية كان يرعى غنماً، فوجد هرة برية فاحتملها معه، وكان في الليل يضعها على غصن شجرة لتبيت عليه، فإذا جاء الصباح أخذها واصطحبها معه؛ مخافة عليها من الوحوش، فقيل له: أبو هريرة.
وقيل: إن الكنية كناه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه يحمل هرة صغيرة في كُمّه، فقال: (ما هذا يا عبد الرحمن؟! قال: هرة، قال: يا أبا هريرة) ! وقالوا: إن حمله إياها بعد الإسلام شفقة بها، بينما حمله إياها في الجاهلية تسلية، وإشفاقه على الهرة ناتج عن استشعاره للواجب الشرعي الداعي إلى الرفق بالحيوان؛ إذ أنه صاحب حديث: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، ومهما يكن من شيء فإن كنيته أصبحت أشهر وأعرف من اسمه عبد الرحمن.
وذكروا أ، هـ أسلم وهاجر سنة سبع من الهجرة، ووصل إلى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وقت غزوة خيبر، فلحق به، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات.
وترجمة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه تعتبر من أهم التراجم لكل طالب علم؛ لأنه رسم منهجاً لطلبة العلم المتفرغين.(29/3)
حب أبي هريرة وأمه من علامات الإيمان
قال أبو هريرة في حقه وحق أمه: (ما من مؤمن يسمع بي أو يراني إلا أحبني، قالوا: ولم يا أبا هريرة؟! قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتمتنع، وفي يوم أسمعتني كلاماً شديداً في رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني، فذهبت أبكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له: إن أمي أسمعتني كلاماً فيك أبكاني، فادع الله لها بالهداية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أن يهديها الله للإسلام، فرجع أبو هريرة قال: فوجدت الباب مجافياً، وسمعت صوت الماء، فإذا بأمي تخرج، وقد لبست درعها، ولبست خمارها، وبادرتني قائلة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فرجعت إلى رسول الله أبكي من شدة الفرح، ثم قلت: يا رسول الله! إنا غريبان فادع الله لنا، فقال: اللهم! حبب أبا هريرة وأمه للناس) ، فلذا يقول أبو هريرة: (إن من رآني أو سمع بي أحبني) ، وهنا نلفت النظر إلى أولئك الذين لا يحبون أبا هريرة، ولا يترضون عنه، فيوجد أشخاص بل طوائف وجماعات تبنت هذا الفكر السقيم، وألفت في ذلك الكتب، وقد سخر الله من دافع عن أبي هريرة رضي الله عنه.(29/4)
صبر أبي هريرة رضي الله عنه على طلب للعلم
بعض الناس استكثروا على أبي هريرة، وربما ردوا آحاده التي تخالف القياس على زعمهم، وقد ذكر أبو هريرة رضي الله تعالى عنه سبب كثرة أحاديثه، ودافع عن نفسه فيما انتُقد عليه، وذلك عندما قالوا له: (يا أبا هريرة! تسمعنا أحاديث لم نسمعها من غيرك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: إن إخواني من المهاجرين كانت تشغلهم الأسواق، والضرب في التجارة، وإخواني من الأنصار كان يشغلهم العمل في بساتينهم وزراعاتهم، أما أنا فكنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطني، وقد كنت أصرع ما بين المنبر وحجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يأتي الرجل فيجلس على رأسي أو على صدري يظن بي الجنون، وما بي إلا الجوع، ولقد خرجت يوماً ولقيت أبا بكر فسألته عن معنى آية، وإني -والله- لأعرف ذلك ولكن بغية أن يصحبني إلى بيته، ولقيت عمر فسألته ومشيت معه حتى وصل إلى باب بيته، فأسند ظهره إلى باب البيت وتبسم، وقال: يا أبا هريرة! لو كان عندنا شيء لاستضفناك) .
ويذكر لنا: (أنه رضي الله عنه وجماعة من أهل الصفة جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى في وجوههم الجوع، فأتي بطبق فيه تمر، فأعطى كل واحد تمرتين، وقال: كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما الماء فإنهما يجزيانكم يومكم، فأكل أبو هريرة تمرة، وأبقى أخرى! فقال له صلى الله عليه وسلم: لم أبقيت الأخرى يا أبا هريرة؟! قال: لأمي) يعني: كان هو وأمه ليس عندهما شيء، فيقتات بتمرة، ويحمل تمرة لأمه.
ويقول: (خرجت فلقيني عمر فسلم ومضى، ولقيني أبو بكر فسلم ومضى، ولقيني رسول الله فعرف ما في نفسي، فتبسم وقال: يا أبا هريرة! ما أخرجك؟ قلت: الجوع، قال: اتبعني، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، واستأذنت ودخلت، فأتي بقدح فيه لبن، فسأل: من أين هذا؟ قالوا: أُهدي إلينا من بيت فلان) ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا تُصدق عليه بشيء أرسله إلى أهل الصفة، وإذا أهدي إليه شيء أخذ منه وأعطى أهل الصفة، وكان أهل الصفة ضيوفاً على الإسلام، ليس لهم بيت يأوون إليه، ولا تجارة، ولا زراعة، منقطعون ومتفرغون للعبادة، وتلقي العلم، وإذا دعا داعي الجهاد كانوا هم الأوائل، قال: (يا أبا هريرة! ادع أهل الصفة، يقول أبو هريرة: فساءني ذلك في نفسي، وودت لو أخذت جرعات من هذا اللبن، ولكن طاعةً لله وطاعة لرسوله، ذهبت ودعوتهم، فلما جاءوا وجلسوا في البيت قال: يا أبا هريرة! خذ فاسق القوم، فأخذت أعطي الرجل يشرب، ثم أعطي الآخر حتى شربوا جميعهم، ورددت القدح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: يا أبا هريرة! لم يبق إلا أنا وأنت) .
انظروا هذه الكرامة يا إخوان! (لم يبق إلا أنا وأنت) ، وفيها مساواة أبي هريرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفضلة الباقية، فقال: (اشرب يا أبا هريرة! قال: فشربت، قال: اشرب يا أبا هريرة! قال: فشربت، ثم قال: اشرب قال: فشربت، ثم قال: اشرب، فقلت: والله! لا أجد له مسلكاً) ، وفي بعض الروايات: (فرويت حتى رأيت الري بين أظفاري، وبقي في القدح بقية، فشرب صلى الله عليه وسلم من تلك الفضلة) ! معجزة عظيمة، قدح يسقي أهل الصفة حتى يفيض، ويشرب أبو هريرة حتى لا يجد له مسلكاً، ولو كان انفرد بالقدح لشرب كل ما فيه، ولكن معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، والذي يهمنا أن أبا هريرة صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه: (على شبع بطني) .(29/5)
بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة
يقول صحابي: (كنا في المسجد ندعو، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسكْنا، فقال: عودوا إلى ما كنتم عليه، فأخذنا ندعو: اللهم! اغفر لنا، اللهم! ارحمنا، اللهم! ارزقنا، فقام أبو هريرة وقال: اللهم! إني أسألك بمثل ما سألك به صاحبي هذان، وأسألك أن تعلمني ما لم أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: آمين) ، فدعا أبو هريرة أن يعلمه الله، وأمّن على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا نرد على أولئك الذين يقولون: أبو هريرة راوٍ وليس بفقيه، فنقول: بل هو فقيه، وقد قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: الإمام الثقة الحافظ الفقيه، وإذا لم يكن أبو هريرة فقيهاً فمن يكون الفقيه إذاً؟! ولما أكثروا عليه، قال: تقولون: أكثر أبو هريرة! أكثر أبو هريرة! وفي يوم وقف عند باب المسجد، فكلما رأى رجلاً خارجاً قال: قف! ماذا قرأ الإمام في صلاة العشاء؟ فيلتبس على البعض منهم، فيقول: الآن صليت مع الإمام ونسيت ماذا قرأ، وتريد أن تكون مثلي فيما حفظت عن رسول الله؟! وامتاز أبو هريرة بخصيصة لم يمتز بها أحد من الصحابة، ففي الحديث: (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشكى إليه النسيان) ، وفي بعض الروايات: (جلس صلى الله عليه وسلم، فأخذ شملة لي عن كتفي وبسطها) ، وفي بعض الروايات: (فأخذت ردائي فبسطته) ، وفي بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يحفظ فليبسط رداءه، فبسطت ردائي، فلما قضى حديثه صلى الله عليه وسلم قال: ضم إليك رداءك يا أبا هريرة! فضممته إلى صدري، فما نسيت حرفاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم!) .(29/6)
اختبار قوة حفظ أبي هريرة رضي الله عنه
يذكرون أن مروان بن الحكم لما كان أميراً للمدينة طلب أبا هريرة، فاحتال عليه ليكتب حديثه، وأجلس الكاتب وراء حجاب، وأخذ يسأله، وأبو هريرة يحدث، والكاتب يكتب، حتى انتهى المجلس فقال: يا أبا هريرة! كتبنا حديثك، فقال: أوفعلتم؟! أسمعوني، فأسمعوه، ثم بعد سنة دعا أبا هريرة، وطلبه أن يحدثهم بما كتبوا عنه، فحدثهم، فما أخطأ في حرف واحد! ونحو هذا وقع للبخاري رحمه الله حينما جاء إلى بغداد، وقد سمع الناس بحفظه، فجعلوا له مجلساً وجاءوا بعشرة رجال، وأعطوا كل واحد عشرة أحاديث، ثم قلبوا الأسانيد، ثم سأله كل رجل منهم، ويقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا فيقول: لا أعرفه بهذا السند، ثم الثاني إلى العاشر، مائة حديث ويقول في كل حديث: لا أعرفه بهذا السند، فكيف يكون حافظاً؟ وكيف يكون طالب علم؟ مائة حديث لا يعرف منها حديثاً واحداً بذلك السند! لكنه واثق من نفسه، وقبل أن ينصرفوا قال: على رسلكم، أما أحاديث فلان الأول فإن حديثه الأول سنده كذا وكذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وحديثه الثاني: كذا وكذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وأعاد المائة حديث إلى أسانيدها الصحيحة، فحينئذٍ سلموا له بالإمامة والحفظ.(29/7)
منهجية أبي هريرة رضي الله عنه في نشر العلم
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه مناقبه كثيرة، ومنهجه في العلم يعد قدوة، فقد كان منقطعاً لطلب العلم والحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: أبو هريرة لا يُطعن في شخصيته، ولا يُشك في أحاديثه، وقد ردها طائفة من أهل البدع، وطعنوا في كل ما روى، وشكك فيه بعض الناس، وقال بعضهم: إذا وافقت روايته القياس أخذنا بها، وإذا لم توافق قدمنا القياس عليها، وكل هذا انتقاص له، وطعن في مرجعية إسلامية كبرى.
وبعضهم يأخذ عليه قوله: (إن عندي جرابين من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: جراب بثثته لكم، وجراب لو بثثته لقطع هذا -وأشار إلى حلقه-) ، فقالوا: لماذا يخفيه؟ والجواب أنه لم يبثه على جميع الناس، ولكن لم يعدم أن يذكره لبعض الآحاد والأفراد وإلا لما وصلنا، وفي هذا الجراب الذي أمسكه أحاديث الفتن، وكان يمشي في السوق ويقول: (اللهم! إني أعوذ بك من سنة الستين، وإمارة الصبيان) ، وكان يذكر أشياء ويدع أخرى، وله سلف، فأمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه كان يقول: (حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!) ، ويقول الذهبي: لو أن أبا هريرة حدثهم بأن البيت يهدم أو يحرق، سيقولون: من يصدق أبا هريرة في هذا؟! ومن كان يخطر في باله أن الكعبة ستهاجم؟ فكان يحفظ أشياء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحدث بها؛ لأن عقول الناس آنذاك لا تتحملها.(29/8)
ولاية أبي هريرة رضي الله عنه للمدينة
من عدالة أبي هريرة: أنه ولي الإمارة في المدينة، فكان معاوية تارة يوليه، وتارة يولي مروان، وعمر رضي الله تعالى عنه استعمله على البحرين أو أرسله مع العلاء، فقد ولي الإمارة لعدالته، وكان آخر أمره أنه لازم بستانه في العقيق، ومات بالمدينة رضي الله تعالى عنه عن ثمانين سنة، بعد أن خلف لنا آلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.(29/9)
الحث على الصبر في طلب العلم
أطلنا في ترجمة أبي هريرة لتعلقها: بمنهجه في تحصيل العلم عن رسول الله، ومن ينقطع للعلم يحصل على بعض ثمرته، والعلماء يقولون: أعطه كلك يعطك بعضه، إن أعطيت العلم كلك، وتفرغت له ليلاً ونهاراً، أعطاك بعضه {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] ، فإذا أعطيته كلك ويعطيك بعضه؛ فكيف إذا كنت تعطيه البعض الأقل؟! كيف إذا كان يزاحمه في قلبك الشيء الكثير؟ ورحم الله الشاعر الشنقيطي الذي يقول: جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب ذل: أي تواضع لمن تأخذ عنه، تواضع لمن كان أكبر منك، وارحم من كان دونك، وابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يترجم لنا هذا عملياً، يقول: كنت غلاماً عند أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لشاب: هلمّ نجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كثر، فقال: أتظن أن الناس يأتيهم يوم يحتاجون فيه إليك؟ قال: فقمت أنا، وقعد هو، فكنت أسمع بالحديث عند الرجل ولو آذنته لجاءني، فأتبعه من المسجد وأمشي خلفه، إلى أن يأتي إلى بيته، وأريد أن يلتفت عند دخوله البيت فيراني فيكلمني، فيدخل البيت ولا يتلفت، فأجلس على باب بيته حتى يخرج إلى الصلاة المقبلة، أضع ردائي على وجهي وتسفي الرياح على التراب، فيخرج الرجل فيقول: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لو أعلمتني لجئتك، فأقول: العلم يؤتى إليه.
وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يمشي مع زيد بن ثابت، وهو راكب، وابن عباس يمشي، فيقول: يا ابن عم رسول الله! إما أن تركب أو أنزل؟ فيقول: لا أركب ولا تنزل، هكذا أمرنا أن نكون مع علمائنا جرع النفس على تحصيله مضض المرين ذل وسغب ليس ذل الصغار ولا الهوان، ولكن التواضع في طلب العلم.
لقد رسم لنا جبريل عليه السلام صورة طلب العلم، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور: (دخل علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد منا، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يديه على ركبتيه وقال: أخبرني عن الإسلام؟ ... ) وهذه جلسة المتعلم المؤدب، جلسة من يطلب العلم، ويوقر من يأخذ عنه.
وسغب في البيت المذكور هو الجوع، ويقولون: الإنسان إذا ملأ بطنه، وأعطى نفسه كل مطلوبها تبلد الذهن، ويقل الذكاء مع كثرة الشبع، ومن عادة العلماء في طريقة التعليم أنهم يلزمون الطالب في بداية النهار أن يحفظ قبل أن يفطر، وبعد أن يحفظ ويُسمّع ورده، يؤذن له بأن يتناول الإفطار بعد ارتفاع الشمس، ولذا يقولون: إذا أردت أن تحفظ أو تذاكر مسألة عويصة عليك؛ فلا تأتها وأنت على شبع، وإنما وأنت خالي المعدة، وقوله في هذا البيت: (ذل وسغب) ، أي: لا تشغلك الدنيا وملذاتها عن طلب العلم.
ومن هنا أقول: إن فترة الدراسة بالمنحة الدراسية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة هي الفرصة الذهبية في حياة طالب العلم؛ لأنه يقضي -على أقل تقدير- سبع سنوات، ثلاثاً في الثانوية، وأربعاً في الجامعة، وإن قدر له دراسات عليا أربع أو خمس سنوات كان مجموعها عشر سنوات، يقضيها منقطعاً للدراسة، ليس كالمهاجرين يشتغلون بالأسواق لطلب المعيشة، وليس كالأنصار يشتغلون في البساتين لإصلاح أموالهم، ولكن تجارته ومزرعته وكل شيء -في هذه الفترة- هو درسه وطلبه للعلم ما بين الجامعة والمسجد النبوي الشريف الذي جعل الله فيه البركة لكل طالب علم، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الآتي إليه معلماً كان أو متعلماً كالغازي في سبيل الله.
ولو تتبعنا ترجمة أبي هريرة لخرجنا عن موضوع الحديث، ويكفينا هذا القدر، ونرجع إلى ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(29/10)
وجوب اجتناب ما نهى عنه الشرع
يقول أبو هريرة: (سمعت) وإذا ذكر السماع فمعناها: التلقي بواسطة السمع مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) (ما نهيتكم عنه) : شيء عام، ويقول علماء اللغة: أعم العموم لفظة شيء، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فشملت كل كائن.
وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشمل ما كان في السنة ابتداءً أو كان في كتاب الله، فهو المبلغ عن الله، فكل ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نهى عنه الله، وما حكم النهي؟ اجتناب المنهي عنه، ولذا قال العلماء: النهي يقتضي الفساد، والنهي إما أن يكون في العقود وإما في العبادات، إما في عبادة أو معاملة، فالنهي في المعاملات يقتضي: الفساد، والنهي في العبادات يقتضي: التحريم والبطلان.
وإذا تتبعنا النواهي سنجد أنها شرعت لحفظ الكليات الخمس وهي: الدين، والدماء، والنفوس، والأموال، والأنساب.
وقال صلى الله عليه وسلم: (فاجتنبوه) بدلاً من (فاتركوه) ؛ لأن الترك قد يكون بعد فعل، وقد يكون بمجرد الكف، أما (اجتنبوه) فمعناها: أن تكون أنت في جانب والمنهي عنه في جانب آخر، وبينكما مسافة بعيدة.
إذاً: (فاجتنبوه) أبلغ من (فاتركوه) أو (فلا تفعلوه) .(29/11)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع [2](30/1)
معنى قوله: (فائتوا منه ما استطعتم)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، الأمر مبني على الاستطاعة، بخلاف النهي فهو للاجتناب، ولِمَ لا يكون الأمر بدون قيد الاستطاعة؟ ولِمَ لا يكون النهي مقيداً بالاستطاعة؟ قالوا: لأن الترك عدمي: اتركه، يعني: كف عنه وابتعد عنه، بدون قيد ولا شرط، أما المأمور به فقد يكون ذا شروط، وذا جزئيات، وقد تتوافر الشروط كلها، وقد لا تتوافر كلها، فإذا لم تتوافر كل الشروط فيؤتى منه قدر المستطاع، ولا يترك بالمرة.
فمثلاً: الصلاة مأمور بها، ولها شروط مثل: الطهارة، استقبال القبلة، ستر العورة.
وكل هذه من شروط صحة الصلاة، فإذا لم يستطع توفير كل شروط الصلاة، فهل يترك الصلاة أو يفعل من شروطها ما استطاع؟ يفعل ما استطاع.
وإذا عُدِم الماء انتقل إلى التيمم، وإذا فَقَدَ الطهورين، فيصلي صلاة عادم الطهورين.
وإذا لم يكن لديه ما يستر كامل العورة، وعنده ما يستر السوأتين فقط، فهل يترك الستر مرة واحدة أو يستتر بالموجود؟ يستتر بالموجود، حتى قال بعض العلماء: لو أن إنساناً سرقت ثيابه، وليس عنده ثوب يصلي به بالكلية، وبجواره نهر، فليدخل في النهر حتى يستر به عورته، ويقول: ويذكر بعض العلماء كـ النووي وغيره: إذا لم يكن هناك ماء، وهناك طين في الأرض، فهل يدهن نفسه بالطين حتى يستر عورته أم لا؟ لسنا بصدد هذا، وإنما أردنا الإشارة إلى أن الفقهاء ذهبوا إلى اعتبار الاستطاعة.
وإذا عجز الإنسان عن الصلاة قائماً فليصل قاعداً، وإن عجز عن الجلوس اضطجع، لقوله: (فأتوا منه ما استطعتم) ، ولا تسقط الصلاة بالكلية.
وفي ساحات المعارك عند احتدام القتال لا تسقط الصلاة، بل يصلون بقدر المستطاع، إما جماعة وإما وهم يكرون ويفرون، ولهم أن يصلوا بقلوبهم وألسنتهم، ولا يتقيدون باستقبال القبلة؛ لأنهم ما استطاعوا، والآية الكريمة تقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وأيضاً: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، فكل العبادات والأوامر في الشرع مبناها على الاستطاعة، وهذه أمثلة في الصلاة.
نأتي إلى الزكاة: ليس بلازم على كل شخص أن يعمل ويكتسب ليبلغ عنده النصاب فيزكي، ولكن بحسب استطاعته إن ملك نصاباً وحال عليه الحول زكى، وهل الحكم مبني على الاستطاعة أو على الإلزام؟ على الاستطاعة.
وفي الصيام: إذا عجز عن الصيام لسفر أو مرض {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .
وفي الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] .
وفي الجهاد: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح:17] .
وهكذا جميع العبادات والتكاليف مبناها على الاستطاعة.
وقوله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) ، كل النواهي مقدور على تركها، وهناك بعض الجزئيات من النواهي لا يتأتى تركها، وجاءت النصوص بالرخصة فيها، مثل الرخصة في أكل الميتة المنهي عنها، وهكذا الرخصة في ارتكاب أخف الضررين، فإذا غص أحد بطعام وليس عنده ما يسيغ به اللقمة إلا الخمر، وقد يموت بسبب حبس الهواء عن رئتيه بسبب اللقمة التي سدت البلعوم، قال الفقهاء: له أن يزيل الغصة عن نفسه ولو بجرعة خمر، لكن لا يشربها للعطش؛ لأن الخمر لا تذهب العطش بل تزيده.
إذاً: جميع المحرمات مقدور على تركها {لا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ، {لا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} [الأنعام:151] ، {لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الأنعام:151] كل هذه يمكن للإنسان أن يكف عنها، ولا يقع فيها إلا بنوازع الشر، وكان في مقدوره الإنساني وطاقته البشرية أن يكف عنها.
إذاً: جميع المنهيات مقدور على تركها، وليست جميع الأوامر مقدور على إتيانها؛ لأن لها شروطاً قد يعجز عنها فخفف الشرع فيها، وجعلها بقدر المستطاع.
انتهى شرح قوله صلى الله عليه وسلم:.
(ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، ولوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه كلام جميل جداً على كلمة (فاجتنبوه) عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] ، فمن أراد أن يتوسع في معنى الاجتناب فليرجع إلى أضواء البيان عند تفسير هذه الآية الكريمة.(30/2)
كراهة الإكثار من السؤال
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإنما أهلك من كان قبلكم: كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم) ، ما مناسبة قوله: (أهلك من كان قبلكم ... ) مع قوله: (اجتنبوه وافعلوا ما استطعتم) ؟ يقولون: سبب ورود الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟! فسكت عنه، فأعادها الرجل مرة ثانية، ثم أعادها ثالثة، فقال: لا، في العمر مرة، ولو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم فكفرتم، دعوني ما أمرتكم) ، أي: الذي أسكت عنه اتركوه (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم) ، إذاً: الحديث له سبب، ولذا ذكر ما يتعلق بالسؤال عقب الكلام على الأمر والنهي؛ لأن جواب السؤال سيكون أمراً أو نهياً.
وقوله: (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم) ، هل كثرة سؤالهم وحدها أو اختلافهم على أنبيائهم مرتبط بكثرة أسئلتهم؟ يعني: هل نأخذ كثرة أسئلتهم وحدها ونفصلها عما بعدها أم أنها مرتبطة بما بعدها وهو (واختلافهم) ؟ الجملتان مرتبطتان؛ ولذا لا تؤخذ الجزئيات كلمة كلمة، لكن تؤخذ الجملة في إطار كامل.
إذاً: السؤال إما أن يكون مؤدياً لاختلاف أو يؤدي إلى علم.
وبمعنى آخر: السؤال إما يكون استفتساراً للعلم والمعرفة، وإما يكون تعنتاً وتعجيزاً.
فالأسئلة التعنتية والتعجيزية ليست من شأن أهل الدين، وليست من شأن طلبة العلم، بل كانت سبباً في إهلاك الأمم؛ لأنها أدت إلى اختلاف الأمة مع أنبيائها، أما الأسئلة الإيضاحية لأجل الفتوى أو لأجل التعليم، فهي من منهج التعليم الصحيح.(30/3)
السؤال والجواب في القرآن
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إن هذه الأمة أقل الأمم سؤالاً، ما سألت إلا اثني عشر سؤالاً، وكلها جاء الجواب عنها) .
والأسئلة تنقسم إلى قسمين: أسئلة تعنت وتعجيز، وأسئلة استفهام لبيان الفتوى في الواقع.
أما أسئلة التعنت والتحدي فكما بيّن لنا سبحانه أسئلة الأمم مع أنبيائهم، مثل قوم صالح حين سألوه أن يخرج لهم من الجبل ناقة، وهذا السؤال فيه تحدٍ، إذ كيف لجبل أصم أن ينتج ناقة فيها حياة؟! ولو طلبوها من البحر لكان يمكن أن تخرج ناقة من البحر، إذ فيه حيتان وحيوانات، أو من السماء لكان يمكن أن تنزل من السماء، فالله أعلم بخزائنه، لكن طلبوا ناقة من هذا الجبل الأصم! فهذا تحدٍ، ولذا كان هذا التحدي سبب إهلاكهم؛ لأنهم ما صبروا على الناقة فعقروها {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس:14] .
بنو إسرائيل قالوا لعيسى -وانظر إلى صيغة السؤال الذي يشف على عدم الحياء-: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ} [المائدة:112] حسبنا الله ونعم الوكيل! من قال لهم: إن الله لا يستطيع ذلك؟! هو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ولكن انظر إلى السؤال! فهو محض تحدٍ، والصيغة تدل على عدم الحياء وغياب الأدب، {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:112] ، خافوا ربكم! قالوا: لا، نريد أن نأكل، وهذا يشير إلى أنهم لا يؤمنون إلا ببطونهم!! والمشركون طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفجر لهم عيوناً، وأن يسير الجبال، وأن يجعل لهم جنات وأنهاراً، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:90-93] ، يا سبحان الله! إلى هذا الحد! فأسئلة التحدي كانت سبباً للإهلاك، ورحم الله هذه الأمة فلم يهلكها بسبب تعنتهم في أسئلتهم؛ وذلك لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] .
وقد أشار القرآن إلى ثلاثة أسئلة تعجيزية، وذلك أن المشركين قالوا لليهود: أنتم أهل كتاب، فأعطونا شيئاً نورده على هذا الرجل نسكته به، فقالوا: سلوه عن ثلاثة أشياء، فإن أجابكم عن بعضها وترك بعضها فهو صادق، وإن أجابكم عنها كلها، أو ترك الإجابة عنها كلها فاعرفوا أنه كاذب، وشأنكم به.
قالوا: سلوه عن فتية في غابر الزمن كان لهم شأن، وسلوه عن الرجل الذي طاف الأرض إلى المشرق والمغرب وكان له شأن، وسلوه عن الروح، فرجعوا فرحين، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك حتى جاء الوحي، وأخبره عن الفتية أصحاب الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] إلى آخره القصة، وقال الله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ، وذو القرنين هو الذي له شأن في التاريخ الماضي، ولم يقل: يسألونك عن رجل طاف الأرض، ولا: يسألونك عن رجل صفته كذا، لا، وإنما قال جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83] ، انظر كيف الجواب! وكل الأسئلة التي جاء في القرآن جوابها، فجوابها مباشر دون تمهل، ولكن هنا قال: {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ} [الكهف:84] ، فأول الجواب من قوله: (إنا مكنا) ، ولكن قل لهم وأسمعهم: (سأتلوا عليكم منه ذكراً) ، والتلاوة والذكر لشيء واحد، ولكن المتلو يكون ذكراً للعالمين، وأخبرهم صلى الله عليه وسلم بالوحي عن ذي القرنين بتفصيل ربما لم يكن عند اليهود تفصيله.
وهذه الأسئلة تبين لنا حقيقة الحكمة في نزول القرآن منجماً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] ، فالكتب الأولى كلها نزلت جملة، فموسى جاء بالألواح وهي مكتوبة كلها، ثم عرضها على بني إسرائيل فامتنعوا من العمل بها حتى نتق الله فوقهم الجبل، قال الله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف:171] ، ولولا التهديد بالجبل فوق رءوسهم لما آمنوا، ولكن القرآن يأتي آية آية، يساير حياتهم ويعايشهم في كل ما يطرأ لهم، وكل مشكلة جاءت ينزل بحلها، وكل قضية واجهتهم يأتيهم بتوجيهها، فكانوا يأخذون القرآن آية آية، وحكماً حكماً، فما انتهت فترة الوحي إلا وقد استوعبوا الوحي كله.(30/4)
أسئلة الصحابة المذكورة في القرآن
قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، والسؤال عن المحيض ليس فيه تعنت، فهو أمر يحتاجون إلى معرفة أحكامه في بيوتهم {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، فهذا تعليم لأمور تتعلق بكل زوجين؛ ولذا جاء الجواب مفصلاً، وبعد ذلك لا ينسى أحد من الصحابة حكم المحيض.
وهكذا في أي أمر اختلفوا فيه أو التبس عليهم يسألون عنه، ويأتي الجواب كقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:215] ، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:219] ، سؤالان كلاهما عن الإنفاق، أجابهم مرة عن الجزء الذي ينفقونه وهو: العفو، أي: الزائد، وأجابهم مرة عن جهة الإنفاق، وأن أولى من تنفق عليه الوالدين والأقربين إلى آخره.
وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه:105] ، هذا مظهر من مظاهر الكون، وآية من الآيات المشاهدة الدالة على قدرة الخالق جل وعلا، فبين قدرته سبحانه فقال: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] .
وقوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217] ، وذلك قد وقع بالفعل، وانتهزها المشركون فرصة في الطعن على المسلمين، فقالوا: محمد صلى الله عليه وسلم يدعي أنه يعظم حرمات الله، وهو وأصحابه يقتلون الناس في الأشهر الحرم! {قُلْ} [البقرة:217] على واقع الحال، واعتراف بالواقع، ولكن بمقارنة {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217] ، ولكن ماذا فعلتم أنتم؟! كفرتم بالله، وصددتم عن سبيل الله، ففعلكم أنتم أشد من خطأ هؤلاء الذين شكوا في كون الشهر دخل أم لا.
وقوله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة:219] ، هي من المعاملات، كانوا يشربون الخمر، ويقامرون، ومن فاز بالميسر لا يأخذه ويتصدق به على المساكين، وأخذه إياه ليس على وجه حق، وإنما هو أكل لأموال الناس بالباطل عن غير طيب نفس، فالسؤال عن معاملات وأشياء واقعية يعاشرونها وتعايشهم، فجاء الجواب في القرآن عن هذا التساؤل.(30/5)
أسئلة الصحابة المذكورة في السنة
كانت الأسئلة التي سأل عنها صدر هذه الأمة أسئلة فقهية واستيضاحية وتعليمية، فتعلموا بالأسئلة، أما الأشياء التي لا جدوى من السؤال عنها فكانوا يجتنبون الخوض فيها امتثالاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] ، ولم يسألوا عن شيء لم يقع، فلم يسألوا إلا في الواقع، ولكن هل هناك مانع من السؤال عما وقوعه محتمل؟ لا مانع إذا كانت المسألة محتملة الوقوع، ومثال ذلك لما أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستبتلى بأمراء جور وفساد (قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) .
مثال آخر: أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرسل هدياً إلى الكعبة وهو في المدينة، فسأله سائق الهدي لما أراد أن يتوجه إلى مكة فقال: (يا رسول الله! لو عطب الهدي ماذا أفعل به؟) هل نهاه عن سؤاله وقال: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم) ؟ لم يقل ذلك صلى الله عليه وسلم؛ لأن عطب هدي في طريق طويل من المدينة إلى مكة محتمل، وهذا من فقه صاحب الهدي، فأجاب بقوله: (انحره واغمس قلادته في دمه، وخل بينه وبين الناس) .
مثال ثالث: في غزوة خيبر أرسل صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي الله تعالى عنه ليعطيه الراية، وكان قد قال في اليوم السابق: (لأعطين الراية غداً) إلى آخره، فلما حمل الراية قال له: (انفذ على رسلك، ولا تلتفت، وقاتلهم) فمشى علي قليلاً ثم وقف، ولم يلتفت، ونادى بصوت عالٍ: (يا رسول الله! علام أقاتل القوم؟ قال: على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ... ) إلى آخره، فسأل ليتبين، فالسؤال الذي يكون عن معرفة واستفسار حسن، أما التعنت واللجاج في المسألة -حتى ولو كان حقاً- فهو منهي عنه، وتتضح كراهة ذلك في مسألة وقعت للصحابة رضي الله عنها، فإنهم اجتمعوا رضي الله تعالى عنهم وسألوا رسول الله عن ليلة القدر، ودخل البيت، فتلاحى رجلان منهم، وكانوا يريدون أن يعلموا بليلة القدر، والسؤال عنها مطلوب، ومعرفتها بغية كل إنسان، لكن رفع علمها لما حصلت الملاحاة -ولو كانت في الحق-، فخرج عليهم صلى الله عليه وسلم وقال: (كنت أردت أن أنبئكم فتلاحى رجلان؛ فرفعت) أي: رفع تعيينها.
ومن هنا يقول العلماء: لا ينبغي لطلبة العلم الملاحاة في المسائل الفقهية ولو كانت حقاً، يروى عن مالك رحمه الله أنه قال: (إن من تتبع شواذ المسائل حرم نور العلم) ، ويقول عمر بن عبد العزيز - كما نقله عنه ابن عبد البر -: (من أراد الله حرمانه من العلم شغله بشواذ المسائل) ، وعمر رضي الله تعالى عنه يقول: (أحرج على كل مسلم أن يحدث بحديث ليس عليه العمل) ، ومالك لما أراد هارون الرشيد أن يعلق الموطأ على الكعبة، ويحمل المسلمين جميعاً عليه قال: (لا تفعل؛ إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، ونقلوا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ كل بما وصل إليه، فلا تغير على الناس) ، والإسكندري جلس عنده طلابه فتلاحوا عنده فقال: (درنت قلوبكم! قوموا إلى خالد بن حماد فاجلوا قلوبكم عنده، وتعلموا منه الرغائب ونوافل العبادات؛ فإنها ترقق القلب، وتورث المحبة، وتبعد الضغينة) .
ويقولون: إن المناقشة في العلم -ولو في الحق- قد تؤدي إلى التعالي والحرص على حظ النفس، وكل يريد أن ينتصر لنفسه، فتقع الفرقة والشحناء.
إذاً: السؤال إن كان للاستفتاء فلا بأس بذلك، أما أن يكون للمناقشة والجدال والتعالي فهذا هو الذي يفرق بين المسلمين، ولقد أدى تعصب بعض أتباع المذاهب إلى تسابهم وتخاصمهم وتهاجرهم، كما دوّن ذلك بعض المتأخرين، ولك أن تعجب من سؤال يتردد عند بعضهم: هل يجوز أن يتزوج شافعي بحنفية؟! إلى هذا الحد! مع أن الأئمة رضوان الله عليهم جميعاً ليسوا متعصبين، قالوا لـ أحمد: أتصلي خلف الشافعي وهو لا يتوضأ من لحم الإبل؟ قال: وماذا تراني؟! أأمتنع من الصلاة خلف مالك وخلف أبي ثور وخلف فلان وفلان؟! يعني: إذا اختلفنا في رأي أو في مسألة هل يكون ذلك سبباً لفرقتنا؟! لا.
والله!(30/6)
خلاف التضاد شر وخلاف الأفهام رحمة
قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم) أي: الأسئلة التي تؤذي إلى الخلاف؛ ولذا لما حج عثمان رضي الله تعالى عنه وأتم الصلاة في منى، جاء ابن الزبير إلى ابن مسعود وقال: (أرأيت ما فعل الرجل؟! قال: يا ابن أخي! إن صليت في رحلك فاقصر الصلاة، وإن صليت خلفه فأتم الصلاة، ولا تخالفنه فالخلاف شر كله) ، وفرق بين مخالفة واختلاف، الاختلاف في الرأي في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها، أو فيها نصوص متعارضة، أو فيها مجال سائغ للنظر، فهذا لا يمكن لإنسان أن يرده، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر المختلفين في قضية واحدة في صلاة العصر في بني قريظة، أما مخالفة النص الصحيح الصريح الذي لا معارض له، فهذا مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله.
إذاً: في هذا الحديث بيان موقف المسلم من الأمر والنهي، والأصوليون يأخذون من هذا الحديث قاعدة للجمع بين المتعارضين، وهي: أيهما نقدم؟ ويتفق العلماء على تقديم جانب الحظر كما ذكر ابن دقيق العيد في قضية تحية المسجد بعد العصر، وأطال النقاش في ذلك، وأورد الأدلة ثم قال: تعارضت الأدلة في الجانبين، وليس لدينا مرجح من تلك النصوص، فنأتي بمرجح من الخارج ألا وهو: إذا تعارض مبيح وحاظر قدمنا جانب الحاظر على المبيح؛ لأن مقتضى الحظر: أن تقع في محظور أقله الكراهية، ومقتضى الطلب: إن لم يكن واجباً فهو مندوب، فلأن تترك مندوباً وتسلم من مكروه أولى من أن ترتكب مكروهاً من أجل تطبيق مندوب، والأصوليون يستدلون بهذا الحديث على هذه المسألة.
وننصح طلبة العلم خاصة بترك الملاحاة في السؤال، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتاً في الجنة) .(30/7)
لا تكليف بما لا يستطاع
قوله عليه الصلاة والسلام: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) ، مأخوذ من قوله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] .
وهل يوجد تعارض بين الآيتين: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] والآية الأخرى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] ؟ وهل قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] منسوخة أم لا؟ يذكر بعض علماء التفسير أن آية {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] منسوخة، وقالوا: لما نزلت: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] ذهب الصحابة يبكون إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقالوا: من الذي يستطيع أن يتقي الله حق تقاته؟! فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فنزلت: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [آل عمران:102] ، فما فرحوا بشيء مثل فرحهم بهذه الآية، وقالوا: إنها نسخت: {حَقَّ تُقَاتِهِ} .
وآخرون يقولون: ما نسخت، وبيان حق تقاته يشير إليه آخر الآية: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ، والإسلام أعم من حقيقة التقوى؛ لأن الإسلام أعمال ظاهرية تأتي بعده رتبة أعلى منه وهي: الإيمان، ثم تأتي رتبة أعلى من الإيمان وهي: الإحسان، والتقوى هي رأس مال المسلم، وهي نهاية كل شيء.
فقالوا: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] هي: امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، والدوام على هذا الالتزام حتى الموت، كما جاء في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] وقال الصديق رضي الله تعالى عنه: {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] أي: التزموا واستمروا على ذلك حتى ماتوا عليه.
إذاً: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] القول فيها يدور بين النسخ وبين عدم النسخ، وتفسير حق تقاته بما جاء في آخرها: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] .
وبهذه المناسبة يقولون: إن ترك المعاصي كلها لا يقوى عليه إلا الصديق، وفعل المأمور به قد يقدر عليه كل الناس بقدر الطاقة؛ ولذا جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (عجب ربنا لشاب ليست له صبوة!) لأن ترك المعاصي ليس بالأمر الهين.
ولما سئل أيهما خير: شخص تراوده نفسه لعمل المعاصي فيكف أو شخص لا تراوده نفسه أبداً؟ فأيهما أقوى وأفضل عند الله؟ قال: الشخص الذي تراوده نفسه ويمنعها أفضل من الشخص الذي لا تراوده نفسه.
وبهذا نعلم تفسير قوله تعالى:: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:24] ونعلم وجه الرج على من قال: كيف يهم بها وهو نبي؟! وقد أجاب العلماء بأن الهم الموجود عند يوسف عليه السلام هو الدواعي الجبلية في الإنسان، فأي إنسان كان جائعاً ورأى طعاماً، فالنفس بطبيعتها تشتهي هذا الطعام، ولكن يأتي بعد ذلك النظر: هل هو حلال فيأكل منه أو هو حرام -كأن يكون ملكاً لغيره أو محرماً لذاته- فيكف عنه؟ لكن رغبة النفس موجودة، فالقدرة هنا والعفة والتقى أن يكف يده عما ليس له فيه حق.
ولو كان مريضاً سقيماً ولم يأكل منه لتلك العلة، وقال: أتعفف عن الحرام، وليس الأمر كذلك، وإنما الذي منعه المرض، أما نبي الله يوسف فلو لم يكن لديه ميل فطري، وغريزة الجنس؛ لما كان مكتملاً من الناحية الإنسانية، قال الله: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] إذاً: هو كف الهم الجبلي الذي يراود النفس، ولكن عصمه الله، فكف عن الحرام مع وجود الدوافع؛ وهنا تكمن قيمة العفاف وفضله، لا ذلك العجز الذي يريد البعض أن يصفوا به نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام.
إذاً: المرأة كانت حريصة غاية الحرص على أن يحصل ما همت به، فغلقت الأبواب، وقالت: هيت لك، ولكن هو ما هم، ولا حرص أن يفعل، وإنما عرضت عليه خطرات النفس البشرية، ولكنه كف مع وجود الدوافع، والحرص على الفعل قد يكون له حكم الفعل كما في الحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) ، ففرق بين من هم وكان همه مجرد خطرات تتردد في النفس، وبين من هم هماً جازماً مؤكداً وما رده إلا العجز والتقصير.
إذاً: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] على بابها، و {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102] أي: التزام الأوامر واجتناب النواهي، ولا يقوى عليه إلا الصديقون -كما قيل- والله تعالى أعلم.
وأظن أن والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه وعلينا تناول هاتين الآيتين فيما في كتابه: دفع إيهام الاضطراب، وهي من مواضع قصيدة (نظم السيوطي) فيما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، وللشيخ رحمه الله شرح على هذه القصيدة أملاه عليّ.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل طلبنا للعلم خالصاً لوجه الله، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(30/8)
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1](31/1)
أهمية الحفظ في طلب العلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: [الحديث العاشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟) رواه مسلم] .
يقال: من حفظ المتون حاز الفنون، ونحن في الواقع ضيعنا المتون بينما كان طلبة العلم في السابق لا يقرءون فناً إلا بعد حفظ متن فيه، مثل الزاد في الفقه، والألفية في النحو، فلابد لطالب العلم في أي فن يقرأه، أن يكون حافظاً لمتن فيه.
ولكن -وهذا من المؤسف- كثرة المشاغل، وحشو القلب بكثير من الأشياء أضعف ذاكرة الحفظ، ومهما يكن من شيء فينبغي لطالب إذا استطاع أن يحفظ متناً ولو لم يفهمه، ثم سيأتي وقت يفهمه.
ولذا نجد في نظام الكتاتيب، اعتناؤهم بتحفيظ الأطفال القرآن الكريم مع أن أحدهم لا يفهم معناه، ولا يستطيع أن يرتقي إلى مستوى الفهم، لكن بعد أن يكبر يكون الحفظ موجوداً، فإذا قرأ فهم، أو رجع إلى التفسير كان أيسر عليه، والله المستعان.
وهذا الحديث العاشر من الأربعين النووية المباركة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وتقدم الكلام عن ترجمة أبي هريرة، وفيها ما يهم طالب العلم من الحرص والانقطاع والتفرغ للعلم.(31/2)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] ، وتمام الآية: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] ) .
قوله: (الآية) عقب ذكر جزء منها، اصطلاح، وهو يعني: إلى آخر هذه الآية، ويأتي الطابع أو يأتي الكاتب ولا يكمل الآية، وقد يقتصر على جزء من الآية وهو محل الشاهد، وقد يكون المعنى كاملاً في تمام الآية، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حينما جاء يوقظ علياً رضي الله تعالى عنه وفاطمة لقيام الليل، فقالا: أرواحنا بيد الله يرسلها متى شاء، فخرج صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54] ، وجعل يرددها، وهي جزء من آية ينطق ويستدل بها.
وتتمة هذا الحديث: (وذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! يا رب!) في بعض النسخ أو الطبعات يعني: يقول: يا رب! ثلاث مرات، (ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغُذِيَ -أو غُذِّيَ- بالحرام، فأنّى يستجاب له؟) .(31/3)
عظمة الله وطيب ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله
هذا الحديث في بدايته، وفي آخره، والتئام وتناسق، وبين أوله وآخره ومناسبة، وهذا موضع البحث، فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب) يرتب عليه (لا يقبل إلا طيباً) ، وهذا تجانس، فالطيب لا يتناسب معه إلا الطيب {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] ، ويتناول العلماء هذا اللفظ من هذا الحديث (إن الله طيب) ففي أي شيء هو طيب؟ طيب: في كل شيء: طيب في ذاته، طيب في أسمائه، طيب في صفاته، طيب في أفعاله.
فهو طيب في ذاته، أي: منزه عن أي نقص أو شائبة عيب، وهو متصف بكل مجامع الحمد، وكما يقولون: كملت صفات المولى سبحانه، فهو الكامل في ذاته، فلا يعتريه سبحانه -ولا يجوز في حقه- أي نقص، ولا شبه بمخلوق، ومن طيبه سبحانه وتعالى في ذاته وفي أفعاله؛ أنه لا يكون منه إلا الطيب، ولا يليق بجلاله إلا الطيب، فهو خلق الكون، وكل خلقه طيب في نظامه، وفي وضعه، وفي تسييره، إن نظرت إلى السماء، رأيت عالماً طيباً في إحكامه، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] ، وإذا نظرت إلى الأرض، وجدت عليها مكونات الحياة، في بحارها، في أنهارها، في جبالها، في نباتاتها، في تنظيم الخلق، في خلق الإنسان خلقاً سوياً، وكل ذلك من الله طيب؛ لأنه طيب.(31/4)
أفعال الله طيبة وإن كان بعضها في نظر بعض الناس على غير ذلك
إذا وجدت شيئاً من مخلوقات الله ليس طيباً في نظرك، فهو طيب عند الله؛ لأن وراءها من الحكم ما هو طيب.
فالإنسان في الأصل أنه سوي، وخلقه الله في أحسن صورة (في أحسن تقويم) ، فإذا وجدت إنساناً ذا عاهة وعيب، فأنت تشفق عليه، وترى أنه ناقص عن غيره، ولكن الله سبحانه وتعالى قد جعل لهذا الشيء حكمة، وفيها من الطيب ما لا تدركه أنت، ففي الآخرة يكرمه ويعوضه، ويعطيه الشيء الكثير، بل يجعله موجباً لشكر نعمته على غيره من الأصحاء، فأنت إذا رأيت إنساناً مريضاً، فمرض هذا المريض يجعلك تشعر بالصحة، كما قالوا: (وبضدها تتميز الأشياء) ، وإذا وجدت إنساناً فقيراً فقراً مدقعاً، فاعلم أن هذا الوضع عند الله طيب، وقد جاء في الحديث القدسي، (إن من عبادي من لا يصلحهم إلا الفقر، ولو أغنيتهم لفسد حالهم) .
-كما قال الله: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7]- (وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لفسد حاله) ، مع أن الله قال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] .
إذاً: كل وضع في الخلق فهو من الخالق طيب، لماذا؟ لأنه من الله، ومن هنا: كان من أركان الإيمان: الإيمان والرضا بالقدر فيما وقع بك، وفيما نزل بك، فتعلم أنه طيب؛ لأنه من الله، وتعلم بأن الله عالم وقادر وغني، فإذا أمسك عنك شيئاً؛ فليس ذلك لفقر، ولا لعجز، ولا لجهل، ولكن لمصلحتك، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] ، فكل شيء ابتلاء من الله.
إذاً: معنى (إن الله طيب) : أي: طيب في ذاته، فلا يعتريه نقص سبحانه، طيب في أفعاله فلا يصدر عنه إلا الطيب، فارضَ بما كتب الله لك.
إذا علمت هذا، لوجدت أن كل إنعام المولى على العالم، وكل فضله على الخلق مندرجاً تحت قوله: (إن الله طيب) ، يعلم ذلك من يعلم، ويغفل عن ذلك من يغفل، ولا يستطيع إنسان أن يدرك كل معاني: (إن الله طيب) ، واعلم أن أسماءه الحسنى كلها طيبة {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] .
وهذا المجال يكفي فيه مجرد الإشارة والتنبيه، ولا نستطيع أن نوفيه حقه.(31/5)
طيب العمل شرط في قبوله
الله سبحانه لا يقبل إلا ما كان طيباً، وهذا أمر معقول، فما دام أنه سبحانه طيب، وأفعاله طيبة، فكيف تتقرب إليه بغير الطيب؟ هو في ذاته طيب، فلا يليق به غير الطيب، وهو في أفعاله معك ومع غيرك طيب، فكيف يقدم له غير الطيب؟! هو ما فعل بك إلا الطيب، فكيف تقدم له غير الطيب؟! (لا يقبل إلا طيباً) من جميع تصرفات العباد: في عباداتهم، وفي معاملاته، فمثلاً الطهارة للصلاة، أمر صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء؛ لأن الوضوء غير المسبغ غير طيب، والله لا يقبله؛ لأنه طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن لم تقدم له الشيء الطيب رده عليك.
وكذا الصلاة، جاء في الحديث أنه إذا أحسنها العبد وأداها كما أمر الله سبحانه وتعالى صعدت ولها ريح طيبة، وإذا نقرها أو فرط فيها لفت كما يلف الثوب الخلِق وردت عليه! إذاً: إخلاص النية شرط في طيب العمل، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .
والعمل الطيب يشترط فيه أيضاً أن يكون موافقاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم، وقد أرسل الله لنا الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يبين لنا ما يريده الله منا؛ لأن العبادة حق لله، ومن حق الله أن يبينها إذ فرضها علينا، فبين العبادات التي يريدها منا، فليس لأحد من الخلق أن يخترع عبادة لله، وما دام أنها عبادة لله فيجب أن تكون من عند الله؛ لأنه هو الذي أمرنا بالعبادة، وبينها لنا، أما أن تخترع عبادة من تلقاء نفسك فلا!!(31/6)
لا يستوي الخبيث والطيب
إخلاص العمل لله سبحانه وتعالى شرط لطيبه، فإذا لم يكن العمل خالصاً فهو خبيث، وإذا نظرنا إلى الأشياء نجد أن الطيب يقابله الخبيث، ومن صفات النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل أنه كما قال الله: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، وهذا هو الذي يليق بمقام المولى سبحانه، وبرسالات الرسل، ولأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
هذا، والكلمة تقسيمها ثنائي، إما طيبة أو خبيثة، قال الله:: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} [إبراهيم:24] ، ثم قال: {كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ} [إبراهيم:26] ، وكذا الأرض: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ} [الأعراف:58] ، وقال سبحانه: {الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] .
وقال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26] ، وهكذا كل ما أوجده الله سبحانه وتعالى تجد فيه الطيب وتجد أنه يقابله الخبيث.
وهكذا في جميع العبادات، لا يقبل الله سبحانه عبادة من إنسان إلا إذا كانت طيبة، ومتى تكون طيبة؟ إذا كانت وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: في التشريع، وقصد فاعلها وجه الله، وهذا ما أمر الله به، وأوجبه على عباده، قال الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ، وعلى هذا قس جميع الأعمال.
وفي بعض الآثار مما يتعلق بالحج: (من حج بمال حلال، وزاد حلال، وراحلة حلال، فوضع رجله في الغرز وقال: ليبك اللهم لبيك، نودي من السماء: لبيك وسعديك، وإذا كان حراماً، وقال: لبيك، نودي: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً!) .
ويقول بعض العقلاء: عجباً لهذا الشخص الذي يحمل زاداً حراماً ليحج به! وهذا حق، فكيف تكون قاصداً بيت الله لتحج وتؤدي المناسك وتعظم الشعائر والمشاعر؛ وأنت تحارب الله عند بيت الله بما حرم الله عليك؟! فكونك بعيداً عن بيت الله أخف، وتكون مثل السارق الذي يختفي، لكن المجاهرة بالمنكر لا تُحتمل، فلو أن إنساناً سرق ثوب جاره، ثم جاره دعاه لوليمة لديه، فهل يذهب بالثوب المسروق أم بغيره؟! فإذا ذهب بالثوب المسروق الذي يعرفه الجار جيداً، فإن هذا يعتبر تحدياً لصاحب الثوب، مع أنه دعاه ليكرمه!! أما لو كان بعيداً عنه، ولم يدر عن هذا الثوب شيئاً؛ فالأمر أهون، أما أن يتحدى صاحب الثوب، ويأتيه وهو يكرمه، فالعقل والواقع يرفض ذلك تماماً.
وكذلك ربك دعاك لتحج بيته، ولتقف المواقف، ولتشهد المشاهد، وتذكر الله في تلك المواطن كلها، فكيف تأتيه متبجحاً بهذه الحال، ولسان حالك: يا رب! أنا سرقت من مال فلان، ونهبت مال فلان، واغتصبت مال فلان، وجئت لأحج بيتك بمال مسروق! فبأي شيء تفسر هذا التصرف المشين؟! (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، ومن هنا بيّن صلى الله عليه وسلم أن الله لا يقبل الصدقة إلا إذا كانت طيبة، ويقول بعض السلف: لأن أكف عن كسب درهم حرام، أحبُّ إليّ من أن أنفق مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف وهي حرام، وما قيمة ذلك؟! فلأن تكف عن درهم واحد حرام أولى من أن تنفق مئات الآلاف من الدراهم إن كان كسبها حراماً؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
وهكذا العقود، ومعاملات الناس، فإذا غش أو دلس في السلعة، فهل هذا طيب؟ الواقع يقول: لا، فكيف يكون طيباً عند الله؟! فالله لا يقبل ذلك العمل، ويعاقب عليه، فالإسلام في جميع تعاليمه تحت عنوان (طيب) .
وهكذا القتال، لابد فيه من الإخلاص، قال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، لو أن إنساناً أراد أن يطبق جميع التشريعات في الإسلام الجزئية والكلية على هذا اللفظ: (لا يقبل إلا طيباً) ؛ لما شذت جزئية واحدة في التشريع.
ففي باب الطهارة لا يقل الله إلا طيباً، وقد بينت مسألة إسباغ الوضوء، ومثله يجب إسباغ الغسل على جميع البدن؛ لأن تحت كل شعرة جنابة.
وفي الصلاة: الطمأنينة والخشوع واستكمال شروطها.
وفي الصوم يكف عما حرم الله، فتصوم معه جميع الجوارح.
وفي الزكاة: (لا يقبل الله صدقة من غلول) ، لا يقبل الله صدقة من مال حرام: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، فالقول المعروف طيب يقبله الله، والأذى يفسد ذاك المعروف، قال الله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، فالأذى ليس بطيب، والله لا يقبله، فكونك تتصدق وتمنّ على المسكين بالصدقة هذا يبطل أجرها، فاتق الله! في صدقتك ولا تبطلها، فكما أعطاك الله يعطي غيرك، وكما حرم هذا قد يحرمك.
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل أنت ما تدري متى الغنى والفقر، فكون المال جُعل في يدك هو ابتلاء لك، ومنعه من يد الآخر ابتلاء له: أتشكر النعمة أم لا؟ أيصبر على الفقر أم لا؟ وكله ابتلاء، والابتلاء أنواع.
إنسان يبتلى بمرض، يبتلى بمال، يبتلى بفقر، يبتلى بشخص يؤذيه، وقد يكون من أقرب الناس إليه.
ومن نكد الدنيا على الحر أن يجد عدواً له ما من صداقته بد إذاً: كونك تمنّ على المسكين لا يجوز لك ذلك عند الله سبحانه وتعالى، وقد أوجب الله عليك حفظ ماء وجه الفقير عند استلام حقه، فقال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ، ومن الذي يتولى أخذ هذا الحق من الغني وإعطاءه الفقير؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة أمور المسلمين من بعده؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت، ومن امتنع أخذناها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، وما دام أنه ليس له منها شيء فلماذا يتحمل مسئوليتها؟ ليحفظ ماء وجه الفقير، وإذا جاء فقير إلى باب الغني وقال: أعطني حقي في الزكاة، فقد يماطله الغني، وكيف يكون حال المسكين؟! أليس فيه امتهان له؟! أما عندما يأخذها ولي الأمر منه، ثم يقول للمسكين: خذ حقك، فحفظ بذلك ماء وجهه من سوء المسألة.
والإسلام طيب؛ لأنه دين المولى سبحانه، فهو طيب لا يقبل إلا طيباً، ففي الكلام لا يقبل منك إلا كلمة طيبة؛ وفي الدعاء إذا سألت ربك لا تتنطع في الدعاء، ولا تدعو بمعصية، فهذا ليس طيباً، وحينئذ لا يقبلها.
وأقول لطلبة العلم خاصة ولكل مسلم عامة: لو تأمل أحد جميع ما أمر به أو نهي عنه لوجده داخلاً تحت هاتين الجملتين: (إن الله طيب، لا يقبل إلا طيباً) ، وأظن أن هذا التنبيه كافٍ.(31/7)
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [2](32/1)
أمر الله للرسل والمؤمنين بتحري الطيبات
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) ، انظر المجانسة! المؤمنون: عامة الناس، والمرسلون: هم الخواص الذين اصطفاهم الله برسالاته، فيبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر يشترك فيه الجميع، وذلك لأهميته: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) ، فمثلاً قوله تعالى: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أمر الله المرسلين في جميع الأحوال بإقامة الصلاة, وأمر المؤمنين في جميع الأحوال بإقامة الصلاة، وهكذا جميع أركان الإسلام إذ أنها حق لله، وهي مطلوبة لذاتها.
وهذا الأمر هنا ينبني عليه غيره، وهو أساس لما يذكر بعده في الحديث.
الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن المؤمنين والرسل مكلفون بتكليف واحد من الله فقال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) فبمَ أمرهم سبحانه وتعالى؟ قال: (أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ)) ) ، ومتى اجتمع الرسل في وقت واحد حتى يخاطبهم الله بقوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) ؟ هل خاطب الله الرسل جميعاً في وقت واحد كما في هذه الآية؟! يقول العلماء: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) جاء بصيغة الجمع، والمقصود به الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تأتي صيغة الجمع في الجنس والمراد به الفرد، كما أنه قد يكون العكس، ومن الأول قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] يتفق العلماء على أن كلمة (النَّاسَ) المراد بها هنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثال آخر: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] ، هل القائل جميع الناس أم فرد واحد؟! فرد واحد وهو نعيم بن مسعود، فأطلق عليه لقظ: (الناس) في قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) ، فالأولى المراد بها فرد من الجنس، والثانية مراد بها الجنس كله، ولماذا هذا؟ لأن الفرد الذي استعمل في حقه اسم الجنس قام مقام جنس كامل، فقوله: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) ، المراد بالناس النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر بلفظ الناس؛ لأنه بما أعطاه الله يعادل الناس كلهم، وكما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] ، هو واحد لكن كان أمة؛ لأنه وحده الذي كان يعبد الله في ذلك الوقت، وأمَّة أي: إماماً قدوة، ويقول بعض العلماء: إن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توجه إليه الخطاب.
وبعضهم يقول: لا، بل قال الله لكل رسول في زمنه: كل من الطيبات واعمل صالحاً، فهو قال لكل رسول في وقته، وهنا جاءت الآية إخباراً بمجموع ما حدث وحصل من قول الله لرسله، ومهما يكن من شيء فالأمر عام لجميع رسل الله.
ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ، مما يلفت النظر من الأساليب البلاغية، وبلاغة القرآن فوق كل بلاغة، أن الرسول قال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) ، وجاءت صيغة الأمر في حق الرسل: (كُلُوا مِنْ الطَيِّبَاتِ) ، والطيبات هذه لم يذكرها مقيدة، بل قال: (كُلُوا) ويكفي؛ لأنهم رسل الله يأكلون من الطيبات ويعملون الصالحات، أما المؤمنون فقال لهم: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، وأليست الطيبات التي يأكل منها الرسل مما رزقهم الله؟! بلى، ولكن هناك فرق، فلو أنك أعطيت ولدك أو صديقك مائة ريال، ثم قلت: يا فلان! اصرف مما أعطيتك، فقولك: (مما أعطيتك) تُعد مؤشراً في ذهنه بأنك تذكره بما أعطيته، ولكن لو قلت له: يا فلان! اصرف كيفما شئت، ولم تشر إلى (أعطيتك) ، فالوضع يختلف، وهكذا حينما يوجه الله سبحانه الخطاب إلى الرسل، وهم الذين يعلمون حقيقةً أن الرزق من عند الله، فهم رسل الله، فكأن الأسلوب يعفيهم من إشعار المنة في رزقه إياهم، (كُلُوا مِنْ الطَيِّبَاتِ) ، لكن المؤمنين يحتاجون إلى التنبيه، فيقال للمؤمن: كل من طيبات رزق الله التي لديك، ولذلك رتب عليه: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) ، بينما الرسل ليسوا في حاجة إلى التنبيه أو إلى أن يكلفوا بالشكر؛ لأن من طبيعة رسالتهم أن يعرفوا أن تلك الطيبات من الله، وهم يقومون بجبلتهم بشكر نعم الله، فهم رسل الله، ومقامهم ومكانتهم عظيمة، وبالنور الذي يحملونه يعرفون حق المنعم فيشكرونه، فإذا قيل لهم هنا: واشكروه، فكأن فيه إشعاراً بتقصير منهم في الشكر، وهذا لا يليق بمقام الرسالة، أما عامة الناس فهم في حاجة إلى أن ينبهوا إلى أن هذه الطيبات من رزق الله، وأن عليهم شكر النعمة؛ لأن أفراد المؤمنين ليسوا كالرسل، فالرسل ليسوا في حاجة كالأفراد إلى التنبيه بأنها من زرق الله، ولا يطالبون بشكر النعمة؛ لأن مقام الرسالة يحملهم على شكرها ولو لم يأتِ هذا التنبيه، بخلاف أفراد الناس فهم بحاجة إلى أن تدعوهم وأن تذكرهم وأن تبين لهم أن هذه الطيبات مما رزق الله، من أجل أن تقابل النعمة والرزق الطيب بالشكر.
ثم قال: {إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] ، وهذه أخص بعامة الناس دون المرسلين.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يستدل بهاتين الآيتين على عموم التكليف، وأن الخطاب للمرسلين يتضمن تكليف المؤمنين، لكن هل تكليف الله للمرسلين وللمؤمنين خاص بهذا الباب؟ التكليف في هذا الحديث ورد في الطيبات، لكنه عام، فكما أمر الله المرسلين بالصلاة والزكاة والصيام.
إلى آخره، كذلك أمر المؤمنين تبعاً لجميع المرسلين.(32/2)
أثر أكل الحرام
ذكر عليه الصلاة والسلام أثر الأكل من الطيبات في حياة الإنسان وعلاقته بربه، والأصل مبدأ (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، سواءً في العبادات والمعاملات والمطعم والمشرب، واستدل بالآيتين على عموم التكليف بأكل الطيبات من الرزق وشكر النعمة، ثم كأنه قارن بين من يأكل الطيبات وبين من لا يتحرى أكل الطيبات، وما هي النتيجة من عدم تحري الحلال الطيب؟ انظر إلى رجل أشعث أغبر، يطيل السفر، وهذه الحالة بالنسبة للعبد مع الله حالة استعطاف، وطلب رحمة، وافتقار إلى مساعدة، لا حالة انقطاع وإعراض وترك، فالإنسان إذا كان أشعث أغبر يطيل السفر، في حاجة إلى الرحمة والشفقة والعطف عليه من الله سبحانه وتعالى، وفي الحديث:: (ثلاث دعوات لا ترد) وذكر (المسافر) ، والمسافر موضع الرحمة، ويرخص له في الصلاة أن يقصر، وفي الصيام أن يفطر، وإن كان له ورد حال إقامته ثم عجز عنه بسبب سفره؛ أمر الله الملائكة أن تكتب له في سفره ما كان يعمله وقت إقامته، وهذا إكرام له؛ لأنه في حالة ضعف مع طول السفر والجهد، وفي الحديث: (السفر قطعة من العذاب) .
(أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء) ، فيه مشروعية رفع اليدين في الدعاء، (يا رب!، يا رب!) يلح على ربه، ومع هذا لم يستجب له! لماذا؟ (مطعمه حرام، ومشربه حرام، وغُذِيَ أو غُذِّي بالحرام) غُذِّي: أي: غذّاه غيره، أي: في حالة طفولته نشأ على الحرام بين أبويه، وغذِي: أي: هو غذى نفسه واقتات من الكسب الحرام، (فأنى يستجاب له؟!) بمقتضى هذا، فهذه قضية منطقية أن من غذي بالحرام ومد يديه وألح في الدعاء لا يستجاب له، ويستبعد أن يستجاب له.
لكن يجب أن نستثني المظلوم، فالمظلوم لا ترد دعوته ولو كان مأكله حراماً، المظلوم لا ترد دعوته ولو كان كافراً، كما في الأثر: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً، علم أن له رباً فدعاه) ، والمشركون لما كانوا يركبون البحر، وتأتيهم العواصف، يدفعهم الاضطرار إلى أن يدعوا الله وحده، فيستجيب لهم، لماذا؟ لأنهم في تلك اللحظة كفروا بتلك الآلهة واتجهوا إلى الله وحده، وهكذا المضطر المظلوم -ولو كان كافراً- حينما يتوجه إلى المولى وحده، فهو في تلك اللحظة ألغى جميع الآلهة من مفهومه، وعرف أنها لا تنفعه بشيء، وجاء في السير أن عكرمة بن أبي جهل هرب في عام الفتح، وركب في السفينة، فاضطرب بهم البحر فقال ملاحها: أخلصوا الدعاء لله وحده الآن، فإنه لا ينجي من هذا إلا الله، فقال: عجيب! إذا كان لا ينجي في البحر إلا الله فلا ينجي في البر إلا هو، لله عليّ إن أنجاني الله من هذه لآتين محمداً، ولأضعنّ يدي في يده، ولأجدنه رءوفاً رحيماً، مع أنه كان في جماعة مشركة تعبد الأصنام، واصطحبوه معهم، ومع ذلك فإنهم عند الشدة يلجئون إلى الله وحده لا شريك له سبحانه.
وكذلك حصين والد عمران بن حصين، لما سأله صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً تعبد؟ قال: ستة في الأرض، وواحداً في السماء! فقال: من الذي لضرائك وسرائك وشدائدك؟ قال: الذي في السماء) .
وقوله هنا: (أنى) أنى للاستبعاد، أي: كيف يستجاب له؟ لأنه لم يأكل طيباً فيقبل على الله بقلب وبقول طيب، وإنما كما قال صلى الله عليه وسلم: (غذي بالحرام) ، وهذا يؤكد قاعدة: (كل ما نشأ عن الحرام فهو حرام) ، وكما يقولون: (الفرع يتبع الأصل) وكقولهم: (ما كان أصله باطل فشرعه باطل) .
ومن هنا يقول بعض العلماء: اللقمة الحرام إذا قذفها العبد في جوفه لا يقبل الله له صلاة أربعين يوماً! وقال أحمد رحمه الله: لو أن إنساناً اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيها درهم واحد حرام، لا يقبل الله صلاته في هذا الثوب، وكل هذا تنفير من الحرام، وفي الحديث الصحيح: (كل جسم نبت من الحرام فالنار أولى به) ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (غذِّي بالحرام) مسئولية كبرى على الآباء للأبناء، فليتق الله كل أب في أسرته، في أبنائه، فلا يطعمهم الحرام؛ لأنه إذا غذِّي بالحرام، كان هذا الجسم نابتاً بالحرام، فإذا كبر ودعا فقد لا يستجاب له، فيجب وقايتهم من ذلك لقوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6] ، فالإنسان مسئول عن أبنائه، وعليه أن يطعمهم بكده وبتوكله على الله، ومن رزق الله الحلال.
وقوله تعالى: {طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ، يقف عندها العلماء، هل الطيب هنا هو المعنى الحسي أو المعنوي؟ هل الطيبات هنا مثل: الرطب الطيب، والعنب والموز واللحم المشوي؟ هل هذا هو الطيب أم غيره من الحلال ولو كان ملحاً وخلاً؟ حقيقة الطيب هو: الطيب في الشرع قبل كل شيء، فلو كان من أشهى ما خلق الله، عسلاً مصفاً، وزبداً لكنه مسروق فهل هو طيب؟ والله! ما هو بطيب؛ لأنه من الحرام، ومآله إلى النار.
لكن لو أكل إنسان خلاً وملحاً وخبزاً حلالاً، وشرب الماء فهذا نِعْم الأكل، وهو طيب؛ لأنه يعين على طاعة الله، وسمعتم قضية الشافعي لما جاء عند أحمد، وأكل كثيراً، وبنت أحمد قالت: كيف تقول الشافعي صفته كذا وكذا وصفته ليس من صفات العلماء، فإنه أكل كثيراً، ومن أكل كثيراً نام طويلاً، وما تعبد، قالت: اسأله، فلما سأله قال: والله! لها حق، منذ أن خرجت من بيت أمي -وكان في غزة- ما ملأت بطني بطعام أبداً؛ أتقي الشبه، فلما جئت بيت أحمد بن حنبل علمت أنه يتحرى الحلال، فوجدت الحلال فأشبعت بطني.
وهكذا -أيها الأخوة- الإنسان إذا تعود الحلال، فقدم له الحرام، فإنه يجد عنده حساسية منه، وتقلق نفسه، ولا يطمئن إليه قلبه، ويرتاب، وتعلمون قضية عمر لما أرسل غلامه ليأتيه بالحليب من أبله، فرجع فشرب فاستنكر عمر طعم الحليب، وقال: من أين جئتني بهذا الحليب؟! قال: والله! أرسلتني إلى أبلك فوجد الراعي قد أبعد بها، وأدركت إبل الصدقة في الطريق فحلبوا لي منها، إذاً: عمر يستنكر طعم حليب إبل الصدقة، ولو تعمد هذا ما تركه يستقر في جوفه، والذي يهمنا أنه استنكر.
وكذلك الصديق، جاء غلام له -أي: عبد له- بطعام، فأكل، فاستنكر الطعام فسأل: من أين جئتني بهذا الطعام؟ قال: تكهنت في الجاهلية لرجل، وما أنا -والله- بكاهن، فلم آخذ منه شيئاً، فلقيني فأعطاني حلواني، فاشتريت لك به، وحلوان الكاهن لا يجوز، وكان هذا في الجاهلية، والإسلام يجب ما قبله، ولكنه أخذ شيئاً بغير مقابل، وهو محرم، وما أدرى الصديق بحرمة هذا الطعام؟ أنها حساسية وشفافية، فيحس هل هذا الطعام طيب أم لا؟ لأن الجسم كله طيب، فلما أكل غير الطيب لم يتلاءم معه، وهذا مثل جهاز كهربائي لو وصلت إليه تياراً بقوة مائتين وعشرين فلتاً، وهو مصمم ومعد ليستقبل مائة وعشرة (فلت) ، ماذا يصير فيه؟ يحرقه يحترق، ولو كان معداً لاستقبال تيار بقوة مائتين وعشرين، ووصلت إليه تياراً بقوة مائة وعشرة (فلت) ، فإنه لا يشتغل، فالجسم الذي نمى وترعرع على الطيب صار كله طيباً، ولا يقبل إلا ما كان من جنسه.
إذاًَ: يبين صلى الله عليه وسلم أن أكل الطيب يعين على طاعة الله، وقليل من الحلال خير من كثير مع الحرام، فالحرام لا خير فيه، وأكل الحرام يمنع إجابة الدعاء.
إذاً: هذا الحديث في جملته يرسم لنا منهج الزهد والعفة والتعفف واتقاء الحرام واتقاء الشبهات؛ ليرد ذلك مفعوله علينا في عبادتنا، وفي أولادنا؛ لأن من غذِّي بالحرام وهو صغير فعاقبته تكون سيئة، وأنت المسئول عنه.
والله أسأل أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(32/3)
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [1](33/1)
شرح حديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
[عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) رواه النسائي والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح] .
أيها الإخوة! هذا الحديث على قصر عبارته، وقلة ألفاظه، أصل من أصول هذا الدين، ففيه بيان مسلك الأتقياء الزاهدين الورعين الذين يخافون الله ويقدرونه حق قدره.(33/2)
فضل الحسن بن علي راوي الحديث
راوي هذا الحديث هو: أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وأمه هي: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفسه بالبنوة تشريفاً وتكريماً حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر، فأخذه وحمله وقال: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين من المسلمين) .
وصفه النووي بأنه ريحانة رسول الله، والريحانة نبت معروف، وهو الريحان، وهو من أنواع النباتات العطرية، ومادة: روح مثل ريحان والارتياح تعطي الارتباط من ارتياح النفس إلى الطيب، وقد كان الحسن والحسين رضوان الله تعالى عليهما ريحانتي المصطفى، وهما سيدا شباب أهل الجنة، والريحانة استعملت هنا إما على سبيل الاستعارة، أو على سبيل الحقيقة، فالاستعارة لارتياح النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤيتهما، والحقيقة حينما يأخذهما ويشمهما فإنه يجد منهما انطلاقاً من العاطفة والرحمة- مثلما يجد من شم الريحانة بالفعل.
ونحن نشاهد هذا بين الطفل وأمه، وبين الأم وطفلها، تجد الأم لو كانت مكتئبة وولدها غائب عنها، فإذا أخذته -وخاصة إذا كان صغيراً- فإنها تقبّله وتشم رائحته، وقد قال سبحانه في قصة يعقوب مع يوسف: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94] ، إذاً: فهو ريحانة رسول الله إما على الحقيقة فيجد منه الريح الطيبة ويرتاح إليه، وإما على سبيل الاستعارة، فكما ترتاح النفس إلى شم الريحان فكذلك ترتاح إلى رؤيتهما، ومهما يكن من شيء فيكفي في مناقبهما رضوان الله تعالى عنهما أنهما سيدا شباب أهل الجنة.
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعل الله أن يصلح به بين الطائفتين) ، وفعلاً بعد أن توفي علي رضي الله تعالى عنه، بويع الحسن خليفة، ومكث في الخلافة ستة أشهر، قال علماء التاريخ: وهي تتمة الثلاثين عاماً المذكورة في حديث: (الخلافة ثلاثون عاماً، ثم يكون بعد ذلك الملك العضوض) ، وهذا أمر تاريخي لا حاجة لنا في الخوض فيه، فبايعه أربعون ألفاً من أهل العراق، وذهب ليلتقي مع معاوية، فلما التقى الجيشان، رأى أنه إن كان غالباً أو مغلوباً فلابد من إراقة الدماء، ولابد من قتل الأنفس، ولابد من ضحايا من الجانبين، فرأى أن يترك الأمر لـ معاوية، ولم ينازعه حقناً للدماء، وكتب شروطه وقبلت بكاملها، وحقق الله ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يصلح الله به بين طائفتين) وقالوا: إن يزيد بن معاوية بعد أن استتب الأمر لأبيه، أرسل إلى زوجة الحسن لتسمه، وكان من أمره ما كان، ونرجع إلى شرح الحديث، ولا ندخل في قضايا التاريخ.
ووصف النووي هنا الحسن بن علي بأنه سبط رسول الله، والسبط ولد البنت، قال: حفظت، وهو رضي الله تعالى عنه ولد في السنة الثالثة من الهجرة، ومعنى ذلك أنه أدرك من حياة رسول الله سبع سنوات، وفي هذه الحالة إذا روى حديثاً فإنه يحتاج إلى التثبت وإلى التأكد؛ ولذا يقول: حفظت، ومن كان في سن السابعة يحفظ، ومن هنا قال: حفظت من رسول الله، وأحاديثه قليلة؛ لأنه -كما أشرنا- توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنوات، فمما حفظ قوله صلى الله عليه وسلم: (دع) بمعنى: اترك (ما يريبك إلى مالا يريبك) (ما) من صيغ العموم، وهي بمعنى: الذي، والريبة: الشك واللبس كما في قوله سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] أي: لا شك ولا لبس فيه، والشيء الذي فيه الريبة، والذي فيه الشك واللبس بخلاف ذلك، وقوله: (دع ما يريبك) أي: اترك الشكوك وما فيه الريبة في نفسك إلى ما لا ريبة ولا شك فيه، وعليك بما كان خالصاً واضحاً لا لبس فيه ولا شك فيه.
وهذا الأمر (دع) فعل أمر بمعنى اترك؛ لأن (دع) ليس لها ماض، ولها مضارع (يدع) ، فدع فعل أمر أغفل ماضيه.(33/3)
هل الأمر في هذا الحديث للاستحباب أم للوجوب؟
هل الأمر بترك ما يريب على سبيل الاستحباب أو على سبيل الوجوب؟ المتأمل في أحاديث هذه الأربعين النووية المباركة، يجد حديثين سوى هذا في هذا الباب، تقدم حديث: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) ، إذاً: الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، والشبه تورث الريبة، فمن وقع في المشتبهات جره ذلك إلى الحرام، ومن ترك الشبهات كانت حمىً وحاجزاً ووقاية له عن الوصول إلى منطقة الحرام، فحديث: (دع ما يريبك) للتوجيه، ولكن الناس في ذلك ليسوا سواء، والحديث الثالث هو الحديث السابع والعشرون من هذه المجموعة، وهو حديث: (جئت تسأل عن البر؟ البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس) ، فالأمر المريب هو: الذي أحسست فيه بالإثم، وأحسست بأنه يحوك في صدرك، وخشيت أن يطلع عليه الناس، فهذه الأحاديث الثلاثة في هذا الموضوع تبين بمجموعها منهج الورع في الإسلام حقاً.
وصور ترك الريبة في الإسلام كثيرة، ويذكر العلماء أموراً يجب على كل مسلم أن ينظر إليها، وأن يقف عندها، فترك الريبة استبراء للدين والعرض، وإذا نظرنا إلى الحديث السابق عرفنا مدى أثر هذا الحديث وتأثيره في حياة المسلم، ففي الحديث العاشر الذي قبل هذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، وقال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51] ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] ) ، فأمر الرسل وأمر المؤمنين بالأكل من الطيبات، وعمل الصالحات، والحلال الطيب هو: الذي لا شبهة ولا ريبة فيه، ولذا ذكر بعده: (الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء، يقول: يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟) .
وذكر الرجل الذي يطيل السفر أشعث أغبر؛ لأن المسافر تستجاب دعوته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة تستجاب دعوتهم: الصائم، والمسافر، والمظلوم) ، فالمسافر من ضمن الثلاثة الذين تستجاب دعوتهم، وهذا الرجل مع كونه ممن تستجاب دعوته ولكن لا يستجاب له، لوجود المانع القائم، ألا وهو أنه يأكل الحرام، ويشرب الحرام، ويلبس الحرام، وغذي بالحرام، فتناول الحرام مانع من استجابة الدعاء.
وكيف تتجنب الحرام؟ أتى النووي بهذا الحديث هنا ليبين بأن من كمال تجنب الحرام حتى تستجاب الدعوة أن تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وكأنه يقول: لا يتم اجتناب الحرام ولا يتم اكتمال الحلال إلا بترك ما فيه ريبة.
ولذا يقولون: الورع هو: أن تترك مالا بأس به خشية مما فيه بأس، تترك الشيء الذي لا بأس فيه ولا شبهة فيه مخافة أن تقع فيما فيه بأس، فمن سد الذرائع: ترك المباح مخافة من الوقوع فيما ليس بمباح، وهذا هو الورع، فكل ما يحيك في صدر الإنسان فهو شبهة فليتركه.(33/4)
قصص في الورع
إذا أراد طالب العلم أن يتتبع ما مضى في الأمم السابقة واللاحقة مما يذكره العلماء من قصص أهل الورع من هذه الأمة، لجاء ذلك في سفر كبير.(33/5)
قصة نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام
قد ذكر الله قصة سليمان عليه السلام حينما استعرض الخيل، واشتغل بها حتى غربت الشمس: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32-33] ، والصحيح في تفسيرها أنه استعرض الخيل التي يجاهد بها في سبيل الله، لكنه شغل بها حتى غربت الشمس، وضاعت عليه صلاة العصر، فوجد في نفسه ريبة وشكاً من الخيل، فردها وتصدق بها كلها.(33/6)
قصة رجلين من بني إسرائيل
قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل اشترى أرضاً، فوجد فيها كنزاً، فذهب إلى الذي باعه فقال: هلم خذ كنزك، قال: إني بعتك الأرض بما فيها، قال: إني اشتريت أرضاً ولم أشتر كنزاً، قال: وأنا بعت الأرض بما فيها، وتخاصما لمن يكون الكنز الذي كان مدفوناً ولا يعلم به أحد عند البيع!) فالبائع يتورع أن يأخذ شيئاً لم يكن في ذهنه، والمشتري يتورع أن يأخذ شيئاً لم يكن داخلاً في العقد، قال عليه الصلاة والسلام: (فجاء رجل صالح فاختصما إليه فقال لهذا: ألك ولد ذكر؟ قال: نعم.
وقال لهذا: ألك ابنة؟ قال: نعم، قال: زوجا أحدهما بالآخر، وادفعا إليهما الكنز) ، وهذه قصة عجيبة، ولها نظير في هذه الأمة.(33/7)
قصة أبي طلحة رضي الله عنه
كان أبو طلحة رضي الله تعالى عنه يصلي الضحى في بستان له متشابك الأغصان، فإذا بطائر الدبسي يريد أن يخرج من بين الأغصان وهي متشابكة، فأعجبه حسن بستانه، وأتبع الطائر بنظره وهو في صلاته حتى وجد الطائر فرجة فخرج منها، ثم رجع أبو طلحة إلى نفسه فوجد أنه انشغل عن الله بهذا الطائر الذي كان في بستانه، فقال: إني فتنت في مالي، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: ضعه في سبيل الله يا رسول الله! وهذه القصة تشبه قصة سليمان حينما انشغل بالخيل حتى غربت الشمس، وهذا شغل في صلاته بالطائر حتى خرج من بين الأغصان، وكلاهما قدم ذلك الذي شغله في سبيل الله.(33/8)
قصة تاجر من أهل المدينة
يشبه قصة صاحب الكنز ما ذكره بعض العلماء أن رجلاً في صدر هذه الأمة، كان تاجراً بالمدينة، وله غلام بالبصرة، فكتب إليه الغلام: إن قصب السكر قد فسد فانظر ما عندك من السكر فاشتره، فقام: واشترى السكر من تاجر كبير، وبعد أن فسد قصب السكر نقص الإنتاج، فارتفع السعر، فباع بربح كثير، فتأمل في نفسه ووجد أنه لم يخبر الذي اشترى منه السكر، فذهب إليه وقال: يا فلان! لقد اشتريت منك السكر، ولم أخبرك بما أخبرني غلامي، وإني لا أراني إلا قد خدعتك، فخذ ثمن السكر وخذ ربحه، فقال البائع: ها أنت الآن أعلمتني، وقد أبحتك ما ربحت، فما زال يلح عليه به حتى قبل منه الربح.
فننصح التجار الذين يستغلون الفرص فإذا عرف واحد منهم موجبات رفع السلعة، قام وجمع ما في السوق، ولا يخبر أصحاب السلع بما دفعه إلى ذلك، فلا ينبغي هذا، ومن يفعل ذلك فهو مخادع لم ينصح، ومن واجب النصح لعامة المسلمين أن يخبر التاجر بأن السلعة سيرد عليها كذا، ليكون على علم فإن شاء تعجل بالبيع، وإن شاء انتظر حتى ارتفاع السعر لينتفع هو أيضاً.
وبهذه المناسبة ننبه أن كل ذي سلعة يعلم من أمرها ما يمكن أن يسبب في ارتفاع الأسعار، ثم جمع ما يوجد بأيدي الناس دون أن يخبرهم؛ فهو غاش مخادع وليس بناصح، مثلاً: علم تاجر بأن مصنعاً من مصانع سلعة تعطل أو توقف لمشكلة، وسيقل الإنتاج، ويقل العرض، ويكثر الطلب، فترتفع السلعة، فيذهب ويجمع نوعها من الأسواق دون أن يعلمهم بما وصل إليه الخبر؛ فهو غاش لهم ومخادع وليس بناصح.(33/9)
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2](34/1)
نصيحة للتجار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: نحذر التجار وننبهم نصحاً لله ولكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فنقول: قد يأتي مشروع في البلد، مثل مرور شارع أو غيره بأراضٍ شاسعة، وأصحاب الأراضي لا يعلمون بذلك، ولكن الذين عندهم التخطيط يعلمون، لهم أصدقاء أو اطلعوا على ذلك من مرجعه، فيذهب التاجر وكأنه لا يعلم شيئاً، فيشتري ما يعلم بأن المشروع سيمر من عنده؛ لأنه يعلم أن الدولة ستعوض بأضعاف القيمة، ويخفي هذا الأمر على أصحاب الأراضي ويشتري منهم، وبعد فترة يظهر المشروع، ويعوض المشتري أضعاف أضعاف ما دفع، فهل هذا ناصح؟! لا، وكيف يستحل هذا التعويض المضاعف ويحرم صاحبه منه؟! وقد ذكرنا ورع سلف هذه الأمة، اشترى أحدهم السكر لما علم أن الإنتاج سيقل، ثم تورع عن الربح، وهو بيع وشراء صحيح، لكن في المستقبل ربما يعوض بشيء آخر، ولكن مع ذلك تأسف وأحس بالحرج، وأحس بالريبة، فترك ذلك، ورجع إلى صاحب السكر، ودفع إليه الربح!! ويذكر العلماء أن رجلاً أرسل بضاعته إلى البصرة، وقال لغلامه: بعه بالسعر الذي وجدته يوم وصوله، فوجد الغلام السعر نازلاً، فأمسك عن البيع، وبعد فترة ارتفع السعر، وباع البضاعة بربح كثير، وأرسل لصاحبه، فكتب إليه: لقد خنتنا، لقد أمرتك أن تبيع بسعر اليوم الذي وصلت فيه، فأمسكت حتى ارتفع السعر، فتصدق بكل القيمة على فقراء البصرة، ولعلنا ننجو بذلك!! ماذا نقول -يا جماعة- في هذه النماذج؟! وبالنسبة في الوقت الحاضر لا تكاد تجد مثلها إلا ما شاء الله، فيستغرب الإنسان على هذه الصور، وهو ليس بغريب.(34/2)
عبد الرحمن بن عوف مثال التاجر التقي
عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قدم إلى المدينة بلا شيء، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين رجل من الأنصار، وأخوه الأنصاري عنده زوجتان، فقال له: هلم إلى زوجتي فاختر أيهما شئت، فأطلقها وتعتد وتتزوجها، وهلم أقاسمك مالي، سبحان الله العظيم! فقال: أمسك عليك زوجك، وبارك الله لك في مالك وفي زوجك، دلني على السوق، فذهب إلى السوق، وأخذ يبيع ويشتري، يأتي يوم بأقط، ويوم بسمن، ويوم بكذا وكذا، حتى اتسعت تجارته، وأصبحت القوافل تأتي إليه من الشام إلى المدينة، ومرة في يوم جمعة، والرسول صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فإذا بطبول القافلة تدق، فخرج الناس إليها، ونزلت الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، فما بقي في المسجد إلا إثنا عشر رجلاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (لو خرجوا جميعاً عن بكرة أبيهم لسال عليهم الوادي ناراً) ، فعلم عبد الرحمن أن تجارته هي سبب انصراف الناس، وجاءه التجار وأعطوه في المائة ربح درهم، ودرهمين وخمسة وعشرة وهو يقول: عندي زيادة، فأعطوه في المائة عشرين ثم خمسين ثم في المائة مائة فقال: عندي زيادة! فقالوا: يا ابن عوف! ليس في المدينة تاجر إلا وقد حضر، فمن يدفع لك أكثر من ذلك؟ فقال: ربي، هي صدقة في سبيل الله، القافلة كلها بعيرها وعبيدها وتجارتها في سبيل الله! لماذا؟ لأنه علم أنها سبب خروج الناس عن رسول الله، وقد رأى رؤيا بأن القيامة قامت، وعرض ونوقش حتى ظن أنه هالك، وقال: ما أنجاني إلا صحبتي لك يا رسول الله! هذه هي النفوس المطمئنة، والقلوب الخاشعة.(34/3)
حكم الاحتكار
احتكار السلعة قسمان: جمع السلعة في إبّانها عند وفرتها، فيضعها في مخازنه حتى إذا انقطع من الأسواق إنتاجها، أخرجها وباع، فهذا تاجر يحتكر ليتحكم في المسلمين، وهو ظالم؛ لأنه يتحكم في قوت الناس، أما إذا كان يجمع ليبيع، ولا يقصد وقت الغلاء، فلا مانع من ذلك، مثلاً: حين الحصاد يجمع القمح ويبيع، وحين الجذاذ يجمع التمر ويبيع، ولكنه لو احتكر ذلك إلى الشتاء مثلاً، ليبيع التمر عندما تنفذ السلعة، ولم تبق إلا عنده، فيتحكم في السلعة عند البيع للناس، فهذا هو الخاطئ المذكور في حديث: (لا يحتكر إلا خاطئ) ، بمعنى: ظالم، ويقول علماء الحسبة: للإمام أن يتدخل ويجبره على البيع بما لا ضرر ولا ضرار، وما يجعلونه من أخذ امتياز السلعة، والتحكم بها في السوق داخل في هذا الباب، أما حرية البيع والشراء فلا شيء فيه، فإذا كان يجمع الحبّ في وقته، ثم يأتي بعد انتهاء الحصاد وينزل السلعة إلى السوق، والدكاكين مفتوحة، والمستودعات مفتوحة، والبيع والشراء قائم، فلا مانع في ذلك؛ لأنه لم تتوقف حاجة الناس إلى ما في يده.
ذكروا أن رجلاً احتكر طعاماً، ثم رأى في الخريف سحابة، فخشي أن تمطر، ويزرع الناس، ويكثر الطعام، فيضيع عليه ما احتكر، فقال: أكرهت الخير للمسلمين؟! فأخرج ما احتكره، وباعه برأس ماله، دون أن يربح شيئاً.
لماذا المحتكر خاطئ؟ يبينه قصة هذا الرجل، فحينما احتكر الطعام تمنى ارتفاع السعر، وارتفاع السعر يأتي نتيجة قلة السلعة، وقلة السلعة شدة على الناس، فإذا جاء المطر، وأنبتت الأرض، وتوافرت السلعة؛ كره ذلك، فهو لا يحب المطر، بل يكرهه لما يترتب عليه من الخير للمسلمين.
والمرابي يكره أن يستغني الناس عنه، فهو يحب للفقراء الفقر والحاجة والاضطرار، فإذا سمع بأن عميله استغنى كره ذلك؛ لأنه يريده دائماً متعاملاً معه، فإذا جاء الخصب وجاء الغنى كره ذلك المرابي؛ ولهذا فإن المرابي عدو المجتمع.(34/4)
محاسبة النفس
ذكرنا قصة التاجر الذي احتكر السلعة، ثم رأى سحابة فكره في نفسه أن يأتي المطر، ويكثر الزرع، وتضيع عليه ثمرة احتكاره، لكنه تنبه، وارتاب في نفسه أنه لا يحب الخير للمسلمين من أجل منفعته الخاصة، وحمله على ذلك الرغبة في الربح، فإذا به يخرج ما احتكره، ويبيعه في الأسواق بدون ربح، فما الذي حمله على زهده هذا؟ محاسبته نفسه، ولما كان عمله يؤدي إلى ألا يحب الخير للناس، ارتاب في عمله.
فمن الناس من تكون عنده شفافية في معرفة الحلال والحرام، يرى الريبة في الشيء فيعافه، ويذكرون عن بعض السلف كـ ابن سيرين وغيره، أن منهم من يترك أربعين ألفاً، ومنهم من يترك خمسمائة ألف من ميراثه من أبيه؛ لأن أباه كان يعمل في عمل فيه ريبة، وأحمد بن حنبل رحمه الله أبى أن يأكل خبزاً في بيت رجل في كسبه ريبة.(34/5)
متى يكون الورع؟
يقول العلماء: التحرز من الريبة يجب أن يكون بعد اجتناب كل محرم، لا أن يكون يتعامل بالربا الصريح، ثم يتورع عن كسب ما فيه ريبة! فهذا متناقض، وذكر بعض العلماء عن أحمد رحمه الله أن رجلاً قال له: أتأذن لي أن أكتب من دواتك؟ فنظر إليه وقال: هذا ورع مظلم، يعني: تتورع من الكتابة من الدواة، فهل قد تجنبت كل ما فيه شبهة أخرى؟ وسئل عن رجل طلبته أمه أن يطلق زوجته: أيطلقها براً بأمه؟ فقال: إذا كان قد بر أمه في كل شيء، ولم يبق إلا هذا فليفعل، أما أن يبرها في طلاق زوجته ثم يضربها، فليس هذا ببر.
ويذكرون عن عبد الله بن عمر أنه جاءه أهل العراق يستفتونه في دم البعوض، فقال: واعجباً لكم! تستفتونني في دم البعوض، وقد قتلتم الحسين بن علي! والورع قسمان: - ورع من أهله، فهو من أهل الورع.
- وورع مصطنع مظلم، فهذا بينه وبين الله.
وهذا الحديث -أيها الإخوة- لو تدبره الإنسان وعمل به، فإنه يرسم له منهج حياته: فيما يدع، وفيما يأخذ، وفيما يتناول من طعامه وشرابه ولباسه، وفيما يتقي الله في كسبه، وقد قال العلماء في الحديث الذي قبله: لو أن إنساناً اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وفيه درهم واحد حرام؛ ما قبل الله صلاته في ذلك الثوب!(34/6)
ورع أبي حنيفة رحمه الله
ذكروا عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يبيع البز، وكان عنده ثوب فيه عيب، فركنه في جانب، فجاء خادمه وغلامه في غيبته وباع هذا الثوب بقيمته لو كان سليماً، فلما جاء الإمام إلى الدكان فلم يجد ذاك الثوب سأل عنه: أين هو؟ قال: بعته، قال: بكم؟ قال: بكذا.
بسعره الأصلي، قال: هل أطلعت المشتري على العيب الذي فيه؟ قال: لا، فتصدق بقيمة الثوب كله! ما الذي حمله على ذلك؟ إنه الورع، وكان يمكن أن يتصدق بقيمة العيب الذي في الثوب، ولكن حمله الورع وتقوى الله على أن يتصدق بكامل قيمة الثوب.
وذكرنا قصة الذي أمر غلامه أن يبيع السلعة بسعر يومه، فانتظر ولم يبع حتى ارتفع السعر، فكان يكفيه أن يأمره أن يتصدق بفارق السعر، ولكنه أمره أن يتصدق بالثمن كله، وقال فيما كتبه إليه: لعلنا ننجو بذلك! هذا الحديث وإن كان موجزاً في عبارته (دع ما يريبك إلا مالا يريبك) إلا أنه يأتي على كل تصرفات الإنسان، والناس في هذا الحديث طبقات ودرجات، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه.(34/7)
الأسئلة(34/8)
المسافر الذي تستجاب دعوته
السؤال
من المسافر الذي تستجاب دعوته؟
الجواب
الحديث السابق كان فيه أبحاث عديدة، ولكن خشينا أن نبدأ بها فيضيع علينا الوقت على هذا الحديث، فمن أبحاث الحديث الأول: - آداب الدعاء.
- الزمن الذي يتحرى فيه الدعاء.
- المكان الذي يختار.
- نوع الدعاء.
وكل هذه يذكرها العلماء في مقدمات كتب الأذكار والأدعية، وهي مطروقة، وأوسع من ساق ذلك صاحب نزل الأبرار: السيد صديق خان.
ومن الذين يستجاب دعاؤهم؟ جاءت أحاديث عامة، وجاءت أحاديث خاصة، فمن الخصوص المريض والمسافر والصائم، والمسافر المراد به من سافر مطلق سفر إما سفر طاعة وإما سفراً مباحاً، وإذا كان سفر معصية فبعض العلماء يقول: ليس له حق أن يترخص برخص المسافر، فمن باب أولى أنه لا يستجاب له الدعاء، وليعلم أن المضطر مسافراً كان أو مقيماً مضمونة له إجابة الدعوة، وكذلك المظلوم براً كان أو فاجراً، حتى الكافر كما في الحديث القدسي: (إني لأنصر المظلوم، ولو كان كافراً، علم أن له رباً فدعاه) ، وقال الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] ولم يقل: باراً أو فاجراً؛ لأن المضطر عند الشدة يقلع عن اعتقاده وتعلقه بكل شيء إلا بالله سبحانه وحده، وحينئذٍ يكون مؤمناً مخلصاً في دعائه.
ومن أسباب إجابة الدعاء الإخلاص، فالإخلاص سر استجابة الدعاء، والمضطر أشد الناس إخلاصاً، هذا ما يتعلق بسؤال: من المسافر الذي تستجاب دعوته؟(34/9)
الدعاء في مسجد قباء
السؤال
هل يستجاب الدعاء عند زيارة مسجد قباء؟
الجواب
زيارة مسجد قباء ليس فيه نص على استجابة الدعاء عنده، ولكن وردت بعض الآثار فيما بين الركن والمقام، فهناك تستجاب الدعوات، وجاء في الحديث الصحيح (أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف بالملتزم ما بين الركن والباب، ملصقاً صدره إلى جدار الكعبة وهو يبكي، فقال له عمر: أتبكي هنا يا رسول الله؟! قال: نعم يا عمر! ها هنا تسكب العبرات) ، فلا تسكب العبرات في لعب ولهو، ولكن في ذكر الله ودعائه.
ومن أسباب استجابة الدعوة: الخضوع والتذلل بين يدي الله، حتى ذكر بعض العلماء أن من آداب الدعاء أن يجثوا الإنسان على ركبتيه، وقد جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه عندما كثرت الأسئلة على رسول الله فغضب وقال: (لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم عنه) وعلم عمر أنهم أغضبوا رسول الله، فقام وجثا على ركبتيه وقال: يا رسول الله! نستغفر الله ونتوب إليه، رضينا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً.
يا رسول الله! كنا في الجاهلية فلا تكشف أستارنا، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] أي: بخشوع بين يدي الله، وهذا من آداب الدعاء.
أما الذهاب إلى قباء للصلاة فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين، كان له كأجر عمرة) ، وكان صلى الله عليه وسلم يقصده ويذهب إليه كل أسبوع، وكان يصادف ذلك يوم السبت، وليس ذلك لذات السبت، ولكن كان يترقب أخواله بني النجار أن يصلوا الجمعة في المسجد النبوي، فإذا صلى وغاب بعضهم أو لم ير شخصاً كان يريد أن يراه، فمن الغد يوم السبت يذهب إلى قباء ليراهم هناك، وقال أنس: هذا المسجد لو لم يكن عندنا لاستحق أن تضرب إليه أكباد الإبل.
ومسجد قباء نزل فيه القرآن الكريم، فقال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] ، فكفى بهذا شرفاً لقباء، وقد ورد أن المسجد الذي أسس على التقوى هو هذا المسجد النبوي، وقد أشرنا أن الأولوية إنما هي نسبية، فكل مسجد بني من أول يوم بنائه على التقوى خالصاً لله، بخلاف المسجد الذي يبنى مباهاة ومضارة لقوم آخرين، والله أعلم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، ونسأله من فضله، وأن يغنينا وإياكم بالحلال عن الحرام، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(34/10)
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر(35/1)
شرح حديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: هذا الحديث الثاني عشر من أحاديث الأربعين النووية، وهو حديث أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، وهذا الحديث على وجازة ألفاظه يعده بعض العلماء نصف الإسلام، وبعضهم يقول: هو الإسلام، وبعضهم يقول: ربع الإسلام؛ لأنه من جوامع الكلم التي خص بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمع قصر ألفاظه، وقلة كلماته، اشتمل على آداب الإسلام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن) (من) للتبعيض، و (حسن) الحسن في الشيء زيادة في جماله وكماله وتحسينه.
إذاً: هناك محسنات لغيرها، وورد فيما يتعلق بعنصر الإحسان حديث جبريل عليه السلام، حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، وكان الجواب النبوي الكريم عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه) ، فالعبادة أصل، وإحسانها: أن تراقب الله حال عبادتك إياه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فيوجد عبادة، وإحسان تلك العبادة.
وهكذا الإنسان إذا بنى بيته، وأقام أركانه، يأتي بمحسنات، ويأتي بوسائل التجميل لهذا البيت.
إذاً: (من حسن إسلام المرء) ، يعمل بهذا الحديث من اكتمل إسلامه بأركانه، ثم هو يأخذ في المحسنات، ومن هنا قالوا: محسنات الإسلام، قد تندرج تحت هذا الحديث وقد لا تندرج، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق) ، وحسن الخلق من محسنات الإسلام، وهنا أيضاً: (من حسن إسلام المرء) ، و (المرء) هنا مذكر، ويؤنث بامرأة، والأصل في الأسماء الذكورة، ثم تأتي الأنوثة لها علامة زائدة، فتقول: امرؤ وامرأة، والتاء للتأنيث تكون زائدة عن لفظ المذكر، وقد يطلق (المرء وامرؤ) ويشمل الجميع بالتبع، كقوله هنا: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، وهذا الحديث يتعلق بجوانب الترك، والترك هو الكف، وفي عرف الشرع واللغة: الكف فعل، ومن كف عن سيئة فله حسنة، وكما قال القائل عند بناء المسجد النبوي، والرسول صلى الله عليه وسلم يشارك معهم: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل فجعل قعودهم عن العمل عملاً، إذاً: الكف فعل على الصحيح من أقوال العلماء.
إذاًَ: ترك ما لا يعني فعل، ومن هنا كان هذا الترك من محسنات الإسلام.(35/2)
ما يعني المرء وما لا يعنيه
ما الذي يعني المسلم وما الذي لا يعنيه؟ (يعنيه) أي: تتعلق العناية به، وتتعلق مصلحته بعين ذلك الشيء، فهذا الفعل يعنيه، وهذا الفعل لا يعنيه، ولذا قسم العلماء الأعمال بالنسبة لهذا الحديث أربعة أقسام: أمر يعنيك فعله، وأمر لا يعنيك فعله، وأمر يعنيك تركه، وأمر لا يعنيك تركه.
فإذا فعلت ما يعنيك وتركت ما لا يعنيك فقد جمعت الحسنيين، أما إذا تركت فعل ما يعنيك فهذا تقصير، وإذا فعلت ما لا يعنيك فهذا فضول، والكمال في فعل ما يعنيك وترك ما لا يعنيك، ولم يبق في عمل الإنسان وحياته قسم خامس بعد هذا.
والعاقل لا يضيع وقته عن أمر يعنيه ولا يفعله، فهذا تفريط في حقه وضياع، والعاقل لا يترك الأمر الذي يعنيه، ولا يتبع ما لا يعنيه ويفعله، وقد ذكر العلماء أن من علامة سخط الله على العبد أن يشغله بما لا يعنيه خذلاناً له.
وما اشتغل إنسان بما لا يعنيه إلا ضيع ما يعنيه؛ لأن العمل إما يكون في الحق وإما الباطل، وليس بعد الحق إلا الضلال، فإن شغلت وقتك في الحق وما يعنيك لم يبق عندك وقت لما لا يعنيك، وإن ذهبت إلى ما لا يعنيك فوت وضيعت ما يعنيك.
قال العلماء: أهم ما يعنيك فعل الواجبات، وأهم ما لا يعنيك فعل المحرمات، فمن حسن إسلام المسلم تركه ما لا يجوز له فعله؛ لأنه لا يعنيه، فترك المحرمات والمكروهات، وترك الكبائر والصغائر مما يعني الإنسان تركه، والشخص إذا ترك المحرمات والشبهات والمكروهات يسلم ولو قصر في الواجبات، لكن إذا أخذ من هنا، ومن هنا، فقد خلط عملاً سيئاً وآخر صالحاً.
إذاً: هذا الحديث كما يقول العلماء: ربع الإسلام، أو نصفه، أو كله: (من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه) ، هذا منطوقه، ومفهومه المقابل: (فعله ما يعنيه) ، وكأن هذا الحديث يضع المقياس للإنسان المسلم في حياته، ليعلم: ماذا يفعل، وماذا يترك؟(35/3)
أمثلة من الواقع لترك ما لا يعني
لو نظرنا إلى حياة الناس في كل زمان ومكان، نجد الأمثلة على ذلك، فإذا كنت طالباً تمشي في الطريق، ووجدت اثنين يتحادثان، وجلست تتسمع لهما، فهل هذا يعنيك؟ هذا لا يعنيك، وقد أضعت وقتاً، وارتكبت إثماً، ونظر الناس إليك بما لا يليق، وتركت ما لا يعنيك، فلا تتجسس على أحد، ولا تتبع عورات الناس.
ولو تزوج إنسان ثم سئل: كم دفع صداقاً؟ ومن هي المرأة؟ وكيف خطب؟ وكيف؟ وكيف؟ فهذا لا يعنينا.
أو إنسان مات، فتأتي تسأل: كم عنده من الأولاد؟ وكم؟ وكم؟ والعوام يقولون: أردب ما هو لك، لا تحضر كيله، ما ينوبك إلا شيله، وهذا مثل عاصي يحذر من التدخل فيما لا يعني.
وإذا رأيت مزارعاً في أرضه يحرثها أو يعمل فيها، فنقول: كيف تحرثها؟ ولأي شيء تحرثها؟ وماذا ستزرع فيها؟ فهذا لا يعنيك، وإذا كنت تريد أن تشتري أرضاً، وتريد زراعتها، فعند ذلك لك أن تسأل.
وقد أكثر العلماء من الأمثلة على ترك ما لا يعني، والقاعدة العامة: أن تنظر ماذا سيعود عليك هذا العمل من نفع؟ فإن كان سيعود عليك نفع منه فهذا يعنيك، وإن كان لن يعود عليك منه نفع فهو لا يعنيك، ونفع المسلم قد يكون في دينه، يتعلم علماً ويعمل به، وقد يكون في بدنه يحفظه ويصونه ويغذيه، أو يستر عورته وقد يكون في ماله يحفظه ويصونه وينميه، وقد يكون عرضه يصونه عما يدنسه.
في دينك: كأن تتعلم شيئاً تجهله، وأن تعمل بشيء أنت تاركه، وفي بدنك: أن تعالجه وتحافظ عليه وتطعمه وتكسوه، وفي مالك: بأن تنميه وتحفظه عن الحرام وغير ذلك، وفي عرضك: بأن تحفظه وتصونه من مواقف السوء كما علمنا صلى الله عليه وسلم، فقد ورد (أنه كان معتكفاً في رمضان، وجاءت زوجه صفية رضي الله تعالى عنها، فتحدثت عنده ساعة، ثم أرادت أن ترجع، فقام معها ليقلبها إلى بيتها، فرأى رجلين يسرعان الخطى، فوقف ووقفت معه وقال: على رسلكما! إنها صفية، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله! فقال: إني خشيت أن يقذف الشيطان بشيء في نفوسكما فتهلكا) .
فيجب على المسلم ألا يقف في موقف شبهة.(35/4)
الإحسان قاعدة عامة في الإسلام
الإحسان في الإسلام قاعدة عامة في جميع الأعمال، (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) ، فإذا كان المولى سبحانه كتب الإحسان على كل شيء فلأن تحسن إسلامك من باب أولى، وكيف تحسن إسلامك؟ تصون أعمالك وأقوالك مما ليس منه، ويقول العلماء: لا تحسد أحداً على ما هو فيه، ولا تحقد على أحد في شيء فعله، ولا تسيء الظن بإنسان لكلام تكلمه، ويقولون: (إن رجُلاً جاء إلى لقمان الحكيم، وهو في مجلسه، والناس يأخذون عنه الحكمة، فقال للقمان: ألست كنت عبداً لبني فلان؟ قال: نعم، قال: ألست كنت ترعى الغنم في جبل كذا؟ قال: نعم، قال: ماذا بلغ بك ما أرى الآن؟ قال: قدر الله، وصدق الحديث، وعدم دخولي فيما لا يعنيني) ، كان عبداً مملوكاً يرعى الغنم، تخلق بهذه الأخلاق، فوصل إلى ما وصل إليه، وأوتي الحكمة!! : {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] .
وهكذا على الإنسان في نفسه، وفي مجتمعه، فإن كان موظفاً في دائرة، وله اختصاص في عمله، فلا يأتي بفضوله يتتبع عمل الرئيس أو المدير أو الزملاء الآخرين، ويقول: أنتم فعلتم كذا وكذا، فهذا لا يعنيك، وليس من اختصاصك، فلماذا تترك عملك وتنتقل إلى دائرة أخرى؟! لو أن رجلاً يعمل في مستشفى، وفيه عدة أقسام بالنسبة للأطباء، وجاء طبيب أسنان يعترض على طبيب جراح، ويقول له: أنت فعلت كذا وكذا، فنقول له: مهمتك هي في الضرس والسن، فلماذا تتدخل في أمر الجراحة؟ فهل هذا يعنيك؟ وبالعكس: طبيب جراح يسمع عن أعمال طبيب الأسنان، فيأتي ويقول له: يا أخي! أنت تكسر الضروس، فهل هذا مما يعنيه؟ لا.
ولو ترك كل إنسان ما لا يعنيه ما وقع حسد، ولا وقعت خصومة، ولا وقع غل في صدر أحد، ولا تعطلت أعمال الناس، فإذا انقطع كلٌ لما يعنيه لتوفرت كل الأعمال.
مثلاً: مصنع نسيج القطن، فيه مكينة تغزله، ومكينة تنسجه، فلو جئنا بمكينة الغزل لتعمل مكان مكينة النسيج، أو مكينة النسيج لتعمل عملية الغزل، فهل يمكن هذا؟ لا يمكن هذا، فقد أشغلت جهازاً فيما لا يعنيه، وهو لا يصلح له، وكذلك الإنسان إذا تدخل فيما لا يعنيه أفسده، وإذا لزم ما يعنيه قام بواجبه وبعمله، وكان كل شيء على ما يرام.(35/5)
صلاح الناس في ترك ما لا يعني
لو طبق كل مسلم هذا الحديث في نفسه، وبيته، وسوقه، وعمله، والتزم حدوده؛ لصار دولاب الحياة منتظماً، ولو ترك كل إنسان ما يعنيه وتدخل فيما لا يعنيه لتعطلت الحياة، وصار هذا يتجسس على هذا، وهذا يتدخل في شئون هذا، وهذا يفسد أمر هذا.
وأخطر ما يكون ما نراه اليوم، تجد الفتاة تتزوج، وتعيش مع زوجها في أحسن ما يكون، فتأتي أمها لتزورها وتقول: ما هذا العفش يا بنت؟! أهذه حياة؟! لماذا لا تكلمي زوجكِ؟! أنتِ ما عندكِ نظر! ما عندكِ لسان! كذا كذا والبنت كانت راضية بمعيشتها مع زوجها، فالأم ما يعنيها في حياة الزوجة مع زوجها؟ ثم تخرج الأم من البيت، ويأتي الزوج، وكان قد ترك زوجته في أحسن ما يكون من البشاشة والسرور، فيرجع وإذا الدنيا متغيرة، وتخاصمه: أنت ما فعلت لي كذا، وما فعلت لي كذا! وكل هذا بسبب الأم.
وكم من مفاسد تقع في البيوت بسبب ذلك، ومن العجب! أن الإمام أحمد رحمه الله يقول: إذا رأى والد المرأة زوجها يضربها فلا يسأله: لماذا يضربها؟ ولا يتدخل فيما لا يعنيه، فهذا أمر بين الزوجين.
ولهذا -يا إخوان- من حكمة التشريع الإسلامي ومحاسنه: أنه جعل الخلافات الزوجية مستترة خفية في غرفة النوم بين الزوجين إلى أن يعجزا عنها، فقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ} [النساء:34] ، وقال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] ، هل قال: أحضروا أمها وأباها؟! لا والله! هل قال: نادوا الجيران؟! لا، وإنما قال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ} [النساء:34] قبل أن يقع النشوز، ماذا نفعل؟ قال تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] ، فإذا رأى منها بوادر النشوز، يبدأ يعظها بالموعظة الحسنة؛ لأن من مبادئ الإسلام اختيار الزوجة على مبدأ الدين، (تنكح المرأة لأربع: لحسبها، ولمالها، ولجمالها، وادينها، فاظفر بذات الدين) ، {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] ، فإذا كانت الزوجة -على مبدأ الاختيار الإسلامي- ذات دين، وحصلت هفوات ولا أحد يسلم، فتكون الموعظة، والموعظة أول ما تؤثر في ذات الدين، فالموعظة ستجد طريقها، وإذا كانت المشكلة أكبر، فاهجروهن، وأشد ما يكون ثقلاً على المرأة أن يهجرها زوجها في الفراش: {فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] ، وكأنه يقول لها: سلاحكِ الذي تتسلطين به عليَّ باطل ملغي لا تأثير له، ويعطيها ظهره.
وإذا افتقدت المرأة سلاح أنوثتها، فلم يبق عندها إلا البكاء أو المكيدة، وإذا كانت مؤمنة فالمكيدة منسية، فإن نفع هذا الهجر فبها ونعمت وإلا ضربها، لا للتشفي، ولكن للتهذيب، والتوجيه، والتنبيه، والإنابة، فإذا عمل بهذه المراحل الثلاث بأقصى جهده، وعجز عن حل الخلاف، فكما قال الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ، لا تذهبوا بعيداً، وتشنعوا عليهم في الحارة كلها! {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ؛ لأن أهلهما أحرص على المصلحة، {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] .
إذاً: لا يتدخل الأبوان في شئون الزوجية إلا إذا عجز الزوجان، ولا تأتِ الأم لأول وهلة وتتدخل في شئونها، وفي لبسها، وأكلها، وفراشها، وفي معاملة زوجها لها، فمن الخير أن تترك الأم ابنتها مع زوجها، ولو سمعت بخلاف بينهما وتركتهما يعالجان القضية؛ لأن البنت قد تتحمل على نفسها فيما بينها وبين الزوج ما لا تتحمله في حضور أمها، وقد تأخذها الحمية لأهلها.
إذاً: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، وكم من امرأة طلقت من زوجها بسبب أهلها أو أمها أو أخيها! يكون الأخ بينه وبين الزوج مخاصمة ومحاكمة، فيتدخل في شأنهما.
لو طبق هذا الحديث في أي مجال من مجالات الحياة؛ لسلم المجتمع من كل فضول، ولصار كلٌ في طريقه يؤدي ما عليه، ويأخذ ما له، وإذا أخذ ما له ووقف عند حقه، وأدى ما عليه ولم يقصر في واجبه؛ كان المجتمع كله مجتمعاً سليماً سعيداً.
ونكتفي بهذا القدر من التوضيح لهذا الحديث النبوي الشريف، وهو يشمل حتى الراعي مع الرعية، كما قال معاوية: (لو تتبع الأمير الرعية لأفسدهم) أي: لو كان يتتبعهم في كل صغيرة وكبيرة، لفسدوا، لكن لو ظهر هناك مخالفة وإفساد، فلا مانع، لكن لا يتتبعهم في كل صغيرة وكبيرة، سواءً أساءوا أو أحسنوا، فلا ينبغي ذلك.
وبالله تعالى التوفيق.(35/6)
الأربعين النووية - الحديث الثالث عشر(36/1)
شرح حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: [عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه] .
هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي قبله يبين حسن الإسلام، والإسلام هو: النطق بالشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، من محاسنه: ترك ما لا يعني، والبر، وحسن الخلق، وأشياء أخرى متعددة.(36/2)
معنى: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ... )
وإذا كان الحديث السابق يبين حسن الإسلام، فهذا الحديث يبين كمال الإيمان، وقد جاء في هذا المعنى أحاديث عديدة، وقوله: (لا يؤمن أحدكم) (لا) نافية، تنفي الإيمان عن أحد، وأحد نكرة أضيفت للمخاطب، فتعم جميع آحاد الناس، والإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره) ، وهذا الحديث ينفي كل أركان الإيمان الستة، وهل يكون قد خرج عن عداد المؤمنين أو المعنى: لا يؤمن إيماناً كاملاً؟ لا يؤمن إيماناً كاملاً كما جاء في سورة الحجرات: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، وعند علماء اللغة أن (لما) تشترك مع (ما) في النفي، إلا أن (لما) تدل على أن المنفي هو في سبيل إتمامه، تقول: أثمرت النخلة ولما ترطب، أثمرت الشجرة ولما تينع، أي: ينضج ثمرتها، أي: أنها في طريق النمو، وفي طريق اكتمال النضج، وكذلك الأعراب، أسلموا، وبوادر الإيمان في طريق اكتمالها، فقوله: (لم تؤمنوا) أي: لم يكتمل إيمانكم، وبقي مراحل حتى يكتمل، ولذا حملوا النصوص التي ترد بهذا المعنى على نفي كمال الإيمان كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) ، وليس المراد أنه انتفى عنه الإيمان وخرج عن مسمى المسلمين، لا، بل جاء في الحديث الآخر: (يكون الإيمان عليه كالظلة حتى يرجع عن ذلك أو ينتهي منه) ، فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
هذا الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) نقيسه بالشمول وعموم الإسلام كله، (حتى يحب لأخيه) ، وليس المراد بأخيه ابن أمه وأبيه أو أخوه من الرضاع أو أخوه لأب أو لأم، بل المراد أخوة الإسلام {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ، وقال بعض العلماء: الأخوة في الإنسانية أعم من الأخوة في الإسلام؛ لأن الواجب عليك لو رأيت كافراً مشركاً -وتعلم أن نهاية الكفر والشرك إلى النار وأنت تكره ذلك- أن تحب له الإسلام لينجو من النار كما تحب ذلك لنفسك، فبعض العلماء وسع نطاق الأخوة، وجعلها في الجنس البشري، وبعضهم يقصرها على الأخوة الإسلامية.(36/3)
أهمية الأخوة في الله
ينبغي إشعار المسلم بالأخوة مع المسلمين، ولو أراد إنسان أن يوفيها حقها، فعليه أن يرجع إلى أصل دعوة الإسلام وأولها، والهجرة هي أعظم حدث في الإسلام بعد النبوة، فقد هيأت المجال للإسلام أن ينطلق وينتشر، بعد أن كان محدوداً في مكة، ومحصوراً فيها، ومحاطاً من جميع الجهات، ولا يسمح له بالتحرك، فهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعند خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته إلى الغار كان الصديق تارة يمشي أمامه، وتارة يمشي وراءه، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أبا بكر! ما بالك تارة تمشي أمامي وتارة ورائي؟! أتود لو كان شيئاً أن يكون فيك يا أبا بكر؟! قال: نعم، إن أهلك أهلك أنا وحدي، أما أنت -يا رسول الله- فإن معك الرسالة) ، فمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معناه مجيء رسالة الإسلام، وليس ذاته صلى الله عليه وسلم فقط، بل ما يحمله من رسالة ربه إلى خلقه، وكان في المدينة الذين بايعوا عند جمرة العقبة من الأنصار، والذين خرجوا قبل رسول الله مهاجرين، مثل مصعب بن عمير الذي كان يعلم الناس الإسلام، فكان فيها بوادر الإسلام، وبجانب هذه القلة كان هناك عباد أصنام، وكان عمرو بن الجموح له صنم في بيته، وكان ولده ممن حضر بيعة العقبة شاباً يافعاً، فلم يستمع لولده، وكان من سادة قومه، وكان كلما أصبح الصباح يأتي إلى صنمه ويطيبه ويمسحه ويؤدي له حقوقه في زعمه! فجاء الولد ونكس الصنم في الليل، فجاء الأب ووجد الصنم منكساً، فعدله، ثم جاء الولد ووضع عليه بعض القاذورات، فأخذه الأب وغسله وطيبه وعدله، ثم ربط الولد صنم أبيه مع كلب ميت في حفرة خارج البيت، وألقاهما معاً، وأصبح الأب يبحث عن معبوده فلم يجده، فأخذ يبحث عنه حتى وجده مع الكلب في حفرة، فلما وجده تعجب من ذلك! وأبعد عنه الكلب، وطيبه ووضعه في محله، وجاء بالسيف ووضعه بجواره، وقال: انتقم لنفسك، فإذا مرة أخرى يأخذه الولد ويجعله بتلك الصورة، فتنبه الأب وقال: عجباً! والله! لو كنت إلهاً حقاً لما كنت مع كلب في قرن، أف لك من إله، وتركه في مكانه وأسلم.
إذاً: كان في المدينة حينئذٍ أقلية مسلمة، ومشركون يعبدون أصناماً، ومنافقون أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ويهود يعادون الدعوة بصراحة.
إذاً: المجتمع المدني كان مؤلفاً من عدة طوائف، أما مجتمع مكة فكان طائفتين فقط، إسلام وشرك، والكفار صرحاء، ولم يكن نفاق في مكة أبداً، إما مسلم واضح وإمام كافر ظاهر، لكن المجتمع في المدينة كان على أربعة أقسام، فكيف للإسلام أن ينتشر وأن يمضي في هذا المجتمع الخليط؟ ومع أن هذه بلدة صغيرة، وفيها هذه الطوائف، إلا إن الإسلام وقضى على تلك المظاهر كلها، وانطلق خارج المدينة، ولو وقف الساسة ورجال الاجتماع لعجزوا عن تعليل هذا، لكن ذلك كان بوسيلة الأخوة بين المسلمين، فأول ما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وكتب الصحيفة العالمية المشهورة بينه وبين اليهود، وبين المشركين، وكان منها: ما كان من أمر في المدينة فمرجعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أول الإسلام كانوا يتوارثون بالإخوة، فإذا مات رجل من الأنصار وله أخٌ في الله من المهاجرين ورثه كما يرث الأخ أخاه والولد أباه، حتى نزلت آية المواريث: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75] .(36/4)
من مظاهر الأخوة في الله
مظاهر الأخوة في عصر النبوة يعجز إنسان أن يصورها، فمن تلك المظاهر: عندما رجع صلى الله عليه وسلم من بني المصطلق تلاحى غلامان: غلام من الأنصار، وغلام من المهاجرين، وضرب غلام المهاجرين غلام الأنصار، فبلغ الأمر إلى عبد الله بن سلول رئيس المنافقين، فقال: قد قلت لكم من قبل: ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمّن كلبك يأكلك، آويناهم في المدينة، وأطعمناهم، والآن يضربونا، {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، فبلغت مقالته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاد المهاجرون والأنصار أن يفتتنوا، فأمرهم بالمسير وقت الظهيرة ليشغلهم، وجاء الوحي وبين مقالة ابن أُبي، فقال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] .
ويقول علماء الأصول وعلماء البلاغة: إن ابن أُبي حكم حكماً صحيحاً، فالأعز يخرج الأذل، لكن من هو الأعز ومن هو الأذل؟ هذه هي نقطة الخلاف، فالحكم صحيح، ولكن من هو الأعز، ومن هو الأذل؟ ابن أُبي يزعم بأنه العزيز في بلده، والقرآن قد رد على ابن أُبي حكمه، وبين أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكنك لا تفقه يا ابن أُبي!! فلما وصل الناس إلى المدينة، ظهرت ثمرة الأخوة في الله، جاء عبد الله بن عبد الله بن أُبي - وهو صحابي جليل، وكان من أبر الناس بأبيه رئيس المنافقين- فأمسك بزمام راحلة أبيه عند باب المدينة، واستلّ سيفه وقال: والله! لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين! فما أعجب هذا الارتباط بين الولد وبين المسلمين، وفصل العرى التي بينه وبين أبيه، فرابطة النسب ضاعت؛ لأنها رابطة ماء وطين، أو رابطة زوجية، أما رابطته برسول الله فهي من الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، وأي نعمة؟ إنها نعمة الإسلام: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] ، والذي لم يدخل في الإسلام لا يزال واقفاً على شفا حفرة من النار.
وهكذا وقف الأب أمام الولد ولم يستطع أن يدخل المدينة! من الذي منعه؟ هل هو الرسول؟ لا، هل هو أبو بكر أو عمر؟ لا.
بل منعه ولده! ثم بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه: دعه يدخل، فدخل المدينة ذليلاً حقيراً! وأمثال هذه المواقف كثير، ويهمنا أن الأخوة الإسلامية ربطت بين أفراد الأمة الإسلامية، وهي أقوى من النسب والقرابة والرحم، ويظهر أثرها أكثر من هذا في الغزوات، فمثلاً: بعد أن انتهت معركة القادسية، خرج رجل يطلب ابن عم له في القتلى، وقال: لعلي أجده في رمق يحتاج إلى ماء، وحمل معه قدحاً من الماء، ثم وجده في النزع، فقال: ألك حاجة في الماء؟ قال: نعم، فقدّم إليه الماء في القدح، فلما أخذ القدح وأهوى به إلى فيه إذا به يسمع جريحاً يئن، فرفع الماء وقال: اذهب به إليه لعله أحوج إليه مني، فذهب به إليه، وعندما أراد أن يرفع القدح إلى فيه سمع أنيناً ثالثاً فأرسله إليه، فذهب إلى الثالث فوجده قد مات، فرجع إلى الثاني فوجده قد مات، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات، فمات الثلاثة وكل يؤثر أخاه على نفسه، والماء يبقى في القدح!! روى البخاري رحمه الله عن ابن عمر قال: (كنا في زمن لا يعرف أحد منا فضل درهم على أخيه، ونحن في زمان الدرهم عند الرجل أعز من أخيه وأبيه!) ، فإذا كان ابن عمر يقول هذا في وقته، وهو صحابي جليل، فكيف بنا اليوم؟! تجد أن الفلس عند الرجل أعز من الدنيا كلها!(36/5)
رابطة الإيمان مع الملائكة
إذا تجلت الأخوة بين المسلمين كان المجتمع مثالياً، وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: إن رابطة الأخوة الإيمانية لم تقف عند سطح الأرض، بل امتدت إلى السماء، وإلى حملة عرش الرحمن، وربطت بينهم وبين المؤمنين، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] ، فما هي الرابطة هنا؟ إنها رابطة الإيمان، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7-9] ، أي دعاء أبلغ وأعظم وأشمل من هذا الدعاء الذي تدعو به الملائكة حملة العرش للمؤمنين؟! وهذا بسبب رابطة الإيمان.
ونقول أيضاً: إن تلك الرابطة لم تقف عند حد الدعاء بل كانت عملياً، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:30-31] ، فهم أولياؤهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فمثلاً: في يوم بدر، نزلت الملائكة وقاتلت مع المسلمين.
إذاً: ربطت الأخوة الإيمانية بين المؤمنين وبين حملة العرش.(36/6)
رابطة الإيمان مع الجماد
وربط الإيمان بين مؤمني هذه الأمة وبين الجماد.
فهذا العلاء بن الحضرمي حينما ذهب إلى البحرين، علم به مشركو المجوس، فرجعوا إلى الجزيرة وأخذوا السفن، وجاء العلاء ومن معه من المسلمين والبحر أمامهم، فماذا يفعلون؟ توجه العلاء إلى من معه من المؤمنين وقال: أيها الناس! إني عزمت على أمر، إن الله قد أراكم آية في البر، وهو قادر على أن يريكم آية في البحر.
وما هي الآية التي أراهم الله إياها في البر؟ لما كانوا في الطريق، نفذ عليهم الماء، وكادوا يموتون عطشاً، فنزلوا منزلاً ينتظرون الموت، وفي الظهيرة جاءت سحابة صغيرة من بعيد، ووقفت على مساحتهم ثم أمطرت! مدد من الله، أليس هذا من جنود ربك؟! بلى، جند من جند الله، فشربوا وسقوا دوابهم وتزودوا منه.
فقال العلاء: إن الذي أراكم تلك الآية في البر قادر على أن يريكم آية في البحر، قالوا: وماذا تريد؟ قال: عزمت أن أخوض هذا البحر، فتقدم إلى البحر، وهو جماد لا يدري، فقال: أيها البحر! إنك تجري بأمر الله، ونحن جند في سبيل الله، عزمت عليك لتجمدن حتى نعبر لنقاتل عدو الله، ثم عبر البحر بجيشه!! قرار في ثلاث كلمات (توجه إلى الله) ، والرابطة الكبرى التي تجمع بين الجميع هي الإيمان.
يقول ابن كثير في ذكر هذه القصة: (فما ترجل الفارس، ولا احتفى المتنعل، واجتازوا وقاتلوا وانتصروا) .
بأي أمر استطاع العلاء أن يعبر على الماء؟ هل بشخصيته أو بقوته وجيشه؟ لا.
بل لأنه في سبيل الله، وهذا يجري بأمر الله، والكل من خلق الله.(36/7)
رابطة الإيمان مع الحيوان
ذكروا عن سفينة خادم رسول الله، أنه رجع من الغزو، فإذا بالأسد يعترض الناس في الطريق، فما استطاع أحد أن يجاوزه، فتقدم إلى الأسد وقال: أيها الأسد! أنا سفينة صاحب رسول الله، عزمت عليك لتخلين الطريق لنمضي، فإذا بالأسد يذهب بعيداً، ويخلي الطريق! بماذا طرد سفينة الأسد؟! هل طرده بسيفه ورمحه؟ لا والله! إنما طرده بإيمانه وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لو قال قائل: إن إخوة الإيمان تربط بين جميع خلق الله فلا يستبعد عن ذلك أبداً،: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه) ، فالأخوة الإسلامية ذللت كل شيء لهؤلاء المسلمين.
وهذه الآثار تبين لنا معنى نفي الإيمان في هذا الحديث، وأنه نفي كمال وتمام الإيمان، كما جاء في نظير ذلك: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) ، قالوا: يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
وتقدم الكلام على أن الأخوة هنا: (أن يحب لأخيه) هي أخوة الإيمان، وليست أخوة النسب، بل أخوة الجنس البشري، كما في رواية: (يحب للناس ما يحب لنفسه، ويكره للناس ما يكره لنفسه) ، وأشرنا إلى مدى آثار الأخوة في الله، وذكرنا قضية ابن أُبي وولده عبد الله، وما قاله عند الرجوع من غزوة بني المصطلق، ووقوف ولده أمامه عند باب المدينة ليمنعه من دخولها حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه تبين لنا كيف ألقى الرابطة بينه وبين أبيه من جانب النسب، وقوى الرابطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعلاقة الإيمان.(36/8)
موقف أبي بكر رضي الله عنه من ولده في غزوة أحد
في غزوة أحد حينما اصطف الفريقان، خرج من المشركين من يطلب المبارزة، وكان منهم ابن أبي بكر الكبير رضي الله تعالى عنه، فقال: من يبارز؟ فأول من نهض ليبارزه أبوه: أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فأمسك به رسول الله وقال: (أبق علينا نفسك يا أبا بكر!) .
وأشرنا إلى ما كان في معركة القادسية، عندما ذهب رجل يطلب ابن عمه في الجرحى ومعه الماء، فلما وجده دفع إليه قدح الماء ليشرب، فسمع الجريح أنيناً، فقال: اذهب بالماء إليه لعله أحوج إليه مني، فذهب إليه فسمع أنين شخص ثالث، فقال: اذهب بالماء إليه لعله أحوج إليه مني، فلما وصل إلى الثالث وجده قد مات، ثم رجع إلى الثاني ووجده قد مات، ثم رجع إلى ابن عمه فوجده أيضاً قد مات، يموت الثلاثة وكل يؤثر صاحبه على نفسه، ويبقى الماء في القدح! هذه حقيقة الأخوة في الله، وأشرنا إلى أثر الإيمان بين الجماد والمؤمن في قصة العلاء بن الحضرمي، حين أقسم على البحر أن يجمد ليعبر عليه حتى يقاتل العدو، فجمد الماء وقاتل الأعداء وانتصر، إلى غير ذلك من آثار الأخوة في الله.
وأشرنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة كان فيها تيارات مختلفة، وعقائد متنوعة، ما بين قلة مؤمنة، وكثرة مشركة، وبعض المنافقين واليهود، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم بنور النبوة وحكمتها أن يشق طريق الإسلام بين تلك الطوائف الأربع.(36/9)
الأخوة من أسس بناء الدولة الإسلامية
أول خطوة عملها عليه الصلاة والسلام عند بناء الدولة الإسلامية هي: المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، وبين المهاجرين والأنصار، وكتب الاتفاقية العامة بينه وبين اليهود، وقد أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الحل والعقد فيما يتعلق بالمدينة، وكل ما شجر فيها فمرجعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد استطاع النبي عليه الصلاة والسلام أن يؤاخي بين المسلمين، حتى صار في فجر الإسلام يستظل بمظلة الإسلام الكبرى شتى الجنسيات المختلفة، فهنا سلمان الفارسي، وهنا بلال الحبشي، وهنا صهيب الرومي، والكل يعيش في ظل راية الإسلام، وتحت مظلة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
أما العالم اليوم فقد دمر بالحروب وبالتفرقة العنصرية، وتمزق بالتعصب الشخصي أو الحيدة والمصلحة الخاصة، ولكن الإسلام بتعاليمه يذيب الفوارق بين تلك الجنسيات فيعيش الحبشي والرومي والفارسي والعربي والعجمي جميعاً تحت مظلة الإسلام، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، ويقول الإمام علي رضي الله تعالى عنه: الناس من جهة التكوين أكفاء أبوهمُ آدم والأم حواء فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء إذاً: الإسلام يذيب الفوارق ويجمع الشتات، ويربط الجميع بأخوة واحدة، ويصبح هذا التآخي بمثابة التلاحم، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ، ويقول: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ، كيف فعل الإسلام ذلك؟ أشرنا إلى عنصرين أساسيين هما: - الروح.
- الجسد.
يقولون: الإنسان حيوان ناطق، والحيوانية مبناها على الحياة بالأكل والشرب، فهو حيوان كسائر الحيوانات: يأكل ويشرب، ويجوع وينام، والنطق هي الملكة التي بها تميز عن غيره، كالصهيل للفرس، والنهيق للحمار، إذاً: هذا الفصل عن الجنس، والله كرم الإنسان بالقوة المخيلة، والذاكرة، والعقل الذي به يدرك خطاب الله لخلقه.
إذاً: الإنسان جسدٌ وروح، والجسد بدون الروح لا قيمة له، يكون جثة هامدة، والروح بدون الجسد ناقصة؛ لأنها ساكنة في الجسم، ولابد للساكن من بيت يسكن فيه، وإذا انهدم هذا البيت صعدت الروح إلى بارئها.
إذاً: الإنسان من مادة وروح، (جسم وروح) ، فالإسلام آخى بين المسلمين على هذين العنصرين: أما العنصر المادي فهو -كما أشرنا-: رد الإنسان إلى أصله الأول: {خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13] ، وكما قال علي رضي الله تعالى عنه: (من ماء وطين) ، هذه هي الناحية المادية: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17] .
أما الناحية المعنوية، وهي الروح والعقل والإيمان، فهي نعمة من الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، ولما أوجد الله هذا الكيان الإنساني، جاء الإسلام بروافد تغذي تلك النبتة القوية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.
فمنع وحرم كل إيذاء بين بني البشر: من القتل، والسرق، والضرب، بل منع من السخرية والهمز واللمز، وأوجب روافد الخير: من التآخي، والتزاور، والهدايا، وصلة الأرحام، وو إلخ، وكف عنها آفات الفرقة بالاعتداء والخصومة، وسلط عليها روافد النمو من الأخوة والمحبة والموالاة والزيارة إلى غير ذلك.
والخلاصة: منع الإسلام من كل آفة تعيق نمو المحبة، وشرع روافد الخير التي تغذيها حتى تنميها وتؤتي ثمارها في كل حين.(36/10)
ثمرات العمل بحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه)
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم) أي: لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يتصف بهذه الصفة، وهذه صفة لو طبقت لألغيت المحاكم والسجون؛ لأنه إذا أصبح كل إنسان يحب لأخيه ما يحب لنفسه فلن يحصل اعتداء، ولا ظلم، ولا بغي، ولا حسد، ولا حقد، ولا غل، ولا سخرية.
إلى آخر الشرور، وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث في الشاب الذي جاءه وأعلن إسلامه وقال: (يا رسول الله! أريد أن تأذن لي في شيء واحد، قال: ما هو؟ قال: في الزنا، فنهره أصحاب رسول الله وزجروه، فقال عليه الصلاة والسلام: هلم! ادن، فدنا الشاب وأجلسه بين يديه، وسأله فقال: أترضى ذلك في أختك؟ قال: لا والله! قال: أترضاه في ابنتك؟ قال: لا، أبداً.
قال: أترضاه في أمك؟ قال: لا، أبداً، قال: كذلك الناس لا يرضونه في محارمهم) ، وهذا من تطبيق الحديث: أن تحب للناس ما تحبه لنفسك، وأن تكره للناس ما تكره لنفسك.
وهذا تطبيق عملي من الرسول صلى الله عليه وسلم مع هذا الشاب في موضوع خطير جداً، فالشاب كان يجب شيئاً محرماً، ولكن بصره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره فانتهى، فكما أن لك محارم فللناس محارم، فإن كنت ترضاه لنفسك فهذه نقيصة، وإن كنت لا ترضاه لنفسك فكيف ترضاه للناس؟ ومن هنا كف الشاب عن ذلك، وأبغض الزنا! ولو أن كل شاب طبق هذا الحديث في نزواته لما زنى أحد؛ لأنه لا يرضى ذلك في محارمه.
وكذلك المال، قال صلى الله عليه وسلم -فيما معناه- (لا يحلب أحد ماشية أحد، فإنما هي تحزن طعامهم) أرأيت لو أن إنساناً جاء إلى مخزنك وأخذ منه طعامك وشرابك! وكأنه يقول: تلك الإبل المحفلة بالحليب تحمل غذاء أهلها، فإذا أخذت هذا الحليب، أترضى أن يخلفك إنسان إلى مخزن بيتك ويأخذ رزقك وطعامك من هناك؟!
الجواب
لا، إذاً: دع أرزاق الناس مكانها، فلو طبق هذا أيضاً من جهة المال لما سرق سارق؛ لأنه لا يرغب إنسان أن يسرق ماله، ولما ظلم ظالم ولا اغتصب غاصب؛ لأنه لا يرضى إنسان أن يظلمه أحد أو يبغي عليه أحد، وهكذا.(36/11)
عامل الناس كما تحب أن يعاملوك
المولى سبحانه وتعالى يقول: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً} [النساء:9] ، مذا؟ {ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] ، أي: خافوا عليهم من الناس.
إذاً: أنت في حياتك لك ذرية ضعيفة، وأمامك وبين يديك ذرية الآخرين، فإذا أحسنت إليهم سخر الله من يحسن إلى ذريتك الضعاف، وإن أسأت إلى ذرية الآخرين الضعاف فخف على ذريتك من بعدك، فالأمر مبادلة، فأحب لذرية الأجانب الآخرين ما تجب لذريتك، وافعل لهم من الخير، وكف عنهم من الشر ما تحب أن يفعل لذريتك الضعاف من بعدك.
ويقول الله في الآية الأخرى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:266] ، يعني: أنت في كبر السن، ولك ذرية ضعاف، ولك يستان وحديقة، ثم يأتي إعصار فيه نار فيحرق تلك الحديقة، فأين تذهب ذريتك الضعيفة؟ وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263] ، سبحان الله! كيف تعامل المساكين؟ {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [البقرة:263] ، باللسان، {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ} [البقرة:263] ، بالمال مهما كانت {يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، لماذا تؤذي الفقراء؟ هل ترضى أن تكون فقيراً ويؤذيك الأغنياء؟! لا والله! وبعدها قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، لما تؤذي المسكين وتمن عليه؟! هل هذا من جهدك ومالك أنت؟ المال مال الله، وهو في يدك ابتلاء، ومنع منه المسكين ابتلاء، كلٌ يبتلى لينظر أيشكر الغني ويصبر الفقير أم لا؟(36/12)
النصح للمسلمين
الله عز وجل يريدك أن تكون مسلماً حقاً، تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، وتنصح لهم كما في الحديث: (الدين النصيحة) ، فينبغي أن يكون كل مسلم ناصحاً لكل إخوانه.
ويذكر بعض العلماء أن رجلاً جاء ليبيع دابة، فجاءه شخص وقال: أسألك: أتصلح لي هذه الدابة؟ قال: لو كانت تصلح ما بعتها، ما الذي حمله على هذا؟ إنها الأخوة في الله.
وذكروا قصة عن نبي الله سليمان عليه السلام، وهي أنه عندما أراد أن يبني بيت المقدس، أوحى الله إليه: (أن ابن لي بيتاً) قال: يا رب! وأين أبني ذلك البيت؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه، فرآه، فسأل عن صاحب هذه الأرض، فقالوا: لرجل من بني إسرائيل، فقال: أحضروه، فجاء، فقال: ثامني على أرضك هذه، فقال: بألف، قال: اشتريت، فقال: يا نبي الله! أستنصحك: الأرض خير أم الألف؟ قال: الأرض، قال: أقلني، قال: أقلتك، ثم قال: بألفين، قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك الأرض خير أم الألفين؟ قال: الأرض، قال: أقلني، قال: أقلتك، وهكذا خمس مرات حتى وصلت إلى خمسة آلاف، وأخيراً قال له نبي الله: كم تريد فيها وأعطيك؟ سم أنت الذي ترضى! فقال: تملؤها عليَّ نعماً، إبلاً وبقراً وغنماً فأمر بني إسرائيل أن يملئوها له بما طلب! والشاهد قوله: (أستنصحك: الأرض خير أم الثمن؟ فقال: الأرض خير، فما الذي حمله على ذلك؟ إنه النصح.
ومن الإيمان: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنك إذا رأيت إنساناً على منكر لا ترضاه لنفسك، فلابد ألا ترضاه لهذا الشخص، وأن تخلصه منه، ولكن كيف تخلصه؟ هل تخلصه بالسوط والعصا؟ لا، إنما بما تحبه لنفسك، فلو كنت مثله، ورآك آخر، فبأي طريقة تريد أن ينهاك أو يأمرك؟ أتحب أن يزجرك ويسبك ويعنفك أمام الناس؟! أتحب أن يقبحك ويخرجك من الإسلام ومن الإيمان؟! لا والله! وكما يقول بعض السلف الصالح: إن الأتقياء الصالحين ينظرون بنور الله، يرون العبد على المعصية، فيكرهون العمل ويشفقون على العامل، وينصحونه بالرحمة والرفق؛ ولذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر كالطبيب الحاذق الحليم؛ حينما يرى إنساناً مريضاً لا يربطه بالحبال، ولا يقيده بالقيود، ولكن يتلطف معه، ويبدأ بما يخفف إحساسه، وبما يلطف الطريق إليه، فيعطيه منوم، أو مسكن، ثم يفعل ما يشاء في علاجه، والمريض ربما يسبه وربما يتطاول عليه، ولكنه يتحمل ذلك في سبيل علاجه، والآمر بالمعروف أولى بالصبر من الطبيب: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] .
وبالتناصح سنجد الصدق، والأمانات ستؤدى إلى أهلها.
يقول العقلاء: إن مطامع العقلاء في الدنيا لأحد أمرين: إما لجلب نفع، وإما لدفع ضر.
لمنافع يسعى اللبيب فلا تكن بشيء دهرك ساعياً إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كما يضر وينفعا تضر الخصم والعدو، وتنفع نفسك والصديق، فالإنسان العاقل ما دام يتصف بالعقل لا يسعى سعياً إلا لأحد أمرين: إما ليجلب نفعاً إليه، وإما ليدفع شراً عنه، وجاء الإسلام بهذين المبدأين، وزاد مبدأً ثالثاً ألا وهو: الحث على مكارم الأخلاق، فإذا كان لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فبالتالي يكره لغيره ما يكره لنفسه.
إذاً: كلما فيه جلب نفع أحبه للغير، وكلما فيه دفع ضر أحبه للغير، وقد اتفق العلماء والأصوليون والعقلاء من كل الملل على أن أهم ما يحافظ عليه الإنسان، ويسعى للحفاظ عليه، الكليات الخمس: الدين، والعقل، والجسم، والمال، والعرض، ويدخل فيه النسب.
فإذا أحببت أن تحفظ دينك: فأمرت بالمعروف، وانه عن المنكر؛ لتسعد بإنقاذ إنسان مما هو فيه، وإذا وجدت إنساناً في دينه أعلى منك اجتهدت أن تصل إليه، وإذا وجدت إنساناً أقل منك ساعدته حتى يصل إليك، وهذا من حفظ الدين، أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتجاهد نفسك لتؤدي حق الله عليك.
وحفظ العقل بأن تجتنب كل ما فيه مضرة على العقل، وكذلك تجنب غيرك أن يقع في مثل ذلك.
وكذلك حفظ البدن فكما تحب أن يحفظ بدنك من ضرب أو من جرح أو من إساءة بدنية فكذلك كف هذا عن غيرك.
وحفظ العرض: كما لا تحب أن يعتدى على عرضك، فلا تسمح لنفسك أن تعتدي على أعراض الآخرين.
وحفظ المال كما تحب أن تحفظ مالك من أي اعتداء، وتكره أن يغصبك أحد، فكذلك أحب الخير لغيرك في ماله.
ولو طبق هذا الحديث، فلا حاجة للمحاكم، إذا كان كل إنسان يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره لأخيه ما يكره لنفسه، فلن تكون هناك خصومة.
عمر رضي الله تعالى عنه طلب منه أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن يلي أمر القضاء، ويكفيه مئونته، فمكث عمر سنة ثم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: أغفني من القضاء، فقال له: لماذا؟ قال: لم يأت إليّ أحد! وليت على أمة كلٌ قد عرف ما له وما عليه، عرف ما له فلم يتجاوزه، وعرف ما عليه فلم يقصر فيه.
وما دام كل إنسان يمضي في خطه المرسوم له، فلن يعتدي على أحد، ولن يعتدي عليه، فلماذا المحاكم؟ ولماذا الشرطة؟! إذا: لو طبق الناس هذا الحديث وحده، لكان المجتمع الإنساني مجتمعاً مثالياً، فما أعظم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .
ولعل في هذا القدر الكفاية لبيان معنى الحديث النبوي الشريف، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.(36/13)
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع عشر [1](37/1)
شرح حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: [عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه] .
ابن مسعود رضي الله عنه صحابي جليل، وكان يقول: أنا سابع سبعة في الإسلام، وتاريخه مجيد، وفضله بين الصحابة عظيم، حينما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل أخاه ليسمع خبره، ثم رجع إليه وقال: إنه يأمر بالمعروف، ويأمر بمكارم الأخلاق، وذكر أموراً مجملة، فقال: لم تغن عني شيئاً، فركب راحلته، وأخذ ماءه وزاده، ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وسمع منه، ثم رحل هو وأمه ونزل على خاله، ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (لا يحل) حلّ يحل تأتي في اللغة متعدية ولازمة، تقول: حل يحِل، وحل يحُل، فإذا كانت من الفعل اللازم فهي من باب ضرب يضرب، وإذا كانت من الفعل المتعدي فهي من باب بطر يبطُر، تقول: حل العقدة يُحلُها؛ لأنه متعد إلى مفعول به، وتقول: حل بالمكان يحَل، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] ؛ لأنه لازم، وكذلك حل الشيء يحِل، إذا كان حراماً.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) ، الإسلام يعصم دم الإنسان، كما تقدم في الحديث الصحيح: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا: أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) .
الإسلام هو المذكور في حديث جبريل عليه السلام حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرني عن الإسلام؟) ، فبين له الأركان الخمسة، ثم سأل عن الإيمان؟ فبيّن له الأركان الستة، ثم سأله عن الإحسان، فبيّن له ذلك، وهو مسك الختام، وأهم شيء فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، فهكذا بناء الإسلام، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بيت فسيح منيع يحمي أهله فقال: (بني الإسلام على خمس ... ) ، وتلك الدعائم هي التي يقوم عليها الإسلام، وجاء الحديث الآخر يبين آثار تلك الدعائم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) ، وهنا قال: (فقد عصموا مني أموالهم ودماءهم؛ إلا بحق الإسلام) ، فعصمة المال والدم تكون بالإسلام، وكل إنسان ينطق بالشهادتين فإنه قد عصم دمه وماله إلا بحق الإسلام، وما هو حق الإسلام؟ هذا الحديث يُبين ذلك: (لا يحل دم امرئ مسلم) ، والمسلم هو الذي التزم بالشهادتين، ومدلولهما، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج إن استطاع، فهذا المسلم معصوم الدم والمال، لا يحل دمه أبداً، بأي حالة من الأحوال، إلا بنص جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وهنا ذكر هذه الثلاث الحالات، ويوجد أحاديث أخرى أباحت القتل بسبب صفات وأعمال أخرى، ولكنها تندرج تحت قتل النفس، أو تحت (التارك لدينه، المفارق للجماعة) ، وجاءت أحاديث تجيز القتل بسبب شرب الخمر والسرقة، ولكنها -كما قيل- إما ضعيفة، وإما منسوخة، مثل حديث: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب في الرابعة فاقتلوه) ، ولكن ثبت أن رجلاً شرب الأولى وجلد، ثم الثانية، وجلد، ثم الثالثة وجلد، ثم الرابعة فجلد، فقال الصحابة رضي الله عنهم: فعلمنا أن الحد قد وقع، وأن القتل قد رفع.(37/2)
حرمة الدماء والأموال والأعراض
الدماء والأموال والأعراض أعلن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها يوم الحج الأكبر، حينما خطب الناس بعرفات أو بمنى يوم العيد فقال: (أيها الناس! أي يوم هذا؟ قالوا: فسكتنا، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس هو يوم الحج الأكبر؟ قالوا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قالوا: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس شهر ذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قالوا: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: ألا -وهي أداة تنبيه، بعد تلك التساؤلات كلها- إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، وهذا الأسلوب من النبي صلى الله عليه وسلم يُبين للمسلمين عظم حرمة الدماء، وعظم حرمة الأعراض، وعظم حرمة الأموال.
وقد بين سبحانه أن من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً؛ لأنه اعتداء على حق الله، الله يبني هذه البنية، ويرزقها، وينشئها في أحسن تقويم، ثم تأتي أنت وتهدمها، لو أنك بنيت خُصاً أو عشة، وجاء أكبر إنسان واعتدى عليها وهدمها؛ لاشتطت غضباً، ولو استطعت قتله فلربما قتلته؛ لأنه هدم عشة بنيتها أنت، فكيف بمن يقتل نفساً خلقها الله في أحسن تقويم؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم في بيان حرمة المسلم: (إن حرمة المسلم عند الله، أعظم من حرمة الكعبة) ، والكعبة قد تنقض وتبنى على ما كانت عليه من قبل أو أحسن، ولكن هذه البنية إذا هدمت من الذي سيعيد بناءها؟ لا أحد غير الله، ولهذا كان من عدل الإسلام القصاص، فالعين بالعين، والسن بالسن، والجروح قصاص، ففي الإسلام مساواة الجميع في الدية، فلا يزيد إنسان على إنسان مثله بدرهم واحد؛ لأن الكل سواسية عند الله، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، فالمفاضلة دينية، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، وقد أعلنها صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في تلك الخطبة العظيمة التي جمعت أركان وأطراف الإسلام، وبينت الحقوق التي بين الفرد مع أخيه، والزوج مع زوجه، والولد مع أبيه، والحاكم مع المحكوم، وكل أطراف الإسلام جمعت في تلك الخطبة، ولو تأملنا تحريم هذه الثلاث في قوله: (ألا إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام ... ) ؛ لوجدنا اتفاق العالم كله، والديانات كلها، والأمم بأكملها، على أن هذه محرمة عند بني الإنسان، وكما يقول الأصوليون: لا يستقيم نظام أمة في العالم، أياً كان دينها، إلا بحفظ هذه الثلاث، ومعها العقل والدين، وهي: الضرورات الخمس: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض، ويدخل معه النسب، وكل أمة اتفقت على ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم حمل حجاج بيت الله أمانة التبليغ عنه فقال: (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) ، فكان على كل حاج في تلك الحجة سمع الخطبة أن يبلغ من وراءه، فيشمل الحديث كل مسلم يأتي في هذا العالم.
ولو أن كل إنسان وقف عند هذه الحدود؛ لما سفك دم ظلماً، ولا انتهك عرض غصباً، ولا اختلس مال، ولا وقع سرق، ولا نهب، ولحفظت الحقوق، وسلم العالم من الظلم والشرور.
كانوا في الجاهلية يستبيحون القتل والسلب، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك وحرمه، وعصمت دماء المسلمين بالإسلام، وهنا قال في هذا الحديث: (لا يحل) ، أي: لأي إنسان -كان من كان- أن يستبيح قطرة دم مسلم، ولا أن يستبيح عرض مسلم، ولا أن يستبيح جزءاً من مال مسلم.(37/3)
أسباب قتل المسلم بحق
قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) ، وذكر أول هذه الأسباب الثلاثة: الزنا بعد إحصان، والزنا هو: إتيان الرجل المرأة بغير وجهٍ حلال، وفرق الحلال من الحرام كلمة الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (استوصوا بالنساء خيراً) ، انظروا إلى الأسلوب النبوي الكريم، فمن حكمته وبلاغته يتمدد وينتشر انتشار الأثير في الهواء، قال: (استوصوا) ، ولم يقل: أوصيكم بالنساء، فتكون الوصية مؤقتة منه فقط، ولكن قال: استوصوا، أي: ليوصي كل منكم الآخر، فتظل هذه الوصية تعمل، وتتفاعل، وتتكاثر، وتمتد إلى يوم القيامة، (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان تحت أيديكم، استحللتموهن بكلمة الله) وليس بالصداق، إنما الصداق نحلة، كما قال الله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أي: هبة، وهدية، وكرامة من الرجل للمرأة، ولكن إباحة البضع حقاً إنما هو بكلمة الله، فزوجتك قبلت ذلك على كتاب الله وسنة رسوله، فهذا هو الفرق؛ ولهذا يشرع في النكاح أن يعلن ويضرب عليه بالدف، وأمر صلى الله عليه وسلم بإقامة الوليمة؛ ليعلم الجميع بانضمام زوجين معاً، وإقامة لبنة وأسرة في بناء المجتمع الإسلامي، بخلاف الزنا -عياذاً بالله- فيختفي الزاني، ويستتر، ويتهرب.(37/4)
حكم الزنا بعد الإحصان
ومعنى الزنا بعد إحصان أي: بعد وطء امرأة حرة بعقد نكاح، أما إذا وطء أمة بملك يمين فلا تحصنه، وهذا قول الجمهور، وإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها فلا تحصنه، وإذا وقع في زناً قبل زواجه، فلا يحصنه هذا الزنا؛ لأنه باطل لا ينبني عليه حكم صحيح، فإذا تزوج ثم ارتكب تلك الرذيلة -عياذاً بالله- فحينئذٍ يكون عليه الرجم، ويحل دمه بعد أن كان معصوماً، وقد تكلم الفقهاء على جريمة الزنا، وعقوبتها، واتفق الجميع بلا نزاع على أن غير المحصن -وهو البكر- يجلد مائة جلدة، قال سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، ومن لطائف أسلوب القرآن -كما قال بعض العلماء- أنه في باب الزنا قدم المرأة فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] ، وفي باب السرقة قدم السارق فقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، قالوا: إن للتقديم أثره كما بين صلى الله عليه وسلم ذلك في أمر الصفا، فالسعي بين الصفا والمروة شوط مكتمل، ولكن من أين نبدأ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ابدءوا بما بدأ الله به) ، والله قد بدأ بالصفا، فقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158] ، قالوا: إن سبب الزنا أقوى من جانب المرأة؛ لأنها موضع الإغراء، ولو لم يجد الرجل منها ميولاً، أو ليونةً، أو إغراءً، لخاف وابتعد، أما في السرقة فالرجل أقوى؛ لأنه أجرؤ على اقتحام بيوت الناس، وانتهاك الحروز! لا إشكال عند جميع الناس أن البكر يجلد مائة، وأشكل على بعض الناس الثيب الذي أحصن، والإحصان، هو: الزواج والدخول بالزوجة، وليس بشرط أن تظل معه زوجه، بل لو دخل على زوجه ليلة واحدة، وكان بينهما ما يوجب الصداق، ويوجب العدة، ويلحق الولد، فهذا إحصان بلا نزاع، وعلى هذا؛ لو طلق زوجته، أو ماتت، ثم بعد ذلك وقع في هذه الرذيلة، فإنه يستحق الرجم.
وهل ثبت حد الرجم بالسنة أو بالكتاب؟ بعض العلماء يقول: إنما ثبت بالسنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية، ورجم أيضاً غيرهم، وآخرون يقولون: الرجم ثابت بكتاب الله، فقد ثبت أن من القرآن الذي نسخت تلاوته آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ، وهذه الآية نسخت لفظاً، وقال ابن عباس: (إن الرجم ثابت في كتاب الله، واستنبطه من قصة اليهوديين اللذين زنيا، فسأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للحبرين منهما: (ماذا عندكم في التوراة؟) فقالا: أحبارنا الأولون غيروا الرجم، وارتضوا بالتفحيم، وتنكيس الزاني على دابة، وغير ذلك من التعزير، فقال: (وماذا في التوراة؟) قالا: فيها الرجم، فأمر صلى الله عليه وسلم برجمهما، وفي بعض الروايات أنه قال: (فأتوا بالتوراة فاتلوها) ، فجاءوا بالتوراة، وغطى القارئ بيده على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام، وكان حاضراً: (ارفع يدك، فلما رفع يده، إذا بآية الرجم تحت يده، فأمر صلى الله عليه وسلم برجمهما، قال ابن عباس: هذا يدل على أن الرجم ثابت في القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليبين لهم ما كانوا يخفون من الكتاب، كما أخبر الله؛ فمما أخفوه آية الرجم.
وثبت عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه خطب الجمعة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري رحمه الله- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس! إن الرجم قد أنزل في آية من كتاب الله قرأناها، ثم نسخت، ولولا أن يقول الناس: زاد عمر في القرآن، لكتبتها بيدي، ولقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا معه، فأخشى إن طال الزمان أن يقول أحد: لا يوجد الرجم في كتاب الله.(37/5)
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع عشر [2](38/1)
رجم الزاني المحصن
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول علماء أصول التفسير: لماذا نسخ نص الحكم بالرجم؟ قالوا: تكريماً لهذه الأمة، فكأن الله سبحانه لم يرد أن يسجل عليها في كتابها زناً يقع من شيخ وشيخه، والمولى سبحانه ينهى الناس أن يشيعوا الفاحشة في المؤمنين، فكيف يسجله على الأمة في القرآن الذي يتلى في المساجد؟! فلما وقع الحكم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفعلوا ذلك، وعلم الجميع به؛ لم يعد هناك حاجة إلى بقاء النص بهذه الصفة في كتاب الله.
وهذا الحكم هل يكون معه جلد ثم رجم كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه أو يكفي الرجم دون الجلد كما هو مذهب الجمهور؟ استدل الجمهور بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجلان، زنى ابن أحدهما بزوجة الآخر، فقال زوج المرأة: (يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله، وكان الآخر أفقه، فقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته، فافتديت ابني بمائة من الغنم وبأمة، وسألت العلماء فقالوا: إنما على ابنك الجلد، وعلى المرأة الرجم، فقال رسول الله: نعم، سأقضي بينكما بكتاب الله، أما غنمك والوليدة فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ، ولم يذكر جلداً قبل الرجم.
يهمنا هنا أن الإسلام يعصم دم الإنسان إلا بتلك الأمور الثلاثة، ولكن مسألة: لماذا يرجم؟ ومسألة: الفرق بين الرجم والجلد؟ تلك مسائل يجتهد فيها العلماء، وقد يصيبوا وقد يخطئوا.(38/2)
قتل النفس بالنفس
والخصلة الثانية: (النفس بالنفس) ، وهذا دليل على المساواة بين المسلمين، فأكبر إنسان في أكبر مجتمع إذا قتله أدنى إنسان في أدنى مجتمع، وكلاهما يشهد أن لا إله إلا الله؛ فليس في دم هذا العظيم أكثر من دم هذا الوضيع، وكذلك العكس: لو أن أعظم إنسان في أعظم مجتمع قتل أضعف إنسان في أضعف مجتمع، فدم هذا العظيم مقابل دم هذا الحقير، ولذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه في خطابه العام للأمة أول خلافته: أيها الناس! وليت عليكم ولست بأفضلكم، ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له الحق، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه.
وليس كما يقولون: حكم النقض يسري على كل أحد، كالأمم التي تتحكم في العالم، فإذا كان قرار في غير مصلحتها تستعمل حق الفيتو وتنقض الحكم، لا وإنما هي المساواة بين الأنفس جميعاً، فالنفس بالنفس.
واختلف العلماء في الرجل إذا قتل امرأة، فالجمهور على أنه يقتل بها، أي: في العمد، وقال بعض العلماء -وهي رواية عن علي رضي الله تعالى عنه-: إن أولياء المرأة إذا أرادوا قتل الرجل فعليهم أن يدفعوا نصف الدية لأولياء الرجل؛ لأن دية المرأة على نصف دية الرجل، والجمهور يقولون: قال الله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، والمرأة نفس، والرجل نفس، فهما سواء.
واتفقوا على أنه إذا اجتمع جماعة على قتل شخص، واشتركوا جميعاً في قتله، فإنهم يقتلون جميعاً بهذا الواحد، كما قال عمر: والله! لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعاً، وذلك لحفظ الأمن؛ لأنه إذا لم تقتل الجماعة بالواحد؛ لاتفق القاتل مع آخرين، وقتلوا من أراد صاحبهم أن يقتله، لعلمهم أنهم لا يقتلون، فتسفك الدماء، ويقع الهرج في الناس، أما إذا تحقق أنهم اتفقوا وتواطئوا على قتله، فإنهم يقتلون به، ولا يوقف القتل إلا القتل كما قال الله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] ، فإذا علم من أراد القتل أنه إن قتل يقتل، كف عن قتل خصمه، وسلم هو عن القتل، فيكون القصاص قد أحيا الشخصين معاً.
وهل يقتل الحر بالعبد؟ التحقيق -وهو قول الجمهور- أن الحر لا يقتل بعبد.
وهل يقتل المسلم بكافر؟ إن كان الكافر حربياً فلا يقتل به إجماعاً، وإن كان ذمياً أو مستأمناً أو له عهد وأمان من الإمام، فـ أبو حنيفة رحمه الله قال: يقتل به المسلم؛ لأن من قتل المعاهد الذي له من الإمام عهد بالأمان فقد افتات على الإمام بنقض عهده مع هذا الذمي، والجمهور يقولون: لا يقتل به، وإنما لأوليائه الدية، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
فهذا الحكم: النفس بالنفس؛ لو عمل به الناس، لحفظت الدماء، وكانت لهم الحياة، كما قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] .(38/3)
الردة
الخصلة الثالثة: (التارك لدينه، المفارق للجماعة) ، التارك لدينه، أي: للإسلام؛ لأن أول الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلمٍ) ، فالضمير راجع إلى الإسلام.
يقول العلماء: كل من ارتد عن دينه قتل سواءً كان رجلاً أو امرأة، إلا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فيقول: المرأة إذا ارتدت لا تقتل، واستدل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل نساء المشركين، ونهى عن قتل الرهبان من أهل الكتاب، ونهى عن قتل الصبيان، وقال: (إنهم لم يقاتلوا، فلا تقتلوا إلا المقاتلة) ، فقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: فإذا ارتدت امرأة مسلمة، فهي لو كانت كافرة لا تقتل، فكيف تقتل إذا ارتدت؟ فترجع إلى ما كانت عليه قبل أن تسلم، وهو الحكم الأصلي، ولكن الجمهور يقولون: جاء في الحديث: (من بدل دينه فاقتلوه) ، و (مَنْ) من صيغ العموم، فيشمل كل مرتد، وقال الجمهور: إن المشركة التي على شركها جاهلة لا تعلم شيئاً، ولكن بعد أن أسلمت والتزمت بالإسلام فجرمها في ارتدادها عن الإسلام كبير وخطير؛ لأنها لو تركت على ردتها بعد إسلامها، كأننا نقرها على ذلك، والمرتد لا يرتد إلا وهو ساخط عن الدين، وغير راض به، فلو ترك فكأننا نقر الطعن في الدين، أو نقر الأعداء بأن الدين لا يصلح لهم، ولذا فمن ارتد بعد إسلامه فهو أعظم جرماً ممن لم يسلم بعد.(38/4)
بم تكون الردة؟
الردة تكون بأن يرجع إلى الشرك، أو يرجع إلى اليهودية، أو يرجع إلى النصرانية، وهناك أمور أخرى تلحق الفرد بالكفار: مثل سب الله أو سب رسوله، حتى قال بعض العلماء: من فعل هذا لا تقبل توبته؛ لأنها زندقة، والزندقة خفية، فلا يُعلم حقيقة توبته، وكذلك من سب المصحف، أو أهانه، أو ألقاه في مكان نجس غير لائق به، وهكذا من أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، كأن ينكر شيئاً من أركان الإسلام، فهو مرتد حتى لو نطق بالشهادتين، وهكذا لو قال: الصلاة غير واجبة، أو الصوم غير واجب، أو الحج لا حاجة إليه، أو الزكاة غير مفروضة، أو أنكر أي شيء معلوماً من الدين بالضرورة، أو قال: لا عدة على المرأة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها، فكل ذلك ردة عن الإسلام؛ لأنه يرد شرع الله الثابت بالضرورة عند المسلمين.
ومن الأسف أن بعض الناس قد يستخف ببعض السنن، وقد قال الحنابلة: من استخف بسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها سنة، فقد ارتد عن الإسلام عياذاً بالله! كمن رأى إنساناً قد وفر لحيته، وأكرمها، فهزأ به وقال: هذا رجعي، هذا متأخر، فإنها ردة عن الإسلام عياذاً بالله! فليحذر الإنسان أن يفعل شيئاً يوقعه في خطر لا يعلم مداه، أو يتكلم كلمة لا يلقي لها بالاً فيدخل بها جهنم، كما جاء في الحديث: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أربعين خريفاً) .
وقد كان الصحابة في غزوة، وكان منهم بعض ضعاف الإيمان، فأخذوا يتكلمون ويسخرون من أصحاب رسول الله، وقالوا: ما رأينا أكبر بطوناً، وأجبن عند اللقاء، من أصحاب محمد!! فجاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم كفروا، فقال تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] ، فقالوا: كنا نتحدث حديث الركب، وما كنا جادين، فلم تقبل معذرتهم، فقد كفروا بالله عندما سخروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وهكذا كل من فعل فعلاً يضر بالإسلام أو ينقض الإسلام فهو ردة والعياذ بالله!(38/5)
حكم تارك الصلاة
ترك الصلاة يدخل في قوله: (التارك لدينه) ، وقد أجمع أكثر الأئمة على أن من ترك الصلاة فإنه يقتل، ويختلفون في التفاصيل، فالأئمة الثلاثة يقولون: يعطى مهلة ثلاثة أيام، ويأمره ولي الأمر بالصلاة، فإن صلى وتاب ورجع فالحمد لله، وإلا ضربت عنقه، وأحمد رحمه الله يقول: لا يقتل حتى يخرج وقت الصلاة الموجودة، فإن صلاها وإلا قتل، وقال: أبو حنيفة رحمه الله: يضيق عليه ويحبس ولا يطعم حتى يموت جوعاً، فاتفقوا على أنه يموت إذا أصر على تركها.
ومذهب الأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأبي حنيفة رحمهم الله أن قتل تارك الصلاة حد من حدود الله، وأما الإمام أحمد رحمه الله فيقول: يقتل تارك الصلاة ردة وكفراً عياذاً بالله! والنتيجة المترتبة على هذا الخلاف: أن الأئمة الثلاثة يعاملونه في تركته وفي زوجه معاملة المسلمين، أي: أنه يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين، ويرثه ذووه؛ لأنه مسلم عاصٍ قتل في حد من حدود الله، كما لو قتل نفساً فقتل بها، وأحمد رحمه الله يقول: لا يشرع له تغسيل ولا تكفين، بل يدفن ويوارى، ولا يرثه أهله، وتركته وماله فيء لبيت مال المسلمين، ولا يصلى عليه؛ لأنه قتل ردة وكفراً والعياذ بالله! ومنهم من يقول: يدخل في عموم التارك لدينه، المفارق للجماعة الذي يخرج على جماعة المسلمين، ويقطع عليهم الطريق، ويسلب الأموال، ويعتدي على الأعراض، وقد يسفك الدماء، فهذا يقتل ويصلب، أو تقطع يده ورجله من خلاف، أو يغرب، وكل ذلك جاء في حد قاطع الطريق.
وإذا بايع الناس إماماً، ثم جاء رجل يطلب البيعة لنفسه، فإنه يقتل؛ لأنه جاء ليشق عصا المسلمين.(38/6)
الحكمة من قتل هؤلاء المفسدين وحل دمائهم
هذا الحديث النبوي الشريف يحفظ على المسلم دمه، ويبين حماية الإسلام للمسلم بقوله: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا يحل دم هذا المسلم إلا بإحدى ثلاث، فواحدة من هذه الثلاث تبيح دمه؛ لأنه بواحدة من هذه الثلاث يوقع الفساد في المجتمع، فالزاني مفسد للأنساب، لاسيما المحصن، فإن البكر ولو تكرر منه الزنا عشر فحده الجلد، رجلاً كان أو امرأة، أما الثيب فإنه لأول مرة يقتل ويرجم، ولو قال إنسان: هذا زناً ووطء محرم، وهذا زناً ووطء محرم، فكيف يكون حد البكر الجلد بلا إزهاق النفس، وحد الثيب القتل والرجم؟ لو فكر الإنسان في وصف البكر الذي لم يتزوج رجلاً كان أو امرأة لعلم الحكمة، فالمرأة البكر التي لم تتزوج، لو زلت قدمها ووقعت في الزنا، فزناها أهون من المحصنة وقد جاء في الحديث: (إن الله كتب الزنا على كل شخص، فهو يصيب ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها اللمس، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، وفي رواية: (والقلب يزني وزناه التشهي والهوى) ، فكل ذلك من الزنا، والفرج يصدق أو يكذب، فلو قدر أن فتاة بكراً زلت بها قدمها فزنت، فلو حملت من هذا الزنا هل يمكن أن تلصق هذا الولد بزوج سابق؟ لا، ويعلم الجميع أنه لا أب له، أما الثيب المرأة المتزوجة، فلو أنها زنت وحملت من الزنا، فولدها سيكون تحت مظلة الزوج، وتلحق بالزوج من ليس له، فتفسد الأنساب، ويكون هناك مفاسد كبرى، فولدها من الرجل الأجنبي يعيش مع بنات هذا الزوج كأخ لهن، وهو أجنبي عنهن، ويعيش مع هذه المرأة على أنها أمه، ويرثها، وإذا مات الزوج ورثه على أنه ابنه، وهو ليس ابناً له، ولا يحل له الميراث.
إذاً: زنا الثيب يلحق أضراراً كثيرة بالمجتمع، ويوجد في الأسرة ولداً تحت مظلة الزوج، ولو كانت مطلقة، أو توفي زوجها، ثم بعد سنة ارتكبت الزنا وجاءت بولد، فممكن أن تقول: هو من الميت أو من الزوج المطلق، فتتعلق بوسيلة ما، أما البكر فليس لها طريق عذر، وإن قدر شيء فهو محدود ومحصور وقائم بذاته، وولدها لا يلحق ولا يناط بأحد.
وكذلك حد قتل النفس فيه حكم عظيمة، فلو ترك الناس يقتل بعضهم بعضاً لانتشر الفساد في الأرض، ولما أمن أحد.
وهكذا قتل التارك لدينه، فلو ترك لكل إنسان أن يلعب بالدين كيفما شاء، لعظم الفساد والشر، وقد يقول قائل: وماذا تقول في قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] ، فيرتد أو لا يرتد فهو حر؟!! نقول: لا، آية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} سبب نزولها معروف، ولو ترك الباب مفتوحاً لكل من أراد التلاعب بالدين، لصار اليوم مسلماً، وغداً يهودياً، وبعدها نصرانياً، وعاش مع المسلمين، وورث من أموالهم، وتزوج من نسائهم، ثم ينتقل إلى النصارى بأموال وميراث المسلمين، وبعد أن علم بأحوالهم وانتقل إلى الآخرين، وهكذا ينتقل إلى الدين الثالث، ثم يرجع، ويصبح كاللولب يلعب بالأديان كلها، فهذا فساد عظيم، وإشارة إلى عدم صلاحية دين من هذه الأديان، فآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} لا تتعارض مع هذا الحديث، ولا مع هذه القضية، فنزولها كان في أول الأمر، فكان لا يكره أحد، بل يترك له الاختيار إلى أن يقتنع ويرى وينظر، ثم بعد ذلك نسخت بهذا الحديث، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... ) ، ولم يقل: حتى يتخيروا، وأتركهم على اختيارهم، وكان إذا بعث جيشاً أو سرية قال لقائدها: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فكف عنهم، وإن هم أبوا فأعلمهم أن عليهم الجزية، فإن دفعوها فكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم) ، فما ترك الناس على اختيارهم بل يلزمهم أن يختاروا الإسلام أو الجزية أو السيف، فهذا الحديث عظيم بين حرمة المسلم في الإسلام، وبالله تعالى التوفيق.(38/7)
شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس عشر(39/1)
شرح حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)(39/2)
الحث على مكارم الأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى، ونفعنا بعلومه في الدارين آمين: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) رواه البخاري ومسلم.
أكثر الأحاديث التي تقدمت تتعلق بالإسلام وأصوله، وهذا الحديث يتعلق بمكارم الأخلاق، ومكارم الأخلاق من صلب الشريعة الإسلامية، بل سر الشرائع كلها، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن الرسالة كلها، والبعثة بأكملها؛ من أجل مكارم الأخلاق، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما) وإنما أداة حصر، (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق) ، وقضية منطقية -كما يقولون- بين آية من كتاب الله وحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبين أن كل جهات وجوانب التشريع في حسن الخلق، قال الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [البقرة:177] ، وكل هذه الجوانب الخيرية من الإيمان باليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، خبر عن البر، فالبر من مجموع تلك السلسة من فضائل الأعمال والواجبات، وكلها تندرج تحت عنوان: (البر حسن الخلق) .
إذاً: حسن الخلق هو البر، والبر هو كل الخصال الكريمة التي قد تكون أصولاً أو فروعاً.
وهذا الحديث يشتمل على كثير من تلك النواحي.(39/3)
أهمية الإيمان في امتثال الأوامر الشرعية
قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) يقولون في علم اللغة: (من) مِن أدوات الشرط، وفعل الشرط هنا: (كان يؤمن بالله اليوم الآخر) ، وجواب الشرط: (فليقل خيراً أو ليصمت) ، ثم مرة أخرى: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ثم أعاد الشرط مرة ثالثة: (فليكرم جاره) ، ولو تأملنا في نصوص الشريعة لوجدنا أن الإيمان بالله واليوم الآخر قاعدة الانطلاق في العمل الإسلامي من فعل أو ترك، فما صلى إنسان، ولا صام، ولا زكى، ولا حج، ولا جاهد، ولا فعل فعلاً من أفعال الخير، ولا عف عن زنا، ولا كف عن سرقة، ولا صان دماً؛ إلا انطلاقاً من إيمانه باليوم الآخر، لماذا؟ لأنه في اليوم الآخر يجازى على فعل الخير، ويعاقب على فعل الشر، ولولا إيماننا بالبعث والجزاء والحساب، لصرنا أشبه ما نكون في غابة، فمنطلق أي عمل هو الإيمان باليوم الآخر؛ ولو أخذنا المصحف الشريف فأول ورقة فيه بعد الفاتحة، فيها قوله سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، ومن هم المتقون؟ (الذين) ، وفي علم البيان في البلاغة أن مجيء الجملة بعد الجملة معطوفة بواو فهي مغايرة؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، ولكن إذا جاءت بدون واو، فالجملة الثانية إما تفسير لما قبلها، أو جواب على سؤال فيها، أو جزء منها، فهنا قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:2-3] ، فالمتقون هم الذين يؤمنون بالغيب، إذاً: الآية جاءت مفسِّرة لما قبلها، وهي مفسرة بما قبلها أيضاً بينت من هم المتقون، وكلمة المتقين تبين لنا الذين يؤمنون بالغيب.
إذاً: علة وجود التقوى عند المؤمن هو إيمانه بالغيب، وعطف على الإيمان بالغيب توابع: يقيمون الصلاة، يؤتون الزكاة، ومما رزقناهم ينفقون، والإيمان بالماضي، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ، فكأنهم يرون القيامة بين أعينهم يقيناً، ما هو مجرد تصديق، بل يقين، ومراتب علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.(39/4)
حفظ اللسان
الإيمان بالغيب، واليقين باليوم الآخر، هو سبيل الهداية، ونتيجته الفلاح، من كان بهذه الصفة يؤمن بالله، ويوقن باليوم الآخر، ويريد أن يكون على هدىً ثابت، ومن الفالحين، فليقل خيراً أو ليصمت، يا سبحان الله! المقدمة الكبيرة، وفعل الشرط هو (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) ، ماذا يصير في الدنيا؟ كلمة بسيطة: (فليقل خيراً أو ليصمت) ، وهذا يعطي المسلم مدى خطورة الكلمة التي يتكلم بها، فإذا كنت بهذه المثابة من الإيمان بالله وباليوم الآخر، فانتبه! وحاذر من الكلمة التي تتكلم بها، وانظر ماذا تقول؛ لأنك ستسأل عنه، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، (فليقل خيراً أو ليصمت) لأن السكوت خير من الكلام بغير فائدة، والحديث عن الكلمة الخيرة والكلمة السيئة باب واسع، والله سبحانه وتعالى ضرب المثل الملموس المحسوس، {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24-25] ، أكبر شجرة يمكن أن تثمر في السنة مرتين، إذا كانت التربة خصبة، والنوع جيداً، لكن هذه كل حين، لا بخصوبة التربة، بل بإذن ربها؛ ولذا قالوا: هي كلمة لا إله إلا الله، اللسان أخطر ما يكون على الإنسان كما جاء في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه، عندما قال له صلى الله عليه وسلم: (احفظ عليك لسانك، فقال: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!) وبعض السلف كان يخرج لسانه ويمسكه ويقول: اتعبتني، وفي بعض الآثار أن الإنسان حينما يصبح فكل الأعضاء تناشد اللسان أن يقيها النار، وتخاطب اللسان وتقول: اتق الله فينا! ويقول علماء التربية الإسلامية: كل عضو خارجي مفتوح ما عدا اللسان فعليه قفلان: فك الأسنان والشفتان، ومع هذا يتفلت منهما، وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً خطر الكلمة: (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً) ، يستهين بها ولعل فيها هلاكه! كالذين تناولوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام أهلكهم وأوبقهم، فقد يصاب الإنسان ويقتل بكلمة يقولها بلسانه، وكما قالوا: جرح اللسان ليس له التئام، وجرح السنان قد يلتئم.
ومن تعاليم الإسلام تعويد هذا اللسان على نطق الخير، وزجره والحذر منه، حتى لا ينطق بكلمة سوء ولو كانت في محلها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوا الشيطان، واستعيذوا بالله منه) ، يقول بعض العلماء: هو ملعون فلن تأتي بشيء جديد، بل يخاف عليك أن تتعود هذا اللفظ فتوقعه في غير محله، فتبوء بإثمه عياذاً بالله! وفي بعض الروايات: (فإنه يتعاظم في نفسه) ، فلا تعود لسانك النطق بهذه الكلمة، وإذا كان الإنسان يتحرى قول الخير أو يصمت عن الكلام، فلن يقع في غيبة، ولن يقع في نميمة، ولن يقع في كذب، ولن يقع في تدليس، وكل المخاطر يتجنبها.(39/5)
إكرام الضيف
يأتي القسم الثاني من الحديث بتلك المقدمة أيضاً: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ، إكرام الضيف من مكارم الأخلاق والمروءة، والشخص كريم المعدن لا شك أنه يؤثر ضيفه على نفسه، وغير خافٍ علينا قصة أبي طلحة حينما جاء ضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى بيوت زوجاته أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن أجمعين يسأل عن قرى للضيف، وكل واحدة تعتذر بأنه ليس عندها عشاء، الله أكبر! زوجات رسول الله وما عند واحدة منهن قرى للضيف!! لا إله إلا الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: (من يستضيف ضيفي الليلة وله الجنة؟) ، فقام أبو طلحة وأخذ الضيف إلى بيته، وقال لزوجه: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ليس عندي ما أكرمه، إنما يوجد عشاء عيالي، وهي معذورة، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ابدأ بنفسك) ، فقال: علليهم حتى يناموا، وإذا ناموا فأحضري العشاء، فأجلس أنا والضيف للأكل، وقومي أنتِ واعمدي إلى السراج كأنك تصلحينه فأطفئيه، وأنا سأمد يدي مع الضيف ليشعر أني أشاركه الأكل، وسأرفع يدي خالية من الطعام، وأوفر الطعام للضيف، فتطيع المرأة الكريمة زوجها، وتعين الزوج الصالح على فعل الخير، ولم تضع العقبات، ولم تتوجع لأطفالها، إنما فعلت كل ما طلب منها، فأكل الضيف وشبع، وباتوا جائعين! فماذا كانت النتيجة؟ لا يخفى على الله شيء، فهو عالم بكل شيء، سميع بصير، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يستقبل الرجل ويبتدئه بقوله: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة!) وهو صنيع ليس بالهين، وحيلة لكن لمرضاة الله.
ولو قلبنا صفحات الماضي لوجدنا اليهود يحتالون على استحلال ما حرم الله، حينما حرم عليهم الشحوم، جملوها وأذاوبها وباعوها، واشتروا بثمنها ما يأكلونه، فلما أنكر عليهم قالوا: نحن ما أكلنا الشحوم أبداً!! ولما منعوا من العمل يوم السبت، وامتحنوا بالحيتان {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] احتالوا، فألقوا الشباك يوم الجمعة، وعلقت فيها الحيتان يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، وقالوا: ما عملنا شيئاً يوم السبت! حيلة يتوصلون بها إلى استحلال ما حرم الله.
وأما حيلة ذاك الصحابي فليتوصل بها إلى مرضاة الله، حقاً قال الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة) ، وفي حديث آخر أن رجلاً قال: (أويضحك ربنا يا رسول الله؟! قال: نعم قال: ما عدمنا خيراً من رب يضحك) .
وأحذرك ثم أحذرك! أن تفتح المجال لمخيلتك وذهنك وتفكر كيف يضحك، لا تفكر في ذات الله، ولا يتوجه السؤال إلى الله بالكيفية أبداً، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، إنما نثبت لله ما أثبته لنفسه، وهو أعلم بذلك، ونثبت لله ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا أحد أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأسماء والصفات توقيفية، قال الإمام الشافعي رحمه الله: نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، ونؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، والإمام ابن تيمية رحمه الله الذي ولد في القرن السابع يقول: نحن أمرنا بإيمان إثبات، لا بإيمان تكييف، وكما قال الإمام مالك لما سأله رجل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأراك مبتدعاً أخرجوه عنا.(39/6)
حد إكرام الضيف
يذكرون في كتب الفقه أن للضيف ثلاثة أيام، ولكن متى؟ حينما لا يكون للضيف مأوى، أما في المدن فإنه توجد فيها الفنادق، وشقق مفروشة، فليس من حق الغريب أن يطرق أي باب ويقول: أعطني حق الضيافة ثلاثة أيام!! نقول له: لا، أبواب الفنادق مفتحة عندك هناك، لكن إذا كان في البادية وفي القرى، وليس هناك مأوى له، فيجب على أهل القرية كلهم، أن يستضيفوه ثلاثة أيام.
إذاً: مكارم الأخلاق في الإسلام قد تصعد إلى درجة الواجب، ومما جاء في عهود أهل الصوامع، أنهم يُقْرون من يمر بهم في الطريق، وكانوا يفعلون ذلك، والكرم من أفضل خصال الخير، وكما يقول علماء الأدب: الكرم يغطي كل نقيصة.
ويقول علماء الأخلاق: الكرم والشجاعة صنوان، ولا تجد كريماً جباناً أبداً، ولا تجد شجاعاً بخيلاً أبداً؛ لأن الشجاع: يجود بالنفس إن ظن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود فإذا كان يجود بنفسه فهل سيبخل بالمال أو بالحيوان؟ لا، ومن حق الضيف على مضيفه أن يقدم له طعامه وشرابه، وأن يدله على موضع وضوئه، وأن يحضر له الماء وكل ما يحتاجه، ومن حق المضيف على ضيفه ألا ينتقص طعامه، وألا يتكلم على نواقص وقعت عليه، وأن يستر ما يرى من أهل البيت، إلى غير ذلك مما يذكره العلماء في آداب الضيافة.(39/7)
إكرام الجار
القسم الثالث من الحديث هو أعظمها وأخطرها، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) ، حق الجار عظيم في الإسلام، ولا أعتقد أن هناك قضية أوسع منها، اللهم إلا قضية بر الوالدين، فينبغي تأمل الأحاديث الواردة فيما يتعلق بالجار، وفي مقدمة الآثار الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، وهذا الحديث مذكور في كتب السنن كلها، وفي بعض الروايات عن بعض الأنصار قال: ذهبت إلى النبي عليه الصلاة والسلام مع أهلي لحاجة يريدونها، فوجدته قائماً مع رجل يحادثه ويغاير بين قدميه من طول القيام حتى أشفقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام، ثم قلت: يا رسول الله! من هذا الرجل الذي أطال القيام معك؟ والله! لقد أشفقت عليك من طول قيامك، وأنت تغاير بين قدميك! فقال: (أورأيته؟) قلت: نعم، قال: (هذا جبريل لا زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، وقف طويلاً حتى جعل يغاير بين قدميه، ولماذا هذه الوقفة الطويلة؟! ليوصيه بالجار.(39/8)
حق الجار الكافر
قال عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في الأدب المفرد للبخاري -: (ذُبحت شاة في بيته فقال لغلامه: أعط فلاناً، وأعط جارنا اليهودي، فقال الحاضرون: اليهودي يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار، ويقول: (لا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) .(39/9)
أقسام الجيران
الجار على ثلاثة أقسام: القسم الأول: الجار المسلم القريب، وله ثلاثة حقوق: حق الإسلام -الأخوة الإسلامية- وحق الجوار، وحق القرابة -صلة الرحم-.
القسم الثاني: المسلم غير القريب، وله حقان: حق الإسلام -الأخوة الإسلامية-، وحق الجوار.
القسم الثالث: الجار غير المسلم، كيهودي أو غيره: له حق واحد، وهو حق الجوار.
ومما يروى في ذلك أن الإمام أبا حنيفة كان له جار يؤذيه، وفي يوم من الأيام لم يجد علامات الإيذاء التي تعود عليها، فسأل عن جاره، فقالوا: إنه في السجن، فسأل عن السبب؟ فقالوا: سجنه الوالي لأمر ما، فذهب إلى الوالي وشفع عنده بأن يطلق هذا الشخص، ولم يعلم الجار بالذي شفع له، فجاءه أمر الإطلاق من السجن، فذهب يسأل لأي شيء أطلقت؟ فقالوا: جاء جارك فلان، وشفع فيك، وعفا عنك الوالي، قال: جاري فلان!! وتذكر إيذاءه له، وكيف قابل إساءته بالإحسان، فذهب يعتذر إليه، وعاهد الله ألا يؤذيه.
ويذكر لنا بعض شيوخنا في المدينة، وهو الشيخ عبد الرحمن الإفريقي رحمه الله، أنه كان يسكن في المدينة، وأولاده يلعبون مع أولاد الجيران، فتشاجر الأولاد مع بعض، فجاء والد أحد الأولاد وضرب ولد الشيخ، وذهب الأولاد واشتكوا، فأخذ الرجل وحبس، وفي الظهر علم الشيخ بذلك، فقال: أين الرجل؟ قالوا: محبوس، فذهب بنفسه إلى الشرطة وقال: هذا ولدي، وأنا وليه، وليس لنا دعوى على أحد.
والذي يهمنا التأكيد على حقوق الجار، سواء كان أجنبياً أو كان قريباً مسلماً، أو غير مسلم، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان له خادم يهودي، فمرض هذا الخادم، فسمع صلى الله عليه وسلم بأن خادمه اليهودي مريض، فقال لمن عنده: (هلموا بنا نزوره) ، سيد الخلق يزور خادماً يهودياً، فالعوام يقولون: اجتمعت فيه الخستان، كونه خادماً، وكونه يهودياً، ولكن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم تطغى على هذا كله، فذهب ومعه أصحابه، فوجد الخادم في النزع، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فنظر الغلام إلى أبيه وكان عند رأسه، فقال الأب للغلام: أطع أبا القاسم يا بني! فنطق بالشهادتين ومات في الحال، فقال صلى الله عليه وسلم لمن معه من أصحابه: تولوا أمر أخيكم) ، لأنهم صاروا أولى به من أبيه؛ لأنه دخل في جماعة المسلمين.(39/10)
حد الجوار
من هو الجار؟ ذكر البخاري في الأدب المفرد عن بعض السلف مرفوعاً وموقوفاً أنه إلى أربعين بيتاً، أربعين عن يمينك، وأربعين عن يسارك، وأربعين من أمامك، وأربعين من ورائك، وإذا نظرنا إلى دائرة قطرها أربعون بيتاً، فهي حد الجوار، ولو نظرنا إلى جيران آخر بيت في هذه الدائرة، لوجدنا أن كل المدينة ستدخل في الجوار، ولا يبقى في المدينة العظمى بيت إلا وله جيران إلى أربعين بيتاً، وحد الجوار يشمل القرى، فكل قرية مجاورة للقرية الأخرى لها عليها حقوق الجوار، وكذلك حد الجوار يشمل الدول والأقطار، فتدخل كل دول العالم تحت هذا الحديث، ولو أدى كل جار حق جاره، لكان العالم كله متواصلاً كخيوط الشبكة.(39/11)
من الأولى بحق الجوار؟
الأولى بحق الجوار الأقرب، كما جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يا رسول الله! عندي جاران، فلمن أهدي منهما؟ قال: (لأقربهما باباً) .
بماذا يكرم الجار؟ إذا رجعنا إلى مصالح المجتمع، نجد كل إنسان يعمل لجلب نفع له، ولدفع ضر عنه، فكل ما فيه نفع لجارك فيجب أن تبذله له ما استطعت، وكل ما فيه مضرة عليه فمن حق جارك عليك أن تدفعه عنه؛ ولهذا رأى ابن مسعود رجلاً يجري فقال له: ما لك؟ قال: أستدعي الشرط -الشرطة- قال: لماذا؟ قال: لجاري، قال: ما به؟ قال: يشرب الخمر، قال: هل نصحته؟ قال: لا، قال: ارجع فانصحه أولاً بينك وبينه، فمن حق الجار النصيحة.
ومن حق الجار على جاره أن يحفظ له ماله، كما يحفظ مال نفسه، فلا تجوز إساءته في دوابه ومتاعه، ذكر البخاري في الأدب المفرد أن امرأة جاءت إلى عائشة رضي الله عنها وقالت: إن أحدانا يطلبها زوجها فتمتنع -إما مريضة وإما متعللة- فهل عليها من شيء؟ قالت: نعم، لو دعاها زوجها وهي على رأس جبل، لكان عليها أن تجيب، وأحدثك أني كنت بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراشه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً، وعندي قدح شعير، فطحنته وصنعت قرصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من عادته إذا خرج أن يقفل الباب معه، فخرج وترك الباب مفتوحاً، ودخلت داجنٌ لجارنا، ثم جاء صلى الله عليه وسلم إلى فراشه، وجئت جواره، فنهضت الداجن إلى قرص الشعير فنهضت إليها، فقال: (على رسلك يا عائشة! خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذ جارك في شاته) ، فهذا قرص واحد، والرسول صائم، ومنتظر للمغرب، وتأتي الداجن -وهي الشاة- وتخطف القرص، وعائشة أخذته منها، وأرادت أن تؤذيها، فقال: لا، لا، بالرفق، (خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذ جارك في شاته) ، وهذا يعني أن دواب جارك لو جاءت لزرعك، أو دخلت بيتك، فلا تؤذها، وإنما كف أذاها عنك بالرفق.
إذا كان الحفاظ على الجوار إلى هذا الحد، فكيف يكون ما عدا ذلك؟! لو غضب جارك عليك، لو أساء إليك، لا تبادر بالانتقام.
إذاً: حقوق الجار من الحقوق الاجتماعية العامة التي يجب أن تكون بين الأسر والبيوت والأفراد، ليرتبط المجتمع كله بعضه مع بعض، وهذا الجوار ليس في البيوت فقط، بل حتى في الدكاكين وفي الوظائف والعمل إلخ.
والمفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) ، أن من لم يكرم جاره، ومن لم يكرم ضيفه، فليس إيمانه مكتملاً باليوم الآخر، وكذلك من لم يحفظ لسانه! الخلاصة: هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وينبه فيه عليه الصلاة والسلام على نقاط ثلاث: حفظ اللسان، والحذر من مساوئه قدر المستطاع، وألا يتكلم العبد إلا فيما هو خير، وكذلك ترابط المجتمع وتأمين السبيل لذلك بإكرام الجار وإكرام الضيف، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة والله وبركاته.(39/12)
شرح الأربعين النووية - الحديث السادس عشر(40/1)
شرح حديث: (إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أوصني ... )(40/2)
التعليم بالسؤال والجواب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوصني، قال: لا تغضب، فردد مراراً، قال: لا تغضب) رواه البخاري] .
إن هذا الحديث النبوي الشريف من أبين وأظهر الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، وذلك أنه حديث في كلمة دخل عليها حرف النفي، ومدلولها ومعطياتها يعجز الإنسان أن يوفيه حقه.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً) ، من هو هذا الرجل؟ لا يعنينا، لأنه صحابي، والراوي صحابي، والحادثة وقعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجواب سمعه أصحابه رضي الله تعالى عنهم.
رجل صحابي سأل النبي، وهذه نعمة كبرى على أصحاب رسول الله، فما إن تعرض لهم حاجة، أو يقعون في مشكلة، أو تتجدد لهم الأحداث إلا ويهرعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه فيجابون.
والسؤال والجواب من أعلى أساليب التعليم والتربية، وقد جاء هذا الأسلوب في كتاب الله، واعلم أن السؤال إما أن يكون عن حاجة واستفهام وطلب المعرفة، وإما عن تعنت وتعجيز، وكل ذلك جاء في القرآن الكريم، والله سبحانه أجاب على تلك الأسئلة كلها، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (إن هذه الأمة أقل الأمم سؤالاً لنبيها، سألوه اثني عشر سؤالاً) ، والمتتبع لهذه الأسئلة في كتاب الله يجدها عملية واقعية إلا ما تدخّل فيها عنصر اليهود.(40/3)
أسئلة الصحابة المذكورة في القرآن
فمن الأسئلة العملية التي جاءت في القرآن: قال الله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:215] سألوه مرتين: مرة بنوعية الإنفاق، ومرة بمصرف هذا الإنفاق، فقال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] أي: ليس كل المال، كما جاء في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام:141] ، قالوا: (وَلا تُسْرِفُوا) في الحق الذي تخرجونه، فلا تتصدقوا بكل الثمرة، فتتركون الأهل والولد جياعاً، وقيل: (وَلا تُسْرِفُوا) راجعة على الأكل المتقدم ذكره، أي: كلوا بدون إسراف، بل بتوسط، وكما قال الله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29] والسؤال الآخر: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] ، فبين الله الأصناف الذين هم أحق بالبداءة والأولوية، وهو أمر عملي.
وقال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222]-وهو أمر يخالط البيوت- {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] .
وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217] وهذه أمور واقعية.
وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْر} [البقرة:220] واليتيم فرد من المجتمع.
وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، فقارن بينهما ورجح الإثم.
وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105] ، وهنا قال: (فَقُلْ) ولم يقل: قل.(40/4)
من أسئلة المشركين المذكورة في القرآن
وقد دل اليهود المشركين على أسئلة التعنت والتعجيز لما جاء المشركون إلى اليهود فقالوا: أنتم أهل كتاب؟ فأعطونا شيئاً نسأل به هذا الرجل لنسكته، فقالوا: سلوه عن ثلاث: عن رجل في سالف الزمن خرج من المشرق إلى المغرب، ما شأنه؟ وعن فتية آمنوا بربهم وخرجوا، ما شأنهم؟ وعن الروح؟ فإن سكت عن الجميع فهو كاذب فشأنكم به، وإن أجابكم عن بعضها وسكت عن بعضها فهو صادق، فجاءوا وسألوه، وجاءت الإجابة بقدر
السؤال
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9] ، وبيّن سبحانه قصتهم وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبي} [الإسراء:85] ، وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83] ، وكان رجلاً في سالف الزمن، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقرأ التاريخ، ولم يعاصره، ولم يبلغه عنه شيء، فقص الله قصته للتحدي وللإعجاز، وسؤالهم ليس عن رغبة في فائدة يتحصلون عليها من وراء هذا السؤال، فجاء الجواب دون كل الأسئلة: {قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:83] ، أي: سأقرأ وحياً ينزل عليّ، ويكون هذا الذكر باقياً إلى الأبد: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ} [الكهف:84] إلى آخر السياق، وفيها طوافه من المشرق إلى المغرب، وما كان منه في الطرفين، وما فعل مع يأجوج ومأجوج، إلى آخر قصته وفيها ما لم يكن عند اليهود من خبره في ذلك.(40/5)
سؤال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه
وقد يكون السؤال من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ليفتح الذهن، ويختبر الذكاء، ويجعلهم يتطلعون إلى الجواب، ويفتشون عن الإجابة، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخبروني بشجرة تشبه المسلم لا يتحات ورقها) قال ابن عمر: وأخذ الناس يخوضون في شجر البوادي، وخطر ببالي أنها النخلة، واستحييت أن أتكلم مع كبار الناس، فقال له أبوه: والله! لو كنت تكلمت بها، لهو خير لي من الدنيا وما فيها، والرسول كشفها عندما عجزوا عنها فقال: (هي النخلة) .
وقال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! أتدري -وهذا سؤال استفهام- ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟) ، والرسول صلى الله عليه وسلم يسأل معاذاً: (أتدري؟) ، وهو يعلم أن معاذاً لا يدري، ومن له علم بذلك، فلماذا السؤال وهو يعلم أنه لا يعلم الجواب؟ يقولون: حينما يأتيك جواب عن قضية عابرة يمر الجواب بسمعك عابراً، ولكن حينما تُسأل وأنت لا تعلم، تتفاعل في نفسك وتطلب الجواب والمعرفة فلا تجد، فتقف وكلك استعداد لتلقي وقبول الجواب الذي يأتيك، فيرسخ في قلبك.
ومن هنا نعلم جميعاً أن معاذاً تشوق إلى الجواب، فأخبره صلى الله عليه وسلم بعدما استجمع حسه وقواه لتلقي الإجابة، فقال: (حق الله على العباد كذا، وحق العباد على الله كذا) .(40/6)
سؤال الصحابة لزوجات النبي عليه الصلاة والسلام
وقد كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرسلون مع زوجات رسول الله أسئلة مما يتعلق بشأن البيوت، فكان السؤال والجواب أقوى وسيلة لتلقي أصحاب رسول الله العلم عن الله وعن رسول الله وعن زوجات رسول الله.
وكان عمر رضي الله تعالى عنه في مسجد رسول الله فاختلف عنده رجلان من الصحابة، فيمن يأتي أهله فيكسل ولم ينزل، أيغتسل، أم لا؟ فقائل يقول: لا غسل عليه، لحديث: (إنما الماء من الماء) ، وقائل يقول: عليه الغسل لحديث: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل) .
فسأل علياً رضي الله تعالى عنه: ما تقول أنت -يا علي! - في هذه المسألة؟ فقال علي: لا تسألني ولا تسأل غيري، دونك زوجات رسول الله فأرسل إليهن وسلهن، فيرسل إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، فأخبرتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويغتسل، قالت: وسمعته يقول: (إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل) ، فرجع الرسول وأخبر عمر، فقال: لئن سمعت أحداً يقول: لا غسل عليه، لأجعلنه مثلة لغيره، وانتهى الخلاف، وقال أُبي: يا أمير المؤمنين! لا تعجل، أنا أخبرك عن هذا: في بادئ الأمر لم يُعزم علينا بالغسل، ثم في آخر الأمر عزم علينا به.(40/7)
البحث في سبب الخلاف من وسائل ترجيح الروايات
وهذا منهج من مناهج البحث في سبب الخلاف، وترك التعصب للرأي، وجمع الأحاديث بعضها مع بعض، فالذين قالوا: لا غسل، دليلهم ما كان في أول الأمر، والذين قالوا بالغسل، دليلهم ما استقر عليه الأمر بعد ذلك، ولا مانع في ذلك.
وفي زمن مروان بن الحكم، وهو أمير على المدينة، اختلفوا عنده فيما يتعلق بالصائم في رمضان إذا أصبح جنباً -أي: أجنب بالليل، ولم يغتسل حتى طلع الفجر وهو جنب- والجنابة أثر من الوطء، فهل الأثر له فعل المؤثر، وصيامه باطل لأنه أثر الجنابة، والجنابة تبطل، أم لا؟ فتساءلوا، وقال قائل: إن أبا هريرة أخبرني أنه لا صيام له، فأرسل رجلاً إلى أم المؤمنين عائشة وسألها: فقالت: (كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا احتلام ويصبح صائماً) ، فأرسل الرجل إلى أبي هريرة، وهو بوادي العقيق، ليسأله عن رأيه، ويخبره بما قالت أم المؤمنين، وهذا منهج عملي في تتبع الخلاف في الروايات، فلما جاءوا إلى أبي هريرة وأخبروه، قال: أوقالت ذلك؟ قالوا: نعم، قال: أنا أخبرني مخبر، يعني: ما سمعت ذلك مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهل ترجح رواية من قال: أخبرني مخبر، أو رواية عائشة عن رسول الله؟ هكذا يكون ترجيح الروايات، وهذا منهج عملي لمعرفة الراجح من الخلاف فيما يصلنا من الروايات المتعارضة في الظاهر.(40/8)
طلب الصحابة للوصية من رسول الله من وسائل التعلم
فأصحاب رسول الله يسألونه عن الحلال والحرام، ويطلبون منه التوجيه في كل ما يعرض لهم، وهذا الرجل طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم النصيحة، وجاء في بعض الروايات أنه أبو الدرداء، وقال: (يا رسول الله! أوصني وأوجز) ، أي: أوصني بوصية ولا تكثر لعلي أعقل، أو لعلي أحفظ، والوصية من وصى، والمادة اللغوية وَصِيَ، وصية، على وزن فعيلة، والوصية من وَصِيَ، فحروف مادتها: الواو والصاد والياء.
وتجد كلمة أخرى شبيهة بها في مادتها، وهي: وَصَلَ، فالواو والصاد موجودتان في الكلمتين، وتختلف الوصية من أنها تنفرد بالياء، والوصل ينفرد باللام.
يقول علماء فقه اللغة: إذا وجدت كلمتان تتفقان في أكثر الحروف، وتختلفان في حرف واحد، فبينهما صلة قرابة، والفرق بينهما هو الفرق بين الحرفين المختلفين، ويمثلون لذلك بقولهم في اللغة: خَبَنَ وغَبَنَ، فالخبن هو: التقصير من طول الثوب، والغبن: النقص في القيمة، فيقال: فلان مغبون في السلعة، أي: اشتراها بعشرة وهي تساوي خمسة، فنقص عليه من الثمن وصار بدون مقابل، أو باع السلعة بخمسة وهي تساوي عشرة، فهذا غُبن في خمسة ذهبت عليه، فالغبن والخبن كلاهما يشترك في معنى النقص.
لكن الخبن: في نقص الثوب وتقصيره، والغبن: في نقص القيمة وتقديرها.
ومن دقة اللغة العربية وبلاغتها أنهم غايروا بين الغين والخاء، فنظروا إلى أن الغين أدخل في الحلق، والخاء أظهر، وكلها من حروف الحلق، وهي: الهمزة والهاء والعين والحاء والغين والخاء، فلما كان الغبن أمراً معنوياً، والغين أدخل في الحلق، جعلوا الغين مع الغبن من النقص المعنوي، ولما كان الخبن في المحسوسات، جعلوا الخاء التي هي أظهر من الغين في المعنى الملموس.
إذاً: وصى ووصل متقاربتان، والوصية صلة للموصى إليه، ولذا قال الله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، وقال: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] ، والوصية للوالدين والأقربين هي صلة لهم بما يوصي به، ومن هنا فمعنى: أوصني، أي صلني بمعروفك يا رسول الله! تقول: أوصيك يا فلان! أي: أصلك بخير وأمنحك إياه.(40/9)
من وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام
الوصية صلة لمن توجهت إليه، سواء وصايا الله لخلقه أو وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ولا تصدر الوصية بين الناس إلا في معرض الشفقة والرحمة، فلا تجد عدواً يوصي عدوه، إنما تجد الموصي هو الصديق المشفق القريب، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ إني أحبك) ، فقدم قوله: (إني أحبك) ومن محبته قال له موصياً: (لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وكانت فاطمة رضي الله تعالى عنها تعمل على الرحا حتى اشتكت من أثرها في يديها، فسمع علي أن النبي جاءه سبي فقال لها: اذهبي لأبيك ليمنحك خادماً، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال (ما الذي يمنعك أن تعملي بما أوصيك به؟ لا تدعي دبر كل صلاة أن تقولي: يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) ووصية الرسول لـ فاطمة أخص من وصية أي والد لولده؛ لأن الوالد هنا ليس ككل الوالدين، والولد ليس ككل الأولاد، وقد قال: (فاطمة بضعة مني) .
إذاً: الوصية مصدرها الشفقة والرحمة وحب الخير.(40/10)
استيعاب قليل العلم خير من تضييع كثيره
هنا أبو الدرداء أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يوصيه، فبماذا أوصاه؟ هناك قال لـ معاذ: (لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وهناك وصايا عديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور متعددة، ويهمنا في هذا الموقف وصيته لهذا الرجل الذي طلب وصية رسول الله، وتحفظ في طلب الوصية فقال: لا تكثر عليّ لعلي أعقل، والمراد بالعقل هنا: الإدراك، والحفظ، قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، ولم يقل: يحفظه؛ لأن الفقه هو: الفهم، والفهم ثمرة الحفظ، كما جاء في الحديث: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لرغبة السائل لم يكثر، فقال: (لا تغضب) ، فكأن لسان حال السائل يقول: أهذه الوصية التي جئت من أجلها، وتعبت لأسألك، وأهتم لذلك، ثم تقول لي: (لا تغضب) ، فكرر: (يا رسول الله! أوصني، قال: لا تغضب) .
وفي بعض الروايات أنه جاءه عن يمينه ثم جاءه عن يساره ثم جاءه من أمامه، قال: (ألا تعقل! لا تغضب) ، وفي بعض الروايات أنه قال: أوصني، علمني حسن الخلق، فقال: (لا تغضب) ، وكل الروايات جاءت بالتأكيد على عدم الإكثار، فقال: (لا تغضب) فهذه كلمة كل من يسمعها يتقالها، وفي بعض الروايات أن السائل قال: (فتأملت في الغضب فوجدت تركه ترك الشر كله) .
وفي بعض الروايات: (فتأملتها فإذا هي جامعة الخير كله) ، هذه الكلمة يقف عندها علماء الأخلاق، كما فعل ابن مسكويه، ويقف عندها علماء التشريع في الفقه، في آثار فعل الغضبان، ويقف عندها علماء التربية والتوجيه.(40/11)
تهذيب الإسلام للغرائز
فالغضب غريزة، والأخلاق مجموعة غرائز، مثل: الحلم والغضب والشجاعة والجبن والكرم والبخل، فكل هذه غرائز جبل عليها الإنسان، ولا يمكن لإنسان أن يغير غريزة في نفسه، والإسلام ما جاء لينتزع الغرائز، ولكن جاء ليهذبها، ولذا لما جاء وفد عبد القيس من البحرين، تسارعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأخر أشج عبد القيس، فجمع الرواحل وعقلها، وجمع المتاع وحفظه، ثم جاء إلى عيبته، وأخرج حلته، ولبس أحسن ثيابه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الشريف، فهو قد تأخر عن أصحابه، بينما أصحابه أول ما وصلوا المدينة أسرعوا إلى رسول الله، حيث جاءوا من مسافة شهرين ليروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قلوبهم المحبة العظيمة، والأشواق الكبيرة للالتقاء برسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن هو تأخر، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قادماً، أفسح له مكاناً بجواره، وقال له: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله! خلق تخلق به أم جبلة جبلني الله عليها؟ قال: بل جبلة جبلك الله عليها) والجبلة: الخلقة.
إذاً: الغرائز جبلات لا يمكن أن تنتزع، والإسلام ما جاء لينتزع الغرائز ولكن جاء ليهذبها، ويقال: إن الغضب محله القلب، وهو غريزة سبعية، فالأسد يغضب، وكلٌ من الرحمة والرضا غريزة إنسانية وحيوانية، ومحلها الكبد كما يقولون، والفكر والإدراك والذاكرة والتريث والتعقل محلها العقل، وهل العقل في الدماغ أو في القلب؟ هذه مسألة مختلف فيها بين الفلاسفة والفقهاء.(40/12)
في الإنسان ضابط لغرائزه
تميز الإنسان بغريزة العقل وقالوا عنه: حيوان ناطق، أي: مفكر، واشترك مع الحيوانات في غريزتين: الغضب في السبعية، والرحمة والصلة، فإذا غلب على الإنسان جانب الحيوانية كان كالسبع، وإذا غلب على الإنسان جانب العاطفة كان أقرب إلى عالم آخر هو عالم الملائكة، والذي يتحكم في ذلك هو العقل، كما قال عنه صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة -أي الذي يصرع الناس- ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) ، ولذا قال ابن المبارك: القوي الناجح التقي -فعلاً- من يملك نفسه عند أربع: الرغبة، والرهبة، والشهوة، والغضب، أعتقد أنه لا يقوى على هذا إلا الأبطال، فالرغبة: حينما ترى موضع الطمع؛ تجلد، اصبر، لا تندفع، يقول الشاعر: إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل والرسول صلى الله عليه وسلم مدح الأنصار بصفة كاملة، فقال: (إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع) ، قياس عجيب، ومقابلة بديعة، عند الطمع حينما تستشرف النفوس، وعند العطاء، وعند وجود الخير، حينما يتطلع كل إنسان ليحصل على أكثر ما يكون؛ يقلون، ولا ظهور لهم، تعففاً واستغناءً، وعند الفزع والنجدة يكثرون، الواحد منهم كعشرة من غيرهم، والله امتدحهم في قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} يوقى هذه الغريزة وهي شح النفس {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .
وامتلاك النفس عند الشهوة، كحديث النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وجاءت الصخرة وسدت عليهم فم الغار، فما أنجاهم الله إلا بعد التوسل بخالص أعمالهم، لا بزيد ولا بعمرو، فلم يكن يعلم بمكانهم أحد، ولا يقوى مخلوق على إسعافهم، فقاموا وبينوا لنا الطريق السليم في التوسل إلى الله، وهو التوسل بالعمل الصالح، فيتوسل أحدهم بإيتاء الأجير حقه، ويتوسل الآخر ببر والديه وتقديمهما على أولاده، ويتوسل الآخر بهذا الموقف الخطير حيث قال: إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها أشد ما يحب الرجل المرأة، فراودتها عن نفسها فامتنعت، فأخذتها سنة من السنين المجدبة، فجاءت تطلب عشرين ديناراً، فقلت لها: أعطيك على أن تخلي بين وبين نفسك!! ثم دفعتها الحاجة، قال: فلما أجابت وجلست منها مجلس الرجل من المرأة، غطت وجهها حياءً وقالت: يا هذا! اتق الله ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت لها الدنانير، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فتدحرجت الصخرة، وخرجوا يمشون في الفضاء، موقف عجيب! لو جيء (بونش) ليقيم الإنسان وهو تحت تأثير رغبته وشهوته ما استطاع أن يرفعه إلا وهي معه، ولكن مخافة الله أيقظت فيه الضمير عندما قالت له: (اتق الله) ، وتقوى الله هي كل شيء.
فليملك الإنسان نفسه عند الشهوة، وعند الغضب كذلك، ففي هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (لا تغضب) ، وفي بعض الروايات: (لا تغضب فإن كثرة من في القبور من الغضب) نعم، فتشوا، وشكلوا لجاناً، وكل منكم يسأل: هل طلق زوج زوجته إلا بغضب؟! وهل قتل القاتل إلا بغضب؟! وهل اغتصب غاصب مغصوباً إلا بغضب؟! وهل اعتدى إنسان على إنسان إلا بغضب؟!(40/13)
أنواع الغضب
الغضب هو الدافع لكل شر، والعبد إذا غضب خرج عن طوره، ولم يعد يعقل.
أذكر قبل حوالي عشرين سنة أني كنت قرأت مقالاً لبعض الأطباء، يقول: الغضب ثلاثة أقسام: غضب أخضر، وأسود، وأحمر.
الغضب الأخضر: وهو ممدوح ومطلوب، وذلك إذا كان لحرمات الله، ويكون في محله، ويكون لمصلحته، فالرسول صلى الله عليه وسلم (كان إذا رأى حرمات الله تنتهك يغضب لله) فلما جاء أسامة -حب رسول الله وابن حبه- يشفع في المخزومية التي سرقت، غضب وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟ والله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!) فكان يغضب ولا يقول إلا حقاً، كما قالوا لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: إنك تكتب كل أحاديث رسول الله وهو بشر يغضب ويرضى، فذهب إلى رسول الله فقال: يا رسول الله! يقولون: كذا، وكذا، قال: (اكتب كل ما سمعت، والله! إني لا أقول إلا حقاً في غضب أو رضا) .
والغضب الأحمر هو: الغضب على الأشياء التوافه الذي يثير الإنسان لكنه في حدود التمكن.
والغضب الأسود هو: الذي يعمي البصيرة ويطمس البصر، ويذهب عن الإنسان إدراكه، ولا يدري ماذا يفعل؟ فيضر نفسه، وهذا القسم من الغضب قد يرجع على صاحبه بالأذى، فقد يصاب بنزلة معوية، فتتضرر أعصاب المعدة فيمرض، وقد يثور عليه ضرس، وقد تثور عليه عينه، وأقل آثاره أن يصاب بصداع شديد، وقد يحصل عليه شلل في المخ.(40/14)
ضرر الغضب على البدن
وحدثنا بعض مشايخنا قصة حدثت قبل حوالي ثلاثين أو خمس وعشرين سنة، قال: كان فلان يمشي معي، وفي ميدان كذا من مدينة كذا، وسماهما، وكنا نتحدث في قضية كذا، وذكرها، وكان منفعلاً للغاية، وأنا أقول له: لا تعجل، الزمن كفيل بكذا إن شاء الله الصبر جميل، وهو منفعل إلى أقصى حد، وجئنا لنعبر الطريق، والميدان دائرة كبيرة، ونريد أن نعبر من الرصيف الأيمن إلى الرصيف الأيسر، وفي منتصف الطريق وفي زحمة السيارات توقف وقال: خذ بيدي! فانتهرته وقلت: ليس هذا وقت المزح! ابتعد عن السيارات، فقال: لم أعد أبصر! فنظرت إلى عينيه، وهما قائمتان، فنهرته وسحبته، فقال: أقسم بالله! إني لا أراك! وبكى، فذهبنا مسرعين إلى طبيب مختص، ودفعنا أجرة كشفيته مضاعفة -والمستعجل يدفع مالاً مضاعفاً- وحالاً بعد الكشف المستعجل على العينين أمر الطبيب بتهيئة غرفة العمليات حالاً وقال: قبل ساعتين يجب أن تنتهي، قال صاحبه: أخبرني أيها الطبيب! ما الذي حدث؟ قال: انعزلت الشبكة القرنية عن محلها، أي: التوصيلة التي بين العين والدماغ انفصلت، مثل التيار الكهربائي عندما ينقطع يتوقف الجهاز حالاً، قال: ما السبب يا دكتور؟ قال: أخبرني أنت، ما الذي كان يفعل صاحبك قبل أن تأتي به؟ لو تأخرت ساعة لجف العرق وذهبت العين، فما الذي كان يفعل؟ قال: لا شيء، غير أنا كنا نمشي ونتحدث، وفجأة أوقفني، قال: فيم كنتما تتحدثان؟ قال: كنا نتحدث في كذا وكذا وكذا، قال: أكان منفعلاً للغاية؟ قال: نعم، في أشد الغضب، قال: هذا الانفعال هو سبب فصل الشبكة القرنية!! إذاً: عليك ألا تغضب لتسلم من الأمراض، فبالغضب قد تنفجر الطبلة في الأذن، وقد تتخلخل الأسنان، وقد ينشل المخ لسرعة التفكير وقوته، وقد يتعطل مركز من مراكز المخ فينشل عضو من أعضاء الجسم، فلا تغضب، فإن كثرة من في القبور من الغضب.
إذا كان الغضب غريزة وهذه أخطاره، فهل نتخلص من غرائزنا؟ لا، ليس المراد بقوله: (لا تغضب) أن تنتزع هذه الغريزة من نفسك، وأن تتجرد من إحساسك، لا، فإن الغضب من شيمة الرجال، والشخص الميت لا يغضب بالكلية، فالغضب دليل الإحساس، لكن إذا أحسست بدوافع الغضب، فلا تسترسل معه، ولا تستجب لدعائه، فإذا غضبت من إنسان فالنفس تدعوك إلى البطش وإلى الانتقام، فلا تنفذ ما يدعوك إليه الغضب، إذاً: ليس المراد بقوله: (لا تغضب) أن تكون ميتاً، فالحيوان لو اعتدي عليه فإنه يغضب لنفسه، وليس معنى ذلك أن تسلب نفسك الإحساس بالغضب، ولكن معناه: أنك لا تمكنه من نفسك، معناه: أنك لا تستجيب لنزعات الغضب.
فكيف نعالج الغضب؟ ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في مجلسه، وقام رجلان يستبان، كل واحد منهما يسب الثاني، وأقول: سامحهما الله! يستبان أمام رسول الله! فغضب أحدهما جداً حتى انتفخت أوداجه، واحمرت عيناه.
وهذا هو أثر الانفعال، فإذا انتفخت الأوداج فمعناه: أن الدم يجري بكثرة في العروق، هناك أوردة شعرية دقيقة مثل الشعرة تغذي ما تحت جلدك، فإذا ما غمزت بطرف الدبوس في أي محل في جسدك فإنك تحس به؛ لأن خلية الإحساس موجودة، والخلية يغذيها الدم، والشعرة يغذيها عرق مثل الشعرة تحتها.
إذاً: هناك أوردة شعرية في الجسم، وأكثر ما تكون وأدق ما تكون تحت حاجب العين، وفي الدماغ، فإذا زادت كمية الدم في العروق، وزاد القلب في ضرباته ودفعاته، فتلك العروق الدقيقة لا تحتمل الضغط العالي فتنفجر، فيتعطل المخ، فالرجل المذكور انتفخت أوداجه واحمرت عيناه؛ لأن العين -كما يقول أطباء العيون- فيها ما يقرب من مليون خلية تنقل الألوان إلى المخ، فالعين أسرع ما تكون تأثراً عند الغضب، فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى حال الرجل: (إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ، فسمعها رجل فذهب وهمس بها في أذن ذاك الرجل، فقال: أمجنون أنا؟! ما قبلها وهو غضبان، ولو كان مالكاً لنفسه لسمع وعمل بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(40/15)
علاج الغضب
ومن الوسائل التي يتم بها علاج الغضب وإسكات ثورته بالتدرج: أولاً: ذكر الله، وخاصة هذا الذكر الوارد.
ثانياً: جاء في الحديث: (الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، فأطفئوه بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) ، والحكمة أنه إذا توضأ حبس الغضب في أطرافه، فلم يجد له منفذاً فيهدأ، فإن لم يذهب فليغتسل.
ثالثاً: إذا كان قائماً فليجلس، وإذا كان جالساً فليضطجع، ومما أثبته علم التشريح أن الإنسان إذا كان قائماً فالقلب يعمل أكثر، فإذا جلس قلت المسافة التي بين القلب وبين الأعضاء، فإذا وقفت وكان طولك مترين، فالقلب يوزع الدم على منطقة طولها متران، لكن إذا جلست صرت متراً واحداً، وبسبب تقارب الأعضاء يكون الضخ أقل، فإذا استلقيت فلا يوجد مجهود كبير، لأن الجسم يكون على مستوى واحد، وأظن هذا معروفاً، ولهذا عندما تذهب المريض إلى الطبيب من أجل ضغط الدم -الله يعافينا وإياكم جميعاً- فالطبيب يقيس الضغط للمريض وهو جالس؛ لأن الضغط يكون أعلى في حال الوقوف، وإذا كان المريض تعبان من الطريق فإنه يتحدث معه قليلاً قبل قياس ضغطه، وإذا كان منفعلاً يهدئ باله، حتى يكون في الوضع الطبيعي ثم يقيس له الضغط.
وأثر الغضب كبير، فالشخص الغاضب إذا كان قائماً وبجانبه عصا، والذي أغضبه أمامه فإنه تلقائياً سيأخذ العصا ويضربه، ولو كان قائماً ولا يوجد عصا أمامه، فإنه سيبحث عن شيء يمكن أن يضربه به، فإذا كانت أسباب الانتقام موجودة، فتكون الاستجابة للغضب أسرع، فإذا كان قائماً فهذا أمكن لتنفيذ دعوة الغضب، وإذا كان جالساً وأراد أن يضرب فإنه يحتاج إلى أن يقوم، ويحتاج إلى أن يأخذ ما يضرب به، فتكون الفرصة في حال الجلوس أضيق، وإذا اضطجع كانت الفرصة أضيق وأضيق.
فمن علاج حالة الغضب حتى لا يتحكم بالإنسان، أن يذكر الله، وأن يبادر إما بالوضوء أو الغسل، وأن يغير هيئته التي هو عليها، فإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع.(40/16)
أثر الغضب في سريان الأحكام الشرعية
الناحية الفقهية التي تترتب على آثار الغضب، لو أن إنساناً في حالة غضبه تصرف تصرفاً في غير محله، فبعض الناس يقول: اتركه يكسر، ويهدم، وينفس عن نفسه، لكن هذا أقوى علامات الضعف، فلا نقول: الغضبان إذا مزق شيئاً أو كسر شيئاً أو عمل شيئاً أو سب إنساناً فإنه بذلك ينفس عن نفسه ويرتاح؛ لأنه بذلك يتعدى على الناس، لكن المؤمن يضبط نفسه عن هذه الأشياء.
فإذا فعل الغضبان شيئاً ماذا يكون الحكم؟ يتفق العلماء على أن الغضبان إذا أتلف شيئاً لغيره في حالة غضبه، فهو ضامن لما أتلف، ولا يقول: إني غضبان وما كنت في وعيي، فالعوض المالي ثابت بخطاب الوضع لا بخطاب التكليف، فخطاب الوضع يقول: من أتلف شيئاً لغيره فهو ضامن، هذا ما حصل لأم المؤمنين عائشة مع صفية رضي الله تعالى عنهما، فقد كانت صفية تجيد صنع الطعام، وكانت بنت ملك، فأرسلت يوماً بقصعة فيها طعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نوبة عائشة، فغارت عائشة رضي الله تعالى عنها فضربت القصعة وهي في يد الخادم، فسقطت فانكسرت وانتثر الطعام، فأمسك صلى الله عليه وسلم قصعة صفية عند عائشة، وأخذ قصعة عائشة وأرسلها إلى صفية عوضاً عن قصعتها، وما الذي حمل عائشة على هذا؟ الغيرة، والغيرة غضب، والغيرة قد تقتل لأنها من أثر الغضب! وإذا تصرف الغضبان تصرفاً معنوياً فهل يلزمه نتائجه أو لا يلزمه؟ إذا أعتق عبداً أو إذا طلق زوجه، ونحو هذه الأمور المعنوية، فهل يقع طلاقه ويسري عتقه أم لا؟ يتكلم الفقهاء في هذه المسألة كثيراً، وليس هذا محل تحقيقها، ولكن خلاصة ذلك ما جاء عن الإمام ابن تيمية رحمه الله: إذا تملك الغضب على الإنسان بحيث أصبح لا يعرف الذي أمامه ولا يعرف هل هو ولده أو أبوه؟ ولا يميز بين ابنته وزوجته، وهذا كما يقول المالكية فيما يتعلق بالسكران الذي لا يعرف نعله في قدمه من نعل غيره، ولا يعرف رداءه من رداء غيره، فهذا لا يقع طلاقه ولا عتقه، والشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان يقول: المولى سبحانه قال: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، فإن كان يحسن قراءة الفاتحة فهو صاح، وإن كان لا يحسنها فهو سكران، ويقول الإمام ابن تيمية في هذا: من استحكم فيه الغضب حتى أصبح لا يميز ولا يدرك فإنه يؤاخذ بتصرفاته التي عليه، ولا يؤاخذ بتصرفاته التي له، فالبيع والشراء عليه هو، ولكن الطلاق والعتق له هو، فيقول: لا يقع طلاقه ولا يقع عتقه، أما ما كان عليه من ضمان الأموال والاعتداء على الدماء ونحو ذلك فإنه ملزم به.
فالغضب إذا وصل بإنسان إلى هذا الحد، فصار لا يميز بين ولده وأبيه، وبين زوجته وابنته،يقول: فهو في حالة يكون فيها مسلوب العقل والاختيار كالحيوان، فيضمن ما أتلف، ولا يؤاخذ بالعقود المعنوية كالطلاق والعتاق.
فهذا الحديث الذي فيه مجيء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبه منه الوصية الموجزة، فجمع له الخير كله، ودفع عنه الشر كله، بكلمة واحدة: (لا تغضب) .
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(40/17)
شرح الأربعين النووية - الحديث السابع عشر(41/1)
شرح حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء ... )(41/2)
الإحسان من الكمالات التي دعا إليها الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه مسلم.
إن هذا الحديث لهو القمة في التوجيه النبوي الكريم، وفي بيان حكم ومحاسن الإسلام في كل شيء، (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) .
والمتأمل في كتاب الله يجد الثناء العاطر على أهل الإحسان، وحديث جبريل عليه السلام حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة، وجلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم في أكمل جلسة، وسأله عن الإسلام، والإيمان، وعن اليوم الآخر، ومما سأله عن الإحسان، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم أجابة شاملة فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) بأي شيء؟ بكل العبادات، على أية حالة؟ فالإحسان هو: مراقبة الله في كل حال.
وإذا جئنا إلى منطوق الحديث النبوي الكريم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، فيقول العلماء: هل هذا من قبيل الإنشاء أم من قبيل الإخبار؟ أي: هل هذه الجملة إنشائية أم خبرية؟ ومعنى خبرية أو إنشائية أي: هل الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن الله أنه فعلاً كتب الإحسان على كل شيء وأوقع الإحسان في كل شيء؟ كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] .
فالله خلق كل شيء على أحسن ما يكون، وعلينا أن نحسن أعمالنا، وانظر في قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] أحسن كل شيء خلْقه أو خلَقه، بالمصدر أو بالفعل الماضي.
ولذا قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:2-3] .
وقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:1-4] .
فإن كان الحديث يراد به الإخبار فإن الله قد أحسن كل شيء، ولا شك في ذلك، فهاهو العالم علويه وسفليه يسير في نظام دقيق من أبدع ما يكون كما نحس ونشاهد: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] .
يقول علماء الفلك: لو أن الشمس اختل ميزانها ودنت من الأرض دقيقة ضوئية لأحرقت العالم، ولو ارتفعت عن الأرض دقيقة ضوئية لتجمد العالم من الثلج.
إذاً: قوله: (إن الله كتب الإحسان ... ) يمكن أن يكون على سبيل الإخبار.
وإن كان على سبيل الإنشاء: أي: يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن ننفذ ما كتب الله، (وكتب) بمعنى: حكم وقضى وأمر: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاص} [البقرة:178] {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] ، و (كتب) بمعنى فرض وأوجب، والذي يليق بالمسلم أن يكون كل ما يصدر عنه حسناً، سواء في صناعة أو في تجارة، أو في أي معاملة كانت، بل ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يحفرون قبراً، فنظر إليه فرأى فيه اعوجاجاً، فأوصى بتسوية القبر، فقالوا: إنه ليهودي.
قال: ألستم مسلمين؟!) أي: عليكم أنتم أن تحسنوا العمل؛ لأن العمل ينظر فيه إلى من صدر عنه، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) ؛ لأنك إذا خنت من خانك صرت أنت وهو في الخيانة سواء، ولذا قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] ؛ لأنك إن قابلت السيئة بسيئة مثلها كنت معه في الإساءة سواء.
ولذا يأتي الإسلام بالتسامي في مكارم الأخلاق، فيقول الله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] ، ويقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126] ؟ يربطه بالسبب، ويقول: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] النتيجة معية الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] .
إذاً: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، ولو أن الناس طبقوا هذا الحديث بالعموم والشمول المطلوب لاستغنينا عن القضاء والشرطة، وهذا الحديث من جوامع الكلم التي أعطاها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، مثل حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) لو طبق هذا الحديث عملياً لأقفلت المحاكم، وسرح الشرط، وهدمت السجون؛ لأن كل إنسان سيعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به، ووجدنا تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لهذا المبدأ مع الشاب الذي جاء وأسلم، واستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنا، فلما سمع هذا الصحابة هموا به، فقال عليه الصلاة والسلام: اتركوه، وقال له: ادن، فلما دنا، قال له: (أترضى ذلك لأختك؟ قال: لا، قال: فكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم، أترضاه لبنتك؟ قال: لا.
قال: فكذلك الناس لا يرضونه لبناتهم، أترضاه لأمك؟ قال: لا، قال: كذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم) فخرج وما على وجه الأرض أكره إليه من الزنا.
وهنا لو أن المسلمين طبقوا حديث الإحسان في كل شيء لاستغنينا عن القضاء، والشرطة، والمفتشين، والمراقبين، وكان كل إنسان على جادة الإحسان، إن كان صانعاً وأراد أن يغش تذكر هذا الحديث: (إن الله كتب الإحسان) ؟ أو كان عاملاً في أي مهنة وأراد أن يغش تذكر هذا الحديث، وإذا تذكر أيضاً: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، وعمل بالحديثين معاً سيحب لعملائه ما يحبه لنفسه وسيحسن عمله، وهكذا إذا جئنا للمزارع في زراعته، وللمهندس في ورشته، وكل ما فيه تخطيط وتنسيق داخل تحت هذا الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، تأتي بالعامل وتتركه يعمل لوحده بدون مراقبة؛ لأنه يعلم أن الله كتب الإحسان على كل شيء، ويعلم أنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وبذلك يستيقظ الضمير في نفوس البشر فلا تجد حقداً ولا حسداً، ولا غشاً، ولا سرقة، ولا تدليساً، ولا شيئاً مما تحاربه الحكومات بمبادئ الإسلام، واعتقد أن هذا الحديث يخاطب طلبة العلم في دراساتهم، وفي تنظيم أوقاتهم وكتبهم، وربما تدخل بيت الإنسان فتجد الكتب مبعثرة فينبغي أن يرتبها، وينسقها، كما جاء عن زيد بن ثابت، الصحابي الجليل الذي جمع القرآن، قالوا: كان في بيته مع أهله كالطفل، ومع الناس في مقابلتهم ومعاملتهم أدق ما يكون وأظرف ما يكون وأجمل ما يكون، ومصعب بن عمير كان فتى مكة في شبابه وجماله، وكان أعطر أهل مكة.
إذاً: طالب العلم يكون عليه الإحسان في ذاته ويكون بقدر استطاعته أنموذجاً، (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، ويقال: إن مالكاً رحمه الله كان يبيع خشب البيت في ثيابه وأكل اللحم، ولما جاء إليه هارون الرشيد ليسمع الموطأ نزل في بيت الإمارة، وأرسل إليه: هلم بكتابك لتقرأه علينا.
فرد عليه مالك رحمه الله وقال: العلم يؤتى إليه ولا يأتي، فجاء هارون إلى بيته فتأخر عليه، فلما أذن له بالدخول قال: ما هذا يا مالك! طلبناك إلينا فامتنعت علينا، وجئنا إلى بيتك فحبستنا على بابك؟ قال: يا أمير المؤمنين! إن مجيء الملوك إلى العلماء يعلي قدرهم، ومجيء العلماء إلى الملوك يزري بقدرهم، فعلمت أنك لم تأت لمال ولا لدنيا، إنما جئت لتسمع حديث رسول الله، فتهيأت لحديث رسول الله، واغتسلت وتطيبت ولبست أحسن ما عندي.
فعمله هذا كان من قبيل التكريم للحديث، وكان رحمه الله يكره أن يسأل في الشارع، ويقول: هذه إهانة لحديث رسول الله!.
فعلى طالب العلم أن يكون محسناً في ذاته ودراسته، فيرتب أوقاته مع دروسه، فإن كانت دروساً نظامية فعلى الجدول، وإن كانت غير نظامية فحسب الأولوية، وهكذا العامل في عمله يرتب أدواته، وكل ما يترتب عليه حياة الإنسان يدخل تحت الإحسان.
فصاحب الحديقة والبستان إذا أراد أن ينشئ حديقة جديدة، فينبغي أن يرتبها بأبعاد متساوية وبقدر ما تسع من الشجر، ويحسن في كل شيء: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) .
ثم يأتي الحديث في تتمته على سبيل المثال، ويأتي إلى القمة التي لا يتصور إنسان أنها محل إحسان، فإذا تفريع جزئيات: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، ومن كل شيء تلك الجزئية: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ، ثم بين بم تكون الذبحة حسنة؟.(41/3)
الإحسان في القتل
فقوله: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) تحتها مباحث اجتماعية وفقهية.
والقتل يكون بأحد هذه الأمور: إما جهاد في سبيل الله، وإما قصاص، وإما حد كما تقدم في الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ، فإذا ارتكب المسلم ما يوجب قتله سواء كان نفساً بنفس، أو ارتد عن دينه، أو كان ثيباً وزنى، أو قتل يقتل، وقد يقتل في ميدان الجهاد عند مجاهدة العدو الكافر المشرك بالله، وفي هذه يتجلى أدب الإسلام حتى مع الكافر المشرك والمحارب، فلو قتل في المعركة فلا ينبغي أن يمثل به، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (قاتلوا على بركة الله باسم الله، لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا تمثلوا) ، فإذا كان هذا في حق المشرك بالله المحارب للمسلمين، فكيف بغيره؟! فإذا كان القتل في الإسلام، وكان القتل لحد من حدود الله فقد بين صلى الله عليه وسلم أن إقامة الحد إن كان موجباً للقتل فيجب أن تكون القتلة حسنة، ولا تكون على سبيل التعذيب، واتفقوا بأن الحدود ضربة بالسيف من خلف العنق؛ لأنها أقرب للنخاع الشوكي، وإذا قطع النخاع مات الإنسان، وكان الناس يستعملون المشنقة والخنق أو غير ذلك، لكن السيف أسرع ما يكون.
ويقال: القصاص مأخوذ من المقص، وإذا قصصت الثوب بالمقص تساوى طرفا القماش المقصوص، فإن كان في المقص اصطلامات وانحناءات فستظهر تلك الانحناءات في طرفي القماش.
أي: يجب أن يكون القصاص مماثلاً، بمعنى: لو أن إنساناً قتل إنساناً بحجر في رأسه فيقتل بحجر في رأسه، ولو أن إنساناً خنق إنساناً وكتم نفسه، فيقتص منه بالخنق وكتم النفس وهكذا عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، إلا إذا كان قتله بمحرم فلا ينبغي أن ينفذ حكم الله بمحرم، كأن يكون سقاه خمراً مسكراً، أو سقاه شيئاً مما هو محرم حتى قتله، ومعلوم عند الأطباء أن من شرب الخمر وزادت نسبة الكحول في دمه إلى ستة في المائة فإنه يموت في الحال، وعلى هذا قالوا: فلا يقتل بخمر؛ لأن الخمر حرام، ولكن يمنع عنه كل الطعام ويسقى بخل حتى يحترق الكبد ويموت؛ لأن الخل حلال ويأتي بالنتيجة.
لكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: كل قصاص ضربة بالسيف، والذي ضرب أو خنق أو رض آثم وخطؤه على نفسه ونحن لا نخطئ مثله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ، وقال أبو حنيفة رحمه الله: هذا حكم عام في كل قتل ولو كان قصاصاً.
والجمهور يستدلون بقضية اليهودي الذي وجد جارية وعلى رأسها أوضاح، -يعني: شيء من الحلي- وفي بعض الروايات: (بأطراف المدينة) وفي بعضها: (بخربة من خربات المدينة) فرض رأسها بين حجرين وأخذ الأوضاح، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يسألونها: فلان فعل بك هذا؟ فترفع رأسها كأنها تقول: لا، فيسألونها: فلان؟ فترفع رأسها، حتى ذكر ذاك اليهودي فخفضت رأسها، فجيء به فاعترف فرض رأسه بين حجرين، فقال الجمهور: فهذا قتل بما قتل به فقد رض رأس الجارية بين حجرين، -بمعنى: أضجعها وجعل تحت رأسها حجراً، وجاء بحجر آخر ورض رأسها فماتت- ففعل به مثلما فعل.
وهنا نقف مع قضية هذه الفتاة، ونخاطب بها الشرطة، والمجتمع، والأبوين.
فاليهودي وجد الجارية في أطراف المدينة في خربة، وقتلها لأن عليها أوضاحاً، أي: قطع من الذهب والفضة، فنقول للشرطة وعمد الحارات: لا تتركوا الخربات في أطراف المدينة فتكون مأوى للمجرمين، بل عمروها، أو اهدموها؛ لأن تلك الخربات يأوي إليها أصحاب الجرائم.
ونقول للأبوين: تبذلوا المال للأطفال، فهذه فتاة صغيرة سبب قتلها حليها، فما حاجة الفتاة الصغيرة للأوضاح؟ فلا تلبسوها الذهب والفضة وتسرحوها في الشارع، وإلا فأنتم تشاركون في قتلها.
إذاً: على الأبوين أن يصونوا أولادهم، وألا يكونوا سبباً في إلحاق الضرر بهم في زيادة التنعيم.
نرجع إلى القضية نص الحديث حيث يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) هل القتل ضربة بالسيف في جميع الحالات، أم أن الإحسان في القتل أن يكون بالمماثلة؟ فحينما يرى أهل الجارية جاريتهم مقتولة بهذه الصورة البشعة يتألمون، وحينما يتذكرون أن رأس قاتلها رض بين حجرين كما فُعل بها فإن ذلك يخفف عليهم من المأساة، لكن بخلاف ما لو ضرب عنقه بالسيف فهذا لا يساوي عندهم قتل جاريتهم، فالجمهور رحمهم الله والأئمة الثلاثة قالوا: (كتب الإحسان) صحيح، وإحسان القتلة صحيح، والقتلة: بمعنى فِعلَة، أي: هيئة القتل، ومن الإحسان فيها: أن نشفي صدور أولياء الدم، وأن يفعل بالجاني مثلما فعل بالمجني عليه.
ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة) فلا يكون القتل إلا ضربة بالسيف.(41/4)
الإحسان في الذبح
قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ، الذبح يكون للشياه وللدجاج مأكول اللحم، وروي عن علي، أو عمر: أنه رأى جزاراً يسحب الشاة من أذنها ليذبحها، فقال له: اسحبها إلى الموت برفق، فقال: أرفق بها وأنا أريد ذبحها؟ واستل الشفرة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) ، يعني: أن الذبح فوق كل شفقة، ومع ذلك فأحسن الذبحة، فهذا الرجل لما قيل له: اسحبها إلى الموت برفق، قال: كيف أرفق بها؟ فمهما فعلت بها قبل الذبح فهو بسيط، -هذا في تصوره- ولكن جاء في الأثر: (بأن الشاة تعرف الموت ولكنها تؤمن بالله وتصبر) .
ويذكر ابن رجب: (أن جزاراً فتح باباً على شاة فهربت، فجرت حتى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ برجلها، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وقال: أحسن في ذبحها، ثم نظر إليها وقال: اصبري لقضاء الله) .
ومن إحسان الذبحة: (فليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) يحد الشفرة -السكين- ولكن لا يحدها أمام الذبيحة، ولا يسمعها صوت الشفرة (وقد مر صلى الله عليه وسلم برجل يحد الشفرة أمام الشاة وهي تنظره بعينيها، فقال: هلا كان قبل ذلك) أي: هلا حددت الشفرة قبل أن تضجعها وهي تنظر إليك.
ومن إحسان الذبحة: ألا يذبحها أمام أمها أو أمام أولادها، ويذكر أيضاً أن رجلاً ذبح عجلاً أمام أمه وهي تنظر إليه فخبل في عقله.
فمشى يوماً في طريق فنام تحت شجرة، فإذا بعش طائر سقط منه فرخ على الأرض، فأشفق عليه ورده إلى عشه، فرد الله عليه عقله، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر ببيت للنمل محترق فنهى صلى الله عليه وسلم أن يعذب بالنار وقال: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) ، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم أن يعذب أحد بالنار، وتروى روايات عن بعض السلف أنهم حرقوا بعض الأشخاص في الردة أو في فعل كذا أو كذا، وجاء النهي صريحاً: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) .
ومن إراحة الشاة الذبيحة: حد الشفرة بعيداً عن الشاة، وعرض الماء عليها قبل أن يذبحها، ولا يذبحها أمام حيوان آخر ينظر إليه، والحديث المتقدم: (هلا كان قبل ذلك؟ أتريد أن تميتها موتات عديدة) ، فهي كلما رأت الشفرة تحد كأنها ماتت موتة، لكن إذا أخذها بغتة وفاجأها بالذبح انتهى الأمر.
قوله: (وليرح) يتفق العلماء أنه يرفق بها حينما يضجعها، وإن كان تحتها من الأحجار أو من النواتئ أو من الأشواك فيجب أن يزيلها ويضجعها مستريحة: (ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً واضعاً رجله على صفحة الشاة متكئاً عليها ليذبحها، فقال: أتميتها موتتان أو عدة موتات) .
إذاً: في هذا الحديث يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم الأمة في أن تحسن في كل شيء حتى القتلة والذبحة.(41/5)
الإحسان في كل شيء بحسبه وجوباً وندباً
يقول العلماء بعد هذا: على المسلم أن يحسن في كل شيء، وأول إحسان يتوجب عليه: أن يحسن على نفسه بترك المعاصي، قال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6] ، وأول إحسان هو أن تبعد نفسك عن النار، وكما يقولون: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، يلي ذلك الإحسان في طاعة الله؛ وأعلى درجات الإحسان في طاعة الله، أداء الواجبات، فمن ترك واجباً عليه لم يحسن إلى نفسه، فإذا أدى الواجبات فيؤديها على أحسن وجه، ويلي ذلك النوافل، فيحسن إلى نفسه في عبادة ربه في نوافل العبادات، وكلنا يعلم أن لكل فريضة من فرائض الإسلام نافلة، فالصلاة لها نوافل سواء كانت الراتبة أو غير الراتبة، والصيام له نوافله، وهكذا الزكاة منها ما هو نافلة؛ كالصدقة، والمرء في ظل صدقته، وكذلك الحج والعمرة، وكذلك ذكر الله، وكل ما هو عبادة لوجه الله تعالى، فإحسان العبد في ذاته أول ما يكون بتجنب المعاصي، ثم بعد ذلك في فعل الطاعات.
وقوله: (كتب الإحسان) هل الكتابة للفرض أم للندب والتوجيه؟ يقولون: كلا الأمرين، فالإحسان واجب فيما لا يتم الواجب إلا به، وتعلمون قصة المسيء صلاته -والإساءة ضد الإحسان- الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء يسلم على رسول الله فقال له: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، يعني: عدم الإحسان ألغى العمل، ورده صلى الله عليه وسلم مراراً حتى جاء وقال: (علمني يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أحسن إلا هذا، فعلمه: وقال: إذا توضأت فأسبغت وضوءك، وجئت واستقبلت القبلة فكبر، ثم اقرأ ما معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع من الركوع حتى تطمئن رافعاً ... ) ، وهنا نخاطب بعض الناس الذين تراهم يركعون ولا يطمئنون في ركوعهم، فترى الواحد منهم كأنه ينفض شيئاً عن ظهره، وكذلك الجلسة بين السجدتين، ويقولون: مذهبنا أنه ركن خفيف، فنقول: ليس في الأركان خفيف وثقيل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يركع حتى يطمئن راكعاً، ويرفع حتى يستقر ويعود كل فقار في مقره، ويعود كل عظم في مكانه، والحركة الخفيفة ليست استقراراً.
فالإحسان هنا واجب؛ لأنه إذا تغيب الإحسان بطلت العبادة، فقد رده صلى الله عليه وسلم مراراً ليحسن صلاته، إذاً: الإحسان في الواجبات من حيث إتمامها وكمالها واجب، وإن كان الأصوليون يناقشون مداعبة للطلاب: القدر الذي به يتم الواجب من الطمأنينة، وما زاد عنها، وهل الزيادة واجبة أم القدر الذي تصح به الفريضة هو الواجب والباقي مندوب؟ فيقولون: أقل شيء فيه الطمأنينة في الركوع سبحان الله ثلاث مرات وهي الفريضة، وإذا سبح عشر مرات فهي إحسان، وزيادة في الإحسان.
إذاً: الإحسان قد يدخل الفريضة وقد يدخل النافلة، وكما يقولون: (الإحسان في كل شيء بحسبه) .
وإذا رجعنا إلى تتمة الحديث وأمر الذبح والقتل والإرفاق بالمخلوقين حتى الحيوانات، نجد قوله صلى الله عليه وسلم لما قال في قضية المرأة التي سقت الكلب، والمرأة التي حبست الهرة فقال: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، وقال في الحديث الآخر: (إن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها) فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا الحديث بعمومه وشموله لو طبقه الإنسان في فعل الواجبات وترك المحرمات، وفي كل ما طلب منه لكانت الحياة كلها على أحسن ما تكون.
إذاً: على كل إنسان أن ينظر في منهج حياته، أولاً: في كسبه الذي يقتات به، هل اكتسبته من طريق إحسان أم لا؟ ولينظر في الطريق الذي ينفقه فيه، هل هو طريق إحسان واضح جلي أم فيه ما فيه؟ ونقول لأولئك الذين يبذرون الأموال في المحرمات كالدخان: هل أحسنتم؟ لا.
بل أسأتم عدة مرات، أسأتم في ضياع المال، وفي فعل ما حرم الله، وفي إفساد البدن والمجتمع.
إذاً: هذا الباب لا يستطيع إنسان أن يوفيه منتهاه، ولكن القواعد العامة فيه: ما ذكر صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ، و (كل شيء) لا يخرج منها شيء: (فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) هذا على سبيل التمثيل في أقسى المواقف في الحياة، ومع ذلك لابد أن يكون مع الإحسان.
وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(41/6)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر(42/1)
وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: [عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح.
] .
هذا الحديث الذي يسوقه النووي رحمه الله في هذه المجموعة المباركة عن الصحابيين الجليلين رضي الله تعالى عنهما أبي ذر ومعاذ بن جبل.
أما أبو ذر فتقدمت الإشارة إلى ترجمته بإيجاز وذكر قصة إسلامه وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ثم مجيئه إلى المدينة، ثم ما كان من أمره، وسفره إلى الشام، واختلافه مع معاوية رضي الله تعالى عنهما، وإقامته بالمدينة، ثم طلبه من الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه الاعتزال، وذهابه إلى الربذة، وبقي بها إلى أن وافاه أجله رضي الله تعالى عنه، وصدُق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده) .
أما معاذ بن جبل فهو الأنصاري الخزرجي البدري، جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (معاذ أمام العلماء يوم القيامة برَتْوَة) أي: يتقدمهم برمية حجر.
وقال عنه صلى الله عليه وسلم في مجموعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم مبيناً خصائص بعض أصحابه: (أرحم هذه الأمة بأمتي أبو بكر رضي الله عنه، وأشد هذه الأمة في الله: عمر، وأشد الناس حياءً عثمان، وأعرف الناس بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وإن لكل أمة أميناً وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) وهكذا ذُكر مع هؤلاء الأكارم.
كما قال صلى الله عليه وسلم عن زيد بن ثابت: (أفرضكم زيد) .
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي دعا له بقوله: (اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين) .
مما يدل لأول وهلة على أن الاختصاص في العلم والتخصص في بعض مواده له أصل، وقد يفيد الأمة أكثر من غيره، وقد كانت نتائج هذا التخصص أو تلك الخصوصيات أنهم رضي الله تعالى عنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من تلك العلوم رجعوا لصاحب الاختصاص فيها، فإذا اختلفوا في مسألة فرضية رجعوا إلى رأي زيد، وتقرءون في الرحبية: عن مذهب الإمام زيد الفرضي إذ كان ذاك من أهم الغرض وإن زيداً خُص لا محالة بما حباه صاحب الرسالة من قوله في فضله منبهاً أفرضكم زيد وناهيك بها فاختار صاحب الرحبية مذهب زيد الفرضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفرضكم زيد) .
وحينما كان عمر رضي الله تعالى عنه يجمع الشيوخ في مجلسه لمشاورته ومجالسته، كان ابن عباس وهو غلام يدخل معهم فيرى عمر أثر ذلك في وجوههم ولهم غلمان، فأراد أن يبين لهم موجب ذلك، فقال لهم ذات يوم: (ما معنى قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] .
قالوا: إنها بشرى من الله لرسوله بالفتح، بشرى للمسلمين بمجيء النصر ودخول الناس في الدين أفواجاً.
وابن عباس ساكت.
قال: ما تقول يا ابن عباس؟! قال: أقول: إنها نعت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا.
قال: وكيف ذلك؟! قال: إن الله أرسل رسوله برسالة وكلفه بمهمة أدائها، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، فإذا انتهت المهمة ودخل الناس في دين الله أفواجاً فما عليه إلا أن يتهيأ لملاقاة ربه، ليلقى وافر جزائه.
قال: وأنا أرى ذلك) .
ومصداق هذا من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي؛ يتأول القرآن) .
وكذلك حينما اختلفوا في ليلة القدر.
إلى آخره.(42/2)
علم معاذ بن جبل رضي الله عنه وفقهه
ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه كان أعلم الأمة بالحلال والحرام ومن أفقه الصحابة، ورد عنه موقفان يدلان على فقهه وإمامته وألزم ما يكون لطالب العلم معرفتهما: أولاً: ما يذكره ابن كثير في تفسيره، والذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة معاذ: كانت الصلاة في أول الأمر إذا أقيمت وجاء مسبوقٌ، لا يدري كم صلوا، يسأل الذي بجانبه: كم صليتم؟ فيشير واحدة أو اثنتين، فيصلي ما فاته بسرعة، ثم يدخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا ما سلم رسول الله سلم معهم؛ لأنه أتى بما فاته قبلاً.
فجاء معاذ رضي الله تعالى عنه يوماً فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ساجد، فلم ينتظر رفعهم من السجود ويسأل؛ ولكن كبر وسجد، ولما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرف معاذ ما فاته قام وقضى ما فاته وسلم بعد ذلك.
فقال له جاره: (لم تعتد بالركعة -يعني: سجدت ولم تأتِ بالركعة كاملة- فقال: ما كنت لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وأحببت أن أكون عليها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: ما فعل معاذ - فقال: هي سنة لكم) فصارت السنة إلى الآن أن المسبوق إذا جاء وجب عليه أن يدخل مع الإمام على الحالة التي هو عليها ولا ينتظر، فإن كان قائماً قام معه واستمع أو قرأ، أو راكعاً ركع، أو رافعاً قائماً، أو ساجداً، أو جالساً، أو في التشهد، على الحالة التي يدرك الإمام فيها.
الموقف الثاني: حينما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه صلى الله عليه وسلم يوادعه ويوصيه، ثم قال: (يا معاذ! كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض الروايات: فبقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
فضرب صلى الله عليه وسلم بصدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله) .
قد نجد بعض الناس يتكلم في سند هذا الحديث، ولكن عامة علماء المسلمين وقضاتهم يعتبرون حديث معاذ هذا الأصل الأصيل في باب القضاء، وعليه فإن أول ما يلزم القاضي أن يطلب الحكم من كتاب الله، وهذا أمر حق، فإن لم يجد في مجمل كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -إما الخاصة في أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما العامة في نصوصه- فإن لم يجد في كتاب أو سنة فهنا يتعين عليه الاجتهاد، ولا يصح له التقليد، بمعنى: ألَّا يحكم حكماً إلا ويعرف دليل هذا الحكم على ما استند.
هذا هو معاذ.
أما أثره في الإسلام، فإنا نعلم بأن مصعب بن عمير أول من قدم المدينة يعلم أهلها الإسلام ويقرئهم القرآن ويفقههم في الدين.
ومعاذ خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح حينما خرج إلى حنين يفقه أهل مكة في الدين.
ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بعثه إلى الشام، فـ معاذ علم أهل مكة الإسلام، ومعاذ ذهب إلى اليمن معلماً وقاضياً فيها، ومعاذ بُعث إلى الشام، فلكأن معاذاً كان بعثة علمية متنقلة في العالم الإسلامي.
وما يهمنا في هذا كله هو أخذ نبذة عن هذا الصحابي الجليل، كما أنه يروي لنا حديث (اتقِ الله حيثما كنت) قيل: إنه جزء من الوصية التي أوصاه بها صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى اليمن.
وفي بعض الروايات قال له صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! لعلك ترجع فلا تلقاني، ولعلك تمر بمسجدي وبقبري.
فبكى معاذ رضي الله تعالى عنه خَشَعاً لفراق رسول الله وألَّا يراه) .
وقد جاء مثل ذلك عن بعض الصحابة -ولعله عبادة بن الصامت - حينما أراد النبي أن يرسل بعثاً إلى نخلة لاستطلاع أهل مكة، فأعطاه كتاباً مختوماً وقال: (لا تفضن كتابي هذا إلا بعد مسيرة ثلاثة أيام فأخذه ونظر إلى رسول الله وبكى قال: ما يبكيك؟! قال: لفراقك يا رسول الله! فأعفاه وأخذ الكتاب وأعطاه لـ عبد الله بن جحش، ومضى في طريقه وما فض الكتاب إلا بعد ثلاثة أيام) كما يقولون في الوقت الحاضر: تعمية الأخبار، والحرب الخاطفة.
فـ معاذ رضي الله تعالى عنه بأي شيء أوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي شيء؟ قال له: (اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) : ثلاث جمل، كل جملة وحدها تستوقف طالب العلم؛ يجمع أطرافها، وينظر كنهها، ويبحث في آثارها على الشخص وعلى المجتمع، ولا أعتقد أن إنساناً يستطيع أن يستوفي الثلاث كلها.(42/3)
الوصية الأولى: لزوم التقوى
إذا نظرنا إلى الفقرة الأولى: (اتقِ الله حيثما كنت) علماء اللغة يقولون: أصل التقوى: الوقاية، اوْتَقَى: افتعل، من اتخذ وقاية، من أي شيء؟ يأخذ حاجزاً ساتراً يقيه مما يخافه، (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ، يعني: اجعل حاجزاً ووقاية بينك وبين النار، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] .
وقالوا: (اتقِ الله) : إضافة التقوى إلى الله سبحانه وتعالى أي: ما يصيبكم من عذاب الله أو ما يأتيكم من الله بسبب ذنوبكم، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] أي: اتقوا ما يقع من أحداث في ذلك اليوم.
إذاً: (اتقِ الله) : اتخذ الوقاية بينك وبين ما يأتيك من الله مما تكره.
أربع نقاط يبحثها طالب العلم في مجال تقوى الله: بِمَ يتقي الله؟ وفيمَ يتقي الله؟ ومن هم أتقياء الله؟ ونتائج التقوى! ولا أستطيع أن أقول: إنه يمكن إحصاء ذلك؛ ولكن سنمر بكتاب الله في مواطن أو موطن واحد من المصحف الشريف في سورة الشعراء لنرى ما يتقيه الإنسان، وقبل ذلك: من هم المتقون؟(42/4)
وصف المتقين وأعمالهم
إذا جئنا إلى أول المصحف لتعريف المتقين نجد افتتاحية الكتاب الكريم في أول سورة البقرة: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، من هم أولئك المتقون؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:3-4] ، هذه صفة المؤمنين.
وإذا جئنا إلى موطن آخر: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] .
من هم المتقون؟ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 134-136] .
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] .
هؤلاء هم المتقون، وتلك هي صفاتهم.
والتقوى في حقيقتها وفي ذاتها وفي عمومها: إن جئنا إلى زاد في الدنيا فالتقوى خير زاد يوصل إلى الآخرة: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] .
مفاضلة الخلق وميزان تقويم البشر، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، ولكأن التقوى في كل شيء هي المثل الأعلى وهي الغاية القصوى.
بل نجد في بعض الأشياء الأخرى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] .
إذا جئنا إلى بعض القربات أو الأعمال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] .
سبحان الله! تلك هي التقوى في التعريف المستقيم، والتقوى في معاملة الإنسان وما يرجع إليه من لباس التقوى، ومن زاد التقوى، ومن مقياس ورفعة وعزة التقوى.(42/5)
التقوى وصية الله للأولين والآخرين
ومن هنا كانت التقوى، وصية الله لجميع الأمم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] .
لماذا الحث على التقوى؟ والندب على التقوى؟ كل ذلك لمن؟ (لو أن أولكم وآخركم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) .
ولذا تجد قبل {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} [النساء:131] قوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء:131] .
وبعد {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} [النساء:131] .
كأنه يقول: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء:131] ومع هذا {وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ثم يبين: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} أي: بعدم التقوى، فاعلموا بأن {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء:131] ، {وَإِنْ تَكْفُرُوا} بهذه التقوى فإن الله غني حميد، يعني: غني عن تقواكم، فإذا كانت الوصية للأمم قبلنا، ولنا من بعدهم فليس الله بحاجة إلى تقوانا، فهو غني عنا حميد بذاته سبحانه وتعالى.
ومن وصيته سبحانه لمن قبلنا وإيانا نجد ابتداءً من نوح عليه السلام في سورة الشعراء.
انظر في كتاب الله، بعد عرض قضية قوم نوح معه يأتي إلى قوله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:106-110] : هذا بيان من الله سبحانه وتعالى لموقف نوح عليه السلام مع قومه، ثم بين موقفهم وما هو المطلوب من تقوى الله فيهم.
أعتقد أن قضية نوح عليه السلام مع قومه قضية واحدة وهي الشرك؛ لأن نوحاً عليه السلام على ما قص الله سبحانه أنه مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، يدعوهم إلى عبادة الله وحده.
وكما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] أي: على التوحيد، فوقع الشرك، أي: فجاء نوح عليه السلام ونهاهم عن هذا الشرك، وذكر الله ما واجهه به قومه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] .
فنوح عليه السلام إنما كان يدعو قومه إلى التوحيد، ولهذا ذكر مع قومه أنهم كذبوه، وهذه جريمة قومه.
يأتي بعد نوح عليه السلام هود عليه السلام وقومه.
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:123-124] : ما قاله نوح لقومه قاله هود لقومه.
أيضاً: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:125-126] كما قال نوح عليه السلام.
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء:127] كما قال نوح لقومه، ثم بين حياتهم وقوتهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:128-129] أي: عدم الإيمان بالبعث.
كما قال تعالى في آية أخرى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} [الشعراء:149] .
وهذه علامة على القوة، {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] : عدم الإيمان بالبعث والإفساد والبطش في الأرض، تلك من جرائمهم.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:131] كما قال نوح أيضاً لقومه.
ثم يذكرهم بنعم الله عليهم: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ} [الشعراء:132] : بماذا؟ {بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء:132] بالذي أنتم تعرفونه، {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:132-135] لماذا؟ لأنكم لم تشكروا نعمة الله التي أمدكم بها، ولأنكم تبطشون في الأرض بطش الجبارين.
ثم ذكر سبحانه رد قومه عليه وعنادهم واستكبارهم فقال تعالى: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:136-139] .
ثم قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:140] ، تتكرر هذه الجملة وهذه الآية في نهاية سرد السورة لقصة كل نبي مع قومه، وسيأتي التعليق عليها إن شاء الله.
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141] أي: كما كذبت الأمم المتقدمة كذلك {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إذ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:141-142] ثم قال كما قال نوح وكما قال هود عليهما السلام.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:143] .
وقال أيضاً {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:144] نفس الأسلوب والمنهج {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] .
وأيضاً على أي أساس؟ على أساس {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:145] ، وهذا هو الذي قاله نوح لقومه وقاله هود لقومه أيضاً هنا قاله صالح لثمود.
أتظنون أنكم ماذا؟ متروكون هنا وكفى؟! {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} [الشعراء:146] .
في هذه النعم {في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:147-148] في هذه الزروع وهذه الثمار والنخيل إلى غيرها؟! {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء:149] .
وكذلك تنحتون من الجبال بيوتاً.
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:150] عوداً على التقوى بعد هذه النعم التي يذكرهم بها.
{وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء:151] أول خطيئة لهم: أنهم يطيعون أمر المسرفين، وفعلاً أطاعوا أمر المسرفين المتجاوزين للحد، فعقروا الناقة، وما كان عقرهم للناقة إلا باتباع أمر المسرفين، {هذه نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف:73] ، تقترحون على الله أو على نبي الله صالح بأن يخرج الله لكم من هذا الجبل ناقةً عشراء؟ أي تعنت بعد هذا؟ فالله سبحانه وتعالى يحذرهم وينذرهم، فقالوا: لابد من هذه الآية، والله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، فإذا بالصخرة أو الجبل يهتز ويتمخض كما تتمخض الأنثى، وإذا بالناقة تخرج من بطن الصخرة.
وكانت لهم آية {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155] .
فماذا كان أمرهم مع الناقة؟ {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الأعراف:77] سبحان الله! ثم قالوا لنبيهم متحدين {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:77] وإذا جاءكم به ماذا تفعلون؟ هؤلاء {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:152] ، إذاً: التقوى من الإفساد في الأرض، والتقوى من بطش الجبارين، والتقوى كذلك من كفران النعم، إلى آخر ذلك، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:159] .
ثم يأتي ذكر قوم لوط، أيضاً {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:160-161] نفس العبارة التي قالها من سبقه من الأنبياء: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:162-163] بطاعة ما جئتكم به، وأطيعوني فيما أرسلت به إليكم.
{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء:164] كل هذه العبارات تتكرر في كل دعوات الرسل.
{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] .
وهنا يبين فاحشتهم، وماهية خطيئتهم؟ كما قال عن قوم عاد: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] ، وكما قال نبي الله صالح لقومه: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:151-152] وهنا يبين الله تعالى خطيئة ال(42/6)
حقيقة التقوى
إذاً: حقيقة تقوى الله كما قال الحسن البصري وغيره، أو كما قال عمر بن عبد العزيز: (أن تجتنب ما نهى الله عنه، وتمتثل ما أمر الله به، وما زاد على ذلك من خير فهو خير) .
أساس وأصل التقوى المطلوب هو: أن تجتنب المنهيات وتفعل المأمورات، وما جاء بعد تلك الواجبات من امتثال الأوامر واجتناب النواهي فهو زيادة خير.
ولكن كما يقول السلف: إن من حقيقة التقوى أن يترك ما لا بأس به مخافةً مما به بأس.
وكما يقول الآخرون: إن محاسبة الأتقياء لأنفسهم أشد من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، يحاسب على الصغيرة والكبيرة.
ولذا كان الورع وكان الخوف من الله نابعاً عن التقوى.
وجاء عن سعيد بن المسيب، حينما جاء إنسان وقال له: كيف التقوى؟ قال: أرأيت لو كنت تمشي في أرض بها شوك ماذا تفعل؟ قال: أنظر وأتجنب الشوك أن أطأ عليه.
قال: كذلك التقوى، أن تتجنب المعاصي.
فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء الزهاد العلماء الدعاة إلى الله ونَظَمها في هذه الأبيات: خَلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماشٍِ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى يقول الحسن البصري: (التقوى لا تحصل إلا بسبق العلم) ؛ لأنك إذا لم تعلم ما تتقي ارتكبت المعاصي وفرطت في الواجبات، فمثلاً إذا لم تعلم حرمة الزنا ورأيت امرأة فلن تغض بصرك عنها، وإذا لم تعلم أحكام البيع والشراء وقعت في الربا، إلى آخر ما في الإسلام من فقه وحلال وحرام.
ولهذا فأساس التقوى العلم والمعرفة ثم العمل، وهي منحة من الله سبحانه وتعالى، كما قال بعض السلف: كثير من يتكلم بالتقوى، وقليل من يعمل بها.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتقين، وأن يرزقنا وإياكم ثمرة هذه التقوى.(42/7)
ثمار التقوى
وقد بين سبحانه أن أعلى منزلة للتقوى معية الله بتأييده ونصرته: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] .
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54] أين؟ {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] .
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً} [النبأ:31-36] انظر! (عَطَاءً) ! لا تقل: بتقواي، لا.
بل عطاء من الله، (حساباً) بمعنى: كافياً، ليس بمعنى: محاسبةً، أخذاً من قولك حينما يعطيك إنسان: حسبي حسبي، يعني: يكفيني، {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً} [النبأ:36] كافياً وافياً حتى يقول المعطَى: حسبي حسبي.
وأظن أن هذا القدر كاف في التنبيه على هذه الجزئية من هذا الحديث وهي الوصية أو الفقرة الأولى: (اتقِ الله) .
وبعد ذلك قال: (حيثما كنت) : (حيث) يقولون: إنها للمكان، وتكون للزمان، مثل: اجلس حيث جلس فلان، صلِّ حيث ينتهي بك الصف.
كأنه صلى الله عليه وسلم يقول ذلك لـ معاذ مشعراً إياه وهو خارجٌ من المدينة ذاهباً إلى اليمن؛ أن تقوى الله ليست في المدينة فقط، لنزول الوحي فيها، ولوجود الرسول صلى الله عليه وسلم، وللقرب من المسجد النبوي، لا.
بل حيثما كنت، وهذا التعميم من خصائص التشريع في الإسلام، والتعميم هو: العموم والشمول، فإن كنتَ في أقصى العالم، وإذا ذهبتَ إلى القطب المتجمد الشمالي، وإذا طرت في مركبة فضاء، وإذا نزلت في غواصة تحت الماء، وإذا كنت في منجم تحت الأرض، وإذا كنت في أي مكان فاتقِِ الله حيثما كنت، لماذا؟ لأن الله مطلع عليك أينما توجهت، وأنت إنما تتعامل مع الله، ولذا خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمصار ودعَوا إلى الله، ولما كتب بعض السلف إلى إخوانه في الشام: هلم إلى الأرض المقدسة، قال: إن الأرض لا تقدس أهلها؛ ولكن يقدسهم العمل.
(اتقِ الله حيثما كنت) : وأيضاً (كيفما كنت) أي: على أية حالة تكون فيها مع الناس يجب أن يكون معيارك تقوى الله.
وأعتقد أن المجال هذا واسع جداً، ولا يستطيع إنسان مثلي أن يوفي هذا الموضوع حقه فيما يتعلق بالتقوى؛ في تحصيلها وبيانها وآثارها.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] .
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5] .
فجاء قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ) ثلاث مرات في سورة الطلاق وحدها.
إذاً: أمر التقوى عظيم.(42/8)
الوصية الثانية: إتباع السيئات بالحسنات
يأتي بعد ذلك القسم الثاني من الحديث: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) : هو يوصيه بتقوى الله، والتقوى ليس معها سيئة؛ ولكن هل الإنسان معصوم؟! لا.
ومع أنك تتقي الله كيفما كنت وحيثما كنت، فإن وقعت منك زلة، أو أسأت إساءة فأتبعها بحسنة، وفي بعض وصايا النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا عصيت ربك في مكان فأطعه فيه) ، أي: المكان الذي عصيت فيه أحدث فيه طاعة؛ لأن المكان سيأتي ويشهد للإنسان أو عليه، فإذا جاء المكان وشهد عليك بمعصية يكون عنده شهادة لك بحسنة، فمن وصاياه صلى الله عليه وسلم: (وإذا عصيت بمكان فأحدث به طاعة) .
فقوله: (أتبع السيئة الحسنة) في أي شيء؟ في كل تصرفات الإنسان، أخطأت على شخص وأسأت إليه، تتبع هذا الخطأ والإساءة بإحسان.
ما أثر الإحسان مقابل السيئة؟ إن الإحسان يمحو السيئة (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) .
وقد ثبت مثل هذا في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما وقع منه وما كان بينه وبين امرأة، حيث جاء في بعض الرويات: (أصاب رجل من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه، فقال الرجل: يا رسول الله هذا لي خاصة؟! قال: بل لجميع أمتي) .
وهذا من سعة فضل الله على هذه الأمة، ويقول العلماء في موجب ذلك: أن السيئة تكتب واحدة، والحسنة تكتب عشراً، والحسنات تقدر على محو السيئة؛ ولكن -والله- هو فضلٌ من الله أن ضاعف الحسنة، وفضلٌ من الله أن لم يضاعف السيئة، بل في بعض الآثار: أن ملَك الحسنات يبادر بكتابة الحسنة، وملَك السيئة حينما يريد أن يبادر يمنعه الآخر يقول: اصبر! لعله يتوب! لعله يستغفر! لعله.
! فإذا سوَّف وطال الوقت ولم يتب كتبها، فإذا استغفر وتاب ورجع، فالتوبة تجب ما قبلها.
وقد بين سبحانه وتعالى مقابلة السيئة بالحسنة منك وعليك: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ؛ ولكنها منزلة عظيمة، ما كل إنسان يقدر عليها، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .(42/9)
الوصية الثالثة: حسن الخلق
قال صلى الله عليه وسلم: (وخالق الناس بخلق حسن) : الحديث جمع التقوى وجمع حسن الخلق، حسن الخلق ألفت فيه الكتب، وأدق ما في ذلك كتاب ابن مسكويه في فلسفة الأخلاق، يبحث عن الغرائز النفسية وأحوالها وعن نتائجها، فمن أراد الاستزادة فليرجع إليه؛ ولكن يهمنا ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من مجامع الحكم مع جوامع الكلم.
الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم يقول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ.
} [البقرة:177] .
ويقول: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة:189] .
فجعل القرآن الكريم {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى.
} [البقرة:177] إلى آخره؛ هو البر، وهنا جعل البر التقوى، فكأن التقوى هي بر، أو أن البر بعموم أنواعه هو التقوى.
وجاء الحديث: (البر حسن الخلق) : فلَكأن البر يتفق ويجتمع مع حسن الأخلاق ومع تقوى الله، ولذا جمع صلى الله عليه وسلم الأمرين وهما القمة في التوجيه الإسلامي، وهما الذروة في مكارم أخلاق الإسلام: (اتقِ الله حيثما كنت) .
(خالق الناس بخلق حسن) .
ولعل هذا القدر يكفي.
وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً إلى تقوى الله، وأن يجعلها غايتنا، وأن يملأ قلوبنا بتقوى الله وخوفه وعظيم رجائه، وأن يوفقنا وإياكم إلى اجتناب السيئات، وأن يعيننا وإياكم على فعل الحسنات، وأن يجملنا وإياكم بمكارم الأخلاق.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي مدحه الله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] .(42/10)
الأسئلة(42/11)
حكم الإقامة في غير ديار الإسلام
السؤال
ما حكم الإقامة في غير بلاد المسلمين؟!
الجواب
لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أولاً: يا إخوان! من حسن الإسلام: استقلال ذاتية المسلم، ومن أهم استقلال ذاتية المسلم: ألَّا يقيم في بلد الكفر، وبلد الكفر قسمان: دار كفر وحرب.
ودار كفر بغير حرب.
ودار الحرب: هي التي تعلن الحرب على المسلمين، وبينها وبين المسلمين قتال.
ودار الكفر فقط هي المهادنة التي لم تقاتل.
وكلا البلدين لا يحق للمسلم أن يقيم فيها، وللعلماء في إقامة المسلم في دار الكفر -أي: بدون حرب- خلاف.
إن كانت هناك مصلحة، كتجارة أو دعوة، والمقيم آمن على نفسه وماله وعرضه من أهلها، كما أن دار الإسلام يأتيها الشخص من دار الكفر لا من دار الحرب، فيأخذ الأمان لتجارة أو لحاجة بإذن ولي أمر المسلمين، فهو آمن على نفسه وماله مدةً محدودة، كما كان يفعل عمر رضي الله تعالى عنه، إذا كان يعطي تجار اليهود أو النصارى أو غيرهم كالمجوس ثلاثة أيام، يأتون يبيعون ما عندهم من التجارة ويذهبون، وقد يعطون أكثر حسب المصلحة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال في حق الكفار: (لا يسكن الإنسان في دار الكفر؛ لا تتراءا ناريهما) ، فإذا كان لحاجة وهو في مأمن فلا بأس، ومثل هذا ما نتج عن المعاهدات والقوانين الدولية الدولية في الوقت الحاضر، حيث أن من دخل بلداً بتأشيرة دخول فله حق الإقامة المحددة له في جوازه.
فليكن المسلم مسلماً، وليكن كما كان السلف شمعةً يضيء ما حوله، وليعلم الجميع أن الإسلام لم يدخل إندونيسيا بقتال، وما حارب المسلمون في تلك البلاد أبداً، إنما دخلها بوجود المسلمين وبتميزهم بأخلاقهم وعباداتِهم.
أما بعض الشباب وللأسف إذا جاء إلى أوروبا أو إلى آسيا أو غيرها من البلاد وجاء وقت الصلاة فإنه يستحي أن يقيم الصلاة ويصلي! لماذا؟ أين شخصية المسلم؟! الشخص إذا ذاب في غيره؛ ذاب معه دينه وعقيدته، فما قيمته إذاً؟! لا أريد أن أتطرق إلى أشياء يذيب بها شخصه قبل أن يغادر حدود بلده.
لا.
المسلم مسلم حيثما كان، والإسلام لا يرخِّص للمسلم في معصية أياً كان مكانه، أما إن كان ممن قال الله فيهم: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ، فهذا شيء آخر.
فإذا كان يُكرَه في بلد الكفر على مخالفة أو ترك دينه، فلا يحق له أن يقيم، وتعينت عليه الهجرة، ولذا اختلف العلماء في حكم الهجرة هنا هل هي واجبة أو مندوبة؟ فبعضهم يقول: (لا هجرة بعد الفتح) ؛ ولكن إذا ضُيِّق عليه في بلد الكفر، ولا يستطيع أن يقيم شعائر دينه تعينت عليه الهجرة كما يتعين عليه أن يصلي ويصوم.
والله تعالى أعلم.(42/12)
حكم وضع المصحف على الأرض
السؤال
ما حكم وضع المصحف على الأرض؟!
الجواب
بعض الإخوة -للأسف- يريد أن يصلي فيضع المصحف أمامه على الأرض.
وقد يقول الإنسان: الأرض طاهرة ونسجد عليها.
فأقول: نعم؛ ولكن تعظيم القرآن وتعظيم حرمات الله: من تعظيم القرآن أن ترفعه وأن تكرِّمه.
وحصل للشيخ محمد المختار -الله يغفر له- أنه كان في مسجد وقام يصلي، وجاء بجواره رجل وصف نعليه بين قدميه، ووضع المصحف على النعلين وقام يصلي.
فقال: يا أخي! كيف تفعل هذا؟! قال: هما هطارتان وليس فيهما نجاسة.
فقام وأخذ المصحف ووضعه في حجره، وأخذ النعلين ووضعهما على رأسه.
فقال: كيف تفعل هذا؟ قال: أليست طاهرة؟ إذا كنت تشمئز من وضع النعلين على رأسك وهي طاهرة، وهما نعلاك أنت، فكيف تقرن بين النعلين والمصحف؟! تلك مسائل شفافة، ليس فيها حد هندسي، وليس فيها مسطرة؛ ولكن شعور وإحساس.
والله الموفق.
والسلام عليكم.(42/13)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [1](43/1)
مكانة ابن عباس عند رسول الله وعند الصحابة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: [عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع اليسر يسراً) ] .
إن هذا الحديث العظيم، يبين مكانة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد اختص بخصائص من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطيل علماء الرجال والتراجم في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما، فقد حظي بدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم! فقه في الدين، وعلمه التأويل) ، وها هو في هذا الحديث غلام دون البلوغ، ويلقي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث العظيم، وقالوا: إن سبب دعوة رسول الله له، أنه كان ذات ليلة عند خالته ميمونة، ونام النبي صلى الله عليه وسلم على طرف الوسادة، وجاء ابن عباس وهو غلام ونام على طرفها الآخر، فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، قام ودخل الخلاء، ثم خرج صلى الله عليه وسلم فوجد أداوة من ماء عند باب الخلاء فقال: (من وضع هذا؟ قالت له ميمونة: وضعها ابن عباس) أي: أن ابن عباس فطن أن خروجه صلى الله عليه وسلم يقتضي ماء لوضوئه، وهذا من الفهم والفطنة والفقه، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم! فقهه في الدين، وعلمه التأويل) ، والتأويل هو: التفسير.
روى البخاري رحمه الله أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يدنيه، وكان يدخله في مجلسه، وفيه شيوخ المهاجرين والأنصار، فرأى في وجوههم استنكار ذلك، وقالوا لـ عمر: كيف تدخل هذا الغلام، ولنا غلمان مثله لم نحضرهم؟ فجمعهم ذات يوم وسألهم، عن تفسير سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1-3] ، فخاضوا في معانيها من ظواهر لفظها، فسأل عمر ابن عباس، فقال: إنها نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، فوافقه عمر على ذلك، وظهر للناس فهمه لكتاب الله، وصاروا يرجعون إليه في ذلك.(43/2)
طلبه للعلم في صغره
نشأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه نموذجاً حياً لطالب العلم في كل زمان ومكان، ولزاماً على كل شخص يسلك طريق طلب العلم أن يدرس ترجمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد ذكرنا في برنامج إذاعي أن تراجم الرجال مدارس الأجيال، وفي ترجمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما شب وصار يافعاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب إلى أحد أصدقائه فقال له: هلم نجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوترى -يا ابن عباس - أن الناس يحتاجون إلى ما تجمعه مع وجود كبار أصحاب رسول الله؟! فمضى ابن عباس في طريقه، قال ابن عباس: كنت أتبع الرجل الذي عنده حديث رسول الله من المسجد إلى بيته، وأستحي أن أوقفه في الطريق، فأتبعه وأقول: لعله يلتفت فيراني فأسأله، قال: مرة اتبعت فلاناً فلم يلتفت، ودخل بيته ولم يلتفت، ورد الباب دوني، وذلك بعد صلاة الظهر، قال: فجلست على باب بيته أنتظر خروجه، ووضعت ردائي على وجهي، والريح تسفي عليّ، فأخذني النوم، حتى خرج الرجل لصلاة العصر، فقال: ابن عباس على باب بيتي! قلت: نعم، جئت أسألك عن حديث كذا، قال: لو آذنتني فآتيك إلى بيتك! قال: إن العلم يؤتى إليه.
وكان ابن عباس، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذ بركاب زيد بن ثابت وهو راكب، وابن عباس يمشي، فيقول له: إما أن تركب، وإما أن أنزل، فيقول: لستَ بنازل، ولستُ براكب، هكذا أمرنا أن نعظم علماءنا.
هذا حال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في طلب العلم، ثم دارت الأيام، وصار صاحبه الذي قعد عن مرافقته في طلب العلم، يرجع إليه ويسأله عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان يفتي الناس بمكة، ثم إنه خرج من مكة وقال: لا أستطيع أن أسكن بلدة تتضاعف فيها السيئات كما تتضاعف فيها الحسنات، ولكني أتخذ من الطائف مسكناً، ثم أنزل إلى الناس يوم الحج، وبقي ساكناً في الطائف، وينزل مكة في وقت الحج.
ولقد ذكروا من مناقبه رضي الله تعالى عنه أنه رأى جبريل عليه السلام مرتين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بذلك فأخبر أنه سيفقد بصره، وقد ابتلي في آخر حياته بفقد البصر، قالوا: لأنه رأى جبريل مرتين، إحداهما لما جاء العباس يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهراً، فاستأذنه ثلاث مرات، فلم يأذن له، فرجع مغاضباً، وكان في بني هاشم بعض الحدة، فقال ابن عباس لأبيه العباس: يا أبت! لا تغضب فهو مشغول عنك بالرجل الذي كان يجلس إليه يحدثه، فقال: أوعنده رجل؟! قال: نعم، قال: ما رأيته! وأخذ بيد ابنه ورجع مرة أخرى إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصل استأذن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول مرة، ولم يكن هناك رجل، فقال العباس: (يا ابن أخي! ما بالك استأذنتك ثلاث مرات فلم تأذن لي؟ قال: ما علمت، قال: إن هذا الغلام يقول: إنك كنت مشغولاً برجل عندك، وما رأيت عندك أحداً، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله وقال: أرأيت الرجل يا غلام؟! قال: نعم، قال: ذاك جبريل عليه السلام) .(43/3)
سرعة حفظه
ومناقب ابن عباس وافرة، ويهمنا منهجه في العلم والتعليم، ولقد كانت له بمكة مدرسة نشأت عنه، وكذلك في البصرة، وانتشر علم ابن عباس بتلاميذه رضي الله تعالى عنهم، وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء.
ها هو ابن عباس ينظر إليه رسول الله صلى الله وهو غلام، فيرى فيه الفراسة، ويرى فيه الأهلية، لكي يلقي عليه هذا الحديث، وكان ابن عباس يحفظ من أول مرة، فلقد ذكر علماء الأدب، مثل الرافعي في تاريخ الأدب أن ابن عباس كان جالساً عند الكعبة، وعنده بعض الخوارج من أهل الشدة والشوكة، فإذا بـ عمر بن أبي ربيعة يمر عليه، فقال عبد الله: هيه هيه يا عمير! هل من جديد؟ فقال: نعم، وأنشده قصيدة من تسعين بيتاً، فلما انتهى قال الخارجي: يا ابن عباس! أما تخشى الله فينا؟ جئناك عند بيت الله نسألك عن الحلال والحرام، فتتركنا وتسمع لهذا الشاعر الماجن! أوأعجبك شعره؟! قال: نعم، وحفظته، قال: أحفظت ما قال؟! قال: نعم، وإن شئت أعدته عليك منكسّاً فعلت، قال: نعم -والله- شئت، فأعاد عليه القصيدة، وبدأ من آخر بيت فيها حتى جاء إلى أولها، وهذا يدل على عظم ذاكرة ابن عباس، فالرسول صلى الله عليه وسلم خصه بهذا الحديث عندما رأى فيه أهلية التعليم، فألقى عليه هذا العلم.
ويذكر علماء الحديث مسألة: الغلام الذي دون البلوغ هل يعتمد على روايته؟ يقولون: إن العبرة في رواية الحديث بوقت الأداء؟ فلو أن غلاماً سمع ووعى، ثم أدى ما سمعه بعد البلوغ، كانت روايته حجة، ولو أن كافراً مشركاً سمع وقت الكفر والشرك ثم أدى بعد الإسلام كانت روايته معتمدة؛ لأنه عند الأداء مؤتمن على ما يؤديه، وهكذا ابن عباس رضي الله تعالى عنه حفظ هذا الحديث العظيم.(43/4)
تحمله لهذا الحديث وهو غلام
وقوله: (يا غلام) ، ما سن الغلام؟ يقولون: من أول ولادته إلى قبل الاحتلام، هذا لغة واصطلاحاً، وقد يطلق الغلام على اليافع الأشد إذا بلغ الأربعين سنة، كما قالت الخنساء: غلام إذا هز القناة سقاها.
ولا يستطيع أن يسقي القناة بدماء الأعداء إلا القوي الأشد.
إذاً: غلام هنا على بابها اللغوي الأصلي، وهو: ما كان دون البلوغ؛ لأن ابن عباس ولد قبل الهجرة بعدة سنوات، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة، وكان ممن قدّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الضعفة، ويقول عن نفسه: (وكنت معهم حينئذٍ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا فضرب على أفخاذنا، وقال: يا أغيلمة بني هاشم! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس) ، فكان غلاماً أو أغيلماً حينما نزل مع الضعفة من الحجاج حين حج النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في سنة عشر من الهجرة غلاماً مع الضعفة والنسوة، ووعى هذا الوعي وهو غلام، وأخذ عنه العلماء هذا الحديث، ورواه الترمذي وغيره بروايات مختلفة، فحديثه موضع قبول عند العامة والخاصة.
يقول رضي الله تعالى عنه: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم) ، وهل كان راكباً أو ماشياً؟ جاء في بعض الروايات: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم) أي: راكباً خلف النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: كان راكباً على حمار، وقيل: على بغلة أهداها إليه المقوقس، وأخذ من ذلك يستنتج العلماء جواز الإرداف على الراحلة إذا كانت تحتمل ذلك، وقد جاء في حديث معاذ قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم) بهذا التصريح، فقال: (أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟) إلى آخره.(43/5)
معنى قوله: (أعلمك كلمات)
قال: (يا غلام!) ، فيه جواز نداء الغلام بوصفه، وإن كان يُعلم اسمه وعلمه، (إني أعلمك كلمات) أي: كلمات معدودات، موجزة، والتحفيظ والتعليم سواء، ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يفصّل المجمل من الكلمات، والكلمات: جمع كلمة، والكلمة: تطلق على اللفظ، كما قال الناظم: كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم واحده كَلِمة والقول عم وكلمة بها كلام قد يؤم فالكلمة تطلق على أحد أقسام الكلام، فإذا قلت: (قد) فهي كلمة، وإن كانت حرفاً، وإن قلت: (جاء) فهي كلمة، وإن كانت فعلاً، وإن قلت: (زيد) فهي كلمة وإن كان إسماً، فكل واحد من هذه يقال لها: كلمة، والموضوع الطويل الذي تخطب به في أمة يقال له أيضاً: كلمة، فيقال: ألقى فلان كلمة، ونشر فلان كلمة، فكلمة تطلق على اللفظ المفرد، وتطلق على مجموع الكلام، فكلمة الإخلاص هي: لا إله إلا الله، وهي عدة ألفاظ وسميت: كلمة، وهنا قال: (أعلمك كلمات) جمع: كلمة، فهي جُمل، وكل جملة من تلك الجمل، يقال لها: كلمة.(43/6)
معنى قوله: (احفظ الله يحفظك)
(احفظ الله يحفظك) ، يحفظك جواب فعل الأمر، أي: احفظ الله فإن تحفظه يحفظك، (احفظ الله تجده تجاهك) ، الفعل واحد، وأسند مرتين: مرة إلى العبد، ومرة إلى المولى سبحانه، فما هو الحفظ بالنسبة إلى العبد؟ وما هو الحفظ بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى؟ قالوا: المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله) ، ما يدل عليه الحال، وقرائن الحال، أي: احفظ الله في أوامره ونواهيه وحقوقه عليك؛ لأن الله غني عن حفظك سبحانه وتعالى، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] ، فهو الحافظ الحفيظ للعالم كله.(43/7)
حفظ الله في أسمائه وصفاته
فأنت أيها العبد مطالب أن تحفظ الله في كل شيء، فيما توجه إليك من أوامره، وفيما توجه إليك من نواهيه، ومما يجب له عليك أن تحفظه من أن تنسب إليه ما لا يليق بجلاله، فحفظ العبد لربه في ذات الله بأن يصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فإذا عطل شيئاً مما وصف الله به نفسه، أو عطل شيئاً مما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فما حفظ الله في ذاته، ولا في صفاته، فأول شيء تحفظ الله في ذاته، وفي أسمائه وصفاته، فتصف الله بكل ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الشافعي رحمه الله: نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، ونؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال ابن تيمية رحمه الله: نحن مأمورون بإيمان إثبات، لا بإيمان تكييف قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .
فأول واجب على العبد في حفظه لله، أن يحفظه سبحانه فيما وصف به نفسه فيصفه به، وفيما نزه عنه نفسه فينزهه عنه، فإذا عطل صفة من صفاته، أو أسند إليه ما لا يليق بجلاله، فإنه لم يحفظ الله، فأول باب في هذا الحديث، وأول واجب في هذا الموضوع، أن يحفظ العبد ربه فيما وصف به نفسه، وفيما نزه عنه نفسه جل جلاله سبحانه وتعالى.(43/8)
حفظ الله في العبادات
بعد هذا يحفظ الله فيما توجه إليه من ربه سبحانه من العبادات والمعاملات، وكل ذلك تشريع من الله، فمثلاً فرض الله على العباد الصلوات كما قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ، فالواجب على العبد في الصلاة أن يحفظها كما قال الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، فمن حفظهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن ضيعهن لم يكن له عند الله عهد، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) ، فالصلاة من العبادات، وقس عليها غيرها، وقال الله كما في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به) وجاء في الحديث: (الصوم جُنة ما لم يخرقها) والجُنة: ما يقي الإنسان، ويجنه من الأعداء، وتكون وقاية بينه وبين الآخرين، فإذا خرّق هذه الجُنة؛ توجهت إليه السهام من تلك الخروق، (قيل: بم يخرقها يا رسول الله؟! قال: يسب هذا، ويغتاب هذا، ويظلم هذا) ، فالجنة كانت من الخير وفعل الخير، وهو مزقها بأفعال الشر.
وفي الزكاة قال سبحانه وتعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، وقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، فالذي أتبع الصدقة بالمن، وأساء في إعطاء الزكاة، هل حفظها أم ضيعها؟ ضيعها وأبطلها بما أتبعها من المن على المسكين الذي دفعها إليه، ولماذا تمن عليه؟ هل ولدت ومعك هذا المال؟ هل هو حق لك من أجدادك وآبائك؟ المال مال الله، وجعله الله وديعة في يدك، وهو قادر أن يأخذه منك ويسوقه إلى غيرك، ويأخذ من غيرك ويسوقه إليك، وإنما هو ابتلاء وامتحان.
والحج كذلك يحفظ في نيته وقصده، وفي أعماله، فيقيم المناسك، ويعظم شعائر الله وغير ذلك.
فكل العبادات حفظها أداؤها كما أوجب الله سبحانه وتعالى، فمن حج من مال حلال، وزاد حلال، فإذا وضع رجله في الغرز، وقال: لبيك اللهم لبيك! قيل له: لبيك وسعديك، حجك مبرور، وذنبك مغفور.
وإن حج بمال حرام وزاد حرام، فوضع رجله في الغرز، وقال: لبيك، قيل له: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً، ما الفرق بين هذا وهذا؟ هذا ماله حلال كما أوجب الله، وهذا ماله حرام مما نهى الله، فكيف يأتي بيت الله بما حرم الله؟ فكأنه يجاهر بالمعصية، ويتحدى الله في بيته بماله من الحرام.(43/9)
حفظ الله باجتناب المعاصي
وهكذا من حفظ الله ترك المحرمات والمعاصي، فلا يقدم عليها عمداً، بخلاف من زلت به قدمه، والإنسان غير معصوم، وبعدما تزل به القدم في المعصية، يحس بأوساخه فيقوم فينفض الغبار عنه، ويغسل درنه بتوبة واستغفار، فهذا عبد الله حقاً.
أما إذا كان لا يبالي بما وقع فيه، ولا يخشى الله، ولا يخاف مما وقع فيه من الذنب، ولا يستحيي من الله، وقد جاء في بعض الأحاديث: (استحي من الله كما تستحيي من رجلين من ذوي المروءة في قومك) ، وجاء في الحديث القدسي: (لا أكون أهون من تستحيي منهم!) ، أي: تستحيي من الناس ولا تستحيي من الله!! فجعلت الله في نظرك أهون من الناس! نسأل الله السلامة والعافية، وليس هناك إنسان معصوم، ولكن يجب على العبد إذا سقط، أن يتوب، مثل إنسان ماشٍ في الطريق تعرقلت رجله في عود فسقط على الأرض، فهل يظل على سقطته أو ينهض ويزيل السبب الذي أسقطه حتى يمضي في طريقه سالماً؟ فيجب على العبد إذا زلّت به القدم، ووقع فيما حرم الله عليه، أن يسارع في الرجوع إلى الله، ويستغفر من ذنبه، ويغسل الخطيئة بهذه الحسنة، كما تقدم في الحديث الماضي: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) .
فقوله: (احفظ الله) هذا هو حفظ العبد لله سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل، فمقابله (يحفظك) ، كما قال الله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] ، يحفظونه من كل سوء يخشى منه، ولولا هؤلاء الحفظة المعقبات لتخطفتهم الجن، ولاجتالتهم الشياطين عن الأرض، فقوله: (يحفظك) أي: حفظ أمن، وهناك حفظ أعظم منه، فإذا حفظت الله في حقه، وفي أسمائه وصفاته، وفي أوامره ونواهيه؛ حفظك أن تهدم ذلك، وحفظك من أن تقع في السوء، وحفظك من أن تحيد عن الطريق، وحفظك على الجادة السوية، وحفظك على الصراط المستقيم، وحفظك أن تتلاعب بك الشياطين، وحفظك أن تميل بك الأهواء، وحفظك من وساوس النفس، وحفظك من كل سوء لا ترضاه، فيعاملك بالمثل؛ فإذا حفظت الله في ذاته حفظك في بدنك وفي ذاتك، وإذا حفظت الله في أوامره ونواهيه حفظك في سلوكك، وحفظك عن المعاصي، مثل يوسف عليه السلام في ذلك الموقف الرهيب عندما غلقت سيدته الأبواب كلها وقالت: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] ، أي موقف أشد حرجاً من ذلك؟! وهو في بيتها محكوم عليه، وهي سيدة الموقف وملكة، فماذا كان الموقف؟! حفظ الله فحفظه، قال الله: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] ، والله هو الذي كشف له هذا البرهان، وكانت رؤيته لبرهان ربه هي سبب الوقاية والحفظ عن أن يقع فيما يراد منه.
وهكذا لو نظر الإنسان في تاريخ الأمم، وفي الأحداث، وفي حياته، فلابد له من موقف مر به، أو مأزق وقع فيه، ولم يقدر أحد على إنجائه وحفظه إلا الله سبحانه، وشعر بنعمة الله عليه في ذلك.(43/10)
معنى قوله: (تجده تجاهك)
ثم قال: (احفظ الله تجده تجاهك) تجاه ويقولون: وجاهه، فأصل التاء من واو، يقال: فلان اتجه إلى كذا، أصلها من الوجه، فاتجه بمعنى اوتجه، والواو إذا جاءت بعدها تاء الاستفعال تبدل تاء وتدغم التاء في التاء، مثل: اتقى، أصلها: اوتقى، فالواو أبدلت تاء، وأدغمت التاء في التاء، فأصلها: (تجد الله توجاهك) ، فالاتجاه هو قصد العبد، وأخذ من الوجه أساساً؛ لأن القاعدة في اللغة العربية أن أصول موادها يوضع للمادة المحسوسة، ثم يُنقل إلى الأمور المعنوية، فالوجه مادة محسوسة، والوجهة أمر معنوي، كما قال الله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] ، وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] فالوجهة هي: الجهة والمقصد.
وقوله: (احفظ الله تجده تجاهك) ليس معناه: أمامك وليس وراءك، أو ليس يمينك، أو ليس يسارك، لا، إنما المعنى: تجد الله في كل اتجاه لك تقصده، سواء كان قصداً محسوساً، أو كان قصداً معنوياً، فلو اتجهت إلى طلب العلم تجد الله تجاهك، ولو اتجهت إلى فتح محل للتجارة تجد الله تجاهك، ولو اتجهت إلى حرث أرض لتزرعها تجد الله تجاهك، ولو اتجهت إلى صنعة تحكمها تجد الله تجاهك، وهكذا بصفة عامة؛ ونحن نعلم أن العبد مهما كانت وجهته فهي تحت سلطان الله، لكن المراد بهذا أنك إذا حفظت أوامر الله -على الوجه الذي بينا- كان الله سبحانه وتعالى معك في كل أحوالك.(43/11)
معية الله
وقيل: تجاهك بمعنى: معك، والمعية من الله على قسمين: معية عامة لجميع الخلق، قال الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [المجادلة:7] فهذه معية عامة، فلا يخفى على الله من خلقه شيء، ولا يغيب عن علمه وعن نظره شيء فهو مع الجميع.
ومعية خاصة: وهذه المعية الخاصة لمن أحبهم الله، أما من لم يحبهم فيتركهم، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل:128] ، وغير المتقين لا يستحقون هذه المعية، وقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، ولما قال قوم موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61-62] .
إذاً: قوله هنا: (تجده تجاهك) المقصود بها المعية الخاصة، فالله مع المتقين معية خاصة، وكان مع موسى وقومه معية خاصة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم والصديق وهما في الغار معية خاصة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر: (ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!) ، فجاء العدو لينظر، فإذا به تُعمى بصيرته، ويكذب نظره، ويرجع خائباً، والأثر قد دخل إلى الغار، وأمامهم حمامة باضت، وعنكبوت نسج، ونبات نبت، فقالوا: كيف يدخلان في هذا الغار وهذه الآثار موجودة؟! فردهم الله بنسج العنكبوت البالي المهين الضعيف، مع حقد قلوبهم، وسيوفهم بأيديهم، ويقول الصديق: والله! لو نظر أحدهم أسفل نعليه لأبصرنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!) ومن كان الله معه فلا يخاف أحداً، ومن يتخلى الله عنه فهل يأمن من الله؟! لا، والله! إذاً: المعية الخاصة هي: معية التكريم، ومعية النصر، ومعية الحفظ، ومعية التأييد، ومعية التوفيق، ومعية السعادة في الدنيا والآخرة، ومن حفظ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام ما أخبر به الصديق رضي الله تعالى عنه أنه كان جالساً عند رسول الله في مكة لما نزلت سورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، فجاءت زوجة أبي لهب ومعها فهر، أي: حجر كبير في يدها، وهي تبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لها: هو مع أبي بكر في ذلك المكان، فلما جاءت رآها أبو بكر من بعيد فقال: (يا رسول الله! فلانة جاءت وبيدها فهر، أخشى عليك منها، فقال: لا تخف إن الله منجيني منها!) ، وقرأ صلى الله عليه وسلم آيات من كتاب الله، فجاءت ووقفت على أبي بكر فقالت: أين محمد؟ أين صاحبك؟ وهو جنبها!! قال الله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45] ، وجاء في بعض كتب البلاغة المتأخرة في قوله: {حِجَابًا مَسْتُورًا} بمعنى: ساتر، مفعول بمعنى: فاعل، ولو كان مستوراً بمعنى ساتر، فهل رأت الحجاب؟! ما رأته، إذاً: مستور على الحقيقة لا على المجاز، فهو ساتر ومستور، ولو كان حجاباً مستوراً بمعنى ساتر، لكان ظاهراً لها، والمعجزة في كونه مستوراً، ومعنى ساتر يفهم من كلمة حجاب؛ لأن الحجاب للحجب والستر، فجمع القرآن بين المعنيين: فهو ساتر ومستور في وقت واحد، والمعجزة في كونه مستوراً عن عينيها.
ولما خرج صلى الله عليه وسلم من بيته ليلة الهجرة، كان على باب بيته عشرة رجال، ليس فيهم امرأة، ليس واحداً، ولا اثنين، بل عشرة رجال بسيوفهم قائمين على باب بيته ينتظرون خروجه ليقضوا عليه بضربة رجل واحد، لكن معية الله كانت مع رسوله في ذاك الوقت، فخرج عليهم علانية، وأخذهم النعاس، وأعمى الله أبصارهم، وقرأ الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، وأخذ التراب من تحت أقدامهم، ووضعه على رءوسهم، فمن كان الله معه فلا يخشى أحداً، (احفظ الله تجده تجاهك) .
فينبغي للعاقل أن يفكر، فالفلاسفة أو علماء الاجتماع يقولون: الإنسان مدني بطبعه، بمعنى: لا يعيش وحده، فأنت لا تستطيع أن تعمل كل شيء وحدك؛ من زراعة، ونسيج، وصناعة، فالثياب التي تلبسها لا تستطيع أن تغزلها، فلابد من جماعة من البشر تتعاون على الحياة، لقمة العيش لا تصنعها وحدك، فحرث الأرض، يحتاج إلى محراث، والمحراث يحتاج إلى ورشة تعمل الحديد، وهكذا الآلات والمكائن تحتاج إلى ورشة وعمال، وعند الحصاد تحتاج إلى منجل ليحصد، وهكذا فلا تطحن وتعجن وتخبز إلا وآلاف الأيدي قد عملت معك، فأنت لن تستطيع أن تعيش وحدك، ولابد أن يكون لك مُعين، وأنت بين أحد أمرين: إما أن تتخذ معينك رب العالمين، الذي بيده ملكوت كل شيء، وإما أن تتخذ معيناً يحتاج إلى من يعينه، فالعاقل قبل كل شيء يجعل وجهته إلى الله، فإن كان في عبادة فليخلصها لله، وإن كان في عمل مع خلق الله فليعامل الله، وهذا من قبيل الصدقة، كما قال الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ؛ لأنك بإعطائك المسكين الذي لا يستطيع أن يكافئك، فإنما تعطي الله، وتدخر الأجر عند الله، وهذا رصيد مضمون، الحسنة بعشر، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] .(43/12)
معنى قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)
وقوله: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) هو بمعنى: (احفظ الله تجده تجاهك) ، وكل إنسان معرض لرخاء وشدة، وكما جاء في كتاب الله: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] ، فإذا كنت تتعرف إلى الله في الشدة فقط؛ فأنت أناني، وإذا كنت تتعرف إلى الله في الرخاء؛ فأنت شاكر النعمة، وإذا أنعم عليك تعرفت عليه وشكرته، والشخص الذي يشكر النعمة خير من الأناني الذي لا يعرف المنعم إلا وقت الشدائد.
هذا الحديث يعطينا أحوال الحياة، فأنت لابد أن تتقلب بين شدة ورخاء، ورب العزة سبحانه هو ملجؤك في الشدة، وهو معينك في الرخاء، فإذا كنت تتعرف إلى الله في الرخاء، فتعرفك شكر للنعمة، وهذا يزيدها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فهل العبادة التي جاءت بعد هذا الإخبار أعظم أم العبادة التي قبل الإخبار، وهو يرجو رحمة الله؟ التي قبلها فيها طلب ومعاوضة، لكن التي بعدها محض شكر، ولذا قال لـ عائشة حينما كلمته في ذلك: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) .
إذا كان لإنسان عليك منّة، ثم دقمت له يداً أو شيئاً، فمهما كان الذي تعطيه فأنت في ظل التي له عليك، لكن إذا لم يكن له عليك يد، وقدمت له شيئاً لغير مقابل من قبيل حفظ العهد؛ فهذا أكمل، فإذا كنت تتعرف إلى الله في الرخاء، فهذه معرفة شكران، لا أقول: صحبة أو صداقة، بل أقول: معرفة شكران لنعم الله، وتعظيم الله دليل على محبتك لله؛ لأن محبتك لله هي التي ربطتك بالله، وإن كنت تشعر أنك لست في حاجة إلى أن تسأل الناس شيئاً، لكن العبد لا يستغني عن الله لحظة، كما أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم عندما طلبت فاطمة منه خادماً؛ لأنها تعبت من العمل على الرحا، واشتكت لـ علي فقال: سمعت أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بجوارٍ وعبيد، فاطلبي منه خادماً، فطلبت منه ذلك، فقال: (ما يمنعك أن تفعلي ما أوصيك به؟ تقولين دبر كل صلاة: يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله) ، والله! لو وكل الله العبد لنفسه طرفة عين لخر ميتاً هامداً، فالقلب إذا توقف لحظة يموت الإنسان؟ والدماغ إذا توقف لحظة أصيب بالشلل والموت، فالله سبحانه يرعى هذا العبد وهو غافل، وإيمانه ينقص وهو غافل، والمولى يدبر قلبه ويحركه، ولولا ذلك لخر ميتاً.
فحينما تكون في الرخاء تفعل الخير لوجه الله شكراً لله على نعمه، ولا تقوى أن تقطع نفسك عن الله، وصارت صلتك بالله كأنها سجية، فإذا جاءتك شدة، فمن كنت متعرفاً إليه سابقاً بالشكر هل يتخلى عنك؟ لا يمكن أن يتخلى عنك؛ لأنك ما تخليت عنه وقت السعة، فلا يتركك أبداً وقت الشدة، والله! لو كان لك صديقك دائماً تغدق عليه بالخير بدون منة له عليك، فإذا رآك في شدة فإنه من باب المروءة يفزع لك، فإذا كان الأمر فوق هذا، فكنت توليه بخيراتك دائماً، فإذا شعر أنه ألمت بك حاجة، فكم يبادر إليك، وهو إنسان، فما بالك بفضل المولى سبحانه؟ فالعبد ينبغي أن يكون عاقلاً، قال بعض علماء السلف: الكيس من كانت له عند الله خبيئة سر، كل واحد منا سيرجع إلى بيته، ويضع رأسه على الوسادة، ويطفئ الأضواء، ويغمض العينين، فليحاسب نفسه، كم له من خبيئة سر عند الله؟ وكم عليه من غدرة مع الله؟ وكم عليه من سيئة؟ وكم له من حسنة لا يعلمها إلا الله؟ فحاسب نفسك ساعة فيما لك وما عليك، وعد السيئة والحسنة حتى تنجو، فالتاجر الحاذق ما يبيت ليلة إلا وقد كتب حسابه الذي له والذي عليه، حتى يعرف مكسبه من خسارته، فالإنسان منا لماذا لا يحاسب نفسه على هذا؟ يا إخوان! هذا الباب واسع، ويصعب عليّ أن أطيل فيه، ولكن أكتفي بهذا القدر.(43/13)
قصة الثلاثة النفر الذين آواهم المبيت إلى غار
قال صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) فهو لا ينكرك في الشدة بل يعرفك في الشدة، معرفة خير، ومعرفة رحمة، ومعرفة إنقاذ، كما جاء في الحديث الثابت الصحيح: (أن ثلاثة نفر آواهم المبيت إلى غار، فتدحرجت صخرة وسدت عليهم فم الغار) ، نتصور ثلاثة رجال داخل الغار، وصخرة كبيرة على فم الغار، وهم لا يستطيعون دفعها، لو كنت أنت واحداً من هؤلاء الثلاثة، ما إحساسك تجاه هذا؟ لو كنت في بيتك وجاء أحد الأولاد وأغلق الباب عليك ظاناً أنك غير موجود، فقمت لتفتح الباب فإذا بالباب مغلق عليك! فضربت الباب لكن لم يفتح لك أحد، فعندها ستقلق وتغضب وأنت في بيتك وعندك فراشك، وبعد قليل سيأتون إليك، وعندك أمل في مجيئهم ولو بعد يوم، ولو علمت أن الغيبة طويلة فيمكن أن تكسر الباب، لكن هذه الصخرة ما يمكن أن تكسر، فتصوروا شعورهم بالموت وهم أحياء، وإحساسهم أنهم قبروا وهم أحياء، وليس هناك هاتف، وليس هناك تلكس، وليس هناك جرس، وليس هناك أي وسيلة للإعلام عنهم، انقطعوا عن العالم كله، ولا يقوى العالم كله أن يعلم بحالهم، فماذا كان موقفهم؟ (قالوا: ليس لنا إلا أن نرجع إلى الله) وبأي شيء يرجعون؟ بسود الصحائف الأولى، أو بخبيئة السر؟ في هذا الموقف هل رجعوا بعدم تعرفهم إليه في الرخاء، وبنسيانهم ذكر الله في تلك الحالات الواسعة، وفي ذلك الفضاء، أو رجعوا إلى الله بما كان لهم عند الله من صالح الأعمال السابقة؟ تساءلوا: هل يعلم بحالهم أحد ممن لهم به صلة؟ ثم أيقنوا أن كل من يعرفهم يجهل حالهم إلا الله سبحانه، فقالوا: فتشوا في دفاتركم، وفتشوا عن خبايا أسراركم مع الله، فقاموا بالتوسل بالعمل الخالص لله لا بعمرو ولا بزيد، ولا بكبير ولا بصغير، فقام أحدهم يقول: (اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان كبيران، وكنت آتي بالحليب في المساء فأسقيهما، ثم أسقي أولادي، وفي يوم نأى بي المرعى، فجئت متأخراً، فحلبت لهما فإذا بهما قد ناما، فكرهت أن أوقظهما، وأولادي صغار يتضاغون جوعاً عند قدمي، وكرهت أن أقدمهم عليهما، فقمت بالإناء عند رأسيهما أنتظر قيامهما حتى طلع الفجر! اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه) ، ماذا تقولون في هذا التوسل؟ ماذا تقولون في هذا العمل؟ ما قعد إلى أن يستيقظا وينادياه، وما سقى الأولاد، وما قال لهم: اشربوا بكيفكم فمن نام تركناه! ولم ينقض عليهما نومهما، بل تركهما في راحتهما ما إلى أن استيقظا بنفسيهما فسقاهما، فهذا العمل شديد، وليس بسهل، (فانزاحت الصخرة قليلاً) أي: تحركت، وظهر لهم أثر الدعاء، فهم -إذاً- على طريق صحيح، وفي عمل سليم، فقام الثاني وقال: (اللهم! إنه كان لي أجير، يعمل لي وأعطيه أجره يومياً، فأعطيته أجره يوماً قدحاً من شعير فاستقله، ومضى مغضباً، فنميته له، وبعد سنوات جاء وقال: أعطني ذلك الأجر، فقلت: اذهب إلى بطن الوادي، وخذ ما فيه فإنه أجرك! فقال: أتسخر مني؟ الوادي مليء بإبل وبقر وغنم، قال: والله! هو أجرك، فإني نميته لك، فذهب فأخذ كل ما رأى، ولم يترك شيئاً، اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانزاحت الصخرة قليلاً -جزءاً آخر- وقام الثالث فقال: اللهم! إنك تعلم أنه كانت لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجل المرأة، فراودتها عن نفسها؛ فامتنعت حتى أخذتها السنون، -أي الشدة- فجاءت تطلب مني عشرين ديناراً، فقلت: ذاك الذي تعلمين، فامتنعت، ثم أجابتني لشدة الحاجة، فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة، غطت وجهها وقالت: يا هذا! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها وتركت لها المال، اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانزاحت الصخرة، وخرجوا يمشون في الأرض) .
هذا خبر رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله! لولا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان العقل يتوقف في تصديقه، ولكنه خبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، فهذه نتيجة التعرف إلى الله في الرخاء، وجدوها عند الشدة، والعجيب أن هذا الحديث يجمع ثلاث حالات: واحدة اجتماعية في بر الوالدين، وواحدة أخلاقية في العفة عن المرأة، وواحدة اقتصادية فيما يتعلق بالأجير، فكأنه جمع أطراف العلاقة بين العبد وبين ربه، وبين العبد وبين الخلق، وهذا الباب واسع.(43/14)
قصة يونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت
وهناك نماذج أخرى في ذلك، فنبي الله يونس عليه الصلاة والسلام كما قال الله عنه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:141-144] ، فيونس عليه السلام كان كثير التسبيح قبل أن يأتي إلى البحر، فلما ألقي في البحر، والتقمه الحوت، تداركه الله بسبب تسبيحه من قبل، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) .(43/15)
قصة عجيبة لرجل من المتأخرين
ونورد قصة لو لم نسمعها من الثقات لما أبحنا ذكرها، وهي في الواقع نموذج من آيات الله التي يسمعها العبد فيزداد يقيناً بالله سبحانه وتعالى، ولقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يشاهدون الآيات والمعجزات، فيزداد في يقينهم بالله، وإيمانهم بوعده سبحانه، وهذه القصة من هذا القبيل، تنفع كل مسلم يتعامل مع الله، وهي: أن رجلاً من وادي الدواسر في المملكة خرج في السيل يطلب الماء، فما وجد ماءً في الآبار التي حوله، وكان تحت الجبل مغارة يقال لها: الدحل، وهي معروفة عند أهل تلك الناحية، وإذا جاء المطر وجرى السيل غمرها الماء، فيمكث فيها السنة والسنتين، لكنها في متاهة ومفازة، فهي تحت الجبل، في ظلام دامس، وطرق متعددة، ولا يدخلها إنسان إلا بدليل، وبضوء أو بحبل يربطه على فم الدحل، وهذا الرجل دخل بدون شيء، فلما أبعد قليلاً وجد نفسه قد ضاع، فجلس، وعلم أن أهله سيأتون يبحثون عنه في هذا الدحل، وأخذ أهله يبحثون عنه أربعة عشر يوماً، في الآبار، وفي الغيران، وفي الكهوف، فما وجدوا شيئاً، وأخيراً قالوا: نذهب إلى الدحل، فجاءوا وبطريقتهم العادية، يأخذون ثوباً من القماش، ويشقونه على عرض الكف، ويشبّعونه بالشحم، ويلفه رجل على وسطه، ثم يشعل النار في طرفه كالشمعة، ويأخذ حبلاً، ويدخل إلى الدحل، والناس ينتظرونه في الخارج، فمشى رجل منهم كذلك، فلما دخل قليلاً إذا به يرى شبحاً من بعيد جالساً، فناداه: أنت فلان؟ قال: نعم، أنا فلان، فجاء إليه، وخرج به، وذهبوا به إلى بيته، وسألوه: متى جئت إلى الدحل؟ قال: من يوم خرجت من عندكم! قالوا: أربعة عشر يوماً؟! قال: نعم، قالوا: كيف عشت هذه المدة كلها؟! قال: قبل أن أجيبكم أخبروني ماذا فعلتم في منيحة أيتام فلان؟ والمنيحة عند العرب أن يكون عندك شيء من الإبل، أو البقر، أو الغنم، وفيها الحلوب، فتسرح مع أنعامك، وإذا رجعت في المساء أخذت حليبها، وأرسلته إلى من منحته إياها، فهذا كان له جيران أيتام، وكان قد منحهم حليب بقرة من بقره، فكل يوم يرسلها إليهم، فقال: أخبروني عنها! فقالوا: وما علاقتها بذلك؟ قال: أخبروني أولاً! قالوا: كنا نرسلها كل يوم، وما قطعناها إلا بالأمس، قال: قد عرفت ذلك! قالوا: وكيف عرفت؟! قال: إني حينما دخلت، وتشعبت عليّ الطرق، وعرفت أني قد تهت، ووقعت في الهلاك إن لم يتداركني الله برحمته، جلست في مكاني بغية أن تأتوا إليّ فتأخذوني، فما جاءني أحد، فلما مضى زمن صرت أقوم للصلاة، وأتلو القرآن، ولما اشتد بي الجوع والعطش رفعت كفي إلى الله وسألته أن يغيثني، فإذا بإناء بين يدي، فرفعته إلى فمي فإذا بحليب البقر الذي أعرفه! وهكذا كل يوم لمدة ثلاثة عشر يوماً، وما انقطع عني إلا بالأمس!! ماذا نقول في هذا أيها الإخوة؟! هم كانوا يحلبون البقرة، ويرسلون حليبها إلى الأيتام، وهو هناك في الدحل تحت الجبل، ولا يعلم عنه أحد إلا الله، فمن كان يبعث إليه بحليب منيحته؟ مع أن الأيتام شربوا الحليب! وتأتي إليهم منيحتهم كل يوم، ولكن الله سبحانه عرفه في الشدة؛ لأنه كان متعرفاً إلى الله في الرخاء، فكان يمنح الأيتام هذا الرزق، فحينما وقع في الشدة لم يتخل عنه رب العزة، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله، فالله سبحانه هو الذي يسوق الحليب في ضروع الأنعام كلها، ولكن أن يأتي هذا الحليب إلى هذا الشخص في تلك الظروف فهذه هي الآية والمعجزة.
فما عدم مسلم خيراً أودعه عند الله قط، بل جاء في الحديث: (إن العبد إذا تصدق بالصدقة، وقعت أول ما تقع في كف الرحمن، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون كجبل أحد) ، تعطي لقمة صدقة، تضعها في يد المسكين، فيتلقاها المولى سبحانه، وينميها لصاحبها حتى تصبح كجبل أحد، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(43/16)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2](44/1)
معنى قوله: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)
الجزء الثاني من الحديث: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) ، ربط فيه جزئيات الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم يوجه الأمة كلها بوصيته لابن عمه ابن عباس؛ لأن قوله لواحد كقوله للأمة كلها، (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) ما هو السبب ألا تسأل غير الله، وألا تستعين بغير الله؟ بيّن ذلك في قوله: (واعلم أن الأمة كلها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) .
إذاً: الأمة قيمتها لا شيء، كما سيأتي بيانه، ويهمنا الربط: (إذا سألت فاسأل الله) يقول العلماء:
السؤال
طلب المسألة، والاستعانة: طلب العون، وكل منهما ينقسم إلى قسمين: سؤال للمخلوق فيما يقدر عليه، واستعانة بالمخلوق على ما في قدرته، وسؤال بما لا يقدر عليه إلا الله، واستعانة على أمر لا يعين عليه إلا الله، فيقولون: لا مانع أن تسأل العبد بما يقدر عليه، فتقول مثلاً: أعطني قلمك، ففي قدرته أن يمد ويعطي، مع أن تقدير الله سابق على هذا، ويمكن أن يقول لك: لا، ما أعطيك، لكنك سألته بما في قدرته، أو تقول: أعطني ريالاً، أو أقرضني عشرة ريالات، يقولون: يجوز إن كان في مقدور المخلوق الذي تسأله أو تستعين به، ومثاله أيضاً أن تقول: أعني على حمل متاعي، كما جاء في الحديث: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو تحمل له عليها متاعه صدقة) ، وقال الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، فإذا كان سؤال العبد للعبد فيما بيده ويقدر عليه؛ فهذا من المشروع، ولكن سؤال العبد للعبد بما لا يقدر عليه، ولا يملك عطاءه؛ فهذا هو الممنوع، وقد يصل إلى حد الشرك بالله؛ لأنك تعطي المخلوق من القدرة والمكانة ما ليس من حقه، بل هو من حق الله سبحانه وتعالى.(44/2)
سؤال العبد لله في كل شيء
ويجب على العبد أن يسأل الله حتى ما كان في مقدور العبد، فتوجه بقلبك أولاً وقبل كل شيء إلى الله؛ لأنه الذي يملك قلب العبد، فيوفقه لأن يجيبك لما سألت، وهو قادر أن يصرفه عنك، فاسأل الله أولاً وقبل كل شيء، وقد روي في الأثر (أن موسى عليه الصلاة والسلام قال له ربه: يا موسى! سلني كل شيء، صغيره وجليله وعظيمه، قال: والله! يا ربي! إنه لترد علي الحاجة، وأستحي أن أسألك إياها لصغرها، فقال: لا، بل سلني كل شيء، حتى شراك نعلك، وملح عجينك، وعلف دابتك) ونحن نعلم -يا إخوان- أنه إذا لم ييسر الله هذه الجزئيات اليسيرة للعبد، فلن يحصل عليها أبداً.
ويروى في أثر أن المولى سبحانه عاتب خلقه فقال: (من ذا الذي سألني فلم أعطه؟! من ذا الذي استغفرني فلم أغفر له، وأنا الغفور الرحيم؟!) وفي الحديث الصحيح: (إذا كان الثلث الأخير من الليل، ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) فالمولى يتودد إلى عباده، ويقول: (هل من سائل فأعطيه؟) .
وقد أشرنا إلى إعجاز القرآن وبلاغته في السؤال والجواب، ففي القرآن: يسألونك عن كذا، قل: كذا، يسألونك عن كذا، قل: كذا، ولكن في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة:186] ما قال: قل، بل قال: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] بدون واسطة أحد، فالمولى أقرب إلى عبده من حبل الوريد، وقالوا: الله سبحانه وتعالى يحب عبده اللحوح في السؤال، والإنسان إذا ألححت عليه تضجر، حتى لو ألححت عليه وقلت: ما اسمك؟ وما اسم أبيك؟ وما اسم جدك؟ فإنه يغضب.
قال الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسئل يغضب قال بعض العلماء: إن المولى سبحانه إذا سأله عبده الصالح قد يؤخر عليه الإجابة، فتقول الملائكة: (يا رب! عبدك الصالح يدعوك، فيقول: إني أحب أن أسمع هذا الصوت) ، فأخر حاجته، ليسمع صوته، يا سبحان الله! إلى هذا الحد المولى سبحانه الغني الحميد يتودد إلى الخلق ليكثروا السؤال عليه، وهو لا ينقصه شيء، خزائنه ملأى، وجاء في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر) فالمخيط ناعم أملس، ولو كان عود سواك أو عصا فيمكن أن يأخذ شيئاً من الماء، لكن المخيط أملس ناعم ما يعلق فيه الماء، وذكر هذا المثال لكي تأخذ الصورة العملية أنت بنفسك فتقتنع، وتقول: والله! ما نقص شيء، فخزائن الله ملأى لا تغيض، ولهذا عطاؤه كلام، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما تراءت له الجنة في القبلة، وتقدم خطوة، سألوه: (ما لك تقدمت؟ قال: رأيت الجنة، فتقدمت لآخذ لكم منها قطف عنب، ووالله! لو أخذته لأكلتم منه إلى يوم القيامة!) ، فكلما تأخذ حبة من العنب تنبت أخرى محلها، فما دام كل حبة تستخلف بغيرها فإنه لن ينتهي أبداً، ففضل الله كبير، فإذا سألت فاسأل الله؛ لأن الله هو الذي يعطي، وإذا سألت العبد، فمن أين يأتيك بما سألت؟ يعطيك مما عنده، والذي عنده هو من الله، فهي تحويلة، أنت تسأل زيداً، وزيد سيعطيك مما أعطاه الله، فالذي أعطاه قادر أن يعطيك، وهو أقرب، فالسؤال عبادة، فإذا كان المسئول فوق قدرة الإنسان، وسألت إنساناً فهذه هي المصيبة، كيف تتوجه إلى مخلوق حياً كان أو ميتاً، ولو كان من ملائكة الرحمن؟ كيف يسأل إنسان عقيم إنساناً مثله أن يعطيه ولداً؟! هو لا يملك هذا، أو إنسان مريض يسأل إنساناً أن يعطيه العافية!! وهو لا يملك هذا، حتى الطبيب يأتيه بالدواء حسب علمه وتجاربه، وهذا الدواء قد يتفاعل مع هذا المرض بإذن الله، فهل يعطيه الشفاء بنفسه أو هو من عند الله؟ الشفاء من عند الله، فهو يشفي من شاء بلا شيء، ويمرض من شاء بلا شيء، قال الله: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49] فعلى العبد أن يتوجه إلى ربه في سؤاله.(44/3)
مشروعية طلب الدعاء من الرجل الصالح
إذا جئت تقول لرجل صالح: ادع الله لي أن يرزقني الولد، فمرحباً، أنا وأنت نتوجه إلى الله لتسأله وتدعوه، ذاك الرجل الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (سلني) أي: سلني أي شيء تريد، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة!! سبحان الله العظيم! ما قال: أسألك ولاية كذا، أو غير ذلك، فهو يعلم أن الله إذا أكرمه بمنزلة عالية في الجنة، فالذرية والأزواج يكرمهم الله سبحانه وتعالى معاً في الجنة، فقد قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُم} [الطور:21] ، فهو قال: (يا رسول الله! أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك؟ قال: هو ذاك) ، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود) أي: الزم طريقاً يكون سبباً لذلك، فأكثر من صلاة النافلة، (أعني على نفسك بكثرة السجود) ، ثم تأتي شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم متممة لذلك.
فإذا رأيت رجلاً تتوسم فيه الخير، وسألته أن يسأل الله لك، وصرت أنت وهو تدعوان الله سبحانه، فهذا مظنة الإجابة، وروي: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه عمر رضي الله عنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية، ولم أوف بنذري، فقال: أوفِ بنذرك يا عمر! فلما أراد الخروج قال له النبي: لا تنسنا من دعائك يا أخي!) أي: من دعائك هناك عند الكعبة، فلا مانع في ذلك.
وقوله: (وإذا استعنت فاستعن بالله) ، والاستعانة تكون على النفس، وعلى الغير، وعلى العبادة، وعلى امتثال الأوامر، وعلى اجتناب النواهي، وعلى النوائب التي تصيب الإنسان، وعلى كل ما يلم بالعبد، فالعبد ضعيف، فلابد له من إعانة، كما يتعاون الأفراد في الدنيا على أمور حياتهم، قال الشاعر: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم ولكن فيما لا يملكه العبد، فلا تستعن إلا بالله!(44/4)
ورود الاستعانة في أول سور القرآن دليل على أهميتها
ولعظم قضية الاستعانة، ولعظم حاجة العبد إليها، صُدرت في القرآن، وتعبدنا الله بسؤالها في كل ركعة من الصلوات في سورة الفاتحة،: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] .
فبعد البسملة الحمد والثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولا يكون ذلك إلا لله، ثم جاء الوصف العام (رَبِّ) والرب هو: الخالق، المدبر، المربي، الحافظ، الرازق، فالرب هو: الذي يربي، ويصلح المسألة، عشرة معانٍ في اللغة لمعنى الرب، وقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، جمع: عالم، فمنهم: الإنس، والجن، والملائكة، والحيوان، والوحش، والطير، والحوت، والنبات، والجبال، والجماد، والهواء، والماء، فكل ذلك عوالم لله، خاضعة لقدرته وإرادته، وهو المسير لها والمسيطر عليها، وهو ربها، خلقها ويدبرها، لا الماء يطغى على اليابس، ولا اليابس يغرق في الماء، ولا الليل سابق النهار، قال الله {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] كل في نظام عجيب، فالله هو رب هذا العالم كله، الشجر لا يزهر ولا يثمر ولا ينبت إلا بإذنه، والأنثى من كل المخلوقات لا تحمل ولا تضع إلا بإذنه، وكل هذه الكائنات تحت تصريف وتدبير الله، فالحمد لله؛ لأنه رب العالم كله، فاستحق الحمد بذاته، وربوبيته للعالمين من رحمته كما قال: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ولم يقل: رب العالمين، الملك الجبار، مع أنه قادر قاهر جبار، ولكن ذكر الرحمة في معرض التربية، وفي معرض الرعاية، فهو رحمن رحيم، وهذا في أمور الدنيا، وفي الآخرة هو الملك الواحد الأحد، كما قال الله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] .
إذاً: أيها العبد! إذا كنت فرداً من عوالم هذا الكون، وكلها تحت ربوبية الله، والله رب العالمين بيده نواصي المخلوقين، سماءً وأرضاً، وجبالاً وبحاراً، وفي الآخرة الملك يكون لله، فأنت في الدنيا تحت ربوبية الله، وفي الآخرة تحت سلطان وقهر وملك الله، فأين تفر عن الله؟ فتقول: حقاً ويقيناً إياك وحدك نعبد، وإياك وحدك نستعين، وهل أحد له مكانة في هذا الوجود يستحق بها أن يتوجه إليه غير الله؟! لا، ومن هذا الذي ستتوجه إليه؟ وبأي سلطة وبأي استحقاق يعبد من دون الله؟ فالعالم كله مربوب لله، ويوم الآخرة الملك لله، فأين تذهب؟! فتقول: إياك وحدك نعبد؛ لأنك المستحق للعبادة يا رب العالمين! ولا نعبد غيرك، لا بسؤال ولا باستعانة، ولا بخوف ولا رجاء، ولا بشيء، ونستعينك على تلك العبادة؛ لأن من لم يعنه الله على الطاعة فلا طاعة له، وحقاً: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولهذا فإن هذه الكلمة جاءت من كنز تحت العرش، ويذكر بعض العلماء عند هذا الحديث قصة، وهي: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن ابني أخذ أسيراً، وربط بالقد) والقد جلد البعير اللين، إذا شُد على شيء فيبس كان كالحديد، وهذا يفعلونه مع العتاة الذين لا يقدرون عليهم، وصارت أمه تبكي حينما علمت بذلك، فجاء أبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (أرسل إليه من يخبره أن يكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله) ، فبلغ الابن ذلك، فأكثر من قولها، فإذا بالقد يتساقط عنه، ثم رأى ناقة قريبة منه فركبها وهرب، فمر بسرح القوم - أي إبلهم - فنادى بها فتبعته، فما فجأ أبويه إلا وهو يطرق الباب، فقالوا: هذا صوت مالك والله! وأمه تقول: مالك في القد هناك يئن، فلما خرج أبوه والخادم وجدوه قد جاء ومعه الإبل، فذهب أبوه إلى رسول الله فسأله.
فقال: (هي إبلك فاصنع بها ما شئت) ، بصرف النظر عن صحة هذا الحديث أو ضعفه، يهمنا أثر (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، ومعناها كما يقول العلماء: لا حول عن المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله، والعزيمة والإرادة والتوفيق كله من الله سبحانه وتعالى.(44/5)
معنى قوله: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ... )
ثم قال: (واعلم (تقدم أنه قال: (يا غلام! إني أعلمك كلمات) ، ومما علمه (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) ، وكل هذا يدخل في قوله: (أعلمك) ، ثم قال: (واعلم) فجدد ذكر العلم مرة ثانية، ولم يجدده فيما قبلها عند كل كلمة، وهذا يدل على تجديد الإدراك والعلم لأمر جديد له أهمية، وتعريف العلم أتعب العلماء، وأحسن ما يقال: العلم ضد الجهل، وبعضهم يقول: العلم هو معرفة الشيء حقيقة على ما هو عليه، هذه أشياء لا ندخل فيها، ويقال: إدراك، والإدراك يحتاج إلى تفسير أيضاً، فما كان معلوماً بداهة لا يحتاج إلى تعريف.
قال: (واعلم بأن الأمة) الأمة في اللغة تأتي بمعنى: الجماعة، وتأتي بمعنى: الرجل الفاضل القدوة كما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] ، فهو وحده كان أمة، وتأتي بمعنى: المدة من الزمن كما قال الله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45] ، والأمة تطلق على جماعة، وتطلق على جميع المعاصرين فتشمل أمة الإجابة، وأمة الدعوة، والمراد بالأمة هنا: جميع الخليقة من بني آدم، قال: (واعلم بأن الأمة لو اجتمعت -أي: وتعاونت- على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) ، والعكس كذلك، (وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) ، فالأمة كلها لا تستطيع أن تنفع أو تضر إلا بما قدر الله، فهناك خطة مقدرة لن تخطئها، ما كان لك فسوف يأتيك، (وما أخطأك لم يكن ليصيبك) ، فالمقادير موجودة، والتقديرات سابقة، وتقدم معنا أن الله وكل بالجنين ملكاً، يكتب: عمره، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد، وقال الله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ، فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، وبعضهم يقول في تفسير قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] : النون: هي الدواة، والقلم هو قلم القدرة، وبصرف النظر عن هذا التفسير، فقد جاء في الحديث: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) ، أو (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب) ، على رواية الرفع يكون مبتدأ، أي: أول ما خلق الله من المخلوقات كلها القلم، وأولَ -بالفتح- تكون على الظرفية، أي: أول لحظة خلق الله فيها القلم قال له: اكتب، ومتى كان خلقه؟ لم يتعرض له سواء كانت على الابتدائية، أو كانت على الظرفية، فالله سبحانه أمره أن يكتب فقال: (ماذا اكتب؟ قال: كل ما هو كائن، إلى يوم القيامة) ، فجلوسك، وغمضة عينك، وحركة لسانك، وابتلاع ريقك، وأخذ نَفَسِك، وإخراج نَفَسِك، وحركة الذر في ظلام الليل، كل ذلك مكتوب قبل أن يوجد هذا العالم، فسبحان الله لا تخفى عليه خافية، فإذا كان كل شيء مكتوباً، فالأمة لا تستطيع أن تغير مما كتب الله شيئاً، ونذكر قصتين لنبيين كريمين، يتبين منهما أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء، لن يستطيعوا أن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك:(44/6)
قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإلقاؤه في النار
أولاً: قصة خليل الرحمن عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كان يدعو بمفرده أمة إلى الله، وتحداها وحطم أصنامها، وأذلها، وسخر منها، وعندما سألوه عن ذلك قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] فقالوا: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65] إلى آخر الآيات، ثم أجمعوا كيدهم على أن يحرقوه، وذكروا أن الرجل منهم كان يوصي عند موته بجزء من ماله لحطب النار التي سيلقى فيها إبراهيم، {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:98] ، إبراهيم عليه السلام كان وحده في تلك الأمة، وأجمعوا على ضره، ولكن الله ما قدر عليه الضر، وهم قد جمعوا كل ما في إمكاناتهم، وعند إلقائه تحيروا كيف يلقونه في النار في الوقت الذي لم يكن أحد يقدر أن يقرب منها لشدة حرها، فجاءهم أستاذهم إبليس ورسم لهم خطة المنجنيق، فصنع المنجنيق ووضع إبراهيم فيه، وما بقي إلا أن يرمى، فجاءه جبريل عليه السلام يسأله: يا إبراهيم! ألك حاجة؟ الوقت ضيق، ولا يوجد فرصة للكلام الكثير، فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى، هذه أخصر برقية في العالم، (إليك فلا) ، (إليه بلى) ، (علمه بحالي أغنى عن سؤالي) ، وبعض الناس يعترض على هذه الجملة ويقول: إذاً: لا ندعو، ولا نسأل، فهذا غفل عن الظرف، والعرب من بلاغتهم يقولون: لكل مقام مقال، هل كان وقت إبراهيم متسعاً؛ لأن يقول: يا رب! يا رب؟! لا يوجد وقت، فهو رمي بالمنجنيق وصار في الهواء، وليس هناك وقت ليرفع كفه ويدعو ويستجير، ولو كان في الوقت متسع، فعليك أن تلجأ إلى الله، وتسأل الله، وتدعو الله، لعل القضاء والقدر معلق بسؤالك، قال الله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39] ، لكن من الخطأ أن تكف عن الدعاء، قال الله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر:60] ، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] ، فالإعراض عن الدعاء إعراض عن الله، لكن إبراهيم لم يجد وقتاً للدعاء.
هل ضرت تلك الأمة بجمعها إبراهيم؟! لا، مع أنهم فعلوا كل ما في إمكاناتهم، والعجيب -كما قال بعض العلماء- أن المولى يعلم بأنهم لن يصلوا إليه، ومكنهم من إيقاد النار، وما أرسل سحابة على قدر النار تمطر وتطفئ عليهم النار، ولم يجر سيولاً على النار، وما أنزل عليهم صواعق تهلكهم، وكل هذا في قدرة الله، لكن لم يقدره لتكتمل المعجزة، وتظهر الآية، وتكون لنا عبرة، فتركوا على مهلهم؛ جمعوا الحطب، وأتوا بآلة النفخ، فنفخوا حتى تأججت النار، حتى بلغ من شدتها أن الطير لا تستطيع أن يطير في سمائها، ثم أتوا بالمنجنيق، ففعلوا كل ما عندهم، ووصلوا إلى أقصى غاية في إمكاناتهم، ثم قال الله كلمة: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ، هل يوجد عقل للنار؟! هل في النار دماغ أو أذن تسمع به؟! لكن خالقها الذي أذن بتأججها وأعطاها القدرة على الاشتعال، سلبها القدرة على الإحراق بكلمة، فالآية تظهر حينما يأتي السبب، وينتفي المانع، ويقف الأثر، فالسبب موجود وهو النار المحرقة، وانتفى المانع، فلا ماء يطفئها، ولا هو لابس ثياباً ضد الحريق، وما عليه شيء من هذا، فما الذي منع النار أن تحرق إبراهيم بطبيعتها؟ ليس هناك مانع إلا قوله: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] .
إذاً: لو أن الأمة اجتمعت على أن يضروك بشيء، لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وإذا لم يكن قد كتبه عليك فلن لم يستطيعوا أن يغيروا ما كتب الله، وها هو إبراهيم عليه السلام أنجاه الله من النار بعدما فعلوا ما بوسعهم وبعدما خمدت النار، نظروا إلى إبراهيم ليروا كيف حرق، ففوجئوا به حياً!! ولو كانت عقولهم سليمة لآمنوا، فهذه نار كبيرة ماذا كانت ستبقي من إبراهيم لو خلي بينها وبينه لن تبقي منه شيئاً، لكن عقولهم سخيفة فلم يؤمنوا!! يقول بعض العلماء في قوله سبحانه: (كُونِي بَرْدًا) حفظ من شدة البرد بقوله: (وَسَلامًا) ، ولولا هذا لكانت (كالفريزر) فيتجمد، فرحمه الله من بردها بسلام فقال: ((يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ((.(44/7)
قصة محمد صلى الله عليه وسلم وكيد قريش له ليلة الهجرة
ثانياً: قصة الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة الهجرة، كان وحده في بيته، فاجتمع على باب بيته عشرة رجال أشداء بسيوفهم ليقتلوه، وقد تآمرت قريش -كما علمنا- في دار الندوة، فقيل: نقتله، فقال بعضهم: لا تستطيعون، فقيل: نحبسه، فقال بعضهم: يفكونه، فقيل: نخرجه من مكة، فقال بعضهم: سيأتيكم بقوم فيحاربونكم، فكل الآراء تعارضت، ولكن الشيخ النجدي -وهو الشيطان- دخل عليهم، وقال: القول ما قال فلان، اجمعوا له عشرة رجال من القبائل، وأعطوا كل واحد منهم سيفاً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم أن يحاربوا القبائل كلها، فيقبلون بالدية ويسكتون، فقريش كلها -والعرب تبع لأهل مكة- تآمروا واجتمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو وحده، وجاءوا فعلاً بالفتية ومعهم السيوف على باب البيت، فالمولى سبحانه أرسل جبريل فقال: يا محمد! لا تبت في فراشك الليلة، سبحان الله العظيم! محمد وهو في بيته يدبره رب العرش، ويصرفه ويحفظه سبحانه وتعالى، وكان الله قادراً أن يرفعه من سقف البيت كما في ليلة الإسراء والمعراج، عندما كان في بيت أم هانئ مستلقياً على ظهره، فإذا بالسقف ينفرج وينزل منه ملكان، فيأخذانه إلى زمزم، فكان يمكن أن يأتي ملك واحد يأخذه من سقف البيت، ويأتي له بالبراق، كما أتي له به في الإسراء، لكن حتى في الهجرة ما أتي له بالبراق، بل خرج من بيته واختفى في الغار، لتكون آية ومعجزة، وتظهر قدرة الله، ولتكتمل المعجزة، وكان من الممكن أيضاً أن يلاقوا أسداً أو فحل إبل على باب بيته فيشردوا، وكان من الممكن أن تأتيهم الزلازل والقلاقل أو الحيات والعقارب فيشردوا، لكن تركهم الله يأتون ويصطفون بأكمل استعداد، ويخرج صلى الله عليه وسلم من نفس الباب، وهو يقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، فأعمى الله أبصارهم وزاد إمعاناً في إذلالهم أن أخذ التراب من تحت أقدامهم ووضعه على رءوسهم، ولو كان خرج من السقف، لقالوا: والله! هذا شيء ما نقدر عليه، والله! هذا من السحر الكامل، لعل الجن أتت معه، لكن لا، هم على ما هم عليه، وأنجاه الله من الطريق المعتاد من بين عشرة فرسان، ولا أحد منهم فتح طرفه ورآه وهو خارج، فهذا من الإعجاز الذي يبين قدرة الله، وما خرج وهو يجري، بل على مهله، وجعل التراب على رءوسهم واحداً واحداً، فبينما الخائف يجري خوفاً أن يلحقه أحد، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج وهو مطمئن القلب ومستقر الفؤاد، موقن بحفظ الله، وبرعاية الله، ويعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لن يضروه إلا بما كتب الله عليه، والله قد وعده بإبلاغ الرسالة.
فلو أن الإنسان وقف عند هذه المسألة، وعلم علم يقين أن الأمة كلها لو اجتمعت على نفعه أو ضره فلن تقوى عليه لطابت نفسه، ولما توجه مازحاً ولا صادقاً في صغيرة ولا كبيرة لغير الله، وأي غنى، وعز، ورفعة، أعظم من أن تكون مرتبطاً بالله، فيما ترجو أو تخشى؟ وأي ملك واستغناء أن تشعر بأنك غني عن الناس كلهم غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم؟ لا، والله! لا يوجد أعظم من هذا.(44/8)
الإيمان بالقدر خيره وشره يبعث في نفس المؤمن الطمأنينة
فالواجب على العبد أن يكون ربانياً، أي: مع ربه في علمه، وفي طاعته، وفي معرفته، وفي تعريف الناس بربهم، وبهذا يكون أسعد الناس، وأغنى الناس، وأقوى الناس، يسعد في دنياه ويرتاح، ما عنده هم، ولا عنده مذلة لأحد، ولا في عنقه منّة لأحد، فيكون دائماً مع الله سبحانه وتعالى، (وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) ، وإذا كان الله قد كتب على الإنسان شيئاً، فالمؤمن كل ما يقدره الله عليه هو خير له، كما في الحديث: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير: إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له) ، وهذا للمؤمن فقط؛ لأنه يعلم أن كل شيء بقضاء الله وقدره، ولذا يقولون: إن ظاهرة التخلص من مشاكل الدنيا بالانتحار -عياذاً بالله- أقل ما تكون في المسلمين، وأكثر ما تكون في غير المسلمين؛ لأن الكافر لا يؤمن بقضاء الله ولا بقدره، فإذا أصيب في تجارة، أو أصيب بعاهة، أو أصيب في ولده، أو غير ذلك، فلا يجد أمامه إلا أن يهرب من الدنيا، أما المؤمن فيعلم أن هذا قدر الله عليه، فإن صبر عليه فله الأجر.
يقول بعض العلماء: لو قيل: إن هذا الحديث نصف الإسلام، أو قال: هو الإسلام -لأنه يجمع للإنسان أطراف كل الفوائد والمعارف- لما كان في ذلك مبالغة.(44/9)
معنى قوله: (رفعت الأقلام وجفت الصحف)
ثم قال: (رفعت الأقلام، وجفت الصحف) ما هي الأقلام؟
الجواب
قال عليه الصلاة والسلام: (أول ما خلق الله القلم) ، وهناك أقلام أخرى الله تعالى أعلم بها، وهل هذا هو قلم القدر الفردي أو قلم القدر السنوي أو قلم القدر العام الكوني؟ كل هذه أقلام جرت للإنسان، أما القلم العام الكوني، فهو القلم الذي أقسم الله تعالى به، وهو القلم الذي أمره الله أن يكتب كل شيء، وكتب كل شيء في اللوح المحفوظ، والعالم كله يجري على مقتضى ما كتب أولاً، يليه بعد ذلك من الأقلام العامة القدر السنوي، وهو ما جاء في قوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3-4] وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ومعنى: ليلة القدر أي: الرفعة والشأن، وقيل: أي: المقدار والتقدير، وقالوا: ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا مقادير السنة الجديدة، أو بمعنى أوضح: المنهج المختص للعالم في تلك السنة، فتطلع عليه الملائكة الموكلة به، وتنفذ ما في هذا القدر في هذه السنة إلى أن يأتيها نظام آخر.
والقلم الثالث: هو الذي يجري على كل فرد فيما يخصه، وكل ذلك مما قدر الله، وقد قيل: (يا رسول الله! علام نعمل، على أمر قدر ومضى، أو على أمر مستأنف جديد؟ فقال: بل على أمر قد قدر ومضى، قالوا: فلماذا نعمل إذاً؟ -أي: ما دام الأمر مقدراً فلماذا نعمل؟ - فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، هل جاءك بيان بعملك؟ هل جاءك بيان بمصيرك؟ هل جاءك بيان بما يخصك؟ لا، بل جاءك كتاب من الله فيه أوامر ونواه، فعليك أن تمتثل الأوامر، وتجتنب النواهي، والنتيجة والنهاية إلى الله، ومن هنا أجابهم صلى الله عليه وسلم بقوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، والأمر خطير ومخيف، قال عليه الصلاة والسلام: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة، حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ومنكم من يعمل بعمل أهل النار، حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذارع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ، وتعرفون قصة الرجل الذي لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في طريقه إلى الغزو، فأسلم ضحى النهار، ثم غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستشهد في المعركة، ولم يكن قد صلى ركعة واحدة، وكان مآله إلى الجنة! إذاً: (رفعت الأقلام) عن الكتابة والتغيير، إلا ما شاء الله، (وجفت الصحف) ، وهل هناك صحف حقيقة؟ وهل هناك مداد؟ وهل هناك قلم؟ وهل هناك كتابة؟ العلم لله، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بالكتابة والصحف فنؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وبعض الناس يقول: هذا اللوح الذي يسع مقادير العالم من أولها إلى آخرها، ويسع الطيور في الهواء، والحيتان في الماء، وكذا وكذا، فكيف يمكن ذلك؟! فنقول: الآن جاء الكمبيوتر، وفيه رقائق يحمل السنتيمتر المربع منها أكثر من مائة صحيفة من كتاب، واكتشفوا أن عقل الإنسان في حياته كلها لا يملأ خمسة في المائة من مقياس حجم سعته لمعلوماته! فهذه أمور نردها إلى القادر سبحانه، ونؤمن بأن هناك أقلاماً، وأن هناك صحفاً، ونقول: إذا كان المولى -وهو العالم بكل شيء، والقادر على كل شيء- قد قدر، وكتب، وأملى ذلك، وأثبت ذلك في الصحف، فنحن في حياتنا يجب أن نكون منظمين، ولا نأتي بالأمور عفوياً وارتجالاً، فيجب أن يسبق العمل علم وتقدير، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(44/10)
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [3](45/1)
ارتباط العبد بالله تعالى سبب لحفظ الله له
قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) وهذا محط الرحل، يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن يكون العبد مرتبطاً بربه؛ لأن جميع الكائنات في قبضة يده، وهو المسخر لكل شيء، فإذا سألت حاجة كبيرة أو صغيرة فسل خالقها ومالكها الذي يملك أن يوصلها إليك، وإذا كنت في حاجة إلى طلب المعونة -لأنك لا تستطيع أن تعيش وحدك، ولا تستطيع أن تهيئ لنفسك كل ما تحتاج- فاستعن بالله.
وقد ذكرنا أن الآية الكريمة في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، جاءت بعد مقدمة تثبت ذلك وتستلزمه، فقوله: (الحمد لله) أي: الثناء بالجميل على الله سبحانه، (رب العالمين) فربوبية العالم ومصلحة العالم راجعة إلى الله، هو الذي خلق، ورزق، ودبر، وربى، فإذا كان هو رب العالمين، فأي شيء تسأله لا يخرج عن عالم من عوالم هذا الكون، فاسألها من رب العالمين، الذي ربوبيته، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ، وفي الآخرة هو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، فأين تذهب؟ وأين تتوجه؟ إذا كانت الدنيا لله وحده، كما قال سبحانه: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:83] ، وإذا كنت في الآخرة فمرجعك إلى الله، وله الملك، وله الأمر، كما قال الله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ، فلا ينبغي لك أن تصرف وجهك عنه سبحانه وتعالى.
ثم قال: (واعلم أن الأمة) .
فقوله: (واعلم) أعاد ذكر العلم مرة أخرى؛ لزيادة التنبيه والتأكيد، (أن الأمة) ، جميع الخلق، ويمكن أن نتوسّع في معنى الأمة، فالأمة الجماعة، والأمة الزمن، والأمة الشخص القدوة، ويمكن أن يقال: العالم كله؛ إنسه وجنه وملائكته، فالأمة لو أرادت أن تصيبك بخير أو بشر لن يصلوا إليك إلا بشيء من الخير كتبه الله لك أو من الشر كتبه الله عليك.
إذاً: المقادير بيد الله، والكائنات في قبضته، والأمر كله راجع إليه، فإذا كان الأمر كذلك فلمن تتوجه؟ لله؛ لأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بخير لن ينفعوك بخير إلا كتبه الله لك، وما قُدر لك لن يخطئك، وإن أرادوك بسوء لن يصلوا بهذا السوء إليك إلا إذا قدّره الله عليك.
وقوله: (لن يضروك بشيء ... ) لن هذه أبدية، أي يضرونك بشيء إلا بشيء قد قدره الله عليك، وإذا كان مقدراً عليك فقدر الله ماضٍ، إلا إذا رفع بقضاء آخر، بدعاء أو فعل خير.
الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اجتمع عليه أبوه وقومه ومعهم النمرود، على أن يجعلوه في النار ورموه بالمنجنيق، لأنهم عجزوا أن يدنوا من النار ويقتربوا منها لشدة حرها وعلو لهبها، فماذا كانت النتيجة؟ قال الله: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:98] ، فالمولى سبحانه الذي خلق النار، وسلطانها بيده، وهو الذي أعطاها خاصية الإحراق قال لها: ((كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) ، هل في العالم قوة تستطيع أن تسلب النار خاصيتها؟ لا يمكن، لكن قدرة الله فوق كل شيء.(45/2)
قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون وجنوده في البحر
وفي تاريخ الأنبياء من المعجزات والدلائل ما يقنع العبد بأن كل أمر يأتيه أو يصرف عنه فإنما هو من عند الله، فبعد إبراهيم عليه السلام جاء نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، في وقت فرعون الذي قال الله عنه وعن قومه: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [الأعراف:141] ، وذلك: زيادة وإمعاناً في التنكيل؛ لأن النسوة إذا نشأن بدون رجال يحمونهن، يكن في أيدي العدو إماء وخدماً، ولو كان قتّل الجميع لكان أهون، لكن كان يستحيي النساء حتى يكن خدماً عنده وعند قومه، ويقتّل الأبناء حتى لا يدافعوا عن النساء، وفي تلك اللحظات يولد موسى عليه السلام، وتخاف عليه أمه، قال الله: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7] ، إذا خفت عليه فألقيه في البحر، ومن سيأخذه؟ {عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39] ، يا سبحان الله! هي خائفة عليه، وتعطيه لعدوه؟! قال الله: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] ، سبحان الله العظيم! طفل رضيع يوضع في التابوت، ويلقى في اليم!! {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11] ، فقصته أخته، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] ، يأتيهم عدوهم إلى بيتهم وهو طفل رضيع، وفرعون يتحدى العالم ويقتّل ويذبح، والله يتحداه بطفل رضيع يتربى في حجره، فضلاً عن أن يذبحه.
!! فنشأ موسى وشب، وكان من أمره مع خصمه ما كان، فقضى عليه، وخرج خائفاً يترقب، ثم رجع إلى فرعون يدعوه إلى الله، وقال: {َأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:105] ، فقال: ألم تكن فينا وليداً، وربيناك؟ والآن جئتنا بدعوة، فماذا كانت النتيجة؟ خرج موسى عليه السلام -وهذا محل الشاهد- ببني إسرائيل، وأمره الله أن يسير حيث تسير السحابة في السماء، فإذا بالسحابة تسير به وتوقفه على شاطئ البحر، وإذا بفرعون من ورائه، فكان الموقف شديداً، وقال الذين مع موسى) إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (، البحر أمامنا، والعدو وراءنا، فأين نذهب؟ هل نطير في السماء؟ لا يوجد طيران، هل ننزل في الأرض؟ لا يوجد مغارات ولا شيء، {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، فأجابهم بسرعة بكلمة تزلزل الأرض: (كلا) ، لو توجهت إلى جبل لزلزلته، انظر إلى نطقها، ما قال: (لا) ، وما قال: (لا تخافوا) ، بل قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، وهذه المعية الخاصة، (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ، (تعرف إلى الله تجده تجاهك) ، قال: ((مَعِيَ رَبِّي)) ، وهذه معية النصر والتأييد، فماذا فعل ربه؟ هل أرسل ملائكة لتصد فرعون؟ لا، انظر إلى المعجزة، قال: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63] ، ماذا تفعل هذه العصا؟! ما طولها؟ وما ثقلها؟ وما تأثيرها؟ ليس فيها تيار مغناطيسي، ولا فيها أدوات زائدة، عصا يتوكأ عليها، ويهشُ بها على غنمه، ولكن لا يعلم قدرها إلا الله، فضرب البحر، {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] يا سبحان الله! ماء لجاج تتلاطم أمواجه، ينفلق ويصير كل فرق -أي: طريق- كالطود شامخاً، وبين كل طريق حاجز، وينقسم بنو إسرائيل في تلك الطرق، ويمشون على أرض يابسة ما فيها لجة، فأرضية البحر جفت، فيمشون في قعر البحر، وفتح الله لهم منافذ ليرى بعضهم بعضاً حتى لا يخاف بعضهم على بعض، ويعرفون أن جماعتهم يمشون في نفس الطريق مثلهم، حتى خرجوا كلهم، وبهذه المناسبة نقول: الطغيان يعمي، والظلم يلهي، ففرعون طاغية، قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فيأتي إلى البحر، وهو يعرف البحر وطبيعته، ويجد موسى الذي كان يطلبه قد انشق له البحر، لكنه دخل ليدركه، لو أنه نظر بعقله لما دخل، لكن الله طمس بصيرته ليقضي أمراً كان مفعولاً، يا فرعون! رأيت البحر قد انفلق وهل في حياتك رأيت البحر انفلق؟! هل سمعت في التاريخ قبل هذا أن البحر انفلق؟! إنك لما رأيت آية عظمى كهذه أفلا ترعوي؟ ألا تنزجر؟ ألا تقف وتفكر؟ موسى الذي تطلبه أراك في تلك العصا الآيات الكبرى، فقد بلعت الحبال والعصي وأنت تنظر موسى يدعوك إلى الله موسى آمنت به السحرة الذين يعرفون حقيقة السحر، وهذا البحر صار طريقاً له، فهل بقدرة موسى أن يفعل ذلك؟! ألا تعلم أن هذا من عند الله؟! ولكن مادام فرعون متلبساً بطغيانه، فعماه مستمر، فخاض البحر وراء موسى، وحينما كان موسى خارجاً من الشاطئ الثاني؛ كان فرعون وقومه في وسط البحر، فهل بقي البحر كل فرق كالطود أم رجع إلى ما كان عليه؟ رجع البحر وهم في وسط ذلك الطريق، فغرقوا، قال الله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] ، ماذا فعل فرعون وقومه بموسى؟ ما استطاعوا أن يضروه بشيء؛ لأن الله كتب لموسى النجاة.(45/3)
قصة غلام بني إسرائيل مع الساحر والملك
وكما سخر الله لموسى البحر، وأنجاه من فرعون وقومه، نجد في قصة غلام بني إسرائيل مثل تلك العجائب، فكان بعض الملوك له ساحر يستخدمه أو ينبئه أو يخبره، فكبر هذا الساحر، فقال للملك: ائتني بغلام أعلمه ليكون محلي، فاختار غلاماً، فكان يأتي إلى الساحر فيعلمه، وحينما يرجع إلى أهله يمر براهب في صومعته، فسمع منه كلاماً يغاير كلام الساحر، فإذا بالراهب مؤمن برب وبإله سوى هذا الملك، فأعجبه كلامه، فكان يجلس إليه ثم يذهب إلى الساحر، فكان إذا مكث عند الراهب وجاء إلى الساحر متأخراً يضربه، ويسأله: أين كنت؟ وإذا رجع وجلس عند الراهب وتأخر على أهله ضربوه، وسألوه: أين كنت؟ فشكا ذلك للراهب فقال: إذا سألك الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا سألك أهلك فقل: حبسني الساحر، ففعل ذلك وسلم من الضرب، وذات مرة سمع الراهب يسأل الله باسمه الأعظم، فقال: علمنيه؟ قال: لا ينبغي لك يا ولدي! قال: علمنيه فإني سأتبعك؟ قال: لا تقوى عليه، وفي يوم رجع إلى أهله فوجد دابة حصرت الناس، فأخذ حجراً وقال: اليوم أعلم هل الراهب أصدق أم الساحر؟ اللهم! إن كنت تعلم أن أمر الراهب حقٌ فاقض على تلك الدابة ليسير الناس، ورمى بالحجر، والناس كلهم محصورون، فقتل الله الدابة بالحجر الذي رماه الغلام، فعرف أن الراهب على حق، فذهب وتعلم أسماء الله من الراهب، وكتبها في أوراق، قيل: إنه ألقاها في البحر، فغرقت إلا واحداً، وقيل: ألقاها في النار فاحترقت إلا واحداً، وهو الاسم الأعظم، فجاء إلى الراهب وأخبره، فقال: يا بني! إذا عرفت الاسم الأعظم فإنك ستبتلى، وإذا ابتليت فاصبر، ولا تدلن عليّ أحداً، فذهب الغلام إلى جلساء الملك، فوجد رجلاً أعمى فقال: ألا تؤمن بالله، وأدعو ربي، فيشافيك؟! قال: ألك رب غير الملك؟ قال: نعم، الذي يملك أن يرد عليك بصرك، قال: فإني آمنت بربك فادعه لي، فدعا ربه فرد عليه بصره، وجاء يجلس عند الملك وهو يُبصر، فقال: عجباً، من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: وهل لك رب غيري؟ قال: نعم، دلني عليه الغلام، فدعا بالغلام وسأله يا غلام! ألك رب غيري؟ قال: نعم، الذي رد إليه بصره هو ربي، فزجره وقال: إنك غلام صغير، فأتي برجل أبرص وغيره من أصحاب العاهات في مجلس الملك، فدعا الله لهم، فعافاهم الله جميعاً، وأصر الغلام على أن له رباً غيره، وأن الملك مخلوق، فيئس من إرجاعه، فدعا زبانيته وقال: إن قتلته أمام الناس قالوا: هذا قتل غلاماً، فاذهبوا به في قارب في البحر، حتى إذا أبعدتم عن الشاطئ ألقوه في الماء وارجعوا، فذهبوا به، وحينما أرادوا أن يلقوه في الماء قال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فاضطرب القارب وغرقوا كلهم ورجع هو بسلامة الله، فجلس في مجلس الملك، فقال: أين أصحابك؟! قال: كفانيهم الله، فجاء بزبانية آخرين وقال: اذهبوا به، وألقوه من شاهق جبل، فذهبوا، فلما علوا القمة، قال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فاهتز الجبل واضطرب، يا سبحان الله! البحر يضطرب ويهتز ويبتلعهم، من الذي يقدر أن يهز الجبل؟! من يقدر على هذا؟! هو الله المولى سبحانه، ويأتي الغلام يمشي سالماً إلى الملك، ماذا فعل هذا الملك؟ ماذا فعل أولئك الزبانية؟ والله! لا شيء، وماذا كان يريد الغلام؟ كان يريد أن يعرف الناس أن لهم رباً خالقاً، فجعل نفسه فداء لدعوته فقال: أيها الملك! لا تتعب نفسك، إنك لن تسلط عليّ -غلام يتحدى ملكاً في ملكه وسلطانه- ولكن أدلك على شيء إذا فعلته قتلتني؟ والملك يريد هذا، فقال: نعم، فقال: عليك أن تجمع الناس في صعيد واحد، وتأتي إلى منصة وتضعني، ثم تأخذ سهماً من كنانتي وتضعها في قوس وترميني به وتقول: باسم الله رب هذا الغلام، فإن فعلت ذلك فإني أموت، والملك مغفل؛ لأن الطغيان يعمي، ففعل ما قاله الغلام، ومات الغلام، وجميع من حضر قال: آمنا برب هذا الغلام؛ لأن الملك قال: باسم رب هذا الغلام، فألغى ربوبيته، وهو لا يدري! فآمن جميع الحاضرين، فقام الملك وخد الأخاديد، وأحرق المؤمنين في النار، وهي قصة الأخدود التي وقعت في اليمن.(45/4)
قصة يوسف عليه الصلاة والسلام ونجاته من كيد إخوته
فالأمة لو اجتمعت على أن يضروا العبد بشيء لم يكتبه الله عليه لن يضروه، فإخوة يوسف ألقوه في غيابة الجب -أي: في جب بعيد، غائب كل ما فيه- فألقوه فيه إلقاءً، يا سبحان الله! صغير يرتع ويلعب ويرمى في البئر! لم ينزلوه فيه إنزالاً، بل رموه مرياً وإذا به يسلم، ثم كان من أمره أن آتاه الله الملك، ثم جاءه إخوانه يستغفرون عنده، ويطلبون منه العفو، فما استطاعوا أن يضروه بشيء.(45/5)
قصة النبي صلى الله عليه وسلم يوم هجرته
وقد ذكرنا قصة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه حينما أراد الهجرة، وما كان من أمر المشركين حينما تآمروا على قتله، وجمعوا عشرة رجال بسيوفهم على باب بيته، فجاءه جبريل عليه السلام -لأن الله يرعاه- فقال: لا تبت في فراشك الليلة، فنام علي رضي الله تعالى عنه في برده، وخرج صلى الله عليه وسلم أمامهم وسيوفهم في أيديهم، ولكن الله ألقى عليهم النعاس، وقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، فيخرج من بين أيديهم فلا يرونه، ويحجبه الله عنهم، ويمعن في إذلالهم فيأخذ التراب من تحت أقدامهم ويذروه على رءوسهم، ثم يتوجه إلى الغار، فيأتون إلى فم الغار، وهم يريدونه حياً أو ميتاً، وجعلوا مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، فيقفون على فم الغار، ويقول الصديق: (يا رسول الله! والله! لو نظر أحدهم إلى أسفل نعليه لأبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!) ، وقال الله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وهي مثل كلمة موسى عليه السلام: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) ولكن -وهنا لطيفة ننبه عليها- موسى عليه السلام قال: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) ، ومحمد صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فـ (نا) هذه للجمع، ومن هم الجمع الذين في الغار؟ أبو بكر مع رسول الله، فهذا يدل على فضل أبي بكر حينما شركه القرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَعَنَا) ، فموسى كان معه أمة كاملة من بني إسرائيل، وكان معه أخوه ووزيره هارون، فقال القوم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، وأين يقين القوم من يقين موسى؟ وكان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، يقيه بنفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بالك يا أبا بكر! تارة تمشي أمامي، وتارة تمشي من ورائي؟!) ، وذلك لما خرجا من البيت في طريقهما إلى الغار، فقال: (يا رسول الله! أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون من ورائك، فقال: أتود لو كان شيئاً أن يكون فيك أنت؟ فقال: نعم، إن أهلك أنا أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة) ، فـ أبو بكر كان يهتم بالرسالة، فكان جديراً بأن يشارك مع رسول الله في قوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .
وخرج صلى الله عليه وسلم من الغار ومشى في الطريق، وأدركهم سراقة في الصحراء، وهم مكشوفون للعيان، فماذا كان من أمره؟ ساخت قوائم فرسه تسيخ، وسقط عنها عدة مرات، وإذا به يطلب الأمان لنفسه، ويكتب له أبو بكر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا سراقة! إذا أنت لبست سواري كسرى) ، أي: أنت جئت تطاردنا بعد أن رأيتنا خارجين من مكة، فأخبرني حينما ينصر الله دينه، ويعلي كلمته، وينتشر الإسلام، وتقطع رءوس أولئك الظلمة، (كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى؟!) ، وكسرى كان اسمه يرعب العرب، وكانوا يخشونه أشد ما يكون، فـ سراقة يلبس سواري كسرى، وكسرى يقضى عليه، يقول بعض العلماء: كان يقينه صلى الله عليه وسلم بربه من أعظم اليقين، وهو شخص خارج في الصحراء على تلك الحالة، واثق بوعد ربه، حتى بلغ به اليقين أن يعد سراقة بسواري كسرى، وقد حقق الله ذلك، ففي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه فتحت المدائن، وجيء بلباس كسرى، فنظروا أي الرجال أطول ليروا عليه حلة كسرى؟ فنظروا في جميع الحاضرين فلم يجدوا أطول من سراقة، فجاء سراقة ولبس الحلة والسوارين، فقال له عمر: انزعها؟ فقال: لا انزع هذا اللباس! قال: لماذا؟ قال: أعطانيها رسول الله عليه الصلاة والسلام حينما خرج مهاجراً ولحقت به، فقال لي: (كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى؟!) ، فضحك عمر وقال: هل قال لك: امتلكت، أو قال: (لبست) ؟ قال: (لبست) ، قال: ها أنت لبستها، فانزعها، وهذا من فقه عمر.(45/6)
معنى قوله: (واعلم أن النصر مع الصبر)
هذا الحديث الجليل الذي يقول فيه بعض العلماء: لو قيل: إنه نصف الدين أو الدين كله، لكان حقاً؛ لأنه يربط العبد بربه بدون واسطة.
ثم قال بعد ذلك: (واعلم أن النصر مع الصبر) ، يعلم الجميع أن الصبر هو أغلى خصلة يمنحها الله للعبد، ويقولون في الإحصائيات: الصبر ذكر في القرآن حوالي سبعين مرة، وجاء في السنة: (الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد) ، وفي الحديث: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) ، يقول علماء المنطق: نور مع نور آخر النسبة بينهما التشكيك، كما لو أشعلت عود كبريت في صحراء، وجئت بلمبة ألف شمعة، فهذا نور، وهذا نور، ولكن إذا نظرت وجدت أحدهما ضعيفاً، والآخر قوياً، فالنسبة بينهما التشكيك.
قال: (الصلاة نور) وقال: (الصبر ضياء) ، الله سبحانه وتعالى لما ذكر الشمس والقمر قال: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس:5] ، فأيهما أقوى؟ الشمس أقوى، فالحديث جعل الصبر ضياء، وجعل الصلاة نوراً، والصلاة هي عماد الدين، فكيف يكون الصبر أكثر إشعاعاً، وأكثر إضاءة، وأكثر فعالية في قلب المؤمن؟! لأنك لو تأملت في التشريع كله من الأوامر والنواهي، لوجدت قوام ذلك كله على الصبر، قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ، فقدم الصبر {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ، لولا الصبر لما توضأ أحد بالماء البارد في الشتاء وخرج من بيته إلى المسجد، ولولا الصبر لما صبر أحد على الحر في القائلة وخرج في الظهيرة إلى المسجد، ولولا الصبر لما صبر أحد على المال والنفس شحيحة، فأخرج جزءًا من المال وهو صنو النفس، ولولا الصبر لما حمل أحد سيفه في يد، والروح في اليد الأخرى، وقاتل الأعداء، ولولا الصبر لما صبر أحد على فعل طاعة، ولا صبر على ترك معصية، (فالصبر من الإيمان كالرأس من الجسد) كما في الحديث، وإذا فصلنا الرأس عن الجسد صار جثة نواريها.
إذاً: النصر مع الصبر، وقيل لبعض شيوخ العرب: بما غلبتم كذا؟ قال: غلبناهم بالصبر، يقاتلوننا ونقاتلهم، ونفوز عليهم ونتميز بالصبر، وقالوا: (الشجاعة صبر ساعة) ، قال الله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] ، الصبر معه النصر، ويقول ابن القيم في بعض ما كتبه على هذا الحديث: الصبر على قتال العدو يجلب النصر، والصبر على النفس، يكون بالصبر على هواها، والصبر على مطالبها، والعوام عندهم مثل عجيب يقولون فيه: صبري على نفسي، ولا صبر الناس عليّ، فإذا كنت في فاقة تصبر على نفسك خير من أن تقول: يا فلان! اعمل معروفاً، وأقرضني واصبر عليّ؟ لا، ما دمت تستطيع الصبر فاصبر.(45/7)
معنى قوله: (وأن الفرج مع الكرب)
ثم قال هنا صلى الله عليه وسلم: (وأن الفرج مع الكرب) ، الكرب هو: شدة الإيلام، وشدة الضيق في حياة الإنسان، لكن كلما اشتد الكرب كلما قرب الفرج، فما السر في هذا؟ لو تأملنا بعض القضايا لكشف لنا النقاب، فالمولى سبحانه قريب كما قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ، وقرب الله من عباده قرب خير وعطاء ونصر وعناية، ولكن (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) لو تساءلنا -وكل إنسان جرب في حياته- هل اتجاهك إلى الله في وقت سعتك وغناك وعافيتك كاتجاهك إلى الله في وقت الضيق والحرج والمرض أو هما سواء؟ لا، والله! حينما يكون الإنسان محتاجاً شديد الاحتياج، فليس عنده إعراض عن الله ولا حتى بمقدار شعرة، ولكن حينما يكون في غنى وفي سعة فيمكن أن يطغى كما قال الله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] .
فتعرفك إلى الله في الرخاء -وأنت لست في ضيق ولا كرب- سبب لأن يعرفك الله في شدتك، وأنت لا تغيب عنه في كلتا الحالتين، ولكن يتعرف إليك بالإجابة.
إذاً: عند شدة الكرب تكون قوة الإيمان، والإخلاص، وصدق التوجه إلى الله، وربك يحب منك هذا، وهو لا يريد منك شيئاً، فخزائنه ملأى، وعطاؤه كلام، لكن يريد من عبده صدق التوجه إليه، وثق بأنك إذا توجهت إلى الله بصدق فمهما كانت حاجتك فإنه يقضيها، فهو لا يخيب ظن عبده أبداً، وفي الحديث: (إن الله ليستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم يردهما صفراً) لكن لابد أن يكون مطعمه حلالاً، ومشربه حلالاً.(45/8)
حسن ظن هاجر عليها السلام بربها عز وجل
أُمنا هاجر عليها السلام جاء بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومعها إسماعيل فوضعهما في وادي مكة كما قال تعالى عنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] أي: ولا ماء، وإذا لم يكن عنده زرع ولا ماء، فلا أنيس عنده ولا ونيس، وكان معها سقاء من ماء، وقال: في أمان الله ومشى، فنادته: يا إبراهيم! لمن تدعنا هاهنا؟ قال: لله، قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فاذهب فلن يضيعنا الله! الله أكبر! نريد بهذا بيان اليقين الذي عندها من أول لحظة، فذهب إبراهيم، وانتهى الماء، وبكى ولدها، وهي امرأة ضعيفة في فلاة، ليس عندها طعام ولا شراب، وبكاء ولدها يحز في قلبها، فماذا تفعل؟ هل تقعد أمامه تبكي؟ لا، بل تقوم وتطلب وتسعى، فذهبت فلم تجد شيئاً، فنظرت إلى مكان مرتفع يكشف ما وراءه، فكان أقرب مرتفع عندها الصفا فصعدت عليه، ونظرت في الجهات الأربع فلم تجد شيئاً، فنظرت إلى مرتفع آخر، فكان من المروة أقرب مرتفع إليها، ومكة تحيط بها الجبال من كل جانب، وهي على جبل أبي قبيس، لكن كيف تترك ولدها وهو في بطن الوادي، فتريد أن تجمع بين الأمرين: رعاية ولدها، وطلب الماء له، فذهبت إلى المروة فتلفتت فلم تجد ماءً، وكانت إذا انصبت قدماها في بطن الوادي أسرعت لترتفع وترى ولدها، والمولى سيغيثها، وهي قد أعلنت قوة التوكل عليه: بقولها: (لن يضيعنا الله) ، فتركها المولى تسعى يميناً ويساراً، تصعد الصفا تارة وتصعد المروة تارة؛ وهي في كل مرة عندها أمل في الخلق، فكانت ترجو أن ترى إنساناً يمشي، لكن بعد سبع مرات من السعي، وبعد أن انقطعت آمالها من الخلق؛ وتوجهت بصدق إلى الخالق، فما كان إلا أن جاء جبريل وشق الصخرة، فنبع الماء، ولماذا لم ينزل جبريل من أول مرة؟ لأنه كان في قلبها تعلق بأسباب من الخلق، فتركها الله لتنظر ما يفعله بها الخلق، فجربت فلم تجد شيئاً، فلما يئست من الخلق، وأيقنت فعلاً بأنه لا مغيث لها إلا الخالق، كان توجهها إليه توجهاً صادقاً دون منازعة، ودون مشاحة، ودون مشاركة مع الخلق، فكانت إغاثة الله ليست لها وحدها، بل ولنا إلى اليوم، وإلى ما شاء الله، فهي عين نابعة يشرب منها الحجيج والعالم كله، وماؤها يصل إلى أنحاء المعمورة، ففي كل مكان يوجد ماء زمزم.
وهكذا النفر الثلاثة الذين من بني إسرائيل، الذين آواهم المبيت إلى الغار، هل كان عندهم رجاء في الخلق؟ نزلت صخرة فسدت عليهم الغار، فهل كانوا يطمعون في أحد من الناس يأتيهم؟ هل كان يعلم بهم أحد؟ لا، أبداً، فهم يئسوا من الخلق من أول لحظة، فماذا قالوا؟ قالوا: ارجعوا إلى ربكم، ولينظر كل منكم ما كان بينه وبين الله من خبيئة سر، فيتوسل إلى الله بها، فحينما قام قائم منهم وقال: كان لي أجير.
إلخ، وقام الثاني وقال: كان لي أبوان.
إلخ، وقام الثالث وقال: كانت لي ابنة عم أحبها، إلى آخر الحديث، فهل كان قيام أحدهم يشوبه شائبة رياء مع أحد من الخلق؟ لا، والله! لأنهم أيقنوا بالموت، وعلموا يقيناً دون شك أنه لا ينجيهم مما هم فيه سوى الله، فلما حصل هذا اليقين منهم تحركت الصخرة شيئاً فشيئاً، ومن يقدر أن يزحزح الصخرة إلا بأمر الله.
ودائماً نقول لمن جاء للعمرة أو الحج: في كل نسك من أنساك العمرة والحج آية وعبرة ومنهج، فسعيك بين الصفا والمروة تجديد اليقين مع الله، فإذا ناب العبد شيء، توجه إلى الله خالصاً مخلصاً قلبه لله، والله أقرب إليه من حبل الوريد، فلا شيء أقرب من فَرَج الله؛ لأنه يقول للشيء: كن فيكون.(45/9)
معنى قوله: (وأن مع العسر يسراً)
وقوله: (وأن مع العسر يسرا) ، هو كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسر يسرين) ، يقول علماء البيان: النكرة إذا تكررت فهي متعددة، والمعرفة إذا تكررت فليست متعددة، قال الله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6] فاليسر هنا متكرر، وهو نكرة، والعسر معرف بأل، فيكون تكراره لا يستوجب تعدده، ولكن اليسر لما كان منكراً كان تكراره يقتضي تعدده، وبهذا يظهر لنا عظمة هذا الحديث، ومدى دلالته وآثاره، نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يملأ قلوبنا يقيناً بالله سبحانه وتعالى.(45/10)
اليقين بما عند الله سبب لسعادة العبد في الدنيا
وجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: والله! لا يكمل ولا يتم يقين العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أقوى مما في يده، ويرد عند العوام مثل يقول: تضرب يدك، وتقسم لغيرك! فلعلها تكون في يدك وتستعصي عليك أو تأخذها في حلقك وتكون غصة وترجع، ولكن ما كان عند الله سوف يأتيك، وعائشة تقول ذلك عن تجربة، وعن عمل، إيمان ويقين، كانت صائمة، وعندها قرص شعير فقط، فجاء مسكين يقول: يا آل بيت محمد! مسكين بالباب، فقالت عائشة لـ بريرة: أعطي المسكين، فقالت: ليس عندي ما أعطيه، قالت: أليس عندك شعير؟ قالت: هو قرص واحد لك لتفطري عليه، قالت: أعطي المسكين، وعند الفطور سيرزق الله، فراحت بريرة تمشي خطوة، وترجع خطوة، كيف عند الفطور يرزق الله؟ ما أعجبها هذا الكلام، وفرق بين بريرة وبين عائشة، فأعطت المسكين وهي كارهة، وجاء المغرب ولم يأت رزق الله، فقامت عائشة تصلي، وقبل أن تفرغ من صلاتها، إذا بقارع يقرع الباب، وفتحت بريرة وأخذت ما أعطيت، ولما سلمت أم المؤمنين، فإذا بشاة بقرامها مشوية، والقرام هو الذي تلف فيه الشاة من العجين، وكل بقايا أجزاء الشاة كاملة، قالت: ما هذا يا بريرة؟! قالت: رجل أهداه إلينا، والله! ما رأيته يهدي إلينا قبلها قط، تعني: ما هي بحسب العادة، لكن حالة حادثة نادرة، لو كان ممن يهدي كل مرة، لقلنا: على حسب العادة، لكن هذا لم يأت من قبل أبداً، فأيقنت بريرة بما قالت أم المؤمنين، وقالت لها: يا بريرة! كلي فهذا خير قرصك، والله! لا يكمل يقين العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أقوى مما في يده، فأم المؤمنين كان يقينها فيما عند الله أكثر من قرص الشعير الذي عندها، وهذا الواجب على كل مسلم؛ لأن الذي عند الله محفوظ، والذي في يدك غسؤ محفوظ، والله سبحانه أعلم.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم الإيمان واليقين، وأن يفقهنا في الدين، وأن يرزقنا وإياكم حسن التوكل عليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو توكلتم على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً) ، ما عندها زراعة، ولا مستودع، ولا تجارة، ولا شيء، ولكن تتوكل على الله سبحانه وتعالى.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(45/11)
شرح الأربعين النووية - الحديث العشرون(46/1)
شرح حديث: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ... )
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري -قيل: البدري: لأنه سكن بدراً- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) رواه البخاري.(46/2)
إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناسُ) بالرفع، ورواية أخرى بالنصب: (إن مما أدرك الناسَ) وفاعل (أدرك) في الأولى: الناسُ، وفي الثانية: ما حُكي من كلام النبوة الأولى.
ومهما يكن فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن من كلام النبوة الأولى ما أدرك الناس أو أدركه الناس -أي: في زمنه صلى الله عليه وسلم- ومن هذا الكلام هذه العبارة: (إذا لم تستح) قيل: بحذف الياء وبإثباتها؛ لأنها إما من الحياء، وإما من الاستحياء.
الحيا: ضد الموت، والحياء: هو الخلق والغريزة، فمن أثبت ياءً يكون حذف الياء الأخرى: استحييتُ، ومن أثبت الياء يكون حذف الياء الأولى لحرف الجزم (لم) ، ومن حذف الياءين ولم يثبت شيئاً (من الحياء) .
وقوله صلى الله عليه وسلم هنا يشعر بارتباط النبوات كلها، وأن مما وصلنا وأدركناه من ذاك الكلام مما لم يُغير أو يُحرف أو يُبدل هذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم.
ومن جانب آخر: الحديث في جملته حثٌ على الحياء، وهو عند العلماء من أعلى الأخلاق ومكارمها وذروتها، مما يُعطي لنا دلالةً واضحة أن مكارم الأخلاق قدر مشترك بين النبوات وبين جميع الرسالات، ويؤيد هذا ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) هناك مكارم أخلاق في الرسالات الأولى، وهناك مكارم أخلاق جاء بها الأنبياء المتقدمون، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء يتمم ما جاء به من قبله.
وإذا نظرنا إلى هذا الحث الشديد منه صلى الله عليه وسلم على لزوم الحياء وهو قمة الأخلاق نجد أن أهم ما في سلوك المسلم وأهم ما في تعاليمه هو مكارم الأخلاق، ولذا المولى سبحانه مع تكريمه لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم بكل أنواع التكريم حينما وصفه سبحانه في ذاته، وصفه بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] .
وهكذا يقول العلماء: من كرمت أخلاقه، وحسن سلوكه، ربما ترك المعاصي حياءً من الله.
ومن الناس من لم يعص الله مروءةً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) يعني: يترك عصيان الله حياءً من الله، وقد يترك المعصية مروءةً وإباءً، كما جاء عن هند عند بيعة النسوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ولا يزنين) ، قالت: (يا رسول الله! أوتزني الحرة؟!) تستبعد وتستنكر، ولا يخطر في بالها أن الحرة الأبية ترضى أن يعلوها رجل غير بعلها!.
إذاً مكارم الأخلاق هي حفاظ الأمم والأفراد.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ودريد بن الصمة في أول ظهور النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ولده من الطائف، وقال له: انزل إلى مكة واسمع من هذا الرجل الذي يذكرونه، واعقل لي ما يقول، فذهب ورجع وقال: يا أبت! إنه يأمر بالصدق في الكلام، وبصلة الأرحام، وبإطعام الطعام، وأداء الأمانة، وكذا وكذا، فقال: يا بني! إن لم يكن ديناً فهو من مكارم الأخلاق.
إن لم يكن ما يقوله ديناً بعث به من الله ووجب اتباعه عليه طاعة لله فهو مكارم أخلاق لا يعيبها العقلاء، وجميع الأديان مما وصل إلينا تدعو إلى تلك الأخلاق الفاضلة، كما اتفقت جميع الديانات على الحفاظ على الضروريات (الكليات) الخمس: الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال.(46/3)
الحياء شعبة من شعب الإيمان
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) يقول العلماء على سبيل الإجمال: هذا الحديث يدل على أحد أمرين: الأمر الأول: إذا أردت أن تعمل شيئاً فانظر هل هذا العمل يستحى منه عند الناس أم لا؟ فإن كان لا يستحى منه عند الناس فاصنعه، أي: أنه حسن وليس قبيحاً، وهذا الوجه ضعيف.
الأمر الثاني: (إذا لم تستح) أي: إذا فقدت الحياء، وإذا لم يكن عندك هذه الخصلة وهذه الغريزة وهذا الخلق الفاضل، فحينئذ لا عليك، كأنه يقول: إذا لم يستح فحينئذ كل شيء لا يستنكر منه.
وجاء في حديث -وإن كان ضعيفاً-: (إن الله إذا أراد هلاك عبد نزع منه الحياء فلا تلقاه إلا مقيتاً ممقتاً أو بغيضاً مبغضاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً نزع منه الأمانة، وإذا نزع منه الأمانة فلا تلقاه إلا خائناً مخوناً، وإذا أصبح خائناً مخوناً نزع منه الرحمة، فإذا نزع منه الرحمة أصبح غليظاً مغلظاً، وإذا أصبح غليظاً مغلظاً نزع من رقبته ربقة الإيمان فلا تراه إلا شيطاناً ملعنا) وإن كان الحديث ضعيفاً إلا أنهم يذكرونه في بيان نتائج عدم الحياء.
إذاً الحياء هو رداء الكمال في الإنسان، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان) ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ينصح أخاه في الحياء يقول: أنت كثير الحياء وتترك العمل، كثير الحياء ويترتب عليه كذا، فقال له صلى الله عليه وسلم: (دعه! إن الحياء لا يأتي إلا بخير) وفي رواية: (الحياء خير كله) .
نعلم الحديث العام: (الحياء بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) والحياء شعبة من بضع وسبعين شعبة، إذا نظرنا إلى آثاره في العبد فما هي؟ ويقال في علاقة الحياء بالإيمان: إن حقيقة الحياء في العبد أول ما يجب عليه أن يكون أشد حياءً من الله، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله! إننا لنستحيي، قال: ليس ذاك، لكن الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن يذكر الموت والبلى) فإذا حفظ الرأس وما حوى، فماذا يحفظ في الرأس؟ يحفظ العين من أن تنظر إلى محرم، ويحفظ الأذن من أن تسمع إلى محرم، ويحفظ اللسان من أن يغتاب أو يكذب أو يتكلم بمحرم، أو يتناول طعاماً محرماً أو شراباً محرماً، فإذا حفظ الرأس بما فيه من أعضاء، وحفظ البطن وما حوى، وهذا كناية عما يتبع البطن مما فيه من اتصال غير مشروع، وهكذا، ويذكر الموت والبلى، وإذا تذكر الموت والبلى، وحفظ جوارحه من المعاصي فإنه حقاً يعيش على حذر مما بين يديه، وإذا تذكر الموت وما وراء الموت عمل لليوم الآخر.
ومن هنا كان الحياء شعبة من الإيمان، ولذا جاء في الحديث المتقدم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وجاء في الحديث عند الترمذي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم الوصية فقال: (استحي من الله أشد مما تستحي من ذي المروءة من قومك) وقالوا: معنى ذلك: حقيقة الحياء من الله أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفتقدك حيث أمرك، أمرك بالصوم فلا يفتقدك في الصيام، وتكون متفلتاً مع المفطرين، أمرك بالصلاة فلا يفتقدك عندما يقول المؤذن: قد قامت الصلاة، نهاك عن السرقة، نهاك عن أكل مال الناس بالباطل فلا يراك تهتك الستر وتسرق المال، فلا يراك تغش وتدلس، وغريمك جاهل ومسكين لا يدري عن طرقك، أمرك بوفاء الكيل ونهاك عن تطفيفه، فإذا جاءك رجل لا يعرف شيئاً إذا بك تستغل غشامته وجهالته، وتطفف الكيل وتبخس الوزن، ونسيت أن عليك رقابة من الله.(46/4)
حقيقة الحياء من الله تعالى
حقيقة الحياء من الله: مراقبة الله، وكما قالوا: أشد ما يكون الحياء لكي تشعر بذلك -كما ذكروا عن الجنيد رحمه الله- أن تتذكر نعم الله عليك، وتنظر شكرك لنعم الله، فإذا تذكر العبد ما أنعم الله به عليه أولاً في ذاته، نعمة بصره، ونعمة سمعه، ونعمة ذوقه، ونعمة نطقه، ونعمة شمه، ونعمة بطشه وحركته، وكل ما أنعم عليه بذلك، فلينظر هل أدى شكر تلك النعم أم أنه قصّر في شكرها؟ بل إنه تجاوز التقصير واستعمل نعمة الله في معصية الله.
أول ما يكون الحياء أن تعترف بنعم الله عليك، وتقدرها في نفسك، وتعظم عطاء الله عندك، ثم بعد ذلك تفكر فيم صرفت هذه النعم، هل هي في طاعة الله، أم في معصية الله؟ وكما جاء الحديث: (أنا والملأ في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد) .
إذاً: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) إذا أردت أن تفعل شيئاً هل هذا الفعل قبيح يستقبحه الناس، وصاحب المروءة والإباء يستحي من الناس أن يفعل ما ينكرونه عليه؟ إذاً الحياء يرد الشخص، فإذا نزع منه قناع الحياء لم يبق فيه خير، فربما الحيوانات تكون أشد امتناعاً منه.
وعلى هذا يكون هذا الحديث كما قيل: يشمل جميع تعاليم الإسلام؛ لأن تعاليم الإسلام إما أمر بفعل واجب أو مندوب، أو نهي عن أمر محرم أو مكروه، وإذا كنت تفعل شيئاً محرماً أو مكروهاً هذا فعل يستحى منه، فإذا كنت لا تستحي فإنك ستفعل كل ما حرم الله وتقصر في كل ما أوجب الله عليك.(46/5)
قوله: (فاصنع ما شئت) للتهديد
قوله صلى الله عليه وسلم: (فاصنع ما شئت) هل هو للإباحة في أن يصنع كل شيء؟ لا، إنما هو على سبيل الوعيد والتهديد كما في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] باختياركم! الذي يريد أن يؤمن فلنفسه، والذي يريد أن يكفر فعلى نفسه ومآله إلى النار، هل هذا تخيير أو تهديد؟ يكون تهديداً.(46/6)
الحياء فضل من الله وهبة
وهنا مبحث يبحثه علماء الأخلاق والشريعة، فعلماء الأخلاق يقولون: ما هو الحياء؟ وهل هو مكتسب أو موهوب؟ ومعنى (مكتسب) : يتخلق به الإنسان حتى يصبح خلقاً له، أو موهوب هبة من الله، والتحقيق في ذلك أن أصله هبة من الله، ولكن العبد يزكيه وينميه باكتسابه، أي: بالحفاظ عليه وبالتأدب والتعلم.
وأكثر خصال الأخلاق هبة من الله، وفي الحديث: (عودوا أبناءكم البر فإن البر عادة) إذا لم يكن خُلقاً للإنسان وأخذ يتعود عليه انطبع فيه، كأن يكون إنساناً بخيلاً فإذا جاء وعاشر كرماء وتعود منهم البذل قد يجاريهم مجاملةً وحياءً، ثم مع طول الزمن يصبح كريماً مثلهم، وهكذا الشخص قليل الحياء إذا خالط من هو أشد حياءً منه وعاشر من هو أحسن منه، فقد يجامل ويكتسب الخلق مع طول الزمن فيصبح الحياء خلقاً له.
وهكذا لما جاء وفد عبد القيس إلى المدينة بادروا بالإسراع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا رواحلهم وأوعيتهم وأمتعتهم، وكان أميرهم أشج عبد قيس وكان رجلاً عاقلاً كيساً، تأنّى وقام على رواحل القوم وعقلها، وقام على أمتعتهم وجمعها وحفظها، وجاء إلى عيبته وأخرج ثياباً نظيفة وغيّر ثياب السفر، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب حسنة يمشي بتؤدة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أفسح له بجواره، وقال: (هاهنا يا أشج!) وهم معذورن؛ لأنهم يمشون مسيرة شهرين على أمل أن يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا المدينة ما طاقوا صبراً حتى أسرعوا للقاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعقله وحلمه وصل والحمد لله، فأفسح له صلى الله عليه وسلم بجواره وقال: (ها هنا، ثم قال: إنك رجل فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله! خلق تخلقت به أم جبلة جبلني الله عليهما؟) سؤال لطيف، هل هذا خُلق اكتسبته بالتخلق والتعود وأدب قومي إليّ أو جبلة جبلني الله عليها؟ قال: (بل جبلة جبلك الله عليها، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله) .
ولذا أيها الإخوة! مما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن أعطيات الله لخلقه جميعاً على قدر المساواة) الله سبحانه وتعالى ما أعطى مخلوقاً أكثر من مخلوق، كيف وفيهم الغني والفقير؟ قال: لا.
إن الأخلاق أرزاق، فإذا منح إنساناً غنىً بمال ولم يمنح الآخر قد يعوض ذاك قليل المال وافر الأخلاق، ولذا في الحديث هناك في
السؤال
(مرني بأمر يا رسول الله! يدخلني الجنة، أو بعمل يدخلني الجنة، أو يحبني الله ورسوله، قال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس، واستغن عمن شئت تكن أميراً، واحتج لمن شئت تكن أسيراً) الشخص إذا كان مولعاً بشيء لا يستطيع أن يستغني عنه، وإذا افتقد ذلك الشيء كان أسيراً له، قل أو كثر مهما كان، وإذا استغنى عن كنوز العالم واستغنى عن الملوك كان ملكاً بينهم.
إذاً: الغنى بالمال أمر نسبي، ولذا يقول علي رضي الله تعالى عنه: لو نظرت في أعطيات الله لعباده لوجدتهم متساوين، إن نقص على هذا في ماله زاد في صحته، وإن نقص في صحته زاد في عياله، وإن نقص في عياله زاد في هدوء باله وعقله وحلمه وطمأنينته، وإن نقص من هذا أو ذاك زاد في توفيقه لعمل الخير، ولو جمعت كل ما أعطى الله العبد بجميع معانيه وجمعت غير ذلك في غيره لوجدتها متقاربة.
إذاً: الأخلاق أرزاق، فكما يرزق الله العبد مالاً وفيراً، كذلك يرزق العبد خلقاً واسعاً، وكما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم) قد تسع الدنيا كلها بمكارم أخلاقك، تلقى كل واحد بوجه طلق، وتخاطبه بأسلوب حسن، وتعده خيراً، فيتقي منك بذلك، ولو أردت أن تُعطي جميع الناس وترضيهم من مالك لعجزت عن هذا.
يذكرون عن معاوية رضي الله تعالى عنه: (أنه جاءه أعرابي وقال: يا أمير المؤمنين! صل الرحم الذي بيني وبينك، قال: أنت لك رحم معي؟ قال: نعم، قال: وأي رحم هذه؟ قال: من آدم وحواء -رحم آدم وحواء يجمع بيني وبينك ألسنا كلنا من حواء وآدم- قال: نعم، والله إنه لرحم كريم وحق له الصلة أبشر، وأخذ وكتب لخازنه كتاباً ودفعه إليه وقال: اذهب إلى بيت المال يعطيك صلة الرحم، فذهب ومعه خطاب من أمير المؤمنين، فلما فتح الخازن الكتاب قال: مرحباً، وجاء وأعطاه درهماً واحداً، قال: عجيب! أمير المؤمنين يصل رحمه بدرهم! قال: هذا خطاب أمير المؤمنين، قال: أعطني الكتاب، أخذ الكتاب ورجع إلى معاوية، قال: يا أمير المؤمنين! تصل رحمك بدرهم واحد! وقال: يا أخا العرب! والله لو وصلت هذه الرحم التي بيني وبينك لجميع الناس ما بقي في بيت المال درهم) فهل معاوية يستطيع أن يصل الناس بالمال؟ لا يستطيع، ولكن بكلمة طيبة قد يسعهم، وكما قال: (لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انفصلت، إن شدوا أرخيت، وإن أرخوا شددت) ، الملاينة في المعاملة، والمجاملة في المعاملة، وليس من باب النفاق ولكنه المجاملة والمسايرة وفرق بينهما بعيد.(46/7)
الحياء كله خير إلا ما استثني
علماء الشريعة يقولون: الحياء خير كله إلا في مسائل، وهي: إن هناك من الأمور ما ينبغي ألا يتركه الإنسان ولا يقول: أستحي أن أفعله، فإذا رأى منكراً من شخص وله مقومات تغيير المنكر، وعلى ما بيّن صلى الله عليه وسلم باللسان لمن يقدر على ذلك، وبالقلب لمن لا يستطيع هذا ولا ذاك، فإذا رأى منكراً ورأى إنساناً ذا هيئة يقول: أستحي أن أكلمه، ليس هذا محل الحياء ولكنه الضعف، وكذلك قالوا في طلب العلم كما جاء في الأثر: إن ديننا هذا -يعني العلم- لا ينفع فيه أمران: الحياء والكبر، ولذا قالوا: اثنان لا يتعلمان أبداً: مستحٍ ومتكبر، يتكبر أن يسأل فلا يحصل على علم أبداً.
ولذا روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (نِعمَ النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يسألن في أمور دينهن) .
وهكذا كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، له صاحب قال له ابن عباس: هلمّ نجمع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة كثر بالمدينة، قال: أترى أن الناس يأتي عليهم وقت ويحتاجون إليك يا ابن عباس؟! يقول ابن عباس: فترك ومضيت) .
وجاء عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يجمع بين الأمرين، الحياء بتوقير العلماء، والحياء في ترك السؤال فيما يحتاجه، وذلك في موقفين: الموقف الأول: يقول: (إنه رأى رجلاً سمع عنده حديثاً لرسول الله، وخرج الرجل من المسجد بعد صلاة الظهر، يقول ابن عباس: فتبعته واستحييت أن أوقفه في الطريق، ومضيت خلفه لعله إن وصل بيته يلتفت وراءه فيراني، قال: فولج البيت ولم يلتفت ورد الباب، فجلست عند الباب أنتظر خروجه أو خروج صبية له، فلم يخرج أحد، وأخذ التراب يسفي عليه فتغطى بردائه، إلى أن خرج الرجل لصلاة العصر، فوجده فقال: ابن عباس ابن عم رسول الله على باب بيتي! هلاّ آذنتني فأتيتك، قال: العلم يؤتى إليه ولا يأتي، ما حاجتك يا ابن عم رسول الله؟! قال: حديث سمعته عنك هو كذا وكذا، قال: نعم) .
الموقف الثاني: يروي الذهبي في ترجمة زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: (أنه ركب ذات يوم وجاء ابن عباس رضي الله تعالى عنه فأخذ بركاب زيد، فقال زيد: تنح يا ابن عم رسول الله! عن الركاب، قال: هكذا أُمرنا أن نعمل مع علمائنا، فقال زيد: أخرج يدك يا ابن عباس! فأخرج يده فأخذها زيد وقبلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل مع آل بيت رسول الله) .
يهمنا في هذا توقير ابن عباس للعلماء، وهكذا طالب العلم وجب ألا يستحي في طلب العلم، ولكن مع توقير العلماء وليس مع تجهيلهم، أو قصد إظهار عجزهم، ولا الإتيان بالمعضلات والألغاز، لا، إنما يريد العلم والاستفادة ويحصل على ما حصل عليه هذا الشيخ أو ذاك.
وهكذا أيها الإخوة! يتبين لنا من هذا الحديث على إيجازه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعطي من جوامع الكلم، وما أعطي من مكارم الأخلاق في هذا الحديث الموجز: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) وقالوا في حقه صلى الله عليه وسلم: لقد كان في الحياء الغريزي أشد حياءً من البكر في خدرها، وفي الحياء المكتسب -أي: مع الناس ومعاملات الناس- ما سئل شيئاً إلا وأعطاه حياء من أن يمنع، أما إذا رأى انتهاك حرمات الله غضب لذلك، ولا يقبل لأحد كلاماً في هذا، وهذا هو المقياس في هذا الحديث وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(46/8)
الأسئلة(46/9)
الفرق بين الخجل والحياء
السؤال
ما الفرق بين الخجل والحياء؟
الجواب
أقول: يا إخوان! وخاصة طلبة العلم من أراد أن يعرف حقائق مفردات الأخلاق فليرجع إلى ابن مسكويه في كتابه: فلسفة الأخلاق.
الخجل والوجل متضادان؛ الوجل الخوف، والخجل الحياء من كل شيء، والأكثر ما يكون للنساء، ولذا الخجل للرجال ليس ممدوحاً، بخلاف الحياء، فإنه من الغرائز والأخلاق الفاضلة.
فالحياء يمكن أن يراعي فيه الإنسان الإقدام والإحجام، ولكن الخجل لا يتملك المرء فيه، والحياء قابل للمقياس العقلي، أما الخجل فلا يقبل ذلك، فالشخص الخجول -كما يقولون- هو أشد ضعفاً من الشخص الذي يقال فيه حيي؛ لأن الذي يستحي يأتي في أوقات وهو أشد ما يكون قوة وجرأة، بخلاف الذي يخجل، الخجل ضعف شخصي ولكنه في النساء كمال.
إذاً: هناك فرق بين الخجل والحياء فيكون دقيقاً جداً وهو: أن الخجول لا يملك من نفسه تصرفاً، ولكن الحياء صاحبه قد يستحي ويقف عند حيائه، وقد يتخطى حواجز هذا الحياء فيما هو واجب عليه، والله تعالى أعلم.
فالذي أشرنا إليه أن الحياء قسمان: قسم مذموم وقسم ممدوح، وأشرنا إلى أن المذموم هو الذي يمنعك من فعل واجب عليك.
فبعض الناس يخرج عن بلده ويأتي إلى بلد غير مسلم ويرى الساعة في يده، ويعلم أنه قد حان وقت الصلاة، وهو عنده زملاؤه في منتزه أو في بيت أو في مكان وعنده الآخرين يستحي أن يؤذن ويقيم ويصلي، لماذا؟ سمعنا بمن يفعل هذا، وأي شيء هذا! يقول: أستحي، يا سبحان الله! تستحي أن تؤدي حق الله؟ قد تكون صلاتك هذه أقوى فعالية مما لو وقفت محاضراً أسبوعاً كاملاً.
وكذلك يدخل المطاعم نحو ذلك، وتقدم له الأطعمة والأشربة ويستحي أن يمتنع مما حرم الله، يخشى أن يُقال: متخلف! رجعي! يا سبحان الله! إذا تمسك الإنسان بدينه يقال: متخلف ورجعي! نعم رجعي عن هذا التيار الفاسد.
ومن عجب أيها الإخوة! أن أولئك القوم إذا وجدوا مسلماً متمسكاً بدينه وامتنع عن تلك المحرمات تديناً كان أعظم ما يكون في نفوسهم.
وبالمناسبة كنا مرة في رحلة على طائرة فرنسية في إفريقيا مع الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، وكان مدة الرحلة ثلاث ساعات، فأقلعت قبل الفجر بربع ساعة، والمدة ثلاث ساعات، معنى ذلك ستنزل بعد طلوع الشمس، وكنا متوضئين، فقلت للشيخ: ماذا نفعل؟ أنتم المالكية تقولون: لا تصح الصلاة إلا على شيء متصل بالأرض، أتترك الصلاة في الطائرة؛ لأنها غير متصلة بالأرض أو تصلي الآن على خلاف المالكية؟ قال: لا، أصلي وأنا على مذهب المالكية، قلت: كيف؟! قال: إن الطائرة متصلة بالأرض بواسطة الهواء؛ لأن الفراغ الذي بينها وبين الأرض مملوء بالهواء والهواء هو الذي يرفعها، فقلت: الحمد لله! هل نؤذن؟ قال: يكفي أن نقيم الصلاة، فقمنا نصلي عند الباب، ولما رأونا وهم فرنسيون عند باب الطائرة وهي كبيرة جاءوا حالاً بالفراش الذي يتغطى به الركاب وفرشوه لنا، وصلينا الصبح جماعة، ثم جاء وقت الإفطار فإذا بما قدموه شكل غريب، وليس فينا من يحسن الإنجليزية إلا بعض الكلمات، فسألنا أحدهم، فإذا هو لحم الخنزير فقلنا له: خذه، فقال: مسلم! فقلنا: نعم، فأصبح خجلاً من نفسه، وفي أقرب وقت جمع كل الأطعمة التي أمامنا كلها وذهب بها، وجاء بفطور جديد ليس فيه ميتة، فهل نستحي ونأكل لحم خنزير أمامهم؟ هل نستحي ونترك الصلاة؟ لقد كان أداء صلاتنا تلك، وامتناعنا عن ذاك الطعام خيراً عظيماً، يقول الشيخ رحمه الله: هذا الموقف مكننا من العمل بآية من كتاب الله بين السماء والأرض: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] فهل نقول: استحينا ونقول: مسلمين ونأكل؟ يعني: إذا وقع لبعض الأشخاص ظرف ما أمام زملاء أو أمام أصدقاء أو أمام غرباء، فإنه يأكل ويشرب ويستحي منهم، تستحي من الناس ولا تستحي من الله! سبحان الله العظيم! وهناك أشياء عديدة من هذا القبيل لا ينبغي للإنسان أن يقول: استحيت، لا والله ليس حياء ولكنه خور وضعف.
إذاً: الحياء منه المذموم ومنه الممدوح، الحياء الممدوح أنك تستحي أن تأكل وأنت تمشي في الطريق، ما الذي منعك؟ الحياء، ويذكر بعض العلماء أن شخصاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب ماء يشرب، فستره النبي صلى الله عليه وسلم حتى يشرب، قالوا: (ما هذا يا رسول الله؟! قال: هؤلاء قوم يستحون) إلى هذا الحد، وكان يوجد جماعة في موريتانيا أو في أفريقيا لا يأكلون أمام الناس، ويقولون: الذي يأكل أمام الناس هذا (دهنيس) ، الذئب هو الذي يأكل أمام الناس، أما الآدمي الذي يأكل أمام الناس ويرونه فهذا ليس من المروءة، قد يكون هذا الأمر زائداً عن العادة، لكن العلماء رأوا بأن الشخص إذا كان لا يبالي بصغار الأمور قد يتدرج إلى كبارها، وإذا كان يستحي من صغارها ما يمكن أن يعمل الأشياء الكبار، الآن لو في جيبك تفاحة تقدر تخرجها وتأكلها أمام الناس! هل هو حرام، سواء كانت حارة أو مرة أو مالحة؟ لا، ما الذي يمنعك أن تأكلها أمامنا الآن؟ الحياء، فهذا هو الحياء الممدوح، ويكفي هذا القدر في بيان الحياء الممدوح والحياء المذموم، والله أعلم.(46/10)
الفرق بين المجاملة والنفاق
السؤال
ما هو الفرق بين المجاملة والنفاق؟
الجواب
هناك كتيب لـ ابن رجب يتحدث عن هذا الموضوع، والمجاملة والنفاق قضية كانت أثيرت في عام (71م) في النادي في الرياض، والحقيقة أن بين المجاملة والنفاق شعرة، فالمجاملة هي: أن تفعل شيئاً قد لا يكون في مرادك، والنفاق: هو أن تظهر خلاف ما تبطن، ولكن النفاق لؤم وخسة وضعف في المنافق؛ لأنه عجز أن يظهر ما في باطنه، ولكن المجاملة قد تكون مع القدرة ومع السعة، وتكرم من لا تريد أن تكرمه، لكن تكرمه كرماً منك أنت، تنظر إلى مكارم أخلاقك أنت لا إلى ما يستحقه هو.
إذاً: المجاملة تكون في موقف القوة والقدرة، وتجامل من هو أضعف منك، أما النفاق فيكون مع الضعف واللؤم، ومع إرادة المضرة، وفرق بينهما -كما قلت- كالشعرة، فالمؤمن يجامل لكن لا ينافق، والله تعالى أعلم.(46/11)
عدم صحة مراجعة المختلعة أثناء العدة
السؤال
امرأة خالعت زوجها، وأعطته المال، هل يصح له أن يراجعها أثناء العدة؟
الجواب
امرأة خالعت زوجها، بمعنى: خلعت نفسها منه، كان يلبس ثوباً: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] فطلبت منه أن ينزع هذا اللباس فامتنع، فأعطته المال لينزع هذا اللباس وانتزعت منه لباسها على عوض، وحصلت المفارقة بالمخالعة مقابل عوض، فعليها أن تعتد، حتى إذا خرجت من عدتها كان لها حق أن تتزوج غيره، وهو لا يحق له أن يراجعها، أي: لا يحق أن يقول: راجعتك لعصمتي؛ لأنها دفعت مالاً فلم يبق له حق الإرجاع طواعية، ولكنه يعتبر خاطباً من الخطاب بعد انتهاء العدة، فمن حقه أن يرجعها إليه إذا رضيت بعقد جديد.
ثم نقول: كم عدة المختلعة؟ هناك من يقول: حيضة، والجمهور على أنها ثلاث حيضات، وبعد أن تحيض حيضة إذا أراد أن يرجع إليها يخطبها كما خطبها زيد وعمرو وينكحها إذا رضيت على صداق جديد، وهل يعقد عليها العقد الجديد وهي لم تكمل عدتها ثلاث حيضات أو لا يعقد؟ ماذا تقولون؟ سبحان الله! هذه من البدهيات، المرأة لأي شيء تعتد من زوجها؟ لنعلم هل هي حامل فيكون الحمل منه أو ليست بحامل فتتزوج غيره أليس كذلك؟ فإذا كان هو صاحب الماء الأول وسيكون صاحب الماء الثاني، إذاً لا حاجة إلى عدة، له أن يعقد عليها بعد أن طلقها ولو بيوم أو يومين أو بأسبوع أو بشهر أو بأكثر أو بأقل، فليس هناك وجوب إكمال العدة؛ لأنها تعتد منه إليه، ليس هناك حاجة إلى العدة.(46/12)
الدعوة إلى وحدة الأمة وإزالة الفوارق الدنيوية
السؤال
متى تزال الحواجز وتمنع وترفع الفوارق بين العالم الإسلامي كله ونرجع إخواناً أمة واحدة على كتاب الله وسنة رسوله؟
الجواب
هذا السؤال يجيب عنه واحد أو العالم الإسلامي كله مسئول عن هذا الجواب؟ العالم الإسلامي كله مسئول عن هذا، وليست المسألة نظرية، نرجع إلى كتاب الله! كل إنسان يقدر يقول هذا الكلام، ولكن الحلول الإجمالية لا توصل إلى نتيجة أبداً، هناك عوائق شديدة هل يمكن أن تزال أم لا؟ وأنا أقول: أقترح -وأستغفر الله من كلمة أنا- لو صدق العالم الإسلامي في العودة إلى الوحدة لوصلوا، وهناك سُلم لو تدرج العالم عليه لوصلوا، ولنأت الآن إلى وزارات التربية والتعليم فنوحد مناهج التعليم الإسلامي في العالم الإسلامي، العالم العربي والإسلامي يدرس اللغة العربية أو لا؟ نوحد المناهج، الفقه نوحد المناهج، الحديث نوحد المناهج، التفسير! كل الدروس الإسلامية التي تدرس في المعاهد والجامعات نجعلها موحدة، أظن هذه ما فيها خسارة على الناس بشيء.
ثم ننتقل خطوة ثانية نحو التعرفة البريدية، فنجعل بريد العالم الإسلامي كله بريداً واحداً، كذلك الجمارك ووزارات الصحة يكون فيها تبادل العلاجات، وتبادل المرضى والدكاترة والخبرات، وكل ما يمكن توحيده فيما بين الأمم يوحد، ثم توحيد للجيوش، وهذه آخر خطوة تكون.
فممكن أن تكون هناك خطوات، ولكن أقول: إذا لم يكن هذا وبقي كلٌ على ما تحت يده فليكن توحيد الوزارات الخارجية، السياسة الخارجية تكون موحدة، إذا كانت هناك قضية لدولة مسلمة يتبناها الجميع، ويكافح دونها الجميع، إذا عرضت القضايا في مجمع دولي يكون التصويت للجميع، إذا تقاربوا في وجهات نظرهم في الأمور العملية أعتقد أنهم على سُلّم التقارب سيلتقون عند نقطة نهائية فيما يرضاه الجميع، وهذا المجلس الذي أنشئ في دول التعاون الخليجي، أليست هذه تجربة بين مجموعة دول وأصبحت كأنها بلد واحد؟ هذه التجربة موجودة أو لا؟ الآن هناك تجربة جديدة، وهي في طريق خطواتها الأولى أظنكم تعرفونها وتسمعون عنها، ونحن ننتظر حتى تبرز إلى الوجود إن شاء الله.(46/13)
حكم تقبيل أيدي الوالدين والعلماء
السؤال
ما حكم تقبيل اليدين للوالدين والعلماء؟
الجواب
اتفق الجميع على جواز تقبيل الوالدين والعالم الذي تستفيد منه وما عدا ذلك لا، وزيد بن ثابت لما قبّل يد ابن عباس؛ لأنه حبر الأمة، ولصلته برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُقبّل زيد كل شخص قريب لرسول الله، وإنما قبّل ابن عباس؛ لأنه جمع الفضيلتين العلم والنسب الشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(46/14)
شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والعشرون(47/1)
شرح حديث: (قل آمنت بالله ثم استقم)(47/2)
حرص الصحابي على طلب النصيحة من النبي عليه الصلاة والسلام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
[عن أبي عمرو وقيل: أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم] .
إن هذا الحديث المبارك الذي فيه الجواب عن هذا السؤال الحكيم يعتبره العلماء جامعاً شاملاً لمهام الإسلام، وإنه لتظهر فيه حكمة وحصافة ولب السائل رضوان الله تعالى عليه، وهو أبو عمرة سفيان الثقفي، وهو من ثقيف من سكان الطائف، يسأل هذا السؤال ليتعلم، ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: السؤال نصف العلم، أو هو العلم، ويقال: تعلم كيف تسأل كما تتعلم كيف تستمع، والسؤال ينبئ عن عقل صاحبه.
فهذا الصحابي الجليل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله!) يستحضر في نفسه أن المسئول أمامه هو رسول من عند الله لا ينطق عن الهوى، ويستحضر في نفسه أن المسئول أمامه قد أوتي جوامع الكلم، ويستحضر في نفسه أن المسئول أمامه مبلغ رسالة الله لخلق الله، فهو النبراس، وهو القدوة، وهو السراج المنير الذي يضيء للخلق سبيلهم، يستحضر كل تلك المعاني حينما قال: (يا رسول الله! قل لي) ، وهذا السؤال له ولغيره ممن يبلغه.
قال: (قل لي في الإسلام) لا في الدنيا ومتاعها وزخرفها، ولا في السلطة وعزتها، ولا في منصب وجاهه، لا، بل في الإسلام، كان الإسلام ممتزجاً بدمائهم، وأصبح يسري في عروقهم، وأصبح هو ديدنهم ومقصدهم، وهذا مما ينبئ عن قوة إخلاصه، وحسن مقصده، وشدة تيقظه لما يسأل عنه، فالإسلام به عزة الخلق، وفيه سعادة الدنيا والآخرة.
والسائل يعلم يقيناً أن الرسول جاء برسالة الإسلام، وقد نفض الدنيا عن يديه، وقال: (أنتم أعلم بدنياكم مني) ، فليسوا في حاجة إلى توجيه فيها، أمر الدنيا يستوي فيه المسلم والكافر، وقد يكون الكافر أشد حذقاً في أمور الدنيا من المسلم، وقد توصل الكافر في أمور دنياه إلى مخترعات، وإلى مستحدثات، وإلى مستجدات لم يصل إليها المسلم حتى اليوم، والدنيا مبناها على التجارب، فطالما يوجد فكر وتجربة توجد نتائج تقدمية، ولكن السائل يهتم بالإسلام، والسؤال عن الإسلام، ولا يمكن أن يجاب عليه إلا من طريق الوحي، ولذا قال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام) ، والإسلام إذا انفرد يشمل الإيمان، فمراده: الرسالة التي حملتها وبلغتنا إياها.
قوله: (قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك) ومن بعد رسول الله يسأل؟ ومن بعد رسول الله يستطيع أن يجيب؟ ومن بعد رسول الله يملك أن يزيد على جواب رسول الله؟ لا أحد.
قال: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك أحداً غيرك) ، علم أنه لا يوجد غير رسول الله أعلم بدين الله، فهو يطلب الإيضاح، ويطلب التفصيل، ويطلب البيان، بلا إشكال ولا لبس ولا غموض ولا خفاء، ومن بعد رسول الله أوتي جوامع الكلم؟ فهو أفصح العرب صلى الله عليه وسلم.
عرف السائل كيف يكيف سؤاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم قدر للرجل سؤاله، وعرف حقيقة حاله، وأجابه الجواب الذي لا يوجد مثله أبداً، ولو اجتمع الخلائق كلهم ما استطاعوا أن يضيفوا إلى هذا الجواب حرفاً واحداً، وكان الجواب على مقتضى سؤال السائل من الإيضاح والشمول والبيان والمعرفة والتوجيه، فقال: (قل: آمنت بالله، ثم استقم) ، كلمتان: (آمنت بالله) وحرف العطف (واستقم) ، وفي بعض الروايات: (قل: الله ربي، ثم استقم) ، ذكر بعض العلماء زيادة: أنه سأل أيضاً: (ما أشد ما تخافه عليّ يا رسول الله؟! فأخرج صلى الله عليه وسلم لسان نفسه وأمسكه بيده وقال: أمسك عليك هذا) .(47/3)
حسن جواب الرسول عليه الصلاة والسلام وبلاغته وحكمته
نرجع إلى هذا الحديث على إيجازه، ونتكلم فيه من جهتين: جهة منهجية، وجهة موضوعية.
أما الجهة المنهجية فهي تطابق الجواب مع السؤال، ليشبع رغبة السائل ويكفي حاجته، بكل وضوح وبيان، وبكل شمول واستغراق، وليس ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الناحية الموضوعية فنجد هذا الترتيب: (قل: آمنت بالله) فالقول يقتضي مقول، وكأنه صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينطق قائلاً قولاً مسموعاً (آمنت بالله) ، ولم يقل له: آمن بالله ثم استقم؛ لأنه لو قال: آمِن بالله، فالإيمان بالله داخل القلب؛ لأن الإيمان التصديق، ولكن عمل القلب وحده لا يكفي، فلابد معه من نطق اللسان المعبر عن إيمان القلب، ولذا قال له: (قل: آمنت بالله) ، وقال الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ، وما قال: وكان من المسلمين، بل قال: ((وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) ليشهد العالم عليه، وليشترك اللسان في الإيمان.
وهنا وقفة: هل السائل غير مؤمن؟ هو يقول: يا رسول الله! ويقول: قل لي في الإسلام، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه جواباً مكتمل الجوانب، لم يحل فيه على متقدم ولا غائب، بل أعطاه الجواب مكتملاً لا يحتاج إلى إضافة، ولا إلى إلحاق، ولا إلى إتباع، ولا إلى إحالة، كأنه يرسم له منهجاً من جديد، ليكون جواباً له ولغيره، ولو وصل هذا الحديث إلى أي إنسان يعقل فهو موجه له، وإن كان مؤمناً جدد إيمانه، لقد كان صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة، يجدد ذكر الله.(47/4)
معنى قوله: قل: (آمنت بالله)
قال: (قل: آمنت بالله) ، الإيمان لغة هو: التصديق، أي: أن يصدق القلب بمقتضى الخبر، ولكن الإيمان في اصطلاح الشرع: تصديق القلب، ونطق اللسان، وعمل الجوارح، فقوله: (قل: آمنت بالله) ، الإيمان بالله هو: التصديق بالله، وبوجوده، وبما يستحقه في ذاته، وبما جاء عن الله، ومن الإيمان بالله الإيمان برسول الله؛ لأنه جاء برسالة من عند الله، ومن الإيمان بالله الإيمان بيوم القيامة؛ لأن الله أخبر به، والإيمان بيوم القيامة إيمان بالجنة والنار، والإيمان بالجنة والنار إيمان بالجزاء والحساب، فمن الإيمان الإيمان بالمجازاة على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة عقوبة، فالإيمان بالله يقتضي الإيمان بكل ما جاءنا به رسول الله من عند الله.
فهذه الجملة الأولى تتضمن كل ما يتعلق بالعقائد، وتتضمن الالتزام بأركان الإسلام، وتتضمن الالتزام بالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج؛ لأن الله هو الذي فرضها، فإذا آمنت بالله قمت بكل ما أمرك به الله، وهذه أركان الإسلام، وإذا آمنت بالله آمنت بكل ما أخبر به الله، وأركان الإيمان: الإيمان بالله، ورسله، وملائكته، وكتبه، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، إذا آمنت بالله كنت حقاً مسلماً أمرك لله، وهنا قدم صلى الله عليه وسلم أولاً الإيمان بالله، ثم أتى بحرف العطف (ثم) الذي يفيد الترتيب والتعقيب، ما قال: قل: آمنت بالله واستقم، وما قال: قل: آمنت بالله فاستقم، بل جاء بثم، والبعض يقول: إن ثم للترتيب والتراخي، وهنا ليس المراد التراخي، وتظهر قوة أسلوب هذا الحديث في قوله: (قل: آمنت بالله) ، فإذا استغرقت كل جوانب الإيمان بالله فاستقم، فكأن عملية الإيمان بالله تحتاج إلى فترة تروٍ وتريث واستجماع وتجميع وإدراك لكل ما يقتضي الإيمان بالله.(47/5)
معنى قوله: (ثم استقم)
قال عليه الصلاة والسلام: (قل آمنت بالله ثم استقم) ، فإذا تأمل المسلم هذه الجملة فقط لوجد كل العقائد في هذه الكلمة، فكأنه وضع القاعدة الأساسية التي يقوم عليها البناء، ثم منها الانطلاق، كما يجعلون قاعدة انطلاق قوية إذا كان المنطلق منها قوياً ثقيلاً يحتاج إلى قاعدة راسخة قوية لتتحمل رد الفعل، وتتحمل انعكاس الانطلاق كما يقولون في علم الحركة، فالانطلاق بعد الإيمان بالله إلى الاستقامة أمر عظيم.
وما هي الاستقامة؟ يتفق العلماء على أن الاستقامة وسط بين طرفين، فهي الاعتدال بلا اعوجاج كما قال الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:1-2] أي: ليس فيه عوج، لا في يمين ولا في يسار، وليس فيه هبوط ولا صعود، بل اعتدال واستقامة، وهكذا يقولون: الفضيلة وسط بين طرفين، فمثلاً: الشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين التبذير والتقتير، وكذلك الاستقامة.
الاستقامة إذا طبقناها على الإسلام كله، وجدناها تدخل في كل شيء منه، وهي الميزان الذي يزن العبد به أعماله.
جاء عن السلف رضي الله تعالى عنهم بيان معنى الاستقامة، فعن أبي بكر الصديق أنه لما قرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] فقال: آمنوا بالله واستقاموا على ذلك حتى ماتوا، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: آمنوا بالله ثم استقاموا ولم يروغوا روغان الثعالب، فالاستقامة على الإيمان بالله هي: الدوام عليه حتى يلقى الله، وهو على استقامته.
ومن جانب آخر يكون تحقيق الاستقامة في الإيمان بالله بلزوم وترك البدع المحدثة، فنحن نقرأ في كتب العقائد عن الطوائف المتعددة التي ضلت في أسماء الله وصفاته، فنجد مثلاً المشبهة والمعطلة، فالاستقامة تكون بلا تشبيه ولا تعطيل، تكون بإثبات صفات الله بلا تشبيه، وتنزيه الله بلا تعطيل، كما قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فالاستقامة هنا طريق وسط بين طرف المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه، وبين طرف المعطلة الذين عطلوا الله من صفاته التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله، فالاستقامة وسط بين هذا وذاك، إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، هذه استقامة في حق أسماء الله وصفاته، وإذا جئنا إلى الاستقامة في الإسلام -كما سأل السائل- نجد أن الشريعة كلها بل الرسالة بأكملها إنما جاءت لتقرر الاستقامة والاعتدال في الطريق من الدنيا إلى الآخرة، وهو طريق العبد إلى ربه.(47/6)
الحث على الاستقامة في سورة الفاتحة
جاء ذكر الاستقامة في كتاب الله في مواضع كثيرة، وهذا الباب واسع، لو تفرغ إنسان لجمعه لجاء على القرآن الكريم كله بجميع تعاليمه، ولنبدأ أولاً بفاتحة الكتاب: قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] ، في هذه المقدمة: قل: آمنت بالله، إذا حمدت الله أثبت لله صفات الكمال والجلال، وإذا قلت: (رب العالمين) ، أقررت واعترفت لله بالربوبية العامة للعالمين جميعاً، عالم الإنس والجن والملائكة، عالم الحيوان والطير، عالم البحار والجبال، عالم النبات والأشجار، هو رب العالمين يربي العالم كله، فالذي يدبر هذا العالم، والذي أوجده هو الله رب العالمين.
(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ربوبية رحمة، لا سلطة وقهر وجبروت، مع أنه سبحانه له السلطة وله القوة وله الجبروت، لكنه يربي العالمين بالرحمة، وقد بين صلى الله عليه وسلم أنه أرحم بالخلق من الأم على رضيعها، وله مائة رحمة أنزل واحدة في الدنيا، وأمسك تسعاً وتسعين إلى يوم القيامة، فبهذه الرحمة الواحدة يتراحم الخلق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها خشية أن تصيب ولدها، هذه رحمة الله رب العالمين الرحمن الرحيم في الدنيا، وعند المعاد يرحم العباد بتسعة وتسعين رحمة.
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ليس معه ملك، وليس معه مالك، {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ، وأنت -أيها العبد- أين تذهب؟ دنياك ربنا يدبرها، وآخرتك إليه وحده، إذاً: ليس لك مجال، وليس لك مآل، وليس لك مفر، ولا مهرب، إلا أن تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، وحقاً تقولها، وحقاً هي لله، (قل: آمنت بالله) ومن الإيمان بالله إفراد الله بالعبادة، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) والعبادة كلها لله، وتقديم المعمول -كما يقولون- من أدوات التخصيص والحصر، فاحصر العبادة لربك، وكذلك الاستعانة احصرها بربك، فلا يعينك على أمورك في الدين والدنيا والآخرة إلا الله، وفي الحديث المتقدم: (ولو أن الإنس والجن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك) فمن الذي يعينك على دينك؟ ومن الذي يوفقك للعمل؟ ومن الذي يهديك للصواب؟ ومن الذي يعطيك القدرة للقيام والعمل؟ هو الله وحده لا شريك له، نستعين بك على كل شيء، ومن ذلك العبادة، وإذا كان الأمر كذلك فبأي طريق تسلك العبادة؟ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] الطريق الذي نستمر عليه ونستقيم عليه في عبادتك، وفي أداء حقك علينا، فيما أوجبت علينا يا الله! وما هذا الصراط؟ {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] .
ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟ قال الله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، ما قال: قدوة، ولا امتثالاً، بل قال: (رَفِيقًا) على هذا الصراط المستقيم، كأنك تسلك صراطاً سلكه من هو خير منك، من نبيين وصديقين وشهداء وصالحين، وأنت تسير معهم، أي صراط تريد أفضل من هذا؟ أي وجهة تولي وجهك سوى هذه الوجهة؟ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] المغضوب عليهم هم: الذين علموا وتركوا العمل والضالون هم: الذين عملوا بغير علم، والأولون هم اليهود؛ لأنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، والآخرون هم النصارى؛ لأنهم ابتدعوا رهبانية ما كتبها الله عليهم، فتطلب من الله في هذه السورة الكريمة الهداية إلى الصراط المستقيم، الذي هو صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وتسأله أن يجنبك السبل والطرق الأخرى، بأن يجنبك طريق العلم مع ترك العمل، ويجنبك طريق العمل بلا علم، والاستقامة بين هذين الطرفين، فإذا انتهيت من سورة الفاتحة يباشرك في كتاب الله، أول ما يأتيك في المصحف الشريف سورة البقرة: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، سألت الله الهداية إلى الصراط المستقيم، فهذا الكتاب الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ريب فيه هدىً للمتقين، تسأل الله الهداية؟ فهي في هذا الكتاب، تسأل الله الصراط المستقيم؟ فهذا هو الصراط المستقيم، ومن هم المتقون؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3-5] .
أيها الإخوة: نجد أول المصحف الكريم في سورة الفاتحة يتعبدنا الله في كل يوم على عدد ركعات الفريضة سبع عشرة ركعة نقرأ فيها (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، ونجد المقدمة إيماناً بالله وتمجيداً لله، ولهذا جاء في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي.
وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: مجدني عبدي) إلى قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول: هذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل) .
وإذا قرأنا سورة البقرة وجدنا فيها أكثر من أربعين قضية تشريعية اجتماعية وأخلاقية ومعاملات سواءً كانت في القضاء أو في الحقوق أو في الدماء أو في غير ذلك.(47/7)
الحث على الاستقامة في سورة الأنعام
وفي سورة الأنعام نجد موقفاً آخر مع الاستقامة، قال الله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] لا ما حرمتم على أنفسكم، وما سيبتم من السوائب، وما اعتبرتم من البحيرة والوصيلة، لا كهذه التحريمات التي هي عن هوىً وجهالة، وبين بطلان ذلك بالتذكير بأنه خلق ثمانية أزواج من الضأن والماعز ومن البقر والإبل ولم يحرمها فقال: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143] وبعد ذلك أمره الله أن يقول لهم: تعالوا أبين لكم حقيقة ما حرم ربكم عليكم، فبدأ بقوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] ، وهذا يوافق الحديث: (قل: آمنت بالله ثم استقم) ، فالتوحيد بداية كل شيء، ثم قال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] إلى آخر الآية، ذكر حق اليتيم وإيفاء الكيل والوفاء بالعهد، ثم قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] ، (وأن هذا صراطي مستقيماً) أي: هذا التشريع وهذا البيان وما يتلوه عليهم رسول الله مما حرم الله عليهم، ومما فرض عليهم.
ثم في آخر السورة تجد قوله سبحانه، {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:161-163] .
انظر إلى هذه الآية: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لو أخذنا قوله في سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) وهنا قال: (هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، ما هو؟ قال: (دِينًا قِيَمًا) والدين القيم هو الإسلام، وقال الله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) ، وفي آخر سورة النحل قال الله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] ، فيبين هذا الصراط بقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، فإياك نعبد وحدك، وصلاتي ونسكي لك وحدك، بل إن محياي أي: حياتي كلها بكل ما فيها، وما أتصرف فيها من حركاتي وسكناتي وقولي وصمتي وقيامي ونومي وكل تركاتي هي لك يا الله! لأنه لا يتحرك لنفسه، ولا لمنصب، ولا لدنيا يجمعها، إنما يتحرك لأمر الله، إما تنفيذاً لأمر من أوامره، وإما كفاً عن نهيٍ من نواهيه، فيعلن صلى الله عليه وسلم أن حياته كلها ومماته لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، وبالفعل هو أول من آمن بالإسلام والرسالة التي جاء بها من عند الله، وذلك بشهادة الله في قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] إذاً: قوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) ، أولية زمنية؛ لأن صاحب الدعوة إذا لم يكن مؤمناً بها كيف يدعو الناس أن يؤمنوا بها؟ كيف تدعو إلى شيء لم تقتنع به، ولم تؤمن به، وتريد غيرك أن يؤمن به؟! ولهذا فإن الدعوات الزائفة يعلم أصحابها بأنها زائفة، ولا يؤمنون بها، ولا يكون لها استمرار، ولا يدوم لها بقاء؛ لأنها ليس لها جذر تقوم عليه، وليست لها قاعدة تنطلق منها، بل الداعي إليها والآتي بها لا يؤمن بها، فعلى أي شيء يرتكز.(47/8)
الحث على الاستقامة في سورة الشورى
وفي سورة الشورى نجد قوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى:13-15] ، قال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى) وذكر الأنبياء، فكلهم على الإيمان، قال الله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:2-4] وهنا قال أيضاً (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ، ثم قال: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى:15] ، إذاً: اتباع الأهواء مغاير للاستقامة؛ لأن الاستقامة اعتدال وسير معتدل، واتباع الهوى سير معوج يميناً ويساراً.
أيها الإخوة الكرام: إن موضوع الاستقامة الذي جاء في هذا الحديث لواسع، فنذكر النتائج المترتبة على هذه الاستقامة:(47/9)
الرزق العاجل في الدنيا من ثمرات الاستقامة
قال الله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16] ، إذاً: نتيجة الاستقامة الرزق العاجل في الدنيا.
وقال الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] يقول الشافعي وغيره: إن هذا الحديث: (قل: آمنت بالله، ثم استقم) ، منتزع من هذه الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) ماذا تكون النتيجة؟ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] تتنزل ولم يقل: تنزل، كأن فيه تجدد النزول سواءً كان بالنسبة للأفراد فكل شخص تنزل عليه ملائكة خاصة، أو للشخص فيتكرر عليه نزول الملائكة بالبشرى، تتنزل عليهم الملائكة من أجل ماذا؟ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ، أي بشرى أعظم من هذه يا إخوان؟! انظر إلى هذه المقدمة قبل دخولهم الجنة {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] ، فنفي الخوف والحزن معاً في وقت واحد، ويقولون: الخوف من المستقبل، والحزن على الماضي.
ومتى يكون تنزل الملائكة؟ الجمهور على أنه في لحظة النزع، عند إدباره من الدنيا، وإقباله على الآخرة، وهذا أشد ما يكون خوفاً مما أمامه، وأشد ما يكون حزناً على ما ترك وراءه، فيقال لهم: ألا تخافوا من المستقبل، لماذا؟ لأنكم كنتم على استقامة، ولا تحزنوا على الماضي، وما من إنسان يخرج من الدنيا إلا وهو آسف، إن كان محسناً أسف أن لم يكن قد ازداد، وإن كان مسيئاً يأسف أن لم يكن قد أحسن، فساعة النزع ساعة حزن قطعاً، والملائكة تأتي لترفع عنه هذا العبء والخوف من طريق لم يسلكه من قبل، وما يدري ماذا أمامه، فهو طريق مجهول، لو كنت تمشي في فلاة من الأرض، وما سبق لك أن مشيتها من قبل، وكنت في ظلام دامس، ولا دليل معك، ولا تدري أتطأ شوكاً أو حجراً أو حية أو تقع في حفرة، ولا تدري ماذا يكون أمامك، فكيف يكون سيرك؟ لا شك يكون بخوف، فالميت ترك أطفالاً وصاروا يتامى، وترك أموالاً ولا يدري ما يصير فيها، وترك زوجات، وغير ذلك، فكل ذلك يكون موضع حزن، ولو لم يترك شيئاً بالكلية فإنه ترك الدنيا التي كان يعمل فيها الخير، ولحظة من لحظات الدنيا يذكر الله فيها خير من الدنيا وما فيها، كما جاء أخوين مات أحدهما، وعاش الآخر بعده أياماً، ثم ذكر الأول بخير، ثم ذكر الثاني بخير أكثر منه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألم يكن صلى وصام بعده؟ قالوا: بلى، قال: ذلك زيادة خير) .
وهكذا الدنيا هي سوق الإنسان، وعمره هو رأس المال، ففيها يعمل رأس المال في سوقه ليصل إلى الربح، فإن ربح فالحمد لله، وإن خسر -عياذاً بالله- فليس هناك سوق آخر، فتتنزل الملائكة على المؤمنين في تلك اللحظات، ويقولون لهم: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] ، ومع ذلك يزيدونهم على هذه الطمأنينة بقولهم: {وَأَبْشِرُوا} [فصلت:30] ، والبشرى هي: الخبر السار الذي تتغير له بشرة الوجه بالبشرى والاستبشار والتهلل والسرور، وهذه أعظم بشرى يتلقاها الإنسان، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ، الذي أخبركم بها الرسول، وقرأتم عنها في القرآن، ووصفت لكم بأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ثم ربط بين ملائكة الرحمة وبين الإنسان المستقيم، فهم أخوة، فقال الله عن الملائكة: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت:31] ، ولاية الملائكة للإنسان متى كانت؟ لقد كانت ولاية مرافقة، وولاية نصرة، وولاية تأييد، ولقد نزلت الملائكة تقاتل مع المسلمين في الغزوات، فكانوا فعلاً أولياء المؤمنين في الحياة الدنيا، وكذلك امتدت الولاية إلى الآخرة، قال الله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7] أي: استقاموا على طريقك، {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7-9] ، فهذه هي الولاية الحقيقية، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) ، وقال الله عنهم: {والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:23-24] ، ويقولون: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31-32] ، والنزل هو: الذي يقدم للضيف على عجل حتى تؤدى له الوليمة الكبرى، فالملائكة تقدم أول مجيئهم الهدايا والتحية، في أول نزولهم إلى الجنة.
ثم ذكر الله الدرجة العليا للدعاة إلى الله، وهم كل من استقام على دين الله، ولم تشغله نفسه عن إخوانه، بل تفرغ لهذا الصراط، يدعو من حاد عنه يميناً أو يساراً، فقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ، لا أحد أحسن قولاً منه، ثم بين سبحانه عظيم مهمة هذا الداعي، وعظيم قدر تلك الاستقامة، فقال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] ، الداعي يتعرض إلى إساءة الناس، فأمره الله أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ، أي: ادفع إساءة المسيئين بالحسنة، وهل يستطيع كل إنسان ذلك؟ لا، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، تنتقل العداوة إلى صداقة وولاية؛ لأنك استقمت على سبيل الدعاة إلى الله، قال الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] ، وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ، فمن كان كذلك داعياً إلى الله، فلا أحد أحسن قولاً منه، ولكن {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] ، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.
أيها الإخوة: قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا، وقاربوا، ولن تحصوا) أي: ولن تستطيعوا أن تأتوا بكل ما أمرتكم به، ولكن سددوا، والتسديد هو: التصويب، حينما تجعل هدفاً أمامك وترميه بالسهم فتصيبه، فالتسديد هو: أن تصوب السهم إلى غرضه، فسدد في العمل، واقصد الغاية المرجوة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ولن تطيقوا) أي: لن تطيقوا كل الاستقامة، ولكن سددوا وقاربوا.
قال بعض السلف: المستقيم على الصراط المستقيم كالجبل لا تحرقه النار، ولا يتأثر بالبرد، ولا تزعزعه الأهواء، بل هو ثابت مستقر في مكانه، وهكذا المسلم المستقيم؛ لا تغره الدنيا بزخرفها، ولا يلين مع الهوى ولا إلى المال، ولو راودته نفسه فهو مستقيم لا يتزعزع، مستقر على الطريق السوي من دنياه إلى آخرته.
والله أسأل أن يوفقني وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا الاستقامة على دينه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم! اهدنا صراطك المستقيم، اللهم! أعنا على سلوكه، اللهم! اجعل لنا الرفيق الأمين الذي نقتدي به، اللهم! اجعلنا من أتباع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ووفقنا لنتبع ما جاء به من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللهم! أوردنا حوضه، واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! إنا نسألك -يا الله- أن تأخذ بنواصي المسلمين إلى الخير، حكومات وشعوباً، حاكمين ومحكومين، واهدهم إلى العودة إلى كتاب الله والاستقامة على دين الله، ونسألك أن توفقنا جميعاً إلى ما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير، والقادر على ذلك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! واجزه عنا أحسن ما جازيت نبياً عن أمته.(47/10)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني والعشرون(48/1)
الاقتصار على الفرائض يدخل الجنة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: [عن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيتَ إذا صليتُ المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال: نعم) رواه مسلم] .
هذا الحديث يأتي به النووي رحمه الله بعد حديث الاستقامة: (قل: آمنت بالله، ثم استقم) .
وتقدم في معنى الاستقامة أنها أداء جميع الواجبات، واجتناب جميع المنهيات، وأنها أمر عظيم لا يطيقها إلا عظماء الرجال.
وهنا كأن النووي رحمه الله قصد بإيراد هذا الحديث: (أرأيتَ إن صليتُ المكتوبات، وصمت رمضان ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال: نعم) ، كأنه رحمه الله يريد أن يقول: إذا كانت الاستقامة هي مهمة الشريعة الإسلامية كلها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، فإن أقل ما ينبغي على المسلم إنما هو ما جاء في هذا الحديث: أداء الواجبات، وترك المحرمات.(48/2)
ترجمة لجابر بن عبد الله الأنصاري راوي الحديث
الحديث يرويه أبو عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي.
وجابر رضي الله تعالى عنه من آخر من توفي بالمدينة، وكان له حلقة علم في هذا المسجد النبوي الشريف.
ويقول عن نفسه: (ما تخلفت عن غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استشهد أبي في غزوة أحد) .
وله مع أبيه، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداث جسام.
مما جاء عنه: أن أباه لما استشهد في أحد قال: (جئت وأبي مسجّى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأردت أن أكشف وجهه لأراه، فنهاني الصحابة وسكت عني رسول الله، قال: نهوني مخافةً عليَّ مما أرى بأبي من المُثْلة.
ثم بعد ذلك يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في ذلك الوقت يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الملائكة كانت لا زالت تحفه بأجنحتها حتى رُفع) .
ثم بعد ذلك لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جابراً فقال له: (هلم يا بنيَّ! أتدري ماذا فعل الله بأبيك؟ لقد أحياه، وما كلّم الله أحداً كفاحاً سوى أبيك، قال: تمنَّ يا عبدي! قال: أتمنى -يا رب- أن تعيدني إلى الدنيا أقاتل في سبيلك وأستشهد مرةً أخرى.
قال: سبقت كلمتنا أنهم إليها لا يُرجعون -أي: انتهى الأمر-، تمنَّ.
قال: أخبر من وراءنا بما وجدنا) .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي جابراً بعد أيام كئيباً، فقال: (ما بالك -يا بني- كئيباً؟ قال: يا رسول الله! استشهد أبي وعليه دين، فجئت إلى أصحاب الدين -وهم من اليهود- فأعطيتهم كل ما عندي -وكان عنده بستان من أبيه- ليأخذوه في دين أبي فلم يقبلوا، طلبت منهم التأجيل فلم يؤجلوا، وطلبت منهم أن يضعوا من دين أبي فلم يضعوا.
فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أردت الجَداد فآذِنِّي.
فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه ومر بالبستان، وقال له: جُدَّ كل نوع على حدة، ثم اكْتَل لهم دينهم.
قال: فوفيت جميع الدين، وبقي لي من ثمرة البستان مثل ما كنت أجُدُّ كل عام) .
يقول جابر رضي الله تعالى عنه: وبعد ستة أشهر ذهبت لأنقل أبي -أي: من أرض المعركة، وقد كانوا أرادوا نقلهم في أول يوم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن شهيد المعركة يُدفن في مكانه- وبعد ستة أشهر يقول: جئت لأنقل أبي فما وجدت الأرض غيَّرت منه شيئاً إلا شعرات في لحيته، ولكأنه دُفن بالأمس.
ويروي مالك رحمه الله: (أن السيل مر بمحل المعركة فاحتفر قبر عمرو بن الجموح وآخر، فجاء أهلهما يحملانها من الوادي وينقلانهما إلى المدينة، وكان بين ذلك السنوات الطوال -قال ابن كثير:- ما غيرت الأرض منهما شيئاً، وكان عمرو واضعاً يده على صدغه -أي: على جرح- فرفعنا يده، فلما تركناها عادت حيث كانت) .
هؤلاء هم الشهداء أحياء عند الله.
وبهذه المناسبة: سمعت من بعض الإخوان أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في منطقة سيد الشهداء، في أواخر الستينات الهجرية، يقول بلسانه -وأسمع منه بأذني-: توفي لنا طفل صغير، فاستكثرنا أن ننقله إلى البقيع، وقلنا: ندفنه في مقبرة الشهداء بأحد، قال: فذهبت أنا ورجل معي، نحفر القبر، فإذا بالدم يفاجئني في وجهي، ونظرنا فإذا فخذ إنسان، قال: فأخذنا قطعة من الثياب وعصبنا الدم، وأعدنا التراب، وجئنا بالطفل إلى البقيع.
تلك آيات نشاهدها وعلامات نحضرها يقيمها الله لكل مسلم آيةً محسوسةً ودليلاً وشاهداً على ما جاء في كتاب الله، وإن كان كتاب الله دليلاً قائماً، ولا يتوقف الإيمان به على مشاهدات ولا محسوسات، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] ، وصدق الله العظيم القائل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] .(48/3)
حرص الصحابة على السؤال عما يدخلهم الجنة
جابر بن عبد الله يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعدة رجال تتنوع أسماؤهم، لكن تتفق أسئلتهم، يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا الرجل يقول: (أرأيت يا رسول الله) : بمعنى: أعلمني أو أخبرني.
(إن صليت المكتوبات) المكتوبات: الصلوات الخمس، والمكتوبات أي: المفروضات الواجبات، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] .
(وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام) : وفسر النووي (أحللت الحلال) : فعلته معتقداً حِلَّه، (وحرمت الحرام) : اجتنبته معتقداً حُرْمَته.
(أأدخل الجنة؟ قال: نعم) .
هذا الحديث -مع أمثاله، وما يشبهه في موضوعه- اقتصر على فرضين: الصلاة.
والصيام.
وجاءت أحاديث أخرى فيها الزكاة وفيها الحج.
كما جاء أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس وقال: (يا رسول الله! أعلمني ماذا فرض الله عليَّ؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة.
قال: هل افترض عليَّ غيرها؟ قال: لا.
إلا أن تطوَّع.
قال: ثم ماذا؟ قال: صوم شهر رمضان.
قال: هل افترض عليَّ غيره؟ قال: لا.
إلا أن تطوَّع.
قال: ثم ماذا؟ قال: زكاة مالك -وعلَّمه الزكاة-.
قال: هل فرض عليك غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع.
قال: ثم ماذا؟ قال: تحج بيت الله إن استطعت إليه سبيلاً.
قال: هل فرض علي غيره؟ قال: لا.
إلا أن تطوَّع.
فقال: والذي بعثك بالحق نبياً! لا أزيد على ذلك ولا أنقص.
فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح -وأبيه- إن صدق.
وفي رواية: من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) .
هذا الحديث يبحثه العلماء من عدة جوانب: أولاً: كون الرجل يسأل -وفي بعض الروايات أو بعض الطرق- أو بعض الرجال الذين جاءوا.
جاء رجل -وهو طفيل - وقال: (يا رسول الله! جاءنا رسولك، وأخبرنا أنك رسول الله، فهل هذا حق؟ قال: نعم.
قال: والذي رفع السماء! آلله أرسلك؟ قال: نعم، والذي رفع السماء! إنه أرسلني.
قال: إن رسولك أخبرنا أنه كُتب علينا خمس صلوات في اليوم والليلة، آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم.
الله أمرني بذلك.
وذكر صوم رمضان، وذكر الزكاة، وذكر الحج، كل ذلك يقول: رسولك أخبرنا بذلك، والذي رفع السماء! آلله أمرك بهذا؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم.
فيقول -كما قال هذا وذاك-: والذي بعثك بالحق! لا أزيد على ذلك ولا أنقص) .
في هذا الحديث الاقتصار على الصلاة المكتوبة، وهي خمس صلوات، يستدل العلماء على أنه لا فرض بعد الصلوات الخمس، وأن ما عدا الصلوات الخمس: إما من باب فرض الكفاية، وإما من باب السنة.
والسنن تتفاوت.
ويجيبون على قول مَن يرى أن الوتر فرض؛ ولكن لم يقل بفرضية الوتر أحد من الأئمة الأربعة، إلا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول بوجوبه.
وليعلم الجميع أن الوجوب والفرض اصطلاح.
فاصطلاح الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أن الواجب دون الفرض.
وأن اصطلاحه: أن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي من كتاب أو سنة متواترة.
والواجب: ما ثبت بسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقابل اصطلاح (السنة المؤكدة) لدى الأئمة الثلاثة.
والأئمة الثلاثة رحمهم الله عندهم السنة المؤكدة الوتر، وركعتا الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتركهما لا في حضر ولا في سفر، وقال في ركعتي الفجر: (صلوهما ولو طاردتكم الخيل) .(48/4)
الفرض والنافلة فيما يتعلق بالتوحيد
إن لكل ركن من الأركان الخمسة -التي بُني عليها الإسلام- نوافل: فأول أركان الإسلام: الشهادتان (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) : وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول ويحث على قول: (لا إله إلا الله) دبر كل صلاة مائة مرة.
أو في كل يوم مائة مرة.
وكان يحث على التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ثلاثاً وثلاثين ثلاثاً وثلاثين، وأن يختم المائة بـ (لا إله إلا الله) .
وكذلك الصلاة والسلام على رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
قالوا: إن الصلاة على النبي فرضٌ في العمر مرة بدليل قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] ، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه.
فقالوا: بمقتضى هذه الآية صارت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرضاً ولو في العمر مرة؛ ولكن لها نوافل، كما جاء في الحديث: (حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر وكان من ثلاث درجات، وكلما صعد درجة قال: آمين آمين آمين، فلما خطب ونزل، قالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمِّن ولا ندري علام أمَّنت! قال: أتاني جبريل، وقال لي: رغم أنف امرئ أدرك أبويه -أو أحدهما- على الكبر ولم يغفر له، أبعده الله يا محمد! قل: آمين.
فقلت: آمين.
ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك رمضان ثم خرج ولم يغفر له، أبعده الله يا محمد! قل: آمين.
فقلت: آمين.
ثم قال: رغم أنف امرئ ذُكرت عنده ولم يصلِّ عليك أبعده الله يا محمد! قل: آمين.
فقلت: آمين) .
من هنا قال العلماء: من الواجب على كل مسلم إذا سمع اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده أن يصلي عليه صلوات الله وسلامه عليه.
وقد جعل الله لتلك الصلاة أجراً عظيماً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) .(48/5)
الفرض والنافلة في الصلاة
وإذا جئنا إلى أركان الإسلام الأخرى: فأولها: الصلاة.
وقد أوجب الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس، ونعلم جميعاً أنها أول ما فرضت خمسين صلاة، ثم ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين ربه وبين موسى عليه السلام ويطلب التخفيف ويُسقط عنه خمساً خمساً حتى استقرت خمساً في العمل وهي في الأجر خمسون.
وجعل الله سبحانه مما شرع نبيه صلى الله عليه وسلم -وهو لا ينطق عن الهوى- صلوات أخرى نوافل: منها الرواتب مع الفريضة.
ومنها النوافل المقيدة بزمن أو بعمل.
ومنها النافلة المطلقة.
فمن الرواتب: كما جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات في اليوم والليلة -أي: نوافل- وذكر ركعتي الفجر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين قبله، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء) ، وجاءت أحاديث أخرى: (أن مع الظهر أربعاً قبلها وأربعاً بعدها، ومع العصر أربعاً قبلها) .
وبين المغرب والعشاء صلاة الأوابين: ست ركعات، ركعتين ركعتين ركعتين.
ثم قيام الليل بلا حد ولا عد.
تلك هي الرواتب مع الصلوات الخمس.
وهناك النوافل المقيدة بزمن: كركعتي الضحى، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم ما يترتب عليها من عظيم الأجر كما سيأتي أنها تعدل ثلاثمائة وستين صدقة، وكذلك تعلم القرآن في بيوت الله تعالى، ومن فضل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن يذهب إلى بطحان ويأتي بناقتين كوماوين من غير إثم ولا قطيعة رحم، قالوا: كلنا يريد ذلك يا رسول الله! قال: من غدا إلى المسجد فتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع) .
والمقيدة بعمل: ذكر صلى الله عليه وسلم: (كلُّ سلامى من ابن آدم كلَّ يوم تطلع فيه الشمس عليه فيها صدقة) ، والسلامى: المفصل في الجسم، وقالوا: في جسم الإنسان ثلاثمائة وستين سلامى، أي: في أصابعه وفي ظهره وفي ضلوعه وفي يديه ورجليه إلى غير ذلك، تلك السلامات صيانتها، وحفظها إنما هي كما قال صلى الله عليه وسلم: (عليه صدقة) ، ثم مَن في جميع الصحابة يستطيع أن يتصدق كل يوم ثلاثمائة وستين صدقة، قالوا: (ومن يستطيع ذلك يا رسول الله؟! فقال: كل تحميدة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وأن تعين أخاك على دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه بشوش صدقة، ويُجزئ عن ذلك كله ركعتا الضحى) .
هناك أيضاً الصلوات الأخرى التي تدخل في باب فرض الكفاية: كصلاة الجنائز.
وكذلك الكسوف.
والاستسقاء.
وغير ذلك.
جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن لهذه النوافل مهمتان: المهمة الأولى: الصيانة والضمان والأمن على الفريضة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه أول ما يسأل العبد يوم القيامة عن الصلاة، فإن كانت مجزئة ووافية فبها ونعمت وصلح سائر عمله وأُلحقت بها جميع الأعمال، وإن كانت قد نقصت، وفرط وضيع، وأراد الله بالعبد خيراً يقول للملائكة: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: بلى يا رب! فيقول: اجبروا فريضته من نافلته) ، وهكذا سائر الأعمال.
تلك النوافل يتكرم المولى سبحانه ويجبر منها الفريضة، فريضة الصلاة التي هي أول ما يُسأل عنها العبد، فإن قُبلت قبل معها سائر عمله، وإذا رُدت رُد معها سائر عمله؛ لأنها العهد الذي بيننا وبينهم، والذي جاء في خصوصها وحدها: (من ترك الصلاة فقد كفر) .
والمهمة الثانية في جميع النوافل: أن الله سبحانه قال في الحديث القدسي: (إن أقرب أو أحب أو أشد ما تقرب إلي به عبدي بما افترضته عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها ... ) ، وبين العلماء أن هذا العبد يصبح عبداً ربانياً لا يسمع إلا في الله، ولا يبصر إلا في الله، ولا تتحرك يده أخذاً وعطاءً إلا فيما يرضي الله، ولا تسعى قدمه إلا إلى رضاء الله.
وأشرنا في السابق في شرح معنى: (الصراط المستقيم) في قوله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً.
} [الأنعام:161] إلى قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] .
وهكذا تكون النوافل هي السلم الذي يعرج عليه العبد إلى ربه، وهو مرتقى المنازل العليا لكل مسلم.
إذاً: النوافل لها أهميتها هي تابعة لكل فريضة كما أشرنا.(48/6)
الفرض والنافلة في الصوم
كذلك الصوم: فرضُه رمضان؛ ولكن جاءت بالإضافة إليه نوافل أخرى: جاء صوم الإثنين والخميس، وقال فيه صلى الله عليه وسلم: (يوم الإثنين يوم فيه ولدت، وعلي فيه أنزل) ، وفي يوم الخميس قال: (يوم تعرض فيه الأعمال على الله -أو على ربي-، وأحب أن يعرض عملي على ربي وأنا صائم) .
وذكر صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقال في ذلك: (من صام من كل شهر ثلاثة أيام فكأنما صام الدهر) أي: أن الحسنة بعشرة أمثالها.
وجاء في موضع آخر: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) .
وهكذا يبين صلى الله عليه وسلم في نوافل محددة كصوم يوم عاشوراء، أنه: (يكفر سنة ماضية) .
وفي صوم يوم عرفات يقول: (يكفر السنة الماضية والباقية) .(48/7)
الفرض والنافلة في الزكاة
أما الزكاة: فبيَّن سبحانه وجوبها في قوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] أي: معدود محسوب، سواءً كان في الحبوب العُشر أو نصف العُشر، أو كان في النقدين ربع العشر أو كما يقولون: (2.
5%) ، وبين صلى الله عليه وسلم زكاة بهيمة الأنعام فيما يتعلق بالإبل والبقر والغنم.
ولكن (إن في المال حقاً سوى الزكاة) وقد بين صلى الله عليه وسلم أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم يمينُه ما تنفق شمالُه) ، لا تقل: (شمالُه ما تنفق يمينُه) .
ويقول بعض العلماء: إن الحديث فيه قلب، والأصل: (لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) .
والصواب: لا.
كما جاء في الحديث: (لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) وليس هناك قلب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يبين مدى إخفاء المتصدق صدقته، والناظر دائماً إنما يراعي اليمنى؛ لأنها صاحبة الحركة، وصاحبة العطاء، وصاحبة الأخذ، أما اليسار فلا دخل لها في ذلك، وهو من شدة إخفائه الصدقة يوقف حركة اليمين ويحرك اليسار؛ لأن الأعين لا ترقبها.
فالحديث فيه: (حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله) ، هذا الذي يتصدق بهذا المال على هذه الصفة إنما يتعامل مع مَن؟ مع الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] .
وقد جاءت النماذج والأمثلة في سلف الأمة، فهاهو الصديق رضي الله تعالى عنه يَخرُج من ماله كلِّه، فيسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما تركت لعيالك؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله) .
وهاهو عمر الفاروق رضي الله عنه يقسم ماله نصفين أيها الإخوة! إن الإنفاق أو الصدقة النافلة باب مفتوح ومجال واسع ومهمتها أشياء عديدة: في الفريضة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، نعم.
تطهر قلوب الأغنياء من الشح والبخل، وقلوب الفقراء من الحقد والحسد؛ لأن الفقير إذا رأى النعمة عند الغني يستأثر بها دونه فلا يناله منها شيء تحرك الحقد في قلبه والحسد والغيظ، أما إذا وجد نعمة الغني تفيض عليه فإنه يكون حارساً لهذه النعمة ويدعو الله له أن يبارك في ماله وأن يديمه عليه وأن يزيده لتزيد حصته فيه.
ورغم ما في هذه الأبواب من الخير إلا أننا نغفل عنها، وفيما يتعلق بالحث على الصدقة يأتي الشرع الحكيم بقصتين عجيبتين: يأتي بقصة أصحاب الجنة: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:17-20] .
لماذا؟ لأنهم تنادوا {مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم:21-26] .
لماذا؟ أبوهم كان يتصدق؟! أبوهم كان يخرج من ثمارها؟! ولكنهم هم ضنوا وبخلوا بهذا القدر وعزموا على ألَّا يعطوا أحداً، وأن يصرموها ليلاً قبل أن يصحو المساكين ويأخذوا منها شيئاً، فعاملهم الله بنقيض قصدهم.
ويذكر لنا صلى الله عليه وسلم في المقابل: (بينما رجل يمشي في فلاة فإذا به يسمع صوتاً في السحاب: اذهبي فأمطري فاسقي مزرعة فلان) وانظروا أسلوب الحديث! (في فلاة) ليس في وسط قرية أو مدينة فنقول: هذا تشويش أو شيء يختلط أو شيء يُتوهَّم، بل فلاة من الأرض، ليس هناك تشويش ولا وهم.
ويسمع الصوت صريحاً في السحاب؛ من الذي يسخر السحاب؟ من الذي يأتي به؟ من الذي يسوقه فيحيي الأرض الميتة؟ إنه الله، لا شمس تبخِّر، ولا محطيات تتبخَّر، ورطوبة تتكاثف ثم يعود إلى الأرض، لا؛ والله! إنه صنع الله سبحانه وتعالى، من تبخير أو من بحار أو من شمس.
أو غير ذلك، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] ، ويسوقها إلى ما يريد، {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر:9] سياق من الله، فهذه السحابة تؤمر وتذهب حيثما أمرت، قال: (فيمشي الرجل في ظلها، فإذا بها تأتي إلى حرة، وتستجمع، وتمطر، ويتجمع الماء ويسيل في شرجة، فيتبع الماء، فإذا برجل قائم بمسحاته يحول الماء في مزرعته، فيسلم عليه باسمه الذي سمع في السحاب.
فينظر إليه فإذا به رجل غريب.
فقال: كيف عرفت اسمي وأنت غريب.
فقال الآخر: أخبرني! ماذا تفعل في مزرعتك؟ قال: وما الذي حملك على السؤال؟ فأخبره.
فقال: نعم.
إن يكن كذلك فإني حينما أحصدها أقسم ثمرتها إلى ثلاثة أقسام: قسم: أدخره لنفسي وعيالي.
وقسم: أدخره أعيده بذراً فيها.
وقسم: أتصدق به على المساكين) .
أي قسمة هذه؟! أولئك ضنوا بالصدقة فأصبحت جنتهم كالصريم، وهذا حافظ على الصدقة فسخر الله له السحابة في مزرعته.
ليس هناك ماكينة ولا دولاب ولا ساقية ولا شيء، بل من الله؛ لأنه يتعامل مع الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] ، إذا أعطيت الثلث، فسيعطيك ثلاثة أثلاث، وهذا فضل الله.
إذاً: النوافل بابها واسع.(48/8)
الفرض والنافلة في الحج
إذا جئنا إلى الحج: بين صلى الله عليه وسلم أنه يجب في العمر مرة، وجاء الحديث: (ما من حق امرئ مسلم عافيته في بدنه وأغنيته في ماله أن يهجر البيت فوق خمس) .
وأما العمرة فقال عليه الصلاة والسلام -فيها وفي الحج-: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) .
وهكذا -أيها الإخوة- جميع الفرائض لها نوافل، وتلك النوافل بمثابة الضمان لإكمال ما عساه أن يكون من نقص الفرائض.(48/9)
العمل سبب في دخول الجنة
نرجع إلى الحديث: (أرأيتَ إن صليتُ المكتوبات، وصمت رمضان ... ) والأحاديث الأخرى ذكرت الزكاة والحج، فاستكمل بذلك أركان الإسلام.
هنا يقول الرجل: (أأدخل الجنة؟ قال: نعم) .
هنا يبحث العلماء مسألة مهمة وهي: هل بهذه الأعمال يدخل العبد الجنة؟ وحديث: (لن يَدخُل أحدُكم الجنة بعمله أو لن يُدخِل أحدَكم الجنة عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ينص على خلافه فظاهر الحديثين التعارض.
هناك أيضاً قوله سبحانه: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] .
فهنا: (أرأيت إن صليت المكتوبات وو أأدخل الجنة؟ قال: نعم) .
وقوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] ؛ ولكن الحديث: (لن يُدخِل أحدَكم الجنة عملُه) .
قال العلماء في ذلك: قوله: (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) هل قال: التي دخلتموها؛ أم قال: (أُورِثْتُمُوهَا) ؟! قال: (أُورِثْتُمُوهَا) ، فقالوا: فرق بين الدخول وبين التوريث، أما الدخول فهو فضل من الله؛ لأن العمل مهما كانت رتبة العامل ومهما كانت جسامة العمل؛ فإنه يتوقف على فضل الله في قبوله، ثم إن هذا العمل بأي جهد وبأية قوة وبأية إرادة أداه؟ إنها منحة من الله أن هداه لهذا العمل وأعانه عليه، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .
فالفضل من الله.
فقالوا: دخول الجنة بفضل من الله، فإذا ما دخل أهل الجنة الجنة هناك يأتي دور التوريث، وأي شيء يتوارثونه؟ قالوا: جاء في حديث القبر: (إن العبد إذا وضع في قبره -نسأل الله السلامة والعافية- إن كان مؤمناً فأول ما يُفتح له باب إلى النار ويقال له: ذاك مقعدك لو لم تؤمن، ثم يغلق عنه حالاً، ويُفتح له باب إلى الجنة ويقال: ذاك مقعدك يوم القيامة، فيقول: يا رب! أقم الساعة، أقم الساعة، وإذا كان كافراً -عياذاً بالله- فأول ما يُفتح له باب إلى الجنة، ويقال: ذاك كان مقعدك من الجنة لو آمنت، ثم يغلق عنه ويُفتح له باب إلى النار ويقال: ذاك مقعدك من النار يوم القيامة، فيقول: يا رب! لا تقم الساعة، يا رب! لا تقم الساعة) .
إذاً: كل إنسان له منزلان: منزل في الجنة.
ومنزل في النار.
فإذا كان يوم القيامة ودخل أهل الجنة في منازلهم ودخل أهل النار في منازلهم، خلت منازل أهل النار في الجنة، تلك المنازل التي خلت من أهلها يرثها المؤمنون، وبأي صفة؟ الربع والثمن والسدس كالفرائض؟ لا.
بقدر أعمالهم، وبقدر درجاتهم وعلو منازلهم عند الله، يرثون تلك المنازل.
إذاً: لا تعارض بين قوله سبحانه: {أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] ولا بين الحديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) .
وعلى هذا يكون هذا الحديث مبيناً لعلة دخول الجنة، وعد من الله، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، والعَشَم في وجه الله عظيم، وكل مؤمن عند النزع يقدم الرجاء على الخوف.(48/10)
قبول الأعمال المؤدية لدخول الجنة
يذكر العلماء مسألة: هل مطلق هذه الأعمال يدخل الجنة أو أن هناك شروطاً لها؟ فبعضهم يقول: ما اجتنبت الكبائر.
وبعضهم يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ، فاجتناب الكبائر مكفر للصغائر؛ ولكن الكبائر بنفسها.
جاءت الأحاديث: (الجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهما) .
وفي بعض الروايات: (ما اجتنبت الكبائر) وجاء في العمرة (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) .
وجاء أيضاً: (من قال (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه دخل الجنة) ، فقالوا: هذه مطلقة بدون عمل.
قالوا: لا.
تلك الأحاديث العامة المطلقة تقيد بالأحاديث الأخرى، فقد جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم امتنع بعض العرب عن أداء الزكاة، وارتد البعض منهم، فقام الصديق في جمع الزكاة ومقاتلة مانعيها، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: (أتقاتل قوماً شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟! فيقول الصديق: والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
قال عمر: أتقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟! فقال له الصديق: ألم يقل رسول الله: (إلا بحقها) ؟ والزكاة والصلاة من حق (لا إله إلا الله) .
وقدمنا مراراً أن لوازم (لا إله إلا الله) : ألَّا يعبد غير الله، ولا يصرف شيء من العبادة لغير الله؛ لأنه اعترف بأنه لا مألوه بحق ولا يستحق الألوهية والعبادة إلا الله.
ومقتضى (محمد رسول الله) : أن يطيع الله بما أرسل به رسوله.
إذاً: كل ما أمر الله به وكل ما نهى الله عنه داخل ضمن (لا إله إلا الله) .
ثم قالوا: لم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل اجتناب المحرمات، وقلتم: إن فعل الطاعات وأداء المفروضات يدخل الجنة، فأين ترك المحرمات؟ قالوا: إن من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لما رأى هذا الرجل ووجد إقباله على الله وإخلاصه فيما سأل، عرف من حاله أنه ليس من أهل المعاصي، كما جاء في قصة الطفيل أنه لما ذكر: (.
وتترك المحرمات، قال: أما هذه فلا شأن لي فيها) أي: لست من أهلها.
فقالوا: إنه إن حافظ على الصلوات المكتوبة، وحافظ على صوم رمضان، فإن صلاته ستنهاه عن تلك المحرمات، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] .
وهكذا -أيها الإخوة- في هذا الحديث المبارك بيان لأقل ما يقتصر عليه العبد؛ ولكن لا ينبغي أن يفوت على نفسه الفضائل المتحصلة من تلك النوافل مخافة أن يقع في تقصير، أو يقع منه الخطأ، فيكون لديه الأمان والضمان.(48/11)
تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله في الحكم سواء
أما قوله رضي الله تعالى عنه: (وأحللت الحلال وحرمت الحرام) هذه المسألة تحتاج إلى وقفة طويلة! فإحلال الحلال وتحريم الحرام ينبغي أن يُعلم أنه ليس للعبد وليس للسائل، إنما هو لله، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] ، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحله الحلال وهو الذي يحرم الحرام، ومن نصب نفسه محللاً أو محرِّماً فقد نصب نفسه نداً لله، ومن أطاع مخلوقاً في تحريم ما لم يحرمه الله، وفي تحليل ما لم يحلله الله، فقد اتخذ شريكاً مع الله، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] .
فقال عدي بن حاتم: (يا رسول الله! ما اتخذناهم أرباباً من دون الله.
قال: ألم يكونوا يحرمون عليكم الحلال فتحرمونه، ويحلون لكم الحرام فتحلونه؟! قال: بلى.
قال: فتلك عبادتكم إياهم) .
لما جاء الشيطان إلى أهل مكة وقال: (سلوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة -بعدما حرم الله الميتة- قال: سلوه: الشاة تصبح ميتة مَن الذي أماتها؟ من الذي ذبحها -أو كما قيل- فإن قال لكم: الله، فقولوا له: ما ذبحتموه أنتم بأيديكم يكون حلالاً، وما ذبحه الله بشمروخ من ذهب يكون حراماً؟ فجاءوا وسألوا رسول الله، فأنزل الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] ) .
أي: شرك طاعة.
وهكذا يضع لنا هذا السائل الكريم تلك القاعدة: (أحللت الحلال) ولا ينبغي لمسلم أن يأتي بما أحله الله، فيقول: هذا حرام، فيقول: أحرمه على نفسي.
(لقد جاء ثلاثة نفر إلى بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن أعماله في بيته، فأخبرتهم أم المؤمنين عائشة عن قيامه ونومه، وعن صيامه وفطره، وعن إتيانه زوجاته، فكأنهم تقالوا هذا العمل، فتناجوا من وراء الحجاب وهي تسمع، فقال أحدهم: أما أنا -والله- أقوم الليل ولا أنام -حرم النوم على نفسه-، وقال الثاني: لأصومن الدهر ولا أفطر -حرم الفطر على نفسه-، وقال الثالث: لأعتزلن النساء ولا آتي النساء أبداً -حرم النساء على نفسه- فلما ذهبوا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أم المؤمنين بما سمعت، فبادر صلى الله عليه وسلم إلى المنبر وخطب وقال: ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا، أما أنا فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
ولهذا فإن أكبر خطأٍ على المسلم أن يأتي إلى شيء أحله الله فيحرمه، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] إذا كنت تزهد فيه فاتركه، وإذا كنت تعافه فاتركه، أما أن تجعله حراماً، أو تحرمه على نفسك فلن تملك تحريم الحلال.
ولعل قائلاً يقول: إن من تجرأ فحرم الحلال يكون كمن تجرأ فأحل الحرام؛ لأن كلاً منهما تعدٍّ على حكم الله، وكل منهما نصب نفسه مشرعاً من دون الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا فإن (إحلال الحلال) أي: فعله معتقداً حله، و (تحريم الحرام) أي: تركه معتقداً حرمته.
لأن الشخص إذا ترك الحرام وهو لا يعلم أنه حرام وتركه عفواً وتركه قلةً وعجزاً أله أجر في هذا الترك؟ لا.
أما إذا عرف أنه حرام ومنع نفسه منه وجاهد نفسه في ذلك، فإنه لا يقدر قدره إلا الله.
وفي قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار فسقطت عليهم صخرة وسدت عليهم باب الغار، وتوسلوا بصالح أعمالهم، وتوسل أحدهم ببر الأبوين، وتوسل الآخر بحفظ حق الأجير، ويتوسل الثالث بالعفة عن الحرام، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الثالث أنه قال: (إنه كانت لي ابنة عم، وكنت أحبها أشد ما يحب الرجال النساء، وراودتها فامتنعت، فأخذتها السنون والجدب وجاءت تطلب مالاً، فراودتها -فرضخت تحت الحاجة- فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة، غطت وجهها حياءً، وقالت: يا هذا! اتقِ الله! ولا تفضنَّ الخاتم إلا بحقه.
فقمت عنها وتركت لها المال، اللهم! إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانجابت الصخرة، وخرجوا يمشون في الخلاء) .
هذا ترك شيئاً حراماً يعلم أنه حرام وتركه لوجه الله.
وهكذا فإن من اقتصر على المكتوبات، وأحل الحلال أي: اعتقد حله، وحرم الحرام أي: اعتقد حرْمَتَه وتجَنَّبَه فإن هذا أقل درجات الاستقامة.
وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وأسأل الله لي ولكم أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجعلنا وإياكم على الهداية والاستقامة حتى نلقاه وهو راضٍ عنا.
رحم الله والدينا ومشايخنا والمسلمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(48/12)
الأسئلة(48/13)
حكم الامتناع عن لبس ثياب الإحرام أو لبس ثياب معها خوف البرد
السؤال
بعض المحرمين لحج أو عمرة يخاف البرد إن لبس الإحرام، فهل يجوز له ألا يلبس ثوب الإحرام أو يلبس معه ثياباً أخرى؟
الجواب
الذي يريد الإحرام ويخشى البرد نقول: هذا جبان، والمسلم يجب أن يكون شجاعاً، كلمة: (أخاف البرد) نقول لصاحبها: اترك الخوف وتعلم الشجاعة، لستَ ذاهباً إلى الميدان أمام القنابل والصواريخ، وإن كنت مريضاً فكلمة (أخشى) اتركها عنك، إلا إذا قال لك طبيب عالم بحالتك: إن تجردت مرضت، ويكون هذا عن علم، أما مجرد تخوّف فنقول لك: لا.
الذي يخاف من عفريت فإنه يظهر له، وأنت حين تخاف من مرض فسيأتيك ولو لم تكن مريضاً؛ لكن اترك عنك الخوف وتجرد وأنت في ضيافة الله.
فإذا أخبرك طبيب أو مع التجربة السابقة في حياتك تعلم أنك إن تجردت مرضت فخذ من اللباس بقدر حاجتك، وتجرد من الباقي وعليك الفدية لِمَا لبست.
والله أعلم.(48/14)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1](49/1)
شرح حديث: (الطهور شطر الإيمان)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول الإمام النووي رحمه الله: [عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأان أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) رواه مسلم] .
هذا الحديث اشتمل على عدة معانٍ، وعلى عديد من الجوانب، وأكثر العلماء رحمهم الله من ذكره في عدة مواضع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (الطُهور) هو بضم الطاء، ويقال بفتح الطاء (الطَهور) ، ومثلها: الوُضوء والوَضوء، والسُحور والسَحور، قالوا: كلها بالضم تكون بمعنى: المصدر، وبالفتح بمعنى: الفعل، فالطُهور هو التطهر، والطَهور هو الماء الذي يتطهر به الإنسان، وكذلك السُحور والسَحور.(49/2)
معنى الطهور
الشطر هو النصف، والطهور يراد به هنا معنياه: أ- التطهر عن كل ما لا يليق: فقالوا: الطهور المبالغة في التطهير، أي: الطهارة من الحدث والخبث.
والطهور في اللغة: هو التنزه عن كل قبيح.
قال تعالى: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] ، وقال: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرب النجاسة ولا يخالطها، لكن هذا كناية عن التطهر عن كل ما لا يليق بمقامه صلى الله عليه وسلم، وما يورده العلماء في المعنى العام للطهور يشمل كل ما ينبغي أن يتجنبه الإنسان، ولذا قالوا: إن المراد بالحديث هنا: المعنى اللغوي العام وليس المعنى الشرعي الخاص؛ لأن المعنى اللغوي العام، هو: التنزه عن كل ما لا يليق بالمسلم أن يتلبس به، أما الطهارة الشرعية فهي إما وضوء، وإما غُسل: غسل النجاسة، وغُسل الجنابة، فغسل النجاسة لا يمكن أن يكون شطر الإيمان.
ولكنه بالمعنى الأعم: طاعة الله، واجتناب نواهيه، وبهذا يتأتى أن الطهور فعلاً شطر الإيمان.
وقالوا: الإيمان: أقوال، وأفعال، واعتقاد.
اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالجوارح.
ونطق اللسان وعمل الجوارح ينقسم إلى قسمين: الأول: امتثال أوامر: من ذكر، وصلاة، وصيام.
والثاني: اجتناب نواهٍ: اجتناب الكذب، والغيبة، والسرقة، والزنا، وكل ما فيه معصية لله.
قالوا: فالطهور الذي هو بمعنى التنزه وترك ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى هو نصف الإيمان؛ لأن الإيمان أوامر يجب أن يفعلها الإنسان، ونواهٍ يجب أن يتقيها ويتركها، فالطهور: ترك المعاصي، وترك ما لا يليق، والتنزه عن معصية الله.
ومن هنا قال: (إن الطهور شطر الإيمان) .
ب) - تطهير الأعضاء ورفع الحدث: والبعض يقول: المراد بالطهور هنا: تطهير الأعضاء، ورفع الحدث؛ لأن الطهارة شرط في صحة الصلاة، والصلاة عماد الدين، فلا تصح الصلاة إلا بطهارة، وجاء في الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) ، والصلاة تسمى إيمان كما قال الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ، قالوا: بإجماع المفسرين أنها صلاتكم، أي: لأنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس، ومات أشخاص في تلك الفترة، ثم تحولوا بالصلاة إلى الكعبة، فتساءل الناس وقالوا: ما بال الذين لم يصلوا إلى الكعبة وماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟! فجاء قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، فقالوا: الإيمان من أسماء الصلاة.(49/3)
المعنى الأعم لقوله: (الطهور شطر الإيمان)
قيل: الطهور شطر الإيمان بمعنى: (الصلاة) ، وهذا المعنى الأخص، وإذا نظرنا إلى المعنى الأعم، وإلى ترتيب ما جاء في الحديث، حيث ذكر الصلاة والصدقة، والصوم داخل في الصبر، فذكر أركان الإسلام الثلاثة، وبقي من الأركان الحج والشهادة، والحج داخل في أعمال البدن وأعمال المال، وبقي الركن الأول وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي تحصل به طهارة القلب من دنس الشرك.
فإذا أخذنا قوله: (الطهور شطر الإيمان) ، وقلنا: إن الطهور في الإسلام بحسبه، فطهارة الثوب من الخبث، وطهارة البدن من الحدث، وطهارة القلب من أمراضه كالحقد، والحسد؛ لأن الإيمان لا يقارن الحسد ولا الحقد، فهذا صواب.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج رجل معلق نعليه، فسلم ومضى، فلما كان من الغد جلسنا في ذلك المجلس، وقال صلى الله عليه وسلم: يخرج عليكم رجل من أهل الجنة، فخرج ذاك الرجل الذي خرج بالأمس، قال: فتبعته حتى عرفت بيته، فلما جاء المساء، جئته وطرقت عليه الباب، وقلت: إن بيني وبين أبي ما يكون بين الولد ووالده -وما كان بينه وبين والده شيء- وأردت أن أكون ضيفك الليلة، فقال: مرحباً، قال: فتعشى بعد أن صلى العشاء، ثم نام، وقبل أن يؤذن للصبح قام وتوضأ وذهب إلى المسجد وصلى الصبح، ولم أر شيئاً جديداً، فقلت: لعله ترك عبادته من أجلي، أو أنه متعب من عمله، فذهبت في الصباح ورجعت إليه في الليل لأنظر ماذا سيكون منه، فلم أجد شيئاً جديداً، ثم الليلة الثالثة -أي: مدة الضيافة-، فقلت: يا عبد الله! أخبرني عما تعمل سراً فيما بينك وبين الله، قال: ليس لي عمل إلا ما رأيت، أصلي العشاء وأنام، وأقوم الفجر، وأذهب إلى عملي، وأرجع إلى فراشي! قال: أليس هناك شيء آخر؟ قال: لا، أبداً، فمضى ثم دعاه فقال: ما سبب سؤالك؟ فأخبره، فقال: إن يكن شيء فإننا نبيت وليس في قلوبنا حقدٌ لأحد) ، ولذا يقول الصديق رضي الله تعالى عنه: (ما سبق السابقون بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بما وقر في القلب) ، أي: من طهارة القلب، وتعظيم حرمات الله، ومخافة الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الطهور هنا المراد به: طهارة القلب من كل أدرانه، كما في قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:103] تطهرهم من أي شيء؟ هل تطهرهم من نجاسة أو خبث؟ لا، بل تطهر تلك النفوس، قال تعالى: {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] أي: في أنفسهم وأموالهم، فالزكاة بمعنى: النماء والزيادة، يقول العلماء: (الزكاة تطهر وتزكي) ، فالغني والفقير يستفيد من الزكاة، فالغني يطهر قلبه من درن الشح، والفقير تزكو نفسه من الحقد والحسد.
وإذا سلم الغني من الشح، وسلم الفقير من الحقد، أصبح الجميع إخواناً، ومن هنا يمكن أن يقال: إن الحديث عني أول ما عني بالقلب؛ لأن القلب إذا طهر نبع وفاض بكل خير، ولذا أعقب طهارة القلب بذكر اللسان، والذكر لا يأتي بمجرد نطق اللسان بل لابد أن يكون نابعاً من قلب طاهر، وكأن الحديث يقول: أولاً طهر قلبك، ثم بعد ذلك اذكر ربك، فيكون الذكر نابعاً من قلب طاهر مع الله، ومثال ذلك في المحسوس: المزارع إذا أراد أن يزرع أرضه، وجاء ببذور جيدة غالية، فقبل أن يضع البذور في الأرض ينقي التربة، فإن كانت سبخة حذاها، وإن كان فيها نجل نقاها، إن كانت فيها حجارة أبعدها، حتى تصبح التربة طيبة منبتة نقية، فحينئذٍ يطمئن إلى الزرع، فإذا زرع فيها كان النبات حسناً، أما أن تكون أرض سبخة، أو أرض ملغمة، أو أرض اختلطت حجارتها بترابها، فكيف تنبت هذه؟! ومن هنا أيها الإخوة! جاءت لا إله إلا الله، بمعنى أنها تنفي كل مألوف، وبعد أن يزيل الاعتقاد من كل مألوف، وينبذ كل المعبودات، يتجه إلى إله واحد، دون مزاحمة.
وإذا جئنا إلى الاجتماعيات والمشاركة في الفكر: إذا كنت تريد أن تضع فكرة نقية في قلب إنسان، فقبل أن تضع الفكرة، وقبل أن تدعوه إلى الفكرة يجب أن تزيل العوائق، فإذا كان إنسان يعتقد اعتقاداً خاطئاً، وتريد أن تلقنه القعيدة السليمة، فقبل أن تلقنه العقيدة السليمة يجب أن تبين له بطلان ما في ذهنه، لماذا؟ لأنك إذا جئت بالصالح مع الطالح أفسد الطالح الصالح.
مثلاً: إذا كان عندك عسل مصفى، وعندك إناء فيه زيت أو شيء آخر، فلا تدخل العسل على الزيت أو على شيء قذر، ويجب أن تنقي الإناء وتنظفه أولاً، ثم تصب العسل فيه، وكما يقولون: الغزو الفكري، يكون بمجيء فكرة تزاحم فكرة، ودعوة تزاحم دعوة، وحينما تختلط اللغات بعضها ببعض، تجد فيها احتكاكاً، وتجد كلاً من اللغتين تأخذ من الأخرى، ويحصل حينئذٍ اللحن، ومن هنا ندرك أهمية وصية النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) ، وقال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ، لماذا؟ كان اليهود موجودين، والمشركون موجودين، فإذا استمر دين بجانب الدين الإسلامي، فلا بد أن يحصل احتكاك، ولا بد أن تأخذ كل طائفة من الأخرى؛ ولهذا يجب ألا يكون في جزيرة العرب دينان؛ وجزيرة العرب قاعدة الإسلام، ومنطلق الإسلام، فيجب ألا يشارك الإسلام فيها دين آخر؛ لأنه إن وجد فيها دين آخر فسيحصل امتزاج واحتكاك، أولئك يأخذون من هؤلاء، وتزحف العادات السيئة إلى صميم وقلب الأمة الإسلامية.
إذاً: (الطهور شطر الإيمان) أولاً وقبل كل شيء: طهارة القلب من كل ما يدنس المعتقد الإسلامي، سواء كان فيما يتعلق بالعقيدة في ذات الله سبحانه، في وحدانيته، في أسمائه وصفاته وأفعاله، في ربوبيته لكل العالمين، في ألوهيته وإفراده بالعبادة، فإذا طهر القلب، وصار نقياً مع الله، أصبح هذا القلب خصباً نقياً، صالحاً لأن تضع فيه كل خير، فينطق بحمد الله وتسبيحه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله) .(49/4)
معنى قوله: (الحمد لله تملأ الميزان)
إذا طهر القلب، يأتي دور اللسان: (الحمد لله تملأ الميزان) ، ويقولون: إن الحمد والثناء والشكر كلها مدح لمن تتجه إليه، ولكنهم يفرقون بينها، فيقولون: الحمد ثناء على المحمود سواءً كان بالإفضال أو بالتفضل، أي: سواءً كان فاضلاً في ذاته، أو متفضلاً بنعمه على غيره، وحقيقة الحمد هو الثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولا يوجد هذا إلا لله سبحانه، ولذا قالوا: (ال) في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] للاستغراق، تستغرق جميع المحامد وتضيفها إلى الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأ الميزان) أتى بعدها بسبحان الله، وإذا نظرنا إلى اللفظين: الحمد لله، وسبحان الله، فهما قسيمان، (فالحمد لله) تثبت للمولى سبحانه جميع صفات الجلال والكمال، وهذا غاية التوحيد، والقسم الثاني (سبحان الله) تنزيه لله عن جميع النقائض، فحينما تأتي إلى اللغة تجد هذه المادة (سبحان) على وزن (فعلان) فالألف والنون زائدتان، وأصل المادة (سبح) ، كما في قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ} [الحديد:1] ، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} [الجمعة:1] فالسبحان بمعنى الغفران، وأصل (سبح) من السباحة في الماء، وجميع مفردات اللغة العربية يسبق وضعها للماديات، ثم تنتقل إلى المعنويات، فالسباحة في الماء حركة، والغرض منها والمقصود بها النجاة من الغرق، فأنت إذا نزلت في الماء ولم تسبح غرقت وهلكت، فكذلك الذي يقول: (سبحان الله) يعني: أنزه الله سبحانه، وأبعده عن كل ما لا يليق بجلاله، وأبعد نفسي عن موارد الهلاك، فالعبد حينما يسبح الله ينجو؛ لأنه نزه ربه عما لا يليق بجلاله وإلا لهلك، فإذا جمع العبد بين (الحمد لله) -وهو إثبات صفات الكمال لله- وبين (سبحان الله) -وهو نفي كل النقائص عن الله- يكون قد استكمل جوانب التوحيد، وهو إثبات بلا تكييف، وتنزيه بلا تعطيل، وبهذا يجتمع التوحيد في هاتين الكلمتين، ومن هنا جاء في الحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) بدأ هذا الحديث بطهارة القلب، ثم جاء بذكر اللسان بأجمع الكلمات، وكما قالوا: إن الله اصطفى من الكلام أربع: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ، وفي الحديث: (لا حول ولا قوة إلا بالله من كنز تحت العرش) .
وقوله: (الحمد لله تملأ الميزان) ما هو الميزان؟ الميزان عند أهل السنة جميعاً: ميزان بكفتين، ينصبه الله للعباد يوم القيامة: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] ، والمعتزلة يقولون: ليس هناك ميزان، وإنما هناك عدالة في الفصل بين الخلائق يوم القيامة، وأهل السنة والجماعة يثبتون الميزان لوزن أعمال العباد، وجاءت السنة تبين أن هذا الميزان لو وضعت السموات السبع والأرضون السبع في كفة لوسعتهم تلك الكفة، وذلك في حديث البطاقة: (يؤتى بالعبد وله سجلات مد البصر، ويظن أنه هالك، فيقال له: لك عندنا حسنة، فتخرج بطاقة فيها: (لا إله إلا الله) ، فيقول: وماذا تفعل لا إله إلا الله بهذه الموازين؟ فيؤتى بلا إله إلا الله في بطاقة فتوضع في الكفة الأخرى، فترجح بكل تلك السجلات) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن السموات السبع، والأراضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، لمالت بهن لا إله إلا الله) .
وقوله: (سبحان الله، والحمد الله تملأان، أو تملأ، أو يملأان) ، جاء بهذه الروايات الثلاث، (تملأ) بالإفراد أو (يملأان) بالتثنية.
قالوا: على التثنية الحمد والتسبيح، وعلى الإفراد الجملة بكاملها كأنها جملة واحدة، والكلمتان معاً كالجملة الواحدة.(49/5)
عظم ثواب الحمد لله وسبحان الله
أيهما أعظم ثواباً: قولك: الحمد لله أو الحمد لله وسبحان الله؟ بعضهم يقول: سبحان الله، والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، والجمهور يقولون: إذا كانت كفة الميزان تسع السموات والأرض، فأيهما أكبر جرماً وأوسع وأكثر؟ لا شك أن كفة الميزان أو الميزان أوسع؛ لأنه يسع السموات السبع والأراضين.
إذاً: الحمد لله ثوابها أعظم، وقالوا: إن الحمد هو نصف توحيد حق الله، والتسبيح هو النصف الثاني، فثواب الحمد وإثبات الكمال والجلال لله لا أحد يقدر قدر هذا الثواب؛ لأنه متعلق بحق الله، وبحق مدحه سبحانه، فثوابه لا يسعه ولا يقدر قدره إلا الله، قالوا: الحمد لله تملأ الميزان، ثم تأتي (سبحان الله) مع (الحمد لله) فتملأ ما بين السماء والأرض، مع بقاء الميزان مملوءاً بثواب الحمد لله.
انظروا أي عظمة هذه؟! لأنها تتعلق بذات الله، تحمد المولى، وتنزه المولى، والباقي كلها فروع.(49/6)
معنى قوله: (الصلاة نور)
بعد نطق اللسان، الذي جاء عقب تطهير القلب، تأتي أعمال الجوارح، (والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) قال: (الصلاة نور) بينما يأتي قوله: (والصبر ضياء) ، ويتفق علماء اللغة أن الضياء أقوى وأشد من مجرد النور، لكنهم يقولون: النور إضاءة بلا حرارة، والضياء نور مع شدة حرارة، (والصدقة برهان) ، قالوا: البرهان هو الشعاع الذي يكون أمام ضوء الشمس.
إذاً: هذه الثلاثة الألفاظ (نور- ضياء- برهان) ترتبط بخط الإضاءة، إلا أن النور فيه ضياء مع هدوء، وليس فيه حرارة، والبرهان قريب من أشعة الشمس، والضياء نور مع شدة حرارة.
وما فائدة هذا التقسيم؟ قالوا: إن دين الإسلام نور وهداية، والقرآن الكريم وصف بأنه نور، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:52] ، وقال تعالى: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1] ، وأما الضياء فمعه الشدة؛ ولهذا غاير في وصف الصلاة بأنها نور، والصبر بأنه ضياء، وقالوا: النور يصدق على مطلق الإضاءة، والضياء لا يكون إلا للشيء الشديد القوي كما قال سبحانه: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس:5] فوصف القمر بأنه نور، والشمس بأنها ضياء؛ لأن نور الشمس أشد من نور القمر، ولكن قد يستطيع الإنسان مواصلة السير في نور القمر ما لا يستطيعه في ضوء الشمس، وأيضاً الصبر أعم من كل التكاليف، فبالصبر تصلي، وبالصبر تصوم، وبالصبر تزكي، وبالصبر تجاهد في سبيل الله، إلى غير ذلك.
ووصف الصلاة بأنها (نور) ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه وصف الصلاة بقوله: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كانت له نوراً يوم القيامة، لم يحافظ عليها لم يكن له نور يوم القيامة) ، وجاء فيما يتعلق بالوضوء: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) ، وجاء في حق الصلاة أنها نور على الصراط، وجاء في القرآن الكريم: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] ، والآية الأخرى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] ، وسمعنا الشيخ الأمين رحمة الله عليه في هذا المقام يقول: هذه قضية خطيرة جداً بين المنافقين وبين المؤمنين، وفي ذلك اليوم يكشف الله حقيقة خداع المنافقين: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] ، ويقول: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ، وكيف يخادعون المؤمنين؟ قال الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14-15] .
فهم خدعوا المؤمنين بقولهم: نحن معكم، ويحضرون معهم الجماعات، وإذا توفى أحدهم توارثوا معه، ويتزاوجون من المسلمين، ويتوارثون معهم، ويجاهدون معهم، ويأخذون من الغنائم معهم، وحقنت دماؤهم وأموالهم، هذا ظاهر الأمر، ولكنهم يخفون الكفر، فالله سبحانه تركهم على ما هم عليه، وظنوا أنهم بذلك خدعوا الله وخدعوا المؤمنين.
وفي يوم القيامة -نسأل الله السلامة والعافية- يتولى الله أمر الجميع، ويقوم الناس من قبورهم لأول وهلة غراً محجلين من أثر الوضوء، المؤمن والمنافق سواء، ثم يطرد المنافقون من الحوض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا فرطكم على الحوض، ثم إن الملائكة تذوذ أقواماً عن الحوض فأقول: أمتي أمتي! فيقولون: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي) .
وفي ذلك اليوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، ويبعث المنافقون بآثار نور الوضوء مع عامة المؤمنين، ويفرحون بذلك، لأنهم تساووا مع المؤمنين، حتى إذا جاءوا ليردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم طردوا!! والنبي عليه الصلاة والسلام فرط الأمة على الحوض كما قال صلى الله عليه وسلم: (وأنا فرطكم على الحوض، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي بعدك ولم تره؟ قال: أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً غراً محجلة، أكان يعرفها؟ قالوا: نعم) والدهم التي لونها واحد، البهم السوداء التي ليس فيها لون آخر، وغراً أي: جبينها مضيء، والحجل موضع القيد، والفرس إذا كانت دهماء بلون واحد، وجبينها أبيض، وأقدامها بيضاء، لا تخفى على صاحبها أبداً: (أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً بهماً دهماً، أكان يعرفها؟ قالوا: نعم، قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) فبين صلى الله عليه وسلم أنه ينتظرهم عند الحوض، فإذا جاءوا فرزت الملائكة النفاق عن الإيمان، وعزلت المنافقين عن المؤمنين، ومضى المؤمنون إلى الحوض ليشربوا منه، وحين يرد المنافقون يقولون كما قال الله: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الحديد:13] ، انظرونا: بمعنى انتظرونا، أي: حتى نمشي في أنواركم أو انظرونا: التفتوا إلينا، وانظروا إلينا ليجيء إلينا أنوار وجوهكم، انظرونا، أو انتظرونا: {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] .
قال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] تبقى على بياضها، {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] أي: يطفأ نورها، وهؤلاء هم المنافقون، وحين ينادون المؤمنين يجيبهم المؤمنون: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:13-14] ، فيبقى النور مع المؤمنين، ولكن المؤمنين حينما يرون هذا الموقف، يخافون من موقف آخر، ومن اختبار ثانٍ، فيقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8] أي: أبقِ لنا هذا النور، وأتمه لنا حتى ندخل الجنة.
نسأل الله سبحانه أن يرزقنا وإياكم النور الكامل، وأن يحفظنا وإياكم من الفتن، وأن يبلغنا وإياكم رضاه والجنة.
قوله: (والصلاة نور) قالوا: هي نور في الدنيا؛ لأن المؤمن إذا طهر قلبه؛ وأدى الصلاة، كانت الصلاة له شحنة نور في قلبه، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله) من أين يأتيه النور؟ من عبادته، ومن صلاته: (ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به) ، فينير الله له بصيرته.
ولهذا يقول الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] إذا همه أمر فزع إلى الصلاة، فأنار الله قلبه وبصيرته، وشرح صدره، ويسر أمره.
والصلاة نور للمؤمن في الدنيا، بتوجهه إلى الخير، واطمئنان النفس والقلب، وبحفظه عن المعاصي كما قال الله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] إذاً: الصلاة نور في الدنيا، وكما قال بعض السلف: (من صلى بالليل، حسن وجهه بالنهار) أي: يضيء وجهه، قال الله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] ، وهكذا في عرصات القيامة، فالصلاة نور للعبد يوم القيامة.
إذاً: (والصلاة نور) حقيقة يوم القيامة، ودلالة وهداية في الدنيا، ويدرك ذلك من ذاق طعم الصلاة، حينما يؤديها بخشوعها ويتمها بركوعها وسجودها، ويوفيها حقها من في الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة، واستحضار القلب، وبذلك يشعر بحقيقة نور الصلاة وحلاوتها.(49/7)
من أحوال السلف في الصلاة
كان بعض السلف إذا قام في الصلاة لا يدري بمن حوله، وإذا قرأ الآية ربما رددها الليل كله، كما جاء عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قام ليلة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وابن عباس قام ليلة بقوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ، وعن عكرمة أنه قام بهذه الآية في سفر يرددها ويبكي حتى طلع الفجر، فهؤلاء ذاقوا حلاوة المناجاة مع الله.
وهاهو علي بن الحسين كان يصلي وانصدع ركن المسجد، ولم يشعر بشيء، ومضى في صلاته حتى سلم منها، فقال: ما هذه الغبرة؟! قالوا: أما سمعت المسجد قد سقط؟! قال: لم أشعر بذلك! كنت في شغل عنها، وكان إذا أراد أن يتوضأ اصفر وجهه، وتغير لونه، فقيل له في ذلك، فقال: ألا تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟! وعروة بن الزبير أصيب في ساقه، وقرر الأطباء قطعها، فقطعوها وهو في الصلاة! وذكر البخاري رحمه الله تعليقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة، فأصاب في النهار حياً من أحياء العرب، فجاء رجل منهم كان غائباً فعلم أن زوجته مع المسلمين، فتبعهم بالليل، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم شعباً، فقال: (من يكلؤنا الليلة؟ فقام رجلان: رجل من ثقيف، والآخر من الأنصار، فأمرهما أن يحرسا المسلمين) ، فذهبا إلى فم الشعب، فقال أحدهما للآخر: اكفني نصف الليل الأول وأكفيك نصفه الثاني، فقام صاحب النوبة، يحرس فم الوادي، ورفيقه نائم ينتظر نوبته، فجاء الرجل الذي يطلب ثأر زوجه، فسمع القارئ يقرأ، ولم يره لظلام الليل، وكان رامياً، فأخرج سهمه، ووضعه في قوسه، ورماه صوب الصوت فأصابه، ولكن القارئ نزع السهم وألقاه، واستمر في قراءته، فظن المشرك أن سهمه أخطأ، فأخذ السهم الثاني وصوبه وأصابه، ولكن القارئ نزع السهم ومضى في صلاته، فظن الرامي أنه أخطأ، فأخذ الثالث ورمى وأصابه، وإذا بالدم يقطر على وجه النائم، فاستيقظ وقد فرغ من صلاته، فقال: ما هذا؟ قال: رماني الرجل، فقال: هلا أيقظتني أول ما رمى، قال: كنت أقرأ سورة فكرهت أن أقطعها! عجب والله! السهم يقطع في لحمه، ويتقاطر دمه، وهو يكره أن يقطع قراءة السورة، بأي مقياس تقيسونه أنتم؟! لو لم يكن هذا الأثر في صحيح البخاري، لقلتم: سنده وسنده، رجاله ورجاله؛ لأنه فوق مستوى إدراكنا، فكيف يتحمل ثلاثة أسهم؟! بل هي أشد من ستة؛ لأن نزع السهم وله أسنان معاكسة أشد فتكاً من رميه ونفوذه، كما قال القائل: سيان إن هي أقبلت أو أدبرت نزع السهام ووقعهن أليم فهذا يرُمى بثلاثة أسهم، وتخترق جسمه، وينتزعها ويستمر في صلاته؛ لأنه كان يقرأ سورة ويكره أن يقطعها! أتظنون أن هذه السورة من قصار المفصل كالضحى، وألم نشرح، والتين، لا والله! قالوا: إنها سورة الكهف، فيستمر في قراءته وصلاته بالليل حتى يختم سورة الكهف! غذاؤهم الروحي هو سر قوتهم وليست القوة بالمطعومات والمشروبات.
ويقولون: من خصائص خالد بن الوليد: أنه ما انهزم في معركة أبداً، حتى وهو مشرك، وفي أحد كان مع المشركين، وكان هو سبب عملية التفاف المشركين من وراء الرماة.
قيل له في آخر حياته: يا خالد! لقد حزت المناصب، ونلت الانتصارات، فما هي أمنيتك في الحياة بعد ذلك كله؟ انظروا! حروب وانتصارات، غنائم ومناصب، ويسأل: ما تريد بعد ذلك؟ ماذا كان جوابه؟! أطلب الخلافة؟! لا والله، إنما تمنى أن يحرس المسلمين مصلياً، فـ خالد رضي الله عنه ما كان يعمل لمنصب، ولا لدنيا، وخير شاهد على ذلك: ما وقع في وقعة اليرموك، حينما كان رضي الله عنه قائداً للمعركة، وعاملاً لـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فتوفي أبو بكر وتولى عمر، وسمع عمر بانتصاراته، وسمع برعب الناس، فعزله أثناء المعركة، وجاء البريد بوفاة أبي بكر، وأمر عمر بعزل خالد وتولية أبي عبيدة، فماذا فعل خالد؟ حينما اجتمع القادة جميعاً قالوا: دعونا نتناوب القيادة؛ لأن عدد العدو أكثر من عدد المسلمين خمس مرات، فقالوا: نتناوب القيادة، واتركوا لـ خالد هذا اليوم، فأخذ ينظم الجيش، وأخذ يرسل بعض السرايا ليلاً لتأتي نهاراً توهم العدو بمجئ مدد، وفي أثناء المعركة بدت بشائر النصر، وجاء البريد، فأوقفه خالد ما عندك في هذا البريد؟ فأخبره، فقال: أعلم برسالتك أحد؟ قال: لا.
فحبسه عنده وأمسك خطاب عزله، واستمر في قيادة المعركة؛ حتى أتم الله النصر على يده، ثم ذهب إلى أبي عبيدة فقال: السلام عليك يا أميرنا! وعظم الله أجرك في أبي بكر، وليهنك خلافة عمر، قال: وأنت؟! قال: أنا جندي من جنودك، وقدم إليه خطاب التولية والعزل! فهل كان هذا البطل يسعى لمنصب؟! يأتيه العزل من القيادة وهو في أثناء المعركة، فلم يتخل ويقول: لست مسئولاً، ولا حاجة لي فيها، إنما كان يقاتل في سبيل الله، ولهذا كل مسلم يشارك في معركة، يحس بأنه مسئول عنها بكاملها.
وهذا الحباب بن المنذر لما كان في غزوة بدر، ونزل رسول الله في أول الأمر منزلاً، فقال: (يا رسول الله! أمنزل أنزلكه الله فلا قول لأحد أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: بل الحرب والمكيدة، قال: ليس هذا بمنزل، الرأي عندي أن نتقدم إلى آخر بئر جهة المشركين، ونبني لنا حوضاً ونمنع عنهم الماء، ونجلس على الماء ولا ماء للمشركين) ، وكان جبريل مع رسول الله وهو ينظم الجيش، فنزل ملك وقال: (يا محمد! الرأي ما قال الحباب، فالتفت الرسول إلى جبريل، وقال: أتعرف هذا يا جبريل؟! قال: لا؛ لأنه ما كل ملائكة السماء يعرفوهم جبريل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ، ولكنه قال: هو ملك وليس بشيطان) فـ الحباب وهو فرد من الجيش يشعر بأنه مسئول عن مهمة المعركة بأكملها.
وفي بعض الغزوات حاصر المسلمون مدينةً، واشتد أمر الحصار على المسلمين، واهتدى رجل في الليل إلى ثغرة في الحصن، فدخل حصن العدو، وفتح الأبواب، وكبر ودخل المسلمون وانتصروا، وهم لا يدرون من الذي فتح الأبواب؟ فقام الأمير يريد أن يعرف من هو، فقال: ليقوم صاحب الثغر فمكث ثلاث ليال ولم يأته أحد، ثم قال: عزمت عليك -يا صاحب الثغر- بحق السمع والطاعة إلا أتيتني، وفي منتصف الليل ذهب صاحب الثغر إلى خيمة الأمير، فوجد حارسه عند الباب وكان متلثماً، فقال للحارس: أخبر الأمير بأن طلبه على الباب، وقل له: إنه يجيبك بشرط: إن كنت تعرفه فلا تخبر به، وإن لم تكن تعرفه فلا تسأله عن اسمه، ولا تحاول أن تقدم له هدية ولا جزاء، فإن قبل دخلت عليه، وإلا انصرفت، فقال: أدخله، فدخل، فما كان منه إلا أن سلم وقال: أي هذا! ألا تتقي الله فينا، ما لك ولنا؟ ما الذي تريده مني؟ إن الذي أقاتل في سبيله يعرفني، ويعرف من أنا، وابن من، فهل جئنا من أجلك؟ عزمت عليك بالله ألا تطلبني بعد ذلك، وخرج من عنده حالاً! فـ خالد رضي الله عنه حينما سئل: لقد خضت المعارك وانتصرت، ونلت من الغنائم ما غنمت، ونصبت من المناصب ما نصبت، فما هي أمنيتك بعد ذلك؟ فيقول: ليلة مطيرة شديدة البرد، عاصفة الرياح، أقوم حارساً للجند تالياً لكتاب الله! إذا كان هؤلاء هم القادة فلماذا العجب من جندي ينزع السهام ويستمر في الصلاة؟! من الذي أعطاه هذه الطاقة؟! أهو البنج أم المنوم، أم المخدر؟! لا والله! إنه الإيمان فوق كل شيء، وهكذا إذا ذاق العبد حلاوة الصلاة، ومناجاة ربه، فأي نور بعد هذا؟! الصلاة نور في الدنيا، ونور في الآخرة، ويكفي أنها مما يعين العبد في دنياه، ويسعده في آخرته، لقد كان صلى الله عليه وسلم: (إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) .
وابن عباس كان يمشي في سفر، فجاءه نعي صديق عليه، فنزل وصلى ركعتين، فقيل له في ذلك، فقال: أستعين بهما على ما بلغني من الخبر.
وما من مسلم تنزل به نازلة، فيتوضأ ويستقبل القبلة، ويصلي ركعتين إلا شرح الله صدره، وفرج عنه ما به، ولذا جاء في الأثر: (من أراد أن يدخل على ربه بلا استئذان، ويخاطبه بلا ترجمان، فليسبغ وضوءه، وليستقبل القبلة، وليكبر في الصلاة) ، حينما ندخل المسجد، وحينما نقف للصلاة، لم نستأذن أحد، ويقف العباد جميعاً كل يدعو الله بلغته، والله لا يستأذنون أحداً، في موسم الحج يقف بجانبك إفريقي، وآسوي، وأوروبي، وأمريكي، ألسنة مختلفة، والكل في صف واحد، والكل يعبد رباً واحداً، بدون ترجمان، ويسأل كل إنسان مسألته بينه وبين الله، وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد.
فالصلاة صلة بين العبد وربه، يلجأ إليها العبد في النوازل والملمات، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ، وقد وصى صلى الله عليه وسلم بتربية النشء في البداية وقبل البلوغ عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) ، فيعود الصبي على الصلاة من السابعة إلى العاشرة ثلاث سنوات، بالترغيب وبالترهيب، وبإعطاء الحلوى والهدايا، وصحبته إلى المسجد، ثلاث سنوات، فإذا بلغ العاشرة، فإن كان خيّراً طيباً نقياً كان ذلك كافياً له في أن يرتاد المسجد وحده، وإلا ضرب ضرب تأديب لا ضرب تشفي، فإذا روّض من السابعة إلى العاشرة، ثم ألزم وضرب من العاشرة إلى الخامسة عشرة، فلا يجري القلم عليه إلا وقد أصبحت الصلاة جزءاً من دمه ولحمه، وما جنى إنسان على ولده أكثر من ترك تعليمه الصلاة، فعلى العبد أن يفعل ما في وسعه، والتوفيق والهداية من الله سبحانه وتعالى.
والصلاة عني بها صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كما جاء: (آخر ما تتركون من أمر دينكم الصلاة، وأول ما يسأل عنه العبد(49/8)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [2](50/1)
الصدقة برهان
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فنواصل شرح حديث أبي مالك الحارث بن عاصم الأشجعي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأان أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) وقد تحدثنا عن بعض ألفاظه وفقراته، ووصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (والصدقة برهان) ، ذكر الصدقة بعد الصلاة، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه: (الزكاة قرينة الصلاة، الصلاة حق البدن، والزكاة حق المال، والله! لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة) .
وجمهور العلماء على أن المراد بالصدقة فريضة الزكاة في المال، سواء في بهيمة الأنعام، أو في الحبوب والثمار، أو في النقدين أو غيرهما؛ لأن الله سماها صدقة في قوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، والذي يأخذه صلى الله عليه وسلم جبراً عليهم إنما هي الفريضة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت، ومن لم يؤدها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) .
يقوم بتحصيلها ولا يأخذ شيئاً منها، لماذا؟ لأمرين: الأمر الأول: أنها أوساخ الناس {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] .
الأمر الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي يجمعها ويقاتل عليها، ويعاقب من منعها بأن يأخذ نصف ماله عقوبة له، فلو أخذ منها درهماً واحداً، لوجد المنافقون مطعناً يطعنون به، وقالوا: قام في شأنها من أجل مصلحته، ولكن الله سبحانه وتعالى أغناه عنها، وطهره منها، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا آل محمد منها شيء.
والصدقة بعمومها -كما في هذا الحديث- تشمل الفريضة والنافلة، وكلمة صدقة وبرهان مرتبطان، والبرهان: هو الشعاع الذي يقابل ضوء الشمس، فهو مرتبط بالنور في الصلاة، ومرتبط بالضياء في الصبر، وسمي هذا الشعاع برهاناً، وكذلك الحجة القاطعة تسمى برهاناً؛ لأنها دليل يبين الحق ويثبته.
فما علاقة الصدقة بالبرهان؟ وما هو ارتباط الصدقة بإقامة الحجة؟ نرجع إلى الصدقة وإلى الصدق، الصدق ضد الكذب، والصدقة تتفق في المادة الأساسية مع الصدق، فأصل المادة: (صاد ودال وقاف) ، والتاء في الصدقة (للتأنيث) .
إذاً: الصدقة والصدق من مادة واحدة، والصدق ضد الكذب، والصدقة دليل على صدق من يقول: أنا مسلم، ودليل على إيمان المتصدق بالله وبوعد الله؛ لأن الله سبحانه قال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، وقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] .
فالمتصدق حقيقة يتعامل منه مع الله، ومن هنا تأتي آداب الصدقة، وآداب الزكاة، وكيف تكون الصدقة برهان صدق على إيمانه، وقد أشرنا فيما مضى أن قانون الحياة، وتعامل الإنسان مع الآخرين، مبناه على المعاوضة، أو كما يقال: المقايضة، وكان التعامل قبل النقد بالمقايضة، تدفع براً لإنسان وتأخذ منه تمراً، تستأجر أجيراً ليعمل وتعطيه خبزاً أو شعيراً، كان لا يوجد نقد، تعطي عشرين شاة وتأخذ ناقة، مقايضة السلعة بالسلعة؛ لأن قانون الحياة معاوضة في المعاملة، فالأجير يأخذ أجراً بقدر عمله وإنتاجه، والأجراء يتفاوتون، هناك عامل وفني، و.
إلخ.
وكذلك البيع والشراء، والأخذ والعطاء، والآن تدفع نقداً وتأخذ سلعة، فتدفع النقد وأنت ممنون، وتأخذ السلعة وأنت ربحان، وكذلك البائع المقابل يأخذ الثمن وهو فرحان، ويدفع السلعة إليك وهو ربحان، وكل يقايض الآخر ويتعاوض معه، وينتظم دولاب الحياة، بل إن قانون المقايضة والمعاوضة -كما يذكر علماء الاجتماع- سائر حتى مع الحيوان، فالحيوانات تتعامل أيضاً بالمقابلة، لو أن عندك شاة حلوباً، فإن أكثرت لها العلف زادت في الحليب، وإن أنقصت من العلف نقص الحليب، وكذا لو عندك راحلة تريد السفر عليها، فإن علفتها واصلت بك السير، وإن أجعتها انقطعت بك في الطريق، وهكذا.
وكما جاء في قصة بعير الرجل، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ندّ علي بعيري؟ أي: هاج البعير، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين، والحيوانات عوالم وليست بعالم واحد، وقد حث صلى الله عليه وسلم على الرفق بالهرة، وبالكلب، إلى آخره، وقال: (في كل كبد رطبة أجر) ، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا بنا إلى بعيره) ، وحينما وصلوا البستان، إذا بالبعير هائج في وسط البستان، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم الحائط، فقال الصديق رضي الله تعالى عنه، (يا رسول الله! على رسلك البعير هائج! قال: على رسلك أنت يا أبا بكر) ، وتقدم صلى الله عليه وسلم ودخل الحائط واستقبل البعير الهائج وحده، فلما رآه البعير أقبل إليه، وجاء ووضع رأسه على كتف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أذنه، وأخذ صلى الله عليه وسلم يصغي إليه، وبعد الحديث الذي لا ندري عنه شيئاً ترجمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي منك كثرة الكلف، وقلة العلف) فالكلف كثير، والعلف قليل، فهل من حقه أنه يتمرد على صاحبه أم لا؟ يجب أن تكون هناك مساواة ومعادلة، وقبل أن تأخذ لابد أن تعطي، فيجب على العبد أن يعطي بقدر ما يأخذ، وقانون الحياة في المعاوضة بقدر الخدمة، ويقول علماء الحيوان أيضاً: يوجد تعاون ومقايضة ومبادلة بين التمساح وبين بعض الطيور، التمساح من طبيعة خلقته يأكل اللحوم ويأكل النبات، فأسنانه لها شعاب، وليست ملساء كبقية الحيوانات، فإذا أكل اللحوم لا يستطيع أن ينظف أسنانه من بقايا لحم الفريسة التي يفترسها؛ لأن أسنانه لها شعب، فإذا افترس حيواناً برياً أو بحرياً فبعدما ينتهي من أكله يخرج إلى الشاطئ، ثم يفغر فاه الكبير، فيأتي ذاك الطائر الجائع فيأكل داخل فم التمساح آمناً مطمئناً؛ لأن التمساح له حاجة عنده، فيأخذ الطائر ينقر ما بين أسنان التمساح وينظفها تماماً، وفي الوقت نفسه يكون قد شبع، فالتمساح استفاد نظافة أسنانه، والطائر استفاد شبعه، ثم يذهب الطائر في حاله، ويرجع التمساح إلى البحر، وهذه معاوضة، وكان يقدر التمساح أن يطبق فمه عليه ويأكله، لكنه يفوت على نفسه المصلحة، وهي نظافة أسنانه.(50/2)
الحث على الصدقة
قانون الحياة على المعاوضة، وأنت لو رأيت إنساناً يخرج ريالاً واحداً ويمزقه، فماذا تقول عليه؟ سنقول: إنه مجنون، لكن لو رأيته يدفع مليون ريالاً لبيت يسكنه، فستقول: إنه رجل عاقل، ومدبر، ويعرف مصلحة نفسه، ويعرف أين يضع المال.
إذاً: تقديم ريال واحد بدون عوض جنون، وليهنأ المدخنون بهذا الجنون! فكل إنسان ينفق مالاً في غير ما عوض فهو من هذا الباب.
وإذا كان قانون الحياة المعاوضة، ولا تدفع درهماً إلا لمقابل، فإذا دفعت الصدقة لمسكين فأين المقابل؟ العوض عند الله، فالمتصدق يتعامل مع الله، ويقرض الله قرضاً حسناً: (إن أحدكم ليتصدق بالصدقة، فتقع أول ما تقع في كف الرحمان، فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه حتى تصير كجبل أحد) ، والفلو: ولد الفرس الصغير؛ وذكره لأن محبب حتى عند غير صاحبه، فكما يعتني صاحب الفلو بفلوه وينميه حتى يصير فرساً، كذلك المولى سبحانه ينمي الصدقة حتى تصير كجبل أحد، والمؤمن حقاً هو الذي يتصدق، بل إن من كمال الإيمان أن يخفي صدقته حتى على المتصدق عليه؛ لأنه ليس له غرض من المتصدق عليه، ولا ينتظر منه شيئاً، فلا يريد منه أن يرد عليه إحسانه؛ لأنه يتصدق ويعتقد أن المولى سبحانه هو الذي يتقبلها منه، إذاً: ليس له حاجة في العوض من الخلق، ومن هنا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظله إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) ، وأشرنا بأن الحديث ليس فيه قلب؛ لأن الذي يريد أن يخفي الصدقة حقاً يخرجها بشماله؛ لأن الناس ينظرون إلى يمنيه، لأنها أداة الحركة والأخذ والعطاء، والشمال ملغاة في هذا الباب، فبما أن الناس ينظرون إلى اليمين، ويتوقعون منها الحركة والعطاء، فهو يفرغها ويشغل الأخرى، إمعاناً في إخفاء الصدقة، لماذا؟ لأنه يؤمن بأنها عند الله.
إذاً: المتصدق أخرج شيئاً من ماله، والنفس شحيحة على المال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ، وفي الحديث: (لا يتصدق عبد بدرهم واحد حتى يفك لحى سبعين بعيراً) ، انظر التشبيه! كأن الدرهم يعض عليه سبعون بعيراً، ويفك لحاها واحداً بعد واحد، يعني: يجاهد نفسه، المرة تلو الأخرى، كلما هم أن يتصدق، النفس تقول: لا، أنت في حاجة، أولادك في حاجة، لا تدري ما المستقبل، وهكذا تأتيه عوامل ونوازع لترد الدرهم، وهو يريد أن يدفعه، عوامل وعقبات شديدة حتى يجتازها فيخرج الدرهم من يده، ومن هنا كانت قيمة الصدقة معنوية بحسب العامل النفسي لا بميزان الكثرة والقلة؛ لأن الكثرة والقلة عند الله سواء، خزائنه ملأى؛ ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (درهم سبق مائة ألف درهم) كيف هذا؟! عجيب والله! هل يعني ذلك: أن هذا الدرهم من الذهب، وتلك الدراهم من الخشب، لا، الدراهم واحدة، قالوا: (وكيف -يا رسول الله- واحد يسبق مائة ألف؟) لأن النوع يتساوى، رجل ورجل يتساوى، أفريقي، أمريكي، آسيوي، المهم أنه رجل جاء من آدم وحواء، فلا تفاوت في الواحد بالنوع، فالدرهم هو الدرهم، والرجل هو الرجل، لكن رجل عنده درهمان، ورجل عنده مال كثير، فتصدق صاحب الدرهمين بدرهم، وصاحب المال الكثير جاء إلى عرض ماله فأخذ قطعة منه مائة ألف وتصدق بها، فكم بقي لهذا الشخص صاحب المال الكثير؟ إذا كان أخذ من الطرف مائة ألف، فهذا يعني أنه: بقي في ماله ملايين، فالجزء الذي تصدق به لعله بالنسبة المئوية واحد من عشرة في المائة، أي: واحد من ألف، لكن إذا جئنا إلى صاحب الدرهمين، فالنسبة (50%) ، أي: نصف المال، والذي بقي لصاحب مائة الألف آلاف مؤلفة، ولكن صاحب الدرهمين لم يبق له إلا درهماً واحداً، فأيهما أشد إيماناً ويقيناً بالله؟ وأيهما تكون صدقته أعظم عند الله؟ صاحب الدرهم الواحد، ولهذا يقول العلماء في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] يعني: بعد السبعمائة، لمن كان ينفق ويتصدق مع الحاجة، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] ، ونجد بعض المفسرين يرجع الضمير في (حبه) إلى لله، ولكن جمهور المفسرين أنه راجع للطعام؛ لأن علاقة المتصدق بالله جاءت صريحة: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9] إذاً: (على حبه) يكون عائداً على الطعام، وإذا أرجعنا الضمير في على (حبه) إلى الله، فتبقى (نطعمكم لوجه الله) ليس لها محل.
إذاً: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] أي: على حب الطعام، وحاجتهم إليه، وهذا هو الوصف الذي سجله الله للأنصار والمهاجرين رضي الله تعالى عنهم، وتأملوا هذا التقسيم وهذا الوصف في ذاك المجتمع: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] ما خرجوا فراراً، ولا خرجوا من قلة، إنما خرجوا من ديارهم وأموالهم، كما قال الله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ، سماهم (الصادقون) ؛ لأنهم تركوا المال، والعيال، والديار، كما في قصة صهيب الرومي رضي الله عنه، ومعلوم أن صهيباً جاء من الروم إلى مكة ولا مال له، فصنع واتجر وأصبح ذا مال، فخرج مهاجراً، فأدركه أهل مكة، فقالوا: يا صهيب! جئتنا لا مال لك، وأصبحت ذا مال، أتريد أن تخرج بنفسك وبمالك عنا؟ لا يكون ذلك أبداً، قال: عجيب! همكم المال، يا معشر قريش! والله! إنكم تعلمون أني لأرمي ولا يخطئ لي سهم أبداً، وإن كنانتي ملأى، فهل إذا دللتكم على مالي ذهبتم وأخذتموه وتركتموني في حال سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: قد دفنته في المكان الفلاني، فاذهبوا فخذوه، قالوا: إنك عندنا لصادق، فلما وصل المدينة بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ربح البيع أبا يحيى!) لأنه اشترى نفسه من قريش بماله، وهاجر في سبيل الله، ما خرج عن فقر ولا عن حاجة، بل ترك المال، وفادى نفسه، وجاء مهاجراً.
وهؤلاء لأي شيء هاجروا؟ هاجروا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.
ما هو المقابل؟ قال الله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .(50/3)
أثر الصدقة في بناء المجتمع
إذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى هذا المجتمع: فريق يأتي وقد باع دنياه وأقبل على آخرته، وفريق يؤثر غيره على نفسه؛ فكيف يكون هذا المجتمع؟! لو وقفنا وقفة تأمل عند هذه العوامل النفسية، ورجعنا إلى الهجرة النبوية الكريمة، لوجدنا عجباً! فالمدينة موارد اقتصادها زراعة، وتجارة، وبعض الصناعات وأكثرها بيد اليهود، والزراعة موزعة بين اليهود وبين الأوس والخزرج -أي: أن عملية الإنتاج والنمو محدودة- ومع ذلك تستقبل آلاف المهاجرين إليها، كيف كان ذلك؟ بسعة صدر أهلها، وفي الوقت الحاضر أرسلوا أناساً من مخلفات الحرب، فردوهم إلى بلادهم، وتجد السفينة تطوف بالفتناميين على الموانئ فلا يقبلهم أحد، وبريطانيا تأبى أن تنزل إلا ألفي رجل فقط، لماذا؟ لأنها ستؤدي ضائقة اقتصادية.
لكن المدينة النبوية بحدودها الضيقة واقتصادياتها البسيطة تستقبل آلاف المهاجرين إليها، لا بوفرة اقتصاد، ولا بكثرة نماء، ولكن بسعة صدور أهلها: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] .
ولذا كان أول عمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة: المؤاخاة بين المسلمين المهاجرين أنفسهم، والمهاجرين والأنصار، وكان الأنصاري يشاطر أخاه ماله، حتى أن بعضهم يقول: عندي زوجتان، فانظر أيهما تطيب لكم لأنزل لك عنها، وتعتد وتتزوجها، فيقول له: بارك الله لك في مالك وفي زوجاتك! دلني على السوق.
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يؤاجر نفسه لامرأة في نضح الماء من البئر، وكل دلو بتمرة، نفوس عالية، والمال صنو النفس.
والمال والولد قرينان في الخير والشر، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15] سبحان الله العظيم! ويقول في باب العطاء: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] فالمال قسمة رزق، وليس بجدك وبكدك ولا منصبك، لا والله! ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائم وكذلك الولد، ليس بقوتك، ولا بإنجاب زوجتك، ولكن هبة من الله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49-50] ، من يدعي غير هذه المشيئة؟! فإذا كان الولد هبة من الله، والمال قسمة من الله، فالمال صنو النفس، والمال صنو الولد، فكونك تخرج من مالك شيئاً، فكأنك أخرجت جزءاً من ولدك، فمن الذين يعاوض على الصدقة؟! الله، إذاً: (الصدقة برهان) ، ومن أي شيء تكون الصدقة؟ المولى سبحانه يبين فيقول: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة:267] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) .
ولذا: تجد الكافر لا يتصدق، وقد تسمع بأنه تبرع لمستشفى أو لمدرسة، لكن لا يبغي بها وجه الله، إنما يريدها سياسة في الناس، وتقرباً إليهم، أما المنافق الذي يظهر الإسلام فإذا سئل الصدقة يتوارى، ويحتال، كما بين سبحانه فقال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] ، نفسك لا تطيب أن تأكله، فالمنافق يبحث عن الشيء الرديء، ويقدمه -فقط- ليستر عورة، ولكن المؤمن لا يفعل ذلك، فهو يتعامل مع المولى سبحانه.
ولو نظرنا الآن في نظام العالم المادي الذي يفرض الضرائب على الأفراد، وقارنا بينه وبين نظام الإسلام الذي يجعل الزكاة طهراً ونماءً، نجد في العالم صاحب المحل يتحايل مع مفتش الضرائب، فيجعل دفتراً للمفتش، ودفتراً للدكان حقيقة، وكل ذلك لكي لا يدفع للدولة شيئاً، فهو يراها خسارة، مع أن الدولة تنفقها في المصالح العامة: في الطرق والمستشفيات والجيش وغيرها، ولكنه لا يريد أن يدفع، أما الزكاة أو الصدقة فيخرجها دون أن يطلبها منه أحد، وهذا حال المؤمن، وهذا مثل يضربه لنا أعرابي في الصحراء، أتاه عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ الزكاة، فيعد أبله، فيقول: أخرج من إبلك بنت مخاض، وبنت المخاض من لها سنة ودخلت في الثانية، يعني: أمها ماخض في أختها، فيقول الرجل: بنت مخاض؟! وفي سبيل الله؟! كيف هذا؟ لا هي ضرع فيحلب، ولا ظهر فيركب، ولكن هذه ناقة كوماء فخذها في سبيل الله، فيقول العامل: ما بهذا أمرت، فنصاب الإبل خمس وفيها شاة، إلى عشرين وفيها أربع شياة، إلى خمس وعشرين وفيها بنت مخاض، ولا أستطيع أن أتعدى ذلك، فإن أخذت أكثر من ذلك ظلمتك، وتعديت حدودي، فالعامل يقول: لا أتعدى ما عندي، وصاحب المال يقول: لا أدفع بنت مخاض، ولكن أدفع ناقة كوماء! هل رأيتم خصومة مثل هذه؟ هذا شيء بعيد عن الحسبان.
فالعامل يقول لصاحب المال: لا تجهد نفسك معي، هذا حدي، وإن كنت تريد ذلك فدونك رسول الله بالمدينة فاذهب بها إليه، وكان في الحنكية وهي منطقة تبعد حوالى مائة كيلو عن المدينة، فيأتي الرجل بالناقة الكوماء بدلاً عن بنت المخاض إلى رسول الله، فيعرض العامل على رسول الله قضيته، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (أطيبة بها نفسك؟ قال: نعم والله يا رسول الله! فيقول للعامل: خذها، ويقول لصاحبها: بارك الله لك في إبلك) ، فيعيش صاحب الإبل إلى خلافة معاوية، وكان يدفع عشرات الرءوس من الإبل في زكاة ماله؛ لأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالبركة لم يذهب هباءً.
وهذا ما يفعله الإيمان، والإيمان بالغيب أول قضية في القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1-3] ومن الغيب: يوم القيامة، والجزاء والحساب، فإذا آمن حق الإيمان تيقن أن الدنيا كلها لا تساوي شيئاً، فأخرج من ماله، وكم من مسلم أخرج من ماله عدة مرات، وليس الأنصار وحدهم الذين يؤثرون على أنفسهم، بل أيضاً من المهاجرين؛ لأن الإيمان في قلب الجميع سواء، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها صامت ذات يوم، وبعد العصر جاء مسكين يقول: مسكين يا آل بيت محمد! فتقول عائشة لـ بريرة: أعطي المسكين، فتقول: والله! ليس عندي ما أعطيه، فقالت: ولا شيء؟ قالت: عندنا قرص شعير ستفطرين عليه في المغرب، يعني: ما عندنا إلا طعامك وأنت صائمة، فقالت عائشة: أعطي المسكين قرص الشعير! وعند الإفطار يرزق الله! يا سبحان الله! بالله عليكم هل واحد منا يعمل هذا؟! فتمشي بريرة وتقول: أعطي المسكين قرص الشعير، وعند الإفطار يزرق الله، وترددها مستعجبة! فلما جاء المغرب قامت عائشة رضي الله تعالى عنها لتصلي، وفي أثناء الصلاة طرق الباب، فلما فرغت عائشة من صلاتها، التفتت فإذا بشاة مشوية بقرامها! والقرام في اللغة: إما جميع الشاة، يعني مشوية كلها، وما أخرج منها شيء، مع الكبدة، والكرشة، والمقادم، والرأس، وكل شيء، وبعضهم يقول: كان من عادة العرب إذا أرادوا أن يأكلوا اللحم مشوياً، فبعدما يسلخوها يأتون بالدقيق، ويصنعون العجين اللين، ثم يغمسون الشاة في العجين، ويطلونها من خارجها، ثم يضعونها على الجمر، وتنضج الشاة من داخل، وقد عرفوا الوقت المحدد لهذا، فيكشفوا عنها الجمر، وأخرجوها بلباسها، وإذا أرادوا أكلها نزعوا عنها هذا اللباس من العجين، فكأنها موزة وتقشرها، فهذه الشاة جاءت لـ عائشة بقرامها، فقالت عائشة لـ بريرة: ما هذا يا بريرة؟ قالت: يا أم المؤمنين! لقد جاء بها رجل، والله! ما قد أهدى إلينا قط! فضحكت وقالت: كلي، هذا خير من قرص شعيرك، والله! لا يؤمن العبد ويكمل إيمانه بالله، حتى يكون يقينه بما عند الله أقوى مما في يده.
تقول: الإنسان لا يكمل إيمانه أبداً حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه مما في كفه، فقد يأتي أحد الناس ويأخذها غصباً عنك، لكن المكتوب لك عند الله -مضمون، فهذه أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها آثرت غيرها على نفسها وفي شدة الخصاصة بقرص الشعير.
إذاً: (الصدقة برهان) أي: على صدق الإيمان.
وهناك آداب للصدقة مثل: قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة:264] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) ، ويقول: (الرياء هو الشرك الأصغر) .
والإسلام يأمر بهذه الآداب مع المساكين لحفظ شعورهم، والمحافظة على ماء وجههم: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، لا تقل له على رءوس الأشهاد: خذ اذهب اشترِ كيس بر، خذ اذهب اشترِ رزاً لبيتك، فهذا لا يصح، فأين إخفاء الصدقة؟ يقولون: كان في المدينة خمسون بيتاً تأتيها أرزاقها عند مطلع كل شهر: دقيق، وسمن، وغيرها، ولا يعلمون ممن تأتيهم، في ظلام الليل يطرق الباب، ولا يدرون من الطارق فيفتحون الباب فيجدون السمن والدقيق ولا يعلمون من أتى به، فلما توفي علي بن الحسين رضي الله عنه انقطعت هذه الأشياء، فعلموا أنها كانت منه.(50/4)
الفرق بين الزكاة وصدقة التطوع
نأتي إلى النص الكريم في الفرق بين زكاة الفرض وصدقة التطوع: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271] ، تبدوها أي: تظهروها، {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .
قال العلماء: (تبدون) الفريضة ليتأسى بكم الآخرون؛ لأنها شعار وحق لله، كما ينادى للصلاة على المآذن، ويسعى الناس إلى المساجد، فكذلك الزكاة المفروضة، لكن صلاة قيام الليل في جنح الظلام والناس نيام نافلة، فكذلك الزكاة الفريضة تؤدى علانية، وأما صدقة التطوع فمثل قيام الليل في الصلاة، {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} [البقرة:271] .
إذاً: علمنا القرآن الكريم كيفية إعطاء الزكاة والصدقة التي نتصدق بها، ومن هنا فعلى المسلم أن يتحرى الطيب، وبقدر محبته لما يتصدق به يكون أجره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير صدقة المرء أن يتصدق قوياً شحيحاً يخشى الفقر، ويرجو الغنى) ، لكن إذا كان في آخر حياته، وأحس ببرودة الموت، وقال: أعطوا فلاناً، وفلاناً، فنقول له: لماذا لم تتصدق من قبل؟! الآن وقد بخلت من قبل؟! وما أعظم النماذج في الإسلام، فهذا أبو طلحة رضي الله تعالى عنه لما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله، إن بيرحاء أحب أموالي إليّ، فضعها حيث شئت في سبيل الله ... ) .
وكان صحابي يصلي في بستانه، فرأى طائراً قد أهاجه شخص، فأراد أن يخرج من بين الأغصان فلم يجد فرجة، فأتبعه بنظره، وأعجب ببستانه، ثم انتبه فإذا به شغل بماله عن ذكر ربه، فجاء إلى رسول الله حالاً وقال: (يا رسول الله! شغلت وفتنت في مالي بكذا وكذا، ولا أرى إلا أن أتصدق به في سبيل الله ... ) ، بستان من أحب الأشياء إليه، متشابك الأغصان، والطائر لم يجد فرجة ليخرج، وهو يأتي إلى رسول الله ليتصدق به! فهم كما وصفهم الله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36-37] .
وهذا نبي الله سليمان لما استعرض الخيل، قال الله عنه: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32-33] أي: تصدق بها في سبيل الله، لا كما يقول الآخرون: يمسحها بالمنديل ويلطفها، بل تصدق بها في سبيل الله؛ لأنها شغلته عن الصلاة حتى توارت بالحجاب.
إذاً: أجر الصدقة بقدر ما تحبها، وكيفية التصدق بمثل ما تحب أن يعاملوك به، فهل ترضى أن يأتي إنسان ويمتن عليك أمام الناس؟ لا والله! والحر يجوع ويربط على بطنه الحجر، ولا يتحمل منةً لمخلوق.
والقصد بالصدقة وجه الله، فالناس لا يعوضون أحداً، وإن أثنوا ومدحوا فكله ذاهب، ولكن إن قصدت وجه الله فهذا هو الباقي: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5] .
ولو أننا تأملنا هذه الفقرة من هذا الحديث (والصدقة برهان) ، ونظرنا إلى المجتمع الإسلامي في الصدر الأول، لرأينا الدرس والمنهج، فالأغنياء يجودون بمالهم، ويؤثرون على أنفسهم، والفقراء يتعففون.
فكيف كان ذاك المجتمع؟! كان مجتمعاً مثالياً؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، ويأتي الرجل يطلب الصدقة، فيقول: (أراك قوياً وهي لا تحل لقوي ذي مرة، فيقول: يا رسول الله! ليس عندي شيء، وأنا وعجوز في البيت، فقال: ولا شيء؟ قال: حلس نفترش نصفه، ونلتحف بنصفه، وقعب نأكل ونشرب فيه) ، -هذا هو أثاث البيت، ما هي غرفة نوم، وغرفة مطبخ، وأواني، ولوازم، وو لا،- قال: (علي بهما، من يشتري؟! فقال شخص: بدرهم، فقال: من يزيد؟! فقال آخر: بدرهمين، فقال: خذ الدرهمين، واذهب واشتر بدرهم طعاماً لأهلك، وبدرهم فأساً وأتني به، فأخذ صلى الله عليه وسلم عوداً ووضعه فيه، وقال: اذهب فاحتطب وبع واكتسب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً) ، وعفا عنه في حضور الجماعة؛ لأن هذا تشغيل لليد العاطلة، والقضاء على البطالة في كلمة، فيذهب الرجل، ويأتي وينمي التنمية الاقتصادية، فالحطب الضائع في الخلا يصبح طاقة تعمل في البلد، عجوز تطبخ به، ورجل يحتطب، وأتى الرجل بعد المدة لابساً ثياباً جديدة، وجيبه مليء بالدراهم والدنانير يسمع صوتها، ويتبسم صلى الله عليه وسلم ويقول: (نعم هكذا، لأن يأخذ أحدكم فأساً وحبلاً فيحتطب فيبيع فيكتسب فيستغني، خير من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر) .
وهكذا الإسلام يعمل على رفع معنوية الإنسان، ويدفع العاطل ليعمل، ويجعل المجتمع بقسميه الغني والفقير يتساويان في المعنوية وحفظ النفس.(50/5)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [3](51/1)
فضل الصدقة وأثرها
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فمن الجوانب المهمة في الحديث عن الصدقة: بيان أثرها على العبد في الدنيا والآخرة: أما أثرها في الدنيا فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم الحث على الصدقة، وبيّن أثرها في نفسية العبد، وأنها تقي مصارع السوء، وتقي موت الفجأة، وتحفظ المال، وتزيده كما قال: (ما نقص مال من صدقة) ، والفكرة العامة عند الناس: أن المعروف لا يضيع، كما قال الشاعر: من يصنع الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب الخير عند الله والناس فإذا صنعت معروفاً لمخلوق لا ينساه لك، فالمولى سبحانه لا ينسى لك ذلك من باب أولى، بل جاء في الحديث القدسي: (يا عبدي! جعت فلم تطعمني، فيقول: وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول: جاع عبدي فلان، فلو أطعمته لوجدتني عنده، يا عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب! وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: مرض عبدي فلان، ولو عدته لوجدتني عنده) .
بل الحيوان إذا أشفقت عليه ورحمته أثابك الله عليه، وقد جاء في الحديث: (أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، وجاء في الحديث: (دخلت امرأة بغي الجنة بسقيا كلب، كانت تمشي في الطريق، فاشتد بها الظمأ، ثم وجدت بئراً فنزلت وشربت، فلما خرجت إذا بكلب يلحس الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! قد بلغ به من الظمأ ما بلغ بي، فرجعت إلى البئر وملأت خفها ماءً وسقته، فشكر الله لها صنيعها، فغفر لها) .
ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأصحابه قالوا: (ألنا في الحيوان أجر؟ قال: في كل ذي كبد رطبة أجر) .(51/2)
صنائع المعروف تقي مصارع السوء
صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وهذه حادثتان مما سمعناها مباشرة، تعطي الإنسان العاقل في هذا صورة واضحة، وتقرب المعنى البعيد: الأولى: قصة إنسان معروف، أنقذ حياته وجماعته، ورد عليه وعلى رفقائه ماله، يقص الشخص بنفسه قصته علي فيقول: كان جالساً في مقهى، وجاء رجل من البادية وجلس، فبادر صاحب المقهى بالماء البارد، وبإبريق من الشاي، فشرب الرجل، وأراد أن يقوم، فأخذ يفتش في جيبه عن نقود فلم يجد، فأخذ صاحب المقهى يشتمه ويقول: إنك تحتال، وإنك كذا، فسمع هذا الرجل، ونظر إلى وجه الرجل فإذا به ليس من تلك الوجوه، فعز عليه ذلك، فنادى صاحب المقهى وقال: كم حسابك؟ فذكر له قرشين، فدفعها إليه، ونظر إليه الرجل، ومضى في سبيله، وبعد سنوات خرج هذا الرجل حاجاً هو ورفقته، وفي أثناء الطريق داهمهم قطاع الطرق، وجردوهم من جميع ما معهم من متاع ومال، وأوثقوهم في حبل، وبينما هم في تلك الحالة، إذا بكبير العصابة يأتي ويتفرّس الوجوه، فإذا به يقف أمام هذا الشخص، ويتأمل في وجهه -يقول الذي حدثني: لقد وقع في ظني أن له ثأراً أو ويريد اختياري للقتل، فما كنت أنتظر إلا الموت- ثم تفرس الوجوه مرة أخرى ونادى جماعته حالاً: أطلقوا هؤلاء الناس، وردوا عليهم متاعهم، وكل ما أخذتموه منهم، ولا أبرح مكاني حتى تفعلوا، وفكوا وثاقهم، وردوا أموالهم، ثم جاء إليه وأمسك بيده، وقال: هل يكفيك هذا بالقرشين؟ فقال: أي قرشين؟! قال: أنسيت سنة كذا في المقهى؟ سبحان الله!! واعذروني -أيها الإخوة- إذا أوردت مثل هذه القصص، لكنها واقعية، وتذكرنا بنعمة الله علينا بالأمن والأمان.
فهذا المعروف الذي صنعه هذا الرجل ما كان يتوقع أن يلقاه بعد ذلك، وماذا كانت النتيجة؟ رقبته وماله وجماعته معه فدية لهذين القرشين، فلا تتكاثر معروفاً تصنعه، والعوام يقولون: اصنع المعروف وألقه في البحر، فهو لا يضيع، وأما الجزاء من الله سبحانه وتعالى فهو أكبر وأعظم قدراً.
الثانية: قصة رجل ضل في الطريق، ودخل مغارة، وعجز أن يخرج، فطلبه أهله أربعة عشر يوماً فلم يجدوه، وبحثوا عنه في الآبار والمغارات، وفي كل مكان، وأيسوا من حياته، فدخلوا غاراً فوجدوه، وقد أخذوا معهم الإضاءة واللوازم، فأخذوه إلى البيت وسألوه: كيف كنت تعيش لمدة أربعة عشر يوماً؟! فقال: أولاً: أخبروني ماذا فعلتم في منيحة فلان؟ -بيت من جيرانه- مات والدهم وله أيتام، فمنح أيتام جاره حليب بقرة من بقره، فكان كل يوم يرسلها إليهم، فقالوا: كنا نبعث بها إليهم، وما قطعنها إلا بالأمس، قال: قد علمت ذلك، قالوا: وكيف علمت وأنت في ذاك المكان؟! قال: حينما ضعت عرفت أني هالك إلا أن يتداركني الله بلطفه، فجلست مظنة أن يأتيني أحد فيجدني قريباً، فطال الانتظار وطال الوقت، وأنا لا أعرف ليلاً من نهار، ورفعت يدي إلى الله أسأله مع شدة الجوع والعطش، فإذا أنا أجد بين يدي غدارة -إناء عادي يحمل في اليد-، فلشدة عطشي وجوعي أهويت بها على فمي، فإذا بها حليب بقري، وهكذا كانت تأتيني كل يوم، إلا بالأمس انقطعت عني.
وهذا مما يبين قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ، كان في وسط المغارة، ولا يدري عنه أحد إلا الله، وهذا من فضل الله.
وقد سمعت منذ أسبوع مضى: أن امرأة وقعت في دبل العين -والذي أخبرني حي يرزق- فانخسف بها الدبل، وسقطت في الأرض ولم تستطع أن تخرج، ومكثت خمسة عشر يوماً لا يعلم بها أحد، وقد كان لها غنم تعطي عجائز بجوارها من لبنها في طاسة من النحاس، فمر شخص يمشي على ظهر الدبل فسمع صوتاً، فنادى فأجابته فأخرجوها، فسألوها كيف كنت تعيشين؟ قالت: طاسة الحليب التي كنت أعطيها العجائز اللآتي بجواري، كانت تأتيني كل يوم! أيها الإخوة: إن وعد الله لا يحتاج إلى حكايات، ونقل أحداث، ولكن المؤمن إذا سمع شيئاً من هذا زاد يقينه، ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم يرون المعجزات، ويرون خوارق العادات، فيزدادون إيماناً ويقيناً بالله، ولما جاء إعرابي وقال: (يا محمد! أنت نبي؟ قال: نعم.
قال: من أرسلك؟ قال: الله.
قال: من يشهد لك؟! قال: الطعام الذي تأكل منه، فرفعوا القصعة إليه وأصغى بأذنه فإذا بها تقول: لا إله إلا الله، فقال: والله! إنها لتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال رجل: اسمعنيها يا رسول الله! قال: أسمعه، فسمعها تأتي بالشهادتين، فقال الثالث: أسمعنيها؟ فقال: ضعها في الأرض) أي: يكفي شهادتين.
فإذا كان الأمر كذلك، ونحن في القرن الخامس عشر نسمع أحداثاً من تلك ونعاينها ونحسها، فلا شك أن ذلك يعطي المؤمن زيادة إيمان ويقين، والخليل عليه السلام سأل ربه كما: قال الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] .
إذاً: الصدقة في الدنيا لا تضيع، ولا يضيع الله على أحد شيئاً، أما البركة في المال، والزيادة، والطهر، والنماء، فهذا أمر مفروغ منه.(51/3)
أثر الزكاة والصدقة في المجتمع الإسلامي
نأتي إلى النظام الإسلامي وأثر الزكاة والصدقة فيه، فنجد أنه ما وقع في العالم الإسلامي فتنة ولا غزته فكرة ولا أوتي من الخارج إلا بسبب ترك الصدقة، فلما عطلت الزكاة هدم انتظام المال في الإسلام، وجاءت الفوارق البعيدة، وتقطعت الصلات بين الأغنياء والفقراء، وشح الغني بماله، وحقد الفقير بقلبه، وجاءت الطبقات، وجاءت الدعوات، ومن قبل كان المال عارية في يد صاحبه، ويرى أن الله امتحنه به ليرى: هل يشكر ويحمد ربه ويؤدي حقه أم لا، والفقير أمسك الله عنه المال امتحاناً له لينظر أيصبر أم يجزع، وقد يكون امتحان الغني أشد: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، لأن الفقير سلبي، أما الغني يطيش بيديه إلى كل جهة.
فحينما كان المال عارية مستعارة بيد الجميع، فكان يعرف حقه فلا يتعداه، فالغني يؤدي حق الله، والفقير لا يتجاوز حقه في المال، وكل يقف عند حدود الله، فيعيش العالم في أمان وطمأنينة، وكان الكل غنياً بالله.
يقول الإمام علي رضي الله تعالى عنه: (إن الله أودع في أموال الأغنياء ما يسد حاجة الفقراء، وما جهد فقير إلا بتقصير غني، والله محاسبهم على ذلك حساباً شديداً، ومعذبهم عذاباً أليماً) .
أي: الفقير لا يشتكي إلا بتقصير الغني، فالله سبحانه قدر مقادير كل شيء، وأعطى من المال ما يكفي لعباده، لكن الغني يمسك حق الفقير، وإذا كان لك شريك في مال وأمسكت حقه، أجعته، فالفقير له حق معلوم في مالك، فريضة من الله، فإذا أعطى الأغنياء حقوق الفقراء فلا شكوى، وإذا أمسك الأغنياء حقوق الفقراء كانت الشكوى؛ ولذا لما تنظمت الزكاة في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، ما شكا فقير حاجة، وكان يكتب إليه عامله على إفريقيا: إني قد جمعت الزكاة وأعطيت الفقراء والمساكين، وبقي عندي مال فماذا أفعل به؟ فيقول: انظر أي مدين فسدد دينه، فكتب إليه: قد فعلت وبقي عندي مال ماذا أفعل به؟ قال: انظر أي غريب فبلغه بلده، فكتب إليه وقال: قد فعلت وبقي عندي مال ماذا أفعل به؟ قال: انظر أي أعزب فزوجه، وهكذا انتظمت الحياة عند التزام شرع الله في الزكاة.
وفي القرآن الكريم بيان مصارف الزكاة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
} [التوبة:60] ، وعدد ثمانية أصناف تستطيع أن تقول: هي أبواب ميزانية دولة كاملة، فالتضامن الاجتماعي بين الغني والفقير والمسكين، ورجال الوظيفة (العاملون عليها) ، والساعون بالمعروف والإصلاح بين الناس، مثل هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و (المؤلفة قلوبهم) وزارة الخارجية وعلاقة الإسلام بغيره، ووزارة الطرق والمواصلات.
والجيش وفك الأسير والعاني (في سبيل الله) ، وكل ذلك مرافق لمصارف الزكاة.
إذاً: الزكاة مرفق اجتماعي عظيم في الإسلام، ومن أعظم مصارف الزكاة في سبيل الله وفي الرقاب، مثل: تجهيز الغزاة، وفكاك الأسير.
إذاً: الزكاة في الدنيا شأنها عظيم، وأمرها في الآخرة أعظم: (المرء في ظل صدقته) ، وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) .(51/4)
العذاب المترتب على منع الزكاة
مانع فريضة الزكاة متوعد بالعذاب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها في الدنيا إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيكوى بها جبينه، وجنبه، وظهره، كلما بردت أحمي عليها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الخلائق، ثم يرى سبيله إما إلى جنة، وإما إلى نار! وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر، وجيء بها أوفر ما تكون، لا تنقص فصيلاً منها، تطؤه بأظلافها، وتعضه بأنيابها، كلما مرت عليه أخراها أعيد عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار! وما من صاحب بقر ولا غنم، لا يؤدي زكاتها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر، وجئ بها أوفر ما تكون، ليس فيها عجفاء، وليس فيها جلحاء، تمر عليه وتنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى نار! قالوا: والخيل يا رسول الله؟ قال: أما الخيل فهي لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، أما التي هي له أجر: فرجل ارتبطها في سبيل الله، فلا تستن شرفاً، ولا تنزل وادياً، ولا ترعى مرعاً، ولا يوردها ماء يسقيها إلا كان له في ميزانه حسنات، وفي روثها له فيها حسنات، وأما التي له هي ستر فرجل اقتناها تغنياً -أي: نماءً واقتصاداً- يتغنى بها -أي: يستغني بها- وأما التي هي عليه وزر فرجل اقتناها خيلاء وكبراً، قالوا: والحمير يا رسول الله؟! قال: لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ) .
وأحاديث الوعيد في ترك الزكاة كثيرة، وما دخل شر على المسلمين إلا بتعطيل الزكاة، فالزكاة تربط بين أفراد المسلمين، فلما عطلت الزكاة تخلخلت هذه الروابط، ووجدت تلك الفجوات، ووجد الفراغ، وجاءت الأفكار المسمومة، هذا ما أردنا التنبيه عليه، والله أسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.(51/5)
الفرق بين الصدقة والهدية
السؤال
ما هو الفرق بين الصدقة والهدية؟
الجواب
افرق كبير جداً، ويظهر ذلك مع قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع سلمان الفارسي لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً ونزل بقباء، سمع به سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد تنقل من فارس إلى الموصل إلى الشام إلى الحجاز، وكل ذلك بحثاً عن الدين الحق، وأخيراً عرف الطريق، وجاء مع قوم، وباعوه، ثم بيع في المدينة لرجل يهودي، فكان يعمل عنده، وينتظر مقدم نبي آخر الزمان من الحرم، وعلم أنه مهاجر إلى بلدة أرضها سبخة ذات نخيل بين حرتين، وكان يظنها خيبر، ثم اتضح له أنها المدينة، فكان يعمل في بستان رجل يهودي، وسمع بمجئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عنده ثلاث علامات، وكان في زمن الصيف، فجاء بقفة من الرطب، وقال: يا محمد! هذه صدقة مني عليك، وعلى أصحابك، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وقال: (إني لا آكل الصدقة وقربها إلى الآخرين) ، فقال سلمان: هذه واحدة، ومن الغد جاء بمثلها، وقال: يا محمد! هذه هدية مني إليك ولأصحابك، فأكل منها، فقال سلمان: هذه الثانية، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وكشف له عما بين كتفيه لينظر العلامة الثالثة، فنظر سلمان بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهوى على خاتم النبوة يقبله، وأعلن إسلامه حالاً، وقصة سلمان طويلة، ثم اشترى نفسه من صاحبه بكذا أوقية، وأن يغرس له مائة ودية، إلى آخر قصته.
ومما يبين الفرق بين الصدقة والهدية ما جاء في قضية بريرة، عندما دخل صلى الله عليه وسلم البيت، فقدموا له إراماً، فقال: (ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟! قالوا: إنه لحم تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال صلى الله عليه وسلم: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) .
ويقول الأصوليون: الأعمال بالمقاصد، وفي الحديث (إنما الأعمال بالنيات) ، وهي قطعة لحم واحدة، وهي من يد صاحبها إلى بريرة صدقة، وهي -القطعة بعينها- من يد بريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، فأكل منها صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فرق بين الصدقة والهدية، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لذوي الأرحام والأقارب خير من الصدقة للأجانب؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم:: (صدقة وصلة) ، فتصل رحمك وتتصدق، ولكن لا يكون المتصدق عليه من رحمك ممن تلزمك نفقته، لأنه إن كان ممن تلزمك نفقته، فلا يجوز أن تتصدق عليه؛ لأنك تؤدي واجب النفقة من صلة الزكاة، وهذا لا يجوز، والهدية كما قيل: من أكبر ما يكون بين الأفراد في علاج أحنة الصدر، وفي المؤاخاة، وفي غرس المحبة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا) ، فإذا أهديت إلى إنسان ولو عود أراك، فإنه يذكرك به، وينزل منزلة في نفسه، فيكون مدعاة إلى زيادة المحبة بينك وبينه.
إذاً: الهدية عامة، يهدي الإنسان لصديقه، أو لأخيه وجاره، والصدقة يتقرب بها إلى الله، ولها مصارفها الخاصة، مثل الفقراء، المساكين، وغيرها من أبواب البر التي يعلمها الجميع.(51/6)
العلاقة بين النور والبرهان والضياء في الحديث
هذا الحديث النبوي الشريف ذكر قاعدة الإسلام -وهي العقيدة- في طهارة القلب، وأول ما يطهر العبد قلبه من درن الشرك والرياء، ومن الحقد والحسد، ثم ذكر عمل اللسان، بالتسبيح والتحميد للمولى سبحانه، وبالذكر عموماً، ثم ذكر ركنين من أركان الإسلام وهما: الصلاة، والزكاة، وبعد هذا قال: (والصدقة برهان، والصبر ضياء) ، فما الربط بين قوله: (الصلاة نور، الصدقة برهان، الصبر ضياء) مع أن كلها عوامل إضاءة مع اختلاف الماهية؟ أما النور فهو الهادئ، ولا حرارة معه، وأما البرهان فهو الشعاع الذي أمام قرص الشمس، وأما الضياء فهو نور الشمس، وعند المناطقة النسبة بين الثلاثة: التشكيك، فإنك إذا نظرت فيها تجد أنها تتفق في الجنس، وتتفاوت في الرتبة، ولو أشعلت عود ثقاب في صحراء لقلت: نَوّر، ولو جئت بماطور كهرباء في لمبة مليون شمعة لقلت: نَوّرت، ولكن تنظر إلى هذا وتقول: نُور وليس بظلام، وتنظر إلى هذا وتقول: نور وليس بظلام، ولكن الفرق بينهما بعيد، فهما جنسان مختلفان في الإضاءة وبينهما عنصر الإضاءة.
ويقولون: التشكيك بينهما نسبة منطقية، والعلماء يقولون: النور إضاءة بدون إحراق، وبدون شدة، وهكذا تكون الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) ، والصلاة صلة بين العبد وربه، أما الصدقة فهي برهان، والبرهان هو الحجة؛ لأنك تحتاج إلى إقامة الدليل على الإيمان باليوم الآخر، والمتصدق يؤمن أنه سيجد ثواب صدقته فيما بعد، ولذا يقدم الصدقة بدون عوض عاجل.
أما الصبر الذي هو الضياء فهو النور مع الحرارة، فما من عمل يدخله الصبر إلا وله حرارة في قلب المسلم، وقالوا: الصبر ثلاثة أقسام: صبر على البلايا، وصبر عن المعاصي، وصبر على الطاعة، فالصبر على البلاء يقولون: له ثلاثون درجة، والصبر على الطاعة له ثلاثون درجة، والصبر عن المعاصي له تسعون درجة، فالصبر على البلاء صبر ممدوح، وأشدها الصبر عن المعصية، فالصبر على البلاء فيه شدة، ولا شك أن فيه شدة، والصبر على الطاعة فيه، تتحمل مشاقها، فتمشي إلى المسجد في الرمضاء، وتمس الماء في البرد، وتتحمل مشاق السفر للحج، وتجاهد في سبيل الله بروحك ومالك، وهكذا.
فجميع حالات العبادة لا يؤديها إنسان إلا بالصبر، وقد جاء في الحديث: (الصوم نصف الصبر) ، والنصف الثاني مقسم على البقية، وفي الحديث: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه، وشرابه، وشهوته من أجلي) .
، فالصبر على أداء العبادات والطاعات شديد، لكن أشد منه الصبر عن المعاصي والشهوات.
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر إذاً: الصبر ضياء؛ لأنه أعم العمومات في التكاليف كلها، فلا تستطيع أن تقيم ركناً من أركان الإسلام إلا بالصبر، ولا تستطيع أن تتجنب معصية إلا بالصبر، فصبر نفسك عن نوازعك وهواك، وقاوم كل المؤثرات بالصبر، وهكذا في مكارم الأخلاق، فلن يبلغ الإنسان مداه، ولا يصل في مكارم الأخلاق إلى درجات عالية إلا بالصبر، يصبر على خصمه، ولا يقابل الإساءة بإساءة، كما في الآية الكريمة: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .
والنصوص الكريمة كثير في الصبر كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] ، أي: من أجل الله، وفي سبيل الله، والمتتبع لمواطن الصبر في القرآن يجدها فوق السبعين مرة، ولك أسوة في صبر أيوب عليه السلام فقد صبر صبراً فوق العادة؛ لأنه نبي كريم، وذكروا في سيرته أنه صبر صبراً لا يكاد يصبره شخص عادي.
قال صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء) : وإذا نظرنا من خلاله إلى حالات تقتضي الصبر، فانظر مثلاً حين تثير إنساناً حالات تغضبه، فإذا بادر وسارع إلى استجابة دواعي الغضب وقع في متاهة، وارتكب محظوراً، ولكنه إذا كبح جماح نفسه وصبر نجا، (ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد من يملك نفسه عند الغضب) ، ما معنى يملك نفسه؟ أي: يكبح جماح نفسه بالصبر عن أن يندفع للانتقام، وكل إنسان يمر بحالات نفسية، فإذا صبر الإنسان، وتأنى لحظات، وبرهة من الزمن؛ كان هذا الصبر ضياء يكشف له الحقائق، ويبين له طريق الإحسان، ويوضح له المخرج من ذلك المأزق.
ومعاني الصبر أكثر من أن يستوفيها إنسان في كلمات، والرسول صلى الله عليه وسلم وصف الصبر بالضياء القوي ذي الحرارة؛ لأنه لا يوجد عمل يحتاج إلى الصبر إلا ومعه شدة، وتلك الشدة تقابلها شدة الحرارة في ضوء الصبر.(51/7)
فضل القرآن
آخر هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك) ، انظر إلى ترتيب هذا الحديث، لو كان قرآناً لقال كل إنسان: ما علاقة كل جملة بالتي قبلها؟ ولكن انظر إنه الوحي أيضاً، فالقرآن جامع لكل ما تقدم، والقرآن هو إمام كل مؤمن، والقرآن شامل وجامع لكل ما في هذا الحديث وغيره؛ ولهذا ختم به صلى الله عليه وسلم تلك التوجيهات الكريمة في هذا الحديث الشريف، والقرآن هو كتاب الله المقروء، يقول صلى الله عليه وسلم: (حجة) ، والحجة: السلطان والبرهان والدليل (لك أو عليك) حجية القرآن قائمة على العباد، وقد أوحى الله به لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد شاهد العالم كله صدق تلك الحجة وقوتها، وإذا أردنا أن نلم بفضله ولو إلمامة خاطفة نجد قوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] ، ثم نجد في افتتاحيته: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، ونجد بعدها: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ، حجية القرآن في جميع مجالات الحياة، وتجد القرآن هادياً فيها للتي هي أقوم.
والأصوليون وعلماء التشريع يقولون: الحياة بكاملها -سواء عند المسلم والكافر- في أحد أمرين، إما درء مفاسد، وإما جلب مصالح، ولا تجد إنساناً يسعى في هذه الحياة، مسلماً كان أو مشركاً، إلا لأحد أمرين يحققهما لنفسه، إما أن يدرأ عن نفسه شراً، وإما أن يجلب لنفسه خيراً، ولذا يقول الشاعر الجاهلي: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع يضر عدوه، وينفع صديقه، وقالوا: لقد جاء الإسلام لتحقيق هذين الغرضين، وزاد ثالثة لم تأت بها قوانين العالم، ولا مطامع العالم، ألا وهي الحث على مكارم الأخلاق؛ ولذا لا تجد قانوناً شرقياً أو غربياً، أو وضعياً اجتماعياً أو جنائياً، لتنص مادة فيه على مكارم الأخلاق، فهي قوانين إما مدنية، وإما جنائية، والمدنية في الحقوق والأموال بين الناس، والجنائية في ردع المجرمين والظالمين، وما سوى ذلك لا دخل للقوانين الوضعية فيها، أما القرآن الكريم فبدأ بمكارم الأخلاق، ونعت صلى الله عليه وسلم بها في أعلى مراتب الكمال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، ويقول صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، ويقول: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ، فالأخلاق موجودة من قبل، وجاء صلى الله عليه وسلم ليتممها، والقرآن يحث على البر بالوالدين: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] مع قوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] ، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] ، وحث على الاهتمام بالأولاد والإحسان إليهم: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] ، وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] ، أولادك، ذوو رحمك، أقاربك، كلهم يحث القرآن عليهم أيما حث، وحث على حسن الجوار، والأمانة، والصدق، والوفاء، ومكارم الأخلاق واسعة، ومن هنا قال الأصوليون: يتفق جميع العلماء أن درء المفاسد في الشرائع السماوية إنما تعني الكليات الخمس: درء المفاسد عن: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وقالوا: هذه يجب أن تصان في كل مجتمع، فإذا لم تكن مصانة فلا مجتمع ولا ترابط ولا أمن، أما حفظ الدين: فجاء الإسلام ووحد الدين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] ، وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] ، وجاء حفظه بقتل المرتد، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] .
وأما حفظ النفس: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:151] ، وحرم القتل وجعل فيه القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179] ، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] .
وأما العقل: فحرم على الإنسان كلما يشوش على هذا العقل، أو يخمره ويغطيه، وجعل في ذلك حداً.
وأما العرض والنسب: فحرم الله سبحانه فاحشة الزنا، وجعل لكل مفسدة حمى لا يقتحمه الإنسان، فحمى الدين بتحريم البدع والزندقة صيانة للدين من أن يشوش.
ومن حفظ النفس: تحريم الاعتداء ولو على سن أو ظفر.
وأما النسب: فحرم الزنا، وجعل حماه: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) ، وأمر بغض البصر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] .
وأما حفظ المال -وهو عصب الحياة-: فحرم أكل أموال الناس بالباطل، وجعل في السرقة حداً، وهو قطع اليد، وهكذا جعل له حمى، فحرم الغش، وحرم التدليس، وتوعد بالويل لمن طفف بالكيل ولو حفنة قليلة.
وهكذا -أيها الأخوة- نجد أن القرآن جاء بحماية الضروريات، ودرء المفاسد، ثم جاء بالحاجيات والمتممات التي تقتضيها الحياة من العقود في المعاوضة: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وكذلك الإجارة، والرهن، والكفالة، والوكالة، والضمان، والمساقاة، والمزارعة، وكل ما يحتاجه العالم من أمور الدنيا.
والقرآن حفظ للأمة ضرورياتها، ورسم لها نهجها، ورسم لها طريق مكارم الأخلاق، فالقرآن حجة قائمة، وعليك أن تعرض نفسك على أوامره ونواهيه، وتسأل: أين أنت منها؟ كما أثر عن السلف: (من جعل القرآن أمامه وإمامه، واقتدى به قاده إلى الجنة، ومن جعل القرآن وراء ظهره أخذ بقفاه ودفعه حتى رمى به في النار) .
ويأتي القرآن يوم القيامة يجادل عن صاحبه ويقول: يا رب! حملته إياي، فنعم الحامل الأمين، قام بحقي، فيقول المولى سبحانه: شأنك به، فيأخذ بيده ولا يدعه حتى يدخله الجنة، ويأتي إلى غيره، ويقول: يا رب! حملته إياي فلم يحملني، وضيعني، فيقول: شأنك به، فيأخذ بقفاه فيدفعه إلى النار.(51/8)
القرآن حجة لك أو عليك
وقوله عليه الصلاة والسلام: (والقرآن حجة لك أو عليك) حجة لك في حياتك ومعاملاتك: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وفي حقوق الزوجة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] ، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] ، ماذا فعلت في لباسك؟ هل صنته وأكرمته أم لا؟ هل وفيتم حقوقهن أم لا؟ وهكذا ما يكون بين الراعي والرعية، قال الله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ، فهذا حق الراعي على الرعية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، ولم يقل: (وأطيعوا أولي) ؛ لأن طاعة ولي الأمر من طاعة الله ورسوله؛ ولذا كان الخلفاء الراشدون وغيرهم من ولاة الأمر يكتبون إلى الرعية في الأقطار: إني قد وليت عليكم فلاناً -لكل قطر- فمن تحمل ظلامة فإني بريء منها، وإني قد وليتهم ليقيموا كتاب الله، وسنة رسول الله، فمن أخطأ ذلك فلا طاعة له عليكم.
وها هو الصديق رضي الله عنه يعلنها ويقول: (وليت عليكم ولست بخيركم، فإن وجدتموني على حق فأعينوني، وإن كان غير ذلك فلا طاعة لي عليكم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) ، هذا هو المنهج الإسلامي، وها هو القرآن حجة لك أو عليك: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وما الحكم إذا حصل نزاع بين ولاة الأمر وبين الرعية؟ {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59] .
وهكذا في كل مرافق الحياة، في عموم الأمة وخصوص الفرد.
وحق الله عليه أن تعبده فقد أوجب عليك صلاة، وصياماً، وزكاةً، وحجاً، بكل وضوح وبيان، فلا تحتاج أن تسأل عالماً، ولا أن تقرأ كتاباً، وكما قال ابن عباس: التفسير على أربعة أقسام: قسم لا يعذر أحد بجهله، وهو ما كلف الله الأمة به، فهل تحتاج إلى كتاب تفسير في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ؟ أو قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] ؟ هل تحتاج إلى تفسير: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ؟ هل تحتاج إلى تفسير: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] ، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام:151] ؟ هل هذه النواهي تحتاج منك إلى عالم، أو إلى كتاب تقرأه؟ لا، والله! بل هي من ضروريات التشريع، وهي واضحة بينة، وحجة قائمة لك أو عليك، والحديث عن القرآن متنوع، فالقرآن يتحدث عن نفسه، قال والدنا الشيخ الأمين عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] : لو أراد إنسان أن يؤتيها حقها لتناول القرآن كله، وما خطة سمعت بها أو قرأت عنها إلا والقرآن أقوم منها.
ولما جاء عمر رضي الله تعالى عنه بصحيفة من التوراة يستحسنها، وعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، غضب وقال: (يا ابن الخطاب! والله! لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي) .
وقال الله في إثبات حقه ووحدانيته: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] ، (أحد) (لم يلد) نفي وإثبات.
وفي توحيد العبادة: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1-3] وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، وفي توحيد الأسماء والصفات: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] كل ما تحتاجه فيما يتعلق بحق الله والأمور الغيبية تجدها واضحة في كتاب الله، وكل ما تحتاجه بينك وبين أخيك، وبينك وبين ولدك، وبينك وبين والديك، وبينك وبين زوجك، وبينك وبين الناس عموماً، وبينك وبين ولاة أمرك تجده واضحاً في القرآن.
إذاً: أين يذهب الناس عن كتاب الله؟! لا مصير للأمة ولا سلامة لها ولا أمن ولا طمأنينة لها إلا بالعودة إلى كتاب الله، والأخذ بتعاليمه وتوجيهاته، ففيه نبأ من قبلنا، وخبر من بعدنا، وفيه حكم ما بيننا، فمن حكم به عدل، ومن تمسك به نجا، ومن قال به صدق.
والحمد لله رب العالمين.(51/9)
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [4](52/1)
أركان الإسلام المذكورة في حديث (الطهور شطر الإيمان)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: إن هذا الحديث النبوي الشريف بهذا السياق والنسق الجميل، يعطينا منهجاً متكاملاً في توجيه الأمة إلى ما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة، وهو في كماله كحديث جبريل عليه السلام (حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه أحد من الحاضرين، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه -وهذه جلسة المتأدب المتعلم-، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم عن أركانه، ثم قال: أخبرني عن الإيمان؟ فأخبره صلى الله عليه وسلم عن أركانه، ثم قال: أخبرني عن الإحسان؟ فأخبره به، وكلما أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صدقت.
يقول عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه! ثم سأله عن الساعة، فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا علي الرجل، فلم يجدوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) ، والدين أعم من الإسلام والإيمان؛ لأنه شمل الإسلام بأعماله الظاهرة: صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، والإيمان بأعماله الخفية، مما ينطوي عليه القلب، ومجمل ذلك كله هو الإحسان.
وهذا الحديث الذي معنا عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا آثار تلك الأركان في ذاك الحديث، من الشهادتين، والصلاة، والصيام، والزكاة، وهنا يبين لنا صلى الله عليه وسلم آثار الطهارة وذكر الله: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأان أو تملأ ما بين السماء والأرض) ، وسبحان الله والحمد لله هما مؤدى لا إله إلا الله؛ لأنهما إثبات صفات الجلال والكمال لله، وفيهما نفي وتنزيه المولى سبحانه من صفات النقص، ثم قال بعد ذلك: (والصلاة نور) ، وفي ذاك الحديث ذكر أركان الإسلام، الشهادتين ثم الصلاة، فيبين هذا الحديث آثار ذاك الحديث الأول، وتقدم الكلام عن قوله: (الصلاة نور، والصدقة برهان) ، وهي أعم من الزكاة، وكذا قوله: (والصبر ضياء) ، وهذه هي أركان الإسلام التي جاءت في حديث جبريل، ولم يبق منها إلا الحج، والحج مستقل بذاته: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] ، بل إن الحج يجمع جميع أركان الإسلام في مناسكه، فالشهادتان: لبيك لا شريك لك، والصلاة: يلزم أن تصلي ركعتين بعد الطواف، والزكاة: أنت تنفق المال من أول ما تخرج من بيتك إلى أن ترجع، والصوم: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] .
إذاً: الحج هو العمل الإجمالي أو التطبيقي العملي لأركان الإسلام كلها.
تقدم معنا الكلام بإيجاز عما جاء في أوائل هذا الحديث، إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) .(52/2)
أقسام الناس
قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو ... ) ، ولم يقل: كلكم، أو كل مسلم، بل عمم كل الناس، مسلمهم وكافرهم، مؤمنهم ومنافقهم.
وكلمة الناس من: ناس ينوس، أي: تحرك، وسمي الناس ناساً لأنهم يتحركون، والنواس الحركة والصوت.
(يغدو) .
أي: يصبح مبكراً من الغدوة؛ لأن الغدو أول النهار وآخره العشي: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الأعراف:205] ، كل شخص يغدو من الصباح مبكراً.
(فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) : إذا جئنا إلى هذه الجملة الختامية من هذا الحديث نجده يجعل الإنسان سلعة في سوق الحياة، وتأتي هذه الجملة بعد حجية القرآن، ولو أردنا أن نقف على معناها، فلنرجع إلى أول المصحف لنرى كم قسم المولى سبحانه الناس، فبعد ذكر المسألة العظيمة في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، والرفقة الكريمة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ، والابتعاد عن طريق الكافرين: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، نجد أن الناس -كما في أوائل سورة البقرة- ثلاثة أقسام، فهو حجة لقسم، وحجة على قسمين، وبيان ذلك على النحو الآتي:(52/3)
القسم الأول: المتقون
بسم الله الرحمن الرحيم: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] هذا القسم الأول، من هم المتقون؟ والوصل والفصل أسلوب بلاغي، وعدم العطف يدل على أن الثاني عين الأول، قال تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:2-3] .
وهذا يوافق ما في الحديث: (الصلاة نور، والصدقة برهان) {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ، جاءت أركان الإسلام وأركان الإيمان، فالإيمان بالغيب يقتضي الإيمان بكل ما جاء عن الله في كتاب الله أو أخبر به رسول الله في سنته.
فهم يؤمنون بالغيب (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ، وقال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، أما غير المسلم فيقف إيمانه عند مرحلة معينة، فاليهود يقفون عند رسالة موسى عليه السلام ويجحدون عيسى، والنصارى يقفون عند رسالة عيسى ويجحدون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما المسلم فيؤمن بكل رسالات الله: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] .
وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ؛ لأن اليقين باليوم الآخر منطلق كل خير، وهو رادع عن كل شر؛ لأنه إذا أيقن بيوم فيه حساب وجزاء وعقاب فإنه يحسب لكل خطوة حسابها، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، فهو يعلم بأن هناك موازين توضع، فيقيس أعماله، ويزن خطواته؛ لأن أعماله موزونة وليست مهملة، فهؤلاء هم القسم الأول، والقرآن هدى لهم، وإذا كان هدىً لهم فيكون شاهداً لهم وحجة لهم.
إذاً: القرآن يكون حجة للمتقين: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:2-5] ، جعلنا الله وإياكم منهم.(52/4)
القسم الثاني: الكفار
أما القسم الثاني ففي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] ما نتيجة عدم إيمانهم وتصديقهم؟ {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] ، جاء الختم على القلوب والأسماع، فلم تعد قلوبهم تعي خيراً، ولم تعد أسماعهم تصغي إلى خير: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] .
قال: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) ، أي: لا يبصرون آيات الله الكونية، ولا يعتبرون بما وقع في الأمم السابقة، ولا يتعظون ولا يتذكرون بما في الكون من آيات الله وقدرته التي تدعو إلى الإيمان.
وفي أول الفاتحة يقول الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، والرب هو الموجد المصلح المدبر، وانظر إلى هذا النظام البديع المتقن في الأرض: من نبات، وحيوانات، وفي السماء: من كواكب وأفلاك تجري بحساب دقيق: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ،إذا نظرت إليها تأملت وتفكرت: من الذي يدبرها ويسير أمرها ويحفظ نظامها؟ إنه الله.
الحيتان في البحار والأنهار تتواجد وتتكاثر، والطيور تتواجد ويتكاثر، والوحوش في الفلوات تتواجد وتتكاثر، والبشر في القرى والمدن والبوادي يتواجدون وتتكاثرون، ومن الذي يدبر ذلك كله؟! إنه الله سبحانه.
ولذا فإن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يلزم ويفحم الجاحدين لربوبيته، ألزمهم بقاعدة منطقية إلزامية، يقول سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] .
فالمؤمن يؤقن باليوم الآخر، وهؤلاء لا يوقنون، ونقف مع هؤلاء على سبيل النقاش فنقول لهم: أيها الخلق الذين يجحدون ربوبية الله! أخبرونا عن أنفسكم، وانظروا في ذواتكم وأشخاصكم، أخلقتم من غير شيء؟! و (شيء) هنا يرجع إلى أمرين: إما أنهم خلقوا من غير مادة، أو خلقوا من مادة، فهم يقرون بأنهم خلقوا من مادة المني، فمن الذي خلق المادة التي أنتم جئتم منها؟ وقيل في قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي: من غير خالق.
وهذا هو الأرجح، بدليل المقابلة في قوله: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) ، وبالسبر والتقسيم نقول: أنت موجود مخلوق، ووجودك في الدنيا لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: خلقت بلا خالق، خلقت نفسك، خلقك خالق قادر، وأي هذه الأمور الثلاثة صحيح؟ وأيها باطل؟ هل خلقت من غير شيء؟ لا، فالعدم لا يعطي وجوداً، والوجود لا يتأتى من عدم؛ لأن العدم لا شيء: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] ، وإن قلت: أنا خالق نفسي، فنقول لك: قبل أن توجد كنت في العدم، فمن الذي أوجدك في الوجود لتخلق نفسك؟ فيبطل ادعاؤه أنه خلق نفسه.
ولم يبق أمام العقل إلا أن يؤمن بوجود خالق خلقه، وهذا هو -كما يقول علماء الكلام- دليل الإلزام.
نرجع إلى أقسام الناس في القرآن، وقد ذكرنا القسم الأول وهم المتقون {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] .
وذكرنا القسم الثاني وهم الكفار، وسبب عدم إيمانهم أنهم لا يوقنون، وكانت النتيجة أن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وفي الحديث: (إن العبد ليذنب الذنب فينكت على قلبه نكتة سوداء، ثم يذنب الذنب فينكت على قلبه نكتة سوداء حتى يغلف بالسواد) ، وبهذا يحجب عنه النور الذي بداخله المعبر عنه بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] ، وهو نور الإيمان في قلب المؤمن، فيحجب هذا النور في قلب هذا المسلم حينما يذنب تلك الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: (حتى يصبح كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً) ، وقد جاء في القرآن الكريم: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ، فالكافر بكفره وعدم إيمانه وتصديقه ويقينه باليوم الآخر، يختم على قلبه وعلى سمعه، وزيادة على ذلك: يجعل الله على بصره عشاوة، فلا يرى حقائق الأمور، ولا يبصر آيات الله الدالة على أنه الواحد.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ولكن {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] ، والقسم الأول فيهم عدة آيات تذكر صفاتهم ومعتقداتهم، بخلاف القسم الثاني قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6] ، ثم ذكر النتيجة وهي الختم على قلوبهم، والغشاوة على أبصارهم، وانتهى أمرهم.(52/5)
القسم الثالث: المنافقون
والقسم الثالث هم المنافقون، وفيهم الإطالة والبيان والكشف عما يخفون من أمرهم؛ لأن خطرهم عظيم يهدد المجتمع كله.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:8-10] ، وانظروا إلى الإعجاز: قال في حق الكفار: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] ، وقال عن المنافقين: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10] فالقلب الذي عليه ختم يرجى صلاحه برفع الختم؛ لأن القلب أصله سليم، وغاية ما فيه أنه ختم عليه، فإذا أراد الله هدايته كشف عنه هذا الختم، ولكن الذي في قلبه مرض، فقد أصبح القلب بنفسه مريضاً، فيحتاج إلى علاج، والقلب المختوم لا يحتاج إلا إلى رفع الختم عنه فيشع النور بداخله، فهو أقرب إلى الخير من ذاك القلب المريض الذي يحتاج إلى معالجة؛ لأن المرض يؤدي إلى الموت، وقد يموت قلب المنافق.
ولهذا نجد المشرك في شدة عدوانه للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم، وفي لحظة من اللحظات يؤمن وتشع له الحقائق وتنكشف له الأسرار فيبادر إلى الإسلام، وبقدر ما كان قاسياً شديداً على الإسلام يكون رحيماً كريماً مع المسلمين.
وأقرب مثال: إسلام عمر رضي الله تعالى عنه، فقد كان عمر آخذاً بالسيف ويسأل: أين محمد؟ فقيل له: لماذا؟ فقال: أريد أن أقتله، فقد سفه أحلامنا، وفرق جمعنا، وقال، وقال، فقيل له: على مهلك! اذهب وانظر إلى أختك وزوجها في بيتك.
قال: وما في بيتي؟! قالوا: أختك وزوجها قد صبئا فرجع من الطريق إلى بيت أخته فسمع همهمة، فلما أحسوا به اختفى المقرئ، فدخل والصحيفة في يد أخته، فقال: أعطني الصحيفة، قالت: إنك رجس، وهذا كتاب الله لا يمسه إلا المطهرون، فلطمها على خدها وفي يده خاتم، فخرج الدم من وجهها، فرقّ للدم، فقال: أريني الصحيفة ولا أريك إلا خيراً، قالت: اذهب فاغتسل أولاً، ثم أعطيك الصحيفة، فذهب واغتسل، ثم قرأ الصحيفة من كتاب الله، فإذا به يتحول من عدو لدود لأصحاب رسول الله إلى مؤمن محب لهم، وقذف الله في قلبه الإيمان، وكشف عن قلبه الغطاء، وكشف الغشاوة عن بصره، وتحرك النور في قلبه، وأبصر بعينيه وبصيرته حقيقة الأمور، فخرج الرجل الذي كان مختفياً، وقال: ماذا تريد يا عمر؟! قال: دلني على محمد، فذهب به، وطرق باب دار الأرقم بن أبي الأرقم، فقالوا: من؟ قال: عمر، ففزع كل من كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا له، إن كان جاء لخير يصيبه، وإن جاء لغير ذلك يكفيكم الله) ، فأدخله اثنان والتزماه بعضديه مخافة على رسول الله، حتى جلس بين يدي رسول الله، فأمسكه صلى الله عليه وسلم بردائه وجذبه، وقال: أما آن لك أن تؤمن يا عمر؟! فإذا عمر ينطق بالشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول عمر رضي الله عنه: لماذا نبقى هنا؟! لماذا لا نخرج إلى الكعبة ونطوف، ونعلن الإسلام؟ فقال المسلمون: نحن ضعفاء.
فقال: لا والله! لا نستتر بعد اليوم، وخرجوا إلى الكعبة يلبون ويهللون، ويذكرون الله ويعلنون الشهادتين، قال السلف: ما زلنا أعزة منذ أن أسلم عمر.
إذاً: يقول الله في حق المشركين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] ، ويقول وفي حق المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] .
قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:8-16] ، سياق طويل ينتهي بصفقة خاسرة.
هؤلاء المنافقون اشتروا الضلالة بالهدى.
اشتروا بمعنى: (استبدلوا) ، قال بعض الرجاز: اشتريت الجمة برأس أزعرا والثنايا البيض بالدردرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا أي: استبدل بالإسلام النصرانية، فكذلك هؤلاء اشتروا الضلالة بالهدى، والباء تدخل على المتروك، تقول: اشتريت الكتاب بدرهم، فالدرهم هو قيمة الكتاب، اشتريت الكتاب بثوب، كلاهما سلعة، فيكون الباء على الشيء الذي خرج من يدك، فهؤلاء كذلك: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] .(52/6)
معنى قوله: (كل الناس يغدو ... )
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) ، يبين لنا أن الناس في ظل هذا القرآن، وفي نور تلك الحجة، إما شخص مقبل عليها مستضيء بها، فهو مع القسم الأول من المهتدين، وإما شخص معرض عنها، أو متلاعب بها، أو غافل عنها، أو قد اتخذ كتاب الله وراءه ظهرياً، فأولئك مع الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم، وهنا يقول: (كل الناس يغدو فبائع نفسه ... ) ، وفي نهاية سياق القرآن لتقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام ذكر في نهاية صفقة: اشتروا الضلالة بالهدى، وفي نهاية هذا الحديث صفقة: (كل الناس يغدو فبائع نفسه) ، لأي شيء؟ النتيجة تبين ذلك، فالذي يبيع نفسه لله فقد أعتقها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] ، هذه تجارة، وهذه تجارة، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:11] ، وهذه صفقة القسم الأول: المتقون {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:11-13] ، عندما تذهب إلى السوق بسلعة، فإن وجدت ثمناً يناسب بعتها، وإلا رجعت بها إلى بيتك، ولكن هذا السوق الذي أنت سلعته لا اختيار لك، وكل يوم تشرق فيه الشمس وتغرب، هو جزء من ثمنك في هذا السوق، وكل يوم تعقد فيه صفقة على نفسك، فلمن تبيع؟ ((هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
يقول بعض العلماء: على بيت كل إنسان رايتان: راية في يد ملك من ملائكة الرحمان، وراية في يد شيطان وكل يدعوه إليه، فإن ذهب في ظل راية الملك فهو إلى طاعة الله، وإن ذهب في ظل راية الشيطان فهو إلى معصية، عياذاً بالله! إذاً: الذي يبيع نفسه ويعتقها فإنه يبيعها لله، وكل عمل بر فهو طاعة لله، والصفقة الكبرى مع الله {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] .
إذاً: الدنيا سوق، والناس هم السلعة، والثمن الجنة.
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في كل الخلائق ثمن بها تشترى الآخرة فإن بعتها بشيء من الدنيا فذاك الغبن إن أنا بعت نفسي بدنيا أصيبها فقد ذهبت نفسي وذهب الثمن فالله هو المشتري، وهو الخالق، والرازق، والنعمة منه، فإذا بعت الصنعة لصانعها، وبعت المخلوق لخالقه، واشترى المولى نفوس عباده، وثامنهم عليها بأن لهم الجنة، فأي صفقة أربح من تلك؟ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ، سبحان الله العظيم! {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] ، فصاحب الجنة يكدح إليها، وصاحب النار -عياذاً بالله- يكدح إليها، مع أن الكادح إلى النار أشد شقاء ونصباً من الكادح إلى الجنة، والكادح إلى الجنة يتوضأ، ويأتي متطيباً متطهراً، ويدخل من أبواب المسجد ويجلس فيه أين شاء، ويجالس الإخوان في غاية من الهدوء والسرور والطمأنينة، أما صاحب المعصية فإنه يترقب ويتوجس ويحترس، فإن دخل بيتاً ليسرق توقع كل عوامل الهلاك، وإن ذهب إلى بيت ليقتل أو ليزني فإنه يتحرز ويتعب، بخلاف الذي يسعى إلى صدقة، أو إلى صلاة، أو حج، أو عمرة، مع أن هذا يكدح وهذا يكدح.
إذاً: ما دامت الحياة كلها كدحاً فليكن الكدح في طاعة الله، وهذا الذي يؤدي إلى الجنة، فيغدو من الصباح فيبيع نفسه لله، وأعلى صفقة للإنسان هي: الجهاد في سبيل الله؛ لأن الله ساوم الخلق عليها: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} [التوبة:111] ، القتال فيه يقاتلون ويقتلون، وهذا أمر طبيعي، والجنة هي الغنيمة، وقال الله في سورة الصف: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} [الصف:13] ، فهذا هو نصر في الدنيا، والشهادة والجنة هذا هو المكسب الكبير، وبعض العلماء يقول: لو أن إنساناً أعطاك بيتاً من ذهب، وبيتاً من خزف، وقال لك: بيت الذهب تسكن فيه مؤقتاً على ما تحب، وبيت الخزف إلى الأبد، فالعاقل يبيع الذهب الفاني بالخزف الباقي، ويختار الخزف الدائم بالستر والوقاية على أن يتمتع بالذهب ثم بعدها يطرد إلى الشارع، وقالوا: من باع خزفاً باقياً بذهب فانياً فهو مجنون أحمق، فما بالك بمن يبيع الذهب الباقي بالخزف الفاني؟! الدنيا وإن تزخرفت فهي خزف، ولا قيمة لها في الآخرة، فكيف تبيع الآخرة التي هي ذهب دائم بالدنيا التي هي خزف فانٍ؟! وفي ختام هذا الحديث يبين لنا مآل البشر جميعاً، وأن الدنيا -التي هم فيها- سوق قائمة، وهم فيها سلعة، والبيع فيها إجباري، والمشتري هو الرحمن لمن كان في طاعة الله، بأي طاعة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان جالساً، فمر شابٌ قوي، فقال رجل من الجلساء: لو كان هذا الشباب والقوة في سبيل الله -يعني بذلك الجهاد-، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها أو على أهله ليكفيهم فهو في سبيل الله) أي: إن خرج عاملاً ليعمل في مصنعه، أو خرج زارعاً ليزرع في مزرعته، أو خرج بائعاً ليبيع في متجره، أو خرج يتسبب في طلب الرزق، ويتعفف عن سؤال الناس، فهو في سبيل الله.
ولذا قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى تعالى عنها: (من بات كالاً من عمل يده؛ بات مغفوراً له) .
وعلى هذا فمن خرج في غدوة نهاره يسعى في عمل مباح فهو في طاعة الله، وهو بائع نفسه ليعتقها.
كان بعض السلف يقول: الإنسان في الدنيا أسير، وعليه أن يعمل في فكاك نفسه، وذكر ابن رجب أن من السلف من اشترى نفسه من الله مرتين أو ثلاثاً، يزن نفسه بالفضة، ويتصدق بها، ويخرج من ماله صدقة في سبيل الله، ليعتق نفسه من النار.
إذاً: آخر هذا الحديث يبين لنا مدى حجية القرآن للعبد، ومدى حجيته عليه.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن، ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويؤمن بمتشابهه، ويتبع ما جاء فيه، وأن يجعلنا وإياكم ممن يكون القرآن حجة له، وأن يشفعه فينا، وأن يرزقنا وإياكم شفاعة نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يوردنا حوضه، وأن يسقينا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الصادق الأمين، والحمد لله رب العالمين.(52/7)
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [1](53/1)
شرح حديث: (إني حرمت الظلم على نفسي)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فعن أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يُنقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) رواه مسلم.(53/2)
نبذة عن راوي الحديث أبي ذر رضي الله عنه
أبو ذر رضي الله تعالى عنه كما جاء في حقه: أصدق من أقلَّت الغبراء وأظلّت الخضراء، أي: السماء.
وهو من أزهد الناس في الدنيا رضي الله تعالى عنه، وقد ظلمه كثير من الناس فيما يتعلق بأمر الدنيا، واتخذوا زهده ذريعة إلى مبادئ فاسدة.
أبو ذر رضي الله تعالى عنه كان زاهداً في الدنيا وليس لديه أولاد، وكان يكتفي بما في يده، وكم من شخص خرج مما في يده إلى الله ورسوله؛ فـ الصديق رضي الله تعالى عنه يأتي بكل ما يملك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق شيئاً لهم، فيقول له: (يا أبا بكر! ماذا تركت لعيالك؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله) ، فلم يُتهم أبو بكر بما اتهم به أبو ذر، ولكن رأى بعض الناس في سيرته ما يوافق منهاجهم فادعوا دعوات عليه، ونعجب لماذا تركوا أصحاب رسول الله جميعاً الذين كانوا يملكون البيوت والضياع والتجارات والمال الطائل ويأتون إلى أبي ذر؟! عثمان رضي الله تعالى عنه وهو الخليفة الراشد يجهز جيش العسرة من ماله الخاص، لماذا لم يتأسوا بـ عثمان ويطلبون الدنيا من حِلها ويصرفونها في سبيل الله؟ ابن عوف عندما جاءت تجارته كان يتصدق بالبعير وما حمل، وعندها يُعطى أرباح مائة في المائة يقول: عندي زيادة عشرة أضعاف، فيقول له التجار: نحن تجار المدينة ولا يوجد أحد غائب يعطي أكثر من الضعف، فيقول: هي في سبيل الله فالحسنة بعشر أمثالها، فلماذا لم يتخذوا من ابن عوف التاجر الكبير ولم يتخذوا عثمان مثالاً؟ لماذا لم يتخذوا الزبير مثالاً وقد كان عنده أربع زوجات، والأربع لهن الثمن، وميراث الواحدة منهن مئات آلاف من الدنانير، وكان له في المدينة ومصر والعراق والشام البيوت والضياع، لماذا لا يتخذون هؤلاء أسوة لهم ويأتون إلى أبي ذر؟ يكفينا بأنه أصدق الناس لهجة كما شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (رحم الله أبا ذر، يعيش وحده، ويموت وحده) ، ولما حصل بينه وبين معاوية رضي الله تعالى عنهم أجمعين في الشام بعض الشيء، اشتكى إلى عثمان رضي الله تعالى عنه؛ فطلبه عثمان، فجاء إلى المدينة بطلب من عثمان رضي الله تعالى عنه، ثم رغب أن يكون بعيداً؛ لأن النبي قال له: (إذا بلغ البناء سلع فاخرج من المدينة) فجاء إلى الربذة وسكنها، وفيها مات رضي الله تعالى عنه.(53/3)
أقسام الوحي
يروي لنا هذا الإمام الجليل والصحابي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (فيما يرويه عن ربه) ، هنا يقف علماء الحديث والمصطلح في هذا التعبير، فإنه يأتي في القسم الذي يسمى: الأحاديث القُدُسية، والأحاديث القدسية هي المضافة إلى الله سبحانه وتعالى، ويتساءل البعض: أليس كل شيء من القرآن ومن الحديث النبوي والأحاديث القدسية والكتب السابقة كلها من الله، فقد جاء في حق السنة النبوية {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] ؟ فقالوا: الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: السنة المطهرة.
وهذا وإن كان الأصل فيها وحي من الله إلا أنه أُسند إلى رسول الله أن يعبر عن هذا بمنطقه الخاص، وبأسلوبه النبوي الكريم.
القسم الثاني: القرآن الكريم، وهو من عند الله، ولكن ليس لأحد حق التصرف في إيراده، ولا يجوز أن يروى بالمعنى، ويشترط فيه: أن ينزل به جبريل عليه السلام من الله إلى رسوله.
القسم الثالث: الحديث القدسي، وهو وسط بين القرآن والسنة النبوية، وقد يأتي به جبريل، وقد يراه النبي صلى الله عليه وسلم مناماً، وقد ينفث في روعه، وقد يلهم به إلهاماً، فكل ذلك من أقسام الحديث القدسي.
ما الفرق بين هذه الثلاثة؟ قالوا: أما الأحاديث النبوية والمعروفة بالسنة المطهرة، فهي: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن) ، وقال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه) ، و: (إنما الأعمال بالنيات) كل هذا يقوله صلى الله عليه وسلم مسنداً إليه.
أما القرآن: فهو ما نزل به جبريل من الله على رسوله.
وأما الحديث القدسي فهو: ما يوحى بمعناه ويسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه، ولكن في إيراده صلى الله عليه وسلم للناس يقول: (عن ربي) ، أو: (بما أمرني ربي) ، أو (أوحى إلي ربي) ، أو (عن رب العزة) ، أو (عن الله تعالى) أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يتكلم بالحديث القدسي يسند الرواية إلى الله، كما أن الصحابي يسند الرواية في السنة إلى رسول الله، فالرسول يقول: قال الله تعالى كذا.(53/4)
صور مجيء الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم
الفرق بين القرآن والحديث القدسي: أولاً: في المصدر، ففي القرآن: لابد من مجيء جبريل به من الله إلى رسوله، وقالوا: الوحي من حيث هو أعم من أن يأتي به ملك؛ لأن الوحي في اللغة: هو الإعلام بخفية، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟! قال: (أحياناً يأتيني الملك كصلصلة الجرس، فيأخذني الوحي ثم ينفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك في صورة رجل) ، وفي الصورة الأولى قال: (وهو أشقه عليّ) ، وفي الثانية قال: (أحياناً يأتيني الملك في صورة رجل فآخذ عنه) .
وذكروا من أحوال الوحي: أن يكون مناماً، وأن ينفث في روعه ويلهم، ولكن اتفقوا على أن القرآن لم يؤخذ مناماً ولا إلهاماً ولا نفثاً في الروع، ولابد أن يتلقاه بواسطة الملك: إما أن يأتيه كصلصلة الجرس، وإما أن يأتيه الملك بصورة رجل ويعلم أنه جبريل، ويُلقي عليه القرآن الكريم.
أما بقية أنواع الوحي فيمكن أن تأتي بإلهام ونفث في روعه، والنفث في الروع قد يكون لبعض عباد الله الصالحين ممن يلهمهم الله الحق.
وقد جاء في قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فجاءوا ليلاً ونزلوا على حي من العرب وطلبوهم القِرى على عادة العرب، قالوا: أنتم جئتم من عند الرجل الصابئ، فليس لكم عندنا شيء، فذهبوا عنهم، ولما نزلوا قريباً منهم سلط الله عقرباً على سيد الحي فلدغته، فجاء واحد منهم، قال: هل فيكم من راق؟ قال: نعم، قال: إن سيد الحي قد لدغ بعقرب، قال: لا رقية لكم حتى تعطونا جُعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فقرأ عليه سورة الفاتحة، فإذا به ينشط وكأنه ما أصيب بشيء، فجاء بالغنم يسوقها، فقال له أصحابه: بم جئت به؟ قال: رقيت لهم سيد الحي، قالوا: وماذا فعلت؟ قال: قرأت سورة الفاتحة، قالوا: وكيف تأخذ أجراً على قراءتك كتاب الله، واختصموا في أخذ الأجر، هل نقتسمها ونأكلها؟ ثم قالوا: لا نأكلها حتى نرجع إلى رسول الله ونسأله، ثم احتفظوا بالغنم وجاءوا إلى المدينة، فأخبروا رسول الله بالخبر، فقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله، اقتسموها واضربوا لي معكم بسهم، ثم قال للرجل: ماذا قرأت؟ قال: قرأت الفاتحة، قال: وما أدراك أنها رقية، قال: شيء نفث في روعي) أي: بهذا الإحساس، ووجدت هذه الأريحية واسترحت إليها فقرأت والله سبحانه وتعالى أجابني.
فإذا كان شخص من عامة الأمة ينفث في روعه ما يوافق الحق؛ فسيد الخلق صاحب الرسالة من باب أولى، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] .(53/5)
الفرق بين القرآن والحديث القدسي
يفترق القرآن عن الحديث القدسي في الآتي: - القرآن لابد من أن يأتي به جبريل، والحديث القدسي لا يشترط فيه ذلك.
- القرآن لا يجوز روايته بالمعنى، والحديث القدسي يمكن روايته بالمعنى.
- القرآن بلفظه من كلام الله، والحديث القدسي لا يجب أن يكون بلفظه من كلام الله.
- القرآن لا يمسه إلا المطهرون، والحديث القدسي لا يشترط فيه ذلك.
- القرآن ركن في الصلاة من الفاتحة أو غيرها، الحديث القدسي لا تصح به الصلاة، بل ربما لو تعمده لبطلت الصلاة.
- القرآن لا يباع عند من لم ير جواز بيعه، والحديث القدسي بخلاف ذلك.
- القرآن الحرف في تلاوته بعشر حسنات، والحديث القدسي بخلاف ذلك.
- القرآن من جحد منه حرفاً واحداً كفر، والحديث القدسي لو نفى الحديث كله، وقال: لم يصح سنده لم يكفر بذلك.
- القرآن لابد أن يكون ثبوته متواتراً من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يصل إلينا، والحديث القدسي ليس بشرط فيه، فقد يكون حديثاً قدسياً وسنده ضعيف.
إذاً: تلك هي الفوارق بين الحديث القدسي الذي يُنسب إلى رب العزة سبحانه فيما يرويه عنه نبيه، وبين القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث النبوي فهو الذي يرويه الصحابي بسماعه عن رسول الله، قال لنا رسول الله كذا، وعلى هذا تكون السنة أقوالاً وأفعالاً وإقراراً، وبعضهم يزيد أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهنا أبو ذر رضي الله تعالى عنه يقول لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه، إذاً: هذا الحديث من الأحاديث التي تسمى الأحاديث القدسية.
وقد جمعها المجمع العلمي في القاهرة، وبعضهم يقول: صح منها مائة حديث، والمجمع جمع أكثر من ثلاثمائة حديث، بحسب ما جاء في كتب السنة، سواء من صحيح البخاري أو مسلم أو أبي داود أو الترمذي أو النسائي أو ابن ماجة، أو موطأ الإمام مالك.
كل كتب السنة كما تروي السنة النبوية تروي ضمنها الأحاديث القدسية؛ لأنها وإن كانت قدسية تروى عن رب العزة لكن يرويها عن الرب سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي تجمع مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(53/6)
حديث تحريم الظلم وتطبيقه في واقع المسلمين
هذا الحديث يرى العلماء أنه جامع شامل، وأنه من أبرز الأحاديث التي تبين سعة فضل الله ورحمته وعطفه بعباده، والحديث ينظر فيه من حيث الأسلوب والمنهج.(53/7)
اللطائف البلاغية في النداء الإلهي: (يا عبادي!)
أما الأسلوب: فهو من أوله مستهل بقوله: (يا عبادي!) إذا أصغينا إلى هذه النداء وتمعنا مدلوله ظهر لنا الآتي: (يا) : حرف نداء، وينادى أيضاً بالهمزة: أزيد! وبالهاء: هزيد! و (يا) إنما تكون للبعيد، والهمزة تكون للقريب، والهاء للوسط، والبعيد إنما تناديه بـ: (يا) حتى يمتد الصوت ويبلغ من كان بعيداً عنك.
ويكون البعد: إما بعد مكان، وإما بعد منزلة؛ فإذا كان شخص رفيع المنزلة، فلا تقول له: أأميرنا، أملكنا، بل: يا ملكنا، يا أميرنا، وتمد الصوت تكريماً له لرفعة منزلته، فإذا كان بجوارك وقلت: يا أخي، جعلت بعد المنزلة ورفعتها كالبعد المكاني، واستعملت (يا) في النداء لعلو منزلته عندك.
ومن علو المنزلة: العطف والرحمة وحب الخير، ونجد هذا الأسلوب يتكرر في كتاب الله؛ فإبراهيم عليه السلام مع أبيه: (يا أبتِ) ، وكل ذلك في مقام العطف على أبيه والشفقة عليه، وكذلك نوح حينما كان ينادي ولده، ولقمان حينما كان يعظ ابنه في كل ذلك يكرر: (يا بني) ، لا كما يقول بعض الناس تلذذاً بلفظ البنوة أو الأبوة أو العبودية، بل لإظهار العطف والرحمة والشفقة.
(يا عبادي!) يتكرر هذا النداء في هذا الحديث عشر مرات، وكل جملة تدل على الرفق والعطف والرحمة من المولى سبحانه وتعالى.
فالأولى فيها (يا عبادي) وهو تنبيه؛ كأنه يقول: استمعوا، وأصغوا لما أقول، توجهوا إليّ وادنوا مني فأنتم عبادي.
وهو المولى سبحانه، برحمته وبشفقته وبلطفه يعلمنا ويحذرنا من الظلم.(53/8)
تحريم الله الظلم على نفسه
يقول سبحانه وهو الملك القادر القاهر، وهو رب العزة وبيده نواصي الخلق، ولا يسأل عما يفعل، يقول: (حرمت الظلم على نفسي) ، مع أنه سبحانه لم يتوجه إليه ظلم؛ لأن الظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه، أو تصرف المالك في غير ملكه.
فإذا كان الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالمولى سبحانه لا يضع شيئاً إلا في موضعه.
وإذا كان الظلم هو تصرف الإنسان في غير ما يملك؛ فالله يملك الكون كله، وكل تصرف من الله فهو في ملكه وخلقه أينما كانوا.
إذاً: لا يتوجه إلى الله ظلم، ولا حاجة إلى النقاش في ذلك، لكن هل الظلم ممكن في حق الله أو ليس بممكن؟ إن الله يخبرنا: (إني حرمت) أي: منعت وتنزهت عن أن أظلم، مع أنه لا يسأل عما يفعل.(53/9)
تحريم التظالم بين العباد
) وجعلته بينكم محرماً) لماذا؟ لأنهم عباده، فإذا كان هو لا يظلم، ولو وقع منه ظلم فإنما يقع على عباده؛ لكنه لا يظلم عباده لأنه يرحمهم، فكيف يقبل من غيره أن يظلمهم؟! ثم قال: (فلا تظّالموا) ، بصيغة المبالغة، لأنه قد يقع بعض الظلم دونما علم، والرواية الأخرى: (فلا تظالموا) ، بدون تضعيف، أي: لا يظلم بعضكم بعضاً.
وإذا وقفنا عند هذا النداء الأول، وهو: النهي عن الظلم بين الخلق، وكان الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، أو المصطلح عليه عند الناس: أن الظلم هو الاعتداء على حقوق الآخرين، والتصرف في ملك الآخرين بغير إذنهم.
يقول علماء التوجيه والتربية والتشريع: ما فنيت أمة إلا تحت سوط الظلم، وما وقعت مصائب في أمة ولا ابتليت بأمراض ولا ببلايا ولا بفناء نهائي إلا بسبب الظلم.
ويقولون: إن رفع الظلم عرف في التاريخ من آلاف السنين، والعالم بأسره كان يحذر الظلم ويتجنبه، وبعض الملوك كان يجعل له نافذة ويكتب عليها: نافذة المظالم، وكل من كانت له مظلمة من عامل أو خادم أو أي شخص له سطوة أو سلطة كتب ظلامته وألقاها؛ لأن عماله كانوا لا يبلغونه مظالم الأمة، فكان يتولاها بنفسه.(53/10)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الظلم
وجاء الإسلام وبيّن لنا صلى الله عليه وسلم، وبيّن لنا القرآن أن: (الظلم ظلمات يوم القيامة) ؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن أولى من يراعي قضية الظلم والعدالة: المسلم؛ لأن الله سبحانه يخبره بأنه تكرم وحرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً ونهاهم أن يرتكبوا ذلك: (فلا تظالموا) .
ونحن نعلم ما جاء في التاريخ الإسلامي من العدالة، وأول تمثيل للعدالة كان في عهد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وذلك حينما يستيعذ بالله من أن يظلم أو يُظلم أو يبغي أو يبغى عليه.
وفي موقف من أحرج مواقف الإسلام في أرض المعركة في بدر وقوة العدو ضعف قوة المسلمين، والمسلمون إنما خرجوا لأخذ عير لا شوكة لهم، ويصف النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين لتتقابل قوة الحق مع قوة الباطل قوة الإسلام بنوره وقوة الكفر والشرك بظلامه وضلاله، ويسوي النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين كما يسوون صفوف الصلاة لتراصهم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] ، فجاء في السيرة بأنه عدّل رجلاً بالقضيب في يده هكذا على بطنه، فقال: (أوجعتني يا رسول الله! فيكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه ويعطيه القضيب، ويقول له: اقتد لنفسك مني) .
وكان من حقه صلى الله عليه وسلم أن يعدل الصفوف، ولو كان مكانه أي قائد في معركة كهذه أو أي جندي وقال كلمة مثل هذه ربما صفعه على وجهه، نحن لسنا في وقت المزاح، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي هذا الموقف يكشف عن بطنه ويعطيه القضيب، ويقول له: خذ حقك مني، فيهوي على بطنه صلى الله عليه وسلم فيقبله، فيقول له: هذا هو حدك! قال: نعم يا رسول الله، قال: هذه حيلة! ما الذي حملك عليها، قال: يا رسول الله! الموقف كما ترى بين الحياة والموت، فأحببت أن يكون آخر عهدي من الدنيا بك يا رسول الله.
الذي يهمنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدم نفسه لأحد أصحابه في أحد المواقف، ويقول له: (خذ حقك مني) فهل يبقى هناك مثال للعدالة فوق هذا؟ لا والله! النصوص المتضافرة عنه صلى الله عليه وسلم في القضاء والشهادة والتحذير من شهادة الزور إلى غير ذلك كثيرة، ويأتي من بعده الخلفاء الراشدون، ويأتي عمر رضي الله تعالى عنه ويتكلم ويخطب للأمة كلها، ويتولى المظالم بنفسه، إلى حد أن يقول: (لو أن شاة بجذلة كسرت رجلها لكان عمر مسئولاً عنها) ، ويتتبع الناس في الليل، ويسمع العجوز تشتكي ويسألها: (ما سيرة عمر فيكم؟ تقول: عمر لا جزاه الله خيراً، لماذا؟ لأننا جياع وهو غافل عنا! قال: وما يدري عمر عنك، قالت: كيف يكون أميراً على الناس ولا يدري عن بعض الأفراد؟ وبعد أن يذهب ويأتيها بالمال والطعام يقول: بيعي عليّ مظلمتك عند عمر غداً، قالت: ولماذا؟ قال: إني مشفق عليه من النار) .(53/11)
موقف النجاشي من الظلم للصحابة
كان ملك الحبشة نصرانياً ولم تبلغه الدعوة، ومع ذلك يقرر صلى الله عليه وسلم عدالته ويقول: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد بجواره، وأرى أن تذهبوا إليه) ، فيذهب إليه المسلمون، وتتجلى شهادة رسول الله لملك الحبشة.
وبعدما نزل المسلمون عليه علمت قريش بمن وصل إليه، ثم أرسلوا إليه عمرو بن العاص وهو من دهاة العرب، وكان صديقاً للنجاشي يأتيه بالهدايا والتحف من مكة، فجاء ودخل على الملك وسجد له على حسب عادته، ثم قال: (ما بك يا عمرو؟ قال: إن أشخاصاً صبئوا لا هم على ديننا ولا دخلوا في دينك، وجاءوا إلى أرضك يفسدون فيها، وقد أرسلنا قومنا بهدايا إليك لتردهم عليهم) .
فهل فرح الملك بالهدايا؟ لا.
بل قال: (لا والله، قوم لجئوا إليّ ووصلوا إلى أرضي، فلا أسلمهم إليكم قبل أن أسألهم، فانتظر حتى أحضرهم وأسألهم، وأعلم ماذا عندهم؟) .
وهذا عين القضاء الذي بينه صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله تعالى عنه حينما أرسله إلى اليمن قاضياً قال: يا رسول الله! إني لا أعرف القضاء، قال: (إذا أدلى إليك خصم فلا تحكم له حتى تسمع من خصمه الثاني) ، قال علي: (والله لقد علمت القضاء من ذلك الوقت) .
فهنا الملك جاءه صديقه بهدايا من أجل أن يسلم إليه أقواماً ما دخلوا في دينه وهربوا من دين أقوامهم، يعني أنهم لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، فلما جاءوا واشتد الأمر عليهم قال لهم جعفر رضي الله تعالى عنه: (لا يتكلم أحد، فأنا خطيبكم اليوم) .
فلما أرادوا الدخول كان عمرو جالساً بجانب النجاشي، قال: (انظر إليهم لن يسجدوا إليك ولن يحترموك) ؛ لأنه يعرف أن المسلم لا يسجد إلا لله، فلما دخلوا ولم يسجدوا سألهم: (لم لم تسجدوا كما يسجد الناس؟ قال: نهينا أن نسجد لغير الله، قال: وما شأنكم؟ قال: كنا وكنا وأخذ يصف حالة العرب وما كانوا فيه من الظلم والبغي والقحط والجوع وقطيعة الأرحام وأن القوي يأكل الضعيف، حتى قال: ثم بعث فينا رجل منا نعرف نشأته ومولده ونسبه، فأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر وأمرنا بصلة الأرحام وأمرنا بالصلاة إلى آخره) .
قال: هل معك شيء مما جاء به، فقرأ عليه شيئاً من سورة طه، فغاظ ذلك عمرو بن العاص، فغمز الملك فقال: سله ما يقولون في عيسى؟ انظر إلى التحريش، وهكذا دائماً أعداء الفطرة، ينظرون إلى نقاط الضعف، فسألهم: (ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقال: يقول: هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وقرأ عليه شيئاً من سورة مريم.
فما كان من هذا الملك العادل إلا أن أهوى إلى الأرض وأخذ قشة صغيرة، وقال: والله! ما زاد صاحبكم على ما جاء به الناموس من عند الله ولا مثل هذه) ، ثم قال كلمته التي هزت التاج فوق رأسه: (لولا ما أنا فيه من الملك، واستطعت أن أصل إليه لغسلت التراب عن قدميه) ! هكذا يعلن الملك في بلاطه: لو استطاع الوصول إلى رسول الله لكان خادماً يغسل عن قدميه التراب، ثم قال: (اذهبوا فلن يصيبكم أحد) ، وأعلن في مملكته أنهم يحلون حيث شاءوا، ولا يعترضهم أحد بشيء، وقال: ردوا الهدايا على عمرو وصاحبه.
وهنا تظهر نبوءة الرسول: (إن بالحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم أحد بجواره) ، وله قصة طويلة في أخذ الملك منه ورجوعه إليه مرة أخرى.(53/12)
رد عمر بن عبد العزيز للمظالم
لما تولى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الخلافة ما ترك شيئاً اسمه ظلم في بيت المال إلا ورده على أهله، من هذا العمل الخيّر تزدهر الحياة في زمن عمر خلال سنتين أصلح فيها ما أفسد من كان قبله.
ويعم الله الأرض بالخير، ويرسل عامله إلى إفريقيا لتفريق الزكاة، فيوزع من الزكاة ما يغني الفقراء، ويقول العامل: بقي عندي مال من الزكاة، ماذا أفعل به؟ فيقول: انظر هل من مدين فاقض دينه؟ فيبعث إليه أنه بقي عندي، فيقول: انظر هل من غريب فأرسله إلى بلده، يقول: بقي عندي، فيقول: انظر هل من أعزب فزوجه! هكذا كان بيت المال وفيراً بالمال إلى حد أن يسد حاجة الأفراد والجماعات بفضل الله، ثم بإقامة العدل ورد المظالم.
ثم من بعد عمر بن عبد العزيز وبعد الدولة الأموية وأوائل العصر العباسي وأواخر العصر الأموي كثر الظلم من العمال، فأنشأ ديوان المظالم أو قاضي المظالم؛ لينظر في ظلم العمال للرعية.(53/13)
نصرة الله للمظلوم ولو كان كافراً
الحديث من أول الأمر ومن أول خطوات التشريع يعلن بأن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً، ويأتي الحديث يبين لنا أن يوم القيامة يقتص الله للمظلوم من الظالم حتى من الشاة القرناء للشاة الجلحاء؛ فإذا انتطح شاتان إحداهما قرناء والأخرى لا قرون لها، فيوم القيامة ينتصف الله للشاة التي لا قرون لها من تلك التي اعتدت عليها بقرونها.
وإذا كان شأن الظلم أو مكانته بهذه النسبة، فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان يبعث عماله كان يحذرهم من ظلم الناس؛ لأن أكثر ما يكون الظلم من صاحب السلطة أو الجاه أو القوة، فحينما بعث معاذاً إلى اليمن قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله كتب عليهم خمس صلوات - ثم لما بين له أركان الإسلام قال-: وإياك وكرائم أموالهم) .
و (إياك) كلمة تحذير، أي: تجنب كرائم الأموال ولا تأخذها في الزكاة، ولذا لما رأى عمر رضي الله تعالى عنه شاة حافلاً قال: (ما هذه؟ قالوا: من شاة الصدقة، قال: ما أعطى هذه قوم بطيب نفس) لأنها حليبهم؛ ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فإذا كان العاقل ولو كان قوياً ذا جاه أو سلطان.
وجاء في الحديث عن أبي مسعود رضي الله تعالى عنه: أنه كان له غلام فضربه، فسمع صوتاً من ورائه يقول: (اعلم أبا مسعود! لله أقدر عليك منك على هذا العبد، قال: فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: هو حر لوجه الله يا رسول الله؛ قال: لو لم تفعل للفتحتك النار) ، ولذا جاء في الحديث أن المولى سبحانه يقول في الحديث القدسي أيضاً: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) ، وجاء في بعض رواياته: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً علم أن له رباً فدعاه) فالكافر حينما يلجأ إلى الله في حالة الشدة يكون مؤمناً بالله، وفي تلك اللحظة يكون لاجئاً إليه.
يقال عن بعض السلف: إن شخصاً كان يصيح ويقول: قلبي ضائع عني -من شدة خوفه من الله- وبينما يمشي في الطريق إذا بطفل صغير وامرأة تدفعه من البيت وتصك الباب في وجهه، فأشفقت على هذا الطفل، فإذا به يقول: يا أماه طردتيني وأوصدت الباب دوني؛ فمن يأويني ويفتح لي بابه، فإذا بالأم تسمع هذا القول فتفتح الباب وتحتضن ولدها، فيرجع وهو يقول: وجدت قلبي وجدت قلبي، إذا كانت المرأة تستجيب للطفل الصغير حينما لجأ إليها؛ فالمولى أرحم وأرأف.
وهذا كما جاء في الحديث: (إن الله أرحم بعباده من الأم بطفلها) ، لما جاءت امرأة من السبي تمشي وتتلفت، حتى إذا وجدت طفلاً أخذته فضمته إلى صدرها وأرضعته، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار، قالوا: لا، قال: لله أشد رحمة بعباده من هذه بطفلها) ، ويأتي في الحديث: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل ضلت عليه راحلته عليها زاده وهو في فلاة من الأرض حتى يئس منها وأيقن بالموت، فجاء إلى ظل شجرة واستلقى ينتظر الموت، فأغمض عينه، ثم أفاق فإذا براحلته على رأسه، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك.
أخطأ من شدة الفرح) أي: الله سبحانه وتعالى أشد فرحاً بتوبة العبد من صاحب هذه الراحلة، فإذا كان كافراً معانداً لله لكن عند الشدة رجع إلى الله، فإن الله يرحمه ويستجيب له.
أنت في شخصك على ما فيك من نقص وضعف لو كان لك خصم معاند ومؤذ فألمّت به نازلة، فجاءك في جنح الليل يطرق الباب، فإذا به خصمك! فتقول: ما شأنك؟ قال: جئتك لاجئاً.
فهل تطرده وتقفل الباب أمامه، أم ترحب به؟ لا شك أنك ترحب به، وأنت بشر، وفيك من النقص ما فيك، ولكنك تغتفر لعدوك إذا لجأ إليك عند الشدة، فما بالك بأرحم الراحمين! إذاً: ليتق الظالم ظلمه في الدنيا والآخرة: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) ، ولو أننا جئنا إلى قضية اجتماعية وكل إنسان -لا أقول: كل مسلم- كل رجل أو امرأة مسلم أو كافر تجنب الظلم وألغي الظلم من الوجود وحل محله العدل، كيف نتصور هذا المجتمع؟ عمر رضي الله تعالى عنه حينما جاء أبو بكر وقال له: يا عمر! أريد أن تساعدني وتحمل عني بعض المسئوليات، قال له: ماذا تريد؟ قال: تول عني القضاء، قال: حسناً، فأعلن أبو بكر بأن عمر هو قاضي المسلمين، وبعد سنة جاء عمر وقال: يا أبا بكر! خذ عملك عني، قال: لماذا، هل أتعبناك في القضاء؟ قال: لا، سنة كاملة وما اختصم إليّ اثنان! عرف كلٌ ما له وما عليه فلم يتعد أحد على الآخر.(53/14)
سلطات نصرة المظلوم في الإسلام
لو أن كل إنسان تجنب الظلم لاستغنينا عن الداخلية والشرطة وأغلقنا السجون، واستغنينا عن المحاكم والقضاء، واستغنينا عن السلطة التنفيذية.
وكل دولة في العالم لها سلطات ثلاث: الأولى: سلطة تشريعية لتشرع الحكم والنظام، السلطة التشريعية في الإسلام لله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى:13] ، ولا يوجد أحد له حق في التشريع مع الله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] ، فالسلطة التشريعية لله، يبلغ عنه رسوله، والعلماء ورثة الأنبياء، فهيئة الإفتاء هي النائبة فيما يأتي من نوازل جديدة فتصدر فيها فتوى على ما يوافق كتاب الله وسنة رسوله.
إذاً: السلطة التشريعية في الإسلام هي لكتاب الله وسنة رسوله.
الثانية: السلطة القضائية، وهي الميزان الذي يزن الأحداث على النظام وعلى التشريع.
الثالثة: السلطة التنفيذية: وهي التي تطبق حكم القاضي بالقوة.
وقد أجمل سبحانه وتعالى تلك السلطات الثلاث في كتابه في آية تضمنت، نظام الدولة بكاملها في قوله سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25] .
هذه مقومات الدولة: السلطة التشريعية: رسل ببينات وكتاب، فالبينات تثبت أنهم رسل، وإذا ثبتت رسالة الرسول وقلنا: نشهد أن محمداً رسول الله والتزمنا برسالته وبما جاء به، فهذا رفض لما نخضع له خلافاً لما جاء به، لأننا التزمنا بها، كما أننا لا نعبد إلا الله؛ لأنه عندما نقول: لا توجد آلهة إلا الله، فنحن ملزمون بأن نأله الله وحده، فمن عبد غير الله فقد ناقض لا إله إلا الله، وكذلك من اتبع غير رسول الله وابتدع من عنده بدعة فهو ناقض لقوله: محمد رسول الله.
إذاً: أرسلنا رسلنا بالبينات ومع الرسل الكتاب، والكتاب جاءنا من عند الله، والكتاب حجة لك أو عليك، فمن أخذ به فهو حجة له، ومن أعرض عنه فهو حجة عليه، فالكتاب للتشريع، وكما يقول الشافعي رحمه الله: (سلوني عما شئتم يا أهل مكة أجبكم عنه من كتاب الله، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ، فهم من فهم وأخطأ من أخطأ) ؛ لأن الكتاب يساير الأمة إلى يوم القيامة، وفيه تشريع الدين والدنيا، والحلال والحرام، وما تأخذ وما تترك.
هذا هو مصدر التشريع؛ أعني كتاب الله، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو مرجع الناس في حياته، ثم من بعده خلفاؤه الراشدون، ومن بعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء.
إذاً: السلطة التشريعية في الكتاب والسنة والعلماء أمناء على ذلك.
وقوله: {وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] ليس المقصود الميزان ذا الكفتين أو الميزان الإلكتروني، إذ كل ما يفرق بين طرفين فهو ميزان، فالقاضي بيده ميزان العدالة، والأستاذ بيده ميزان الدرجات للطلاب، والأب بيده ميزان الأبوة بين أولاده، والأم بيدها ميزان البيت في رعايته: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) ، والحكمان اللذان يبعثهما الحاكم للحكم بين الزوجين ميزان، وكل من تدخل بين اثنين فهو ميزان.
بالقسط: والقسط منتهى العدالة، وقبضة هذا الميزان بيد القضاء، والعدالة كما قالوا: من العدلة وهي شق الحمل، فإذا كانت العدلتان من حمل البعير متوازيتين فالبعير يمشي معتدلاً، والكفتان متساويتان، وإذا ثقلت إحدى العدلتين مالت الكفة ومال الحمل وعجز البعير عن أن يمشي، فالعدالة هي الميزان في القضاء، فإذا جاء إنسان وأخذ مال إنسان، عرض على المحكمة وعلى الميزان: من أي أنواع المال أخذ هذا؟ وهل هو بحق أو بغير حق؟ وسرقة أم نهب أم سلب أم اغتصاب أم خيانة أمانة؟ ويحكم فيه الميزان ويبين: أنت سارق أو لست بسارق، أنت ظالم أو لست بظالم.
والسلطة التنفيذية تأتي بالقوة فتسجن وتضرب وتنفذ الحكم.
إذاً: لو أن العالم أخذ بهذا الحديث: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظّالموا) ، ووقفوا عند ذلك لانتهت المشكلة، الكتاب قائم، والميزان لا يحتاج أن يوزن فيه؛ لأنه ليست هناك مظالم وليست هناك اعتداءات، وكلٌ قد وقف عند حده، ولصار حال الناس كما تولى القضاء عمر سنة فلم يتخاصم إليه اثنان.
ولذا جاء أعرابي إلى علي رضي الله تعالى عنه فقال: (ما بالك وبال أصحابك من قبلك، اختلف الناس عليك ولم يختلفوا على من كان قبلك؟ قال: لأنهم كانوا يتأمرون على أمثالي وأنا أتأمر على أمثالك) ، كان أبو بكر وعمر يتأمرون على علي وعثمان وطلحة والزبير وفلان وفلان من سادات الناس، ممن لا يخطئون الخطأ الفاحش ولا يعتدون على غيرهم؛ لكن عندما جاء الدور على علي كان هناك كثير من أطراف الناس وأراذلهم ليحكم فيهم.
إذاً: حينما يقف كل واحد من الناس عند حده يستقر الأمن وتحصل الطمأنينة، ويتوفر الخير، ويرتفع النزاع في كل جانب من الجوانب، وبهذا تكون هذه الجملة من الحديث القدسي وحدها كافية لإصلاح العالم كله.(53/15)
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [2](54/1)
طلب الهداية من الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم) .
الحديث القدسي يحصل فيه تقديم وتأخير، لكن على ما روي لنا بهذا السياق، فنأخذ به؛ فإنه بعد ما حذر من الظلم يأتي إلى الهداية والضلالة كأنه يقول: ما الظلم إلا كما يقال: (يا عبادي كلكم ضال) ، فلا تظالموا، إذاً: لا يظلم إلا ضال، وكأن الحديث يشعر بأنه لا يظلم أحد أحداً إلا كان الظالم ضالاً.(54/2)
معنى الضلال
يقول أهل اللغة: الضلال: الضياع والذهاب، ولذا يقال: ضل فلان الطريق.
أي: ذهب عنها وضاع عنها، وضل الماء في الأرض، أي: تلاشى وذهب.
(كلكم ضال) أي: ذاهب عن الطريق السوي، وقد يكون الضلال بمعنى النسيان كما قال الله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282] والنسيان فيه تضييع الحق؛ لأنه لو تذكر الذي يريد أن يتكلم به ما ضاع الحق.
وهنا يبحث العلماء في سورة الضحى عند قوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:6-7] ، قالوا: معنى (ضالاً) أي: عن العلم الذي أوحي إليك كما قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] ، فما كان يعلم بالوحي ولا بالقرآن فعلمه الله، أو كما قالوا: ضلال حسي، حينما كان صغيراً خرج إلى الشعب وضاع فلهم يهتد إلى طريق الرجوع إلى البيت، فأرسل الله سبحانه وتعالى له من يهديه وجاء به إلى عمه.
والمراد بالضلال هنا: الانحراف عن الصراط المستقيم.
وهنا
السؤال
قوله: (كلكم ضال) ، وفي الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة) ، فهل هناك تعارض بينهما؟ بعض العلماء يقول: هناك تعارض؛ لأننا إذا رجعنا إلى الحديث وجدنا فيه: (فأبواه) ، فهل بقي على الفطرة أم أن أبويه لهما دخل في هذا؟ أبواه لهما دخل في هذا؛ فهو في أصل المولد على الفطرة، ولو بقي على تلك الفطرة لنشأ على الهداية، ولكن جاءت العوامل فغيرت، فإن لم يكن أبواه فالمجتمع، فكل ذلك حصيلته أن ينحرف عن الطريق السوي، ويضل بسبب التيار الجديد، فالضلال طارئ عليه، وحينما يخاطب الإنسان في كبره فإنما يخاطب على وضعه الذي هو عليه وليس له أن يحتج بما كان عليه منذ الصغر، وليس لإنسان سبيل إلى الهداية إلا بأمر الله.(54/3)
أنواع الهداية
يبحث العلماء في الضلال والهداية على أن الهداية قسمان: - هداية بيان وإرشاد.
- وهداية توفيق إلى الخير.
أما هداية البيان والإرشاد: فهي التي أرسل بها الرسل، وبينتها للأمم كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: أرسلنا لهم الرسل وبيّنا لهم الطريق ولكن: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] .
وأما هداية التوفيق ففي قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] ، أي: هداية توفيق، لأنها خاصة بالله تعالى.
وقد جاء في الآية الأخرى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، فهناك قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، وهنا يقول: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، فقالوا: الهداية المثبتة هي الدلالة على الصراط المستقيم، وليس كل من دُلَّ على الصراط يسلكه.
وكما جاء في الحديث: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) ، وكلاهما قرشي، وكلاهما يفهم العربية، وكلاهما في الفهم سواء، وجاء القرآن وكلاهما يسمع ويرى، لكن التوفيق بيد الله.
إذاً: كلكم ضال سواء عن الصراط أو عن الطريق حتى يأتي الهدى والبيان من عند الله، أو: كلكم ضال مختوم عليه بعيد عن الحق حتى يوفقه الله لذلك، فمن وجد نفسه على طريق الهدى فليحمد الله؛ لأن هذا منحة من الله سبحانه وتعالى، ويكفي أن يقال لسيد الخلق صاحب الرسالة: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي: يخلق التوفيق في قلب من شاء هدايته، إذاً: من وجد نفسه على الصراط السوي فليعلم بأن ذلك أكبر نعمة أنعمها الله عليه.
ولنعلم أيها الأخوة أن بعض السلف كانوا يقولون: ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها: وجوده من العدم نعمة الإسلام والهداية، ودخول الجنة: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) .
فمن وجد نفسه على طريق سوي فليحمد الله على تلك النعمة وهي النعمة الكبرى؛ لأن وجوده بدون هداية كان عدمه أولى منه: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، فإذا وجد في هذه الدنيا وجاءته الهداية فإن مآله إلى الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى.
والحديث عن الهداية يبين لنا أنه ما جاء بعد موضوع الظلم إلا وهو أعظم موضوع في حياة الإنسان، وأغلى وأعز ما يحصل عليه البشر، وهو نعمة عظمى بعد نعمة الوجود من العدم.
فهنا يبين الله سبب الظلم ألا وهو الضلال الشديد عن الحق، والغواية عن الرشد والرشاد، فيقول سبحانه: (يا عبادي!) وما ألطفها من عبارة، وما أرحمها من جملة تفيض بالحنان وباللطف وبالعطف من الخالق على المخلوق.
ولو تأملنا أيها الإخوة في هذا النداء لوجدنا أن المولى سبحانه لا يخاطب الخلق (بعبادي) إلا في مواضع الرحمة والتكريم كقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] .
ويقول العلماء: لقد سمى الله جميع الرسل بأسمائهم في كتاب الله، أما النبي صلى الله عليه وسلم فيثني عليه بصفة العبودية بعد ذكره، وذكر اسمه إنما جاء في مقام إثبات الرسالة وشهادة المولى له: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ، وأما في مواطن التكريم والتعظيم والتشريف فيقول مثلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1] ، فقد كانت رحلة الإسراء فريدة لم يسبقه إليها أحد صلى الله عليه وسلم ولن يلحقه فيها أحد، فقال: ((سُبْحَانَ)) فقدم المولى تنزيه نفسه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ؛ لأنه ليس أمراً عادياً، فهو يُبين أن القادر على ذلك هو الله.
ومن ذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] ، وفي إنزال القرآن الكريم تشريف وتكريم واصطفاء من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا كل فقرة من هذا الحديث فيها إنعام وعطف ورحمة وإكرام من الله، فيأتي النداء: (يا عبادي!) .
من رحمة الله أن حرم عليهم الظلم ونهاهم عنه، ثم قال: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) إذ لا يملك الهداية للعبد إلا الله، وقد أشرنا بأن الهداية تنقسم إلى قسمين: - هداية بيان وإيضاح ودلالة وإرشاد، وهي التي جاءت بها الرسل.
-هداية توفيق وسداد، وهي التي تكون لله سبحانه وحده.
وجاء في حقه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، أي: الدلالة والإرشاد والإيضاح، وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] ، أي: بينّا لهم طريق الصلاح وطريق الرشاد لكنهم أعرضوا عن ذلك.
وأما الهداية هنا في الحديث فمعناها التوفيق.
ولما ألح صلى الله عليه وسلم وأخذته عاطفة القرابة إلى عمه يقول له سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] .(54/4)
كيفية سؤال الهداية من الله تعالى
يأتي القرآن الكريم من أوله إلى آخره وينبني على هذا المطلب، وقد أشرنا مراراً بأن الله سبحانه تعبدنا بطلب الهداية منه، ففي سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلوات الخمس وهي سبعة عشر ركعة في كل يوم من غير النوافل، يقرأ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .
ومن إعجاز القرآن كما سمعنا من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وعلى علماء المسلمين جميعاً يقول: المولى علّمنا كيف نسأل عظيم المسألة؛ فنقدم بين يدي المسألة تعظيم الله سبحانه.
فتبدأ بحمده وتنزيهه وتمجيده، وإثبات صفات الكمال والجلال لله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، فتعترف وتقر بربوبيته سبحانه للعالمين جميعاً عالم السماء فيما ندرك وما لا ندرك، وعالم الأرض فيما نحصي وما لا نحصي، وما بين ذلك من إنس وجن وملائكة وحيوان ونبات وكل مخلوق، فكل عالم من عوالم الله، فالله هو ربه.
وبعد هذا التمجيد والتعظيم يظهر المولى سبحانه بأن ربوبيته للعالمين ربوبية رحمة وليست قهراً وغلبة، مع أن السلطان له وحده: {رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] ، أي: رباهم على الرحمة: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ويقول العلماء: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة؛ لأن رحيم صيغة مبالغة، والرحمة في الآخرة أوسع؛ لأنها دار البقاء والدوام وبها الجنة.
وفي الحديث: أن الله قسم الرحمة مائة قسم، وأنزل واحدة إلى الأرض، وادخر تسعاً وتسعين يرحم بها العباد يوم القيامة، ومن تلك الرحمة الواحدة من المائة ترحم الدابة ولدها، تريد أن تضع حافرها عليه فترفعه رحمة به.
ثم تأتي من جانب الآخرة والمآل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ففي الدنيا رب العالمين ورحمن رحيم، وفي الآخرة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، فملك العالم في الدنيا قد يهبه لمن يشاء، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ولكن في الآخرة يأتي موقف العظمة والتجلي: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ، فهو مالك يوم الدين، وليس لأحد معه ملك ولا سلطة.
ثم تأتي بعد هذا وذاك وقد أيقنت بأنك في الدنيا تحت ربوبيته وفي الآخرة في نطاق ملكه، ولا مفر لك.
إذاً: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] على ما يرضيك، وعلى أي نهج تكون العبادة؟ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ويُبين سبحانه رفقة هذا الصراط: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] ، أين هذا الصراط المستقيم الذي طلبت الهداية إليه؟ أشرنا لذلك سابقاً عند قوله صلى الله عليه وسلم: (والقرآن حجة لك أو عليك) بأن الله قسّم الناس أمام هذا القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام: - قسم آمن بالله وباليوم الآخر.
- وقسم كفر بالله وبرسوله وباليوم الآخر.
- وقسم مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ولذا جاء بعد {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، فإذا كنت تسأل الهداية إلى الصراط المستقيم، فخذ هذا الكتاب فإن فيه هدايتك، وكما يقول بعض العلماء: وبالتتبع للقرآن كله فإنه تفصيل وبيان لمجملات الفاتحة، ولذا سميت أم الكتاب، وبالنظر إلى سورة البقرة ترى أن جميع أبواب الفقه الإسلامي وجميع التشريعات لها حصة في سورة البقرة.
وعلى سبيل الإجمال أو التفصيل تأتي سورة آل عمران وتأخذ من سورة البقرة، فسورة البقرة بدأت بذكر خلق العالم في بداية خلق آدم واستخلافه في الأرض وكلام الملائكة وموقف إبليس من ذلك، وبعد ذلك ذكرت بني إسرائيل، وتأتي سورة آل عمران فتكمل تلك القصة، وتأتي النساء والمائدة بالتشريع في الحلال والحرام، وهكذا إلى أن تنتهي من القرآن الكريم، فتجد في نهاية المصحف بين يديك سورتي المعوذتين، الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1-5] .
وتجد في سورة الناس: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1-6] .
وبالنظر مرة أخرى إلى مضمون السورتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، فالمستعاذ به: رب الفلق، والمستعاذ منه: {شَرِّ مَا خَلَقَ} على سبيل العموم، ثم يرجع إلى التفصيل {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَب} ، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَد} ، {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد} تلك الشرور الأربعة كلها جاء أمامها {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، صفة الربوبية جاءت قبل ذلك الشرور الأربعة.
بينما سورة الناس وهي خاتمة المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} فاشتملت على ثلاث صفات لله سبحانه، والتي تستعيذ بها كلها {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} .
انظر إلى هذا الإعجاز! ثلاث صفات لله سبحانه تقف أمام شر واحد ألا وهو: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} ؛ لأن هذا هو الذي أفسد الناس، وهو الذي يُفسد عليهم عقائدهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، ولا يوجد شر بين الخليقة إلا من جهته.
وإذا نظرنا إلى سورة الفاتحة وسورة الناس فكأننا نجد حلقة التقى طرفاها، وأصبح القرآن حلقة لا انفصام فيها؛ وتلك هي صفات العظمة في سورة الناس {رَبِّ النَّاسِ} {مَلِكِ النَّاسِ} {إِلَهِ النَّاسِ} .
فـ (إله الناس) هي معنى (الله) وهي الألوهية، و (رب العالمين) هي معنى (رب الناس) وفيها الربوبية، و (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) هي معنى (ملك الناس) وفيها المُلك، فكأنك حينما تنتهي من المصحف ترتبط بأوله مرة أخرى.
وهكذا أيها الإخوة! يتبين لك أن القرآن بعد أن أعطانا صراطاً مستقيماً يوقفنا في نهاية الطريق ويقول: قف واعرف عدوك، واحذر من الشيطان، واحذر من (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) ، فإذا وقع شيء للخلق فإن منشأه من هذا العدو (الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ) ، فهو الذي يحرف الناس عن الصراط السوي، كما بين صلى الله عليه وسلم حينما خط خطاً مستقيماً، ثم خط على جوانبه خطوطاً وقال: (هذا صراط الله المستقيم -وأشار إلى ذلك الخط- وتلك خطوط على جوانبه، على رأس كل طريق منها شيطان يدعو إليه) .(54/5)
ضلال العرب قبل الإسلام
(يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته) .
لو جئنا إلى تحقيق تلك الضلالة في الخلق ابتداءً قبل أن يصطفي الله سبحانه رسوله بإنزال الوحي عليه، وقد اصطفاه قبل أن يولد، لكن أعني قبل أن تنزل الرسالة، وقبل أن يأتي الوحي، وقبل أن يقوم داعياً إلى الله، فكيف كانت حالة العرب؟ لقد بيّن ذلك جعفر رضي الله تعالى عنه بين يدي النجاشي: كنا أمة يأكل قوينا ضعيفنا، وذكر صفات العرب التي نعرفها، إلى قتل أولادهم) ، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9] .
عمر رضي الله تعالى عنه فيما يحكى عنه يقول: (كنت أصنع لي إلهاً من تمر يحرسني إلى الصباح، فإذا أصبحت معافى أخذته وأكلته) عمر هذا يأتي فيما بعد بعقلية الإسلام ويقف أمام الحجر ويقول: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) .
لو تتبعنا ما كانوا عليه في الجاهلية في عادات الزواج والبيع والشراء من الربا وميراث المرأة وهضمها حقها إلى غير ذلك، لعرفنا أين كانت العقول، فإنهم كانوا في ضلال، فأراد الله بالبشر خيراً، وأرسل نبيه وصفيه صلى الله عليه وسلم، فمن أراد له السعادة هداه وتقبل تلك الدعوة، وقد أشرنا إلى إسلام عمر رضي الله تعالى عنه.
والفرق بين {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] ، وبين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] .
وهنا: (كلكم ضال إلا من هديته) ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ، ويعلم الحسن بن علي أن يقول في دعاء القنوت: (اللهم اهدنا في من هديت) ؛ لأن الهداية إنما هي من الله سبحانه وتعالى، وإذا كانت القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن سبحانه يقلبها كيف شاء، فالهداية والتوفيق من عند الله، يوفق من شاء إليها، ويمنح من شاء الهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه.
وإذا نظرنا إلى ما حولنا من عقول البشر اليوم، وكلنا يعلم تطور الحياة والفكر الغربي بالذات وما وصلوا إليه من تفتيت الذرة وغزو الفضاء، وما توصلوا إليه مما يسمى بالتكنولوجيا في العلوم الحديثة، فأين تلك العقول عن عبادة الله وحده؟ ألم ينظروا في ملكوت السماء والأرض؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} [يوسف:109] سبحان الله! إذاً: هداية الخلق منحة من الخالق سبحانه وتعالى، وعلى هذا ينبغي للمسلم في كل صباح ومساء أن يلجأ إلى الله ويسأله الهداية والتوفيق والثبات على تلك الهداية، كما جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه عند قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ، قال الصديق رضي الله تعالى عنه: (آمنوا واستقاموا على الإيمان، واستمروا على ذلك حتى ماتوا عليه) ، ويقول الصديق أيضاً: (والله لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله) .
نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يمنحنا من فضله وكرمه الهداية والتوفيق لسلوك الصراط المستقيم الذي أمر به.(54/6)
طلب الإطعام من الله تعالى
ثم قال: (يا عبادي!) وكلما تكرر هذا النداء فإنه يشعر بتجدد الرحمة والعاطفة من الله.
قال: (كلكم جائع إلا من أطعمته) .
يمكن أن تقول: أنا شبعان، والخزائن والمستودعات مليئة، فيقال لك: والله إنك جئت إلى الدنيا جائعاً عرياناً، فمن الذي أطعمك؟ الله، من الذي كساك؟ الله, أول ما تأتي إلى الدنيا؛ لو وضعت فوق جبل من الخبز أو في نهر من العسل ما استطعت أن تتناول منه ذرة، ولكنه سبحانه يدر لك من ثدي أمك الحليب، ويستخلص لك من بين الدم واللحم هذا الطعام الذي يشبعك، والذي فيه كل عناصر حياتك، أجمع الجميع أنه لا غنى للطفل عن حليب أمه، لأن كل ما يحتاجه الطفل من جوانب الغذاء يجعلها الله سبحانه وتعالى في هذا الثدي، فمن الذي در هذا الدر لك؟ ثم بعد ذلك إذا نما الجسم ولم يعد اللبن بخفته يكفي لنموه وكان لابد من قضم الطعام؛ أنبت لك الأسنان وتناولت الطعام حتى أشبعك، ثم كل ما في مستودعاتك ومخازن العالم من أين جئت بها؟ {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24] ينظر المصدر والمبدأ {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:25-32] .
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: انظر إلى هذا السياق: {شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} ، لو جئت بأصبعك لتغرسه في الأرض ما استطعت، ولكن الله يشق الأرض عن ذاك النبت اللين الضعيف الرهيف.
هل كنت تشقق الأرض عن كل النباتات التي تزرعها؟ لا والله، {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة:63-64] (أأنتم) : استفهام تعجب، أي: أما تستحون من أنفسكم! {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:64] .
هب أن النبات نبت، فمن أين لك القدرة على أن تخرج الثمرة من هذا الزرع؟ عود القمح نبت، أين القدرة بغير الله سبحانه أن يحمل هذا العود تلك السنبلة وتخرج من خلاله، وتأتي بتلك الأبراج في داخلها، وكل حبة لها برج مستقل؟ طلعت السنبلة، من الذي أجرى فيها الماء ثم عقد الحبة؟ من الذي لقحها؟ ولذا قال الله: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:65-67] .
ولذا يقول الوالد رحمة الله تعالى علينا وعليه: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس:24-26] ، من الذي يصب الماء من علو؟ أعندك خزانات هناك في يدك محبسها؟ لا والله، ومن الذي يسوقه إلى بلد ميت فيحييه، وانظر إلى قوله: {صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} يعني: برفق، ولو تدفق مرة واحدة لهلك العالم، لكنه ينزل قطرات بسيطة على رأسك، وبعد ذلك تلتقطه الأرض.
ثم انشقت الأرض عن الحب: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا} سبحان الله! تربة واحدة وماء واحد والنبات مختلف يسقى بماء واحد، ولكن هل يستوي في الأكل؟ لا، فمنه متشابه وغير متشابه، العنبة بجانب الليمونة، والبرتقالة بجانب النخلة، الحنظلة تنبت على شاطئ الوادي، فمن الذي يُغذي هذا وذاك؟ ولو أخذت ورقة العنب ما وجدت فيها من الحلاوة شيئاً، تأتي إلى عود الفلفل وبجانبه الباذنجان؛ هذا أحمر مجوف وفيه النار، وهذا أسود بارد لا شيء فيه، وبجانبه الطماطم فيها خزان من الماء الأحمر، وكله في تربة واحدة.
إذاً: كلكم كما قال سبحانه: (كلكم جائع إلا من أطعمته) ، حينما يمسك الله الماء ماذا كانت نتائج بعض الدول التي تشتكي القحط أو الجدب؟ تهلك الأموال والأنفس.
وقد جاء أعرابي والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال: (يا رسول الله! سل الله أن يسقينا، هلكت البهائم وتقطعت الطرق وجف الشجر.
إلى آخره، فيرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ويستسقي ربه وهو على المنبر، فيقول راوي الحديث: فتنشأ سحابة كالترس -الترس التي في يد الفارس حينما يقاتل- وليس بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، حتى إذا توسطت كبد السماء انتشرت ثم أمطرت إلى يوم الجمعة الثانية، ثم يدخل رجل من ذاك الباب هو ذاك الرجل أو غيره، فيقول: يا رسول الله! ادع الله أن يمسكها عنا، هلكت البهائم وتقطعت الطرق، فيرفع صلى الله عليه وسلم يديه ويسأل ربه ويقول: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام وعلى منابت الشجر وبطون الأودية) الآكام: جمع أكمة، يريد: على الجبال التي هنا وهناك، وعلى الوديان ومنابت الشجر.
فيقول الراوي: فخرجنا نمشي في الشمس؛ هذا لمن حدث؟! أولئك أصحاب الذرة ما رأوا هذا الشيء، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله، ما داموا قد ختم الله على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة كيف ينظرون إلى آيات الله؟ إذاً: الهداية من الله، ولذا أيها الإخوة! فالواجب على العبد إذا رأى إنساناً هذا حاله أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! انحرف عن الجادة وانزلقت به قدمه، ولا يقف موقف الشامت؛ وليعلم أن الهداية بيد الله، وما الفرق بينك وبينه عند الله؟ فليس لك سابقة نسب عند ربك، وليس هو بعيداً عن مخلوقات ربه، والله يبتلي هذا ويمتحن ذاك، ويمن على هذا ويمنع ذاك.
ويروون عن ابن مسعود قوله: (والله إني لأخشى إن سخرت من كلب أن يمسخني الله كلباً) ؛ فإذا وجد العاقل إنساناً مبتلى ببلاء، فأولاً وقبل كل شيء يحمد الله أن عافاه من هذا الابتلاء؛ لأنه قادر أن يعافيه ويبتليك، فإذا حمد الله على العافية فليسأل الله السلامة لهذا المبتلى.
وفي نظري: أن مثل المستقيم والمنحرف كشخص معافى مبصر يمشي على الطريق، فوجد حفرة على جانب الطريق وشخصاً قد سقط فيها، هل يا ترى من العقل ومن الإخوة الإنسانية -لا أقول الإسلام والإيمان- أن تراه متردياً في الحفرة وتأتي بالتراب تهيله عليه، أم تمد له يدك وتحاول أن تنقذه من تلك الورطة؟ من حقه عليك أن تنقذه، وتعمل ما في وسعك لذلك.
إذاً: على الداعية إلى الله والمسلم العادي أن يحمد الله سبحانه وتعالى أن عافاه مما ابتلى به غيره، وأن يسأل لغيره المعافاة مما ابتلي به.
(كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم) ولذا فالعبد يحمد الله وحده على فضل الهداية، وأيضاً: من حقه علينا صلى الله عليه وسلم عرفاناً بالجميل، ومقابلةً بالإحسان: أنه كلما جاء ذكر اسمه أن نصلي ونسلم عليه، اللهم صل وسلم وبارك عليه.
لو جئنا بخطوة أمامية أيضاً: صب الماء، ونبت النبات، وجاءت الثمرة، وأودعت في المستودع، ثم جاءت إلى المخبز، ثم إلى الطهي، وقدمت بين يديك، من الذي يطعمك هذا الطعام الذي على السفرة أمامك؟ من الذي يُقدرك على أن تبتلعها إلى معدتك؟ فكم من غني لا يستطيع أن يأكل عشر ما يأكل أحد الخدم عنده! أعتقد أن البعض الذين يقرءون الدوريات السارية عن ملك الحديد فورد، الذي كان يعيش بربع المعدة، وكان يرى العمال، فمنهم الذي يأكل قرصين وثلاثة أقراص، فكتب للعالم كله: أي طبيب يجعلني أستطيع أن آكل نصف قرص في وقت واحد فله نصف مالي.
وذلك بسبب قرحة في المعدة، وقصة معدته أنه ما بقي له منها إلا شيء بسيط، فيأخذ أشياء على فترات، ماله بين يديه ولكن لم يطعمه ربه، (كل جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم) .(54/7)
طلب الكساء من الله تعالى
قال صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته) .
وسبق أن أشرنا إلى أن الإنسان يأتي إلى الدنيا عرياناً، والمولى سبحانه هو الذي يهيئ له الكساء قبل أن يأتي، عاطفة الأمومة تجعل الأم في أواخر الحمل تذهب وتأتي بالأقمشة، وتخيط الثياب، وتجعلها صالحة للبنت وللولد، وللمولود الذي سيأتي، والمولى سبحانه هو الذي عطف قلب الأم على أن تهيئ لك هذا اللباس، ثم بعد ذلك كبرت ونشأت تطلب الكساء، ووالله لن تجد من الكساء إلا ما أعطاك الله إياه وكساك، ولا حاجة أن نميل إلى الكساء المعنوي في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] ؛ لأن هذا داخل في باب الهداية.
وأشرنا سابقاً بأن العلماء يقولون: ثلاثة نعم لا كسب للعبد فيها: النعمة الأولى: إيجادك من العدم.
هل أنت عملت شيئاً حتى جئت إلى الدنيا؟ لا والله، حتى الأبوان ما عملا شيئاً، وإنما قضيا وطراً لهما، وما وراء ذلك فليس في استطاعتهما؛ لأن المولى يتمدح ويقول: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49-50] فالولد هبة من الله، فجئت بفضل من الله.
النعمة الثانية: نعمة الإسلام؛ قالوا: حينما يأتي الولد من أبوين، هل كان له اختيار في نفسه أن يأتي من أب اسمه علي أو حسن أو أحمد، وأم اسمها فاطمة أو عائشة أو زينب أو سعاد؟ هل اخترت الأبوين اللذين تأتي منهما؟ ليس له اختيار، لكن الله منحه أبوة أبوين مسلمين فنشأ على الإسلام، وولد على الفطرة وبقي عليها.
النعمة الثالثة: دخول الجنة؛ فإذا أنعم الله على العبد بالهداية، كما جاء في أول نداء بعد تحريم الظلم، ثم رزقك وكساك، وأعطاك مقومات الحياة الدنيا وقال لك: إنها من الله، تلك النعم العظمى ماذا تستوجب عليك؟ تستوجب شكر المُنعم وأوائل شكر المنعم، طاعته وعبادته وإفراده بالعبودية أو بالألوهية، فلا تصرف شيئاً من العبادة لغيره؛ لأنه الذي أوجدك من العدم، والذي أطعمك وأنت جائع، وكساك وأنت عار، وهداك وأنت ضال، ليس لمخلوق حق في هذه الأمور الثلاثة.(54/8)
طلب المغفرة من الله تعالى
من المنطق السليم أنه ما دام الله هو ربك وخالقك ورازقك ومحييك ومميتك وهاديك، فلا ينبغي أن تصرف شيئاً من العبادات لغيره لأنه أحق بها، ولكن قد يقصر العبد في شكر النعمة ولذلك جاء في الحديث:: (إنكم تخطئون بالليل والنهار) ، أي: فلا أحد معصوم، ثم يقول: (وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) ، هل هناك تودد أكثر من هذا؟! وهل هناك تقرب أكثر من هذا يتقرب به المولى لعبيده؟ والخالق لخلقه؟ وخطأ البشر بالليل والنهار أمر طبيعي؛ لأن الإنسان من طبيعته الخطأ وليس من طبيعته العصمة، فالملائكة وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أما الإنسان فقد ركبت فيه عوامل طاعة والمعصية {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، فالطريقان ميسران لك.
فإذا كان الأمر كذلك والخطأ واقع، فقد فتح لك ربك باب الاستغفار وقبله منك ودعاك إليه، وقد جاء في الحديث: (لولا أنكم تذنبون وتستغفرون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم) ، وجاء في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الأخير ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) ويبسط الله يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل؛ فأي رحمة أعظم من هذا أيها الإخوة؟! وأي رحمة أوسع من رحمة الله لخلقه؟! في وقت المعصية، وفي حالة العصيان يدعوهم للتوبة وللاستغفار، اللهم لا حول ولا قوة إلا بك.
بعد تعداد النعم عليهم من الهداية والإطعام والكساء، ينبههم سبحانه على أنهم سيقصرون، وسيقع منهم الخطأ وا لذنب، فيندبهم للاستغفار واللجوء إليه فيقول لهم: (فاستغفروني) .
استغفر كاستفعل، أي: طلب المغفرة، وسيد الاستغفار كما جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ... ) إلى آخر الدعاء، فيستغفر الإنسان ربه.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، فالرسول كان يستغفر ربه، لكن لا عن ذنب، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعصم من المعصية، ولكن رفعاً للدرجات وتعليماً للخلق، فإذا كان مع غفران الذنوب يتوب ويستغفر في اليوم مائة مرة، فمن يكون منغمساً في الذنوب فمن باب أولى أن يستغفر ويتوب في اليوم مئات المرات.(54/9)
لا يبلغ العبد نفع الله تعالى ولا ضره بصلاحه أو فساده
يأتي بعد هذا (يا عبادي!) .
بعد أن يندبهم للاستغفار هل دعاهم لمصلحة تعود عليه؟ هو المنعم عليهم بالهداية، ومن الهداية أن يستغفروا، فالاستغفار هو من هداية الله، وهو الذي أطعمهم من الجوع، وهو الذي كساهم في العري، ثم يدعوهم للاستغفار، وبعد أن يدعوهم للاستغفار يبين لهم أن ذلك ليس فيه مصلحة تعود عليه، فيقول: (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) أي: بعصيانكم وعدم استغفاركم (ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) أي: إن استجبتم واستغفرتم، وكذلك هدايتكم لن تنفعني، وعدم هدايتكم لن تضرني! إذاً: تلك التكاليف كلها لمصلحة الإنسان، وهنا يمكن أن يقف الإنسان وقفة طويلة ويناقش المعتزلة في أن العبادات والأحكام غير معللة، وأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، وأن له أن يكلف الخلق بما شاء، وأرجو من طلبة العلم أن يبحثوا ويتقصوا ذلك، مع أنه ما من أمر أو نهي موجه للخلق إلا وفيه لهم جلب نفع أو دفع ضر، فإنه لا يوجد أمر واحد في كتاب الله أو نهي واحد لا يعود على المكلف بخير.
أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة، كتب عليكم الصيام، مثلاً: الصلاة: نحن كلنا نقول إنها عبادة بدنية وحق لله تعالى، ولكن هل خلا العبد من مصلحة في الصلاة؟ الصلاة محض حق لله، ومع هذا فإن لها مردوداً كبيراً على العبد، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] وأي فائدة أعظم من تطهير المجتمع الإسلامي من الفحشاء والمنكر؟! بل قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] فهي عون على نوائب الدنيا، فتبين أن الصلاة حق لله وأن مردودها للعبد.
وكذلك الصلاة نور في الدنيا تنير البصائر، ونور في الآخرة على الصراط؛ إذاً: الصلاة وهي محض عبادة بدنية مردودها على العبد حالاً، وهل تبلغ نفعه سبحانه؟ لا والله، هي راجعة لكم أنتم.
كذلك الصيام: تجوع وتعطش، وجاء في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه من أجلي) ، فالصيام في أول تشريعه ينص على الحكمة والثمرة العاجلة، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ، وإذا حصلت التقوى للعبد، أليس كل خير جاء مع هذه التقوى؟ بلى.
أيضاً: الزكاة، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، فهي حق للمسكين والفقير في مال الغني، فلو لم تأت آيات الزكاة وتُرك الأمر لضمير الإنسان، فإنه يرى أخاه من أمه وأبيه وقد نشأ معه في بطن واحد، ولكنه عجز عن الكسب وأخوه كسب شيئاً كثيراً، فالأخوة من حيث هي لا تتركك تبيت الليلة متخماً وتوأمك خامداً جائعاً، ولا ترضى أنت بهذا، بل الحيوان لا يرضاه، فإنه إذا وجد ما يشبعه ترك الطعام لغيره، فإذاً: جاء الإسلام وجعل فيها الأجر والتطهير والتزكية والنماء.
وإذا جئت إلى الحج تؤم بيت الله، وتطوف بالكعبة، وتقف بعرفات، وترمي الجمرات، وفي هذه المناسك حكم غالية، منها: {ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] .
إذاً: (يا عبادي! أنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) ، وإنما جزاء أعمالكم عائد لكم أو عليكم.(54/10)
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3](55/1)
سعة ملك الله وجزيل عطائه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أجمعين.
أما بعد: فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نسه) .
هذا آخر الحديث، يبين لكم أن المسألة راجعة لكم أنتم.
فهنا قال أخرى: (يا عبادي!) يناديهم شفقة بهم ورحمة، لا لمصلحة يُحصلها منهم، وأي مصلحة عندهم؟! فالعبد صنعه وخلقه، طعامه من عنده، وكسوته من عنده، وهدايته ورزقه من عنده، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58] خزائنه ملأى على ما سيأتي إن شاء الله.
ينبه القاضي عياض وغيره من علماء التربية والتوجيه هنا إلى شيء مهم، وهو من نفائس الكلمات، لماذا قال: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم) ، قالوا: لأن وحدة القلب في التقى أشمل وأجمع وأعم.
وبعض العلماء يقول: من هو هذا الرجل الذي يكونون على أتقى ما يكون على قلبه وحده؟ بعضهم يقول: النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي المقابل: (على أفجر قلب رجل) قالوا: هو الشيطان، وأنه فرد من الجن؛ لأنه قال: (وإنسكم وجنكم) ومن باب المجانسة فرد من الجن يعتبر كرجل، والله تعالى أعلم بذلك.
إذاً: الطاعة لا تزيد في ملكه سبحانه، والمعصية لا تُنقص من ملكه.
ثم قال سبحانه وتعالى: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني) كلٌ بأمانيه: (فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المحيط إذا أُدخل البحر) ، هذه الصورة يقول فيها القاضي عياض: لماذا هذه الصورة التي تجمع الخلائق كلها؟ لماذا لم يُعط كل واحد مسألته على حده وانفراده؛ بل قال: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) ؟ الصعيد: الأرض المنبسطة، أي: لو أن الخلائق كلها من الإنس والجن فعلوا ذلك ما ضرني فعلهم.(55/2)
إثبات وجود الجن
والجن موجودون، ومن ينكر ذلك ينظر في الدليل، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجن وبايعهم وصرفهم الله إليه {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] ، {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:1-3] يا سبحان الله! كما قال صلى الله عليه وسلم ليلة التقى بهم: (للجن أحسن جواباً منكم، وكلما قلت: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب) ، فكأنه يقول لهم: أنتم ما أجبتم، فكأن الجن كانوا أفقه وأحسن جواباً منكم.
ولما جاء مال البحرين وجاء الجني في صورة إنسان يسرق قبض عليه أبو هريرة، ولما اعترض الجني لرسول الله وهو يصلي بالليل، همّ أن يمسكه، ثم تذكر قول نبي الله سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] ، يقول صلى الله عليه وسلم: (لولا دعوة أخي سليمان لأمسكت به إلى الصباح حتى ترونه ويلعب به صبيانكم) >فإنكار الجن إنكار للواقع ومكابرة له، ولا أريد أن أخرج بكم عن الموضوع، ولكن كان شخص يسكن معنا هنا في المدينة اسمه محمود جاوي كان إذا قرأ القرآن تحتاج أن تصغي إليه لتسمع منه، وكان لا يرفع صوته، ولكن لو قرأ شهراً كاملاً لم تنصرف عنه، فقد كانت قراءته هبة من الله سبحانه، فجاءني يوماً مذعوراً، فقلت: ماذا دهاك يا محمود؟ قال: لا أستطيع أن أخبرك، قلت: لماذا تأتيني إذاً؟ قال: وقع أمس أمر عجيب، وقبل أمس، وقبل أمس، منذ أسبوع إلى الآن وأنا نائم، فإذا بي أسمع باب الغرفة يفتح، فنهضت إلى الباب قال: يا محمود خليك، قال: نهضت إلى السراج طبعاً ولم يكن هناك كهرباء، أخذت الكبريت لكي أشعل الفانوس، فقال: لا تشعل النور.
قلت له: من أنت؟ قال: واحد من جيرانك هنا.
قلت: ماذا تريد؟ قال: قم واقرأ القرآن.
قال: قمت من الخوف وقرأت وأنا أرتجف، قال: أنت خائف، لا عليك يكفي قراءة هذه الليلة فنم، ومن الغد آتيك في الموعد.
ولما جاء كنت أقل خوفاً، فقرأت حوالي نصف ساعة، وفي الليلة الثالثة جاء على الموعد فقرأت نحواً من ساعة، وفي الليلة الرابعة كأني استأنست به، ثم جاء فقلت: إني متعب أريد النوم، فقال: قم واقرأ، ثلاث مرات، ثم قال لي: أما تستحي! إنما آتيك وأطلب منك قراءة القرآن، ولم أطلب منك عشاء وكسوة ومالاً، وإنما أطلب منك أن تقرأ القرآن، ثم تقول: أريد أن أنام، غداً ستنام في القبر طويلاً.
يقول: فانتقلت.
وذكر لي المحل الذي انتقل منه، وكان يسمى (سقيفة الرصاص سابقاً) .
قال: فمن الغد جاءني وأيقظني قال: عجباً يا محمود! نحن كلانا مهاجر في المدينة، أتريد أن تخرج منها؟ أم تريد أن أتركك؟ قلت: اتركني.
وأنا لا أقول هذا استشهاداً على وجود الجن، ولكن تأكيداً للذين يستبعدون أن يكون هناك جن، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (بأنهم يهاجرون إلى المدينة كما تهاجرون أنتم) ، ونهى عن قتل الحية البيضاء قبل أن تآذنها لما وقع في غزوة الخندق، حيث كانوا يحفرون الخندق، وكان رجل حديث عهد بعرس فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته، فقال: (خذ سلاحك معك إني أخاف عليك يهود ولا تحدث شيئاً) ، فجاء الرجل وعندما أقبل على باب البيت فإذا عروسه الجديد واقفة على الباب، فأخذ سيفه غيرة من أن تقف على الباب هكذا، فقالت: لا تعجل، ادخل بيتك وانظر فراشك، فدخل البيت فإذا بحية على طول الفراش، فأهوى عليها بالسيف فضربها، تقول الزوجة: والله لا أدري أيهما كان أسبق موتاً، فذكر الخبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنه من مهاجر الجن إلى المدينة انتقم له إخوانه، إنهم يهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم، فإذا رأيتم شيئاً من هذه الحيات في بيوتكم فلا تقتلوها حتى تآذنوها ثلاثاً) .(55/3)
الإعجاز في قوله: (في صعيد واحد)
قوله: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد) هنا يأتي السؤال السابق: تجمعهم في صعيد واحد يسألون في وقت واحد فيُعطي الجميع عطاؤه في وقت واحد، ما الفرق بينه وبين أن يُعطي كل إنسان مسألته على حدة؟ من يوم ما نزل آدم إلى الأرض وهو يعطي عباده مسألتهم، إلى أن جاء هذا الحديث بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم؛ لكن على انفراد.
هذه الصورة لو مثّلنا بمثال بسيط بطلاب فصل، العدد النظامي للفصل ما بين الثلاثين إلى العشرين، فمثلاً: دخل الأستاذ فبدأ الطالب الأول وسأل سؤالاً وأجابه، والثاني وهكذا على الترتيب حتى انتهوا، هل هناك مشقة على الأستاذ؟ لا، ويمكن نقول إن الأستاذ متمكن من المادة فأجاب على الجميع.
لكن إذا قام كل من في الفصل وكل واحد يسأل عن مسألته، فهل يستطيع أن يجيب الجميع في تلك اللحظة؟ وهل يستطيع أن يفهم كلامهم؟ هل يستطيع أن يسعهم بصدره؟ فهنا إذا كثر السؤال اختلطت الأصوات واختلطت الأحوال، لكن المولى سبحانه لا تشتبه عليه الأصوات، ولا تختلف عنده اللغات، ولا يتكاثر عليه السؤال، فيجتمع الأولون والآخرون من إنس وجن في صعيد واحد وكلٌ يطلب مسألته فيعطيه في الحال، أي قدرة هذه؟! تأمل هذا بعقلك وتصوره، ألم نشهد جزئية صغيرة من هذه كل سنة في الحج، ألم يجتمع الحجاج في عرفات، وكلٌ يرفع يديه إلى الله، ويدعوه بلغته، فأنت بجانب شخص لا تفهم لغته، والآخر بجانبك لا يفهم لغتك، لكن هل اختلفت على الله؟ ندخل في الصف عربي وعجمي وهندي وطويل وقصير، كل إنسان يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، ثم يسجد ويدعو بلغته، وكل واحد له حاجته ومسألته.
فكما يقولون: كثرة الناس تُدهش، وكذلك كثرة المسألة، فلو جاء ألف شخص لأكبر إنسان عنده خزائن الدنيا وطلبوا أن يسعفهم في يوم واحد -لا نقول في لحظة- فإنه لن يقدر أن يصرفهم، مجاعة مصر لما كانت في زمن العزيز ويوسف على خزائن الأرض، كان كل واحد له كيل بعير بتالعداد والنظام.
إذاً: هذه الصورة من الإعجاز، أن يقوموا في صعيد واحد من إنس وجن، السابق واللاحق، ويسألون حاجاتهم المختلفة كل على حدة وفي لحظة واحدة، ويعطي الجميع مسألته، كم يكفيهم هذا لو كان كل إنسان يطلب درهماً واحداً فقط، ماذا يكفي هذا العالم كله؟ معاوية لما جاءه أعرابي وقال: يا أمير المؤمنين! أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا وصلتني، قال: من أين أنت؟ قال: من كذا، وما الذي يجمعني معك في الرحم؟ قال: يجمعني أنا وأنت آدم وحواء، قال: صدقت، والله إنها لرحم أصيلة وثابتة ولها حق، وأخذ ورقة وكتب إلى وزير بيت المال.
ففرح الأعرابي بصلة رحم أمير المؤمنين، الرحم القوية الكبيرة آدم وحواء، ولما جاء الأعرابي بيت المال فإذا به يعطيه درهماً واحداً، قال: هل تهزأ بي، أهذه صلة أمير المؤمنين لرحم آدم وحواء؟ قال: هذا الذي كتب لك، قال: دعها عندك، ثم رجع إلى معاوية: ما هذا يا معاوية! هذه صلة رحمك بآدم وحواء بدرهم؟! قال: اصبر يا أخا العرب! والله لو أني وصلت هذه الرحم ما بقي في بيت المسلمين ولا درهم.(55/4)
البلاغة في قوله: (ما نقص ذلك من ملكي شيئاً)
رب العزة يقول: (لو أن أولكم وآخركم) يعني: حيكم وميتكم، (وإنسكم وجنكم) بل ولو قامت حتى حيواناتكم ولها مطالب، (وأعطيت كل سائل مسألته) ، ما الذي سوف يحصل؟ (ما نقص مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر) .
انظروا الأساليب! أين الأدباء والبلغاء والكتاب؟ لو قال: ما نقص شيء، لكانت الكلمة تمر هكذا على الأذن بلا تأثير، ولكن هذا الأسلوب يعطي في ذهنك صورة عملية وأنت الذي تحكم، يقول لك: أنا أُعطي، لكن ما الذي سيحصل؟ خذ إبرة واغمسها في البحر وارفعها، وانظر قدر ما نقص من البحر، فذلك هو الذي سينقص عندي، أنت بنفسك تقول؟ ليس بناقص شيئاً، وذلك وذلك كما في الآية الكريمة: {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد:14] ، لو قال لك: ليس ببالغه شيء، لما انطبعت الصورة، لكنه يصور لك صورة (كاريكاتورية) كما يقولون عنها، إنسان عطشان ويأتي على حافة بئر أو نهر ويفتح فمه ويمد كفه مبسوطة والماء بعيد في قعر البئر فهل يصله الماء؟ {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] : ومتى يسكن الإنسان بيت العنكبوت، كأنك تقول: لا شيء.
وهنا وقفة مع قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، لما جاء العصفور وشرب، وقال له: ما ينقص علمي وعلمك إلا كما ينقص البحر من هذا العصفور.
في كلمة: (إذا أدخل البحر) أي البحار يريد؟ أظن أهل الجغرافيا يقولون: البحار هي المحيطات: الهندي والهادي والأطلسي والبحر الأبيض، وأظن أن البحر الميت لا يسمى بحراً ولكن بحيرة لوط، والحديث يقول: (إذا أدخلت في البحر) ، فهل في نظر القرآن تلك البحار بحار متعددة أو هي بحر واحد؟ {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف:109] .
إذاً: تسمية الجغرافيين البحار إنما هي بتسمية أماكنها التي تمر بها، وجميع بحار العالم بحر واحد، ونحن نعرف هذا، فكلها متصلة لا يوجد حاجز بينها، وكما يقولون: ربع الأرض يابس وثلاثة الأرباع مياه، إذاً: في البحر يعني في بحار الدنيا التي تسمونها كذا وكذا.
والجواب أنه لم ينقص شيء، وهنا يقول العلماء: إن المولى سبحانه خزائنه ملأى، وفي بعض العطاء كلام {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .(55/5)
إثبات صفة الكلام لله تعالى
أحب أن أنبه على بعض المواقف لبعض الشراح لهذا الحديث، يقول: إنه ليس هناك قول يقال: كن، ولكن تقدير ما يمكن في زمن كن، ويكون المراد: إذا تعلقت الإرادة بالمراد حصل.
وهذه زلة اعتزالية، يريدون بها أن ينفوا عن المولى سبحانه قوله: (كُنْ) ، بل المولى سبحانه له صفة الكلام وهي صفة قديمة أزلية، أزلية الصفة متجددة الحدوث، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ؛ لأنه بكلماته يأمر هذا فيتسلط على هذا، وينهى ذاك فيكف عن إيذاء ذاك، وكذلك في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الأخير ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيقول) ، هل يقول بالإرادة أو يقول كما قال سبحانه؟ نقول: كما قال الله، كيف يقول؟ كيف يتكلم؟ هذا ليس لك ولا يحق لك أن تتساءل عن ذلك؛ لأنك تصف الله بما وصف به نفسه على مراده وعلى حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .(55/6)
سرد لمعاني الحديث العامة
(حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) ، أي: فتخلقوا بأخلاق الله، وبصفات الله، ثم جاء بعد ذلك: إفاضته نعمه على العبد، وتحريم الظلم نعمة كبرى، لو أن الله ترك ذلك لعباده لكان القوي يأكل الضعيف، وكانت أكبر نقمة على المجتمع، لكن الله يحجبهم ويمنعهم عن الظلم، فهي نعمة كبرى، الأمم التي لا تدين بأديان، والعرب عندما كانت في الجاهلية كانت تقول: من عز بز ومن غلب اغتنم.
الآن في الوقت الحاضر، الأمم المتسلطة هي القوية، الدولة الضعيفة الآن لا حول ولا قوة لها إلا بالله، اللغة التي تفهمها الأمم هي لغة القوة، لأنه ليس المقياس دينياً بخلاف الإسلام دين الله، ففيه العدالة، والرحمة، والرأفة، والصلة، والمساعدة، فأول نعمة من نعم الله على الأمة في هذا الحديث أنه حرم الظلم، وإذا ارتفع الظلم جاءت العدالة, وإذا وضع ميزان العدل في الحياة استقرت ووجد الأمان والطمأنينة وسعد الناس في ظلها.
حرم الظلم، ثم هدى من ضلال، ثم أطعم من جوع، ثم كسى من عري، ثم غفر ما كان من ذنب، فماذا تريدون فوق هذا؟! من الذي سيأتي بشيء آخر؟ ماذا بقي من مطالب الخلق؟ بقيت الجنة، إن شاء الله إذا جاءوا إلى الجنة وجدوا أبوابها مفتوحة.
ثم يبين غناه المطلق، وأن عطاءه فضل محض منه سبحانه، ويقول للعباد: أنتم لا تقدرون على ضري، ولن تستطيعوا نفعي، وأنا مستغن عنكم، ثم يأتي يبين غناه وسعة فضله، فكأنه يقول: التجئوا إليه واطلبوه.
ثم ختاماً لهذا العرض الكامل: دعاكم للاستغفار وأنتم مخطئون ومحتاجون للاستغفار، فالخطأ من لوازم البشر؛ لأن الإنسان ليس معصوماً، وأفراد البشر المعصومون هم الرسل لأدائهم الرسالة، ليكونوا نموذجاً كاملاً في البشر لما يمكن أن يصل إلى درجة الكمال في الإنسان، وما عدا ذلك فهم يخطئون.(55/7)
إحصاء الأعمال واستيفاؤها يوم القيامة
أخيراً قال: بينت لكم ودعوتكم وعرضت عليكم ولم يبق إلا أن تتدبروا: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) الإحصاء والإحصائية مأخوذة من الحصى، الحصى تجمع من أجل أن تعد، فالإحصاء العد عن طريق الحصى، وهو العد المنضبط بحيث لا تزيد حصاة ولا تنقص حصاة.
فقال هنا: (أحصيها لكم) ، فعل (أحصى) يتعدى باللام ويتعدى بعلى، يقول: أحصيت لك ما لك عندي، أحصيت عليك ما لي عندك، وهنا الحديث يقول:: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) وهذا من فضل الله وكرمه.
لفتة كريمة في الحديث تنبه شعور المسلم إلى سعة فضل الله الكبير المتقدم: لو اجتمع أولكم آخركم، إنسكم جنكم فأعطيتكم كل شيء ما تغير عندي شيء، إذاً: من كرمه أن يحصي لنا الخير ولا يحصي لنا الشر، ولو كان يعاملنا بالشر كما يعاملنا بالخير لقال: (أحصيها لكم وعليكم) ؛ لكنه لم يقل: (عليكم) ولم يقل: (لكم وعليكم) مع أن أعمالنا قسمان: عمل خير وعمل شر، وهي تحسب بالذرة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] لكن الكلام هنا في معرض المنة، ففي معرض العطاء والرحمة وإفاضة الخير قدم جانب الخير، وكأنه غطى وألغى جانب الشر.
الحديث له ذوق وإحساس، وليس مجرد قوالب وألفاظ، لكن نأخذ من غضون الكلمات والتعبير -ويكفي أنه حديث قدسي-: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله) ، فمقابل الخير الشر، ولكنه لم يقل: (ومن وجد شراً) ، وكأنه استمرار في إخفاء جانب الشر.
نرجع مرة أخرى: (إنما هي) ، هي: ضمير فصل مؤنث، فهل هو مفسر لمجمل قبله، أو هو كما يقولون: ضمير القصة وضمير الشأن، فقوله: (إنما هي) أي: القصة والحالة، أو أن هناك مسبوقاً ظاهراً يرجع إليه هذا الضمير؟ الراجح أنه ضمير راجع إلى مذكور.
لما قال سبحانه: (إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني) يبقى هنا خطأ استغفار، وكل من الخطأ والاستغفار من عمل الإنسان، إذاً: (إنما هي أعمالكم) إن أخطأتم وإن استغفرتم، فإن استغفرتم فلكم المغفرة، وإذا كان الاستغفار مطلوباً كالتوبة من باب أولى.
إذاً: (إنما هي) يرجع إلى الأعمال المعروفة المطوية في قوله: (تخطئون في الليل والنهار، فاستغفروني أغفر لكم) .
إذاً: (إنما هي) أي: أعمالكم، وقد صرح بها في قوله: أحصيها لكم.
(أحصيها لكم) : أحصيها: أضبطها، هناك في سورة الكهف {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] أي: عدداً وضبطاً ونوعاً، وقال: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] هي أعمالكم فربك لا يظلم، وكذلك ما تقدم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران:30] ، فلا يغيب عنه شيء.
إذاً: أعمالكم، لا نريد أن نقف مع المعتزلة في إسناد العمل إلى العبد، وادعائهم أن العبد يخلق عمله، ومعارضة القضاء والقدر، بل نقول: إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق له القدرة، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، وجعل له اختياراً فيما يذهب إليه، وكل ما كان في الكون فلا يخرج عن إرادة الله وعلمه، وهذا موقف زلت فيه أقدام لا حاجة لنا به؛ لكن تنبيهاً لطلبة العلم عند المرور على هذه النقطة في شرح الحديث، فإن الله أضافها للعبد على سبيل الكسب.(55/8)
بيان فضل الله على عباده في الجزاء
(إنما هي أعمالكم أحصيها لكم) وهذا الإحصاء يشمل الصغير والكبير: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ، إلا أن فضل الله سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث: أن العبد إذا اكتسب حسنة بادر ملك الحسنات فسجلها حالاً، وإذا ارتكب سيئة يريد ملك السيئات أن يبادر بكتابتها فيمنعه ملك الحسنات؛ فلعله يستغفر، أو يتوب، ولعله يرجع، فإذا مضت المدة الكافية ولم يستغفر ولم يتب ولم يرجع إلى الله وما بقي إلا أن تُكتب؛ فإن صاحب الحسنات يكتب الحسنة عشرة، وصاحب السيئات يكتبها واحدة.
فإذا ما استغفر وتاب بعد ذلك، فإن الله يبدل سيئاتهم حسنات، فانظروا إلى فضل الله: الحسنة تضاعف إلى عشرة أضعاف بل إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء، والسيئة واحدة.
وإن استغفر استبدلت، ومن همّ بسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة، كما جاء في الحديث: (الناس أمام أمور الدنيا أربعة أقسام: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً يعرف حق الله فيه فهو في أعلى عليين) فاجتمع له الدين والدنيا، (ورجل أعطاه الله علماً ولم يعطه مالاً، فقال: لو كان لي من المال لعملت فيه مثل ما يعمل فلان -أي: في طريق الخير- فهو معه في الأجر سواء، ورجل لم يعطه الله علماً وأعطاه مالاًَ فلا يعرف حق الله فيه فهو في أسفل الدركات، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً قال: لو أن عندي مالاً لعملت فيه مثل ما يفعل فلان، فهو معه) ، فاثنان جوزيا بالفعل واثنان بالنية، فصاحب نية الخير لحق صاحب الخير بنيته، وصاحب نية الشر لحق صاحب نية الشر بقصده وإرادته ورغبته.(55/9)
قضاء الله بين عباده بالبينة
قوله: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها) : هذه التوفية والوفاء بغير نقصان، كما قال الله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] ولماذا الإحصاء؟ فالمولى سبحانه إذا حاسب العبد من عنده بدون إحصاء ولا كتابة فلا أحد يملك الاعتراض عليه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] وهو لا ينسى عمل أحد ولا يحتاج إلى إقامة الأدلة على أحد ولكن يكتبها لإقامة العدل ونفي الظلم الذي بدأ في الحديث أولاً: (حرمت الظلم) ، وعند الحساب يأتي بالبينة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] .
يوم تشهد عليهم الأيدي والألسن والأرجل، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] ، أتنكر يا عبدي؟! ألم تفعل كذا وكذا؟ فيقول: ما فعلت، فتقول اليد: ضربت وقتلت وسرقت، وتقول اللسان: اغتبت وكذبت وقلت، وكل الأعضاء تشهد بما عملت.
وإذا كان رب العزة يقضي بالبينة، فكيف تقضي أنت يا أيها العبد بغير بينة؟ ولذلك أجمع الأئمة الأربعة وغيرهم على أن القاضي في منصة الحكم لا يقضي بعلمه، فلو مشى في الطريق ورأى زيداً يسرق بيت عمرو ومن الغد جيء بالسارق بين يديه، وجاء عمرو يقول: هذا سرق بيتي، فعليه أن يقول: أنا الآن في منصة القضاء ولابد من البينة؛ فإن جاء بشهوده قضى بمقتضى الشهود، وإن لم يأت لم يجز له أن يقضي بما علمه هو.
ولذا جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً اشتكى إليه في قضية حصلت أمام عمر، ثم بعد ذلك حصلت فيها منازعة، فجاء المدعي وقال: يا أمير المؤمنين! القضية كذا وكذا، قال: بينتك، قال: أنت تعلم، قال: إن أردتني قاضياً فائتني بشهود، وإن أردتني شاهداً فاحتكم عند غيري واستشهد بي) .(55/10)
صورة من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم
في حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (اختصم رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث درست معالمها ولا بينة عندهما) ، أي: ميراث قديم؛ كان جدهم قد ترك بستاناً أو بيتاً، لكن أين معالمها؟ اندثرت، أين البينات؟ لا توجد، فهي قضية مغلقة ليس لها رأس ولا أرجل.
فقال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهو الذي يبلغ من الله بأقل شيء في الصلاة، كان في نعليه أذى فجاء إليه جبريل فأخبره، فخلعه في أثناء الصلاة، ولم ينتظر حتى يكمل، وحفصة {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم:3] {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] ، فيقول لهما.
: (إنكم تختصمون إليّ وأنا بشر -أي: من حيث القضاء، وجانب البشرية لا النبوة والرسالة؛ لأن القضاء عمل بشري وأنا بشر- ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن استقطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار) إلى آخر الحديث.
فكان كل منهم يقول: نزلت عن حقي لأخي ولا أريد شيئاً، فكانوا متخاصمين ثم صاروا متصالحين.
لكن هنا تنبيه للحكام والقضاة: الإنسان حينما يقع تحت تأثير العاطفة أو يقظة الضمير يكون ذا حساسية وشفافية وزهادة، فانظر إلى هؤلاء بعد أن كانوا متشاحين ومتخاصمين لما سمعوا (قطعة من النار) تنبه الضمير، وكل كأنه يرى سعير النار ولهبها يلفح وجهه فتنحى وتباعد، لكن بعد هذا المجلس قد يرجع إلى طبيعته وتهدأ عواطفه ويبرد إحساسه ويرجع يتأسف، ولذا لا ينبغي للحاكم ولا للقاضي أن يأخذ الشخص عند تأثير العاطفة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما وقد قلتما ذلك؛ فارجعا واقتسما وتحريا في القسمة واستهما، وليبح كل منكما صاحبه) .
انظروا إلى النقاط: (ارجعوا فاعملوا قسمة، وتحروا في القسمة، وذلك حتى لا تعود بعد أيام وشهور وسنين وتقول: يا ليتني فعلت، ضحك عليّ، فمن الآن تحريا، وبعد التحري استهما واعملا قرعة، وبعد القرعة كل واحد يقول للثاني: سامحني.
يهمنا أنه يقول: (لعل أحدكم يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع) مع أنه لو ترك الأمر إليه واجتهد ولم يصب الحق لأتاه الوحي حالاً لأنه لا يقر على خطأ.
وهذه والله رحمة للمسلمين، فإذا كان النبي يأتيه الوحي في كل قضية، فالقضاة من بعده من أين يأتون بالوحي، فوضع منهج البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
وهنا: (أحصيها لكم) ، وبمقتضى هذا الإحصاء أنتم تشهدون عليه، فكل إنسان يقرأ كتابه وكفى بنفسه على نفسه حسيباً، فكل إنسان يقر على نفسه، وكما يقولون: الإقرار سيد الأدلة، وانظر في آية الدين: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] بعد ذلك: {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] ، ثم: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:282] ، لم يقل: الذي له الحق، بل الذي يملل على الكاتب هو الذي عليه الحق؛ لأن كونه يملي على الكاتب فهو إقرار منه، فإن كان الذي عليه الحق ضعيفاً أو سفيهاً أو لا يستطيع أن يملي الكاتب فيملي وليه.
فهذا إقرار من الولي عن موليه في هذا الدين، فالإقرار سيد الأدلة.
وهنا أنت تقرأ كتابك وترى عملك بنفسك، إقامة للعدل ومقتضى تحريم الله الظلم على نفسه.
(ثم أوفيكم إياها) : التوفية: الجزاء الوافي بدون نقص.(55/11)
توفية الله لحقوق كلا الفريقين بالجنة والنار
وهنا: (فمن وجد خيراً -مما عمل- فليحمد الله) يحمد الله على ماذا؟ نرد على المعتزلة بسرعة، هنا: وجد خيراً فيما عمل وأحصاه الله له: هذا الخير الذي وجده العبد من عمله يوم القيامة، من جانب الله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:74] ، فالحمد لله.
إذاً: الفضل كله راجع لله، وفي نهاية المطاف نحمد الله، هنا يقول بعض العلماء: سبعة من لازم عليها عاش سعيداً ومات حميداً، يقول: إذا بدأ عملاً قال: باسم الله، وإذا ختم عملاً قال: الحمد لله، وإذا رأى ما يكره قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا رأى ما يعظمه قال: لا إله إلا الله، وإذا أصيب بمصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا أذنب قال: أستغفر الله، وإذا أراد أن يفعل شيئاً قال: إن شاء الله.
ولهذا كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول عند قوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة:186] يقول: إني لا أهتم بالإجابة فقد وعد بها الله، بقدر ما أهتم أن يوفقني للدعاء، فإذا وفقني للدعاء فقد استجاب.
إذاً: فمن وجد خيراً فليحمد الله؛ لأن الله الذي وفقه وهداه، وهذه نتيجة الهداية، إذاً: الحمد هنا راجع لله، لأنه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] فالعبد هو وعمله من الله سبحانه وتعالى.
(ومن وجد غير ذلك) ، كان في المقابل: ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه، ولكن قال: (ومن وجد غير ذلك) ، ومعنى (غير ذلك) : الشر، ولكن كما يقول العلماء: المولى سبحانه نزه الحديث أن يصرح فيه بالشر، فكيف بك أنت تقع فيه إذا كان مجرد ذكره لا ينبغي: فمن السمو في الأدب ألا تصرح بشيء مكروه، فكيف بك أن تفعله وتنغمس فيه.
ولماذا خص النفس؟ لأن نفسه هي التي أغوته وطلبته وراودته وهواه هو الذي غلب عليه، فكما أنه أطاع نفسه في ذاك الذنب في الليل والنهار ولم يستغفر، فليرجع على تلك النفس باللوم، كما قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية:23] .
إذاً: فلا يلومن إلا نفسه، وكما جاء في الحديث: (والشر ليس إليك) ، أي: لا ننسبه إلى الله سبحانه وتعالى تنزيهاً، ولا نحتج بالقدر على وقوعه، فإن لك الاختيار ولك كل إمكانيات الفعل وعندك الطريقان، وكما تقدم: (كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) قالوا: إذا أصبح العبد في الصباح وغدا في النهار من بيته، وجد رايتين على باب بيته، إحدى الرايتين هي لملك من ملائكة الرحمن، والأخرى بيد شيطان، فإن خرج في ظل راية الملك فهو في طاعة الله، وقد باعها إلى الله، والعكس بالعكس.
يقول بعض العلماء: إن يحيى عليه السلام خرج يوماً فلقيه إبليس قال: أخبرني عن أصناف الناس؟ قال: أنت وإخوانك الرسل عصمهم الله منا، فاستراحوا منا واسترحنا منهم، وقسم هم في أيدينا كالكرة في يدي الصبي نلعب بهم كيف شئنا، وقد أراحونا من أنفسهم، وقسم لم نيأس منهم ولم نتركهم قال: من؟ قال: قوم نجلب عليهم ونوقعهم في المعاصي ونحملهم عليها، فإذا بالواحد ينتبه في لحظة فيستغفر الله فيغفر له، فكل الذي بنيناه يهدمه، فنرجع مرة أخرى؛ فلم نيأس منهم، ولم نطمع فيهم، ولم نسترح منهم) .
إذاً: (ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) ؛ لأنها هي التي حملته على تلك الطريقة وأبعدته عن منهج الله الذي يدعوه ليل نهار ليستغفر فيغفر له.
وهكذا أيها الإخوة! في هذا الحديث بدأ سبحانه وتعالى بالتحذير عن أعظم ذنب أو أخطر مسلك وهو الظلم، وانتهى بالتحذير والتهديد بأن كل ما عملته يحصى وتلقى الله سبحانه وتعالى على ما قدمت، إلا أن هناك جوانب يذكرها العلماء: بأن هذا الإحصاء أكثر ما يكون للخير، ولذلك قال: (أحصيها لكم) لأن ما كان عليكم قد يمحى فلا يكون موجوداً يوم القيامة، بخلاف الخير فإنه باق محفوظ كله.
وهناك تكون المقاصة بالأعمال والحسنات والسيئات على ما يأتي بالحديث الذي بعد هذا، وحديث البطاقة الذي بيّن صلى الله عليه وسلم فيه سعة فضل الله تبارك وتعالى على العبد، وهو حديث الرجل الذي جيء به وله سجلات من السيئات قد رجحت بكفة ميزانه وأيقن في نفسه أنه هالك، فقال الله سبحانه: (أنظروا عبدي، فإن لك عندنا أمانة، فيؤتى ببطاقة، يقول: هذه أمانتك عندنا، فيقول: رب وما تفعل تلك البطاقة بتلك السجلات) .
وماذا في تلك البطاقة؟ فإذا فيها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فتوضع في كفة الحسنات فتثقل بها وتطيش كفة السيئات، فهذه مما أحصاه الله للعبد، وقد لا يدركه، ولكن كما يقول العلماء: في حديث: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) ، والأحاديث التي تقيد هذا: (إلا بحقها) وحقها: العمل بأركان الإسلام، أو امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
والله أسأل أن يعاملنا بلطفه وإحسانه وفضله، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبالله تعالى التوفيق.(55/12)
شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والعشرون [1](56/1)
شرح حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي ذر رضي الله عنه: (أن ناساًَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحه صدقة، وكل تكبيره صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم] .
هذا الحديث النبوي الشريف عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وتقدمت إشارة إلى ترجمة أبي ذر في ذاته وشخصه ومنهجه في حياته، وهنا يقول أبو ذر رضي الله تعالى عنه: (إن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جاءوا فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، قال: وكيف ذاك؟ قال: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، ولا مال لنا) إلى آخر الحديث.
في مستهل هذا الحديث: (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) ، وفي بعض الروايات: (من فقراء المهاجرين أو الأنصار) ؛ قوم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبةً في الخير وغبطةً لإخوانهم، رءوا بعض المسلمين يتساوون معهم في العبادات البدنية من صلاة وصيام، وهذا الكل فيه سواء، ولكن الله امتن على بعضٍ آخر بسعة في الرزق ووفرة في المال يفيض عن نفقاتهم، (ولهم فضل أموال يتصدقون بها) ، وهؤلاء ليس لهم أموال.(56/2)
الفرق بين الغبطة والحسد
يبحث العلماء في الفرق بين الغبطة والحسد، فالغبطة محمودة، وهي مجال للمنافسة في الخير، وهي: أن تتمنى لك مثل ما لغيرك مع بقاء نعمة الغير عليه، أما الحسد: فهو تمني زوال نعمة الغير ولو لم تأت إليك، ولذا يقولون: الحاسد يحارب ربه؛ لأنه لم يرض بقسمة الله في خلقه، والله تعالى يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] ، والحسد يحمل العبد على أن يحتقر أخاه؛ لأنه ما تمني زوال تلك النعمة عنه إلا لأنه احتقره واستصغره مع تلك النعمة واستكثرها عليه، ويقولون: أول معصية وقعت إنما هي الحسد الذي جر إلى الازدراء، والازدراء من الناحية الأخرى أنتج كبراً، والكبر أدى إلى المعصية، والمعصية طردت من رحمة الله، وذلك في خلق آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: فعندما أراد الله سبحانه وتعالى خلق آدم قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:31] ، فقالوا على سبيل الاستفسار والاستيضاح: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] ، وفي النهاية: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة:34] ، ثم بيّن موجب الاستكبار فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] ، ادعى لنفسه الأفضلية والخيرية على آدم.
إذاً: حسد آدم على ما أنعم الله عليه: أن خلقه بيده سبحانه، ثم كرمه ونفخ فيه من روحه، ثم أمر الملائكة أن تسجد له، فكل تلك نعمٌ متضافرة على آدم، وإبليس استكثر هذا عليه، فهو يراه وهو يعجن في الطين، ثم يراه يسوى من صلصال، ثم يراه ينفخ فيه، وبين يديه تمت خلقه آدم، فاستصغر آدم واستعظم نفسه، فتكبر وجره الكبر إلى الامتناع عن السجود لأمر الله، وإن كان السجود تحيةً لآدم إلا أنه بأمر من الله، فهو طاعة لله وإن توجه لآدم أو لغيره، والله لا يأمر أحداً أن يسجد لأحد عبادة، وقد كان السجود في بعض الأمم تحية كما سجد أبوا يوسف وإخوته له تكريماً وتحيةً.
يهمنا أن إبليس حسد آدم، ولما حسده ازدراه، ولما ازدراه تكبر عليه، ولما تكبر عليه امتنع من امتثال أمر الله، فوقعت المعصية، فكانت النتيجة البعد والطرد -عياذاً بالله! ولكن الغبطة ليست احتقاراً للمنعم عليه، ولا استكثاراً للنعمة على من هي عنده، ولكن طمع في فضل الله أن يعطيه مثلما أعطى الآخرين، ولا حرج على أحد في فضل الله، ولا يمنع أي إنسان من أن يرجو فضل الله، فالذي أعطى زيداً يعطي عمراً، ولكن حينما يكون القلب سليماً.(56/3)
أنواع العبادات
هؤلاء الفقراء رءوا أن إخوانهم من المهاجرين والأنصار قد تساووا معهم في العبادات، فإذا نودي: حي على الصلاة حي على الفلاح كانوا معهم سواء، بل لعل الفقراء يسبقونهم إلى الصف الأول؛ لأنه ليس عندهم ما يشغلهم، والصوم كذلك، لكن العبادة -كما يقول الفقهاء- تنقسم إلى قسمين: عبادة بدنية، وعبادة مالية، وعبادة تجمع الأمرين وهي الحج؛ فالعبادة المالية مترتبة على وجود المال، فغبطوا أصحاب الأموال، وقالوا: (ذهب أهل الدثور) والدثور: جمع دثر، أي: أهل الأموال، ذهبوا بالأجر كله.
(قال: وكيف ذلك؟) قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يتصدقون بها) ، وإذا تصدقوا بفضل أموالهم حازوا على الدرجات العلى في الجنة، ونحن ما حصلنا معهم على شيء.(56/4)
الفرق بين النبي والرسول
هذا الحديث يعطينا صورة لما كان عليه السلف الصالح من المسارعة والمسابقة إلى الخير، وما عجزوا عنه يطلبون بدله، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله!) لاحظوا جاءوا إلى من؟ إلى النبي، فقالوا: يا رسول! ولم يقولوا: يا نبي الله! ونجد أن العلماء يقفون طويلاً عند الفرق بين النبي والرسول.
بعض العلماء اختصر وقال: النبي والرسول سواء، إلا أن النبي أعم والرسول أخص، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فكم من الأنبياء لم يرسلوا، ولا نعلم عنهم شيئاً؟ ولكن لم يرسل رسول إلى أمة إلا وقد نبئ! ويقال: النبي والنبيء كما يقرؤها ورش، فالنبيُ بالتسهيل، والنبيء بالهمز، وقالوا: النبيُ بالتسهيل من النبوة والارتفاع، تقول: نبا المكان ينبو نبواً إذا ارتفع، والنبيء من النبأ، وكلاهما صحيح، فالنبي مأخوذ من النبوة والارتفاع فهو في القمة والرفعة على الأمة كلها، ومن النبأ فهو قد جاء بالنبأ العظيم من الله رب العالمين، فكلا المعنيين صحيح.
أما الرسول فيقول بعض العلماء في مصطلح الحديث: النبي من نبئ ولم يؤمر بتبليغ غيره، يعني: إرساله في نفسه، والرسول من أمر بدعوة غيره؛ لأن رسول تقتضي رسالة من مرسِل إلى مرسَل إليه، فيكون الرسول عمله متعدٍ لمن أرسل إليهم، فهناك مرسل وهو الله سبحانه، وهناك رسول وهو الذي كان نبياً، وهناك رسالة وهي الكتاب الذي جاء به، وهناك من أرسل إليهم وهم الأمة، والرسالة قد تكون خاصة وقد تكون عامة، كما جاء في الحديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي -وذكر منها- وكان النبي يبعث لقومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) .
وبعضهم يقول: النبي من جاء بتجديد دعوة نبي أو رسول قبله ولم يأت بجديد من التشريعات، وإنما جاء يجدد دعوة رسول قبله.(56/5)
ذكر النبوة والرسالة في سورة الحجرات
في أول سورة الحجرات نجد قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:1] ، وفي الآية التي بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ} [الحجرات:2] ، (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ؛ فالسورة جمعت بين الوصفين، وقدمت وصف الرسالة وجاءت بوصف النبوة، ولكن مع الرسالة: (لا تقدموا) ، أي: لا تتقدموا بالتشريع والابتداع والاختراع، ولكن كونوا وراء رسول الله، إذاً: هو رسول في التشريع وفيما جاء به عن الله؛ فلا تتقدموا عليه في رسالته.
إذاً: الرسول جاء برسالة وكونوا تبعاً له، ولا تتقدموا عليه واتقوا الله، وجعلها مع حق الله: (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) ؛ لأن الرسول مبلغ عن الله، والمتقدم على السنة متقدم على الله، كأنه ابتدع من نفسه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] .
ثم جاء في شخصية محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه في تكريمه في ذاته فقال: (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ، وهنا أدب شخصي وتكريم ذاتي، أما هناك فكان احترام رسالة وتبليغ عن الله، إذاً: الرسالة عن الله، والنبوة في ذاته، فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] .
ثم رجع مرة أخرى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الحجرات:3] ، فيبين أن التكريم والأدب لأي شيء؟ لأن هذا النبي هو رسول الله إليهم.
وأحسن ما قيل في ذلك: إن النبي من جاء على سَنَن نبي قبله، والرسول من جاء برسالة جديدة لقوم جدد.
ونجد علماء التفسير يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نبئ بسورة اقرأ، وأرسل بسورة المدثر: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، فقالوا: هذه ليس فيها تبليغ لغيره، ولكن يبدو -والله تعالى أعلم- أنه أرسل من أول وهلة بسورة اقرأ، لماذا؟ لأنه قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ، فهو سيقرأ قرآناً، لكن لمن؟! ولذا جاء بعده مباشرة في ترتيب المصحف بعد سورة اقرأ: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ، أنزلنا ماذا؟ {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:1] ، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] (أنزلناه) يعني: أنزلنا القرآن، (اقرأ) يعني: اقرأ القرآن، والقرآن إنما هو للناس كافة.
إذاً: فقد نبىء وأرسل بأول الوحي.
والذي يهمنا في هذا الحديث تلك المغايرة في الألفاظ، وإن كان من كلام الراوي وليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (جاء رجال إلى النبي فقالوا: يا رسول الله) .(56/6)
حكم رواية الحديث بالمعنى
جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما تمسك به بعض العلماء من ضرورة ذكر الحديث بلفظه دون معناه، والجمهور على جواز رواية الحديث بالمعنى لمن يعلم المعنى ولا يغيره، بخلاف القرآن؛ ففي حديث الرجل الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء النوم، وفيه: (قل: وبنبيك الذي أرسلت، فقال: وبرسولك الذي أرسلت، قال: لا، قل: بنبيك الذي أرسلت) ، فرده النبي صلى الله عليه وسلم ليلتزم باللفظ: (وبنبيك الذي أرسلت) .
ومما ينبه عليه العلماء: أنه إذا ورد اللفظ في الحديث فالأولى المحافظة عليه، وإلا فكلاهما يؤدي المعنى، وهذا مبحث أصولي عند علماء مصطلح الحديث، وذكرنا منه ما يلفت النظر، والحمد لله.(56/7)
دقة التوجيهات النبوية للفوز بالأجر من الله
(قالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، قال: وما ذاك؟ قال: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون) ، المراد بالصدقة هنا: صدقة التطوع، وتشمل الزكاة ضمناً، ولكنهم غبطوهم على صدقة التطوع، فلما سمع ذلك منهم صلى الله عليه وسلم، وعرف أن هذا يثير الهمة عند المسلم، ويجعله يتطلع إلى مثل ذلك، وهذا من حقه، وفضل الله عظيم، فأرشدهم لا إلى طريقة لوفرة وكثرة العمل ليحصل على المال ليتصدق، ولكن أرشدهم إلى طريق آخر؛ لأن كسب المال ليس بالجهد ولا بوفرة العمل؛ لأن المولى سبحانه قال: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * ولِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:33-35] ، فزخارف الدنيا ليست مقياساً، فسيد الخلق صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ودرعه مرهون في صاع شعير عند يهودي! وكأنه يقول لكم: إن الدنيا بما فيها ليست هي المقياس؛ ولهذا يقول العلماء: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب (ما لا يتم الواجب) ، أي: الذي وجب بالفعل، وما لا يتم الوجوب، أي: الذي لم يجب حتى الآن، ويحتاج في وجوبه إلى شيء آخر؛ فالصلاة وجبت، لكن لا تتم الصلاة، ولا يؤدى هذا الواجب الثابت إلا بالطهارة، فهل تصح صلاة بدون طهارة؟ لا، فلا يمكن لإنسان أن يؤدي الصلاة حتى يحصل على الطهارة، فالصلاة متوقفة على حصول الطهارة، والصلاة واجبة، فتكون الطهارة واجبة؛ لأن الواجب لا يتم إلا به؛ شخص فقير ولا تجب الزكاة عليه إلا بكسب المال، فإذا اكتسب المال وجبت عليه الزكاة، وشخص لم يمتلك زكاة فلا وجوب عليه، فهل نقول: عليك أن تعمل لتكتسب المال لتجب عليك الزكاة؟ لا، فما لا يتم الواجب المستقر إلا به فهو واجب؛ لأن الوجوب مستقر، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
فهؤلاء لم يجدوا مالاً؛ ولم تجب عليهم زكاة، ولم يطالبوا بالصدقة، فليس بواجب عليهم أن يسعوا ويعملوا ويكتسبوا ليتوافر عندهم نصاب لتجب عليهم الزكاة؛ ولذا لم يوجههم للعمل والكسب، مع أن الإسلام يحث على العمل والكسب وعلى التصدق؛ فوجههم إلى عملة أخرى سهلة غير صعبة، تمشي في جميع الأسواق الدنيوية والأخروية، العملة التي تتداول في جميع الدول العالمية ثلاثة أقسام: عملة محلية إذا خرجت من حدودها لا قيمة لها، وعملة عالمية لها رصيد مائتين في المائة في البنك الدولي، والعملة المحلية هي التي لا رصيد لها، الدولة أنزلتها في الأسواق من أجل أن تسكت الناس وتمشي معهم، والعملة التي لها رصيد مائة في المائة فقط أو أقل من مائة في المائة تمشي، ولكن بعض الدول التي لها تعاهد وصلة مع تلك الدولة التي أصدرتها تتأثر عملتها زيادة ونقصاناً بحسب ضمانها عند البنك الدولي؛ فهذه هي العملة الجديدة التي وجههم إليها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تعوضهم عما فاتهم.
ثم قال لهم: (ألا أدلكم على شيء تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من وراءكم، إلا من عمل بمثل عملكم؟) ، عندما يقول لهم: أدلكم على شيء تلحقون به من سبقكم، ماذا يريدون أكثر من هذا؟! قالوا: نعم، قال: (تسبحون دبر كل صلاة) ، وصلاة هنا نكرة تعم جميع الصلوات المفروضة، ولكن ما دام في أعقاب الصلاة فتكون لصلاة معينة لا على الإطلاق، فبعد الصلوات الخمس المكتوبة: (تسبحون ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون ثلاثاً وثلاثين، وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ، وتسبحون تحمدون تهللون، يقول العلماء: هذا من باب النحت، سبّح بمعنى قال: سبحان الله، حمّد قال: الحمد لله، كبّر قال: الله أكبر، حوقل قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، استرجع قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذه ألفاظ منحوتة، تدل بلفظ على جملة.
فرح هؤلاء بما وجدوا من عملة جديدة ورصيد كبير جداً، ورجعوا فرحين بذلك، وحينما سمع الأغنياء بعطاء رسول الله لإخوانهم هل قالوا: هذا خاص بالفقراء، أم دخلوا معهم واقتحموا عليهم؟ وسمع الأغنياء بما أعطى رسول الله لإخوانهم ففعلوا مثلهم، فعاد أولئك الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] ، هذا فضل الله، إن كان الذكر فهو عم الجميع، ولا راجع للمال؟ لأنهم الآن تساووا أيضاً في العبادة: بدنية، فعلية، قولية، والمال هو المتفاضل بينهم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(56/8)
علاقة الذكر بالتوحيد
نرجع إلى هذا الحديث من جهتين: الجهة الأولى: تلك الألفاظ الخاصة بمعانيها.
الجهة الثانية: هذا المنهج، وهذه الطريقة التي وجه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة من الناس، ودخلت معها غيرها.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: تسبحون، أي: تقولون: سبحان الله، وجمع بين سبحان الله والحمد لله والله أكبر، وتقدم قريباً حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان، وسبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض) .
إذاً: تسبحون وتحمدون، وهناك بيّن لنا النووي: أن سبحان الله ثوابها وحدها يملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، وفي الحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) .
يقول العلماء في هذين اللفظين: (سبحان الله والحمد لله) : هما جماع تنزيه المولى سبحانه وتوحيده، وجمعا غاية خلق البشر؛ لأن الغاية من خلق البشر هي كما قال الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وسر العبادة في تنزيه المولى سبحانه، وتوحيده في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.
وتوحيد الربوبية: الإقرار لله بالربوبية للعالم، وهذا هو الذي تقر به في كل ركعة عندما تقرأ: (رب العالمين) .
وتوحيد الألوهية: هو إفراد المولى بالعبادة؛ لأنه ما دام أنه رب العالمين، وأنت فرد من العالمين مخلوق لله، مرزوق منه تحت رعايته، فهو الذي يستحق العبادة، ولا يحق لك أن تصرفها لغيره؛ ولذا تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .
وتوحيد الأسماء والصفات في: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3-4] .
فالتسبيح تنزيه المولى عن كل نقص، والتحميد إثبات صفات الجلال والكمال لله؛ ولذا يقولون: مادة اللغة العربية أول ما توضع توضع للمحسوس ثم تنتقل للمعنوي، مثلاً: لو سمعنا الأذان والإذن والمأذون والآذن كلها راجعة لحاسة الأذن؛ لأن المؤذن يلقي الكلمات في أذنك، والآذن يعلمك بإذن الآذن، والمأذون ألقيت في أذنه أنه أذن له وكل هذا راجع لهذه المادة، والمعاني كثيرة في هذا.
فقوله: سبحان، يقول علماء الصرف: سبحان على وزن فعلان، وأصل الميزان الصرفي: فعل، ويزاد في الميزان بقدر ما يزاد في الموزون: فسبحان على وزن فعلان، إذاً: سبحان من سبح، وزيد الألف والنون فكانت على وزن فعلان، إذاً: المبدأ الأساسي في مادة سبحان هي: السين، والباء، والحاء، سبح، مثل: غفر، تقول: غفران.
قالوا: وهذا يظهر قوة اللغة وترابطها وتكوينها من أسر وجماعات.
فإذا وجدت المادة تتفرع وتتعدد في مسميات، فاعلم أن كل مشتقات تلك الكلمة بينها صلة رحم، فمثلاً: سبح، ما معنى السباحة؟ أن يعوم في الماء، ومتى يعوم في الماء؟ إذا كان الماء غزيراً، ولماذا يسبح في الغزير؟ لينجو من الغرق، فكذلك الذي يسبح الله إما لينجو من مهلكة عدم تنزيه الله أو من ورطة تشبيه أو نقص لله، أو يسبّح الله كأنه يبعد الله ويجنبه من كل ما لا يليق بجلاله عز وجل.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.(56/9)
شرح الأربعين النووية - الحديث الخامس والعشرون [2](57/1)
الذكر أنواعه وأقسامه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه محمد الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد ورد في دبر الصلوات أذكار عديدة لا يتعارض بعضها مع بعض، كما أن بعض الصلوات خصت بأذكار مختصة بها، فمما جاء في دبر كل صلاة: (من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من الجنة إلا الموت) .
وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! إني أحبك، فقال معاذ: والذي بعثك بالحق يا رسول الله! إني لأحبك، فقال صلى الله عليه وسلم: أوصيك أن تقول دبر كل صلاة: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) .
وجاء في خصوص المغرب والصبح: (اللهم أجرني من النار سبع مرات) ، وجاء في خصوص التسبيح والتحميد والتكبير المذكور هنا: (من قالها غفرت له ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر) .(57/2)
فضل الذكر وبم يكون؟
وباب الأذكار -كما يقول النووي وغيره- باب واسع، والذي يهمنا في حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الفقراء إلى ما يدركوا به الأغنياء من ذكر الله، وفي هذا تنبيه لفضل الذكر والدعاء، وخاصة عقب الصلوات، وبعض العلماء قال: الذكر أعم العمومات في العبادة، بل إن الذكر عبادة جميع الكائنات من إنس وجن وملك وجماد ونبات وحيوان وطير: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ، وهو عبادة غير مؤقتة، وجميع العبادات تكاد تكون مؤقتة: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] ، والصيام: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ، والحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، والزكاة عند رأس الحول، أما الذكر فقد بيّن سبحانه صفة عباده المؤمنين: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] ، وقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] ، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] .
وذكر الله سبحانه تارة يكون باللسان، وتارة يكون بالقلب، وهو التفكر في ملكوت السماوات والأرض، وإذا نظرنا إلى علاقة ذكر الله بآياته سبحانه نجد ما يلفت النظر في تلك الآية الكريمة: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ) ، يقول علماء الأصول: إن خطاب الله للعباد ينقسم إلى قسمين: خطاب تكليف، وخطاب وضع، فخطاب التكليف هو الذي فيه أمر بفعل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] {لا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] {لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ} [الإسراء:33] كل هذه من باب خطاب التكليف أمراً أو نهياً.
أما خطاب الوضع: فهو بيان إما لشرط أو لسبب أو لزمن، لإيقاع ذلك الواجب الذي كلف به العباد، فمثلاً: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] متى نصوم؟ {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:185] ، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ} [آل عمران:97] متى نحج؟ {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:110] متى نقيمها؟ ((لدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)) [الإسراء:78] ، وقوله تعالى: {َأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ، فكأن الصلاة ما أقيمت إلا لذكر الله، وكذلك قال في الحج بعد قضاء المناسك: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] .(57/3)
التفكر في الكون من ذكر لله
العبادات كلها إنما وجدت لذكر الله، فنجد خطاب الوضع في تحديد أوقات الصلوات يربطنا بالقدرة الإلهية، ويربط العبد بربه في حياته، ورزقه، ومماته، وكل شئونه، وإذا نظرنا إلى هذه الآية الكريمة التي تثير النظر والتفكير والتذكر بآيات القدرة الباهرة، وعند كل آية تستخلص منك ذكراً لله: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) ، والحال أن الصلاة تقام لذكر الله، ودلوك الشمس على التحقيق هو زوالها عن كبد السماء، (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) الغسق الظلام، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) الفجر: انفجار نور النهار من ظلام الليل، فهذه الحركة الكونية آية، تبدأ الشمس من مشرقها والظل في مغربها، فإذا استوت في كبد السماء زالت إلى المغرب، وهي تسير بسير لطيف لا يدركه البصر، وهذه آية من المولى سبحانه، فيتحول الظل من غرب إلى شرق، ولا تزال تأخذ في الدنو إلى مغيبها حتى تتضيف إلى الغروب فيعتريها الاصفرار والاحمرار، ثم تغيب جارّة معها ضوء النهار عن الكون ويعقبها غسق الليل، فتتغير حركة الكون من سعي وحياة إلى سكون وهدوء: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:10-11] ، ويتغير حال الكون من ضوء ساطع إلى ليل غاسق، من الذي أذهب الشمس؟ ومن الذي حركها؟ ومن الذي كسا هذا العالم كله بهذا الظلام؟ ومن الذي يعيدها مرة أخرى من المشرق؟ ومن الذي يجعل الضوء ينفجر من ظلام الليل، ويبدأ الضوء شيئاً فشيئاً حتى تشرق الشمس وينتشر الضوء فيعم العالم كله؟ هذا المسجد كم فيه من مئات اللمبات! وهل تغني عن الشمس؟! انظر إلى ضحى النهار في هذا المكان الذي أنت فيه، مع أن الشمس خارج المسجد، كم فيه من قوة الإضاءة! والعالم كله بجباله وبحاره وصحاريه ووديانه كلها يغمرها هذا الضوء، فإذا غربت الشمس انحسر هذا الضوء، وجاء مكانه الظلام، آيات، فهذا ذكر بالقلب وهذا ذكر باللسان، فإذا كنت في فلاة من الأرض، وكنت في وضح النهار ورأيت الشمس قد بدأت، ثم إذا بها تصل إلى منتصف السماء وأنت لا ترى حركتها، كعقرب الساعة في يدك يتحرك ويدور وأنت لا ترى حركته؛ لأنها حركة لطيفة تدق عن إدراك البصر، وهكذا الشمس فإذا بها في برهة ولحظة تتحول إلى جهة الغرب، ويتحول وضع النهار كله، فإذا رأيت هذه الآية استعجبت وأكبرت خالق هذا الكون! فإذا تأملتها وتابعت النظر معها، حتى إذا تضيفت للمغيب واختفى ذاك الضوء الأبيض الساطع، وتلون بقريب من الصفرة، ثم إذا بقرص الشمس يميل إلى الاحمرار، ثم إذا بها تغيب في الأفق، أنت بفكرك تسبح وتتساءل: من وراء هذه الحركة؟ وإذا كنت في استغراق الفكر في هذه الحالة تستيقظ على نداء المؤذن: الله أكبر.
يقول لي بعض الدعاة إلى الله: إنه كان يعرف شخصاً من كبار الشخصيات المسيحية، وكان متعصباً للمسيحية، وكان كاتباً وشاعراً أديباً، وفي ذات ليلة جلس في الشرفة يتابع النجوم، وينظر إليها نظرة أديب أو شاعر ذا خيال مجنح، فإذا به يستغرق في تلك النظرة ويسبح بفكره في هذا الكون، وبينما هو في عمق تفكيره انبثق ضوء الفجر، وإذا به يصحو ويفيق على كلمة المؤذن: الله أكبر، فينطقها مع المؤذن: الله أكبر الله أكبر، حتى أتى إلى الشهادتين فنطق: أشهد أن محمداً رسول الله، فظل يومه مبهوتاً ومدهوشاً، ثم جاء المساء وجلس في مكانه، ورأى الشمس تتضيف إلى المغيب، فأخذ يسبح ويتفكر في ماضٍ عجيب ومستقبل غريب، وبينما هو في هذا التفكير العميق يستيقظ على صوت المؤذن للمغرب: الله أكبر الله أكبر، فيتابعه في الأذان، وينزل حالاً إلى المسجد، ويعلن إسلامه!(57/4)
الذكر غذاء للروح
قال الله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ، حقاً إن ذكر الله هو غذاء العبد، وخاصة لطالب العلم، ويذكرون عن الإمام ابن تيمية رحمه الله: أنه كان يصلي الصبح ويجلس في مكانه يذكر الله حتى تشرق الشمس ويصلي ركعتين وينصرف، فقالوا له في ذلك مع علمه وبحثه واشتغاله فيقول: هذه الجلسة هي غذائي طول يومي! وكان أحمد رحمه الله يقول: عجبت لطالب علم لا ورد له في الليل! ويكفي قوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:5-7] .
ثم إننا نجد أن الإسلام بتعاليمه ومنهجه ينظم ذكر الله عند المؤمن في كل حركاته، ويجعل حياته فعلاً تحت هذا المنهج الإلهي الكريم.
إذا نظرنا إلى ما كانت عليه الأمم الماضية؛ نجد أن اليهود قد غلبت عليهم المادة، وغفلوا عن ذكر الله حتى كانوا كما قال الله: {قسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] ، ونجد النصارى قد اخترعوا رهبانية ابتدعوها، لكن لم يستطيعوا أن يحافظوا عليها، ولا أن يؤدوا واجبها؛ لأنها زادت عن حد طاقة الإنسان، فكل منهما فشل في طريقه، ثم جاء الإسلام فراعى ظروف الإنسان من مادة وروح، فتأتي في سورة الجمعة في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، والسعي إلى ذكر الله هو غذاء الروح، والبيع هو مادة الحياة في الكسب المادي، فأنت تعمل، فحينما ينادى للصلاة أجبت داعي الله، وجئت لذكر الله، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] ، يبتغي من فضل الله، ولا يجلس بمسبحته في مكانه، ولا يجلس في وادٍ يذكر الله فقط، بل ينتشر في الأرض ليطلب ويبتغي من فضل الله بأسباب الرزق والمعيشة، ومع ذلك فهو يذكر الله بلسانه، وبقلبه، وبمعاملته، فإذا انتشروا في الأرض، ورجع الزارع إلى مزرعته، فحرث الأرض ووضع البذر، وقال: باسم الله اللهم! أنبتها وارزقني ثمرتها، وإذا رجع التاجر إلى متجره، وجاء يتعامل مع الناس، وأخذ الكيل والوزن تذكر قوله سبحانه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:1-2] ، وهكذا إذا جاء بسلعة تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) ، وإذا رجع إلى مصنعه تذكر كيف يتقن الصنعة ويتجنب الغش، وهكذا يكون ذاكراً لله بأقواله وأفعاله، ولا يمنعه الذكر أن يسعى في الأرض ويأكل من رزق الله.(57/5)
الذكر وظيفة الكون
أيها الإخوة! ذكر الله وظيفة الكون كله، وقد ذكروا، عن سعيد بن المسيب: أنه كان يقوم الليل، وكثيراً ما يقرأ سورة ص، فقيل له في ذلك، فقال: روي (أن رجلاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قام الليل، وقرأ سورة ص وسجد، وعنده شجرة فرآها تسجد بسجوده، وتقول: اللهم اجعلها لي عندك ذخراً، وأعطني بها أجراً، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأقره على ذلك) ، والله يقول: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] .
إذاً: الكون كله مسخر لذكر الله سبحانه وتعالى، وقد أشرنا إلى عموم الآية الكريمة: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، وأشرنا إلى قضية الهدهد، وكيف أنه ذكر عن بلقيس وقومها أنهم {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:24] ، والحيوانات تؤمن بالبعث، كما ذكر مالك حديثاً في الموطأ في فضل يوم الجمعة: (فيها خلق آدم، وفيها سكن الجنة، وفيها أسجد الله له الملائكة، وفيها أهبط إلى الأرض، وفيها تاب الله عليه، وفيها ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائم يسأل الله حاجته إلا أعطاه إياها، وفيها تقوم الساعة، وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها من فجر يوم الجمعة حتى مشرق الشمس فرقاً من الساعة) ، الدواب تؤمن بالله، وتدرك الحساب، وتؤمن بالبعث، وتعلم أن القيامة ستقوم يوم الجمعة، وتميّز بين الجمعة وبين الخميس والسبت، و (تصيخ بسمعها فرقاً من الساعة) أي: من النفخ في الصور لقيام الساعة.
والآيات والأحاديث في هذا الباب واسعة جداً، وأوصي كل طالب علم وكل مسلم أن يعتني بذكر الله؛ لأن ذكر الله سبحانه هو الذي يحيي موت القلوب: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، وأي سعادة للإنسان إلا بطمأنينة قلبه؟! والله! لو جمع له ملك العالم كله، وجمع له أضعاف ما كان لقارون من مال، وما كان لملوك الأرض من عز، وقلبه مضطرب وهو قلق، والله! لا قيمة له في هذا كله، وإذا كان يجد القوت الضروري والكساء العادي والمأوى في أي مأوى، وهو قرير العين، مطمئن النفس؛ لكان أسعد خلق الله، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، ويكفي في الصلاة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أنها غذاء فقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) .(57/6)
شمول الذكر لكل العبادات
إن الباب هذا باب واسع، وأوصي بالعناية بكتب الأذكار الواردة، التي هي مأمونة من الوضع أو مأمونة من الغلو، وأحسن ما وضع في ذلك كتاب الأذكار للإمام النووي؛ فقد رتبه ونظمه، وجاء بالأذكار الواردة المؤقتة في الصباح والمساء وبعد الصلاة وعند لباس الثوب والنوم واليقظة وتناول الطعام وخلع الثياب وكل حركات الإنسان وردت السنة فيه بذكر الله والدعاء.
وهذا يشرح لنا معنى قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:161-162] ، محياي ومماتي لله، صحيح كل لله، وموقن على وفق منهج الله الذي يريده ويرتضيه، ولذا جاء في الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) ، إذا كان العبد مع الله، وإذا كان العبد حقاً أخلص نفسه لله، لم لا يجعله كذلك؟ وكم من عبد كان مستجاب الدعوة! الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي عمر بن الخطاب فيقول: (إذا رأيت أويساً القرني فاطلب منه أن يدعو لك، ويستغفر لك) ، من أويس؟ رجل من اليمن، فكان عمر يتتبع الوفود اليمنية: أفيكم أويس؟ أفيكم أويس؟ حتى قيل له: نعم هو فينا، قال: ائتوني به، فجاء وكان قد أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته، وبأن له أماً كان باراً بها، فلما سأله عن أمه أخبره بها، وأن في رجله علامة كذا، فقال: استغفر الله لي، ادع لي! قال: كيف وأنت أمير المؤمنين؟! قال: لقد أخبرني رسول الله بكذا وكذا.
فلما سمع أويس هذا لم يغتر به، ولم يأته شيء في نفسه، بل قال: أستأذنك -يا أمير المؤمنين- أن أخرج إلى العراق، أي: ما دام قد عرف أمري، فيريد أن يبعد عنه هذا الجو الذي عُرف فيه، وكان شخصاً من عامة الناس، فقال: إذا أردت الذهاب فمرني أعطيك خطاباً لعامل العراق، قال: لا، فإني أحب أن أكون في عامة الناس! فذهب إلى العراق وأخذ عمر يسأل عن حاله في العراق، وكلما جاءه وفد من العراق يسأل عنه، فإذا به كان خادماً عاملاً عند رجل من عامة الناس في الحجارة والطين، فإذا بالرجل يقول لـ عمر: إني أعرفه، فقال: إذا استطعت أن يستغفر ويدعو الله لك فافعل، فذهب الرجل إلى أويس فطلب منه الدعاء، فقال: ألقيت عمر؟! قال: نعم لقيته، فإذا به من الغد يخرج من العراق.
أيها الإخوة! إن ذكر الله يعلي منزلة العبد بما لا يعلم قدر ذلك إلا الله، ويكفي أن الإنسان في حالة ذكره لله جليس وقرين، وما ذكرنا يكفي لهذا الباب، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لذكره كما قال الله: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:130] .(57/7)
سعة فضل الله على عباده
قال صلى الله عليه وسلم: (إن في كل تسبيحة صدقة، وتحميدة صدقة، وتكبيرة صدقة، وتهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) .
هذا الجزء من الحديث يدلنا على سعة فضل الله على عباده تحمد الله وكأنك تصدقت، تصدقت على من؟ على نفسك؛ لأنك في حاجة إلى الصدقة.
بل يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث: إن الله سبحانه يتصدق على عباده، يتصدق عليهم بماذا؟ بكل نعمة أنعمها عليهم، وأعظم نعمه تصدق بها على خلقه: أن هداهم إلى الإسلام، ثم وفقهم لعمل الخير، ثم قبل ذلك منهم، ثم آجرهم على ذلك، أليس ذلك كله من فضل الله؟ بلى.
التسبيحة صدقة على نفسك، والتحميدة صدقة على نفسك، والتهليلة صدقة على نفسك، وقد جاء مبيناً ذلك في الحديث: (في كل يوم تطلع فيه الشمس على كل سلامى من الناس صدقة) والسلامى: هو المفصل الصغير في الجسم، وكم في الجسم من السلاميات؟ إن كل جزء يتحرك في الجسم سلامى، فعندك عشرة أصابع في اليدين، وفي كل أصبع ثلاثة.
فهذه ثلاثون، وفي القدم مثلها ثلاثون فتكون ستين، ثم في القدم وكف اليد والساعد وفقار الظهر وضلوع الإنسان وكل جزء يتحرك في الإنسان، قال بعض العلماء: ثلاثمائة وستون عضواً في جسم الإنسان يتحرك.
قال صلى الله عليه وسلم: (على كل سلامى من الناس كل يوم صدقة) ، وهذه الصدقة لماذا؟ هذا الهيكل الإنساني جهاز يعمل ويتحرك ويستهلك وقوداً في الحركة، مثلاً: عندك سيارة تعمل كل يوم، فتحتاج إلى تغيير الزيت والبترول والعجلات تحتاج وتحتاج لأن كل أجزائها تستهلك في الحركة.
الأسنان تطحن كيلو ونصف -ومع التوابع اثنين كيلو- في اليوم، كم في السنة؟ اثنان كيلو في ثلاثمائة بستمائة كيلو تطحنها الأضراس في السنة! وكم سنة تعيش! ففي عشر سنوات ستة آلاف كيلو، سبحان الله العظيم! كل هذا وهي على ما هي عليه! الرحا الذي يطحن الحب يتآكل ويتغير كل ستة أشهر، وهو من الحجر الأصم.
ويقولون في علم الكثافة: جرام من العظم يحمل عشرة أضعاف جرام من الحديد، قدرة الله وآية من آياته.
هذا الجسم الذي يعمل بهذه الحالة، لو نظرت داخله وفي أعماله لرأيت أموراً تعجز عن تصورها، يقول بعض علماء الكيمياء: لو أردنا إيجاد مصنع يفرز لنا مادة مما تفرزه الكبد بمقدار ما تنتجه خلية واحدة لاحتجنا إلى مصنع يسع في الأرض كيلو طولاً وكيلو عرضاً؛ من أجل إيجاد آلات نستطيع أن نوجد من ورائها إفراز خلية واحدة من خلايا الكبد! وأنتم ترون في المستشفيات -عافانا الله وإياكم- جهاز الكلية الصناعية، كم حجمه؟! وأنت تحمل اثنتين في جنبك، ونصف الكلى يعمل للإنسان والنصف يستريح، كلى تعمل في شهر وتستريح الأخرى في شهر، آيات! وهذا الجهاز الذي يعمل وأنت لا تدري عن عمله يحتاج إلى صيانة، وأنت لا توجد عندك ورشة صيانة لك، ولكن المولى سبحانه قد دبر صيانته، تتحرك آلاف المرات دونما تزييت أو تشحيم، وهكذا كل المفاصل تتحرك، وإذا رأيت الشاة المذبوحة تجد ماء أبيض لزجاً ينزل من المفصل، هذا الماء به ليونة الحركة، والله هو الذي يدبر هذا، وعليك صدقة تقدمها لله شكراً على سلامة هذا الجسم.
قالوا: (يا رسول الله! ومن منا يستطيع أن يتصدق كل يوم بعدد السلامى؟!) ، كيف نستطيع أن نتصدق كل يوم ثلاثمائة وستين صدقة؟! قال: (بكل تحميدة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة) ، أحالهم على ذكر الله وتسبيحه وتحميده، ثم قال: (ويجزئ عن ذلك ركعتي الضحى) تصلي ركعتين ضحى فكأنك قمت بصيانة مجملة، سعة فضل من الله، وبكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة واستغفار وذكر لله وصلاة على رسول الله وكل أعمال البر صدقة، والصدقة بعشر أمثالها: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.(57/8)
من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال: (وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) ، هنا قسمان متقابلان: أمر بمعروف، نهي عن منكر، الأمر بالمعروف يكون بالمعروف، لا بالشدة، والنهي عن المنكر يكون بالحسنى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] .(57/9)
شمول أجر الصدقة للآمر بالمعروف والمأمور
الأمر بالمعروف صدقة على الطرفين: الآمر له صدقة على نفسه بالأجر، والمأمور صدقة عليه بأنك هيأته وأرشدته إلى المعروف، إنسان مقصر في عمل، فجئت وأمرته به، وعمل هذا العمل، واكتسب أجراً؛ فأنت تصدقت عليه بهذا الأجر الذي تسببت له فيه، وكذلك النهي عن المنكر صدقة عليك لأجرك في ذلك، وصدقة على المنهي بأن تكفه عن هذا المنكر الذي هو عليه، (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: مظلوم ننصره، فكيف الظالم؟! قال: تكفه عن الظلم فهو نصرة له) .
وإذا جئنا إلى هذه الفقرة وحدها، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الواجب على الأمة جميعاً أفراداً وجماعات، حاكمين ومحكومين، كلٌ في مجاله، يقول صلى الله عليه وسلم محملاً الأمة مسئولية، صيانتها منها وفيها، لكي يتحمل المجتمع مسئولية صيانته، والحفاظ على كيانه، فقال: (من رأى منكم) (من) من صيغ العموم، (منكم) خطاب للجميع، يشمل الرجال والنساء، والصغار والكبار، وكل من يدخل تحت خطاب: (من) (ومنكم) .
(من رأى منكم منكراً) ، والمنكر المقياس فيه مقياس الشرع في الحسن والقبح، والمعروف والمنكر يعرفان بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما وافق الكتاب والسنة فهو معروف، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو منكر، وليس الأمر للهوى والتشهي.(57/10)
أسلوب تغيير المنكر
(من رأى منكم منكراً فليغيره) تغيير المنكر يكون بأحد أمرين: إما بإزالته، وإما باستبداله بمعروف، وكما يقولون: ما أحييت بدعة إلا على أعقاب سنة، فلا تظهر بدعة إلا بإماتة سنة؛ لأن السنة تشغل فراغك وتملأ حياتك، فإذا عطلت السنة جاءت البدعة محلها، وكما كانوا يقولون: في الشرق الأوسط فراغ يجب أن نملؤه، وكذلك حياة المسلم ليس فيها فراغ أبداً، وإذا تأملت السنة تجدها تصاحبك في كل حياتك: عند اضطجاعك في فراشك تقول كذا، وعند إتيانك أهلك، وعند قيامك في الصباح، وفي أكلك وشربك ولباسك وخلع ثيابك، وكل شيء، قال الله: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162] ، فإذا عطلت السنة في مرفق من تلك المرافق، فإما أن تبقى عاطلة وإما أن تأتي البدعة، وهكذا المنكر.
ثم بيّن صلى الله عليه وسلم درجات تغيير المنكر بحسب إمكانات المغيِّر، فبدأ من القمة فقال: (بيده) ، والتغيير باليد لمن له سلطة.
مثل سلطة الحاكم على المحكومين، وسلطة الوالد على الأولاد ما لم يكبروا، وسلطة كل راع في رعيته: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) ، فالمدير في إدارته، والناظر في مدرسته، والأستاذ في فصله، كل إنسان مسئول عمن استرعاه الله أمره.
إذاً: يغيّر الإنسان المنكر بيده في حدود سلطته وسلطانه، أما إذا لم يكن في سلطانه فلا يتعطل الأمر بل ينتقل: (فإن لم يستطع -بأن كان خارجاً عن سلطانه، أو لم يخول إليه- فبلسانه) ، وكذلك أيضاً تغيير المنكر باللسان يتفاوت، ولذا جعل صلى الله عليه وسلم (أعظم الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر) ، ومتى تكون كلمة الحق عند سلطان جائر؟ إذا ظهر المنكر، وقام صاحب الحق وقال كلمة الحق عند هذا السلطان، ولكن ليس كل إنسان يستطيع ذلك، فإذا كنت تعلم من نفسك القدرة والصبر وعدم التعرض للإيذاء أو الإهانة أو تعطيل قيامك بالأمر في موطن آخر، وتعلم أنه يسمع منك فقل كلمة الحق، ولتعلم أن الحكام والمسئولين لا شك أنهم مسلمون ويقبلون الحق، ولكن لهذا السلطان سلطان وهيبة، فلا ينبغي أن تأتيه في مجلسه أمام العامة وتقول: أيها الحاكم! أنت أخطأت في كذا وكذا، سبحان الله! أما وجدت وسيلة غير هذه؟!! لو كان إنساناً عادياً في هذا الجمع وقلت: يا فلان! أعلم عنك أنك فعلت كذا وكذا، فلا ينبغي لك هذا، هل هذا من باب الأمر والنصيحة أم هو من باب التشنيع والفضيحة؟ من باب الفضيحة.(57/11)
لا إنكار في مختلف فيه
ليكن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر متحلياً بالرفق متخذاً أسلوب الحكمة، ولهذا يقول العلماء: حينما يقوم الإنسان بهذه المهمة يجب أن يكون حكيماً بما يفعل، عالماً بما سينكر فيه، فيعلم أن ذلك محرم، ويكون التحريم بالإجماع، ولا يكون موضع خلاف عند الناس، مثلاً: أنت طالب علم في المسجد النبوي، وبعد صلاة العصر دخل رجل المسجد وصلى، وأنت ترى أنه لا صلاة بعد العصر، فإذا كنت فعلاً تريد أن تغيّر فيجب أن تعلم حكم هذه المسألة عند الجميع، فإذا كنت تعلم أن الشافعي رحمه الله يرى جواز هذه الصلاة، فلا يحق لك أن تنكر على من صلاها؛ لأنه من حقه أن يقول لك: لم لا أصلي؟ فتقول: الأئمة الثلاثة يقولون: لا صلاة، فيقول لك: مذهبي مذهب الشافعي وهو يقول: تصلي، وليست مذاهبك بأولى من مذهبي، فتقول: الحديث فيه، فيقول لك: والحديث الآخر فيه: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي) ، وتتدخل في نزاع وخلاف لا ينبغي أن تتعرض له، فإن جاء وسألك بيّنت له الواقع، ولا تكتم الحق، وبيّن له بكل وضوح؛ لأنه جاء يستفسر عن الصحيح والراجح.
وهكذا لما سئل أحمد رحمه الله: أتصلي خلف الشافعي وقد أكل لحم الجزور؟! وأحمد يرى أن لحم الجزور ينقض الوضوء، قال: وكيف لا أصلي خلف الشافعي وخلف مالك بن أنس وخلف فلان وفلان؟! فهذه مسألة خلافية، وهم يرون رأياً وهو يرى رأياً.
قال عمر رضي الله تعالى عنه لرجل مر عليه: من أين جئت؟ قال: جئت من عند فلان، قال: في أي شيء؟ قال: احتكمنا إليه أنا وفلان في كذا وكذا، قال: بم حكم؟ قال: حكم بكذا، قال: لو كنتم احتكمتم إلي لحكمت بغير ذلك، قال: وما يمنعك وأنت أمير المؤمنين أن تمضي حكمك؟ قال: لا، لو كنت أردكم إلى نص قاطع فاصل لفعلت، ولكن أردكم إلى رأيي، وليس رأيي بأولى من رأيه، فـ عمر وهو خليفة راشد له حق التشريع: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) ، ومع ذلك يقول في مسالة اجتهادية خلافية: لو كنت أردكم إلى نص لفعلت، ولكن إلى رأيي، وليس رأيي أولى من رأيه، فكيف بك مع الغير؟!!(57/12)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هذا الباب -أيها الإخوة- تجب العناية به، وقد حمّل النبي صلى الله عليه وسلم كل فرد مسئوليته، فذو السلطان في سلطانه، وذو الرعية في رعيته.
وفي آخر المطاف: (فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ، وفي رواية: (وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان) ، ولا يتساءل الإنسان: أغيّر المنكر بقلبي؟ وماذا سيؤثر على صاحب المنكر بتغييره في قلبه؟ المعنى: أن تنكر ذلك وتستنكر فعله، لا أن ترضى به وتركن إليه، ويقول العلماء: أثر ونتيجة تغيير المنكر بالقلب، أن استنكاره وعدم الرضا به، يجعلك في نفسك لا تأتي به وقد استنكرته من غيرك.
ويقولون: سأل رجل عيسى عليه السلام: من أين لك هذا الأدب الرفيع، وأنت لا أب لك يؤدبك؟ قال: أرى الحسن فأستحسنه وأفعل مثله، وأرى القبيح فأستقبحه وأتركه ولا آتيه، فالعاقل يرتاح.
إذاً: أول درجات التحصيل في إنكار المنكر بالقلب: هو الصيانة والبعد عن فعله.
ثانياً: حينما تستنكر الفعل بقلبك يظل إنكار المنكر قائماً، لكنه دفين كامن ولعلك تنقل هذا الإحساس إلى من يقدر أن يغيره بلسانه أو بيده، أو تظل أنت على علم حامل لهذا الأمر، ولعلك أن تتمكن في وقت من الأوقات فتغير هذا المنكر بالدرجات الأخرى: باللسان، أو باليد.
إذاً: إنكار المنكر بالقلب إبقاء لهذا المنهج حتى لا يضيع ولا يندثر عند الناس.
قال: (أمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة) ، ومن المعروف ما يتعلق بالأمور المادية مثل إطعام الطعام، والنفقة على الأولاد، والنفقة على الزوجة، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ سعد: (واللقمة تضعها في فِي امرأتك صدقة) .(57/13)
العادة تكون عبادة بالنيبة الصالحة
في نهاية هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة) ، وفي الحديث الآخر: (وتعين الرجل على متاعه صدقة) ، إنسان عنده متاع غير قادر أن يأخذه، فساعدته على حمله على ظهره، أو عنده دابته، وحمله موجود، فتحمل معه المتاع على الدابة فلك صدقة، تعين صناعاً في صنعته صدقة، أو نجاراً يريد ينشر خشبة وهو غير قادر أن يمسكها فمسكتها حتى نشرها، أو يريد أن يحزمها بحبل وساعدته في حزمها، (ومر صلى الله عليه وسلم برجل ذبح شاة، ويريد سلخها ولم يحسن، فحسر عن كمه صلى الله عليه وسلم وأدخل يده بين الجلد واللحم وأدارها وقال: هكذا تفعل) ، سبحان الله العظيم! لا يستنكف عن أن يساعد، وكونك ترشد الضال فتهديه حساً أو معنى سواء، شخص كفيف لا يعرف أين بيته، وسألك: أين بيت فلان؟ فتهديه إلى هذا البيت، فهي صدقة منك عليه وعلى نفسك، إنسان جاهل تعلمه صدقة، فأبواب الخير والصدقة كثيرة جداً، وقد جاء في الحديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) .
ثم قال: (وفي بضع أحدكم صدقة) ، البضع هو عضو الإتيان بين الرجل والمرأة، فهنا استغرب الصحابة: في بضع أحدنا صدقة؟! صدقة على من؟ صدقة عليكما الاثنين، صدقة عليك أولاً؛ لأنها تعفك وتغض بصرك، وصدقة على الزوجة التي هي أمانة في يدك، فتؤدي حقها، فاستعجبوا: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! قال: أرأيتم -انظروا الأسلوب النبوي للتعليم بالمحسوس، واستنتاج الحكم من السائل- لو وضعتها في حرام أكان عليك وزر؟ قالوا: نعم، قال: أتحتسبون بالوزر ولا تحتسبون بالأجر؟!) ، تعدون الشرع على أنفسكم وتتركون الخير ولا تحتسبونه؟! وقول السائل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟) ، ويقيس صلى الله عليه وسلم في الجواب بقياس العكس.
هنا، وإن حسن النية يقلب العادة فيصيرها عبادة، لو أكلت لقمه وأنت جائع، ولكنك تنوي بأكلها التقوي على طاعة الله، فتشبع وتتمتع بالأكل ولك أجر، لو نمت القيلولة ونويت بذلك الاستعانة على أداء واجبك في النهار أو قيام الليل كان لك في ذلك أجر، إذا لبست ثيابك ونويت شكر النعمة وستر العورة وأداء الواجب كان لك بذلك أجر، لكن لو كنت تلبس لتتفاخر وتتطاول على الناس، أو تنام لتتقوى على سهرة في لعبة أو كذا، كان ذلك بالعكس، كما قال ابن مسعود: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أنا كلمة، قال صلى الله عليه وسلم: من مات يشرك بالله دخل النار، وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله دخل الجنة) ، يعني: قياس العكس، وهذا من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، وهذا يدلنا أن النية الصالحة تقلب العادة عبادة.
ولعلنا بهذا نكون قد أوفينا هذا الحديث بما تيسر.
ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(57/14)
شرح الأربعين النووية - الحديث السادس والعشرون [1](58/1)
شرح حديث: (كل سلامى من الناس عليه صدقة)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) رواه البخاري ومسلم] .
هذا الحديث يمكن أن يجعل له عنوان: شكر النعمة، أو صدقة البدن، ويمكن الربط بينه وبين الحديث الذي قبله: (ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم) فيأتي النووي رحمه الله بعد هذا ليبين أن كل الصلوات وكل الصيام وكل الصدقات وما زاد عليه من الأعمال لا يؤدي شكر نعم الله على العبد.
وفي هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى) لفظة: (كل) يسميها علماء المنطق والبيان سور كلي، يشمل كل سلامى في بدن الإنسان، ويختلف العلماء في تفسير السلامى، والمفصل والعضو والعظم كل ذلك جاء في الحديث النبوي، تارة (بمفصل) ، وتارة (بسلامى) ، وعلماء الطب القدامى كـ ابن سيناء في القانون يقسم العظام إلى ثلاثة أقسام: منها ما عليه بناء الجسم كالخشبة المعترضة في بناء السفينة يقام عليها بناؤها، وهو العمود الفقري وعظام الظهر، وهناك عظام جانبية قد تكون مساعدة وقد تكون مستقلة، وعقد ثلاثاً وثلاثين باباً في شرح العظام في جسم الإنسان، وقسمها أيضاً إلى السلاميات والسمسميات وهي عظام دقيقة بين المفصل والمفصل، أو بين العظم والعظم.
والمتأمل في خِلقة الإنسان يجد الآيات الباهرات لا سيما من العظام التي تستخلص من كل عاقل الاعتراف بقدرة الخالق سبحانه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6-7] وفي بعض القراءات: (فعدَّلك) {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] .
إذاً: خلق الإنسان من أعظم آيات القدرة الإلهية.
ومن أعظمها دلالة على القدرة الإلهية، والعلم الأزلي المحيط بكل شيء، اختلاف صورة هذا الإنسان، تجد آلاف الملايين من البشر لكل شخص طابع في وجهه خاص، مع أن القالب واحد، عينان وأنف وفم، وكل في موضعه، ولا تجد صورتين متحدتين تماماً تماماً، فلابد من المغايرة، فتلك الأشكال وتلك الصور آلاف الملايين، وعدم اختلاط بعضها ببعض؛ يدل على القدرة حقاً.
قوله هنا: (كل سلامى) معناه باتفاق العلماء: عظماً أو مفصلاً، وجاءت الأحاديث: (ثلاثمائة وستون مفصلاً) ، وجاءت: (ست وثلاثون سلامى) على أنها السمسميات كما يقول علماء العظام.
وقوله: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس) يذكرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بواجب حفظها وصيانتها، وبأي شيء تكون تلك الصيانة؟ هل يكون بإدخالها الورش والمستشفيات والمعامل؟ لا.
ولكن بالصدقات شكراً لله على تلك النعمة، ومهما يكن من شيء في هذا الموضوع فلا ولن يستطيع إنسان أن يؤدي شكر هذه النعمة، كما جاء في بعض الآثار، وقد جمع منها ابن رجب في شرح الأربعين نصوصاً كثيرة عديدة جداً، منها: (يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول المولى سبحانه للملائكة: زنوا عبدي بعمله وبنعمي عليه، فتقوم نعمة واحدة، نعمة البصر أو السمع تطالب بحقها من حسناته، فتستغرق جميع أعماله، فلم يبق له شيء) وعن وهب بن منبه: قال: كان رجل ممن كان قبلكم عبد الله في جزيرة في البحر خمسين سنة، فإذا كان يوم القيامة قال الله:) أدخلوه الجنة برحمتي فقد غفرت له، فيقول: يا رب! بل بعملي، وأي ذنب لي؟ فيقول: زنوا نعمي عليه بعمله، فتقوم نعمة السمع وتطالب بحقها فلم يبق له شيء، فيؤمر به إلى النار، فيقول: يا رب! أدخلني برحمتك، ثلاث مرات، فيدخله الله تعالى الجنة برحمته) وهذا الأثر في سنده كلام.
ويذكرون أن رجلاً أوتي مالا ًكثيراً ثم أخذه الله عنه، فحمد الله وشكره، فجاء شخص آخر وقال: تحمد الله على أي شيء وقد أخذ جميع ما عندك؟ قال: أحمده على نعم له عندي، لو أعطاني ملوك الأرض عوضاً عنه لا يجزئ فيه، قال: وما هو؟ قال: سمعي وبصري وحمدي لله.
ويذكرون أن رجلاً بات ليلة نائماً هادئاً، فإذا بعرق ينبض عليه بالألم فمنعه النوم، فقيل له: كم يوازي نعمة سكون هذا العرق عليك؟ فقال: بكل ما أوتيت من مال، كأن يثور عليه ضرس أو تضرب عينه، أو أي وضع من هذه الأوضاع فيتمنى أن يسكن هذا الألم بكل ما أوتي من مال.
ولذا أول شكر النعمة: حفظ الجوارح من معصية الله، ثم زيادة على ذلك أن يصرفها في طاعة الله، في أداء الواجبات، ثم مرتبة ثالثة وهي: أن يصرفها في نوافل العبادات، سواء كانت في شخصه أو متعدية إلى غيره على ما سيأتي توضيحه من النبي صلى الله عليه وسلم.
على كل إنسان كل يوم أن يتصدق بعدد أعضاء جسمه، وتلك الصدقة هي صدقة شكر، وأي نعم أعظم على الإنسان من ذاته وشخصه؟!! وإذا اعترف الإنسان بنعم الله عليه كانت معرفته شكراً لها، كما جاء عن نبي الله موسى عليه السلام أنه قال: (يا رب! إن صليت فمن قبلك صليت، وإن صمت فمن قِبَلك صمت، وإن بلغت رسالتك فمن قِبَلك بلغت، فكيف أشكرك على نعمك؟ فأوحى الله إليه: الآن -يا موسى- شكرتني) يعني: عرفت أن صلاتك من قِبَلي، وأنا الذي أعنتك ووفقتك إليها، وعرفت أن صيامك من قِبَلي، وأن قيامك وتبليغك من قِبَلي، فإذا عرفت أن تلك النعم من الله فقد شكرت: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] ، ولذا جاء في الأثر: (من قال إذا أصبح: اللهم! ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر النعم) .
(كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم) (كل يوم) اليوم هو الزمن المحدد بأربع وعشرين ساعة في هذا العرض، أو ليلة معها نهار.
قوله صلى الله عليه وسلم: (كل يوم تطلع فيه الشمس) ، معروف أن اليوم هو من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس، وهو اليوم الحقيقي الفلكي ولكنه قال: (تطلع فيه الشمس) لرفع توهم اليوم اللغوي، كما تقول العرب: يوم ذي قار، وهو يوم حرب في الجاهلية، نبت فيه أجيال، أو تقول: يوم اليرموك، أي: وقعة اليرموك، وهي لم تكن في يوم واحد من مطلع شمس إلى مطلع شمس.
إذاً: يحدد النبي صلى الله عليه وسلم اليوم هنا بطلوع الشمس ليرفع توهم اليوم اللغوي، ولعل التنصيص على طلوع الشمس بتحديد الوقت الفلكي الحقيقي، يبرز لنا نعمة عامة: وهي طلوع الشمس من مشرقها على عادتها، وإلا لو حجبت عن الطلوع، وجاءت من مغربها قامت الساعة، فمجيء الشمس وطلوعها كل يوم فيه إنعام على الكون كله، نباته وحيواناته وإنسه؛ لأن في طلوعها حركة وحيوية وانتشار، فيذكر بأن هذه من النعم العظمى.
ولعله يبين لنا: أننا لا نستطيع أن نأتي بالشمس فتشرق، كما قال الله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ، ليس هناك طائر يطير إلا بجناحين، ولكن هذان الجناحان لو تركا للطائر ما طار، ما يمسكهن إلا الله سبحانه وتعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41] ، من الذي يمسك الطائر وهو صاف هكذا؟ المولى سبحانه، فيبين أن القدرة الإلهية وراء الأسباب المادية، وقد يكون لبيان عظم الفعل كقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، لا يوجد كلمة إلا وتخرج من الفم، ولكن إكباراً واستنكاراً؛ لأنهم تجرءوا عن مجرد تفكير في الخاطر حتى تكلموا به، وخرجت من أفواههم مع عظمها فقالوا: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} [مريم:88] .
سبحان الله! فقوله: (كل يوم تطلع في الشمس) بيان لنعمة الله على الخلق في هاتين الآيتين الكونيتين الليل والنهار.
قال صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس) ، وبين أن في الجسم ثلاثمائة وستين مفصلاً، أي: في كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة، لو تصدق بثلاثمائة وستين تمرة لصارت كذا كيلو، وكذا صاع، وليس كل الناس يجد تمرات يأكلها في النهار، فضلاً عن التصدق بهذا.
وهنا صلى الله عليه وسلم وجه الأمة إلى أفعال من الخير والبر عوضاً عن تلك الصدقات المادية، كما في حديث أهل الدثور، وهنا يشترك هذا الحديث مع ذاك في بيان نوعية عمل الخير، فبين صلى الله عليه وسلم أن الصدقة ليست قاصرة على المادة، بل هناك من الصدقات المعنوية ما تفوق المادة في عظمها وفي أجرها قال الله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، فليس كل نفقة في المال قد تنفع صاحبها.(58/2)
شرح قوله: (تعدل بين اثنين صدقة)
بين النبي صلى الله عليه وسلم الصدقات المعنوية التي تنوب عن الماديات فقال: (تعدل بين اثنين صدقة) ، وقوله: (بين اثنين) يشمل كل الناس سواء القاضي في المحكمة بين المدعي والمدعى عليه، والحكمان بين الزوجين، وكل من تحاكم إليك، وفيه بيان مسئولية العدالة، وفي الحديث العام الذي يحمل كل إنسان تلك المسئولية: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ، كالحاكم راع مسئول عن رعيته، وقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه يعس في الليل يتفقد أحوال رعيته.
والمسئولية واقعة على صاحب الإدارة والمدرس في الفصل، والوالد مع أولاده.
إذاً: كل إنسان مسئول في جانب ما، فيعدل بين من هو مسئول عنهم، فهذا العدل صدقة.
وفي الحديث الآخر: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: علمنا كيف ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: كفه عن ظلمه نصرة له) ؛ لأنك تنصره على نفسه، وإذا لم تفعل بات ظالماً، والظالم لا يكون على خير، (الظلم ظلمات يوم القيامة) ، فأنت بنصرتك إياه، وكفك إياه عن الظلم أخرجته من ظلمات الظلم إلى نور العدالة.
وفي الأثر: (إن الملائكة نظرت إلى أعمال العباد التي تصعد من الأرض إلى السماء فاستعظمت عملين، وتمنت لو تنزل إلى الأرض وتعمل بهما: العدل بين الناس وسقي الماء) ، فهذان العملان لا يعادلهما عمل؛ ولذا جاء في الأثر: (عدل ساعة خير من عبادة ستين عاماً) ؛ لأن عدل الساعة الواحدة تحقيق للحق في الأرض.
قال: (تعدل بين اثنين) ، والعدل بين الاثنين ليس مجرد إعطاء كل ذي حق حقه، بل تشمل العدل في الخطاب، والعدل في السماع، والعدل في التعامل، حتى في بشاشة الوجه، ذكر العلماء هذا في آداب القضاء، وذكروا: أنه يجب عليه حتى العدل في قسمات الوجه بين الخصمين، فيجب أن يساوي القاضي بينهما، فلا يبتسم لهذا، ويكشر لذاك: (تعدل بين اثنين صدقة) .(58/3)
شرح قوله: (تعين الرجل في دابته فتحمله عليها صدقة)
وقوله: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه صدقة) ، إنسان عنده حمل ويريد أن يضعه على الدابة، وحمل الدابة من شقين، فيحتاج إلى من يسانده، أو أن الحمل ثقيل فترفع معه، ومثل الدابة الآن السيارة، فتساعده على حمل متاعه على سيارته، ويأتي في هذا الباب حديث: (وأن تفرغ من دلوك في دلو أخيك) ، أن تمده بفضل الحبل للدابة أو الحمل، إذا كان الحبل الذي معه قصيراً وعندك فضلة حبل فتعطيها إياه، وكل ما يمكن أن يوصل معونة للآخر، فلو أنك في السيارة تمشي في طريقك، فإذا سيارة معطلة تحتاج إلى اشتراك، فوقفت وأعطيته الاشتراك، فهذا صدقة، أو تجد سيارة مبنشرة تحتاج إلى الرافعة أو صامولة أو مسمار، أو أي شيء آخر، فكل ما يمكن أن تمده به ضمن قوله: (أن تفرغ من دلوك في دلو أخيك) ولو أن سيارة انتهى منها البنزين، وأعطيت صاحبها جالوناً بنزين، ولو بالثمن فهو صدقة؛ لأنه منقطع في الطريق، ويتمنى أن يشتريه ولو بأضعاف قيمته.
وباب الصدقة المعنوية باب واسع جداً: تحمل الرجل على دابته، تعينه عليها، تساعده على رفع الحمل عليها؛ كل ذلك من باب الصدقة، وجاء في الأثر: (تهدي الرجل الطريق، تساعد العيي في القول، تسمع الأصم، ترشد الضال، تهدي الزقاق -أي: الطريق-، وتهدي الورق؛ (كل ذلك صدقة) ، وقالوا: القرض إلى زمن الأجل كل يوم للدائن فيه حسنة، وإذا جاء الأجل وأنظرته كأنك تتصدق عليه كل يوم بقدر دينك الذي عليه، فتكون الصدقة حسنة واحدة، والقرض حسنتان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمر بمعروف صدقة، نهي عن منكر صدقة، تميط الأذى عن الطريق صدقة.
إلخ) ، وإن لم يستطع فأبواب الخير كثيرة، وفي الحديث: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) ، وفي حديث آخر: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) ، وكل ذلك من باب الصدقة على نفسك وعلى أخيك، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هنا أمهات أبواب الخير، فالعدل يشمل عدل الراعي إلى عامة الرعية، وتعاون الناس حتى على الدابة، جاء في الماعون: (لا تمنع ماعونك عن غيرك) وكما جاء في الحديث: (إذا لم أجد؟ قال: تعمل بقوتك فتتصدق) أي: تحمل بقوة زنديك متاع غيرك، وتسعى بعظمي ساقيك في إغاثة ملهوف استغاث بك، وكل ذلك ذكره صلى الله عليه وسلم.(58/4)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صدقة
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أمر بمعروف ونهي عن منكر صدقة) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر به قوام الأمم، والحفاظ على المجتمعات، وبه يحمل المجتمع مسئولية نفسه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس خاصاً بهيئة معينة، ولكن الهيئة لها اختصاصات، ولها محيط، ولها صلاحيات، أما بقية الناس فكل بحسب استطاعته: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) هذه للهيئة التي لها الأمر، (فإن لم تستطع فبلسانك) ، وهذا كما في الآية الكريمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ، هذا مع مرتكبي المنكر، فكيف إذا كان مع شخص غير ذلك؟! والمجتمع إذا اختفى فيه المنكر، وتفشى فيه المعروف، كان مجتمعاً مثالياً؛ لأن النهي عن المنكر درء للمفاسد، والأمر بالمعروف جلب للمصالح، وإذا كان المجتمع متعاوناً على ذلك كان كالأسرة الواحدة، وأعتقد أن كبار السن الموجودين كان الواحد منهم إذا وجد ولد جاره على خطأ نهاه وضربه، فإذا ذهب الولد يبكي إلى أبيه ضربه أبوه وقال: هذا مثل أبيك، فتعاون المجتمع كله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو أن جاراً رأى امرأة جاره تخرج في الطريق لردها، وشكره جاره على ذلك، أما الآن إذا كلمت ابن جارك: قال لك أبوه: ليس لك دخل، ولو أنك تكلمت مع زوجة جارك في نهي عن منكر لاتهمت بكل ما لا يرضي.
وإليك مقارنة قرآنية بين أمتين في هذا الباب، يقول المولى سبحانه في أمم ماضية: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] ، لماذا؟ {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] ، كانوا لا يتناهون ولا يتناصحون أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، حتى ظهرت المنكرات.
وانظر في المقابل في هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، ما هي مسوغات هذه الخيرية؟! وهل هي منحة بدون مقابل؟ وهل هي هبة من الله بدون شيء؟ لا، بل لها سبب، وكما يقول القضاة: حيثيات الحكم، فاستحقت الأمة الحكم لها بالخيرية بأمرها بالمعروف، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] سبحان الله! ما قال: أخرجت في الوجود، لا، بل قال: (أخرجت للناس) يعني: أخرجتم لغيركم، في أي شيء؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ، فبسبب عدم تناهي بني إسرائيل كانت تلك النتيجة، وبسبب قيام هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت هذه الشهادة.
إذاً: خيرية الأمم وقوام المجتمعات والحفاظ عليها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومهما كان المعروف الذي أمرت به أو كان المنكر الذي نهيت عنه قليلاً ففضل الأمر والنهي موجود ولك الأجر، والدال على الخير له كأجر فاعله، فلو أمرت إنساناً بمعروف كان يجهله وعمل به وأخذه غيره عنه؛ فلك أجر ذلك إلى يوم القيامة، وإذا نهيت إنساناً عن منكر يفعله، وكف عنه؛ فلك أجر ذلك إلى يوم القيامة، وفضل الله كبير، ونعمه على العباد عظيمة، يجزل العطاء في أقل شيء.
(وأمر بمعروف صدقة) أي: مطلق المعروف.(58/5)
شرح قوله: (الكلمة الطيبة صدقة)
قال عليه الصلاة والسلام: (والكلمة الطيبة صدقة) (الكلمة الطيبة) مطلقة، مثل كلمة: السلام عليكم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فهي صدقة، جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً مع أصحابه، فجاء رجل فقال: (السلام عليكم، فردوا عليه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عشر، وجاء آخر وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردوا عليه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عشرون، فجاء ثالث وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: ثلاثون، فقالوا: يا رسول الله! ما عشرة وعشرون وثلاثون؟ قال: حسنة بعشر أمثالها) ، أي: الأول قال: السلام عليكم فهذه كلمة واحدة، والثاني زاد: ورحمة الله، والثالث زاد: وبركاته، وكل كلمة بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، فالكلمة الطيبة مهما كانت فهي صدقة.
وليعلم الإخوة أن تعود اللسان على الكلمة الطيبة منحة من الله؛ ولهذا ينبغي على المسلم أن يعود لسانه اللفظ الطيب، ويتجنب اللفظ القبيح ولو كان حقاً؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوا الشيطان، واستعيذوا بالله من شره) ، لماذا لا نلعنه وقد لعنه الله في كتابه؟ قالوا: لئلا يتعود اللسان على اللعن، فإذا كنت في كل وقت تلعن إبليس وتلعن الشيطان، فبعدها وقد تلعن والدك، وبعدها تلعن الناس وصار لسانك متعوداً على اللعن، فينبغي على العبد أن يعود لسانه على الكلمة الطيبة، وتجد بعض الناس عود نفسه على الكلمة الطيبة، فلا يقول كلمة تحتاج إلى اعتذار، والله سبحانه وتعالى ضرب المثل لكلمتين إحداهما طيبة والأخرى خبيثة، فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم:24-25] ليس من السنة إلى السنة، أو موسم وموسم، {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25] ، والخبيثة لا حول ولا قوة إلا بالله! نعوذ بالله منها! : {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] .
يقول العوام: الكلمة الطيبة تبقى ويبقى أثرها، والكلمة السيئة يذهب بها الغضب، ويبقى أثرها في النفس.
إذاً: (الكلمة الطيبة صدقة) ، والله سبحانه وتعالى بين لنا ذلك في الآية التي أشرنا إليها: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يدلنا عليها في معاملته مع الذين يأتون ويسألونه.
وتنبغي الكلمة الطيبة في تعامل الإنسان مع الآخرين، إن كان في مرتبة المسئولية أو المساواة والزمالة أو الأخوة أو بأي حالة من الحالات، فتعامل الناس بالكلمة الطيبة خير، يقول الناس: لو كان لإنسان عندك حاجة ولم تقضها له، وقابلته بكلمة طيبة رجع من عندك، وقد طيبت خاطره بالكلمة الطيبة، ولذا يقول الإمام علي رضي الله عنه: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن سعوهم بأخلاقكم) .
إنسان جاء يطلب منك قرضة حسنة، فلم تعطه مخافة أن تعطيه فلا يردها عليك، وهذا -والله- هو شح النفس، وقد جاء عن ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد أنه قال: (جاء علينا زمان ما كان أحدنا يرى له فضلاً في درهمه على أخيه -يعني: كانوا يؤثرون غيرهم على أنفسهم- ونحن في زمان -هذا كلام ابن عمر، في الصدر الأول، في خير القرون- الدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه) .
فيا سبحان الله! ولا حول ولا قوة إلا بالله! إذا كان هذا في ذاك الزمن، فكيف حالنا الآن?! لو جاءك إنسان يطلب منك قرضاً أو عارية وأنت في حاجة إليها، كأن يطلب منه آنية أو ماعوناً، أو جاء ليطلب منك دابتك أو سيارتك وأنت في حاجة إليها، فتقول: والله -يا فلان- أحب أن أعطيك إياه، ولكن أنا الآن بحاجته، أو أنا الآن أريد أذهب مشواراً، لكن بعد أن أرجع، فأنت منعته ولكن قابلته بكلمة طيبة.
وكما أشرنا: الصدقة بحسنة واحدة، والقرض بحسنتين؛ لأن الذي يتصدق يتصدق بغلبة ظنه على من يراه محتاجاً، وقد يتصدق عليه غيره، ولكن المقترض يأتي بدافع الحاجة المحققة، فأنت تسد حاجته، فإن أعطيته فالحمد لله، وإلا اعتذرت إليه بمعروف.
الكلمة الطيبة تكون بينك وبين ولدك، وزوجك، وجارك، وزميلك، وصديقك، وأي شخص لك معه علاقة فكلمه بكلمة طيبة، فتكون صدقة لك؛ لأنك طيبت خاطره بهذه الكلمة.(58/6)
الخطى إلى الصلاة صدقة
قال عليه الصلاة والسلام: (وبكل خطوة) في اللغة خَطوة بالفتح، وخُطوة بالضم، الخَطوة -بالفتح- حركة القدم، والخُطوة -بالضم- كالمسافة التي خطوتها، فتقول: من هنا إلى الباب عشرون خطوة، وتقول: خطوت خطوتين، يعني: بالقدم، ولو كان شبراً واحداً، فبكل خطوة تخطوها أي: بكل حركة؛ ولذا جاء في الحديث: (إذا توضأ العبد في بيته، ثم خرج إلى المسجد كان له بكل خطوة يخطوها حسنة، في رفع قدمه حسنة، وفي وضعه حسنة) ، وفي بعض الروايات: (برفع قدمه يرفع له درجة، وبحط قدمه تحط عنه سيئة) يعني: يعطى حسنة، وتكفر عنه سيئة، وخَطوة وخُطوة معناها هنا واحد.
إذاً: الخُطوة أو الخَطوة إلى المسجد فيها صدقة، وجاء في بعض الروايات: (فإذا أتى إلى المسجد، وصلى الفريضة كانت له نافلة، أو قام إلى الصلاة ولا ذنب له) .
أيهما أفضل: البيت الذي يبعد عن المسجد، وتكثر الخطى في الإتيان إليه للبعد أو القريب من المسجد وتقل الخطى إليه؟ في كل خير، ومن العلماء من يقول: البعيد؛ لأن الأجر على قدر المشقة، ولكن هذه القاعدة يجب أن يتنبه إليها، فالأجر على قدر المشقة لا أن تحمل نفسك مشقة لتحصل على أجر.
بل الأجر على قدر المشقة في التكليف الذي كلفت به من الشارع لا منك أنت، كما قالوا: الفضيلة الذاتية خير من الفضيلة الإضافية، ففي الطواف بالبيت إن كنت تطوف محاذياً للبيت في محيط الدائرة فقد تكون الطوفة خمسمائة خطوة، وإن ابتعدت عن محاذاة البيت حوالى عشرة أمتار عن محيط الدائرة فستكون المسألة ضعف هذه الخطوات، فما هو الأفضل: أن تدنو من البيت مع قلة الخطى أو تبعد من البيت لكثرة الخطى؟ يقول النووي رحمه الله: الفضيلة الذاتية خير من الفضيلة الإضافية، فالطواف من خصائص البيت، فأيهما يكون ألصق من الطواف بالبيت: إذا اقتربت أم إذا ابتعدت؟ إذا اقتربت.
فذاتية الطواف ألصق بجدار الكعبة من كثرة الخطى.
إذاً: الاقتراب من الكعبة أفضل مع قلة الخطى، وكذلك صلاة الجماعة بالنسبة للفريضة، إن صليت في أي مسجد من مساجد البلد في جماعة حصل لك سبع وعشرون درجة، وإن كنت في المدينة، وجئت إلى المسجد النبوي، وفاتتك الجماعة وتصلي فرداً، (فصلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة فيما سواه) فإذا خرجت من بيتك من الحرة أو زقاق الطيار وقد أصبح الآن على حافة المسجد النبوي، فإذا جاء إنسان من أطراف المدينة يريد الصلاة في المسجد النبوي، ولكنه تعطل في الطريق، وكانت الجماعة في المسجد النبوي انتهت، ولكنه مر في طريقه بمسجد فيه جماعة: فهل يدخل ويصلي ويدرك الجماعة معهم أم يمشى إلى أن يأتي إلى المسجد النبوي؟ أيهما أحق وأولى: أن يؤديها جماعة ولو في مسجد في طرف البلد أم يترك الجماعة ويأتي ليحصل على فضيلة ألف صلاة في المسجد النبوي؟ هذه المسألة قامت فيها مشكلة وخصومة عند باب المسجد في الثمانينات، أشخاص يريدون الصلاة في المسجد النبوي ولو فاتتهم الجماعة، وآخرون يريدون الجماعة، وهم طلبة علم.
المهم: يؤكد النووي رحمه الله أن صلاتك الفريضة في مسجد مع الجماعة أفضل من أن تترك الجماعة وتأتي تصليها فرداً في المسجد النبوي، لماذا؟ يقول: كونك توقع الفريضة في جماعة أفضل؛ لأن الجماعة من اختصاص الصلاة، فهي فضيلة ذاتية، ولكن إذا جئت إلى المسجد النبوي فهل حصلت على (ألف صلاة) من أجل الصلاة أم من أجل المسجد؟
الجواب
من أجل المسجد، وفضيلة المسجد بالنسبة للصلاة ليست ذاتية ولكنها تبع (إضافية) .
إذاً: قرب البيت من المسجد أو بعد فبكل خطوة لك حسنة: فهل ندنو ونقترب من المسجد أو نبعد من أجل أن تكثر الخطى؟ يتفقون على أن قرب البيت من المسجد من الفضائل؛ لأنه يعين الإنسان على أداء الجماعة، فإذا كان بطبيعة الوضع جاء من بعيد، وتحمل المجيء، فهذا أمر لم يتكلفه هو، وفي الصدر الأول أراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى جوار المسجد، وقد كانوا يسكنون عند مسجد القبلتين، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (دياركم تكتب آثاركم) ، أي: (الزموا) اسم فعل الأمر (الزموا دياركم تكتب آثاركم) أي: مجيئكم، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يبقى هؤلاء في أماكنهم حماية للمدينة؛ لأنه إذا أراد قوم أن يغيروا عليها وما وجدوا أحداً، فاجئوا الناس في المسجد، لكن حينما تكون كل قبيلة في منازلها حول المدينة فلا يمكن أن يفاجأ أهل المسجد بإغارة، فأمرهم أن يبقوا في أماكنهم لما لهم في ذلك من أجر لهم بكثرة الخطى، ولما في وجودهم من مصلحة.
إذاً: إذا أكرم الله العبد بدار قريبة من المسجد فهذه نعمة من الله، وأقرب بيت للمسجد كان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خوخة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وقد كانت موجودة في الأمام، فردوها إلى الوراء حينما توسع المسجد إلى الغرب،، وكنا نتمنى لو وضعت في محلها الأساسي إشارة لها، ولكنهم كلما وسعوا المسجد إلى الغرب نقلوا خوخة أبي بكر.
وكانت أبواب الخلفاء قريبة من المسجد، فـ عمر كان في بيت حفصة وهو في قبلة المسجد، واشتري منها عند توسعة المسجد، وهكذا بيت عثمان كان في الجهة الشرقية، إذاً: القرب من المسجد فضيلة، والرسول صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع، وجاء إلى منى، ونزل في مسجد الخيف، خط للمهاجرين بالجهة الشرقية أو الغربية بجوار المسجد، وخط للأنصار من الجهة الثانية بجوار المسجد، وأمر كل القبائل أن تنزل من ورائهم.
يأتي مبحث آخر: صلاة المرء في بيته ليس فيها خطى تحسب له، فهناك حديث: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) .
فهل قوله: (لا صلاة) بمعنى لا صحة أم لا فضيلة؟ الكلام في هذا كثير، وهل الجماعة شرط في صحة الصلاة أو شرط مستقل في كمالها؟ قال بعض العلماء: لو كان بيته قريباً من المسجد فليمش بخطى صغيرة صغيرة حتى يكثر الخطى! وهذا تكلف ليس له محل.
إذاً: (وبكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة) ، وجاء في بعض الروايات: (تخطوها في ظلام الليل) ؛ لأن المشي في الظلام ليس كالمشي في النور؛ ولذا صلاة العتمة وصلاة الفجر بين صلى الله عليه وسلم أنه لا يتخلف عنهما إلا منافق؛ لأنه لا يرى في مجيئه إلى المسجد، أما الظهر والعصر فإنه يشاهد، لكن العشاء والفجر إنما يأتي من يصلي لله.(58/7)