|
المؤلف: أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى: 474هـ)
الناشر: مطبعة السعادة - بجوار محافظة مصر
الطبعة: الأولى، 1332 هـ
(ثم صورتها دار الكتاب الإسلامي، القاهرة - الطبعة: الثانية، بدون تاريخ)
عدد الأجزاء: 7
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
الموطأ بأعلى الصفحة، يليه - مفصولا بفاصل - شرح الباجي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
تِلْكَ الصِّفَةِ إنْ كَانَ بِيعَ بِهِ عَرْضٌ، وَإِذَا كَانَ مَالُهُ طَعَامًا، وَالدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ طَعَامًا فَيَجِبُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَمَانِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا، وَإِنَّمَا وُقِفَ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ فَكَانَ ضَمَانُهُ مِنْهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنًا وُقِفَ لِلْبَيْعِ فَاَلَّذِي رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ضَمَانَهُ مِنْ الْمُفْلِسِ، وَرَوَى ابْنُ الْمَاجِشُونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ضَمَانَهُ مِنْ الْغُرَمَاءِ فَعَلَى هَذَا رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ الْغُرَمَاءُ يَضْمَنُونَ الْعَيْنَ، وَالْمُفْلِسُ يَضْمَنُ غَيْرَهُ، وَرِوَايَةُ أَشْهَبَ أَنَّ الْمُفْلِسَ يَضْمَنُ الْجَمِيعَ حَتَّى يَقْتَسِمَهُ الْغُرَمَاءُ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّ الْغُرَمَاءَ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَهُمْ وُقِفَ، وَبِسَبَبِهِمْ مُنِعَ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ فَضَمَانُهُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْمُفْلِسِ بِهِ تَعَلُّقٌ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حُقُوقِهِمْ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ أَشْهَبَ أَنَّ حَقَّ التَّوْفِيَةِ بَقِيَ فِيهِ فَكَانَ ضَمَانُهُ مِنْ الْمُفْلِسِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَلَوْ اشْتَرَى مِنْ الْعَيْنِ سِلْعَةً بَعْدَ التَّوْقِيفِ لِمَنْ رِبْحُهَا؟ فَقَالَ لِلْمُفْلِسِ يُقْضَى مِنْهُ دَيْنُهُ قِيلَ لَهُ فَكَيْفَ رِبْحُهُ لَهُ، وَضَمَانُهُ مِنْ الْغُرَمَاءِ؟ فَسَكَتَ.
[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ الْمُحَاصَّةِ] 1
ِ أَمَّا حُكْمُهَا فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى كُلِّ دَيْنٍ عَلَيْهِ مُؤَجَّلٍ أَجَلُهُ بِالْفَلَسِ، وَيُحَاصُّ صَاحِبُهُ لِغُرَمَائِهِ قَالَ مَالِكٌ لِأَنَّ الْفَلَسَ مَعْنًى يُفْسِدُ الذِّمَّةَ فَاقْتَضَى حُلُولَ الدُّيُونِ كَالْمَوْتِ، وَمَالَهُ مِنْ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَإِنَّهُ يَبْقَى إلَى أَجَلِهِ، وَيُبَاعُ لِغُرَمَائِهِ بِمَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بِهِ لِأَنَّ خَرَابَ الذِّمَّةِ لَا يُوجِبُ حُلُولَ الدُّيُونِ الَّتِي لَهَا، وَإِنَّمَا يُوجِبُ حُلُولَ الدُّيُونِ الَّتِي عَلَيْهَا كَخَرَابِهَا بِالْمَوْتِ.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدُّيُونِ مُتَمَاثِلًا كَالْعَيْنِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَوْ غَيْرِ مُتَمَاثِلٍ، فَإِنْ كَانَ مُتَمَاثِلًا وَكَانَ جَمِيعُهُ عَيْنًا صَيَّرَ مَالَهُ عَيْنًا، وَيُقَاسِمُهُ الْغُرَمَاءُ بِأَنْ يَعْلَمَ مَا لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُجْمَعُ ثُمَّ يَنْظُرُ كَمْ مِقْدَارُ مَا وُجِدَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنْ كَانَ النِّصْفَ أَخَذَ كُلُّ غَرِيمٍ نِصْفَ مَالِهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَاتَّبَعَهُ بِالْبَاقِي فِي ذِمَّتِهِ مَتَى أَيْسَرَ.
(فَرْعٌ)
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يَدْفَعُ فِيمَا لَهُ عَلَيْهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ يُرِيدُ أَنَّ إصَابَتَهُ بِالْمُحَاصَّةِ قِيمَتُهَا، وَإِنْ كَانَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ كَطَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ إذَا كَانَ مَالُهُ طَعَامًا، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ دُفِعَ إلَى غُرَمَائِهِ يُرِيدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يَتَحَاصُّونَ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا لَهُمْ كَالْعَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ)
فَإِنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ، وَعَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ كَانَ مَالُهُ دَنَانِيرَ وَعَلَيْهِ دَرَاهِمُ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَصْرِفُهَا إلَّا أَنْ يَصْرِفَهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ بِمَا تَسْوَى بِرِضَاهُمْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ مِمَّا يَقْرُبُ مِنْ دَيْنِ الْغُرَمَاءِ، وَيُجْمَعُ إلَيْهِ فِي الزَّكَاةِ فَلَا يَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْحَيَوَانِ، وَالثِّيَابِ فِي لُزُومِ بَيْعِهَا، وَإِنْ أَرَادَ الْغُرَمَاءُ أَخْذَهَا تَحَاصَّوْا فِيهَا بِصَرْفِهَا.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ كَانَ مَالُهُ عُرُوضًا فَاشْتَرَى بَعْضُ الْغُرَمَاءِ شَيْئًا مِمَّا بِيعَ عَلَيْهِ حُوسِبَ بِهِ فِيمَا يَقَعُ بِهِ مِنْ الْمُحَاصَّةِ.
(فَصْلٌ)
وَإِنْ كَانَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ غَيْرَ مُتَمَاثِلٍ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ عُرُوضٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَجْنَاسِ حَيَوَانٌ وَعَيْنٌ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مَنْ أَفْلَسَ، وَعَلَيْهِ عُرُوضٌ وَحَيَوَانٌ أُسْلِمَ إلَيْهِ فِيهَا فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُحَاصُّ بِقِيمَةِ ذَلِكَ فَمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْقِيمَةِ اشْتَرَى لَهُ بِهِ مَا شَرَطَهُ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ سَمَاعِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ حَاصَّ بِقِيمَتِهِ فَمَا أَصَابَهُ بِذَلِكَ يَشْتَرِي لَهُ بِهِ مِثْلَ طَعَامِهِ مَا بَلَغَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْقِيمَةِ ثَمَنًا، وَلَوْ كَانَ السَّلَمُ فِي وَصِيفٍ فَدَفَعَ لَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ نِصْفَ وَصِيفٍ خُيِّرَ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نِصْفَ وَصِيفٍ، وَيُتَّبَعُ الْمُفْلِسُ بِنِصْفِ وَصِيفٍ إذَا أَيْسَرَ وَبَيْنَ أَنْ يُتْرَكَ حَتَّى يَيْسَرَ صَاحِبُهُ فَيَأْخُذَ مِنْهُ وَصِيفًا كَامِلًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ وَيَتَّبِعَهُ بِنِصْفِ وَصِيفٍ أَوْ يَهَبَهُ
(5/86)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مَا بَقِيَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَهُ مِثْلَ رَأْسِ مَالِهِ فَأَقَلَّ فَيَكُونَ إقَالَةً جَائِزَةً قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ يُرِيدُ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ الْمُسْلَمِ فِيهِ.
(فَرْعٌ)
وَالِاعْتِبَارُ فِي الْقِيمَةِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْمُحَاصَّةِ رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَالَهُ مِنْ الدَّيْنِ قَدْ حَلَّ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَإِنَّمَا لَهُ قِيمَتُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي لَهُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ مِثْلَ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَإِنْ تَأَخَّرَ الشِّرَاءُ حَتَّى غَلَا سِعْرُهُ أَوْ رَخُصَ فَإِنَّهُ لَا تَرَاجُعَ فِيهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ، وَأَمَّا التَّحَاسُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُفْلِسِ فَفِي زِيَادَةِ ذَلِكَ أَوْ نُقْصَانِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ بِالْقِسْمَةِ قَدْ اخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ بِمَا صَارَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ، وَصَارَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِهِ فَزِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ مَالِهِ مِنْ السَّلَمِ اُعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي اشْتَرَطَهَا فِي السَّلَمِ فَإِنْ كَانَ وَصَفَ الطَّعَامَ بِأَنَّهُ جَيِّدٌ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يَشْتَرِي لَهُ أَدْنَى مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الصِّفَةُ، وَقَدْ قِيلَ أَوْسَطُ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ مَا يَلْزَمُ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ مَعَ التَّشَاحِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
[الْبَابُ الْخَامِسُ فِيمَا تَقَعُ فِيهِ الْمُحَاصَّةُ]
ُ وَأَمَّا مَا تَقَعُ فِيهِ الْمُحَاصَّةُ فَهُوَ كُلُّ دَيْنٍ ثَابِتٍ قَدْ لَزِمَ ذِمَّتَهُ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحَاصَّ غُرَمَاءَ الزَّوْجِ بِصَدَاقِهَا أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهُ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُ عَنْهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ قَدْ بَنَى بِهَا فَإِنْ لَمْ يَبْنِ بِهَا فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهَا تُحَاصُّ بِجَمِيعِهِ لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ لَهُ إسْقَاطُ بَعْضِهِ بِطَلَاقِهَا، وَلَهُ إثْبَاتُهُ بِاسْتِدَامَةِ نِكَاحِهَا فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا تَأْثِيرَ لِطَلَاقِهَا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الصَّدَاقِ أَوْ يَكُونَ قَدْ دَفَعَ إلَيْهَا جَمِيعَهُ أَوْ بَعْضَهُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الصَّدَاقِ حَاصَّتْ الْغُرَمَاءَ بِمَا وَجَبَ لَهَا مِنْهُ، وَهُوَ نِصْفُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ إلَيْهَا جَمِيعَهُ كَانَ لَهَا نِصْفُهُ، وَالنِّصْفُ الثَّانِي دَيْنٌ لَهَا عَلَيْهِ تُحَاصُّ بِهِ الْغُرَمَاءَ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهَا نِصْفَهُ.
فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَالْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَقَدْ كَانَ نَقَدَهَا خَمْسِينَ، وَبَقِيَ لَهَا خَمْسُونَ مُؤَخَّرَةٌ، وَفَلِسَ الزَّوْجُ فَلْتَرُدَّ نِصْفَ النَّقْدِ، وَتُحَاصَّ الْغُرَمَاءَ فِيمَا تَرُدُّ بِنِصْفِ الْمَهْرِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَهَذَا إذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ أَنْ أَفْلَسَ فَأَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا، وَهُوَ قَائِمٌ الْوَجْهُ فَقَدْ أَوْجَبَ لَهَا مَا أَخَذَتْ، وَتَسْتَحِقُّهُ قَبْلَ فَلَسِهِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَمَّا إنْ طَلَّقَ بَعْدَ الْفَلَسِ فَجَوَابُ ابْنِ الْقَاسِمِ صَحِيحٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحَمَّدٌ فِيهِ نَظَرٌ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ، وَمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نَقَدَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَإِنْ كَانَ نَقَدَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ عَلَى وَجْهِ اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ فَهَذَا إنَّمَا سَلَّمَهُ إلَيْهَا عَلَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ جَمِيعِ صَدَاقِهَا فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَالِ فَلَسِهِ كَانَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ التَّرَاجُعِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْفَلَسِ فَلَمْ يَنْتَجِزْ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَلَا مُحَاصَّةَ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا دَفَعَ إلَيْهَا مِنْ الْمُعَجَّلِ، وَبَقِيَ نِصْفُ الْمُؤَجَّلِ إلَى أَنْ يَجِيءَ أَجَلُهُ، وَأَمَّا إنْ تَقَاصَّا فِي ذَلِكَ، وَرَضِيَ الزَّوْجُ بِتَرْكِ الرُّجُوعِ عَلَيْهَا فِي الْمُعَجَّلِ فَذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، وَلَا تَرْجِعُ هِيَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيْهَا عَلَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ صَدَاقِهَا، وَلَا أَنَّهُ حَقٌّ لِاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهَا عَلَى أَنَّهُ جَمِيعُ مَا قَدْ اسْتَحَقَّتْ عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَكُونَ قَضَاهَا دَيْنًا لَهَا عَلَيْهِ مِنْ مُعَامَلَةٍ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا مِنْ سَبَبِهَا شَيْءٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ صَالَحَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى شَهْرٍ فَأَفْلَسَتْ حَاصَّ الْغُرَمَاءَ بِهَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ لَهُ عَلَيْهَا قَدْ اسْتَوْفَتْ مَا عَاوَضَتْ بِهِ عَنْهُ كَمَا لَوْ بَاعَهَا ثَوْبًا قَبَضَتْهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَالْمُطَلَّقَةُ الْحَامِلُ لَا تَضْرِبُ بِنَفَقَةِ الْحَمْلِ مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ فِي الْعِصْمَةِ لَا تَضْرِبُ بِنَفَقَتِهَا مَعَ الْغُرَمَاءِ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ عَنْ دَيْنٍ لَمْ يُقْبَضْ بَعْدُ أَوْ نَفَقَةٍ عَلَى وَلَدٍ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحَاصُّ بِهِ الْغُرَمَاءَ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِذِمَّتِهِ، وَاسْتَوْفَى
(5/87)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أَعْوَاضَهَا، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ تُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهَا فِي غَيْبَةِ الزَّوْجِ فَإِنْ كَانَ دُونَ أَنْ يُرْفَعَ أَمْرُهَا إلَى السُّلْطَانِ لَمْ يُحَاصَّ بِهِ الْغُرَمَاءُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ رَفَعَتْ إلَى الْإِمَامِ فَإِنَّهَا تَضْرِبُ بِهِ فِي الْفَلَسِ، وَهَلْ تَضْرِبُ بِهِ فِي الْمَوْتِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ فَقَالَ مَرَّةً تُحَاصُّ بِهِ فِي الْمَوْتِ كَالْفَلَسِ.
وَقَالَ مَرَّةً تُحَاصُّ بِهِ فِي الْفَلَسِ دُونَ الْمَوْتِ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ ثَابِتٌ لَازِمٌ لِذِمَّتِهِ لِمَعْنًى مَاضٍ قَدْ اسْتَوْفَاهُ تَجِبُ الْمُحَاصَّةُ بِهِ فِي الْفَلَسِ فَوَجَبَتْ الْمُحَاصَّةُ لَهُ فِي الْمَوْتِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ مَا طَرِيقُهُ النَّفَقَاتُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ جُمْلَةً، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ، وَلِذَلِكَ لَا يُحَاصُّ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ لَزِمَتْ، وَثَبَتَتْ أَسْبَابُهَا.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَلَدِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَضْرِبُ بِنَفَقَتِهِمْ فِي مَوْتٍ وَلَا فَلَسٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ الْوَلَدُ كَالزَّوْجَةِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا نَفَقَةٌ لَا تَجِبُ إلَّا مَعَ الْيَسَارِ فَلَا يُحَاصُّ بِهَا الْغُرَمَاءُ كَالْمُسْتَقْبَلِ مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّ نَفَقَةَ الْأَبَوَيْنِ تَلْزَمُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ فَإِذَا كَانَتْ لِأَمْرٍ مَاضٍ فِي وَقْتٍ يَلْزَمُ الْأَبَ النَّفَقَةُ وَجَبَ أَنْ يُحَاصَّ بِهَا كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ أَشْهَبَ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ مَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ أُمٍّ أَوْ أَجْنَبِيٍّ بِأَمْرِ سُلْطَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَالْأَبُ يَوْمَئِذٍ مَلِيءٌ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِهِمَا فِي الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ يَوْمَ الْإِنْفَاقِ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ لِلْمُنْفِقِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَبَوَيْنِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ نَفَقَةَ الْأَبَوَيْنِ لَا يَضْرِبُ بِهِمَا فِي مَوْتٍ، وَلَا فَلَسٍ قَالَ أَصْبَغُ إلَّا أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ الْأَبَوَيْنِ قُدِّرَتْ بِحُكْمٍ أَوْ تَسَلَّفَ وَهُوَ مَلِيءٌ يَوْمَئِذٍ فَإِنَّهَا تَضْرِبُ بِهَا فِي الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ، وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ النَّفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهَا الْمَاضِيَةَ فَإِنَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّهَا عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ فَأَشْبَهَتْ الْهِبَةَ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَصْبَغَ أَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، وَاسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُضْرَبَ بِهِ فِي مَالِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَالْمَسْجُونُ فِي دَيْنِ امْرَأَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ امْرَأَتُهُ، وَلَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ سُجِنَ لِلتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ تُمْنَعْ لَذَّتَهُ لَمْ يُضَيَّقْ عَلَيْهِ قَالَهُ سَحْنُونٌ، وَلَوْ سُجِنَ الزَّوْجَانِ فِي حَقٍّ لَمْ يُمْنَعَا أَنْ يَجْتَمِعَا إذَا كَانَ السِّجْنُ خَالِيًا، وَلَوْ كَانَ فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ حُبِسَ الزَّوْجُ مَعَ الرِّجَالِ، وَحُبِسَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ النِّسَاءِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا مَسْجُونَانِ فَلَمْ يُقْصَدْ لِكَوْنِهَا مَعَهُ إدْخَالُ الرَّاحَةِ عَلَيْهِ وَالرِّفْقُ بِهِ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِذَلِكَ اسْتِيفَاءُ حَقٍّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِذَا وَجَبَ السِّجْنُ عَلَيْهِمَا لَمْ يُمْنَعَا الِاجْتِمَاعَ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأَبَوَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا مِنْ الْقَرَابَاتِ فِي السِّجْنِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ فِي الْحُقُوقِ مِمَّنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَلَا مِمَّنْ يَخْدُمُهُ، وَإِنْ اشْتَدَّ مَرَضُهُ، وَاحْتَاجَ إلَى أَمَةٍ تَخْدُمُهُ، وَتُبَاشِرُ مِنْهُ مَا لَا يُبَاشِرُ غَيْرُهَا، وَتَطَّلِعُ عَلَى عَوْرَتِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ مَعَهُ حَيْثُ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَمِنْ كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْعَهُ مِمَّا تَدْعُوهُ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ يُفْضِي بِهِ إلَى الْهَلَاكِ وَإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ الْعَظِيمَةِ وَالْعَنَتِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَيُمْنَعُ الْمَسْجُونُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَلَا يَخْرُجُ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا غَيْرِهَا، وَلَوْ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ فَرْضٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ بِحَجَّةٍ حَنِثَ بِهَا أَوْ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قِيَم عَلَيْهِ بِأَنْ حُبِسَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ، وَيَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ مِنْ كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَلَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهَا لِعِبَادَةٍ لَا يَفُوتُ وَقْتُهَا قَالَ: وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَوْمَ نُزُولِهِ بِمَكَّةَ أَوْ مِنًى أَوْ عَرَفَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ اسْتَحْسَنْت أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ كَفِيلٌ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْبَسُ بَعْدَ النَّفَرِ الْأَوَّلِ، وَاسْتَحْسَنَ إذَا اشْتَدَّ مَرَضُ أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ أَخِيهِ، وَمَنْ يَقْرُبُ مِنْ أَقْرِبَائِهِ، وَخِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ أَنْ يَخْرُجَ فَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَيُؤْخَذَ مِنْهُ كَفِيلٌ بِالْوَجْهِ، وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ قَرَابَتِهِ رَوَى ذَلِكَ كُلُّهُ ابْنُ سَحْنُونٍ، وَهَذَا سَائِغٌ لِمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا بِالِاسْتِحْسَانِ فَأَمَّا الْقِيَاسُ، وَالنَّظَرُ فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ
(5/88)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَمَنْ أَنْكَرَ مِنْ أَصْحَابِنَا الِاسْتِحْسَانَ مَنَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضْ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» حَمَلَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَا بِذَلِكَ فِي الْبَائِعِ الْمُفْلِسِ يَجِدُ مَتَاعَهُ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ، وَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ، وَحَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فِي هَذَا الْحُكْمِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ حَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَهُوَ مِمَّا اُتُّفِقَ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا الْمَالِكِيُّونَ وَالْحَنَفِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُسْنَدٌ، وَهُوَ نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ فَلَسَ الْمُبْتَاعِ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى صِفَتِهِ، وَعَدَمَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ يُوجِبُ لِلْبَائِعِ حَقَّ الْفَسْخِ، وَيَجْعَلُهُ أَحَقَّ بِهِ إنْ شَاءَ أَصْلُ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَفِي هَذَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ إحْدَاهُمَا بِمَاذَا ثَبَتَتْ السِّلْعَةُ لِلْبَائِعِ، وَالثَّانِيَةُ فِيمَا تَثْبُتُ فِيهَا لِصَاحِبِهَا، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِيمَا تَثْبُتُ فِيهَا لِلْغُرَمَاءِ، فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِيمَا تَثْبُتُ فِيهِ السِّلْعَةُ لِلْبَائِعِ، وَأَنْ يَقُومَ لَهُ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ، وَقَالَ الْمُفْلِسُ هِيَ لَهُ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ إذَا كَانَ عَلَى الْحَقِّ بَيِّنَةٌ فَقَالَ عِنْدَ التَّفْلِيسِ هَذَا مَتَاعُ فُلَانٍ فَقِيلَ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ زَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ يَحْلِفُ بَائِعُ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِأَصْلِ الْحَقِّ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا قَامَتْ بِأَصْلِ الْحَقِّ بَيِّنَةٌ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ قَبْلَ الْفَلَسِ، وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ إقْرَارَهُ لَهُمْ بِذَلِكَ جَائِزٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَلَعَلَّ هَذَا فِي الصُّنَّاعِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ وَاحِدٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الدَّيْنَ مُتَعَلِّقٌ بِالذِّمَّةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ فِي غَيْرِهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ،
وَالصُّنَّاعُ لَا يَتَعَلَّقُ مَا سُلِّمَ إلَيْهِمْ بِذِمَمِهِمْ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُونَهُ إنْ ضَاعَ عَلَى وَجْهٍ مَا
، وَقِيلَ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الشُّهُودُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِعَبْدٍ أَوْ سِلْعَةٍ لَمْ يُعَيِّنْهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَعْيِينِهَا بَعْدَ التَّفْلِيسِ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَصْلِ الْحَقِّ، وَافْتَرَقَ بِذَلِكَ إقْرَارُ الْمُفْلِسِ لَهُ بِالْعَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَوِّي حُجَّةَ الْبَائِعِ لَا سِيَّمَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُكَذِّبُ قَوْلَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْبَائِعَ مُدَّعٍ فِي تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الثَّانِي فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ يَحْلِفُ الْغُرَمَاءُ عَلَى عِلْمِهِمْ فَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَ الْبَائِعُ، وَأَخَذَهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمَّا لَزِمَتْهُ، وَعَجَزَ عَنْهَا حَلَفَ الْغُرَمَاءُ عَلَى مَا يَعْلَمُونَ صِدْقَهُ فِيمَا يَقُولُ، وَيَكُونُونَ أَحَقَّ بِعَيْنِ الْعَبْدِ فَإِنْ نَكَلُوا رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ، وَحَلَفَ أَنَّهُ الْعَبْدُ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ، وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِيهَا لِصَاحِبِهَا أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ سِلْعَتَهُ بِعَيْنِهَا وَبَيْنَ تَسْلِيمِهَا، وَيُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ بِثَمَنِهَا سَوَاءٌ زَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ قَالَهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهُ إلَّا سِلْعَتُهُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْمُحَاصَّةِ بِثَمَنِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ السِّلْعَةَ قَدْ مَلَكَهَا الْمُفْلِسُ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ فَلَمَّا غَابَتْ ذِمَّتُهُ، وَدَخَلَ الثَّمَنَ النَّقْصُ كَانَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْعَ، وَيَرْجِعَ بِسِلْعَتِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقُدَهُ، وَيُحَاصَّ بِمَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ فِي الْإِفْلَاسِ مَعْنًى يُفْسَخُ بِهِ الْبَيْعُ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلْبَائِعِ إلَّا سِلْعَتُهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ لِلْغُرَمَاءِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ جَمِيعَ ثَمَنِهَا قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ وَلَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ الثَّمَنَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ أَوْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُفْلِسِ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ لَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَفْدُوهَا بِأَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنْ يَفْدُوهَا بِثَمَنِهَا فِي مَالِ الْمُفْلِسِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ.
وَقَالَ أَشْهَبُ لَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَخْذُهَا بِالثَّمَنِ حَتَّى يَزِيدُوا عَلَى الثَّمَنِ زِيَادَةً يَحُطُّونَهَا عَنْ
(5/89)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْمُفْلِسِ مِنْ دَيْنِهِمْ وَتَكُونُ لَهُمْ السِّلْعَةُ لَهُمْ نَمَاؤُهَا، وَعَلَيْهِمْ تَوَاهَا، وَفِي هَذَا بَابَانِ أَحَدُهُمَا فِي وَجْهِ تَصَيُّرِ الْمِلْكِ إلَى الْمُفْلِسِ فَيَكُونُ الْمُصَيَّرُ أَحَقَّ بِهَا، وَالثَّانِي فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا فَأَمَّا الْبَابُ الْأَوَّلُ فَبِأَيِّ وَجْهٍ صَارَتْ السِّلْعَةُ إلَى الْمُفْلِسِ مِنْ وُجُوهِ الْمُعَاوَضَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَنْ صَيَّرَهَا إلَيْهِ أَحَقَّ بِهَا، فَمَنْ أَصْدَقَ امْرَأَتَهُ عَبْدًا أَوْ سِلَعًا قَبَضَتْهَا ثُمَّ أَفْلَسَتْ، وَقَدْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ الزَّوْجُ أَحَقُّ بِنِصْفِ مَا وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ هَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ وَهَبَ لِثَوَابٍ فَتَغَيَّرَتْ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ ثُمَّ فَلِسَ فَإِنَّ الْوَاهِبَ أَحَقُّ بِهَا كَالْبَيْعِ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالُوا إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ الْغُرَمَاءُ قِيمَتَهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ اشْتَرَى مِنْ الْغَازِينَ شَيْئًا مِنْ الْمَغْنَمِ ثُمَّ فَلِسَ فَأَهْلُ الْمَغْنَمِ الَّذِينَ بَاعُوهُ أَوْلَى بِمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ سَهْمِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَصْبَغَ إلَّا أَنَّهُ شَرَطَ فِي ذَلِكَ شَرْطًا قَالَ وَذَلِكَ إذَا كَانَ شِرَاؤُهُ مِنْهُمْ خَاصَّةً بِمِقْدَارِ مَا صَارَ لَهُ وَلَهُمْ دُونَ الْجَيْشِ وَالْحَقُّ ثَابِتٌ عَلَيْهِ لَمْ يَحُلْ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، فَأَمَّا إنْ حِيلَ عَلَيْهِ بِمَا زَادَ عَلَى حَقِّهِ فَالْمُحَالُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ إذَا احْتَالَ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَشْتَرِ مِنْ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ إذْ لَيْسَتْ بِسِلَعٍ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ إنَّمَا هِيَ غَنَائِمُ يَبِيعُهَا السُّلْطَانُ لِلْخُمُسِ وَالْجَيْشِ، وَالْمُحِيلُ لَيْسَ بِبَائِعٍ، وَإِنَّمَا أُحِيلَ بِدَيْنٍ فَهُوَ، وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ قَالَ أَصْبَغُ، وَادَّعَى أَنْ يَكُونَ الْمُحَالُ يَقُومُ مَقَامَ مَنْ أَحَالهُ سَوَاءٌ يَكُونُ أَحَقَّ بِمَا زَادَ ثَمَنُهُمْ عَلَى سَهْمِهِ عَلَى مَا كَانَ اشْتَرَى يَوْمَ الشِّرَاءِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً شِرَاءً فَاسِدًا فَأَفْلَسَ الْبَائِعُ ثُمَّ فُسِخَ الْبَيْعُ قَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ الْمُبْتَاعُ أَحَقُّ بِالسِّلْعَةِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ثَمَنَهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ إنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِنَقْدٍ الْمُبْتَاعُ أَحَقُّ بِثَمَنِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهَا، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِدَيْنٍ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَذَلِكَ سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يَجِدَ ثَمَنَهَا بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَبَضَهَا قَبْضًا يَتَمَلَّكُ بِهِ كَانَ كَالرَّهْنِ بِيَدِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِثَمَنِهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا لَهُ فِيهَا، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِعَيْنِ سِلْعَتِهِ الَّتِي سَلَّمَ لَا بِمَا سُلِّمَ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِيهِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً فَرَدَّهَا بِعَيْبٍ ثُمَّ أَفْلَسَ الْبَائِعُ فَوَجَدَ الْمُبْتَاعُ السِّلْعَةَ بِعَيْنِهَا فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يَكُونُ الرَّدُّ أَحَقَّ بِهِ، وَأَشَارَ ابْنُ الْمَوَّازِ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِمَا دَفَعَ فِي السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ إنْ وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ نَقْصٌ لِلْبَيْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي وَجْهِ تَصَيُّرِ الْمِلْكِ إلَى الْمُفْلِسِ فَيَكُونُ الْمُصَيَّرُ أَحَقَّ بِهَا) وَأَمَّا مَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْمَبِيعَاتِ فَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهَا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا هِيَ سِلْعَتُهُ بِعَيْنِهَا فَفِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ اشْتَرَى زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِزَيْتِهِ ثُمَّ أَفْلَسَ فَإِنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ زَيْتَهُ لِأَنَّهَا سِلْعَةٌ مُعَيَّنَةٌ فَكَانَ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهَا فِي فَلَسِ الْمُبْتَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا عِنْدَ الْمُبْتَاعِ غَيْرُ مَزْجِهَا بِمَا هُوَ مِثْلُهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي إخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ خَلْطَ الرَّجُلِ مِلْكَهُ بِمِلْكِ غَيْرِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَبَيْعُهُ يَخْرُجُهُ عَنْ مِلْكِهِ ثُمَّ ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ الْبَيْعَ الَّذِي يَنْقُلُ لَا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنْ أَخْذِ مِلْكِهِ عِنْدَ فَلَسِ الْمُبْتَاعِ فَبِأَنْ لَا يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَزْجِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْ أَشْهَبَ فِي قَوْمٍ اكْتَرَوْا إبِلًا، وَدَفَعُوا الثَّمَنَ ثُمَّ فَلِسَ الْجَمَّالُ، وَوُجِدَتْ دَنَانِيرُ أَحَدِهِمْ بِيَدِ الْجَمَّالِ بِعَيْنِهَا أَشْهَدُ عَلَيْهَا أَنَّ دَافِعَهَا لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا بِخِلَافِ السِّلْعَةِ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ
(5/90)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الْمُبْتَاعُ فَإِنَّ الْبَائِعَ إذَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ بَعْضَهُ وَفَرَّقَهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ لَا يَمْنَعُهُ مَا فَرَّقَ الْمُبْتَاعُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَجَدَ بِعَيْنِهِ فَإِنْ اقْتَضَى مِنْ ثَمَنِ الْمُبْتَاعِ شَيْئًا فَأُحِبُّ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَقْبِضَ مَا وَجَدَ مِنْ مَتَاعِهِ، وَيَكُونُ فِيمَا لَمْ يَجِدْ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فَذَلِكَ لَهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مَالِكٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى صَرَّافٍ مِائَةَ دِينَارٍ قَبَضَهَا فِي كِيسِهِ ثُمَّ أَفْلَسَ مَكَانَهُ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ، وَالثَّانِي مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ كَالْعُرُوضِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَحْكَمُ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ «وَلَمْ يَقْبِضْ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» يُرِيدُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي حُكْمُهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَيْنِ مَتَاعِهِ إنْ شَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «وَإِنْ مَاتَ الَّذِي ابْتَاعَهُ فَصَاحِبُ الْحَقِّ فِيهِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ» يُرِيدُ أَنَّ حُكْمَ الْمَوْتِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ حُكْمِ الْفَلَسِ لِأَنَّهُ فِي فَلَسِ الْمُبْتَاعِ الْبَائِعُ أَحَقُّ بِسِلْعَتِهِ، وَفِي مَوْتِ الْمُبْتَاعِ الْبَائِعُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَحَقُّ بِهَا فِي الْمَوْتِ وَالْفَلْسِ، وَهُمَا سَوَاءٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ حَدِيثُ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «وَإِنْ مَاتَ الَّذِي ابْتَاعَهُ فَصَاحِبُ الْمُبْتَاعِ فِيهِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ» ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِمَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَلَيْسَتْ بِأَصَحَّ مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَسْنَدَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ ثِقَةٌ، وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ مِنْ أَنَّ حَظَّ تَقْدِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ بِعَيْنِ مَالِهِ لِإِسْقَاطِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَانْفِرَادِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَلَسِ وَالْمَوْتِ أَنَّ فِي الْفَلَسِ الذِّمَّةُ بَاقِيَةٌ يَرْجِعُ الْغُرَمَاءُ إلَيْهَا، وَيَنْتَظِرُونَ الِاقْتِضَاءَ مِنْهَا، وَفِي الْمَوْتِ تَبْطُلُ الذِّمَّةُ فَيَكُونُ ذَلِكَ إسْقَاطًا لِحَقِّ بَاقِي الْغُرَمَاءِ عَنْ مَالٍ قَدْ مَلَكَهُ غَرِيمُهُمْ لَا رُجُوعَ لَهُمْ مِنْهُ بِشَيْءٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَهَذَا إذَا مَاتَ الْمُبْتَاعُ قَبْلَ أَنْ يُوقِفَ لِلْبَائِعِ سِلْعَتَهُ، وَأَمَّا إنْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ رَوَى فِي الْعُتْبِيَّةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُفْلِسِ السُّلْطَانُ يُوقِفُ مَالَهُ، وَيُوقِفُ مِنْهُ سِلْعَةً لِبَائِعِهَا مِنْهُ ثُمَّ يَمُوتُ الْمُبْتَاعُ فَإِنَّ السِّلْعَةَ لِبَائِعِهَا إذَا وَقَفَهَا لَهُ السُّلْطَانُ، وَإِنْ مَاتَ الْمُبْتَاعُ قَبْلَ أَنْ تُوقَفَ لَهُ فَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، وَلَيْسَ إيقَافُ الْمَالِ إيقَافًا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَعَلَّقَ بِهَا الْبَائِعُ، وَأَرَادَ أَخْذَهَا فِي حَيَاةِ الْمُبْتَاعِ، وَأَبَى ذَلِكَ الْغُرَمَاءُ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً مُعَيَّنَةً فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى مَاتَ الْبَائِعُ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِهَا فِي الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ ابْتَاعَ مِنْهُ طَعَامًا عَلَى الْكَيْلِ فَلَمْ يَكْتَلْهُ حَتَّى مَاتَ الْبَائِعُ فَالْمُبْتَاعُ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الذِّمَّةِ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى سِلَعًا فَبَاعَ بَعْضَهَا ثُمَّ أَفْلَسَ فَإِنَّ الْبَائِعَ أَحَقُّ بِمَا بَقِيَ مِنْهَا مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ وَبِمَا يُصِيبُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ سِلْعَتَيْنِ ثُمَّ يُفْلِسُ الْمُبْتَاعُ فَيَجِدُ الْبَائِعُ إحْدَى السِّلْعَتَيْنِ، وَقَدْ فَاتَتْ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يَقْبِضُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَتِهَا ثُمَّ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَةَ بِمَا يُصِيبُهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَيُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ بِمَا يُصِيبُ الْفَائِنَةَ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الَّتِي وَجَدَ، وَحَاصَّ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مِنْ الثَّمَنِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا لَهُ أَخْذُ مَا بَقِيَ مِنْ سِلْعَتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَبَضَ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَمْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذْ السِّلْعَةَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ إنَّ قَبْضَهُ لِجَمِيعِ الثَّمَنِ قَدْ سَلِمَ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ الْعَيْبِ فِي أَخْذِ الْعِوَضَيْنِ، وَأَمَّا إذَا قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ، وَقَدْ أَدْرَكَ الذِّمَّةَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا بِقِيمَةِ الثَّمَنِ عَيْبُ الْفَلَسِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ الثَّمَنِ يَتَقَسَّطُ عَلَى الْمَبِيعِ فَيَدْخُلُ
(5/91)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً مِنْ السِّلَعِ غَزْلًا أَوْ مَتَاعًا أَوْ بُقْعَةً مِنْ الْأَرْضِ ثُمَّ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ الْمُشْتَرَى عَمَلًا بَنَى الْبُقْعَةَ دَارًا أَوْ نَسَجَ الْغَزْلَ ثَوْبًا ثُمَّ أَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَ ذَلِكَ فَقَالَ رَبُّ الْبُقْعَةِ أَنَا آخُذُ الْبُقْعَةَ وَمَا فِيهَا مِنْ الْبُنْيَانِ إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ، وَلَكِنْ تُقَوَّمُ الْبُقْعَةُ وَمَا فِيهَا مِمَّا أَصْلَحَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُ الْبُقْعَةِ وَكَمْ ثَمَنُ الْبُنْيَانِ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ ثُمَّ يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِي ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَيَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْبُنْيَانِ قَالَ مَالِكٌ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَتَكُونُ قِيمَةُ الْبُقْعَةِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقِيمَةُ الْبُنْيَانِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْبُقْعَةِ الثُّلُثُ، وَيَكُونُ لِلْغُرَمَاءِ الثُّلُثَانِ قَالَ مَالِكٌ، وَكَذَلِكَ الْغَزْلُ وَغَيْرُهُ مِمَّا أَشْبَهَهُ إذَا دَخَلَهُ هَذَا وَلَحِقَ الْمُشْتَرِيَ دَيْنٌ لَا وَفَاءَ لَهُ عِنْدَهُ، وَهَذَا الْعَمَلُ فِيهِ قَالَ مَالِكٌ فَأَمَّا مَا بِيعَ مِنْ السِّلَعِ الَّتِي لَمْ يُحْدِثْ فِيهَا الْمُبْتَاعُ شَيْئًا إلَّا أَنَّ تِلْكَ السِّلْعَةَ نَفَقَتْ، وَارْتَفَعَ ثَمَنُهَا فَصَاحِبُهَا يَرْغَبُ فِيهَا، وَالْغُرَمَاءُ يُرِيدُونَ إمْسَاكَهَا فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يُعْطُوا رَبَّ السِّلْعَةِ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ، وَلَا يَنْقُصُوهُ شَيْئًا، وَبَيْنَ أَنْ يُسْلِمُوا إلَيْهِ سِلْعَتَهُ، وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَدْ نَقَصَ ثَمَنُهَا فَاَلَّذِي بَاعَهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ سِلْعَتَهُ، وَلَا تَبَاعَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ فَذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَكُونَ غَرِيمًا مِنْ الْغُرَمَاءِ يُحَاصُّ بِحَقِّهِ، وَلَا يَأْخُذُ سِلْعَتَهُ فَذَلِكَ لَهُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فِيهِ ضَرُورَةُ الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ مِنْهُ عَبْدًا، وَرَجَعَ إلَيْهِ نِصْفُ الْعَبْدِ أَوْ رُبْعُهُ فَقَدْ لَحِقَهُ ضَرُورَةُ الشَّرِكَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ فَلِذَلِكَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَ، وَيَرْجِعَ فِي سِلْعَتِهِ أَوْ يُسَلِّمَهَا وَيُحَاصَّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْغُرَمَاءَ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ فَإِنْ اقْتَضَى مِنْ ثَمَنِ الْمُبْتَاعِ شَيْئًا فَأُحِبُّ أَنْ يَرُدَّهُ، وَيَقْبِضَ مَا وَجَدَ مِنْ مَتَاعِهِ، وَيَكُونُ فِيمَا لَمْ يَجِدْ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ فَذَلِكَ لَهُ، وَذَلِكَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجِدَ سِلْعَتَهُ كُلَّهَا، وَقَدْ قَبَضَ بَعْضَ ثَمَنِهَا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَ، وَيَأْخُذَ سِلْعَتَهُ أَوْ يُسَلِّمَهَا، وَيُحَاصَّ الْغُرَمَاءَ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ قَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ، وَوَجَدَ بَعْضَ السِّلْعَةِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مِمَّا قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ مَا يَجِبُ مِنْ الثَّمَنِ لِمَا وَجَدَ مِنْ السِّلْعَةِ، وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ، وَيَرْجِعُ فِيمَا وَجَدَ مِنْ سِلْعَتِهِ، وَيَتَمَسَّكُ بِمَا يُصِيبُ مَا فَاتَ مِنْ السِّلَعِ مِمَّا كَانَ قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ، وَيُحَاصُّ بِبَقِيَّتِهِ الْغُرَمَاءَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ بَاعَ ثَلَاثَةَ أَرْؤُسٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقِيمَةُ أَحَدِهِمْ نِصْفُ الثَّمَنِ وَالْآخَرِ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ الثَّمَنِ، وَالْآخَرِ خُمُسُ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَفُضُّ الْمِائَةَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ ثَلَاثِينَ دِينَارًا فُضَّتْ عَلَى الْأَرْؤُسِ الثَّلَاثَةِ فَيُصِيبُ الَّذِي قِيمَتُهُ النِّصْفُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَيُصِيبُ الَّذِي قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ أَعْشَارٍ تِسْعَةَ دَنَانِيرَ، وَيُصِيبُ الْآخَرُ سِتَّةَ دَنَانِيرَ فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ حُسِبَ عَلَيْهِ فِيهِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَحَاصَ بِمَا بَقِيَ، وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ رَدَّ مَا وَقَعَ لَهُ، وَأَخَذَهُ إنْ شَاءَ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ الْغُرَمَاءُ بَقِيَّةَ ثَمَنِهِ، وَحَاصَّ بِمَا بَقِيَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَا قَبَضَهُ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا قَبَضَهُ عَنْ جَمِيعِ الْمَبِيعِ فَيَقْبِضُ عَلَى ذَلِكَ فَمَا أَصَابَ مِنْهُ مَا فَاتَ حُسِبَ لَهُ مِنْ ثَمَنِهِ، وَحَاصَّ الْغُرَمَاءَ بِبَقِيَّتِهِ، وَمَا أَصَابَ مِنْهُ مَا أَدْرَكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ، وَيَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ أَوْ يَتْرُكَ مَا أَدْرَكَ، وَيُحَاصَّ بِمَا بَقِيَ مِنْ ثَمَنِهِ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الَّذِي يَبِيعُ الْبُقْعَةَ وَالْغَزْلَ فَيَبْنِي الْمُشْتَرِي فِي الْبُقْعَةِ، وَيَنْسِجُ الْغَزْلَ ثُمَّ يُفْلِسُ إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ يَوْمَ الْحُكْمِ فِيهِ رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُزَنِيَّة، وَقَالَ يُقَوَّمُ جَمِيعُ الْبُنْيَانِ جُمْلَةً، وَلَا يُقَوَّمُ جِدَارًا أَوْ خَشَبَةً خَشَبَةً، وَإِنَّمَا يُقَالُ مَا قِيمَةُ هَذِهِ الدَّارِ مَبْنِيَّةً فَتُعْرَفُ قِيمَتُهَا ثُمَّ يُقَالُ مَا قِيمَةُ الْبُقْعَةِ بَرَاحًا لَا بِنَاءَ فِيهَا فَيَكُونَانِ فِيهَا شُرَكَاءَ؛ صَاحِبُ الْبُقْعَةِ بِقِيمَةِ بُقْعَتِهِ، وَصَاحِبُ الْبُنْيَانِ بِقِيمَةِ بُنْيَانِهِ، رَوَاهُ عِيسَى عَنْ يَحْيَى عَنْ
(5/92)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ابْنِ نَافِعٍ، وَفِي الْمَبْسُوطِ شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ زِيَادَةً فِي الْمَبِيعِ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لَا يُفِيتُهُ، وَذَلِكَ أَنْ يَبِيعَ جُلُودًا فَيَدْبُغَهَا الْمُبْتَاعُ أَوْ ثِيَابًا فَيَصْبُغَهَا أَوْ يُقَصِّرَهَا فَإِنَّ الْبَائِعَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ سِلْعَتَهُ، وَيُشَارِكَ الْغُرَمَاءَ بِقِيمَتِهَا، وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ قَالَ إنَّ ذَلِكَ فَوْتٌ ثُمَّ رَجَعَ إلَى هَذَا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَغَيَّرَتْ تَغَيُّرًا لَا سَبِيلَ أَنْ تَعُودَ إلَى صِفَتِهَا الْأُولَى فَكَانَ ذَلِكَ فَوْتًا فِيهَا، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْعَيْنَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا زِيدَ فِيهَا عَمَلٌ، وَأُضِيفَ إلَيْهَا مَعْنًى كَالنَّسْجِ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا بِالْمُشَارَكَةِ فِيمَا يُشَارِكُهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَكُونُ الْغُرَمَاءُ شُرَكَاءَ بِقِيمَةِ الصَّبْغِ وَقِيمَةِ النَّسْجِ فِي الْغَزْلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَكُونُونَ شُرَكَاءَ بِقَدْرِ مَا زَادَ الصَّبْغُ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الصَّبَّاغِ يَدْفَعُ الثَّوْبَ إلَى رَبِّهِ ثُمَّ يُفْلِسُ رَبُّهُ إنَّ الصَّبَّاغَ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الثَّوْبِ بِمَا زَادَ فِيهِ الصَّبْغُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ صَنَعَ فِيهِ مَا يَجُوزُ لَهُ، وَأَنْفَقَ فِيهِ نَفَقَةً فَيَجِبُ أَنْ يُشَارِكَ بِقِيمَتِهَا لِأَنَّ الصِّنَاعَةَ الَّتِي أَحْدَثَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ مَا أُضِيفَ إلَى الثَّوْبِ كَمَا لَوْ أَخْطَأَهُ الصَّبَّاغُ بِثَوْبٍ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْفَلَسَ مَعْنًى يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ فِي رَدِّ الثَّوْبِ إلَى بَائِعِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُشَارِكَ بِمَا زَادَتْ قِيمَةُ الصَّبْغِ وَالْعَمَلِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ اشْتَرَى زُبْدًا فَعَمِلَهُ سَمْنًا أَوْ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا أَوْ خَشَبَةً فَعَمِلَهَا بَابًا أَوْ تَابُوتًا أَوْ كَبْشًا فَذَبَحَهُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فَوْتٌ، وَلَيْسَ لِبَائِعِهِ إلَّا الْمُحَاصَّةُ بِخِلَافِ الْعَرْصَةِ تُبْنَى، وَالْغَزْلِ يُنْسَجُ، وَرَوَى مُطَرِّفٌ، وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْجُلُودِ تُقْطَعُ نِعَالًا إنَّ ذَلِكَ فَوْتٌ، وَأَمَّا الثِّيَابُ تُقْطَعُ فَلَا أَدْرِي، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَزْلِ يُنْسَجُ أَنَّ النَّسْجَ عَمَلٌ وَصِنَاعَةٌ مُعْتَادَةٌ تَزِيدُ فِي الْقِيمَةِ، وَأَمَّا الْقَطْعُ فَيُعْتَبَرُ، وَهُوَ مِمَّا يُنْقِصُ الْقِيمَةَ فِي الْغَالِبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ فَوْتًا، وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى قَمْحًا فَخَلَطَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ كَانَ لِصَاحِبِ الْقَمْحِ أَنْ يَأْخُذَ قَمْحَهُ، وَلَوْ خَلَطَهُ بِقَمْحٍ رَدِيءٍ مُسَوَّسٍ مَغْلُوثٍ لَكَانَ ذَلِكَ فَوْتًا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنْ أَخْذِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) وَمَنْ اشْتَرَى ثَمَرَ حَائِطٍ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ ثُمَّ فَلِسَ الْمُبْتَاعُ بَعْدَ أَنْ يَبِسَ التَّمْرُ فَأَرَادَ الْبَائِعُ أَخْذَهُ بِحَقِّهِ فَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ فِي الْعُتْبِيَّةِ فَأَجَازَهُ مَرَّةً، وَمَنَعَهُ أُخْرَى وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَشْهَبُ أَنَّهُ أَخَذَ عَيْنَ مَالِهِ، وَإِنَّمَا تَبْقَى الذَّرِيعَةُ إلَى بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَإِلْزَامُ ذَلِكَ بِحُكْمٍ يَنْفِي الذَّرِيعَةَ، وَتَبْعُدُ التُّهْمَةُ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْمَنْعِ، وَإِلَيْهَا ذَهَبَ أَصْبَغُ إثْبَاتُ حُكْمِ الذَّرِيعَةِ، وَإِنْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ، وَهَذَا أَصْلُ اخْتِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ، وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُ، وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ تُشْبِهُ ذَلِكَ، وَيُبْنَى الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبَائِعِ أَخْذَ سِلْعَتِهِ إذَا فَلِسَ الْمُبْتَاعُ هَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ بَيْعٍ أَوْ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ ابْتِدَاءُ بَيْعٍ رُوعِيَ فِيهِ مِنْ الذَّرَائِعِ مَا يُرَاعَى فِي عُقُودِ الْبَيْعِ، وَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ نَقْضُ بَيْعٍ لَمْ يَحْتَجْ إلَى مُرَاعَاةِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَبْدٍ أَبَقَ ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُبْتَاعُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَهُ أَنْ يَرْضَى بِالْعَبْدِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ يُحَاصُّ الْغُرَمَاءَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَاصَّ بِقِيمَتِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ وَجَدَهُ أَخَذَهُ وَرَدَّ مَا حَاصَّ بِهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ أَنَّهُ لَيْسَ لِبَائِعِ الْآبِقِ أَخْذُهُ بِالثَّمَنِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ عَقْدُ بَيْعٍ، وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْآبِقِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ ابْتَاعَ قَمْحًا فَزَرَعَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَصْبَغَ لَا يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهِ فَأَمَّا الَّذِي زَرَعَهُ فَبَيِّنٌ أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ الَّتِي بَاعَهَا قَدْ تَلِفَتْ، وَالْقَمْحُ الَّذِي نَبَتَ عَيْنٌ أُخْرَى، وَلَيْسَ فِي الْفَوَاتِ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا، وَأَمَّا مَنْعُ ذَلِكَ فِي الَّذِي طَحَنَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ، وَالثَّانِي ارْتِجَاعُ الْبَائِعِ عَيْنَ مَالِهِ بِشِرَاءٍ حَادِثٍ فَلِذَلِكَ مَنَعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْنِيَهُ عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَ الْأَجْزَاءِ مَانِعٌ مِنْ رُجُوعِ الْبَائِعِ فِيهِ وَمُفِيتٌ لَهُ كَقَطْعِ الثَّوْبِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) وَإِذَا اخْتَلَطَ مَا ابْتَاعَهُ مِنْ قَمْحٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ
(5/93)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً أَوْ دَابَّةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ الْجَارِيَةَ أَوْ الدَّابَّةَ وَوَلَدَهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَرْغَبَ الْغُرَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَيُعْطُونَهُ حَقَّهُ كَامِلًا وَيُمْسِكُونَ ذَلِكَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
غَيْرِهِمَا، وَعُرِفَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ أَفْلَسَ فَإِنَّ لِلْمُبْتَاعِ أَخْذَهُ مِنْ جُمْلَةِ الطَّعَامِ قَالَهُ مَالِكٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا خَلَطَهُ فَقَدْ فَاتَ، وَلَا يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَأَدْرَكَ الرَّجُلُ مَالَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» ، وَهَذَا قَدْ وَجَدَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا بَائِعٌ مُدْرِكٌ لَعَيْن مَالِهِ فِي فَلَسِ غَرِيمِهِ فَكَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَخْلِطْهُ بِسِوَاهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ جَمَاعَةٍ فَخَلَطَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ كَانُوا أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَائِهِ قَالَهُ أَشْهَبُ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ الدَّنَانِيرُ يَدْفَعُهَا الرَّجُلُ إلَى الصَّرَّافِ يَخْلِطُهَا بِكِيسِهِ ثُمَّ يُفْلِسُ مَكَانَهُ، وَالْبَزُّ يَشْتَرِيهِ فَيَرْفَؤُهُ، وَيَخْلِطُهُ بِبَزِّ غَيْرِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ وَأَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ خَلْطَهُ بِمَالٍ لَا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِهِ فَبِأَنْ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ خَلْطُهُ بِمَالِ بَائِعٍ أَحْرَى وَأَوْلَى.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا إنْ خَلَطَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُفْسِدَهُ ذَلِكَ أَوْ لَا يُفْسِدُهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُفْسِدًا لَهُ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ فِيمَنْ خَلَطَ مَا اشْتَرَى بِغَيْرِ جِنْسِهِ مِثْلُ أَنْ يَخْلِطَ زَيْتَ الْفُجْلِ بِزَيْتِ الزَّيْتُونِ أَوْ الْقَمْحِ بِالْمَغْلُوثِ جِدًّا أَوْ الْمُسَوَّسِ حَتَّى يَفْسُدَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيتُهُ، وَأَمَّا إنْ خَلَطَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْسِدُهُ بَلْ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ عَسَلًا، وَمِنْ آخَرَ حَرِيرَةً يَلُثُّهَا بِالْعَسَلِ ثُمَّ يُفْلِسُ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُمَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ يَتَحَاصَّانِ فِي ثَمَنِهَا بِقِيمَةِ هَذَا مِنْ قِيمَةِ هَذَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ثُمَّ وَقَفَ عَنْهَا مُحَمَّدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ أَفْلَسَ فَإِنَّ لِلْبَائِعِ أَخْذَهَا وَوَلَدَهَا لِأَنَّهُ نَمَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْعَيْنِ كَالسِّمَنِ، وَالنَّمَاءُ الْحَادِثُ فِي الْعَيْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ نَمَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْعَيْنِ كَالْوَلَدِ، وَنَمَاءٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَثَمَرِ الشَّجَرِ وَصُوفِ الْغَنَمِ وَلَبَنِ الْأَنْعُمِ وَغَلَّةِ الدُّورِ وَالْعَبِيدِ، فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَإِنْ حَدَثَ الْوَلَدُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَفْلَسَ فَإِنَّ لِلْبَائِعِ أَخْذَهُ مَعَ أُمِّهِ عَلَى مَا ذَكَرَ أَوْ تَرَكَهَا مَعَ وَلَدِهَا، وَمُحَاصَّةُ الْغُرَمَاءِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي بَاعَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَبِعْهُ فَإِنْ كَانَ بَاعَ الْأَوْلَادَ وَوَجَدَ الْأُمَّ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأُمَّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ يُسْلِمَهَا، وَيُحَاصَّ الْغُرَمَاءَ، وَذَكَرَهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ: وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْوَلَدِ، وَرَوَى يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَقْسِمُ الثَّمَنَ عَلَى الْأُمِّ وَالْوَلَدِ فَيَأْخُذُ الْأُمَّ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَيُحَاصُّ بِمَا أَصَابَ الْأَوْلَادَ مِنْ الثَّمَنِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْوَلَدَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْبَيْعُ، وَإِنَّمَا كَانَ نَمَاءٌ حَدَثَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالْغَلَّةِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ نَمَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْعَيْنِ فَكَانَ لِلْبَائِعِ أَخْذُهُ وَأَخْذُ ثَمَنِهِ إنْ كَانَ بَاعَهُ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ بِالْغَلَّةِ لِأَنَّ الْغَلَّةَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْوَلَدَ وَحْدَهُ لَكَانَ لَهُ أَخْذُهُ وَالْمُحَاصَّةُ بِقِيمَةِ الْأُمِّ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَمَّا وَجَدَ النَّمَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِيهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا إنْ لَمْ يَبِعْ الْمُشْتَرِي الْوَلَدَ، وَلَكِنَّهُ تَلِفَ فَإِنْ كَانَ تَلِفَ عَلَى وَجْهٍ لَا عِوَضَ فِيهِ كَالْمَوْتِ وَالْإِبَاقِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ لَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَبَقِيَ الْوَلَدُ أَوْ مَاتَ الْوَلَدُ وَبَقِيَتْ الْأُمُّ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْبَاقِي مِنْهُمَا إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ التَّرْكُ وَالْمُحَاصَّةُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ إسْلَامُهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ بَاعَ أَمَةً فَعَمِيَتْ أَوْ اعْوَرَّتْ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ ثُمَّ أَفْلَسَ فَإِمَّا أَخَذَهَا الْبَائِعُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ أَسْلَمَهَا قَالَ مَالِكٌ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ يَخْلَقُ أَوْ يَدْخُلُهُ فَسَادٌ كَالْأَمَةِ.
(فَرْعٌ)
وَأَمَّا إنْ تَلِفَ عَلَى وَجْهٍ فِيهِ الْعِوَضُ مِثْلُ أَنْ يَجْنِيَ عَلَيْهِ جَانٍ فَإِنْ أَخَذَ لَهُ عَقْلًا فَهُوَ مِثْلُ بَيْعِهِ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ لَهُ عَقْلًا فَهُوَ مِثْلُ الْمَوْتِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي هُوَ
(5/94)
مَا يَجُوزُ مِنْ السَّلَفِ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكْرًا فَجَاءَتْهُ إبِلٌ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ فَقُلْت لَمْ أَجِدْ فِي الْإِبِلِ إلَّا جَمَلًا خِيَارًا رُبَاعِيًّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْجَانِي عَلَيْهِ فَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا حَدَثَ الْوَلَدُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا لَوْ بِيعَا جَمِيعًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سِلْعَتَيْنِ بِيعَا فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وُجُودِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُمَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ.
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ النَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا حِينَ الْبَيْعِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَا كَانَ مِنْهُ مَوْجُودًا حِينَ الْبَيْعِ عَلَى صِفَةٍ نُبَيِّنُهَا بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلُ الصُّوفِ عَلَى ظُهُورِ الْغَنَمِ قَالَ أَصْبَغُ قَدْ حَانَ جِزَازُهُ فَجَزَّهُ الْمُبْتَاعُ ثُمَّ أَفْلَسَ فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا، وَكَانَ عَلَى ظُهُورِ الْغَنَمِ لَمْ يَجُزَّهُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ مَعَ الرِّقَابِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَلَوْ جَزَّهُ الْمُبْتَاعُ وَلَمْ يَفُتْ فَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ لِلْبَائِعِ أَخْذُهُ مَعَ الْغَنَمِ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ ثُمَّ فُلِّسَ قَالَ أَصْبَغُ: لَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ إلَّا قِيمَتُهُ بِقِسْطِ الثَّمَنِ عَلَى الصُّوفِ وَرِقَابِ الْغَنَمِ يُحَاصُّ الْغُرَمَاءُ بِمَا لِلصُّوفِ مِنْ الثَّمَنِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْغَنَمَ بِبَاقِي الثَّمَنِ أَوْ يُسْلِمَهَا رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَكَانَ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ كَالسِّلْعَتَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا الثَّمَرَةُ تُبَاعُ مَعَ الْأَصْلِ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَكِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ قَدْ أُبِّرَتْ فَيَقْضِي لَهُ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَأَمَّا مَا قَبْلَ ذَلِكَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ، وَلَا حِصَّةَ لَهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنَّمَا رَاعَى ابْنُ حَبِيبٍ الْإِبَارَ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَتْبَعُ النَّخْلَ إلَّا بِالشَّرْطِ فَكَانَ لَهَا عَلَى هَذَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَإِنْ فُلِّسَ الْمُبْتَاعُ قَبْلَ أَنْ يَجُدَّ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْأَصْلِ وَالثَّمَرَةِ مَا لَمْ يُفَارِقْ الْأَصْلَ، وَقِيلَ مَا لَمْ تَيْبَسْ، وَرُوِيَ الْقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْقِيَاسُ، وَالثَّانِي هُوَ الِاسْتِحْسَانُ، وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ مَا قَدَّمْنَاهُ قَالَ مَالِكٌ مَا دَامَتْ الثَّمَرَةُ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ لَمْ تُجَدَّ، وَلَمْ تُبَعْ فَهِيَ كَالْوَلَدِ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَهَا مَا دَامَتْ مُتَّصِلَةً بِالْأَصْلِ كَالنَّمَاءِ الْحَادِثِ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ قَدْ وُجِدَتْ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ لِلْبَائِعِ قِيمَةُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ لِارْتِجَاعِ الْمَبِيعِ حُكْمَ الْعَقْدِ، وَهَذَا ثَمَرٌ قَدْ انْفَصَلَ مِنْ أَصْلِهِ فَوَجَبَ عِوَضًا عَنْ ثَمَرَةٍ مُزْهِيَةٍ فَلَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فَرَجَعَ فِيهِ إلَى الْقِيمَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الشَّجَرِ عِنْدَ الْبَيْعِ ثَمَرٌ، وَلَا عَلَى ظُهُورِ الْغَنَمِ صُوفٌ ثُمَّ اسْتَغَلَّهَا الْمُشْتَرِي مُدَّةَ أَعْوَامٍ ثُمَّ أَفْلَسَ فَإِنَّ الْبَائِعَ يَأْخُذُ الْأُصُولَ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْغَلَّةِ وَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ بَاقِيَةً فِي الشَّجَرِ، وَالصُّوفُ بَاقٍ عَلَى الْغَنَمِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ سَمَاعِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إنْ كَانَ فِي النَّخْلِ يَوْمَ التَّفْلِيسِ ثَمَرٌ قَدْ طَابَتْ فَهِيَ لِلْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ مَا حَلَّ مِنْ غَلَّةِ دَارٍ، وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لِلْبَائِعِ أَخْذَهَا بِثَمَرِهَا مَا دَامَتْ فِي النَّخْلِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ قَدْ حَازَ أَفْرَادَهَا فَكَانَ لَهَا حُكْمُهَا كَاَلَّتِي جُدَّتْ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهَا مَا دَامَتْ مُتَّصِلَةً بِمِلْكِ الْبَائِعِ، وَغَيْرَ مُفَارِقَةٍ لَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ فَكَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُهَا فِي الْفَلَسِ كَنَمَاءِ الْأَغْصَانِ مَا لَمْ يَطِبْ مِنْ الثَّمَرِ، وَصُوفِ الْغَنَمِ.
(فَرْعٌ)
وَأَمَّا الصُّوفُ عَلَى ظُهُورِ الْغَنَمِ يَكُونُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ الْمُفْلِسِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ لِلْبَائِعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّمَرَةِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لِلْغُرَمَاءِ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّ الصُّوفَ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فِي بَيْعِ الْغَنَمِ وَالثَّمَرَةِ الْمَأْبُورَةُ فَلَا يَكُونُ لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(5/95)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» ) .
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ اسْتَسْلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَضَاهُ دَرَاهِمَ خَيْرًا مِنْهَا فَقَالَ الرَّجُلُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذِهِ خَيْرٌ مِنْ دَرَاهِمِي الَّتِي أَسْلَفْتُك فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ عَلِمْت، وَلَكِنْ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْبِضَ مَنْ أَسْلَفَ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ أَوْ الطَّعَامِ أَوْ الْحَيَوَانِ مِمَّنْ أَسْلَفَهُ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِمَّا أَسْلَفَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى شَرْطٍ مِنْهُمَا أَوْ وَأْيٍ أَوْ عَادَةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى شَرْطٍ أَوْ وَأْيٍ أَوْ عَادَةٍ فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ قَالَ مَالِكٌ، وَذَلِكَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى جَمَلًا رُبَاعِيًّا خِيَارًا مَكَانَ بَكْرٍ اسْتَسْلَفَهُ» ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اسْتَسْلَفَ دَرَاهِمَ فَقَضَاهُ خَيْرًا مِنْهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْ الْمُسْتَسْلِفِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى شَرْطٍ، وَلَا وَأْيٍ، وَلَا عَادَةٍ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا لَا بَأْسَ بِهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[مَا يَجُوزُ مِنْ السَّلَفِ]
(ش) : قَوْلُهُ «اسْتَسْلَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَكْرًا» يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ثُبُوتِ الْحَيَوَانِ فِي الذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَازَ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَمَّا يَسْتَقْرِضُهُ الْمُسْتَقْرِضُ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ عَلَيْهِ رَدَّ مِثْلَ مَا اسْتَقْرَضَ، وَوَافَقَنَا عَلَى ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَنَعَ مِنْهُ فِي السَّلَمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَالْقَرْضُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا، وَغَيْرَ مُؤَجَّلٍ فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَطْلُبَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَلِلْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يَدْفَعَهُ مَتَى شَاءَ قَبْلَ الْأَجَلِ إذَا كَانَ عَيْنًا لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقْرَضَهُ لِمُجَرَّدِ مَنْفَعَةِ الْمُسْتَقْرِضِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَنْفَعَةً لِلْمُقْرِضِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يُبْقِيَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ إلَى الْأَجَلِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ وَجْهُ مَنْفَعَةٍ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَرْضِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْرَضَهُ عَرْضًا.
1 -
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «فَجَاءَتْهُ إبِلٌ مِنْ الصَّدَقَةِ قَالَ أَبُو رَافِعٍ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ» لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْتَرِضُ الْبَكْرَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَإِنْ كَانَ اقْتَرَضَهُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَقَوْلُ أَبِي رَافِعٍ «لَمَّا جَاءَتْهُ إبِلٌ مِنْ الصَّدَقَةِ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ» يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا أَنَّ مَا أَمَرَهُ أَنْ يَقْضِيَ مِنْهُ الرَّجُلَ كَانَ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ ثُمَّ صَارَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْتِيَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَضَهُ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ جَازَ أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْهَا كَمَا يَسْتَقْرِضُ وَالِي الْيَتِيمِ عَلَى مَالِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَمْوَالِ الْمَسَاكِينِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِمَّا أَخَذَ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُقْرِضُ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ فَيَكُونُ فَضْلُ الشَّيْءِ صَدَقَةً عَلَيْهِ.
وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْلَ حُلُولِهَا عَلَى قَوْلِنَا إنَّهُ اسْتَقْرَضَ لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنَّمَا فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ لِلْمَسَاكِينِ مِنْ رَجُلٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فَيَقْضِيهِ قَرْضَهُ كَمَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَقْبِضُ مِنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ فَلَوْ كَانَ مِنْ بَابِ تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحُلُولِ لَتَعَجَّلَهَا وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُقْرِضَ، وَلَوْ شَاءَ لَعَجَّلَهَا اقْتِرَاضًا لَمَّا احْتَاجَ أَنْ يَقْضِيَهُ عِنْدَ الْأَجَلِ، وَلَوْ تَعَلَّقَ مُتَعَلِّقٌ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مَا أَبْعَدَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يَكُونُ لَهُ هَذَا الْبَكْرُ الَّذِي قَضَاهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ إمَّا بَعْدَ أَنْ بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَصَارَ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْغَارِمِينَ أَوْ الْفُقَرَاءِ أَوْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ مِمَّنْ احْتَاجَ إلَى بَيْعِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ «رَجُلًا تَقَاضَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَغْلَظَ لَهُ فَهَمَّ أَصْحَابُهُ بِهِ فَقَالَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا، وَاشْتَرُوا لَهُ بَعِيرًا فَأَعْطُوهُ فَقَالُوا لَا نَجِدُ إلَّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ قَالَ اشْتَرُوهُ فَأَعْطُوهُ إيَّاهُ فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ فَحَفِظَ أَبُو رَافِعٍ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ، وَحَفِظَ بَعْضُ الرُّوَاةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الشِّرَاءَ.
(ش) : قَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنْ أَسْلَفَهُ الدَّرَاهِمَ
(5/96)
مَا لَا يَجُوزُ مِنْ السَّلَفِ (ص) : (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي رَجُلٍ أَسْلَفَ رَجُلًا طَعَامًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَكَرِهَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقَالَ فَأَيْنَ الْحَمْلُ يَعْنِي حُمْلَانَهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
خَيْرًا مِنْهَا الظَّاهِرُ أَنَّهَا أَفْضَلُ فِي الصِّفَةِ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّ خَيْرَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً، وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابِلِ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ نَقْصٌ فِي وَجْهٍ آخَرَ مِثْلُ أَنْ يُسْلِفَهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ رَدِيئَةَ الذَّهَبِ فَيَقْضِيَهُ ثَمَانِيَةً جَيِّدَةَ الذَّهَبِ أَوْ يَكُونَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مَسْكُوكَةٍ رَدِيئَةِ الذَّهَبِ فَيَقْضِيَهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مِنْ التِّبْرِ الْجَيِّدِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَضَةِ فَيُؤَدِّي إلَى بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إلَى أَجَلٍ لَمَّا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ كَانَتْ الْفَضِيلَةُ فِي الْقَدْرِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ إقْرَاضُهُ وَزْنًا أَوْ عَدَدًا فَإِنْ كَانَ إقْرَاضُهُ وَزْنًا فَلَا اعْتِبَارَ بِالْعَدَدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْوَزْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْيَسِيرَ.
(مَسْأَلَةٌ)
فَإِنْ أَقْرَضَهُ عَدَدًا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَدَدِ أَفْضَلَ وَزْنًا مِثْلَ أَنْ يُقْرِضَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَنْصَافًا فَيَقْضِيَهُ مِائَةً وَازِنَةً لِأَنَّ الْفَضِيلَةَ حِينَئِذٍ تَكُونُ فِي الْجِنْسِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَهُ فِي الْعَدَدِ إلَّا الزِّيَادَةَ الْيَسِيرَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ قَضَاهُ أَقَلَّ عَدَدًا أَوْ أَكْثَرَ وَزْنًا أَوْ أَكْثَرَ عَدَدًا أَوْ أَقَلَّ وَزْنًا لَمْ يَجُزْ لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ الرَّجُلِ أَفْضَلَ مِمَّا سَلَّفَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْطٍ وَلَا عَادَةٍ يُرِيدُ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ طَيِّبَةً بِذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَوْ يَجْرِيَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَادَةٍ يَكُونُ الْقَرْضُ مِنْ أَجْلِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَذِهِ خَيْرٌ مِنْ دَرَاهِمِي إنْكَارًا لِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ أَوْ لِعَادَةٍ يَرْجُوهَا لَمَا أَنْكَرَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِ فَأَمَّا الشَّرْطُ فَلَا خِلَافَ فِي مَنْعِهِ، وَأَمَّا الْعَادَةُ فَقَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ أَيْضًا، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فَيَكْرَهَانِهِ وَلَا يَرَيَانِهِ حَرَامًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ الْعَادَةَ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَصْدُ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ زِيَادَتَهُ كَالشَّرْطِ، وَلِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ إذَا أَقْرَضَ لِهَذَا الرَّجَاءِ الَّذِي اعْتَادَهُ فَقَدْ دَخَلَ عَمَلَهُ الْفَسَادُ وَالتَّحْرِيمُ لَمْ يَقْصِدْ بِمَا أَقْرَضَهُ الْمَعْرُوفَ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْقَرْضِ، وَلِذَلِكَ أَبْدَى ابْنُ عُمَرَ مَعْنَى الْجَوَازِ فِي الزِّيَادَةِ، وَقَالَ إنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي زَادَهَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِشَرْطٍ، وَلَا عَادَةٍ، وَأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِطِيبِ نَفْسِهِ، وَرِضَاهُ بِإِسْدَاءِ الْمَعْرُوفِ إلَى مَنْ أَقْرَضَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَا لَا يَجُوزُ مِنْ السَّلَفِ]
(ش) : قَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الَّذِي أَسْلَفَ طَعَامًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ بِبَلَدٍ آخَرَ فَأَيْنَ الْحَمْلُ تَبْيِينٌ لِوَجْهِ الْمَنْعِ وَمُقْتَضِي التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ زِيَادَةً فِي قَرْضِهِ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَى فَسَادِهِ لَا سِيَّمَا فِي مَالَهُ حَمْلٌ كَالطَّعَامِ وَسَائِرِ الْمَتَاعِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَرْطٌ فَلَقِيَهُ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْقَرْضِ جَازَ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الْقَضَاءِ حَيْثُ الْتَقَيَا رَوَاهُ عَبْدُ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةُ الْمُقْتَرَضِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا الْبَيْعُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ قَضَاءً فِي غَيْرِ بَلَدِ التَّبَايُعِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الِازْدِيَادِ فِيهِ فَإِنْ لَقِيَهُ بَعْدَ الْأَجَلِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَاتَّفَقَا عَلَى الْقَضَاءِ فِيهِ جَازَ ذَلِكَ إذَا أَخَذَ مِثْلَ الَّذِي يَجُوزُ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَجَلِ قَالَهُ مَالِكٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَدْخُلُهُ قَبْلَ الْأَجَلِ حُطَّ عَنِّي الضَّمَانَ وَأَزِيدُك أَوْ ضَعْ وَتَعَجَّلْ.
(مَسْأَلَةٌ)
فَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ فِي دَرَاهِمَ مِثْلِ الصَّفَائِحِ الَّتِي يَدْفَعُهَا رَجُلٌ لِآخَرَ عَلَى وَجْهِ السَّلَفِ لِيَقْضِيَهُ إيَّاهَا بِبَلَدٍ آخَرَ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْمَنْعُ، وَرَوَى أَبُو الْفَرْجِ الْجَوَازَ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ بِبَلَدٍ آخَرَ، وَلَا يَخْلُو أَنْ يَضْرِبَ لِذَلِكَ أَجَلًا أَوْ لَا يَضْرِبَ أَجَلًا فَإِنْ ضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا جَازَ
(5/97)
(ص) : (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنِّي أَسْلَفْت رَجُلًا سَلَفًا، وَاشْتَرَطْت عَلَيْهِ فَضْلًا مِمَّا أَسْلَفْته فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَذَلِكَ الرِّبَا قَالَ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ السَّلَفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ سَلَفٌ تُسْلِفُهُ تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَلَكَ وَجْهُ اللَّهِ، وَسَلَفٌ تُسْلِفُهُ تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ صَاحِبِك فَلَكَ وَجْهُ صَاحِبِك، وَسَلَفٌ تُسْلِفُهُ لِتَأْخُذَ خَبِيثًا بِطَيِّبٍ فَذَلِكَ الرِّبَا، قَالَ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ أَرَى أَنْ تَشُقَّ الصَّحِيفَةَ فَإِنْ أَعْطَاك مِثْلَ الَّذِي أَسْلَفْته قَبِلْته، وَإِنْ أَعْطَاك دُونَ الَّذِي أَسْلَفْته فَأَخَذْته أُجِرْت، وَإِنْ أَعْطَاك أَفْضَلَ مِمَّا أَسْلَفْته طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ فَذَلِكَ شُكْرٌ شَكَرَهُ لَك، وَلَك أَجْرُ مَا أَنْظَرْته مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا فَلَا يَشْتَرِطْ إلَّا قَضَاءَهُ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا فَلَا يَشْتَرِطْ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْضَةً مِنْ عَلَفٍ فَهُوَ رِبًا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَحَيْثُمَا لَقِيَهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمَا لَهُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ عَلَيْهِ الدِّينُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْقَضَاءِ لِمَا شَرَطَ مِنْ الْبَلَدِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ هِيَ مِمَّا يُقَوَّمُ بِهَا، وَلَا تُقَوَّمُ بِغَيْرِهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا قِيمَةٌ لَمْ تَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ وَالْجِنْسِ، وَقَدْ لَزِمَ مِنْهُ مَا لَا يُغَيَّرُ، وَأَمَّا سَائِرُ الْمَبِيعَاتِ فَتَخْتَلِفُ قِيمَتُهَا بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْهُمَا أَنْ يَقْضِيَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَقَوْلُهُ فَأَيْنَ الْحَمْلُ يُرِيدُ أَنَّهُ قَدْ ازْدَادَ عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ الْحَمْلُ إذَا شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فَأَيْنَ الْحَمْلُ، وَرَوَى ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ أَرَادَ بِهِ الضَّمَانَ وَالْحَمْلَ يُرِيدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مُؤْنَةَ الْحَمْلِ وَالضَّمَانِ فِي مُدَّتِهِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَرَرِ، وَلَمْ يَمْنَعْ الضَّمَانُ فِي مُدَّةِ الِاقْتِرَاضِ مِنْ صِحَّةِ الْقَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الِانْتِفَاعِ بِمَا اقْتَرَضَهُ الْمُقْتَرَضُ، وَأَمَّا ضَمَانُهُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَأَمْرٌ ثَابِتٌ بِالشَّرْطِ وَزِيَادَةٌ لَهَا قَدْرٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : قَوْلُ الرَّجُلِ إنِّي أَسْلَفْت سَلَفًا، وَاشْتَرَطْت عَلَيْهِ أَفْضَلَ مِمَّا أَسْلَفْته، وَمُجَاوِبَةُ ابْنِ عُمَرَ لَهُ عَلَى هَذَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَفْسِرَ وَجْهَ الْفَضِيلَةِ بِأَنَّهُ رِبًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْفَضِيلَةِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْوَزْنِ أَوْ الْجَوْدَةِ أَوْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ الْفَضِيلَةُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَرْضِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ فَمَا تَأْمُرُنِي يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ طَلَبًا لِلْخُرُوجِ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ، وَاسْتِرْشَادًا لِمَا يَتَخَلَّصُ بِهِ مِنْ الرِّبَا الَّذِي قَدْ تَوَرَّطَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ السَّلَفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ سَلَفٌ تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَلَكَ وَجْهُ اللَّهِ يُرِيدُ لَك مَا لِمَنْ أَرَادَ وَجْهَ اللَّهِ مِنْ الثَّوَابِ، وَسَلَفٌ تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ صَاحِبِك يُرِيدُ أَنَّك تَقْصِدُ بِهِ اسْتِرْضَاءَهُ، وَتَطْيِيبَ نَفْسِهِ فَلَكَ وَجْهُ صَاحِبِك يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ لَك رِضَاءَهُ، وَطَيِّبَ نَفْسِهِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ لَيْسَ فِيهِمَا ازْدِيَادٌ، وَالثَّالِثُ أَنْ تُسْلِفَ أَخَاك لِتَأْخُذَ خَبِيثًا بِطَيِّبٍ يُرِيدُ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ هَذَا السَّائِلُ مِنْ شَرْطِ الزِّيَادَةِ فَيَأْخُذُ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْخَبِيثُ عِوَضًا عَنْ الطَّيِّبِ، وَهُوَ الْحَلَالُ الَّذِي أَعْطَاهُ لِأَنَّهُ كَانَ طَيِّبًا قَبْلَ أَنْ يُقْرِضَهُ عَلَى وَجْهِ الرِّبَا فَجَاوَبَهُ ابْنُ عُمَرَ بِتَبْيِينِ وَجْهِ تَحْرِيمِ مَا أَخْبَرَهُ عَنْ تَحْرِيمِهِ، وَفَصَّلَ لَهُ وُجُوهَ السَّلَفِ لِيَكْشِفَ لَهُ عَنْ مَعَانِيهَا وَبَيَّنَ لَهُ طَيِّبَهَا مِنْ خَبِيثِهَا.
(فَصْلٌ)
ثُمَّ قَالَ لَهُ أَرَى أَنْ تَشُقَّ الصَّحِيفَةَ يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَ الشَّرْطَ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيفَةِ، وَلَا يَعْتَقِدَ الطَّلَبَ لَهُ بَلْ يَعْتَقِدُ إسْقَاطَ الشَّرْطِ جُمْلَةً، وَهَكَذَا مَنْ أَسْلَفَ رَجُلًا، وَشَرَطَ عَلَيْهِ زِيَادَةً، وَكَانَ قَرْضُهُ مُؤَجَّلًا كَانَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ الْقَرْضَ جُمْلَةً لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ لِلشَّرْطِ الَّذِي شَرَطَهُ، وَيُعَجِّلُ قَبْضَ مَالِهِ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ الشَّرْطَ، وَيُبْقِيَهُ عَلَى أَجَلِهِ دُونَ شَرْطٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ، وَيُبْطِلَ شَرْطَهُ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَعْطَاك مِثْلَ الَّذِي أَسْلَفْته قَبِلْته، وَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُهُ، وَلَيْسَ لَك غَيْرُهُ، وَإِنْ أَعْطَاك دُونَ الَّذِي أَعْطَيْته فَأَخَذْته أُجِرْت نَدْبٌ إلَى الْخَيْرِ وَالتَّنَاهِي فِي الرُّجُوعِ عَنْ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ إنْ شَاءَ
(5/98)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ اسْتَسْلَفَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ بِصِفَةٍ وَتَحْلِيَةٍ مَعْلُومَةٍ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهُ إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْوَلَائِدِ فَإِنَّهُ يُخَافُ فِي ذَلِكَ الذَّرِيعَةُ إلَى حَلَالِ مَا لَا يَحِلُّ فَلَا يَصْلُحُ، وَتَفْسِيرُ مَا كُرِهَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَسْلِفَ الرَّجُلُ الْجَارِيَةَ فَيُصِيبَهَا مَا بَدَا لَهُ ثُمَّ يَرُدُّهَا إلَى صَاحِبِهَا بِعَيْنِهَا فَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ، وَلَا يَحِلُّ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ يَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَلَا يُرَخِّصُونَ فِيهِ لِأَحَدٍ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أَنْ لَا يَأْخُذَ أَدْوَنَ مِنْ الَّذِي أَعْطَى كَانَ لَهُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ إنْ سَامَحَ وَتَجَاوَزَ وَأَخَذَ أَدْوَنَ مِمَّا أَعْطَى فَذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ لِأَنَّهُ يُضِيفُ إلَى أَجَلِ الْقَرْضِ أَجَلَ التَّجَاوُزِ.
(فَصْلٌ)
فَإِنْ أَعْطَاك أَفْضَلَ مِمَّا أَعْطَيْته طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ يُرِيدُ أَنْ لَا يُعْطِيَك مِنْ أَجْلِ شَرْطِك، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَطْلُبَهُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبْطَلَهُ، وَتَرَكَهُ، وَإِنْ زَادَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَزِيدُهُ شُكْرًا لَهُ، وَلَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ أَجْرُ مَا أَنْظَرَهُ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فَلَا تَشْتَرِطْ إلَّا قَضَاءَهُ يُرِيدُ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ زِيَادَةً وَلَا مَنْفَعَةً، وَلَا شَيْئًا إلَّا قَضَاءَ مِثْلِ مَا أَعْطَى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَشْتَرِطُ أَفْضَلَ مِنْهُ يُرِيدُ زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ قَبْضَةً مِنْ عَلَفٍ يُرِيدُ قَلِيلَ ذَلِكَ وَكَثِيرَهُ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ شَرْطَ زِيَادَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً فَإِنَّهَا رِبًا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الزِّيَادَةَ رِبًا، وَلَكِنْ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الرِّبَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إذَا أُطْلِقَ فِي الشَّرْعِ فَظَاهِرُهُ الزِّيَادَةُ الْمَمْنُوعَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَالْبَيْعُ لَا يَخْلُو مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْأَغْلَبِ، وَلَكِنْ لَفْظُ الرِّبَا يَخْتَصُّ بِالْمَمْنُوعِ.
(ش) : وَقَوْلُهُ مَنْ اسْتَسْلَفَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ بِصِفَةٍ وَتَحْلِيَةٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ مَا اسْتَسْلَفَهُ مَعْلُومَ الصِّفَةِ وَالْحِلْيَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ رَدِّ مِثْلِهِ، وَلَوْ كَانَ مَجْهُولَ الصِّفَةِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ إلَّا مَا رُوِيَ،.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَقَوْلُهُ إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْوَلَائِدِ فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْ ذَلِكَ الذَّرِيعَةُ إلَى إحْلَالِ مَا لَا يَحِلُّ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَرْضُ الْجَوَارِي، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ الْمَازِنِيِّ إبَاحَةُ ذَلِكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ حَظْرِ الْفُرُوجِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ مَتَى شَاءَ بَعْدَ أَخْذِهِ بِسَاعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ انْتَفَعَ بِهِ مَا كَانَ عَلَى صِفَتِهِ فَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِمْتَاعَ بِجَارِيَةِ غَيْرِهِ اقْتَرَضَهَا مِنْهُ فَوَطِئَهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ مِنْ سَاعَتِهِ، وَهَذِهِ إبَاحَةٌ لِلْفُرُوجِ الْمَحْظُورَةِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ لِلْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ أُمَّهُ أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ عَمَّتَهُ أَوْ خَالَتَهُ مِنْ النَّسَبِ لِأَنَّهُ يَسْلَمُ مِمَّا قَالَهُ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي قَالَهُ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ اسْتِقْرَاضُ الْجَوَارِي، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ خَاصَّةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ)
فَإِنْ اقْتَرَضَ رَجُلٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا مَنْعَهُ مِنْهَا فَلَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْجَارِيَةَ تُرَدُّ بِعَيْنِهَا مَا لَمْ يَطَأْهَا، وَيُفْسَخُ الْقَرْضُ، وَاخْتَلَفُوا إذَا وَطِئَهَا فَقَالَ مَالِكٌ تَفُوتُ بِالْوَطْءِ، وَتَكُونُ الْجَارِيَةُ لِلْمُسْتَقْرِضِ، وَتَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَرُدُّهَا، وَيَرُدُّ مَعَهَا عَقْدَهَا، وَإِنْ حَمَلَتْ رَدَّهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَقِيمَةَ وَلَدِهَا حَيًّا يَوْمَ الْوِلَادَةِ، وَيَرُدُّ مَعَهَا مَا نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ، وَإِنْ مَاتَتْ لَزِمَهُ مِثْلُهَا فَإِنْ عَدِمَ مِثْلَهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ أَنَّ عُقُودَ التَّمْلِيكِ تَفُوتُ عِنْدَنَا مَعَ بَقَاءِ الْأَعْيَانِ، وَلَمَّا دَفَعَ صَاحِبُ الْجَارِيَةِ الْجَارِيَةَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ فَاتَتْ بِالْوَطْءِ الَّذِي مَنَعَ الْقَرْضَ مِنْ أَجْلِهِ فَلَوْ أَجَزْنَا لَهُ رَدَّهَا لَكُنَّا قَدْ أَتْمَمْنَا الْقَرْضَ الْفَاسِدَ وَالْمَقْصُودَ الْمَمْنُوعَ مِنْهُ، فَلَمَّا وُجِدَ مَعْنَى الْمَنْعِ وَفَاتَ رَدُّهَا بِذَلِكَ أَوْجَبْنَا لَهُ قِيمَتَهَا، وَإِذَا وَجَبَتْ قِيمَتُهَا بَطَلَ جَمِيعُ مَا أَوْجَبَهُ بَعْدَ الْوَطْءِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تَلْزَمُهُ يَوْمَ قَبَضَهَا.
(5/99)
(مَا يُنْهَى عَنْهُ فِي الْمُسَاوَمَةِ وَالْمُبَايَعَةِ)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» .
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ لِلْبَيْعِ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلَا تَصُرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» قَالَ مَالِكٌ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا نَرَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ إذَا رَكَنَ الْبَائِعُ إلَى السَّائِمِ، وَجَعَلَ يَشْتَرِطُ وَزْنَ الذَّهَبِ، وَيَتَبَرَّأُ مِنْ الْعُيُوبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ الْبَائِعَ قَدْ أَرَادَ مُبَايَعَةَ السَّائِمِ فَهَذَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ مَالِكٌ وَلَا بَأْسَ بِالسَّوْمِ بِالسِّلْعَةِ تُوقَفُ لِلْبَيْعِ فَيَسُومُ بِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ مَالِكٌ: وَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ السَّوْمَ عِنْدَ أَوَّلِ مَنْ يَسُومُ بِهَا أُخِذَتْ بِشَبَهِ الْبَاطِلِ مِنْ الثَّمَنِ، وَدَخَلَ عَلَى الْبَاعَةِ فِي سِلَعِهِمْ الْمَكْرُوهُ، وَلَمْ يَزَلْ الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[مَا يُنْهَى عَنْهُ فِي الْمُسَاوَمَةِ وَالْمُبَايَعَةِ وَفِيهِ أَبْوَاب]
(ش) : قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» يُرِيدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا يَشْتَرِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ اشْتَرَيْت، وَشَرَيْت بِمَعْنَى بِعْت قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] .
وَقَالَ {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102] قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَالَ إنَّمَا النَّهْيُ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ، وَنَحْوَ هَذَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَبِي زَيْدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لَيْسَ لِلْحَدِيثِ وَجْهٌ غَيْرُ هَذَا عِنْدِي لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَكَادُ يَدْخُلُ عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ أَنْ يَزِيدَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُشْتَرِي وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لِلْحُطَيْئَةِ
وَبِعْت لِذُبْيَانَ الْعَلَاءَ بِمَالِكَا
يُرِيدُ اشْتَرَيْت قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيُمْنَعُ الْبَائِعُ أَيْضًا مِنْ أَنْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ إذَا كَانَ قَدْ رَكَنَ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ، وَوَافَقَهُ فِي ثَمَنِ سِلْعَتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا تَمَامُ الْعَقْدِ فَيَأْتِي مَنْ يَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ عَلَى وَجْهِ غَيْرِ الْإِرْخَاصِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَ ابْنُ حَبِيبٍ عَلَى مَا قَالَهُ لِأَنَّ الْإِرْخَاصَ مُسْتَحَبٌّ مَشْرُوعٌ فَإِذَا أَتَى مَنْ يَبِيعُ بِأَرْخَصَ مِنْ بَيْعِ الْأَوَّلِ فَلَا مَنْعَ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ مَنَعَ مِنْ تَلَقِّي السِّلَعِ، وَذَلِكَ إرْخَاصٌ عَلَى مُتَلَقِّيهَا غَيْرَ أَنَّ فِيهَا إغْلَاءً عَلَى أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الَّتِي هِيَ أَعَمُّ نَفْعًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَالضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّلَقِّي.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ» يُرِيدُ الْمُسْلِمَ، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِيمَا يُمْنَعُ مِنْ الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِإِظْهَارِ قُبْحِ فِعْلِهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَهُ بِالْأُخُوَّةِ الَّتِي تَمْنَعُ الْمُقَابَحَةَ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي رَكَنَ إلَى بَيْعِهِ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَإِنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَجَوَّزَ ذَلِكَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا لَهُ عَهْدٌ، وَذِمَّةٌ كَالْمُسْلِمِ أَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) فَإِنْ وَقَعَ وَسَامَ رَجُلٌ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَيَعْرِضُهَا عَلَى الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ زَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَرَوَى سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ لَا يُفْسَخُ، وَأَرَى أَنْ يُؤَدَّبَ، وَقَالَ غَيْرُهُ بَلْ يُفْسَخُ ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ يُؤَدَّبُ يُرِيدُ لِمَنْ عَصَى بِهَذَا الْفِعْلِ إلَى الِاسْتِغْفَارِ مِنْهُ، وَنَدَبَهُ لِمَنْ مَنَعَهُ مِنْهُ وَظَلَمَهُ فِيهِ، وَزَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُعَاقَبُ بِالْأَدَبِ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ مَنْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْدَ الزَّجْرِ، وَوَجْهُ قَوْلِ الْغَيْرِ يُفْسَخُ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهْيٌ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ مَالِكٍ يَعْرِضُهَا عَلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ كَانَ
(5/100)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الثَّانِي أَنْفَقَ عَلَيْهَا نَفَقَةً زَادَتْ لَهُ أَعْطَاهُ النَّفَقَةَ مَعَ الثَّمَنِ فَإِنْ نَقَصَتْ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ، وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَمَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً كَانَ لِلْأَوَّلِ الْعِوَضُ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَلِفَتْ، وَلَمْ تُؤْثَرُ زِيَادَةٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْهَا، وَهَذَا وَجْهٌ يَتَلَخَّصُ مِمَّا دَخَلَ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ إذَا كَانَ قَدْ ذَكَرَ الْبَائِعُ إلَى السَّائِمِ مِمَّا يَعْرِفُ بِهِ أَنَّهُ قَدْ أَرَادَ مُبَايَعَتَهُ، ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الشِّرَاءِ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِحَالَةِ الِاتِّفَاقِ دُونَ أَشَدِّ الْمُسَاوَمَةِ، وَوَقْتِ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ عَلَى مَا قَالَ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَوْ مَنَعَ مِنْ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ مَتَاعٍ مَعَ تَبَايُنِ مَا بَيْنَهُمَا وَتَبَاعُدِهِمَا لَفَسَدَتْ بِذَلِكَ حَالُ كُلِّ بَائِعٍ فَمَا كَانَ أَحَدٌ شَاءَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ بَيْعِ السِّلْعَةِ إلَّا سَاوَمَهُ بِهَا، وَأَعْطَاهُ عُشْرَ ثَمَنِهَا فَإِذَا خَرَجَ عَلَى غَيْرِ الْمُسَاوَمَةِ بِهَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ بَيْنَ الْبَائِعِ، وَمَنْعٌ مِنْ بَيْعِ سِلْعَتِهِ إلَّا بِالْيَسِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا مِمَّنْ يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهَا مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَجْلِ مُسَاوَمَتِهِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي مَنْعِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَهَذَا فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ، وَأَمَّا فِي بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ فَفِي الْوَاضِحَةِ أَنَّهُ خَارِجٌ عَمَّا نَهَى عَنْهُ مِنْ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَقَدْ اسْتَحَبَّ مَالِكٌ لِلسُّلْطَانِ فِيمَا بِيعَ عَلَى مُفْلِسٍ أَوْ مَيِّتٍ يَتَأَنَّى ثَلَاثًا عَسَى بِزَائِدٍ أَنْ يَزِيدَ، وَفِي بَيْعِ الْعَقَارِ يُنَادِي عَلَيْهِ الشَّهْرَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ بِصِفَتِهِ وَنَعْتِهِ وَتَسْمِيَةِ مَا فِيهِ فَإِذَا بَلَغَ مُنْتَهَاهُ عَلَى أَحَدٍ اسْتَأْنَاهُ ثَلَاثًا قَبْلَ الْإِيجَابِ يَكُونُ فِيهِ الْخِيَارُ لِلسُّلْطَانِ لَا لِلْمُبْتَاعِ فَإِنْ زِيدَ عَلَيْهِ قَبِلَهُ، وَإِلَّا لَزِمَهُ فَإِذَا أَوْجَبَهُ ثُمَّ جَاءَ مَنْ يَزِيدُ لَمْ تُقْبَلْ زِيَادَتُهُ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَبَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ أَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ بِسِلْعَتِهِ يَسُومُ بِهَا مَنْ يُرِيدُ شِرَاءَهَا أَوْ يَجْلِسُ بِهَا فِي حَانُوتٍ أَوْ مَكَان فَمَنْ مَرَّ بِهِ سَاوَمَهُ عَلَيْهَا فَهَذَا إذَا رَكَنَ إلَى الْمُبْتَاعِ فَهُوَ الَّذِي نُهِيَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى بَيْعِهِ أَحَدٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهَى أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ عَلَى الْمُسَاوِمَةِ، وَمَنْ فَارَقَهُ، وَلَمْ يُوجِبْهُ أَوْ رَدَّ مَا أَعْطَاهُ مِنْ السَّوْمِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَهُ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَبَيْعُ الْمُزَايَدَةِ هُوَ الرَّجُلُ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ فِي السُّوقِ يَمْشِي بِهَا عَلَى مَنْ يَشْتَرِي تِلْكَ السِّلْعَةَ، وَيَطْلُبُ زِيَادَةَ مَنْ يَزِيدُ فِيهَا فَهَذَا لَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهَا قَبْلَ الْإِيجَابِ، وَيَلْزَمُ مَنْ زَادَ فِيهَا شِرَاؤُهَا بِمَا زَادَ، وَإِنْ فَارَقَهُ بِغَيْرِ الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ عَلَى أَنَّهُ إنْ زَادَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ لَهُ بِمَا زَادَ فِيهَا، فَإِذَا أَوْقَع الْإِيجَابَ لَهُ لَمْ تُقْبَلْ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ.
1 -
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «وَلَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ» يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقِّي مَنْ يَجْلِبُ السِّلَعَ فَيَبْتَاعُ مِنْهُمْ قَبْلَ وُرُودِ أَسْوَاقِهَا، وَمَوَاضِعِ بَيْعِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّلَقِّي فِيمَا بَعُدَ عَنْ مَوْضِعِ الْبَيْعِ أَوْ قَرُبَ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ الْحَاضِرَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا فِيهِ مُضِرَّةٌ عَامَّةٌ عَلَى النَّاسِ لِأَنَّ مَنْ تَلَقَّاهَا أَوْ اشْتَرَاهَا غَلَّاهَا عَلَى النَّاسِ وَانْفَرَدَ بِبَيْعِهَا، فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِيَصِلَ بَائِعُوهَا بِهَا إلَى الْبَلَدِ فَيَبِيعُونَهَا فِي أَسْوَاقِهَا فَيَصِلُ كُلُّ أَحَدٍ إلَى شِرَائِهَا وَالنَّيْلِ مِنْ رُخْصِهَا.
(مَسْأَلَةٌ)
وَكَذَلِكَ فِيمَا قَرُبَ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ خُرُوجِ أَهْلِ مِصْرَ إلَى الْإِصْطَبْلِ مَسِيرَةَ مِيلٍ، وَنَحْوِهِ أَيَّامَ الْأَضْحَى يَتَلَقَّوْنَ الْغَنَمَ يَشْتَرُونَهَا قَالَ هَذَا مِنْ التَّلَقِّي، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الضَّحَايَا مَتَى تَرِدُ سُوقَهَا رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا تَلَفٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ مَا جُلِبَ إلَى سُوقِ بَيْعِهِ فَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ كَالْبُعْدِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَهَذَا فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَبْلِيغِهِ الْأَسْوَاقَ، وَلَا مَضَرَّةَ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا مَا كَانَ يَضُرُّ بِالنَّاسِ تَبْلِيغُهُ الْأَسْوَاقَ كَالْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ الَّتِي يَلْحَقُ أَهْلَ الْأُصُولِ ضَرَرٌ بِتَفْرِيقِ بَيْعِهَا وَمُحْتَاجُونَ إلَى بَيْعِهَا جُمْلَةً مِمَّنْ يَجْنِيهَا أَوْ يُبْقِيهَا فِي أَصْلِهَا، وَيُدْخِلُهَا إلَى الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى بِقَدْرِ مَا يَتَأَتَّى لَهُ مِنْ بَيْعِهَا فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي الْأَجِنَّةِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْفُسْطَاطِ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ يَخْرُجُ إلَيْهَا التُّجَّارُ فَيَشْتَرُونَهَا
(5/101)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَيَحْمِلُونَهَا فِي السُّفُنِ إلَى الْفُسْطَاطِ لِلْبَيْعِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ هُوَ مِنْ التَّلَقِّي.
وَقَالَ أَشْهَبُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ التَّلَقِّي، وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ فِي التُّجَّارِ يَشْتَرُونَ الْغَنَمَ مِنْ الرِّيفِ فَيَسِيرُونَ عَلَى مِثْلِ مِيلٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ فِي مَرَاعِيهَا، وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ إدْخَالُهَا كُلِّهَا أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ أَرْفَقَ بِهِمْ فَيَبِيعُونَهَا فَيُدْخِلُهَا الْمُشْتَرِي قَلِيلًا قَلِيلًا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّلَقِّي.
وَقَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَرَاهُ مِنْ التَّلَقِّي وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذَا وَجْهُ بَيْعِ الْجَلَّابِ لَهَا، وَتَلْحَقُهُ الْمَضَرَّةُ فِي أَخْذِهِ بِإِدْخَالِهَا، وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إفْسَادِهَا وَتَغَيُّرِهَا، وَطُولِ مَقَامِهِ عَلَيْهَا.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَا أُرْسِيَ بِالسَّاحِلِ مِنْ السُّفُنِ بِالتُّجَّارِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ فَيَبِيعُهُ بِهَا إلَّا أَنْ يَقْصِدَ الضَّرَرَ وَالْفَسَادَ فَلَا يَصْلُحُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحُكْرَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مُنْتَهَى سَفَرِ الْوَارِدِ فَلَا يُكَلَّفُ سَفَرًا آخَرَ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضِرٌّ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ السَّفَرَانِ فِي الْبَرِّ، وَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ أَحَدُهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى السِّلَعِ فَيَتَلَقَّاهَا وَيَشْتَرِيهَا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ أَسْوَاقَهَا، وَالثَّانِي أَنْ يَرِدَ خَبَرُهَا قَبْلَ أَنْ تَرِدَ فَيَشْتَرِيَهَا مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ قَبْلَ وُصُولِهَا، وَالثَّالِثُ أَنْ تَمُرَّ بِمَنْزِلِهِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَى أَسْوَاقِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ جَاءَهُ طَعَامٌ أَوْ بَزٌّ أَوْ غَيْرُهُ فَوَصَلَ إلَيْهِ خَبَرُهُ وَصِفَتُهُ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَيُخْبَرُ بِذَلِكَ فَيَشْتَرِيهِ مِنْهُ رَجُلٌ فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَهَذَا مِنْ التَّلَقِّي، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ شِرَاءُ السِّلَعِ قَبْلَ وُصُولِهَا الْأَسْوَاقَ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ عَلَى هَذَا بِوُصُولِ السِّلَعِ وَوُصُولِ بَائِعِهَا، وَلَوْ وَصَلَتْ السِّلَعُ السُّوقَ وَلَمْ يَصِلْ بَائِعُهَا فَخَرَجَ إلَيْهِ مَنْ يَتَلَقَّاهُ وَيَشْتَرِيهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطَ إلَى الْأَسْوَاقِ وَيَعْرِفَ الْأَسْعَارَ فَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَعِنْدِي أَنَّهُ مِنْ التَّلَقِّي الْمَمْنُوعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا إذَا مَرَّتْ بِمَنْزِلِهِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إلَى أَسْوَاقِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنْزِلُهُ خَارِجَ الْمِصْرِ أَوْ بِطَرَفِ الْمِصْرِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّوقِ فَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِهِ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ مَرَّتْ بِهِ السِّلَعُ وَمَنْزِلُهُ بِقُرْبِ الْمِصْرِ الَّذِي هَبَطَ إلَيْهِ بِتِلْكَ السِّلَعِ، وَمِنْ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَمِثْلُ الْعَقِيقِ مِنْ الْمَدِينَةِ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهَا لِلْأَكْلِ وَلِلْقِنْيَةِ أَوْ لِيَلْبَسَ أَوْ لِيُضَحِّيَ أَوْ يُهْدِيَ وَنَحْوُهُ فَأَمَّا لِلتِّجَارَةِ فَلَا، وَلَا يَبْتَاعُهَا مَنْ مَرَّتْ بِبَابِ دَارِهِ فِي الْبَلَدِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ التِّجَارَة.
(فَرْعٌ)
وَهَذَا فِيمَا كَانَ لَهُ سُوقٌ قَائِمٌ مِنْ السِّلَعِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سُوقٌ فَإِذَا دَخَلَتْ بُيُوتَ الْحَاضِرَةِ وَالْأَزِقَّةَ جَازَ شِرَاؤُهَا وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ السُّوقَ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِذَا بَلَغَتْ السِّلْعَةُ مَوْقِفَهَا ثُمَّ انْقَلَبَ بِهَا بَائِعُهَا، وَلَمْ تُبَعْ أَوْ بَاعَ بَعْضَهَا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مَنْ مَرَّتْ بِهِ أَوْ مِنْ دَارِ بَائِعِهَا مِنْ الْوَاضِحَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْجَالِبِ بِبُلُوغِهِ السُّوقَ، وَعَرْضِهَا فِيهَا لِلسِّلَعِ، وَانْتَقَلَ إلَى حُكْمِ الْمُحْتَكِرِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ يَشْتَرِي مِنْهُ حَيْثُ شَاءَ.
(فَصْلٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنْ وَقَعَ التَّلَقِّي مِنْ إنْسَانٍ فَلِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُنْهَى فَإِنْ عَادَ أُدِّبَ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَشْهَبَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ يُنْزَعُ مِنْهُ مَا ابْتَاعَ فَتُبَاعُ لِأَهْلِ السُّوقِ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْمَوَّازِ أَنْ يُرَدَّ شِرَاؤُهُ، وَتُرَدَّ عَلَى بَائِعِهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ وَجْهُ فَسَادٍ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّلَقِّي الْحَرَجُ لِمَنْ فَعَلَهُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَخْذَ مَا اشْتَرَاهُ، وَانْتِزَاعَهُ مِنْهُ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ لِأَهْلِ الْأَسْوَاقِ حَظًّا فِيمَا اشْتَرَوْهُ كَمَا لَوْ حَضَرُوا مُسَاوَمَتَهُ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْهُ، وَمَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَهَذَا قَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ السِّلْعَةَ تُعْرَضُ لِأَهْلِ السُّوقِ فَمَا رَبِحَ فَهُوَ بَيْنَهُمْ، وَمَا كَانَ
(5/102)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مِنْ وَضَيْعَةٍ فَعَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا بِرِوَايَةِ الْفَسْخِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ تُرَدُّ عَلَى بَائِعِهَا فَإِنْ فَاتَ أُمِرَ مَنْ يَقُومُ بِبَيْعِهَا لِصَاحِبِهَا.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إنْ فَاتَ بَائِعُهَا فَإِنْ كَانَ الْمُتَلَقِّي لَمْ يَعْتَدْ ذَلِكَ تُرِكَتْ لَهُ وَزُجِرَ، وَإِنْ كَانَ اعْتَادَ ذَلِكَ وَتَكَرَّرَ فَإِنْ كَانَ لَهَا سُوقٌ وَقَوْمٌ رَاتِبُونَ لِبَيْعِهَا فَلَهُمْ أَخْذُهَا بِالثَّمَنِ أَوْ تَرْكُهَا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَهْلٌ رَاتِبُونَ عُرِضَتْ فِي السُّوقِ بِثَمَنِهَا لِعَامَّةِ النَّاسِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَأْخُذُهَا بِذَلِكَ تُرِكَتْ لَهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَرَى أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهَا التُّجَّارُ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَطْلُبُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ كَأَحَدِهِمْ.
وَقَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَزَادَ بِالْحِصَصِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا أَخَذَهَا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا قُدِّمَ لَهُ مَنْ يَبِيعُ عَنْهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ إنْ كَانَتْ زِيَادَةً فَلَهُ، وَإِنْ نُقْصَانًا فَعَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الْمَحْظُورَ فِي بَيْعِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ السُّوقَ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ قَدِمَ بِقَمْحٍ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَقَالَ حِينَ خَرَجَ إنْ وَجَدْت بَيْعًا فِي الطَّرِيقِ، وَإِلَّا بَلَغْت الْفُسْطَاطَ قَالَ لَا يَبِيعُ فِي الطَّرِيقِ، وَيَبِيعُ بِالْفُسْطَاطِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ قَرْيَةً بِهَا سُوقٌ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ فِيهَا فَثَبَتَ أَنَّ الْبَائِعَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْبَيْعِ قَبْلَ بُلُوغِ الْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ الْبُيُوعِ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يُفْسَخُ لِفَسَادِهِ، وَإِنَّمَا يُفْسَخُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا فُسِخَ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِيهِ، وَإِنْ فَاتَ فَسْخُهُ بِفَوَاتِ بَائِعِهِ عُرِضَ عَلَى مَنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ تُرِكَ لَهُ.
(فَرْعٌ)
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَيُعَاقَبُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ تَلَقِّي السِّلَعِ بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ سِجْنٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ إخْرَاجٍ مِنْ السُّوقِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَا يَطِيبُ لِلْمُتَلَقِّي رِبْحٌ مَا تَلْقَى فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ لَحْمِ مَا تَلَقَّى، وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ أَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ فَقَالَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ احْتِيَاطًا لَمْ أَرَ بِهِ بَأْسًا.
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَعْيِينِ الْبَادِي الَّذِي يُمْنَعُ مِنْ الْبَيْعِ لَهُ]
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «وَلَا تَنَاجَشُوا» سَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا، وَقَوْلُهُ «وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ» فِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ الْأَوَّلُ مِنْهَا فِي تَعْيِينِ الْبَادِي الَّذِي يُمْنَعُ مِنْ الْبَيْعِ لَهُ وَالثَّانِي فِي التَّصْرِيفِ الَّذِي يُمْنَعُ لَهُ وَالْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ لَهُ إذَا وَقَعَ.
(الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَعْيِينِ الْبَادِي الَّذِي يُمْنَعُ مِنْ الْبَيْعِ لَهُ) أَمَّا الْبَادِي الَّذِي مُنِعَ مِنْ الْبَيْعِ لَهُ فَإِنَّ أَهْلَ الْبَوَادِي ضَرْبَانِ ضَرْبٌ أَهْلُ عَمُودٍ وَضَرْبٌ أَهْلُ مَنَازِلَ وَاسْتِيطَانٍ فَأَمَّا أَهْلُ الْعَمُودِ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ مُرَادُونَ بِالْحَدِيثِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ فِي النَّهْي عَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي هُمْ الْأَعْرَابُ أَهْلُ الْعَمُودِ لَا يُبَاعُ لَهُمْ، وَلَا يُشْرَى عَلَيْهِمْ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْأَسْعَارَ فَيُوشِكُ إذَا تَنَاوَلُوا الْبَيْعَ لِأَنْفُسِهِمْ اُسْتُرْخِصَ مِنْهُمْ مَا يَبِيعُونَ لِأَنَّ مَا يَبِيعُونَهُ أَكْثَرُهُ لَا رَأْسَ مَالٍ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرُوهُ، وَإِنَّمَا صَارَ إلَيْهِمْ بِالِاسْتِغْلَالِ فَكَانَ الرِّفْقُ بِمَنْ يَشْتَرِيهِ أَوْلَى مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْحَوَاضِرِ هُمْ أَكْثَرُ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ مَوَاضِعُ الْأَئِمَّةِ فَيَلْزَمُ الِاحْتِيَاطُ لَهَا وَالرِّفْقُ بِمَنْ يَسْكُنُهَا.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَهْلَ الْقُرَى الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْأَثْمَانَ وَالْأَسْوَاقَ، وَلَا بَأْسَ بِهِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا، وَرَوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْعُتْبِيُّ عَنْ مَالِكٍ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فَأَمَّا أَهْلُ الْمَدَائِنِ يَبِيعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا، وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ، وَأَمَّا أَهْلُ الْقُرَى الَّذِينَ يُشْبِهُونَ أَهْلَ الْبَادِيَةِ فَلَا يُبَاعُ لَهُمْ، وَلَا يُشْرَى عَلَيْهِمْ قَالَ: وَإِنْ كَانُوا أَيَّامَ الرَّبِيعِ فِي الْقُرَى، وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ عَلَى الْمِيلَيْنِ مِنْ الْقَرْيَةِ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِالسِّعْرِ فَلَا يُبَاعُ لَهُمْ، وَيَنْقَسِمُ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ الْبَدْوِيُّ لَا يُبَاعُ لَهُ عَرَفَ السِّعْرَ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَالْقَرَوِيُّ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ الْأَسْعَارَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهَا لَمْ يُبِعْ لَهُ.
(فَرْعٌ)
وَمَا قَدْرُ الْقَرْيَةِ الَّتِي تُبِيحُ الْبَيْعَ لَهُ رَوَى فِي الْعُتْبِيَّةِ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا نَهْيَ
(5/103)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَنْ الْبَيْعِ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مِيدَ أَيْ وَمَا أَشْبَهَهَا لِأَنَّ هَذِهِ مَدَائِنُ وَكُوَرٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ كُوَرٌ وَحَوَاضِرُ لِأَهْلِهَا مِنْ الْحُرْمَةِ مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِمْ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَسْعَارِ وَالْأَسْوَاقِ، وَلَيْسَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبَيْعِ لَهُمْ إلَّا الْإِضْرَارُ بِهِمْ دُونَ مَنْفَعَةٍ تُجْتَلَبُ بِذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَبِيعُ مَدَنِيٌّ لِمِصْرِيٍّ، وَلَا مِصْرِيٌّ لِمَدَنِيٍّ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ فَأَمَّا أَهْلُ الْمَدَائِنِ يَبِيعُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَأَرْجُو أَنْ يَكُون خَفِيفًا.
فَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ اغْتِرَابَهُمْ، وَبُعْدَ أَوْطَانِهِمْ يَقْتَضِي جَهْلَهُمْ بِالْأَسْعَارِ فَمَنَعَ مَنْ يَعْرِفُهَا مِنْ الْبَيْعِ لَهُمْ لِيَرْخُصَ بِذَلِكَ مَا جَلَبُوهُ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ حُرْمَتَهُمْ مُتَسَاوِيَةٌ، وَبِأَيْسَرِ مَقَامٍ فِي الْبَلَدِ يَعْرِفُونَ الْأَسْعَارَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُخْفِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَلَا فَائِدَةَ لِكِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي التَّصَرُّفِ الَّذِي يُمْنَعُ لَهُ] 1
أَمَّا مَا يَمْنَعُ مِنْهُ مِنْ التَّصَرُّفِ لَهُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْبَدْوِيِّ لَا يَبِيعُ لَهُ الْحَضَرِيُّ، وَلَا يَشْتَرِي عَلَيْهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ يُشْبِهُونَ الْبَادِيَةَ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ إذَا قَدِمَ الْبَدْوِيُّ فَأَكْرَهُ أَنْ يُخْبِرَهُ الْحَضَرِيُّ بِالسِّعْرِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّهُ لَا يَبْعَثُ الْبَدْوِيُّ إلَى الْحَضَرِيِّ بِمَتَاعٍ يَبِيعُهُ لَهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا الشِّرَاءُ لِلْبَدْوِيِّ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَا يَبِيعُ لَهُ، وَلَا يَشْتَرِي وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِرْخَاصَ مَشْرُوعٌ مُسْتَحَبٌّ، وَلِذَلِكَ نَهَى أَنْ يَبِيعَ الْحَاضِرُ لِلْبَادِي طَلَبًا لِرُخْصِ مَا يَبِيعُ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُبَاحَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ يَسْتَرْخِصُ لَهُ مَا يَشْتَرِيهِ، وَوَجْهٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَبِيعُهُ الْبَدْوِيُّ مَا يَصِيرُ إلَيْهِ بِالْغَلَّةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي رُخْصِهِ كَبِيرُ مَضَرَّةٍ، وَمَا يَشْتَرِيهِ حُكْمُهُ فِيهِ حُكْمُ الْحَضَرِيِّ فَلِذَلِكَ خَالَفَ بَيْعَهُ شِرَاؤُهُ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ تَخُصُّهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْحَضَرِيُّ لِلْبَدْوِيِّ كَالْبَيْعِ.
[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ لَهُ إذَا وَقَعَ] 1
َ قَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُفْسَخُ الْبَيْعُ حَضَرَ الْبَدْوِيُّ أَوْ بَعَثَ سِلْعَتَهُ إلَى الْحَاضِرَةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ، وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ.
وَقَالَهُ أَصْبَغُ فِي بَيْعِ الْمِصْرِيِّ لِلْمَدَنِيِّ وَبَيْعِ الْمَدَنِيِّ لِلْمَصْرِيِّ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فَسْخَهُ إذَا بَاعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَرَوَاهُ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ سَالِمٌ مِنْ الْفَسَادِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِمَعْنَى الِاسْتِرْخَاصِ، وَلِذَلِكَ لَا يَعُودُ بِالْفَسْخِ لِأَنَّ الْبَدْوِيَّ قَدْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ ثَمَنَ سِلْعَتِهِ فَلَا يَرْخُصُ بِفَسْخِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ هَذَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ يُؤَدَّبُ، وَرَوَى زُونَانُ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ يُزْجَرُ وَلَا يُؤَدَّبُ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِمَكْرُوهِهِ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذِهِ مَضَرَّةٌ عَامَّةٌ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْإِمَامِ فِيهَا فَكَانَ حُكْمُهُ الْأَدَبَ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ الزَّجْرَ فِي ذَلِكَ كَافٍ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ التَّسْعِيرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ «وَلَا تَصُرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ» التَّصْرِيَةُ حَبْسُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَبْسِ الْمَاءِ يُقَالُ صَرَيْته وَصَرَّيْتُهُ وَالْمُصَرَّاةُ هِيَ الْمُحَفَّلَةُ لِأَنَّ اللَّبَنَ حَفَلَ فِي ضَرْعِهَا، وَالْحَافِلُ الْعَظِيمَةُ الضَّرْعِ.
(فَصْلٌ)
فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا، يُرِيدُ أَنَّ التَّصْرِيَةَ تَدْلِيسٌ وَنَقْصُ اللَّبَنِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ حِينَ الْبَيْعِ نَقْصٌ فَلِلْبَائِعِ إذَا اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ الْإِمْسَاكُ أَوْ الرَّدُّ كَسَائِرِ الْعُيُوبِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو يُوسُفَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ التَّصْرِيَةُ لَيْسَتْ بِتَدْلِيسٍ، وَنَقْصُ اللَّبَنِ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَلَيْسَ لِلْمُبْتَاعِ الرَّدُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ الْحَدِيثُ، وَهُوَ يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ «فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ» يُرِيدُ بَعْدَ التَّصْرِيَةِ «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ»
(5/104)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ الرَّدَّ بِالتَّصْرِيَةِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا وَجْهٌ يَرُدُّ بِهِ إلَّا بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ لَازِمًا، وَوَجْهُ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الْمُبْتَاعَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَمْرُهَا بِالْحَلْبِ إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا، وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ مَعْنَى التَّدْلِيسِ سَتْرُ الْعَيْبِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي التَّصْرِيَةِ لِأَنَّ الْبَائِعَ سَتَرَ مَا فِي شَاتِه أَوْ نَاقَتِهِ مِنْ قِلَّةِ اللَّبَنِ عَمَّا ابْتَاعَ عَلَيْهِ الْمُبْتَاعُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُبْتَاعَ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ فِيهَا، وَعَلَى ذَلِكَ اشْتَرَاهَا فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ نَقْصُهَا عَنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا لَوْ جَعَّدَ الْبَائِعُ شَعْرَ جَارِيَتِهِ فَاشْتَرَاهَا الْمُبْتَاعُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ غَيْرُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الرَّدُّ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا قَالَ مُحَمَّدٌ لَهُ الرَّدُّ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ حَلَبَ ثَلَاثًا لَزِمَتْهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَمَّا سُئِلَ أَيَرُدُّهَا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ إذَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ اخْتَبَرَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَمَا حُلِبَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَعَ الرَّدَّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ يَكُونُ الْخِيَارُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ «بِالْخِيَارِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا ثَلَاثًا» ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَلْبَةَ الثَّانِيَةَ لَا يُعْلَمُ بِهَا حَالُهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَقْصُ اللَّبَنِ لِاخْتِلَافِ الْمَرْعَى، وَلِأَنَّ التَّحْفِيلَ يُقَلَّلُ لَبَنَهَا فِي الْحَلْبَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّمَا حَقِيقَةُ أَمْرِهَا بِالثَّالِثَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ بَعْدَهَا لِأَنَّهُ بِهَا يَتَبَيَّنُ أَمْرُهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ اشْتَرَى غَنَمًا غَيْرَ مُصَرَّاةٍ فَحَلَبَهَا فَلَمْ يَرْضَ حِلَابَهَا فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَعْلَمْ حِلَابَهَا فَفِي الْمُدَوَّنَةِ لِابْنِ الْقَاسِمِ لَيْسَ لَهُ رَدُّهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوَى عِلْمُهَا فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ جُزَافًا كَالْبَائِعِ لِصُبْرَةِ الطَّعَامِ فَإِنْ عَلِمَ الْبَائِعُ قَدْرَ مَا يُحْلَبُ فَلَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ الْمُبْتَاعَ فَإِنْ كَانَ فِي إبَّانِ لَبَنِهَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَهُ الرَّدُّ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَاعَ صُبْرَةً جُزَافًا قَدْ عَلِمَ كَيْلَهَا فَلَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ الْمُبْتَاعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ فِي إبَّانِ لَبَنِهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُبْتَاعِ رَدُّهَا، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ عَرَفَ قَدْرَ لَبَنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ شَاةَ لَبَنٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ لِلْمُبْتَاعِ رَدُّهَا حُلِبَتْ أَوْ لَمْ تُحْلَبْ إذَا كَانَتْ شَاةَ لَبَنٍ قَالَ مُحَمَّدٌ، وَأَرَى أَنْ يَنْظُرَ فِي ثَمَنِهَا فَإِنْ كَانَتْ فِي كَثْرَتِهِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّهَا لَمْ تُبَعْ لِشَحْمِهَا وَلَحْمِهَا وَلَا لِنِتَاجِ مِثْلِهَا ذَلِكَ اللَّبَنَ، وَإِنَّمَا بَيْعُهُ لِلَبَنِهَا فَلَهُ الرَّدُّ إذَا كَتَمَهُ الْبَائِعُ قَدْرَ اللَّبَنِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَقْصِدْ بِابْتِيَاعِهِ اللَّبَنَ، وَإِذَا كَانَتْ فِي إبَّانِ لَبَنِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلَبَنِهَا فَرُوعِيَ ذَلِكَ فِيهَا.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ كَانَتْ إبِلًا أَوْ بَقَرًا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ إنْ كَانَتْ الْبَقَرُ يُطْلَبُ مِنْهَا اللَّبَنُ مِثْلُ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْغَنَمِ فَهِيَ بِمَنْزِلَتِهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ اشْتَرَى شَاةً عَلَى أَنَّهَا تَحْلُبُ قِسْطًا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَتُجَرَّبُ الشَّاةُ فَإِنْ كَانَتْ تَحْلُبُ مَا شَرَطَهُ لَهُ، وَإِلَّا رَدَّهَا، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ فِي أَنَّهَا بِالتَّصْرِيَةِ تُرَدُّ فَبِأَنْ تُرَدَّ فِي هَذَا أَوْلَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ التَّصْرِيَةَ إنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الشَّرْطِ فَإِذَا ثَبَتَ بِهَا الرَّدُّ فَبِأَنْ تُرَدَّ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ أَبْيَنُ أَوْلَى.
(فَصْلٌ) وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» مَعْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إنْ اخْتَارَ إمْسَاكَهَا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتْ لَهُ التَّصْرِيَةُ أَمْسَكَهَا، وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهَا رَدَّهَا، وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قُلْت لِمَالِكٍ أَتَأْخُذُ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ قَالَ نَعَمْ، وَإِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا سَمِعْت أَوْ لَا حَدَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ أَشْهَبُ، وَقَالَ جَاءَ مَا يُضَعِّفُهُ أَنَّ الْغَلَّةَ بِالضَّمَانِ، وَسَأَلْت عَنْهُ مَالِكًا فَكَأَنَّهُ ضَعَّفَهُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: وَهُوَ لَوْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ، وَقَدْ أَكَلَ لَبَنَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
فَوَجْهُ رَدِّ الصَّاعِ أَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي فِي الضَّرْعِ حَالَ التَّحْفِيلِ مَبِيعٌ مَعَ الشَّاةِ، وَإِذَا تَلِفَ عِنْدَ الْمُبْتَاعِ أَوْ تَغَيَّرَ بِالْحَلْبِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عِوَضًا مِنْهُ
(5/105)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ النَّجْشِ» قَالَ وَالنَّجْشُ أَنْ تُعْطِيَهُ بِسِلْعَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَلَيْسَ فِي نَفْسِك اشْتِرَاؤُهَا فَيَقْتَدِيَ بِك غَيْرُك) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
كَالثَّمَرَةِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ وَالصُّوفِ عَلَى الْغَنَمِ، وَأَمَّا مَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَرُدُّهُ الْمُبْتَاعُ، وَلَا يَرُدُّ عِوَضًا عَنْهُ، وَإِنَّمَا الصَّاعُ عِوَضٌ عَنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ خَاصَّةً، وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَبَنٌ حُلِبَ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَلَمْ يَرُدَّهُ الْمُبْتَاعُ لِلرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَاللَّبَنِ الْحَادِثِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْحَدِيثَ قَدْ ضَعَّفَهُ مَا جَاءَ مِنْ أَنَّ الْغَلَّةَ بِالضَّمَانِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ لِأَنَّ حَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مَا رُوِيَ أَنَّ «الْغَلَّةَ بِالضَّمَانِ» ، وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ «الْغَلَّةِ بِالضَّمَانِ» لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ لِأَنَّ حَدِيثَ الْغَلَّةِ عَامٌّ، وَحَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ خَاصٌّ فَيُقْضَى بِهِ عَلَى حَدِيثِ الْغَلَّةِ مَعَ أَنَّ الْغَلَّةَ إنَّمَا هِيَ مَا حَدَثَ عِنْدَ الْمُبْتَاعِ دُونَ مَا اشْتَرَاهُ مَعَ الْبَيْعِ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّ مَعَهُ صَاعًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِهِ لِرَفْعِ التَّخَاصُمِ فِي ذَلِكَ لِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ، وَادَّعَى الْبَائِعُ مِنْ اللَّبَنِ أَكْثَرَ مِمَّا يُظْهِرُهُ إلَيْهِ الْمُبْتَاعُ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمَيِّزُ أَحَدَ اللَّبَنَيْنِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ يَحْدُثُ بَعْدَ الشِّرَاءِ إلَى وَقْتِ الْحَلْبِ فِي الْأَغْلَبِ مَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْ لَبَنِ التَّصْرِيَةِ فَحَكَمَ فِي عِوَضِ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يَرْفَعُ الْخِصَامَ، وَيَحْسِمُ الدَّعَاوَى، وَهُوَ صَاعٌ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ، وَهَذَا كَمَا «حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ» لَمَّا كَانَ لَا يَتَمَيَّزُ غَالِبًا ذَكَرُهُ مِنْ أُنْثَاهُ سَوَاءٌ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَلَوْ كَانَ حَيًّا لَكَانَ فِي الْأُنْثَى نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ، وَقَضَى فِي جَنِينِ الْأَمَةِ بِعُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ، وَلَوْ وَلَدَتْ الْجَنِينَيْنِ لَتَفَاوَتَتْ قِيمَتُهُمَا.
(فَرْعٌ)
وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَبِيعُ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ نَاقَةً فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ قَالَ لَا يَرُدُّ إلَّا صَاعًا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَصُرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا، وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْغَنَمِ وَالْإِبِلِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى الْبَقَرِ لِأَنَّ الْغَنَمَ أَطْيَبُ لَبَنًا وَالْإِبِلَ أَكْثَرُ لَبَنًا وَالْبَقَرَ أَكْثَرُ لَبَنًا مِنْ الْغَنَمِ، وَأَطْيَبُ لَبَنًا مِنْ الْإِبِلِ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا كَانَتْ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ عَدَدًا قَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَدْ بِوَجَدْت لِبَعْضِ شُيُوخِنَا الْأَنْدَلُسِيِّينَ يَرُدُّ لِجَمِيعِهَا صَاعًا وَاحِدًا، وَلَعَلَّهُ تَعَلَّقَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ «لَا تَصُرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا، وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهُ يَرُدُّ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَاعًا لَرَأَيْت لَهُ وَجْهًا.
(فَرْعٌ)
وَمِمَّاذَا يَكُونُ الصَّاعُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَالِكٍ، وَجَدْته فِي كِتَابِي مَنْ اشْتَرَى شَاةً أَوْ نَاقَةً مُصَرَّاةً فَلَهُ إذَا حَلَبَهَا أَنْ يَرُدَّهَا، وَمَكِيلَةَ مَا حَلَبَ مِنْ اللَّبَنِ تَمْرًا أَوْ قِيمَتَهُ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ التَّمْرِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «وَصَاعًا مِنْ طَعَامٍ» ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي صَاعِ التَّمْرِ أَنَّهُ خَصَّ التَّمْرَ بِالذَّكَرِ لِأَنَّهُ كَانَ أَغْلِبَ قُوتِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْبِلَادِ غَالِبَ قُوتِهِمْ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ.
(فَرْعٌ)
فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ اللَّبَنُ بَدَلَ الصَّاعِ لَمْ يَلْزَمْ الْآخَرَ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِأَنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ عَلَيْهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَصَارَ ثَمَنًا قَدْ وَجَبَ لِلْبَائِعِ فَلَا يَفْسَخُهُ فِي اللَّبَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ رَدُّهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا مِنْ اللَّبَنِ حِينَ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ يَكُونُ إقَالَةً، وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : نَهْيُهُ عَنْ النَّجْشِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ
(5/106)
(جَامِعُ الْبُيُوعِ) (ص) : (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ «رَجُلًا ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَتَحْرِيمَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ إنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَ بِسِلْعَتِهِ مَنْ يُرِيدُ مَنْفَعَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ شِرَاءَهَا، وَلَعَلَّهُ قَدْ وَافَقَك عَلَى أَنَّ مَا زِدْت غَيْرَ لَازِمٍ لَك لِيَقْتَدِيَ بِك غَيْرُك فَيَزِيدَ بِزِيَادَتِك أَوْ لِيَبْلُغَهُ مِنْ الثَّمَنِ مَا لَوْلَا زِيَادَتُك لَمْ يَبْلُغْهَا لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا وَحِرْصِهِ عَلَيْهَا.
وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ إنَّ أَصْلَ النَّجْشِ الِاسْتِثَارَةُ لِشَيْءٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلصَّائِدِ نَاجِشٌ لَمَّا كَانَ يُثِيرُ الصَّيْدَ فَكَانَ الزَّائِدُ فِي السِّلْعَةِ يُثِيرُ غَيْرَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي لِلزِّيَادَةِ فِيهَا، وَيُرِيهِمْ الْحِرْصَ عَلَيْهَا.
(مَسْأَلَةٌ)
فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى وَجْهِ النَّجْشِ فَفِي الْمُزَنِيَّة مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ الْمُبْتَاعُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ مَا لَمْ تَفُتْ فَإِنْ فَاتَتْ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا مَا لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ مِمَّا ابْتَاعَهَا بِهِ فَلَا تُزَادُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مَنْ دَسَّ مَنْ يَزِيدُ فِي سِلْعَتِهِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ أَنَّ بَيْعَهُ يُفْسَخُ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهَا الْمُبْتَاعُ بِالثَّمَنِ فَإِنْ فَاتَتْ فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ إنْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا دَسَّهُ الْبَائِعُ أَوْ أَحَدُ سَبَبِهِ مِنْ وَلَدِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَوْ شَرِيكِهِ أَوْ مَنْ هُوَ مِنْ نَاحِيَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِهِ، وَلَا أَمْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَنْ اخْتِيَارِهِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ الزَّائِدُ فِي السِّلْعَةِ زَادَ عَلَى وَجْهِ الشِّرَاءِ وَالرَّغْبَةِ فِيهَا لَا عَلَى وَجْهِ النَّجْشِ لِأَنَّ النَّجْشَ إذَا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ الْبَيْعُ عَلَى وَجْهِ الْخِلَابَةِ وَالْغِشِّ لِلْمُبْتَاعِ فَلَا يَسُوغُ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ صَنَعَ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ أَعْطَيْت بِسِلْعَتِي كَذَا فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ الْعَطَاءُ حَدِيثًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْعَطَاءُ قَدِيمًا فَكَتَمَ قِدَمَهُ، وَالْمُبْتَاعُ يَظُنُّهُ حَدِيثًا فَلَا، وَكَذَلِكَ النَّجْشُ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَالْمَوَّازِيَّةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أُعْطِيَهُ بِقُرْبِ الْمُسَاوَمَةِ فَهُوَ صَادِقٌ، وَلَا خِلَابَةَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَدِيمَ الْعَطَاءِ، وَتَغَيَّرَتْ الْأَسْوَاقُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ النَّجْشِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَالنَّجْشُ مِنْ جِهَتِهِ أَنْ يَكْذِبَ فِي ذَلِكَ، وَيَقُولَ أُعْطِيت فِيهَا مَا لَمْ يُعْطَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ قَالَ الْمُبْتَاعُ لِلْبَائِعِ مَا أُعْطِيت بِسِلْعَتِك زِدْتُك دِينَارًا فَقَالَ أَعْطَانِي بِهَا فُلَانٌ مِائَةً فَزَادَهُ وَاحِدًا ثُمَّ قَالَ فُلَانٌ مَا أَعْطَيْته إلَّا تِسْعِينَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ، وَلَوْ شَاءَ لَثَبَتَ إلَّا أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ عَلَى إعْطَاءِ فُلَانٍ دُونَ ذَلِكَ فَيَرُدُّ الْبَيْعَ إنْ شَاءَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أُعْطِيت بِهَا مِائَةً فَصَدَّقَهُ، وَزَادَهُ لَزِمَهُ الْبَيْعُ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَدَّقَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ إنْكَارُ الْمُسَاوِمِ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ كَرِهَ بَيْعِي فَجَحَدَ مَا أَعْطَانِي فَلَا يَنْقُصُ بَيْعُهُ بِذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَهَذَا فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ فَأَمَّا فِي نَقْصِهِ فَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَاعُ لِرَجُلٍ حَاضِرٍ كُفَّ عَنِّي لَا تَزِدْ عَلَيَّ فِي هَذِهِ السِّلْعَةِ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فَأَمَّا الْأَمْرُ الْعَامُّ فَلَا يُرِيدُ عِنْدِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ يُرِيدُ شِرَاءَهَا أَوْ مُعْظَمِهِمْ، وَأَمَّا الْوَاحِدُ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ الزِّيَادَةَ فِي ثَمَنِهَا عَلَى قِيمَتِهَا أَوْ تَبْقَى مُنَافَسَةٌ فِيهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ كُفَّ عَنِّي، وَلَك نِصْفُهَا، وَرَآهُ مِنْ الدُّلْسَةِ، وَكَرِهَ لِلْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ لِلْبَيْعِ فَيَقُولُونَ لَا تَزِيدُوا عَلَى كَذَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَوَاطَئُوا عَلَى أَذَى الْبَائِعِ وَحَطِّ بَعْضِ ثَمَنِ سِلْعَتِهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ أَنَّ سِلْعَةً بَيْنَ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ أَحَدُهُمْ لِآخَرَ إذَا تَقَاوَمْنَاهَا فَاخْرُجْ مِنْهَا بِرِبْحٍ لِيَقْتَدِيَ بِك صَاحِبُنَا، وَالْعَبْدُ بَيْنِي وَبَيْنَك فَفَعَلَ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ فَفِي الْوَاضِحَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ الْبَيْعُ مَرْدُودٌ، وَلَا يَجُوزُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا أَصْبَغُ، وَلَمْ يَرَهُ مِنْ النَّجْشِ، وَبِهِ أَقُولُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِزِيَادَتِهِ إنَّمَا أَمْسَكَ عَنْ الزِّيَادَةِ لِرُخْصِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَصَاحِبِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إنَّ هَذَا مَعْنَى فِعْلِهِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ كَالنَّجْشِ.
(5/107)
أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ قَالَ فَكَانَ الرَّجُلُ إذَا بَايَعَ يَقُولُ لَا خِلَابَةَ» ) .
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ إذَا جِئْت أَرْضًا يُوفُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ فَأَطِلْ الْمُقَامَ بِهَا، وَإِذَا جِئْت أَرْضًا يَنْقُصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ فَأَقْلِلْ الْمُقَامَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[جَامِعُ الْبُيُوعِ]
(ش) : قَوْلُهُ إنَّ «رَجُلًا ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ» يُقَالُ إنَّهُ مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الْمَازِنِيُّ جَدُّ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فِي رَأْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَأْمُومَةٌ فَغَيَّرَتْ لِسَانَهُ، وَغَيَّرَتْ بَعْضَ مَيْزِهِ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ هُوَ الَّذِي كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بِعْ وَقُلْ لَا خِلَابَةَ، وَأَنْتَ بِالْخِيَارِ» ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خَاصٌّ بِهَذَا الرَّجُلِ لِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى الْبَيْعِ وَضَعْفِهِ عَنْ التَّحَرُّزِ فِيهِ.
وَقَدْ رَوَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فِي إشْرَافِهِ إذَا تَبَايَعَ النَّاسُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ لَا يُخْبِرُ بِسِعْرِ ذَلِكَ الْمَبِيعِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا خِيَارَ لَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ وَالْمُتَعَارَفِ فِيهِ.
قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَمَنْ بَاعَ مَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِدِرْهَمٍ فَقَدْ أَضَاعَ مَالَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَقَدْ أَضَاعَ مَالَهُ قَالَ: وَنَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَلَقِّي السِّلَعِ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْغَبْنِ فِي الْأَثْمَانِ فَكَانَ مُؤَثِّرًا فِي الْخِيَارِ كَالْعَيْبِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُ الْحَدِيثِ عَامًّا فِي كُلِّ أَحَدٍ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَعْنَى قَوْلِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ لَا خِلَابَةَ عَلَى وَجْهِ الْأَعْلَامِ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَخْبُرُ الْأَثْمَانَ، وَعَلَى وَجْهِ الْإِعْلَامِ لِلنَّاسِ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَأَنَّهُ لَا تَنْفُذُ خِلَابَةُ الْخَالِبِ عَلَى مَغْبُونٍ مُسْتَسْلِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي وَاضِحَتِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ مِنْ جَهَلَةِ الْبَيْعِ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى مَا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ لَزِمَهُمَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ» قَالَ الْقَاضِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَيَحْصُلُ عِنْدِي ابْتِيَاعُهُ عَلَى الْمُرَابَحَةِ فَيَكُونُ قَوْلُ لَا خِلَابَةَ لِمَنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي الشِّرَاءِ، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مُرَابَحَةً فَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الثَّمَنِ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِيَاعُهُ بِالْخِيَارِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُهُ، وَيَقُولُ مَعَ ذَلِكَ لَا خِلَابَةَ بِمَعْنَى اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَتَحَرَّزُ مِنْ اسْتِخْدَاعِهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ بِعْ وَقُلْ لَا خِلَابَةَ، وَأَنْتَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةً» ، وَلَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ لَهُ بِهَذَا، وَحَجَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ بِغَيْرِ الْخِيَارِ، وَأَعْلَمَ النَّاسَ بِذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْكُرَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ لَا خِلَابَةَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُهُ أَنْ يَقُولَ لَا خِلَابَةَ عَلَى وَجْهِ الْأَعْذَارِ إلَى مَنْ يُبَايِعُهُ لِيَتَوَقَّى خَدِيعَتَهُ أَهْلُ الصَّلَاحِ وَالدِّينِ لَا لِيَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ خُدِعَ، وَلَكِنْ لِئَلَّا يُقْدِمَ عَلَى خَدِيعَتِهِ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ، وَكَانَ قَلِيلًا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ لَا خِلَابَةَ فِي صِفَةِ النَّقْدِ، وَفِي وَفَاءِ الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ، وَاسْتِيفَائِهِمَا فَمَنْ غَبَنَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ حَالَةُ جَمِيعِ النَّاسِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «قُلْ لَا خِلَابَةَ» الْخِلَابَةُ الْخِدَاعُ، وَلَيْسَ مِنْ الْخِدَاعِ أَنْ يَبِيعَ الْبَائِعُ بِالْغَلَاءِ أَوْ يَشْتَرِيَ الْمُشْتَرِي بِرُخْصٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَابَةُ أَنْ يَكْتُمَهُ عَيْبًا فِيهَا، وَيَقُولَ إنَّهَا تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا، وَأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ فِيهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى بِهَا.
وَقَدْ رَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَّا بُورِكَ لَهُمَا، وَإِنْ كَذَبَا، وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» ، وَلِذَلِكَ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ النَّجْشِ» لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَدِيعَةِ فِي الْبَيْعِ، وَإِظْهَارُ النَّاجِشِ لِلْمُبْتَاعِ أَنَّ قِيمَتَهَا أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا، وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَهَا.
(5/108)
بِهَا) .
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إنْ بَاعَ سَمْحًا إنْ ابْتَاعَ سَمْحًا إنْ قَضَى سَمْحًا إنْ اقْتَضَى) .
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ أَوْ الْبَزَّ أَوْ الرَّقِيقَ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْعُرُوضِ جُزَافًا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ الْجُزَافُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُعَدُّ عَدَدًا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(ش) : قَوْلُهُ إذَا جِئْت أَرْضًا يُوفُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ فَأَطِلْ الْمُقَامَ بِهَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُبَارَكَ لَهُمْ فِيمَا يَكِيلُونَهُ وَيَزِنُونَهُ فَمَنْ أَطَالَ الْمُقَامَ بِهَا نَالَهُ مِنْ بَرَكَةِ عَمَلِهِمْ وَبُورِكَ لَهُ إذَا عَمِلَ بِعَمَلِهِمْ كَمَا يُبَارَكُ لَهُمْ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ وَالْعَدْلُ شَائِعًا عِنْدَهُمْ لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ إذَا كَانَ جَارِيًا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ تَوْفِيَةِ الْحَقِّ وَظُهُورِهِ حَتَّى يَعُمَّ جَمِيعَهُمْ فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ سَائِرَ أَحْوَالِهِمْ جَارِيَةٌ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ إذَا جِئْت أَرْضًا يَنْقُصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ فَأَقْلِلْ الْمُقَامَ بِهَا يَحْتَمِلُ أَيْضًا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ قَدْ عَاقَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَجْلِهَا أُمَمًا وَأَهْلَكَهُمْ بِسَبَبِهَا فَحَذَّرَ الْمُقَامَ بِبَلَدٍ يَكُونُ هَذَا فِيهِمْ، وَيَشِيعُ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَحَذَّرَ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيَنَالُهُ مَعَهُمْ مَا يَذْهَبُ مِنْ بَرَكَةِ مَالِهِ، وَيَصْرِفُهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّقْصَ فِي ذَلِكَ يُذْهِبُ بَرَكَةَ الْبَيْعِ فَلَا حَظَّ لَهُمْ فِي الْمُقَامِ فِيهِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] .
وَقَالَ تَعَالَى مَا قَالَ رَسُولُهُ شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ فَقَالَ {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] وَعَلَى كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّ ظُهُورَ الْمُنْكَرِ، وَعُمُومَهُ مِمَّا يُحْذَرُ تَعْجِيلُ عُقُوبَتِهِ.
وَقَدْ «قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ، وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ نَعَمْ إذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» فَهَذَا مَعَ الصَّالِحِينَ فَكَيْفَ مَعَ قِلَّتِهِمْ أَوْ مَعَ عَدَمِهِمْ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا بِفَضْلِهِ وَيَتَغَمَّدَ زَلَلَنَا بِرَحْمَتِهِ.
(ش) : قَوْلُهُ أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إنْ بَاعَ سَمْحًا إنْ ابْتَاعَ يُرِيدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّمَاحَةِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ الْمُسَامَحَةَ فِي الثَّمَنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ، وَلَا يُشْطِطْ بِطَلَبِ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَيَتَجَاوَزُ فِي النَّقْدِ، وَأَنْ يُنْظِرَ بِالثَّمَنِ.
وَقَدْ رَوَى رِبْعِيٍّ بْنُ خِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَلَقَّتْ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالُوا عَمِلْتَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ كُنْت أُنْظِرُ الْمُوسِرَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمُعْسِرِ قَالَ فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» ، وَفِي الْوَاضِحَةِ تُسْتَحَبُّ الْمُسَامَحَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَيْسَ هُوَ تَرْكَ الْمُكَايَسَةِ فِيهِ إنَّمَا هِيَ تَرْكُ الْمُوَارَبَةِ وَالْمُضَاجَرَةِ وَالْكَزَازَةِ وَالرِّضَا بِالْإِحْسَانِ وَيَسِيرِ الرِّبْحِ، وَحُسْنُ الطَّلَبِ بِالثَّمَنِ قَالَ وَيُكْرَهُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ فِي التَّبَايُعِ، وَلَا يُفْسَخُ بِهِ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ لِشَبَهِهِ بِالْخَدِيعَةِ، وَمِنْ الْمَكْرُوهِ الْخَدِيعَةُ فِيهِ الْأَلْغَازُ بِالْيَمِينِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ وَالْحَلِفُ فِيهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ لَمْ يُلْغَزْ، وَرُوِيَ أَنَّ الْبَرَكَةَ تُرْفَعُ مِنْهُ بِالْيَمِينِ، وَالْمُسَامَحَةُ مِنْ الْمُبْتَاعِ فِي أَنْ يَقْضِيَ أَفْضَلَ مِمَّا يَجِدُ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَإِنَّ أَفْضَلَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً» ، وَيُعَجِّلُ الْقَضَاءَ، وَلَا يَبْلُغُ الْمَطْلَ فَهُوَ قَوْلُهُ سَمْحًا إنْ قَضَى، وَلَا يُعَنِّفُ فِي سُرْعَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدَهُ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَدْ أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَبَّاسٍ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ أَنَّهُ قَالَ لَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا جُزَافًا، وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يَكُونُ الْجُزَافُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُعَدُّ عَدَدًا يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا يُعَدُّ عَدَدًا يَنْقَسِمُ عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ تَخْتَلِفُ صِفَاتُهُ كَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكَادُ جُمْلَةٌ مِنْهَا تَتَّفِقُ آحَادُهَا فَهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلَا تَخْتَلِفُ صِفَاتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ فَهَذَا إذَا وُجِدَتْ مِنْهُ جُمْلَةٌ فَأَكْثَرُهَا تَتَّفِقُ
(5/109)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُعْطِي الرَّجُلَ السِّلْعَةَ فَيَبِيعُهَا، وَقَدْ قَوَّمَهَا صَاحِبُهَا قِيمَةً فَقَالَ إنْ بِعْتهَا بِهَذَا الثَّمَنِ الَّذِي أَمَرْتُك بِهِ فَلَكَ دِينَارٌ أَوْ شَيْءٌ يُسَمِّيهِ لَهُ يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَبِعْهَا فَلَيْسَ لَك شَيْءٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا سَمَّى ثَمَنًا يَبِيعُهَا بِهِ وَسَمَّى أَجْرًا مَعْلُومًا إذَا بَاعَ أَخَذَهُ، وَإِنْ لَمْ يَبِعْ فَلَا شَيْءَ لَهُ قَالَ مَالِكٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ إنْ قَدَرْت عَلَى غُلَامِي الْآبِقِ أَوْ جِئْت بِجَمَلِي الشَّارِدِ فَلَكَ كَذَا، وَكَذَا فَهَذَا مِنْ بَابِ الْجُعْلِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ لَمْ يَصْلُحْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
صِفَاتُ آحَادِهَا فِي الْمَقْصُودِ مِنْهَا فَهَذَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى الْجُزَافِ مَعَ كَوْنِهِ مَعْدُومًا.
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ يَجُوزُ الْجُزَافُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ كَالْحِنْطَةِ أَوْ مَوْزُونٍ كَاللَّحْمِ أَوْ مَعْدُودٍ كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ مِمَّا الْغَرَضُ فِي مَبْلَغِهِ دُونَ أَعْيَانِهِ، وَلَا آحَادِهِ.
وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ، وَلَا مَوْزُونٍ مِمَّا الْغَرَضُ فِي أَعْيَانِهِ كَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ وَالثِّيَابِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْجُزَافُ لِأَنَّ آحَادَهَا تَحْتَاجُ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا وَالْمَعْرِفَةِ بِصِفَتِهَا، وَقِيمَتِهَا فِي نَفْسِهَا.
فَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ لَا يَكُونُ الْجُزَافُ فِيمَا يُعَدُّ عَدَدًا يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا الْغَالِبُ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ يَسْهُلَ عَدَدُهُ لِقِلَّتِهِ، وَلَا يُقَدَّرُ بِكَيْلٍ، وَلَا وَزْنٍ، وَلَكِنَّهُ لِسَبَبِ عِلَّةٍ مُنِعَ الْجُزَافُ فِيهِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِ صِفَاتِهِ وَتَفَاوُتِ قِيمَتِهِ فِي الْأَغْلَبِ، وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُزَافَ يَجُوزُ فِي الْمَعْدُودِ كَمَا يَجُوزُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يُرِيدُ الْمَعْدُودَ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَبْلَغُهُ بِالْعَدَدِ كَمَا يَتَعَذَّرُ الْمَكِيلُ بِالْكَيْلِ وَالْمَوْزُونُ بِالْوَزْنِ، وَلَا يُقَدَّرُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْخَيْلُ وَسَائِرُ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ فَلَيْسَ لَهَا قَدْرٌ تَتَقَدَّرُ بِهِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ بِيعَتْ الْخَيْلُ، وَشُقَقُ الْكَتَّانِ إذَا كَثُرَتْ بِالْعَدَدِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَدَدَ مِقْدَارٌ لَهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ يَشُقُّ تَقْدِيرُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُجْعَلُ لَهَا ثَمَنٌ وَاحِدٌ، وَيَكُونُ زِيَادَةُ ثَمَنِ بَعْضِهَا بِنُقْصَانِ ثَمَنِ غَيْرِهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وَزْنِهِ جَمِيعًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْمَعْدُودِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَا يَتَفَاوَتُ قِيَمُ آحَادِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْغَرَرُ فِي مَبْلَغِهِ، وَالْحَيَوَانُ وَالْعَرْضُ يَتَفَاوَتُ قِيَمُ آحَادِهِ فَيَكْثُرُ الْغَرَرُ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ مَبْلَغِهَا، وَمُنْتَهَى عَدَدِهَا، وَالثَّانِيَةُ مِنْ وَجْهِ اخْتِلَافِ صِفَتِهَا فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَمْ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ مِنْ الْجَيِّدِ وَلَا مِنْ الدَّنِيءِ فَمُنِعَ الْجُزَافُ فِيهِ لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ، وَأُبِيحَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لِقِلَّتِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ فِي بَيْعِ الْجُزَافِ فِي الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِالصَّوَابِ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ أَنَّ مَنْ أَعْطَى لِرَجُلٍ سِلْعَتَهُ، وَقَالَ لَهُ إنْ بِعْتهَا بِثَمَنِ كَذَا فَلَكَ دِينَارٌ فَإِنَّهُ جَائِزٌ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجُعْلِ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ قَوْله تَعَالَى {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَمِنْ شَرْطِ الْجُعْلِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْعَامِلِ فَلَوْ ضُرِبَ لَهُ أَجَلٌ اقْتَضَى ذَلِكَ اللُّزُومَ، وَإِنَّمَا يَتَقَدَّرُ عَمَلُ الْجُعْلِ بِتَمَامِ الْعَمَلِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ الْجُعْلَ بِتَمَامِهِ كَقَوْلِهِ إنْ بِعْت لِي هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا فَلَكَ دِينَارٌ أَوْ إنْ بِعْته فَلَكَ دِينَارٌ، وَلَا يُسَمَّى ثَمَنًا، وَإِنْ جِئْتنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ أَوْ بِبَعِيرِي الشَّارِدِ فَلَكَ دِينَارٌ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَا يَجُوزُ الْجُعْلُ فِي عَمَلٍ إنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بَقِيَ لِلْجَاعِلِ فِيهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنْ عَمِلْت لِي شَهْرًا فَلَكَ كَذَا، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك، وَمَا يَعْمَلُ فِيهِ الْمَجْعُولُ لَهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْمَلَ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْجَاعِلِ، وَالثَّانِي أَنْ يَعْمَلَ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جُعْلًا فِي رَدِّ عَبْدِهِ الْآبِقِ أَوْ جَمَلِهِ الشَّارِدِ أَوْ يَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي غَيْرِ أَرْضِهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يَجُوزُ الْجُعْلُ فِي مِثْلِ هَذَا عَلَى مَا قَلَّ، وَكَثُرَ لِأَنَّ الْعَامِلَ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ لَا يَبْقَى بِيَدِ الْجَاعِلِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ فِي مِلْكِ الْجَاعِلِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جُعْلًا عَلَى أَنْ يَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي أَرْضِهِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى وَجْهِ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْجُعْلَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ إتْمَامُ الْعَمَلِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ فَإِذَا حَفَرَ فِي مِلْكِ الْجَاعِلِ ثُمَّ تَرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَهُ انْتَفَعَ الْجَاعِلُ بِمَا عَمِلَهُ دُونَ عِوَضٍ فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْجُعْلِ يُجْعَلُ لِلْخَصْمِ عَلَى
(5/110)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
إدْرَاكِ مَا يُخَاصِمُ عَنْهُ فِيهِ، وَلِلطَّبِيبِ عَلَى إبْرَاءِ الْعَلِيلِ.
وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يَجُوزُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عِنْدَهُ جَائِزٌ مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جُعْلًا عَلَى بَيْعِ ثِيَابٍ أَوْ رَقِيقٍ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا قَلَّ دُونَ مَا كَثُرَ، وَجَوَّزَ مَالِكٌ الْجُعْلَ فِي شِرَاءِ كَثِيرِ الثِّيَابِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ لَهُ مِنْ الْجُعْلِ بِحِسَابِهِ، وَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ لَجَازَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إنْ أَعْطَاهُ ثِيَابًا، وَقَالَ كُلَّمَا بِعْت لِي ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ فَلَكَ كَذَا أَنَّهُ جَائِزٌ.
وَقَدْ رَوَى أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ فِي الَّذِي يُجْعَلُ لَهُ فِي الرَّقِيقِ يَصِيحُ عَلَيْهِمْ، وَلَهُ فِي كُلِّ رَأْسٍ يَبِيعُ دِرْهَمٌ، وَلَا شَيْءَ لَهُ إنْ لَمْ يَبِعْ لَا يَصْلُحُ قَالَ مُحَمَّدٌ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بَيْعَ الْجُمْلَةِ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ تَبِيعَ مِنْهُمْ مَنْ شِئْت لَجَازَ، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ، وَمِثْلُهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فَهَذَا وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِيمَنْ لَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْجُعْلِ حَتَّى يَبِيعَ جَمِيعَهَا، وَلَوْ شَرَطَ مِثْلَ هَذَا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِائَةَ ثَوْبٍ، وَلَهُ دِينَارٌ، وَلَا شَيْءَ لَهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِ جَمِيعَهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي إطْلَاقِ الْعَقْدِ فَالْبَيْعُ يَقْتَضِي أَنْ لَا شَيْءَ لَهُ إلَّا بِشَرْطٍ، وَالشِّرَاءُ يَقْتَضِي إنَّ لَهُ بِحِسَابِ مَا يَشْتَرِي، وَذَلِكَ عُرْفٌ جَارٍ بَيْنَهُمْ مَعَ أَنَّ جَمِيعَ الْبَيْعِ مُعَيَّنٌ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيمَا يَشْتَرِي فِي الْأَغْلَبِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَمِنْ شَرْطِ الْجُعْلِ أَنْ لَا يُنْقَدَ الْجُعْلُ، وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ، وَابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَصِحُّ الْأَجَلُ فِي الْجُعْلِ، وَلَا النَّقْدُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ لَا يَتِمُّ مَا جُعِلَ لَهُ عَلَيْهِ فَيَرُدُّ مَا قَبَضَ، وَقَدْ يَتِمُّ فَيَصِيرُ لَهُ فَتَارَةً يَكُونُ جُعْلًا، وَتَارَةً يَكُونُ سَلَفًا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَازِمًا لِلْعَامِلِ، وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ مَتَى شَاءَ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَكْثُرُ الْغَرَرُ فِي الْعَمَلِ، وَيَتَفَاوَتُ فَلَوْ لَزِمَهُ رَدُّ الْآبِقِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَرَدُّ الْبَعِيرِ الشَّارِدِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَعَظُمَتْ فِيهِ الْمَشَقَّةُ مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الْعَمَلِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ مَتَى شَاءَ، وَلَا يَلْزَمُ الْجَاعِلَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَيَلْزَمُهُ إذَا شَرَعَ الْعَامِلُ فِي الْعَمَلِ قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ إذَا شَرَعَ الْعَامِلُ فِي الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ لِلْجَاعِلِ إخْرَاجُهُ، وَلِلْمَجْعُولِ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ، وَلَوْ جَعَلَ لَهُ جُعْلًا فِي رَدِّ آبِقٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ فَإِنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ، وَشَخَصَ فِيهِ فَلَهُ جَمِيعُ الْجُعْلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا، وَلَا شَخَصَ فَلَا شَيْءَ لَهُ قَالَهُ أَصْبَغُ، وَهَذَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ مَنْ جَعَلَ فِي آبِقٍ جُعْلًا ثُمَّ أَعْتَقَهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لِمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعِتْقِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ أَنْ وَجَدَهُ فَلَهُ جُعْلُهُ فَإِنْ كَانَ الْجَاعِلُ عَدِيمًا فَذَلِكَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ، وَجَبَ لَهُ الْجُعْلُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَيْسَرَةَ إنْ كَانَ الْعِتْقُ بَعْدَ الْقُدُومِ فَكَمَا قَالَ: وَإِنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ لَزِمَهُ جُعْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ عَبْدَهُ لَمْ يَصِحَّ عِتْقُ الْعَبْدِ حَتَّى يَأْخُذَ جُعْلَهُ مَبْدَأً عَلَى الْغُرَمَاءِ كَالرَّهْنِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَوْ يَكُونَ مُعَيَّنًا لَا يُسْرِعُ إلَيْهِ التَّغَيُّرُ فَمَنْ قَالَ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ هَذِهِ الدَّنَانِيرُ أَوْ هَذَا الثَّوْبُ فَجَائِزٌ، وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يَقُولَ لَهُ هَذَا الْعَبْدُ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَغَيَّرُ، وَتُسْرِعُ الْحَوَادِثُ إلَيْهِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ إنْ لَمْ يَأْتِ بِمَا جُعِلَ لَهُ عَلَيْهِ الْجُعْلُ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ، وَالْجُعْلُ الْجَائِزُ أَنْ يَقُولَ إنْ لَمْ يَبِعْ أَوْ لَمْ يَجِدْ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا الْتَزَمَ لَهُ الْجُعْلَ عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ فَفِيهِ غَرَرٌ كَثِيرٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فَعَادَ ذَلِكَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ.
(فَرْعٌ)
وَإِذَا عَقَدَ وَقَعَ عَقْدُ الْجُعْلِ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ قَالَ إنْ جِئْتنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ نِصْفُهُ فَإِنْ جَاءَ فَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ، وَلَا إجَارَةَ، وَاَلَّذِي رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ جُعْلُ مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ إنَّ فِي الْجُعْلِ الْفَاسِدِ إجَارَةَ الْمِثْلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُعْلِ وَالْإِجَارَةِ أَنَّ الْجُعْل إذَا انْعَقَدَ قَبْلَ الْعَمَلِ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ فَإِنَّمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مَا يُجْعَلُ عَلَى مِثْلِ الْمَجْعُولِ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَوْ ظَهَرَ مِنْهَا يَوْمَ الْجُعْلِ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَشَقَّةِ عَمَلٍ
(5/111)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فَأَمَّا الرَّجُلُ يُعْطِي السِّلْعَةَ فَيُقَالُ لَهُ بِعْهَا، وَلَك كَذَا وَكَذَا فِي كُلِّ دِينَارٍ لِشَيْءٍ يُسَمِّيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِأَنَّهُ كُلَّمَا نَقَصَ دِينَارٌ مِنْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ نَقَصَ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي سَمَّى لَهُ فَهَذَا غَرَرٌ لَا يَدْرِي كَمْ جُعِلَ لَهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أَوْ كَثْرَتِهِ أَوْ قِلَّتِهِ أَوْ خِفَّتِهِ، وَالْإِجَارَةُ إنَّمَا تَكُونُ فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ فَإِذَا عَمِلَ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ دُونَ مَا كَانَ عَقَدَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْعَقْدِ لَكِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ الْعَقْدُ مَخْرَجَ الْجُعْلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ إنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ، وَإِنْ أَتَى بِهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ وَتَعَبِهِ وَطُولِ مَسَافَةِ طَلَبِهِ فَوُجِدَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا تَنَوَّعَ إلَى صِحَّةٍ وَفَسَادٍ فَإِنَّ فَاسِدَهُ يُرَدُّ إلَى صَحِيحِهِ، وَلَا يُنْقَلُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعُقُودِ كَالْبُيُوعِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْإِجَارَةَ هِيَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ الْجُعْلُ فِي الْعَمَلِ الْمَجْهُولِ وَالْغَرَرِ لِلضَّرُورَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَقْدًا غَيْرَ لَازِمٍ لِلْعَامِلِ فَإِذَا وَقَعَ فَاسِدًا، وَفَاتَ رُدَّ إلَى الْإِجَارَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ لِأَصْحَابِنَا فِي الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ يُرَدُّ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ، وَإِلَى أَجْرِ الْمِثْلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ)
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْوَاضِحَةِ فِي الَّذِي يَقُولُ مَنْ جَاءَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَهُ هَذِهِ الدَّابَّةُ إنْ وَجَدَهُ فَلَهُ جُعْلُ مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ جَاءَ بِهِ أَوْ لَمْ يَجِئْ بِهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ إذَا شَخَصَ فِيهِ فَيَجِيءُ عَلَى مِثْلِ هَذَا بَيْنَ الْجُعْلِ وَالْإِجَارَةِ فَرْقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ جُعْلَ مِثْلِهِ إنَّمَا يَكُونُ لَهُ جُعْلُ مِثْلِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يُجْعَلُ لِمِثْلِهِ فِي عَنَائِهِ وَنَهْضَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَنُفُوذِهِ فِي مِثْلِ رَدِّ ذَلِكَ الْآبِقِ إنْ جَاءَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا أَجْرُ الْمِثْلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ سَوَاءٌ جَاءَ بِمَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْإِجَارَةِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَبِيعُ لَهُ ثَوْبًا بِدِرْهَمٍ شَهْرًا إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانَ إنْ بَاعَ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ أَخَذَ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ مِنْ الشَّهْرِ، وَإِنْ انْقَضَى الشَّهْرُ، وَهُوَ بِسُوقِهِ، وَلَمْ يَبِعْهُ فَلَهُ جَمِيعُ الْأَجْرِ، وَهُوَ كُلُّهُ قَوْلُ مَالِكٍ، وَوَجْهُهُ مَا تَقَدَّمَ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ إنَّ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ بِعْ لِي ثَوْبِي، وَلَك مِنْ كُلِّ دِينَارٍ جُزْءٌ مِنْهُ أَوْ دِرْهَمٌ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا يَبِيعُهُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَعْلُومًا كَانَ جُعْلُ الْعَامِلِ مَجْهُولًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ مَجْهُولًا لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَجْهُولًا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَمَلَ لَمَّا كَانَ مَجْهُولًا كَانَ الْعَامِلُ بِالْخِيَارِ فِي تَرْكِهِ مَتَى شَاءَ فَتَقِلُّ مَضَرَّتُهُ لِأَنَّهُ إذَا رَأَى مَا يُكْرَهُ مِنْ مَشَقَّةِ الْعَمَلِ كَانَ لَهُ التَّرْكُ، وَالْجُعْلُ فِي جَنْبَةِ الْجَاعِلِ لَازِمٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ مَضَرَّةِ غَرَرِهِ إذَا شَاءَ.
(فَرْعٌ)
فَإِنْ بَاعَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ جُعْلُ مِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبِعْ فَلَا شَيْءَ لَهُ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ وَأَصْبَغَ، وَلَوْ قَالَ إنْ بِعْته بِعَشَرَةٍ فَلَكَ مِنْ عَدَدِ دِينَارٍ رُبْعُهُ أَوْ عُشْرُهُ أَوْ لَك مِنْهُ دِرْهَمٌ جَازَ لِأَنَّ الْجُعْلَ حَصَلَ مَعْلُومًا فَذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ.
(فَرْعٌ)
وَإِنْ بَاعَ بِأَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ لِابْنِ الْقَاسِمِ لَيْسَ لَهُ إلَّا سُدُسُ الْعَشَرَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ جُعْلَهُ الْجُزْءَ الْمُسَمَّى مِنْ الْعَشَرَةِ فَمَا زَادَ مِنْ الثَّمَنِ فَذَلِكَ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ غَيْرُ الْبَيْعِ مِمَّا يَسْتَحِقُّ فِيهِ الْأُجْرَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بِعْ هَذَا الثَّوْبَ، وَلَك دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ كَانَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ قَالَ إنْ بِعْت هَذَا الثَّوْبَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ لَمْ تَبِعْهُ فَلَكَ دِرْهَمٌ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ هِيَ إجَازَةٌ، وَهِيَ جَائِزَةٌ إنْ ضَرَبَ لَهَا أَجَلًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدِّرْهَمَ لَزِمَهُ بَاعَ أَوْ لَمْ يَبِعْ فَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ لِلْعَمَلِ أَجَلًا كَانَ عَلَى نِهَايَةِ الْغَرَرِ لِأَنَّهُ يَعْرِضُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَيْهِ، وَقَدْ اسْتَوْجَبَ الدِّرْهَمَ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ قَالَ إنْ بِعْته فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَإِنْ لَمْ تَبِعْهُ فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ، وَهَاتَانِ إجَارَتَانِ فِي إجَارَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ بِعْهُ فَمَا زَادَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَكَ لِأَنَّ الْجُعْلَ مَجْهُولٌ قَدْ دَخَلَهُ الْغَرَرُ قَالَهُ مَالِكٌ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ قَالَ إنْ بِعْت الْيَوْمَ هَذَا الثَّوْبَ فَلَكَ دِرْهَمٌ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ، وَالْوَاضِحَةِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ لَا خَيْرَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّهُ مَتَى شَاءَ
(5/112)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الرَّجُلِ يَتَكَارَى الدَّابَّةَ ثُمَّ يُكْرِيهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يَتَكَارَاهَا بِهِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أَنْ يَتْرُكَهُ تَرَكَهُ، وَقَدْ قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا أَرَاهُ جَائِزًا، وَهُوَ جُلُّ قَوْلِهِ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا احْتَجَّ مِنْ أَنَّ الْجُعْلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا، وَهَذَا إنْ لَزِمَهُ الْعَمَلُ فَعَمِلَ يَوْمَهُ أَجْمَعَ، وَلَوْ يَبِعْهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَلَوْ بَاعَهُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ سَقَطَ عَنْهُ عَمَلُ سَائِرِ النَّهَارِ يُشِيرُ إلَى الْغَرَرِ مَعَ اللُّزُومِ.
وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّ الْعَمَلَ فِي الْجُعْلِ، وَالْإِجَارَةِ يَتَقَدَّرُ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا بِالْعَمَلِ، وَالثَّانِي بِالزَّمَنِ فَإِذَا تَقَدَّرَ بِالْعَمَلِ فِي الْجُعْلِ، وَالْإِجَارَةِ جَازَ، وَإِذَا تَقَدَّرَ بِالزَّمَنِ جَازَ فِي الْإِجَارَةِ، وَأَمَّا فِي الْجُعْلِ فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَلَى مَعْنَى اللُّزُومِ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَ الْجُعْلِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْجَوَازِ، وَمَتَى فَاتَهُ اللُّزُومُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَعْنَى الْجَوَازِ، وَأَنَّهُ مَتَى شَاءَ أَنْ يَتْرُكَ فِي الْمُدَّةِ تَرَكَ فَلَا يَفْسُدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّهُ يُرَاعِي الْعَمَلَ بَعْدَ الزَّمَنِ فَإِنْ كَانَ لِلْعَامِلِ الْعَمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَنِ حَتَّى يُكْمِلَ وَيَسْتَوْفِيَ جُعْلَهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَدْ بَطَلَ التَّوْقِيتُ بِالزَّمَنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بَعْدَمَا قُدِّرَ مِنْ الزَّمَنِ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَعْمَلُ جَمِيعَ الْمُدَّةِ فَيَنْتَفِعُ الْجَاعِلُ بِعَمَلِهِ ثُمَّ يَمْنَعُ إتْمَامَ الْعَمَلِ فَذَهَبَ عَمَلُهُ بَاطِلًا، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ حَبِيبٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَتْرُكَ مَتَى شَاءَ فِي الْيَوْمِ، وَبَعْدَهُ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي إنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ مِنْ الْغَلَّةِ بِحَيْثُ يَتَيَقَّنُ إنَّهُ يُمْكِنُ غَالِبًا إكْمَالُهُ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الزَّمَنِ جَازَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيرِ بِالزَّمَنِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ تَعْلِيقِهِ بِزَمَنٍ يَنْقَضِي فِيهِ الْعَمَلُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَهُ لَك دِرْهَمٌ عَلَى أَنْ تَأْتِيَنِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ بِقُلَّةٍ مِنْ مَاءٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ الْعَمَلُ بِالْيَوْمِ، وَإِنَّمَا يَتَقَدَّرُ بِالْإِتْيَانِ بِالْقُلَّةِ مِنْ الْمَوْضِعِ الْقَرِيبِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ فِي سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ مِنْهُ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ ذَلِكَ بِالْيَوْمِ لِئَلَّا يَأْتِيَهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ يُؤَخِّرَ إتْيَانَهُ بِهَا عَنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ اسْتَأْجَرَ ثَوْرًا يَطْحَنُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ إرْدَبَّيْنِ فَوَجَدَهُ يَطْحَنُ إرْدَبًّا وَاحِدًا رَدَّهُ فَظَاهِرُ هَذَا تَجْوِيزُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبْدُوسٍ عَنْ سَحْنُونٍ إنَّمَا سُئِلَ مَالِكٌ فِي الْفَرَّانِينَ يَسْتَأْجِرُونَ الْأُجَرَاءَ، وَيَطْرَحُونَ عَلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ طَرِيحَةً مَعْلُومَةً يُسْتَأْجَرُ الْأَجِيرُ شَهْرًا يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ طَرِيحَةً مَعْلُومَةً بِمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَفْرُغُ كُلَّ يَوْمٍ، وَلَا يَحْتَمِلُ لِذَلِكَ النَّظَرَ لِأَنَّ الطَّرِيحَةَ أَمَدٌ، وَالْيَوْمُ أَمَدٌ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي عَقْدٍ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَسْتَأْجِرُ الرَّجُلَ يَحْمِلُهُ إلَى مِصْرٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَمَدًا، وَقَوْلُ سَحْنُونٍ هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَا ضُرِبَ مِنْ الزَّمَنِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ لِلْعَمَلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ تَقْدِيرِ الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيرِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى التَّرَاضِي لَا يَكُونُ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ أَمَدٌ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ ذَلِكَ الْعَقْدِ لِمَعْرِفَتِهِمَا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْفَرَاغِ مِنْهُ مَعَ الرِّفْقِ، وَيَتَّفِقُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَصَارَ ذَلِكَ كَالْوَصْفِ لِعَمَلِهِ، وَمِقْدَارُ نَهْضَتِهِ فِيهِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ ذِكْرُ الزَّمَنِ، وَوَصْفُ مِقْدَارِ الْعَمَلِ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَقُولُ لِلرَّجُلِ ابْتَعْ لِي هَذِهِ السِّلْعَةَ الْكَثِيرَةَ إلَى أَجَلِ كَذَا، وَلِي كَذَا عَلَى أَنِّي مَتَى شِئْت تَرَكَتْ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إنْ لَمْ يَنْقُدْ، وَإِنْ نَقَدَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ لِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَصْلُحُ فِيهِ النَّقْدُ، وَلَمْ تَقَعْ الْإِجَارَةُ عَلَى وَجْهِ الْجُعْلِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ إجَارَةٌ لَازِمَةٌ شُرِطَ فِيهَا الْخِيَارُ فَاقْتَضَى إطْلَاقَ مَسْأَلَةِ الْمُدَوَّنَةِ فِي قَوْلِهِ إنْ بِعْت هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ، وَلَك أَنْ تَتْرُكَ مَتَى شِئْت إنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْجُعْلِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْعَامِلِ فَإِنْ بَاعَ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ، وَإِنْ انْقَضَى الْيَوْمُ، وَهُوَ مُحَاوِلٌ الْبَيْعَ، وَلَمْ يَبِعْ فَلَهُ الدِّرْهَمُ كَامِلًا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ وَابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ، وَبَعْدَهُ فَإِنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْجُعْلِ فَإِنْ عَمِلَ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَبِعْهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ بَاعَهُ فِي أَوَّلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَهُ الْجُعْلُ أَجْمَعُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : قَوْلُهُ فِي الَّذِي يَكْتَرِي الدَّابَّةَ لَهُ أَنْ يُكْرِيَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا اكْتَرَاهَا بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، وَبِهَذَا قَالَ
(5/113)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَطَاوُسٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ لَهُ أَنْ يُكْرِيَهَا بِمِثْلِ مَا أَكْرَاهَا بِهِ، وَأَقَلَّ، وَأَكْثَرَ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَلَى مِلْكِهِ كَبَائِعِ الْأَعْيَانِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ دَابَّةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا حَتَّى يَقْبِضَهَا، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ قَبْضِهَا أَنْ يُؤَاجِرَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إجَارَةُ كُلِّ مَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ مِمَّا يَصِحُّ بَدَلَ مَنَافِعِهِ كَالدُّورِ وَالْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاعِينِ، وَأَمَّا مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَلَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ، وَإِجَارَتُهُ قَرْضُهُ، وَالْأُجْرَةُ سَاقِطَةٌ عَنْ مُسْتَأْجِرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ، وَغَيْرُهُ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ، وَتَلْزَمُ الْأُجْرَةُ فِيهِ إذَا كَانَ الْمَالِكُ حَاضِرًا مَعَهُ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْإِجَارَةَ مُعَاوَضَةٌ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَإِذَا كَانَتْ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ لَا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُسْتَأْجَرَ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مُمْكِنٌ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا بِأَنْ يَضَعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَكْتَرِيهَا وَيَحْمِلُ، وَلَهُ غَرَضٌ بِأَنْ يَرَى النَّاسَ أَنَّ مَعَهُ مَالًا كَثِيرًا فَيُتَاجِرَ وَيُنَاكِحَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يَكُونُ الْمَالِكُ مَعَهُ لِئَلَّا يُنْفِقَهَا الْمُسْتَأْجِرُ وَيُعْطِيَهُ بَدَلَهَا وَيَزِيدَهُ الْأُجْرَةَ فَيَكُونَ قَرْضًا بِعِوَضٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَالشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ لَيْسَ بِخِلَافٍ لِأَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ إنَّمَا مَنَعَ اسْتِئْجَارَهَا لِمَنَافِعِهَا الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ مَا أَبَاحَ اسْتِئْجَارَهَا بِهِ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الشَّجَرِ لِمَنْفَعَتِهَا الْمَقْصُودَةِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا لِيَمُدَّ عَلَيْهَا الْحِبَالَ، وَيَبْسُطَ الْغَسَّالُ الثِّيَابَ عَلَيْهَا، وَمَا جَرَى مُجْرَى ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ مِنْ مَنَافِعِهَا الْمَقْصُودَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
عَقْدُ الْإِجَارَةِ لَازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ إنَّ لِلْمُكْرِي فَسْخَهُ لِلْعَدْلِ مِثْلُ أَنْ يَكْتَرِيَ حَمَّالًا لِسَفَرٍ ثُمَّ يَبْدُوَ لَهُ أَوْ يَمْرَضَ فَلَهُ الْفَسْخُ أَوْ يَكْتَرِيَ دَارًا ثُمَّ يُرِيدُ السَّفَرَ أَوْ دُكَّانًا يَتَّجِرُ فِيهِ فَيَحْتَرِقُ مَتَاعُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ فَكَانَ لَازِمًا بِالشَّرْعِ كَالْبَيْعِ، وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَا يَمْلِكُ فِيهِ الْمُكْرِي فَسْخَ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُكْتَرِي فَسْخَهُ لِأَنَّهُ كَالْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْإِجَارَةِ مُعَيَّنَةً كَانَتْ أَوْ مَضْمُونَةً خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُقْصَدُ بِالْمُعَاوَضَةِ الْمَحْضَةِ فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهَا كَالْأَعْيَانِ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَالْإِجَارَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ إجَارَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَيْنٍ، وَإِجَارَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذِّمَّةِ فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَيْنِ فَمِثْلُ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ دَابَّةً مُعَيَّنَةً، وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقَةُ بِالذِّمَّةِ فَمِثْلُ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ دَابَّةً يَأْتِيهِ بِهَا يَعْمَلُ عَلَيْهَا عَمَلًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ جَازَ لَهُ بَيْعُ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ مَنَافِعِهَا، وَلَمَّا جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ دَابَّةً مَوْصُوفَةً فِي ذِمَّتِهِ جَازَ أَنْ يَبِيعَ مَنَافِعَهَا.
(فَرْعٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكْتَرِيَ الدَّابَّةَ الْمُعَيَّنَةَ كِرَاءً مَضْمُونًا قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ التَّعْيِينَ يُنَافِي الضَّمَانَ فَإِنَّ الْمُعَيَّنَةَ يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِهَا، وَالْكِرَاءُ بِعَيْنِهَا، وَمَعْنَى ذَلِكَ مَنَافِعُهَا الْمُخْتَصَّةُ بِهَا لَا يَقُومُ غَيْرُهَا فِي ذَلِكَ مَقَامَهَا، وَالْكِرَاءُ الْمَضْمُونُ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ الْكَرِيِّ فَلَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فَإِذَا هَلَكَتْ الدَّابَّةُ الْمُعَيَّنَةُ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ لِلْمُكْتَرِي عَلَى الْكَرِيِّ مِنْ ثَمَنِ الْمَنَافِعِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَنَافِعَ دَابَّةٍ أُخْرَى لِأَنَّ ذَلِكَ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْكِرَاءَ عَلَى الضَّرْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يَتَقَدَّرُ عَمَلُهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ بِالْعَمَلِ، وَبِالزَّمَنِ فَالْعَمَلُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ ارْكَبْ هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى الرَّمْلَةِ أَوْ إلَى مِصْرَ أَوْ إلَى بَرْقَةَ أَوْ إلَى مَكَّةَ، وَأَمَّا الْمُقَدَّرَةُ بِالثَّمَنِ فَمِثْلُ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا شَهْرًا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَا يَكْتَرِي عَلَيْهِ بِأَحَدِ
(5/114)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْأَمْرَيْنِ لِيَكُونَ لِلْعَمَلِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ، وَإِلَّا كَانَ مَجْهُولًا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ التَّقْدِيرَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا عَاوَضَ فِيهِ الْمُعَاوَضَةَ الْمَحْضَةَ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا أَوْ حَاضِرَةً أَوْ غَائِبَةً فَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ النَّقْدُ فِيهَا حَتَّى تَحْضُرَ، وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنْ مَالِكٍ إنْ اشْتَرَطَ تَأْخِيرَ النَّقْدِ إلَى الْبُلُوغِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّقْدَ لَا يَجُوزُ فِيهَا حَتَّى تَحْضُرَ فَإِذَا حَضَرَتْ جَازَتْ حِينَ النَّقْدِ بِالشَّرْعِ وَالشَّرْطِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً فَهَلْ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ رُكُوبِهَا بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَنْقُدْ.
وَقَالَ غَيْرُهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْغَرَرَ الْيَسِيرَ جَائِزٌ فِي الْعُقُودِ لَا سِيَّمَا مَعَ عَدَمِ النَّقْلِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِهَا السَّلَامَةُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِجَارَةِ فِي الْمُعَيَّنِ إلَى شَهْرٍ، وَابْتِيَاعِهِ إلَى شَهْرَيْنِ الْمَنَافِعُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَلَا مَوْجُودَةٍ، وَلِعَدَمِ التَّعْيِينِ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ التَّأْخِيرِ، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ النَّقْدِ، وَالْإِجَارَةُ تَقْتَضِي تَأْخِيرَ النَّقْدِ حَتَّى تُسْتَوْفَى الْمَنَافِعُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ تَأْخِيرُ قَبْضِ الْمَنَافِعِ فِي الْعَقْدِ تَأْثِيرًا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ مُقْتَضَاهُ، وَفِي الْبَيْعِ إنْ عُجِّلَ دَخَلَهُ تَارَةً بَيْعٌ، وَتَارَةً سَلَفٌ، وَإِنْ أُخِّرَ فَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ مَا يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ.
(فَرْعٌ)
إذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ النَّقْدُ فِيمَا بَعُدَ، وَيَجُوزُ فِيمَا قَرُبَ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَنْقُدَ الْكِرَاءَ إلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ إنَّهُ مُدَّةٌ يَكْثُرُ فِيهَا تَغْيِيرُ الْحَيَوَانِ لَا سِيَّمَا مَعَ اسْتِخْدَامِ صَاحِبِهِ لَهُ، وَإِتْعَابِهِ إيَّاهُ فِيمَا يُرِيدُهُ، وَيُعْجِبُهُ فَيَحْتَاجُ بِتَغَيُّرِهِ إلَى رَدِّ الْكِرَاءِ فَيَكُونُ تَارَةً كِرَاءً وَتَارَةً سَلَفًا.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ إطْلَاقَ عَقْدِ الْكِرَاءِ فِي مَنَافِعِ الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَقْتَضِي تَعْجِيلَ النَّقْدِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أُجْرَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ نَدَبَ إلَى تَعْجِيلِ قَضَاءِ حَقِّهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَقْتُ اسْتِحْقَاقِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَحِقُّهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ مَا يُعَوَّضُ عَلَيْهِ دُونَ ذِكْرِ تَأْجِيلٍ فَلَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ إلَّا عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَثْمُونِ كَالْأَعْيَانِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا أُطْلِقَ الْعَقْدُ فَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ عُرْفٌ مِنْ نَقْدٍ أَوْ تَأْخِيرٍ حَمَلُوا عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَكُلَّمَا عَمِلَ جُزْءًا مِنْ الْعَمَلِ اسْتَحَقَّ بِقَدْرِهِ مِنْ الْأُجْرَةِ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ، وَغَيْرُهُ، وَوَجْهُهُ مَا تَقَدَّمَ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْإِجَارَةُ فِي الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً بِأَنْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ بِعَمَلِ شَهْرٍ بِثَوْبٍ فَإِنْ كَانَ كِرَاءُ النَّاسِ عِنْدَهُمْ عَلَى النَّقْدِ أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِ الثَّوْبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالنَّقْدِ لَمْ تَصْلُحْ الْإِجَارَةُ، وَلَا الْكِرَاءُ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ النَّقْدَ، وَوَجْهُ مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَنَّهُ مَبِيعٌ مُعَيَّنٍ لَا يُقْبَضُ إلَّا بَعْدَ شَهْرٍ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْعُرُوضُ، وَالطَّعَامُ فِي هَذَا سَوَاءٌ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ الْكِرَاءُ بِهَذَا كُلِّهِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ سُنَّةُ النَّاسِ مِنْ التَّأْخِيرِ فَهُوَ عَلَى التَّعْجِيلِ حَتَّى يُشْتَرَطَ التَّأْخِيرُ تَصْرِيحًا، وَقَالَهُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ إنَّ إطْلَاقَ الْعَقْدِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُرْفِ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ لَا حُكْمَ لِلْعُرْفِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ، وَالْحُكْمُ لِلْعُرْفِ الصَّحِيحِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا إنْ شَرَطَ أَنْ يُمْسِكَهُ الثَّوْبَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ إنْ كَانَ يُمْسِكُ الثَّوْبَ لِيَلْبَسَهُ أَوْ الْخَادِمَ لِيَخْدُمَ أَوْ الدَّابَّةَ لِيَرْكَبَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ يَحْبِسَ ذَلِكَ لِلِاسْتِيثَاقِ لِلْإِشْهَادِ أَوْ نَحْوَهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ، وَلَا أَفْسَخُ بِهِ الْبَيْعَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ قِصَرُ الْمُدَّةِ وَقِلَّةُ الْغَرَرِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ لِغَرَضٍ فَلَا كَرَاهِيَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ مَا يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ.
(فَصْلٌ)
فَأَمَّا الْكِرَاءُ الْمَضْمُونُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعَجَّلًا بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَنَافِعَ هَذَا حُكْمُهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ مِنْهَا إلَّا عَلَى مَوْجُودٍ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهِ فِيمَنْ
(5/115)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يُعْتَبَرُ بِقَوْلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالتَّعْيِينُ فِي الْعَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَى مَنَافِعِهَا إنَّمَا هُوَ تَعْيِينٌ لِعَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا جَازَ الْعَقْدُ عَلَى مَنَافِعِ دَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مُؤَجَّلَةٍ فَكَذَلِكَ عَلَى مَنَافِعِ دَابَّةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَ كِرَاءِ الرَّاحِلَةِ الْمَضْمُونَةِ إلَى أَجَلٍ عَلَى تَعْجِيلِ الْكِرَاءِ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ الْكَالِئُ بِالْكَالِئِ، وَهَلْ يَجُوزُ فِيهِ التَّأْخِيرُ قَالَ مَالِكٌ إذَا تَكَارَى كِرَاءً مَضْمُونًا كَالْمُتَكَارِي إلَى غَيْرِ الْحَجِّ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ فَلْيُقَدِّمْ مِنْهُ الدِّينَارَيْنِ، وَنَحْوَهُمَا، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَضْمُونِ يَتَأَخَّرُ فِيهِ الرُّكُوبُ أَنْ يَتَأَخَّرَ شَيْءٌ مِنْ النَّقْدِ، وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إذَا قَدَّمَ إلَيْهِ فِي الْكِرَاءِ الْمَضْمُونِ الدَّنَانِيرَ حَتَّى يَأْتِيَ بِالظَّهْرِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَكَمْ مِنْ مُكْرٍ يَهْرَبُ بِالْكِرَاءِ أَوْ يَتْرُكُ أَصْحَابَهُ، وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ تَأْخِيرَ النَّقْدِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَنْقُدَ أَكْثَرَ الْكِرَاءِ أَوْ ثُلُثَيْهِ ثُمَّ قَالَ وَقَدْ قَطَعَ الْأَكْرِيَاءُ أَمْوَالَ النَّاسِ فَلَا بَأْسَ بِتَأْخِيرِ النَّقْدِ وَنَقْدِهِ الدِّينَارَ، وَنَحْوَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ تَأْخِيرُهُ بِشَرْطٍ أَوْ بِغَيْرِ شَرْطٍ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ أَجَلًا بَعْدَ تَبْلِيغِ الْحُمُولَةِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْكِرَاءِ لِلْحَجِّ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْكِرَاءِ لِغَيْرِ الْحَجِّ وَآخِرُ مَا قَالَهُ فِيهِ الْجَوَازُ لِلضَّرُورَةِ الْعَامَّةِ الشَّامِلَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ الْكِرَاءُ الْمَضْمُونُ حَالًا وَشَرَعَ فِي الرُّكُوبُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْدٍ لِأَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ قَدْ تَعَجَّلَ وَأَخَذَهُ فِي الرُّكُوبِ وَتَمَادِيهِ فِيهِ يَقُومُ مُقَامَ اسْتِعْجَالِهِ كَمَا يَقُولُهُ فِي الْمَقَاثِي وَالْمِبْطَخَةِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَمْ يُخْلِفْ أَكْثَرَهُ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ لِسَابِقِهِ وَتَتَابُعِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْمَرْكُوبُ لَا بُدَّ أَنْ يُعَرَّفَ بِتَعْيِينٍ أَوْ وَصْفٍ فَالْمُشَاهَدُ يُشَارُ إلَيْهِ بِأَنْ يُقَالَ اكْتَرَيْتُك هَذِهِ الرَّاحِلَةَ أَوْ الدَّابَّةَ أَوْ الْعَبْدَ، وَالْمَوْصُوفُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْجِنْسِ لِلْحَمْلِ وَمَا يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ، وَالذَّكَرُ أَصْعَبُ مِنْ الْأُنْثَى فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا تَتَعَيَّنُ الدَّابَّةُ وَلَا السَّفِينَةُ بِكَوْنِهَا فِي مِلْكِ الْمُكْتَرِي وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ فِي الَّذِي يَكْتَرِي مِنْ رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ سَفِينَةٍ لَمْ يُسَمِّهَا وَلَهُ دَابَّةٌ أَوْ سَفِينَةٌ أَحْضَرَهَا وَلَمْ يَعْلَمْ لَهُ غَيْرَهَا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَحْمِلُنِي عَلَى هَذِهِ فَهَلَكَتْ بَعْدَ أَنْ رَكِبَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِدَابَّةٍ أَوْ سَفِينَةٍ غَيْرِهَا وَذَلِكَ عَلَى الضَّمَانِ وَمَتَى اشْتَرَطَ أَنِّي أُكْرِيكَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا يَنْفَسِخُ الْكِرَاءُ بِهَلَاكِهَا أَوْ يُكْرِي مِنْهُ جُزْءًا مِنْ هَذِهِ السَّفِينَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كَالتَّعْيِينِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ أَيَّدَهُ اللَّهُ: وَهَذَا عِنْدِي إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَضْمُونَ مَوْصُوفٌ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ تَوَاصَفَا مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْكِرَاءَ فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالْكِرَاءِ ثُمَّ أَحْضَرَهُ مَا فِي مِلْكِهِ قَضَاءً عَنْ الْمَضْمُونِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَا تَوَاصَفَا شَيْئًا فَيَكُونَ مَا أَحْضَرَ مِنْ الرَّاحِلَةِ فِي عَدَمِ التَّعْيِينِ يَقُومُ مُقَامَ الْوَصْفِ لِمَا عَقَدَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْإِحْضَارُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَهَذَا أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ يَحْمِلُنِي عَلَى دَابَّةٍ أَوْ سَفِينَةٍ وَلَمْ يُسَمِّهَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِشَيْءٍ مَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ الْعَقْدِ فِيهِ إلَّا عَلَى الْوَصْفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَصْلٌ) :
ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعَ لَا يَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا وَإِنْ عُيِّنَتْ لِذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ كَالْوَصْفِ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِهِ بِخِلَافِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ تَتْلَفُ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى رِعَايَةِ غَنَمٍ بِأَعْيَانِهَا وَخِيَاطَةِ قَمِيصٍ بِعَيْنِهِ فَتَهْلِكُ الْغَنَمُ، وَيَحْتَرِقُ الثَّوْبُ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ لَا يَنْفَسِخُ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُوَفِّيَ جَمِيعَ الْأُجْرَةِ، وَيَأْتِيَ إنْ شَاءَ بِغَنَمٍ مِثْلِهَا، وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْعَيْنَ الَّتِي تُسْتَوْفَى فِيهَا الْإِجَارَةُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِ الْمَحَلِّ الْمُعَيَّنِ قَالَ: وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَازِمٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَوْ كَانَ يَخْتَصُّ الِاسْتِيفَاءُ بِمَحَلٍّ مُعَيَّنٍ لَمَا لَزِمَ مِنْ جِهَةِ الْمُكْتَرِي لِأَنَّ لَهُ بَيْعَ مَتَاعِهِ وَغَنَمِهِ بَعْدَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهَا، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا أَحَدُ الْمَحَلَّيْنِ
(5/116)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بِالْإِجَارَةِ فَتَصِحُّ بِعَيْنِهِ كَالْعَيْنِ الَّتِي تُسْتَوْفَى فِيهَا مِنْ الْمَنَافِعِ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا فَهَلَكَتْ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ فَلِذَلِكَ إذَا عَيَّنَ مَنْ يَرْكَبُهَا أَوْ الْقَمِيصَ الَّذِي يَخِيطُهُ أَوْ الْغَنَمَ الَّتِي يَرْعَاهَا يَجِبُ أَنْ تَنْفَسِخَ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ ذَلِكَ فِي الضِّئْرِ تُسْتَأْجَرُ لِرَضَاعِ صَبِيٍّ وَالطَّبِيبِ لِعِلَاجِ مَرِيضٍ أَوْ قَلْعِ ضِرْسٍ إذَا مَاتَ الصَّبِيُّ وَبَرِئَ الْمَرِيضُ فَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِيهِ نَظَرٌ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَحَلَّ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ضَرْبٌ لَا يَخْتَلِفُ بِالْجِنْسِ، وَلَا تَخْتَلِفُ أَعْيَانُهُ كَحَمْلِ الْقَمْحِ، وَحَمْلِ الشَّعِيرِ، وَحَمْلِ الشُّقَّةِ فَهَذَا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينَهُ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ حَمْلِ قَمْحٍ وَحَمْلِ قَمْحٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ فِي مِثْلِ وَزْنِهِ، وَلَا تَسْتَضِرُّ الدَّابَّةُ بِحَمْلِ أَحَدِهِمَا إلَّا مِثْلَ اسْتِضْرَارِهَا بِالْآخَرِ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَلَوْ أَحْضَرَ مَتَاعًا اكْتَرَى عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعْيِينًا لَهُ، وَلَوْ اشْتَرَطَ أَنْ لَا يَعُدُّوهُ، وَلَا يَأْتِيَ بِغَيْرِهِ، وَلَمْ يُبَدِّلْهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فَإِنْ حَمَلَ فَلَهُ كِرَاءُ مِثْلِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَيْنِهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ كَالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَالْجُزْءِ مِنْ الْجُمْلَةِ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا إنَّ مَا تَسَاوَتْ حَالُهُ فِي أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنَافِعِ لَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِهِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَلَى حَمْلِ مَتَاعٍ فَتَلِفَ ذَلِكَ الْمَتَاعُ لَمْ تَنْفَسِخْ الْإِجَارَةُ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إذًا جَمِيعُ الْإِجَارَةِ، وَيَأْتِي بِمِثْلِ الْمَتَاعِ يُحْمَلُ لَهُ إنْ شَاءَ.
(فَرْعٌ)
فَإِنْ شَرَطَ تَعْيِينَهُ، وَأَنْ لَا يَعْدُوَهُ إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَنْ شَرَطَ فِي مَضْمُونٍ أَنَّهُ مَتَى عَيَّنَهُ ثُمَّ تَلِفَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ بَطَلَ الْحَقُّ بِبُطْلَانِهِ، وَفَسَدَ الْعَقْدُ لِلشَّرْطِ الْمُدْخِلِ لِلْغَرَرِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَضْمُونِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيهِ بِالِاسْتِيفَاءِ دُونَ الْإِحْضَارِ لِلِاسْتِيفَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ فِي عَدَدٍ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَحْضَرَهُ صُبْرَةً مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الطَّعَامِ فَتَلِفَ قَبْلَ الْكَيْلِ أَنَّهُ يَبْطُلُ السَّلَمُ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُبْطِلُ السَّلَمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى وَصْفِ الرَّاكِبِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَجْسَامَ فِي الْأَغْلَبِ مُتَقَارِبَةٌ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَعْيِينِهِ بِالْوَصْفِ، وَلَا بِالرُّؤْيَةِ فَإِنْ جَاءَ بِرَجُلٍ فَادِحٍ عَظِيمِ الْخَلْقِ خَارِجٍ عَنْ الْمُعْتَادِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ لِأَنَّ هَذَا نَادِرٌ، وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ إلَّا بِالْمُعْتَادِ دُونَ النَّادِرِ.
(فَصْلٌ)
وَالضَّرْبُ الثَّانِي ضَرْبٌ تَخْتَلِفُ أَعْيَانُهُ بِتَبَايُنِ أَغْرَاضِهِ كَالْعَلِيلِ يَسْتَأْجِرُ الطَّبِيبَ عَلَى عِلَاجِهِ، وَالْمُرْضِعُ تَسْتَأْجِرُ الضِّئْرَ عَلَى رَضَاعِهِ، وَالْمُعَلِّمُ يُسْتَأْجَرُ عَلَى تَعْلِيمِ الصَّبِيِّ وَرِيَاضَةِ الدَّابَّةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ، وَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ مِنْهُ عَلَى مَضْمُونٍ فِي الذِّمَّةِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَتَفَاوُتِهِمْ فِي أَمْرَاضِهِمْ وَاخْتِلَافِ الْأَطْفَالِ فِي كَثْرَةِ الرَّضَاعِ وَقِلَّتِهِ مَعَ مَشَقَّةِ تَنَاوُلِ أَحْوَالِ بَعْضِهِمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ وَالصَّنَائِعَ يَتَفَاوَتُونَ فِي التَّعْلِيمِ لِلِاخْتِلَافِ فِي الذَّكَاءِ وَقَبُولِ التَّعَلُّمِ.
(فَصْلٌ)
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ تَخْتَلِفُ أَعْيَانُهُ اخْتِلَافًا يَسِيرًا كَالْغَنَمِ وَالْمَاشِيَةِ يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهَا مَنْ يَرْعَاهَا وَيَحْفَظُهَا فَيَخْتَلِفُ الْجِنْسُ مِنْ الْمَاشِيَةِ وَسُكُونِهَا وَأُنْسِهَا، وَلَيْسَ بِكَبِيرِ اخْتِلَافٍ فَفِي مِثْلِ هَذَا الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ لِتَقَارُبِ أَحْوَالِ الْجِنْسِ مِنْهَا، وَأَمَّا صِفَةُ الْعَقْدِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَصْلُحُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ إلَّا بِشَرْطِ خَلَفِ مَا هَلَكَ مِنْهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَالْحُكْمُ يُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَالصِّفَّةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَلَى حَصَادِ زَرْعٍ فِي بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ إنْ هَلَكَ الزَّرْعُ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْإِجَارَةُ قَائِمَةٌ، وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي مِثْلِهِ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ اخْتِلَافُ حَالِ الْبُقَعِ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَتَغَيُّرِ الْمِثْلِ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَقْرُبُ، وَيَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِيهِ رِفْقٌ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ إنَّ عَمَلَ الْحَصَادِ لَا يَخْتَلِفُ فِي الزَّرْعِ فَلِذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ عَلَى حَصَادِهِ كَحَمْلِ الْأَحْمَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(5/117)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ) (مَا جَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ) (ص) : مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ يَوْمَ الْفَتْحِ أُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثُمَّ يَقُولُ إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ» مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِ خَيْبَرَ قَالَ فَجَمَعُوا لَهُ حُلِيًّا مِنْ حُلِيِّ نِسَائِهِمْ فَقَالُوا لَهُ هَذَا لَك، وَخَفِّفْ عَنَّا وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاَللَّهِ إنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إلَيَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنْ الرِّشْوَةِ فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَإِنَّا لَا نَأْكُلُهَا. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ] [مَا جَاءَ فِي الْمُسَاقَاةِ]
(ش) : قَوْلُهُ إنَّهُ «قَالَ لِيَهُودِ خَيْبَرَ يَوْمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ» يُرِيدُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ حَيْثُ وَجَبَ تَفَرُّغُ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا كَمَا يُقَالُ قَالَ كَذَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَفَعَلَ كَذَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِنَّمَا جَرَى ذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ الْمُضَافَةِ إلَيْهَا.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «عَلَى مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» يَقْتَضِي أَنَّ النَّخْلَ صَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِلْمُسْلِمِينَ دُونَ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ لَهُمْ بِالْعَمَلِ بَعْضُ الثَّمَرَةِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي افْتِتَاحِ خَيْبَرَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اُفْتُتِحَتْ عَنْوَةً لِمَا رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزَا خَيْبَرَ فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً» ،.
وَقَالَ آخَرُونَ افْتَتَحَهَا بَعْضَهَا عَنْوَةً، وَبَعْضَهَا صُلْحًا، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، وَالْكَثِيبَةِ أَكْثَرُهَا عَنْوَةً، وَفِيهَا صُلْحٌ قَالَ مَالِكٌ، وَالْكَثِيبَةِ مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ عِرْقٍ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كَانَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ خَيْبَرَ نِصْفُهَا فَكَانَ النِّصْفُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ النِّصْفُ الَّذِي لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْكَثِيبَةُ وَالْوَطِيحُ، وَالسَّلَالِمُ وَوَجْرَةُ، وَالنِّصْفُ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ بِطْلَةُ، وَالشِّقُّ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَعْنَى الصُّلْحِ أَنَّهُمْ تَخَلَّوْا عَنْ النَّخْلِ وَالْأَرْضِ فَعَلَى هَذَا تَقَرَّرَ أَنَّ جَمِيعَ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ.
(مَسْأَلَةٌ)
فَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ، وَكَانَ سَبِيلُ ذَلِكَ سَبِيلَ النَّضِيرِ، وَمَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَدَكَ، وَمَا كَانَ مِنْ خَيْبَرَ بِقِتَالٍ، وَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ مَنْ حَضَرَهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ مَنْ غَابَ عَنْهَا مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِهَا يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] .
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ «أُقِرُّكُمْ عَلَى مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ» يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ الْمُسَاقَاةِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ بَعْدَ وَصْفِ الْعَمَلِ وَالِاتِّفَاقِ مِنْهُ عَلَى مَعْلُومٍ بِعِبَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَمَنَعَ جَوَازَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى خَيْبَرَ لِيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» ، وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّمْرَ نَوْعُ مَالٍ يَزْكُو بِالْعَمَلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْفَعَتِهِ الْمَقْصُودَةِ فَجَازَتْ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهِ بِبَعْضِهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ عَلَى مُدَّةٍ يَلْزَمُ الْعَقْدُ فِي جَمِيعِهَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ فِي مِقْدَارٍ مِنْهَا فَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَبَعَّضَ، وَكَذَلِكَ كُلَّمَا شَرَعَ الْعَامِلُ فِي عَامٍ لَزِمَ الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَكَذَلِكَ الْمُتَسَاقِيَانِ
(5/118)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بِالْخِيَارِ فِيمَا بَعْدَهُ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَكْتَرِي مِنْ الرَّجُلِ دَارِهِ عَلَى شَهْرٍ بِدِينَارٍ أَوْ كُلَّ عَامٍ بِدِينَارَيْنِ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْإِجَارَةِ أَنْ يَتَمَادَى عَلَى الْعَمَلِ، وَأَنْ يَتْرُكَهُ مَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْكُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَشْرَعْ الْعَامِلُ فِي عَمَلِ سَنَتِهِ فَتَلْزَمُهُ تِلْكَ السَّنَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَلْزَمُ أُجْرَةُ جُزْءٍ وَاحِدٍ مِمَّا جَعَلَاهُ عَمَلًا عَلَى حِسَابِ الْأُجْرَةِ مِنْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَقَعْ عَلَى شَيْءٍ مُقَرَّرٍ يَلْزَمُ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ لَزِمَهُمَا بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ حِسَابِ مَا قَرَّرَاهُ، وَلَهُمَا أَنْ يَزِيدَا مَا شَاءَا مِمَّا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَمَنْ أَرَادَ مِنْهُمَا التَّرْكَ فَذَلِكَ لَهُ إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ يَلْزَمُ أَحَدَهُمَا، وَجَمِيعُ الْمُدَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي، وَالسَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَكَذَلِكَ الْأُولَى، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَلْزَمَ فِيهِ، وَيَكُونَ الْخِيَارُ فِيمَا بَعْدَهُ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ تَحْدِيدُ جُزْءِ الْعَامِلِ مِنْ الثَّمَرَةِ غَيْرَ أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُسَاوَاةُ وَلَعَلَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ فَنَقَلَهُ الرَّاوِي عَلَى هَذَا اللَّفْظِ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُهُ الْمُسَاوَاةُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ «أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ النِّصْفَ» وَأَبُو بَكْرٍ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَيَقْتَضِي مَعَ ذَلِكَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحَوَائِطِ كُلِّهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ لَا بَأْسَ أَنْ يُسَاقِيَهُ حَائِطَيْنِ عَلَى النِّصْفِ جَمِيعًا أَوْ عَلَى الثُّلُثِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَائِطِينَ نَخْلًا، وَفِي الْآخَرِ أَصْنَافُ الشَّجَرِ، وَيَكُونَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ سَقْيًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا بَعْلًا، وَبَعْضُهَا سَقْيًا فَإِنْ كَانَ عَلَى مُسَاقَاةٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاقَى خَيْبَرَ كُلَّهَا عَلَى النِّصْفِ، وَفِيهَا الْجَيِّدُ وَالرَّدِيءُ» ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ بِمَعْنَى حُكْمِ الْقِرَاضِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَلَمَّا جَازَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ جِنْسَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ وَرِقًا، وَذَهَبًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ عَلَى جُزْءٍ وَاحِدٍ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْمُسَاقَاةِ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَجُوزُ عَمَلٌ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ عَلَى أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنْ عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ رُدَّ إلَى مُسَاقَاةِ مِثْلِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَاقَدَهُ السَّنَتَيْنِ بِأَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ لَمْ يَجُزْ فَإِنْ عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعَ السَّنَتَيْنِ فَلَهُ مُسَاقَاةُ مِثْلِهِ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا بَقِيَ، وَلَا يُفْسَخُ مَا بَقِيَ.
وَقَالَهُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مُسَاقَاةُ جَمِيعِ السَّنَتَيْنِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ بَعْضَهَا بِسَبَبِ بَعْضٍ فَقَدْ يُنْفِقُ فِي أَوَّلِ عَامٍ لِيَسْتَغِلَّ أَعْوَامًا فَإِذَا لَزِمَهُ بَعْضُ الْأَعْوَامِ لَزِمَهُ جَمِيعًا.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ كَانَ فِي عُقُودٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى أَجْزَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ جَازَ ذَلِكَ قَالَهُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا فِي الْقِرَاضِ لِأَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ عَقْدٌ جَائِزٌ، وَعَقْدُ الْمُسَاقَاةِ عَقْدٌ لَازِمٌ فَإِذَا عَقَدَ مَعَهُ فِي حَائِطٍ عَلَى النِّصْفِ ثُمَّ عَقَدَ مَعَهُ فِي حَائِطٍ آخَرَ عَلَى الثُّلُثِ لَمْ يَتَعَلَّقْ أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ بِالْآخَرِ فَجَازَ ذَلِكَ.
1 -
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْعَثُ ابْنَ رَوَاحَةَ لِلْخَرْصِ» ظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي تَكَرُّرَ خَرْصِهِ لَهُمْ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي زَاهِيهِ خَرَصَ عَلَيْهِمْ عَامًا ثُمَّ قُتِلَ بِمُؤْتَةِ فَقَدِمَ غَيْرُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ خَرْصَ أَمْوَالِ الْمُسَاقَاةِ لِمَا يَجِبُ فِيهَا مِنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ فِي غَيْرِ مَصْرِفِ غَلَّةِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ وَنَخْلِهَا لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُصْرَفُ إلَّا إلَى الْأَصْنَافِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ، وَأَمَّا غَلَّةُ أَرْضِ الْعَنْوَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يُعْطِيهَا مَنْ يَسْتَحِقُّهَا مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلِذَلِكَ كَانَ يَخْرُصُهَا لِيَمِيزَ حَقَّ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهَا.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ سَأَلْت عِيسَى عَنْ فِعْلِ «ابْنِ رَوَاحَةَ إذَا كَانَ يَخْرُصُ تَمْرَ خَيْبَرَ الَّذِي أَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(5/119)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بِأَيْدِي الْيَهُودِ مُسَاقَاةً ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي فَكَانُوا يَأْخُذُونَ» أَيَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُسَاقِيَيْنِ وَالشَّرِيكَيْنِ فَقَالَ لَا يُعْمَلُ بِذَلِكَ، وَلَا يَصْلُحُ اقْتِسَامُهُ إلَّا كَيْلًا إلَّا أَنْ تَخْتَلِفَ حَاجَتُهُمَا إلَيْهِ فَيَقْتَسِمَانِهِ بِالْخَرْصِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عِيسَى حَمَلَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَأَوَّلَ الْخَرْصَ لِلْقِسْمَةِ خَاصَّةً، وَإِذَا كَانَ الْخَرْصُ لِلزَّكَاةِ لَزِمَ إخْرَاجُهَا مِنْ جَمِيعِ ثَمَرِ الْحَائِطِ إنْ كَانَ الْعَامِلُ ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ بِحَالِ مَالِكِ الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْأَصْلِ مُسْلِمًا حُرًّا فَالزَّكَاةُ فِي جَمِيعِهِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا فَلَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْعَامِلَ إنَّمَا يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَرَةِ بِالْقِسْمَةِ، وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخَرْصُ لِلْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ اخْتِلَافُ حَاجَتِهِمَا إلَيْهِ لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْكُلُوهُ رُطَبًا، وَالصَّحَابَةُ لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ إلَّا تَمْرًا.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الشُّرَكَاءِ فِي الْحَائِطِ تَخْتَلِفُ حَاجَتُهُمْ إلَى الثَّمَرَةِ فَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ الْبَيْعَ، وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ أَكْلَهُ رُطَبًا، وَبَعْضُهُمْ يُرِيدُ أَكْلَهُ تَمْرًا إنَّ ذَلِكَ يُبِيحُ قِسْمَتَهُ بَيْنَهُمْ بِالْخَرْصِ، وَإِنْ اتَّفَقَتْ حَاجَتُهُمْ فَإِنْ أَرَادَ جَمِيعُهُمْ الْبَيْعَ أَوْ أَكْلَهُ رُطَبًا أَوْ تَمْرًا لَمْ يُقْسَمْ بَيْنَهُمْ بِالْخَرْصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْقِسْمَةِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُ ابْنِ رَوَاحَةَ إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي حَمَلَهُ عِيسَى عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ إلَيْهِمْ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ بَعْدَ الْخَارِصِ لِيَضْمَنُوا حِصَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ بَيْعُ الثَّمَرَةِ بِالثَّمَرَةِ بِالْخَرْصِ فِي غَيْرِ الْعَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِثْلُ هَذَا فِي الزَّكَاةِ أَنْ يَخْرُصَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَكُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ الثَّمَرِ مَا أَوْجَبَهُ الْخَارِصُ عَلَيْهِمْ عَلَى سُنَّةِ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَوَائِطِ لَهُمْ فَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ لِصِحَّةِ خَرْصِهِ فَيَقُولُ لَهُمْ إنْ شِئْتُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الثَّمَرَةَ عَلَى أَنْ تُؤَدُّوا زَكَاةَ مَا خَرَصْته عَلَيْكُمْ، وَإِلَّا فَأَنَا أَشْتَرِيهَا مِنْ الْفَيْءِ بِمِثْلِ مَا يُشْتَرَى بِهِ فَيَخْرُجُ هَذَا الْخَرْصُ الَّذِي خَرَصَهُ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِسِعْرِ التَّمْرِ فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ لِتَحَقُّقِهِمْ صِحَّةَ قَوْلِهِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْمُرَادَ بِهِ خَرْصُ الثَّمَرَةِ لَا قِسْمَةَ لِاخْتِلَافِ الْحَاجَةِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ هَذَا النِّصْفُ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي وَلَكُمْ هَذَا الْآخَرُ عَلَى مَعْنَى التَّخْيِيرِ لَهُمْ فِي النِّصْفَيْنِ لِيَأْخُذُوا أَيَّهُمَا شَاءُوا لِتَحَقُّقِهِ التَّسَاوِي فِي ذَلِكَ فَكَانُوا يَأْخُذُونَ الَّذِي يَسَّرَ لَهُمْ وَيَخُصُّهُمْ بِهِ إمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُمْ، وَأَقْرَبُ لِمَسَاكِنِهِمْ أَوْ أَبْعَدُ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ عَلَيْهِمْ أَوْ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي أَوْ لِأَنَّهُمْ فَرِحُوا بِهِ، وَسَأَلُوهُ إيَّاهُ بَيْنَ ذَلِكَ، إنْ وَقْتَ طِيبِ النَّخْلِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا دَامَتْ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ لَيْسَ بِوَقْتِ قِسْمَةِ ثَمَرَةِ الْمُسَاقَاةِ لِأَنَّ عَلَى الْعَامِلِ أَخْذَهَا، وَالْقِيَامَ عَلَيْهَا حَتَّى يَجْرِيَ الصَّاعُ أَوْ الْوَزْنُ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَرْصَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْقِسْمَةِ إلَّا بِمَعْنَى اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَالْحَاجَاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
1 -
(فَصْلٌ)
وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ لِجَمَاعَتِهِمْ إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُسَاقَاةِ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَالْحَاجَاتِ يَقْتَضِي أَنَّهُ سَاقَى جَمِيعَهُمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي جُمْلَةِ الْحَوَائِطِ، وَلَمْ يَخُصَّ كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ بِحَائِطٍ أَوْ حَوَائِطَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ قَدْ «سَاقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْبَرَ عَلَى مُسَاقَاةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى النِّصْفِ، وَفِيهَا الْجَيِّدُ وَالدَّنِيءُ» ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ فِي هَذَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عَقَدَ عَلَى جَمِيعِهَا عَقْدًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَالِبِ الْحَالِ يَخْتَلِفُ مَا عُوقِدُوا عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِ الْحَوَائِطِ مَعَ جَوَازِ الْمُسَاقَاةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، وَأَقَلَّ، وَلَا اخْتِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يُسَاقِيَ فِيهِ جَمَاعَةً.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ يَسَارٍ كَانَ يَبْعَثُ ابْنَ رَوَاحَةَ لِيَخْرُصَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودَ أَضَافَ الْخَرْصَ إلَيْهِ لِتَصَرُّفِهِ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا يَخُصُّهُ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ، وَإِنْفَاذِهِ لِيَخْرُصَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ غَيْرَ أَنَّ لَفْظَةَ كَانَ تَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَأَنَّهُ تَكَرَّرَ إنْفَاذُهُ إلَيْهِمْ لِهَذَا الْمَعْنَى لِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِهَذَا
(5/120)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ إذَا سَاقَى الرَّجُلُ النَّخْلَ، وَفِيهَا الْبَيَاضُ فَمَا ازْدَرَعَ الرَّجُلُ الدَّاخِلُ فِي الْبَيَاضِ فَهُوَ لَهُ قَالَ: وَإِنْ اشْتَرَطَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنَّهُ يَزْرَعُ فِي الْبَيَاضِ لِنَفْسِهِ فَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِأَنَّ الرَّجُلَ الدَّاخِلَ فِي الْمَالِ يَسْقِي لِرَبِّ الْأَرْضِ فَذَلِكَ زِيَادَةٌ ازْدَادَهَا عَلَيْهِ قَالَ وَإِنْ اُشْتُرِطَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمُؤْنَةُ كُلُّهَا عَلَى الدَّاخِلِ فِي الْمَالِ الْبَذْرُ وَالسَّقْيُ وَالْعِلَاجُ كُلُّهُ فَإِنْ اشْتَرَطَ الدَّاخِلُ فِي الْمَالِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنَّ الْبَذْرَ عَلَيْك كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ لِأَنَّهُ قَدْ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ زِيَادَةً ازْدَادَهَا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُسَاقَاةُ عَلَى أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْمَالِ الْمُؤْنَةُ كُلُّهَا، وَالنَّفَقَةُ، وَلَا يَكُونُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْهَا شَيْءٌ فَهَذَا وَجْهُ الْمُسَاقَاةِ الْمَعْرُوفُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الشَّأْنِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ عَالِمًا بِثَمَرِ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَمَا يَنْقُصُ بِالْجُفُوفِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «فَجَعَلُوا لَهُ حُلِيًّا، وَقَالُوا هَذَا لَك وَخَفِّفْ عَنَّا» أَرَادُوا بِذَلِكَ التَّخْفِيفَ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ فِي الْخَرْصِ، وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَيْفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا التَّخْفِيفُ الْيَسِيرُ فَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمُقَاسَمَةِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إلَّا الْمُسَاوَاةُ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الزَّكَاةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ إنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إلَيَّ» يُرِيدُ لِكُفْرِهِمْ وَإِظْهَارِهِمْ الْعَدَاوَةَ وَالْمُخَالَفَةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِلْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ أَنْبَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] ثُمَّ قَالَ «وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى الْحَيْفِ عَلَيْكُمْ» يُيَئِّسُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ حَيْفِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَعَ مَحَبَّتِهِ فِيهِمْ وَسَعْيِهِ لَهُمْ.
(فَصْلٌ)
قَوْلُهُ «وَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنْ الرِّشْوَةِ فَإِنَّهُ سُحْتٌ» يُرِيدُ حَرَامًا، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْيَهُودَ بِأَكْلِهَا فَقَالَ {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] .
وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] فَرَامُوا أَنْ يَسْتَنْزِلُوا ابْنَ رَوَاحَةَ لِمَا عَلِمُوا مِنْ وَرَعِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَحَرَصُوا أَنْ يُدْخِلُوهُ فِيمَا يَتَلَبَّسُونَ بِهِ مِنْ أَخْذِ الرِّشْوَةِ وَأَكْلِ السُّحْتِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] .
وَقَالَ {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] فَعَصَمَهُ اللَّهُ وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُمْ امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] .
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُمْ «بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ» يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ الْإِقْرَارَ بِالْحَقِّ وَالرُّجُوعَ إلَى الِاعْتِرَافِ بِهِ إمَّا لِتَعْجِيلِ الْخِزْيِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَوْ لِيَتَخَلَّصُوا بِهِ مِمَّا ظَنُّوا أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِمْ مِنْ الْعُقُوبَةِ إذَا أَرَوْهُ الرُّجُوعَ إلَى قَوْلِهِ، وَالرِّضَا بِفِعْلِهِ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَسْكُتَ عَنْ الْبَيَاضِ فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ أَوْ يَشْتَرِطَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْجَلَّابِ فِي تَفْرِيعِهِ هُوَ لِصَاحِبِهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ مِنْ زِرَاعَةٍ وَإِجَارَةٍ أَوْ تَرْكٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَابْنُ حَبِيبٍ إنْ تَشَاحَّا عِنْدَ الزِّرَاعَةِ فَذَلِكَ لِلْعَامِلِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُقْتَضَى رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ «أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» .
فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا أَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ، وَذَلِكَ وَقْتُ الِاشْتِرَاطِ وَاسْتِيفَاءِ الْجُفُوفِ وَتَبْيِينِهَا فَظَاهِرُ ذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَكُونُ لَهُ، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَرْضَ بَيْنَ الْعَامِلِينَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِلْمُسْلِمِينَ مَا تَنَاوَلَهُ اشْتِرَاطُهُ، وَهُوَ نِصْفُ الثَّمَرَةِ دُونَ سَائِرِ مَا بِأَيْدِيهِمْ، وَلِذَلِكَ انْفَرَدُوا بِمَسَاكِنِهَا وَمَسَارِحِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَعْطَى خَيْبَرَ لِيَهُودَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا، وَلَهُمْ شَطْرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا» عَلَى مَا يُعْمَلُ فِيهَا مِنْ الْأَشْجَارِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي عَقْدَيْنِ أَوْ عَلَى مَكَانَيْنِ أَوْ زَمَانَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى مَا يُعْمَلُ فِيهَا مِنْ الْأَشْجَارِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى مَا قَدْ سَاقَهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ
(5/121)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي الْعَيْنِ تَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَنْقَطِعُ مَاؤُهَا فَيُرِيدُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْمَلَ فِي الْعَيْنِ، وَيَقُولُ الْآخَرُ لَا أَجِدُ مَا أَعْمَلُ بِهِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْعَيْنِ اعْمَلْ وَأَنْفِقْ، وَيَكُونُ لَك الْمَاءُ كُلُّهُ تَسْقِي بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُك بِنِصْفِ مَا أَنْفَقْت فَإِذَا جَاءَ بِنِصْفِ مَا أَنْفَقْت أَخَذَ حِصَّتَهُ مِنْ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا أُعْطِيَ الْأَوَّلُ الْمَاءَ كُلَّهُ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ، وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا بِعَمَلِهِ لَمْ يَعْلَقْ الْآخَرَ مِنْ النَّفَقَةِ شَيْءٌ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ كَانَ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى زَرَعَهَا الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَابْنُ حَبِيبٍ مَا زَرَعَ الْعَامِلُ فَهُوَ لَهُ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ عَلَيْهِ كِرَاءُ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْمُسَاقَاةِ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِالثِّمَارِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْأَرْضِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَهُوَ لِلْعَامِلِ كَالْمُرَاحِ وَالْمَسْكَنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْحَرْثِ وَالْعَمَلِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِالْعَامِلِ كَالثَّمَرَةِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا الشَّرْطُ فَإِنَّ فَضْلَ ذَلِكَ مُلْغًى لِلْعَامِلِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ اسْمَ الْمُسَاقَاةِ يَخْتَصُّ بِالثَّمَرِ، وَمَا لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ، وَفَرْعٌ ظَاهِرٌ حِينَ الْمُسَاقَاةِ، وَأَمَّا الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ فَعَلَى وَجْهِ ارْتِفَاقِ الْعَامِلِ مَا بَيْنَ الْأُصُولِ مِنْ الْبَيَاضِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
فَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ وَالْعَمَلُ مِنْ عِنْدِ الْعَامِلِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَغَيْرِهَا ذَلِكَ جَائِزٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ جَاءَتْ فِي خَيْبَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَلَهُمْ فِي الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ عَلَى النِّصْفِ» .
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا، وَالْبَذْرُ مِنْ عِنْدِهِمَا فَفِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَذْرُ كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ لَا يَجُوزُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ، وَالْمَنْفَعَةَ كُلَّهَا عَلَى الْعَامِلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَالْبَذْرُ وَالْعَمَلُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَمِيعُ الزَّرْعِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ اشْتِرَاطِهِ عَلَى الْعَامِلِ زِيَادَةً يَنْفَرِدُ بِهَا، وَلَوْ كَانَ الْبَيَاضُ تَبَعًا فَاشْتَرَطَ الْعَامِلُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ فَقَدْ أَبَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَكَرِهَهُ أَصْبَغُ مَرَّةً ثُمَّ أَجَازَهُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَطَ بَعْضَهُ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْمُسَاقَاةِ ازْدَادَهَا الْعَامِلُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْإِلْغَاءِ لِأَنَّ الْإِلْغَاءَ إنَّمَا يَكُونُ فِي جَمِيعِهِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ اشْتَرَطَ أَرْضًا هِيَ تَبَعُ الْمُسَاقَاةِ فَجَازَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ اشْتَرَطَاهُ جَمِيعًا، وَالتَّوْجِيهَانِ لِأَصْبَغَ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ.
(فَرْعٌ)
وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيَاضُ بَيْنَ أَثْنَاءِ السَّوَادِ أَوْ مُنْفَرِدًا عَنْ الشَّجَرِ فِي ذَلِكَ الْحَائِطِ قَالَهُ مُحَمَّدٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَبَعٌ لِمِلْكِ صَاحِبِ الْأَصْلِ.
(فَرْعٌ)
وَلَوْ اسْتَثْنَى الْعَامِلُ الْبَيَاضَ فِيمَا يَجُوزُ زَرْعُهُ ثُمَّ أُجِيحَتْ الثَّمَرَةُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَلَيْهِ كِرَاءُ الْأَرْضِ الْبَيَاضِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ جَيِّدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْطِ إيَّاهُ إلَّا عَمَلَ السَّوَادِ فَلَمَّا ذَهَبَ السَّوَادُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْكِرَاءِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَجَزَ الدَّاخِلُ عَنْ الْعَمَلِ عَلَيْهِ كِرَاءُ مِثْلِهِ فِي الْبَيَاضِ.
(فَرْعٌ)
وَإِنْ كَانَتْ الْمُسَاقَاةُ فِي زَرْعٍ، وَفِي وَسَطِهِ أَرْضٌ بَيْضَاءُ فَاشْتَرَطَهَا الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ كَالنَّخْلِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ يَسِيرَةً تَبَعًا لِأَرْضِ الزَّرْعِ قَالَ مُحَمَّدٌ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ بَيَاضِ النَّخْلِ، وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يُلْغِيَ لِلدَّاخِلِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِذَا سَاقَاهُ زَرْعًا فِيهِ شَجَرٌ تَبَعًا لِلزَّرْعِ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ بِخِلَافِ الْبَيَاضِ بَيْنَ النَّخْلِ وَكِرَاءِ الْأَرْضِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى سِقَاءٍ وَاحِدٍ لَا لِلْعَامِلِ كَمُشْتَرِي الدَّارِ فِيهَا نَخْلٌ يَشْتَرِطُ ثَمَرَتَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ إذَا كَانَ الْعَامِلُ يَسْقِي ذَلِكَ قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَلْغَى كَنَوْعٍ مِنْ الشَّجَرِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ أَرْضٌ يُعْتَبَرُ فِيهَا التَّبَعُ لِلنَّخْلِ فَجَازَ أَنْ يَلْغَى كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ بَذْرَهَا، وَزِرَاعَتَهَا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الْمَعْرُوفُ.
(ش) : رَوَى
(5/122)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمَاءِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَغُورُ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ مُشْتَرَكَةٍ لَمْ يَقْسِمَا أَصْلَهَا مِنْ نَخْلٍ أَوْ أُصُولٍ أَوْ أَرْضٍ فِيهَا زَرْعٌ زَرَعُوهُ جَمِيعًا فَانْهَدَمَتْ الْبِئْرُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِصَاحِبِهِ اعْمَلْ مَعَ صَاحِبِك أَوْ بِعْ حِصَّتَك مِنْ الْأَصْلِ، وَالْمَاءِ أَوْ قَاسِمْهُ الْأَصْلَ فَخُذْ حِصَّتَك، وَيَأْخُذُ حِصَّتَهُ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْمَلَ عَمِلَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتْرُكَ تَرَكَ، وَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمَا كَانَ لَهُ الْمَاءُ كُلُّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ شَرِيكُهُ بِمَا يُصِيبُهُ مِنْ النَّفَقَةِ فَيَرْجِعَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ مُثْمِرٌ فِي أَرْضٍ لَهُمَا فَإِنَّ الْآبِيَ يُجْبَرُ عَلَى عَمَلِ حِصَّتِهِ أَوْ يَبِيعُهَا مَنْ يَعْمَلُ مَعَهُ.
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفْرَدَةً، وَالْمَاءُ وَاحِدًا فَمَنْ أَبَى مِنْهُمَا الْعَمَلَ فَذَلِكَ لَهُ، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ اعْمَلْ، وَلَك الْمَاءُ كُلُّهُ حَتَّى يَأْتِيَ شَرِيكُهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ النَّفَقَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ تَنْهَدِمُ فَيَأْبَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَبْنِيَ فَيُقَالَ لَهُ ابْنِ مَعَ شَرِيكِكَ أَوْ قَاسِمْهُ قَالَهُ سَحْنُونٌ وَابْنُ نَافِعٍ وَالْمَخْزُومِيُّ يَقُولَانِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي بِئْرٍ لَيْسَ عَلَيْهَا مَا يُجْنَى لَا زَرْعٌ، وَلَا نَخْلٌ، وَلَا غَيْرُهُ فَأَمَّا مَا كَانَ بِئْرًا أَوْ عَيْنًا عَلَيْهِمَا مَا يُجْنَى فَإِنْ أَبَى الْعَمَلَ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يَبِيعَ مِمَّنْ يَعْمَلُ مَعَهُ كَالسُّفْلِ لِرَجُلٍ وَالْعُلْوُ لِآخَرَ فَيَنْهَدِمُ ذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ مَعَهُ فَإِنْ أَبَى بِيعَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عِيسَى فِي الْعُتْبِيَّةِ يُقَالُ لِلْآبِي إمَّا أَنْ تَعْمَلَ، وَإِمَّا أَنْ تَبِيعَ مِمَّنْ يَعْمَلُ مَعَهُ، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ إنَّ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ إذَا كَانَ مَا يُسْقَى بِالْبِئْرِ أَوْ الْعَيْنِ مَقْسُومًا فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ بَنَى، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَ تَرَكَ، وَقَاسَهُ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّارِ تَنْهَدِمُ، وَقَاسَهُ ابْنُ نَافِعٍ وَالْمَخْزُومِيُّ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ وَالْعُلْوِ، وَهُوَ أَظْهَرُ لِأَنَّ شَرِيكَهُ فِي الْعَيْنِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ لِقِسْمَةِ الْأَصْلِ كَمَا لَا يَقْدِرُ صَاحِبُ الْعُلْوِ عَلَى بُنْيَانِ عُلْوِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَبْنِيَ صَاحِبُ السُّفْلِ، وَصَاحِبُ الدَّارِ يَقْدِرُ بَعْدَ الْمُقَاسَمَةِ عَلَى بُنْيَانِ حِصَّتِهِ مِنْ الْقَاعَةِ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا يَقْدِرُ عَلَى مُقَاسَمَتِهِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ الْآبِي أَنْ يَعْمَلَ مَعَ صَاحِبِهِ أَوْ يُقَاسِمَهُ فَيَعُودَ إلَى حُكْمِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَسْقِيَانِ مِمَّا لَا يَصْلُحُ قِسْمَتُهُ كَثَمَرَةِ نَخْلِهَا أَوْ زَرْعِ أَرْضِهَا فَهُوَ الَّذِي يُجْبَرُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى الْعَمَلِ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مِمَّنْ يَعْمَلُ مَعَهُ فَرَاعَى فِي هَذَا بَقَاءَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا رُوعِيَ حَقُّ الطَّالِبِ الَّذِي يَرُدُّ الْعَمَلَ فَإِنَّ الْمَضَرَّةَ تَلْحَقُهُ إذَا انْفَرَدَ زَرْعُهُ وَثَمَرَتُهُ كَمَا تَلْحَقُهُ حَالَ الِاشْتِرَاكِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً عَلَى مَا رَوَاهُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ.
(مَسْأَلَةٌ)
فَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآبِي فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الثَّلَاثَةِ إلَّا ضَرْبَ أَنَّهُ يَكُونُ بِالْمَاءِ كُلِّهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ شَرِيكُهُ بِمَا يُصِيبُهُ مِنْ النَّفَقَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَعْطَاهُ حِصَّتَهُ مِنْ النَّفَقَةِ فَقَدْ صَارَ مُنْفِقًا مَعَهُ، وَزَالَتْ الْعِلَّةُ الْمَانِعَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ إبَايَتُهُ مِنْ النَّفَقَةِ.
(فَرْعٌ)
فَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ قَدْ اغْتَلَّ مِنْهَا غَلَّةً كَثِيرَةً قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ حِصَّةَ الْآبِي مِمَّا أَنْفَقَ فَقَدْ رَوَى عِيسَى فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ فِي مَسْأَلَةِ الرَّحَا لِلْعَامِلِ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا أَنْفَقَ، وَمَا كَانَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يُنْفِقَ، وَيَكُونُ لِلْآبِي بِقَدْرِ مَا كَانَ بَقِيَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ، وَأَمَّا ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ مَرَّةً الْغَلَّةُ كُلُّهَا لِلْعَامِلِ دُونَ الْآبِي حَتَّى يُعْطِيَ قِيمَةَ مَا عَمِلَ قَالَ عِيسَى، وَبِهَذَا الْقَوْلِ رَأَيْت ابْنَ بَشِيرٍ يَحْكُمُ، وَبِهِ أَخَذَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الرَّحَا يُحَاصُّهُ بِمَا عَمِلَ فِيمَا أَنْفَقَ فَإِذَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ رَجَعَ الْآبِي فِي حَظِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ دِينَارٍ أَنَّ مِقْدَارَ مَا كَانَ بَقِيَ مِنْ مَنَافِعِ الرَّحَا مِنْ هِنْدٍ وَآلَةٍ لِأَصْبَغَ فِيهِ فَمَنْ اخْتَارَ الْعَمَلَ فَعَلَيْهِ بَاقِيهِ لِلْآبِي، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ لِلْعَامِلِ غَلَّتَهُ مَعَ حِصَّتِهِ مِمَّا بَقِيَ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ عِيسَى أَنَّ حِصَّةَ الْآبِي لَمْ يَكُنْ يَنْتَفِعُ بِهَا، وَلَا غَلَّةَ لَهَا إلَّا بِمَا عَمِلَهُ الْعَامِلُ فَكَانَتْ غَلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ لِلْعَامِلِ حَتَّى يُعْطِيَهُ الْآبِي حِصَّتَهُ مِنْ النَّفَقَةِ كَرَقَبَةِ الْعَيْنِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي لِابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الرَّحَا
(5/123)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ وَإِذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ كُلُّهَا وَالْمُؤْنَةُ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الدَّاخِلِ فِي الْمَالِ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ يَعْمَلُ بِيَدِهِ إنَّمَا هُوَ أَجِيرٌ بِبَعْضِ الثَّمَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ إجَارَتُهُ إذَا لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا يَعْرِفُهُ، وَيَعْمَلُ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي أَيَقِلُّ ذَلِكَ أَمْ يَكْثُرُ قَالَ مَالِكٌ وَكُلُّ مُقَارِضٍ أَوْ مُسَاقٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ الْمَالِ، وَلَا مِنْ النَّخْلِ شَيْئًا دُونَ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ لَهُ أَجِيرًا بِذَلِكَ يَقُولُ أُسَاقِيك عَلَى أَنْ تَعْمَلَ لِي فِي كَذَا وَكَذَا نَخْلَةً تَسْقِيهَا، وَتَأْبُرُهَا، وَأُقَارِضُك فِي كَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَالْعَيْنَ بَاقِيَانِ عَلَى مِلْكِ الْآبِي حِصَّتُهُ مِنْهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ غَلَّتِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَا أَنْفَقَهُ الْعَامِلُ فِي ذَلِكَ إذَا قُلْنَا بِقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ دِينَارٍ، وَاخْتِيَارُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ فَإِنَّ الَّذِي يَرُدُّ سَلَفًا لَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ سَلَفُهُ رَجَعَ الْآبِي إلَى اسْتِيفَائِهِ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ دِينَارٍ، وَاخْتِيَارِ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ فَإِنَّ الَّذِي يَرُدُّ الْآبِي إلَى الْعَامِلِ مَا يَنُوبُهُ مِنْ قِيمَةِ الْعَمَلِ يَوْمَ يَدْخُلُ مَعَهُ لَا يَوْمَ عَمَلِهِ، وَلَا مَا يَنُوبُهُ مِنْ النَّفَقَةِ الَّتِي أَنْفَقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحِدْثَانِهِ قَالَهُ عِيسَى، وَوَجْهُ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ لَهُ فَإِنَّ لِلْآبِي الرُّجُوعَ لِأَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ لَهُ رِقْبَته وَغَلَّته هـ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ رَقَبَتَهُ وَغَلَّتَهُ لِلْعَامِلِ كَانَتَا فَكَانَ لَهُ الزِّيَادَةُ، وَعَلَيْهِ النَّقْصُ.
(فَرْعٌ)
وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ الثَّانِي فَيَجِبُ أَنْ يَرُدَّ مَا أَنْفَقَ فِي الْبُنْيَانِ عَلَى وَجْهِ السَّدِّ لَهُ لِأَنَّ الْآبِيَ يُحْتَسَبُ لَهُ بِغَلَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَيَجِبُ أَنْ تَلْزَمُهُ تِلْكَ النَّفَقَةُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا غَبْنٌ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِذَا غَارَ مَاءُ عَيْنِ الْمُسَاقِي فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فَإِنْ انْقَطَعَ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَقَبْلَ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ فَإِنْ أَنْفَقَ الْعَامِلُ عَلَى سَدِّهَا فَلَا شَيْءَ لَهُ فِيمَا أَنْفَقَ إلَّا مَا لِلْمُتَعَدِّي مِنْ النَّقْصِ، وَلَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَمَلِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ إنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ فَسَّرَهُ تَفْسِيرًا حَسَنًا فَقَالَ يَتَوَخَّى قَدْرَ مَا لِرَبِّ الْحَائِطِ مِنْ الثَّمَرَةِ بَعْدَ طَرْحِ مُؤْنَتِهِ فِيهَا إلَى وَقْتِ بَيْعِهَا يَتَكَلَّفُ أَنْ يُعَجِّلَ ذَلِكَ، وَيُنْفِقَهُ فَإِنْ أَعْدَمَ قِيلَ لِلْعَامِلِ أَنْفِقْ ذَلِكَ الْقَدْرَ، وَتَكُونُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَرِ رَهْنًا بِيَدِك فَذَلِكَ، وَإِلَّا فَيُسَلِّمُ الْحَائِطَ إلَى رَبِّهِ، وَلَا شَيْءَ لَك، وَلَا لَهُ عَلَيْك.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ اكْتَرَى أَرْضًا سِنِينَ لِيَزْرَعَهَا فَانْهَارَتْ بِئْرُهَا أَوْ غَارَ مَاؤُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا زَرْعٌ انْفَسَخَ الْكِرَاءُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ فِيهَا شَيْئًا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مَانِعٌ طَرَأَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَمَلِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ إصْلَاحُهَا لِأَنَّهُ لَا يَتَلَافَى بِذَلِكَ شَيْئًا، وَهِيَ لِلْمُكْتَرِي، وَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ فِيهَا زَرْعٌ، وَإِنَّ الَّذِي يَلْزَمُ أَنْ يُنْفِقَ فِيهَا كِرَاءَ تِلْكَ السَّنَةِ دُونَ سَائِرِ السِّنِينَ يُقَوَّمُ ذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَتْ قِيَمُ السِّنِينَ أَوْ عَلَى السَّوَاءِ إنْ تَسَاوَتْ فَإِنْ كَانَ الْمُكْتَرِي لَمْ يَنْقُدْ الْكِرَاءَ أَنْفَقَ فِي إصْلَاحِ ذَلِكَ كِرَاءَ تِلْكَ السَّنَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ نَقَدَهُ فَعَلَى رَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُنْفِقَهُ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَفْلَسَ قِيلَ لِلْمُكْتَرِي أَنْفِقْهُ سَلَفًا مِنْ عِنْدِك لَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ أَكْثَرَ مِنْ كِرَاءِ سَنَةٍ لِأَنَّ السَّنَةَ الْبَاقِيَةَ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا شَيْئًا فَلَمْ يَلْزَمْ إنْفَاقُ كِرَائِهَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ كِرَاءُ السَّنَةِ الَّتِي قَدْ زَرَعَ فِيهَا لِيُحْيِيَ زَرْعَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا أُعْطِيَ الْأَوَّلُ الْمَاءَ كُلَّهُ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ، وَلَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا بِعَمَلِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَمَلِ مِنْ النَّفَقَةِ شَيْءٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ الْمَاءَ كُلَّهُ مَا اسْتَقَرَّ بِعَمَلِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَمِيعَ مَاءِ الْعَيْنِ مَا بَقِيَ مِنْهُ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَمَا زَادَ بِالْعَمَلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا بَقِيَ مِنْهُ لَا يُوصِلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ لِقِلَّتِهِ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْمَاءِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ انْقَطَعَ مَاءُ الْعَيْنِ، وَهَذَا إنَّمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ذَهَابِ جَمِيعِهِ، وَقَالَ إنَّ مَا قَضَى بِالْمَاءِ كُلِّهِ لِلْعَامِلِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ يُرِيدُ أَنَّ بِنَفَقَتِهِ عَادَ الْمَاءُ مَعَ إنْفَاقِهِ عَلَى وَجْهٍ لَوْ لَمْ يَعُدْ الْمَاءُ بِنَفَقَتِهِ لَانْفَرَدَ بِالْخَسَارَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْآبِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي انْفِرَادَهُ بِضَمَانِ النَّفَقَةِ، وَالْعِلَّةُ تَمْنَعُ الضَّمَانَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِالْمَاءِ حَتَّى يُشَارِكَهُ الْآخَرُ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُبَدِّلَ لَهُ حِصَّتَهُ مِنْ النَّفَقَةِ فَيَعُودَ إلَى حِصَّتِهِ مِنْ الْمَاءِ لِمِلْكِهِ لِلْأَصْلِ.
(5/124)
وَكَذَا مِنْ الْمَالِ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ لِي بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ لَيْسَتْ مِمَّا أُقَارِضُك عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي وَلَا يَصْلُحُ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(ش) : قَوْلُهُ إنَّمَا قَالَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ وَالْمُؤْنَةُ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَكُونُ أَجِيرًا لِأَنَّ الْمُكَافَأَةَ إنَّمَا هِيَ مِنْ جَنْبَةِ الْعَامِلِ بِعَمَلٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِنَمَاءِ الثَّمَرَةِ، وَيَبْقَى لَهُ فِي الْأَصْلِ بَعْدَ جَدِّ الثَّمَرَةِ عَيْنٌ ثَابِتَةٌ لِيَنْتَفِعَ بِهَا، وَكُلُّ بُقْعَةٍ فِي الْحَائِطِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الدَّوَابِّ وَالرَّقِيقِ نَوْعٌ مِنْ الْإِجَارَةِ عَلَى عَمَلِهِمْ فِي الْحَائِطِ فَإِذَا اُشْتُرِطَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ فَقَدْ شَرَطَ عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي الْقِرَاضِ لِأَنَّ الْقِرَاضَ أَصْلٌ لِلْمُسَاقَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
1 -
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ إجَارَتُهُ مَعْنَاهُ إنَّهُ إذَا خَرَجَ عَنْ شَبَهِ الْمُسَاقَاةِ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ الَّتِي يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا جَمِيعُ الْعَمَلِ عَلَى الْعَامِلِ، وَبَعْضُهُ، وَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْإِنْفَاقِ أَوْ بَعْضُهُ لَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْإِجَارَةِ الْمَعْلُومَةِ الْمُقَدَّرَةِ، وَالْمُسَاقَاةُ إنَّمَا تَنْعَقِدُ بِجُزْءٍ مَذْكُورٍ أَوْ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ، وَهُوَ قَدْرٌ مَجْهُولٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ عَلَى أَوْسُقٍ مُقَدَّرَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ نَعْلَمُهُ فَمَا أَفْسَدَ الْإِجَارَةَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّحَ الْمُسَاقَاةَ، وَمَا صَحَّحَ الْمُسَاقَاةَ أَفْسَدَ الْإِجَارَةَ.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ سُنَّةَ الْمُسَاقَاةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَامِلِ جَمِيعُ الْعَمَلِ، وَجَمِيعُ الْمُؤْنَةِ وَالنَّفَقَةِ وَالْأُجَرَاءِ وَالدَّوَابِّ وَالدِّلَاءِ وَالْحِبَالِ وَالْآلَاتِ مِنْ حَدِيدٍ، وَغَيْرِهِ لَا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَائِطِ يَوْمَ السِّقَاءِ فَيَسْتَعِينُ بِهِ الْعَامِلُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ قَالَهُ فِي الْوَاضِحَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَآلِ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلِّهَا إلَى الْعَمَلِ، وَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْعَامِلِ.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَمَلَ يَكُونُ مَعْلُومًا فَمَا كَانَ لَهُ عُرْفٌ قَامَ مَقَامَ الْوَصْفِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُرْفٌ فَلَا بُدَّ مِنْ وَصْفِهِ مِنْ عَدَدِ الْحَرْثِ وَالسَّقْيِ، وَسَائِرِ الْعَمَلِ فَإِنْ قَصَرَ عَمَّا شَرَطَ عَلَيْهِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ سَحْنُونٍ فِيمَنْ سَاقَى حَائِطَهُ عَلَى أَنْ يَحْرُثَهُ ثَلَاثَ حَرْثَاتٍ فَيَحْرُثَهُ حَرْثَتَيْنِ قَالَ يَنْظُرُ جَمِيعَ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ مِنْ حَرْثٍ وَسَقْيٍ وَقَطْعٍ وَجَنْيٍ فَيَنْظُرُ مَا عَمِلَ هُوَ مِمَّا تَرَكَ فَإِنْ كَانَ تَرَكَ الثُّلُثَ حُطَّ ثُلُثُ نَصِيبِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الثَّمَرَةِ فِي مُقَابَلَةِ جَمِيعِ الْعَمَلِ فَإِذَا تَرَكَ بَعْضَهُ حُطَّ مِنْ الْعِوَضِ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ مِنْهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ كَانَ مَا تَرَكَ مِنْ الْعَمَلِ قَدْ وُجِدَ لَهُ بَدَلٌ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ السَّقْيِ فَيُغْنِيَ عَنْ ذَلِكَ الْمَطَرُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُحَاسِبُهُ رَبُّ الْحَائِطِ بِذَلِكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى أَنْ يَسْقِيَ الْحَائِطَ مَا احْتَاجَ مِنْ السَّقْي، وَلَا يُقَدَّرُ ذَلِكَ بِعَدَدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، وَإِذَا سَقَاهُ الْمَطَرُ أَوْ السَّيْلُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى سَقْيٍ آخَرَ.
(فَرْعٌ)
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْأُجَرَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ أُجَرَاءُ اسْتَأْنَفَ الْعَامِلُ اسْتِئْجَارَهُمْ، وَأُجَرَاءُ كَانُوا فِي الْحَائِطِ يَوْمَ الْمُسَاقَاةِ فَأَمَّا مَنْ اسْتَأْنَفَ الْعَامِلُ اسْتِئْجَارَهُمْ فَإِنَّ أُجْرَتَهُمْ عَلَى الْعَامِلِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِ يَوْمَ الْمُسَاقَاةِ فَإِنَّ أُجْرَتَهُمْ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ أُجْرَتِهِمْ عَلَى الْعَامِلِ بِخِلَافِ نَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ عَلَى الْعَامِلِ قَالَهُ فِي الْوَاضِحَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَعَلَى الْعَامِلِ رَمُّ قَصَبَةِ الْبِئْرِ وَحِبَالِهِ وَقَوَادِيسِهِ، وَمُؤْنَةُ الْمَاءِ وَالْحَدِيدُ لِعَمَلِهِ فَإِذَا انْقَضَى عَمَلُهُ كَانَ ذَلِكَ لَهُ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ مَعَانٍ تَتَكَرَّرُ، وَكَذَلِكَ مَا يَعْمَلُ بِهِ مِنْ الْحَدِيدِ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ إصْلَاحُهُ، وَهُوَ مِنْ الْآلَاتِ الْمَوْصُوفَةِ فِي الْعَمَلِ، وَكَانَتْ مِنْ الَّذِي يَلْزَمُ الْعَامِلَ، وَمَا كَانَ عَمَلًا ثَابِتًا كَالْبِنَاءِ الَّذِي يَبْقَى، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ مَرَّةً لِخَرَابٍ طَرَأَ عَلَيْهِ أَوْ لِاسْتِئْنَافِ عَمَلٍ فَذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ فَهِيَ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَعَلَى الْعَامِلِ فِي الثَّمَرِ جِدَادُهُ بَعْدَ أَنْ يُثْمِرَ، وَفِي التِّينِ وَالْكَرْمِ قِطَافُهُ، وَتَيْبِيسُهُ فِي مُسَاقَاةِ الزَّرْعِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ حَصَادُ الزَّرْعِ، وَدَرْسُهُ عَلَى الْعَامِلِ قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَلَى الْعَامِلِ تَهْذِيبُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَلْزَمُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى حَالِ اسْتِقَامَةٍ، وَالصِّفَةُ الَّتِي يُدَّخَرُ عَلَيْهَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ، وَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى الْعَامِلِ عَصْرُهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ غَالِبُ عَمَلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ قَالَ سَحْنُونٌ، وَمُنْتَهَى عَمَلِهِ
(5/125)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ وَالسُّنَّةُ فِي الْمُسَاقَاةِ الَّتِي يَجُوزُ لِرَبِّ الْحَائِطِ أَنْ يَشْتَرِطَهَا عَلَى الْمُسَاقِي شَدُّ الْحِظَارِ، وَخَمُّ الْعَيْنِ وَسَرْوُ الشَّرَبِ وَإِبَارُ النَّخْلِ وَقَطْعُ الْجَرِيدِ وَجَذُّ الثَّمَرِ هَذَا، وَأَشْبَاهُهُ عَلَى أَنَّ لِلْمُسَاقِي شَطْرَ الثَّمَرِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ إذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْأَصْلِ لَا يَشْتَرِطُ ابْتِدَاءً عَمَلَ جَدِيدٍ يُحْدِثُهُ فِيهَا مِنْ بِئْرٍ يَحْتَفِرُهَا أَوْ عَيْنٍ يَرْفَعُ رَأْسَهَا أَوْ غِرَاسٍ يَغْرِسُهُ فِيهَا يَأْتِي بِأَصْلِ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ ضَفِيرَةٍ يَبْنِيهَا تَعْظُمُ فِيهَا نَفَقَتُهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ رَبُّ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ مِنْ النَّاسِ ابْنِ لِي هَاهُنَا بَيْتًا أَوْ احْفِرْ لِي بِئْرًا أَوْ أَجْرِ لِي عَيْنًا أَوْ اعْمَلْ لِي عَمَلًا بِنِصْفِ ثَمَرِ حَائِطِي هَذَا قَبْلَ أَنْ يَطِيبَ ثَمَرُ الْحَائِطِ، وَيَحِلَّ بَيْعُهُ فَهَذَا بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ.
وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» قَالَ مَالِكٌ فَأَمَّا إذَا طَابَ الثَّمَرُ وَبَدَا صَلَاحُهُ، وَحَلَّ بَيْعُهُ ثُمَّ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ اعْمَلْ لِي بَعْضَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لِعَمَلٍ يُسَمِّيهِ لَهُ بِنِصْفِ ثَمَرِ حَائِطِي هَذَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ بِشَيْءٍ مَعْرُوفٍ مَعْلُومٍ قَدْ رَآهُ، وَرَضِيَهُ فَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَائِطِ ثَمَرٌ أَقَلَّ ثَمَرُهُ أَوْ فَسَدَ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يُسْتَأْجَرُ إلَّا بِشَيْءٍ مُسَمًّى لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ إلَّا بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْإِجَارَةُ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ إنَّمَا يَشْتَرِي مِنْهُ عَمَلَهُ، وَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ إذَا دَخَلَهُ الْغَرَرُ لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» )
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فِيهِ جَنْيُهُ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ إنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَى أَحَدٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ إنَّ جَنَاهُ صَبْرُهُ عَلَى صِفَةٍ تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ، وَيُدَّخَرُ عَلَيْهَا غَالِبًا.
(ش) : قَوْلُهُ مِمَّا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ شَدُّ الْحِظَارِ، وَالْحِظَارُ هُوَ مَا يُحْظَرُ بِهِ عَلَى الْحَظِيرَةِ، وَهُوَ الْحَائِطُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الزَّرْبَ فَمَا اثْتَلَمَ مِنْهُ جَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ سَدُّ ذَلِكَ الثُّلْمِ، وَيُرْوَى سَدُّ الْحِظَارِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَسْتَرْخِيَ رِبَاطُهُ فَيَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ شَدَّهُ، وَخُمُّ الْعَيْنِ تَنْقِيَتُهَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَهُوَ كَنْسُهَا وَسَرْوُ الشَّرَبِ هُوَ الْكَنْسُ وَالشَّرَبُ الْحَوْضُ حَوْلَ النَّخْلَةِ وَالشَّجَرَةِ لِيَبْقَى فِيهِ الْمَاءُ بَعْدَ السَّقْيِ قَالَ زُهَيْرٌ
يَخْرُجْنَ مِنْ شَرَبَاتٍ مَاؤُهَا طُحُلٌ ... عَلَى الْجَزُوعِ يَخَفْنَ الْغَمَّ وَالْغَرْقَا
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي يُنْمِي الثَّمَرَةَ، وَيُوَصِّلُ إلَى صَلَاحِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ فِي سَرْوِ الشَّرَبِ سَوْقُ الشَّرَبِ، وَهُوَ جَلْبُ الْمَاءِ الَّذِي يُسْقَى بِهِ مِنْ مُسْتَقَرِّهِ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُسْقَى بِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ سَرْوُ الشَّرَبِ تَنْقِيَةُ الْحِيَاضِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الشَّجَرِ وَتَحْصِينُ حُرُوفِهَا وَمَجِيءِ الْمَاءِ إلَيْهَا، وَزَمُّ الْقُفِّ، وَهُوَ الْحَوْضُ الَّذِي يُفْرَغُ فِيهِ الدَّلْوُ، وَيَجْرِي مِنْهُ إلَى الضَّفِيرَةِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ أَنَّ سَرْوَ الشَّرَبِ عَلَى الْعَامِلِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا خَمُّ الْعَيْنِ، وَزَمُّ الْقُفِّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ إصْلَاحَ الْقُفِّ قَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ حَرْفُ الْقُفِّ وَإِصْلَاحُ كَفِّ الزَّرْنُوقِ قِيمَتُهُ الدُّرَيْهِمَاتُ أَوْ الدِّينَارُ، وَهُوَ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ إنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَامِلِ إصْلَاحُ كَسْرِ الزَّرْنُوقِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى صِلَةٍ لَهَا قِيمَةٌ وَثَمَنٌ كَبِيرٌ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ عَصْرَ الزَّيْتُونِ رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَصْرُ الزَّيْتُونِ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَفَسَّرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ بِأَنَّهُ إنْ شَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُقَاسِمَهُ الزَّيْتُونَ جَازَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ عَصْرَ حِصَّةِ الْعَامِلِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ لِأَنَّهُ مُنْتَهٍ كَالْجِدَادِ لِأَنَّ
(5/126)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مُعْظَمَ مَا يُدَّخَرُ بَعْدَ الْعَصْرِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ الزَّكَاةَ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مَعْلُومٌ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ رَبِّ الْحَائِطِ الزَّكَاةَ عَلَى الْعَامِلِ فِي حِصَّتِهِ فَأُجِيزَ، وَكُرِهَ وَإِجَازَتُهُ أَحَبُّ إلَيَّ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَحَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنِ الْجَلَّابِ، وَعَنْ الْمَذْهَبِ جَوَازُهُ بَلَغَ الْحَائِطُ الزَّكَاةَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ لِي مَالِكٌ يَجُوزُ فِي اشْتِرَاطِهِ عَلَى الْعَامِلِ، وَهَذَا عِنْدِي مِثْلُهُ وَجْهُ جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ فِي اشْتِرَاطِهِ عَلَى الْعَامِلِ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَطَهُ عَلَى الْعَامِلِ فَقَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ خَمْسَةَ أَجْزَاءٍ، وَلِلْعَامِلِ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَطَهُ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِهِ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ، وَمَنْعُ اشْتِرَاطِهِ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ.
(فَرْعٌ)
فَإِنْ شَرَطَهُ عَلَى الْعَامِلِ، وَلَمْ يَبْلُغْ ثَمَرُ الْحَائِطِ الزَّكَاةَ فَلِرَبِّ الْمَالِ مِنْ حِصَّةِ الْعَامِلِ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْجَمِيعِ أَوْ نِصْفُ عُشْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ يَقْتَسِمَانِ الثَّمَرَةَ عَلَى تِسْعَةِ أَجْزَاءٍ لِلْعَامِلِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الْحَائِطِ خَمْسَةٌ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ يَقْسِمُ الثَّمَرَةَ عَشَرَةَ أَقْسَامٍ لِلْعَامِلِ أَرْبَعَةٌ، وَلِصَاحِبِ الْحَائِطِ خَمْسَةٌ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْجُزْءَ الثَّانِيَ بَيْنَهُمَا بِنِصْفَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ حَمْلَ نَصِيبِهِ إلَى مَنْزِلِهِ وَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الْقُرْبِ عَلَى مِيلٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ لَيْسَ عَلَيْهِ مُؤْنَةٌ رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَالَهُ أَصْبَغُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَرَطَ زِيَادَةً عَلَى الْعَامِلِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ مَالًا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا إبَارُ النَّخْلِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَغَيْرُهُ هُوَ تَذْكِيرُهَا فَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ التَّلْقِيحُ عَلَى الْعَامِلِ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ جَمِيعُ عَمَلِ الْحَائِطِ عَلَى الْعَامِلِ، وَكَذَلِكَ الْجِدَادُ.
1 -
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ شَطْرَ الثَّمَرِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ إذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ يُرِيدُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ جَائِزَةٌ عَلَى أَيِّ جُزْءٍ اتَّفَقَا عَلَيْهِ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ جَمِيعُ الثَّمَرَةِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى تَجْوِيزِ الْقِرَاضِ عَلَى جَمِيعِ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَلَى صَاحِبِ الْأَصْلِ ابْتِدَاءً عَمَلٌ جَدِيدٌ مِنْ بِئْرٍ يَحْفِرُهَا أَوْ عَيْنٍ يَرْفَعُ رَأْسَهَا يُرِيدُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ لِانْخِفَاضِهَا لَا يَصِلُ مَاؤُهَا حَيْثُ يُرِيدُ فَيَبْنِي حَوَالَيْهَا بُنْيَانًا يَرْفَعُهُ فَيَصِلُ مِنْ أَعْلَى ذَلِكَ الْبُنَيَّانِ إلَى حَيْثُ يُرِيدُهُ قَالَ أَوْ غِرَاسٍ يَغْرِسُهُ يَأْتِي بِهِ مِنْ عِنْدِهِ مَعْنَاهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ غَرْسًا يَأْتِي بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَيَغْرِسُهُ فِي أَرْضِهِ وَحَائِطِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَ يَسِيرًا أَجَزْت الْمُسَاقَاةَ، وَأَبْطَلْت الشَّرْطَ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يَجُزْ قَالَ مَالِكٌ، وَلَوْ شُرِطَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَقَطْ، وَيَكُونُ أَصْلُ الْغَرْسِ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِ الْحَائِطِ فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا تَعْظُمُ فِيهِ النَّفَقَةُ فَجَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يَجُزْ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أُجِيزَ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ قَالَ عِيسَى إنْ كَانَ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ مِنْ الْعَمَلِ دُونَ الْأَصْلِ رُدَّ إلَى مُسَاقَاةِ مِثْلِهِ، وَلَوْ أَتَى الْعَامِلُ بِالْوُدِّيِّ لَرُدَّ إلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَيُعْطَى قِيمَةُ غَرْسِهِ مَقْلُوعًا كَمَا لَوْ جَاءَ بِهِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ أَوْ ظَفِيرَةٍ يَبْنِيهَا يَعْظُمُ فِيهَا النَّفَقَةُ الظَّفِيرَةُ مَحْبِسُ الْمَاءِ كَالصِّهْرِيجِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ النَّفَقَةَ فِيهَا لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا إلَّا إصْلَاحٌ يَسِيرٌ كَجَبْرِ بَعْضِ حُرُوفِهَا جَازَ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ، وَالْمُسَاقَاةُ بَيْنَهُ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْعَمَلِ مِمَّا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الثَّمَرَةُ، وَيَبْقَى بَعْدَ الْجِدَادِ مِمَّا يَلْزَمُ رَبَّ الْحَائِطِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ يَسِيرِهِ عَلَى الْعَامِلِ، وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ كَثِيرِهِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الثَّمَرَةُ فَهُوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٍ فِيهِ مُجَرَّدُ الْعَمَلِ، وَقِسْمٍ يَأْتِي الْعَمَلُ بِعَيْنِهِ فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْعَمَلِ فَقَدْ جَوَّزَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ يَسِيرَهُ، وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِالْمَنْعِ فَمَنَعَ مِنْهُ مَالِكٌ، وَجَوَّزَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ لِأَجْنَبِيٍّ احْفِرْ لِي بِئْرًا أَوْ احْفِرْ لِي عَيْنًا بِنِصْفِ ثَمَرَةِ حَائِطِي
(5/127)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ وَالسُّنَّةُ فِي الْمُسَاقَاةِ عِنْدَنَا أَنَّهَا تَكُونُ فِي كُلِّ أَصْلٍ نَخْلٍ أَوْ كَرْمٍ أَوْ زَيْتُونٍ أَوْ تِينٍ أَوْ رُمَّانٍ أَوْ فِرْسِكٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ نِصْفَ الثَّمَرِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ رُبْعَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ قَالَ مَالِكٌ وَالْمُسَاقَاةُ أَيْضًا تَجُوزُ فِي الزَّرْعِ إذَا خَرَجَ وَاسْتَقَلَّ فَعَجَزَ صَاحِبُهُ عَنْ سَقْيِهِ وَعَمَلِهِ وَعِلَاجِهِ فَالْمُسَاقَاةُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا جَائِزَةٌ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» مَعْنَاهُ أَنَّ عَمَلَ الْمُسَاقَاةِ مُخْتَصٌّ بِالثَّمَرَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَمَامِ الْمُسَاقَاةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إجَارَةً بِثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لَهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَدَا صَلَاحُهُ، وَحَلَّ بَيْعُهُ فَقَالَ لَهُ اعْمَلْ لِي بَعْضَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ لِعَمَلٍ مَعْرُوفٍ بِنِصْفِ هَذِهِ الثَّمَرَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا إجَارَةٌ بِشَيْءٍ مَعْرُوفٍ يُرِيدُ أَنَّهُ لَوْ بَدَا صَلَاحُهُ لَصَحَّتْ الْإِجَارَةُ بِهِ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الْبَاقِيَةُ بَعْدَ الثَّمَرَةِ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَيْهَا بِثَمَرَةٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَالْمُسَاقَاةُ تَجُوزُ فِي ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي أَعْمَالٍ تَبْقَى بَعْدَ الثَّمَرَةِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ لَهَا قِيمَةٌ، وَيُكَلَّفُ فِيهَا مُؤْنَةٌ، وَنَفَقَةٌ.
(ش) : قَوْلُهُ السُّنَّةُ عِنْدَنَا فِي الْمُسَاقَاةِ أَنَّهَا تَكُونُ فِي أَصْلِ كُلِّ نَخْلٍ أَوْ كَرْمٍ أَوْ زَيْتُونٍ أَوْ تِينٍ أَوْ فِرْسِكٍ يُرِيدُ الْخَوْخَ قَالَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ إلَّا فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا شَجَرٌ مُثْمِرٌ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فَجَازَتْ الْمُسَاقَاةُ فِيهِ كَالنَّخْلِ وَالْكَرْمِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِذَا كَانَتْ الثِّمَارُ بَعْلًا لَا تُسْقَى، وَإِنَّمَا فِيهَا مِنْ الْعَمَلِ الْحَرْثُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مُسَاقَاتُهَا جَائِزَةٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَرْثَ عَمَلٌ تَزْكُو بِهِ الثِّمَارُ، وَلَا تَزْكُو دُونَهُ فَجَازَتْ الْمُسَاقَاةُ عَلَى عَمَلِهِ كَالسَّقْيِ.
وَقَالَ فِي الْوَاضِحَةِ تَجُوزُ مُسَاقَاةُ شَجَرِ الْبَعْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَمَلٌ وَلَا مُؤْنَةٌ لِأَنَّ لَهَا حِرَاسَةً وَجِدَادًا فَجَعَلَ الْمُسَاقَاةَ فِيمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحَرْثِ، وَصَحَّحَ الْمُسَاقَاةَ بِالْحِرَاسَةِ وَالْجِدَادِ، وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ فِي الزَّرْعِ.
(فَرْعٌ)
وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ، وَكَذَلِكَ الشَّجَرُ كُلُّهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا جَاءَ فِي كَثِيرِ الْجِنْسِ جَازَ فِي قَلِيلِهِ كَالْإِجَارَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَاخْتُلِفَ فِي مُسَاقَاةِ الْمَرْسِينِ، وَهُوَ الرَّيْحَانُ يُرِيدُ الْآسَ فَأَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ قَالَهُ أَصْبَغُ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ ثُمَّ أَجَازَهُ، وَثَبَتَ عَلَى إجَازَتِهِ، وَاخْتَارَ مُحَمَّدٌ مَنْعَهُ قَالَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَالْمَوْزِ وَالْقَصَبِ إلَّا أَنْ تَكُونَ أَشْجَارُهُ ثَابِتَةً، وَإِنَّمَا تُقْطَعُ مِنْهَا أَغْصَانُهَا الثَّابِتَةُ كَالسِّدْرَةِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قِيلَ إنَّ أُصُولَهُ تَعْظُمُ، وَتُقِيمُ السَّنَتَيْنِ، وَيُجَدُّ الشِّتَاءَ وَالصَّيْفَ، وَلَيْسَ لَهُ إبَّانٌ فَيُجَدُّ ثُمَّ يَنْقَطِعُ فَإِذَا كَانَ يُجَدُّ هَكَذَا كُلَّ وَقْتٍ لَمْ تَجُزْ مُسَاقَاتُهُ لِأَنَّهُ يَحِلُّ بَيْعُهُ إذَا بَدَا أَوَّلُهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَتَجُوزُ مُسَاقَاةِ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْقُطْنِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ زَادَ ابْنُ الْمَوَّازِ فِي الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ، وَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ صَاحِبُهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ لِهَذِهِ أَصْلًا بَاقِيًا وَسَاقًا ثَابِتًا فَصَحَّتْ الْمُسَاقَاةُ فِيهِ دُونَ عَجْزٍ عَنْ الشَّجَرِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
فَأَمَّا مُسَاقَاةُ الزَّرْعِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ تَجُوزُ مُسَاقَاةُ الزَّرْعِ إذَا اسْتَقَلَّ عَنْ الْأَرْضِ، وَعَجَزَ عَنْهُ صَاحِبُهُ فَإِنْ لَمْ يَنْبُتْ بَعْدُ لَمْ تَجُزْ مُسَاقَاتُهُ لِأَنَّهُ بَذْرٌ ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَمَّنْ لَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ سَوَاءٌ عَجَزَ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَعْجِزْ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ بَعْدُ، وَإِنَّمَا هُوَ بَذْرٌ قَالَ فَإِنْ وَقَعَ فَالزَّرْعُ لِصَاحِبِهِ، وَلِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِذَا طَلَعَ وَعَجَزَ عَنْهُ صَاحِبُهُ جَازَتْ الْمُسَاقَاةُ فِيهِ فَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَوْ لَمْ يَسْتَقِلَّ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِيهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الزَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ صَاحِبُهُ قَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ أَيْ لَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الزَّرْعِ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الزَّرْعَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ، وَمُدَّةُ الْعَمَلِ فِيهِ يَسِيرَةٌ، وَالنَّخْلُ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ، وَيُسْتَدَامُ الْعَمَلُ فِيهَا أَبَدًا، وَإِلَّا تَلِفَتْ فَدَوَامُ الْعَمَلِ فِيهَا يَقُومُ مَقَامَ الْعَجْزِ عَنْهَا لِأَنَّ الزَّرْعَ إنَّمَا يَسْتَدِيمُ الْعَمَلُ فِيهِ مُدَّةً يَسِيرَةً إنْ شَاءَ تَرَكَ الْأَرْضَ أَوْ أَخَّرَهَا، وَلَمْ يَتَكَلَّفْ تَعَبًا، وَلَا عَمَلًا فِيهَا فَلِذَلِكَ
(5/128)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
اخْتَصَّتْ الْمُسَاقَاةُ بِالشَّجَرِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَلَمْ تَجُزْ فِي الزَّرْعِ لِهَذَا الْمَعْنَى لِعَدَمِهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ فِيهِ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ أَنَّ مَا جَازَتْ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ جَازَتْ لِغَيْرِ الْعَجْزِ كَالنَّخْلِ.
(فَرْعٌ)
وَمَعْنَى الْعَجْزِ عَنْ الزَّرْعِ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ عَمَلِهِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ أَوْ يَنْمُو أَوْ يَبْقَى فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاءٌ فَقَدْ يَكُونُ عَاجِزًا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْبَقَرِ وَالْأُجَرَاءِ قِيلَ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ سَيْحًا قَالَ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ عَاجِزٌ جَازَتْ الْمُسَاقَاةُ.
وَقَالَ فِي الْوَاضِحَةِ إذَا عَجَزَ صَاحِبُهُ عَنْ عَمَلِهِ، وَهُوَ يَعْمَلُ، وَلَهُ عَمَلٌ وَمُؤْنَةٌ إنْ تُرِكَ خِيفَ عَلَيْهِ التَّلَفُ جَازَتْ مُسَاقَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَمَلٌ وَلَا مُؤْنَةٌ وَلَا حِرَاسَةٌ، وَهُوَ يَعْمَلُ فَلَا تَجُوزُ مُسَاقَاتُهُ، وَأَمَّا الشَّجَرُ الْبَقْلُ فَتَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَمَلٌ وَلَا مُؤْنَةٌ لِأَنَّ لَهَا حِرَاسَةً وَجِدَادًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِثْلُهُ فِي الزَّرْعِ لِأَنَّ فِيهِ دِرَاسَةً وَحَصَادًا إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْحَصَادَ وَحْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْحِرَاسَةُ وَالنَّخْلُ يَحْتَاجُ إلَى حِرَاسَةٍ مُنْذُ يَصِيرُ بَلَحًا كَبِيرًا إلَى أَنْ يَصِيرَ تَمْرًا يَتَسَرَّعُ النَّاسُ إلَيْهِ وَالزَّرْعُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ إلَّا مَخَافَةَ الْمَوَاشِي، وَقَدْ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُهَا، وَأَمَّا الْحَرْثُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الزَّرْعِ، وَهُوَ إنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الشَّجَرِ فَقَدْ تَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ بَعْدَ أَنْ أَتَى بِذَلِكَ.
(فَرْعٌ)
فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَعْلًا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ إنْ كَانَ يَحْتَاجُ مِنْ الْمُؤْنَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ شَجَرُ الْبَقْلِ، وَإِنْ تُرِكَ خِيفَ أَنْ يَضِيعَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ مُؤْنَةٌ وَلَا عَمَلٌ فِيهِ لَمْ تَجُزْ مُسَاقَاتُهُ إنَّمَا يَقُولُ احْفَظْهُ لِي وَاحْصُدْهُ وَأَدْرُسُهُ لَك عَلَى أَنَّ لَك نِصْفَهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدِي لِأَنَّهَا أُجْرَةٌ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي الشَّجَرِ الْبَقْلِ لِلضَّرُورَةِ، وَهَذَا لَا ضَرُورَةَ فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ، وَفِي النَّخْلِ إذَا قَالَ لَهُ احْفَظْهُ لِي وَجُدَّهُ، وَلَك نِصْفُهُ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَيْهِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ لَا تَجُوزُ إلَّا فِي الْمَالِ الَّذِي لَا يَنْمُو إلَّا بِالْعَمَلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ لِمَنْفَعَتِهِ الْمَقْصُودَةِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَمَلُ يَلْزَمُ فِيهِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَشْجَارِ لِأَنَّهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ حَرْثٍ وَتَقْسِيمٍ وَسَدِّ حِظَارٍ مَعَ كَوْنِهَا مِنْ الْبَعْلِ، وَأَمَّا الزَّرْعُ فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْلَالِهِ عَنْ الْأَرْضِ فَإِنْ كَانَ بَعْلًا فَلَا يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى عَمَلٍ إلَى أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ، وَتِلْكَ حَالٌ لَا تَجُوزُ فِيهَا الْمُسَاقَاةُ مَعَ أَنَّ الزَّرْعَ تَقْصُرُ مُدَّتُهُ، وَلَا يُسْتَدَامُ الْعَمَلُ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَا كَانَ بِمَثَابَةِ الزَّرْعِ مِمَّا الْغَرَضُ فِي حَبِّهِ دُونَ بَقْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْكَمُّونِ.
وَقَدْ رَوَى سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الْعُصْفُرِ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكَمُّونِ إذْ لَيْسَ مِنْ شَجَرَةٍ بَاقِيَةٍ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ نُوَّارُهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا الْمَقَاثِي فَجَوَّزَ مَالِكٌ فِيهَا الْمُسَاقَاةَ كَالتِّينِ وَالْجُمَّيْزِ وَالْقُطْنِ وَالْمَقَاثِي، وَإِنْ كَانَ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ فَلَعَلَّ هَذَا الْجَوَازُ بِأَنَّ الثَّمَرَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُ، وَأَصْلُهُ ثَابِتٌ احْتِرَازٌ مِنْ الْقَصَبِ الْحُلْوِ وَالْمَوْزِ الَّذِي يَبْقَى لَهُ أَصْلٌ بَعْدَ أَخْذِ ثَمَرَتِهِ، وَكَذَلِكَ الزَّعْفَرَانُ وَالرَّيْحَانُ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَحْبَاقِ، وَالْبَقْلُ وَالْقَصَبُ وَالْقُرْطُ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْمُسَاقَاةَ فِيهِ، وَعَلَّلَ فِي الْوَاضِحَةِ تَجْوِيزَ الْمُسَاقَاةِ فِي الْمَقَاثِي لِتَفَاوُتِ طِيبِهَا يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ بُطُونَهَا لَا تَنْفَصِلُ، وَشَبَّهَهُ بِالتِّينِ الَّذِي يَطِيبُ بَعْضُهُ بَعْدَ بَعْضٍ قَالَ وَلَيْسَ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ كَالْقَصَبِ يُرِيدُ أَنَّهُ تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ كَتَمَيُّزِ بُطُونِ الْقَصَبِ وَالْمَوْزِ وَأَمَّا الْقُطْنُ فَإِنْ كَانَ يُزْرَعُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَقَاثِي وَالْعُصْفُرِ، وَإِنْ كَانَ يَبْقَى أَصْلُهُ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْعَادِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا الْمَوْزُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الْمَوْزِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ صَاحِبُهُ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ، وَكُلُّ مَا يُجَذُّ وَيَخْلُفُ مِثْلُ الْقَصَبِ وَالْمَوْزِ وَالْقُرْطِ، وَشَبَهِهِ مِنْ الْبُقُولِ لَا تَجُوزُ مُسَاقَاتُهُ، وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ اجْتَمَعَتْ فِيهِ مَعَانٍ مُؤَثِّرَةٌ فِي مَنْعِ الْمُسَاقَاةِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سَاقٌ كَالشَّجَرِ الَّذِي هُوَ أَصْلٌ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَلَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ الَّذِي إنَّمَا يُوجَدُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ إذَا
(5/129)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ لَا تَصْلُحُ الْمُسَاقَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُصُولِ مِمَّا تَحِلُّ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ إذَا كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ قَدْ طَابَ وَبَدَا صَلَاحُهُ وَحَلَّ بَيْعُهُ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَى مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَإِنَّمَا مُسَاقَاةُ مَا حَلَّ بَيْعُهُ مِنْ الثِّمَارِ إجَارَةٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَاقَى صَاحِبُ الْأَصْلِ ثَمَرًا قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ إيَّاهُ، وَيَجُذَّهُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ يُعْطِيهِ إيَّاهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْمُسَاقَاةِ إنَّمَا الْمُسَاقَاةُ مَا بَيْنَ أَنْ يُجَذَّ النَّخِيلُ إلَى أَنْ يَطِيبَ الثَّمَرُ، وَيَحِلَّ بَيْعُهُ قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ سَاقَى ثَمَرًا فِي أَصْلٍ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَيَحِلَّ بَيْعُهُ فَتِلْكَ الْمُسَاقَاةُ بِعَيْنِهَا جَائِزَةٌ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أُخِذَ لَمْ يَبْقَ أَصْلٌ يَخْلُفُ، وَالْمَوْزُ يَبْقَى لَهُ أَصْلٌ، وَهَذَا حُكْمُ مَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْزِ فِي ذَلِكَ كَالْقَصَبِ وَالْقَرَطِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
الْمُغْيِبَةُ كُلُّهَا مِمَّا لَا يُدَّخَرُ فَهُوَ كَالْبَقْلِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَهَذَا أَحَبُّ إلَيْنَا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَكَذَلِكَ الرَّيَاحِينُ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَا تَجُوزُ مُسَاقَاةٌ فِي الْبُقُولِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا بَدَا صَلَاحُهَا أَوَّلُهَا كَالْمَوْزِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَالْمَقَاثِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ نَبَاتٌ وَاحِدٌ يَتَقَارَبُ طِيبُهُ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَمَّا الزَّعْفَرَانُ وَالرَّيْحَانُ وَالْبَقْلُ وَالْقَصَبُ وَالْقَرَطُ فَلَا تَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، وَجَعَلَ قَصَبَ السُّكَّرِ كَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَرَآهُ اخْتِلَافًا مِنْ قَوْلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ الْبَقْلُ مِثْلُ الْفُجْلِ وَالْجَزَرِ وَاللُّفْتِ وَالْبَصَلِ، وَشَبَهِهِ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِيهِ إذَا ظَهَرَ مِنْ الْأَرْضِ، وَعَجَزَ صَاحِبُهُ مَا لَمْ يَنْتَهِ إلَى حَدٍّ يَجُوزُ بَيْعُهُ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الْبِطِّيخِ، وَالْأُصُولِ الْمُغَيَّبَةِ كُلِّهَا عَجَزَ عَنْهَا صَاحِبُهَا أَوْ لَمْ يَعْجِزْ فَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ لَا يُسَاقَى شَيْءٌ مِنْ الْبُقُولِ فَإِنْ عَنَى بِهِ الْكُزْبَرَ وَالْقَطَفَ وَالْخُضَرَ الَّتِي تُؤْكَلُ فَإِنَّ تِلْكَ إذَا اسْتَقَلَّتْ جَازَ بَيْعُهَا، وَإِلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَشَارَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ مَا ظَهَرَ مِنْ وَرِقِهِ دُونَ بَذْرٍ يَكُونُ فِيهِ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا مُسَاقَاةَ فِيهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْأُصُولِ الْمُغَيَّبَةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنْ لَا تَظْهَرَ مِنْ الْأَرْضِ، وَالْمُسَاقَاةُ مُخْتَصَّةٌ بِمَا كَانَ ظَاهِرًا عَلَى الْأَرْضِ، وَبِذَلِكَ يَخْتَصُّ السَّقْيُ بِالشَّجَرِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الزَّرْعِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ صَاحِبُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَظْهَرَ، وَوَجْهُ تَجْوِيزِ ابْنِ الْقَاسِمِ لَهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ أَصْلٌ، وَلِلْعَمَلِ فِيهِ غَايَةٌ يَنْتَهِي إلَيْهَا، وَتُنَالُ ثَمَرَتُهُ فِيهَا، وَلَا يَبْقَى لَهُ مَا يُجْلَبُ كَالزَّرْعِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَأَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ تَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ إذَا ظَهَرَ وَعَجَزَ عَنْهُ صَاحِبُهُ وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْوَاضِحَةِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ إنَّمَا تُؤْخَذُ ثَمَرَتُهُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ كَالزَّرْعِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ مِمَّا يُخْلِفُ أَصْلُهُ كَالْمَوْزِ وَالْقَصَبِ.
(ش) : قَوْلُهُ لَا تَحِلُّ الْمُسَاقَاةُ فِي شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ إذَا طَابَ ثَمَرُهُ وَحَلَّ بَيْعُهُ يُرِيدُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُ ثَمَرَتِهِ، وَيَحِلَّ بَيْعُهُ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَإِذَا حَلَّ بَيْعُهُ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ فَلَمْ تَجُزْ الْمُسَاقَاةُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَعْجِيلُ نَفْعِهِ بِبَيْعِهِ أَوْ بِالْإِجَارَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهُ جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِهِ، وَلِلْأَشْجَارِ أَحْوَالٌ حَالٌ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ فِيهَا ثَمَرَةٌ، وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ فِيهَا الْمُسَاقَاةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ خَيْبَرَ أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» فَعَقَدَ مُسَاقَاةً لِأَعْوَامٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ فِي النَّخْلِ حِينَئِذٍ ثَمَرَةٌ أَوْ لَا تَكُونَ فِيهَا ثَمَرَةٌ فَإِنْ كَانَ فِيهَا ثَمَرَةٌ فَقَدْ تَنَاوَلَ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مِنْ الْأَعْوَامِ، وَثَمَرَةُ تِلْكَ الْأَعْوَامِ مَعْدُومَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ الْعَامَ بَعْدُ ثَمَرَةٌ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ الْعَقْدُ عَامًا إلَّا وَثَمَرَتُهُ مَعْدُومَةٌ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ كَانَ فِيهَا ثَمَرَةٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا فَتِلْكَ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الْمُسَاقَاةُ دُونَ خِلَافٍ بَيْنَ مَنْ يَجُذُّهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا ثَمَرَةٌ قَدْ بَدَا صَلَاحُهَا فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ.
(فَرْعٌ)
فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُسَاقَاةُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ تَجُوزُ فِيهِ الْإِجَارَةُ، وَلَمْ تَجُزْ مُسَاقَاتُهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ فِي إزْهَاءِ الثَّمَرَةِ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَيُرْجَعُ إلَى الْمُسَاقَاةِ، وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ مَا لَمْ تَفُتْ، وَلَا يَكُونُ إجَارَةً، وَمَعْنَى الْإِجَارَةِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَتَضَمَّنُ أَنَّ
(5/130)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَلَى الدَّاخِلِ النَّفَقَةَ عَلَى رَقِيقِ الْحَائِطِ، وَجَمِيعَ مَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ مِنْ الْمُؤَنِ وَالنَّفَقَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا، وَلَا يَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِجَارَةِ، وَلَا تَبْطُلُ الْمُسَاقَاةُ فِيهِ لِأَنَّ مَا يُعْطَاهُ الْمُسَاقَى غَيْرُ مَكِيلٍ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ نِصْفِ ثَمَرِ حَائِطٍ وَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ بِهِ وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الْمُسَاقَاةَ فِي الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِيهِ كَاَلَّذِي يَبْدُو صَلَاحُهُ مِنْ التِّينِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَشْجَارِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ سَاقَى حَائِطًا قَدْ أَزْهَتْ ثَمَرَتُهُ لِهَذِهِ السَّنَةِ وَسِنِينَ بَعْدَهَا فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ يُفْسَخُ إنْ أُدْرِكَ قَبْلَ أَنْ تُجَدَّ الثَّمَرَةُ أَوْ بَعْدَمَا جَدَّهَا لِأَنَّهُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ لَهُ نَفَقَتُهُ الَّتِي أَنْفَقَ، وَعَمَلُ مِثْلِهِ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ النَّفَقَةُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَمَا أَنْفَقَ.
(فَرْعٌ)
وَإِنْ عَمِلَ فِي النَّخْلِ بَعْدَمَا جَدَّ الثَّمَرَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ السَّنَتَيْنِ كِلَيْهِمَا قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَقَالَ لِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ فِي الْحَائِطِ، وَالنَّخْلُ قَدْ يَنْقُصُ حَمْلُهَا فِي عَامٍ، وَيَزِيدُ فِي آخَرَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْعِبْ السَّنَتَيْنِ ظَلَمَ أَحَدَهُمَا، وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْمُسَاقَاةَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي يُرْجَعُ فِيهَا إلَى مُسَاقَاةِ الْمِثْلِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ مَا لَمْ يَعْمَلْ الْعَامِلُ فَإِذَا عَمِلَ لَمْ يُفْسَخْ، وَمَا يُرَدُّ إلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَيُفْسَخُ عَمِلَ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فَجَعَلَ الْفَوَاتَ بِابْتِدَاءِ الْعَمَلِ فِي وَقْتٍ تَصِحُّ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ أُدْرِكَ قَبْلَ مَجِيءِ ثَمَرَةِ قَابِلٍ فُسِخَ، وَأَخَذَ إجَارَةَ مِثْلِهِ وَنَفَقَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يُفْسَخْ حَتَّى أَتَتْ ثَمَرَةُ قَابِلٍ لَمْ يُفْسَخْ إلَى بَقِيَّةِ السَّنَتَيْنِ فَجَعَلَ الْفَوَاتَ بِظُهُورِ ثَمَرَةِ عَامٍ مِنْ أَعْوَامِ الْمُسَاقَاةِ، وَلَا يَلْزَمُ هَذَا فِي قَوْلِهِ إنَّهُ تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الثَّمَرَةِ الْمُزْهِيَةِ، وَتَكُونُ إجَارَةً لِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ عَقْدَ إجَارَةٍ، وَعَقْدَ مُسَاقَاةٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ ازْدِيَادٌ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْمُسَاقَاةِ، وَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ سَحْنُونٌ إذَا انْفَرَدَ، وَقَدْ قَالَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ فِي الْحَائِطِ تَكُونُ فِيهِ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ حَلَّ بَيْعُ بَعْضِهَا، وَلَمْ يَحِلَّ بَيْعُ سَائِرِهَا فَجَمَعَ ذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ قَالَ وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَزْهَى فِي الْحَائِطِ الْأَقَلَّ جَازَتْ، وَإِنْ كَثُرَ لَمْ يَجُزْ فِيهِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ جَمْعُ الْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِ سَحْنُونٍ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ فِيمَا قَدْ أَزْهَى مِنْ الثَّمَرَةِ فَاسِدٌ فَفَسَدَ مَا قَارَبَهُ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَى فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ وُقُوعَ الْعَقْدِ بَعْدَ جَدِّ الثَّمَرَةِ الَّتِي أَزْهَتْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَعْقِدَ لِأَنَّ الْعَقْدَ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَكُونُ أَوَّلُهُ بَعْدَ الْجِدَادِ لِلثَّمَرَةِ الْمُزْهِيَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ فِي عَامٍ أَوَّلَ الْعَامِ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ مَعَ قُرْبِ الْمُدَّةِ.
1 -
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا مُسَاقَاةُ مَا حَلَّ بَيْعُهُ مِنْ الثِّمَارِ إجَارَةٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ فِيهِ بَدَلَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَا تَجُوزُ فِيهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ، وَأَنَّ الْعَقْدَ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسَاقِيهِ ثَمَرًا بَدَا صَلَاحُهُ عَلَى أَنْ يَكْفِيَهُ إيَّاهُ، وَيَجُدَّهُ لَهُ كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسَاقَاةٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ، وَلَيْسَ فِي وَقْتِ الْمُسَاقَاةِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا الْمُسَاقَاةُ مَا بَيْنَ أَنْ يُجَدَّ النَّخْلَ إلَى أَنْ يَطِيبَ ثَمَرُهُ يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الْمُسَاقَاةُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا تِلْكَ الْمُدَّةُ الَّتِي تُثْبِتُ لِمَا انْعَقَدَ فِيهَا بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ حُكْمَ الْمُسَاقَاةِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَتِلْكَ الْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّ مُسَاقَاةَ مَا حَلَّ بَيْعُهُ مِنْ الثِّمَارِ إجَارَةٌ أَنَّ مُسَاقَاتِهِ لَا تَجُوزُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ تُعْقَدَ فِيهَا الْإِجَارَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ سَاقَى حَائِطًا يَعْمَلُ فِيهِ بِثَمَرَةِ حَائِطٍ آخَرَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنْ تَكُونَ ثَمَرَةُ الْآخَرِ قَدْ أَزْهَتْ فَهِيَ إجَارَةٌ فَإِنْ لَمْ تُزْهِ فَهِيَ مُسَاقَاةٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُسَاقَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ
(5/131)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَسَاقَى الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَحِلُّ لِصَاحِبِهَا كِرَاؤُهَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَثْمَانِ الْمَعْلُومَةِ) .
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُعْطِي أَرْضَهُ الْبَيْضَاءَ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا فَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُهُ الْغَرَرُ لِأَنَّ الزَّرْعَ يَقِلُّ مَرَّةً، وَيَكْثُرُ مَرَّةً، وَرُبَّمَا هَلَكَ رَأْسًا فَيَكُونُ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَدْ تَرَكَ كِرَاءً مَعْلُومًا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يُكْرِيَ أَرْضَهُ بِهِ، وَأَخَذَ أَمْرًا غَرَرًا لَا يَدْرِي أَيَتِمُّ أَمْ لَا فَهَذَا مَكْرُوهٌ، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرَ السَّفَرِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ قَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَ الْأَجِيرَ هَلْ لَك أَنْ أُعْطِيَك عُشْرَ مَا أَرْبَحُ فِي سَفَرِي هَذَا إجَارَةً لَك فَهَذَا لَا يَحِلُّ، وَلَا يَنْبَغِي قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ، وَلَا أَرْضَهُ وَلَا سَفِينَتَهُ إلَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ لَا يَزُولُ إلَى غَيْرِهِ قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ فِي النَّخْلِ وَالْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ أَنَّ صَاحِبَ النَّخْلِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ يُكْرِيهَا، وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ لَا شَيْءَ فِيهَا)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
احْتِمَالِهِ اللَّفْظَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَلِإِبْطَالِ الْعَقْدِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ إنَّمَا مَنَعَ ابْنُ الْقَاسِمِ مُسَاقَاةَ مَا أَزْهَى، وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إجَارَةً لِأَنَّ عُرْفَ الْمُسَاقَاةِ أَنْ لَا يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا إلَى جِدَادِ الثَّمَرَةِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرَطَ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ لَا يُقَاسِمَهُ، وَلَا يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِهِ إلَّا عِنْدَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْجِدَادِ، وَهُوَ فِي الْإِجَارَةِ لَوْ شَرَطَ هَذَا لَمْ يَجُزْ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ بِبَعْضِهِ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُقَاسِمَ، وَيَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِهِ مَا شَاءَ فَإِنْ اُعْتُرِضَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فِي بَيْعِ أَحَدِ الْمُسَاقِيَيْنِ لِسَهْمِهِ فَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجَدِّ فَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَقَعَتْ عَلَى التَّقِيَّةِ فَلَمَّا احْتَاجَ إلَى الْبَيْعِ، وَاسْتَضَرَّ بِمَنْعِهِ سُومِحَ بِذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ.
(ش) : قَوْلُهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَسَاقَى الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لِصَاحِبِهَا كِرَاؤُهَا يُرِيدُ أَنَّ مَا حَلَّ بَيْعُهُ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ لَا يَحِلُّ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهِ بِبَعْضِ نَمَائِهِ الْخَارِجِ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ لَا تَجُوزُ مُسَاقَاةُ الْأَرْضِ الَّتِي يَجُوزُ كِرَاؤُهَا لِلْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا وَهِيَ الثَّمَرَةُ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تُكْرَى لِغَيْرِ مَنْفَعَتِهَا الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْشُرَ عَلَيْهَا ثِيَابًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ يَحِلُّ لِصَاحِبِهَا كِرَاؤُهَا بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَثْمَانِ يُرِيدُ، وَمَا أَشْبَهَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ فَإِنَّمَا يُمْنَعُ كِرَاؤُهَا بِكَثِيرٍ مِمَّا يُعَاوَضُ بِهِ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(ش) : قَوْلُهُ فَاَلَّذِي يُعْطِي أَرْضَهُ الْبَيْضَاءَ بِثُلُثِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَوْ رُبْعِهِ يَدْخُلُهُ الْغَرَرُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُكْرِيَ أَرْضَهُ الْبَيْضَاءَ بِجُزْءٍ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُكْرِيَهَا فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الرُّبْعَ لَا يَدْرُونَ قَدْرَهُ لِأَنَّهُ قَدْ يَقِلُّ مَرَّةً، وَرُبَّمَا تَلِفَ جَمِيعُهُ، وَيَكْثُرُ أُخْرَى، وَالْكِرَاءُ مُعَاوَضَةٌ عَلَى مَنَافِعِ الْأَرْضِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ لَا سِيَّمَا فِيمَنْ تُمْكِنُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ لِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي الْمُسَاقَاةِ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَى مَنَافِعِ الثِّمَارِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِثُلُثِ مَا يَرْبَحُ فِي سَفَرِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِئْجَارِهِ بِإِجَارَةٍ مَعْلُومَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ «كَانُوا يَزْرَعُونَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَالنِّصْفِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا عِوَضٌ فِي الْإِجَارَةِ مَجْهُولٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا كَالْجُزْءِ الَّذِي لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ الْمُخَابَرَةُ اكْتِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْجُزْءِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَالْخَبَرُ حَرْثُ الْأَرْضِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا بِطَعَامٍ مُقَدَّرٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عَنْ عَمِّهِ «ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ أَنَّهُ قَالَ لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْرٍ كَانَ بِنَا رَافِقًا قُلْت مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ حَقٌّ قَالَ
(5/132)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ قُلْتُ نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبْعِ، وَعَلَى الْأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ قَالَ لَا تَفْعَلُوا ازْرَعُوهَا وَأَزْرِعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا قَالَ رَافِعٌ قُلْت سَمْعًا وَطَاعَةً» قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مَالِكٌ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْمُحَاقَلَةِ هُوَ اكْتِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ الَّتِي اُكْتُرِيَتْ لَهَا، وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا إنَّمَا هُوَ الطَّعَامُ الْخَارِجُ فَإِذَا اكْتَرَاهَا مِنْهُ بِطَعَامٍ فَهُوَ طَعَامٌ بِطَعَامٍ غَيْرِ مَقْبُوضٍ، وَلَا مُقَدَّرٍ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّعَامُ الَّذِي اكْتَرَى بِهِ الْأَرْضَ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ كَالْحَبِّ وَالتَّمْرِ أَوْ مِمَّا لَا تَنْبُتُهُ كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ لَا يُكْرَى بِشَيْءٍ إذَا أُعِيدَ فِيهَا نَبَتَ، وَتُكْرَى بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا تُنْبِتُ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ، وَغَيْرُهُ لَا تُكْرَى بِالْحِنْطَةِ، وَأَخَوَاتِهَا وَتُكْرَى بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَطْعُومٍ، وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَكَرِهَ مَالِكٌ اكْتِرَاءَهَا بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ مُؤَجَّلٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إنَّمَا كَرِهَهُ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُحَاقَلَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ أَرْضًا لَا تُنْبِتُ ذَلِكَ الشَّيْءَ كَالْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ فِي أَرْضٍ لَا تُنْبِتُهُمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَجْهُ كَرَاهِيَتِهِ عِنْدِي مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسٍ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْمُحَاقَلَةِ» ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ «نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» ، وَهَذَا عَامٌّ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا طَعَامٌ فَلَمْ يَجُزْ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِهِ كَالْقَمْحِ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ كِنَانَةَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُزْرَعُ فِي الْأَرْضِ فَجَازَ أَنْ تُكْرَى بِهِ كَالْحَطَبِ وَالْجُذُوعِ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ إنَّ كُلَّ مَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَمْحِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُكْرَى بِهِ الْأَرْضُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَا تُكْرَى الْأَرْضُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ النَّبَاتِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ كَالْكَتَّانِ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ الْحَشِيشِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَا بَأْسَ أَنْ تُكْرَى الْأَرْضُ بِالْخَضِرِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ يُرِيدُ مِنْ الْكَلَأِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يُزْرَعُ، وَلَا مِنْ الطَّعَامِ، وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ مِمَّا تَنْبُتُهُ الْأَرْضُ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُكْرَى بِهِ كَالْقَمْحِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا لِئَلَّا يُعْطِيَك مِمَّا تُنْبِتُ أَرْضُك أَوْ يَدْخُلَهُ الْجُزَافُ الْمَجْهُولُ بَيْنَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ، وَمَا تُنْبِتُهُ أَرْضُك فَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ لَا تُنْبِتُ ذَلِكَ الْجِنْسَ فَقَدْ أَمِنْت ذَلِكَ كُلَّهُ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِالْكَتَّانِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِالثِّيَابِ مِنْ الْمَوَّازِيَّةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ اسْتَحَالَ عَنْ جِنْسِ الْأَصْلِ فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَا بَأْسَ أَنْ تُكْرَى بِالْجُذُوعِ وَالْحَطَبِ وَالْخَشَبِ وَالْعُودِ، وَبِأَصْلِ شَجَرٍ لَا يُثْمِرُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَلِأَنَّهُ يَتْبَعُهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الزَّرْعِ فَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَكْرَاهَا بِأَرْضٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ جَائِزٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إنَّمَا أَجَازَهُ بِالْخَشَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الَّذِي يُزْرَعُ، وَهَذَا الَّذِي يَنْتَقِضُ بِالْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ فَإِنَّهُ لَا يُزْرَعُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُكْرَى الْأَرْضُ بِهِمَا.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُ مَالِكٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ وَلَا أَرْضَهُ، وَلَا سَفِينَتَهُ إلَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ يُرِيدُ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ أَوْ حَزْرٍ إنْ كَانَ قَرِيبًا غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِالذِّمَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنْ يُكْرِي أَرْضَهُ بِجُزْءٍ مِمَّا تُخْرِجُهُ فَإِنَّ مَا تُخْرِجُهُ غَيْرُ مَعْلُومِ الصِّفَةِ، وَلَا الْقَدْرِ، وَلَا مَرْئِيٌّ يُنْظَرُ إلَيْهِ.
1 -
(فَصْلٌ)
وَإِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسَاقَاةِ فِي النَّخْلِ وَالْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ أَنَّ صَاحِبَ النَّخْلِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ يُكْرِيهَا يُرِيدُ أَنَّ النَّخْلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مَنْفَعَتَهَا الْمَقْصُودَةَ مِنْهَا، وَهِيَ الثَّمَرَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا فَإِذَا بَدَا، وَجَازَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ فِيهَا الْمُسَاقَاةُ، وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ
(5/133)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي النَّخْلِ أَيْضًا أَنَّهَا تُسَاقَى السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ وَالْأَرْبَعَ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرَ قَالَ، وَذَلِكَ الَّذِي سَمِعْت، وَكُلُّ شَيْءٍ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلِ يَجُوزُ فِيهِ لِمَنْ سَاقَى مِنْ السِّنِينَ مِثْلُ مَا يَجُوزُ فِي النَّخْلِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ لَمَّا جَازَ أَنْ تُبَاعَ مَنْفَعَتُهَا الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا، وَهِيَ الزِّرَاعَةُ فِيهَا، وَاكْتِرَاؤُهَا لِلزَّرْعِ قَبْلَ الصَّلَاحِ لَمْ تَجُزْ الْمُسَاقَاةُ فِيهَا.
(ش) : قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ عَقْدٌ لَازِمٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَقْدٌ الْمُسَاقَاةِ لَازِمٌ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا فَسْخُهُ بَعْدَ عَقْدِهِ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَكَانَ، وَرَثَتُهُ مَكَانَهُ، وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ إذَا انْعَقَدَتْ الْمُسَاقَاةُ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا رُجُوعٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَالْإِجَارَةِ بِخِلَافِ الْقِرَاضِ، وَقَدْ رَأَيْت لِبَعْضِ الْقَرَوِيِّينَ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْجِدَادِ لَبَطَلَتْ الْمُسَاقَاةُ، وَلَيْسَ كَالْعُقُودِ اللَّازِمَةِ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ، وَلَعَلَّهُ تَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ فِي عَيْنِ السَّقْيِ تَغُورُ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْعَمَلِ فَلَا شَيْءَ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَمَلِ لَزِمَهُ أَنْ يُنْفِقَ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يُنْفِقَ، وَيَكُونُ نَصِيبُهُ مِنْ الثَّمَرَةِ رَهْنًا بِيَدِهِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْعَامِلِ يَنْدَمُ فَيَسْأَلُ الْإِقَالَةَ قَبْلَ الْعَمَلِ فَيَأْبَى صَاحِبُ الْحَائِطِ أَنْ يُقِيلَهُ فَيُعْطِيَهُ عَلَى ذَلِكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ قَبْلَ الْعَمَلِ وَلَا بَعْدَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي اللُّزُومَ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ قَبْلَ الْعَمَلِ لَمَا لَحِقَهُ نَدَمٌ، وَلَا سَأَلَ إقَالَةً، وَلَا زَادَ لِذَلِكَ مِائَةً، وَأَمَّا الْقَبْضُ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْقِرَاضِ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ لِلْعَمَلِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ الْمُسَاقَاةُ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ إذَا عَقَدَاهَا بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا حَتَّى يُتِمَّ أَجَلَهَا.
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ جَازَ أَنْ يُعْقَدَ لَوْ جَائِب عِنْدَهُ كَاكْتِرَاءِ الْأَرْضِ، وَمَا لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَمِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَالشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ إلَّا عَقْدًا مُطْلَقًا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ وَجَائِبُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي اللُّزُومَ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَوَجَائِبُهُ بِالشُّهُورِ وَالسِّنِينَ قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ حَبِيبٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ أُجْرَةَ الْعَامِلِ لَا تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إلَّا مِنْ الثَّمَرَةِ الَّتِي يَعْمَلُ فِي أَصْلِهَا بِجُزْءٍ مِنْهَا فَكَانَ الْعَمَلُ إلَى أَنْ يُمْكِنَ قِسْمَتُهَا كَرِبْحِ الْقِرَاضِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِالسِّنِينَ يُرِيدُ مِنْ الْجِدَادِ إلَى الْجِدَادِ.
1 -
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ إنَّ النَّخْلَ يَجُوزُ أَنْ يُسَاقَى لِسَنَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرَ يُرِيدُ مَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ جِدًّا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْعَشْرِ سِنِينَ وَالثَّلَاثِينَ وَالْخَمْسِينَ، وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْ مَالِكٍ فِيهِ شَيْئًا، وَلَا أَدْرِي مَا هَذَا، وَمَا لَمْ يَكْثُرْ جِدًّا فَلَا بَأْسَ بِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ أَخَذَ النَّخْلَ مُسَاقَاةً ثَلَاثَ سِنِينَ فَعَمِلَ فِي النَّخْلِ سَنَةً ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتْرُكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُتِمَّ أَجَلَ الْمُسَاقَاةِ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا قَبْلَ ذَلِكَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ فَإِنَّ لَهُمَا أَنْ يَتَتَارَكَا بِغَيْرِ جُعْلٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْعَامِلُ شَيْئًا قَبْلَ الْعَمَلِ وَلَا بَعْدَهُ.
وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ النَّخْلَ إلَى غَيْرِهِ مُسَاقَاةً فَإِذَا رَدَّهَا إلَى رَبِّهَا فَقَدْ سَاقَاهُ فِيهَا، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدِي أَنْ يَزِيدَهُ شَيْئًا لِأَنَّهُ يَكُونُ زِيَادَةً مِنْ أَحَدِ الْمُسَاقِيَيْنِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُسَاقَاةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لَهُ اُخْرُجْ، وَأُعْطِيكَ قِيمَةَ مَا أَنْفَقْتَ وَإِنْ رَضِيَا بِذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ.
(فَرْعٌ)
فَإِذَا قُلْنَا بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَ الْعَامِلُ النَّخْلَ مُسَاقَاةً إلَى رَبِّ الْحَائِطِ بِأَقَلَّ مِمَّا أَخَذَهُ مَا لَمْ تَطِبْ الثَّمَرَةُ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ مُحَمَّدٌ، وَمَا لَمْ يَضْمَنْ لَهُ الْجُزْءَ الْبَاقِيَ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ حَتَّى يَحْتَاجَ الْعَامِلُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ حَائِطٍ آخَرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا سَاقَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ فَهِيَ مُسَاقَاةٌ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْعَامِلَ الْأَوَّلَ لَمَّا عَمِلَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَاقِيَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ فَيَبْقَى لِلْعَامِلِ فِي الْحَائِطِ سُدُسٌ أَوْ رُبْعٌ كَمَا يَبْقَى لِصَاحِبِ الْحَائِطِ إذَا سَاقَى غَيْرَهُ فَإِذَا سَاقَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ
(5/134)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُسَاقِي إنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي سَاقَاهُ شَيْئًا مِنْ ذَهَبٍ، وَلَا وَرِقٍ يَزْدَادُهُ وَلَا طَعَامٍ، وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَاقِيَ مِنْ رَبِّ الْحَائِطِ شَيْئًا يَزِيدُهُ إيَّاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَلَا وَرِقٍ وَلَا طَعَامٍ وَلَا شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ، وَالزِّيَادَةُ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَا تَصْلُحُ قَالَ مَالِكٌ وَالْمُقَارِضُ أَيْضًا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لَا يَصْلُحُ، إذَا دَخَلَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْمُسَاقَاةِ أَوْ الْمُقَارَضَةِ صَارَتْ إجَارَةً، وَمَا دَخَلَتْهُ الْإِجَارَةُ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَقَعَ الْإِجَارَةُ بِأَمْرِ غَرَرٍ لَا يُدْرَى أَيَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ أَوْ يَقِلُّ أَوْ يَكْثُرُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ذَلِكَ الْجُزْءِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِلْعَامِلِ جُزْءًا زَائِدًا مِنْ حَائِطٍ آخَرَ عَلَى جَمِيعِ ثَمَرِ حَائِطِ الْمُسَاقِي، وَرَوَى ابْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إنْ لَمْ يَعْمَلْ جَازَ أَنْ يُعْطِيَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ جُزْءًا مِنْ الثَّمَرَةِ، وَإِنْ عَمِلَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ اُطُّلِعَ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ سَارِقٌ مُبَرِّحٌ يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يَقْطَعَ النَّخْلَ، وَيَذْهَبَ بِالثَّمَرَةِ أَوْ يُخَرِّبَ الدَّارَ، وَيَبِيعَ أَبْوَابَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إخْرَاجُهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِمَا قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَبِيعُ السِّلْعَةَ مِنْ رَجُلٍ مُفْلِسٍ، وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ بِفَلَسِهِ أَنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ فَهَذَا مِثْلُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْمُسَاقِيَ شَرِيكٌ فِي أَصْلِ الثَّمَرَةِ، وَالشَّرِيكُ لَا يَسْتَطِيعُ شَرِيكُهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ عَيْنِ حَقِّهِ لِمَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنْ خِيَانَةٍ وَلَا غَيْرِهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَا تَنْفَسِخُ الْمُسَاقَاةُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَسَاقِيَيْنِ فَإِنْ مَاتَ الْعَامِلُ عَمِلَ وَرَثَتُهُ إنْ كَانُوا أُمَنَاءَ كَمَا كَانَ صَاحِبُهُمْ يَعْمَلُ فَإِنْ أَبَوْا ذَلِكَ كَانَ مَالُ الْمَيِّتِ لَازِمًا لَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ أُمَنَاءَ لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِمْ، وَيَأْتُونَ بِأَمِينٍ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ فَفَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْعَامِلِ سَرِقَةٌ أَوْ إغَارَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَامِلَ تَعَلَّقَتْ الْمُسَاقَاةُ بِذِمَّتِهِ وَمَالِهِ، وَلَزِمَتْهُ أَكْثَرَ مِنْ لُزُومِهَا لِلْوَرَثَةِ فَلَوْ اطَّلَعَ فِي النَّخْلِ عَلَى قِلَّةِ حَمْلٍ وَضَعْفٍ لَزِمَتْهُ الْمُسَاقَاةُ، وَكَذَلِكَ إذَا اُطُّلِعَ مِنْهُ عَلَى عَيْبٍ، وَالْوَرَثَةُ لَا تَتَعَلَّقُ الْمُسَاقَاةُ بِأَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ إنْ كَرِهُوهَا، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُلْزَمْ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِسَرِقَتِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ أُجِيحَتْ الثَّمَرَةُ فَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ لَا جَائِحَةَ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَخْرُجَ، وَهُمَا شَرِيكَانِ فِي النَّمَاءِ وَالنُّقْصَانِ، وَرَوَى عَنْهُ سَعْدٌ إنْ بَلَغَتْ الْجَائِحَةُ الثُّلُثَ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَسْقِيَ الْحَائِطَ كُلَّهُ أَوْ يَخْرُجَ قَالَ مُحَمَّدٌ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ عِلَاجِهِ وَنَفَقَتِهِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فَلَمْ يُفْسَخْ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا بِالْجَائِحَةِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ عَمَلَهُ عِوَضٌ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ فَإِذَا أُجِيحَتْ كَانَ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا.
(فَرْعٌ)
وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْجَائِحَةُ شَائِعَةً فِي الْحَائِطِ فَأَمَّا إذَا أُجِيحَتْ جِهَةٌ، وَسَلِمَتْ أُخْرَى فَيَلْزَمُ الْمُسَاقَاةُ فِيمَا سَلِمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ أَخْذِ الثُّلُثِ فَأَقَلَّ قَالَهُ مُحَمَّدٌ.
(ش) : قَوْلُهُ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ الَّذِي سَاقَاهُ يَعْنِي الْعَامِلَ شَيْئًا مِنْ ذَهَبٍ، وَلَا وَرِقٍ، وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ يَزْدَادُهُ يُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ الْحَائِطِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ شَيْئًا يَزْدَادُهُ غَيْرَ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَرَةِ يُرِيدُ مِمَّا نَقَصَهُ خَارِجًا عَنْ الْعَمَلِ فِي الْحَائِطِ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ فِي الْحَائِطِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ فِيهِ عِوَضٌ عَنْ الْعَمَلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلثَّمَرَةِ عِوَضٌ غَيْرُ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَقَبْلَ ظُهُورِهَا، وَلَا يَزْدَادُ الْعَامِلُ مِنْ رَبِّ الْحَائِطِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَارِنَ الْمُسَاقَاةَ بَيْعٌ، وَلَوْ شَرَطَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ شَيْئًا لَكَانَ ذَلِكَ عِوَضًا مِنْ بَيْعِ عَمَلِهِ فَاجْتَمَعَ عَقْدُ مُسَاقَاةٍ وَبَيْعٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَلَوْ عَقَدَا مُسَاقَاةً عَلَى جُزْءٍ مِنْ الثَّمَرَةِ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فِيهِ أَشْهُرًا فَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا سَقَى لَمْ يُصْلَحْ، وَإِنْ كَانَ مُلْغًى فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ، وَيَدْخُلُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ازْدِيَادِ صَاحِبِ الْحَائِطِ مِنْ الْعَامِلِ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ كَانَتْ الْمُسَاقَاةُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ لِلْعَامِلِ فَذَلِكَ جَائِزٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ
(5/135)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يُسَاقِي الرَّجُلَ الْأَرْضَ فِيهَا النَّخْلُ أَوْ الْكَرْمُ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ فَتَكُونُ فِيهَا الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ قَالَ مَالِكٌ إذَا كَانَ الْبَيَاضُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَعْظَمَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَهُ فَلَا بَأْسَ بِمُسَاقَاتِهِ، وَذَلِكَ أَنْ تَكُونَ النَّخْلُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَيَكُونُ الْبَيَاضُ الثُّلُثَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَنَّ الْبَيَاضَ حِينَئِذٍ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْحَائِطِ سَقَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَشْهُرٍ رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهُ قِيمَةَ سَقْيِهِ فَقَدْ بَاعَهُ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ، وَإِنْ أَلْغَاهُ فَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ.
1 -
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَاقَى مِنْ رَبِّ الْحَائِطِ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ يُرِيدُ أَنَّهُ كَمَا لَا يَزْدَادُ صَاحِبُ الْحَائِطِ مِنْ الْعَامِلِ شَيْئًا كَذَلِكَ لَا يَزْدَادُ الْعَامِلُ مِنْ صَاحِبِ الْحَائِطِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا تَنْعَقِدُ الْمُسَاقَاةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ عِوَضٌ عَنْ حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَزْدَادَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْأُجْرَةِ مِمَّا لَا يَلْزَمُهُ بِعَقْدِ الْمُسَاقَاةِ يَسِيرُ الْعَمَلِ فِي الثَّمَرَةِ فَأَمَّا مَا ازْدَادَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ قَلِيلُهُ وَلَا كَثِيرُهُ لِأَنَّ ازْدِيَادَ صَاحِبِ الْحَائِطِ مِنْ الْعَمَلِ يُخْرِجُهُ إلَى بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَازْدِيَادُ الْعَامِلِ مِنْ صَاحِبِ الْحَائِطِ يُخْرِجُهُ إلَى أَنْ يُقَارِنَ عَقْدَ الْمُسَاقَاةِ عَقْدُ إجَارَةٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِتُنَافِيهِمَا، وَلَوْ جَازَتْ الْإِجَارَةُ فِي الْأَشْجَارِ لَمَا جَازَتْ فِيهَا الْمُسَاقَاةُ وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ يُنَافِيهَا الْغَرَرُ وَالْمُسَاقَاةُ لَا تَصِحُّ إلَّا فِيمَا فِيهِ الْغَرَرُ فَلَمْ يَجُزْ اجْتِمَاعُهُمَا كَالْإِجَارَةِ وَالْجُعْلِ.
(ش) : قَوْلُهُ أَنَّ الْبَيَاضَ مَعَ النَّخْلِ فِي الْمُسَاقَاةِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ تَبَعًا لِلنَّخْلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الثُّلُثَ مِنْ الْجُمْلَةِ وَالنَّخْلُ ثُلُثَيْهَا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْبَيَاضُ تَبَعًا لِلنَّخْلِ فَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُدَوَّنَةِ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي النَّخْلِ يَكُونُ تَبَعًا لِلْبَيَاضِ فِي الْكِرَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ الثُّلُثَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا إنْ قَصُرَ عَلَى الثُّلُثِ جَازَ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا قَوْلًا وَاحِدًا أَوْ مَا كَانَ أَزْيَدَ مِنْ الثُّلُثِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَأَمَّا الثُّلُثُ فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ فَمَرَّةً جَعَلَهُ فِي حَيِّزِ الْيَسِيرِ الَّذِي يَكُونُ تَبَعًا، وَمَرَّةً جَعَلَهُ فِي حَيِّزِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يَكُونُ تَبَعًا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ جَعَلَ الثُّلُثَ فِيهِ حَدًّا بَيْنَ مَا يَجُوزُ، وَبَيْنَ مَا لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَجُوزُ كَالْوَصِيَّةِ وَهِبَةِ الزَّوْجَةِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» .
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَحُكْمُ مَا لَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِيهِ مَعَ مَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِيهِ حُكْمُ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ مَعَ النَّخْلِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ لَا بَأْسَ أَنْ يُسَاقَى الْحَائِطُ، وَفِيهِ مِنْ الْمَوْزِ مَا فِيهِ تَبَعٌ قَدْرَ الثُّلُثِ فَأَقَلَّ قَالَ مُحَمَّدٌ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى سِقَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَا يُلْغَى لِأَحَدِهِمَا.
(فَرْعٌ)
وَفِيمَا يُرَاعَى الثُّلُثُ مِنْ الْبَيَاضِ الظَّاهِرُ مِنْ أَقْوَالِ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا يُلْغَى، وَفِيمَا شُرِطَ عَلَى حُكْمِ الْمُسَاقَاةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ إنَّمَا يُرَاعَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلثَّمَرَةِ كُلِّهَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا فَأَمَّا إذَا أُلْغِيَ فَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِحِصَّةِ الْعَامِلِ خَاصَّةً وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ عَبْدُوسٍ أَنَّ مَا صَارَ لِلْعَامِلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْحِصَّةِ إذَا لَمْ يُلْغَ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَصِفَةُ اعْتِبَارِ ذَلِكَ أَنْ يُنْظَرَ إلَى كِرَاءِ الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَإِلَى غَلَّةِ النَّخْلِ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ حَالِهَا، وَيَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ قَدْرُ الْإِنْفَاقِ عَلَى الثَّمَرَةِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ أُضِيفَتْ إلَى كِرَاءِ الْأَرْضِ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ كِرَاءَ الْأَرْضِ تَبَعٌ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ الثَّمَرَةِ ثَمَانِيَةُ دَنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْخَمْسَةَ إذَا أُضِيفَتْ إلَى ثَمَانِيَةٍ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ الْجُمْلَةِ.
(مَسْأَلَةٌ)
فَإِذَا قُلْنَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، وَيَجُوزُ إلْغَاؤُهُ لِلْعَامِلِ فَهَذَا إنْ عَمِلَ الْعَامِلُ حَتَّى تَكْمُلَ الْمُسَاقَاةُ فَهُوَ لَهُ عَلَى حَسَبِ مَا أُلْغِيَ لَهُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْحَائِطِ بِجَائِحَةٍ أَصَابَتْهُ، وَقَدْ زَرَعَ الْعَامِلُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَشْرَسَ عَنْ مَالِكٍ عَلَيْهِ كِرَاءُ الْبَيَاضِ، وَلَوْ عَجَزَ عَنْ عَمَلِ الْحَائِطِ فَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ عَلَيْهِ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِكِرَاءِ مِثْلِهِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ بَيْنَهُمَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ
(5/136)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ فِيهَا نَخْلٌ أَوْ كَرْمٌ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ الْأُصُولِ فَكَانَ الْأَصْلُ الثُّلُثَ أَوْ أَقَلَّ، وَالْبَيَاضُ الثُّلُثَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ فِي ذَلِكَ الْكِرَاءُ، وَحَرُمَتْ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ أَنْ يُسَاقُوا الْأَصْلَ، وَفِيهِ الْبَيَاضُ، وَتُكْرَى الْأَرْضُ، وَفِيهَا الشَّيْءُ الْيَسِيرُ مِنْ الْأَصْلِ أَوْ يُبَاعُ الْمُصْحَفُ أَوْ السَّيْفُ، وَفِيهِمَا الْحِلْيَةُ مِنْ الْوَرِقِ بِالْوَرِقِ أَوْ الْقِلَادَةُ أَوْ الْخَاتَمُ فِيهِمَا الْفُصُوصُ، وَالذَّهَبُ بِالدَّنَانِيرِ، وَلَمْ تَزَلْ هَذِهِ الْبُيُوعُ جَائِزَةً يَتَبَايَعُهَا النَّاسُ، وَيَبْتَاعُونَهَا، وَلَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مَوْصُوفٌ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ إذَا هُوَ بَلَغَهُ كَانَ حَرَامًا أَوْ قَصُرَ عَنْهُ كَانَ حَلَالًا، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا الَّذِي عَمِلَ بِهِ النَّاسُ، وَأَجَازُوهُ بَيْنَهُمْ أَنَّهُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ مِنْ ذَلِكَ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ تَبَعًا لِمَا هُوَ فِيهِ جَازَ بَيْعُهُ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ النَّصْلُ أَوْ الْمُصْحَفُ أَوْ الْفُصُوصُ قِيمَتُهُ الثُّلُثَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَالْحِلْيَةُ قِيمَتُهَا الثُّلُثُ أَوْ أَقَلُّ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
إنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى سِقَاءِ الْحَائِطِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَالَهُ أَصْبَغُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ أَيْضًا إذَا كَانَتْ الْمُسَاقَاةُ عَلَى النِّصْفِ، وَشَرَطَ لِلْعَامِلِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْبَيَاضِ جَازَ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ إذَا انْعَقَدَتْ بِجُزْأَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَجُزْ كَالْحَائِطَيْنِ أَوْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الشَّجَرِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَصْبَغَ الثَّانِي مَا احْتَجَّ بِهِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَمِيعُ الْبَيَاضِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِجُزْءِ الْمُسَاقَاةِ فَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ جُزْءًا أَكْثَرَ مِنْ جُزْأَيْهِ فِي الْمُسَاقَاةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ أَخَذَ زَرْعًا مُسَاقًى قَدْ عَجَزَ عَنْهُ صَاحِبُهُ، وَمَعَهُ أَرْضٌ بَيْضَاءُ تَبَعًا لِلزَّرْعِ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ مِنْهُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْبَيَاضِ مَعَ الْأُصُولِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ تَصِحُّ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ كَاَلَّذِي مَعَ النَّخْلِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَإِنْ سَاقَى زَرْعًا عَجَزَ عَنْهُ صَاحِبُهُ، وَفِيهِ نَخْلٌ تَبَعٌ لِلزَّرْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَاقِيَ ذَلِكَ مُسَاقَاةً وَاحِدَةً قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الزَّرْعُ تَبَعًا لِلنَّخْلِ.
(فَرْعٌ)
إذَا قُلْنَا بِجَوَازِ أَنْ يَجْمَعَ النَّخْلَ وَالزَّرْعَ فِي الْمُسَاقَاةِ فَإِذَا كَانَتْ النَّخْلُ تَبَعًا لِلزَّرْعِ لَمْ تَجُزْ الْمُسَاقَاةُ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَعْجِزَ صَاحِبُ الزَّرْعِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ الزَّرْعُ تَبَعًا لِلنَّخْلِ جَازَتْ الْمُسَاقَاةُ، وَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الزَّرْعِ قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ.
(مَسْأَلَةٌ)
وَهَلْ يَجُوزُ إلْغَاءُ النَّخْلِ الَّتِي هِيَ تَبَعٌ لِلزَّرْعِ لِلْعَامِلِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ إنَّهُ بِخِلَافِ الْبَيَاضِ مَعَ النَّخْلِ، وَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ ذَلِكَ لِلْعَامِلِ، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ الَّذِي هُوَ تَبَعٌ لِلشَّجَرِ كَأَصْنَافٍ مِنْ الشَّجَرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلْغَى صِنْفٌ مِنْهَا لِلْعَامِلِ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُلْغَى لِلْعَامِلِ وَحْدَهُ، وَإِذَا كَانَ تَبَعًا كَمُكْتَرِي الدَّارِ فِيهَا نَخْلٌ هِيَ تَبَعٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ تُلْغَى الْمُؤَنُ لِلْعَامِلِ إذَا كَانَتْ تَبَعًا لِلْحَائِطِ.
(ش) : قَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ يَكُونُ فِيهَا يَسِيرُ النَّخْلِ الثُّلُثُ فَأَقَلُّ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكِرَاءِ أَصْلُ ذَلِكَ جَوَازُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ ثَمَرَةُ النَّخْلِ الثُّلُثَ، وَقَدْ مَنَعَ مِنْهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْيَسِيرِ، وَأَبَى أَنْ يَبْلُغَ بِهِ الثُّلُثَ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ فِي يَسِيرِ الْغَلَّةِ مَعَ الْأَرْضِ فِي الْكِرَاءِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ الْيَسِيرِ فَمَرَّةً يَجْعَلُ الثُّلُثَ فِي حَيِّزِ الْيَسِيرِ، وَمَرَّةً يَجْعَلُهُ أَوَّلَ الْكَثِيرِ، وَمَا قَصُرَ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْيَسِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ وَحَرُمَتْ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا تَحْرُمُ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ الْبَيَاضِ وَالنَّخْلِ وَأَمَّا إذَا أُفْرِدَتْ النَّخْلَ بِالْمُسَاقَاةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ بِالْكِرَاءِ، وَقَدْ جَوَّزَ مَالِكٌ الْمُسَاقَاةَ فِي النَّخْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ أَنْ يُسَاقُوا الْأَرْضَ، وَفِيهَا الْبَيَاضُ وَتُكْتَرَى الْأَرْضُ، وَفِيهَا الْيَسِيرُ مِنْ الْأَصْلِ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ شَائِعٌ دُونَ نَكِيرٍ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ إلَيْهِ عَامَّةٌ لِتَعَذُّرِ انْفِصَالِ الْأَرْضِ مِنْ الشَّجَرِ، وَالشَّجَرِ مِنْ الْأَرْضِ غَالِبًا، وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَى الِاسْتِنَابَةِ فِي عَمَلِهَا فَمَا جَازَتْ إجَارَتُهُ كَانَتْ
(5/137)
(الشَّرْطُ فِي الرَّقِيقِ فِي الْمُسَاقَاةِ) (ص) : (قَالَ مَالِكٌ: إنَّ أَحْسَنَ مَا سُمِعَ فِي عَمَلِ الرَّقِيقِ فِي الْمُسَاقَاةُ يَشْتَرِطُهُمْ الْمُسَاقَى عَلَى صَاحِبِ الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ عُمَّالُ الْمَالِ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ لِلدَّاخِلِ إلَّا أَنَّهُ تَخِفُّ عَنْهُ بِهِمْ الْمُؤْنَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي الْمَالِ اشْتَدَّتْ مُؤْنَتُهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْعَيْنِ، وَالنَّضْحِ وَلَنْ تَجِدَ أَحَدًا يُسَاقِي فِي أَرْضَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْأَصْلِ، وَالْمَنْفَعَةِ إحْدَاهُمَا بِعَيْنٍ وَاثِنَةٍ غَزِيرَةٍ، وَالْأُخْرَى بِنَضْحٍ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لِخِفَّةِ مُؤْنَةِ الْعَيْنِ وَشِدَّةِ مُؤْنَةِ النَّضْحِ، قَالَ وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا قَالَ وَالْوَاثِنَةُ الثَّابِتُ مَاؤُهَا الَّتِي لَا تَغُورُ وَلَا تَنْقَطِعُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فِيهِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْيَسِيرُ مِمَّا لَا تَجُوزُ فِيهِ الْإِجَارَةُ، وَمَا جَازَتْ مُسَاقَاتُهُ كَانَتْ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ الْيَسِيرُ مِمَّا لَا تَجُوزُ فِيهِ الْمُسَاقَاةُ.
(فَصْلٌ)
وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مَوْصُوفٌ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ إذَا هُوَ بَلَغَهُ كَانَ حَرَامًا أَوْ قَصُرَ عَنْهُ كَانَ حَلَالًا يُرِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ حَدٌّ يُبَيِّنُ مَا يَجُوزُ مِنْهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا هَذَا التَّحْدِيدُ بِاجْتِهَادِ الْعُلَمَاءِ فِي جَعْلِهِمْ الثُّلُثَ فِي حَيِّزِ التَّبَعِ لِلثُّلُثَيْنِ أَوْ فِي حَيِّزِ مَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ)
وَمَنْ اكْتَرَى دَارًا فِيهَا نَخْلٌ ثَمَرَتُهَا تَبَعٌ لِكِرَاءِ الدَّارِ فَتَهَدَّمَتْ الدَّارُ فِي نِصْفِ السَّنَةِ فَقَدْ رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَأَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَوْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ قَدْ طَابَتْ، وَكَانَتْ تَبَعًا لِمَا سُكِنَ فَهُوَ لِلْمُكْتَرِي، وَعَلَيْهِ ثُلُثَا الْكِرَاءِ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّمَرَةِ الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَطِبْ فَهِيَ لِصَاحِبِ الدَّارِ عَلَى الْمُكْتَرِي ثُلُثُ الْكِرَاءِ قَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَابَتْ الثَّمَرَةُ، وَلَيْسَتْ بِتَبَعٍ لِمَا سُكِنَ فَهِيَ لِصَاحِبِ الدَّارِ، وَقَدْ فَسَدَ فِيهَا الْبَيْعُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ الثَّمَرَةُ رَاجِعَةٌ إلَى صَاحِبِهَا طَابَتْ أَوْ لَمْ تَطِبْ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا إذَا طَابَتْ، وَكَانَتْ تَبَعًا لِمَا سُكِنَ فَإِنَّمَا وَقَعَ الْفَسْخُ مِنْ الْعَقْدِ فِيمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي بَيْعِ الثَّمَرَةِ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ بَيْعَ الثَّمَرَةِ بِمَا صَحَّ مِنْ الْكِرَاءِ لَجَازَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا مِثْلُهُ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الثَّمَرَةَ قَدْ تَبِعَتْ مَا فُسِخَ مِنْ التَّبَايُعِ كَمَا تَبِعَتْ مَا جَازَ مِنْهُ فَلَمَّا فُسِخَ مَا هِيَ تَبَعٌ لَهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ، وَإِذَا فَسَدَ بَعْضُهَا لِذَلِكَ فَسَدَ جَمِيعُهَا.
[الشَّرْطُ فِي الرَّقِيقِ فِي الْمُسَاقَاةِ]
(ش) : قَوْلُهُ فِي عَمَلِ الرَّقِيقِ فِي الْمُسَاقَاةِ إنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَهُمْ الْعَامِلُ عَلَى صَاحِبِ الْأَصْلِ يُرِيدُ الرَّقِيقَ الَّذِينَ كَانُوا عُمَّالَ الْحَائِطِ وَقْتَ الْمُسَاقَاةِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يَشْتَرِطَ إخْرَاجَهُمْ إذَا كَانُوا فِيهِ يَوْمَ الْمُسَاقَاةِ وَلَكِنْ لَوْ أَخْرَجَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ دَفَعَ الْحَائِطَ مُسَاقَاةً لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ فَعَلَى هَذَا إنَّمَا يَكُونُ اشْتِرَاطُ الْعَامِلِ لَهُمْ عَلَى وَجْهِ رَفْعِ الْإِلْبَاسِ عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ رَاعِيًا يَرْعَى لَهُ غَنَمَهُ سَنَةً إنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّ الْغَنَمَ إنْ مَاتَتْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْعَى لَهُ مِثْلَهَا وَهَذَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ لَكَانَ هَذَا حُكْمُهُ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ إقْرَارِ رَبِّ الْحَائِطِ لَهُ بِأَنَّهُمْ فِي حَائِطِهِ عِنْدَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ.
وَقَدْ رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعَامِلِ يَجْهَلُ فَلَا يَسْتَثْنِي مَا فِي الْحَائِطِ مِنْ دَوَابَّ وَرَقِيقٍ وَيَقُولُ صَاحِبُ الْحَائِطِ إنَّمَا سَاقَيْتُك بِغَيْرِ دَوَابَّ وَلَا رَقِيقٍ إنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ اُنْظُرْ هَذَا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إخْرَاجُ دَوَابِّهِ فَقَدْ صَارَ مُدَّعِيًا لِمَا لَا يَجُوزُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي عَلَى أَصْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ يَجْهَلَ الْعَامِلُ فَلَا يُقِرُّ صَاحِبُ الْحَائِطِ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْحَائِطِ يَوْمَ الْمُسَاقَاةِ وَلَا يُشْهِدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ فِي الْحَائِطِ وَأَنَّهُمْ بِهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لَمْ يَكُونُوا فِي الْحَائِطِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقَالَ الْعَامِلُ بَلْ كَانُوا فِيهِ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مُزَيْنٍ رِوَايَةَ عِيسَى عَنْ
(5/138)
) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ابْنِ الْقَاسِمِ فَقَالَ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ إلَّا أَنْ يُمْضِيَ رَبُّ الْحَائِطِ الرَّقِيقَ فَتَلْزَمُ الْمُسَاقَاةُ إلَى أَجَلِهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى حَسَبِ مَا قُلْنَاهُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِطْلَاقِ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، فَقَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ نَافِعٍ: فِي الْمُزَنِيَّة لَا يَكُونُ الرَّقِيقُ، وَالدَّوَابُّ لِلْعَامِلِ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَالْعَقْدُ لَازِمٌ صَحِيحٌ وَفِي الْوَاضِحَةِ أَنَّ مَا فِي الْحَائِطِ مِنْ الْأُجَرَاءِ، وَالدَّوَابِّ، وَالدِّلَاءِ، وَالْحِبَالِ، وَالْأَدَاةِ مِنْ حَدِيدٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ يَوْمَ السِّقَاءِ يَسْتَعِينُ بِهِ الْعَامِلُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ إنْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ رَبُّ الْحَائِطِ لَمْ يَجُزْ، وَاحْتَجَّ عِيسَى لِقَوْلِهِ بِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يَقُولَ لَوْ اشْتَرَطْتُمْ عَلَى مَا سَاقَيْتُك إلَّا عَلَى أَقَلَّ مِنْ هَذَا الْجُزْءِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَاقِيَهُ عَلَى إخْرَاجِ الرَّقِيقِ، وَالدَّوَابِّ.
وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَقَدْ احْتَجَّ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يَشْتَرِطَ إخْرَاجَهُمْ فَإِنْ شَرَطَ رَبُّ الْحَائِطِ إخْرَاجَ مَنْ فِيهِ مِنْ الرَّقِيقِ، وَالدَّوَابِّ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ إنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا فَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ.
وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُزَنِيَّة لَهُ مُسَاقَاةُ مِثْلِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ قَدْ كَانَ يَقُولُهُ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَجْرِ مِثْلِهِ وَأَمَّا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْحَائِطِ يَوْمَ الْعَقْدِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَائِطِ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَدْ شَرَطَ إخْرَاجَهُمْ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ إمَّا أَنْ يُوَافِقَهُ الْعَامِلُ عَلَى ذَلِكَ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فَيُفْسَخُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَيُرَدُّ بَعْدَ الْعَمَلِ إلَى أَجْرِ مِثْلِهِ وَإِمَّا أَنْ يُنْكِرَ الْعَامِلُ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ قَدْ شَرَطَ إبْقَاءَهُمْ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَدَّعِ الْعَامِلُ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهُ أَنْكَرَ الشَّرْطَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الصِّحَّةَ وَصَاحِبُ الْحَائِطِ يَدَّعِي الْفَسَادَ وَلَوْ أَقَرَّ صَاحِبُ الْحَائِطِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا وَادَّعَى أَنَّهُ اعْتَقَدَ إخْرَاجَهُمْ لَمْ يُنْظَرْ إلَى مَا ادَّعَاهُ وَكَانُوا لِلْعَامِلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ كَانَ فِي الْحَائِطِ أُجَرَاءُ فَأُجْرَتُهُمْ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَائِطَ إنَّمَا أَخَذَهُ الْعَامِلُ مُسَاقَاةً عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا حِينَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ بِعَمَلِ الْعُمَّالِ مِنْ الرَّقِيقِ، وَالْأُجَرَاءِ، وَالدَّوَابِّ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنْهُ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ حَائِطَهُ مُسَاقَاةً وَيَسْتَثْنِي مَاءَهُ الَّذِي يُسْقَى بِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ مَاتَ مِنْ الرَّقِيقِ، وَالْأُجَرَاءِ، وَالدَّوَابِّ مِمَّنْ هُوَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ فَعَلَيْهِ خَلَفُ ذَلِكَ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ زَادَ فِي غَيْرِهَا وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْعَامِلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ بَقَاءَهُمْ فِي الْحَائِطِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ وَقْتٌ مِنْ أَوْقَاتِ الْمُسَاقَاةِ مِنْهُمْ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِأَعْيَانِهِمْ إلَّا مَعَ بَقَائِهِمْ فَإِنْ عُدِمُوا لَزِمَ صَاحِبَ الْحَائِطِ الْإِتْيَانُ بِعِوَضِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ يُعِينُهُ عَلَى الْخِدْمَةِ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى عَمَلٍ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ وَلَكِنْ تَعَيَّنَ لِهَؤُلَاءِ الْأُجَرَاءِ، وَالْعُمَّالِ، وَالدَّوَابِّ بِالتَّسْلِيمِ، وَالْيَدِ كَاَلَّذِي يَكْتَرِي رَاحِلَةً مَضْمُونَةً ثُمَّ يُسَلِّمُ إحْدَى رَوَاحِلِهِ إلَى الرَّاكِبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَهَا.
وَالثَّانِي أَنْ يَتَعَيَّنَ الرَّقِيقُ، وَالدَّوَابُّ بِالْعَقْدِ وَيَكُونَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ خَلَفُ ذَلِكَ إنْ تَلِفَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الرَّقِيقِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِالْعَقْدِ، وَالْعَقْدُ ثَابِتٌ بِمَوْتِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلِذَلِكَ لَزِمَ الْعِوَضُ فِيهِمْ.
(فَرْعٌ) وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ مُسْتَأْجَرًا لِجَمِيعِ الْعَامِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْجَرًا لِبَعْضِهِ فَلَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا وَعِنْدِي أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْهُ مَنْ يُتِمُّ الْعَامَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ لَلَزِمَهُ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ إجَارَتِهِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِأَنَّ عَمَلَ الْأَجِيرِ فِي الْحَائِطِ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ أَوْ بِمَعْنَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ اسْتَعْمَلَ مَا فِي الْحَائِطِ مِنْ الْحِبَالِ، وَالدِّلَاءِ، وَالْآلَةِ حَتَّى خَلِقَ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَعَلَى الْعَامِلِ خَلَفُ ذَلِكَ وَلَوْ سُرِقَ ذَلِكَ لَكَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ خَلَفُهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّقِيقِ، وَالدَّوَابِّ لِتِلْكَ، وَقَدْ رَأَيْته لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ شُيُوخِنَا، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ غَيْرُ هَذَا أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ خَلَفَ ذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَالْأَوَّلُ عِنْدِي أَظْهَرُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَنَفَقَةُ الْأُجَرَاءِ، وَالرَّقِيقِ، وَالدَّوَابِّ عَلَى
(5/139)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِلْمُسَاقَى أَنْ يَعْمَلَ بِعُمَّالِ الْمَالِ فِي غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي سَاقَاهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْعَامِلِ دُونَ صَاحِبِ الْحَائِطِ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُجْرَةَ مَعْنًى لَزِمَ رَبَّ الْحَائِطِ قَبْلَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ وَكَذَلِكَ أَثْمَانُ الدَّوَابِّ، وَالرَّقِيقِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهَا مَعْنًى طَرَأَ بَعْدَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ وَبِهِ يَتِمُّ الْعَمَلُ فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَمَلِ الطَّارِئِ عَلَيْهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ شَرَطَ النَّفَقَةَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ مِنْ الْوَاضِحَةِ، وَالْمَوَّازِيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ الطَّارِئَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى الْعَامِلِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُمْ عُمَّالُ الْمَالِ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِمْ لِلدَّاخِلِ إلَّا بِخَفِيفِ الْعَمَلِ يُرِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا عُمَّالَ الْمَالِ قَبْلَ ذَلِكَ إلَى حِينِ الْعَقْدِ فَظُهُورُ الْمَالِ وَقُوَّتُهُ وَكَثْرَةُ عِمَارَتِهِ إنَّمَا كَانَ بِعَمَلِهِمْ وَلَهُمْ فِيهِ تَأْثِيرٌ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ صَلَاحُ الْحَائِطِ وَنَمَاؤُهُ فَلَا يَجُوزُ لِذَلِكَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ السَّقْيِ وَسَائِرِ مَا يَتَّصِلُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَلَمَّا كَانَتْ الْمُسَاقَاةُ تَخْتَلِفُ بِمَا أَثَّرَهُ الْعَامِلُ فِي الْحَوَائِطِ فَإِذَا قَوِيَ الْحَائِطُ بِالْعَمَلِ وَضَعُفَ بِقِلَّتِهِ كَمَا يَقْوَى بِالسَّقْيِ وَيَضْعُفُ بِعَدَمِهِ وَتَخْتَلِفُ رَغْبَةُ الْعَامِلِ فِيهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ إخْرَاجُ الرَّقِيقِ كَمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِمْسَاكُ بِالْمَاءِ.
(فَرْعٌ) وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّقِيقُ، وَالدَّوَابُّ فِي الْحَائِطِ حِينَ الْمُسَاقَاةِ وَأَمَّا لَوْ أَخْرَجَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ لَصَحَّتْ الْمُسَاقَاةُ عَلَى اسْتِمْسَاكِ صَاحِبِ الْحَائِطِ لَهُمْ وَمَتَى يَكُونُ إخْرَاجُهُمْ يُبِيحُ الِاسْتِمْسَاكَ لَهُمْ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا مُحَرَّرًا.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَلَنْ تَجِدَ أَحَدًا يُسَاقِي فِي أَرْضَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْأَصْلِ، وَالْمَنْفَعَةِ أَحَدُهُمَا بِعَيْنٍ وَاثِنَةٍ غَزِيرَةٍ، وَالْأُخْرَى بِنَضْحٍ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنَّ الْأَرْضَيْنِ إذَا تَسَاوَتَا فِي طِيبِ الْأَرْضِ وَقُوَّةِ النَّخْلِ وَكَثْرَةِ غَلَّتِهِمَا إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا لِسَقْيِهَا نَضْحٌ مَأْمُونٌ غَزِيرٌ لَا يُتَكَلَّفُ عَمَلٌ فِي إخْرَاجِهِ، وَالسَّقْيِ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ سَقْيُهَا نَضْحٌ يَتَكَلَّفُ فِيهِ الْمُؤْنَةَ يَأْخُذُهُمَا نَسَقًا وَاحِدًا فِي عَقْدَيْنِ إلَّا أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَهُمَا لِمَكَانِ الْآخَرِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِخِفَّةِ الْعَمَلِ وَشِدَّتِهِ تَأْثِيرًا مَقْصُودًا فِي الْمُسَاقَاةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ مِنْهُ إلَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ يَوْمَ الْمُسَاقَاةِ؛ لِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ عَمَلًا لِصَاحِبِ الْحَائِطِ يَعْمَلُهُ الْعَامِلُ فِي غَيْرِ الْحَائِطِ وَفِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ اشْتِرَاطُ كَثِيرِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْحَائِطِ لَوْ عَمِلَ فِي الْحَائِطِ أَقَلَّ السَّنَةِ أَوْ أَكْثَرَهَا ثُمَّ سَاقَاهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْعَامِلُ قِيمَةَ مَا عَمِلَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فَاشْتِرَاطُ الْعُمَّالِ الَّذِينَ فِي الْحَائِطِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ قِيمَةِ مَا عَمِلَ فِيهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ الْوَاثِنَةُ الثَّابِتُ مَاؤُهَا الَّتِي لَا تَغُورُ وَلَا تَنْقَطِعُ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ يَحْيَى وَغَيْرِهِ الْوَاتِنَةُ بِالتَّاءِ الْمُعْجَمَةِ بِنُقْطَتَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبَيْنِ الْوَاتِنُ الدَّائِمُ، وَفِي الْحَدِيثِ أَمَّا تَيْمَاءُ فَعَيْنٌ جَارِيَةٌ وَأَمَّا خَيْبَرُ فَمَاءٌ وَاتِنٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ وَاثِنًا بِالثَّاءِ الْمُعْجَمَةِ بِثَلَاثِ نُقَطٍ، وَحَكَى صَاحِبُ الْعَيْنِ الْوَاثِنُ الْمُقِيمُ بِالثَّاءِ بِثَلَاثِ نُقَطٍ وَلَمْ يَذْكُرْ وَاتِنًا بِالتَّاءِ الْمُعْجَمَةِ بِنُقْطَتَيْنِ فَعَلَى هَذَا تَصِحُّ الرِّوَايَتَانِ وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ وَانِيَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّفْسِيرَ.
(ش) : قَوْلُهُ وَلَيْسَ لِلْمُسَاقَى أَنْ يَعْمَلَ بِعُمَّالِ الْحَائِطِ فِي غَيْرِهِ يُرِيدُ مَنْ وُجِدَ فِي الْحَائِطِ مِنْ الرَّقِيقِ فَاشْتَرَطَهُمْ حِينَ الْعَقْدِ أَوْ وَجَبَ لَهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْحَائِطِ يُرِيدُ مِنْ حَوَائِطِهِ الَّتِي يَمْلِكُهَا أَوْ حَائِطِ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ اتَّخَذَهَا مُسَاقَاةً أَوْ عَمِلَ فِيهَا بِأُجْرَةٍ وَأَمَّا إنْ كَانَ الرَّقِيقُ لِلْعَامِلِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمْ حَيْثُ شَاءَ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِمْ كَيْفَ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي الْحَائِطِ عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَعْمَلَ مَنْ شَاءَ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَلَا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي سَاقَاهُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ فَإِنْ فَعَلَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ وَلَا يَتَغَيَّرُ شَيْءٌ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ زَادَ فِي الْوَاضِحَةِ وَيُفْسِدُ هَذَا الشَّرْطُ الْمُسَاقَاةَ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الزِّيَادَةِ فِيهَا يُنَافِي صِحَّتَهَا.
(فَرْعٌ) فَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ وَفَسَدَتْ
(5/140)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَجُوزُ لِلَّذِي سَاقَى أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ رَقِيقًا يَعْمَلُ بِهِمْ فِي الْحَائِطِ لَيْسُوا فِيهِ حِينَ سَاقَاهُ إيَّاهُ) .
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَنْبَغِي لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الَّذِي دَخَلَ فِي مَالِهِ بِمُسَاقَاةٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رَقِيقِ الْمَالِ أَحَدًا يُخْرِجُهُ مِنْ الْمَالِ وَإِنَّمَا مُسَاقَاةُ الْمَالِ عَلَى حَالِهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ قَالَ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ رَقِيقِ الْمَالِ أَحَدًا فَلْيُخْرِجْهُ قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ أَحَدًا فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ، ثُمَّ يُسَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْمُسَاقَاةُ وَفَاتَتْ بِالْعَمَلِ فَقِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ يُرَدَّ إلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ.
(ش) : قَوْلُهُ لَا يَجُوزُ لِلَّذِي سَاقَى أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ رَقِيقًا لَيْسُوا فِي الْحَائِطِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَمَلَهُمْ فِي حَائِطِ الْمُسَاقَاةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ازْدِيَادٌ يَزْدَادُهُ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ مِمَّا يَلْزَمُ الْعَامِلَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ مِنْهُ مَا لَهُ قِيمَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُسَاقَاةِ ازْدِيَادِ أَحَدِ الْمُتَسَاقِيَيْنِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ الْعَقْدِ وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي جَمِيعَ الْعَمَلِ عَلَى الْعَامِلِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ «الْيَهُودَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُقِرَّهُمْ عَلَى أَنْ يَكُفُّوا الْعَمَلَ وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» وَلِأَنَّنَا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ صَاحِبِ الْحَائِطِ إخْرَاجَ مَنْ فِي الْحَائِطِ مِنْ الرَّقِيقِ، وَالدَّوَابِّ فَبِأَنْ لَا يَجُوزَ لِلْعَامِلِ اشْتِرَاطُ مَنْ لَيْسَ فِي الْحَائِطِ أَحْرَى وَأَوْلَى.
(فَرْعٌ) وَقَدْ جَوَّزَ مَالِكٌ أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَامِلُ مِنْ ذَلِكَ التَّافِهَ الْيَسِيرَ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: كَالْعَبْدِ، وَالدَّابَّةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ: وَذَلِكَ فِي الْحَائِطِ الْكَبِيرِ فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ صَغِيرًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ جَمِيعَ الْعَمَلِ وَوَجْهُ الْجَوَازِ فِي الْحَائِطِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَسَاقِيَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى صَاحِبِهِ الْيَسِيرَ مِمَّا يَلْزَمُهُ عَمَلُهُ كَمَا يَشْتَرِطُ صَاحِبُ الْحَائِطِ عَلَى الْعَامِلِ سَدَّ الْحِظَارِ، وَالنَّفَقَةِ الْيَسِيرَةِ فِي الظَّفِيرَةِ، وَالْقُفِّ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْغُلَامَ، وَالدَّابَّةَ فَإِنَّ مِنْ حُكْمِ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِطَ بَقَاءَهُ فِي الْحَائِطِ مُدَّةَ الْمُسَاقَاةِ، وَإِنْ مَاتَ أَخْلَفَ ذَلِكَ رَبُّ الْحَائِطِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ الْحَائِطِ أَنْ يُخْلِفَهُ فَقَدْ قَالَ فِي الْوَاضِحَةِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ؛ لِأَنَّ مَا عَقَدَا بَاقٍ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْغُلَامِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خُلْفُهُ فَقَدْ اشْتَرَطَ عَمَلَهُ مُدَّةً مَجْهُولَةً وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ غُلَامَهُ مَعَهُ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَقَالَ سَحْنُونٌ إذَا كَانَ الْحَائِطُ كَبِيرًا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْغُلَامِ فِيهِ جَازَ اشْتِرَاطُ عَمَلِ رَبِّ الْحَائِطِ فِيهِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُسَاقَاةِ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ بِيَدِ الْعَامِلِ كَالْقِرَاضِ وَعَمَلُ رَبِّ الْحَائِطِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ: إنَّ هَذَا اشْتِرَاطُ عَمَلِ عَامِلٍ وَاحِدٍ فِي حَائِطٍ كَبِيرٍ فَجَازَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ عَمَلَ أَجِيرٍ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَعَمِلَ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ يُرَدُّ إلَى مُسَاقَاةِ مِثْلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ يُرَدُّ إلَى إجَارَةِ مِثْلِهِ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّ مَالِكًا قَدْ أَجَازَ اشْتِرَاطَ عَمَلِ الدَّابَّةِ، وَالْغُلَامِ فَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ مِنْ أَجْلِ الْيَدِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَرَامِ لَمَّا جَوَّزَ ذَلِكَ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ مُسَاقَاةٌ تُزِيلُ يَدَ الْعَامِلِ فَرُدَّتْ إلَى الْإِجَارَةِ كَمَا لَوْ شَرَطَ صَاحِبُهُ بَقَاءَ الْحَائِطِ فِي يَدِهِ.
(ش) : قَوْلُهُ لَا يَنْبَغِي لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ إخْرَاجَ أَحَدٍ مِنْ رَقِيقِ الْمَالِ يُرِيدُ أَنَّ حُكْمَ الْمُسَاقَاةِ إبْقَاءُ مَنْ كَانَ مِنْ خُدَّامِ الْمَالِ يَوْمَ الْمُسَاقَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ إنَّمَا تَكُونُ فِيهِ عَلَى حَالِهِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ بِعَمَلِ الْعُمَّالِ صَارَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهَا وَبِإِخْرَاجِ الْمُعَيَّنِ عَنْ الْحَائِطِ نَقْصٌ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْحَائِطِ الَّذِي يَعْمَلُ فِي جُمْلَتِهِ، وَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ ابْنُ نَافِعٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ الرَّقِيقِ أَحَدًا فَلْيُخْرِجْهُ أَوْ يُدْخِلَ فِيهِ أَحَدًا فَلْيُدْخِلْهُ قَبْلَ الْمُسَاقَاةِ، ثُمَّ يُسَاقِي عَلَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ يُرِيدُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الرَّقِيقَ مِنْهُ أَوْ يُدْخِلَ
(5/141)
(ص) : (قَالَ وَمَنْ مَاتَ مِنْ الرَّقِيقِ أَوْ غَابَ أَوْ مَرِضَ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخْلِفَهُ) .
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (كِتَابُ كِرَاءِ الْأَرْضِ)
(مَا جَاءَ فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ، قَالَ حَنْظَلَةُ فَسَأَلْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ فَقَالَ أَمَّا بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ فَلَا بَأْسَ بِهِ» مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ، فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهَا بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَقُلْت لَهُ أَرَأَيْت الْحَدِيثَ الَّذِي يَذْكُرُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَقَالَ أَكْثَرَ رَافِعٌ وَلَوْ كَانَ لِي مَزْرَعَةٌ أَكَرَيْتُهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فِيهِ مِنْ غَيْرِ رَقِيقِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَامِلُ مِمَّنْ لَيْسَ فِي الْحَائِطِ.
(ش) : قَوْلُهُ وَمَنْ مَاتَ مِنْ الرَّقِيقِ يُرِيدُ مِنْ رَقِيقِ الْحَائِطِ الَّذِينَ كَانُوا فِيهِ يَوْمَ الْعَقْدِ أَوْ شَرْطِ الْعَامِلِ فِي الْعَقْدِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَالدَّابَّةِ، وَالْأَجِيرِ فِي الْحَائِطِ الْكَبِيرِ فَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ أَوْ غَابَ بِإِبَاقٍ أَوْ مَرَضٍ فَعَلَى رَبِّ الْحَائِطِ خُلْفُهُ يُرِيدُ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُمْنَعُ مِنْ خَدَّامِ الْحَائِطِ مِنْ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْعَقَدَتْ الْمُسَاقَاةُ عَلَى تَخْفِيفِ الْعَمَلِ عَنْهُ مُدَّةَ الْمُسَاقَاةِ وَيَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَعْيَانِهِمْ، وَيَلْزَمُ صَاحِبَ الْحَائِطِ الْعِوَضُ مِنْهُمْ إنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَيْسَ بِعِوَضٍ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلْزَمُ الْعَامِلَ وَيَلْزَمُ صَاحِبَ الْحَائِطِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ أَكْثَرُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ ثَمَرِ ذَلِكَ الْعَامِ بِخِلَافِ أَرْضِ السَّقْيِ بِغَوْرِ مَاءِ بِئْرِهَا بَعْدَ الزِّرَاعَةِ فَإِنَّ عَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يُنْفِقَ فِيهَا كِرَاءَ سَنَةٍ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُسَاقَاةُ يَغُورُ بِئْرُ الْحَائِطِ أَوْ يَنْهَارُ فَإِنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يُنْفِقَ فِي ذَلِكَ قِيمَةَ حِصَّةِ رَبُّ الْحَائِطِ مِنْ ثَمَرَةِ ذَلِكَ الْعَامِ لَا زِيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ.
(فَرْقٌ) فَعَلَى هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ ضُرُوبٍ ضَرْبٌ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَ الْحَائِطِ وَالدَّارِ أَنْ يُنْفِقَ فِيهِ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا كَبُنْيَانِ الدَّارِ الْمُكْتَرَاةِ وَغَوْرِ الْعَيْنِ لِلْأَرْضِ الْمُكْتَرَاةِ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي يَلْزَمُ صَاحِبَ الْحَائِطِ أَنْ يُنْفِقَ فِيهِ مَنْفَعَةَ سَنَةٍ كَالنَّفَقَةِ عَلَى عَيْنِ الْأَرْضِ الْمُكْتَرَاةِ أَوْ الْحَائِطِ الْمُسَاقَى، وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعِيدَهُ إلَى مَا كَانَ بَلَغَ ذَلِكَ مَا بَلَغَ كَرَقِيقِ حَائِطِ الْمُسَاقِي وَدَوَابِّهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبِئْرِ، وَالْعَيْنِ أَنَّ الرَّقِيقَ، وَالدَّوَابَّ مِنْ جِنْسِ مَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ الْإِتْيَانَ بِهِ مِنْ عَمَلِ الْحَائِطِ وَإِنَّمَا لَزِمَ بَقَاؤُهُمْ فِي الْحَائِطِ لِسَقْيِ الْحَائِطِ عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ثُمَّ عَلَى الْعَامِلِ عَمَلُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا زَالُوا مِنْ الْحَائِطِ لَمْ يَكُنْ الْعَامِلُ عَمِلَ مَا زَادَ عَلَى عَمَلِهِمْ مَعَ عَدَمِ عَمَلِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ، وَالسُّفْلِ يَلْزَمُ صَاحِبَ السُّفْلِ أَنْ يَبْنِيَ أَوْ يَبِيعَ مِمَّنْ يَبْنِيَ لِتَمَكُّنِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ مِنْ عَمَلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْعَمَلُ دُونَ أَنْ يَبْنِيَ صَاحِبُ السُّفْلِ فَيَلْزَمُهُ إعَادَةُ عَمَلِهِ عَلَى مَا كَانَ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَاءُ الْعَيْنِ فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ الْإِتْيَانُ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامِلِ لَمْ يَلْزَمْ صَاحِبَ الْحَائِطِ الْإِتْيَانُ بِهِ لِيَسْتَوْفِيَ لِلْعَامِلِ مَنْفَعَةً وَإِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامِلِ بِالْعَمَلِ، وَالزِّرَاعَةِ فِي اكْتِرَاءِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ إصْلَاحُ ذَلِكَ بِذِمَّتِهِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ أَدْخَلَهُ الْعَامِلُ فِي الْحَائِطِ مِنْ غُلَامٍ أَوْ أَجِيرٍ أَوْ دَابَّةٍ فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ بِمَوْتٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ مَرَضٍ فَعَلَى الْعَامِلِ عِوَضُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ انْعَقَدَتْ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ فِي جَمِيعِ مُدَّةِ الْمُسَاقَاةِ.
[كِتَابُ كِرَاءِ الْأَرْضِ]
[مَا جَاءَ فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ]
(ش) : قَوْلُهُ «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» عَامٌّ فِي كُلِّ مَا تُكْرَى بِهِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فَأَتَى مِنْ ذَلِكَ الْمَنْعِ
(5/142)
) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فِي الْجُمْلَةِ ذَهَبَ طَاوُسٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ إلَى تَجْوِيزِ ذَلِكَ وَوَجْهُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ لِلْمَنْعِ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ لَمْ يَنْقُلْ لَفْظَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى غَيْرِ الذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ اسْتِئْجَارُهَا لِمَنْفَعَتِهَا الْمَقْصُودَةِ لَجَازَتْ الْمُسَاقَاةُ فِيهَا كَالنَّخْلِ وَلَمَّا لَمْ تَجُزْ الْمُسَاقَاةُ فِيهَا جَازَ اسْتِئْجَارُهَا كَالدَّوَابِّ وَسَائِرِ مَا يُسْتَأْجَرُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ حَنْظَلَةَ فَسَأَلْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ، فَقَالَ أَمَّا بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ فَلَا بَأْسَ بِهِ يَقْتَضِي إبَاحَةَ ذَلِكَ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى إبَاحَتِهِ بِغَيْرِ الذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ مَالِكٌ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ غَيْرُ رَبِيعَةَ فَإِنَّهُ مَنَعَهُ بِغَيْرِ الذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ مَا جَازَ اسْتِئْجَارُهُ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ جَازَ اسْتِئْجَارُهُ بِالْحَيَوَانِ، وَالثِّيَابِ كَالرَّوَاحِلِ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ بِكُلِّ مَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ وَلَا ثَابِتٍ فِي الْأَرْضِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا لِأَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمُخْتَصَرِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ لِسَالِمٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُ: يَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ رَأَيْت الْحَدِيثَ الَّذِي يُذْكَرُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ يُرِيدُ قَوْلَهُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ وَيَتَنَاوَلُ عُمُومَ ذَلِكَ لِلْمَنْعِ مِنْ كِرَائِهَا بِذَهَبٍ وَوَرِقٍ وَغَيْرِهِ فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ أَكْثَرَ رَافِعٌ يُرِيدُ أَنَّهُ رَوَى مِنْ النَّهْيِ مَا مُنِعَ مِنْهُ وَمَا لَمْ يُمْنَعْ وَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى مَنْفَعَةٍ بِغَيْرِ الذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ لَكِنْ رَوَاهُ بِلَفْظِ الْعُمُومِ أَوْ نَقَلَ اللَّفْظَ عَلَى مَا سَمِعَهُ، وَلَمْ يَنْقُلْ مَعَهُ مَا يَمْنَعُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ أَوْ مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ لِي مَزْرَعَةٌ أَكَرَيْتهَا عَلَى مَعْنَى تَجْوِيزِ الْكِرَاءِ فِي الْجُمْلَةِ لَا عَلَى مَعْنَى تَجْوِيزِ إكْرَائِهَا بِكُلِّ عِوَضٍ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَرَى اكْتِرَاءَهَا جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْعِوَضِ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ وَسَكَتَ عَنْ اكْتِرَائِهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ حَدَّثَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ «فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إلَى رَافِعٍ وَذَهَبْتُ مَعَهُ فَسَأَلْته فَقَالَ» نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ «فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَدْ عَلِمْت إنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَشَيْءٍ مِنْ التِّينِ» وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ كُنْت أَعْلَمُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْأَرْضَ تُكْرَى ثُمَّ خَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَحْدَثَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فَتَرَكَ اكْتِرَاءَ الْأَرْضِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَدْ عَلِمْت إنَّا كُنَّا نُكْرِي مَزَارِعَنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا عَلَى الْأَرْبِعَاءِ وَبِشَيْءٍ مِنْ التِّينِ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِهِ فَأَقَرَّهُ» بَلْ هُوَ نَفْسُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ عَنْ عَمِّهِ «أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا ثَبَتَ عَلَى الْأَرْبِعَاءِ أَوْ شَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الْأَرْضِ فَنَهَانَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ» فَقَدْ تَنَاوَلَ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ إلَّا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِنَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ قَالَ اللَّيْثُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَانَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ نَظَرَ فِيهِ ذُو الْفَهْمِ بِالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ لَمْ يُجِزْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حَنْظَلَةَ الزُّرَقِيِّ عَنْ رَافِعٍ قَالَ «كُنَّا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَقْلًا وَكُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمَّاةٌ لِسَيِّدِ الْأَرْضِ فِيمَا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلِيمُ الْأَرْضِ مِمَّا تُصَابُ الْأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»
(5/143)
(ص) : (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ تَكَارَى أَرْضًا فَلَمْ تَزَلْ فِي يَدَيْهِ بِكِرَاءٍ حَتَّى مَاتَ قَالَ ابْنُهُ فَمَا كُنْت أَرَاهَا إلَّا لَنَا مِنْ طُولِ مَا مَكَثَتْ فِي يَدَيْهِ حَتَّى ذَكَرَهَا لَنَا عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَمَرَنَا بِقَضَاءِ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كِرَائِهَا ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا قَالَ مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُكْرِي أَرْضَهُ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَلَعَلَّ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا بَلَغَهُ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ امْتَنَعَ مِنْهُ وَجَوَّزَهُ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ عَلَى مَا جَوَّزَهُ ابْنُهُ سَالِمٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ امْتَنَعَ مِنْهُ جُمْلَةً لَمَّا خَشِيَ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ مَنْعٌ عَامٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : قَوْلُهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ كَانَ يُكَارِي أَرْضًا فَلَمْ تَزَلْ فِي يَدَيْهِ حَتَّى مَاتَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ اكْتَرَاهَا مُسَاقَاةً وَذَلِكَ بِأَنْ يُكْرِيَهَا مِنْهُ بِدِينَارٍ فِي كُلِّ عَامٍ وَلَا يَحُدُّ فِي ذَلِكَ أَعْوَامًا وَلَكِنَّهُ يُطْلِقُ فِيهَا الْقَوْلَ وَهَذَا عِنْدَ مَالِكٍ جَائِزٌ وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ هُوَ بَاطِلٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى أَنْ يَكُفُّوا الْعَمَلَ وَلَهُمْ شَطْرُ الثَّمَرَةِ فَقَالَ نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» وَهَذَا نَصٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى إنَّ مَا جَازَ الْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ جَازَ الْعَقْدُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْهُ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ كَمَا لَوْ قَالَ: أَشْتَرِي مِنْك هَذِهِ الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا لِكِرَاءِ مَا مَضَى وَلِلْمُكْتَرِي أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُخْرِجَهُ مَتَى شَاءَ، رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّقْدِيرِ فِي الْكِرَاءِ يُنَافِي اللُّزُومَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ لَتَأَبَّدَ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلْكِرَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْأَوْجَبِيَّةُ وَاحِدَةٌ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَهَذَا إذَا قَالَ: كُلُّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ كُلُّ سَنَةٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ فِي السَّنَةِ بِكَذَا أَوْ فِي الشَّهْرِ بِكَذَا رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَرَوَى فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ أَوْ الشَّهْرَ، وَفِي الْوَاضِحَةِ لِمُطَرِّفِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَرِوَايَتُهُمَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ: كُلُّ شَهْرٍ أَوْ الشَّهْرَ أَوْ فِي الشَّهْرِ بِكَذَا فَالشَّهْرُ الْأَوَّلُ لَازِمٌ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْضُهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ كَانَ أَوْ آخِرِهِ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ شَهْرٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ إلَّا كَتَعْيِينِ غَيْرِهِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لَازِمًا كَالثَّانِي وَوَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّ مَا قُدِّرَ بِهِ الْكِرَاءُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ لُزُومُهُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مُقْتَضَاهُ اللُّزُومُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللُّزُومُ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا قُدِّرَ بِهِ الْكِرَاءُ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ نَقَدَهُ الْكِرَاءُ فَقَدْ لَزِمَهُمَا مِقْدَارُ مَا نُقِدَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ قَدْ قَطَعَ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ الْخِيَارِ، وَأَخْرَجَهُ إلَى اللُّزُومِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ وَلَوْ اكْتَرَى مِنْهُ سَنَةً مُعَيَّنَةً عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مَتَى شَاءَ جَازَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ عَقَدَ الْكِرَاءَ بِأَنِّي قَدْ اكْتَرَيْت هَذِهِ الْأَرْضَ سَنَةً أَوْ هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ لِكَوْنِ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْكِرَاءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ لِلسَّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ دَارًا فَفِي الْمُدَوَّنَةِ إنْ اكْتَرَاهَا سَنَةً وَلَمْ يُسَمِّ مَتَى سَكَنَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَإِنْ اكْتَرَاهَا بَعْدَ مُضِيِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ السَّنَةِ فَإِنَّهُ يَحْسِبُ بَقِيَّةَ هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي ذَهَبَ بَعْضُهُ ثُمَّ يَحْسِبُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بَعْدَهُ بِالْأَهِلَّةِ، ثُمَّ يُتِمُّ عَلَى الْأَيَّامِ الْأُولَى شَهْرًا ثَلَاثِينَ يَوْمًا فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْعَامِ شَهْرٌ وَاحِدٌ عَلَى الْأَيَّامِ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ أَرْضًا فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ الْعَامَ كُلَّهُ فِيهَا الْبُقُولُ، وَالْخُضَرُ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكْتَرِيَ مُشَاهَرَةً وَمُسَانَاةً، وَإِنْ كَانَتْ خَالِيَةً مِنْ الزَّرْعِ فَأَوَّلُ سِنِيهَا مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا خُضْرَةٌ أَوْ زَرْعٌ فَمِنْ وَقْتِ تَخْلُو، وَآخِرُ عَامِهَا عَلَى ذَلِكَ عَلَى مِثْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الدُّورِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِأَهْلِ بَلَدٍ عُرْفٌ فِي الْكِرَاءِ بِالشُّهُورِ الْعَجَمِيَّةِ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ إطْلَاقُ الْكِرَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي إنَّمَا تُزْرَعُ مُدَّةً كَأَرْضِ النِّيلِ وَمَا أَشْبَهَهَا، فَأَوَّلُ سَنَتِهَا وَقْتَ زِرَاعَتِهَا وَوَقْتُ الزَّرْعِ لِلْحَرْثِ إنْ كَانَتْ أَرْضًا يُقَدِّمُ لَهَا الْحَرْثَ وَآخِرُ عَامِهَا عَلَى مَا قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ رَفْعُ الزَّرْعِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْعَامِ شَهْرٌ أَوْ شَهْرَانِ وَمَا لَا يُنْتَفَعُ فِيهِ بِالزَّرْعِ فَلَيْسَ لِلْمُكْتَرِي أَنْ يَحْرُثَ فِيهَا زَرْعًا إلَّا بِكِرَاءٍ مُؤْتَنَفٍ وَلَا يُحَطُّ عَنْهُ لِمَا بَقِيَ شَيْءٌ وَلِرَبِّهَا حَرْثُهَا لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْمُكْتَرِي
(5/144)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مَنْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مُضَارٌّ وَلَوْ زَرَعَهَا الْمُكْتَرِي، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْوَجِيبَةَ تَنْقَضِي قَبْلَ تَمَامِ زَرْعِهِ بِالْأَيَّامِ، وَالشَّهْرِ فَرُبَّمَا مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ حَرَثَ أَرْضَهُ وَأَفْسَدَ زَرْعَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّهُ وَأَخَذَ بِالْأَكْثَرِ مِنْ كِرَاءِ الْمِثْلِ وَبِحِسَابِ كِرَاءِ الْوَجِيبَةِ، قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَوَصَفَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَنَّهُ مَنْعُهُ مِنْ الزِّرَاعَةِ لِانْقِضَاءِ عَامِهِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي تُزْرَعُ الْعَامَ كُلَّهُ وَأَتَى آخِرُ الْعَامِ وَلِلْمُكْتَرِي فِيهَا زَرْعٌ أَوْ بَقْلٌ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ قَلْعُهُ وَزَرْعُهُ وَلَا يَقْلَعُهُ وَيَتْرُكُ ذَلِكَ حَتَّى يَتِمَّ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ كِرَاءُ مِثْلِ أَرْضِهِ عَلَى حِسَابِ مَا كَانَ اكْتَرَاهَا مِنْهُ وَاخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِي تَأْوِيلِ هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ بَلَدِنَا: إنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ إنَّهُ مُتَضَادٌّ؛ لِأَنَّ كِرَاءَ مِثْلِ أَرْضِهِ مَفْهُومُهُ مَا يُسَاوِي أَرْضَهُ كَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ حِسَابِ مَا اكْتَرَى أَوْ أَكْثَرَ وَقَوْلُهُ عَلَى حِسَابِ مَا كَانَ اكْتَرَاهَا يَقْتَضِي الِاعْتِبَارَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَقْدِهِمَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ كِرَاءِ مِثْلِهَا أَوْ أَكْثَرَ قَالَ وَلَكِنْ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا كِرَاءُ الْمِثْلِ، وَالثَّانِي لَهُ كِرَاءٌ مِنْ حِسَابِ مَا كَانَ اكْتَرَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ عَلَيْهِ كِرَاءَ مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ أَوْقَاتَ السَّنَةِ يَخْتَلِفُ فِي كَثْرَةِ الْكِرَاءِ وَقِلَّتِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ كِرَاؤُهَا فِي الشِّتَاءِ، وَالصَّيْفِ وَاحِدًا فَكِرَاءُ مِثْلِ أَرْضِهِ إنَّمَا أَرَادَ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ السَّنَةَ كُلَّهَا فَيُعْتَبَرُ كِرَاؤُهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ السَّنَةِ وَلَكِنَّهُ عَلَى حِسَابِ مَا اكْتَرَى فَإِنْ اكْتَرَاهَا مِنْهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، وَتِلْكَ الْمُدَّةُ وَإِنْ كَانَتْ شَهْرًا وَاحِدًا فَحِصَّتُهُ مِنْ كِرَاءِ السَّنَةِ الرُّبْعُ لِرَغْبَةِ النَّاسِ فِيهِ وَآخِرُ وَقْتِ الْغَلَّةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ دِينَارَانِ وَنِصْفُ وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَبِرَ بِمَا عَقَدَ عَلَيْهِ مِنْ الْكِرَاءِ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ كِرَاءِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ.
وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ خَارِجَةً عَنْ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ زَرَعَ فِي وَقْتٍ كَانَ لَهُ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ قَدْ اسْتَحَقَّهَا بِالْكِرَاءِ وَلَا فَائِدَةَ لَهَا إلَّا الزَّرْعُ فَلِذَلِكَ أُسْنِدَتْ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ إلَى هَذِهِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا بِسَبَبِهَا ثَبَتَتْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ مُدَّةُ تَعَدٍّ وَظُلْمٍ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ فِيهَا كِرَاءُ الْمِثْلِ أَوْ يَأْمُرُهُ بِقَلْعِ مَا زَرَعَ وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ فَإِنَّ الْغَيْرَ يَقُولُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُكْتَرِي أَنْ يَزْرَعَ حِينَ لَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْ شُهُورِهِ مُدَّةً يَتِمُّ فِيهَا زَرْعُهُ فَإِذَا زَرَعَ فَقَدْ تَعَدَّى فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَعَلَيْهِ كِرَاءُ الْمِثْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِمَّا يَجِبُ لَهُ عَلَى حِسَابِ مَا مَضَى فَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ إذَا عَمِلَهَا بِحِسَابِ مَا مَضَى، وَفِي الْوَاضِحَةِ أَنَّ الْمُكْتَرِيَ أَرْضَ الْمُسَاقَاةِ قَبْلَ أَنْ يَعْمِدَ إلَى انْقِضَاءِ الْوَجِيبَةِ فَجَازَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ أَوْ شَهْرٍ فَلَهُ كِرَاءُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ يُرِيدَانِ الْأَكْثَرَ مِنْ كِرَاءِ الْمِثْلِ أَوْ عَلَى حِسَابِ مَا كَانَ اكْتَرَى، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ تَمَامَهُ إلَّا بِالْوَجِيبَةِ بِأَمْرٍ بَعِيدٍ فَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَ أَوْ يَتْرُكَ وَلَهُ الْأَكْثَرُ مِنْ كِرَاءِ الْوَجِيبَةِ أَوْ كِرَاءِ الْمِثْلِ، فَقَالَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ لَهُ أَنْ يَعْمِدَ إلَى انْقِضَاءِ الْوَجِيبَةِ، ثُمَّ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِحُكْمِ الْمَنْعِ وَإِنَّمَا تَحَقَّقَ الْقَوْلُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمِدَ مَا تَيَقَّنَ أَنَّ وَرَقَتَهُ تَتِمُّ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْوَجِيبَةِ وَلَوْ تَبَايَعَا عِنْدَ الزِّرَاعَةِ لَوَجَبَ أَنْ تُكْرَى الْأَرْضُ، وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْكِرَاءِ بِقَدْرِ مَا لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ.
1 -
/ (مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ اكْتَرَى أَرْضًا سِنِينَ فَغَرَسَهَا فَانْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَفِيهَا شَجَرُ الْمُكْتَرِي فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا مَقْلُوعَةً أَوْ يَأْمُرَ الْمُكْتَرِيَ بِقَلْعِهَا وَلَوْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَفِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ وَلَا أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَلْعِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزَّرْعَ لَهُ أَمْرٌ يَكْمُلُ فِيهِ وَتَخْلُو الْأَرْضُ مِنْهُ فَلِذَلِكَ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُنْقَلُ وَيَحُولُ، وَالشَّجَرُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فَلَوْ لَزِمَ بَقَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ لَاسْتَحَقَّ صَاحِبُهُ الْأَرْضَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْكِرَاءِ الَّذِي مُقْتَضَاهُ أَنْ يَنْقَضِيَ بِانْقِضَاءِ أَمَدٍ إلَى حَدِّ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ وَلَوْ كَانَ فِي الشَّجَرَةِ ثَمَرَةٌ مُؤَبَّرَةٌ لَمْ يَخْلُ أَنْ تَكُونَ مُؤَبَّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْقَرَوِيِّينَ إنْ كَانَتْ الشَّجَرَةُ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ
(5/145)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أُجْبِرَ الْمُكْتَرِي عَلَى قَلْعِ شَجَرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّرَةً لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَلْعِهِ وَكَانَ لَهُ إبْقَاؤُهَا حَتَّى تَتِمَّ ثَمَرَتُهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَرْضَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مَأْمُونَةٌ وَغَيْرُ مَأْمُونَةٍ، فَأَمَّا الْمَأْمُونَةُ فَهِيَ أَرْضُ النِّيلِ قَالَ مَالِكٌ وَلَيْسَ أَرْضُ الْمَطَرِ عِنْدِي بَيِّنًا كَبَيَانِ أَرْضِ النِّيلِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَكَادُ تَخْتَلِفُ فَالنَّقْدُ جَائِزٌ خِلَافًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي أَرْضِ النِّيلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ مَنَافِعِهَا الِاسْتِيفَاءُ فَجَازَ الْكِرَاءُ فِيهَا كَسُكْنَى الدُّورِ، قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْآبَارِ، وَالْأَنْهَارِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تَخْلُفُ إلَّا فِي الْغِبِّ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا أَرْضُ الْمَطَرِ فَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْلُفُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَالنِّيلُ أَبْيَنُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأُصْبَغُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَقَدْ قِيلَ لَهُمَا أَنَّ أَرْضَ الْأَنْدَلُسِ أَرْضُ مَطَرٍ وَلَا تَكَادُ تَخْلُفُ، فَقَالُوا لَا يَنْعَقِدُ فِيهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا الْمَطَرُ الَّذِي يُحْرَثُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْتَظَرُ بِهَا الرِّوَاءُ بِخِلَافِ أَرْضِ النِّيلِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى الْمَأْمُونَةِ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ تَكْفِيَهَا سَقْيَةٌ وَاحِدَةٌ تُرْوَى بِهَا كَأَرْضِ النِّيلِ فَأَمَّا أَرْضُ الْمَطَرِ فَلَا يَكْفِيهَا إلَّا الْمَطَرُ الْمُتَكَرِّرُ وَلَوْ أَرَادَ أَنَّ الْمَأْمُونَةَ هِيَ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا السَّقْيُ بِوَجْهٍ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ النِّيلِ بِمَأْمُونَةٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَنْقَطِعُ عَنْهَا السَّقْيُ كَمَا يَنْقَطِعُ الْمَطَرُ عَنْ أَرْضِ الْمَطَرِ لَكِنَّهَا تُفَارِقُهَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْمُونَةٍ فَلَا يَجُوزُ النَّقْدُ فِيهَا بِشَرْطٍ عِنْدَ الْعَقْدِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ مَنْفَعَتُهَا الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْمَطَرِ لَمْ يَجِبْ لَهُ كِرَاءُ الْأَرْضِ إلَّا مَعَ الْمَطَرِ، وَلَمَّا كَانَ عَدَمُهُ مُعْتَادًا لَمْ يَجُزْ النَّقْدُ؛ لِأَنَّ بِعَدَمِ الْمَطَرِ يَجِبُ رَدُّهُ فَيَكُونُ تَارَةً كِرَاءً إنْ نَزَلَ الْمَطَرُ وَتَارَةً سَلَفًا إنْ عَدِمَ الْمَطَرُ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ نَقَدَ بِشَرْطٍ فَقَدْ رَوَى فِي الْعُتْبِيَّةِ حُسَيْنُ بْنُ عَاصِمٍ فِيمَنْ اكْتَرَى أَرْضَهُ عَشْرَ سِنِينَ وَهِيَ أَرْضُ مَطَرٍ وَانْتَقَدَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَأْمُونَةً فَهِيَ كِرَاءٌ وَسَلَفٌ يُفْسَخُ مَا لَمْ يُفْتِ فَإِنْ حَرَثَهَا لِقَلِيبٍ أَوْ زَرْعٍ فَذَلِكَ فَوْتٌ وَيُقَاصُّهُ بِكِرَاءِ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ سَائِرِ السِّنِينَ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي قَبَضَ وَيَرُدُّ مَا بَقِيَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ نَقَدَهُ بِشَرْطٍ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، وَإِنْ نَقَدَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَقَدْ أَطْلَقَ اللَّفْظَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ وَإِنْ كَانَ بِشَرْطِ ذَلِكَ فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَيُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ فَإِنْ فَاتَ بِالْعَمَلِ لَزِمَهُ بِكِرَاءِ الْمِثْلِ فَيُقَاصُّهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كِرَاءِ سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِيهَا وَلَا يَقْضِيهِ غَيْرَهَا وَيَتْرُكُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ يَأْخُذُ بِهِ مَنْفَعَةَ أَرْضٍ فَيُؤَدِّي إلَى فَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ أَطْلَقَ الْعَقْدَ فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ فَمَتَى يَلْزَمُ النَّقْدُ؟ رَأَيْتُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْحَقِّ أَنَّ كِرَاءَ الْأَرْضِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فَأَمَّا أَرْضُ الْمَطَرِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْقُدَ حَتَّى يَتِمَّ زَرْعُهُ وَأَمَّا أَرْضُ النِّيلِ، وَالْمَأْمُونَةُ مِنْ الْمَطَرِ فَيَنْقُدُهُ إذَا رُوِيَتْ وَأَمَّا أَرْضُ السَّقْيِ الَّتِي تُزْرَعُ بُطُونًا فَيَنْقُدُهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ بَطْنٍ مَا يُنْوَ بِهِ، وَعِنْدَ أَشْهَبَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ كُلِّ بَطْنٍ مَا يَنْوِ بِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّانِي عِنْدَهُمَا.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَيَحْتَاجُ هَذَا إلَى تَأَمُّلٍ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ النَّقْدُ فِي أَرْضِ الْمَطَرِ إلَّا بَعْدَ مَا تُرْوَى وَتُمَكَّنُ مِنْ الْحَرْثِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ إلَّا غَيْرَ الْمَأْمُونَةِ فَإِنَّ الْمَأْمُونَةَ يَصْلُحُ النَّقْدُ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تُرْوَى وَلَكِنَّهُ لَعَلَّهُ أَرَادَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُدَوَّنَةِ الرَّيَّ الْمُبَلِّغَ وَعَلَى ذَلِكَ تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ النَّقْدُ فِي أَرْضِ النِّيلِ إذَا رُوِيَتْ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُرْوَى مَرَّةً وَاحِدَةً وَبِهَا يَتِمُّ الزَّرْعُ فَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ الْمَطَرِ هَذَا حُكْمُهُ، فَهِيَ الْمَأْمُونَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَمَا كَانَ تَوَالِي الْمَطَرِ عَلَيْهَا مُعْتَادًا لَا يَكَادُ أَنْ يُخْلِفَ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَتَابُعِهِ فِي إتْمَامِ الزَّرْعِ فَلَا يَلْزَمُ النَّقْدُ بِنَفْسِ الرَّيِّ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ النَّقْدُ بِالرَّيِّ الْمُبَلِّغِ وَأَمَّا أَرْضُ الْخُضَرِ الَّتِي تُزْرَعُ بُطُونًا، فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْقُدَ أَوَّلَ كُلِّ بَطْنٍ مَا يَنُوبُهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَنْقُدُ عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ بَطْنٍ مَا يَنُوبُهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي يَكْفِيهَا أَوَّلَ سَقْيَةٍ لِتَمَامِ الْبَطْنِ
(5/146)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فَهِيَ الَّتِي أَرَادَ أَشْهَبُ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَرْضِ النِّيلِ إذَا قُصِدَ بِهَا الزَّرْعُ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى مُتَابَعَةِ السَّقْيِ فَهِيَ الَّتِي عَنَاهَا ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَاءُ مِنْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ وَهِيَ الَّتِي تُشْبِهُ السُّكْنَى، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا كَانَ مَا زُرِعَ فِيهَا يَتِمُّ بِأَوَّلِ رَيٍّ لَزِمَ النَّقْدُ مَعَ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ إنَّمَا هُوَ فِي أَرْضِهِ فَقَدْ قَبَضَ ذَلِكَ الْمُكْرِي الْأَرْضَ إذَا جَعَلْنَاهَا قَابِضَةً فَلَزِمَهُ النَّقْدُ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَاجُ إلَى تَوَالِي الْمَطَرِ وَتَتَابُعِهِ فَلَمْ يَقَعْ الِاسْتِيفَاءُ فِيهِ فَلَمْ يَلْزَمْ النَّقْدُ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْكِرَاءِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَرْضِ الْمَأْمُونَةِ مِنْ النِّيلِ، وَالسَّيْحِ أَوْ الْمَطَرِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ أَمَانُهَا عِنْدَ الْعَقْدِ وَأَمَّا أَرْضُ الْمَطَرِ الَّتِي يَتَخَلَّفُ مَطَرُهَا فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ قَبْضِ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى الْجَائِزِ مِنْ تَرْكِ اشْتِرَاطِ النَّقْدِ فَمَتَى يُنْقَدُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَصْلُحُ النَّقْدُ فِيهَا إلَّا إذَا رُوِيَتْ وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَرْضِ النِّيلِ فَإِذَا قَبَضَ الْأَرْضَ، وَقَدْ رُوِيَتْ لَزِمَهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ نَقْدُ الْكِرَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي لَا يَتِمُّ زَرْعُهَا إلَّا بِالْمَطَرِ أَرْضَ نِيلٍ كَانَتْ أَوْ أَرْضَ مَطَرٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُدُهُ الْكِرَاءَ حَتَّى يَتِمَّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: إذَا كَانَتْ مَأْمُونَةَ السَّقْيِ وَجَبَ الْكِرَاءُ نَقْدًا، فَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْكِرَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِتَمَامِ الْمَنْفَعَةِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالرَّيِّ الْمُبَلِّغِ وَوَجْهُ قَوْلِ الْغَيْرِ أَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُنْتَقِيَةَ وَاَلَّتِي ظَاهِرُهَا، وَالْغَالِبُ فِيهَا إمْكَانُ الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضَةِ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا اكْتِرَاءُ الْأَرْضِ فَإِنْ كَانَتْ مَأْمُونَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَقْدُ الْكِرَاءِ قَبْلَ إبَّانِ الْحَرْثِ وَتُكْرَى الْعَشْرَ سِنِينَ وَأَكْثَرَ مَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْمُونَةٍ كَأَرْضِ الْمَطَرِ الَّتِي تُرْوَى مَرَّةً وَتَعْطَشُ أُخْرَى فَأَجَازَ الرُّوَاةُ اكْتِرَاءَهَا قَبْلَ إبَّانِ الْحَرْثِ إذَا لَمْ يُنْقَدْ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا تُكْتَرَى إلَّا قُرْبَ الْحَرْثِ مَعَ وُقُوعِ الْمَطَرِ، وَالرَّيِّ وَيَكُونُ مُبَلِّغًا لَهُ أَوْ لِأَكْثَرِهِ مَعَ رَجَاءِ وُقُوعِ غَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ اكْتِرَاؤُهَا أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ عَقْدَ الْكِرَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ مَخَافَةَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ التَّمَكُّنُ مِنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّتِهِ تَعَذُّرُ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ فَإِنَّ مَا يُؤْثَرُ مَخَافَةَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ تَعْجِيلِ النَّقْدِ، وَوَجْهُ قَوْلِ الْغَيْرِ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْعَقْدِ قَبْلَ وَقْتِ الْعَمَلِ إلَّا مُجَرَّدُ التَّحْجِيرِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ مِنْ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَظْهَرُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَكَارَى أَرْضًا لَهَا مَا لَيْسَ فِي مِثْلِهِ مَا يَكْفِي زَرْعَهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَإِنَّمَا كَرِهَهُ مِنْ وَجْهِ الْغَرَرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَرْضِ الْمَطَرِ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَدْخُلُ مِنْ الْمَاءِ عَلَى قَدْرِ مَا يُرَى فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُبَلِّغُ زَرْعَهُ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ وَأَرْضُ الْمَطَرِ إنْ لَمْ يَأْتِ مِنْ الْمَطَرِ مَا يُبَلِّغُ زَرْعَهُ وَإِلَّا سَقَطَ عَنْهُ الْكِرَاءُ قَالَ وَلَوْ تَكَارَيَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْفِهِ مَا رَأَى مِنْ الْمَاءِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالْكِرَاءِ فَإِنَّهُ أَيْضًا خَطَأٌ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ لَوْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يَتِمُّ بِهِ الزَّرْعُ لَمْ يُكْرَهْ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ يُرِيدُ أَنَّ الْمَاءَ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا تَخَاطَرَا فِي تَمَامِ الزَّرْعِ بِهِ أَمْ لَا، وَأَمَّا الْمَطَرُ فَمَاؤُهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِنَّمَا يُكْتَرَى عَلَى التَّبْلِيغِ وَلَا يَعْلَمُ الْمُكْتَرَى مِنْ حَالِ الْمَطَرِ إلَّا مَا يَعْلَمُهُ الْمُكْتَرِي فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهِ الْخَطَرِ الْمَانِعِ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَهَذَا كَبَيْعِ الْآبِقِ الَّذِي لَا يُتَيَقَّنُ تَسْلِيمُهُ أَوْ بَيْعِ الْمَهْرِ الصَّعْبِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ قَبْضَهُ رُدَّ إلَيْهِ الثَّمَنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ اكْتَرَى أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا شَعِيرًا فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا حِنْطَةً فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ إنْ أَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا مَضَرَّتُهُ مَضَرَّةُ الْقَمْحِ أَوْ أَقَلُّ جَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا مَا مَضَرَّتُهُ أَشَدُّ مِنْ مَضَرَّةِ الْقَمْحِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَا تُسْتَوْفَى بِهِ الْمَنَافِعُ فِي الْإِجَارَاتِ لَا يَتَعَيَّنُ وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ الْعَيْنُ الَّتِي يُسْتَوْفَى مِنْهَا الْمَنَافِعُ وَجِنْسُ الْعَيْنِ الَّتِي يُسْتَوْفَى بِهَا كَحِمْلِ الرَّاحِلَةِ وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ الرَّاحِلَةُ وَيَتَعَيَّنُ جِنْسُ الْحِمْلِ لِيَمْتَنِعَ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ وَلَا يَمْتَنِعَ
(5/147)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْمُكْتَرِي مِمَّا هُوَ مِثْلُهُ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ زَرَعَهَا مَا ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ الشَّعِيرِ فَلِرَبِّهَا كِرَاءُ الشَّعِيرِ وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ بِالضَّرَرِ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ كِرَاءُ الْمِثْلِ وَدَلِيلُنَا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَنَاوَلَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلِرَبِّهِ بِقَدْرِ مَا زَادَ مَعَ مَا عُقِدَ بِهِ أَصْلُ ذَلِكَ اكْتِرَاءُ دَابَّةٍ مِنْ بَغْدَادَ إلَى حُلْوَانَ فَيَتَعَدَّى بِهَا إلَى الرِّيِّ فَإِنَّ لَهُ الْأُجْرَةَ مِنْ بَغْدَادَ إلَى حُلْوَانَ وَكِرَاءُ الْمِثْلِ مِنْ حُلْوَانَ إلَى الرِّيِّ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ اكْتَرَى أَرْضًا سِنِينَ لِلزَّرْعِ لَهَا بِئْرٌ أَوْ عَيْنٌ فَذَهَبَ مَاؤُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَرْعٌ انْفَسَخَ الْكِرَاءُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ فِي إصْلَاحِ ذَلِكَ كِرَاءَ عَامِهِ ذَلِكَ وَلَا غَيْرِهِ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ وَعَبْدُ الْمُلْكِ بْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُمَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ اسْتِدَامَةُ الْكِرَاءِ لِعَدَمِ مَا اكْتَرَى مِنْ الْمَاءِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ كَمَا لَوْ اكْتَرَى دَارًا لِيَسْكُنَهَا فَانْهَدَمَ بِنَاؤُهَا وَلَيْسَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهَا إصْلَاحُهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزْرَعْ فِيهَا بَعْدُ فَلَمْ يُتْلِفْ لَهُ إلَّا مَا لَا يُتْرَكُ الْإِنْفَاقُ فِيهَا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ فَإِنْ أَنْفَقَ فِيهَا الْمُكْتَرِي فَهُوَ مُصَدِّقٌ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ رَبَّهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ فَيُؤَدُّونَهُ نَقْدًا، وَإِنْ حَبَسَهُ فِي الْكِرَاءِ جَازَ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ فَإِنْ أَنْفَقَ فِيهَا الْمُكْتَرِي فَهُوَ مُصَدَّقٌ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ رَبَّهَا ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ دَيْنًا بِدَيْنٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ الْأَرْضَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي كِرَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى مَا يُصْلِحُ بِهِ مَا فَسَدَ مِنْ الْمَاءِ أَوْ لَا يَبْلُغُ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ فُسِخَ الْكِرَاءُ بَيْنَهُمَا قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْمَوَّازِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ يُقَالُ لِلْمُكْتَرِي أَنْفِقْ مَا زَادَ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُخَيَّرٌ عَلَيْك بَعْدَ الْوَجِيبَةِ فِي أَنْ يَأْمُرَك بِقَلْعِ مَا لَك فِيهِ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ يُعْطِيَك قِيمَتَهُ وَكِلَاهُمَا يَئُولُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ الْمُكْتَرِي لَمْ يُرِدْ أَنْ يُنْفِقَ مَا زَادَ عَلَى كِرَاءِ السَّنَةِ فَاحْتَاجَ إلَى الزِّيَادَةِ وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ وَبَدَأَ بِالْإِنْفَاقِ وَهُوَ يَظُنُّ بُلُوغَ الْمُرَادِ عَلَى كِرَاءِ السَّنَةِ فَاحْتَاجَ إلَى الزِّيَادَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا زَرَعَ لَزِمَ رَبَّ الْأَرْضِ الْعَمَلُ بِكِرَاءِ أَوَّلِ عَامٍ سَوَاءٌ انْتَقَدَ أَوْ لَمْ يَنْتَقِدْ، فَإِنْ كَانَ انْتَقَدَ وَأَعْدَمَ بِهِ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ قِيلَ لِلْمُزَارِعِ أَنْفِقْهُ مِنْ مَالِك سَلَفًا لَك إنْ شِئْت، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَ هَذَا الْحَقُّ بِإِنْفَاقِ هَذَا الْعَامِ اخْتَصَّ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْكِرَاءُ بَاقِيًا عِنْدَ الزَّارِعِ أَنْفَقَهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ صَاحِبِ الْأَرْضِ لَزِمَهُ إنْفَاقُهُ، فَإِنْ أَعْدَمَ بِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُسَلِّفَهُ إيَّاهُ وَيَتَّبِعَهُ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيُعْلَمُ كِرَاءُ ذَلِكَ الْعَامِ بِتَقْوِيمِ السِّنِينَ إنْ كَانَتْ تَخْتَلِفُ فَيُنْفِقُ مَا يُصِيبُ هَذَا الْعَامَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ يُخْرِجُ مِنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ لِثَلَاثِ سِنِينَ ثُلُثَ الْكِرَاءِ إنْ اكْتَرَاهُ بِالذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا، وَلَا يُقَوِّمُ الْعَيْنَ، وَإِنْ كَانَ عَرْضًا فَإِنَّمَا يُخْرِجُ فِيهِ كِرَاءَ تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ الصَّفْقَةِ عَلَى أَنْ يَقْبِضَ إلَى أَجَلِهِ كَمَا لَوْ بِيعَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ أَحَبَّ الزَّارِعُ أَنْ لَا يُنْفِقَ وَسَقَطَ عَنْهُ الْكِرَاءُ فَذَلِكَ لَهُ قَالَهُ مَالِكٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ بِالزِّرَاعَةِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي اقْتِضَائِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَأَمَّا صَاحِبُ الْأَرْضِ فَحَالُهُ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ أَوْ بَعْدَهُ سَوَاءٌ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ زَرَعَ وَذَهَبَ بِالْعَيْنِ أَوْ الْبِئْرِ قَبْلَ تَمَامِ الزَّرْعِ فَهَلَكَ الزَّرْعُ بِذَهَابِ الْمَاءِ فَلَا كِرَاءَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَ الْكِرَاءَ لَزِمَ صَاحِبَ الْبِئْرِ أَوْ الْعَيْنِ رَدُّهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْخُذْهُ فَذَلِكَ عَنْ الزَّارِعِ مَوْضُوعٌ وَلَوْ هَلَكَ بَعْضُهُ وَكَانَ قَدْ حَصَدَ شَيْئًا لَهُ قَدْرٌ وَمَنْفَعَةٌ أَعْطَى مِنْ الْكِرَاءِ بِحِسَابِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الْكِرَاءِ شَيْءٌ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ كَانَتْ مِنْ أَرْضِ الْمَطَرِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ إنْ لَمْ يَأْتِهِ مِنْ الْمَطَرِ مَا يَتِمُّ بِهِ زَرْعُهُ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَثُرَ الْمَطَرُ فَقَتَلَ الزَّرْعَ) فَإِنْ كَانَ فِي إبَّانِ الْحَرْثِ، وَفِي وَقْتٍ لَوْ انْقَطَعَ وَزَالَ الْمَاءُ أَمْكَنَهُ أَنْ يُرِيدَ زِرَاعَتَهَا فَلَمْ يَنْكَشِفْ الْمَاءُ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ الزِّرَاعَةِ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ تَغْرَقَ الْأَرْضُ قَبْلَ الزِّرَاعَةِ فِيهَا فَالْكِرَاءُ لَازِمٌ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَبَعْضُهُ عَنْ مَالِكٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ غَرِقَتْ الْأَرْضُ بَعْدَ إبَّانِ الزِّرَاعَةِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ:
(5/148)
(ص) : (قَالَ يَحْيَى وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ أَكْرَى مَزْرَعَتَهُ بِمِائَةِ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَكَرِهَ ذَلِكَ) .
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (كِتَابُ الْقِرَاضِ) (مَا جَاءَ فِي الْقِرَاضِ) (ص) : (مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَيْشٍ إلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا قَفَلَا مَرَّا عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ فَرَحَّبَ بِهِمَا وَسَهَّلَ، ثُمَّ قَالَ لَوْ أَقْدِرُ لَكُمَا عَلَى أَمْرٍ أَنْفَعُكُمَا بِهِ لَفَعَلْت، ثُمَّ قَالَ بَلَى هَاهُنَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بِهِ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأُسَلِّفَكُمَاهُ فَتَبْتَاعَانِ بِهِ مَتَاعًا مِنْ مَتَاعِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ تَبِيعَانِهِ بِالْمَدِينَةِ فَتُؤَدِّيَانِ رَأْسَ الْمَالِ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَكُمَا فَقَالَا وَدِدْنَا ذَلِكَ فَفَعَلَ وَكَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا الْمَالَ فَلَمَّا قَدِمَا بَاعَا فَأَرْبَحَا فَلَمَّا دَفَعَا ذَلِكَ إلَى عُمَرَ قَالَ أَكُلَّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ مَا أَسْلَفَكُمَا؟ قَالَا لَا فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَسَكَتَ وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ مَا يَنْبَغِي لَك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا، لَوْ نَقَصَ الْمَالُ أَوْ هَلَكَ لَضَمِنَّاهُ فَقَالَ عُمَرُ أَدَّيَاهُ فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَاجَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ جَعَلْته قِرَاضًا فَقَالَ عُمَرُ قَدْ جَعَلْته قِرَاضًا فَأَخَذَ عُمَرُ رَأْسَ الْمَالِ وَنِصْفَ رِبْحِهِ وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نِصْفَ رِبْحِ الْمَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
إنْ زَرَعَ فَجَاءَهُ بَرْدٌ فَأَذْهَبَ زَرْعَهُ فَإِنَّ الْكِرَاءَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَهُ جَرَادٌ أَوْ جَلِيدٌ وَغَرِقَتْ الْأَرْضُ فِي غَيْرِ إبَّانِ الزِّرَاعَةِ فَتَلِفَ الزَّرْعُ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَطْعُومَاتِ وَلَا بَأْسَ أَنْ تُكْرَى الْأَرْضُ بِأَرْضٍ أُخْرَى خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَنَافِعُ مِنْ جِنْسَيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ يَجُوزُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَجَازَ الْعَقْدُ عَلَى إحْدَاهُمَا بِالْأَحْرَى كَمَا لَوْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ.
[كِتَابُ الْقِرَاضِ]
[مَا جَاءَ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : قَوْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَاهُنَا مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بِهِ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأُسَلِّفَكُمَاهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ إحْرَازَ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِمَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْفَعَتَهُمَا بِالسَّلَفِ وَمِنْ مُقْتَضَاهُ ضَمَانُهُمَا الْمَالَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ السَّلَفُ لِمُجَرَّدِ مَنْفَعَةِ السَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ لِمَحْضِ الرِّفْقِ فَإِذَا قَصَدَ الْمُسَلِّفُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ دَخَلَ الْفَسَادُ فَإِذَا أَسْلَفَ رَجُلٌ رَجُلًا مَالًا لِيَدْفَعَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَقَصَدَ بِهِ مَنْفَعَةَ الْمُتَسَلِّفِ خَاصَّةً فَهُوَ جَائِزٌ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَنْفَعَةِ الْمُتَسَلِّفِ، فَإِنْ أَرَادَ رَدَّهُ إلَيْهِ حَيْثُ لَقِيَهُ بِبِلَادِ السَّلَفِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي يُؤَمَّرُ فِيهَا أُجْبِرَ الْمُسَلِّفُ عَلَى قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمُسَلَّفِ بِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ دَفَعَهُ خَاصَّةً فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَجِّلَهُ لَزِمَ الْمُسَلِّفَ قَبْضُهُ كَالْأَجَلِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ أَرَادَ الْمُسَلِّفُ مَنْفَعَتَهُ بِالسَّلَفِ بِأَنْ يَقْصِدَ إحْرَازَ مَالِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُتَسَلِّفِ إلَى بَلَدِ الْقَضَاءِ كَالسَّفَاتِجِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا أَهْلُ الْمَشْرِقِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَرَوَى أَبُو الْفَرْجِ جَوَازَ السَّفَاتِجِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مَا لَمْ يَقْصِدْ الْمُسَلِّفُ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ، وَالْأَظْهَرُ مَنْعُهَا إذَا قَصَدَ الْمُسَلِّفُ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسَلِّفُ صَاحِبَ الْمَالِ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَهُ النَّظَرُ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ أَوْ قَاضٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ أَبٍ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَلِّفَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِيُحْرِزَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُتَسَلِّفِ وَكَذَلِكَ الْقَاضِي، وَالْوَصِيُّ فِي مَالِ
(5/149)
) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْيَتِيمِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَاضِي، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ مِنْ الِارْتِفَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِي مَالٍ يَلِي عَلَيْهِ كَالسَّلَفِ بِزِيَادَةٍ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ وَقَعَ السَّلَفُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فُسِخَ فِي الْأَجَلِ وَالْبَلَدِ وَأُجْبِرَ الْمُتَسَلِّفُ عَلَى تَعْجِيلِ الْمَالِ وَأُجْبِرَ الْمُسَلِّفُ عَلَى قَبْضِهِ وَبَطَلَ الْأَجَلُ بِهِ ذَلِكَ كُلُّهُ كَالْبَيْعِ بِأَجَلٍ عَلَى وَجْهٍ فَاسِدٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مُعَجَّلًا.
(فَصْلٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ فِعْلَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَعَلَ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِمُجَرَّدِ مَنْفَعَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَجَازَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ الْمُفَوِّضَ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ كَانَ بِيَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَسْلَفَهُ وَأَسْلَفَهُمَا إيَّاهُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَحْكَامِ الْوَدِيعَةِ فِي الْأَقْضِيَةِ وَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ وَفَاءٌ لَضَمِنَهُ أَبُو مُوسَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لِأَبِي مُوسَى النَّظَرُ فِي الْمَالِ بِالتَّثْمِيرِ وَالْإِصْلَاحِ فَإِذَا أَسْلَفَهُ كَانَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّذِي هُوَ الْإِمَامُ الْمُفَوَّضُ إلَيْهِ تَعَقُّبُ فِعْلِهِ فَتَعَقَّبَهُ وَرَدَّهُ إلَى الْقِرَاضِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ عُمَرَ أَكُلَّ الْجَيْشِ أَسْلَفَهُ مِثْلَ مَا أَسْلَفَكُمَا قَالَا لَا تَعَقُّبَ مِنْهُ لِأَفْعَالِ أَبِي مُوسَى وَنَظَرَ فِي تَصْحِيحِ أَفْعَالِهِ وَتَبْيِينَ لِمَوْضِعِ الْمَحْظُورِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى عُمَرَ أَنَّ أَبَا مُوسَى لَمْ يُسَلِّفْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَيْشِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لِابْنَيْهِ مَوْضِعَ الْمُحَابَاةِ فِي مَوْضِعِ فِعْلِ أَبِي مُوسَى فَلَمَّا قَالَا لَا أَقَرَّا بِالْمُحَابَاةِ فَقَالَ ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَسْلَفَكُمَا يُرِيدُ أَنَّ تَخْصِيصَهُمَا بِالسَّلَفِ دُونَ غَيْرِهِمَا إنَّمَا كَانَ لِمَوْضِعِهِمَا مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا مِمَّا كَانَ يَتَوَرَّعُ مِنْهُ عُمَرُ أَنْ يَخُصَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَوْ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَيْهِ بِمَنْفَعَةٍ مِنْ مَالِ اللَّهِ لِمَكَانِهِ مِنْهُ، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُبَالِغُ فِي التَّوَقِّي مِنْ هَذَا، وَلِذَلِكَ قَسَمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَقَلَّ مِمَّا قَسَمَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَكَانَ يُعْطِي حَفْصَةَ ابْنَتَهُ مِمَّا يَصْلُحُ إلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِرَ مَنْ يُعْطِي، فَإِنْ كَانَ نُقْصَانٌ فَفِي حِصَّتِهَا.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ عُمَرَ أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ نَقْضٌ لِفِعْلِ أَبِي مُوسَى وَتَغْيِيرٌ لِسَلَفِهِ بِرَدِّ رِبْحِ الْمَالِ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِجْرَائِهِ مَجْرَى أَصْلِهِ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ، وَإِنَّمَا كَرِهَ تَفْضِيلَ أَبِي مُوسَى لِوَلَدَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُمَا ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا قَوْلُنَا إنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَسْلَفَ الْمَالَ وَأَسْلَفَهُمَا إيَّاهُ لِمُجَرَّدِ مَنْفَعَتِهِمَا وَأَنَّ الْمَالَ كَانَ بِيَدِهِ عَلَى وَجْهِ الْوَدِيعَةِ، وَأَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّهُ بِيَدِهِ لِوَجْهِ التَّثْمِيرِ وَالْإِصْلَاحِ فَإِنَّ لِعُمَرَ تَعَقُّبَ ذَلِكَ وَالتَّكَلُّمَ فِيهِ وَالنَّظَرَ فِي ذَلِكَ لَهُمَا وَلِلْمُسْلِمِينَ بِوَجْهِ الصَّوَابِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا فِي الْمُبْضِعِ مَعَهُ الْمَالُ يَبْتَاعُ بِهِ لِنَفْسِهِ وَيَتَسَلَّفُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ مَا ابْتَاعَ بِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَضْمَنَهُ رَأْسُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنْهُ فِي عَرْضِهِ وَابْتِيَاعِ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَكَانَ أَحَقَّ بِمَا ابْتَاعَهُ بِهِ، وَهَذَا إذَا ظَفِرَ بِالْأَمْرِ قَبْلَ بَيْعِ مَا ابْتَاعَهُ، فَإِنْ فَاتَ مَا ابْتَاعَهُ بِهِ فَإِنَّ رِبْحَهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَخَسَارَتَهُ عَلَى الْمُبْضَعِ مَعَهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ فَسَكَتَ يُرِيدُ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَنْ الْمُرَاجَعَةِ بِرًّا بِأَبِيهِ وَانْقِيَادًا لَهُ وَاتِّبَاعًا لِمُرَادِهِ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ فَرَاجَعَهُ طَلَبًا لِحَقِّهِ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا مَالٌ قَدْ ضَمِنَاهُ وَلَوْ دَخَلَهُ نَقْصٌ لَجَبَرْنَاهُ، وَقَوْلُ عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَدِّيَا الْمَالَ وَرِبْحَهُ إعْرَاضٌ عَنْ حُجَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبْضِعَ مَعَهُ يَضْمَنُ الْبِضَاعَةَ إذَا اشْتَرَى بِهَا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ دَخَلَهَا نَقْصٌ جَبَرَهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ رِبْحَهَا لِرَبِّ الْمَالِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ الرَّجُلِ مِنْ جُلَسَاءِ عُمَرَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ جَعَلْته قِرَاضًا عَلَى وَجْهِ مَا رَآهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عُمَرُ لَمْ يَسْأَلْهُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ وَمَا عُرِفَ مِنْ حَالِ عُمَرَ وَاسْتِشَارَتِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ الْحُكْمَ بِالْفَتْوَى إذَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ اسْتِشَارَتُهُ وَجَرَتْ بِذَلِكَ عَادَتُهُ، وَالْقِرَاضُ الَّذِي أَشَارَ بِهِ أَحَدُ نَوْعَيْ الشِّرْكَةِ يَكُونُ فِيهِمَا الْمَالُ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَالْعَمَلُ مِنْ الثَّانِي
(5/150)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَعْطَاهُ مَالًا قِرَاضًا يَعْمَلُ فِيهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الشِّرْكَةِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَالْعَمَلِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الْقِرَاضُ فَهُوَ جَائِزٌ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ أَنْوَاعِهِ، وَوَجْهُ صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَزْكُو بِالْعَمَلِ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهِ بِبَعْضِ النَّمَاءِ الْخَارِجِ مِنْهُ وَذَلِكَ أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لَا تَزْكُو إلَّا بِالْعَمَلِ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَسْتَطِيعُ التِّجَارَةَ وَيَقْدِرُ عَلَى تَنْمِيَةِ مَالِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ إجَارَتُهَا مِمَّنْ يُنَمِّيهَا فَلَوْلَا الْمُضَارَبَةُ لَبَطَلَتْ مَنْفَعَتُهَا فَلِذَلِكَ أُبِيحَتْ الْمُعَامَلَةُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ مِنْ مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَالِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي التَّنْمِيَةِ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ جَعَلْته قِرَاضًا عَلَى سَبِيلِ التَّصْوِيبِ لِمَا رَآهُ هَذَا الْمُشِيرُ، وَالْأَخْذُ بِقَوْلِهِ وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا، وَإِنَّمَا كَانَ إظْهَارًا لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ وَيَرَاهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَلَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ مِنْهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِيهِ.
(فَصْلٌ) :
وَإِنَّمَا جَوَّزَ عُمَرُ ذَلِكَ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ عَمِلَا فِي الْمَالِ بِوَجْهِ شُبْهَةٍ وَعَلَى وَجْهٍ يُعْتَقَدُ أَنَّ فِيهِ الصِّحَّةَ دُونَ أَنْ يُبْطِلَا فِيهِ مَقْصُودًا لِمَنْ يَمْلِكُهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْطَلَ عَلَيْهِمَا عَمَلُهُمَا فَرَدَّهُمَا إلَى قِرَاضِ مِثْلِهِمَا وَكَانَ قِرَاضُ مِثْلِهِمَا النِّصْفَ فَأَخَذَ عُمَرُ النِّصْفَ مِنْ الرِّبْحِ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ النِّصْفَ الثَّانِيَ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(ش) : إنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَعْطَى جَدَّ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَالًا قِرَاضًا لَفْظَةُ الْإِعْطَاءِ تَقْتَضِي تَسْلِيمَهُ إلَيْهِ وَائْتِمَانَهُ عَلَيْهِ وَهَذِهِ سُنَّةُ الْقِرَاضِ وَلَوْ شَرَطَا بَقَاءَ الْمَالِ بِيَدِ صَاحِبِهِ وَإِذَا اشْتَرَى الْعَامِلُ سِلْعَةً وَزَنَ وَإِذَا بَاعَ قَبَضَ الثَّمَنَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مَعْنًى قَدْ أَخْرَجَهُمَا عَنْ صُورَةِ الْقِرَاضِ وَمَعْنَاهُ فَمَنَعَ ذَلِكَ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الْقِرَاضِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ بِيَدِ الْعَامِلِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ مُؤْتَمَنًا عَلَى الْمَالِ فَمَا أَخْرَجَ الْقِرَاضَ عَنْ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ صِحَّتَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قِرَاضًا وَيَجْعَلُهُ إجَارَةً مَجْهُولَةَ الْعِوَضِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ عَمِلَ مَعَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ أُنْفِقَ فِي الْقِرَاضِ عَلَى مَا أُنْفِقَ فِيهِ فَلِذَلِكَ أَثَرٌ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَأَمَّا الْيَسِيرُ فِيمَا لَا يَسْتَبِدُّ مِنْهُ الْحَاضِرُ مِثْلُ أَنْ يُعَيِّنَهُ فِي شِرَاءِ سِلْعَةٍ أَوْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي قَبْضِ دَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ لِصَدِيقِهِ أَوْ يُعَيِّنَ بِهِ مَنْ يَعْرِفُهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّ الْقِرَاضَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى مَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ لَا يُفْسَخُ الْقِرَاضُ لِكَثِيرِهِ دُونَ شَرْطٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ قَدْ سَلِمَ مِنْ الشَّرْطِ وَلَيْسَتْ التُّهْمَةُ فِيهِ بِقَوِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَكَادُ يُفْعَلُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ تَشَارُكَ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْمَالِ بِمَالٍ آخَرَ جَعَلَهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي الْقِرَاضِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَيْنِ عَقْدَانِ مُقْتَضَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ مُقْتَضَى الْآخَرِ فَلَمْ يَجُزْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ كَالصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ تَشَارَكَا بَعْدَ عَقْدِ الْقِرَاضِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الِاشْتِرَاكِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةً لَمْ يُبَيِّنُوا هَلْ ذَلِكَ قَبْلَ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ فَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُهُ، وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ إنْ صَحَّ مِنْ غَيْرِ مَوْعِدٍ وَلَا وَأْيٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ أُصْبَغَ قَالَ خُيِّرَ فِيهِ وَعَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ قَالَ هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافٌ فِي أَقْوَالِهِمْ فَأَجَازَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَمَنَعَهُ أَصْبَغُ وَسَحْنُونٌ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدْ سَلِمَ عَقْدُ الْقِرَاضِ مِنْ الْفَسَادِ، وَذَلِكَ أَنْ يَعْقِدَاهُ عَلَى مَا يُوجِبُ تَصَرُّفَ
(5/151)
مَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (مَالِكٌ: وَجْهُ الْقِرَاضِ الْمَعْرُوفِ الْجَائِزِ أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ الْمَالَ مِنْ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَنَفَقَةُ الْعَامِلِ مِنْ الْمَالِ فِي سَفَرِهِ مِنْ طَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ بِالْمَعْرُوفِ بِقَدْرِ الْمَالِ إذَا شَخَصَ فِي الْمَالِ إذَا كَانَ الْمَالُ يَحْمِلُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَهْلِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهُ مِنْ الْمَالِ وَلَا كِسْوَةَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
رَبِّ الْمَالِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ عَمِلَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ إذَا عَمِلَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ لِعَقْدٍ صَارَ عَمَلًا كَثِيرًا بَطَلَ ذَلِكَ الْقِرَاضُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَيَجُوزُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ رَأْسُ الْمَالِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَعْقِدَ الْقِرَاضَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَالَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَرْكُ الْقِرَاضِ فِيهَا إذَا اسْتَدْرَكَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ شَرْطًا يُنَافِي الْقِرَاضَ فَكَأَنَّمَا شَرَطَاهُ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ، وَأَمَّا إذَا عَمِلَ الْعَامِلُ بِالْقِرَاضِ وَلَزِمَهُمَا أَمْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا إبْطَالُهُ فَمَا اُلْتُزِمَ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَا شُرِطَ مِنْ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا عَادَ مَالُ الْقِرَاضِ إلَى غَيْرِ الصِّفَةِ الَّتِي أَخَذَهُ الْعَامِلُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَالُ الْقِرَاضِ دَنَانِيرَ فَيَصِيرُ دَرَاهِمَ فَيَشْتَرِكَانِ بِالدَّرَاهِمِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا مَعُونَةُ الْغُلَامِ، فَإِنْ كَانَ شَرَطَ الْعَامِلُ خِدْمَتَهُ فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى الْمَعُونَةِ فِيهِ فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ إجَازَتُهُ أَنَّ هَذَا مَالٌ تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ عَلَيْهِ بِبَعْضِ نَمَائِهِ الْخَارِجِ مِنْهُ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ خِدْمَةَ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ كَثِيرًا كَالْمُسَاقَاةِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَخْتَصُّ بِالْخِدْمَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَائِطِ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الْخُدَّامِ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ الْخَادِمُ، وَأَمَّا الْقِرَاضُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي الْخَادِمِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الْمَالِ أَنَّ الْعَامِلَ إذَا عَمِلَ فِي مَالِهِ نُظِرَ فِيهِ بِالْحِفْظِ لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا لَوْ جَعَلَ غُلَامَهُ أَوْ وَكِيلَهُ مَعَهُ لِيَحْفَظَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ بِمُجَرَّدِ الْخِدْمَةِ وَالْمَعُونَةِ وَلَوْ أَعَانَهُ بِغُلَامِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَجْزَاءٍ اتَّفَقَا عَلَيْهَا عِنْدَ عَقْدِ الْقِرَاضِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ كَالْمُسَاقَاةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ أَوْ لِرَبِّ الْمَالِ بِالشَّرْطِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَكُونُ الْقِرَاضُ فَاسِدًا إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ إذَا شَرَطَا الرِّبْحَ لِلْعَامِلِ صَارَ قِرَاضًا وَإِذَا شَرَطَاهُ لِرَبِّ الْمَالِ صَارَ بِضَاعَةً.
(فَصْلٌ) :
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَذْكُرَا مِقْدَارًا أَوْ يَقُولَ اعْمَلْ فِي هَذَا الْمَالِ عَلَى أَنَّ لَك فِي الرِّبْحِ شِرْكًا أَوْ شِرْكَةً ذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إذَا قَالَ عَلَى أَنَّ لَك شِرْكَةً فِي الرِّبْحِ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِذَا قَالَ عَلَى أَنَّ لَك شِرْكًا فَهُوَ قِرَاضٌ فَاسِدٌ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَهُ النِّصْفُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الشِّرْكَةَ لَمَّا احْتَمَلَتْ النِّصْفَ وَغَيْرَهُ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ إنْ لَمْ يَذْكُرَا شَيْئًا بَيْنَهُمَا وَعَمَلُ الْعَامِلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلَهُ قِرَاضُ الْمِثْلِ وَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الشِّرْكَةِ يَقْتَضِي تَسَاوِيَ الشَّرِيكَيْنِ وَلَا يُعْدَلُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِبَيَانٍ فَيُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ رَجُلَانِ أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا مَزِيَّةً.
[مَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) :
(5/152)
(ص) : (مَالِكٌ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُتَقَارِضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ إذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا) .
(ص) : (مَالِكٌ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ رَبُّ الْمَالِ مِمَّنْ قَارَضَهُ بَعْضَ مَا يَشْتَرِي مِنْ السِّلَعِ إذَا كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقِرَاضِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْعَامِلَ يَأْخُذُ الْمَالَ الْقِرَاضَ وَيَعْمَلُ فِيهِ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ضَمَانِ رَبِّ الْمَالِ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ شَرَطَ الضَّمَانَ عَلَى الْعَامِلِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ الْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا نَقْلُ الضَّمَانِ عَنْ مَحَلِّهِ بِإِجْمَاعٍ فَاقْتَضَى ذَلِكَ فَسَادَ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ أَصْلُ ذَلِكَ إذَا بَاعَ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى الْبَائِعِ ضَمَانُهُ أَبَدًا، وَلِذَلِكَ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ حَمِيلًا أَوْ رَهْنًا أَوْ يَمِينًا رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ وَيُرَدُّ إلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ وَبَاقِي الْفَصْلِ سَيَرِدُ بَيَانُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعَيِّنَ الْعَامِلُ رَبَّ الْمَالِ فِيمَا يَنْفَرِدُ بِهِ إذَا كَانَتْ مَعُونَتُهُ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ الْمَحْضِ وَلَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِيَدِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْمَعُونَةُ يَسِيرَةً مَعَ كَوْنِ الْمَالِ الَّذِي يُقْرِضُهُ بِيَدِ صَاحِبِهِ فَأَمَّا أَنْ يُبْضِعَ مَعَهُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ الْقَلِيلُ مِنْهُ دُونَ الْكَثِيرِ وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَا قَلَّ مِنْهُ لِشَرْطِ وَجْهِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ: إنَّ الْيَسِيرَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا تُهْمَةَ فِيهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِسَبَبِهِ وَيَكُونُ زِيَادَةً مَقْصُودَةً فِيهِ، وَوَجْهُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ ذِكْرَهُ وَاشْتِرَاطَهُ فِي الْعَقْدِ ازْدِيَادٌ فِي الْقِرَاضِ عَلَى الْعَامِلِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَقْصُودًا فِيهِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِرِوَايَةِ مَالِكٍ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَحَمَّلُ مَالَ الْقِرَاضِ لِكَثْرَتِهِ فَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ الْعَامِلُ وَمَالُ الْقِرَاضِ نَاضٌّ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَلُّ الْعَقْدِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ حَالِ الْعَقْدِ وَكُلُّ شَيْءٍ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ حَالَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ مَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ بَاقِيًا عَلَى صِفَتِهِ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ قَدْ شَغَلَهُ الْعَامِلُ فِي تِجَارَةٍ قَالَ مَالِكٌ: فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا وَقْتٌ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ انْتِزَاعُهُ مِنْ الْعَامِلِ فَتَبْعُدُ التُّهْمَةُ فِيهِ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ مُتَبَرِّعٌ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا مَعُونَةُ رَبِّ الْمَالِ لِلْعَامِلِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ إذَا كَانَ الْمَالُ بِيَدِ الْعَامِلِ بِأَنْ أَرَادَ الْعَامِلُ أَنْ يُبْضِعَ مَعَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ الْعَامِلِ بَعْضَ مَا ابْتَاعَهُ مِنْ السِّلَعِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْهَدِيَّةِ لِإِبْقَاءِ الْمَالِ بِيَدِهِ أَوْ لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ قَبْلَ الْمُقَاسَمَةِ، وَسَوَاءٌ اشْتَرَى مِنْهُ بِنَقْدٍ أَوْ إلَى أَجَلٍ رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ اشْتَرَى مِنْهُ بِنَقْدٍ أَخْرَجَهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمَا يَتَبَايَعُ بِهِ النَّاسُ فَقَدْ سَلِمَا مِنْ التُّهْمَةِ وَوُجُوهِ الْفَسَادِ فَجَازَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ اشْتَرَاهَا لِيَأْخُذَهَا مِنْ الْقِرَاضِ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا خَيْرَ فِيهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ اشْتَرَى الْعَامِلُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ سِلَعًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَبْتَاعَهَا بِمَالِ الْقِرَاضِ أَوْ لِنَفْسِهِ فَإِنْ ابْتَاعَهَا مِنْهُ لِلْقِرَاضِ بِمَالِ الْقِرَاضِ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ فَرَوَى عَنْهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ أَنَّهُ خَفَّفَهُ إنْ صَحَّ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ كَرَاهِيَتَهُ، وَكَذَلِكَ الصَّرْفُ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ إذَا صَحَّ الْبَيْعُ مِنْهُمَا جَازَ كَمَا لَوْ بَاعَ الْعَامِلُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَا يَحْذَرُ مِنْ تَغَابُنِ الْعَامِلِ لَهُ وَزِيَادَتِهِ فِي ثَمَنِ سِلْعَتِهِ فَيَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إلَى أَخْذِ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَرُبَّمَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ نَقْصًا يَحْتَاجُ الْعَامِلُ إلَى جَبْرِهِ بِعَمَلِهِ، وَإِنْ ابْتَاعَ الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ التَّبَايُعَ لَمْ يَقَعْ فِي مَالِ التِّجَارَةِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي ذَلِكَ فَسَادًا فِي عَقْدِهَا كَمُبَايَعَةِ الْأَجْنَبِيِّ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ ابْتَاعَ الْعَامِلُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ بَعْضَ سِلَعِ الْقِرَاضِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ اسْتِدَامَةِ الْقِرَاضِ أَوْ مَعَ التَّفَاضُلِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ اسْتِدَامَتِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَقْدًا وَلَا يَجُوزُ إلَى أَجَلٍ خِلَافًا لِلَّيْثِ
(5/153)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ وَإِلَى غُلَامٍ لَهُ مَالًا قِرَاضًا يَعْمَلَانِ فِيهِ جَمِيعًا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ مَالٌ لِغُلَامِهِ لَا يَكُونُ الرِّبْحُ لِلسَّيِّدِ حَتَّى يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ كَسْبِهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فِي تَجْوِيزِهِمَا ذَلِكَ إلَى أَجَلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ مَا قُلْنَاهُ إنَّ الْقِرَاضَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّسَاوِي وَمُبَاعَدَةِ الِازْدِيَادِ مِنْ الْعَامِلِ فَإِذَا بَاعَ مِنْهُ سِلَعًا بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى الْقِسْمَةِ فَيَزْدَادُ مِنْهُ لِلْقِرَاضِ تِلْكَ الزِّيَادَةُ وَتَكُونُ أَيْضًا مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْقِرَاضُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ عِنْدَ التَّفَاضُلِ فَيَجُوزُ بِالنَّقْدِ، وَأَمَّا بِالتَّأْخِيرِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لَا خَيْرَ فِيهِ وَكَأَنَّهُ نَحَا بِهِ نَاحِيَةَ الرِّبَا، وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ ابْتِيَاعَهُ مِنْهُ بِنَقْدٍ أَوْ بِمِثْلٍ فَأَقَلَّ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ إلَى أَجَلٍ بِأَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي وَاضِحَتِهِ سَمِعْت أَصْحَابَ مَالِكٍ يَقُولُونَ لَا بَأْسَ بِهِ وَعُمْدَتُهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكِ أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ الْعَامِلِ هُوَ الَّذِي وَجَبَ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عِنْدَهُ لِزِيَادَةٍ يَزْدَادُهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُشَابِهُ الرِّبَا؛ لِأَنَّ الَّذِي لَهُ عِنْدَهُ عَيْنٌ فَيَتْرُكُهُ عِنْدَهُ لِيَزِيدَهُ فِيهِ، وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ عَلَى الْعَامِلِ بَيْعَ ذَلِكَ الْعَرْضِ وَتَحْصِيلَ ثَمَنِهِ فَإِذَا بَاعَهُ مِنْهُ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ فِي أَنَّهُ يُعْطِيهِ الثَّمَنَ الْمُؤَجَّلَ فِيمَا بَقِيَ بِيَدِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْقِرَاضِ، وَفِي عَمَلِهِ وَيَضْمَنُ مَعَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ عَلَى الضَّمَانِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ عِيسَى أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ بِمِثْلِ رَأْسِ الْمَالِ فَأَقَلَّ ضَعُفَتْ التُّهْمَةُ وَإِذَا كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ إنَّمَا يَبِيعُ مِنْهُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّفَاضُلِ بَعْدَ أَنْ يَرْضَى بِأَخْذِهِ رَبُّ الْمَالِ، فَإِذَا جَازَ بَيْعُهُ بِالنَّقْدِ جَازَ بَيْعُهُ بِأَجَلٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ تُهْمَةٍ تُوجَدُ فِيهِ مَعَ التَّأْجِيلِ تُوجَدُ مَعَ النَّقْدِ فَإِذَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ بَيْعَهَا بِالنَّقْدِ لَمْ يَمْنَعْ بَيْعَهَا بِالتَّأْجِيلِ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَى عَبْدِهِ مَالَ الْقِرَاضِ وَرَجُلٍ آخَرَ لِيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ فِي ذَلِكَ، وَالْعَبْدُ يَكُونُ مَعَ الْعَامِلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَامِلًا مَعَهُ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا، وَالثَّانِي يَكُونُ خَادِمًا لِلْمَالِ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَلَيْهِ وَحَافِظًا لَهُ، فَإِنْ كَانَ عَامِلًا فِيهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا وَهُمَا تَاجِرَانِ أَمِينَانِ فَهُوَ جَائِزٌ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ فِي مَنْعِهِ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِيكٌ لَهُ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَرِبْحِهِ، وَالْعَمَلِ فِيهِ فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ الْقِرَاضِ كَالْأَجْنَبِيِّ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ مُقَارَضَةِ الِاثْنَيْنِ أَنْ يَتَسَاوَى حَظُّهُمَا مِنْ الرِّبْحِ، فَإِنْ اخْتَلَفَ ذَلِكَ فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثُ وَلِلْآخِرِ السُّدُسُ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ النِّصْفُ لَمْ يَجُزْ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِمَا ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ بِأَنَّهُمَا شَرِيكَانِ بِأَبْدَانِهِمَا فَلَا يَجُوزُ تَفَاضُلُهُمَا فِيمَا يَعُودُ نَوْعُهُ عَلَيْهِمَا كَالشَّرِكَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَبْدَانِ.
(فَرْعٌ) وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُ الْعَامِلَيْنِ أَبْصَرَ مِنْ الْآخَرِ أَوْ مِثْلَهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَامِلُ الْأَجْنَبِيُّ أَبْصَرَ مِنْ غُلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الشَّرِيكَيْنِ فِي التِّجَارَةِ تُسَاوِيهِمَا فِي الْبَصَرِ بِالْعَمَلِ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ كَالْمُعَلِّمَيْنِ، وَالطَّبِيبَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْعَبْدُ لِخِدْمَةِ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَخْدُمُهُ وَيُعِينُهُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَعَهُ مَنْ يَحْفَظُ الْمَالَ مِنْهُ فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الرِّبْحَ لِغُلَامِهِ لَا يَكُونُ الرِّبْحُ لِلسَّيِّدِ حَتَّى يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ يُرِيدُ أَنَّ مَا أَبْرَزَتْهُ لِلْغُلَامِ الْقِسْمَةُ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ وَلَا يَمْلِكُهُ السَّيِّدُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ إلَّا بِالِانْتِزَاعِ، وَلَوْ كَانَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ لِلسَّيِّدِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فَسَادًا فِي الْقَرْضِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِالْحِصَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ مَالًا قِرَاضًا إلَى عَامِلٍ عَلَى أَيِّ جُزْءٍ اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَازَ ذَلِكَ فَلَا يَبْطُلُ الْقِرَاضُ بِإِضَافَةِ حِصَّةِ أَحَدِ الْعَامِلَيْنِ إلَى حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَبْطُلُ إذَا كَانَ الْعَامِلُ نَائِبًا عَنْ رَبِّ الْمَالِ فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ لَهُ وَمَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ فَإِنَّهُ يَنُوبُ عَنْهُ وَإِذَا قُلْنَا إنَّ الْعَبْدَ
(5/154)
مَا لَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَسَأَلَهُ أَنْ يُقِرَّهُ عِنْدَهُ قِرَاضًا أَنَّ ذَلِكَ يُكْرَهُ حَتَّى يَقْبِضَ مَالَهُ، ثُمَّ يُقَارِضَهُ بَعْدُ أَوْ يُمْسِكَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ أَعْسَرَ بِمَالِهِ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِيهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ حَتَّى يَنْتَزِعَهَا مِنْهُ السَّيِّدُ فَإِنَّمَا يَنُوبُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَمَلُهُ لَهُ، وَهُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعَامِلِينَ يَمْلِكُونَ حِصَّتَهُمْ مِنْ الرِّبْحِ بِالْقِسْمَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَهَذَا الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ مَسَائِلَ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْعَمَلَ بِالْعِوَضِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ، وَالتَّسْلِيمُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ إنْ خِطْت هَذَا الثَّوْبَ فَلَكَ دِينَارٌ فَإِنَّنَا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الدِّينَارَ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ وَالتَّسْلِيمِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا مِثْلُهُ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الرِّبْحَ بِظُهُورِهِ كَصَاحِبِ الْمَالِ.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي رِبْحِ مَالِ الْقِرَاضِ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْعَامِلَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ بِالْقِسْمَةِ فَإِنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، وَإِنْ قُلْنَا أَنَّهُ يَمْلِكُ بِظُهُورِهِ اعْتَبَرْنَا فِي الزَّكَاةِ بِحَالِ الْعَامِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى السَّيِّدِ بِالِانْتِزَاعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ صَحَّ مِنْهُ الْمِلْكُ كَالْحَرْثِ.
[مَا لَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ الدَّيْنَ بِيَدِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ وَيَدْخُلَهُ مَا قَالَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الدَّيْنِ لِلتَّأْخِيرِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْضَى بِالْجُزْءِ الْيَسِيرِ مِنْ أَجْلِ بَقَاءِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ فَيَفْتَضِحَ بِإِحْضَارِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا رَضِيَ بِمِثْلِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْقِرَاضُ بِالدَّيْنِ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُحْضِرُ الْمَالَ، وَالثَّانِي أَنْ يُحْضِرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ فَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ لَهُ إلَّا رَأْسُ مَالِهِ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ أَدْخَلَ الْفَسَادَ عَلَى مَا كَانَ يَجُوزُ لَهُ مِنْ تَأْخِيرِهِ بِالدَّيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ الْقِرَاضُ وَأَنْ يَبْقَى الدَّيْنُ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ أَحْضَرَ الْمَالَ فَجَعَلَهُ قِرَاضًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ رَبُّ الْمَالِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فِيمَنْ غَصَبَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ، ثُمَّ رَدَّهَا فَقَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لَا أَقْبِضُهَا وَلَكِنْ أَعْمَلُ بِهَا قِرَاضًا إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَغْصُوبُ أَحْضَرَ الْمَالَ تَبَرُّعًا فَلِذَلِكَ جَوَّزَهُ وَأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ اتَّفَقَ مَعَهُ عَلَى إحْضَارِ الدَّيْنِ لِيَرُدَّهُ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ، وَلَوْ جَاءَ بِدَيْنِهِ مُتَبَرِّعًا قَاضِيًا لَهُ فَتَرَكَهُ عِنْدَهُ قِرَاضًا أَقَامَ إحْضَارَهُ مَقَامَ قَبْضِهِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِجَوْدَتِهِ وَوَزْنِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْهُ بِالِانْتِقَادِ وَالْوَزْنِ فَهُوَ فِي ذِمَّتِهِ فَلَمْ يَجُزْ الْقِرَاضُ بِهِ كَاَلَّذِي لَمْ يُحْضِرْهُ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ نَزَلَ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ إلَّا رَأْسُ مَالِهِ، وَهُوَ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَوَى أَشْهَبُ فِي غَيْرِ الْعُتْبِيَّةِ إنْ نَزَلَ مَضَى وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ قُورِضَ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ غَيْرُ رَأْسِ مَالِهِ مَضْمُونًا كَاَلَّذِي لَمْ يُحْضِرْ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّ هَذَا مَالٌ قَدْ حَضَرَتْ عَيْنُهُ وَعُلِمَتْ بَرَاءَةُ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ فَإِذَا رَدَّهُ إلَيْهِ قِرَاضًا فَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ.
1 -
(5/155)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَهَلَكَ بَعْضُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ، ثُمَّ عَمِلَ فِيهِ فَرَبِحَ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ رَأْسَ الْمَالِ بَقِيَّةَ الْمَالِ بَعْدَ الَّذِي هَلَكَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَيُجْبَرُ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ رِبْحِهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ بَعْدَ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى شَرْطِهِمَا مِنْ الْقِرَاضِ) .
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ لَا يَصْلُحُ الْقِرَاضُ إلَّا فِي الْعَيْنِ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ وَلَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ، وَالسِّلَعِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مَسْأَلَةٌ) وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا فَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْمُقَارَضَةَ بِهَا حَتَّى تُحْضَرَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَا بَأْسَ بِهِ وَكَرِهَهُ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ غَيْرِ الثِّقَةِ وَلَمْ يَكْرَهْهُ إذَا كَانَ الْمُودِعُ ثِقَةً وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُمْكِنُ الْمُودِعَ التَّصَرُّفُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِرَاضِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ فِي مَنْعِ الْمُقَارَضَةِ بِهَا، وَلِذَلِكَ جَوَّزَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْعَدْلِ الثِّقَةِ؛ لِأَنَّهُ يُوَثِّقُ بِقَوْلِهِ هِيَ عِنْدِي لَمْ أَتَصَرَّفْ فِيهَا، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ حَافِظٌ لَهُ فَصَحَّ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْ نَفْسِهِ قِرَاضًا كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ نَزَلَ الْقِرَاضُ الْوَدِيعَةِ مَضَى، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا وَيُصَدَّقُ الْمُودَعُ فِي ضَيَاعِهِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ وَدِيعَةً لِصَاحِبِهَا بِيَدِ الْمُودِعِ النَّائِبَةِ عَنْ يَدِهِ، وَلَوْ أَحْضَرَهَا لَارْتَفَعَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِيهَا، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي جَوَازِهَا لِبَقَاءِ عَيْنِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ إنَّ هَلَاكَ بَعْضِ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ رَأْسِ الْمَالِ بَلْ هُوَ عَلَى مَا عَقَدَا عَلَيْهِ وَقَبَضَ الْعَامِلُ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاضَ عَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا فَمَتَى رَبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ جُبِرَ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَالِ بِالرِّبْحِ، فَإِنْ فَضَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْجَبْرِ فَضْلَةٌ فَذَلِكَ جَمِيعُ الرِّبْحِ، وَلَوْ اتَّفَقَا بَعْدَ النَّقْصِ عَلَى إسْقَاطِ مَا هَلَكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَاسْتِئْنَافِ الْقِرَاضِ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَاَلَّذِي رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ رَبُّ الْمَالِ بَقِيَّةَ مَالِهِ قَبْضًا صَحِيحًا، ثُمَّ يَدْفَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَيْهِ قِرَاضًا مُسْتَأْنَفًا، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُمَا إذَا تَحَاسَبَا فَأَقَرَّا مَا بَقِيَ بَعْدَ الْخَسَارَةِ رَأْسَ مَالِ الْقِرَاضِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَقَاضِيًا صَحِيحًا وَمَا عَقَدَاهُ مِنْ الْقِرَاضِ عَقْدًا مُسْتَأْنَفًا أَحْضَرَ الْمَالَ أَوْ لَمْ يُحْضِرْهُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْبَارِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُفَاضَلَةِ فَإِنَّ حُكْمَ الْقِرَاضِ الْأَوَّلِ بَاقٍ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْقِرَاضِ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يَقْبِضَ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ وَمَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَصَدَ إلَى أَنْ يَزِيدَ الْعَامِلُ فِي حَظِّهِ مِنْ الرِّبْحِ مَا يَقْتَضِيهِ عِنْدَ الْقِرَاضِ مِنْ جَبْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخَسَارَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَلَا جَائِزٍ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ تَقَعُ فِي ذَلِكَ بِالْقَوْلِ دُونَ الْقَبْضِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ اللَّازِمَةَ تُفْسَخُ بِالْقَوْلِ فَبِأَنْ تُفْسَخَ بِهِ الْجَائِزَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ بِغَيْرِ الدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهَا أُصُولُ الْأَثْمَانِ وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ وَلَا يَدْخُلُ أَسْوَاقَهَا تَغْيِيرٌ فَلِذَلِكَ يَصِحُّ الْقِرَاضُ بِهَا فَأَمَّا مَا يَدْخُلُهُ تَغَيُّرُ الْأَسْوَاقِ مِنْ الْعُرُوضِ فَلَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ بِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُ الْعَامِلُ الْعَرْضَ قَرْضًا وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِينَارٍ فَيَتَّجِرُ فِي الْمَالِ فَيَرْبَحُ مِائَةً فَيَرُدُّهُ وَقِيمَتُهُ مِائَتَانِ فَيَصِيرُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَلَا يَحْصُلُ لِلْعَامِلِ شَيْءٌ، وَقَدْ لَا يَرْبَحُ فَيَرُدُّهُ وَقِيمَتُهُ خَمْسُونَ فَيَبْقَى بِيَدِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ خَمْسُونَ فَيَأْخُذُ نِصْفَهَا، وَهُوَ لَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَأَمَّا الْقِرَاضُ بِالْفُلُوسِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ أَشْهَبَ فِي الْأُمَّهَاتِ أَنَّهُ أَجَازَ الْقِرَاضَ بِهَا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفُلُوسَ لَيْسَتْ بِأَصْلٍ فِي الْأَثْمَانِ، وَلِذَلِكَ لَا تَجْرِي مَجْرَى الْعَيْنِ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ وَبَيْعِهَا بِالْعَيْنِ نَسَاءً فَلَمْ يَجُزْ الْقِرَاضُ بِهَا كَالْعُرُوضِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَصَحَّ الْقِرَاضُ بِهَا كَالدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِرِوَايَةِ الْمَنْعِ فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَهُ الْقِرَاضُ
(5/156)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ الْبُيُوعِ مَا لَا يَجُوزُ إذَا تَفَاوَتَ أَمْرُهُ وَتَفَاحَشَ رَدُّهُ فَأَمَّا الرِّبَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِيهِ إلَّا الرَّدُّ أَبَدًا وَلَا يَجُوزُ مِنْهُ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ مَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بِالنِّقَارِ أَخَفُّ، وَالْفُلُوسُ كَالْعُرُوضِ، وَهَذَا مُقْتَضَى فَسَادِ الْقِرَاضِ وَيَكُونُ لَهُ فِي بَيْعِ الْفُلُوسِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَفِيمَا نَضَّ مِنْ ثَمَنِهَا قِرَاضُ الْمِثْلِ.
وَقَالَ أُصْبَغُ هِيَ كَالنِّقَارِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ نَحْوَهُ وَتُرَدُّ فُلُوسًا مِثْلَهَا وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّ الْفُلُوسَ لَا يَحْرُمُ فِيهَا التَّفَاضُلُ فَإِذَا وَقَعَ الْقِرَاضُ بِهَا وَجَبَ فَسْخُهُ كَالْعُرُوضِ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ هَذَا ثَمَنٌ يُتَعَامَلُ بِهِ فَلَا يُفْسَخُ الْقِرَاضُ إذَا وَقَعَ بِهِ كَالدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا نِقَارُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ الْمَنْعَ مِنْ الْقِرَاضِ بِهَا، وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ إجَازَةَ ذَلِكَ وَرَوَى يَحْيَى بْنُ يَحْيَى مَنْعَ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ يُتَعَامَلُ فِيهِ بِالدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ، وَأَمَّا فِي بَلَدٍ يُتَعَامَلُ فِيهِ بِالتَّمْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَكَانَ الْقِرَاضُ بِهَا مَمْنُوعًا كَالْعُرُوضِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ أَشْهَبَ أَنَّهَا عَيْنٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ فَصَحَّ الْقِرَاضُ فِيهَا كَالدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِرِوَايَةِ الْمَنْعِ وَوَقَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ يَحْيَى رَوَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَضْمَنُهُ وَلَا يَفْسَخُهُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَجْهُ ذَلِكَ عِنْدِي عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، وَذَلِكَ عِنْدِي يَحْتَاجُ أَيْضًا إلَى تَوْجِيهٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قِيمَتَهُ لَا تَتَفَاوَتُ وَلَا يَدْخُلُهَا مِنْ حِوَالَةِ الْأَسْوَاقِ إلَّا مَا يَقْرُبُ مِمَّا يُدْخِلُ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ فَلِذَلِكَ لَمْ يُفْسَخْ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الْحُلِيُّ الْمَصُوغُ مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَلَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ بِهِ وَرَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الصِّيَاغَةَ قَدْ غَيَّرَتْ حُكْمَهُ وَأَلْحَقَتْهُ بِالْعُرُوضِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الْمَغْشُوشُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِرَاضُ بِهِ مَضْرُوبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ الْغِشُّ النِّصْفَ فَأَقَلَّ جَازَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ هَذِهِ دَرَاهِمُ مَغْشُوشَةٌ فَلَمْ يَجُزْ الْقِرَاضُ بِهَا أَصْلُ ذَلِكَ إذَا زَادَ الْغِشُّ عَلَى النِّصْفِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ لَيْسَتْ بِالسِّكَّةِ الَّتِي يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِهَا فَإِذَا كَانَتْ سِكَّةَ التَّعَامُلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقِرَاضُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ صَارَتْ عَيْنًا وَصَارَتْ أُصُولُ الْأَثْمَانِ وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ، وَقَدْ جَوَّزَ أَصْحَابُنَا الْقِرَاضَ بِالْفُلُوسِ فَكَيْفَ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِعَيْنِهَا، وَلَوْ كَانَتْ عُرُوضًا لَمْ تَتَعَلَّقْ الزَّكَاةُ بِعَيْنِهَا، وَإِنْ اُعْتُرِضَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ إنْ انْقَطَعَ فَتَسْتَحِيلُ أَسْوَاقُهَا فَمِثْلُ ذَلِكَ يَعْتَرِضُ فِي الدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ إذَا قُطِعَ التَّعَامُلُ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مِنْ الْبُيُوعِ بُيُوعًا مَكْرُوهَةً، فَإِنْ فَاتَ أَمْضَى عَقْدَهُ وَلَمْ يَنْتَقِضْ، وَلَمْ يُغَيَّرْ كَبَيْعِ الْحَبِّ بَعْدَ أَنْ أَفْرَكَ وَقَبْلَ أَنْ يَيْبَسَ وَبَيْعِ الثَّمَرِ بَعْدَ أَنْ أَزْهَى يُؤْخَذُ كَيْلًا بَعْدَ أَنْ يُثْمِرَ قَالَ ذَلِكَ عِيسَى، وَزَادَ فِيهِ أَنَّ مِنْ الْبُيُوعِ الْمَكْرُوهَةِ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا إذَا فَاتَ نَظَرٌ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ أُعْطِيهِ وَإِلَّا لَمْ يُنْقَصْ مِمَّا أَخَذَ شَيْئًا، وَإِنْ هِيَ أَدْرَكَتْ، وَلَمْ تَفُتْ فَأَسْقَطَ الْبَائِعُ شَرْطَهُ مَضَى الْبَيْعُ وَلَزِمَهُمَا وَأَرَى أَنَّهُ يَصِيرُ إلَى بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْبُيُوعِ الْمَكْرُوهَةِ فَقَطْ بَلْ هُوَ مِنْ الْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ، وَكَذَلِكَ مَا يُرَدُّ فِيهِ إلَى الْأَكْثَرِ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ الثَّمَنِ كَبَيْعِ الْأَمَةِ عَلَى أَنْ تُتَّخَذَ أُمَّ وَلَدٍ.
قَالَ عِيسَى: وَأَمَّا الَّذِي لَا يَفُوتُ فَالْبَيْعُ الْحَرَامُ يُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ فَإِذَا فَاتَ رُدَّ إلَى الْقِيمَةِ مَا بَلَغَتْ فَفِي قَوْلِ عِيسَى إنَّمَا يَمْضِي مِنْ الْبُيُوعِ بِالثَّمَنِ إذَا فَاتَ مَا كَانَ مَكْرُوهًا، وَلَمْ يَكُنْ حَرَامًا، وَأَمَّا الَّذِي يُرَدُّ إلَى الْقِيمَةِ حِينَ الْقَبْضِ فَهُوَ الْحَرَامُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ إنْ كَانَ بَيْعٌ كَانَ فَسَادُهُ لِعَقْدِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إتْيَانُهَا وَكَابْتِيَاعِ الرَّجُلِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَالْبَيْعِ عَلَى
(5/157)
) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
تَلَقِّي السِّلَعِ، فَإِنْ فَاتَ يَمْضِي بِالثَّمَنِ وَمَا كَانَ فَسَادُهُ فِي أَحَدِ عِوَضَيْهِ كَبَيْعِ الْمَجْهُولِ وَالْغَرَرِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ بَعْدَ الْفَوَاتِ إلَى الْقِيمَةِ وَجْهُ مَا قَالَهُ عِيسَى مَا حَكَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ بَاعَ كَيْلًا مِنْ التَّمْرِ مِنْ حَائِطٍ مُعَيَّنٍ قَدْ أَزْهَى أَنَّهُ يُرَدُّ لِلْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَكْرُوهِ مَا لَمْ يَفُتْ فَإِذَا فَاتَ أَمْضَى كَالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ إذَا وَقَعَتْ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الْمَكْرُوهَةِ إلَّا أَنَّهَا عَلَى صِفَاتِ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّهَا تُعَادُ فِي الْوَقْتِ لِلْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى أَكْمَلِ صِفَاتِهَا فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ لَمْ تُعَدْ.
وَأَمَّا الْبَيْعُ الْحَرَامُ فَإِنَّهُ يُرَدُّ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْفَاسِدِ الَّذِي لَا يَصْلُحُ إنْفَاذُهُ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يُرَدَّ التَّغَابُنُ فِيهِ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْلَكْ بِالْعَقْدِ كَالصَّلَاةِ إذَا عَرِيَتْ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّهَا تُعَادُ أَبَدًا، وَوَجْهُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَإِذَا كَانَ الْفَسَادُ فِي عَقْدِهِ كَانَ فِيهِ بَعْدَ الْفَوَاتِ الْعِوَضُ الْمُسَمَّى وَإِذَا كَانَ فَسَادُهُ فِي عِوَضِهِ كَانَ فِيهِ بَعْدَ الْفَوَاتِ الْقِيمَةُ كَالنِّكَاحِ.
(فَصْلٌ) :
قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَالِكٌ مِنْ مَقَالَتِهِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْقِرَاضِ إلَى ذِكْرِ الْبُيُوعِ وَمَا اُخْتُلِفَ مِنْ ذِكْرِ مَكْرُوهِهَا وَحَرَامِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اعْتَزَى فِيهِ أَنَّ لِلْقِرَاضِ مَكْرُوهًا وَحَرَامًا كَالْبُيُوعِ لَهَا مَكْرُوهٌ وَحَرَامٌ فَمَكْرُوهُ الْقِرَاضِ مَا كَانَ مِنْهُ إذَا فَاتَ بِالْعَمَلِ يَرُدُّ فِيهِ الْعَامِلُ إلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ مِثْلُ الْمُقَارِضِ بِالسِّلْعَةِ، وَالْمُقَارِضِ عَلَى الضَّمَانِ، وَالْمُقَارِضِ يَشْرِطُ أَوْ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرُدَّ الْمَالَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَهَذَا وَشِبْهُهُ مَكْرُوهُ الْقِرَاضِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَكْرُوهِ الْبَيْعِ، كَمَا لَا يَنْقُضُ الْبَائِعُ فِي مَكْرُوهِ الْبَيْعِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ إذَا كَانَ أَدْنَى مِنْ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ الْمُقَارِضُ فِي مَكْرُوهِ الْقِرَاضِ وَيُرَدُّ إلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ، وَحَرَامُ الْقِرَاضِ مَا كَانَ مِنْهُ يُرَدُّ الْمُقَارِضُ بَعْدَ الْعَمَلِ إلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَيَخْرُجُ عَنْ رِبْحِ الْقِرَاضِ كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْبُيُوعِ الْحَرَامِ يَرْجِعُ عِنْدَ فَوَاتِ السِّلْعَةِ إلَى قِيمَتِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دُونَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ أَوْ أَكْثَرَ فَهَذَا تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي قَالَهَا مَالِكٌ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ مُزَيْنٍ فِي إيرَادِ مَسْأَلَةِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ بِإِثْرِ مَسَائِلِ الْقِرَاضِ لَا بَأْسَ بِهِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَمْثِيلُ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ بِالْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ.
وَمَا ذَكَرَهُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْقِرَاضِ الْحَرَامِ، وَالْمَكْرُوهِ مُتَنَازَعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِرَاضَ الْفَاسِدَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْوَاجِبِ بِهِ إذَا فَاتَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ الظَّاهِرُ إنَّهُ يُرَدُّ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ يُرَدُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ يُرَدُّ بَعْضُ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ وَبَعْضُهُ إلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ حَكَاهَا عَنْهُ ابْنُ حَبِيبٍ.
وَقَالَ بِهَذَا ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ نَافِعٍ وَمُطَرِّفُ وَأَصْبَغُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ أَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ زِيَادَةٍ يَشْتَرِطُهَا أَحَدُهُمَا فِي الْمَالِ دَاخِلَةٌ فِيهِ لَيْسَتْ بِخَارِجَةٍ عَنْهُ وَلَا خَالِصَةٍ لِمُشْتَرِطِهَا فَذَلِكَ يُرَدُّ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ، وَكُلُّ زِيَادَةٍ ازْدَادَهَا خَارِجَةٌ مِنْ الْمَالِ أَوْ خَالِصَةٌ لِأَحَدِهِمَا فَإِنَّ هَذَا يُرَدُّ إلَى إجَارَةِ الْمِثْلِ وَكُلُّ خَطَرٍ وَغَرَرٍ يَتَعَامَلَانِ عَلَيْهِ خَرَجَا فِيهِ عَنْ سَنَةِ الْقِرَاضِ فَهُوَ فِي ذَلِكَ أَجِيرٌ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ إنْ طَالَ الْفَسَادُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ زِيَادَةٍ ازْدَادَهَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَى إجَارَةِ الْمِثْلِ حُكِيَ عَنْ عِيسَى مَا تَقَدَّمَ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ شُبْهَةَ كُلِّ عَقْدٍ وَفَاسِدَهُ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى صَحِيحِهِ إذَا فَاتَ كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْإِجَارَاتِ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي التَّقْسِيمِ غَيْرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنِ مُزَيْنٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجِبُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ أَنْ لَوْ قَالَ كُلُّ قَرْضٍ أُوقِعَ عَلَى وَجْهٍ مَكْرُوهٍ وَوُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ الصِّحَّةِ فَإِنَّهُ يُتْرَكُ إذَا وَقَعَ وَفَاتَ وَمَا كَانَ حَرَامًا لَمْ
(5/158)
مَا يَجُوزُ مِنْ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا تَشْتَرِيَ بِمَالِي إلَّا سِلْعَةَ كَذَا وَكَذَا أَوْ يَنْهَاهُ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً بِاسْمِهَا قَالَ مَالِكٌ: مَنْ اشْتَرَطَ عَلَى مَنْ قَارَضَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ حَيَوَانًا أَوْ سِلْعَةً بِاسْمِهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَمَنْ اشْتَرَطَ عَلَى مَنْ قَارَضَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ إلَّا سِلْعَةَ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ السِّلْعَةُ الَّتِي أَمَرَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ غَيْرَهَا كَثِيرَةً مَوْجُودَةً لَا تَخْلُفُ فِي شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يُوجَدْ فِيهِ شُرُوطُ الصِّحَّةِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ أَبَدًا، وَإِنْ فَاتَ كَانَ فِيهِ قِرَاضُ الْمِثْلِ، وَلَكِنَّ مَالِكًا إنَّمَا قَصَدَ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْقِرَاضِ الْمَكْرُوهِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ كَمَا أَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ الْمَكْرُوهِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَمْ يَقْصِدْ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا.
(فَرْقٌ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِنَا قِرَاضُ الْمِثْلِ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ أَنَّ قِرَاضَ الْمِثْلِ مُتَعَلِّقٌ بِنَمَاءِ ذَلِكَ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَلَهُ حِصَّتُهُ فِي مِثْلِهِ فِي عَمَلِهِ وَأَمَانَتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِبْحٌ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا شَيْءَ لَهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ لَهُ قِرَاضَ الْمِثْلِ حِصَّةً ثَابِتَةً مَعَ وُجُودِ الرِّبْحِ وَعَدَمِهِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ بِأَنْ يُجْعَلَ لَهُ الْجُزْءُ الَّذِي يُعَامَلُ مِثْلُهُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ الْمَالِ، وَأَمَّا أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَإِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّةِ صَاحِبِ الْمَالِ بِإِجَارَةِ ثَابِتَةٍ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ شَاءَ إنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ كَانَ لَهُ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ خَسَارَةٌ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبِ إنَّ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ.
(فَرْقٌ) وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَامِلَ فِي قِرَاضِ الْمِثْلِ يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ إلَى أَنْ يَنِضَّ الْمَالُ وَلَا يَلْزَمُهُ فِي أُجْرَةِ الْمِثْلِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ قَبْضُ دَيْنِهِ إنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِيهِ وَبَيْعُ عُرُوضِهِ، وَعَلَى الْعَامِلِ إثْبَاتُ دُيُونِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ إنْ جَحَدَهَا، وَلَمْ تَثْبُتْ بِبَيِّنَةٍ ضَمِنَهَا الْعَامِلُ.
[مَا يَجُوزُ مِنْ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ شَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ لَا يَتَّجِرَ بِسِلْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ بِالْحَيَوَانِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَهُ شَرْطُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبْقَى لَهُ مِنْ السِّلَعِ مَا لَا يُعْدَمُ التِّجَارَةُ فِيهَا فِي بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ وَلَا وَقْتَ مِنْ الْأَوْقَاتِ، وَهَذَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْقِرَاضِ، فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهُ أُقَارِضُك عَلَى أَنْ لَا تَشْتَرِيَ إلَّا سِلْعَةَ كَذَا السِّلْعَةَ بِعَيْنِهَا، فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ كَثِيرَةً مَوْجُودَةً وَلَا تُعْدَمُ التِّجَارَةُ فِيهَا وَلَا تُعْدَمُ هِيَ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ كَالْحَيَوَانِ، وَالطَّعَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَدْ تَعْدَمُ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ أَوْ تَتَعَذَّرُ التِّجَارَةُ بِهَا لِقِلَّتِهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ لَمْ تَجُزْ الْمُقَارَضَةُ بِهَا وَعَقْدُ الْقِرَاضِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ فَاسِدٌ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ هَذَا اشْتَرَطَ مَا يُنَافِي عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ أَوْ شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ عُرُوضًا وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُنَافِي الْمُضَارَبَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ النَّمَاءُ وَالرِّبْحُ، وَإِذَا قَالَ لَا تَشْتَرِ إلَّا هَذَا الثَّوْبَ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُعْدَمَ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ رِبْحٌ فَيَبْطُلَ مَقْصُودُ الْقِرَاضِ.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ الْقِرَاضَ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ كُلُّ قِرَاضٍ وَقَعَ فَاسِدًا مِمَّا يَرُدُّ فِيهِ الْعَامِلَ إلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ أَوْ أُجْرَةِ مِثْلِهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ مَتَى عَثَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَإِذَا عَثَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَبْتَاعَ بِالْمَالِ شَيْئًا فُسِخَ، وَإِنْ عَثَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ ابْتَاعَ بِالْجَمِيعِ كَانَ فَسْخُهُ الْمَنْعَ مِنْ اسْتِئْنَافِ الْعَمَلِ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهْمًا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ أَوْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا يُرَدُّ إلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ فَلَا تَفْرِيعَ وَإِذَا قُلْنَا يُرَدُّ إلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ وَابْتَاعَ بِبَعْضِ الْعَيْنِ سَلَفًا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ فَعِنْدِي إنْ اشْتَرَى بِالْيَسِيرِ الَّذِي لَا خَطْبَ لَهُ فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَشْتَرِ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِالْكَثِيرِ وَبَقِيَ الْكَثِيرُ فَهُوَ
(5/159)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ: فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ خَالِصًا دُونَ صَاحِبِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ، وَإِنْ كَانَ دِرْهَمًا وَاحِدًا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ نِصْفَ الرِّبْحِ لَهُ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ أَوْ ثُلُثَهُ أَوْ رُبُعَهُ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ فَإِذَا سَمَّى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَلَالٌ، وَهُوَ قِرَاضُ الْمُسْلِمِينَ قَالَ وَلَكِنْ إنْ اشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ دِرْهَمًا وَاحِدًا فَمَا فَوْقَهُ خَالِصًا لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ وَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ قِرَاضُ الْمُسْلِمِينَ) .
مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ خَالِصًا دُونَ الْعَامِلِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ خَالِصًا دُونَ صَاحِبِهِ، وَلَا يَكُونُ مَعَ الْقِرَاضِ بَيْعٌ وَلَا كِرَاءٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا سَلَفٌ وَلَا مِرْفَقٌ يَشْتَرِطُهُ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ إذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُتَقَارَضَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ زِيَادَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ وَلَا طَعَامٍ وَلَا شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ يَزْدَادُهُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ قَالَ فَإِنْ دَخَلَ الْقِرَاضَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَارَ إجَارَةً وَلَا تَصْلُحُ الْإِجَارَةُ إلَّا بِشَيْءٍ ثَابِتٍ مَعْلُومٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلَّذِي أَخَذَ الْمَالَ أَنْ يَشْتَرِطَ مَعَ أَخْذِهِ الْمَالَ أَنْ يُكَافِئَ وَلَا يُوَلِّي مِنْ سِلْعَتِهِ أَحَدًا وَلَا يَتَوَلَّى مِنْهَا شَيْئًا لِنَفْسِهِ فَإِذَا وَفَرَ الْمَالُ وَحَصَلَ عَزْلُ رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ عَلَى شَرْطِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِ رِبْحٌ أَوْ دَخَلَتْهُ وَضِيعَةٌ لَمْ يَلْحَقْ الْعَامِلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لَا مِمَّا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا مِنْ الْوَضِيعَةِ، وَذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي مَالِهِ، وَالْقِرَاضُ جَائِزٌ عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ مِنْ نِصْفِ الرِّبْحِ أَوْ ثُلُثِهِ أَوْ رُبْعِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ فِيمَا عَمِلَ فِيهِ وَيَتْرُكُ الْبَاقِيَ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ اشْتَرَطَ مِنْ الْمُتَعَامِلَيْنِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَخْلُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ حِصَّةٍ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَوْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَدَدًا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ ذَلِكَ الْعَدَدُ أَنْ يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ الرِّبْحِ فَلَا يَكُونُ لِلْآخَرِ حَظٌّ مِنْ الرِّبْحِ، وَهُوَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقِرَاضِ إلَّا عَلَى حَظٍّ مِنْ الرِّبْحِ فَلِذَلِكَ كَانَ الرِّبْحُ عَلَى الْأَجْزَاءِ لَا عَلَى الْعَدَدِ، فَإِنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا مَعَ الْأَجْزَاءِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ مُقَدَّرًا بِالْعَدَدِ، وَلَوْ دِرْهَمًا وَاحِدًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَقْدَ الْقِرَاضِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاضَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَجْزَاءِ فَإِذَا اشْتَرَطَ فِيهِ عَدَدًا مُسْتَثْنًى أَدْخَلَ الْجَهَالَةَ فِي الْأَجْزَاءِ الْمُشْتَرَطَةِ وَلَا يُعْلَمُ حِينَئِذٍ كَمْ مِقْدَارُهَا وَلَا يَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْأَهُ مِنْ الرِّبْحِ فَلَمْ يَتَقَدَّرْ بِجُزْءٍ وَلَا بِعَدَدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَبْطُلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الشَّرْطِ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الْمُتَعَامِلَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ شَيْئًا لَا يُفْضِي إلَى الْأَجْزَاءِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ وَلَا يَكُونُ مَعَ الْقِرَاضِ بَيْعٌ وَلَا كِرَاءٌ وَلَا عَمَلٌ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ
(5/160)
) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَلَيْهِمَا عَقْدٌ وَاحِدٌ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ عُقُودٌ لَازِمَةٌ وَعَقْدُ الْقِرَاضِ عَقْدٌ جَائِزٌ، وَالْجَوَازُ ضِدُّ اللُّزُومِ فَلَمَّا تَنَافَى مُقْتَضَاهُمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي عَقْدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُ أَحَدَهُمَا عَنْ مُقْتَضَاهُ وَيُوجِبُ فَسَادَهُ وَإِذَا فَسَدَ أَحَدُهُمَا فَسَدَ الْآخَرُ لِاشْتِمَالِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ وَقَعَ بَيْعٌ وَقِرَاضٌ فَقَدْ رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ مُزَيْنٍ يُفْسَخُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَفُتْ السِّلْعَةُ وَيُعْمَلُ فِي الْقِرَاضِ ثُمَّ يَتَقَارَضَانِ قِرَاضًا صَحِيحًا إنْ شَاءَ، فَإِنْ لَمْ تَفُتْ سِلْعَةٌ الْبَيْعَ، وَقَدْ عُمِلَ فِي الْمَالِ فُسِخَ الْبَيْعُ وَكَانَ أَجِيرًا فِي الْقِرَاضِ، وَإِنْ فَاتَتْ السِّلْعَةُ وَعُمِلَ فِي الْمَالِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لَهُ قِيمَةُ سِلْعَتِهِ وَيُرَدُّ فِي الْقِرَاضِ إلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ وَيَكُونُ نَمَاءُ الْمَالِ لِرَبِّهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ عَمَلًا كَالصَّانِعِ يَأْخُذُ الْقِرَاضَ عَلَى الْعَمَلِ أَوْ يَعْمَلُ بِيَدِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ فَاتَ فَهُوَ أَجِيرٌ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ هُمَا عَلَى قِرَاضِهِمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ وَيَكُونُ فِي الْمَالِ عَلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ دُونَ اشْتِرَاطِ عَمَلِهِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَلَا سَلَفَ وَلَا مِرْفَقَ يَشْتَرِطُ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ عَلَى مَا قَالَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ السَّلَفَ طَرِيقُهُ اللُّزُومُ، وَكَذَلِكَ عُقُودُ الْمَرَافِقِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَافِي عُقُودَ الْجَوَازِ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فَرِبْحُ السَّلَفِ لِلْعَامِلِ، وَهُوَ فِي الْمِائَةِ الْأُخْرَى أَجِيرٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَعَلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ فِي قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ إذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يُعَيِّنُ صَاحِبَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَا عِوَضٍ إلَّا لِمُجَرَّدِ الْمَعْرُوفِ، وَالْمِرْفَقِ فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَيِّنَهُ فِيهِ وَلَا يَعُودُ بِفَسَادِ الْقِرَاضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِمَعْنَى الْقِرَاضِ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقِرَاضِ.
(فَصْلٌ) :
وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُتَقَارَضَيْنِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ زِيَادَةً مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ وَلَا طَعَامٍ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ غَيْرِ رِبْحِ الْقِرَاضِ كَانَتْ مَعَ الْقِرَاضِ إجَارَةً إنْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الْعَامِلُ، وَإِنْ اشْتَرَطَهُ صَاحِبُ الْمَالِ فَإِنَّهُ عَمَلٌ وَعَيْنٌ مَعْلُومٌ بِعَيْنٍ مَجْهُولٍ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ نَزَلَ ذَلِكَ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ إنْ تَرَكَ ذَلِكَ مَنْ اشْتَرَطَهُ قَبْلَ الْعَمَلِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ مَا أَدْخَلَ الْفَسَادَ فِي الْعَقْدِ فِي وَقْتٍ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ وَابْتِدَاؤُهُ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ فَسَخَ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ وَاسْتَأْنَفَ عَقْدًا صَحِيحًا.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا بَعْدَ الْعَمَلِ فَرَوَى يَحْيَى عَنْ ابْنِ نَافِعٍ أَنَّهُ إنْ أَبْطَلَ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ مُشْتَرِطُهُ صَحَّ الْعَقْدُ وَتَمَادَيَا عَلَيْهِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ يَحْيَى بَعْدَ الْعَمَلِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَإِنْ دَخَلَ الْقِرَاضَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَارَ إجَارَةً وَلَا يَصْلُحُ إلَّا بِشَيْءٍ ثَابِتٍ مَعْلُومٍ يُرِيدُ إنْ اشْتَرَطَهُ الْعَامِلُ فَهُوَ إجَارَةٌ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْقِرَاضِ أَنْ يَكُونَ عِوَضُ الْعَمَلِ حَقُّهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يُتَرَقَّبُ خُرُوجُهُ مِنْ النَّمَاءِ فَإِذَا اشْتَرَطَ الْعَامِلُ ذَهَبًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ غَيْرِ ذَهَبٍ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ سُنَّةِ الْقِرَاضِ إلَى مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي الْإِجَارَةِ إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْإِجَارَةِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ عِوَضِهَا مَعْلُومًا فَإِذَا كَانَ بَعْضُ عِوَضِهَا مَجْهُولًا مُتَرَقَّبًا مِنْ النَّمَاءِ لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ أَيْضًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِجَارَةِ عَلَى التِّجَارَةِ بِالْمَالِ وَبَيْنَ الْقِرَاضِ أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ يَسْتَأْجِرُهُ عَلَى أَنْ يَتَّجِرَ لَهُ فِي مَالِهِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مُعَيَّنٍ مَقْبُوضٍ أَوْ مُقَدَّرٍ فِي الذِّمَّةِ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، فَإِنْ جُعِلَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي النَّمَاءِ الْمُتَرَقَّبِ لَمْ يَجُزْ وَمَعْنَى الْقِرَاضِ أَنْ يُعَامِلَهُ مُعَامَلَةً جَائِزَةً لِيَعْمَلَ فِي مَالِهِ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهِ الْمُتَرَقَّبِ فَإِنْ صُرِفَ شَيْءٌ مِنْ عِوَضِ الْعَمَلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ
(5/161)
(ص) : (مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لِلَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ قِرَاضًا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ سِنِينَ لَا يُنْزَعُ مِنْهُ قَالَ وَلَا يَصْلُحُ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنَّكَ لَا تَرُدُّهُ إلَى سِنِينَ لِأَجَلٍ يُسَمِّيَانِهِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاضَ لَا يَكُونُ إلَى أَجَلٍ وَلَكِنْ يَدْفَعُ رَبُّ الْمَالِ مَالَهُ إلَى الَّذِي يَعْمَلُ لَهُ فِيهِ، فَإِنْ بَدَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ وَالْمَالُ نَاضٌّ لَمْ يَشْتَرِ بِهِ شَيْئًا تَرَكَهُ وَأَخَذَ صَاحِبُ الْمَالِ مَالَهُ، وَإِنْ بَدَا لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَقْبِضَهُ بَعْدَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ سِلْعَةً فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ حَتَّى يُبَاعَ الْمَتَاعُ وَيَصِيرَ عَيْنًا، فَإِنْ بَدَا لِلْعَامِلِ أَنْ يَرُدَّهُ، وَهُوَ عَرْضٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَبِيعَهُ فَيَرُدَّهُ عَيْنًا كَمَا أَخَذَهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلَّذِي أَخَذَ الْمَالَ أَنْ يَشْتَرِطَ مَعَ أَخْذِهِ الْمَالَ أَنْ يُكَافِئَ وَلَا يُوَلِّي مِنْ سِلْعَتِهِ أَحَدًا وَلَا يَتَوَلَّى مِنْهَا شَيْئًا لِنَفْسِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي عَقْدِ الْقِرَاضِ إلَّا أَنْ يُكَافِئَ مِنْهُ مَنْ أَسْدَى إلَيْهِ مَعْرُوفًا يَخْتَصُّ بِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَافَأَ مِنْهُ أَحَدًا بِمَعْرُوفٍ أَسْدَى إلَيْهِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ وَحُسْنِ النَّظَرِ لَجَازَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَ أَحَدًا سِلْعَةً يَرْجُو فِيهَا نَمَاءً وَرِبْحًا، وَأَمَّا إذَا وَلَّاهَا وَكَانَ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ فَهُوَ نَفْعٌ يُقْصَدُ مَعَ الْمُكَايَسَةِ فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَهَذَانِ الْفَصْلَانِ إذَا كَانَا عَلَى وَجْهِ الْمُتَاجَرَةِ فَلِلْعَامِلِ فِعْلُهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اشْتِرَاطِهَا، وَلَوْ اشْتَرَطَهَا لَمَا فَسَدَ بِذَلِكَ الْقِرَاضُ، وَإِنْ كَانَا عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُمَا وَيُفْسِدُ ذَلِكَ الْعَقْدَ، وَإِنْ فَعَلَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ صَاحِبِ الْعَامِلِ، وَأَمَّا أَنْ يَتَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ سِلْعَةً فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِبَعْضِ النَّمَاءِ الْحَاصِلِ فِي الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلِرَبِّ الْمَالِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُمْضِيَهُ وَيَلْزَمَهُ الْعَامِلُ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَإِذَا حَضَرَ الْمَالُ وَحَصَلَ عَزْلُهُ، ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ عَلَى شَرْطِهِمَا يُرِيدُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُبْدَأَ بِالْإِخْرَاجِ فِي قِسْمَةِ الْقِرَاضِ رَأْسُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا رِبْحَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُسَلَّمَ إلَى صَاحِبِهِ وَيَصِيرَ فِي قَبْضِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْرَأَ فِي الْقِسْمَةِ، فَإِذَا سُلِّمَ إلَى صَاحِبِهِ وَتَصَيَّرَ فِي قَبْضِهِ كَانَ مَا بَقِيَ بَعْدَهُ رِبْحٌ حَاصِلٌ فَيَقْتَسِمَانِهِ عَلَى مَا سَمَّيَا فِي الْقِرَاضِ الصَّحِيحِ وَيَجْرِي الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ دُونَ أَنْ يَحْضُرَ رَأْسُ الْمَالِ أَوْ حَضَرَ فَلَمْ يَقْبِضْهُ صَاحِبُهُ فَإِنَّ تِلْكَ قِسْمَةٌ فَاسِدَةٌ، فَإِنْ دَخَلَ الْمَالَ نَقْصٌ رُدَّ مِنْ الرِّبْحِ مَا يُجْبَرُ بِهِ رَأْسُ الْمَالِ وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِهِ قَالَهُ عِيسَى.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ لَهُ رِبْحٌ أَوْ دَخَلَتْهُ وَضِيعَةٌ لَمْ يَلْحَقْ الْعَامِلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لَا مِمَّا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا مِنْ الْوَضِيعَةِ، وَذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي مَالِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَالِ بَعْدَ إخْرَاجِ رَأْسِ الْمَالِ وَرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ رِبْحٌ يُقَسَّمُ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ خُسْرَانٌ وَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْبُرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِ رَدُّ شَيْءٍ مِمَّا أَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ إنْ كَانَ سَافَرَ فِيهِ سَفَرًا يَقْتَضِي الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمُؤَنِ اللَّازِمَةِ لِمَالِ الْقِرَاضِ مِنْ كِرَاءِ حَمْلٍ وَإِجَارَةِ نَشْرٍ وَطَيٍّ، وَقَوْلُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فِي مَالِهِ يُرِيدُ مَالَ الْقِرَاضِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيمَا بِيَدِهِ مِنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ إلَّا فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَقِّتَ الْقِرَاضَ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ لَا يَجُوزُ فَسْخُهُ قَبْلَهَا، وَإِنْ عَادَ الْمَالُ عَيْنًا، وَإِنْ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَقَدْ كَمُلَ الْقِرَاضُ فَلَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ وَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ إذَا كَانَ عَرْضًا عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ فَلَمْ يَتَوَقَّتْ بِمُدَّةٍ مِنْ الزَّمَانِ كَالشَّرِكَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِرَاضَ عَقْدٌ جَائِزٌ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ مَتَى شَاءَ، وَلَمْ يُوَقَّتْ بِزَمَنٍ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يَمْنَعُ ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فَحَكَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ نَافِعٍ إنْ وَقَعَ فَسَخْتُ الشَّرْطَ وَأَثْبَتُّهُمَا
(5/162)
زَكَاةُ الْقِرَاضِ (ص) : (مَالِكٌ: لَا يَصْلُحُ لِمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الزَّكَاةَ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ فَقَدْ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ فَضْلًا مِنْ الرِّبْحِ ثَانِيًا فِيمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ حِصَّةِ الزَّكَاةِ الَّتِي تُصِيبُهُ مِنْ حِصَّتِهِ) .
(ص) : (مَالِكٌ: وَلَا يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى مَنْ قَارَضَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ إلَّا مِنْ فُلَانٍ لِرَجُلٍ يُسَمِّيهِ فَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ لَهُ أَجِيرًا بِأَجْرٍ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَلَى قِرَاضِهِمَا قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ هُوَ حَسَنٌ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يَعْمَلَ فَهُوَ أَجِيرٌ، وَالرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْمَالِ، وَالضَّمَانُ مِنْهُ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَإِنْ بَدَا لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَقْضِيَهُ بَعْدَ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ يُرِيدُ أَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ يَلْزَمُ بِتَغَيُّرِ عَيْنِ الْمَالِ وَاَلَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ عَمَلٌ مُعْتَادٌ فَفِي مِثْلِهِ يَرْجِعُ بِهِ الْمَالُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَيْنِ لِتَمَكُّنِ الِانْفِصَالِ فِيهِ وَلَا يَلْزَمُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِأَنْ يَبْتَاعَ بِهِ سِلْعَةً أُخْرَى أَوْ يَسْتَأْنِفَ بِهِ تِجَارَةً ثَانِيَةً، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقِرَاضَ مِنْ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ الَّتِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْقِرَاضَ لَا يَقَعُ الِانْفِصَالُ فِيهِ إلَّا وَهُوَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي انْعَقَدَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَعُودَ الْمَالُ عَيْنًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي انْعَقَدَ بِهَا الْقِرَاضُ فَإِذَا ثَبَتَ الْأَصْلَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ مَا كَانَ عَيْنًا فَإِذَا غَيَّرَهُ فِي سِلْعَةٍ لَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهِ إلَى أَنْ يَعُودَ الْمَالُ عَيْنًا فَيُمْكِنُ الِانْفِصَالُ بِهِ وَيَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ تَرْكُهُ بِيَدِهِ إذَا صَارَ عَرْضًا لِيَتَخَلَّصَ لِلْعَامِلِ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ الَّتِي لَهَا عَمَلٌ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَنْ يَصِيرَ الْمَالُ عَيْنًا يُرَدُّ مِنْهُ رَأْسُ الْمَالِ وَيَتَخَلَّصُ بَعْدَ ذَلِكَ الرِّبْحُ لِتَصِحَّ الْمُقَاسَمَةُ فِيهِ.
[زَكَاةُ الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ زَكَاةَ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَعُودُ إلَى أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عَدَدًا مِنْ الرِّبْحِ يَنْفَرِدُ بِهِ ثُمَّ تَطْرَأُ الْقِسْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَرُبَّمَا اسْتَغْرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَدَدُ جَمِيعَ الرِّبْحِ فَيَسْقُطُ حَظُّ الْعَامِلِ مِنْ الرِّبْحِ مَعَ وُجُودِهِ وَاشْتِرَاطِهِ لَهُ، وَذَلِكَ يُنَافِي الْجَوَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ زَكَاةَ الرِّبْحِ مِنْ حِصَّتِهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ لَا خَيْرَ فِي ذَلِكَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَجْهُ رِوَايَةِ أَشْهَبَ أَنَّ ذَلِكَ مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ التَّتَارُكُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ جُزْءًا شَائِعًا فَكَانَ جَائِزًا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ النِّصْفَ وَرُبْعَ الْعُشْرِ وَلِلْعَامِلِ النِّصْفُ غَيْرُ رُبْعِ الْعُشْرِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ اشْتَرَطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ الزَّكَاةَ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِطَ زَكَاةَ الرِّبْحِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالثَّانِي أَنْ يَشْتَرِطَ زَكَاةَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فِي حِصَّةِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِنْ اشْتَرَطَ زَكَاةَ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ الرِّبْحِ فَقَدْ قَالَ عِيسَى لَا يَجُوزُ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ جَوَازَ ذَلِكَ وَجْهُ رِوَايَةِ عِيسَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْجَهَالَةِ، وَالْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا شَرَطَ عَلَيْهِ فِي رَأْسِ مَالِهِ فِي قِلَّتِهِ أَوْ كَثْرَتِهِ وَلَا يَدْرِي هَلْ يَثْبُتُ ذَلِكَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ لَزِمَ رَبَّ الْمَالِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رِبْحٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّ زَكَاةَ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَزَكَاةَ الرِّبْحِ مِنْهُ، ثُمَّ تَقَعُ الْقِسْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا شَرَطَ الْعَامِلُ الزَّكَاةَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَإِنَّمَا شَرَطَ عَلَيْهِ زِيَادَةَ جُزْءٍ مِنْ الرِّبْحِ وَلَا تَأْثِيرَ لِتَخْصِيصِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ كَمَا لَوْ شَرَطَ الزَّكَاةَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ إلَّا مِنْ فُلَانٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ جَائِزٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ إذَا عَيَّنَ
(5/163)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ: فِي الرَّجُلِ يَدْفَعُ إلَى الرَّجُلِ مَالًا قِرَاضًا وَيَشْتَرِطُ عَلَى الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ الضَّمَانَ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي مَالِهِ غَيْرَ مَا وُضِعَ الْقِرَاضُ عَلَيْهِ وَمَا مَضَى مِنْ رِبْحِ سَنَةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَإِنَّمَا الْمَالُ عَلَى شَرْطِ الضَّمَانِ كَانَ قَدْ ازْدَادَ فِي حَقِّهِ مِنْ الرِّبْحِ مِنْ أَجْلِ مَوْضِعِ الضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ عَلَى مَا لَوْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ عَلَى غَيْرِ الضَّمَانِ، وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ لَمْ أَرَ عَلَى الَّذِي أَخَذَهُ ضَمَانًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الضَّمَانِ فِي الْقِرَاضِ بَاطِلٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
لَهُ هَذَا التَّعْيِينَ فَإِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمَالِ سُنَّتُهُ التَّصَرُّفُ وَطَلَبُ الِاسْتِرْخَاصِ فَإِذَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَنَصَّ عَلَى الِابْتِيَاعِ مِنْ مُعَيَّنٍ فَإِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ إلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمُعَيَّنِ يَبْتَاعُ مِنْهُ لِرَبِّ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ أُجْرَتُهُ بِضَمَانِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ مَجْهُولٌ وَمِقْدَارَهُ مَجْهُولٌ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُوسِرًا لَا تَعْدَمُ عِنْدَهُ السِّلَعُ وَالْمَتَاجِرُ أَوْ مُعْسِرًا يَعْدَمُ ذَلِكَ عِنْدَهُ قَالَهُ عِيسَى وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ نَافِعٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَمْنَعُ وُجُودَ النَّمَاءِ غَالِبًا وَيَعْتَمِدُ عَلَى اخْتِيَارِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ مُبَايَعَتِهِ جُمْلَةً أَوْ مِنْ مُبَايَعَتِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي لَا يُرْجَى بَعْدَهُ رِبْحٌ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ وَقَعَ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ يُفْسَخُ مَا لَمْ يَفُتْ، فَإِنْ فَاتَ صُحِّحَ بِمَا يَصِحُّ بِهِ الْقِرَاضُ الْفَاسِدُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَّجِرَ إلَّا فِي حَانُوتٍ مُعَيَّنٍ) وَأَمَّا إنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَّجِرَ إلَّا بِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ كَانَ حَيْثُ عَقَدَا الْقِرَاضَ وَكَانَ لَا يُعْدَمُ فِيهِ التِّجَارَةُ الَّتِي يَقْصِدَانِ لِعِظَمِ ذَلِكَ الْبَلَدِ وَكَثْرَةِ مَتَاجِرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَتَاجِرُ تُعْدَمُ فِيهِ لِصِغَرِهِ لَمْ يَجُزْ فَأَمَّا إنْ كَانَ بِغَيْرِ بَلَدِ الْقِرَاضِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ فَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ لِيَتَّجِرَ بِهِ، وَالثَّانِي أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ لِيَبِيعَ فِيهِ مَا يَحْمِلُ إلَيْهِ وَيَجْلِبُ مِنْهُ مَا يَشْتَرِي فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ هُوَ جَائِزٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ التِّجَارَةَ بِبَلَدٍ يُعْلَمُ وُجُودُهَا بِهِ أَبَدًا كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ بَلَدَ عَقْدِ الْقِرَاضِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ الْمَنْعَ مِنْهُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ فِي ثَمَانِيَتِهِ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِينَارٍ قِرَاضًا يَذْهَبُ بِهَا إلَى بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ بِعَيْنِهِ لِيَشْتَرِيَ بِهَا مَتَاعًا وَيَقْدُمَ بِهَا إلَى الْمَدِينَةِ لَا يَبِيعُ إلَّا بِهَا وَشَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَهُوَ قِرَاضُ النَّاسِ لَمْ أَسْمَعْ فِيهِ اخْتِلَافًا، وَرَوَى أَصْبُغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إجَازَتَهُ فِيمَنْ قَارَضَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْبُحَيْرَةِ أَوْ الْفَيُّومِ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا قِيلَ لَهُ فَالْمَكَانُ بَعِيدٌ مِثْلُ بَرْقَةَ وَإِفْرِيقِيَّةَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهَا يَشْتَرِي بِهَا فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ هَذَا اشْتِرَاطٌ عَلَى الْعَامِلِ سَفَرًا بِعَيْنِهِ وَرُبَّمَا عَدِمَ التِّجَارَةَ وَالرِّبْحَ فِيهِ لِكَسَادِ سُوقٍ أَوْ انْقِطَاعِ طَرِيقٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ التِّجَارَةَ فِي سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا وَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ التِّجَارَةِ لَا يَكَادُ يَخْلُفُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ عَلَى الْمَعْهُودِ فَجَازَ أَنْ يُقْصَرَ الْعَامِلُ عَلَيْهِ كَالتُّجَّارِ فِي الْبَزِّ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ لِرَبِّ الْمَالِ إذَا شَرَطَ الضَّمَانَ عَلَى الْعَامِلِ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْعَقْدِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْقِرَاضِ لَا يَقْتَضِي ضَمَانَ الْعَامِلِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْأَمَانَةَ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ فَلِذَلِكَ إذَا شَرَطَ نَقْلَ الضَّمَانِ عَنْ مَحَلِّهِ بِإِجْمَاعٍ اقْتَضَى ذَلِكَ فَسَادَ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ، فَإِنْ ادَّعَى ضَيَاعَهُ أَوْ سَرِقَتَهُ صُدِّقَ، وَإِنْ ادَّعَى رَدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا دَفَعَ الْقِرَاضَ عَلَى الضَّمَانِ وَجَبَ فَسْخُهُ مَا لَمْ يَفُتْ، فَإِنْ فَاتَ بَطَلَ الشَّرْطُ وَرُدَّ فِيمَا قَدْ مَضَى مِنْهُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَحْصِيلِ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى هَيْئَتِهِ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي رَدِّ جَمِيعِ الْقِرَاضِ الْفَاسِدِ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ عَلَى مَا لَوْ أَعْطَاهُ إيَّاهُ عَلَى غَيْرِ ضَمَانٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ ادَّعَى خَسَارَةً وَكَانَ وَجْهُ مَا ادَّعَاهُ مَعْرُوفًا بِأَنْ يَكُونَ مَنْ سَافَرَ مِثْلَ سَفَرِهِ أَوْ تَجَرَ مِثْلَ تِجَارَتِهِ أَصَابَهُ
(5/164)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبْتَاعَ بِهِ إلَّا نَخْلًا أَوْ دَوَابَّ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَطْلُبُ ثَمَرَ النَّخْلِ أَوْ نَسْلَ الدَّوَابِّ وَيَحْبِسُ رِقَابَهَا قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ هَذَا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِرَاضِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبِيعَهُ كَمَا يُبَاعُ غَيْرُهُ مِنْ السِّلَعِ) .
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُقَارِضُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ غُلَامًا يُعِينُهُ بِهِ عَلَى أَنْ يَقُومَ مَعَهُ الْغُلَامُ فِي الْمَالِ إذَا لَمْ يَعُدْ أَنْ يُعِينَهُ فِي الْمَالِ لَا يُعِينُهُ فِي غَيْرِهِ) .
الْقِرَاضُ فِي الْعُرُوضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُقَارِضَ أَحَدًا إلَّا فِي الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنْبَغِي الْمُقَارَضَةُ فِي الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ الْمُقَارَضَةَ فِي الْعُرُوضِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ صَاحِبُ الْعَرْضِ خُذْ هَذَا الْعَرْضَ فَبِعْهُ فَمَا خَرَجَ مِنْ ثَمَنِهِ فَاشْتَرِ بِهِ وَبِعْ عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ فَقَدْ اشْتَرَطَ صَاحِبُ الْمَالِ فَضْلًا لِنَفْسِهِ مِنْ بَيْعِ سِلْعَتِهِ وَمَا يَكْفِيهِ مِنْ مُؤْنَتِهَا، أَوْ يَقُولَ اشْتَرِ بِهَذِهِ السِّلْعَةِ وَبِعْ فَإِذَا فَرَغْت فَابْتَعْ لِي مِثْلَ عَرْضِي الَّذِي دَفَعْت إلَيْك، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ بَيْنِي وَبَيْنَك وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْعَرْضِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْعَامِلِ فِي زَمَنٍ هُوَ فِيهِ نَافِقٌ كَثِيرُ الثَّمَنِ، ثُمَّ يَرُدَّهُ الْعَامِلُ حِينَ يَرُدُّهُ وَقَدْ رَخُصَ فَيَشْتَرِيهِ بِثُلُثِ ثَمَنِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْعَامِلُ قَدْ رَبِحَ نِصْفَ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِ الْعَرْضِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ يَأْخُذُ الْعَرْضَ فِي زَمَانٍ ثَمَنُهُ فِيهِ قَلِيلٌ فَيَعْمَلُ فِيهِ حَتَّى يَكْثُرَ الْمَالُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ يَغْلُو ذَلِكَ الْعَرْضُ وَيَرْتَفِعُ ثَمَنُهُ حِينَ يَرُدُّهُ فَيَشْتَرِيهِ بِكُلِّ مَا فِي يَدِهِ فَيَذْهَبُ عَمَلُهُ وَعِلَاجُهُ بَاطِلًا فَهَذَا غَرَرٌ لَا يَصْلُحُ، فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ حَتَّى يَمْضِيَ نَظَرَ إلَى قَدْرِ أَجْرِ الَّذِي دَفَعَ إلَيْهِ الْقِرَاضَ فِي بَيْعِهِ إيَّاهُ وَعِلَاجِهِ فَيُعْطَاهُ، ثُمَّ يَكُونُ الْمَالُ قِرَاضًا مِنْ يَوْمِ نَضَّ الْمَالُ وَاجْتَمَعَ عَيْنًا وَيُرَدُّ إلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ذَلِكَ أَوْ كَانَ وَجْهُهُ مَعْرُوفًا فَهُوَ مُصَدَّقٌ، وَإِنْ ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُعْرَفُ فَرَوَى ابْنُ أَيْمَنَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ ضَامِنٌ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ نَخْلًا يُوقِفُ رِقَابَهَا وَيَكُونُ رِبْحُهَا ثِمَارَهَا؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يُعَامَلُ عَلَيْهِ الْمُقَارِضُ هُوَ التِّجَارَةُ دُونَ السَّقْيِ، وَالْقِيَامِ عَلَى النَّخْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ سَقْيِ النَّخْلِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَكُونَ حِصَّةً مِنْ ثَمَرَةِ ذَلِكَ النَّخْلِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَرْضُ، وَالثَّمَرَةُ عِوَضًا عَنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ عَلَى الدَّوَابِّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ عَلَيْهِ جُزْءًا مِنْ نَسْلِهَا؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يَزْكُو بِغَيْرِ عَمَلٍ كَالْمَاشِيَةِ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ الْعَامِلُ بِالرِّقَابِ الرِّبْحَ فَيَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقِرَاضِ، وَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَالْوَاضِحَةِ عَنْ مَالِكٍ إذَا اشْتَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ يَزْرَعَ مِثْلَ ذَلِكَ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ إذَا كَانَ كَثِيرًا غُلَامًا يُعِينُهُ فِيهِ بِالْخِدْمَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَلَوْ اشْتَرَطَ خِدْمَةَ الْغُلَامِ فِيمَا يَخُصُّ الْعَامِلَ لَمْ يَجُزْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَالْمُسَاقَاةِ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ الْغُلَامَ يُعِينُهُ فِي السَّقْيِ وَالْخِدْمَةِ.
[الْقِرَاضُ فِي الْعُرُوضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ لَا يَنْبَغِي الْقِرَاضُ إلَّا بِالْعَيْنِ
(5/165)
الْكِرَاءُ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَاشْتَرَى بِهِ مَتَاعًا فَحَمَلَهُ إلَى بَلَدٍ لِلتِّجَارَةِ فَبَارَ عَلَيْهِ وَخَافَ النُّقْصَانَ إنْ بَاعَ فَتَكَارَى عَلَيْهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَبَاعَ بِنُقْصَانٍ فَاغْتَرَقَ الْكِرَاءُ أَصْلَ الْمَالِ كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ فِيمَا بَاعَ وَفَاءٌ لِلْكِرَاءِ فَسَبِيلُهُ ذَلِكَ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْ الْكِرَاءِ شَيْءٌ بَعْدَ أَصْلِ الْمَالِ كَانَ عَلَى الْعَامِلِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْهُ شَيْءٌ يُتْبَعُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالتِّجَارَةِ فِي مَالِهِ فَلَيْسَ لِلْمُقَارِضِ أَنْ يُتْبِعَهُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُتْبَعُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ لَكَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ الَّذِي قَارَضَهُ فِيهِ فَلَيْسَ لِلْمُقَارِضِ أَنْ يُحَمِّلَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ، فَإِنْ قَارَضَهُ بِعَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقُولَ لَهُ بِعْ هَذَا الْعَرْضَ فَإِذَا نَضَّ ثَمَنُهُ فَاعْمَلْ بِهِ قِرَاضًا يَكُونُ الثَّمَنُ رَأْسَ الْمَالِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُسْتَأْنَفٌ فَلَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الْقِرَاضِ بِهِ أَصْلُ ذَلِكَ هُبُوبُ الرِّيَاحِ وَنُزُولُ الْمَطَرِ وَاسْتِدْلَالٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا قِرَاضٌ وَإِجَارَةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي عَقْدٍ لِاخْتِلَافِ مُقْتَضَاهُمَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَقُولَ لَهُ خُذْ هَذَا الْعَرْضَ عَلَى الْقِرَاضِ يَكُونُ الْعَرْضُ رَأْسَ الْمَالِ تَرُدُّ إلَيَّ بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ مِثْلَهُ فَمَا فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ رِبْحٌ بَيْنِي وَبَيْنَك فَهَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ الْغَرَرِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَرْضَ فِي وَقْتِ رُخْصِهِ وَيَرُدَّهُ فِي وَقْتِ غَلَائِهِ، فَيَذْهَبُ رَبُّ الْمَالِ بِرِبْحِ الْمَالِ أَوْ يَأْخُذُهُ فِي وَقْتِ نَفَاقِهِ وَيَرُدُّهُ فِي وَقْتِ كَسَادِهِ فَيَشْتَرِيهِ بِبَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ وَيُقَاسِمُهُ الْبَعْضَ الْآخَرَ دُونَ أَنْ يُنَمِّيَ بِعَمَلِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْقِرَاضُ بِمَا تَخْتَلِفُ أَسْوَاقُهُ وَيَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ نَفَاقُهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ، فَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ حَتَّى يَمْضِيَ إلَى آخِرِ الْفَصْلِ يُرِيدُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا مِنْ كِتَابِ مُحَمَّدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقِرَاضُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْعَيْنِ وَجَبَ أَنْ يُصَحَّحَ بِهِ عِنْدَ الْفَوَاتِ فَيَكُونَ الْقِرَاضُ مِنْ وَقْتٍ صَحَّ الثَّمَنُ وَحَصَلَ بِيَدِ الْعَامِلِ وَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى الْقِرَاضِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقِرَاضُ بِهِ لِوَجْهٍ فَكَانَ فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُصَحَّحُ بَعْدَ الْفَوَاتِ وَيُرَدُّ إلَى الْبَيْعِ الصَّحِيحِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ يَصِحُّ بَيْعُهُ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ لَمْ يُرَدَّ إلَى الْبَيْعِ الصَّحِيحِ.
(فَرْعٌ) وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي ذَلِكَ قِسْمًا ثَالِثًا، وَهُوَ إذَا أَعْطَاهُ عَرْضًا بِقِيمَتِهِ وَجَعَلَا تِلْكَ الْقِيمَةَ رَأْسَ الْمَالِ فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَظْهَرُ إلَيَّ أَنَّهُ إنْ كَانَ قَصَدَ إلَى أَنْ يَعْمَلَ بِالثَّمَنِ وَيَكُونَ مَا قَوَّمَ بِهِ رَأْسَ الْمَالِ أَنَّهُ أَجِيرٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مُشْتَرَطَةٌ إمَّا لِرَبِّ الْمَالِ وَإِمَّا لِلْعَامِلِ بِخِلَافِ الْقِرَاضِ بِالْعَرْضِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ ثَمَنٌ قَالَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَهُ حُكْمُ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا إنَّهُ أَجِيرٌ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ فِيهَا زِيَادَةٌ لِأَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي الْقِرَاضِ بِنَقْدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرُدَّهُ وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ فَهَذِهِ زِيَادَةٌ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ يَرُدَّهُ وَقِيمَتُهُ أَقَلُّ فَهَذِهِ زِيَادَةٌ لِلْعَامِلِ.
[الْكِرَاءُ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ أَطْلَقَ يَدَ الْعَامِلِ مِنْ مَالِهِ عَلَى رَأْسِ مَالِ الْقِرَاضِ دُونَ غَيْرِهِ فَكُلُّ مَا عَمِلَ فِيهِ الْعَامِلُ مِنْ عَمَلٍ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ عَادَ ذَلِكَ بِخُسْرَانٍ أَوْ رِبْحٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِيهِ دُونَ سَائِرِ أَمْوَالِهِ، فَإِنْ لَحِقَ الْعَامِلَ بَعْدَ ذَلِكَ غُرْمٌ بِسَبَبِ مَالِ الْقِرَاضِ فَهُوَ مُلْتَزِمٌ مُتَعَدٍّ فِي الْتِزَامِهِ فَكَانَ عَلَيْهِ غُرْمُهُ.
(5/166)
التَّعَدِّي فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَعَمِلَ فِيهِ فَرَبِحَ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْ رِبْحِ الْمَالِ أَوْ مِنْ جُمْلَتِهِ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ، ثُمَّ نَقَصَ الْمَالُ قَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أُخِذَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ مِنْ مَالِهِ فَيُجْبَرُ بِهِ الْمَالُ، فَإِنْ كَانَ فَضْلٌ بَعْدَ وَفَاءِ الْمَالِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْقِرَاضِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَفَاءٌ بِيعَتْ الْجَارِيَةُ حَتَّى يُجْبَرَ الْمَالُ مِنْ ثَمَنِهَا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[التَّعَدِّي فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ أَنَّ مَنْ ابْتَاعَ جَارِيَةً مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَتُهَا وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ أَنْ يَبْتَاعَهَا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيلَادِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ جَارِيَةٌ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَيَطَؤُهَا فَتَحْمِلُ مِنْهُ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْقِيمَةِ الَّتِي تَلْزَمُهُ بِذَلِكَ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ الْأَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ الْوَطْءِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يَلْزَمُهُ الْأَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ ثَمَنِهَا يَوْمَ الْوَطْءِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إنَّمَا تَعَدَّى عَلَيْهَا بِالْوَطْءِ وَبِهِ فَاتَتْ فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا يَوْمَ وَطِئَهَا، وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ لَوْ أَدْرَكَهَا قَبْلَ الْحَمْلِ لَمْ يَمْنَعْهَا الْوَطْءُ مِنْ أَخْذِهَا مِنْهُ وَرَدِّهَا إلَى الْقِرَاضِ فَإِذَا فَاتَتْ بِالْحَمْلِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُ رَدَّهَا إلَى الْقِرَاضِ وَكَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْحَمْلِ أَكْثَرَ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْحَمْلِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوَطْءِ أَكْثَرَ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ ابْتِدَاءِ التَّفْوِيتِ فِيهَا، وَالْوَطْءُ كَانَ سَبَبَ فَوَاتِهَا، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهَا أَكْثَرَ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ أُتْلِفَ بِالتَّعَدِّي، وَقَدْ رَضِيَ بِضَمَانِهِ حِينَ وَطِئَهَا وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَسَلَّفَ ثَمَنَهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ عَدِيمًا فَتَعَدَّى عَلَى جَارِيَةٍ مِنْ الْقِرَاضِ فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ وَيُتْبِعَهُ بِقِيمَتِهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَالْقِيمَةُ فِي ذَلِكَ يَوْمَ الْوَطْءِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ وَلَدِهَا وَلَا مِمَّا نَقَصَهَا الْوَطْءُ شَيْءٌ وَبَيْنَ أَنْ تُبَاعَ عَلَيْهِ جَمِيعًا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ حِصَّتُهُ مِنْهَا إنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَإِنْ نَقَصَ ثَمَنُ مَا بِيعَ مِنْهَا مِنْ ذَلِكَ النَّصِيبِ الَّذِي بِيعَتْ عَنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ الْوَطْءِ اتَّبَعَتْهُ بِذَلِكَ النُّقْصَانِ بِنَصِيبِهِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ، وَإِنْ شَاءَ تَمَسَّكَ بِنَصِيبِهِ مِنْهَا وَأَتْبَعَهُ بِمَا يُصِيبُهُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ قَالَهُ عِيسَى، وَهَذَا عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَمَّا عَلَى اخْتِيَارِ أَشْهَبَ فَإِنَّهُ مَنْ ضَمِنَ قِيمَةَ أَمَتِهِ بِالْوَطْءِ مِنْ شَرِيكٍ أَوْ مُقَارِضٍ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ وَلَدِهَا وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا يُحْكَمُ بِهَا عَلَيْهِ يَوْمَ الْحُكْمِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ وَلَدٍ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْمَالِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تَكُونُ يَوْمَ الْوَطْءِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْقُطَ فِيهَا مَا كَانَ مِنْ نَمَاءٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَاعَى ابْنُ الْقَاسِمِ يَوْمَ التَّقْوِيمِ وَرَاعَى أَشْهَبُ يَوْمَ الْقِيمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ مُعْدَمًا وَتَسَلَّفَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَأَحْبَلَهَا فَاَلَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ لَهُ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ تُبَاعَ لَهُ فِي الْمَالِ الَّذِي تَسَلَّفَ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُتْبَعُ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ فِي الْعَدَمِ بِقِيمَتِهَا وَلَا تُبَاعُ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ هَذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ التَّنْمِيَةِ لِرَبِّ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ أَصْلُ ذَلِكَ إذَا أَبْضَعَ مَعَهُ مَالًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ مَا وَجَدَ لَهُ فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً فَأَحْبَلَهَا أَوْ ثَوْبًا يَخْتَصُّ بِهِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَسْلَفَ عَيْنًا وَعَلَيْهَا وَقَعَ تَعَدِّيهِ فَكَانَ مَا اشْتَرَى فِيهِ لِلْمُتَعَدِّي لَا سِيَّمَا وَقَدْ تَسَبَّبَ بِحُرْمَةِ الْعِتْقِ، فَإِذَا لَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ فَلَمْ أَمْنَعْ صَاحِبَ الْمَالِ مِنْ عِوَضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الْمَالَ لِيَشْتَرِيَ بِهِ جَارِيَةً، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ لِيَطْلُبَ الرِّبْحَ فَإِذَا حَكَمْت لَهُ بِالْقِيمَةِ فَقَدْ مَضَى لَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمُودِعُ الْوَدِيعَةِ جَارِيَةً فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَلَا تُبَاعُ عَلَيْهِ فِي يُسْرٍ وَلَا عُسْرٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَبَيْنَ الْقِرَاضِ، وَالْبِضَاعَةِ أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَمْ تُوضَعْ عِنْدَهُ لِلتَّنْمِيَةِ فَيَكُونُ قَدْ قَصَدَ إلَى إبْطَالِ غَرَضِ صَاحِبِهَا عَنْهَا، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ عِنْدَهُ لِلْحِفْظِ، وَتَسَلُّفُهَا لَا يُنَافِي حِفْظَهَا
(5/167)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَتَعَدَّى فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً وَزَادَ فِي ثَمَنِهَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ مَالِكٌ: صَاحِبُ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ بِيعَتْ السِّلْعَةُ بِرِبْحٍ أَوْ وَضِيعَةٍ أَوْ لَمْ تُبَعْ إنْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ السِّلْعَةَ أَخَذَهَا وَقَضَاهُ مَا أَسْلَفَهُ فِيهَا، وَإِنْ أَبَى كَانَ الْمُقَارِضُ شَرِيكًا لَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فِي النَّمَاءِ أَوْ النُّقْصَانِ بِحِسَابِ مَا زَادَ الْعَامِلُ فِيهَا مِنْ عِنْدِهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ لِلْمُودَعِ أَنْ يَتَسَلَّفَهَا، الْوَدِيعَةُ وَالْقِرَاضُ إنَّمَا دُفِعَا إلَيْهِ لِلتَّنْمِيَةِ فَإِذَا تَسَلَّفَهَا فَقَدْ قَصَدَ إلَى إبْطَالِ غَرَضِ صَاحِبِ الْمَالِ مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ ابْتَاعَ بِمَالِ الْقِرَاضِ أَوْ الْبِضَاعَةِ ثَوْبًا لِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، وَلَوْ ابْتَاعَ الْوَدِيعَةِ ثَوْبًا لِنَفْسِهِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ رَبُّهُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ وَطِئَ الْعَامِلُ جَارِيَةً مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَلَمْ تَحْمِلْ أَوْ تَسَلَّفَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَاشْتَرَى جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَلَمْ تَحْمِلْ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَرَبُّ الْمَالِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَهُ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الَّذِي تَسَلَّفَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْوَطْءِ أَوْ يُلْزِمُهُ إيَّاهَا بِالثَّمَنِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ لَوْ أَدْرَكَهَا قَبْلَ الْوَطْءِ لَكَانَ لَهُ رَدُّهَا إلَى مَالِ الْقِرَاضِ فَلَمَّا فَاتَتْ بِالْوَطْءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْفَوْتِ أَوْ يُسَوِّغَ الِاسْتِسْلَافَ فَيُطَالِبَهُ بِالثَّمَنِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَاَلَّذِي رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُبَاعُ فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ الْقِيمَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ فَاتَ اسْتِرْجَاعُهَا إلَى مَالِ الْقِرَاضِ بِالْوَطْءِ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الشُّبْهَةِ الَّتِي أَسْقَطَتْ الْحَدَّ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إعَارَةِ الْفُرُوجِ، وَلَمْ يَفُتْ بَيْعُهَا عَلَيْهِ فَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَبِيعَهَا عَلَيْهِ فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَوْ يُطَالِبَهُ بِالثَّمَنِ عَاجِلًا يَبِيعُهَا بِهِ أَوْ مُؤَجَّلًا يَتْبَعُهُ بِهِ، وَهَذَا حُكْمُ الْبِضَاعَةِ إذَا ابْتَاعَ بِهَا فَوَطِئَهَا فَإِنَّهُ يَفُوتُ بِالْوَطْءِ رَدُّهَا إلَى الْبِضَاعَةِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(ش) : قَوْلُهُ إذَا تَعَدَّى فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً وَزَادَ فِي ثَمَنِهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، وَالشِّرَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْقِرَاضِ يَقَعُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ مِنْهَا مَا هُوَ نَقْدٌ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِنَقْدٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مَالٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَغَيْرِ صَاحِبِ مَالِ الْقِرَاضِ فَيُرِيدُ أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَ الْمَالَيْنِ فَهَذَا لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِيهِ، وَهُوَ جَائِزٌ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْمَالِ وَلَا اشْتِرَاطَ حِينَ عَقْدِ الْقِرَاضِ، فَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ حِينَ عَقْدِ الْقِرَاضِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ الْمَنْعُ مِنْهُ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ إجَازَتُهُ إذَا شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ قَالَهُ مَالِكٌ.
وَقَالَ أَشْهَبُ مَا لَمْ يَقْصِدَا فِيهِ اسْتِقْرَارَ الرِّبْحِ لِقِلَّةِ مَالِ الْقِرَاضِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ الْآخَرِ وَجْهُ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَشْتَرِطُ فِي ذَلِكَ اسْتِقْرَارَ الرِّبْحِ بِمَالِ الْعَامِلِ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ بِكَثْرَةِ الْمَالِ أَشَدُّ تَأَتِّيًا، وَالْأَرْبَاحَ أَغْزَرُ وَأَمْكَنُ وَإِذَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ يَمْنَعُ الْعَقْدُ وُجُودَهُ فِيهِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ اشْتِرَاطَ رَبِّ الْمَالِ لَهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ إلَّا رِبْحَ مَالِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ اشْتِرَاطَ رَبِّ الْمَالِ لَا تُهْمَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ إلَّا رِبْحَ مَالِهِ النَّقْدِ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَامِلِ لَهُ فِعْلَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَلَمْ يُؤَثِّرْ اشْتِرَاطُهُ غَيْرَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَشَرْطُ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ فَهَلْ يُفْسَخُ أَمْ؟ لَا قَالَ أَصْبَغُ فِيمَنْ أَخَذَ قِرَاضًا يُشْتَرَطُ أَنْ يَخْلِطَهُ بِمَالِهِ أَوْ عَلَى إنْ شَاءَ خَلْطَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ الْأَوَّلُ أَشَدُّ، فَإِنْ فَعَلَا لَمْ يُفْسَخْ بِهِ الْقِرَاضُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُسَلِّفَهُ صَاحِبُ الْمَالِ مَا يَزِيدُهُ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ) فَهَذَا هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ،.
وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ رَبَّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ بِيعَتْ السِّلْعَةُ بِرِبْحٍ أَوْ وَضِيعَةٍ أَوْ لَمْ تُبَعْ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ السِّلْعَةَ وَيَقْتَضِي مَا أَسْلَفَهُ فِيهَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَارِضُ شَرِيكًا لَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فِي النَّمَاءِ وَالنُّقْصَانِ بِحَسَبِ مَا زَادَ الْعَامِلُ فِيهَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ إنْ كَانَ مَا أَسْلَفَهُ الْعَامِلَ رَبُّ الْمَالِ صَبَغَ بِهِ الثِّيَابَ أَوْ قَصَّرَهَا فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ مُخَيَّرٌ
(5/168)
(ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ فَعَمِلَ فِيهِ قِرَاضًا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ إنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ النُّقْصَانُ، وَإِنْ رَبِحَ فَلِصَاحِبِ الْمَالِ شَرْطُهُ مِنْ الرِّبْحِ، ثُمَّ يَكُونُ لِلَّذِي عَمِلَ شَرْطُهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَا أَقْرَضَهُ فَيَكُونَ عَلَى الْقِرَاضِ أَوْ يَكُونَ شَرِيكًا لَهُ بِمَا أَدَّى وَيَكُونَ الرِّبْحُ وَالْخَسَارَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ رَبُّ الْمَالِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَا أَدَّى فَيَكُونَ رَبُّ الْمَالِ شَرِيكًا بِهِ لِمَالِ الْقِرَاضِ، فَإِنْ كَانَ نَمَاءٌ أَوْ نَقْصٌ قُصِرَ عَلَى قِيمَةِ الصَّبْغِ وَرَأْسِ الْمَالِ أَوْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الثِّيَابَ الَّتِي طَرَّزَهَا وَقَصَّرَهَا بِمَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ شَرِيكًا لَهُ بِقِيمَةِ الصَّبْغِ مِنْ قِيمَةِ الثِّيَابِ.
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْعَامِلَ لَمَّا صَرَفَ مَا صَبَغَ بِهِ وَقَصَّرَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَسْلَفَهُ رَبُّ الْمَالِ لِيُلْحِقَهُ بِالْقِرَاضِ، فَإِنْ رَضِيَ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقِرَاضِ، وَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَامِلُ شَرِيكًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَنْفَقَهُ وَصَرَفَهُ عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ وَطَلَبِ الرِّبْحِ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ الثِّيَابَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهَا بَلْ عَمِلَ فِيهَا مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ، وَوَجْهُ قَوْلِ الْغَيْرِ أَنَّ الْعَامِلَ إذَا أَسْلَفَ رَبَّ الْمَالِ وَقَبَضَ صَاحِبُ الْمَالِ السَّلَفَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَكُونَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعَ ذَلِكَ الْمَالَ الَّذِي طَرَّزَ بِهِ وَصَبَغَ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ شَرِيكًا بِهِ لِمَالِ الْقِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي أَنْ يُلْحِقَهُ بِالْقِرَاضِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْعَامِلِ فِي ذَلِكَ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَإِنْ أَبَى رَبُّ الْمَالِ مِنْ قَبُولِ السَّلَفِ جَازَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ الثِّيَابَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَدَّى بِخَلْطِ مَالِهِ بِمَالِ الْقِرَاضِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِهِ فِي وَقْتٍ لَا يَجُوزُ لَهُ خَلْطُ مَالِهِ بِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ مَا أَسْلَفَهُ اكْتَرَى بِهِ عَلَى مَالِ الْقِرَاضِ فَإِنَّ الْعَامِلَ لَا يَكُونُ بِهِ شَرِيكًا، وَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ دَيْنٌ فِي مَالِ الْقِرَاضِ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ الصَّبْغَ يُحْسَبُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَهُ حَظٌّ مِنْ الرِّبْحِ لِمَنْ بَاعَ مُرَابَحَةً، وَالْكِرَاءُ لَا يُحْسَبُ لَهُ رِبْحٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ سِلْعَةٍ قَائِمَةٍ فِي الْبَزِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ شَرِيكًا بِالسِّلْعَةِ الْقَائِمَةِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا أَضَافَ إلَى مَالِ الْقِرَاضِ مَا يَكُونُ بِهِ شَرِيكًا كَالصَّبْغِ، وَالْقِصَارَةِ فَذَهَبَ الْمَالُ إلَى قَدْرِ مَا أَضَافَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ مَنْعُهُ إلَّا بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا أَضَافَهُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ بِهِ شَرِيكًا كَالْكِرَاءِ فَتَلِفَ الْمَالُ إلَّا بِقَدْرِ الْكِرَاءِ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ ثَمَنَ الصَّبْغِ وَالْقِصَارَةِ، هُوَ بِهِ شَرِيكٌ، وَالْكِرَاءُ سَلَفٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَعِنْدِي أَنَّ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ قَضَى عَنْهُ مَا لَزِمَهُ كَمَنْ قَضَى عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقْرِضَ مَالَ الْقِرَاضِ، وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُنْفِقَ، وَلَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا ثُمَّ دَفَعَهُ الْعَامِلُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ فَعَمِلَ فِيهِ عَلَى الْقِرَاضِ دُونَ إذْنِ صَاحِبِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ، وَهُوَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَنْقُصْ وَلَمْ يَزِدْ أَوْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ وَقَدْ دَخَلَهُ زِيَادَةٌ أَوْ نَقْصٌ، فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَدَخَلَهُ نَقْصٌ بِيَدِ الثَّانِي فَالْأَوَّلُ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي دَفْعِ الْمَالِ إلَى غَيْرِهِ فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ بِذَلِكَ التَّعَدِّي.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ دَخَلَهُ زِيَادَةٌ أَوْ نَقْصٌ، فَإِنْ دَخَلَتْهُ زِيَادَةٌ وَكَانَ أَعْطَاهُ عَلَى مِثْلِ مَا أَخَذَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْقِرَاضِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُقَاسِمُ الْعَامِلَ الثَّانِي عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يُقَاسِمُ عَلَيْهِ الْأَوَّلَ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ مِنْ الثَّانِي مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمَالِ لَوْ قَاسَمَ صَاحِبَهُ يَوْمَ دَفَعَهُ إلَى الثَّانِي وَيَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ عِنْدَ الثَّانِي مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَالِ وَرِبْحِهِ وَيَكُونُ لِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ نَصِيبُهُ مِنْ الرِّبْحِ الَّذِي ظَهَرَ عِنْدَهُ وَأَسْلَمَهُ إلَى الْعَامِلِ الثَّانِي.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ دَخَلَ الْمَالَ نَقْصٌ بِيَدِ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ أَخَذَهُ الثَّانِي عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الرِّبْحِ فَرَبِحَ فَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ بِيَدِ الثَّانِي مَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ
(5/169)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ تَعَدَّى فَتَسَلَّفَ مِمَّا بِيَدَيْهِ مِنْ الْقِرَاضِ مَالًا فَابْتَاعَ بِهِ سِلْعَةً لِنَفْسِهِ قَالَ مَالِكٌ: إنْ رَبِحَ فَالرِّبْحُ عَلَى شَرْطِهِمَا فِي الْقِرَاضِ، وَإِنْ نَقَصَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلنُّقْصَانِ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَاسْتَسْلَفَ مِنْهُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ الْمَالَ مَالًا وَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً لِنَفْسِهِ إنَّ صَاحِبَ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَشْرَكَهُ فِي السِّلْعَةِ عَلَى قِرَاضِهَا، وَإِنْ شَاءَ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَأَخَذَ مِنْهُ رَأْسَ الْمَالِ كُلَّهُ، وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِكُلِّ مَنْ تَعَدَّى) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عِنْدَ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الْغَيْرِ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُوَ مَا صَارَ إلَى الْعَامِلِ الثَّانِي مِنْ الْمَالِ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ ثَمَانِينَ فَيَضِيعَ مِنْهُ عِنْدَ الْعَامِلِ الْأَوَّلِ أَرْبَعُونَ وَيَدْفَعَ إلَى الْعَامِلِ الثَّانِي أَرْبَعِينَ فَصَارَتْ بِعَمَلِ الثَّانِي مِائَةً فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ إنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ ثَمَانِينَ وَنِصْفَ مَا بَقِيَ بِاسْمِ الرِّبْحِ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ وَيَأْخُذُ الْعَامِلُ الثَّانِي الْعَشَرَةَ الْبَاقِيَةَ وَيَرْجِعُ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ بِبَقِيَّةِ مَالِهِ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي حَقِّهِ سِتُّونَ لَهُ مِنْهَا النِّصْفُ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ قَالَ سَحْنُونٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ بَلْ رَأْسُ الْمَالِ مَا بِيَدِ الْعَامِلِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ ثُمَّ يَأْخُذُ نِصْفَ الرِّبْحِ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ ثُمَّ يَرْجِعُ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ أَتْلَفَ الْأَرْبَعِينَ بَعْدَ أَخْذِهَا مِنْهُ فَيَكْمُلُ لَهُ مِائَةٌ وَعَشَرَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ نَقْدٍ رَجَعَ عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ، وَقَدْ أَخَذَ سَبْعِينَ فَيَكْمُلُ عِنْدَهُ رَأْسُ مَالِهِ وَرِبْحُهُ تِسْعِينَ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ أَصْلَ الْمَالِ وَرِبْحَهُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْمَالِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْعَامِلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَأْسَ مَالِهِ وَرِبْحَهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ عَلَيْهِ، وَيَدُ الْعَامِلِ لَيْسَتْ بِيَدٍ تَمْلِكُ وَلَا مُسَلَّمٌ إلَيْهَا بِحَقٍّ بَلْ إنَّمَا صَارَ إلَيْهِ الْمَالُ بِالتَّعَدِّي، وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَصْلِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ أَتْلَفَ الْأَرْبَعِينَ مِنْهُ وَرِبْحُهُ لِصَاحِبِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْأَصْلِ إنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ شَرْطَهُ مِنْ الرِّبْحِ، ثُمَّ يَكُونُ لِلَّذِي عَمِلَ شَرْطُهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فَجَعَلَ صَاحِبَ الْمَالِ مُقَدَّمًا بِأَخْذِ مَالِهِ بِأَصْلِ عَقْدِ الْقِرَاضِ وَمَا شَرَطَهُ فِيهِ ثُمَّ يَأْخُذُ بَعْدَهُ الْعَامِلُ الثَّانِي؛ لِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَوَجْهُ قَوْلِ الْغَيْرِ إنَّ الْمَالَ بِيَدِ الْعَامِلِ الثَّانِي عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ فَكَانَ أَحَقَّ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ رِبْحِهِ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الْعَامِلُ وَصَاحِبُ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ الْعَامِلُ الثَّانِي عَلَى غَيْرِ الْجُزْءِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِ الْعَامِلُ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْأَوَّلُ عَلَى النِّصْفِ فَيَدْفَعَهُ إلَى الثَّانِي عَلَى الثُّلُثَيْنِ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ هُوَ ضَامِنٌ عِنْدَ مَالِكٍ، فَإِنْ رَبِحَ الثَّانِي فَرَبُّ الْمَالِ أَوْلَى بِثُلُثَيْ الرِّبْحِ بِجَمِيعِ نِصْفِ الرِّبْحِ وَلِلْعَامِلِ الثَّانِي النِّصْفُ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ بِالسُّدُسِ الَّذِي بَقِيَ لَهُ وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْغَيْرِ إنَّ الْعَامِلَ الثَّانِيَ أَوْلَى بِثُلُثَيْ الرِّبْحِ ثُمَّ يَرْجِعُ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ بِتَمَامِ مَا يَجِبُ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إنْ رَبِحَ فَلِصَاحِبِ الْمَالِ شَرْطُهُ مِنْ الرِّبْحِ يُرِيدُ أَنَّهُ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْعَامِلَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ ثُمَّ يَكُونُ لِلَّذِي عَمِلَ شَرْطُهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ يُرِيدُ أَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ صَاحِبِ الْمَالِ مَا شَرَطَهُ فَيَأْخُذُ هَذَا مَا شَرَطَ أَيْضًا مِنْ بَاقِي الْمَالِ، وَذَلِكَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ مِنْ تِجَارَتِهِ فَيَأْخُذَهُ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَبَضَ الثَّانِي رَأْسَ الْمَالِ كَامِلًا فَتَكُونُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِمَّا بَقِيَ زَائِدَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ وَفِيهِ نَمَاءٌ وَتِجَارَةٌ الْأَوَّلُ، فَيَأْخُذُ الثَّانِي مَالَهُ مِنْ الرِّبْحِ الَّذِي رَبِحَهُ مِنْ جُمْلَةِ الرِّبْحِ الَّذِي لَهُ وَلِلْعَامِلِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِمَّا بَقِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَأَمَّا لَوْ أَخَذَهُ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ، وَقَدْ نَقَصَ عَنْ رَأْسِ الْمَالِ لَمَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ مَا تُسْتَوْفَى مِنْهُ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ وَيَرْجِعُ بِمَا بَقِيَ مِنْ حِصَّتِهِ عَلَى الْعَامِلِ الْأَوَّلِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ أَخَذَ مَالًا عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ فَتَعَدَّى مَا أَمَرَ بِهِ وَاسْتَسْلَفَ لِيَنْفَرِدَ بِرِبْحِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ فَإِنَّ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى
(5/170)
مَا يَجُوزُ مِنْ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْمِلُ النَّفَقَةَ فَإِذَا شَخَصَ فِيهِ الْعَامِلُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَيَكْتَسِيَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ قَدْرِ الْمَالِ وَيَسْتَأْجِرَ مِنْ الْمَالِ إذَا كَانَ كَثِيرًا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَكْفِيهِ بَعْضُ مُؤْنَتِهِ وَمِنْ الْأَعْمَالِ أَعْمَالٌ لَا يَعْلَمُهَا الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ وَلَيْسَ مِثْلُهُ يَعْمَلُهَا، مِنْ ذَلِكَ تَقَاضِي الدَّيْنِ وَنَقْلُ الْمَتَاعِ وَشَدُّهُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ الْمَالِ مَنْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِلْمُقَارِضِ أَنْ يَسْتَنْفِقَ مِنْ الْمَالِ وَلَا يَكْتَسِيَ مِنْهُ مَا كَانَ مُقِيمًا فِي أَهْلِهِ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ النَّفَقَةُ إذَا شَخَصَ فِي الْمَالِ وَكَانَ الْمَالُ يَحْمِلُ النَّفَقَةَ، فَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَتَّجِرُ فِي الْمَالِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ بِهِ مُقِيمٌ فَلَا نَفَقَةَ لَهُ مِنْ الْمَالِ وَلَا كِسْوَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْقِرَاضِ الَّذِي عَقَدَاهُ بَيْنَهُمَا أَوْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ وَيُضَمِّنَهُ رَأْسَ الْمَالِ، وَإِنْ عَلِمَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْبَيْعِ، فَإِنْ كَانَ رَبِحَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ مِنْ الْقِرَاضِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَقْصٌ ضَمِنَهُ الْعَامِلُ لِلتَّعَدِّي، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَالًا عَلَى وَجْهِ التَّنْمِيَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ عَنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ إلَى مَا يَنْفَرِدُ بِمَنْفَعَتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا وَجْهَ نَظَرٍ لَهُ، فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ يَكُونُ الدَّافِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذِي دَفَعَهُ عَلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يُمْضِيَ لَهُ تَعَدِّيَهُ وَيُضَمِّنَهُ الْمَالَ، وَكَذَلِكَ الْمُبْضِعُ مَعَهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فِي الَّذِي اشْتَرَى السِّلْعَةَ لِنَفْسِهِ إنَّ صَاحِبَ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ تَرَكَهُ، وَإِنْ شَاءَ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ دُفِعَ إلَيْهِ مَالٌ عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ فَتَعَدَّى مَا أُمِرَ بِهِ فَاسْتَسْلَفَهُ وَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً يَنْفَرِدُ بِهَا فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَتْرُكَهُ فِي السِّلْعَةِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى مَالِ الْقِرَاضِ فَيَكُونُ رِبْحُهَا بَيْنَهُمَا عَلَى حُكْمِ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ الْقِرَاضَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ لَفْظَ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ أَنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِي السِّلْعَةِ إلَّا إذَا كَانَ فِيهَا رِبْحٌ وَبِذَلِكَ يَكُونُ لِلْعَامِلِ فِيهَا شِرْكٌ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَإِنْ شَاءَ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَأَخَذَ مِنْهُ رَأْسَ مَالِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ يُلْزِمُهُ إيَّاهَا وَيُضَمِّنُهُ ثَمَنَهَا، وَهُوَ رَأْسُ مَالِهِ فِيهَا وَيَكُونُ أَخْذُهُ مِنْهُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مَعَ مَالِ الْقِرَاضِ، وَيَكُونُ بِأَنْ يَنْزِعَ مِنْهُ مَالَ الْقِرَاضِ إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ جَمِيعَ مَالِ الْقِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَغْرَمَهُ الثَّمَنَ صَارَ عَيْنًا فَكَانَ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ مُعْظَمُ مَالِ الْقِرَاضِ عُرُوضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى يَتِمَّ عَمَلُهُ فِيهِ.
[مَا يَجُوزُ مِنْ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا وَكَانَ يَعْمَلُ بِهِ فِي الْحَضَرِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ اسْتِيطَانِ الْعَامِلِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِيطَانِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ اسْتِيطَانِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِيهِ وَلَا كِسْوَةَ وَلَا مُؤْنَةَ؛ لِأَنَّ مُقَامَهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَوْضِعِ اسْتِيطَانِهِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ اسْتِيطَانِهِ، وَإِنَّمَا يُقِيمُ بِهِ لِلْعَمَلِ بِالْمَالِ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ النَّفَقَةَ، وَالْكِسْوَةَ، وَالْمُؤْنَةَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ شَغَلَهُ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ فَأَوْجَبَ مُقَامَهُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِذَلِكَ الْبَلَدِ وَأَهْلٌ بِبَلَدٍ آخَرَ مُسْتَوْطِنًا لِلْجِهَتَيْنِ فَلَا نَفَقَةَ لَهُ مَا أَقَامَ بِالْمَالِ فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ؛ لِأَنَّ مُقَامَهُ بِمَوْضِعِ اسْتِيطَانِهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ، وَرَوَى ابْنُ الْبَرْقِيِّ عَنْ أَشْهَبَ فِي الَّذِي لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِ صَاحِبِ الْمَالِ وَأَهْلٌ حَيْثُ يُسَافِرُ إلَيْهِ وَأَنَّ لَهُ النَّفَقَةَ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ وَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِي مُقَامِهِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَسَافَةَ السَّفَرِ لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ اسْتِيطَانِ لَهُ فَكَانَتْ لَهُ فِيهَا النَّفَقَةُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَتْ تِجَارَتُهُ فِي السَّفَرِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مِنْ أَسْفَارِ الْقُرَبِ كَالْحَجِّ، وَالْغَزْوِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَسْفَارِ الْقُرَبِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْفَارِ الْقُرَبِ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهُ فِي مَالِ
(5/171)
) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْقِرَاضِ ذَاهِبًا وَلَا رَاجِعًا، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ التِّجَارَةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَهُ النَّفَقَةُ فِيهِ ذَاهِبًا وَرَاجِعًا وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ هَذِهِ مَسَافَةٌ تُقْطَعُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ، وَالْقُرْبَةِ فَيَجِبُ أَنْ يُخْلِصَ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ وَالْغَرَضُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لِسَبَبٍ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْخُرُوجُ لَهُ كَالسَّفَرِ إلَى مَوْضِعِ الِاسْتِيطَانِ، وَوَجْهُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ مَعْنَاهُ التِّجَارَةُ فِي الْحَجِّ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا سَفَرٌ مَقْصِدُهُ بِمَالِ الْقِرَاضِ إلَى مَوْضِعِ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي كَثِيرِهِ كَمَا لَوْ أَرَادَ سَفَرًا مَعَ السَّفَرِ لِلْقِرَاضِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّفَرُ مِنْ أَسْفَارِ الْقُرْبَةِ إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ حَاجَةً مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فِي بَلَدٍ فَلَمَّا تَجَهَّزَ أَعْطَاهُ رَجُلٌ مَالًا قِرَاضًا فَأَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ مَعَهُ فَهَلْ لَهُ نَفَقَةٌ فِي مَالِ الْقِرَاضِ أَوْ لَا رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَهُ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا نَفَقَةَ لَهُ فِيهِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ هَذَا مَالٌ حَصَلَتْ تَنْمِيَتُهُ بِسَفَرٍ عَرَا عَنْ الْقُرْبَةِ، وَالتَّوَجُّهِ إلَى الْوَطَنِ فَكَانَتْ نَفَقَةُ الْعَامِلِ فِيهِ كَمَا لَوْ سَافَرَ إلَى أَهْلِهِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّ سَفَرَهُ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ هَذَا الْمَالِ فَلَمْ تَكُنْ نَفَقَةُ الْعَامِلِ فِيهِ كَمَا لَوْ سَافَرَ إلَى أَهْلِهِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَكَيْفَ تَكُونُ لَهُ النَّفَقَةُ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْخُرُوجَ بِمَالٍ لِلتِّجَارَةِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ تُفَضُّ عَلَى الْمَالَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِحَاجَةٍ نُظِرَ إلَى قَدْرِ نَفَقَتِهِ فِي طَرِيقِهِ، فَإِنْ كَانَتْ مِائَةً وَكَانَ مَالُ الْقِرَاضِ تِسْعَمِائَةٍ فَإِنَّ عَلَى مَالِ الْقِرَاضِ مِنْ نَفَقَتِهِ تِسْعَةَ أَعْشَارِهَا وَعَلَيْهِ عُشْرُهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ سَافَرَ بِمَالِ الْقِرَاضِ إلَى بَلَدٍ هُوَ بِهِ مُسْتَوْطِنٌ فَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِي الذَّهَابِ وَلَهُ النَّفَقَةُ فِي الْإِيَابِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ غَرَضَهُ فِي الذَّهَابِ إلَى أَهْلِهِ مَنَعَهُ النَّفَقَةَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي رُجُوعِهِ إلَّا تَنْمِيَةَ الْمَالِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّفَرُ إلَى الْغَزْوِ فَإِنَّ غَرَضَهُ فِي الذَّهَابِ الْغَزْوُ وَغَرَضَهُ فِي الرُّجُوعِ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ فَمَنَعَ ذَلِكَ النَّفَقَةَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْبَرْقِيِّ عَنْ أَشْهَبَ فِيمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلَدِ صَاحِبِ الْمَالِ وَأَهْلٌ حَيْثُ يُسَافِرُ أَنَّ لَهُ النَّفَقَةَ فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ وَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِي مُقَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ: لَا نَفَقَةَ لَهُ فِي الذَّهَابِ وَلَا الْإِيَابِ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ قَدْ تَقَدَّمَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ بَعِيدًا أَوْ قَرِيبًا، فَإِنْ كَانَ السَّفَرُ بِالْمَالِ قَرِيبًا مِثْلُ دِمْيَاطَ فِي مِثْلِ مَنْ يَخْرُجُ لِشِرَاءِ صُوفٍ أَوْ سَمْنٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُرِيدُ الْمُقَامَ لِشِرَاءِ الْحُبُوبِ وَغَيْرِهَا الشَّهْرَيْنِ، وَالثَّلَاثَةَ فَإِنَّ ذَلِكَ سَفَرٌ، وَإِنْ قَرُبَ الْمَكَانُ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ وَيَكْتَسِي فَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَأْكُلُ وَلَا يَكْتَسِي وَرَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ يَكْتَرِي مِنْهُ مَرْكُوبًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّفَقَاتِ الَّتِي تَخْتَصُّ لِقَرِيبِ الْمُدَدِ يَلْزَمُ هَذَا السَّفَرَ لِقُرْبِهِ كَالْأَكْلِ وَالرُّكُوبِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي قَرِيبِ السَّفَرِ لِقِصَرِ مُدَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي كِسْوَةً لِيَوْمٍ وَلَا لِيَوْمَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ بَعِيدًا فَلِلْعَامِلِ فِي مَالِ الْقِرَاضِ مُؤْنَتُهُ الْمُعْتَادَةُ مِنْ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ وَكِرَاءِ مَسْكَنٍ وَدُخُولِ حَمَّامٍ وَحِجَامَةٍ وَحَلْقِ رَأْسٍ وَغَسْلِ ثَوْبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا الْإِنْسَانُ رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْحِجَامَةِ، وَالْحَمَّامِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ فِي حِجَامَةٍ وَحَمَّامٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ مُسَافِرٌ فِي حَضَرٍ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ أَصْلُهُ مَا يَأْكُلُ وَيَكْتَسِي بِهِ وَأَمَّا الدَّوَاءُ فَلَيْسَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُسْتَعْمَلُ عَلَى مُعْتَادِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُعْتَادَةٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَنَفَقَتُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَحَالِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ نَفَقَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهَا كَثْرَةُ الْمَالِ وَقِلَّتُهُ فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا حَالُ مَنْ يُنْفَقُ
(5/172)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَخَرَجَ بِهِ وَبِمَالِ نَفْسِهِ قَالَ يَجْعَلُ النَّفَقَةَ مِنْ الْقِرَاضِ وَمِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِ الْمَالِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَلَيْهِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ، وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَإِنَّ الَّذِي يَلْزَمُ مَالَ الْقِرَاضِ مِنْ كِسْوَةِ الْعَامِلِ كِسْوَةُ مِثْلِهِ فِي مُقَامِهِ وَسَفَرِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ إنَّ الَّذِي لَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ الَّتِي لَوْلَا الْخُرُوجُ بِالْمَالِ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ يَبْطُلُ بِالنَّفَقَةِ لِلْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُدْخِلُهُ عَلَيْهِ السَّفَرُ بِالْمَالِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهُ فِي الْمَالِ.
(فَرْعٌ) وَكَمْ مَبْلَغُ الْمَالِ الْكَثِيرِ؟ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقِرَاضِ، وَالْبِضَاعَةِ خَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ أَرْبَعِينَ أَنَّ نَفَقَةَ الْعَامِلِ وَالْمُبْضِعِ مَعَهُ وَكِسْوَتَهُمَا فِي بَعِيدِ السَّفَرِ وَفِي السَّفَرِ الْقَرِيبِ نَفَقَتُهُ دُونَ كِسْوَتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ الْمَالُ يَسِيرًا لَا يَحْتَمِلُ مُؤْنَةَ الْعَامِلِ فِيهِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِلْعَامِلِ فِيهِ نَفَقَةٌ وَلَا كِسْوَةٌ فِي بَعِيدِ السَّفَرِ وَلَا قَرِيبِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ الْيَسِيرَ لَا يَحْتَمِلُ النَّفَقَةَ وَلَا يُقْصَدُ بِسَبَبِهِ السَّفَرُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ لَا يُنْفِقَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي يَحْتَمِلُ النَّفَقَةَ فِي سَفَرٍ بَعِيدٍ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، فَإِنْ وَقَعَ فَهُوَ أَجِيرٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ اشْتَرَطَ زِيَادَةً لَا يَقْتَضِيهَا مُطْلَقُ عَقْدِ الْقِرَاضِ فَوَجَبَ أَنْ يَفْسُدَ الْقِرَاضُ كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ مِنْ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ خَالِصًا.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَيَسْتَأْجِرُ مِنْ الْمَالِ إذَا كَانَ كَثِيرًا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ يَكْفِيهِ بَعْضُ مُؤْنَتِهِ يُرِيدُ إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهُ مَنْ يُعِينُهُ عَلَى حِفْظِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا سُنَّةُ هَذَا الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَمِنْ الْأَعْمَالِ أَعْمَالٌ لَا يَعْمَلُهَا الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ وَلَيْسَ مِثْلُهُ يَعْمَلُهَا يُرِيدُ أَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ لَا يَعْمَلُهَا الْمُقَارِضُ مِنْ الْقِصَارَةِ، وَالصَّبْغِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَإِنَّمَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَعْمَلَهَا الصُّنَّاعُ وَمِنْهَا مَا لَا يَعْمَلُهَا مِثْلُ الْمُقَارِضِ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُمْكِنُ أَكْثَرَ النَّاسِ عَمَلُهَا كَالشَّدِّ، وَالطَّيِّ، وَالنَّقْلِ فَمِثْلُ هَذَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالْمُعْتَادِ الْمَعْرُوفِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْعُمَّالِ مَنْ لَهُ الْحَالُ، وَالْمَعْرُوفُ، وَالتَّصَاوُنُ فَيُحْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَتَقَاضِي الدَّيْنِ يُرِيدُ حَقَّهُ، وَالْمُطَالَبَةَ بِهِ، وَأَمَّا قَبْضُهُ فَهُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الْعَامِلُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَبْضَ الْأَجِيرِ الْمَأْمُونِ الدَّرَاهِمَ الْيَسِيرَةَ فَيَأْتِيهِ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إذَا سَافَرَ الْعَامِلُ بِمَالِ الْقِرَاضِ وَبِمَالٍ آخَرَ وَأَنْشَأَ السَّفَرَ لَهُمَا فَإِنَّ نَفَقَتَهُ وَمُؤْنَتَهُ مُقَسَّطَةٌ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ كَانَ بِسَبَبِهِمَا، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُطْلَقِ عَقْدِ الْقِرَاضِ هَلْ يَقْتَضِي السَّفَرَ بِالْمَالِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لِلْعَامِلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ اسْمَ الْعَقْدِ مَأْخُوذٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ السَّفَرَ فَمُحَالٌ أَنْ يُنَافِيَهُ مُطْلَقُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا وَجْهٌ مَقْصُودٌ مِنْ وُجُوهِ التَّنْمِيَةِ أَصْلُ ذَلِكَ سَائِرُ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا مَأْذُونٌ لَهُ فِي الشِّرَاءِ بِعَقْدٍ جَائِزٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ السَّفَرُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَالْوَكِيلِ عَلَى الشِّرَاءِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَهَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَالِ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ أَمَّا الْمَالُ الْيَسِيرُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ سَفَرًا بَعِيدًا إلَّا بِإِذْنِ رَبِّهِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ الْيَسِيرَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِنْفَاقَ مِنْهُ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَقْتَضِ سَفَرًا يُنْفِقُ الْعَامِلُ فِيهِ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(5/173)
مَا لَا يَجُوزُ مِنْ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ مَعَهُ مَالُ قِرَاضٍ فَهُوَ يَسْتَنْفِقُ مِنْهُ وَيَكْتَسِي أَنَّهُ لَا يَهَبُ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا يُعْطِي مِنْهُ سَائِلًا وَلَا غَيْرَهُ وَلَا يُكَافِئُ فِيهِ أَحَدًا فَأَمَّا إنْ اجْتَمَعَ هُوَ وَقَوْمٌ فَجَاءُوا بِطَعَامٍ وَجَاءَ هُوَ بِطَعَامٍ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاسِعًا إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ أَوْ مَا يُشْبِهُهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الْمَالِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ حَلَّلَهُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُحَلِّلَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا لَهُ مُكَافَأَةٌ) .
الدَّيْنُ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً، ثُمَّ بَاعَ السِّلْعَةَ بِدَيْنٍ فَرَبِحَ فِي الْمَالِ، ثُمَّ هَلَكَ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ قَالَ إنْ أَرَادَ وَرَثَتُهُ أَنْ يَقْبِضُوا ذَلِكَ الْمَالَ وَهُمْ عَلَى شَرْطِ أَبِيهِمْ مِنْ الرِّبْحِ فَذَلِكَ لَهُمْ إذَا كَانُوا أُمَنَاءَ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ، وَإِنْ كَرِهُوا أَنْ يَقْتَضُوهُ وَخَلُّوا بَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ وَبَيْنَهُ لَمْ يُكَلَّفُوا أَنْ يَقْتَضُوهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ وَلَا شَيْءَ لَهُمْ إذَا أَسْلَمُوهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ اقْتَضَوْهُ فَلَهُمْ فِيهِ مِنْ الشَّرْطِ وَالنَّفَقَةِ مِثْلُ مَا كَانَ لِأَبِيهِمْ فِي ذَلِكَ هُمْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِأَمِينٍ ثِقَةٍ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ الْمَالَ فَإِذَا اقْتَضَى جَمِيعَ الْمَالِ وَجَمِيعَ الرِّبْحِ كَانُوا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[مَا لَا يَجُوزُ مِنْ النَّفَقَةِ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ فِي مَالِ الْقِرَاضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى الْهِبَةِ مِنْهُ، وَالتَّفَضُّلِ عَلَى النَّاسِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَا يُعْطِي مِنْهُ سَائِلًا وَلَا غَيْرَهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُعْطِي مِنْهُ مَنْ سَأَلَ الدَّرَاهِمَ وَالثِّيَابَ وَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُ الْكِسْوَةَ، وَالْقِطْعَةَ لِلسَّائِلِ الرَّاضِي بِالدُّونِ الْمُتَكَفِّفِ لِلنَّاسِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَأَمَّا إنْ اجْتَمَعَ هُوَ وَقَوْمٌ فَجَاءُوا بِطَعَامٍ وَجَاءَ هُوَ بِطَعَامٍ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاسِعًا إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَرُفَقَاؤُهُ وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الرُّفَقَاءِ أَنْ يَتَخَارَجُوهُ فِي النَّفَقَاتِ فَيُخْرِجُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا يَتَعَاوَنُ فِيهِ ثُمَّ يُنْفِقُونَ مِنْهُ فِي طَعَامِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَشْمَلُهُمْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَأْكُلُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبِهِ وَمَنْ يَصُومُ فِي يَوْمٍ دُونَ رُفَقَائِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَدْعُوا الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ انْفِرَادَ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ بِتَوَلِّي طَعَامَهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَشْغَلُهُ عَمَّا هُوَ بِسَبَبِهِ مِنْ أَمْرِ سَفَرِهِ، فَإِذَا تَرَافَقَ جَمَاعَةٌ تَوَلَّى كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مِنْ الْعَمَلِ لِنَفْسِهِ وَلِأَصْحَابِهِ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ الْجَمَاعَةُ وَعَلَى ذَلِكَ كَانَ الصَّحَابَةُ وَعَمَلُ الْمُسْلِمِينَ إلَى هَلُمَّ جَرًّا لَا يُعَدُّ ذَلِكَ تَفَضُّلًا مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ إنَّ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ الْجَمَاعَةُ جَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِطَعَامٍ فَأَكَلُوا جَمِيعًا فِي سَفَرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ تَفَضُّلًا مِنْ الْعَامِلِ إذَا كَانَ مِنْ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَفَضُّلًا إذَا أَتَى بِأَمْرٍ يُسْتَنْكَرُ مِنْ ذَلِكَ وَيَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَنْمِيَةٌ لِمَالِ التِّجَارَةِ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ إمَّا بِأَنْ يَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ وَيُمْضِيَ فِعْلَهُ وَإِمَّا بِأَنْ يَحْتَسِبَ بِقَدْرِ التَّفَضُّلِ عَلَى نَفْسِهِ.
[الدَّيْنُ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ الْعَامِلَ إذَا تُوُفِّيَ بَعْدَ أَنْ يَشْغَلَ مَالَ الْقِرَاضِ فَإِنَّ حَقَّ عَمَلِهِ فِيهِ يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ فَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ بَعْدَ
(5/174)
) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَهُمْ فِي الْمَالِ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ عَنْ مَوْرُوثِهِمْ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَشَغْلُ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِجَمِيعِهِ أَوْ بِالْأَكْثَرِ مِنْهُ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ إنْ أَرَادُوا الْعَمَلَ فِيهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوا فِيهِ بِمِقْدَارِ مَا كَانَ لِمَوْرُوثِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ حَلُّوا مَحَلَّهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَأَمَّا إذَا اشْتَرَى بِهِ زَادَهُ وَكِسْوَتَهُ أَوْ اكْتَرَى رَاحِلَةً لِيُسَافِرَ ثُمَّ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يُسَافِرَ) فَإِنَّ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ وَيَأْخُذَ مَا ابْتَاعَ مِنْ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَلَا رُجُوعَ لَهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ إنْ دَخَلَ ذَلِكَ نَقْصٌ عَمَّا ابْتَاعَهُ بِهِ وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقُولُوا لَا بُدَّ أَنْ نَعْمَلَ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَوْرُوثَهُمْ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَدَمِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ سَافَرَ بِهِ، وَلَمْ يَبْتَعْ بِهِ شَيْئًا فَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ لِرَبِّ الْمَالِ إنْ مَاتَ وَقَدْ سَافَرَ الْعَامِلُ بِالْمَالِ فَلَيْسَ لِلْوَارِثِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ وَإِنْ الْتَزَمَ نَفَقَتَهُ، وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ الْعَامِلَ إذَا أَشْخَصَ بِالْمَالِ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْهُ صَاحِبُ الْمَالِ أَنَّ نَفَقَتَهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَعَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ السَّفَرَ عَمَلٌ فِي مَالِ الْقِرَاضِ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ لَيْسَ ذَلِكَ بِعَمَلٍ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ التِّجَارَةَ عَمَلٌ مَقْصُودٌ وَتَصَرُّفٌ مُعْتَادٌ لِلتِّجَارَةِ فَمُنِعَ أَخْذُ مَالِ الْقِرَاضِ كَالشِّرَاءِ، وَالْبَيْعِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَالَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَكَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَخْذُهُ أَصْلُهُ إذَا لَمْ يُسَافِرْ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَإِذَا اشْتَرَى سِلَعًا فَبَاعَهَا بِرِبْحٍ يُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ أَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ فِي أَنْ يَبِيعَ بِالدَّيْنِ وَالْعَرْضِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ أَنْ يَبْتَاعَ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا بَاعَ بِدَيْنٍ لَمْ تَخْرُجْ تِجَارَتُهُ عَنْ مَالِ الْقِرَاضِ وَإِذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ خَرَجَ عَمَلُهُ عَنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَيَعُودُ ذَلِكَ بِالْجَهْلِ بِرَأْسِ مَالِ الْقِرَاضِ بِزِيَادَةٍ يَزْدَادُهَا عَلَى الْعَامِلِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَبِيعَ بِنَسِيئَةٍ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَدَلِيلُنَا عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا عَقْدٌ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلَمْ يَقْتَضِ مُطْلَقُهُ الْأَجَلَ كَالْوَكَالَةِ عَلَى الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ شَرَطَ الْبَيْعَ بِالنَّسِيئَةِ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ عَمَلٍ عَلَى الْعَامِلِ اشْتَرَطَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَالثَّانِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَإِنْ بَاعَ بِهِ، ثُمَّ فَسَخَا الْقِرَاضَ كَانَ عَلَى الْعَامِلِ قَبْضُ الدُّيُونِ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ أَوْ خَسَارَةٌ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَزِمَهُ قَبْضُ الدُّيُونِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا دَيْنٌ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَلَزِمَ الْعَامِلَ قَبْضُهُ أَصْلُهُ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ ثُمَّ هَلَكَ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ يُرِيدُ هَلَكَ الْعَامِلُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ مَا بَاعَ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقْبِضُوا ذَلِكَ الْمَالَ وَلَهُمْ فِيهِ شَرْطُ أَبِيهِمْ يُرِيدُ مِنْ قَدْرِ الرِّبْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّفَقَةِ، وَالْكِسْوَةِ إنْ وَجَبَ ذَلِكَ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إذَا كَانُوا أُمَنَاءَ عَلَى ذَلِكَ وَصِفَةُ الْعَامِلِ الَّذِي يَرْفَعُ الْمَالَ مِنْ الْوَرَثَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُونًا عَلَى مِثْلِهِ عَالِمًا بِالْعَمَلِ فِيهِ، وَالْحِفْظِ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْعَامِلِ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَأْمُونًا وَلَمْ يَكُنْ بَصِيرًا بِالْعَمَلِ، وَالتِّجَارَةِ خَسِرَ فِي الْمَالِ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِأَمَانَتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ، وَلَمْ يَأْتُوا بِأَمِينٍ وَأَرَادُوا تَرْكَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ رِبْحِهِ شَيْءٌ وَلَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَسَارَتِهِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ وَلَا كُلِّفُوا قَبْضَهُ وَلَا صَرْفَهُ عَيْنًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَامِلِ إذَا شَغَلَ الْمَالَ بِسِلَعٍ لَيْسَ لَهُ تَرْكُ الْمَالِ حَتَّى يُصَيِّرَهُ عَيْنًا أَنَّ الْعَامِلَ قَدْ الْتَزَمَ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَلْتَزِمُوا إنَّمَا لَهُمْ مَا تَرَكَ مَوْرُوثُهُمْ مِنْ حَقٍّ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مَا تَرَكَ مِنْ عَمَلٍ، وَدَيْنُ الْعَامِلِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ، كَمَا لَهُ اسْتِيفَاءُ مَالِهِ مِنْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(5/175)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا عَلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ فِيهِ فَمَا بَاعَ بِهِ مِنْ دَيْنٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ إنْ بَاعَ بِدَيْنٍ فَقَدْ ضَمِنَهُ) .
الْبِضَاعَةُ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا وَاسْتَسْلَفَ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ سَلَفًا أَوْ اسْتَسْلَفَ مِنْهُ صَاحِبُ الْمَالِ سَلَفًا أَوْ أَبْضَعَ مَعَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِضَاعَةً يَبِيعُهَا لَهُ أَوْ بِدَنَانِيرَ يَشْتَرِي لَهُ بِهَا سِلْعَةً قَالَ مَالِكٌ: إنْ كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ أَبْضَعَ مَعَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَالُهُ عِنْدَهُ ثُمَّ سَأَلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَعَلَهُ لِإِخَاءٍ بَيْنَهُمَا أَوْ لِيَسَارَةِ مُؤْنَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْزِعْ مَالَهُ مِنْهُ أَوْ كَانَ الْعَامِلُ إنَّمَا اسْتَسْلَفَ مِنْ صَاحِبِ الْمَالِ أَوْ حَمَلَ لَهُ بِضَاعَةً، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَالُهُ عِنْدَهُ فَعَلَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَوْ أَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْدُدْ عَلَيْهِ مَالَهُ فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ الْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِي أَصْلِ الْقِرَاضِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ شَرْطٌ أَوْ خِيفَ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ الْعَامِلُ لِصَاحِبِ الْمَالِ لِيُقِرَّ مَالَهُ فِي يَدَيْهِ أَوْ إنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ صَاحِبُ الْمَالِ لَأَنْ يُمْسِكَ الْعَامِلُ مَالَهُ وَلَا يَرُدَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاضِ، وَهُوَ مِمَّا يَنْهَى عَنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ) .
السَّلَفُ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَسْلَفَ رَجُلًا مَالًا ثُمَّ سَأَلَهُ الَّذِي تَسَلَّفَ الْمَالَ أَنْ يُقِرَّهُ عِنْدَهُ قِرَاضًا قَالَ مَالِكٌ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَ مَالَهُ مِنْهُ ثُمَّ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ قِرَاضًا إنْ شَاءَ أَوْ يُمْسِكَهُ قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَهُ عَلَيْهِ سَلَفًا قَالَ لَا أُحِبُّ ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَ مِنْهُ مَالَهُ، ثُمَّ يُسَلِّفَهُ إيَّاهُ إنْ شَاءَ أَوْ يُمْسِكَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَصَ فِيهِ فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِيهِ مَا نَقَصَ مِنْهُ فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَلَا يَجُوزُ وَلَا يَصْلُحُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَلَّا يَبِيعَ بِالدَّيْنِ فَبَاعَ بِهِ أَنَّهُ ضَامِنٌ إنْ كَانَتْ فِيهِ خَسَارَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَ بِالدَّيْنِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا؛ لِأَنَّ تَعَدِّيَهُ فِي بَيْعِهِ بِالدَّيْنِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ مِنْ الرِّبْحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْبِضَاعَةُ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ مَنْ أَبْضَعَ أَحَدُهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ أَوْ اسْتَسْلَفَ مِنْهُ بِشَرْطٍ كَانَ فِي أَصْلِ الْقِرَاضِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ ازْدَادَهَا فِي الْقِرَاضِ لَيْسَتْ مِنْ الرِّبْحِ فَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَكِنَّهُ فَعَلَهُ بَعْدَ عَقْدِ الْقِرَاضِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَمَلِ فِي الْمَالِ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَمَلِ وَكَانَ ذَلِكَ لِإِخَاءٍ بَيْنَهُمَا وَمَوَدَّةٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لِإِبْقَاءِ الْقِرَاضِ وَاسْتِدَامَتِهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْهُدْنَةِ لِإِبْقَاءِ الْقِرَاضِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعَمَلِ فَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي الْعَامِلِ يُسَافِرُ بِمَالِ الْقِرَاضِ فَيَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا أُنْفِقُ مِنْ مَالِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا بِعَدٍّ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الشِّرَاءِ أَوْ الشُّخُوصِ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إذَا كَانَ عَيْنًا بِعَدٍّ فَفِيهِ تُهْمَةٌ.
[السَّلَفُ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) :
(5/176)
الْمُحَاسَبَةُ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَعَمِلَ فِيهِ فَرَبِحَ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَصَاحِبُ الْمَالِ غَائِبٌ قَالَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا بِحَضْرَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ ضَامِنٌ حَتَّى يُحْسَبَ مَعَ الْمَالِ إذَا اقْتَسَمَاهُ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لِلْمُتَقَارَضَيْنِ أَنْ يَتَحَاسَبَا وَيَتَفَاصَلَا، وَالْمَالُ غَائِبٌ عَنْهُمَا حَتَّى يَحْضُرَ الْمَالُ فَيَسْتَوْفِيَ صَاحِبُ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ عَلَى شَرْطِهِمَا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ إنَّهُ إذَا عَمِلَ الْعَامِلُ بِالْمَالِ مُدَّةً، ثُمَّ أَخْبَرَ رَبَّ الْمَالِ بِمَبْلَغِهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُقِرَّهُ عِنْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْهُ قَبْضًا نَاجِزًا، ثُمَّ إنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ قِرَاضًا فَعَلَ لِمَا قَدَّمَهُ مِنْ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَهُ نَقْصٌ، فَيُؤَخِّرَهُ عَنْهُ لِيَضْمَنَ لَهُ النَّقْصَ فِيهِ فَيَدْخُلَهُ السَّلَفُ لِلزِّيَادَةِ وَيَدْخُلَهُ أَيْضًا فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ؛ لِأَنَّ لِلْقِرَاضِ بَعْضَ التَّعَلُّقِ بِذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْخَسَارَةَ فِيهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهَا فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَضْمَنُ، وَلَوْ ادَّعَى تَبْرِئَةً لَمْ يَضْمَنْ وَإِذَا أَسْلَفَهُ إيَّاهُ فَقَدْ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ فَسْخِ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ أَحْضَرَ الْعَامِلُ الْمَالَ فَسَأَلَ صَاحِبَهُ أَنْ يُخَلِّيَهُ عِنْدَهُ قِرَاضًا فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْهُ، ثُمَّ يُسَلِّفَهُ إنْ شَاءَ وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ حُضُورَ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِهِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
[الْمُحَاسَبَةُ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ إلَّا بِحَضْرَةِ رَبِّ الْمَالِ وَحَضْرَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ حِصَّتَهُ مِنْهُ مُقَاسَمَةٌ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَاسَمَا رِبْحَ الْقِرَاضِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُحَصَّلَ رَأْسُ الْمَالِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ حَضَرَ الْمَالُ وَصَاحِبُهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَيَبْقَى الْبَاقِي عِنْدَهُ عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ أَوْ تَقَاسَمَا الرِّبْحَ وَيَبْقَى رَأْسُ الْمَالِ عِنْدَهُ عَلَى وَجْهِ الْقِرَاضِ وَلَمْ يَقْبِضْهُ مِنْهُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ بَقَاءَ الْمَالِ بِيَدِ الْعَامِلِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبَضَهُ عَلَيْهِ وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا قَبْضُهُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الصِّحَّةِ فِي الْقِرَاضِ أَنْ يُجْبَرَ رَأْسُ الْمَالِ بِرِبْحِهِ، وَلَوْ أَمْضَيْنَا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مَا قَسَمَاهُ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى أَنْ يُجْبَرَ بِهِ رَأْسُ مَالِ الْقِرَاضِ إنْ دَخَلَهُ نَقْصٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا لَوْ شَرَطَاهُ.
(فَرْعٌ) وَلَوْ عَمِلَا ذَلِكَ فَمَنْ قَبَضَ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ، ثُمَّ نَقَصَ رَأْسُ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ مَا قَبَضَ لِيَجْبُرَ بِهِ رَأْسَ الْمَالِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ رَدُّ الرِّبْحِ عَلَى مَا بَنَيَا عَلَيْهِ عَقْدَ الْقِرَاضِ الصَّحِيحِ حِينَ عَقَدَاهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَبَقِيَ الْبَاقِي بِيَدِ الْعَامِلِ عَلَى الْقِرَاضِ فَرَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَهِيَ الْآنَ شِرْكَةٌ لَا تَصْلُحُ إلَّا أَنْ يَعْمَلَا فِيهَا جَمِيعًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ فَقَدْ بَقِيَ الْبَاقِي مِلْكًا لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَمَلُهُ عَنْ رَأْسِ مَالٍ فَهُمَا شَرِيكَانِ وَمُقْتَضَى الشِّرْكَةِ عَمَلُ الشَّرِيكَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَصِفَةُ الْقِسْمَةِ أَنْ يُحْضِرَ الْمَالَ فَيَأْخُذَ صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ الْعَيْنِ مِثْلَ مَا دَفَعَ أَوْ يَأْخُذَ بِهِ سِلْعَةً إنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ عَيْنًا أَوْ سِلَعًا إنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ زَادَ ابْنُ مُزَيْنٍ لَا رِبْحَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يَحْضُرَ الْمَالُ حُضُورَ صِحَّةٍ وَيَأْخُذَهُ صَاحِبُهُ أَخْذَ مُفَاصَلَةٍ وَقَطْعٍ لِمَا بَيْنَهُمَا، ثُمَّ إنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَيْهِ قِرَاضًا فَهُوَ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الْقِرَاضِ الثَّانِي وَالْأَوَّلِ فَأَمَّا أَنْ يَحْضُرَ وَيَقْبِضَهُ صَاحِبُهُ قَبْضًا عَلَى غَيْرِ صِحَّةٍ وَمُفَاصَلَةٍ بِانْقِطَاعٍ، ثُمَّ يَرُدَّهُ إلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ وَفِي الْفَوْرِ قِرَاضًا فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَلَمْ يُقْبَضْ، وَهُوَ قِرَاضٌ وَاحِدٌ يُجْبَرُ الْآخِرُ بِالْأَوَّلِ إنْ جَاءَتْ فِيهِ وَضِيعَةٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إنْ تَشَاحَّا أَوْ شَحَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يَأْخُذْ صَاحِبُ الْمَالِ إلَّا مِثْلَ مَا أَعْطَى وَعَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ يَلْزَمُ الْعَامِلَ أَنْ
(5/177)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَخَذَ مَالًا قِرَاضًا فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَطَلَبَهُ غُرَمَاؤُهُ فَأَدْرَكُوهُ بِبَلَدٍ غَائِبًا عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ وَفِي يَدَيْهِ عَرْضٌ مُرْبِحٌ بَيِّنٌ فَضْلُهُ فَأَرَادُوا أَنْ يُبَاعَ لَهُمْ الْعَرْضُ فَيَأْخُذُونَ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ قَالَ لَا يُؤْخَذُ مِنْ رِبْحِ الْقِرَاضِ شَيْءٌ حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُ الْمَالِ فَيَأْخُذَ مَالَهُ، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ عَلَى شَرْطِهِمَا) .
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَتَجَرَ فِيهِ فَرَبِحَ، ثُمَّ عَزَلَ رَأْسَ الْمَالِ وَقَسَمَ الرِّبْحَ وَأَخَذَ حِصَّتَهُ وَطَرَحَ حِصَّةَ صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْمَالِ بِحَضْرَةِ شُهَدَاءَ أَشْهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَالَ لَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الرِّبْحِ إلَّا بِحَضْرَةِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَ شَيْئًا رَدَّهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ صَاحِبُ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى شَرْطِهِمَا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يَرُدَّ جَمِيعَ الْمَالِ فَيَتَفَاسَخَانِ جَمِيعَ الرِّبْحِ بَعْدَ اقْتِضَاءِ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِرَأْسِ مَالِهِ سِلْعَةً يَجُوزُ سَلَمُ رَأْسِ الْمَالِ فِيهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ إنْ اتَّفَقَا عَلَى قِسْمَةِ الرِّبْحِ عُرُوضًا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ الْمَالُ دُيُونًا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ عُرُوضًا فَسَلَّمَ ذَلِكَ الْمَالَ إلَى رَبِّ الْمَالِ بِرِضَاهُ بِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَكِتَابِ مُحَمَّدٍ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ صَيَّرَ الْعَامِلُ الْمَالَ عُرُوضًا، ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى الْمُقَاسَمَةِ فَقَالَ الْعَامِلُ أَنَا آخُذُ الْعُرُوضَ وَلَك عَلَيَّ رَأْسُ مَالِكَ أَوْ لَك رَأْسُ مَالِكَ وَحِصَّتُك مِنْ الرِّبْحِ كَذَا.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ لَيْسَ لِغُرَمَاءِ الْعَامِلِ بَيْعُ الْمَالِ أَوْ أَخْذُ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ الْمُتَيَقَّنِ فِيهِ حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ مِلْكٌ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ حَتَّى يَقْبِضَ صَاحِبُ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَيُقَاسِمَهُ الرِّبْحَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ قَامَ غُرَمَاءُ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الْعَامِلِ وَهُوَ غَائِبٌ وَالْمَالُ عَيْنٌ قَضَى الْغُرَمَاءُ دَيْنَهُمْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَدُفِعَ إلَى الْعَامِلِ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ سِلَعًا لَمْ يُحْكَمْ لَهُمْ بِالْبَيْعِ حَتَّى يُرَى لِلْبَيْعِ وَجْهٌ وَلَا يُبَاعُ لَهُمْ مِنْهُ دَيْنٌ حَتَّى يُقْبَضَ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ تَعْجِيلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْعَامِلِ وَغُرَمَاءِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ قَالَ عِيسَى وَإِنَّمَا عَيْبَةُ صَاحِبِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَبْضَعَ مَعَ رَجُلٍ بِضَاعَةً فَلَمَّا قَدِمَ بَلَدَ الِابْتِيَاعِ قَامَ عَلَيْهِ غُرَمَاءُ صَاحِبِ الْمَالِ فَأَثْبَتُوا دَيْنَهُمْ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهُمْ بِتَقَاضِي الْبِضَاعَةِ فِي دُيُونِهِمْ وَيَكْتُبُ لِلْمُبْضِعِ مَعَهُ بَرَاءَةً، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلِذَلِكَ لَا يُبَاعُ الْمَالُ لِغُرَمَائِهِ وَيُبَاعُ لِغُرَمَاءِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ عَلَى مِلْكِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ وَلَا يَنْفَعُهُ الْإِشْهَادُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ، فَإِنْ تَجَرَ فِيهِ فَرَبِحَ فَحِصَّةُ رَبِّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ الرِّبْحِ، وَهُوَ قِطْعَةٌ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ وَيُجْبَرُ بِهِ نَقْصُهُ وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ حِصَّتُهُ مِنْ رِبْحِهِ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ يَتَسَلَّفُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَتَجَرَ فِيهِ لِنَفْسِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ أَوْ يَرُدَّهُ إلَى حُكْمِ الْقِرَاضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَعَمِلَ فِيهِ فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ هَذِهِ حِصَّتُك مِنْ الرِّبْحِ، وَقَدْ أَخَذْتُ لِنَفْسِي مِثْلَهُ وَرَأْسُ مَالِكَ وَافِرٌ عِنْدِي قَالَ مَالِكٌ: لَا أُحِبُّ ذَلِكَ حَتَّى يُحْضِرَ الْمَالَ كُلَّهُ فَيُحَاسِبَهُ حَتَّى يُحَصِّلَ رَأْسَ الْمَالِ وَيَعْلَمَ أَنَّهُ وَافِرٌ وَيَصِلَ إلَيْهِ ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ يَرُدَّ إلَيْهِ الْمَالَ إنْ شَاءَ أَوْ يَحْبِسَهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ حُضُورُ الْمَالِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ قَدْ نَقَصَ فِيهِ فَهُوَ يَجِبُ أَنْ لَا يَنْزِعَ مِنْهُ وَأَنْ يُقِرَّهُ فِي يَدِهِ) .
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسِمَ الرِّبْحُ إلَّا بَعْدَ رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ وَقَبْضِ صَاحِبِهِ لَهُ؛ لِأَنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَالرِّبْحُ تَبَعٌ فِي الْقِسْمَةِ لِرَأْسِ الْمَالِ لَا تَصِحُّ قِسْمَتُهُ إلَّا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
(5/178)
جَامِعُ مَا جَاءَ فِي الْقِرَاضِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَابْتَاعَ بِهِ سِلْعَةً فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِعْهَا. وَقَالَ الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ لَا أَرَى وَجْهَ بَيْعٍ فَاخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ
قَالَ لَا يُنْظَرُ فِي قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْبَصَرِ بِتِلْكَ السِّلْعَةِ، فَإِنْ رَأَوْا وَجْهَ بَيْعٍ بِيعَتْ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ رَأَوْا وَجْهَ انْتِظَارٍ اُنْتُظِرَ بِهَا) .
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَعَمِلَ فِيهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ صَاحِبُ الْمَالِ عَنْ مَالِهِ فَقَالَ هُوَ عِنْدِي وَافِرٌ فَلَمَّا أَخَذَهُ بِهِ قَالَ قَدْ هَلَكَ عِنْدِي مِنْهُ كَذَا وَكَذَا لِمَالٍ يُسَمِّيهِ، وَإِنَّمَا قُلْت لَك ذَلِكَ لِكَيْ تَتْرُكَهُ عِنْدِي قَالَ لَا يَنْتَفِعُ بِإِنْكَارِهِ بَعْدَ إقْرَارِهِ أَنَّهُ عِنْدَهُ وَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ فِي هَلَاكِ ذَلِكَ الْمَالِ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ.
قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَمْرٍ مَعْرُوفٍ أُخِذَ بِإِقْرَارِهِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ إنْكَارُهُ قَالَ مَالِكٌ: وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ قَالَ رَبِحْت فِي الْمَالِ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ وَرِبْحَهُ فَقَالَ مَا رَبِحْت فِيهِ شَيْئًا وَمَا قُلْت ذَلِكَ إلَّا لَأَنْ تُقِرَّهُ فِي يَدَيَّ فَذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ وَيُؤْخَذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ قَوْلُهُ وَصِدْقُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ) .
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا قِرَاضًا فَرَبِحَ فِيهِ رِبْحًا فَقَالَ الْعَامِلُ قَارَضْتُك عَلَى أَنَّ لِي الثُّلُثَيْنِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَالِ قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ لَك الثُّلُثَ قَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ وَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْيَمِينُ إذَا كَانَ مَا قَالَ يُشْبِهُ قِرَاضَ مِثْلِهِ وَكَانَ ذَلِكَ نَحْوًا مِمَّا يَتَقَارَضُ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَإِنْ جَاءَ بِأَمْرٍ يُسْتَنْكَرُ وَلَيْسَ عَلَى مِثْلِهِ يَتَقَارَضُ النَّاسُ لَمْ يُصَدَّقْ وَرُدَّ إلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مُقْتَضَى الْقِرَاضِ أَنْ يُجْبَرَ رَأْسُ الْمَالِ بِالرِّبْحِ، وَلَوْ عَقَدَا الْقِرَاضَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيهِ حَتَّى يُرَدَّ إلَى صَاحِبِهِ وَيَصِيرَ بِيَدَيْهِ كَسَائِرِ أَحْكَامِهِ مِنْ كَوْنِهِ أَمَانَةً بِيَدَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
[جَامِعُ مَا جَاءَ فِي الْقِرَاضِ]
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَبِيعَ عَلَى الْعَامِلِ سِلْعَةً مَتَى شَاءَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إبْطَالٌ لِعَمَلِهِ وَإِتْلَافٌ لِمَا يَبْقَى لَهُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ، وَالْقِرَاضُ قَدْ لَزِمَهُمَا عَلَى وَجْهِ مَا دَخَلَا فِيهِ بِالشِّرَاءِ وَالْعَمَلِ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِكَاكُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَعْهُودِ مِنْ التِّجَارَةِ وَطَلَبِ التَّنْمِيَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَالُ الْقِرَاضِ دَيْنًا دَايَنَ بِهِ الْعَامِلُ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، ثُمَّ أَرَادَ أَحَدُهُمَا بَيْعَ ذَلِكَ وَتَعْجِيلَ مَالِهِ وَأَبَاهُ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْآبِي مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهُ دَعَا إلَى الْمَعْهُودِ مِنْ الْقِرَاضِ، وَالتِّجَارَةِ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْمَالَ بَاقٍ عِنْدَهُ وَأَنَّهُ قَدْ رَبِحَ فِيهِ، فَإِنْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ الْخَسَارَةَ أَوْ ضَيَاعَ الْمَالِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا لَمْ يُقْبَلْ) مُجَرَّدُ إنْكَارِهِ وَأُخِذَ بِأَوَّلِ إقْرَارِهِ، فَإِنْ أَتَى بِأَمْرٍ يُعْرَفُ بِهِ وَجْهُ مَا ادَّعَاهُ وَقَامَتْ لَهُ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ يُرِيدُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْخَسَارَةِ أَوْ ضَيَاعِ الْمَالِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ أَنْكَرَ الْقِرَاضَ جُمْلَةً فَلَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ ادَّعَى رَدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ إنْ لَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ عَلَى الرَّدِّ وَإِلَّا غُرِّمَ وَلَيْسَ مَنْ ادَّعَى الضَّيَاعَ مِثْلَ مَنْ ادَّعَى الْقَضَاءَ وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ لَيْسَ لَهُ إلَّا يَمِينُهُ وَيَبْرَأُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ ادَّعَى الضَّيَاعَ بَعْدَ إنْكَارِ الْقَبْضِ فَقَدْ رَوَى عِيسَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَالَ عِيسَى يُصَدَّقُ وَيُغَرَّمُ وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّهُ إنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِيهِ الْعَامِلُ قِرَاضَ مِثْلِهِ دُونَ صَاحِبِ الْمَالِ، وَالثَّانِي أَنْ يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُشْبِهُ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَامِلُ مَا لَا يُشْبِهُ قِرَاضَ مِثْلِهِ
(5/179)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي رَجُلٍ أَعْطَى رَجُلًا مِائَةَ دِينَارٍ قِرَاضًا فَاشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَدْفَعَ إلَى رَبِّ السِّلْعَةِ الْمِائَةَ دِينَارٍ فَوَجَدَهَا قَدْ سُرِقَتْ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بِعْ السِّلْعَةَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ كَانَ لِي، وَإِنْ كَانَ فِيهَا نُقْصَانٌ كَانَ عَلَيْك؛ لِأَنَّك أَنْتَ ضَيَّعْت، وَقَالَ الْمُقَارِضُ بَلْ عَلَيْك وَفَاءُ حَقِّ هَذَا إنَّمَا اشْتَرَيْتُهَا بِمَالِك الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُ الْعَامِلَ الْمُشْتَرِيَ أَدَاءُ ثَمَنِهَا إلَى الْبَائِعِ وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْمَالِ الْقِرَاضُ إنْ شِئْت فَأَدِّ الْمِائَةَ الدِّينَارِ إلَى الْمُقَارِضِ، وَالسِّلْعَةُ بَيْنَكُمَا وَتَكُونُ قِرَاضًا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْمِائَةُ الْأُولَى، وَإِنْ شِئْت فَابْرَأْ مِنْ السِّلْعَةِ، فَإِنْ دَفَعَ الْمِائَةَ دِينَارٍ إلَى الْعَامِلِ كَانَتْ قِرَاضًا عَلَى سُنَّةِ الْقِرَاضِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَبَى كَانَتْ السِّلْعَةُ لِلْعَامِلِ وَكَانَ عَلَيْهِ ثَمَنُهَا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَيَكُونُ دَعْوَى صَاحِبِ الْمَالِ يُشْبِهُ، وَالرَّابِعُ أَنْ يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَا يُشْبِهُ، فَإِنْ ادَّعَى الْعَامِلُ مَا يُشْبِهُ وَادَّعَى صَاحِبُ الْمَالِ مَا لَا يُشْبِهُ أَوْ ادَّعَيَا جَمِيعًا مَا يُشْبِهُ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ رِبْحِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ ادَّعَى صَاحِبُ الْمَالِ مَا يُشْبِهُ دُونَ الْعَامِلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَهِدَ لَهُ، وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَا يُشْبِهُ رُدَّ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ، فَإِنْ جَاءَ بِأَمْرٍ يُسْتَنْكَرُ لَمْ يُصَدَّقْ وَرُدَّ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ قَالَا إنَّ الرِّبْحَ عَلَى الثُّلُثِ، وَالثُّلُثَيْنِ وَلَمْ يُسَمِّيَا لِمَنْ الثُّلُثَانِ حِينَ الْعَقْدِ، ثُمَّ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ الثُّلُثَانِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قِرَاضُ مِثْلِهِمَا يُشْبِهُ مَا يَدَّعِيهِ الْعَامِلُ أَوْ مَا يَدَّعِيَانِ جَمِيعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى أَنَّهُ نَوَى ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَغَارِبَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ جُعِلَ الثُّلُثُ لِلْعَامِلِ مِنْهُمَا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ الْعَامِلَ لَهُ الْيَدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَالَ وَرِبْحَهُ عَلَى مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْعَامِلُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِالْقِسْمَةِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِضَى رَبِّ الْمَالِ بِذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ رِضَاهُ إلَّا بِالثُّلُثِ فَالْبَاقِي ثَابِتٌ عَلَى مِلْكِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ رَبُّ الْمَالِ يُشْبِهُ قِرَاضَ الْمِثْلِ دُونَ مَا يَدَّعِيهِ الْعَامِلُ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ إنْ ادَّعَى الْبَيِّنَةَ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ لَهُ الثُّلُثَانِ دُونَ يَمِينٍ، وَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَا يُشْبِهُ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَحْلِفَانِ وَيُرَدَّانِ إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يُرَدَّانِ إلَيْهِ دُونَ يَمِينٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ، وَالنِّيَّةُ عِنْدِي غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ إذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ لَهُ الثُّلُثَانِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ وَكَانَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُرَدَّا فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا إلَى قِرَاضِ الْمِثْلِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُعْقَدَ الْقِرَاضُ وَلَا يَذْكُرَا حِصَّةَ أَحَدِهِمَا مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطَا الثُّلُثَيْنِ لِمُعَيَّنٍ فَقَدْ عَادَ ذَلِكَ بِجَهَالَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ مَجْهُولَةً وَلَا مَعْنَى لِاسْتِحْلَافِ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَا يُنْكِرُ مَا يَدَّعِيهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ النِّيَّةِ شَيْئًا فَلَا مَعْنَى لِاسْتِحْلَافِهِ عَلَى تَحْقِيقِهَا، وَلَوْ صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ.
(ش) : وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَامِلَ إذَا أَخَذَ الْمَالَ قِرَاضًا فَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِدَيْنٍ أَوْ بِنَقْدٍ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِدَيْنٍ لِلْقَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْعَامِلُ ثُمَّ نَقَدَ فِيهَا مَالَ الْقِرَاضِ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ تُقَوَّمُ السِّلْعَةُ الَّتِي اشْتَرَى بِدَيْنٍ بِنَقْدٍ فَيَكُونُ الْعَامِلُ بِذَلِكَ شَرِيكًا فِي الْمَالِ قَالَ مُحَمَّدٌ لَعَلَّهُ يُرِيدُ فِي سِلْعَةٍ وَاحِدَةٍ اشْتَرَاهَا بِدَيْنٍ وَنَقَدَ فِيهَا مَالَ الْقِرَاضِ، وَإِذَا كَانَ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فَتَبْقَى الْمَسْأَلَةُ الَّتِي يُسْأَلُ عَنْهَا غَيْرَ مُجَاوَبٍ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِدَيْنٍ بِمِائَةٍ قِيمَتُهَا مِائَتَانِ فَنَقَدَ فِيهَا حِينَ الْأَجَلِ مِائَةً مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْعَامِلَ يَضْمَنُ مَا فَضَلَ مِنْ الْمِائَةِ دِينَارٍ عَنْ قِيمَةِ السِّلْعَةِ، وَالسِّلْعَةُ عَلَى الْقِرَاضِ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ
(5/180)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُتَقَارِضَيْنِ إذَا تَفَاصَلَا فَبَقِيَ بِيَدِ الْعَامِلِ مِنْ الْمُبْتَاعِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ خَلَقُ الْقِرْبَةِ أَوْ خَلَقُ الثَّوْبِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ تَافِهًا يَسِيرًا لَا خَطْبَ لَهُ فَهُوَ لِلْعَامِلِ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا أَفْتَى بِرَدِّ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي لَهُ ثَمَنٌ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَهُ اسْمٌ مِثْلُ الدَّابَّةِ أَوْ الْجَمَلِ أَوْ الشاذكونة أَوْ أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ ثَمَنٌ فَإِنِّي أَرَى أَنْ يُرَدَّ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَا إلَّا أَنْ يَتَحَلَّلَ صَاحِبُهُ مِنْ ذَلِكَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَأَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ يُقَوَّمُ الدَّيْنُ فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ الْمِائَةِ دِينَارٍ الْمُؤَجَّلَةِ فَمَا فَضَلَ عَنْ الْمِائَةِ دِينَارٍ النَّقْدُ عَنْ قِيمَةِ الْمِائَةِ الْمُؤَجَّلَةِ فَعَلَى الْعَامِلِ.
(فَرْعٌ) وَلَوْ بَاعَهَا الْعَامِلُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ فِيهَا فَرَبِحَ فَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الرِّبْحَ، وَالْوَضِيعَةَ عَلَى الْعَامِلِ قَالَ وَكَيْفَ يَأْخُذُ رِبْحَ مَا يَضْمَنُهُ الْعَامِلُ فِي ذِمَّتِهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ السِّلْعَةَ لَمْ يَتَعَلَّقْ ثَمَنُهَا بِذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِبْحُهَا وَلَمَّا اخْتَصَّتْ بِذِمَّةِ الْعَامِلِ وَضَمَانِهِ كَانَ لَهُ رِبْحُهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ كَانَ اشْتَرَى بِنَقْدٍ فَلَمْ يَنْقُدْ حَتَّى تَلِفَ الْمَالُ الَّذِي بِيَدِهِ فَهَذَا الَّذِي قَالَ إنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ بِعْ السِّلْعَةَ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ فَهُوَ لِي، وَإِنْ كَانَ نُقْصَانٌ كَانَ عَلَيْك؛ لِأَنَّك ضَيَّعْت الْمَالَ فَلَا حُجَّةَ لِرَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِهِ بِعْ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ فَلِي لِأَنَّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَقُولَ إذَا تَعَلَّقَ ثَمَنُ السِّلْعَةِ بِذِمَّتِي دُونَ مَالِكَ فَلَا حَظَّ لَك مِنْ الرِّبْحِ، وَلَا حُجَّةَ لِلْعَامِلِ فِي قَوْلِهِ إنَّمَا اشْتَرَيْتهَا بِمَالِك الَّذِي أَعْطَيْتنِي فَإِنَّ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَقُولَ صَدَقْت فَلَا تَطْلُبْ مِنِّي غَيْرَهُ فَإِنَّنِي لَمْ آذَنْ لَكَ تَتَّجِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِي غَيْرَ مَا دَفَعْتُهُ إلَيْك فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُك فِي غَيْرِهِ وَإِذَا طَلَبْتنِي بِغُرْمِ مَا نَقَصَ فَقَدْ حَوَّلْت تَصَرُّفَك مِنْ مَالِي فِي غَيْرِ مَالِ الْقِرَاضِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ مَالِكٍ وَيَلْزَمُ الْعَامِلَ الْمُشْتَرِيَ أَدَاءُ ثَمَنِهَا عَلَى الْبَائِعِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُهْدَةَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِسِوَاهُ وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ مَخْرَجٌ عَنْ مَالِهِ عَلَيْهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْخِيَارُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَيُقَالُ لِصَاحِبِ الْمَالِ الْقِرَاضُ إنْ شِئْت فَأَدِّ الْمِائَةَ يُرِيدُ ثَمَنَ السِّلْعَةِ الَّتِي اشْتَرَى الْعَامِلُ بِدَيْنٍ فَتَكُونُ السِّلْعَةُ عَلَى مَا شَرَطْتَ مِنْ الْقِرَاضِ، وَإِنْ شِئْت فَابْرَأْ مِنْ السِّلْعَةِ يُرِيدُ أَنْ لَا حَظَّ لَك فِي رِبْحِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْك مِنْ نَقْصِ ثَمَنِهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ بَاعَ الْعَامِلُ السِّلْعَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ ثَمَنَهَا وَقَبْلَ أَنْ يُتْلِفَ فَرَبِحَ فِيهَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ مِنْ الْقِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ لِلْقِرَاضِ اشْتَرَى، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِي لِلْقِرَاضِ وَعَلَى أَنْ يَنْقُدَ مِنْهُ، وَالْمَالُ الَّذِي عُوِّلَ عَلَى النَّقْدِ مِنْهُ بَاقٍ حِينَ الْبَيْعِ وَظُهُورِ الرِّبْحِ فَكَانَ الْبَيْعُ لِلْقِرَاضِ، وَالرِّبْحُ عَلَى شَرْطِهِ.
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ الْعَامِلَ إذَا رَدَّ الْمَالَ وَكَانَ قَدْ سَافَرَ سَفَرًا اكْتَسَى فِيهِ وَتَجَهَّزَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ جِهَازِهِ وَكِسْوَتِهِ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ لِلْعَامِلِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ كَخَلَقِ الْجُبَّةِ، وَالْقِرْبَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ، وَكَذَلِكَ الْغِرَارَةُ، وَالْإِدَاوَةُ قَالَ سَحْنُونٌ وَمَا كَانَ مِنْ الثِّيَابِ تَافِهًا خَلَقًا تُرِكَتْ لَهُ، وَإِنْ كَانَ لِلثِّيَابِ بَالٌ بِيعَتْ وَرُدَّ ثَمَنُهَا فِي الْمَالِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَعَانِي تُتْرَكُ لِمَنْ كَانَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا كَالرَّجُلِ يُطَلِّقُ الْمَرْأَةَ وَعَلَيْهَا بَقِيَّةُ كِسْوَةٍ أَوْ تَكُونُ طَالِقًا حَامِلًا فَتَضَعُ وَعَلَيْهَا بَقِيَّةُ كِسْوَةٍ فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي لَهُ بَالٌ رُدَّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ وَإِذَا كَانَ يَسِيرًا لَا قَدْرَ لَهُ كَانَ بَيْعًا لِمَنْ تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَامِلَ لَوْ عَمِلَ فِي الْمَالِ عَمَلًا يَسِيرًا لَا يَلْزَمُهُ مِنْ نَقْلِ مَتَاعٍ أَوْ عَمَلٍ خَفِيفٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ عِوَضٌ، وَلَوْ عَمِلَ فِيهِ الصَّنَائِعَ، وَالرُّقُومَ لَكَانَ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ مَا كَانَ لَهُ ثَمَنٌ فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَا إلَّا أَنْ يَتَحَلَّلَ صَاحِبُهُ مِنْ ذَلِكَ يُرِيدُ أَنْ يُعْلِمَهُ بِمَا بَقِيَ عِنْدَهُ وَيُعْلِمَهُ بِصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ، فَإِنْ جَعَلَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي حِلٍّ مِنْهُ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا رَدَّ إلَيْهِ مِنْهُ حَقَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(5/181)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ) (التَّرْغِيبُ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ) (ص) : (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» )
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[كِتَابُ الْأَقْضِيَةِ] [التَّرْغِيبُ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ] [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي صِفَةِ الْقَاضِي]
(ش) : قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ عَلَى مَعْنَى الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِصِفَةِ الْبَشَرِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا يَعْلَمُ الْمُحِقَّ مِنْ الْخَصْمَيْنِ مِنْ الْمُبْطِلِ وَالْإِخْبَارُ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَالُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنْ الْغَيْبِ إلَّا مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ، وَلَمَّا كَانَتْ الدُّنْيَا دَارَ تَكْلِيفٍ وَكَانَتْ الْأَحْكَامُ تَجْرِي عَلَى ذَلِكَ أَجْرَى فِي غَالِبِ أَحْكَامِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَحْوَالِ سَائِرِ الْحُكَّامِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْكَاذِبِ مِنْهُمَا، وَقَالَ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَتَنَازَعُونَ فِي الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا تَنَازُعًا يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ صَاحِبِهِ فَيُخَاصِمُهُ فِي ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَاكِمُ فِي زَمَنِهِ؛ لِأَنَّهُ إمَامُ الْأُمَّةِ وَالْمُنْفَرِدُ بِالرِّئَاسَةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا هُوَ أَوْ مَنْ قَدَّمَهُ لِذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وَقَوْلُهُ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] وَقَوْلُهُ {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] وَفِي هَذَا بَابَانِ أَحَدُهُمَا فِي صِفَةِ الْقَاضِي وَالثَّانِي فِي مَجْلِسِهِ وَأَدَبِهِ.
(الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي صِفَةِ الْقَاضِي) فَأَمَّا صِفَاتُهُ فِي نَفْسِهِ فَإِحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا بَالِغًا، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مُفْرَدًا، وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا، وَالرَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَالْخَامِسَةُ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، وَالسَّادِسَةُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا، وَالسَّابِعَةُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا.
فَأَمَّا اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ أَنْ تَلِيَ الْمَرْأَةُ الْقَضَاءَ فِي الْأَمْوَالِ دُونَ الْقِصَاصِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأَةٍ» وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ فَصْلَ الْقَضَاءِ فَوَجَبَ أَنْ تُنَافِيهِ الْأُنُوثَةُ كَالْإِمَامَةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ عِنْدِي عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ قُدِّمَ لِذَلِكَ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ وَلَا بَلَدٍ مِنْ الْبِلَادِ امْرَأَةٌ كَمَا لَمْ يُقَدَّمْ لِلْإِمَامَةِ امْرَأَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا كَوْنُهُ وَاحِدًا مُفْرَدًا فَمَعْنَاهُ أَنْ لَا يُوَلَّى الْقَضَاءَ قَاضِيَانِ فَأَكْثَرُ عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِالنَّظَرِ فِي قَضِيَّةٍ وَلَا قَبُولُ بَيِّنَةٍ وَلَا انْفِرَادٌ بِإِنْفَاذِ حُكْمٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي زَاهِيهِ وَالْحَاكِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِصْفُ حَاكِمٍ فَلَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ فَيَكُونَانِ جَمِيعًا حَاكِمًا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا أَنْ يُسْتَقْضَى فِي الْبَلَدِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالنَّظَرِ فِي مَا يُرْفَعُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَجَائِزٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا
(5/182)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
إجْمَاعُ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ أُشْرِكَ بَيْنَ قَاضِيَيْنِ فِي زَمَنٍ مِنْ الْأَزْمَانِ وَلَا بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ وَقَدْ قَامَ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ عَدَدٌ مِنْ الْحُكَّامِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْفَرِدُ بِحُكْمِهِ الَّذِي يُرْفَعُ إلَيْهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٌ وَالْأَغْرَاضَ مُتَبَايِنَةٌ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّفِقَ رَجُلَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى لَا يَرَى أَحَدُهُمَا خِلَافَ مَا يَرَاهُ الْآخَرُ، وَإِذَا أُشْرِكَ بَيْنَ الْحَاكِمَيْنِ دَعَا ذَلِكَ إلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَسَائِلِ وَيُوقَفُ نُفُوذُهُمَا كَالْإِمَامَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْحَكَمَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَالْحَكَمَانِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُمَا يَحْكُمَانِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ بِوِلَايَةٍ، وَإِنْ اتَّفَقَا نَفَذَ حُكْمُهُمَا، وَإِنْ اخْتَلَفَا لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُمَا وَحُكْمُ غَيْرِهِمَا فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةٌ وَهَذَا يُنَافِي الْوِلَايَةَ؛ لِأَنَّ مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَوَقُّفِ الْأَحْكَامِ وَامْتِنَاعِ نُفُوذِهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا فَلَا خِلَافَ نَعْلَمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَنْعِ مِنْ كَوْنِ الْأَعْمَى حَاكِمًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ لِلْقَضَاءِ تَضْيِيقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِ الْقَضَاءِ وَإِنْفَاذِ الْأَحْكَامِ، وَالْحَاكِمُ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَنْظُرَ لِكُلِّ مَنْ يَطْلُبُ عِنْدَهُ مَطْلَبًا مِنْ مَطَالِبِ الْحَقِّ، وَالْأَعْمَى وَإِنْ كَانَ يُمَيِّزُ الْأَصْوَاتَ فَلَا يُمَيِّزُ إلَّا صَوْتَ مَنْ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ صَوْتُهُ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَشْهَدُ عِنْدَهُ بِشَهَادَةٍ مِمَّنْ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ فَقَدْ يَشْهَدُ عِنْدَهُ بِهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ قَبْلَ هَذَا وَيُزَكَّى عِنْدَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَلَا يُعْلَمُ هَلْ هَذَا الْمُزَكَّى عِنْدَهُ هُوَ الَّذِي زَكَّى بِالْأَمْسِ أَوْ غَيْرُهُ، وَقَدْ يُجْرَحُ عِنْدَهُ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ فَلَا يَدْرِي هَلْ هُوَ ذَلِكَ الْأَوَّلُ أَوْ غَيْرُهُ، وَقَدْ يَبْقَى عَلَى عَدَالَتِهِ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً مِنْ الْغَدِ فِي شَهَادَةٍ أُخْرَى وَقَدْ غَابَ مُعَدِّلُوهُ فَلَا يَدْرِي هَلْ هُوَ ذَلِكَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ الْأُمِّيَّ وَهُوَ يُبْصِرُ وَيُمَيِّزُ فَكَيْفَ بِالْأَعْمَى وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لَا يُجِيزُ شَهَادَتَهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا اعْتِبَارُ إسْلَامِهِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ حُرِّيَّتِهِ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِسَيِّدِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهَا لِلنَّظَرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّهُ نَاقِصُ الْحُرْمَةِ نَقْصًا يُؤَثِّرُ فِي الْإِمَامَةِ كَالْمَرْأَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا اعْتِبَارُ كَوْنِهِ عَالِمًا فَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الْعَالَمِ الْعَدْلِ وَاَلَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ بَيَّنَّا صِفَةَ الْمُجْتَهِدِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ لَا يُسْتَقْضَى مَنْ لَيْسَ بِفَقِيهٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ فِي الْوَاضِحَةِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا فِقْهَ لَهُ أَوْ فِقْهٍ لَا حَدِيثَ عِنْدَهُ وَلَا يُفْتِي إلَّا مَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ إلَّا أَنْ يُخْبِرَ بِشَيْءٍ سَمِعَهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَمَعَ صِفَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فَأَعْلَمَ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ يَتَفَكَّرُوا وَيَعْتَبِرُوا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تَبْيِينُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَهُمْ التَّفَكُّرُ فِي أَحْكَامِهِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ لَا يَرَى شَيْئًا، وَبِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ إنَّهُ لَا يُفْتِي مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُخْبِرَ بِمَا سَمِعَ فَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْفَتْوَى وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ فَتْوَى صَاحِبِ الْمَقَالَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِعَدَمِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي تَجُوزُ لَهُ الْفَتْوَى.
(فَرْعٌ) فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ إلَّا عَالِمٌ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ أَوْ رَجُلٌ مَرْضِيُّ الْحَالِ غَيْرُ عَالِمٍ فَقَدْ رَوَى أَصْبَغُ يُسْتَقْضَى الْعَدْلُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيَجْتَهِدُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّجُلِ عِلْمٌ وَوَرَعٌ فَعَقْلٌ وَوَرَعٌ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْلِ يَسْأَلُ وَبِالْوَرَعِ يَعِفُّ فَإِذَا طَلَبَ الْعِلْمَ وَجَدَهُ، وَإِذَا طَلَبَ الْعَقْلَ لَمْ يَجِدْهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فَالظَّاهِرُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُسْلِمِينَ
(5/183)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْقَضَاءِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ لَا تَنْعَقِدُ الْوِلَايَةُ لِلْحَاكِمِ الْفَاسِقِ، وَإِنْ طَرَأَ الْفِسْقُ بَعْدَ انْعِقَادِهَا انْفَسَخَتْ وِلَايَتُهُ وَفِي النَّوَادِرِ مِنْ كِتَابِ أَصْبَغَ أَنَّهُ يَجُوزُ حُكْمُ الْمَسْخُوطِ مَا لَمْ يَجُرْ، وَإِنْ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَا يَطْرَأُ مِنْ الْفِسْقِ لَا يَفْسَخُ وِلَايَتَهُ حَتَّى يَفْسَخَهَا الْإِمَامُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ سَمِيعًا لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِأَصْحَابِنَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدِي أَنَّهُ مَمْنُوعٌ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ سَمَاعِهِ مِنْ دَعْوَى الْخُصُومِ وَسَمَاعِهِ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ شَاهِدٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَتَهُ فَيَعْرِضُهَا عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكْتُبُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيقِ الْحَالِ عَلَى النَّاسِ وَتَعَذُّرِ سَبِيلِ الْحُكْمِ وَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَا يَكْتُبُ حَاكِمًا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا عَدْلًا؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِأَصْحَابِنَا، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ وَالْآخَرُ الْمَنْعُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ إمَامَ الْمُرْسَلِينَ وَأَفْضَلَ الْحُكَّامِ كَانَ لَا يَكْتُبُ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى قِرَاءَةِ الْعُقُودِ وَيَنُوبُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعَدْلِ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ لَا يَكْتُبُ مِنْ الْحُكَّامِ يُقْرَأُ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فِي الْأَغْلَبِ وَيُقَيَّدُ عَنْهُ الْمَقَالَاتِ وَلَا يُبَاشِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ لِلْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَجْهًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيقِ طُرُقِ الْحُكُومَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ وَلَيْسَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ يُسْتَقْضَى وَلَدُ الزِّنَا؟ قَالَ سَحْنُونٌ لَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَقْضَى وَلَا يَحْكُمُ فِي حَدِّ زِنًا قَالَ كَمَا لَا يَحْكُمُ الْقَاضِي قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَوْضِعُ رِفْعَةٍ وَطَهَارَةِ أَحْوَالٍ فَلَا يَلِيهَا وَلَدُ الزِّنَا كَالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَرَوَى ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ يُسْتَقْضَى الْفَقِيرُ إذَا كَانَ أَعْلَمَ مَنْ بِالْبَلَدِ وَأَرْضَاهُمْ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ حَتَّى يَغْنَى وَيُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فِي دِينِهِ وَلَا عِلْمِهِ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُزَالَ حَاجَتُهُ لِيَتَفَرَّغَ لِلْقَضَاءِ وَلِيَكُونَ أَسْلَمَ لَهُ مِنْ مُقَارَفَةِ مَا يُخِلُّ بِحَالِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيُسْتَقْضَى الْمَحْدُودُ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالْمَقْطُوعُ فِي السَّرِقَةِ إذَا كَانَ الْيَوْمَ مَرَضِيًّا مِنْ كِتَابِ أَصْبَغَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِمَّا يَمْنَعُ وِلَايَتَهُ قَدْ ظَهَرَ إقْلَاعُهُ عَنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ كَافِرًا ثُمَّ حَسُنَ إسْلَامُهُ.
(فَرْعٌ) وَهَلْ يَحْكُمُ فِيمَا حُدَّ فِيهِ جَوَّزَ ذَلِكَ أَصْبَغُ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ وَمَنَعَ ذَلِكَ سَحْنُونٌ اعْتِبَارًا بِالشَّهَادَةِ.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي مَجْلِسِهِ وَأَدَبِهِ] 1
ِ أَمَّا مَجْلِسُ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَكَرِهَ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ مَالِكٌ الْقَضَاءُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْحَقِّ وَالْأَمْرِ الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ يَرْضَى بِالدُّونِ مِنْ الْمَجْلِسِ وَيَصِلُ إلَيْهِ الضَّعِيفُ وَالْمَرْأَةُ وَلَا يُحْجَبُ عَنْهُ أَحَدٌ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] إلَى قَوْلِهِ {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص: 22] وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَضَى فِي الْمَسْجِدِ» .
(فَرْعٌ) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي رِحَابِهِ الْخَارِجَةِ قَالَ مَالِكٌ لِيَصِلَ إلَيْهِ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْحَائِضُ قَالَ وَحَيْثُمَا جَلَسَ الْقَاضِي الْمَأْمُورُ أَجْزَأَهُ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ فِي مَنْزِلِهِ وَحَيْثُ أَحَبَّ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ حَيْثُ جَمَاعَةُ النَّاسِ وَفِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ قَالَ سَحْنُونٌ قَالَ غَيْرُهُ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ لِكَثْرَةِ النَّاسِ حَتَّى يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ النَّظَرِ وَالْفَهْمِ فَلْيَكُنْ لَهُ مَوْضِعٌ فِي الْمَسْجِدِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَشْغَلُهُ وَاِتَّخَذَ سَحْنُونٌ بَيْتًا فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ يَقْعُدُ فِيهِ لِلنَّاسِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ فِي الطَّرِيقِ فِي مَمَرِّهِ إلَى الْمَسْجِدِ أَوْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرٌ عَرَضَ وَاسْتُغِيثَ إلَيْهِ فِيهِ فَلَا
(5/184)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ وَيَنْهَى فَأَمَّا الْحُكْمُ الْفَاصِلُ فَلَا قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ يَمْشِي، وَقَالَ أَيْضًا لَا بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ يَمْشِي إذَا لَمْ يَشْغَلْهُ ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا الضَّرْبُ الْكَثِيرُ إلَّا الْيَسِيرُ كَالْخَمْسَةِ أَسْوَاطٍ وَالْعَشَرَةِ وَنَحْوِهَا قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ وَكِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُدُودَ تُبَاشِرُ سَيَلَانَ الدَّمِ وَالتَّأْثِيرَ فِي الْأَجْسَامِ، وَالْمَسَاجِدُ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّأْمِينِ وَالرَّحْمَةِ فَيَجِبُ أَنْ تُنَزَّهَ عَنْ مِثْلِ هَذَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَيَتَّخِذُ الْقَاضِي أَوْقَاتًا يَجْلِسُ فِيهَا لِلنَّاسِ عَلَى مَا هُوَ أَرْفَقُ بِهِ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسَ بِالضَّيِّقِ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَلَا فِي الْأَسْحَارِ إلَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ وَيُرْفَعَ إلَيْهِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْمُرَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَيَنْهَى وَيَسْجُنَ فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ مِمَّا شَخَّصَ فِيهِ الْخُصُومَ فَلَا.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٍ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْجُلُوسُ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَلَا إشْخَاصُ الْخُصُومِ إلَيْهِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا إحْضَارُ الْخُصُومِ وَتَقْيِيدُ الْمَقَالَاتِ وَإِحْضَارُ الْبَيِّنَاتِ؛ لِأَنَّهَا أُمُورٌ لَا تَفُوتُ وَيَلْحَقُ الْمَطْلُوبَ بِذَلِكَ الْمَشَقَّةُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْعَادَةِ، وَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي يُخَافُ فَوَاتُهَا وَيَطْرَأُ مِنْهَا ذَلِكَ الْوَقْتَ مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَى النَّظَرِ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَمَعْنَى قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ النَّظَرَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِ فَإِذَا أَرَادَ النَّظَرَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ بِمَا يُدَّعَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى مَا لَا يُخَافُ فَوَاتُهُ، وَقَدْ شُرِّعَتْ الْآجَالُ فِي الْقَضَاءِ بِالْحُقُوقِ وَالْإِمْهَالِ وَاسْتِقْصَاءِ الْحُجَجِ وَذَلِكَ يُنَافِي الْقَضَاءَ بِاللَّيْلِ وَفِي وَقْتٍ يَشُقُّ نَقْلُ الْبَيِّنَاتِ وَالتَّفَرُّغُ لِلْإِدْلَاءِ بِالْحُجَجِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الْعَادَةِ فِي عَمَلِ الْقُضَاةِ وَلَا يَكَادُ يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّضْيِيقِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى الْحُكْمِ لِلطَّالِبِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ فَيَقْضِيَ النَّهَارَ كُلَّهُ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعَةِ قَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَلْيَقْعُدْ لِلنَّاسِ فِي سَاعَاتٍ مِنْ النَّهَارِ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يُكْثِرَ فَيُخْطِئَ قَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ إذَا دَخَلَهُ هَمٌّ أَوْ نُعَاسٌ أَوْ ضَجَرٌ شَدِيدٌ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْ جُوعٌ يُخَافُ عَلَى فَهْمِهِ مِنْهُ الْإِبْطَاءُ أَوْ التَّقْصِيرُ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيُقَالُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ جَائِعٌ وَلَا أَنْ يَشْبَعَ جِدًّا فَإِنَّ الْغَضَبَ يَحْضُرُ الْجَائِعَ، وَالشَّبْعَانُ جِدًّا يَكُونُ بَطِيئًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِهِ فِي فَهْمِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ فَكُلُّ حَالَةٍ مَنَعَتْهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حُجَجِ الْخُصُومِ كَمَا يَمْنَعُهُ الْغَضَبُ كَانَ لَهُ حُكْمُهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَقَوْلُهُ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ بِمَوَاقِعِ الْحُجَجِ وَأَهْدَى إلَى إيرَادِ مَا يَحْتَاجُ مِنْ ذَلِكَ وَأَشَدَّ تَبْيِينًا لِمَا يَحْتَجُّ بِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ اللَّحَنُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْفِطْنَةُ وَاللَّحْنُ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ الْخَطَأُ فِي الْقَوْلِ تَعَلَّقَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُقْضَى بِعِلْمِهِ وَهَذَا التَّعَلُّقُ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِمَا سَمِعَ مِنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِخِلَافِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِعِلْمِهِ وَلَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَنْفِيهِ، فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَقْضِي بِعِلْمِهِ فَإِنَّهُ يُنَفِّذُ مَا عَلِمَهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَى حُجَّةِ الْخَصْمِ وَلَا إلَى مَا شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِعِلْمِهِ فَإِذَا اقْتَضَتْ حُجَّتُهُ أَوْ مَا شَهِدَ بِهِ بَيْنَهُمَا خِلَافَ مَا عَلِمَهُ مِنْ الْأَمْرِ امْتَنَعَ مِنْ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ وَشَهِدَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ بِمَا فِي عِلْمِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْحَاكِمَ
(5/185)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
لَا يَحْكُمُ فِي شَيْءٍ أَصْلًا بِعِلْمِهِ عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ أَوْ بَعْدَهَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِ غَيْرِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ غَيْرِهَا قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ قَالُوا وَكَذَلِكَ مَا وُجِدَ فِي دِيوَانِهِ مِنْ إقْرَارِ الْخُصُومِ مَكْتُوبًا، وَجَوَّزَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغُ وَسَحْنُونٌ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فَيَقْتَضِي الْعُمُومُ أَنْ يُجْلَدَ وَإِنْ عَلِمَ الْحَكَمُ بِصِدْقِهِ وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «قَالَ فِي مُلَاعَنَةٍ لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ السُّوءَ وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْتُلْ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ كَانَ عَلِمَ كُفْرَهُمْ لِمَا انْفَرَدَ بِذَلِكَ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَعْصُومٍ مُنِعَ مِنْ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ لِيَبْعُدَ عَنْ التُّهْمَةِ وَتَعَلَّقَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ فَعَلَّقَ الْقَضَاءَ بِمَا يُسْمَعُ وَتَأَوَّلَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا يُسْمَعُ مِنْهُ مِنْ اهْتِدَائِهِ إلَى مَوَاقِعِ حُجَّتِهِ وَعَجَزَ الْآخَرُ عَنْ إيرَادِ مَا يَعْتَضِدُ بِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ وَمَا عَلِمَهُ الْحَاكِمُ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ عَلَى مَا يَسْمَعُ مِمَّنْ يَقْضِي لَهُ بَلْ قَدْ يَعْلَمُ مِنْ حُقُوقِهِ مَا لَا يَسْمَعُهُ مِنْهُ وَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُهُ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ وَبِقَوْلِهِ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ أَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي لَهُ بِمَا بَيَّنَهُ فِي خُصُومَتِهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِمَوَاقِعِ حُجَجِهِ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي تُلْزِمُ الْحَاكِمَ الْقَضَاءَ لَهُ بِهَا وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِيمَا جَرَى بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي مَجْلِسِ نَظَرِهِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِمَّا عَلِمَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ خَاصَّةً وَلِلشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ بِدَعْوَى دُونَ بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ إنَّمَا قَدَّرَ الْحُكْمَ بِأَحَدِهِمَا.
(فَرْعٌ) وَإِذَا قُلْنَا لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فَحَكَمَ بِعِلْمِهِ وَسَجَّلَ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَعِنْدِي أَنَّهُ يُنْقَضُ حُكْمُهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ «فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ قَضَاءَهُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ لِمَا سَمِعَ مِنْهُ مِنْ إظْهَارِ حُجَّةٍ أَوْجَبَتْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَى بَاطِلٍ عَجَزَ الْمُحِقُّ عَنْ إنْكَارِهِ أَوْ إنْكَارِ حَقٍّ عَجَزَ الْمُحِقُّ عَنْ إثْبَاتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْلِكُهُ مَنْ حُكِمَ لَهُ بِهِ وَلَا يُبِيحُهُ لَهُ، وَإِنَّمَا يُعْطِيهِ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قِطْعَةً مِنْ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَا يُعَذَّبُونَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَقَدْ يُوصَفُ الشَّيْءُ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ وَيَكُونُ سَبَبًا لَهُ، وَلِذَلِكَ يُوصَفُ الشُّجَاعُ بِالْمَوْتِ قَالَ الشَّاعِرُ
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... وَجْهًا يُنْجِيكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ
فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الْمَوْتُ يُرِيدُ أَنَّهُ سَبَبٌ بِشَجَاعَتِهِ وَقِلَّةِ سَلَامَةِ مَنْ يُحَارِبُهُ مِنْ الْمَوْتِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ وَلَا يُغَيِّرُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ شَاهِدَيْ زُورٍ بِأَنَّ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً زَوْجَةٌ لَهُ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ إنَّ ذَلِكَ يُحِلُّهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ «فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا شَهِدَ لَهُ بِزُورٍ بِأَنَّ زَوْجًا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَأَنَّ هَذَا تَزَوَّجَهَا
(5/186)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اخْتَصَمَ إلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ فَقَضَى لَهُ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ وَاَللَّهِ لَقَدْ قَضَيْت بِالْحَقِّ فَضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ ثُمَّ قَالَ لَهُ وَمَا يُدْرِيك فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ إنَّا نَجِدُ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ إلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بَعْدَهُ إنَّمَا يَقْطَعُ لَهُ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَضَى لَهُ بِحَقٍّ هُوَ لِأَخِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : قَوْلُهُ إنَّ عُمَرَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ يَهُودِيٌّ وَمُسْلِمٌ فَقَضَى عُمَرُ لِلْيَهُودِيِّ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْحَقَّ لَهُ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ فَإِنَّمَا يُقْضَى فِيهِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عُقِدَتْ لَهُمْ الذِّمَّةُ لِتَجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ إلَّا فِيمَا يَخُصُّهُمْ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُونُوا ذِمَّةً وَكَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ فَإِنْ أَمْكَنَ الْحُكْمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَهُمْ عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ نَفَذَ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ أَمْرُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ وَذَهَبَ بِهِ إلَى مَعْنَى الصُّلْحِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا أَحْكَامُ أَهْلِ الْكُفْرِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ كَيَهُودِيَّيْنِ أَوْ نَصْرَانِيَّيْنِ أَوْ يَكُونَا عَلَى دِينَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَيَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ فَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ دِينٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَا نَتَعَرَّضُ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَمَّا عُقِدَتْ لَهُمْ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ أَحْكَامُهُمْ بَيْنَهُمْ فَإِنْ رَضِيَا جَمِيعًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَرْضَ أَسَاقِفَتُهُمْ بِهِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ إلَّا بِرِضَى الْخَصْمَيْنِ وَرِضَى أَسَاقِفَتِهِمْ فَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمَانِ وَأَبَى الْأَسَاقِفَةُ أَوْ رَضِيَ الْأَسَاقِفَةُ وَأَبَى ذَلِكَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ لَمْ يُحْكَمْ بَيْنَهُمَا، وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهُ إنْ رَضِيَ الْحَاكِمُ حَكَمَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا لَمْ يَعْرِضْ لَهُمَا فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الرِّضَى بِذَلِكَ فَإِنَّ الْحَاكِمَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْحُكْمَ وَبَيْنَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] ، وَأَمَّا إنْ كَانَا عَلَى دِينَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَفِي النَّوَادِرِ قَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا لِاخْتِلَافِ مِلَّتَيْهِمَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا فِي طَرِيقَةِ التَّخَاصُمِ وَالتَّطَالُبِ بِالْحُقُوقِ الَّتِي سُلِّمَتْ بِرِضَى الطَّالِبِ لَهَا، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ التَّظَالُمِ كَالْغَصْبِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ فَإِنَّ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِلَّتَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ كَافِرٌ وَهُوَ كُلُّهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ الْيَهُودِيِّ لِعُمَرَ لَقَدْ قَضَيْت بِالْحَقِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَقَدْ قَضَيْت لِي بِمَا هُوَ حَقٌّ لِي عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ لَقَدْ قَصَدْت الْحَقَّ فِي حُكْمِك هَذَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ لَقَدْ قَضَيْت بِالْحَقِّ عَلَى حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَضَرْبُهُ الْيَهُودِيَّ لَمَّا قَالَ لَهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ قَضَيْت بِالْحَقِّ وَقَوْلُهُ لَهُ وَمَا يُدْرِيك يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَكَمَ بَيْنَهُمَا بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَصَّ عِنْدَهُ فِيهِ وَكَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ غَلَبَةُ الظَّنِّ دُونَ الْقَطْعِ وَالْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ وَمَا يُدْرِيك يُرِيدُ مَا يُدْرِيك أَنَّهُ كَمَا حَلَفْت عَلَيْهِ وَقَطَعْت بِهِ فَأَنْكَرَ عَلَى الْيَهُودِيِّ الْحَلِفَ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي ضَرْبَهُ وَعُقُوبَتَهُ؛ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى الْقَطْعِ فِي أَمْرٍ يَظُنُّهُ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ تَكُونُ الْقَضِيَّةُ مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ صَحِيحَةً لَكِنَّهَا فِي الْبَاطِنِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ الْآخَرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذَنَّ مِنْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُهُ لَمَّا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْلَمُ هُوَ مُقْتَضَى تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فِي شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا حُكْمٌ إنَّمَا شُرِعَتْ بِاجْتِهَادِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُهُ لِمَا فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ أَقْسَمَ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ
(5/187)
مَا جَاءَ فِي الشَّهَادَاتِ وَفِيهِ أَبْوَاب (ص) : (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا أَوْ يُخْبِرَ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْحَقَّ لِحُكْمِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى بَاطِنِهِ وَمُعْتَقَدِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَادَفَ الْحَقَّ فِي يَمِينِهِ هَذِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبُهُ لِمَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّزْكِيَةَ لَهُ وَالْإِطْرَاءَ لَمَّا حَكَمَ لَهُ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ الْيَهُودُ مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِلَابَةِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَأَدَّبَهُ عَلَى مَا بَادَرَ إلَيْهِ مِنْهُ وَظَنَّ أَنَّهُ يَجُورُ عَلَيْهِ لِيَزْجُرَ الْحُكَّامُ مَنْ سَلَكَ مَعَهُمْ هَذَا السَّبِيلَ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ الْيَهُودِيِّ إنَّا نَجِدُ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ إلَّا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ يُسَدِّدَانِهِ وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ فَإِذَا تَرَكَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْيَهُودِيُّ أَنَّهُ يَقْطَعُ بِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ وَأَنَّهُ مِمَّنْ قَدْ شَاهَدَ الْحُكْمَ بِمِثْلِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَنَّهُ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ، فَاسْتَدَلَّ عَلَى اجْتِهَادِ عُمَرَ وَقَصْدِهِ الْحَقَّ بِأَنْ حَكَمَ لَهُ بِمَا يَعْرِفُ هُوَ أَنَّهُ حَقُّهُ وَعَلِمَ ذَلِكَ بِمَا زَعَمَ أَنَّهُ يَجِدُهُ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا قَضَى بِالْحَقِّ يُرِيدُ قَصْدَهُ وَبَيَّنَهُ بِحُكْمِهِ كَانَ مَعَهُ مَلَكَانِ يُسَدِّدَانِهِ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ إنْ زَاغَ عَنْ ذَلِكَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ فَلَا يُوَفَّقُ لِلْحَقِّ فَأَمْسَكَ عَنْهُ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا تَصْدِيقًا لَهُ وَإِمَّا أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مِنْ أَدَبِهِ مَا أَقْنَعَهُ وَمَا قَالَهُ الْيَهُودِيُّ لَا يَبْعُدُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] ، وَقَدْ رَوَى فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثًا لَيْسَ بِذَلِكَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا عُمَرُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ» .
[مَا جَاءَ فِي الشَّهَادَاتِ وَفِيهِ أَبْوَاب]
(ش) : قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَغَيْرِهِ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الشَّاهِدِ شَهَادَةٌ لِرَجُلٍ لَا يَعْلَمُ بِهَا فَيُخْبِرُهُ بِهَا وَيُؤَدِّيهَا لَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَضَرْبٌ هُوَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّينَ، فَأَمَّا مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَعَلَى قِسْمَيْنِ قِسْمٌ لَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ زَادَ أَصْبَغُ وَالسَّرِقَةِ فَهَذَا تَرْكُ الشَّهَادَةِ بِهِ لِلسَّتْرِ جَائِزٌ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهُزَالٍ هَلَّا سَتَرْته بِرِدَائِك» وَلَوْ أَنَّ الْإِمَامَ عَلِمَ بِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ يَكْتُمُوهُ الشَّهَادَةَ وَلَا يَشْهَدُوا بِهَا إلَّا فِي تَجْرِيحِهِ إنْ شَهِدَ عَلَى أَحَدٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا يُسْتَدَامُ فِيهِ التَّحْرِيمُ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْأَحْبَاسِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْهِبَاتِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ إسْقَاطُ حَقِّهِ، وَالْمَسَاجِدُ وَالْقَنَاطِرُ وَالطُّرُقُ فَهَذَا عَلَى الشَّهَادَاتِ يَقُومُ الشَّاهِدُ فِيهَا وَيُؤَدِّيهَا مَتَى رَأَى ارْتِكَابَ الْمَحْظُورِ بِهَا وَلِلشَّاهِدِ فِي ذَلِكَ حَالَانِ حَالٌ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَيُشَارِكُهُ فِيهَا وَحَالٌ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فِيهَا فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ بِهَا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُبَادِرَ بِأَدَائِهَا لِيَحْصُلَ لَهُ أَجْرُ الْقِيَامِ وَلِيَقْوَى أَمْرُهَا لِكَثْرَةِ عَدَدِ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَلِأَنَّ فِي قِيَامِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ بِهَا رَدْعًا لِأَهْلِ الْبَاطِلِ وَإِرْهَابًا عَلَيْهِمْ وَيَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَ هَذَا عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَيْرُ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» وَيَكُونُ مَعْنَى الْإِتْيَانِ بِهَا هُنَا أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ تَرَكَ الْقِيَامَ بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَقُومُ بِهَا غَيْرُهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وَقَوْلِهِ {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِالشَّهَادَةِ مِنْ فُرُوضِ
(5/188)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ لَقَدْ جِئْتُك لِأَمْرٍ مَا لَهُ رَأْسٌ وَلَا ذَنَبٌ فَقَالَ عُمَرُ وَمَا هُوَ فَقَالَ شَهَادَةُ الزُّورِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِنَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ أَوَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ عُمَرُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ فَإِذَا قَامَ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْ سَائِرِ النَّاسِ، وَإِذَا تَرَكَ الْقِيَامَ بِهَا جَمِيعُهُمْ أَثِمُوا كُلُّهُمْ إذَا كَانَ الْحَقُّ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ إسْقَاطُهُ مِثْلُ أَنْ يَرَى مِلْكَ رَجُلٍ يُبَاعُ أَوْ يُوهَبُ أَوْ يُحَوَّلُ عَنْ حَالِهِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي الشَّاهِدِ حِينَ رَأَى ذَلِكَ وَلَمْ يُعْلِمْ بِعِلْمِهِ فِيهِ قَالَ غَيْرُهُ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا لَا يَعْلَمُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ كَالْإِقْرَارِ.
وَقَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَانَ لِلشَّاهِدِ الْقِيَامُ بِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَشْهُودُ لَهُ كَالْحَوَالَةِ وَالطَّلَاقِ، وَأَمَّا الْعُرُوض وَالْحَيَوَانُ وَالرِّبَاعُ فَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ شَهَادَتَهُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إنْ كَانَ حَاضِرًا فَهُوَ أَضَاعَ حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلَيْسَ لِلشَّاهِدِ شَهَادَةٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَهَذَا عِنْدِي إنَّمَا يَكُونُ جُرْحَةً فِي الشَّاهِدِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا كَتَمَهَا وَلَمْ يُعْلِمْ بِهَا بَطَلَ الْحَقُّ فَكَتَمَ ذَلِكَ حَتَّى صُولِحَ عَلَى أَقَلَّ مِمَّا يَجِبُ لَهُ أَوْ حَتَّى نَالَتْهُ بِكِتْمَانِ شَهَادَتِهِ مَعَرَّةٌ وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ فَعَلِمَ ضَرُورَتَهُ إلَى شَهَادَتِهِ وَلَمْ يَقُمْ بِهَا حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ بِكِتْمَانِهِ إيَّاهَا فَهِيَ جُرْحَةٌ فِي شَهَادَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ صَاحِبَ الْحَقِّ قَدْ تَرَكَهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَأْتِي شَهَادَتُهُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ تَأْوِيلِ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ مَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ يَأْتِي بِهَا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ فَيُخْبِرَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَأْتِيهِ لِأَدَائِهَا قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا سُئِلَ أَدَاءَهَا بَادَرَ بِذَلِكَ فَأَسْرَعَ إلَيْهِ وَلَمْ يُحْوَجْ إلَى تَكْرَارِ السُّؤَالِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ يُعْطِيك قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ وَيُجِيبُك قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ سُرْعَةَ عَطَائِهِ وَسُرْعَةَ جَوَابِهِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا الْحَاكِمَ فَيُؤَدِّيَهَا عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ إيَّاهَا؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَسْمَعُهَا مِنْهُ إذَا لَمْ يَقُمْ صَاحِبُ الْحَقِّ بِهَا، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ» .
وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إنَّ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي الْحَدِيثِ الْيَمِينُ يُرِيدُ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ.
(ش) : قَوْلُهُ جِئْتُك بِأَمْرٍ مَا لَهُ رَأْسٌ وَلَا ذَنَبٌ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ وَلَا آخِرٌ هَذَا مِمَّا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُرِيدُونَ بِهِ الْكَثْرَةَ فَيَقُولُ هَذَا جِنْسٌ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَا آخِرَ إذَا أَخْبَرْت عَنْ كَثْرَتِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي يُرِيدُ بِهِ الْأَمْرَ الْمُبْهَمَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ وَلَا يُهْتَدَى لِإِصْلَاحِهِ فَيُقَالُ لَيْسَ لِهَذَا الْأَمْرِ أَوَّلٌ وَلَا آخِرُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُبْهَمٌ لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ يُتَنَاوَلُ مِنْهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْكَثْرَةَ فِي كَثْرَةِ شُهُودِ الزُّورِ، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ عِظَمَ الْفَسَادِ بِهَذَا الْأَمْرِ حَتَّى لَا يُهْتَدَى لِإِصْلَاحِهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ شَهَادَةُ الزُّورِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِنَا يُرِيدُ الشَّهَادَةَ بِالْبَاطِلِ ظَهَرَتْ بِأَرْضِهِمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ وَلَوْ كَانَتْ بِأَرْضِهِمْ قَدِيمًا لَمْ يَصِفْهَا الْآنَ بِالظُّهُورِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَصِفُهَا بِالدَّوَامِ أَوْ بِالْبَقَاءِ وَالتَّزَايُدِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا
(5/189)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ» .
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ عُمَرَ أَوَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمُهُ بِهِ وَلَا عَهْدُهُ بِذَلِكَ الْبَلَدِ قَبْلَ إخْبَارِ هَذَا الْمُخْبِرِ وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي زَمَنِهِ وَرَآهُ وَكَانُوا عُدُولًا بِتَعْدِيلِ اللَّهِ إيَّاهُمْ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وقَوْله تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] الْآيَةَ وَبِهَذَا كَانَ التَّعْدِيلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ إنَّ نَاسًا كَانُوا يَأْخُذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نُؤَاخِذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ لَنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا شَرًّا لَمْ نُؤَمِّنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ حَسَنَةً فَلَمَّا كَانَ هَذَا حُكْمَ الصَّحَابَةِ كَانَ الْأَمْرُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ زَمَنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ صَحَابِيٍّ وَهُمْ عُدُولٌ فَلَمَّا أُخْبِرَ عُمَرُ بِمَا أُحْدِثَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَوَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَظُنُّ الْأَمْرَ عَلَى مَا عَهِدَ فَلَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ قَالَ وَاَللَّهِ لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى شَاهِدٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ فَإِنْ كَانَ لِنِسْيَانٍ وَغَفْلَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَمَنْ كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَلَمْ يُحْكَمْ بِهَا لِفِسْقِهِ، فَأَمَّا مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَمَّدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقِرَّ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ، وَالثَّانِي أَنْ يَرْجِعَ عَنْ شَهَادَتِهِ بَعْدَ أَدَائِهَا، فَأَمَّا إنْ أَقَرَّ بِتَعَمُّدِ شَهَادَةِ الزُّورِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجْلَدُ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَضْرِبُهُ الْقَاضِي قَدْرَ مَا يَرَى، وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ يُكْشَفُ عَنْ ظَهْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يُضْرَبُ ضَرْبًا مُوجِعًا.
(فَرْعٌ) وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُطَافُ بِهِ وَيُشْهَرُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يُطَافُ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْجَمَاعَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يُشْهَرُ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْحِلَقِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي مَجَالِسِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ، وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ يُسْجَنُ، وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ وَلَا أَرَى الْحَلْقَ وَالتَّسْخِيمَ.
(فَرْعٌ) وَهَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ، وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا زَادَ عَنْهُ ابْنُ نَافِعٍ، وَإِنْ تَابَ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَرَوَى عَلِيٌّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ وَأَظُنُّهُ لِمَالِكٍ وَجْهُ رِوَايَةِ أَشْهَبَ وَابْنِ نَافِعٍ أَنَّهُ مِمَّا يُسَرُّ وَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ صَلَاحِ حَالِهِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ هَذَا نَوْعُ فِسْقٍ فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَالْقَذْفِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ بِالصَّلَاحِ وَالدَّءُوبِ فِي الْخَيْرِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأُولَى كَانَتْ حَالَ عَدَالَةٍ فِي الظَّاهِرِ، وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ مَعَهَا مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ عَدَالَةٍ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ تَوْبَةٌ إلَّا بِزِيَادَةِ خَيْرٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ وُجُودِ شَهَادَةِ الزُّورِ مِنْهُ كَالْقَاذِفِ إذَا كَانَ عَدْلًا حِينَ قَذَفَهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ عُمَرَ وَاَللَّهِ لَا يُؤْسَرُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ الْعُدُولِ قِيلَ مَعْنَاهُ لَا يُحْبَسُ، وَالْأَسْرُ الْحَبْسُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ لَا يُمْلَكُ مِلْكَ الْأَسْرِ لِإِقَامَةِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ إلَّا بِالصَّحَابَةِ الَّذِينَ جَمِيعُهُمْ عُدُولٌ أَوْ بِالْعَدْلِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ يَقْتَضِي الْعَدَالَةَ فَكُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ حُكِمَ لَهُ بِالْعَدَالَةِ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُعْرَفَ فِسْقُهُ وَحَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْقَرْنَ الثَّالِثَ آخِرُ الْقُرُونِ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَ الْقَرْنِ الثَّالِثِ فَلَا يَكْفِي فِي عَدَالَتِهِمْ مُجَرَّدُ
(5/190)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْإِسْلَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] .
وَقَالَ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَهَذَا شَرْطُ اعْتِبَارِ الرِّضَى وَالْعَدَالَةِ وَذَلِكَ مَعْنًى يَزِيدُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ عَلَى إظْهَارِهِ، وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَدَالَةَ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ كَانَ الْجَهْلُ بِوُجُودِهَا مِثْلَ الْعِلْمِ بِعَدَمِهَا كَالْإِسْلَامِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ مَا بَلَغَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الْعَدَالَةِ وَأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قَبُولَ شَهَادَةِ مُسْلِمٍ عُلِمَ مِنْهُ فِسْقٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلِلشَّاهِدِ صِفَاتٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَرَّى مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا حُرًّا عَاقِلًا مُسْلِمًا عَدْلًا عَارِفًا بِالشَّهَادَةِ وَصِفَةِ تَحَمُّلِهَا الَّتِي يَجُوزُ مَعَهَا إقَامَتُهَا مُتَحَرِّزًا فِيهَا، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْبُلُوغَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وَهَذِهِ صِفَةُ الْبَالِغِ الْمُكَلَّفِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا إلَيْهِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَخَافُ وَيَتَحَرَّجُ مِنْ الْإِثْمِ فَيَشْهَدُ بِالْحَقِّ وَيَتَوَقَّى الْبَاطِلَ وَالصَّغِيرُ لَا يَأْثَمُ بِشَيْءٍ وَلَا يَخَافُ عُقُوبَةً فَلَا شَيْءَ يَرْدَعُهُ مِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ وَالشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْعَقْلَ؛ لِأَنَّ عَدَمَهُ مَعْنًى يُنَافِي التَّكْلِيفَ كَالصِّغَرِ.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ رَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي ابْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَحْتَلِمْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ يَحْتَلِمَ أَوْ يَبْلُغَ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ تَجُوزُ شَهَادَةُ ابْنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَحْتَلِمْ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَحْتَلِمْ وَلَا بَلَغَ السِّنَّ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ غَالِبًا إلَّا مُحْتَلِمٌ فَأَشْبَهَ ابْنَ عَشَرَةِ أَعْوَامٍ؛ لِأَنَّ الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَدْ يَبْلُغُهَا مَنْ لَا يَحْتَلِمُ وَاحْتَجَّ ابْنُ وَهْبٍ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَغَيْرُهُ فِي غَيْرِ الْعُتْبِيَّةِ إنَّمَا أَجَازَهُ لَمَّا رَآهُ مُطِيقًا لِلْقِتَالِ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ سِنِّهِ وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ لِلْبُلُوغِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْحُرِّيَّةَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ شَهَادَةُ الْعَبْدِ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ نَقْصٌ يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ فَنَافَى الشَّهَادَةَ كَالْكُفْرِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْإِسْلَامَ خِلَافًا لِمَنْ جَوَّزَ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْوَصِيَّةِ حَالَ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانُوا مَجُوسًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَلِقَوْلِهِ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَلَمْ يَخُصَّ سَفَرًا مِنْ حَضَرٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذِهِ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ فَلَمْ تَجُزْ فِيهَا شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ كَحَالِ الْإِمَامَةِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ} [المائدة: 106] {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ - ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} [المائدة: 107 - 108] .
قَالُوا فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ «خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بِدَاءٍ فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ بِيَدٍ لَيْسَ فِيهَا مُسْلِمٌ فَلَمَّا قَدِمَا فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِذَهَبٍ فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ فَقَالُوا ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلَفَا لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] » وَالْجَوَابُ أَنَّ الْآيَةَ لَا تَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْتُمْ.
وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
(5/191)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] يُرِيدُونَ قَبِيلَكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونَانِ شَهِيدَيْنِ وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا مَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ اسْتِحْلَافِهِمَا.
وَجَوَابٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يُنَافِي الشَّهَادَةَ، وَلِذَلِكَ اُسْتُحْلِفُوا وَلَوْ كَانُوا شُهُودًا لَمْ يُسْتَحْلَفُوا؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الشَّاهِدَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ يَمِينٌ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ مَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ مَعْنَى الْآيَةِ أَنْ يَمُوتَ الرَّجُلُ فَيَحْضُرَ مَوْتَهُ مُسْلِمَانِ أَوْ كَافِرَانِ لَا يَحْضُرُهُ غَيْرُهُمَا، فَإِنْ رَضِيَ وَرَثَتُهُ مَا غَابَ عَلَيْهِ مِنْ التَّرِكَةِ فَذَلِكَ وَيَحْلِفُ الشَّاهِدَانِ إنَّهُمَا لَصَادِقَانِ، فَإِنْ غُيِّرَا وَوُجِدَ لَطْخٌ أَوْ لَبْسٌ أَوْ شَبَهٌ حَلَفَ الْأَوْلَيَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ وَاسْتَحَقَّا وَأَبْطَلَا أَيْمَانَ الشَّاهِدَيْنِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْحَالِفُ شَاهِدًا وَيَقُولُ الْحَالِفُ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ يَعْنِي عَلَى الْيَمِينِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
1 -
(فَرْعٌ) وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى ذِمِّيٍّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَالْعَدَالَةُ تُنَافِي الْكُفْرَ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَى مُسْلِمٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَى كَافِرٍ كَالْمَجُوسِيِّ وَالْحَرْبِيِّ.
(مَسْأَلَةٌ) وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الشَّهَادَةِ الْعَدَالَةُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتُ التَّحَمُّلِ فَلَوْ تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ صَغِيرٌ عَبْدٌ كَافِرٌ ثُمَّ أَدَّاهَا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ وَبَلَغَ وَأُعْتِقَ وَكَمُلَتْ لَهُ صِفَاتُ الشَّهَادَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ تَحَمَّلَهَا فِي حَالِ عَدَالَةٍ ثُمَّ أَدَّاهَا فِي حَالِ فِسْقٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَشْهَدُوا عَلَى شَهَادَتِهِ فِي حَالِ فِسْقِهِ ثُمَّ أَدَّاهَا مَنْ عَلِمَهَا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ الْعَدَالَةَ لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِصِفَاتِهِمْ وَقْتَ إشْهَادِهِ عَلَى شَهَادَتِهِ قَالَ ذَلِكَ سَحْنُونٌ قَالَ وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
(فَرْعٌ) وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ بِهَا عِنْدَ الْحُكْمِ فَرَدَّهَا لِمَعْنًى مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي ثُمَّ زَالَ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهَا لَهُمَا، وَلَوْ أَدَّيَاهَا لَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِهَا، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ إنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِصِغَرٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ قُبِلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ رُدَّتْ لِفِسْقٍ أَوْ تُهْمَةٍ لَمْ تُقْبَلْ بَعْدَ ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ لِزَوْجَتِهِ بِشَهَادَةٍ فَتُرَدُّ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَهَا فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِمَعْنًى فِيهِ أَوْجَبَ رَدَّهَا فَلَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ فِيهَا، وَإِنْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَالْفِسْقِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنَّمَا شَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ لِتَحَمُّلِهَا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ الْغَلَطُ فِيهَا وَتَرْكُ مَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّزًا فِيهَا؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّزًا لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ التَّخَيُّلُ مِنْ أَهْلِ التَّخْيِيلِ فَيَشْهَدُ بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَعْلَمْ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مُوَلًّى عَلَيْهِ؟ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ تَجُوزُ إنْ كَانَ عَدْلًا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَوْ طَلَبَ مَالَهُ أَخَذَهُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ قَالَ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْبِكْرِ فِي الْمَالِ حَتَّى تُعَنِّسَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَوْلَى وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ لِقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِحِفْظِ الْمَالِ وَتَثْمِيرِهِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِ مَعَ الْعَدَالَةِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ أَنْ يَعْرِفَ التَّحَرُّزَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّحَرُّزِ فِي حِفْظِ مَالِهِ وَلَا يَوْثُقُ بِهِ فِي ذَلِكَ فَبِأَنْ لَا يَوْثُقُ بِهِ فِي أَدَاءِ شَهَادَتِهِ أَوْلَى.
(فَصْلٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالشُّهُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ: أَقْسَامٍ قِسْمٌ يَعْرِفُ الْحَاكِمُ عَدَالَتَهُ وَقِسْمٌ يَعْرِفُ فِسْقَهُ وَقِسْمٌ يَجْهَلُ أَمْرَهُ، فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَنْ يَعْرِفُ عَدَالَتَهُ فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَدْفَعٌ فِيهَا قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَذَلِكَ مِثْلُ الرَّجُلِ الْمَشْهُورِ بِالْعَدَالَةِ، وَعِنْدَ
(5/192)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْحَاكِمِ مَنْ مَعْرِفَتُهُ مِثْلُ مَا عِنْدَ مَنْ يُعَدِّلُهُ فَهَذَا الَّذِي عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَهُ، وَرَوَى يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إذَا كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ الرَّجُلَ وَكَانَ يُزَكِّيهِ عِنْدَ غَيْرِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَاضِيًا فَهَذَا الَّذِي يَسَعُهُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ، وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ مَنْ يَعْرِفُ فِسْقَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَتِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْرِفَ الْحَاكِمُ فِسْقَهُ وَالثَّانِي أَنْ يُجْرَحَ عِنْدَهُ بِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ مَحْظُورًا كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْعَمَلِ بِالرِّبَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقُرَّاءِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إلَّا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّهُمْ يَتَحَاسَدُونَ كَالضَّرَائِرِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْقُرَّاءِ بِالْأَلْحَانِ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا تَجُوزَ، وَالْبَخِيلُ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الَّذِي لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ فَمَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّ شَهَادَةَ الْبَخِيلِ مَرْدُودَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَرْضِيَّ الْحَالِ يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ سَاقِطُ الْمُرُوءَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ.
وَكَذَلِكَ تُرَدُّ شَهَادَةُ مَنْ يَتْرُكُ وَاجِبًا كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ الْمَشْرُوعُ لَهَا، وَأَمَّا تَرْكُ الْجُمُعَةِ فَجُرْحَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَاخْتُلِفَ فِي تَرْكِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَالَ أَصْبَغُ هِيَ جُرْحَةٌ كَالصَّلَاةِ مِنْ الْفَرِيضَةِ فَتَرْكُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَيُؤَخِّرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَهَذَا ظَاهِرُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا يَكُونُ جُرْحَةً حَتَّى يَتْرُكَهَا ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَةً وَمِثْلُهُ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا مَا كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَمَّا مَا كَانَ عَلَى التَّرَاخِي فَإِنَّهَا لَا تُبْطِلُ شَهَادَتَهُ حَتَّى يَتْرُكَ ذَلِكَ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ تَهَاوُنُهُ بِهَا مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهَا قَالَ سَحْنُونٌ فَمَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ مُتَّصِلَ الْوَفْرِ قَدْ بَلَغَ عِشْرِينَ سَنَةً إلَى أَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَلَا شَهَادَةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ يُرِيدُ إذَا تَرَكَ الْحَجَّ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا تَرْكُ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ بِمَا كَانَ مِنْهُ يَتَكَرَّرُ وَيَتَأَكَّدُ كَالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَمَا قَدْ وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَإِنْ أَخَلَّ أَحَدٌ بِفِعْلِهِ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ عَدَالَتُهُ، وَأَمَّا مَنْ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَفْعَلَ أَوْ تَرَكَهُ جُمْلَةً فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ شَهَادَتَهُ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور: 22] وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٌ أَصْوَاتُهُمَا فَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يَقُولُ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَيْنَ الْمُتَأَلِّي أَنْ لَا يَفْعَلَ الْمَعْرُوفَ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ» .
فَوَجْهُ الدَّلِيلِ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْكَرَ عَلَيْهِ يَمِينَهُ بِذَلِكَ إنْكَارًا اقْتَضَى إقْلَاعَهُ عَنْهُ وَتَوْبَتَهُ مِنْهُ فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَجَبَ رَدُّ شَهَادَتِهِ، وَأَمَّا الَّذِي قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَخْبَرَهُ بِالْفَرَائِضِ وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى أَنْ لَا يَأْتِيَ بِنَافِلَةٍ وَلَا يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ وَلَكِنَّهُ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ عِنْدَمَا أَخْبَرَهُ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وُجُوبِهِ، وَإِنْ أَجَازَ أَنْ يَفْعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى وَجْهِ النَّفْلِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ زِيَادَةً تُفْسِدُهُ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ فَيُصَلِّيهَا خَمْسًا وَلَا يُنْقِصُ مِنْهَا فَيُصَلِّيهَا ثَلَاثًا، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا وَيُنْقِصَ مِنْهَا مَا لَا يُخِلُّ بِصِحَّتِهَا.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا مَنْ جَهِلَ الْحَاكِمُ أَمْرَهُ فَلَا يَعْرِفُهُ بِعَدَالَةٍ وَلَا فِسْقٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَتَنَاوَلَ شَهَادَةَ مَا يُعْدَمُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ فِيهِ فِي الْأَغْلَبِ أَوْ مَا لَا يُعْدَمُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأَمَّا مَا يُعْدِمُ ذَلِكَ فِيهِ غَالِبًا مِثْلُ شَهَادَةِ أَهْلِ الرُّفْقَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا يَخْتَصُّ بِمُعَامَلَاتِ السَّفَرِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ كِرَاءٍ أَوْ قَضَاءٍ وَمَا
(5/193)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، فَأَمَّا بَيْعُ الْعَقَارِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِبَيْعِهَا فِي السَّفَرِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا إلَّا الْعُدُولُ وَكَذَلِكَ مَا شَهِدَ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا يُوجِبُ الْحَدَّ أَوْ الضَّرْبَ كَالسَّرِقَةِ وَالتَّلَصُّصِ وَالزِّنَا وَالْغَصْبِ الْمُوجِبِ لِلضَّرْبِ فَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَهْلُ الْعَدَالَةِ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَةُ التَّوَسُّمِ فِي الْأَمْوَالِ لِصَلَاحِ السَّفَرِ وَاتِّصَالِ السُّبُلِ، وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82] ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى مَا تَدْعُو إلَيْهِ الضَّرُورَةُ فِي السَّفَرِ مِنْ قَبُولِ أَهْلِ الرُّفْقَةِ وَمَنْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا غَيْرُهُمْ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنَّمَا يُقْبَلُونَ عَلَى التَّوَسُّمِ وَذَلِكَ أَنْ يَتَوَسَّمَ فِيهِمْ الْحَاكِمُ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ زَادَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْمُرُوءَةَ وَالْعَدَالَةَ وَلَا يُمَكَّنُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ تَجْرِيحِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ اجْتَرَأَ عَلَى غَيْرِ الْعَدَالَةِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ تَجْرِيحِهِ كَالصِّبْيَانِ، وَإِنْ ارْتَابَ السُّلْطَانُ رِيبَةً قَبْلَ الْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الرِّيبَةِ قَطْعَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ جَلْدَ ظَهْرٍ فَلْيَتَوَقَّفْ وَيَتَثَبَّتْ فِي تَوَسُّمِهِ فَإِنْ ظَهْرَ لَهُ نَفْيُ تِلْكَ الرِّيبَةِ وَإِلَّا أَسْقَطَهُمْ، وَلَوْ شَهِدَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ عَدَدٌ لَا تَوَسُّمَ إنَّ الَّذِينَ قُبِلُوا بِالتَّوَسُّمِ عَبِيدٌ أَوْ مَسْخُوطُونَ وَذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ فَإِنَّ السُّلْطَانَ يَتَثَبَّتُ فِيهِمْ وَيَكْشِفُ عَنْهُمْ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ بَعْضُ مَا قِيلَ أَمْسَكَ عَنْ إمْضَاءِ شَهَادَتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ حَكَمَ بِهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ فَلَا تَرَدُّدَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَدْلَانِ أَنَّهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا عَلَى صِفَةٍ تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ.
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْمُزَكِّينَ] 1
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إذَا تَنَاوَلَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ مَا لَا يُعْدَمُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ فِيهِ غَالِبًا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا إلَّا بَعْدَ التَّزْكِيَةِ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ لَيْسَ تَعْدِيلُ الشُّهَدَاءِ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ سُمِّيَ لَهُ ذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُسَمَّ وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْمُزَكِّينَ وَالْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْمُزَكَّى وَالْبَابُ الثَّالِثُ فِي مَعْنَى الْعَدَالَةِ وَمَا يَلْزَمُ الْمُزَكَّى مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَالْبَابُ الرَّابِعُ فِي لَفْظِ التَّزْكِيَةِ وَالْبَابُ الْخَامِسُ فِي تَكْرَارِ التَّعْدِيلِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ.
(الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْمُزَكِّينَ) وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ تَزْكِيَةٌ عَلَانِيَةٌ وَتَزْكِيَةٌ سِرِّيَّةٌ، فَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا يُجْزِئُ فِي التَّزْكِيَةِ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَهَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَا فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يَعْدِلُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يَجُوزُ فِي تَعْدِيلِهِمْ مَا يَجُوزُ فِي تَعْدِيلِ غَيْرِهِمْ اثْنَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ أَرْبَعَةٌ لِجَمِيعِهِمْ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْحَاكِمِ رَجُلٌ عَرَفَ دِينَهُ وَفَضْلَهُ وَمَيَّزَهُ وَتَحَرُّزَهُ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ سِوَى الْحَاكِمِ فَيَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَيَكْتَتِمُ بِذَلِكَ، فَإِذَا كَلَّفَهُ الْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّفَ لَهُ حَالَ شَاهِدٍ تَسَبَّبَ إلَى ذَلِكَ بِالْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ ثُمَّ يُعْلِمُ الْحَاكِمَ بِمَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ تَزْكِيَةُ السِّرِّ.
(فَرْعٌ) وَكَمْ عَدَدُ الْمُزَكِّينَ فِي السِّرِّ فِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ يَكْفِي فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ الْعَدْلُ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا أُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ فِي السِّرِّ أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا يُقْبَلُ فِي السِّرِّ إلَّا اثْنَانِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْحَاكِمِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ انْفِرَادَهُ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهَا شَهَادَةٌ فِي تَعْدِيلٍ كَتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْأَفْضَلُ فِي التَّعْدِيلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِتَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ دُونَ تَعْدِيلِ السِّرِّ، وَقَدْ يُجْزِي تَعْدِيلُ السِّرِّ عَنْ تَعْدِيلِ
(5/194)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْعَلَانِيَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَعْدِيلَ السِّرِّ لَا يَجْتَزِي فِي ذَلِكَ السَّائِلُ إلَّا بِالْخَبَرِ الْفَاشِي الْمُتَكَرِّرِ الْمُتَحَقِّقِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ لِلْمُسْتَخْبِرِ، وَلِذَلِكَ لَا يُعْذَرُ فِيهِ إلَى أَحَدٍ، وَأَمَّا تَعْدِيلُ الْعَلَانِيَةِ فَيُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَاهِدَانِ فَلَا يَقْوَى قُوَّةَ مَا يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ، وَلِذَلِكَ يُعْذَرُ فِيهِ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى لِيَسْتَوِيَ فِي تَعْدِيلِهِ السِّرُّ وَالْجَهْرُ، وَإِنْ اقْتَصَرَ فِي الرَّجُلِ الْمَشْهُورِ الْفَضْلِ بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْغَضَاضَةِ بِمُطَالَبَتِهِ بِالتَّزْكِيَةِ وَالتَّوَقُّفِ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ حَتَّى يُزَكَّى فَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ حَالَتُهُ بِالسُّؤَالِ فِي السِّرِّ عَنْ أَمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَنْهُ إلَّا الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ اُضْطُرَّ فِي أَمْرِهِ إلَى تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ وَاجْتُزِئَ بِهَا فِي الَّذِي لَمْ تُشْتَهَرْ عَيْنُهُ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يُزَكَّى فِي السِّرِّ أَوْ الْعَلَانِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْمُزَكَّى]
(الْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْمُزَكَّى) رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغَ لَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ الرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا حَتَّى يُعْرَفَ وَجْهُ التَّعْدِيلِ وَرَوَاهُ مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِهِ عَنْهُ لَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الْأَبْلَهِ مِنْ النَّاسِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ وَلَا يَجُوزُ فِي التَّعْدِيلِ إلَّا الْمُبَرَّزُ النَّافِذُ الْفَطِنُ الَّذِي لَا يُخْدَعُ فِي عَقْلِهِ وَلَا يُسْتَزَلُّ فِي رَأْيِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ النَّاسِ وَمَعْرِفَةَ الْجَائِزِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا يَخْفَى وَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا آحَادُ النَّاسِ وَأَهْلُ الْمَيْزِ وَالْحِذْقِ مِنْهُمْ، وَأَمَّا دَفْعُ عَقْدٍ إلَى شَاهِدٍ يَشْهَدُ فِيهِ بِمَا يُشْهِدُهُ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَذَلِكَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ يَبْعُدُ مِنْ الْخَطَأِ وَالْمُخَادَعَةِ لِمَنْ لَهُ أَقَلُّ مَعْرِفَةٍ وَأَيْسَرُ جُزْءٍ مِنْ التَّحَرُّزِ.
(فَرْعٌ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُعَدَّلَانِ غَيْرَ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَيُزَكَّيَانِ عِنْدَهُ إذَا كَانَ شَاهِدُ الْأَصْلِ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا جَازَ ذَلِكَ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَكُونُ مَجْهُولَ الْحَالِ فِي الْبَلَدِ فَلَا يَعْرِفُ عَدَالَتَهُ إلَّا مَنْ يَعْرِفُ الْحُكْمَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يُعْرَفَ بِهِ، وَأَمَّا الْمُسَاكِنُ بِالْبَلَدِ فَحَالُهُ فِي الْأَغْلَبِ مَعْلُومَةٌ كَحَالِ الْمُزَكَّى لَهُ فَلَا يُقْبَلُ فِي تَزْكِيَتِهِ إلَّا أَهْلُ الْعَدَالَةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا قَبْلَ هَذَا.
[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي مَعْنَى الْعَدَالَةِ وَمَا يَلْزَمُ الْمُزَكَّى مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ] 1
مَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْحَاكِمُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَطْلُبُ فِيهِ التَّزْكِيَةَ قَالَ سَحْنُونٌ يُزَكِّيهِ عِنْدَهُ مَنْ يَعْرِفُ بَاطِنَهُ كَمَا يَعْرِفُ ظَاهِرَهُ، مَنْ صَحِبَهُ الصُّحْبَةَ الطَّوِيلَةَ وَعَامَلَهُ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ قَالَ مَالِكٌ كَانَ يُقَالُ لِمَنْ مَدَحَ رَجُلًا أَصَحِبْته فِي سَفَرٍ أَخَالَطْته فِي مَالٍ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَصْحَبُ الرَّجُلَ شَهْرًا فَلَا يَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْرًا لَا يُزَكِّيهِ بِهَذَا وَهُوَ كَبَعْضِ مَنْ يُجَالِسُك وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِبَارٍ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الشَّاهِدِ لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي بِعَدَالَةٍ وَلَا فَسَادٍ إلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ يَحْضُرُ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ قَالَ سَحْنُونٌ يَعْرِفُهُ بِظَاهِرٍ جَمِيلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسَاجِدِ وَالْجِهَادِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَيَطْلُبُ فِيهِ التَّزْكِيَةَ قَالَ سَحْنُونٌ لَا يُزَكِّيهِ بِذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ تَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يَعْرِفَ الْمُزَكَّى مِنْ حَالِ الشَّاهِدِ مَا ذَكَرْنَاهُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ سَحْنُونٍ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَارِفَ بَعْضَ الذَّنْبِ كَالْأَمْرِ الْخَفِيفِ مِنْ الزَّلَّةِ وَالْفَلْتَةِ فَمِثْلُ هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ عَدَالَتِهِ قَالَ مَالِكٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا تُذْكَرُ عُيُوبُهُمْ يَكُونُ عَيْبُهُ خَفِيفًا وَالْأَمْرُ كُلُّهُ حَسَنٌ وَلَا يُعْصَمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ اللَّاعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ إلَّا مِمَّنْ لَا يُقَارِفُ شَيْئًا مِنْ الْعُيُوبِ مَا قُبِلَتْ لِأَحَدٍ شَهَادَةٌ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيُزَكَّى الشَّاهِدُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْ الْقَاضِي قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَشْهُورُ الْعَيْنِ وَالِاسْمِ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْمُزَكَّى مَعْرُوفُ الْعَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
(5/195)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
كَذَلِكَ فَلَا يُزَكَّى إلَّا عَيْنُهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ يَصِحُّ أَنْ يُزَكِّيَ الْمُزَكِّي رَجُلًا لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ.
وَقَالَهُ ابْنُ كِنَانَةَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ زَكَّاهُ عَلَى عَيْنِهِ وَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يَقِلُّ وَيَنْدُرُ إذَا كَانَ لَا يَصِحُّ تَزْكِيَتُهُ لَهُ إلَّا بَعْدَ الْمُدَاخَلَةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَالْمُعَامَلَةِ الطَّوِيلَةِ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِكُنْيَةٍ كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبَّاسٍ أَوْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ لَقَبٌ قَدْ رَضِيَهُ كَأَشْهَبَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاسْمُهُ مِسْكِينٌ وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَمْرٍو وَأَشْهَبُ لَقَبٌ، وَكَذَلِكَ سَحْنُونٌ اسْمُهُ عَبْدُ السَّلَامِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو سَعِيدٍ وَسَحْنُونٌ لَقَبٌ فَمِثْلُ هَذَا يُمْكِنُ فِيهِ مَا قَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ إنَّ الْجَهْلَ بِاسْمِهِ يُؤَثِّرُ فِي تَزْكِيَتِهِ، وَإِنَّمَا يَقِلُّ مَعَ مَا شُرِطَ مِنْ سَبَبِ مَعْرِفَتِهِ.
[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي لَفْظِ التَّزْكِيَةِ وَحُكْمِهَا]
(الْبَابُ الرَّابِعُ فِي لَفْظِ التَّزْكِيَةِ وَحُكْمِهَا) قَدْ قَالَ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ فِي الْمُزَكَّى يَقُولُ لَا أَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا قَالَ مَالِكٌ وَيَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ وَلَا يَعْلَمُ مِنْهُ إلَّا خَيْرًا وَلَا يَجُوزُ هَذَا قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَقُولَ هُوَ صَالِحٌ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ يُجْزِئُهُ فِي ذَلِكَ لَفْظُ الْعَدْلِ وَالرِّضَى.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ كُلُّ لَفْظٍ كُنِّيَ بِهِ عَنْ الْعَدْلِ وَالرِّضَى فَإِنَّهُ يُجْزِئُ، وَإِنَّمَا اُخْتِيرَ لَفْظُ الْعَدْلِ وَالرِّضَى لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٌ {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مِنْ الْعَدْلِ وَالرِّضَى حَتَّى يَجْمَعَهُمَا.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَعْنَى الْعَدَالَةِ وَأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَفْظُ الْعَدَالَةِ وَالرِّضَى فَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَقُولَ أَرَاهُ عَدْلًا رِضًى وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ وَأَعْلَمُهُ عَدْلًا رِضًى جَائِزَ الشَّهَادَةِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إذَا قَالَ لَا أَعْلَمُهُ إلَّا عَدْلًا رِضًى قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى يَقُولَ إنَّهُ عَدْلٌ رِضًى وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ التَّعْدِيلَ إخْبَارٌ عَمَّا يُعْتَقَدُ فِيهِ مِنْ الصِّدْقِ لِمَا ظَهَرَ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمَرْضِيَّةِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقْطَعَ عَلَى مَغِيبِهِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ التَّزْكِيَةُ وَأَنَّ الرِّضَى وَالْعَدَالَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا ظَهَرَ إلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِهِ وَذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ.
[الْبَابُ الْخَامِسُ فِي تَكْرِيرِ التَّعْدِيلِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ] 1
(الْبَابُ الْخَامِسُ فِي تَكْرِيرِ التَّعْدِيلِ وَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ) قَدْ رَوَى فِي الْمَجْمُوعَةِ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ يَشْهَدُ فَيُزَكَّى ثُمَّ يَشْهَدُ ثَانِيَةً قَالَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالتَّزْكِيَةِ الْأُولَى وَلَيْسَ النَّاسُ كُلُّهُمْ سَوَاءً مِنْهُمْ الْمَشْهُورُونَ بِالْعَدَالَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْمِصُ مِنْهُ النَّاسُ قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ أَمَّا الَّذِي لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فَإِنَّهُ يُؤْتَنَفُ فِيهِ تَعْدِيلٌ ثَانٍ، وَأَمَّا الْمَشْهُورُ بِالْعَدَالَةِ فَالتَّعْدِيلُ الْأَوَّلُ يُجْزِئُ فِيهِ حَتَّى يُجْرَحَ بِأَمْرَيْنِ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ لَيْسَ عَلَيْهِ ائْتِنَافُ تَعْدِيلٍ إلَّا أَنْ يَغْمِزَ فِيهِ بِشَيْءٍ أَوْ يَرْتَابَ مِنْهُ وَلَا يَزِيدُهُ طُولُ ذَلِكَ إلَّا خَيْرًا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورِ الْعَيْنِ وَلَا مَشْهُورِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَحْوَالٌ خَفِيَتْ عَنْ الْمُعَدِّلِينَ وَرُبَّمَا يَتَعَذَّرُ تَجْرِيحُهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِخَفَاءِ عَيْنِهِ وَقِلَّةِ الْعِلْمِ بِهِ فَيُؤْتَنَفُ فِيهِ التَّعْدِيلُ لِيُحَقَّقَ أَمْرُهُ وَيُسْتَبْرَأَ حَالُهُ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بِتَعْدِيلِهِ بَاقٍ لَا يَنْقُضُهُ التَّجْرِيحُ وَالِارْتِيَابُ فَلَا يَلْزَمُ تَجْدِيدُ حُكْمٍ آخَرَ فِيهِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يُؤْتَنَفُ فِيهِ التَّعْدِيلُ فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ إنْ شَهِدَ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ زَمَانِ الْخَمْسِ سِنِينَ وَنَحْوِهَا فَلْيُسْأَلْ عَنْهُ الْمُعَدِّلُ الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ عُدِّلَ مَرَّةً أُخْرَى وَإِلَّا لَمْ يَفْعَلْ.
وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ إنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ قَرِيبَةً مِنْ الْأَشْهُرِ وَشِبْهِهَا وَلَمْ يَطُلْ جِدًّا لَمْ يُكَلَّفْ تَزْكِيَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَ فَلْيَكْشِفْ عَنْهُ ثَانِيَةً طَلَبَ ذَلِكَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ
(5/196)
(ص) : (مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَالسَّنَةُ كَثِيرٌ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ الَّذِي يُكَلَّفُ تَعْدِيلَهُ؟ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَسْأَلُهُ مَنْ يُعَدِّلُهُ فَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ بِذَلِكَ فَلَا يَقْبَلُهُ قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا يَطْلُبُ التَّزْكِيَةَ مِنْ الشَّاهِدِ وَذَلِكَ عَلَى الْخَصْمِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُجِيزَ الْحُكْمَ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ وَمَنْ يُعَدِّلُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي فَإِذَا قُلْنَا بِذَلِكَ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُكَلِّفُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ يُزَكِّيهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ فَإِنْ زَكَّاهُ وَإِلَّا رَدَّ شَهَادَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَالَتَهُ لَمْ يَرْضَهُ.
(ش) : قَوْلُهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَجْمُوعَةِ الْخَصْمُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرَّجُلُ يُخَاصِمُ الرَّجُلَ فِي الْأَمْرِ الْجَسِيمِ مِثْلُهُ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْحِقْدَ فَمِثْلُ هَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى خَصْمِهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ وَفِي غَيْرِهِ، وَإِنْ خَاصَمَهُ فِيمَا لَا خَطْبَ لَهُ كَثَوْبٍ قَلِيلِ الثَّمَنِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُوجِبُ عَدَاوَةً فَإِنَّ شَهَادَتَهُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَا يُخَاصِمُهُ فِيهِ جَائِزَةٌ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْخَصْمُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْوَكِيلُ، وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَالْوَجْهَانِ عِنْدِي مُحْتَمَلَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَدُوَّ الْمُخَاصِمَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْوَكِيلَ عَلَى خُصُومَتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى مَا يُخَاصِمُ فِيهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَامَ بِهِ أَحَدٌ يَطْلُبُهُ وَيُخَاصِمُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّ شَهَادَتَهُ جَائِزَةٌ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ النَّاسَ قَدْ جُبِلُوا عَلَى أَنَّ مَنْ خَاصَمَ فِي شَيْءٍ أَنَّ لَهُ إتْمَامَهُ وَالنَّفَاذَ فِيهِ فَلَا يُؤْمَنُ عَلَى هَذَا الْمُخَاصِمِ أَنْ يَزِيدَ فِي شَهَادَتِهِ مَا يَنْفُذُ بِهِ فِيمَا يُحَاوِلُهُ، وَوَجْهُ قَوْلِ مُطَرِّفٍ أَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُتَّهَمُ أَحَدٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ الْقِيَامُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ قَائِمٍ بِهِ لَمَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ وَالْقَائِمُ بِهِ لَا يَجُرُّ بِهِ مَنْفَعَةً إلَى نَفْسِهِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ خُصُومَتَهُمَا مُعْتَبَرَةٌ بِالتُّهْمَةِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَإِنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ ثُمَّ حَدَثَتْ الْخُصُومَةُ قَبْلَ الْحُكْمِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ فَالصَّوَابُ عِنْدِي الْحُكْمُ بِهَا، وَإِنْ تَحَمَّلَهَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ ثُمَّ حَدَثَتْ الْخُصُومَةُ فَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ بِهَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ ثُمَّ أَدَّاهَا بَعْدَ الْخُصُومَةِ فَهِيَ جَائِزَةٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهَا وَأَدَّاهَا فِي حَالِ الْخُصُومَةِ أَوْ بَعْدَهَا بِالْقُرْبِ مِنْهَا فَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا مُدَّةٌ لَا تَلْحَقُ فِي مِثْلِهَا التُّهْمَةُ جَازَتْ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الْعَدَاوَةِ ثُمَّ حَدَثَتْ الْعَدَاوَةُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ إنَّ الشَّهَادَةَ مَاضِيَةٌ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا.
(فَرْعٌ) وَقَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ يُرِيدُ لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا، وَأَمَّا تَحَمُّلُهَا فَمُعْتَبَرٌ بِوَقْتِ أَدَائِهَا.
[لِلشَّهَادَةِ حَالَانِ]
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ] 1
وَلِلشَّهَادَةِ حَالَانِ: حَالُ تَحَمُّلٍ وَحَالُ أَدَاءً وَإِنِّي أُفْرِدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَابًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ) أَمَّا تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: تَحَمُّلُ نَقْلِهَا مِنْ الْأَصْلِ، وَالثَّانِي تَحَمُّلُ نَقْلِهَا عَنْ الشُّهُودِ، وَالثَّالِثُ تَحَمُّلُ نَقْلِ حُكْمِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَأَمَّا تَحَمُّلُ نَقْلِهَا مِنْ الْأَصْلِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْمَعَ لَفْظَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالشَّهَادَةِ لَهُ أَوْ إقْرَارَهُ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَا تَقَيَّدَ فِي كِتَابٍ، فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ مَا يَشْهَدُ بِهِ فَهُوَ إذَا وَعَاهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَقُمْ بِالشَّهَادَةِ غَيْرُهُ وَتَجُوزُ عَلَى هَذَا شَهَادَةُ الْأَعْمَى خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ لَا تَجُوزُ مَا تَحَمَّلَ حَالَ الْعَمَى وَلِلشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي يَدَيْهِ إلَى أَنْ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ مَعْرِفَةُ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ لَهُ جَازَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ
(5/197)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بَيْنَهُمَا مَعَ الْعَدَالَةِ كَالْمُبْصِرِ وَالْأَعْمَى يَعْرِفُ ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ الصَّوْتِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا احْتَجَّ بِهِ سَحْنُونٌ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ بِمَعْرِفَةِ صَوْتِهَا وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى حَقِّهِ بِمَعْرِفَةِ صَوْتِ مُبَايِعِهِ وَالْمُقْتَرِضِ مِنْهُ قَالَ الْمُغِيرَةُ وَابْنُ نَافِعٍ وَسَحْنُونٌ سَوَاءٌ وُلِدَ أَعْمَى أَوْ عَمِيَ بَعْدَ ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعِ جَمِيعَ مَا شَهِدَ بِهِ فَإِنْ كَانَ نَسِيَ مِنْهُ مَا لَا يُخِلُّ بِمَا حَفِظَ فَلْيَشْهَدْ بِمَا حَفِظَ وَتَيَقَّنَهُ دُونَ مَا يَشُكُّ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ نَسِيَ مَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا لِمَا حَفِظَ وَمُغَيِّرًا لِحُكْمِهِ فَلَا يَشْهَدُ بِهِ وَهَذَا حُكْمُ الْإِقْرَارِ فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلًا يُحَدِّثُ غَيْرَهُ بِمَا فِيهِ إقْرَارٌ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَمُرُّ بِالرَّجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ وَلَمْ يُشْهِدَاهُ فَيَدْعُوهُ أَحَدُهُمَا إلَى الشَّهَادَةِ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إلَّا أَنْ يَسْتَوْعِبَ كَلَامَهُمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَذَلِكَ عِنْدِي عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لِمَالِكٍ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَخَافَةَ الِاسْتِغْفَالِ وَالتَّحَيُّلِ عَلَى الْمُقِرِّ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ إذَا اسْتَوْعَبَ الْكَلَامَ وَلَمْ يَفُتْهُ مَا يَخَافُ أَنْ يُخِلَّ بِالْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ مَالِكٍ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ لَا يَشْهَدُ، وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ مَا يُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ وَلَمْ يَشْهَدْ السَّامِعُ لَا يَشْهَدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَاذِفًا.
وَقَالَ أَشْهَبُ هَذِهِ رِوَايَةٌ فِيهَا وَهْمٌ وَلْيَشْهَدْ بِمَا سَمِعَ مِنْ إقْرَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُقِرُّ فَلْيُعْلِمْهُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَقْوَالُ أَصْحَابِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى وَيَرْجِعُ إلَيْهِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي شَهَادَةِ الْمُخْتَفِي عَلَى الْإِقْرَارِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مِمَّنْ يَخَافُ أَنْ يُخْدَعَ أَوْ يُسْتَضْعَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ وَيَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَقَرَّ إلَّا لِمَا يُذْكَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْخَلْوَةِ يُقِرُّ وَيَجْحَدُ عِنْدَ الْبَيِّنَةِ فَعَسَى أَنْ يَلْزَمَهُ ذَلِكَ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ أَرَى ذَلِكَ ثَابِتًا وَسُئِلَ سَحْنُونٌ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ الشَّعْبِيَّ وَشُرَيْحًا كَانَا لَا يُجِيزَانِ ذَلِكَ فَظَاهِرُ مَا جَاوَبَ بِهِ مِنْ الرِّوَايَةِ الْأَخْذُ بِهَا فِي الْمَنْعِ وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الرَّجُلَيْنِ يَتَحَاسَبَانِ بِحَضْرَةِ رَجُلَيْنِ وَيَشْتَرِطَانِ عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يَشْهَدَا بِمَا يُقِرَّانِ بِهِ فَيُقِرُّ أَحَدُهُمَا فَيَطْلُبُهُمَا الْآخَرُ بِالشَّهَادَةِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ يَمْتَنِعَانِ مِنْ الشَّهَادَةِ وَلَا يُعَجِّلَا فَإِنْ اصْطَلَحَ الْمُتَدَاعِيَانِ وَإِلَّا فَلْيُؤَدِّيَا الشَّهَادَةَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ نَافِعٍ لَا أَرَى بِامْتِنَاعِهِمَا مِنْ الشَّهَادَةِ بَيْنَهُمَا بَأْسًا.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْحَاكِمِ بِمَا سَمِعَ مِنْ الْخُصُومِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ مَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ اثْنَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا سَأَلَ الْمُسْتَفْتِي فَقِيهًا عَنْ أَمْرٍ يُنَوَّى فِيهِ، وَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ أَسَرَّ بِهِ بَيِّنَةً لَمْ يُنَوَّ وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ فَأَتَتْهُ الزَّوْجَةُ تَسْأَلُهُ عَنْ الشَّهَادَةِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ زَادَ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَلَوْ شَهِدَ لَمْ يَنْفَعْهَا؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى غَيْرِ الْإِشْهَادِ وَمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ حَدٍّ مِمَّا لَا رُجُوعَ لَهُ عَنْهُ ثُمَّ أَنْكَرَ فَلْيَشْهَدْ بِهِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْفَقِيهِ بِمَا يُسْأَلُ عَنْهُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا إذَا شَهِدَ عَلَى مَا تَقَيَّدَ فِي كِتَابٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَخْتُومٍ أَوْ مَخْتُومًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَخْتُومٍ فَعِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ مَا تَقَيَّدَتْ بِهِ الشَّهَادَةُ فِي آخِرِ الْعَقْدِ إنْ كَانَ يَقْرَأُ أَوْ يُقْرَأُ لَهُ إنْ كَانَ أُمِّيًّا أَوْ أَعْمَى لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ مُوَافَقَةَ تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ لِمَا شَهِدَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا فَفِي الْمَعُونَةِ لِلْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيمَنْ دَفَعَ إلَى شُهُودٍ كِتَابًا مَطْوِيًّا، وَقَالَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ هَلْ يَصِحُّ تَحَمُّلُهُمْ لِلشَّهَادَةِ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ إذَا كَتَبَ كِتَابًا إلَى حَاكِمٍ وَخَتَمَهُ وَأَشْهَدَ الشُّهُودَ بِأَنَّهُ كِتَابُهُ وَلَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ فَعَنْهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ جَائِزَةٌ وَالْأُخْرَى أَنَّهُمْ لَا يَشْهَدُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَقْرَؤُهُ وَقْتَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ.
فَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ عَلَى إقْرَارِهِ بِمَا فِي كِتَابٍ عَرَفُوهُ فَصَحَّ تَحَمُّلُهُمْ لِلشَّهَادَةِ
(5/198)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَأَصْلُهُ إذَا قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ لِذَلِكَ بِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ كِتَابًا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ لَيْلَتَيْنِ ثُمَّ يَقْرَأَ الْكِتَابَ فَيَتَّبِعَ مَا فِيهِ» قَالَ وَوَجْهُ الْمَنْعِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] ، وَإِذَا لَمْ يَقْرَءُوا الْكِتَابَ لَمْ يَعْلَمُوا مَا يَشْهَدُونَ بِهِ فَلَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي حَالِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ] 1
(الْبَابُ الثَّانِي فِي حَالِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ) أَمَّا حَالُ الْأَدَاءِ فَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي شَهَادَةً حَفِظَهَا فَحُكْمُهُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لَهَا حِينَ الْأَدَاءِ إمَّا لِأَنَّهُ اسْتَدَامَ حِفْظَهَا وَإِمَّا لِأَنَّهُ قَيَّدَهَا فِي كِتَابٍ يَذْكُرُهَا مِنْهُ حَالَ الْأَدَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَشُكُّ فِي صِحَّتِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ يَتَفَقَّدُهُ عِنْدَ نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي كِتَابٍ عَقَدَ الْمَشْهُودُ لَهُ بِهِ عَقْدًا بِمَا عُلِمَ فِي الشَّاهِدِ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا يُسَمِّيهِ أَصْحَابُ الْوَثَائِقِ عَقْدَ اسْتِرْعَاءٍ، وَصِفَتُهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهِدَ مَنْ تَسَمَّى فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كَذَا ثُمَّ يَكْتُبُ الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ وَيُسَلِّمُ الْعَقْدَ إلَى صَاحِبِهِ الْمَشْهُودِ لَهُ، فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَدُعِيَ الشَّاهِدُ إلَى الشَّهَادَةِ لَزِمَ الشَّاهِدَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِجَمِيعِهِ وَيَذْكُرُ ذَلِكَ بِقِرَاءَتِهِ أَدَّى الشَّهَادَةَ عَلَى عُمُومِهَا، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْضَهُ شَهِدَ بِمَا ذُكِرَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْهُ فَلَا يَشْهَدُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى عَقْدِ تَبَايُعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ إقْرَارٍ مِمَّا لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ حِفْظُهُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ تَقْيِيدِ الشَّهَادَةِ فِي آخِرِهِ فَإِنْ كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَيْهِ وَيَعْرِفُ خَطَّهُ وَلَا يَسْتَرِيبُ بِشَيْءٍ مِنْ الْكِتَابِ فِي مَحْوٍ وَلَا بَشْرٍ وَلَا إلْحَاقٍ فَلْيُؤَدِّ الشَّهَادَةَ وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا، وَإِنْ اسْتَرَابَ بِشَيْءٍ فَلَا يَشْهَدُ؛ لِأَنَّهُ شَاكٌّ فِيمَا شَهِدَ عَلَى حَقِّهِ بِمَعْرِفَةِ صَوْتِ مُبَايِعِهِ وَالْمُقْتَرِضِ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ فَإِنْ مَيَّزَ خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أُشْهِدَ وَلَا أَنَّهُ كَتَبَهُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ إنْ عَرَفَ خَطَّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ وَلَا شَيْئًا مِنْهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ مَحْوٌ وَلَا رِيبَةٌ فَلْيَشْهَدْ بِهِمَا، وَإِنْ كَانَ فِي الْكِتَابِ مَحْوٌ فَلَا يَشْهَدُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا يَشْهَدُ، وَإِنْ عَرَفَ خَطَّهُ ثُمَّ يَذْكُرُ الشَّهَادَةَ أَوْ بَعْضَهَا أَوْ مَا يَدُلُّ مِنْهَا عَلَى أَكْثَرِهَا قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالْمُغِيرَةُ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَابْنُ دِينَارٍ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ وَهْبٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ بِقَوْلِهِ الْآخَرِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ كَتَبَ شَهَادَتَهُ وَعَرَفَ خَطَّهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ مَا فِيهِ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَشْهَدُ بِهَا وَلَكِنْ يُؤَدِّيهَا كَمَا عَلِمَ وَلَا يَحْكُمُ بِهَا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ إذَا عَرَفَ خَطَّهُ فِي كِتَابٍ لَا يَشُكُّ فِيهِ وَلَا يَذْكُرُ كُلَّ مَا فِي الْكِتَابِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا وَقَوْلُهُ إنَّهُ لَمْ يَرَ فِي الْكِتَابِ مَحْوًا وَلَا لَحْقًا وَلَا مَا يَسْتَنْكِرُهُ وَرَأَى الْكِتَابَ خَطًّا وَاحِدًا فَلْيَشْهَدْ بِمَا فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ الْكِتَابِ شَيْئًا وَلَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْ هَذَا بُدًّا.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَصِفَةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَا يَشْهَدُ بِهَا وَلَكِنْ يُؤَدِّيهَا كَمَا عَلِمَ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالشَّهَادَةِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالشَّهَادَةِ إلَى مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَامِلٌ وَيُورِدُهُ لِيَعْمَلَ بِهِ وَأَشَارَ بِالْأَدَاءِ إلَى الْإِخْبَارِ بِمَا عِنْدَهُ وَأَنَّهُ غَيْرُ كَامِلٍ فَلَا يَعْمَلُ بِهِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي شَهَادَةِ مَنْ رَأَى خَطَّهُ فِي كِتَابٍ وَلَا يَذْكُرُهَا يَرْفَعُهَا إلَى الْإِمَامِ عَلَى وَجْهِهَا وَلْيَقُلْ هَذَا كِتَابٌ شَبِيهُ كِتَابِي وَأَظُنُّهُ إيَّاهُ وَلَا أَذْكُرُ شَهَادَةً وَلَا أَنِّي كَتَبْتهَا يَحْكِي ذَلِكَ وَلَا يُقْضَى بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ مَحْوٌ وَعَرَفَ خَطَّهُ فَقَدْ يَضْرِبُ عَلَى خَطِّهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْوَاضِحَةِ يَشْهَدُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ إلَّا خَطَّهُ فَيَقُولُ إنَّ مَا فِيهِ حَقٌّ وَذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مِنْ الشَّهَادَةِ شَيْئًا، وَقَدْ عَرَفَ خَطَّهُ وَلَمْ يَرْتَبْ فِي شَيْءٍ فَلَا يَقْبَلُهَا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ يَقُولُ أَشْهَدُ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَجِدُ النَّاسُ مِنْهُ بُدًّا، وَلَوْ أَعْلَمَ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ رَأَيْت أَنْ يُجِيزَ شَهَادَتَهُ إذَا عَرَفَ أَنَّ الْكِتَابَ خَطُّ يَدِهِ قَالَ وَجَمِيعُ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ شَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ وَهَذَا عِنْدِي هُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ حَتَّى
(5/199)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يَعْرِفَ خَطَّهُ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً لَا يَشُكُّ فِيهَا.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ إذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَدَ الْمَالِ فَذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ يُعَرِّفُهُ الشَّاهِدُ بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ وَمَا أَرَى ذَلِكَ يَنْفَعُ.
وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَهُ عَلَى عِدَّةِ الْمَالِ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ إذَا لَمْ يَعْرِفْ عَدَدَ الْمَالِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أُشْهِدَ مَعَ مَعْرِفَةِ خَطِّهِ وَهَذَا عِنْدِي إنَّمَا هُوَ الْخِلَافُ فِيمَنْ قَيَّدَ شَهَادَتَهُ بِاسْتِرْعَاءٍ عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِمَالٍ وَعَدَدِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ ثُمَّ نَسِيَ فَهَذَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَيِّدَ شَهَادَتَهُ إلَّا عَلَى مَعْلُومٍ عِنْدَ تَقْيِيدِ شَهَادَتِهِ.
فَإِذَا نَسِيَ بَعْدَ ذَلِكَ تَيَقَّنَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ أَوْ بَعْضَهُ وَذَكَرَ تَقْيِيدَهُ لِلشَّهَادَةِ وَعَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يُوقِعْهَا إلَّا عَلَى مَعْلُومٍ احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا إجَازَةُ شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ صِحَّتَهَا، وَالثَّانِي رَدُّ شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ غَيْرُ ذَاكِرٍ لَهُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إذَا عَرَفَ خَطَّهُ وَأَثْبَتَ مَنْ أَشْهَدَهُ فِي دَارٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ أَنَّهَا الَّتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَثْبُتَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ حَرْفًا حَرْفًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَقْدُ اسْتِرْعَاءٍ، وَأَمَّا مَا شَهِدَ فِيهِ مِنْ الْعُقُودِ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَصَفُّحُهُ وَلَا قِرَاءَتُهُ وَلَا يَتَصَفَّحُ مِنْهُ إلَّا مَوْضِعَ التَّقْيِيدِ لِلشَّهَادَةِ، وَلِذَلِكَ شُهِدَ عَلَى الْحُكَّامِ بِالسِّجِلَّاتِ الْمُطَوَّلَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَوْرَاقُ وَلَا يُقْرَأُ إلَّا فِي الْمُدَدِ الطُّوَالِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّفَرُّغِ لَهُ وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ النَّفَرُ الْكَثِيرُ لِلْإِشْهَادِ مِنْهُ، وَإِنْ لَزِمَ كُلَّ إنْسَانٍ قِرَاءَتُهُ وَتَصَفُّحُهُ وَتَحَفُّظُهُ لَتَعَذَّرَ الْإِشْهَادُ فِيهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قِرَاءَتُهُ وَلَا مَعْرِفَةُ مَا فِيهِ حِينَ تَقْيِيدِ شَهَادَتِهِ فَبِأَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ حِينَ الْأَدَاءِ أَوْلَى، وَمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا غَيْرُ لَازِمٍ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ شَهَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمَعْلُومِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الشَّهَادَةِ بِمَا لَمْ يُعْلَمْ وَالْآيَةُ لَا تَتَضَمَّنُ حُكْمَ هَذَا وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ ذَلِكَ فَإِنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا يَشْهَدُ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ صِحَّةِ تَقْيِيدِهِ الشَّهَادَةَ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّازِمِ فِي ذَلِكَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمِنْ حُكْمِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا يَعْلَمُ وَيَقْطَعُ بِهِ فَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ، وَأَمَّا مَنْ دُعِيَ إلَى شَهَادَةٍ فَلَمْ يَذْكُرْهَا زَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ عِنْدَ الْقَاضِي لَا أَذْكُرُهَا ثُمَّ ذَكَرَهَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَشَهِدَ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ يُقْبَلُ مِنْهُ إنْ كَانَ مُبَرَّزًا لَا يُتَّهَمُ وَلَمْ يَمُرَّ مِنْ طُولِ الزَّمَنِ مَا يُسْتَنْكَرُ قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ إنْ قَالَ أَخِّرُونِي لِأَتَفَكَّرَ وَأَنْظُرَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ إنْ كَانَ مُبَرَّزًا، وَإِنْ قَالَ مَا عِنْدِي عِلْمٌ ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ بِعِلْمِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَجَازَهَا ابْنُ نَافِعٍ فِي الْمُبَرَّزِ فِي الْقُرْبِ وَجْهُ إجَازَتِهَا أَنَّهُ إنَّمَا أَخْبَرَ بِأَنْ لَا عِلْمَ لَهُ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ عَلِمَ ذَلِكَ قَبْلَهُ فَإِذَا تَذَكَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ عِلْمُهُ بِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ كَمَا لَوْ تَقَيَّدَتْ شَهَادَتُهُ فِي عَقْدٍ أُشْهِدَ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَنْسَى ذَلِكَ فَإِذَا وَقَفَ عَلَى الْعَقْدِ وَرَأَى خَطَّهُ يَذْكُرُ شَهَادَتَهُ وَجَازَ أَدَاؤُهُ لَهَا، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِرَدِّهَا إنَّ قَطْعَهُ بِنَفْيِ عِلْمِهِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلٌ وَلَا سَبَبٌ يَتَذَكَّرُ مِنْهُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إنَّمَا هَذَا إذَا سُئِلَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ سُئِلَ الْمَرِيضُ عِنْدَ نَقْلِهَا عَنْهُ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِرَدِّ شَهَادَتِهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ إنْ قَالَ كُلُّ شَهَادَةٍ أَشْهَدُ بِهَا بَيْنَكُمَا زُورٌ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ وَلْيَشْهَدْ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مَنْ قَالَ لِخَصْمٍ مَا أَشْهَدُ عَلَيْك بِشَيْءٍ ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا يَضُرُّهُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَهَذَا عِنْدَ الْحُكْمِ وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ إذَا وَعَدَهُ أَنْ لَا يُقِيمَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ إلَى الْوَاجِبِ مِنْ إقَامَتِهَا عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ نَسِيَ الشَّهَادَةَ ثُمَّ ذَكَرَهَا فَأَدَّاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ مَنْ شَهِدَ وَحَلَفَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ.
[مَحَلُّ نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ الشُّهُودِ وَفِيهَا بَابَانِ]
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ مُعَيَّنِينَ]
، وَأَمَّا مَحَلُّ نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ الشُّهُودِ فَفِيهَا بَابَانِ أَحَدُهُمَا نَقْلُهَا عَنْ شُهَدَاءَ مُعَيَّنِينَ وَالْبَابُ الثَّانِي فِي نَقْلِهَا عَنْ شُهَدَاءَ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ
(5/200)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ مُعَيَّنِينَ) فَأَمَّا نَقْلُهَا عَنْ الْمُعَيَّنِينَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُنْقَلُ عَنْهُ مُتَيَقِّنًا لِمَا أَشْهَدَ بِهِ غَيْرَ شَاكٍّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ أَوْ نَسِيَهُ لَمْ يَصِحَّ نَقْلُهَا عَنْهُ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ سَمِعَ شَاهِدًا يَنُصُّ شَهَادَتَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْقُلَهَا عَنْهُ حَتَّى يُشْهِدَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُخْبِرَ قَدْ تَرَكَ التَّحَرُّزَ وَالِاسْتِيعَابَ لِلشَّهَادَةِ وَالْمُؤَدِّي لِلشَّهَادَةِ يَتَحَرَّزُ فِيهَا وَيُؤَدِّيهَا أَدَاءً يَقْتَضِي الْعَمَلَ بِهَا وَأَدَاءُ الشَّاهِدِ شَهَادَتَهُ إلَى مَنْ يَنْقُلُهَا عَنْهُ كَأَدَائِهَا إلَى الْحَاكِمِ، وَلَوْ أَنَّ الْحَاكِمَ سَمِعَهُ يَنُصُّ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَدِّي الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْعَمَلُ بِهَا فَكَذَلِكَ النَّاقِلُ لَهَا عَنْهُ.
1 -
(فَرْعٌ) وَمَنْ سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَلَمْ يُشْهِدْهُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ وَاحْتِيجَ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ وَيَحْتَمِلُ هَذَا عِنْدِي الْخِلَافَ الَّذِي بَيْنَ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِيمَنْ سَمِعَ رَجُلًا شَهِدَ عِنْدَ قَاضٍ بِشَهَادَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي أَوْ عُزِلَ فَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ لَا يَنْقُلُ الشَّهَادَةَ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ فِي الْوَاضِحَةِ يَنْقُلُ ذَلِكَ إذَا سَمِعَهُ يُؤَدِّيهَا عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَتَكُونُ شَهَادَةً عَلَى شَهَادَةٍ قَالَ أَصْبَغُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يُشْهِدَهُ أَوْ يُشْهِدَ عَلَى قَبُولِ الْقَاضِي لِتِلْكَ الشَّهَادَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
قَالَ أَصْبَغُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ نَقْلُ الشَّهَادَةِ عَنْ الشَّاهِدِ الْغَائِبِ أَوْ الْمَرِيضِ الْحَاضِرِ إذَا كَانَتْ غَيْبَةُ الشَّاهِدِ بَعِيدَةً حَكَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ إلَّا الْمَرْأَةَ فَإِنَّهُ يَنْقُلُ شَهَادَتَهَا، وَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً صَحِيحَةً رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ وَلَمْ أَرَ بِالْمَدِينَةِ قَطُّ امْرَأَةً قَامَتْ بِشَهَادَتِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلَكِنَّهَا تُحْمَلُ عَنْهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يَلْزَمَهَا مِنْ السَّتْرِ عُذْرٌ يُسْقِطُ فَرْضَ الْجُمُعَةِ فَأَبَاحَ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ عَنْهَا كَالْمَرَضِ.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا الْغَيْبَةُ الْقَرِيبَةُ كَالْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ لَا تُنْقَلُ شَهَادَتُهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَغِيبَ عَنْ مَكَانِهِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ بَيْنَ مَوْضِعِهِ وَمَوْضِعِ الْقَاضِي مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي وَيَصِحُّ نَقْلُهَا عَنْهُ وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ إذَا كَانَ الشَّاهِدُ عَلَى مِثْلِ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ السِّتِّينَ مِيلًا وَنَحْوَهَا لَمْ يُشَخَّصْ الشُّهُودُ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَيُشْهَدُ عِنْدَهُ مَنْ يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ وَيَكْتُبُ بِمَا أَشْهَدُوا لَهُ بِهِ عِنْدَهُ إلَى الْقَاضِي قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ إنَّمَا يَنْقُلُ عَنْهُمْ الشَّهَادَةَ إذَا بَعُدَتْ غَيْبَتُهُمْ مَنْ يَعْرِفُ الْغَيْبَةَ بَعْدَ مُدَّةٍ لَا بِأَثَرِ غَيْبَتِهِمْ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ بِأَثَرِ غَيْبَتِهِمْ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ وَلَا يُؤْمَنُ رُجُوعُهُمْ.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى بَرِيدٍ أَوْ بَرِيدَيْنِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي شَهَادَتَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَإِنْ كَانَ الشُّهُودُ أَغْنِيَاءَ يَجِدُونَ نَفَقَةً وَرُكُوبًا فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ لَا يَقُومُ لَهُمْ بِذَلِكَ الْمَشْهُودُ لَهُ فَإِنْ فَعَلَ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُمْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَذَلِكَ إذَا كَانَ أَمْرًا خَفِيفًا فَإِنْ كَثُرَ لَمْ أُجِزْهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنْ الرِّشْوَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الَّتِي لَا تَلْزَمُ الْمَشْهُودَ لَهُ وَيَلْزَمُ الشَّاهِدَ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْقِيَامِ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، وَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٌ {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الشُّهُودُ نَفَقَةً وَلَا مَرْكُوبًا جَازَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ أَنْ يَقُومَ بِهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا مُؤْنَةٌ لَا تَلْزَمُ الشُّهُودَ فَلَمْ تُبْطِلُ شَهَادَتُهُمْ تَكْلِيفَ الْمَشْهُودِ لَهُ كَسَائِرِ نَفَقَاتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُنْهِضَ الشُّهُودُ إلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ لِيُعَايِنُوا حُدُودَ أَرْضٍ وَصِفَتَهَا فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَرْكَبُوا دَوَابَّ الْمَشْهُودِ لَهُ وَيَأْكُلُوا طَعَامَهُ، وَرَوَى ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ مِنْ سُؤَالِ ابْنِ حَبِيبٍ فِي الشَّاهِدِ يَأْتِي مِنْ الْبَادِيَةِ يَشْهَدُ لِرَجُلٍ فَيَنْزِلُ عِنْدَهُ فِي ضِيَافَتِهِ حَتَّى يَخْرُجَ لَا تُرَدُّ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا وَهَذَا خَفِيفٌ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُعْتَادٌ دُونَ مُكَارَمَةٍ مَشْرُوعَةٍ يَتَقَارَضُ فِيهَا النَّاسُ وَلَعَلَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ كَانَ جَرَى بَيْنَهُمْ قَبْلَ هَذَا.
(فَصْلٌ) :
وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ لَا تَجُوزُ
(5/201)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ وَاخْتَارَهُ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّهِ وَلَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَيَحْلِفُ الطَّالِبُ وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ.
وَقَالَهُ سَحْنُونٌ، وَقَالَ أَصْبَغُ الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ الْغَائِبِ أَوْ الْمَيِّتِ قَوِيَّةٌ فِي الْحُكْمِ بِهَا وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمَوَّازِ لِلْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَسْمَعَهُ يَنُصُّ شَهَادَتَهُ تِلْكَ وَلَا يُسَوَّغُ نَقْلُ الشَّهَادَةِ عَنْهُ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الشَّاهِدِ فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ إنَّمَا تَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً حَيْثُ يَجُوزُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ إنَّمَا تَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً حَيْثُ يَجُوزُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ قَالَهُ أَصْبَغُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهَا نَاقِصَةُ الرُّتْبَةِ كَالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ قَالَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَسْمَعَ الْمُقِرَّ يَنُصُّ إقْرَارَهُ فَتَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِيهَا رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا الْجَوَازُ وَالْأُخْرَى الْمَنْعُ وَجْهُ الْمَنْعِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا أَرَى أَنْ يُقْضَى بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ بِمَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ الضَّرْبِ عَلَى الْخُطُوطِ، وَقَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى يُجِيزُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى طَابِعِ الْقَاضِي وَرَأَى مَالِكٌ أَنْ لَا تَجُوزَ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ مَعَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِيهَا رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: يُحْكَمُ لَهُ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ، وَالثَّانِيَةُ لَا يُحْكَمُ لَهُ حَتَّى يَحْلِفَ فَيَسْتَحِقَّ حَقَّهُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ كَامِلَةٌ تَتَنَاوَلُ الْإِقْرَارَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى لَفْظِ الْمُقِرِّ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى خَطِّ الْمُقِرِّ فَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ عَلَيْهِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يُحْكَمُ لَهُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَالثَّانِيَةُ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى مَا يَثْبُتُ بِهِ إقْرَارُ الْمُقِرِّ بِالْمَالِ فَأَشْبَهَتْ لَفْظَ الشَّهَادَةِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا شَهَادَةٌ لَا تَتَنَاوَلُ الْمَالَ، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ مَعْنًى يُجَرُّ إلَيْهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ فِي الْمَالِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ] 1
(الْبَابُ الثَّانِي فِي نَقْلِ الشَّهَادَةِ عَنْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ) أَمَّا نَقْلُ الشَّهَادَةِ عَنْ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ وَهِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ فَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِمَا تَقَادَمَ زَمَنُهُ تَقَادُمًا يَبِيدُ فِيهِ الشُّهُودُ وَتُنْسَى فِيهِ الشَّهَادَاتُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَتَخْتَصُّ بِمَا لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ وَلَا يَنْتَقِلُ الْمَوْتُ فِيهِ كَالْمَوْتِ وَالنَّسَبِ وَالْوَقْفِ الْمُحَرَّمِ، فَأَمَّا الْمَوْتُ فَإِنَّمَا يُشْهَدُ فِيهِ عَلَى السَّمَاعِ فِيمَا بَعُدَ مِنْ الْبِلَادِ، وَأَمَّا مَا قَرُبَ مِنْ الْبِلَادِ أَوْ الشَّهَادَةُ بِبَلَدِ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا هُوَ شَهَادَةٌ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ وَمَا تَقَرَّرَ مِنْ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ السَّمَاعَ إلَّا أَنَّ لَفْظَ شَهَادَةِ السَّمَاعِ إنَّمَا يَنْطَلِقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ لِلشَّاهِدِ، وَلِذَلِكَ لَا يُؤَدِّي شَهَادَتَهُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ سَمَاعًا فَاشِيًا مَا يَنُصُّهُ مِنْ شَهَادَتِهِ، وَأَمَّا إذَا تَوَاتَرَ الْخَبَرُ حَتَّى وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ فَإِنَّمَا يَشْهَدُ عَلَى عِلْمِهِ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ وَأَنَّ فُلَانًا ابْنَهُ يَرِثُهُ فَلَا يُطْلِقُونَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ شَهَادَةَ سَمَاعٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى السَّمَاعِ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ، فَأَكْثَرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ يُقْضَى لَهُ بِالْمِيرَاثِ وَلَا يَجْرِ بِذَلِكَ وَلَاءٌ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ نَسَبٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرٌ انْتَشَرَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، فَمِثْلُ هَذَا يَجْرِ بِهِ الْوَلَاءُ وَالنَّسَبُ يُرِيدُ إذَا بَلَغَ مِنْ التَّوَاتُرِ بِحَيْثُ يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ فَيَشْهَدُ عَلَى عِلْمِهِ وَلَا يُضِيفُ شَهَادَتَهُ إلَى السَّمَاعِ وَفِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ قِيلَ لِابْنِ الْقَاسِمِ أَفَنَشْهَدُ أَنَّك ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَا نَعْرِفُ أَبَاك وَلَا أَنَّك
(5/202)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ابْنُهُ إلَّا بِالسَّمَاعِ قَالَ نَعَمْ يُقْطَعُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَيَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّسَبِ إلَّا شَهَادَةٌ عَلَى شَهَادَةٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ تَوَاتُرِ الْخَبَرِ أَنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِثْلُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَيَثْبُتُ بِهَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى السَّمَاعِ غَيْرُ الشَّهَادَةِ بِالْعِلْمِ الْوَاقِعِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مَعُونَتِهِ إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى السَّمَاعِ مِنْ مَعْنَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي السَّمَاعِ مِنْ عَدَدٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ يَقُولُ الشَّاهِدُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَمْ أَزَلْ أَسْمَعُ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ أَهْلَ الْعَدْلِ فِيمَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ فَلَمْ تَخْتَصَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَذَاهِبِ شُيُوخِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(فَرْعٌ) وَإِذَا شُهِدَ لِلْمَرْأَةِ بِضَرَرِ زَوْجِهَا فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِالسَّمَاعِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْخُلْعِ وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ إلَّا عَنْ الْعُدُولِ إلَّا فِي الرَّضَاعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ الْعُدُولُ عَنْ لَفِيفِ الْقَرَابَةِ وَالْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا كَالنِّسَاءِ وَالْخَدَمِ فَهَذَا أَيْضًا يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ فَيَجِبُ أَنْ يَشْهَدَا بِعِلْمِهِمَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمَا مِنْ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي لَا يُرَاعَى فِيهِ عَدَالَةٌ وَلَا إسْلَامٌ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ عَلَى فُشُوِّ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ عَلَى الرَّضَاعِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ بِالْوَلَاءِ وَالْمَوَارِيثِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَا يَنْتَقِلُ كَالْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَالْوَقْفِ الْمُؤَبَّدِ وَذَكَرَ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ بِالنِّكَاحِ قَوْلَيْنِ قَالَ فَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ أَنَّهُ ثَابِتٌ لَا يَتَغَيَّرُ إذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَأَشْبَهَ الْوَلَاءَ وَالْوَقْفَ الْمُؤَبَّدَ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ لَا يُقْبَلُ فِيهِ أَنَّ أَصْلَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ بِدَلِيلِ جَوَازِ التَّنَقُّلِ فِيهِ فَكَانَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَمْلَاكِ وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ شَهَادَةَ السَّمَاعِ يُقْطَعُ بِهَا فِي الْوَلَاءِ وَالنَّسَبِ وَالصَّدَقَاتِ الَّتِي طَالَ زَمَنُهَا، وَالصَّدَقَاتُ تَكُونُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْوَقْفِ.
وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ تَجُوزُ شَهَادَةُ السَّمَاعِ فِيمَا تَقَادَمَ عَهْدُهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالْحِيَازَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْأَحْبَاسِ وَشِبْهِ ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا أُمُورٌ تَتَقَادَمُ وَيَبِيدُ شُهُودُهَا فَصَحَّتْ الشَّهَادَةُ فِيهَا عَلَى السَّمَاعِ كَالْأَحْبَاسِ وَلِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا فِي غَائِبٍ قَدِمَ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى دَارٍ أَنَّهَا لِأَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ وَأَثْبَتَ الْمَوَارِيثَ فَأَتَى مَنْ هَذِهِ فِي يَدِهِ بِبَيِّنَةٍ عَلَى السَّمَاعِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَ هُمْ أَوْ مَنْ نَقَلُوا عَنْهُ مِنْ الْعُدُولِ أَنَّهَا لِأَبِ الْحَائِزِ أَوْ لِجَدِّهِ بِشِرَاءٍ مِنْ أَبِ الْقَائِمِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ بِصَدَقَةٍ مَا خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِهِ حَتَّى مَاتَ وَوَرِثَهَا وَرَثَتُهُ وَيَذْكُرُونَ وَرَثَةَ كُلِّ مَيِّتٍ أَنَّهُ يُقْضَى بِشَهَادَةِ السَّمَاعِ وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهَا فَإِنْ قَالُوا نَعْلَمُ أَنَّهَا بِيَدِ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ لَا يَعْلَمُونَ بِمَاذَا لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ، وَقَالَهُ مَالِكٌ وَأَشْهَبُ.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا النِّكَاحُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ سَحْنُونٍ قَالَ جُلُّ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ فِي النِّكَاحِ إذَا انْتَشَرَ خَبَرُهُ فِي الْجِيرَانِ أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَسَمِعَ الزِّفَافَ فَلَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ فُلَانَةَ زَوْجَةُ فُلَانٍ زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَلَمْ يَحْضُرْ النِّكَاحُ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ يَسْمَعُ النِّيَاحَةَ وَرُبَّمَا لَمْ يَشْهَدْ الْجِنَازَةَ فَإِذَا كَثُرَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ فَيَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ وَلَمْ يَحْضُرْ الْمَوْتَ، وَكَذَلِكَ النَّسَبُ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي يُوَلَّى الْمِصْرَ وَلَا يَحْضُرُ وِلَايَتَهُ إلَّا بِمَا يَسْمَعُ مِنْ النَّاسِ وَرُبَّمَا رَآهُ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَلْيَشْهَدْ أَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ قَوْمٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ فُلَانٍ إذَا كَانَ يَحُوزُهَا بِالنِّكَاحِ، وَإِنْ كَانَ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا قَبْلَ أَنْ يُولَدَ الشُّهُودُ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ أَدْخَلَهَا شَيْخُنَا فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى السَّمَاعِ لَمَّا كَانَ السَّمَاعُ سَبَبَهَا، وَإِنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ بِالْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ لَا يُضِيفُهَا الشَّاهِدُ إلَى سَمَاعِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ شَهَادَةٌ بِالْعِلْمِ يُضِيفُهَا إلَى عِلْمِهِ.
(فَرْعٌ) إذَا
(5/203)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ثَبَتَ ذَلِكَ فَمِنْ شَرْطِ شَهَادَةِ السَّمَاعِ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا سَمَاعًا فَاشِيًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ لَا تَصِحُّ شَهَادَةُ السَّمَاعِ حَتَّى يَقُولَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ قَالَا وَلَا يُسَمُّوا مَنْ سَمِعُوا مِنْهُ فَإِنْ سَمَّوْا خَرَجَتْ عَنْ شَهَادَةِ السَّمَاعِ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ.
(فَرْعٌ) وَيُجْزِئُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى السَّمَاعِ رَجُلَانِ وَمَا كَثُرَ أَحَبُّ إلَيْنَا قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى السَّمَاعِ وَفِي الْقَبِيلِ مِائَةٌ مِنْ أَنْسَابِهِمْ لَا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إلَّا بِأَمْرٍ يَفْشُو وَيَكُونُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَا شَيْخَيْنِ قَدِيمَيْنِ قَدْ بَادَ جِيلُهُمَا فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا.
1 -
(فَرْعٌ) وَإِذَا قُلْنَا إنَّ شَهَادَةَ السَّمَاعِ تَخْتَصُّ بِمَا تَقَادَمَ مِنْ الزَّمَانِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ تَجُوزُ فِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَنَحْوِهَا لِتَقَاصُرِ أَعْمَارِ النَّاسِ قَالَهُ أَصْبَغُ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا تُقْبَلُ فِي الْخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً شَهَادَةٌ عَلَى السَّمَاعِ إلَّا فِيمَا تَقَادَمَ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَا ظَنِينٍ فَرَوَى ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ الْمُتَّهَمُ الَّذِي يُظَنُّ بِهِ غَيْرُ الصَّلَاحِ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَجْمُوعَةِ هُوَ الْمُتَّهَمُ فَكُلُّ مَنْ اُتُّهِمَ فِي شَهَادَتِهِ بِمَيْلٍ لَمْ يُحْكَمْ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مُبَرَّزًا فِي الْعَدَالَةِ إلَّا أَنَّ التُّهْمَةَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا رَدُّ الشَّهَادَةِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِجَرِّ الْمَالِ، وَالثَّانِي لِدَفْعِ الْمَعَرَّةِ أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي جَرِّ الْمَالِ فَإِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَشْهَدَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَرْغَبُ فِي كَثْرَةِ مَالِهِ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَشْهَدَ لِمَنْ يَنَالُهُ مَعْرُوفُهُ، فَأَمَّا مَنْ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ لَهُ خَاصَّةً أَوْ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ لَهُ خَاصَّةً فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ جَائِزَةٍ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ لِنَفْسِهِ هِيَ مُجَرَّدُ الدَّعْوَى وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بِدَعْوَاهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ شَهِدَ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي رَجُلَيْنِ لَهُمَا مَالٌ عَلَى رَجُلٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَالِ لِصَاحِبِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا مُشْتَرَكًا فَإِنَّ النِّصْفَ الَّذِي لِشَرِيكِهِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ، وَلَوْ قَبَضَهُ شَرِيكُهُ لِسَاهِمِهِ فِيهِ فَقَدْ عَادَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ فَإِنْ اقْتَسَمَا الْحَقَّ قَبْلَ الشَّهَادَةِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ شَهِدَ شَهَادَةً لَهُ فِيهَا حَقٌّ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةً أَوْ غَيْرَ وَصِيَّةٍ فَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً وَكَانَ لَهُ فِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ إحْدَاهَا لَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَالثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ لَهُ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَالثَّالِثَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُدَوَّنَةِ يَجُوزُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَبِهَذَا قَالَ مُطَرِّفٌ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ شَهِدَ لَهُ بِحَقٍّ لَهُ فِيهِ حَظٌّ فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ الْوَصِيَّةِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ التُّهْمَةَ إنَّمَا تَخْتَصُّ بِهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِ لِغَيْرِهِ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَتَصِحُّ لِغَيْرِهِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ أَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ لَمْ تُبْطِلْ بَعْضَهَا تُهْمَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ جَمِيعُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ لِغَيْرِهِ دُونَهُ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِهَا فِي الْقَلِيلِ فَكَمُّ الْقَلِيلِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ فِي شَاهِدَيْنِ أَوْصَى إلَيْهِمَا رَجُلٌ وَأَشْهَدَهُمَا فِي ثُلُثِهِ أَنَّ ثُلُثَهُ لِلْمَسَاكِينِ وَثُلُثَهُ لِجِيرَانِهِ وَثُلُثَهُ لَهُمَا هَذَا يَسِيرٌ وَيَجُوزُ لَهُمَا وَلِغَيْرِهِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ مَعْنَاهُ إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا مِمَّا لَهُ بَالٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ شَهِدَ فِي غَيْرِ وَصِيَّةٍ لِحَقٍّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا لَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ مَنْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ لَهُ فِيهَا حَقٌّ وَلِغَيْرِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي لَهُ يَسِيرٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ لَمْ يُتَّهَمْ عَلَيْهِ فَإِذَا قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى فَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ إذَا أَجَزْنَاهَا أَنَّ الْمُتَوَفَّى مُتَيَقَّنٌ انْتِقَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَرَثَةِ إلَّا بَعْدَ سَلَامَتِهِ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَوَقْتُ
(5/204)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
انْتِقَالِهِ إلَى الْوَرَثَةِ وَإِلَى الْمُوصَى لَهُ بِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ وَقْتُ وَفَاتِهِ فَلَمْ تَتَنَاوَلْ الْوَصِيَّةُ إخْرَاجَ شَيْءٍ عَنْ مِلْكٍ مُتَقَرِّرٍ، وَإِنَّمَا تَنَاوَلَتْ تَوَجُّهَهُ إلَى جِهَةٍ مُسْتَحَقَّةٍ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الدَّيْنُ فَإِنَّمَا شُهِدَ بِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَتَقَرَّرَ مِلْكُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَجَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الدَّيْنِ لِضَعْفِ حَالِ الْمِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ وَفَوْتِهِ فِي الدَّيْنِ، وَلِذَلِكَ لَوْ شُهِدَ عَلَى مَيِّتٍ أَنَّهُ أَوْصَى لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ لَحُكِمَ لِلْوَرَثَةِ، وَلَوْ شُهِدَ عَلَى حَيٍّ أَنَّهُ وَهَبَ مَالَهُ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ لَمَا حُكِمَ عَلَيْهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا مَنْ يَرْغَبُ فِي كَثْرَةِ مَالِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْغَبَ فِي كَثْرَةِ مَالِهِ لِلشَّفَقَةِ وَالْقَرَابَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لِمَا يَخْتَصُّ بِالشَّاهِدِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ، فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَكَشَهَادَةِ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ وَالْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ، وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّهُ قَالَ وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِ عُمَرَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ شَهَادَةُ الْأَبَوَيْنِ لِلْوَلَدِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَهَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَرُوِيَ عَنْ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْآبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ وَالْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَصْحِيحِهِ وَالْأَخْذِ بِهِ وَلَا نَعْلَمُ بِتُهْمَةٍ أَقْوَى مِنْ كَلَفِ الْآبَاءِ بِالْأَبْنَاءِ وَمَحَبَّةِ الْأَبْنَاءِ فِي الْآبَاءِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ مَحَبَّتُهُ لِبَنِيهِ تَرْبُو عَلَى مَحَبَّتِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ تُقَارِبُهَا فَيَجِبُ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ اهـ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِمَنْ نَفَاهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ اسْتِمَالَتَهُ لِيَسْتَلْحِقَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ الَّذِي لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ مِنْ ذِي الْقَرَابَةِ الْأَبَوَانِ وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ وَالْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ وَأَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ وَرَاءَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْقَرَابَاتِ وَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ شَهَادَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ وَابْنِ أَخِيهِ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا لَا تَجُوزُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى شَرْطٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الشَّرْطِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَرَّزًا وَقِيلَ يَجُوزُ إذَا لَمْ تَنَلْهُ صِلَتُهُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ يَجُوزُ فِي الْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَرَّزًا فَيَجُوزُ فِي الْكَثِيرِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَرَابَةَ الْأُبُوَّةِ وَالنُّبُوَّةِ آكَدُ وَالتُّهْمَةَ فِيهِمْ أَقْوَى وَجَرَتْ الْعَادَةُ بِبَسْطِ هَؤُلَاءِ فِي مَالِ بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ فَإِنَّ الزَّوْجَ يُنْفِقُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَيَنْبَسِطُ فِي مَالِهَا، وَالْأُخُوَّةُ لَا تَبْلُغُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ وَلَا يَخْلُو فِي الْأَغْلَبِ مِنْ الْإِشْفَاقِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْغِنَى فَلِذَلِكَ رُوعِيَ فِي الْأُخُوَّةِ أَحَدُ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَرَابَةِ وَالْمَوَالِي فِي الرِّبَاعِ الَّتِي يُتَّهَمُونَ بِجَرِّهَا إلَيْهِمْ أَوْ إلَى بَنِيهِمْ الْيَوْمَ أَوْ بَعْدَهُ مِثْلُ حَبْسِ مَرْجِعِهِ إلَيْهِمْ أَوْ إلَى بَنِيهِمْ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِابْنِ امْرَأَتِهِ وَلَا لِأَبِيهَا، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لِابْنِ زَوْجِهَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِزَوْجِ ابْنَتِهِ وَلَا لِزَوْجَةِ ابْنِهِ رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُك لَهُ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُك لِمَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَك؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَوِيَّةٌ فِي مَنَافِعِهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّ مَنْ كَانَ وَفْرُهُ وَفْرَ الشَّاهِدِ وَغِنَاهُ غِنًى لَهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَوِيَّةٌ فِي مَنَافِعِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ غِنَاهُ غِنًى لِلشَّاهِدِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لَهُ جَائِزَةٌ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا مَنْ يُرْغَبُ فِي غِنَاهُ لِمَنْفَعَتِهِ فَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْأَبُ يَجِبُ عَلَى ابْنِهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ أَوْ أَجِيرٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ إذَا شَهِدَ لَهُ جَرَّ إلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ نَفْعًا وَالزَّوْجَةُ تَنْبَسِطُ فِي مَالِ زَوْجِهَا فَتَجُرُّ إلَى نَفْسِهَا بِذَلِكَ نَفْعًا.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ لِمَنْ يَنَالُهُ مِنْهُ مَعْرُوفٌ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ
(5/205)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يَكُونَ الْمَعْرُوفُ مُتَكَرِّرًا مُعْتَادًا وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْرُوفُ مُتَعَيِّنًا، فَأَمَّا الْمَعْرُوفُ الْمُعْتَادُ فَإِنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرَابَةُ كَالْأَخِ يَكُونُ فِي عِيَالِ أَخِيهِ أَوْ تَحْتَ نَفَقَتِهِ أَوْ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ مَعْرُوفُهُ فَهَذِهِ تُهْمَةٌ تُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِ لَهُ، وَأَمَّا الصَّدِيقُ الْمُلَاطِفُ الَّذِي يَنَالُهُ مَعْرُوفُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ فَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُ مَقْبُولَةٌ وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ فَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا مَقْبُولَةٌ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَخِ أَنَّ الْمَعْرُوفَ يَقْتَرِنُ بِالْأُخُوَّةِ وَالْقَرَابَةِ فَتَقْوَى التُّهْمَةُ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ الْمَعْرُوفِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ وَذَا الْمَعْرُوفِ لَوْ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ إلَّا شَهَادَةُ مَنْ لَا يَنَالُهُ مَعْرُوفُهُ لَرُدَّتْ لَهُ شَهَادَاتُ أَكْثَرِ النَّاسِ وَلَاقْتَضَى ذَلِكَ مَنْعَهُ مَعْرُوفَهُ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ هَذَا مِمَّنْ يَنَالُهُ مَعْرُوفُهُ وَيَتَكَرَّمُ عَلَيْهِ فَلَمْ يُقْبَلْ لَهُ شَهَادَةٌ كَالْأَخِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الْمَعْرُوفُ الْمُعَيَّنُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَدَامًا وَالثَّانِي أَنْ يَخْتَصَّ بِوَقْتِ الشَّهَادَةِ، فَأَمَّا الْمُسْتَدَامُ فَكَشَهَادَةِ الْعَامِلِ لِرَبِّ الْمَالِ قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا إنْ كَانَ شَغَلَ الْمَالَ فِي سِلَعٍ فَشَهَادَتُهُ لَهُ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ، وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ إنْ كَانَ عَيْنًا فَشَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا فَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ، وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّهُ إذَا شَغَلَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَخَذُهُ فَارْتَفَعَتْ التُّهْمَةُ وَمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ يَدِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ضَعِيفٌ فِي التُّهْمَةِ لِبُعْدِ الْأَمَدِ وَعَدَمِهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ كَوْنَ الْمَالِ بِيَدِ الْعَامِلِ وَجْهٌ لِكَسْبِهِ فَيُتَّهَمُ فِي شَهَادَتِهِ إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى بَقَائِهِ بِيَدِهِ لِفَقْدِهِ وَبُعْدِ التُّهْمَةِ مَعَ غِنَاهُ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ مَالِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ عَلَى الشَّاهِدِ دَيْنٌ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَمُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ إنْ كَانَ غَنِيًّا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ زَادَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ لِأَنَّهُ كَالْأَسِيرِ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ قَدْ قَرُبَ مَحِلُّهُ فَهَذَا حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ بَعِيدٍ فَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ سَحْنُونٍ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُ جَائِزَةٌ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ شَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعْنَى الْغَنِيِّ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ لَا يَسْتَضِرَّ بِإِزَالَةِ هَذَا الْمَالِ عَنْهُ، فَأَمَّا إنْ كَانَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ بِهِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ فَقِيرٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ الْعَظِيمَ يَلْحَقُهُ بِتَعْجِيلِ قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْهُ وَلَهُ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ فِي تَأْخِيرِهِ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ يُشْبِهُ قُوَّتَهُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِوَقْتِ الشَّهَادَةِ فَأَنْ يَقْصِدَ حِينَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْ يُعْطِيَهُ أَوْ يَصِلَهُ أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُحَابِيَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ قَالَ هَذَا كُلُّهُ يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ التُّهْمَةِ لِدَفْعِ الْمَعَرَّةِ فَمِثْلُ أَنْ يُعَدِّلَ الرَّجُلُ ابْنَهُ أَوْ أَبَاهُ فَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي نَقْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ التَّعْدِيلَ غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَجْلِبٌ بِشَهَادَتِهِ الْجَاهَ وَالرِّفْعَةَ، وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي نَقْلِ شَهَادَةٍ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْوَاضِحَةِ وَالْمَجْمُوعَةِ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ نَقْلَ شَهَادَةٍ، وَلَوْ ابْتَغَى تَعْدِيلَهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا النَّاقِلِ لَوَجَدَ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّعْدِيلَ مَقْبُولٌ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَذَّرُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّعْدِيلُ مَرْدُودٌ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ وَمُطَرِّفٌ لَا يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ لَهُ بِوَجْهٍ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّ هَذَا التَّعْدِيلَ إنَّمَا حَقِيقَتُهُ الْإِعْلَامُ بِخَبَرِهِ فَإِذَا كَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ يُزَكَّى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فَلَا تُهْمَةَ تَلْحَقُ فِي ذَلِكَ، وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّ تَعْدِيلَ الْأَبِ ابْنَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِيَسِيرِ الْمَالِ وَمَا يُوجَدُ تَعَدِّيهِ مِنْ الْجَاهِ وَالرِّفْعَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَالِ فَبِأَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ لَهُ بِهِ فَشَهَادَتُهُ لَهُ أَوْلَى.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا تَعْدِيلُ الْأَخِ لِأَخِيهِ الَّذِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي الْمَالِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ وَهُوَ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَشْهَبَ تَعْدِيلُهُ مَرْدُودٌ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ مَنْ جَازَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي الْمَالِ جَازَ تَعْدِيلُهُ لَهُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ تَعْدِيلَهُ بِهِ شَرَفٌ وَجَاهٌ يَتَعَدَّى إلَيْهِ بِخِلَافِ
(5/206)
الْقَضَاءُ فِي شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ رَجُلٍ جُلِدَ الْحَدَّ أَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَقَالُوا نَعَمْ إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ التَّوْبَةُ مَالِكٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ شِهَابٍ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] قَالَ مَالِكٌ فَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي يُجْلَدُ الْحَدَّ ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَهُوَ أَحَبُّ مَا سَمِعْت إلَيَّ فِي ذَلِكَ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى مَالِكِهِ.
[الْقَضَاءُ فِي شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ]
(ش) : قَوْلُهُ أَنَّهُمْ سُئِلُوا عَنْ رَجُلٍ جُلِدَ الْحَدَّ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَفْظٌ عَامٌّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي يُجْلَدُ فِيهَا مِنْ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ إلَّا أَنَّ إيرَادَهُ هَهُنَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِهِ حَمْلَهُ عَلَى عُمُومِهِ ثُمَّ يُسْتَدَلَّ عَلَى نَوْعٍ مِنْهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ فَيَجْعَلَهُ أَصْلًا لِجَمِيعِ الْجِنْسِ، وَالثَّانِي أَنْ يُرِيدَ الْقَذْفَ وَحْدَهُ وَيَقْصِدَ بَيَانُ حُكْمِهِ بِالْآيَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا؛ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَكُلُّ مَا يُوجِبُ الْجَلْدَ حَدًّا يُوجِبُ التَّفْسِيقِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ رَدُّ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ يُنَافِي قَبُولَ الشَّهَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فَكُلُّ مَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ وَلَمْ يُثْبِتْ مَا قَذَفَ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ ذَلِكَ الْقَذْفِ وَوَجَبَ رَدُّ شَهَادَتِهِ بِهِ وَالْحُكْمُ بِفِسْقِهِ فِي الظَّاهِرِ إلَيْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ فَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ أَوْ مُشْتَبَهًا عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَتَى يُحْكَمُ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ مِنْ الْمَجْمُوعَةِ وَكِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ حَتَّى يُجْلَدَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْكِتَابَيْنِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إنْ عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ وَحَقَّ عَلَيْهِ الْقَذْفُ، وَلَوْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الْجَلْدِ وَبَعْدَهُ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ قَاذِفًا بِأَنْ يُكْمِلَ الْجَلْدَ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَوْ أَقَرَّ الْمَقْذُوفُ وَثَبَتَ عَلَيْهِ مَا قَذَفَهُ بِهِ لَسَقَطَ الْجَلْدُ؛ لِأَنَّ طَرِيقَهُ النَّكَالُ وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَاذِفًا وَذَلِكَ يَمْنَعُ التَّفْسِيقَ بِهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ يَتِمُّ بِعَجْزِهِ عَنْ إثْبَاتِ مَا قَذَفَ بِهِ وَالْحَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ تَطْهِيرٌ لَهُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ رَدُّ الشَّهَادَةِ كَالْكَفَّارَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا مَا يُوجِبُ النَّكَالَ وَالتَّعْزِيرَ دُونَ الْحَدِّ فَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِيمَنْ كَانَتْ حَالُهُ حَسَنَةً فَوَجَبَ عَلَيْهِ نَكَالُ الشَّتْمِ أَوْ نَحْوُهُ فَلَا تُرَدُّ بِذَلِكَ شَهَادَتُهُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ بِمَشْهُورِ الْعَدَالَةِ إلَّا أَنَّهُ مَقْبُولٌ وَأَتَى بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ مِمَّا فِيهِ النَّكَالُ الشَّدِيدُ فَلْيُنْظَرْ فِي هَذَا، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا عِنْدَ نُزُولِهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مِنْهُ مَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ وَمِنْهُ مَا لَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِهِ عَلَى قَدْرِ الشَّاتِمِ، وَقَدْرِ مَا أَتَى بِهِ وَعَلَى حَسَبِ ذَلِكَ يُعْمَلُ فِي رَدِّ شَهَادَتِهِ وَإِمْضَائِهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إنَّ الْأَمْرَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي جُلِدَ جَلْدَ الْحَدِّ ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ تَجُوزُ شَهَادَتِهِ يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ مَنْ جُلِدَ فِي حَدٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ قَذْفٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَلْدِ الْحَدِّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْآيَةِ وَهُوَ
(5/207)
الْقَضَاءُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَامِلٌ عَلَى الْكُوفَةِ أَنْ اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ مَالِكٌ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلَا هَلْ يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَالَا نَعَمْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] إلَى {رَحِيمٌ} [النور: 5] فَاسْتَثْنَى مَنْ تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ تَابَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا تُرْفَعُ عَنْهُ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَعَقِّبٌ لِجَمِيعِهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفِسْقِ فَيُعْرَفُ صَلَاحُ حَالِهِ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ حَالِ الْفِسْقِ وَالْتِزَامِ أَحْوَالِ الْعَدَالَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالصَّلَاحِ فَالتَّزَيُّدُ فِيهِ حَتَّى يُعْرَفَ زِيَادَةُ صَلَاحِ حَالِهِ قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَجْمُوعَةِ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالصَّلَاحِ فَمَعْرِفَةُ ظُهُورِ التَّزَيُّدِ تَطُولُ وَلَيْسَ لِمَنْ كَانَ مُعْلِنًا بِالسُّوءِ؛ لِأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْخَيْرِ لَا يَتَبَيَّنُ مَزِيدُهُ فِيهِ إلَّا بِالتَّزْدَادِ فِيهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ هَاهُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ ازْدَادَ خَيْرًا وَصَلَاحًا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ تَوْبَتِهِ وَلَا مُؤَثِّرًا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ رُجُوعُهُ عَنْ قَذْفِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ بِصَلَاحِ حَالِهِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ قَالَ وَلَا يَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ تُبْ، وَلَوْ قَالَ تُبْت لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ لَا أَتُوبُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ تُبْتُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَلَا يَنْقُلُهُ عَنْ حَالَةِ الْفِسْقِ حَتَّى يَظْهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَوْبَتُهُ تَكْذِيبُهُ نَفْسَهُ وَبَلَغَنِي عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ نَحْوُهُ، وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ تَوْبَةٌ مِنْ ذَنْبٍ فَكَانَتْ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَسَائِرِ الذُّنُوبِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا كَانَتْ بِالْأَقْوَالِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ مِنْهَا بِالْقَوْلِ وَتَكْذِيبِ نَفْسِهِ كَالرِّدَّةِ لَمَّا كَانَتْ قَوْلًا كَانَتْ التَّوْبَةُ مِنْهَا بِتَكْذِيبِ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَفِي أَيِّ شَيْءٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْقَذْفِ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَجْمُوعَةِ مَنْ حُدَّ فِي قَذْفٍ أَوْ زِنًى قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْقَذْفِ وَالزِّنَا وَغَيْرِهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ أَنَّ مَنْ كَانَتْ بِهِ وَصْمَةٌ أَوْ تَوَرُّطٌ فِي أَمْرٍ حَرَصَ أَنْ يُلْحِقَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ لِيُسَاوُوهُ وَيُنْفَى عَنْهُ مَعَرَّةُ ذَلِكَ فَيَهْتَمُّ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا وَافَقَهُ لِيُسَاوِيَهُ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ حُكْمَنَا بِعَدَالَتِهِ يَنْفِي مِثْلَ هَذِهِ التُّهْمَةِ عَنْهُ فَإِذَا قَبِلْنَا شَهَادَتَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُدُودِ وَجَبَ أَنْ نَقْبَلَ شَهَادَتَهُ فِي الْقَذْفِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[الْقَضَاءُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ]
(ش) : قَوْلُهُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ يَحْتَمِلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ وَالثَّانِي أَنَّهُ أَنْفَذَ الْقَضَاءَ بِهِمَا فِيمَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعِيَ وَقَضَى لَهُ بِهِ وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْحِجَازِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَوِيُّ هَذَا إسْنَادٌ جَيِّدٌ فَإِنْ قِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الَّذِي جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَتَهُ وَحْدَهُ شَهَادَةَ اثْنَيْنِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذَا الشَّهَادَتَيْنِ فَالْجَوَابُ إنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجْعَلْ شَهَادَتَهُ لِغَيْرِهِ كَشَهَادَةِ اثْنَيْنِ.
وَهَذَا إذَا ثَبَتَ حُكْمٌ اخْتَصَّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا اخْتَصَّ فِي أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ وَيَسْمَعُ الْبَيِّنَاتِ فِيمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَا يُشِيرُونَ إلَيْهِ لَمْ يَشْهَدْ فِيهِ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ لِلنَّبِيِّ
(5/208)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ يَحْلِفُ صَاحِبُ الْحَقِّ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ فَإِنْ نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ أُحْلِفَ الْمَطْلُوبَ فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْحَقُّ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِصَاحِبِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَمْرٍ شَاهَدَهُ، وَإِنَّمَا شَهِدَ لَهُ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ لِعِلْمِهِ بِصِدْقِهِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ مَنْ يُخَالِفُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَقُولُ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَفَ مَعَ شَاهِدِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَجَوَابٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ تَتَعَدَّى إلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي احْتَجَجْنَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْيَمِينِ، وَحَدِيثُنَا يَقْتَضِي الْقَضَاءَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَإِنْ كَانَ جَعَلَ شَهَادَتَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الشُّهُودِ فَإِنْ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِيَمِينِ الْمَطْلُوبِ مَعَ شَهَادَةِ الْمُدَّعِي فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ لَا تَأْثِيرَ لِشَهَادَتِهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ يُفِيدُ كَوْنَهُمَا مِمَّا قَضَى بِهِ وَأَنْ يَكُونَ قَضَى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ مَا قُلْتُمُوهُ لَقَالَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ وُجُودِ الشَّاهِدِ أَوْ قَضَى بِالْيَمِينِ وَرَدَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ، وَجَوَابٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا مِنْ جَنْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى مَا يَتَأَوَّلُونَهُ الْيَمِينُ فِي غَيْرِ جَنْبَةِ الشَّاهِدِ فَلَا يُقَالُ فِيهَا إنَّهَا مَعَهُ بَلْ هِيَ نَاقِضَةٌ لَهُ وَمُبْطِلَةٌ لِشَهَادَتِهِ فَإِنْ قِيلَ نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِ هَذَا فِي مَوْضِعٍ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ حَيَوَانًا فَيَدَّعِي الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا يُنْكِرُهُ الْبَائِعُ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِشَاهِدٍ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ يَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَنَا وَحْدَهُ فَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ الْبَيْعَ بِالْبَرَاءَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَا اشْتَرَى عَلَى الْبَرَاءَةِ فَيُحْكَمُ لَهُ بِالرَّدِّ بِشَاهِدِهِ مَعَ يَمِينِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْقَضَاءَ بِالتَّمْيِيزِ مَعَ الشَّاهِدِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَاهِدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُخْبِرٌ عَنْ عِلْمِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي يَسْتَوِي النَّاسُ فِي عِلْمِهَا لَمْ يُقْبَلْ فِي ذَلِكَ إلَّا شَاهِدَانِ وَجَوَابٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْقَضَاءَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَمَا زَعَمْتُمُوهُ قَضِيَّتَانِ ثَبَتَ بِالشَّاهِدِ عِنْدَكُمْ وُجُودُ الْعَيْبِ وَثَبَتَ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي بَرَاءَتُهُ مِمَّا ادَّعَى عَلَيْهِ الْبَائِعُ مِنْ الْتِزَامِ الْبَيْعِ بِالْبَرَاءَةِ، وَهَاتَانِ قَضِيَّتَانِ قَضَى فِي إحْدَاهُمَا بِالشَّاهِدِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ الْيَمِينُ بِهَا وَقَضَى فِي الثَّانِيَةِ بِالْيَمِينِ وَلَمْ يَشْهَدْ الشَّاهِدُ بِهَا وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْيَمِينُ فِي جَنْبَتِهِ ابْتِدَاءً كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
(فَصْلٌ) :
وَمَا رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي سَلَمَةَ وَسُلَيْمَانَ فِي تَصْحِيحِ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ وَالْأَمْرُ بِهِ إظْهَارٌ لِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَأَئِمَّتِهِمْ وَأَعْلَامِهِمْ عَلَى الْحُكْمِ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ يَحْلِفُ صَاحِبُ الْحَقِّ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ فَإِنْ نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ أُحْلِفَ الْمَطْلُوبَ فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْحَقُّ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِصَاحِبِهِ) .
(ش) : وَهَذَا كَمَا قَالَ إنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقْتَطِعُ الْحُقُوقَ بِيَمِينِهِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَيَّنٌ وَغَيْرُ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: غَيْرُ مُوَلًّى عَلَيْهِ وَمُوَلًّى فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَلًّى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ حَقَّهُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا تَسَاوَوْا فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَوْا فِي الِاسْتِحْقَاقِ.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَانْفَرَدَ بِالْحَقِّ قَبْلَ شَاهِدِهِ وَاسْتُحْلِفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرَوَاهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْوَاضِحَةِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ وَارِثُ الْمَيِّتِ صَغِيرًا وُقِفَ لَهُ حَقُّهُ حَتَّى يَحْتَلِمَ فَيَحْلِفَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْيَمِينَ وَبِهَذَا قَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الصَّغِيرَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ ثَبَتَ الْيَمِينُ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ مُعَيَّنٌ يُرْجَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ الْيَمِينِ فَانْتَظَرَ ذَاكَ أَصْلُهُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا قُلْنَا يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ فَإِذَا حَلَفَ أَبْقَى الْحَقَّ عِنْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ أَوْ مُعَيَّنًا حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ
(5/209)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فَيَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ فَيَسْتَحِقَّ حَقَّهُ مَا فِي الذِّمَّةِ وَالْمُعَيَّنُ إنْ كَانَ بَاقِيًا فَإِنْ فَاتَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْحُكْمِ بِهِ لِلصَّبِيِّ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْيَمِينُ فَيَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ وَيُتْرَكُ عِنْدَهُ الْحَقُّ فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ وَصَارَ مِمَّنْ يَحْلِفُ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ لَمَّا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَ حَقَّهُ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ نَكَلَ الصَّبِيُّ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْعُتْبِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ بِذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَتْ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْمَطْلُوبِ يَمِينُ اسْتِحْقَاقٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَحْلِفَ الْمُدَّعِي فَإِنْ حَلَفَ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ لِتَقَدُّمِهَا فِي الرُّتْبَةِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ هَذِهِ لِضَرُورَةِ تَوَقُّفِ تِلْكَ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعِي صَحَّتْ يَمِينُ الْمَطْلُوبِ وَصَحَّ الْحُكْمُ لَهُ بِهَا وَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ يَمِينَ الْمَطْلُوبِ لِتَوْقِيفِ الْحَقِّ بِيَدِهِ خَاصَّةً لَمَّا تَعَذَّرَتْ يَمِينُ الطَّالِبِ الَّتِي يَتَعَجَّلُ بِهَا حَقَّهُ فَإِذَا حَلَفَ الطَّالِبُ أَخَذَ حَقَّهُ بِشَاهِدِهِ وَيَمِينِهِ فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ يَمِينَ الِاسْتِحْقَاقِ وَقُضِيَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ عَنْ هَذِهِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ أَوَّلًا يَمِينَ اسْتِحْقَاقٍ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى بَعْدَهَا لِلْمُدَّعِي يَمِينٌ وَلَوَجَبَ إذَا نَكَلَ عَنْهَا أَنْ لَا يَنْفُذَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ وَلَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي يَمِينًا بَعْدَهَا، وَلَمَّا كَانَ إذَا حَلَفَ بَقِيَ الْحَقُّ بِيَدِهِ حَتَّى يَحْلِفَ الْمُدَّعِي فَإِذَا رَشَدَ الْمُدَّعِي وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ بِالْحَقِّ لِلْمَطْلُوبِ وَعُلِمَ أَنَّهَا يَمِينُ إبْقَاءِ الْحَقِّ فَيَجِبُ إذَا رَشَدَ وَنَكَلَ الطَّالِبُ أَنْ يَحْلِفَ الْمَطْلُوبُ يَمِينَ الِاسْتِحْقَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَنَازَعٌ فِيهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ نَكَلَ الْمَطْلُوبُ أَوَّلًا غَرِمَ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ كِنَانَةَ، وَقَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ فَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّهِ، وَإِنْ نَكَلَ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّهُ إنْ نَكَلَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَالصَّغِيرُ بَعْدَ الرُّشْدِ وَالْبُلُوغِ رُدَّ إلَى الْمَطْلُوبِ وَنَحْوُهُ رَوَاهُ ابْنُ كِنَانَةَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُقْضَى لَهُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ يَمِينُهُ فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ ثَانِيَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَحْلِفُ الصَّغِيرُ إذَا كَبِرَ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى الْبَتِّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَلَا يَحْلِفُ حَتَّى يَعْلَمَ بِالْخَبَرِ الَّذِي يُتَيَقَّنُ لَهُ وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَحْلِفُ كَمَا يَحْلِفُ الْوَارِثُ عَلَى مَا لَمْ يَحْضُرْ وَلَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ لَا يَدْرِي هَلْ شَهِدَ لَهُ بِحَقٍّ أَوْ لَا فَيَحْلِفُ مَعَهُ عَلَى خَبَرِهِ وَيُصَدِّقُهُ كَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا شَهِدَ لَهُ بِهِ الشَّاهِدَانِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِمَا وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُ بِهِ شَاهِدُهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَالْمَعْلُومُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ حَتَّى يَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْبِرُ لَهُ عَدْلًا أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ إنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذَا الْحَدَّ امْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ وَاسْتُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا لَا يَسْتَيْقِنُهُ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَصِفَةُ الْيَمِينِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى حَسَبِ مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ فَإِنْ شَهِدَ لَهُ الشَّاهِدُ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ كَذَا وَلَا أَنَّهُ غَصَبَهُ كَذَا وَلَكِنْ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَقَدْ أَقَرَّ لَهُ فُلَانٌ بِكَذَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَائِبًا زَادَ فِي يَمِينِهِ أَنَّ حَقَّهُ عَلَيْهِ لَبَاقٍ وَمَا عِنْدَهُ بِهِ رَهْنٌ وَلَا وَثِيقَةٌ ثُمَّ يُقْضَى لَهُ بِذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ كَبِيرًا فَإِنَّ الَّذِي فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ وَبَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ قَالَ أَصْبَغُ كَالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ وَيُؤَخَّرُ السَّفِيهُ فَإِذَا رَشَدَ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ إنْ شَاءَ وَقُضِيَ لَهُ، وَإِنْ أَبَى لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ يَمِينٌ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُ الْحُدُودُ وَالطَّلَاقُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيَسْتَحِقَّ حَقَّهُ كَالرَّشِيدِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ مَنْ لَا يَحْلِفُ فِي دَفْعِ حَقٍّ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ كَالصَّغِيرِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ أَوَّلًا وَيَبْقَى الْحَقُّ عِنْدَهُ فَإِنْ نَكَلَ أُخِذَ مِنْهُ الْحَقُّ فَإِذَا رَشَدَ السَّفِيهُ حَلَفَ وَقُضِيَ لَهُ، وَإِنْ نَكَلَ رُدَّ إلَى.
(5/210)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْمَطْلُوبِ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ، وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ نُكُولَهُ يُضْعِفُ حَقَّهُ وَيُوجِبُ قَبْضَ الْمَالِ مِنْهُ لِحَقِّ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ فَإِذَا أَمْكَنَتْ أَيْمَانُهُمَا بِرُشْدِ السَّفِيهِ وَكِبَرِ الصَّغِيرِ اُسْتُحْلِفَا مَعَ شَاهِدِهِمَا فَإِنْ حَلَفَا نَفَذَ الْحَقُّ لَهُمَا، وَإِنْ نَكَلَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ نُكُولِهِمَا أَوَّلًا وَرُدَّ إلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ أَوَّلًا نَقَلَ الْيَمِينَ إلَى جَنْبَةِ السَّفِيهِ وَالصَّغِيرِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ تَجِبَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَنْكُلُ فَيُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَيَنْكُلُ بِأَنَّهُ يُقْضَى لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ، وَلَوْ رُوعِيَ وُجُوبُ الْيَمِينِ أَوَّلًا عَلَى السَّفِيهِ وَالصَّغِيرِ وَأَنَّ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَتْ لِتَأْخِيرِ أَخْذِ الْحَقِّ مِنْهُ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ مِنْ الْيَمِينِ فَيُحَلِّفُ الرَّشِيدُ وَالْكَبِيرُ شَاهِدَهُمَا لَوَجَبَ إنْ نَكَلَا أَنْ تُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَإِنْ حَلَفَ رُدَّ إلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ بِنُكُولِ الطَّالِبِ مَعَ شَاهِدِهِ، وَإِنْ نَكَلَ نَفَذَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ نَكَلَ عَنْ يَمِينٍ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا يَحْلِفُ السَّفِيهُ مَعَ شَاهِدِهِ حَالَ سَفَهِهِ فَإِنَّهُ إنْ حَلَفَ قَبَضَ مَا اسْتَحَقَّهُ بِيَمِينِهِ النَّاظِرِ لَهُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالِاخْتِيَارُ أَنْ يَحْلِفَ وَيَقْبِضَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَإِذَا صَارَ إلَيْهِ قَبَضَهُ مِنْهُ مَنْ يَنْظُرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ شَيْئًا إلَّا مَنْ لَهُ قَبْضُهُ.
(فَرْعٌ) وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ وَبَرِئَ وَلَا يَمِينَ عَلَى السَّفِيهِ إذَا رَشَدَ، وَكَذَلِكَ الْبَكْرُ الْمُوَلَّى عَلَيْهَا رَوَاهُ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ لَهَا الرُّجُوعُ إلَى الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ قَدْ حَلَفَ أَوَّلًا وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فَنَكَلَ عَنْهَا وَحُكِمَ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمَطْلُوبِ لِنُكُولِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ كَالرُّشْدِ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ كِنَانَةَ أَنَّ السَّفِيهَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ نُكُولُهُ كَالصَّغِيرِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ وَلَا يُحَاطُ بِعَدَدِهِمْ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدٌ بِصَدَقَةٍ لِبَنِي تَمِيمٍ أَوْ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ لَا يُحْلَفُ مَعَ هَذَا الشَّاهِدِ وَلَا يُسْتَحَقُّ بِشَهَادَتِهِ حَقٌّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَحِقُّ هَذَا الْحَقِّ فَيَحْلِفُ مَعَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ هَذَا الْحَقِّ وَيُصْرَفُ إلَى غَيْرِ مِلْكِهِ وَقَبْضِهِ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ فِي الْحُقُوقِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ الْمِلْكَ أَوْ الْقَبْضَ وَيُطْلَبُ مِنْهُ إنْ نَكَلَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ الْحَبْسُ لِغَيْرِ مُعَيَّنِينَ إلَّا أَنَّهُ يُحَاطُ بِعَدَدِهِمْ وَأُضِيفَ إلَيْهِمْ مَنْ لَا يُحْصَى مِثْلُ أَنْ يَقُولَ حَبَسْت هَذَا الْمِلْكَ عَلَى وَلَدِ زَيْدٍ وَعَقِبِهِمْ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ الَّذِي يَقُولُ أَصْحَابُنَا إنَّ كُلَّ حَبْسٍ مُسْبِلٍ وَمُعَقَّبٍ فَلَا يَصْلُحُ فِيهِ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ، وَرَوَى ابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ إذَا حَلَفَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ نَفَذَتْ الصَّدَقَةُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَمَوْلُودِهِمْ ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بَعْدَ كَلَامٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّ ابْنَ وَهْبٍ وَمُطَرِّفًا وَابْنَ الْمَاجِشُونِ رَوَاهَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ أَهْلِ الصَّدَقَةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ مَعَ الشَّاهِدِ وَيُثْبِتُ حَبْسًا لَهُ وَلِجَمِيعِ أَهْلِهَا، فَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ إنَّمَا هِيَ فِيمَنْ ذُكِرَ بِحَصْرِ عَدَدِهِ.
وَقَدْ قَالَ الْمُغِيرَةُ فِي الْمَجْمُوعَةِ إذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ لِمُعَيَّنٍ وَغَيْرِ مُعَيَّنٍ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدُ أَنَّ فُلَانًا حَبَسَ عَلَى فُلَانٍ وَعَلَى عَقِبِهِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَحِقُّ الْحَقُّ لَهُ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ وَجِنْسَهُمْ يَتَرَتَّبُ عَلَى مَرَاتِبِ الْحُقُوقِ وَذَلِكَ عَلَى سِتَّةِ أَضْرُبٍ فَيَثْبُتُ الزِّنَى بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
(فَرْعٌ) وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ فَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ فِي الْوَاضِحَةِ لَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ إلَّا سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شُهُودِ الْأَصْلِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ فَإِنْ تَفَرَّقُوا جَازَ أَنْ يَنْقُلَ شَهَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ حَتَّى يَصِيرُوا ثَمَانِيَةً وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ وَقِيلَ لَا يَكْفِي إلَّا الْأَرْبَعَةُ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَتَانِ
(5/211)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ إذَا شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ حُدَّا وَجْهُ رِوَايَةِ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي الزِّنَا مُغَلَّظَةٌ بِالْعَدَدِ وَاخْتُصَّتْ بِذَلِكَ فَلِذَلِكَ اخْتَصَّتْ بِأَنْ لَا تُنْقَلَ عَنْ شَاهِدٍ لَا مَنْ لَا يَنْقُلُ عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَلَّظُ نَقْلُهَا مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ إلَّا بِهَذَا الْوَجْهِ.
(فَرْعٌ) وَإِذَا قَطَعَ اللُّصُوصُ عَلَى رُفْقَةٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا قَوْمٌ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ الْمُغِيرَةِ وَابْنِ دِينَارٍ لَا يَجُوزُ مِنْهُمْ أَقَلُّ مِنْ شَهَادَةِ أَرْبَعٍ فِي الْقَطْعِ وَأَمْوَالِ الرُّفْقَةِ غَيْرَ الَّذِينَ شَهِدُوا وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ جَائِزَةٌ فِي الْقَطْعِ وَفِي أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْمَالِ لَمْ يَجُزْ فِي الْقَطْعِ، وَقَالَهُ مَالِكٌ وَلَا يُقْبَلُ بَعْضٌ وَيُتْرَكُ بَعْضٌ، وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ تَجُوزُ شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ مِنْهُمْ فِي الْقَطْعِ وَفِي أَمْوَالِ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْمَالِ لَمْ يَجُزْ فِي الْقَطْعِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ وَأَمْوَالُ الرُّفْقَةِ دُونَ أَمْوَالِهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَسِيرًا فَيَجُوزُ ذَلِكَ لَهُمْ وَيَغْرَمُ كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي الْوَصِيَّةِ، وَإِنْ كَثُرَ مَالُهُمَا لَمْ يَجُزْ فِي الْقَطْعِ لِمَالِهِمَا وَلَا لِغَيْرِهِمَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي فَشَاهِدَانِ مِنْ الرِّجَالِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالرُّشْدِ وَالسَّفَهِ وَقَتْلِ الْعَمْدِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَشْهَدَهُمَا بِمَا فِيهِ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ سَحْنُونٍ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْأَبْدَانِ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا تَرْشِيدُ السَّفِيهِ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ لَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ فَاشِيًّا وَيَجُوزُ إفْشَاءُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي شَهَادَتِهِنَّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ إنْفَاذَ الرَّجُلَيْنِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ يَبْعُدُ وَيَتَرَتَّبُ مَعَ كَوْنِهِ مُتَصَرِّفًا بَيْنَ النَّاسِ وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ الثِّقَةِ وَالصَّلَاحِ فَإِنَّ الرَّشِيدَ يُقْصَدُ بِمُجَالَسَتِهِ وَمُدَاخَلَتِهِ، وَلَوْ قَلَّ ذَلِكَ لَعَرَفَ النِّسَاءُ مِنْ جِيرَانِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَنْ يُدَاخِلُهُمْ فَإِذَا فَشَا ذَلِكَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ أَحَدٍ غَيْرَ الرَّجُلَيْنِ مَعَ مَا يَلْزَمُ مِنْ ظُهُورِ ذَلِكَ وَفُشُوِّهِ لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ وَقَوْلُهُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ظَاهِرُهُ عِنْدِي جَوَازُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْفُشُوِّ وَالظُّهُورِ وَذَلِكَ بِأَنْ تَجُوزَ مِنْهُنَّ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ فِي رَجُلٍ فِي تَرْشِيدِهِ الْمُوجِبِ لِرَفْعِ مَالِهِ لَمَّا كَانَ مَقْصُودًا لِشَهَادَةِ الْمَالِ كَشَهَادَتِهِنَّ مَعَ رَجُلٍ فِي الْوَكَالَةِ وَعَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ فِي الْمَالِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْعُقُودِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْأَمْوَالِ، فَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِالْأَمْوَالِ وَلَكِنْ مَقْصُودُهَا الْمَالُ كَالْوَكَالَةِ عَلَى الْمَالِ وَالْوَصِيَّةِ بِالنَّظَرِ فِيهِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَشْهَبُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ.
وَقَالَ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ يَجُوزُ نَقْلُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ، وَقَالَهُ أَشْهَبُ قَالَ أَصْبَغُ مَعْنَاهُ عِنْدِي فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ شَهَادَةُ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ مَالِكٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي الْوَكَالَةِ وَلَا نَقْلِ الشَّهَادَةِ وَلَا فِي إسْنَادِ الْوَصَايَا وَلَا أُجِيزُهَا وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ مَقْصُودُهَا الْمَالُ كَالْبَيْعِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي مَا احْتَجَّ بِهِ سَحْنُونٌ مِنْ أَنِّي لَوْ أَجَزْت شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ وَرَجُلٍ فِي الْوَكَالَةِ لَأَجَزْت فِيهَا مِثْلَ هَذَا وَيَمِينًا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالضَّرْبُ الْخَامِسُ مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ كَالْوِلَادَةِ وَالْحَمْلِ وَالْحَيْضِ وَعُيُوبِ الْفَرْجِ وَالِاسْتِهْلَالِ وَالرَّضَاعِ فَإِذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا جَائِزَةٌ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى ذَلِكَ إذَا بَقِيَ بَدَنُ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشْهَدَ الرِّجَالُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ مَيِّتًا؛ لِأَنَّ الْبَدَنَ لَا يَفُوتُ وَالِاسْتِهْلَالَ يَفُوتُ، وَأَمَّا شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ ذَكَرٌ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ
(5/212)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مَا أَرَاهُ إلَّا وَسَيَكُونُ مَعَ شَهَادَتِهِمَا يَمِينٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى مَا قَالَ أَصْبَغُ عَنْهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ نَسَبًا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مَالًا وَيُورَثُ بِأَدْنَى الْمَنْزِلَتَيْنِ إلَّا أَنْ يُخَافَ أَنْ لَا يَبْقَى إلَى أَنْ يَحْضُرَهُ الرِّجَالُ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا فِيهِ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ شَهَادَتُهُمَا لَا تَجُوزُ فِي أَنَّهُ ذَكَرٌ وَأَخَذَ بِهِ أَشْهَبُ قَالَ سَحْنُونٌ الْقَوْلُ قَوْلُ أَشْهَبَ؛ لِأَنَّ الْجَسَدَ لَا يَفُوتُ وَالِاسْتِهْلَالَ يَفُوتُ قَالَ سَحْنُونٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ بِمَوْضِعٍ لَا رِجَالَ فِيهِ وَيُخَافُ عَلَى الْجَسَدِ إنْ أُخِّرَ دَفْنُهُ فَتَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ حِينَئِذٍ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ.
1 -
(فَرْعٌ) إذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ وَذَلِكَ لِارْتِفَاعِ الضَّرُورَةِ بِحُضُورِ الرِّجَالِ فَتَسْقُطُ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ وَلَا تَتِمُّ الشَّهَادَةُ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَقَدْ سَمِعْت مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُجِيزُ ذَلِكَ وَرَآهُ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَيَلْحَقُ بِهَذَا فَصْلٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ بَابِ الْفَتْوَى وَالْخَبَرِ كَالْقَائِفِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ عَنْ سَحْنُونٍ لَا يُقْضَى بِقَائِفٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ نَسَبٌ وَيُكْتَبُ إلَى الْبُلْدَانِ وَيُنْتَظَرُ أَبَدًا حَتَّى يُضَمَّ إلَيْهِ آخَرُ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ شَهَادَةَ الْقَائِفِ الْوَاحِدِ مَقْبُولَةٌ وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَقْبَلْ فِيهِ إلَّا قَوْلَ اثْنَيْنِ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا بِالنَّسَبِ وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْفَتْوَى وَالْخَبَرِ قَبِلَ فِيهِ قَوْلَ وَاحِدٍ وَيَلْزَمُ عِنْدِي عَلَى هَذَا أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ إذَا سَأَلَهُ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ عَنْ عِلْمِهِ لِذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّرْجَمَةُ لِقَوْلِ الْخَصْمِ إذَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْحَاكِمُ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدُهُمَا فَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ يُجْزِئُ الْوَاحِدُ الْعَدْلُ وَالِاثْنَانِ أَحَبُّ إلَيَّ وَالْمَرْأَةُ الْعِدْلَةُ تُجْزِئُهُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ مِمَّا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ.
قَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ لَا تُقْبَلُ تَرْجَمَةُ النِّسَاءِ وَلَا تَرْجَمَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَهَذَا يَجْرِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَمْرِ الْقَائِفِ، غَيْرَ أَنَّ اشْتِرَاطَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٍ فِي قَبُولِ التَّرْجَمَةِ مِنْ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ نَظَرٌ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَبَّرَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ قُبِلَ فِيهِ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ وَالْمَرْأَةُ فَإِنَّمَا هُوَ تَجَوُّزٌ فِي عِبَارَةٍ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ لَا تُقْبَلُ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَالْفَتْوَى فَيَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ فِيهِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْعَدَالَةُ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُفْتِي وَالرَّاوِي لِلْحَدِيثِ، وَأَمَّا عُيُوبُ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْوَاضِحَةِ يَأْمُرُ الْحَاكِمُ مَنْ يَثِقُ بِنَظَرِهِ وَعِلْمِهِ بِالْعَيْبِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ، وَيَأْخُذُ فِيهِ بِخَبَرِهِ وَحْدَهُ وَبِقَوْلِ الطَّبِيبِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْلِمٍ إذْ لَيْسَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّهُ عِلْمٌ يُؤْخَذُ مِمَّنْ يُبْصِرُهُ مِنْ مَرْضِيٍّ أَوْ غَيْرِ مَرْضِيٍّ وَهَذَا مَا كَانَ الْمُخْتَبَرُ حَاضِرًا، فَإِنْ غَابَ أَوْ مَاتَ انْتَقَلَ إلَى بَابِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونِ فَقَالَ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ قَالَ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ قُبِلَ فِيهِ خَبَرُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ غَابَتْ الْأَمَةُ أَوْ مَاتَتْ لَمْ يُقْبَلْ فِي ذَلِكَ إلَّا شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالضَّرْبُ السَّادِسُ مَا لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ وَهُوَ شَهَادَةُ أَهْلِ الرُّفْقَةِ بِالتَّوَسُّمِ وَشَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِيمَا لَا يَحْضُرُهُ غَيْرُهُمْ غَالِبًا مِنْ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِي ذَلِكَ وَاعْتَبَرَهَا بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ سَقَطَ وَأُحْلِفَ الْمَطْلُوبُ، يُرِيدُ أَنَّ الْيَمِينَ تَنْتَقِلُ مِنْ جَنْبَةِ مَنْ لَهُ أَوَّلًا لِنُكُولِهِ عَنْهَا إلَى جَنْبَتِهِ الْأُخْرَى فَإِنْ ثَبَتَ أَوَّلًا فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي لِقُوَّتِهَا بِشَاهِدٍ يَشْهَدُ لَهُ فَنَكَلَ عَنْهُ انْتَقَلَتْ إلَى جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ ثَبَتَتْ أَوَّلًا فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَنَكَلَ انْتَقَلَتْ إلَى جَنْبَةِ الْمُدَّعِي
(5/213)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً وَلَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَلَا فِي نِكَاحٍ وَلَا فِي طَلَاقٍ وَلَا فِي عَتَاقَةٍ وَلَا فِي سَرِقَةٍ وَلَا فِي فِرْيَةٍ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَإِنَّ الْعَتَاقَةَ مِنْ الْأَمْوَالِ فَقَدْ أَخْطَأَ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ لَحَلَفَ الْعَبْدُ مَعَ شَاهِدِهِ إذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ وَأَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى مَالٍ مِنْ الْأَمْوَالِ ادَّعَاهُ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ وَاسْتَحَقَّ حَقَّهُ كَمَا يَحْلِفُ الْحُرُّ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَ عَنْهُ الْحَقُّ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِصَاحِبِهِ يُرِيدُ أَنَّ الْيَمِينَ إذَا انْتَقَلَتْ إلَى جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَ نَكَلَ الْمُدَّعِي عَنْ الْيَمِينِ مَعَ شَاهِدِهِ فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ حَلَفَ سَقَطَتْ عَنْهُ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ إنَّمَا هِيَ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ جَنْبَتَهُ تَضْعُفُ حِينَئِذٍ بِنُكُولِهِ فَلَا يَنْتَقِلُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ إلَى إثْبَاتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُحْكَمُ بِنُكُولِهِ مَعَ شَاهِدِ الدَّعْوَى، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ النُّكُولَ بِسَبَبٍ مُؤَثِّرٍ فِي الْحُكْمِ فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِهِ مَعَ الشَّاهِدِ كَيَمِينِ الْمُدَّعِي، وَمَعْنَى تَأْثِيرِهِ أَنَّ الْيَمِينَ تَنْتَقِلُ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى جَنْبَةِ الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ الْيَمِينُ مِنْ خَصْمِهِ فَنَكَلَ عَنْهَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ كَاَللَّذَيْنِ لَا بَيِّنَةَ بَيْنَهُمَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ نَكَلَ مَنْ شَهِدَ لَهُ الشَّاهِدُ بِحَقٍّ فَرُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَحَلَفَ ثُمَّ وَجَدَ الطَّالِبُ شَاهِدًا آخَرَ فَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ أَنَّهُ لَا يُضَمُّ لَهُ إلَى الْأَوَّلِ وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُضَمُّ لَهُ إلَى الْأَوَّلِ وَيُقْضَى لَهُ بِهِ قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ هَذَا وَهْمٌ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ لَا يُضَمُّ إلَى الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمَرْأَةِ تُقِيمُ شَاهِدًا عَلَى طَلَاقٍ فَيَحْلِفُ الزَّوْجُ ثُمَّ تَجِدُ شَاهِدًا آخَرَ أَنَّهُ لَا يُضَمُّ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا نُكُولٌ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَقَالَ أَصْبَغُ بِقَوْلِ مَالِكٍ يُضَافُ لَهُ الشَّاهِدُ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ فِي الْحُقُوقِ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقِمْ شَاهِدًا فَيَحْلِفَ الْمَطْلُوبُ ثُمَّ يُصِيبَ الطَّالِبُ بَيِّنَتَهُ أَنَّهُ يَقُومُ بِهَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا أَصْبَغُ وَالْخِلَافُ فِيهَا كَالْخِلَافِ فِي هَذِهِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا لَا يُضَمُّ الشَّاهِدُ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ يُؤْتَنَفُ لَهُ الْحُكْمُ فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ، وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ لَا يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ حَقَّهُ بِالنُّكُولِ وَنَحْوِهِ رَوَى يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فَإِذَا قُلْنَا يَحْلِفُ فَنَكَلَ ثَانِيَةً فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ تُرَدُّ الْيَمِينُ ثَانِيَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْأَوَّلَ إنَّمَا سَقَطَ بِهَا شَهَادَةُ الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ ابْنُ مُيَسَّرٍ لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمَطْلُوبِ ثَانِيَةً؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ عَلَى الْحَقِّ مَرَّةً.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ شَهَادَةٌ قُبِلَتْ فِي الشَّرْعِ مَعَ شَهَادَةِ رَجُلٍ فَجَازَ أَنْ يُقْضَى بِهَا مَعَ الْيَمِينِ.
(ش) : قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً قَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْمَالِ الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِ الْمُعَيَّنِ بِمَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْأَمْوَالِ الْجَسِيمَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالْحَائِطِ وَالرَّقِيقِ قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ وَفِي الْغَصْبِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَمَا لَا تَحْمِلُهُ وَفِي إبْرَاءِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَمُصَالَحَتِهِ وَقَبْضِهِ وَفِي التَّبَرِّي مِنْ عَيْبِ الرَّقِيقِ وَإِقْرَارِ مَنْ يَشْهَدُ بِهِ شَاهِدَانِ بِمَالٍ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِبَاطِلٍ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بَاشَرَتْ الْمَالَ وَالْعُقُودَ الْمُخْتَصَّةَ بِالْمَالِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ تَعَلَّقَتْ الشَّهَادَةُ بِالْعُقُودِ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِالْمَالِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْمَالُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى حُكْمِ قَاضٍ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ لَا يَثْبُتُ كِتَابُ قَاضٍ إلَى قَاضٍ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ فِي مَالٍ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَثْبُتُ لَهُ الْقَضَاءُ وَجْهُ قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَالِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْمَالُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى النِّكَاحِ، وَوَجْهُ قَوْلِ مُطَرِّفٍ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ مَقْصُودُهَا الْمَالُ فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الْجِرَاحُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ
(5/214)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
شُيُوخِنَا فِيهَا فَفِي الْمَجْمُوعَةِ وَغَيْرِهَا إطْلَاقُ قَوْلِهِمْ لَا يَجُوزُ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ إلَّا حَيْثُ تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ أَصْلُنَا أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ فِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ جَازَتْ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَكُلُّ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ لَمْ تَجُزْ فِيهِ شَهَادَةُ وَيَمِينُ النِّسَاءِ وَتَقَدَّمَ مِنْ الْقَوْلِ أَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ إنَّمَا يَجُوزُ فِي الْمَالِ.
وَقَدْ قَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَأَشْهَبُ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي خَطَأِ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحَاتِ قَالَ أَشْهَبُ وَفِي الْعَمْدِ الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ حَلَفَ الْمَجْرُوحُ وَاسْتَحَقَّ دِيَةَ جُرْحِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ إنَّمَا يَجِبُ بِهَا الْمَالُ وَبِهِ فَثَبَتَتْ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ كَالشَّهَادَةِ بِالْبَيْعِ وَاخْتُلِفَ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ فَرَوَى فِي الْعُتْبِيَّةِ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ، وَرَوَى فِي الْمَجْمُوعَةِ وَكِتَابِ ابْنِهِ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٌ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ لَا يَجِبُ بِهَا مَالٌ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ فَلَمْ تَثْبُتْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ كَالشَّهَادَةِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا حَقُّ الْآدَمِيِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْوِيتِ نَفْسٍ وَلَا مِلْكِ مَنَافِعِهَا فَأَثْبَتَتْ الشَّهَادَةَ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
(فَرْعٌ) وَإِذَا قُلْنَا تَجُوزُ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ فَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْوَاضِحَةِ يَجُوزُ فِيمَا صَغُرَ مِنْهَا كَالْمُوضِحَةِ وَالْأُصْبُعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْمَنُ عَلَى النَّفْسِ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَكِتَابِ ابْنِهِ اخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.
قَالَ وَاَلَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَا يُعْجِبُنِي وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٍ أَنَّ الشَّهَادَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِمَا يَثْبُتُ بِهَا وَوَجَدْنَا التَّغْلِيظَ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ جِهَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ وَلَهُ أَقَلُّ وَأَكْثَرُ وَمِنْ جِهَةِ الذُّكُورَةِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ الزِّنَا يَتَعَلَّقُ بِهِ سَفْكُ الدَّمِ وَإِتْلَافُ حُرْمَةِ الْعِرْضِ وَتَدْخُلُ بِهِ الْمَعَرَّةُ عَلَى الْأَهْلِ وَالْقَرَابَةِ تَغَلَّظَ بِالْوَجْهَيْنِ بِأَكْثَرِ الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةِ، وَلَمَّا كَانَ قَتْلُ الْعَمْدِ يَتَعَلَّقُ بِهِ سَفْكُ الدَّمِ خَاصَّةً تَعَلَّقَ بِأَقَلَّ الْعَدَدَيْنِ وَالذُّكُورَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْأَمْوَالُ أَقَلَّهَا رُتْبَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذُكُورَةٍ وَلَا عَدَدٍ فَثَبَتَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَبِالْيَمِينِ مَعَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَوَجَدْنَا الْجِرَاحَ تُنَوَّعُ نَوْعَيْنِ فَمِنْهَا مَا يَصْغُرُ وَيَقِلُّ خَطَرُهُ وَيُؤْمَنُ تَعَدِّيهِ إلَى النَّفْسِ غَالِبًا فَلَمْ يَدْخُلْهُ التَّغْلِيظُ وَثَبَتَ بِمَا تَثْبُتُ بِهِ الْأَمْوَالُ وَمِنْهَا مَا عَظُمَ وَعَظُمَ خَطَرُهُ وَيُخَافُ تَعَدِّيهِ إلَى النَّفْسِ فَدَخَلَهُ التَّغْلِيظُ الَّذِي حَصَلَ فِي الْقَتْلِ لِمَا يُخَافُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا إلَيْهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِمَا دُونَ النَّفْسِ شَهَادَةٌ بِجِرَاحٍ لَا تَتَنَاوَلُ النَّفْسَ وَلَا سَفْكَ الدَّمِ فَتَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَبِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَيَمِينٍ أَصْلُ ذَلِكَ مَا صَغُرَ مِنْ الْجِرَاحِ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَرَى الِاحْتِيَاطَ فِي إثْبَاتِ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ بِالشَّاهِدَيْنِ وَالْيَمِينِ كَمَا يَرَى ذَلِكَ فِي إثْبَاتِهَا بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ، وَإِنَّمَا تَغْلُظُ النَّفْسُ بِعَدَدِ الْأَيْمَانِ وَالْحَالِفِينَ، وَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ الْعَدَالَةُ وَالذُّكُورَةُ فِي الشَّاهِدِ بِالْقَتْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً دُونَ الْحُدُودِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْفِدْيَةِ يُرِيدُ أَنَّ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ يُحْكَمُ بِهَا فِي الْأَمْوَالِ وَلَا يُحْكَمُ بِهَا فِي الْمَعَانِي الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا مِنْ الْحُدُودِ وَالسَّرِقَةِ وَالْفِدْيَةِ زَادَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ وَالشُّرْبِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْعَتَاقُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقْضَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْحُدُودِ وَلِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ الْقَضَاءُ بِالْيَمِينِ مَعَ شَهَادَةِ الْمُسْتَحِقِّ، وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ فَإِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ كَالنِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ فَهُوَ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ وَلَا يَثْبُتُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ هِلَالُ صَوْمٍ وَلَا فِطْرٍ وَلَا حَجٍّ لِمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْفِرْيَةُ وَهِيَ الْقَذْفُ بِالزِّنَا لَا تَثْبُتُ عَلَى الْقَاذِفِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ أَنَّهُ يَحْلِفُ لَهُ مَا قَذَفَهُ فَإِنْ نَكَلَ سُجِنَ لَهُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفَ، وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ إنْ طَالَ سَجْنُهُ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَلَا ضَرْبَ عَلَيْهِ
(5/215)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ يَأْتِي فِي حُكْمِ الشَّاهِدِ بِالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا أَنَّ فُلَانًا شَتَمَهُ قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ لَا يُقْضَى فِي هَذَا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَلَكِنْ إنْ كَانَ الشَّاتِمُ يُعْرَفُ بِالسَّفَهِ وَالْفُحْشِ عُزِّرَ قِيلَ أَفَهَلْ الشَّاتِمُ يُمَسُّ؟ قَالَ نَعَمْ وَعَسَى بِهِ أَنْ أَرَاهُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا رَأَى الْمَرْءُ أَنْ يُؤَجِّلُوهُ سُنَّةً، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ يُقْضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فِي الْمُشَاتَمَةِ دُونَ الْحُدُودِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَقٌّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ لَا يُوجِبُ حُرْمَةً وَهُوَ حَقُّ الْآدَمِيِّ فَثَبَتَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ كَالْمَالِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ سَرَقَ لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ وَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْمَتَاعِ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ رَدَّ مَا سَرَقَ، وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ أَنَّهُ شَرِبَ خَمْرًا لَمْ يُحَدَّ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَإِنْ شَهِدَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ وَلَا يَجِبُ الْيَمِينُ بِهِ عَلَى مَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ، وَلَوْ ثَبَتَ النِّكَاحُ وَجُهِلَ الصَّدَاقُ ثَبَتَ قَدْرُ الصَّدَاقِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِي مَالٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ فَإِنْ ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا وَالْأَمَةُ عَلَى سَيِّدِهَا فَلَا يَمِينَ عَلَى السَّيِّدِ وَلَا الزَّوْجِ قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا إلَّا مُكْرَهَةً قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْأَمَةُ كَذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تَفْتَدِيَ الزَّوْجَةُ بِجَمِيعِ مَالِهَا تَفْعَلُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا تَعْتَقِدُ الزِّنَا فِي وَطْئِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ إلَّا بِالْإِكْرَاهِ الَّذِي لَا تَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ، وَإِذَا أَمْكَنَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِجَمِيعِ مَا تَمْلِكُ لَزِمَهَا ذَلِكَ كَاَلَّتِي تَكُونُ عَلَى الزِّنَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ يَحْلِفُ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ إنْ أَنْكَرَ فَإِنْ حَلَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الطَّلَاقِ وَلَا الْعِتْقِ فَإِنْ نَكَلَ فَفِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ كَانَ مَالِكٌ يَقُولُ تَطْلُقُ الزَّوْجَةُ وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا قَالَ أَشْهَبُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ يُحْبَسُ وَهُوَ الَّذِي يَخْتَارُهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهُ يَمِينٌ فَإِنَّ نُكُولَهُ لَا يُوجِبُ رَدَّهَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِي إلْزَامِهَا إذَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا يُبْطِلُ حُكْمَهَا وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ هَذَا نَكَلَ عَنْ يَمِينٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لِإِبْطَالِ شَهَادَةِ شَاهِدٍ فَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِمَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ كَمَا لَوْ رُدَّتْ عَلَيْهِ فِي الْأَمْوَالِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي مَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ الْمَوَّازِ بِأَنَّى لَوْ حَكَمْت عَلَيْهِ لَحَكَمْت بِشَاهِدٍ بِغَيْرِ يَمِينٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقَلَّ حَالًا مِنْ الْمَالِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الشَّاهِدَ لَيْسَ مِمَّنْ يَجِبُ أَنْ يَنْفُذَ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ مَا شَهِدَ بِهِ بِوَجْهٍ لَوْ اقْتَرَنَتْ شَهَادَتُهُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي فَالْيَمِينُ يُوجِبُ شَهَادَتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ الَّتِي تُوجِبُهَا الدَّعْوَى فِي الْأَمْوَالِ وَلَيْسَتْ بِمَنْقُولَةٍ إلَيْهِ عَنْ جَنْبَةِ مَنْ كَانَ يُحْكَمُ لَهُ بِيَمِينِهِ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلِاسْتِظْهَارِ، وَإِذَا نَكَلَ عَنْهَا لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِهَا عَنْ مَالِكٍ لَهُ إنْ نَكَلَ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا إنَّهَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ فَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إنْ نَكَلَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النُّكُولَ يُضْعِفُ جَنْبَتَهُ وَيُقَوِّي دَعْوَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الطَّلَاقَ فَإِذَا نَكَلَ فَقَدْ أَقَرَّ مِنْ ضَعْفِ جَنْبَتِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ.
(فَرْعٌ) وَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ يُحْبَسُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُحْبَسُ أَبَدًا حَتَّى يَحْلِفُوا وَاخْتَارَهُ سَحْنُونٌ وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ نَافِعٍ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يُحْبَسُ حَتَّى يُطَوَّلَ عَلَيْهِ وَتَطْلُقُ وَالطَّوْلُ سَنَةٌ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إنَّمَا سُجِنَ لِيَحْلِفَ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ السِّجْنِ إلَّا بِمَا حُبِسَ لِأَجْلِهِ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ السِّجْنَ إنَّمَا هُوَ عُقُوبَةٌ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْيَمِينِ وَلِاخْتِبَارِ حَالِهِ وَالسَّنَةُ مُدَّةٌ فِي الشَّرْعِ لَمَعَانٍ مِنْ الِاخْتِبَارِ كَالْعُنَّةِ وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ نَافِعٍ أَنَّهُ يُسْجَنُ وَيُضْرَبُ لَهُ أَجَلُ الْإِيلَاءِ فَإِذَا انْقَضَى طُلِّقَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ هَذَا الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ فِي نَوَادِرِهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَاَلَّذِي فِي كِتَابِ ابْنِ مُزَيْنٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى رُوِيَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدٍ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَطَالَ سَجْنَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ ضُرِبَ لَهُ الْأَجَلُ فَإِنْ حَلَفَ عِنْدَ انْقِضَائِهِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَرُدَّتْ إلَيْهِ الْمَرْأَةُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ طَلُقَتْ عَلَيْهِ بِالْإِيلَاءِ قَالَ يَحْيَى.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ قَاضِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِثْلَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْوَطْءِ بِمَعْنَى حُرْمَتِهِ عَلَيْهِ فَضُرِبَ لَهُ أَجَلُ الْإِيلَاءِ كَاَلَّذِي يَحْلِفُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ لَيَفْعَلَنَّ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْإِيلَاءُ مِنْ يَوْمِ رَفَعَتْهُ زَوْجَتُهُ وَيَحْكُمُ بِهِ
(5/216)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى عَتَاقَتِهِ اُسْتُحْلِفَ سَيِّدُهُ مَا أَعْتَقَهُ وَبَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ قَالَ مَالِكٌ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الطَّلَاقِ إذَا جَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِشَاهِدٍ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا أُحْلِفَ زَوْجُهَا مَا طَلَّقَهَا فَإِذَا حَلَفَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ قَالَ مَالِكٌ فَسُنَّةُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقَةِ فِي الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَاحِدَةٌ إنَّمَا يَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى زَوْجِ الْمَرْأَةِ وَعَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الْعَتَاقَةُ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ لَا تَجُوزُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَتَقَ الْعَبْدُ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ وَوَقَعَتْ لَهُ الْحُدُودُ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ زَنَى، وَقَدْ أَحْصَنَ رُجِمَ، وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ بِهِ وَثَبَتَ لَهُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُوَارِثُهُ.
فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فَقَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ سَيِّدَ الْعَبْدِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ فَشَهِدَ لَهُ عَلَى حَقِّهِ ذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الْحَقَّ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ حَتَّى تُرَدَّ بِهِ عَتَاقَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ مَالٌ غَيْرُ الْعَبْدِ يُرِيدُ أَنْ يُجِيزَ بِذَلِكَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى مَا قَالَ، وَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ يُعْتِقُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَأْتِي طَالِبُ الْحَقِّ عَلَى سَيِّدِهِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّ حَقَّهُ وَتُرَدُّ بِذَلِكَ عَتَاقَةُ الْعَبْدِ، أَوْ يَأْتِي الرَّجُلُ قَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِ الْعَبْدِ مُخَالَطَةٌ وَمُلَابَسَةٌ فَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ مَالًا فَيُقَالُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ احْلِفْ مَا عَلَيْك مَا ادَّعَى فَإِنْ نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ حَلَفَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ يَرُدُّ عَتَاقَةَ الْعَبْدِ إذَا ثَبَتَ الْمَالُ عَلَى سَيِّدِهِ.
قَالَ وَكَذَلِكَ أَيْضًا الرَّجُلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَلَيْهِ الْحَاكِمُ وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ تَحْرِيمَ الزَّوْجَةِ، وَقَدْ شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ شَاهِدٌ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ الْعَتَاقَةَ مِنْ الْأَمْوَالِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالَ يَحْلِفُ الْعَبْدُ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ مَعَ شَاهِدِهِ فِي الْمَالِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى بَيَانِ مَعْنَى قَوْلِنَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْمَالِ هِيَ الشَّهَادَةُ بِطَلَبِ مَالٍ يَخْرُجُ مِنْ مُتَمَوَّلٍ لَهُ إلَى مُتَمَوَّلٍ آخَرَ وَلَيْسَ هَذَا حُكْمُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَتَاقَةِ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ بِالْعَتَاقَةِ لَا تَخْرُجُ إلَى مُتَمَلِّكٍ وَذَلِكَ مِثْلُ الْمَالِ يَطْلُبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الْآخَرِ فَيَشْهَدُ لَهُ بِشَاهِدٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ دَيْنًا مُعَلَّقًا بِذِمَّتِهِ أَوْ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِمَّا يُتَمَلَّكُ وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُبَاشِرَ الشَّهَادَةَ مَالًا فَيُؤَدِّي إلَى عِتْقٍ أَوْ إلَى نَقْضِهِ أَوْ إلَى طَلَاقِ زَوْجِهِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ أَوْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ تَجُرُّ إلَى الْمَالِ لَا يُحْكَمُ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ بَاشَرَتْ مَعْنًى آخَرَ مِثْلَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحُرِّ يَجْرَحُ الْعَبْدِ فَيَحْلِفُ سَيِّدُهُ مَعَ شَاهِدِهِ وَيَسْتَحِقُّ الْأَرْشَ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَكِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْحَسَنِ إذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا ضَرَبَتْ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ مُضْغَةً فَلْتَحْلِفْ مَعَهُمَا وَتَسْتَحِقَّ الْغُرَّةَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الضَّارِبَةِ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي الَّذِي شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ أَنَّهُ وَارِثُ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِغَيْرِهِ حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ قَالَ أَشْهَبُ وَذَلِكَ إذَا كَانَ نَسَبُهُ مِنْ الْمَيِّتِ ثَابِتًا وَيَكُونُ الشَّاهِدُ يَشْهَدُ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ فَيَحْلِفُ مَعَهُ وَيَرِثُ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ عَلَى مَالٍ، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ يَثْبُتُ لِلْأَقْعَدِ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إذَا ثَبَتَ الْوَلَاءُ لِمَنْ وَرِثُوهُ عَنْهُ قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ مَنْ أَقَامَ شَاهِدًا أَنَّهُ وَارِثُ فُلَانٍ أَوْ مَوْلَاهُ لَا يُعْلَمُ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ قَالَ مَالِكٌ يُسْتَأْنَى بِالْمَالِ حَتَّى يُؤْيَسَ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدٌ بِأَثْبَتَ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْلِفُ مَعَهُ وَيُقْضَى لَهُ بِالْمَالِ وَلَا نَسَبَ لَهُ يَثْبُتُ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إنَّ الْعَبْدَ يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ فِي الْمَالِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَحْلِفُ فِي قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ إنَّهُ يَحْلِفُ كَمَا يَحْلِفُ الْحُرُّ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَمْلِكُ كَمَا يَمْلِكُ الْحُرُّ فَوَجَبَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدِهِ لِيَصِلَ إلَى اسْتِحْقَاقِ مِلْكِهِ كَالْحُرِّ.
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ فَالسُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى عَتَاقَتِهِ اُسْتُحْلِفَ سَيِّدُهُ مَا أَعْتَقَهُ وَبَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ قَالَ مَالِكٌ، وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الطَّلَاقِ إذَا جَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِشَاهِدٍ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا أُحْلِفَ زَوْجُهَا مَا طَلَّقَهَا فَإِذَا حَلَفَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ قَالَ مَالِكٌ فَسُنَّةُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقَةِ فِي الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَاحِدَةٌ إنَّمَا يَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى زَوْجِ الْمَرْأَةِ وَعَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الْعَتَاقَةُ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ لَا تَجُوزُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَتَقَ الْعَبْدُ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ وَوَقَعَتْ لَهُ الْحُدُودُ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ زَنَى، وَقَدْ أَحْصَنَ رُجِمَ، وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ بِهِ وَثَبَتَ لَهُ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُوَارِثُهُ.
فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ فَقَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ سَيِّدَ الْعَبْدِ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ فَشَهِدَ لَهُ عَلَى حَقِّهِ ذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الْحَقَّ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ حَتَّى تُرَدَّ بِهِ عَتَاقَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ مَالٌ غَيْرُ الْعَبْدِ يُرِيدُ أَنْ يُجِيزَ بِذَلِكَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْعَتَاقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى مَا قَالَ، وَإِنَّمَا مِثْلُ ذَلِكَ الرَّجُلُ يُعْتِقُ عَبْدَهُ ثُمَّ يَأْتِي طَالِبُ الْحَقِّ عَلَى سَيِّدِهِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ فَيَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّ حَقَّهُ وَتُرَدُّ بِذَلِكَ عَتَاقَةُ الْعَبْدِ، أَوْ يَأْتِي الرَّجُلُ قَدْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِ الْعَبْدِ مُخَالَطَةٌ وَمُلَابَسَةٌ فَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ مَالًا فَيُقَالُ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ احْلِفْ مَا عَلَيْك مَا ادَّعَى فَإِنْ نَكَلَ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ حَلَفَ صَاحِبُ الْحَقِّ وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ يَرُدُّ عَتَاقَةَ الْعَبْدِ إذَا ثَبَتَ الْمَالُ عَلَى سَيِّدِهِ.
قَالَ وَكَذَلِكَ أَيْضًا الرَّجُلُ
(5/217)
يَنْكِحُ الْأَمَةَ فَتَكُونُ امْرَأَتَهُ فَيَأْتِي سَيِّدُ الْأَمَةِ إلَى الرَّجُلِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فَيَقُولُ لَهُ ابْتَعْت مِنِّي جَارِيَتِي فُلَانَةَ أَنْتَ وَفُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا فَيُنْكِرُ ذَلِكَ زَوْجُ الْأَمَةِ فَيَأْتِي سَيِّدُ الْأَمَةِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَيَشْهَدَانِ عَلَى مَا قَالَ فَيَثْبُتُ لَهُ بَيْعُهُ وَيَحِقُّ حَقُّهُ وَتَحْرُمُ الْأَمَةُ عَلَى زَوْجِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ فِرَاقًا بَيْنَهُمَا وَشَهَادَةُ النَّسَبِ لَا تَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ قَالَ مَالِكٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الرَّجُلُ يَفْتَرِي عَلَى الرَّجُلِ الْحُرِّ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَأْتِي رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَيَشْهَدُونَ أَنَّ الَّذِي افْتَرَى عَلَيْهِ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ فَيَضَعُ ذَلِكَ الْحَدَّ عَنْ الْمُفْتَرِي بَعْدَ أَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ فِي الْفِرْيَةِ قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَفْتَرِقُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَمَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَيَجِبُ بِذَلِكَ مِيرَاثُهُ حَتَّى يَرِثَ وَيَكُونُ مَالُهُ لِمَنْ يَرِثُهُ إنْ مَاتَ الصَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ شَهِدَتَا رَجُلٌ وَلَا يَمِينٌ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ الْعِظَامِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالرِّبَاعِ وَالْحَوَائِطِ وَالرَّقِيقِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ عَلَى دِرْهَمٍ وَاحِدٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَقْطَعْ شَهَادَتُهُمَا شَيْئًا وَلَمْ تَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا شَاهِدٌ أَوْ يَمِينٌ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يَنْكِحُ الْأَمَةَ فَتَكُونُ امْرَأَتَهُ فَيَأْتِي سَيِّدُ الْأَمَةِ إلَى الرَّجُلِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فَيَقُولُ لَهُ ابْتَعْت مِنِّي جَارِيَتِي فُلَانَةَ أَنْتَ وَفُلَانٌ بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا فَيُنْكِرُ ذَلِكَ زَوْجُ الْأَمَةِ فَيَأْتِي سَيِّدُ الْأَمَةِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَيَشْهَدَانِ عَلَى مَا قَالَ فَيَثْبُتُ لَهُ بَيْعُهُ وَيَحِقُّ حَقُّهُ وَتَحْرُمُ الْأَمَةُ عَلَى زَوْجِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ فِرَاقًا بَيْنَهُمَا وَشَهَادَةُ النَّسَبِ لَا تَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ قَالَ مَالِكٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الرَّجُلُ يَفْتَرِي عَلَى الرَّجُلِ الْحُرِّ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيَأْتِي رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَيَشْهَدُونَ أَنَّ الَّذِي افْتَرَى عَلَيْهِ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ فَيَضَعُ ذَلِكَ الْحَدَّ عَنْ الْمُفْتَرِي بَعْدَ أَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ فِي الْفِرْيَةِ قَالَ مَالِكٌ وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَفْتَرِقُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَمَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَيَجِبُ بِذَلِكَ مِيرَاثُهُ حَتَّى يَرِثَ وَيَكُونُ مَالُهُ لِمَنْ يَرِثُهُ إنْ مَاتَ الصَّبِيُّ وَلَيْسَ مَعَ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ شَهِدَتَا رَجُلٌ وَلَا يَمِينٌ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ الْعِظَامِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَالرِّبَاعِ وَالْحَوَائِطِ وَالرَّقِيقِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ عَلَى دِرْهَمٍ وَاحِدٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَقْطَعْ شَهَادَتُهُمَا شَيْئًا وَلَمْ تَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا شَاهِدٌ أَوْ يَمِينٌ) .
(ش) : قَوْلُهُ إنَّ الْعَبْدَ إذَا جَاءَ بِشَاهِدٍ أَنَّ سَيِّدَهُ أَعْتَقَهُ حَلَفَ السَّيِّدُ وَبَطَلَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَدَّعِي طَلَاقَ زَوْجِهَا يَحْلِفُ الزَّوْجُ وَلَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ فَإِنْ وَجَدَ الْعَبْدُ أَوْ الزَّوْجَةُ بَعْدَ الْيَمِينِ شَاهِدًا آخَرَ فَإِنَّهُ يُضَمُّ إلَى الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ وَيُقْضَى بِهِمَا بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ لِأَنَّهُ مُنِعَ أَوَّلًا مِنْ الْيَمِينِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ نُكُولٌ يَسْقُطُ بِهِ الشَّاهِدُ كَالصَّغِيرِ يَقُومُ لَهُ شَاهِدٌ بِحَقٍّ فَيَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ ثُمَّ يُوجَدُ لَهُ شَاهِدٌ آخَرُ بِذَلِكَ الْحَقِّ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ إذَا أَقَامَ شَاهِدًا بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي مَرَضِهِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّ الْوَرَثَةَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْعِلْمِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى الْقَطْعِ بِذَلِكَ كَسَائِرِ مَا يُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إنَّ الْعَتَاقَةَ مِنْ الْحُدُودِ يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَوْ اتَّفَقَ السَّيِّدُ وَالْعَبْدُ عَلَى إبْطَالِ الْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ فَقَالَ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٌ {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] فَوَصَفَ الطَّلَاقَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ بِأَنَّهُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ لَا تَجُوزُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ يُرِيدُ لَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ لَمْ تَجُزْ فِي ذَلِكَ شَهَادَتُهُمْ بِمَعْنَى أَنْ يُحْكَمَ بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ عَلَى رَجُلٍ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَوْ عِتْقِ عَبْدِهِ وَجَبَتْ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ الْيَمِينُ وَلَيْسَتْ هَاهُنَا شَهَادَةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِهَا الْيَمِينُ عَلَى الزَّوْجِ وَهِيَ تُشْبِهُ الشَّاهِدَ الْعَدْلَ فِي الْمُقَاسَمَةِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ إذَا عَتَقَ الْعَبْدُ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ وَوَقَعَتْ لَهُ الْحُدُودُ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ رُجِمَ، وَإِنْ قَتَلَ قُتِلَ بِهِ وَتَثْبُتُ لَهُ الْمَوَارِيثُ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حُرْمَةُ الْحُرِّيَّةِ فَتُكْمِلُ دِيَتُهُ دِيَةَ الْحُرِّ وَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ فِي النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ وَمَنْ قَذَفَهُ مَعَ الْعِفَّةِ حُدَّ، وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ وَوَقَعَتْ لَهُ الْحُدُودُ أَنَّ مَنْ قَذَفَهُ حُدَّ لِقَذْفِهِ مَعَ الْعِفَّةِ وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ وَوَقَعَتْ الْحُدُودُ عَلَيْهِ وَتَتِمُّ لَهُ حُدُودُ الْحُرِّ فِي الْقَذْفِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَرَجْمٍ فِي الزِّنَا مَعَ الْإِحْصَانِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَانٍ تَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ، وَلِذَلِكَ اسْتَدَلَّ شُيُوخُنَا بِالْحُرِّيَّةِ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا يُحْكَمُ بِهَا فِي الْعَتَاقَةِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَجَاءَ مَنْ يَطْلُبُهُ بِدَيْنٍ شَهِدَ لَهُ بِهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ثَبَتَ
(5/218)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْحَقُّ عَلَى السَّيِّدِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا وَرَدَّ عِتْقَ الْعَبْدِ مُحْتَجًّا بِذَلِكَ لِإِجَازَةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْعِتْقِ فَلَيْسَ عَلَى مَا قَالَ، وَقَدْ رَدَّ الْعِتْقُ هَذَا الْوَجْهَ بِالشَّاهِدِ عَلَى السَّيِّدِ بِدَيْنٍ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ أَوْ بِدَعْوَى الْمُدَّعِي وَنُكُولِ السَّيِّدِ هَذَا كُلُّهُ غَلَطٌ قَالَهُ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الرَّجُلِ عَبْدَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَالْعَبْدُ غَيْرُ جَائِزٍ سَوَاءٌ كَانَ عِتْقُهُ وَاجِبًا أَوْ تَطَوُّعًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إتْلَافُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ مِنْهَا أَوْ عِتْقِ تَطَوُّعٍ، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُرَدَّ الْعِتْقُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَبِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ أَوْ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَيَمِينِ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُبَاشِرُ رَدَّ الْعِتْقِ وَلَا تَتَنَاوَلُهُ، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ إثْبَاتَ الدَّيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا رَدُّ الْعِتْقِ بِثُبُوتِ الدَّيْنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ الْمَانِعِ مِنْهُ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ إنَّهُ تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْوِلَادَةِ وَثَبَتَ النَّسَبُ بِهَا، وَلَوْ شَهِدَتْ بِهِ النِّسَاءُ لَمْ يَثْبُتْ بِشَهَادَتِهِنَّ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْعِتْقَ يُرَدُّ بِنُكُولِ السَّيِّدِ عَنْ الْيَمِينِ فَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ مُزَيْنٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا تُرَدُّ بِذَلِكَ عَتَاقَةُ الْعَبْدِ زَادَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَتِهِ وَلَا بِإِقْرَارِهِ إنْ أَقَرَّ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النُّكُولَ مِنْ فِعْلِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرِقَّ بِهِ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ فِي عِتْقِهِ كَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَكَذَلِكَ أَيْضًا الرَّجُلُ تَكُونُ تَحْتَهُ أَمَةُ غَيْرِهِ فَيَأْتِي سَيِّدُهَا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ يَشْهَدُونَ أَنَّ الزَّوْجَ اشْتَرَاهَا مِنْ السَّيِّدِ فَيَثْبُتُ الشِّرَاءُ وَتَحْرُمُ الْأَمَةُ عَلَى زَوْجِهَا، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَجُوزُ فِي الطَّلَاقِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ وَالنِّسَاءُ فِي هَذَا لَمْ يَشْهَدْنَ فِي نَفْسِ الْفِرَاقِ، وَإِنَّمَا يَشْهَدْنَ فِي مَالٍ جَرَّ إلَى مَا ذَكَرْت قَالَ سَحْنُونٌ، وَكَذَلِكَ شَهَادَتُهُنَّ فِيمَنْ غَرَّ مِنْ نَفْسِهِ بِالْحُرِّيَّةِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِفُلَانٍ جَازَتْ فَيَحْلِفُ بَعْضُهُنَّ وَيَرِقُّ لَهُ وَيَبْطُلُ الْحَدُّ عَمَّنْ قَذَفَهُ وَتَصِيرُ حُدُودُهُ حُدُودَ عَبْدٍ، وَلَوْ كَانَ قَذَفَ أَوْ قُذِفَ فَشَهِدَ امْرَأَتَانِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِغَائِبٍ أَوْ صَغِيرٍ فَالْحَدُّ قَائِمٌ لَهُ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَمَتَى قَدِمَ الْغَائِبُ أَوْ كَبِرَ الصَّغِيرُ حَلَفَ وَاسْتَحَقَّ رَقَبَتَهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِرِقِّهِ الْآنَ لِعَدَمِ مَنْ يَدَّعِيهِ وَيَحْلِفُ مَعَ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ فَيَبْقَى عَلَى حُكْمِ الرِّقِّ إلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ مُدَّعٍ وَيَحْلِفَ مَعَ شَهَادَتِهِمَا قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَلَوْ شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ عَلَى أَدَاءِ كِتَابَةِ مُكَاتَبٍ لَحَلَفَ وَتَمَّ عِتْقُهُ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ مِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَشْهَدَانِ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَيَجِبُ بِذَلِكَ مِيرَاثُهُ حَتَّى يَرِثَ وَيُورَثَ دُونَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا شَاهِدٌ أَوْ يَمِينٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ الْعِظَامِ، وَلَوْ شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ عَلَى دِرْهَمٍ وَاحِدٍ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا شَاهِدٌ أَوْ يَمِينٌ يُرِيدُ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ تُقْبَلُ وَيُحْكَمُ بِهَا دُونَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا شَيْءٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ كَالِاسْتِهْلَالِ وَالْوِلَادَةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ إلَّا الرَّضَاعَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ أَنَّ فُلَانَةَ أُسْقِطَتْ حَلَّتْ مِنْ عِدَّتِهَا لِلْأَزْوَاجِ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَجُوزُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِمَّا تَحْتَ الثِّيَابِ مِنْ الْعُيُوبِ وَالْحَيْضِ وَالْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَالِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ النَّظَرُ إلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمْ فِيهِ وَهُوَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ فَتَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَى تَجْوِيزِ شَهَادَتِهِنَّ وَفِيهِ قَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ حَيْثُ تَجُوزُ شَهَادَةُ الرِّجَالِ فَبِأَنْ تَجُوزَ حَيْثُ لَا تَصِحُّ شَهَادَةُ الرِّجَالِ وَلَا يُمْكِنُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَيْهِ أَوْلَى.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّ زَوْجَتَهُ رَتْقَاءُ أَوْ بِهَا دَاءُ الْفَرْجِ قَالَ سَحْنُونٌ أَصْحَابُنَا يَرَوْنَ أَنَّهَا مُصَدَّقَةٌ وَأَنَا أَرَى أَنْ يَنْظُرَ النِّسَاءُ إلَى عُيُوبِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الَّتِي فِي الْفَرْجِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي النِّكَاحِ وَأَمَرَ سَحْنُونٌ فِي صَبِيَّةٍ أَرَادَ أَوْلِيَاؤُهَا
(5/219)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يَكُونُ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَوْلُهُ الْحَقُّ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
تَزْوِيجَهَا فَأَمَرَ امْرَأَتَيْنِ عَادِلَتَيْنِ أَنْ تَنْظُرَا هَلْ أَنْبَتَتْ فَأَخْبَرَتَاهُ أَنْ قَدْ أَنْبَتَتْ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي إنْكَاحِهَا، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ يَبْعُدُ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَنْظُرَ إلَيْهِ الشُّهُودُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَتْهَا عِلَّةٌ فِي مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ الطَّبِيبُ بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَنْظُرُ إلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ قَالَ سَحْنُونٌ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُغَلَّظٍ كَنَفْسِ الْعَوْرَةِ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ بِكُلِّ حَالٍ فِي حَقِّ الرَّجُلِ إلَى نَفْسِ الْعَوْرَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ عَلَى الرَّضَاعِ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَفْشُوَ عِنْدَ الْجِيرَانِ وَيَظْهَرَ وَيَنْتَشِرَ، وَالْأُخْرَى أَنَّ شَهَادَتَهُمَا مَقْبُولَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْشُ قَالَ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الرَّضَاعَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَنْفَرِدُ بِهِ النِّسَاءُ فَتَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَا يَكَادُ يَخْفَى أَمْرُهُ غَالِبًا بَلْ يَفْشُو فَإِذَا عَرَا مِنْ الظُّهُورِ وَالِانْتِشَارِ ضَعُفَتْ الشَّهَادَةُ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ قَالَ وَهَذَا أَصَحُّ.
وَقَدْ ذَكَرَ شُيُوخُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ فِي ذَلِكَ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَيْضًا فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ فِي الرَّضَاعِ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالسَّمَاعِ الْفَاشِي الْقَوِيِّ الَّذِي يَأْتِي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَلَا وَجْهَيْنِ وَفِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِثْلُهُ وَزَادَ وَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ مِنْهُ إلَّا بِالْأَمْرِ الْقَوِيِّ الْمُنْتَشِرِ قَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ التَّزْوِيجِ، وَإِنْ ضَعُفَ فَحَقِيقٌ عَلَى الْمَرْءِ فِيهِ التَّوَقِّي وَالْحَيْطَةُ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ إنَّمَا هُوَ فَسْخُ النِّكَاحِ الْمُنْعَقِدِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ فِي الرَّضَاعِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ فِيهَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَأَمَّا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ بِالرَّضَاعِ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ لَا يُعْمَلُ بِهَا إلَّا أَنْ يَفْشُوَ فِي الصِّغَرِ عِنْدَ الْمَعَارِفِ.
وَقَالَ أَيْضًا لَا يُقْضَى بِقَوْلِهَا وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُصَدِّقَهُ الزَّوْجُ قَالَ مُحَمَّدٌ يُرِيدُ إنْ كَانَتْ عَادِلَةً فَإِنَّمَا يَقَعُ الْخِلَافُ مِنْهُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا التَّوَقِّي مِنْهُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَالَ مُحَمَّدٌ إلَّا أَنْ يَطُولَ مُقَامُهُ مَعَهَا بِعِلْمِ الْمَرْأَتَيْنِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا يُرِيدُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا الْخَبَرُ فَاشِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) فَإِذَا قُلْنَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ فِيمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ دُونَ يَمِينِ الطَّالِبِ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ جِنْسٍ يَجُوزُ الْجِنْسُ مِنْهُ بِانْفِرَادِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ مِنْهُ الِاثْنَانِ كَالرِّجَالِ وَلَا تُجْزِئُ الْوَاحِدَةُ خِلَافًا لِلَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ فِي الْعَوْرَةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْبَةِ إلَى السُّرَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ شَهَادَةُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ الرَّجُلُ فِي مُقَابَلَةِ امْرَأَتَيْنِ ثُمَّ ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ دُونَ أَنْ يُقَارِنَهُ شَيْءٌ فَبِأَنْ لَا يُحْكَمَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْلَى وَأَحْرَى.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ عَلَى الْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَالِ تُثْبِتُ الْمِيرَاثَ وَتَمْلِكُ بِذَلِكَ الْأَمْوَالَ الْعِظَامَ مِنْ الْعَيْنِ وَالرِّبَاعِ وَغَيْرِهَا وَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا فِي دِرْهَمٍ فَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا تَجُوزُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ فَيُحْكَمُ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَيَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ بِأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ جَسِيمَةٍ عَلَى وَجْهِ الْمَآلِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُبَاشَرَةِ فَلَوْ بَاشَرَتْ شَهَادَتُهُنَّ دِرْهَمًا وَاحِدًا لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا فِي دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ مِنْهُنَّ حَيْثُ يَجُوزُ الرِّجَالُ إنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِي الْعِتْقِ وَتَجُوزُ فِيمَا يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ وَيَئُولُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(5/220)
يَقُولُ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَلَا يَحْلِفُ مَعَ شَاهِدِهِ قَالَ مَالِكٌ فَمِنْ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا أَلَيْسَ يَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ مَا ذَلِكَ الْحَقُّ عَلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ حَلَفَ صَاحِبُ الْحَقِّ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَثَبَتَ حَقُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَهَذَا مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ وَلَا بِبَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَخَذَ هَذَا أَوْ فِي أَيِّ كِتَابِ اللَّهِ وَجَدَهُ فَإِنْ أَقَرَّ بِهَذَا فَلْيُقْرِرْ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّهُ لَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ مَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ وَلَكِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَ وَجْهَ الصَّوَابِ وَمَوْقِعَ الْحُجَّةِ فَفِي هَذَا بَيَانُ مَا أَشْكَلَ مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(ش) : قَوْلُهُ إنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ عَلَى مَنْ يُجِيزُ الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] قَالَ وَهَذَا يَقْتَضِي إنْ عُدِمَ الرَّجُلَانِ لَا يُجْزِئُ إلَّا رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَالزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ عِنْدَهُمْ نَسْخٌ وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ وَلَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ يَحْلِفُ مَا ذَلِكَ الْحَقُّ عَلَيْهِ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَلَيْسَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَيَلْزَمُ أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمٌ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ زِيَادَةٌ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا زِيَادَةً فِي نَصِّ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي النَّصَّ فَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي النَّصَّ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ فَرَجُلٌ وَيَمِينُ الطَّالِبِ لَصَحَّ ذَلِكَ.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ لَيْسَتْ بِنَسْخٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إزَالَةُ الْحُكْمِ الثَّابِت بِشَرْعٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا وَالزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ لَا تُزِيلُ حُكْمَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بَلْ تُبَيِّنُهُ وَتُضِيفُ إلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ، وَلِذَلِكَ إذَا فُرِضَتْ الصَّلَاةُ ثُمَّ فُرِضَ الصِّيَامُ لَمْ يَكُنْ فَرْضُ الصِّيَامِ نَسْخًا لِفَرْضِ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ إذَا غَيَّرَتْ حُكْمَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فَهُوَ نَسْخٌ، وَإِذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَمَعْنَى تَغْيِيرِهِ لَهُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالصَّلَاةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُؤْمَرَ بِهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَهَذَا نَسْخٌ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ لَيْسَتَا بِشَرْعِيَّةٍ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْأَرْبَعِ، وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَتَمَّهَا عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَسَلَّمَ مِنْهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُضِيفَ إلَيْهِمَا رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ يُتِمُّ بِهِمَا ظُهْرَهُ أَوْ عَصْرَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فَهَذَا نَسْخٌ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْمَزِيدِ فَمِثْلُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْحَدِّ أَرْبَعِينَ ثُمَّ يُؤْمَرَ بِهِ ثَمَانِينَ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا تُغَيِّرُ حُكْمَ الْمَزِيدِ، وَلَوْ ابْتَدَأَ ضَرْبَهُ عَلَى أَرْبَعِينَ وَأَتَمَّهَا عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يَأْتِي بِهَا قَبْلَ الْأَمْرِ بِالثَّمَانِينَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ الثَّمَانِينَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَفِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي يَزْعُمُهَا بِالْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَمْ تُغَيِّرْ حُكْمَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بَلْ يُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ وَشَهَادَةُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يُقْبَلُ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَلَفَ صَاحِبُ الْحَقِّ لَيْسَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَكْثَرَ الْكُوفِيِّينَ لَا يَرَوْنَ رَدَّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ فِي جَنْبَةِ مُدَّعِي الْمَالِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ أَنَّهُ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ فِي بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ وَلَا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ إيجَابُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ دُونَ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي بِنُكُولِ الْمُنْكِرِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ خِلَافِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَإِنَّهُ لَيَكْفِي فِي هَذَا مَا مَضَى مِنْ السُّنَّةِ لَعَلَّهُ يُرِيدُ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدَهُ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَسَائِرَ النَّاسِ كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ يَقُولُونَ بِالْمَرَاسِيلِ، وَقَوْلُهُ وَلَكِنَّ الْمَرْءَ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَ وَجْهَ الصَّوَابِ وَمَوْقِعَ الْحُجَّةِ يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ وَجْهَ الصَّوَابِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَالْقِيَاسِ وَقَطْعِ اعْتِرَاضِ
(5/221)
الْقَضَاءُ فِيمَنْ هَلَكَ وَلَهُ دَيْنٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ فِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ (ص) : (قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَهْلِكُ وَلَهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِلنَّاسِ لَهُمْ فِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَيَأْبَى وَرَثَتُهُ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى حُقُوقِهِمْ مَعَ شَاهِدِهِمْ قَالَ فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ يَحْلِفُونَ وَيَأْخُذُونَ حُقُوقَهُمْ فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَيْمَانَ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ قَبْلُ فَتَرَكُوهَا إلَّا أَنْ يَقُولُوا لَمْ نَعْلَمْ لِصَاحِبِنَا فَضْلًا وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا الْأَيْمَانَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَحْلِفُوا وَيَأْخُذُوا مَا بَقِيَ بَعْدَ دَيْنِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْمُعْتَرِضِ عَلَيْهِ بِتَأْوِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى لِغَلَبَةِ الظَّنِّ وَأَبْيَنُ لِوَجْهِ تَعَلُّقِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَمَا هُوَ مِثْلُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْقَضَاءُ فِيمَنْ هَلَكَ وَلَهُ دَيْنٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَهُ فِيهِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ]
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ إنَّ الْمُتَوَفَّى إذَا كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ، وَلَهُ دَيْنٌ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ أَنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ الشَّاهِدِ، وَيَبْدَأُ الْغُرَمَاءُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ كَانَ لَهُمْ بِالْمِيرَاثِ فَإِنْ نَكَلَ الْوَرَثَةُ حَلَفَ الْغُرَمَاءُ، وَهَذَا الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوَرَثَةَ يَبْدَؤُنَ بِالْيَمِينِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ قَالَ سَحْنُونٌ: إنَّمَا كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْلِفُوا أَوَّلًا فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ لَوْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْبِضُوا دَيْنَهُمْ كَانَ لِلْوَرَثَةِ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ أَوَّلًا إذَا لَمْ يَقُمْ الْغُرَمَاءُ، فَإِنْ قَامُوا وَثَبَتَتْ حُقُوقُهُمْ، وَطَلَبُوا أَنْ يَحْلِفُوا فَهُمْ الْمُبْدِئُونَ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِتَرِكَتِهِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْوَرَثَةَ أَوْلَى بِالتَّرِكَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَى الْغُرَمَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَخْتَصُّونَ بِالتَّرِكَةِ دُونَ الْغُرَمَاءِ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ حَيًّا لَمَا كَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا فَكَذَلِكَ مَعَ وَرَثَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ مَا أَرَادُوا التَّرِكَةَ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] فَلَمَّا كَانَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ مُبْدَئِينَ قَبْلَ الْوَرَثَةِ فِي الْأَخْذِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ إذَا حُكِمَ لَهُمْ بِصِحَّةِ دَيْنِهِمْ.
(فَرْعٌ) : إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ مَالِكٍ وَسَحْنُونٍ فِي تَبْدِئَةِ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِالْأَيْمَانِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: وَالْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْوَرَثَةَ مُبْدِئُونَ بِالْأَيْمَانِ إنْ كَانَ فِي الْمَالِ فَضْلٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ حَلَفَ الْغُرَمَاءُ فَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَ الْغَرِيمُ وَبَرِئَ وَاَلَّذِي رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ خِلَافُ هَذَا، وَخِلَافُ قَوْلِ سَحْنُونٍ، وَهُوَ أَشْبَهَ بِمَا فِي الْمُوَطَّأِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ إذَا قَامَ لِلْغُرَمَاءِ شَاهِدٌ لِلْمَيِّتِ بِدَيْنٍ أَنَّ الْوَرَثَةَ يَحْلِفُونَ مَعَهُ فَإِنْ نَكَلُوا حَلَفَ غُرَمَاؤُهُ وَاسْتَحَقُّوا قَدْرَ دَيْنِهِمْ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ لَمْ يَأْخُذْهُ الْوَرَثَةُ إلَّا بِيَمِينٍ فَدَلَّ قَوْلُهُ أَنَّ الْغُرَمَاءَ إذَا قَامُوا بِالشَّاهِدِ أَنَّهُمْ إنَّمَا قَامُوا بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِ حُقُوقِهِمْ وَاسْتِحْلَافِهِمْ أَنَّهُمْ قَبَضُوا دَيْنَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ لَهُمْ الْقِيَامُ بِالشَّاهِدِ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْوَرَثَةُ مُبْدَءُونَ بِالْأَيْمَانِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَدَلَّ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ لَمْ يَأْخُذْهُ الْوَرَثَةُ إلَّا بِيَمِينٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْضَلْ شَيْءٌ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ.
(فَرْعٌ) : وَإِذَا امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ الْيَمِينِ أَوَّلًا فَحَلَفَ الْغُرَمَاءُ، وَبَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ الْغُرَمَاءُ فَهَلْ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَحْلِفُوا، وَيَأْخُذُوهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ مُعَاوَدَةُ الْيَمِينِ؛ لِنُكُولِهِمْ عَنْهَا أَوَّلًا إلَّا أَنْ يَقُولُوا لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ فِي دَيْنِ الْمَيِّتِ فَضْلًا عَنْ الدُّيُونِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَنَعْلَمُ ذَلِكَ الْآنَ فَيَحْلِفُونَ، وَيَأْخُذُونَ الْفَضْلَ، وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي الْمُوَطَّأِ.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ نُكُولَهُمْ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ نُكُولًا عَنْ الْيَمِينِ وَتَسْلِيمِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا كَانَ امْتِنَاعًا مِنْ يَمِينٍ يَصِيرُ مَا اسْتَحَقَّ بِهَا إلَى غَيْرِهِمْ، وَلَوْ كَانَ نُكُولًا لَهُ حُكْمُ النُّكُولِ لَمَا انْتَقَلَتْ الْيَمِينُ إلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَنْتَقِلُ إلَى الْمَطْلُوبِ، وَهَذِهِ الْيَمِينُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ يَمِينٌ يَنُوبُ فِيهَا الْوَرَثَةُ عَنْ الْغُرَمَاءِ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْغُرَمَاءُ أَيْمَانَ الْوَرَثَةِ حِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا مَا يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلُوا حِينَئِذٍ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ
(5/222)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مُعَاوَدَتُهَا وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا حَلَفُوا فَإِنَّمَا يَحْلِفُونَ عَلَى جَمِيعِ الدَّيْنِ فَإِذَا نَكَلُوا فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُمْ مِنْهُ كَالشُّرَكَاءِ فِي الْمِيرَاثِ مَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ فَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى إثْبَاتِ جَمِيعِ الدَّيْنِ مَنْ نَكَلَ بَطَلَ حَقُّهُ، وَثَبَتَتْ الْيَمِينُ لِغَيْرِهِ فِي حِصَّتِهِ فَإِذَا عَلِمَ الْوَرَثَةُ بِالْفَضْلِ فَنَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ فَقَدْ أَبْطَلُوا حَقَّهُمْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ ثَبَتَ لَهُمْ الْيَمِينُ عِنْدَ ظُهُورِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ حَلَفَ الْغُرَمَاءُ، وَطَرَأَ مَالٌ آخَرُ لِلْمَيِّتِ فَلَهُمْ الْأَخْذُ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَخْذُ الدَّيْنِ الَّذِي فِيهِ الشَّاهِدُ إلَّا بِأَيْمَانِهِمْ قَالَهُ أَصْبَغُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَزَادَ إذَا كَانَ الْغُرَمَاءُ لَمْ يَأْخُذُوا حُقُوقَهُمْ مِنْ الدَّيْنِ حَلَفُوا مَعَ الشَّاهِدِ فِيهِ، وَأَرَاهُ مَعْنَى قَوْلِ أَصْبَغَ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ، وَلَا لِلْوَرَثَةِ أَخْذُ الدَّيْنِ إلَّا بِيَمِينِ الْوَرَثَةِ، وَلَا يُغْنِي يَمِينُ الْغُرَمَاءِ الَّتِي حَلَفُوا؛ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمَّا حَلَفَ الْغُرَمَاءُ كَانَ لَهُمْ أَخْذُ دَيْنِهِمْ بِمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا أَخَذُوا مِنْ غَيْرِهِ وَتَرَكُوا ذَلِكَ الدَّيْنَ فَقَدْ صَارَ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ فَلَا يَصِحُّ يَمِينُ الْغُرَمَاءِ فِيهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقْرَنَ بِالشَّاهِدِ يَمِينُ الْوَرَثَةِ الَّذِينَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِمْ الدَّيْنُ بِالْمِيرَاثِ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ الْمَالُ لِلْمَيِّتِ تَبَيَّنَ أَنَّ أَيْمَانَ الْغُرَمَاءِ كَانَتْ لَغْوًا لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا حَقٌّ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُمْ فِي الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِحْقَاقِهِ إلَى يَمِينٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَ ظُهُورِ الْمَالِ، وَيَخْتَارُوا الْحَلِفَ وَالْأَخْذَ مِنْ الدَّيْنِ دُونَ الْمَالِ الظَّاهِرِ.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا يَحْلِفُ هَاهُنَا إلَّا الْوَرَثَةُ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ الْغُرَمَاءُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ ظَاهِرٌ يُقْتَضَى مِنْهُ الدَّيْنُ غَيْرَ الْمَالِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يَرَى ذَلِكَ فِي الْمَالِ الْمَعْلُومِ دُونَ الْمَالِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ بِهِ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ فِي الْوَجْهَيْنِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ جَمِيعَهُ حَقٌّ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْوِ بِهِ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ فِي الْمُفْلِسِ يَحْلِفُ غُرَمَاؤُهُ مَعَ شَاهِدِهِ عَلَى دَيْنِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ: وَهَذَا عِنْدِي مِثْلُهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حَقَّ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ فَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى إثْبَاتِ جَمِيعِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ نَكَلَ مِنْهُمْ فَلَا مُحَاصَّةَ لَهُ مَعَ مَنْ حَلَفَ قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفْلِسِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِنُكُولِهِ قَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ مِمَّا حَلَفَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ كَمَا لَوْ نَكَلَ جَمِيعُهُمْ.
(فَرْعٌ) وَمَنْ حَلَفَ أَخَذَ جَمِيعَ حَقِّهِ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ لَا مِقْدَارَ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْهُ لَوْ حَلَفَ أَصْحَابُهُ أَوْ قَامَ بِهِ شَاهِدَانِ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إنْ نَكَلَ يُعْطِي الْغُرَمَاءُ لِمَنْ حَلَفَ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَبَعْدَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ نَكَلَ مِنْهُمْ عَنْ الْيَمِينِ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ مِنْ الدَّيْنِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ فَلَا تَأْثِيرَ لِمَا ادَّعَاهُ فِيهِ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَالِ الْمَيِّتِ إلَّا دَيْنُ مَنْ حَلَفَ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُحَاصَّةُ عَلَى ذَلِكَ وَوَجْهُ رِوَايَةِ عِيسَى أَنَّ الْغُرَمَاءَ لَمْ يُنَاكِرْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَمَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ اسْتَحَقَّ حَقَّهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَمَنْ نَكَلَ بَطَلَ حَقُّهُ فَلَمْ يَرْجِعْ ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِهِ، وَلِذَلِكَ لَا تُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا رَجَعَ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ مَالَ الْمَيِّتِ مِمَّنْ يُنَاكِرُ هَذَا الْمُدَّعَى، وَعَلَيْهِ تُرَدُّ الْيَمِينُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ رَجَعَ أَحَدٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ نُكُولِهِ إلَى أَنْ يَحْلِفَ، وَيَأْخُذَ حِصَّتَهُ قَالَ مُطَرِّفٌ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفْلِسِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: لَهُ ذَلِكَ فَوَجْهُ رِوَايَةِ مُطَرِّفٍ أَنَّ النُّكُولَ يُبْطِلُ حَقَّ النَّاكِلِ، وَيَمْنَعُهُ مُعَاوَدَةَ مَا نَكَلَ عَنْهُ كَمَا لَوْ نَكَلَ صَاحِبُ الدَّيْنِ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونَ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ لَمْ أَكُنْ تَحَقَّقْتُ الْأَمْرَ فَأَرَدْتُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ، وَأَبْحَثَ وَقَدْ تَحَقَّقْتُهُ الْآنَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ يَحْلِفُ الْغُرَمَاءُ مَعَ الشَّاهِدِ بِإِبْرَاءِ الْمَيِّتِ مِنْ دَيْنٍ يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِشَاهِدَيْنِ، وَقَامَ لَهُ شَاهِدٌ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ يَحْلِفُ الْغُرَمَاءُ عَلَى إبْرَائِهِ، وَيَنْفَرِدُونَ بِالتَّرِكَةِ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ لَا يَحْلِفُ الْغُرَمَاءُ فِي إبْرَاءِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُونَ فِي دَيْنٍ لَهُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذِهِ يَمِينٌ يَصِلُ بِهَا الْغَرِيمُ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَوَجَبَ أَنْ
(5/223)
الْقَضَاءُ فِي الدَّعْوَى (ص) : (قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُؤَذِّنِ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَإِذَا جَاءَهُ الرَّجُلُ يَدَّعِي عَلَى الرَّجُلِ حَقًّا نَظَرَ فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ أَوْ مُلَابَسَةٌ أَحْلَفَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُحَلِّفْهُ قَالَ مَالِكٌ: وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِدَعْوَى نُظِرَ فَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ أَوْ مُلَابَسَةٌ أَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ ذَلِكَ الْحَقُّ عَنْهُ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ وَرَدَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي فَحَلَفَ طَالِبُ الْحَقِّ أَخَذَ حَقَّهُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يُسْتَوْفَى فِيهَا الْإِبْرَاءُ، وَإِثْبَاتُ الدَّيْنِ كَيَمِينِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَوَجْهُ قَوْلِ أَصْبَغَ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّ يَمِينَ الْغَرِيمِ عَلَى إبْرَاءِ الْمَيِّتِ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَيْسَ هَذَا رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَإِنَّمَا حَلِفٌ بِخَبَرِ مُخْبِرٍ كَحَلِفِهِ عَلَى إثْبَاتِ دَيْنٍ لَهُ.
[الْقَضَاءُ فِي الدَّعْوَى وَفِيهِ أَبْوَاب]
(ش) : قَوْلُهُ فِي الَّذِي يَدَّعِي عَلَى رَجُلٍ حَقًّا إنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُخَالَطَةٌ أَوْ مُلَابَسَةٌ أَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُحَلِّفْهُ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ خُلْطَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى لَا يُوجِبُ حُكْمًا إلَّا لِوَجْهِ ضَرُورَةٍ وَاسْتِحْلَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ تَلْحَقُهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْذَى بِالْيَمِينِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ ضَرُورَةٌ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَقَعُ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةٍ، وَلِذَلِكَ تَأْثِيرٌ فِي الشَّرْعِ، وَبِذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الْقِتَالِ لَمَّا كَانَ يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَفِي ذَلِكَ أَبْوَابٌ ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ فِي الدَّعَاوَى الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الْخُلْطَةُ وَتَمْيِيزُهَا مِنْ غَيْرِهَا وَالثَّانِي فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْخُلْطَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِهَا وَالثَّالِثُ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْخُلْطَةُ.
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْخُلْطَةُ] 1
ُ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْخُلْطَةُ هُوَ الْمُدَايَنَةُ وَادِّعَاءُ دَيْنٍ مِنْ مُعَاوَضَةٍ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَكَذَلِكَ إنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ كَفَالَةٌ بِحَقٍّ فَلَا يَلْزَمُهُ، وَيَلْحَقُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا خُلْطَةٌ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَالَةَ نَوْعٌ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُشَاحَّةِ بَيْنَ الْكَفِيلِ وَمَنْ تَكَفَّلَ لَهُ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ أَوْصَى أَنَّ لِي عِنْدَ فُلَانٍ كَذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ خُلْطَةٍ رَوَاهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَهُ ابْنُ كِنَانَةَ وَقَالَ: إنَّ الْمَيِّتَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ إلَى الصِّدْقِ فَيُوجِبُ مِنْ ذَلِكَ مَا تُوجِبُهُ الْمُخَالَطَةُ، وَمَا قَالَهُ لَهُ وَجْهٌ؛ لِأَنَّ لِقَوْلِ الْمُدَّعِي عِنْدَ مَوْتِهِ تَأْثِيرًا فِي تَحْقِيقِ الدَّعَاوَى الْمُوجِبَةِ لِلْأَيْمَانِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ فِي قَوْلِ الْمُدَّعِي دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ ادَّعَى ثَوْبًا بِيَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ لَهُ فَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ لَهُ ثَوْبٌ أَوْ عَرَضٌ يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ لَتَعَذَّرَ حِفْظُ الشُّهُودِ لَهُ وَضَبْطُهُمْ لِذَلِكَ مَعَ كَثْرَتِهِ، وَلَزِمَهُمْ مِنْ مُرَاعَاتِهِ مَا يَشُقُّ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إبْطَالِ الْحُقُوقِ فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ فِي مِثْلِهِ الْيَمِينُ بِغَيْرِ خُلْطَةٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالصُّنَّاعُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ الْيَمِينُ لِمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِمْ فِي صِنَاعَتِهِمْ دُونَ إثْبَاتِ خُلْطَةٍ قَالَهُ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ وَقَالَ؛ لِأَنَّهُمْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلنَّاسِ، وَهَذَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ تُجَّارُ السُّوقِ فَإِنَّهُمْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلشِّرَاءِ مِنْ النَّاسِ وَالْبَيْعِ مِنْهُمْ غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الصُّنَّاعَ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ لِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْمُطَالَبَةَ بِالْعَمَلِ وَالْمَعْمُولِ خَاصَّةً دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَلَى أَحَدٍ مُطَالَبَةٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي التِّجَارَةِ يَبِيعُ مَتَاعًا فَيَقْتَضِي الثَّمَنَ هُوَ وَسَيِّدُهُ فَيَدَّعِي الْمُتَبَايِعُونَ قَضَاءَ السَّيِّدِ بَعْضَ الثَّمَنِ قَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ وَابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ مَالِكٍ: عَلَيْهِ الْيَمِينُ إنْ أَنْكَرَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُخَالَطَةُ
(5/224)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
إنَّمَا هِيَ مَا حَقَّقَتْ دَعْوَى تَنَاوَلَتْ مُعَاوَضَةً؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْكِرٌ لِسَبَبِهَا، وَأَمَّا مَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ قَضَاءُ دَيْنِهِ فَلَا اعْتِبَارَ فِيهَا بِالْخُلْطَةِ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِهَا بِالثَّمَنِ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ الْيَمِينَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى وَمَنْ أَوْصَى أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ دَيْنًا فَطَلَبَ الْوَرَثَةُ يَمِينَ الْمُقَرِّ لَهُ أَنَّ حَقَّهُ لِحَقٍّ قَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: لَا يَأْخُذُهَا حَتَّى يَحْلِفَ وَقَدْ قُضِيَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي مِثْلِ هَذَا مَرَّةً بِالْيَمِينِ وَمَرَّةً بِلَا يَمِينٍ وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّ حَقَّهُ لِحَقٍّ يُرِيدُ لَبَاقٍ لَمْ يَقْبِضْهُ وَأَمَّا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ فَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ وَجْهُ إثْبَاتِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَقْبِضَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَوَجْهُ نَفْيِ الْيَمِينِ أَنَّ الْمُوصِيَ قَدْ صَدَّقَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَاتَ عَلَى تَصْدِيقِهِ، وَلَمْ يَقْضِهِ أَحَدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْوَارِثِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِحْلَافِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنَّمَا تَجِبُ الْيَمِينُ فِي الدَّعَاوَى مَعَ تَحْقِيقِهَا وَتَحْقِيقِ الْإِنْكَارِ، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ أَنَا أَحْلِفُ أَنَّ لِي عَلَيْك كَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ يَمِينٌ حَتَّى يُحَقِّقَ يَمِينَهُ مِنْ كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا لَمْ تَكُنْ خُلْطَةٌ وَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا فَهَلْ تَجِبُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ يُسْتَحْلَفُ وَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، وَاحْتَجَّ سَحْنُونٌ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا بِأَنَّ لِلتُّهْمَةِ تَأْثِيرًا فِي الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ فِي الْمَرْأَةِ تَدَّعِي أَنَّ رَجُلًا مِمَّنْ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْخَيْرِ اسْتَكْرَهَهَا أَنَّهَا تُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ يُشَارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ نَظَرَ الْإِمَامُ فِيهِ، فَالتُّهْمَةُ تُوجِبُ مَا تُوجِبُهُ الْخُلْطَةُ مِنْ الْيَمِينِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ حُكْمَ الْعَدْلِ وَالْفَاجِرِ فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي تُحَقَّقُ فِيهَا الدَّعَاوَى سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يُخْتَلَفُ فِي يَمِينِ التُّهْمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْخُلْطَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِهَا] 1
إذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْخُلْطَةِ فَالْخُلْطَةُ الْمُعْتَبَرَةُ رَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ هِيَ: أَنْ يُسَالِفَهُ مُبَايَعَةً، وَيَشْتَرِي مِنْهُ مِرَارًا، وَإِنْ تَقَابَضَا فِي ذَلِكَ السِّلْعَةَ وَالثَّمَنَ وَتَفَاصَلَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ.
وَقَالَهُ أَصْبَغُ وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا تَكُونُ الْخُلْطَةُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ الرَّجُلَيْنِ يُرِيدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُسَالَفَةَ وَاتِّصَالَهَا مِنْ الْمُتَدَاعِيَيْنِ تَقْتَضِي التَّعَامُلَ، وَيَشْهَدُ لِلْبَائِعِ أَنَّهُ إذَا كَانَ يُسَلِّفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ جَازَ أَنْ يُبَايِعَهُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ جِهَةِ السَّلَفِ فَيَثْبُتُ بَيْنَهَا بِذَلِكَ مَا يُوجِبُ الْيَمِينَ وَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّ الْخُلْطَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي دُيُونِ الْمُبَايَعَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا تَثْبُتُ بَيْنَ أَهْلِ السُّوقِ مُخَالَطَةٌ بِكَوْنِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ حَتَّى يَثْبُتَ التَّبَايُعُ بَيْنَهُمَا قَالَهُ الْمُغِيرَةُ وَسَحْنُونٌ قَالَ سَحْنُونٌ: وَكَذَلِكَ الْقَوْمُ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ وَالْأُنْسِ وَالْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ خُلْطَةٌ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ التَّدَاعِيَ مِنْ جِهَةِ الْبَيْعِ فَيَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ بَيْنَهُمَا خُلْطَةٌ بِسَبَبِ الْبَيْعِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا كَانَتْ الْخُلْطَةُ بِتَارِيخٍ قَدِيمٍ وَانْقَطَعَتْ بَقِيَ حُكْمُ الْمُخَالَطَةِ بَيْنَهُمَا قَالَهُ أَصْبَغُ وَسَحْنُونٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: إنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ كَانَتْ بَيْنَنَا خُلْطَةٌ وَانْقَطَعَتْ فَإِنْ ثَبَتَ انْقِطَاعُهَا لَمْ يَحْلِفْ إلَّا بِخُلْطَةٍ ثَانِيَةٍ مُجَدَّدَةٍ تَثْبُتُ بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ قُضِيَ لَهُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَقَامَ فِيهَا بَيِّنَةً ثُمَّ جَاءَ مِنْ الْغَدِ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا آخَرَ فَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تِلْكَ الْخُلْطَةِ لِانْقِطَاعِهَا حَتَّى يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى خُلْطَةٍ لَمْ يَنْقَطِعْ أَمْرُهَا، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَالَ: إنَّ مَنْ قَبَضَ حَقَّهُ مِنْ مُخَالَطَةٍ قَدِيمَةٍ بِبَيِّنَةٍ ثُمَّ ادَّعَى حَقًّا غَيْرَهُ لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ فَلَا يُحَلِّفُهُ بِالْخُلْطَةِ الْأُولَى فَقَوْلُ أَصْبَغَ وَسَحْنُونٍ يَقْتَضِي أَنَّ مَعْرِفَةَ الْخُلْطَةِ بَيْنَهُمَا تُوجِبُ الْيَمِينَ فِي دَعَاوِيهِمَا دُونَ أَنْ يَعْرِفَ سَبَبَ تِلْكَ الدَّعَاوَى، وَإِنْ عَرَفَ انْقِطَاعَ الدَّعَاوَى وَقَوْلُ ابْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ حَبِيبٍ تَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مُعَامَلَةٍ تَجْرِي بَيْنَهُمَا يَلْزَمُ مَعْرِفَتُهَا وَمَعْرِفَةُ التَّعَامُلِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَقْتِهَا، وَإِلَّا لَمْ تَلْزَمْ الْيَمِينُ.
(5/225)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا تَثْبُتُ بِهِ الْخُلْطَةُ]
ُ أَمَّا مَا تَثْبُتُ بِهِ الْخُلْطَةُ فَإِقْرَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَا، وَالْبَيِّنَةُ تَشْهَدُ بِهَا قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَأَمَّا مَنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا بِالْخُلْطَةِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ تُوجِبُ الْيَمِينَ أَنَّهُ خَلِيطُهُ وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُزَنِيَّة مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ كِنَانَةَ فِي الشَّاهِدِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: إذَا أَقَامَ بِالْخُلْطَةِ شَاهِدًا وَاحِدًا حَلَفَ الْمُدَّعِي مَعَهُ وَتَثْبُتُ الْخُلْطَةُ ثُمَّ يَحْلِفُ حِينَئِذٍ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَاحْتَجَّ ابْنُ كِنَانَةَ بِقَوْلِهِ إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ لَا يَجِبُ بِهِ عَلَيْهِ غَيْرُ الْيَمِينِ فَتَثْبُتُ بِسَبَبٍ أَوْ بِشَيْءٍ يُرِيدُ مِمَّا تَقْوَى بِهِ دَعْوَى الْمُدَّعِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ، وَلَمَّا اخْتَصَّ بِالْمَالِ ثَبَتَ بِمَا ثَبَتَ بِهِ الْمَالُ مِنْ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ أَثْبَتَ حَقَّهُ بِبَيِّنَةٍ فَدَفَعَهَا الْمَطْلُوبُ بِعَدَاوَةٍ فَقَدْ رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ هُوَ كَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ مِثْلَهُ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ: وَقَدْ قِيلَ يَحْلِفُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمَرْدُودَةَ لَمَّا لَمْ تُؤَثِّرْ فِيمَا شَهِدَتْ بِهِ مِنْ الْحَقِّ فَبِأَنْ لَا تُؤَثِّرَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُشْهَدْ بِهِ مِنْ الْخُلْطَةِ أَوْلَى، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ رُدَّتْ بَعْدَ الْقَبُولِ فَإِنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْإِرْثِ فِي إيجَابِ الْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ فِي الدِّمَاءِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ فَإِذَا جَاءَهُ الرَّجُلُ يَدَّعِي عَلَى الرَّجُلِ حَقًّا يَقْتَضِي أَنَّ الدَّعَاوَى إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْحَاكِمِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ كَانَ خَلِيفَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي فِي الْحَالَتَيْنِ أَوْ فِي إحْدَاهُمَا فَأَمَّا الْخَلِيفَةُ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ حُكْمِهِ وَقَدْ حَكَمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَإِنَّمَا اسْتَقْضَى الْقُضَاةُ حِينَ اتَّسَعَ الْأَمْرُ وَشُغِلَ الْخُلَفَاءُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا أَمِيرٌ غَيْرُ مُؤَمَّرٍ يُرِيدُ أَنَّهُ غَالِبٌ مَالِكٌ لِلْأَمْرِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ وَمُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ فِي الْوَاضِحَةِ: هُوَ كَالْخَلِيفَةِ يَنْفُذُ حُكْمُهُ إلَّا فِي جَوْرٍ أَوْ خَطَأٍ بَيِّنٍ، يُرِيدُ فَلَا يَجُوزُ حُكْمُهُ قَالَ، وَإِنْ كَانَ مُؤَمَّرًا يُرِيدُ وَلَّاهُ غَيْرُهُ يُفَوِّضُ إلَيْهِ حُكُومَةً فَلَا يَجُوزُ حُكْمُهُ، وَلَا أَنْ يَسْتَقْضِيَ غَيْرَهُ، وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَنْفُذْ حَتَّى يُفَوِّضَ إلَيْهِ نَصًّا فَيَكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَسْتَقْضِيَ قَاضِيًا، وَيَجُوزُ حُكْمُهُ وَحُكْمُ قَاضِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: إذَا كَانَ مِثْلُ وَالِي الْإِسْكَنْدَرِيَّة أَوْ وَالِي الْفُسْطَاطِ أَمِيرَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ قَضَاءَهُ مَاضٍ وَقَضَاءَ قَاضِيهِ إلَّا فِي جَوْرٍ بَيِّنٍ.
وَنَحْوُهُ رُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ وَزَادَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَمِيرُ عَدْلًا لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّ الْوِلَايَةَ إذَا كَانَتْ بِغَلَبَةٍ وَمَلَكَةٍ لِلْأَمْرِ فَهِيَ عَامَّةٌ، وَإِذَا وَلَّاهُ غَيْرُهُ فَهِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَا وَلَّاهُ إيَّاهُ دُونَ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُوَلِّ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَارَةِ عَامَّةٌ فَتَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى الْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا قَضَى صَاحِبُ السُّوقِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَرْضِينَ، وَلِلنَّاسِ قَاضٍ أَوْ مَاتَ قَاضِيهِمْ فَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ وَالْمَجْمُوعَةِ: إنْ جَعَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمِيرُ الَّذِي يُوَلِّي الْقُضَاةَ كَأَمِيرِ مِصْرَ، وَإِفْرِيقِيَةَ وَالْأَنْدَلُسِ جَازَ قَضَاؤُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا فَقِيهًا، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ إلَّا فِيمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَوَالِي الْمِيَاهِ إذَا جَعَلَ إلَيْهِ الْأَمِيرُ الْقَضَاءَ وَكَانَ عَدْلًا وَحَكَمَ بِصَوَابٍ جَازَ حُكْمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ قَالَهُ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ وَكِتَابِ ابْنِ عَبْدُوسٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ فَإِذَا قُدِّمَ لِلْقَضَاءِ وَالِي الْمِيَاهِ أَوْ غَيْرُهُ، وَوَجَدْنَا فِيهِ شُرُوطَ الْقَضَاءِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَغَيْرِهَا صَحَّتْ أَحْكَامُهُ، وَإِنْ عُدِمَتْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ حَكَّمَ رَجُلَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلًا فَقَضَى بَيْنَهُمَا فَقَضَاؤُهُ جَائِزٌ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِنْ قَضَى بِمَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، وَيَرَى الْقَاضِي خِلَافَهُ فَحُكْمُهُ مَاضٍ إلَّا فِي جَوْرٍ بَيِّنٍ.
وَقَالَهُ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا قَدَّمَاهُ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بِمَا يَرَاهُ وَالْتَزَمَا ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُمَا ذَلِكَ إلَّا بِمُوَافَقَتِهِمَا
(5/226)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَلَيْهِ وَمُوَافَقَتِهِ هُوَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ.
(فَرْعٌ) وَمَتَى يَلْزَمُهُمَا ذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: إذَا حَكَّمَاهُ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ قَالَ أَرَى أَنْ يُقْضَى بَيْنَهُمَا، وَيَجُوزُ حُكْمُهُ وَنَحْوُهُ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ لِمُطَرِّفٍ وَأَصْبَغَ قَالَ مُطَرِّفٌ: لَهُ النُّزُوعُ قَبْلَ نَظَرِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ يَنْشَبَا فِي الْخُصُومَةِ عِنْدَهُ وَنَظَرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِمَا فَلَا نُزُوعَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيَلْزَمُهُمَا التَّمَادِي قَالَ أَصْبَغُ: كَمَا لَيْسَ لَهُ إذَا تَوَاضَعَا الْخُصُومَةَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا أَوْ يَعْزِلَ وَكِيلًا لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبْدُوَ لَهُ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفَاتِحَهُ صَاحِبُهُ أَوْ بَعْدَ مَا نَاشَبَهُ الْخُصُومَةَ وَحُكْمُهُ لَازِمٌ لَهُمَا كَحُكْمِ السُّلْطَانِ لِمَنْ أَحَبَّ مِنْهُمَا أَوْ كَرِهَ نَظَرَ لِصَاحِبِهِ كَمَا يَنْظُرُ السُّلْطَانُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَكِتَابِ ابْنِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَمْضِ الْحُكْمُ فِيهِ فَإِذَا أَمْضَاهُ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالتَّحْكِيمِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ الْوَكَالَةِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَاكِمٌ خَاصٌّ وَالْوِلَايَةُ عَامَّةٌ وَالثَّانِي: أَنَّ حُكْمَهُ إنَّمَا يَكُونُ بِإِذْنِ مَنْ يُحْكَمُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْنَى الْوَكَالَةِ، وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ تَحْكِيمُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَهِيَ عِنْدَ ابْنِ الْمَاجِشُونَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْحُكْمِ عَلَى الْمُتَخَاصِمَيْنِ بِخِلَافِ مَا يَرْضَيَانِ بِهِ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَكُونُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ إلَّا بِمَا يَرْضَاهُ.
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَلْزَمُ بِشُرُوعِهِ فِي النَّظَرِ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ مَا احْتَجَّ بِهِ أَصْبَغُ مِنْهُمَا مِنْ أَنَّهَا كَالْوَكَالَةِ لَا يَصِحُّ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَعْزِلَ وَكِيلَهُ بَعْدَ مَا شَرَعَ فِي الْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَلَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِيهَا وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّهُ يَلْزَمُ بِالتَّحْكِيمِ وَرِضَاهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَ آدَمِيَّيْنِ فَلَزِمَ بِالْقَوْلِ كَالتَّحْكِيمِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّ الْخُصُومَةَ عِنْدَ الْقَاضِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ التَّنْفِيذِ لِلْقَاضِي؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ، وَهَذَا الْوَكِيلُ لَا يَشْرَعُ عِنْدَ غَيْرِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ عَلَى النَّظَرِ لِلْمُوَكَّلِ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ مَتَى شَاءَ عَمَّا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عَمَلِهِ دُونَ الْقَاضِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) وَلَوْ حَكَّمَ الْمُتَخَاصِمَانِ رَجُلَيْنِ فَحَكَمَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَحْكُمْ الْآخَرُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ قَالَهُ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ، وَلَوْ حَكَّمَ جَمَاعَةً فَاتَّفَقُوا عَلَى حُكْمٍ نَفَّذُوهُ وَقَضَوْا بِهِ جَازَ قَالَهُ ابْنُ كِنَانَةَ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا رَضِيَا بِحُكْمِ رَجُلَيْنِ أَوْ رِجَالٍ فَلَا يَلْزَمُهُمَا حُكْمُ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ كَمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلَيْنِ يَشْتَرِيَانِ لَهُ ثَوْبًا أَوْ يُطَلِّقَانِ امْرَأَتَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ، وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ الْحُكْمُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ تَرَاضَيَا بِحُكْمِهِ كَمَا لَوْ كَانَ وَاحِدٌ فَانْفَرَدَ حُكْمُهُ عَلَى الصَّوَابِ، وَهَذَا كَمَا نَقُولُهُ فِي الْحَكَمَيْنِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ اثْنَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلَيْنِ الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ يَحْكُمَا جَمِيعًا فِي حُكُومَةٍ وَاحِدَةٍ يَشْهَدُ بِهَا الشُّهُودُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَنْفُذُ أَنَّهَا إلَّا بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمَا، وَلَا أَنْ يَتَّفِقَ قَاضِيَانِ عَلَى أَنْ يَنْظُرَا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِنْفَاذِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْعَمَلُ مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْبِلَادِ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ جَرَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ بِأُنْدَةَ مِنْ كُوَرِ الْأَنْدَلُسِ فَتَوَلَّى التَّقْدِيمَ فِيهَا لِلْقُضَاةِ رَجُلٌ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ فَرْطِ جَهْلِهِ فَقَدَّمَ ثَلَاثَةً لَا يُنَفِّذُ أَحَدُهُمْ فِيهَا قَضِيَّةً إلَّا بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا يَشْهَدُونَ عِنْدَ الْأَوَّلِ فَيَكْتُبُ عَلَى شَهَادَةِ الشَّاهِدِ شَهِدَ ثُمَّ يَشْهَدُ ذَلِكَ الشَّاهِدُ عِنْدَ الثَّانِي فَيَكْتُبُ عَلَى شَهَادَتِهِ عِنْدَنَا ثُمَّ يَشْهَدُ عِنْدَ الثَّالِثِ فَيَكْتُبُ عَلَى شَهَادَتِهِ فَيَحْصُلُ بِمَا كَتَبُوهُ شَهِدَ عِنْدَنَا فَأَمَّا أَحَدُهُمْ فَنُزِعَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَا أَرَاهُ إلَّا بَلَغَهُ إنْكَارِي لِلْأَمْرِ، وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَأَصَرَّا وَتَمَادَيَا عَلَى ضَلَالَتِهِمَا وَسَوَّغَ لَهُمْ حُكَّامُ الْجَزِيرَةِ، وَفُقَهَاؤُهُمْ ذَلِكَ لِقِلَّةِ مُرَاعَاتِهِمْ لِهَذَا الْمَعْنَى وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاضِي الْمُوَلَّى لِلْقَضَاءِ، وَبَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يُحَكِّمَانِهِمَا الْخَصْمَانِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ وِلَايَةٌ كَالْإِمَارَةِ وَالْإِمَامَةِ
(5/227)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فَلَا تَصِحُّ مِنْ اثْنَيْنِ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ مَا قَامَ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ وَقَالُوا لِلْمُهَاجِرِينَ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ فَقَالَ عُمَرُ لَسَيْفَانِ فِي غِمْدٍ لَا يَصْطَلِحَانِ أَبَدًا وَرَجَعَ النَّاسُ إلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْمُهَاجِرِينَ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَنَّ إمَامَةَ الْخِلَافَةِ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْأَحْكَامِ، وَهِيَ أَصْلُ التَّقْدِيمِ فِيهِمَا فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ رَجُلَانِ يُصَلِّيَانِ بِالنَّاسِ صَلَاةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ لِلنَّاسِ حَاكِمَانِ يَحْكُمَانِ جَمِيعًا فِي كُلِّ حُكْمٍ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا قَدَّمَ لِلْأَحْكَامِ مَنْ يَرْضَى دِينَهُ، وَأَمَانَتَهُ وَعِلْمَهُ وَمَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهَذَا يُنَافِي مُقَارَنَةَ آخَرَ لَهُ لَا يَجُوزُ حُكْمُهُ إلَّا بِمُوَافَقَتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ صِفَةُ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الضَّلَالُ؛ لِكَثْرَتِهِ مِنْهُ وَتَقْصِيرِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] وَلَا خِلَافَ أَنَّ حُكْمَ الْوَاحِدِ هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَعْلُومُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ غَيْرُهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأُمَّةِ سِوَاهُ كَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ يَقُومُ مَقَامَ شَاهِدٍ كَامِلِ الْعَدَالَةِ.
فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَى الشَّهَادَاتِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُوَلَّ أَحَدٌ هَذَا فَيُعَوَّلُ فِيهِ عَلَيْهِ فَالْمَرْأَتَانِ لِنُقْصَانِ دِينِهِمَا يَقُومَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَلَا يُقَامُ رَجُلَانِ مِنْ الشُّهَدَاءِ مَقَامَ رَجُلٍ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَامَ حَاكِمَانِ مَقَامَ حَاكِمٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ تَقْدِيمُ النِّسَاءِ وَتَوْلِيَتِهِنَّ الْحُكُومَةَ فَتَقُومُ امْرَأَتَانِ مَقَامَ رَجُلٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ وَمِمَّا يَجْرِي مَجْرَى هَذَا مَا جَرَى بِبَلَدِنَا بِجِهَةِ الرَّقَّةِ فَإِنَّهُمْ قَدَّمُوا لِلْقَضَاءِ ابْنَ عُمَرَ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْعِ وَالتَّحْرِيمِ لَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَقَدْ أَنْكَرْتُ هَذَا حِينَ وُقُوعِهِ.
[مَسْأَلَةِ التَّحْكِيمِ وَفِيهَا بَابَانِ]
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي صِفَةِ مَنْ يَجُوزُ تَحْكِيمُهُ]
وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّحْكِيمِ بَابَانِ أَحَدُهُمَا فِي صِفَةِ مَنْ يَجُوزُ تَحْكِيمُهُ وَالثَّانِي فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهَا (الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي صِفَةِ مَنْ يَجُوزُ تَحْكِيمُهُ) فَأَمَّا صِفَةُ مَنْ يَحْكُمُ فَأَنْ يَكُونَ رَجُلًا حُرًّا مُسْلِمًا بَالِغًا عَاقِلًا عَدْلًا رَشِيدًا قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَكِتَابِ ابْنِهِ لَوْ حَكَّمَا مَسْخُوطًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا فَحُكْمُهُ بَاطِلٌ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ فِي الْمَجْمُوعَةِ: وَكَذَلِكَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ.
وَقَالَ فِي الْوَاضِحَةِ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَسْخُوطُ وَالنَّصْرَانِيُّ قَالَ أَشْهَبُ: وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ وَالْمُوَسْوِسُ، وَإِنْ أَصَابُوا الْحُكْمَ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُمْ.
وَقَالَهُ مُطَرِّفٌ فِي الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَقَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ إنْ حَكَّمَا بَيْنَهُمَا امْرَأَةً فَحُكْمُهَا مَاضٍ إذَا كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ الْمَسْخُوطُ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ بَصِيرَيْنِ عَارِفَيْنِ مَأْمُونَيْنِ فَإِنَّ تَحْكِيمَهُمَا وَحُكْمَهُمَا جَائِزٌ إلَّا فِي خَطَأٍ بَيِّنٍ وَقَالَهُ أَصْبَغُ وَأَشْهَبُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَبِهِ آخُذُ.
وَقَدْ وَلَّى عُمَرُ الشِّفَاءَ، وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمَانَ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ سُوقَ الْمَدِينَةِ، وَلَا بُدَّ لِوَالِي السُّوقِ مِنْ الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَوْ فِي صِغَارِ الْأُمُورِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: إنْ حَكَّمَا مَسْخُوطًا فَحَكَمَ فَأَصَابَ جَازَ، وَكَذَلِكَ الْمَحْدُودُ وَالصَّبِيُّ إذَا كَانَ قَدْ عَقَلَ وَعَرَفَ وَعَلِمَ فَرُبَّ غُلَامٍ لَمْ يَبْلُغْ لَهُ عِلْمٌ بِالسُّنَّةِ وَالْقَضَاءِ، وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْوَكَالَةِ لَمْ يُرَاعِ فِيهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَاهِبَ الْعَقْلِ، وَمَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ فِي حُكْمٍ خَاصٍّ لَمْ يُجِزْ فِيهِ إلَّا مَنْ قَدَّمْنَا وَصْفَهُ قَبْلَ هَذَا مِمَّنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ صِفَاتُ الْحُكْمِ.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهَا] 1
(الْبَابُ الثَّانِي فِي تَبْيِينِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيهَا) ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ حُكْمُهُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ يُحَكِّمَانِهِ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ حَدًّا، وَلَا يُلَاعِنَ قَالَهُ سَحْنُونٌ.
وَقَالَ أَصْبَغُ لَا يُقْضَى بَيْنَهُمَا فِي قِصَاصٍ، وَلَا حَدِّ قَذْفٍ، وَلَا عِتْقٍ، وَلَا طَلَاقٍ، وَلَا نَسَبٍ، وَلَا وَلَاءٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَشْيَاءُ لَا يَقْطَعُهَا إلَّا الْإِمَامُ قَالَ أَصْبَغُ فَإِنْ حَكَّمَاهُ فَحَكَمَ فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ فِيهِ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَيَنْهَاهُ
(5/228)
الْقَضَاءُ فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى قَالَ مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِرَاحِ قَالَ مَالِكٌ الْأَمْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ تَجُوزُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِرَاحِ، وَلَا تَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِرَاحِ وَحْدَهَا لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا أَوْ يُخَبِّبُوا أَوْ يَعْلَمُوا فَإِنْ افْتَرَقُوا فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَشْهَدُوا الْعُدُولَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقُوا)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
السُّلْطَانُ عَنْ الْعَوْدَةِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ لَهَا قَدْرٌ فَيُحْتَاطُ لَهَا بِأَنْ لَا يَحْكُمُ فِيهَا إلَّا مَنْ قَامَ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْإِمَامِ بِأَحْوَالِهِ الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِكَ لَهُ أَوْ يُؤْمَنُ فِي الْأَغْلَبِ أَمْرُهُ أَوْ مَنْ قَدَّمَهُ الْإِمَامُ أَوْ الْحَاكِمُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ فِي ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْقَضَاءُ فِي شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ وَفِيهِ أَبْوَاب]
(ش) : قَوْلُهُ: إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِرَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةُ وَمِنْ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ مَعْنَاهُ عِنْدَنَا فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْكِبَارِ وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مَا رَأَيْتُ الْقُضَاةَ أَخَذَتْ إلَّا بِقَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عَلِيٌّ وَمَنْ تَابَعَهُ مَا احْتَجَّ بِهِ شُيُوخُنَا مِنْ أَنَّ الدِّمَاءَ يَجِبُ الِاحْتِيَاطُ لَهَا وَالصِّبْيَانُ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ يَنْفَرِدُونَ فِي مَلَاعِبِهِمْ حَتَّى لَا يَكَادَ أَنْ يُخَالِطَهُمْ غَيْرُهُمْ، وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنْ اللَّعِبِ وَالتَّرَامِي مَا رُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ بَيْنَهُمْ إلَّا الْكِبَارُ، وَأَهْلُ الْعَدْلِ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى هَدْرِ دِمَائِهِمْ وَجِرَاحِهِمْ فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ بَيْنَهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقَعُ عَلَى الصِّحَّةِ فِي غَالِبِ الْحَالِ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(فَرْعٌ) إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي ذِكْرِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ مِنْهُمْ وَالْبَابُ الثَّانِي فِي تَبْيِينِ الْحَالَةِ الَّتِي تَجُوزُ عَلَيْهَا شَهَادَتُهُمْ.
وَالْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ.
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي ذِكْرِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ مِنْ الصِّبْيَانِ] 1
ِ اتَّفَقَ أَصْحَابُ مَالِكٍ عَلَى أَنَّهَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا دُونَ الْقَتْلِ مِنْ الْجِرَاحِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي الْحُقُوقِ قَالَ سَحْنُونٌ: إنَّمَا أَجَزْتُهَا فِي الْجِرَاحِ، وَلَمْ أُجِزْهَا فِي الْحُقُوقِ لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ يَحْضُرُهَا الْكِبَارُ، وَلَا يَحْضُرُونَ فِي جِرَاحِ الصِّغَارِ فِي الْأَغْلَبِ، وَلَوْ حَضَرَهَا كَبِيرٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ قِيلَ لَهُ فَيَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْغَصْبُ أَنْ يَغْصِبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ثَوْبًا قَالَ غَيْرُهُ قَدْ يُقْبَلُ فِي الدِّمَاءِ مَا لَا يُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ
احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهَا فِي الْقَتْلِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ أَنَّهَا تَجُوزُ بَيْنَهُمْ فِي الْقَتْلِ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشْهَبُ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ إنَّمَا أُجِيزَتْ لِلِاحْتِيَاطِ لِلدِّمَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ فِي الْحُقُوقِ،
وَالِاحْتِيَاطُ لِلنُّفُوسِ أَعْظَمُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ لِلْجِرَاحِ
فَإِذَا لَمْ تَتَكَرَّرْ لِكَثْرَةِ لَعِبِهِمْ وَتَرَامِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّمَا جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ فِيمَا يَكْثُرُ بَيْنَهُمْ مِمَّا انْفَرَدُوا بِهِ دُونَ مَا يَقِلُّ، وَيَنْدُرُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي الْحُقُوقِ وَالْغَصْبِ فَإِنَّهُ يَقِلُّ بَيْنَهُمْ، وَيَنْدُرُ حَالَ انْفِرَادِهِمْ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا جُوِّزَتْ فِي الْقَتْلِ فَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَا يَجُوزُ فِيهِ حَتَّى يَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى رُؤْيَةِ الْبَدَنِ مَقْتُولًا وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ أُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِثُبُوتِ أَصْلِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ شَهَادَةُ الْعُدُولِ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ وَالْقَتْلِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ ذَا الَّذِي تَجُوزُ شَهَادَتُهُ مِنْ الصِّبْيَانِ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْإِنَاثِ
(5/229)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَقَالَ سَحْنُونٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ اخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي شَهَادَةِ إنَاثِهِمْ فِي الْجِرَاحِ فَلَمْ يُجِزْهَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، وَأَجَازَهَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ: تَجُوزُ شَهَادَةُ إنَاثِهِمْ وَذُكُورِهِمْ فِي الْقَتْلِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ إنَاثِهِمْ قَالَ سَحْنُونٌ: وَاَلَّذِي آخُذُ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ صِغَارًا حَيْثُ تَجُوزُ كِبَارًا وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَنْعِ أَنَّ الضَّرُورَةَ إنَّمَا تَدْعُو إلَى مَا يَكْثُرُ، وَيَتَكَرَّرُ دُونَ مَا يَقِلُّ وَيَنْدُرُ، وَحُضُورُ الْإِنَاثِ مَعَ الذُّكُورِ مِنْهُمْ يَقِلُّ لَا سِيَّمَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَقِلُّ مِنْهُمْ مِثْلُ هَذَا فَلِذَلِكَ لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ وَوَجْهُ الْإِجَازَةِ أَنَّ الصِّغَارَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ فِيمَا انْفَرَدُوا بِحُضُورِهِ كَالذُّكُورِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْإِنَاثِ فَقَدْ رَوَى مَعْنُ بْنُ عِيسَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُمْ غُلَامٌ وَجَارِيَتَانِ وَرَوَاهُ مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ غُلَامَانِ أَوْ غُلَامٌ وَجَارِيَتَانِ، وَلَا يَجُوزُ غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ، وَلَا جَوَارٍ، وَإِنْ كَثُرْنَ؛ لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ مَقَامُ اثْنَتَيْنِ وَاثْنَتَانِ مَقَامُ غُلَامٍ، وَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ الْغُلَامِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَا يَكُونُ مَعَهُ قَسَامَةٌ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: وَلَا يَحْلِفُ مَعَهُ فِي الْجِرَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ مَعَهُ كَبِيرٌ عَدْلٌ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ فَيَمِينُ الْوَلِيِّ مَعَهُ كَشَاهِدٍ مَعَهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
قَالَ مَالِكٌ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ مِنْهُمْ زَادَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ، وَلَا شَهَادَةُ مَنْ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ كِبَارِهِمْ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ صِغَارِهِمْ كَالْمَجَانِينِ وَالْمَخْبُولِينَ، وَإِنْ شَهِدَ أَحْرَارُهُمْ لِعَبِيدِهِمْ جَازَ قَالَهُ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يُنْظَرُ فِي الصِّبْيَانِ إلَى عَدَالَةٍ، وَلَا عَدَاوَةٍ قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّهُ لَا يُنْظَرُ إلَى عَدَالَةٍ، وَلَا جُرْحَةٍ فِيهِمْ قَالَ سَحْنُونٌ؛ لِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ لَا عَوْدَ لَهَا، وَلَا نَفْعَ فِي مَوْضِعِ الْعَدَاوَةِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْحَالِ مَا يَقْصِدُونَ بِهِ إلَى أَذَى مَنْ يُعَادِيهِمْ بِمِثْلِ هَذَا.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: إذَا ثَبَتَتْ الْعَدَاوَةُ لَمْ يَجُزْ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ فَأَثَّرَ فِي إبْطَالِهَا الْعَدَاوَةُ كَشَهَادَةِ الْكِبَارِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ يَجُوزُ لِذَوِي الْقَرَابَةِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَا يُنْظَرُ فِي شَهَادَتِهِمْ إلَى جُرْحَةٍ، وَلَا قَرَابَةٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ تَسْقُطُ فِي الْقَرَابَةِ.
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ: يَجْرِي مَجْرَى الْكَبِيرِ فِي الْأَبَوَيْنِ وَالْجُدُودِ وَالزَّوْجَةِ فَتُرَدُّ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ، وَقَالَهُ سَحْنُونٌ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ بِعَدَاوَتِهِ، وَلَا عَدَالَتِهِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ بِقَرَابَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ بِكُلِّ وَجْهٍ وَالْقَرَابَةَ لَا تَمْنَعُهَا إلَّا عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فَكَانَتْ الْعَدَاوَةُ أَبْلَغَ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ مِنْ الْقَرَابَةِ فَإِذَا لَمْ تَمْنَعْ الْعَدَاوَةُ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ فَبِأَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْهَا الْقَرَابَةُ أَوْلَى، وَأَحْرَى وَوَجْهُ قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ اعْتِبَارُهَا بِشَهَادَةِ الْكِبَارِ.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي تَبْيِينِ الْحَالَةِ الَّتِي تَجُوزُ عَلَيْهَا شَهَادَتُهُمْ] 1
(الْبَابُ الثَّانِي فِي تَبْيِينِ الْحَالَةِ الَّتِي تَجُوزُ عَلَيْهَا شَهَادَتُهُمْ) هِيَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ وَتُقَيَّدُ شَهَادَتُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فَأَمَّا الْكَبِيرُ يَكُونُ مَعَهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إذَا انْفَرَدُوا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ إنَّمَا أُجِيزَتْ بَيْنَهُمْ لِلضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ إنَّمَا تَكُونُ إذَا انْفَرَدَ، وَإِذَا كَانَ مَعَهُمْ كَبِيرٌ فَقَدْ زَالَتْ الضَّرُورَةُ وَصَارُوا عَلَى حَالَةٍ يُمْكِنُ إثْبَاتُ أَحْكَامِهِمْ مَعَهَا فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ.
وَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ لَوْ شَهِدَ صَبِيَّانِ أَنَّ صَبِيًّا قَتَلَ صَبِيًّا مُبَاغَتَةً وَشَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَأَنَّهُمَا حَاضِرَانِ حَتَّى سَقَطَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ دُونَ أَنْ يَضْرِبَهُ أَحَدٌ أَوْ يَقْتُلَهُ فَشَهَادَةُ الصِّبْيَانِ تَامَّةٌ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ الْكَبِيرَيْنِ كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْأَعْدَلِ قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ أَنْكَرَ سَحْنُونٌ قَوْلَ أَصْبَغَ هَذَا وَقَالَ: قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّ شَهَادَةَ الْكَبِيرَيْنِ أَحَقُّ، وَأَنَّهَا كَالْجُرْحَةِ لِلصِّغَارِ، وَغَيْرُ هَذَا خَطَأٌ غَيْرُ مُشْكِلٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَسَوَاءٌ كَانَ الْكِبَارُ رِجَالًا أَوْ نِسَاءً؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ يَجُزْنَ فِي الْخَطَأِ وَعَمْدُ الصَّبِيِّ كَالْخَطَأِ قَالَهُ كُلَّهُ
(5/230)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
سَحْنُونٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: إذَا كَانَ مَعَهُمْ كَبِيرٌ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ شَاهِدٌ أَوْ مَشْهُودٌ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الصِّغَارِ إلَّا كَبِيرٍ مَقْتُولٍ لَمْ يَبْقَ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ بِعَصَا لَا يَبْقَى لَهُ بَعْدَ سَبَبِهِ حَيَاةٌ يُعْلِمُهُمْ، وَيُلَقِّنُهُمْ الشَّهَادَةَ مِثْلَ أَنْ يُلْقِيَهُ أَحَدُ الصِّبْيَانِ مِنْ عُلُوٍّ عَظِيمٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعِيشَ مَنْ سَقَطَ مِنْهُ أَوْ يُلْقِيَهُ مِنْ عُلُوٍّ فِي بَحْرٍ فَيَغْرَقُ أَوْ يَضْرِبَهُ بِسَيْفٍ ضَرْبَةً يُبِينُ بِهَا رَأْسَهُ أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ تُرَاعَى الْعَدَالَةُ فِي الْكَبِيرِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُمْ قَالَ مَالِكٌ إذَا شَهِدَ صَبِيَّانِ مَعَ كَبِيرٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ قَالَ مُطَرِّفٌ: إذَا كَانَ الْكَبِيرُ عَدْلًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مَسْخُوطًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ عَبْدًا لَمْ تَضُرَّ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونَ وَأَصْبَغُ وَرَوَى ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ إنْ كَانَ مَعَهُمْ كَبِيرٌ غَيْرُ عَدْلٍ وَكَانَ ظَاهِرَ السَّفَهِ وَالْجُرْحَةِ جَازَتْ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ ثُمَّ وَقَفَ عَلَى إجَازَتِهَا.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ إذَا كَانَ الَّذِي حَضَرَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَبِأَنْ لَا تُؤَثِّرَ فِي رَدِّ شَهَادَةِ غَيْرِهِ أَوْلَى وَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ الْآخَرِ فِي تَوَقُّفِهِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ صَلُحَتْ حَالُهُمْ بِحُضُورِ الْفَاسِقِ مَعَهُمْ عَنْ حَالِ الضَّرُورَةِ وَالْحَالِ الْمُتَكَرِّرَةِ إلَى حَالٍ يَنْدُرُ، وَيَقِلُّ مِنْ جَرَيَانِ مِثْلِ هَذَا بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا مُخْتَصٌّ بِمَوْضِعٍ يَحْضُرُهُ الْكِبَارُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الْكَبِيرُ بِمِثْلِ مَا شَهِدَ بِهِ الصِّبْيَانُ بَطَلَتْ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يُقْبَلُ صَبِيٌّ أَوْ صَبِيَّانِ وَرَجُلٌ عَلَى صَبِيٍّ، وَيُكَلَّفُ شَهَادَةَ رَجُلٍ آخَرَ وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ حُضُورُ الْكَبِيرِ دُونَ اعْتِبَارِ حَالِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا افْتِرَاقُهُمْ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ إنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يَفْتَرِقُوا أَوْ يُخَبِّبُوا فَلَا تَجُوزُ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا إنَّمَا أُجِيزَتْ شَهَادَتُهُمْ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا مِنْ أَنَّهُمْ يَنْفَرِدُونَ بِاللَّعِبِ بِمَا تَكْثُرُ بِهِ الْجِرَاحُ، وَرُبَّمَا أَدَّتْ إلَى الْقَتْلِ، وَالشَّرْعُ قَدْ وَرَدَ بِحِفْظِ الدِّمَاءِ وَالِاحْتِيَاطِ لَهَا بِأَنْ تَثْبُتَ بِمَا لَا يَثْبُتُ بِهَا غَيْرُهَا، وَمِمَّا يُوجِبُ الْقَسَامَةَ وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْمَالِ، وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الضَّبْطِ وَالثَّبَاتِ مَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الِانْتِقَالِ مِنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ وَمِنْ رَأْيٍ إلَى رَأْيٍ، وَلَا عُلِمَتْ لَهُمْ عَدَالَةٌ يُؤْمَنُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِأَوَّلِ قَوْلِهِمْ وَمَا ضُبِطَ مِنْهُ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ وَأَمَّا تَفَرُّقُهُمْ مَا لَمْ تُقَيَّدْ شَهَادَتُهُمْ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُمْ فَإِنْ أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي شَهَادَتِهِمْ تَفَرُّقُهُمْ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَنْ يُخَبِّبُوا أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ أَوْ كِبَارٌ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُلَقِّنُوهُمْ الشَّهَادَةَ، وَيَصْرِفُوهُمْ عَنْ وَجْهِهَا أَوْ يُزَيِّنُوا لَهُمْ الزِّيَادَةَ فِيهَا أَوْ النُّقْصَانَ مِنْهَا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، وَبَطَلَتْ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الشَّهَادَةِ فَقَالَ اثْنَانِ مِنْهُمْ فُلَانٌ شَجَّ فُلَانًا وَقَالَ آخَرَانِ مِنْهُمْ بَلْ شَجَّهُ فُلَانٌ فَفِي النَّوَادِرِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فِي كُتُبٍ قَدَّمَ ذِكْرَهَا إلَّا كِتَابَ ابْنِ حَبِيبٍ: تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمْ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ إنَّمَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَهَاتُرٌ، وَلَوْ اخْتَلَفَتْ اخْتِلَافًا يَقْتَضِي فِي الْكِبَارِ الْأَخْذَ بِشَهَادَةِ أَحَدِهِمَا لَمْ تَبْطُلْ بِذَلِكَ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ: لَوْ شَهِدَ صَبِيَّانِ أَنَّ صَبِيًّا قَتَلَ صَبِيًّا وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا أَصَابَتْهُ دَابَّةٌ قُضِيَ بِشَهَادَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالْقَتْلِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا كِبَارًا عُدُولًا لَحُكِمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْقَتْلِ فَكَذَلِكَ هَذَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا رُجُوعُهُمْ عَنْ الشَّهَادَةِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يُبَالِي بِرُجُوعِهِمْ إذَا أَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ إلَّا أَنْ يَرْجِعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ، وَبَعْدَ أَنْ صَارُوا رِجَالًا فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِشَهَادَتِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ مَا شَهِدَ بِهِ الصِّبْيَانِ بَاطِلٌ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونَ فِي الْمَجْمُوعَةِ.
(5/231)
(ص) : (مَا جَاءَ فِي الْحِنْثِ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) (مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِسْطَاسٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي آثِمًا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» مَالِكٌ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ السُّلَمِيِّ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ قَالُوا وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ]
(الْبَابُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ) فَإِنَّهُمْ إنْ شَهِدُوا بِقَتْلِ صَبِيٍّ لِصَبِيٍّ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ تَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ الدِّيَةُ بِلَا قَسَامَةٍ وَقَالَهُ أَصْبَغُ قَالَ سَحْنُونٌ: وَعَمْدُ الصَّبِيِّ كَالْخَطَأِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا شَهَادَةٌ كَامِلَةٌ فَاسْتَغْنَتْ عَنْ الْقَسَامَةِ وَوَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي سِتَّةِ صِبْيَانٍ لَعِبُوا فِي الْبَحْرِ فَغَرِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَشَهِدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ أَنَّهُمَا غَرَّقَاهُ وَشَهِدَ الِاثْنَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَنَّهُمْ غَرَّقُوهُ قَالَ الْقَتْلُ عَلَى الْخَمْسَةِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِاخْتِلَافِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: وَلَوْ كَانُوا كِبَارًا فَاخْتَلَفُوا هَكَذَا كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ صَارَتْ شَهَادَتُهُمْ إقْرَارًا وَقَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي أَنَّ اخْتِلَافَ شَهَادَتِهِمْ لَا يَمْنَعُ قَبُولَهَا لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يَكُنْ يَقْتَضِي التَّهَاتُرَ، وَإِبْطَالَ بَعْضِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
[مَا جَاءَ فِي الْحِنْثِ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
(ش) : قَوْلُهُ مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي إنَّمَا يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - حَانِثًا عَلَى وَجْهٍ يَأْثَمُ بِهِ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قَعَدَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مِنْبَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ لَهُ، وَالْإِعْلَامِ بِتَغْلِيظِ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ حَلَفَ عَلَيْهِ آثِمًا.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ الْحَارِثِيِّ أَنَّهُ مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْبَرَهُ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقَى اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْمِنْبَرِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَى التَّغْلِيظِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْيَمِينُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي قَضِيبٍ مِنْ أَرَاكٍ لِقِلَّتِهِ وَتَفَاهَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ فِيمَا لَهُ بَالٌ لَكِنَّهُ إنْ وَقَعَ مِنْ أَحَدٍ الْيَمِينُ عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَضِيبٍ مِنْ أَرَاكٍ أَوْ شَيْءٍ تَافِهٍ فَهَذَا حُكْمُهُ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ، وَإِنَّمَا تَضَمَّنَ الْحَدِيثُ حُكْمَ مَنْ حَلَفَ عِنْدَهُ آثِمًا، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْبَتِّ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِهِ أَوْ حَلَفَ فَاقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ فَإِنَّ لِشُيُوخِنَا فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْوَعِيدَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ فَلَا يُقَالُ لِمَنْ رَجَعَ عَنْهُ كَاذِبٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ
وَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِإِخْلَافِ الْوَعِيدِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذِبًا لِمَا مَدَحَ نَفْسَهُ بِهَا فَعَلَى هَذَا الْوَعِيدُ مُتَوَجِّهٌ إلَى كُلِّ عَاصٍ وَقِيلَ: إنَّ الْوَعِيدَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ، وَإِنَّ الْخُلْفَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنْ الْكَذِبِ وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي صِفَةِ الْبَارِي - تَعَالَى - فَعَلَى هَذَا الْوَعِيدُ مُتَوَجِّهٌ إلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ الْبَارِي - تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعَاقِبَهُ
(5/232)
جَامِعُ مَا جَاءَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفَانَ بْنَ طَرِيفٍ الْمُرِّيَّ يَقُولُ اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ مُطِيعٍ فِي دَارٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا إلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَحْلِفْ لَهُ مَكَانِي قَالَ فَقَالَ مَرْوَانُ لَا وَاَللَّهِ إلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ قَالَ فَجَعَلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ، وَيَأْبَى أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ فَجَعَلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ يَحْلِفَ أَحَدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
دُونَ مَنْ أَرَادَ الْعَفْوَ.
وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ فِي إسْمَاعِيلَ: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] فَوَصَفَ الْوَعْدَ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ.
[جَامِعُ مَا جَاءَ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ]
(ش) : قَضَاءُ مَرْوَانَ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ زَيْدٌ يَقُولُ إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ يَمْتَنِعُ مِنْهُ إعْظَامًا لَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، وَيَقُولُ أَخْشَى أَنْ يُوَافِقَ قَدَرًا فَيُقَالُ إنَّ ذَلِكَ لَيَمِينُهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْيَمِينُ تُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ فِي الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْحُقُوقِ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي آثِمًا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِي الْأَيْمَانِ وَتَعَلُّقِهَا بِهَا، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي الْغَالِبِ مُخْتَارًا فَثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا تَوَجَّهَ إلَى الْحُكْمِ بِهِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ، وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ التَّغْلِيظَ يَتَعَلَّقُ بِالْكَثِيرِ مِنْ الْأَمْوَالِ لِلرَّدْعِ عَنْهَا كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ تُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ أَمْ لَا رَوَى ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ يَتَحَرَّى بِأَيْمَانِهِمْ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ، وَفِي الدِّمَاءِ وَاللِّعَانِ السَّاعَاتِ الَّتِي يَحْضُرُ النَّاسُ فِيهَا الْمَسَاجِدَ، وَيَجْتَمِعُونَ لِلصَّلَاةِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ مَالٍ وَحَقٍّ فَفِي كُلِّ حِينٍ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ لَا يَحْلِفُ حِينَ الصَّلَوَاتِ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَاللِّعَانِ فَأَمَّا فِي الْحُقُوقِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ حَضَرَ الْإِمَامُ اسْتَحْلَفَهُ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: قَوْله تَعَالَى {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [المائدة: 106] ، وَهَذِهِ يَمِينٌ فِي مَالٍ فَجَازَ أَنْ يُغَلَّظَ بِالزَّمَانِ كَاللِّعَانِ وَالْقَسَامَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
هَلْ تُغَلَّظُ الْأَيْمَانُ بِتَكَرُّرِ الصِّفَاتِ رَوَى ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ يَحْلِفُونَ فِيمَا يَبْلُغُ مِنْ الْحُقُوقِ رُبُعَ دِينَارٍ، وَفِي الْقَسَامَةِ وَاللِّعَانِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَا كَانَتْ فِيهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ حَلَفَ هَكَذَا وَمَا رُدِّدَتْ رُدِّدَتْ هَكَذَا، وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْحُقُوقِ وَالدِّمَاءِ وَاللِّعَانِ، وَفِي كُلِّ مَا فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ زَادَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ سَوَاءٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا مَعْنًى تُغَلَّظُ بِهِ الْأَيْمَانُ فَجَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ كَثِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُسْتَوْعَبَ، وَلَيْسَ مَا نُورِدُ مِنْهَا بِأَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا وَمَا يُغَلَّظُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا فَلَهُ غَايَةٌ لَا تَلْحَقُ الْمَشَقَّةُ بِبُلُوغِهَا وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا مَعْنَى يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَلَمْ تُغَلَّظْ بِهِ الْأَيْمَانُ فِي الْأَمْوَالِ كَتَكْرَارِ الْيَمِينِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الَّذِي يُجْزِئُ مِنْ التَّغْلِيظِ بِالْيَمِينِ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَإِنْ قَالَ وَاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ فَقَطْ فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَمِينُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ
(5/233)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَالنَّصْرَانِيِّ فِي الْحُقُوقِ سَوَاءٌ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ، وَيَحْلِفُ النَّصْرَانِيُّ بِاَللَّهِ فَقَطْ، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى وَالْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ عِنْدَ مَالِكٍ سَوَاءٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْمَجُوسُ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ فَهُوَ بِالْجَامِعِ، وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْأَعْظَمُ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا، وَهَلْ يَكُونُ تَغْلِيظُهَا بِسَائِرِ الْمَسَاجِدِ فِي النَّوَادِرِ، وَلَا يَحْلِفُ فِي مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ فِي قَلِيلٍ، وَلَا كَثِيرٍ، وَرَوَى ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ مَالِكٍ مَا عَلِمْت أَنَّهُ يَحْلِفُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ كَالْأَمْصَارِ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ يَحْلِفُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ فِيمَا لَهُ بَالٌ، وَلَا أَشُكُّ أَنَّهُ يَحْلِفُ فِيهَا فِي رُبُعِ دِينَارٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ فَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْلِفُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: يُرِيدُ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ تَخْرُجُ إلَيْهِ بِاللَّيْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ غَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ فِي امْرَأَتَيْنِ اُدُّعِيَ عَلَيْهِمَا فِي أَرْضٍ وَدُورٍ، وَهُمَا مِمَّنْ لَا تَخْرُجَانِ فَأَرَى أَنْ تَخْرُجَا مِنْ اللَّيْلِ إلَى الْجَامِعِ قَالَ فَسُئِلَ أَنْ يُحَلِّفَهُمَا فِي أَقْرَبِ الْمَسَاجِدِ إلَيْهِمَا وَشَقَّ عَلَيْهِمَا الْخُرُوجُ إلَى الْجَامِعِ فَأَجَابَ إلَى ذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ الْيَمِينَ كَانَتْ فِي غَيْرِ الْجَامِعِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَحْنُونًا هُوَ الَّذِي أَسْعَفَ سُؤَالَ السَّائِلِ فِي ذَلِكَ؛ لِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ حَقٌّ لِلْحُكْمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُعَظَّمٌ مِنْ الْمَسَاجِدِ، فَجَازَ أَنْ تُغَلَّظَ بِهِ الْأَيْمَانُ مَعَ إرَادَةِ السِّتْرِ لِمَنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَالْجَامِعِ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ التَّغْلِيظَ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِأَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ حَالًا، وَلِذَلِكَ يَخْتَصُّ بِأَرْفَعَ الْمَسَاجِدِ مَكَانًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ: لَا يُحْلَفُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، وَيُحْلَفُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا قُلْنَا إنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْمِنْبَرِ قَالَ مَالِكٌ: وَلَا أَعْرِفُ الْمِنْبَرَ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ، وَإِنَّمَا أَعْرِفُ مِنْبَرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنْ لِلْمَسَاجِدِ مَوَاضِعُ هِيَ أَعْظَمُ زَادَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ مَالِكٍ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ حَيْثُ يُعَظَّمُ فِيهِ فَيَحْتَمِلُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ لَا أَعْرِفُ الْمِنْبَرَ فِي الْمَسَاجِدِ الْمَنْعَ مِنْ اتِّخَاذِ الْمِنْبَرِ فِي مَسَاجِدِ الْآفَاقِ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ عَلَى اتِّخَاذِهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهَا فَمُحَالٌ أَنْ يُرِيدَ هَذَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَنَّ حُكْمَ سَائِرِ الْمَنَابِرِ فِي الْبِلَادِ حُكْمُهَا فِي ذَلِكَ حُكْمُ مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا هَذَا حُكْمٌ يَخْتَصُّ بِمِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ لَا يُحْلَفُ عِنْدَ مِنْبَرٍ مِنْ الْمَنَابِرِ إلَّا عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ يُسْتَحْلَفُونَ فِيمَا لَهُ بَالٌ أَوْ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَبِغَيْرِهَا فِي مَسْجِدِهِمْ الْأَعْظَمِ حَيْثُ يُعَظِّمُونَ مِنْهُ عِنْدَ مِنْبَرِهِمْ أَوْ تِلْقَاءَ قِبْلَتِهِمْ وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مِنْبَرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ زَمَنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ الْقِبْلَةِ وَالْمِحْرَابِ الَّذِي أُحْدِثَ حِينَ زِيدَ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ حَائِطَ الْقِبْلَةِ نُقِلَ مِنْ قُرْبِ الْمِنْبَرِ حِينَ زِيدَ فِي الْمَسْجِدِ فَصَارَ الْمِنْبَرُ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ فَكَانَتْ الْيَمِينُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ مُصَلَّى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدَ مِنْبَرِهِ وَأَمَّا الْقِبْلَةُ وَالْمِحْرَابُ فَشَيْءٌ بُنِيَ بَعْدَهُ، وَأَمَّا مَنَابِرُ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ فَعِنْدَ الْمِحْرَابِ فَمَنْ حَلَفَ فَإِنَّمَا يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِحْرَابِ بِقُرْبِ الْمِنْبَرِ، وَأَعْظَمُ شَيْءٍ فِي الْمَسَاجِدِ الْمَحَارِيبُ، وَلَوْ اُتُّفِقَ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْمِنْبَرُ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ لَكَانَتْ الْيَمِينُ عِنْدَ الْمِحْرَابِ دُونَ الْمِنْبَرِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَعْنَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ لَا يُحْلَفُ عِنْدَ مِنْبَرٍ مِنْ الْمَنَابِرِ إلَّا عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَهَذَا حُكْمُ الرِّجَالِ
(5/234)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَالنِّسَاءِ فَمَنْ كَانَتْ مِنْ النِّسَاءِ تَخْرُجُ وَتَتَصَرَّفُ فَحُكْمُهَا فِي ذَلِكَ حُكْمُ الرِّجَالِ وَمَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ لَا تَخْرُجُ نَهَارًا خَرَجَتْ لَيْلًا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ مَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ تَخْرُجُ وَمَنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ قَالَ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ سَوَاءٌ، وَأَمَّا الْيَهُودُ فَيَحْلِفُونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَالنَّصَارَى فِي بِيَعِهِمْ وَالْمَجُوسُ حَيْثُ يُعَظِّمُونَ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ فِي الْوَاضِحَةِ وَوَجْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ التَّغْلِيظِ بِالْمَكَانِ فَيُغَلَّظُ عَلَى حُكْمِ أَهْلِ كُلِّ شَرِيعَةٍ بِالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُعَظِّمُونَ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَالْمِقْدَارُ الَّذِي يَلْزَمُ فِيهِ الْيَمِينُ فِي الْجَامِعِ، وَفِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُعَظَّمُ مِنْهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَمَنْ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ أَوْ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَهُوَ كَانَ رُبُعَ دِينَارٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُغَلَّظُ الْأَيْمَانُ إلَّا فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا وَدَلِيلُنَا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الرُّبُعَ دِينَارٍ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ كَالْعِشْرِينِ دِينَارًا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا تُغَلَّظُ الْأَيْمَانُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ: إنَّ الْأَيْمَانَ لَا تَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الرَّدْعِ عَنْ الْمَالِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْقَلِيلِ مِنْهُ كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ هَذَا ابْتِذَالٌ لِلْمَوْضِعِ مَعَ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَحْلِفُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَعَلَى دَمٍ قَالُوا لَا قَالَ أَفَعَلَى عَظِيمٍ مِنْ الْمَالِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَذَا الْمَكَانِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَقَدْ احْتَجَّ بِهَا الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا مَنْ لَا تَخْرُجُ مِنْ النِّسَاءِ نَهَارًا أَوْ تَخْرُجُ لَيْلًا فَتَحْلِفُ فِي الْجَامِعِ فَفِي كَمْ تَخْرُجُ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ تَخْرُجُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ لَا تَخْرُجُ فِيهِ، وَلَا تَخْرُجُ إلَّا فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَهُ بَالٌ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذَا شَخْصٌ تُغَلَّظُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي الْمَالِ فَغُلِّظَتْ فِي رُبُعِ دِينَارٍ كَالرَّجُلِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَهَا الْقَدْرُ يَلْزَمُهَا مِنْ التَّصَاوُنِ مَا لَا يَلْزَمُ الرِّجَالَ فَلَا تَبْتَذِلُ بِالْأَيْمَانِ فِي الْجَوَامِعِ إلَّا فِي الْقَدْرِ الْكَثِيرِ الَّذِي يَحْتَاجُ رَدْعَ مِثْلِهَا عَنْ مِثْلِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ بَاعَ ثَوْبًا فَوَجَدَ بِهِ الْمُبْتَاعُ عَيْبًا فَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ أَعْلَمَهُ بِهِ وَتَبَرَّأَ إلَيْهِ مِنْهُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَصْبَغَ: إنْ كَانَ نُقْصَانُ الْعَيْبِ رُبُعَ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ لَمْ يَحْلِفْ إلَّا فِي الْجَامِعِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُرَاعَى فِي ذَلِكَ مَا تَدَاعَيَا فِيهِ، وَهُوَ قَدْرُ الْعَيْبِ، وَفِيهِ تَجِبُ الْيَمِينُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ رِجَالٍ رُبُعَ دِينَارٍ فَقَدْ رَوَى فِي الْعُتْبِيَّةِ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا يُسْتَحْلَفُونَ إلَّا فِي الْجَامِعِ قِيلَ لَهُ أَيُسْتَحْلَفُونَ عِنْدَ الْمُصْحَفِ فَقَالَ بَلْ يُسْتَحْلَفُونَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ وَوَجْهُ الْمَنْعِ مِنْ اسْتِحْلَافِهِمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا يُسْتَحْلَفُ فِي أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، وَلَوْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْهُ وَقَوْلُهُ بَلْ يَحْلِفُ فِي الْمَسْجِدِ مَنْعٌ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ إلَى التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ بِجَامِعٍ أَوْ عِنْدَ الْمُصْحَفِ وَقَالَ بَلْ يَحْلِفُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْحَاكِمَ الَّذِي يَقْضِي بِذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى أَصْلِهِ وَمَذْهَبِهِ فَيُحَلَّفُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا يُقَامُ مِنْهُ إلَى مَوْضِعٍ تُغَلَّظُ عَلَيْهِ فِيهِ الْيَمِينُ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: لَا يَحْلِفُونَ فِي الْجَامِعِ، وَلَا عِنْدَ الْمِنْبَرِ إلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ لَا يَحْلِفُونَ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي عَبْدٍ حَنِثَ فِي يَمِينٍ بِطَلَاقٍ فَقَالَ حَلَفْتُ بِوَاحِدَةٍ وَسَيِّدُ الزَّوْجَةِ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مَا حَلَفَ إلَّا بِطَلْقَةٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ صَدَاقَ الزَّوْجَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ فَلَا يَحْلِفُ فِي عِوَضِهِ إلَّا عِنْدَ الْمِنْبَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ
(5/235)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يَكُونَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا صِفَةُ الْحَالِفِ حَالَ يَمِينِهِ فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ يَحْلِفُ الرَّجُلُ قَائِمًا إلَّا مَنْ بِهِ عِلَّةٌ وَرَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِيمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِمْ لَوْ اقْتَطَعُوهُ بِأَيْمَانِهِمْ فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ فَإِنَّمَا يَحْلِفُونَ جُلُوسًا إنْ شَاءُوا وَرَوَى ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ يَحْلِفُ جَالِسًا، وَلَا يَحْلِفُ قَائِمًا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ مَا شُرِعَ فِيهِ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ، وَإِلْزَامُهُ الْقِيَامَ مِنْ مَعْنَى التَّغْلِيظِ فَيَجِبُ أَنْ يَلْزَمَهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَحْلِفُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ فِيمَا لَهُ بَالٌ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مَا سَمِعْت أَنَّهُ يُسْتَقْبَلُ بِالْحَالِفِ الْقِبْلَةَ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ تَغْلِيظٌ عَلَيْهِمْ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْظِيمِ الْجِهَةِ فَغُلِّظَ بِاسْتِقْبَالِهَا كَمَا غُلِّظَ عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمَوْضِعِ الْمُوَجَّهِ لَهَا الْمُعَظَّمِ مِنْهَا وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ حَالَةٌ لَا يَلْزَمُهُ فِيهَا الطَّهَارَةُ فَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ أَحْلِفُ مَكَانِي يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَغِّبَ فِي أَنْ يُقْنَعَ بِذَلِكَ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْحَاكِمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مَذْهَبِ سَحْنُونٍ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الطَّالِبِ بِالْيَمِينِ، وَقَوْلُ مَرْوَانَ، وَهُوَ الْحَاكِمُ فِي قَضِيَّةِ لَا وَاَللَّهِ إلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ زَيْدٌ، وَلَا غَيْرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ لِلْحُقُوقِ مَقَاطِعَ مُعَيَّنَةً، وَأَنَّهُ لَا يَقْنَعُ مِنْهُ إنْ كَانَ الْحَقُّ لَهُ بِالْيَمِينِ فِيهَا أَوْ لَا يُفْتِي عَلَيْهِ إنْ كَانَ حَقًّا لِلطَّالِبِ إلَّا بِذَلِكَ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْمَوَاضِعِ، فَقَالَ: أَنَا أَحْلِفُ مَكَانِي فَهُوَ كَنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ إنْ لَمْ يَحْلِفْ فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ وَغُرِّمَ إنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ أَوْ بَطَلَ حَقُّهُ إنْ كَانَ مُدَّعِيًا، وَبِذَلِكَ قَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ يَحْلِفُ إنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ، وَيَأْبَى أَنْ يَحْلِفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ يُرِيدُ تَحْقِيقَ مَا قَالَهُ مِنْ دَعْوَى أَوْ إنْكَارٍ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مَا يَعْتَقِدُونَ إبْطَالَ مَا يَقُولُ، وَيُخَاصِمُ بِهِ، وَلَكِنْ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ مِنْبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْيَمِينُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهَا حَقًّا، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا غُرْمًا؛ لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْيَمِينِ لَمْ يَقْبِضْهَا مِنْهُ هُنَاكَ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ مَالِكٍ مَنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ وَحَلَفَ فِي مَقَامِهِ أَنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ عِنْدِي لَوْ حَلَفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ دُونَ أَنْ يَقْتَضِيَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ لَمْ يَبَرَّ بِهَا حَتَّى يَحْلِفَ وَصَاحِبُ الْحَقِّ مُقْتَضِيًا لِيَمِينِهِ، وَلَوْ اقْتَضَاهُ يَمِينُهُ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ، وَرَضِيَ بِهَا أَوْ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أَجْزَأَتْهُ يَمِينُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ يَمِينٌ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا اقْتَضَى مِنْهُ مَا رَضِيَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ رِضَاهُ وَاسْتِيفَائِهِ لَهُ.
(فَصْلٌ) :
وَاخْتِصَامُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مُطِيعٍ فِي دَارٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا إلَى مَرْوَانَ لَا نَدْرِي مَنْ الطَّالِبُ مِنْ الْمَطْلُوبِ، وَلَا هَلْ كَانَتْ لِلطَّالِبِ بَيِّنَةٌ أَوْ كَيْفَ كَانَ حُكْمُهَا غَيْرَ أَنَّهُ إنْ وَقَفَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ مَا هُوَ وَكَمْ هُوَ لَمْ يَسْأَلْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْهُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنَا أَطْلُبُ مِنْك هَذِهِ الدَّارَ فَبَيِّنْ مِنْ أَيْنَ هِيَ لَك فَلَا يُسْأَلُ الْمَطْلُوبُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي حَتَّى يَقُولَ: إنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِي فَهَلْ صَارَتْ إلَيْك مِنْ جِهَتِي أَوْ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ بِسَبَبِي فَيَلْزَمُ الْمَطْلُوبَ الْجَوَابُ أَنَّهَا لَمْ تَصِرْ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ بِسَبَبِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ حَقَّقَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ، وَبَيَّنَهُ لَزِمَ الْمَطْلُوبَ جَوَابُهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ.
وَقَدْ رَوَى فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّ ابْنَ كِنَانَةَ سَأَلَ مَالِكًا عَمَّنْ فِي يَدِهِ دَارٌ فَيَدَّعِي رَجُلٌ أَنَّهَا لِجَدِّهِ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ لَا أُقِرُّ، وَلَا أُنْكِرُ، وَلَكِنْ أَقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى دَعْوَاك قَالَ مَالِكٌ يُجْبَرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَذَلِكَ صَوَابٌ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَيْهِ بِسِتِّينَ دِينَارًا فَأَقَرَّ بِخَمْسِينَ وَتَأَبَّى
(5/236)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فِي الْعَشَرَةِ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ بِالْحَبْسِ حَتَّى يُقِرَّ بِهَا أَوْ يُنْكِرَ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ.
وَقَالَ: أَسْتَحْسِنُ إذَا تَمَادَى عَلَى شَكٍّ فَأَنَا أُحَلِّفُهُ أَنَّهُ مَا وَقَفَ عَنْ الْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ إلَّا أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ فَإِذَا حَلَفَ عَلَى هَذَا أَوْ رَدَّ الْعَشَرَةَ، وَيُحْبَسُ بِهَا فَالْحُكْمُ بِلَا يَمِينٍ عَلَى الْمُدَّعِي أَنَّ كُلَّ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ لَا يُدْفَعُ مَعَ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَكَذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُورٌ فِي يَدِهِ لَا يُقِرُّ، وَلَا يُنْكِرُ فَأَنَا أُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ فَتَمَادَى حَكَمْت عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بِلَا يَمِينٍ، وَهُوَ مَعْنَى مَسْأَلَةِ مَالِكٍ عِنْدِي فِي الَّذِي يُصِرُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَلَا يَدَّعِي شَكًّا وَمَسْأَلَةُ ابْنِ الْمَوَّازِ فِي الْعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فِي الَّذِي يَقُولُ لَا أَعْلَمُ، وَيَدَّعِي الشَّكَّ وَكَانَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ أَنْ لَا يَحْلِفَ فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِيَمِينِهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُتَوَجِّهَ إلَى النَّاكِلِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى يَمِينٍ فِي النُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَكَلَ عَنْ هَذِهِ الْيَمِينِ الَّتِي أَلْزَمَهُ إيَّاهَا لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَّا إلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِمَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَقْتَضِي قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّهُ إنْ تَمَادَى عَلَيْهِ أُكْرِهَ بِالسَّجْنِ وَغَيْرِهِ وَقَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ وَعَنْ أَبِيهِ فَإِنْ تَمَادَى أُدِّبَ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَيَقْتَضِي قَوْلُ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ إذَا أَصَرَّ وَقَدْ أَعْذَرَ إلَيْهِ بِالْجَبْرِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ، وَيَغْرَمَ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نُكُولٌ لَا يُوجِبُ رَدَّ الْيَمِينِ عَلَى حِصَّتِهِ فَأَوْجَبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ كَنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُرَدُّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ قَالَ الْمَطْلُوبُ: قَدْ تَقَدَّمَتْ بَيْنِي، وَبَيْنَ الطَّالِبِ مُخَالَطَةٌ فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَدَّعِي هَذَا أُلْزِمَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ الطَّالِبَ فَإِنْ بَيَّنَ وَجْهَ طَلَبِهِ وَقَفَ الْمَطْلُوبُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَزِمَهُ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَإِنْ أَبَى الطَّالِبُ أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبَ دَعْوَاهُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقُولَ لَا أَذْكُرُ ذَلِكَ السَّبَبَ أَوْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، وَيُمْنَعُ مِنْ وَجْهِ طَلَبِهِ فَإِنْ قَالَ أُنْسِيته قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَلَزِمَ الْمَطْلُوبَ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَإِنْ أَبَى مِنْ تَبْيِينِهِ مَعَ ذِكْرِهِ لَهُ لَمْ يُسْأَلْ الْمَطْلُوبُ عَنْ شَيْءٍ.
قَالَهُ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: وَنَحْوُهُ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَكَانَ الْقِيَاسُ عِنْدِي أَنْ لَا يُوقَفَ الْمَطْلُوبُ حَتَّى يَحْلِفَ الطَّالِبُ أَنَّهُ لَا يَذْكُرُ سَبَبَ مَا يَدَّعِيهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَوْ ذَكَرَ السَّبَبَ وَجَدَ مِنْهُ مَخْرَجًا، وَإِذَا كَتَمَهُ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَخْرَجُ مِنْهُ فَيُرِيدُ كِتْمَانَهُ لِتَلْزَمَهُ الْيَمِينُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ بَيَّنَ الْمُدَّعِي السَّبَبَ فَأَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ وَقَالَ أَنَا أَحْلِفُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عِنْدِي مِنْ هَذَا السَّبَبِ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أَعْلَمُ لَهُ عَلَيَّ شَيْئًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعَةِ أَشْهَبُ وَنَحْوُهُ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ تُجْزِئَهُ يَمِينُهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَهُ مِنْ وَجْهٍ يَطْلُبُهُ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَمْ يَطْلُبْهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَا يَحْلِفُ حَتَّى يَقُولَ لَهُ الطَّالِبُ هَذَا آخِرُ حُقُوقِي عِنْدَك فَلَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يُسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَالطَّالِبُ قَدْ بَرِئَ مِنْهُ، وَلَكِنْ ذَهَبَ أَشْهَبُ إلَى ذَلِكَ مَخَافَةَ الْإِلْغَاءِ وَالتَّأْوِيلِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَسْلَفَهُ أَوْ بَاعَ مِنْهُ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْجَوَابِ أَنْ يَقُولَ لَا حَقَّ لَك عِنْدِي حَتَّى يَقُولَ لَمْ تُسْلِفْنِي مَا تَدَّعِيهِ أَوْ لَمْ تَبِعْ مِنِّي شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْت رَوَاهُ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَالِكٍ قَالَ: فَإِنْ تَمَادَى عَلَى اللَّدَدِ سَجَنَهُ فَإِنْ تَمَادَى أَدَّبَهُ قَالَ وَكَانَ رُبَّمَا قُبِلَ مِنْهُ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُ مَا لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ، وَإِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ رَجَعَ آخِرًا مَالِكٌ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِإِجْزَاءِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ مَا لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ فَقَدْ ادَّعَى بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ، وَهَذَا يُجْزِئُ مِنْ الْجَوَابِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ إنِّي اشْتَرَيْت مِنْك؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا قَدْ اشْتَرَى مِنْهُ وَقَضَاهُ، وَلَا تَقُومُ لَهُ بَيِّنَةٌ وَالْمُدَّعِي مِمَّنْ يَغْتَنِمُ إقْرَارَهُ بِالْبَيْعِ، وَيَرْضَى بِالْيَمِينِ الْغَمُوسِ أَنَّهُ مَا قَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَدْ ادَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى حَقٍّ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِهِ كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ قَضَاهُ الثَّمَنَ لَمْ يَجُزْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ لِي عَلَيْك حَقٌّ حَتَّى يَقُولَ لَمْ أَقْبِضْ مِنْك مَا تَدَّعِيهِ مِنْ الثَّمَنِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا أَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ الْمُعَامَلَةَ كُلِّفَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً فَمَا ادَّعَاهُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ سَلَفٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ
(5/237)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ شَاهِدَيْهِ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِحَقٍّ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْوَاضِحَةِ وَرَوَاهُ ابْنُ سَحْنُونٍ قَالَا عَنْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ قَضَاهُ فَيَحْلِفُ عَلَى الْقَضَاءِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ أَحَقَّتْ لَهُ دِينَهُ فَلَا مَعْنَى لِيَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ فِي تَحْقِيقِ دَعْوَاهُ أَقْوَى مِنْ يَمِينِهِ، وَلِذَلِكَ بَرِئَ بِهَا عَنْ يَمِينِ الْمَطْلُوبِ، وَيَمِينِ الطَّالِبِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلطَّالِبِ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ، وَمَا الَّذِي يَلْزَمُهُ مِنْ الْيَمِينِ فِي إنْكَارِهِ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْبَائِعِ يَجْحَدُ قَبْضَ الثَّمَنِ فَيُنْكِرُهُ الْمُبْتَاعُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَحْلِفَ مَا لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَالَ بَلْ يَحْلِفُ مَا اشْتَرَى مِنْهُ سِلْعَةَ كَذَا فَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَبِهِ قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ إذَا حَلَفَ مَا لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا يَدَّعِيهِ فَقَدْ بَرِئَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْعُتْبِيَّةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ الْقَوْلَانِ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ إنْكَارِهِ وَمَا يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَحْلِفُ الْمُنْكِرُ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَوْ ادَّعَاهُ مِنْ حُقُوقِ نَفْسِهِ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ، وَمَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ حَلَفَ عَلَى الْعِلْمِ مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ قَضَاءَ أَبِيهِ الْمَيِّتِ دِينَهُ فَيَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ قَبَضَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ رَوَاهُ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ أَوْ يَدَّعِي قِبَلَ مُوَرِّثِهِ حَقًّا فَيَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لَهُ قِبَلَهُ شَيْئًا.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عِلْمَ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَدَّعِهِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ وَعَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ يَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقِيمَ شَاهِدُ الْمَوْرُوثَةِ بِحَقٍّ فَيَحْلِفُ مَعَهُ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مَعْرِفَةَ ذَلِكَ وَتَحْقِيقَهُ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ فِي الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا فِي النَّفْيِ فَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى ذَلِكَ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ بَرِئَ فَإِنْ نَكَلَ فَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ مَالِكٌ، وَأَصْحَابُهُ: لَا يَجِبُ الْحَقُّ بِنُكُولِ الْمَطْلُوبِ عَنْ الْيَمِينِ حَتَّى يُرَدَّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَحْلِفَ قَالَ مَالِكٌ، وَإِذَا جَهِلَ ذَلِكَ الطَّالِبُ فَلْيَذْكُرْ لَهُ الْقَاضِي حَتَّى يَحْلِفَ الطَّالِبُ إذْ لَا يَتِمُّ الْحُكْمُ إلَّا بِذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ بِنَفْسِ النُّكُولِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ يَثْبُتُ بِالْيَمِينِ فَإِذَا نَكَلَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ جَازَ أَنْ تَنْتَقِلَ الْيَمِينُ إلَى الْجَنْبَةِ الْأُخْرَى كَالْقَسَامَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ رَدَّ الْمَطْلُوبُ الْيَمِينَ عَلَى الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ، وَلَزِمَهُ رَدُّهَا رَوَاهُ عِيسَى، وَأَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ فَيَحْلِفُ الْمُدَّعِي، وَيَأْخُذُ حَقَّهُ كَانَ رَدُّهُ لِلْيَمِينِ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّ رَدَّهُ الْيَمِينَ عَلَى الطَّالِبِ رِضًا بِيَمِينِهِ وَتَصْدِيقٌ لِقَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ فَلَمَّا تَعَلَّقَ بِذَلِكَ حَقُّ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَطْلُوبِ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلَا إبْطَالُ حَقٍّ يَثْبُتُ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا إذَا كَانَتْ مِنْ الْأَيْمَانِ الَّتِي تُرَدُّ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُرَدُّ مِثْلَ أَيْمَانِ التُّهْمَةِ مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِالْبَرَاءَةِ ثُمَّ يَظْهَرَ الْمُبْتَاعُ فِيهِ عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ أَنَّهُ مَا عَلِمَ بِهِ فَإِنْ نَكَلَ رُدَّ عَلَيْهِ الْعَبْدُ دُونَ يَمِينِ الْمُبْتَاعِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُبْتَاعَ لَا طَرِيقَةَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَلَا يُكَلَّفُ تَفَحُّمَ الْيَمِينِ عَلَى مَا لَا سَبِيلَ لَهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ إلَى مَعْرِفَتِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ادَّعَى الْمُودَعُ ضَيَاعَ الْوَدِيعَةِ وَادَّعَى الْمُودِعُ تَعَدِّيهِ عَلَيْهَا فَالْمُودَعُ مُصَدَّقٌ إلَّا أَنْ يُتَّهَمَ فَيَحْلِفَ قَالَهُ أَصْحَابُنَا فِي النَّوَادِرِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ هَاهُنَا وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا يَمِينُ تُهْمَةٍ دُونَ تَحْقِيقٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَّتْ بِمَنْ يُتَّهَمُ دُونَ مَنْ لَا يُتَّهَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ فَقَالَ لِلْحَاكِمِ اضْرِبْ لِي أَجَلًا حَتَّى أَنْظُرَ فِي يَمِينِي، وَفِي حِسَابِي، وَأَتَثَبَّتُ فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّثَبُّتَ فِيمَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ فَيَجِبُ أَنْ يُجَابَ إلَيْهِ فَقَدْ يَكُونُ الْحِسَابُ يَكْثُرُ، وَيَطُولُ أَمْرُهُ، وَيَتَسَامَحُ فِي الدَّعْوَى أَوْ الْإِنْكَارِ، وَيُتَحَرَّزُ فِي الْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي عَقْدٍ كَبَيْعٍ أَوْ سَلَفٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ بِبَيِّنَةٍ بِعَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَنَّهُ مِلْكُهُ لَا يَعْلَمُونَهُ بَاعَ، وَلَا وَهَبَ، وَلَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ
(5/238)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا نَرَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ الرَّهْنَ عِنْدَ الرَّجُلِ بِالشَّيْءِ، وَفِي الرَّهْنِ فَضْلُ عَمَّا رُهِنَ فِيهِ فَيَقُولُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ إنْ جِئْتُك بِحَقِّك إلَى أَجَلٍ يُسَمِّيهِ لَهُ، وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَك بِمَا رُهِنَ فِيهِ قَالَ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ، وَلَا يَحِلُّ، وَهَذَا الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ بِاَلَّذِي رَهَنَ بِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ فَهُوَ لَهُ، وَأَرَى هَذَا الشَّرْطَ مَفْسُوخًا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُحَلِّفُهُ الْإِمَامُ مَا بَاعَ، وَلَا وَهَبَ، وَلَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِشَيْءٍ فَيَحْلِفُ عَلَى الْبَتِّ وَيَسْتَحِقُّهُ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ: لَيْسَ عَلَيْهِ يَمِينٌ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الَّذِي فِي يَدِهِ ذَلِكَ أَمْرًا يَظُنُّ أَنَّ صَاحِبَهُ فَعَلَهُ فَيَحْلِفُ مَا فَعَلَهُ، وَيَأْخُذُ حَقَّهُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا يَمِينٌ لِلْحُكْمِ لَا يَصِحُّ لَهُ الْقَضَاءُ إلَّا بَعْدَ اسْتِيفَائِهَا؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا شَهِدَتْ لَهُ بِالْمِلْكِ عَلَى الْبَتِّ وَالْقَطْعِ وَشَهِدَتْ فِي بَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ عَلَى الْعِلْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْلَافِهِ عَلَى الْبَتِّ فِيمَا بَقِيَ وَمَا عَسَى أَنْ يُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقْضَى لَهُ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ حَكَمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمُسْتَحِقُّ أَسْبَابَ الِاسْتِحْقَاقِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا لَمْ يَدَّعِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِحْلَافِ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ، وَلَا يَدَّعِي خُرُوجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
[مَا لَا يَجُوزُ مِنْ غَلْقِ الرَّهْنِ]
ِ غَلْقُ الرَّهْنِ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يُفَكَّ يُقَالُ غَلِقَ الرَّهْنُ إذَا لَمْ يُفَكَّ فَمَعْنَى التَّرْجَمَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْقَدَ الرَّهْنُ عَلَى وَجْهٍ يَئُولُ إلَى الْمَنْعِ مِنْ فَكِّهِ، وَأَنْشَدَ الرَّبَعِيُّ
، وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ ... يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى رَهْنُهَا غَلَقَا
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ» قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ فِيمَا نَرَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ الرَّهْنَ عِنْدَ الرَّجُلِ بِالشَّيْءِ، وَفِي الرَّهْنِ فَضْلُ عَمَّا رُهِنَ فِيهِ فَيَقُولُ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ إنْ جِئْتُك بِحَقِّك إلَى أَجَلٍ يُسَمِّيهِ لَهُ، وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَك بِمَا رُهِنَ فِيهِ قَالَ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ، وَلَا يَحِلُّ، وَهَذَا الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ، وَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ بِاَلَّذِي رَهَنَ بِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ فَهُوَ لَهُ، وَأَرَى هَذَا الشَّرْطَ مَفْسُوخًا) .
(ش) : قَوْلُهُ لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مَعْنَاهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لَا يُمْنَعُ مِنْ فَكِّهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ عَقْدٍ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ وَعَنْ اسْتِدَامَتِهِ إنْ عَقَدَ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ، فَإِنْ وَقَعَ فَقَدْ قَالَ يُرْهَنُ الرَّهْنُ فِي دَيْنِهِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ لَا يَصْلُحُ، وَلَا يَحِلُّ يُرِيدُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ، وَهُوَ فِي دَيْنٍ ثَابِتٍ وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ ثَوْبًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَرْهَنَهُ بِهِ رَهْنًا عَلَى أَنَّهُ إنْ جَاءَهُ بِالثَّمَنِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ، وَإِلَّا فَالرَّهْنُ لَهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالرَّهْنُ فَاسِدٌ، وَلَهُ إنْ قَبَضَهُ الْبَائِعُ حُكْمُ الرَّهْنِ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ.
قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ سَلَمٌ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ، وَالرَّهْنُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُنْقَضُ مِنْ قَرْضٍ كَانَ أَوْ مِنْ بَيْعٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ مِنْ النَّهْيِ عَنْهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ فِي الْقَرْضِ تَارَةً يَكُونُ بَيْعًا وَتَارَةً يَكُونُ قَرْضًا، وَهُوَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ بِمَعْنَى فَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا عَمِلَا عَلَيْهِ مِنْ غَلْقِ الرَّهْنِ، وَهُوَ بَيْعُهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي رَهَنَ بِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَيْعٍ انْعَقَدَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِأَنْ يَبِيعَهُ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِهِ دَابَّةً عَلَى أَنْ جَاءَهُ بِالثَّمَنِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ، وَإِلَّا فَالدَّابَّةُ لَهُ عِوَضًا مِنْ الثَّوَابِ فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَدْرِي بِمَا بَاعَ ثَوْبَهُ بِالْمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِالدَّابَّةِ فَيُنْقَضُ الْبَيْعُ، وَالرَّهْنُ مَا لَمْ يَفُتْ الثَّوْبُ فَيَمْضِي الثَّوْبُ بِالْقِيمَةِ، وَيَبْطُلُ الْأَجَلُ وَشَرْطُ الرَّهْنِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ، وَلَمْ يُفْسَخْ الرَّهْنُ إلَى رَبِّهِ، وَأَخَذَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ سَوَاءٌ تَغَيَّرَ قَبْلَ الْأَجَلِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ أَوْ حَوَالَةِ أَسْوَاقٍ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْبِسَهُ بِحَقِّهِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَخَذَهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّهُ يُفْسَخُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَا عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ أَنَّهُ يُفْسَخُ قَبْلَ السَّنَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُفْسَخَ غِلَاقُهُ، وَأَمَّا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ، وَيَبْقَى دَيْنُهُ دُونَ رَهْنٍ فَلَا
(5/239)
الْقَضَاءُ فِي رَهْنِ الثَّمَرِ وَالْحَيَوَانِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِيمَنْ رَهَنَ حَائِطًا لَهُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَيَكُونُ ثَمَرُ ذَلِكَ الْحَائِطِ قَبْلَ ذَلِكَ الْأَجَلِ أَنَّ الثَّمَرَ لَيْسَ بِرَهْنٍ مِنْ الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَطَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فِي رَهْنِهِ، وَأَنَّ الرَّجُلَ إذَا ارْتَهَنَ جَارِيَةً، وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ حَمَلَتْ بَعْدَ ارْتِهَانِهِ إيَّاهَا أَنَّ وَلَدَهَا مَعَهَا قَالَ مَالِكٌ: وَفَرَّقَ بَيْنَ الثَّمَرِ، وَبَيْنَ وَلَدِ الْجَارِيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» قَالَ: وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ بَاعَ وَلِيدَةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ، وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ أَنَّ ذَلِكَ الْجَنِينَ لِلْمُشْتَرِي اشْتَرَطَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فَلَيْسَتْ النَّخْلُ مِثْلَ الْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ الثَّمَرُ مِثْلَ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ قَالَ مَالِكٌ: وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ ثَمَرَ النَّخْلِ، وَلَا يَرْهَنُ النَّخْلَ، وَلَيْسَ يَرْهَنُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ الرَّقِيقِ، وَلَا مِنْ الدَّوَابِّ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ لَمْ يُرَدَّ بَعْدَ الْأَجَلِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ حَتَّى تَغَيَّرَتْ أَسْوَاقُهُ أَوْ تَغَيَّرَ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ لَزِمَهُ بِقِيمَتِهِ، وَيُقَاصُّ بِثَمَنِهِ مِنْ دَيْنِهِ، وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا وَقَعَ فِيهِ يَوْمَ حَلَّ الْأَجَلُ فَإِنْ فَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ فَاتَ بِيَدِ الْمُبْتَاعِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَهَذَا فِي السِّلَعِ وَالْحَيَوَانِ، وَأَمَّا فِي الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ فَإِنَّ حَوَالَةَ الْأَسْوَاقِ، وَطُولَ الزَّمَانِ لَا يُفِيتُهَا وَتُرَدُّ إلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا يُفِيتُهَا الْهَدْمُ وَالْبُنْيَانُ وَالْغَرْسُ سَوَاءٌ تَهَدَّمَتْ بِفِعْلِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ فَاتَ الرَّهْنُ بَعْدَ الْأَجَلِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُهُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْهُ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ قِيلَ يَوْمَ فَاتَ وَقِيلَ يَوْمَ حَلَّ الْأَجَلُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ: وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَحَبُّ إلَيَّ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ فَلِذَلِكَ رُوعِيَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْفَوَاتِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ وَقَبْلَ الْفَوَاتِ، وَإِلَيْهِ كَانَ يُرَدُّ لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ يَوْمَ الْأَجَلِ مَقْبُوضٌ لِلْبَيْعِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا لِلْبَيْعِ لَمَا فَاتَ بِتَغَيُّرِ الْأَسْوَاقِ، وَلَا زِيَادَةَ، وَلَا نُقْصَانَ، وَلِذَلِكَ يَضْمَنُ بَعْدَ الْأَجَلِ ضَمَانَ مَا بِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا دُونَ ضَمَانِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ الرَّهْنِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَرَوَى ابْنُ الْمَاجِشُونَ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَهُ وَزَادَ فِيهِ هُوَ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ وَمَعْنَاهُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ لَهُ غَلَّتُهُ وَخَرَاجُ ظَهْرِهِ وَأُجْرَةُ عَمَلِهِ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ أَيْ نَفَقَتُهُ، وَلَيْسَ يُرِيدُ بِهِ الْهَلَاكَ وَالْمُصِيبَةَ؛ لِأَنَّ الْغُنْمَ إنْ كَانَ الْخَرَاجُ وَالْغَلَّةُ كَانَ الْغُرْمُ مَا قَابَلَ ذَلِكَ مِنْ النَّفَقَةِ، وَهُوَ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ الرَّهْنُ مَحْلُوبٌ وَمَرْكُوبٌ أَيْ غَلَّتُهُ لِرَبِّهِ وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُهُ كَوْنُهُ رَهْنًا مِنْ صَرْفِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ إلَى مَالِكِهِ الرَّاهِنِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَقَدْ رَأَيْت لِلشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ نَحْوَ هَذَا التَّفْسِيرِ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي الْقَرْضِ وَعِوَضٌ مَجْهُولٌ فِي الْمُبَايَعَةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مَعْنَى قَوْلِهِ لَهُ غُنْمُهُ أَيْ مَنْفَعَتُهُ، وَلَمْ يُرَدَّ مِلْكُهُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَزُلْ عَنْ الرَّاهِنِ وَغُرْمُهُ أَيْ نَفَقَتُهُ وَتَلَفُهُ إذَا ثَبَتَ تَلَفُهُ مِنْ الرَّاهِنِ وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيِّينَ: مَعْنَى قَوْلِهِ لَهُ غُنْمُهُ أَيْ رُجُوعُهُ إلَيْهِ، وَيَرْجِعُ رَبُّ الْحَقِّ عَلَيْهِ بِحَقِّهِ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّ غُرْمَهُ عَلَيْهِ يُرِيدُ أَنَّ الْغُرْمَ الَّذِي رَهَنَ مِنْ أَجْلِهِ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ رُجُوعُ الرَّهْنِ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
[الْقَضَاءُ فِي رَهْنِ الثَّمَرِ وَالْحَيَوَانِ]
(ش) : قَوْلُهُ مَنْ رَهَنَ حَائِطًا إلَى أَجَلٍ فَأَثْمَرَ الْحَائِطُ قَبْلَ الْأَجَلِ فَإِنَّ ذَلِكَ الثَّمَرَ لَا يَكُونُ رَهْنًا مَعَ الْحَائِطِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَعْنَاهُ لَا يَكُونُ لِلثَّمَرَةِ حُكْمُ الرَّهْنِ، وَلَا يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ النَّمَاءَ مِنْ الرَّهْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَوَّلِ كَثَمَرَةِ النَّخْلِ وَعَسَلِ النَّحْلِ
(5/240)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَغَلَّةِ الزَّرْعِ وَالرِّبَاعِ وَغَلَّةِ الْعَبِيدِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَهَذَا كُلُّهُ لَا يَكُونُ رَهْنًا مَعَ الْأَصْلِ مَا حَدَثَ مِنْهُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ فَأَمَّا الثَّمَرَةُ فَسَوَاءٌ حَدَثَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً حِينَ الرَّهْنِ مُزْهِيَةً أَوْ غَيْرَ مُزْهِيَةٍ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: إنَّ اللَّبَنَ وَالصُّوفَ وَثَمَرَ النَّحْلِ وَالشَّجَرَ مَا حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الرَّهْنِ فَهُوَ فِي الرَّهْنِ وَكَذَلِكَ الْغَلَّةُ وَالْخَرَاجُ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّهُ نَمَاءٌ حَادِثٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَصْلِ فَلَمْ يَتْبَعْهُ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ أَصْلُ ذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا أَصْوَافُ الْغَنَمِ، وَأَلْبَانُهَا فَلَا تُتَّبَعُ أَيْضًا إذَا حَدَثَتْ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ كَامِلَةٍ فَأَمَّا إنْ كَانَتْ كَامِلَةً يَوْمَ عَقْدِ الرَّهْنِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَلْحَقُهَا حُكْمُ الرَّهْنِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يَكُونُ رَهْنًا إلَّا بِالشَّرْطِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ قَدْ كَمُلَ، وَيُتَّبَعُ فِي الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ كَأَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ فِي النَّخْلِ تُرْهَنُ، وَفِيهَا ثَمَرَةٌ يَابِسَةٌ: يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ كَالصُّوفِ التَّامِّ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الثَّمَرَةَ الْيَابِسَةَ لَا تُتَّبَعُ فِي الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُتَّبَعُ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ الصُّوفِ؛ لِأَنَّ الصُّوفَ لَا يَخْلُو مِنْهُ الْحَيَوَانُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْلَاحِ لَهُ فَأَشْبَهَ جَرِيدَ النَّخْلِ، وَأَمَّا الثَّمَرَةُ فَمِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَصْلِ وَمَقْصُودَةٌ بِالْغَلَّةِ تَخْلُو مِنْهَا الشَّجَرَةُ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِهَا وَذَلِكَ حُكْمُ رَطْبِهَا، وَيَابِسِهَا وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ غَلَّةٌ فَلَمْ تَتْبَعْ الْأَصْلَ فِي الرَّهْنِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ كَاللَّبَنِ فِي ضُرُوعِ الْغَنَمِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا غَلَّةُ الدُّورِ الْمُكْتَرَاةِ وَغَلَّةُ الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ رَهْنًا مَعَ الرِّقَابِ، وَكَذَلِكَ مَالُ الْعَبْدِ لَا يَتْبَعُهُ فِي الرَّهْنِ إلَّا بِالشَّرْطِ قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ شَرَطَهُ جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا كَمَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ شَرَطَهُ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لَهُ أَفَادَ بَعْدَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ غَلَّةٌ قَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ عَبْدُوسٍ: وَلَا مَا وُهِبَ لَهُ قَالَ فِي الْكِتَابَيْنِ إلَّا أَنْ يَرْبَحَ فِي الْمَالِ الَّذِي شَرَطَهُ فَهُوَ كَمَالِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَجُوزُ ارْتِهَانُ مَالِ الْعَبْدِ دُونَهُ فَيَكُونُ لَهُ مَعْلُومُهُ وَمَجْهُولُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ إنْ قَبَضَهُ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَرَرَ وَالْمَجْهُولَ يَصِحُّ ارْتِهَانُهُ كَمَا يَصِحُّ إفْرَادُ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُؤَبَّرْ بِالِارْتِهَانِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ ارْتَهَنَ جَارِيَةً، وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ حَمَلَتْ بَعْدَ الرَّهْنِ فَإِنَّ وَلَدَهَا مَعَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّمَاءَ عَلَى ضَرْبَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ النَّمَاءِ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ زَادَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ: وَفِرَاخُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا تَلِدُهُ الْأَمَةُ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ يَكُونُ رَهْنًا مَعَهَا دُونَ شَرْطٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ فَأَشْبَهَ سِمَنَهَا وَمَنْ ارْتَهَنَ عَبْدًا فَوُلِدَ لِلْعَبْدِ مِنْ أَمَتِهِ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: الْوَلَدُ رَهْنٌ مَعَ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ مَالٌ لِلْعَبْدِ فَلَا تَكُونُ رَهْنًا مَعَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَالْوَلَدُ نَمَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ فَكَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الرَّهْنِ.
(فَرْعٌ) وَلَوْ شُرِطَ فِي الْأَمَةِ أَنَّهَا رَهْنٌ دُونَ مَا تَلِدُهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ: لَا يُرْتَهَنُ الْجَنِينُ دُونَ الْأُمِّ، وَلَيْسَ الْوَلَدُ كَالثَّمَرَةِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ مِنْ الْجَارِيَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالرَّهْنِ كَيَدِهَا أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُيَسَّرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَ مَا تَلِدُهُ هَذِهِ الْجَارِيَةُ أَوْ هَذِهِ الْبَقَرَةُ أَوْ هَذِهِ الْغَنَمُ كَمَا يُرْتَهَنُ الْعَبْدُ الْآبِقُ وَالْجَمَلُ الشَّارِدُ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ بِالْبَعْضِ فَإِذَا وَلَدَتْ الْغَنَمُ كَانَ الْوَلَدُ رَهْنًا وَقَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي تَفْرِيعِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا مَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ الرَّهْنِ فَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يُرْتَهَنَ وَلَدُهَا وَتُبَاعَ مَعَ وَلَدِهَا فَيَكُونُ الْمُرْتَهِنُ أَوْلَى بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَيُحَاصُّ الْغُرَمَاءُ فِي حِصَّةِ الْآبِقِ، وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي وَصِيفٍ يُوضَعُ رَهْنًا قَالَ أَمَةٌ تَكُونُ مَعَهُ فِي الرَّهْنِ يُرِيدُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَكَانِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا
(5/241)
الْقَضَاءُ فِي الرَّهْنِ مِنْ الْحَيَوَانِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا فِي الرَّهْنِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ يُعْرَفُ هَلَاكُهُ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ حَيَوَانٍ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَعُلِمَ هَلَاكُهُ فَهُوَ مِنْ الرَّاهِنِ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْقِصُ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
حُكْمُ الرَّهْنِ فَلَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يُرْهَنُ الصَّبِيُّ حَتَّى يُثْغِرَ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى يُثْغِرَ إلَّا أَنْ يُرْهَنَ مَعَ أُمِّهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَفَرَّقَ مَا بَيْنَ الثَّمَرَةِ وَوَلَدِ الْجَارِيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ» قَالَ: وَالْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ مِمَّنْ بَاعَ جَارِيَةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ، وَفِي بَطْنِهَا جَنِينٌ أَنَّ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ فَهَذَا عَلَى مَا قَالَ فَرَّقَ بَيْنَ الثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ وَالْجَنِينِ وَحُجَّةُ مَنْ أَرَادَ إلْحَاقَ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَأَنْ يَجْعَلَ الثَّمَرَةَ الْمَأْبُورَةَ تَتْبَعُ فِي الرَّهْنِ كَمَا يَتْبَعُ الْجَنِينُ وَأَمَّا الثَّمَرَةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُؤَبَّرَةٍ فَخَارِجَةٌ عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَتْبَعُ النَّخْلَ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا الْمُبْتَاعُ فَهِيَ فِي الْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ، وَفِي الرَّهْنِ مُخَالِفَةٌ لِلْجَنِينِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْقُلُ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَتْ غَلَّتُهُ لِلْمُبْتَاعِ، وَالرَّهْنُ لَا يَنْقُلُ الرَّهْنَ عَنْ مَالِكِ الرَّاهِنِ فَبَقِيَتْ غَلَّتُهُ لَهُ، وَالْجَنِينُ لَمَّا كَانَ مِنْ جِنْسِ أُمِّهِ تَبِعَهَا فِي الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ كَسِمَنِهَا لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا فِي بَيْعٍ، وَلَا رَهْنٍ قَالَ مَالِكٌ فِي جُرْحِ الْعَبْدِ الْمُرْتَهَنِ: يُؤْخَذُ لَهُ الْأَرْشُ أَنَّهُ لِلْمُرْتَهِنِ فِي رَهْنِهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ ثَمَرَ النَّخْلِ دُونَ الْأَصْلِ، وَلَا يَرْهَنُ أَحَدٌ جَنِينًا دُونَ أُمِّهِ، وَهَذَا أَيْضًا فَرْقٌ بَيْنَ الثَّمَرَةِ الْمَأْبُورَةِ، وَبَيْنَ الْجَنِينِ إذَا سُلِّمَ لَهُ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُؤَبَّرْ بِالرَّهْنِ أَوْ ثَمَرَةٍ نَبَتَتْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي نَخْلِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجُوزُ ارْتِهَانُهَا سِنِينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَ الثَّمَرَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ طَلْعًا.
وَقَالَ أَشْهَبُ: يَجُوزُ ارْتِهَانُ غَلَّةِ الدَّارِ فَهَذَا فَرْقٌ وَاضِحٌ بَيْنَ الثَّمَرَةِ وَالْجَنِينِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ مَا ادَّعَاهُ فِي الْجَنِينِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْفَرْقُ إلَّا عَلَى أَصْلِهِ وَمَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ مَنْ خَالَفَهُ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي أَنْ يَتَّبِعَا الْأَصَلَ فِي الرَّهْنِ أَوْ لَا يَتَّبِعَانِهِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَا قَالَهُ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ.
(فَرْعٌ) وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَجُوزُ ارْتِهَانُ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا دُونَ الْأُصُولِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ الْحِرْزُ فِيهَا إلَّا بِقَبْضِ الْأُصُولِ وَمَنْ ارْتَهَنَ زَرْعًا فِي أَرْضٍ دُونَ الْأَرْضِ فَإِنَّ حِيَازَتَهُ بِقَبْضِ الْأُصُولِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَقَالَ: فَإِنْ فَلِسَ فَالثَّمَرَةُ وَالزَّرْعُ لِلْمُرْتَهِنِ دُونَ الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ لِلْغُرَمَاءِ قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَبْضُ الثَّمَرَةِ إلَّا بِقَبْضِ الْأَصْلِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَنْعِ الرَّهْنِ مِنْهُ جُمْلَةً فَلَا يَبْقَى لَهُ فِي الرَّهْنِ تَصَرُّفٌ بِوَجْهٍ وَذَلِكَ أَنَّ الرَّهْنَ يَبْطُلُ بِتَعَذُّرِ الْحِيَازَةِ، وَيَبْطُلُ بَعْدَ صِحَّةِ الْحِيَازَةِ بِعَدَمِ الْحِيَازَةِ فَكَانَ الْقَبْضُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ إذْ لَمْ يَبْطُلْ بِعَدَمِ الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِعَدَمِ إمْكَانِهِ فَحُكْمُ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إذَا صَحَّتْ بِالْحِيَازَةِ لَا تَبْطُلُ بِرُجُوعِهَا إلَى يَدِ الْوَاهِبِ، وَالرَّهْنُ يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ إلَى يَدِ الرَّاهِنِ فَلَمْ يَصِحَّ حِيَازَتُهُ إلَّا بِمَنْعِ الرَّاهِنِ مِنْهُ بِكُلِّ وَجْهٍ.
[الْقَضَاءُ فِي الرَّهْنِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَفِيهِ أَبْوَاب]
(ش) : قَوْلُهُ: مَا كَانَ مِنْ أَمْرٍ يُعْرَفُ هَلَاكُهُ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَالِبَ أَمْرِهِ أَنَّ ضَيَاعَهُ يُعْرَفُ وَيُشْتَهَرُ، وَلَا يُغَابُ عَلَيْهِ كَالْأَرْضِ وَالدُّورِ وَالْحَيَوَانِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ إخْفَاؤُهُ بِالْمَغِيبِ عَلَيْهِ وَالسَّتْرِ لَهُ قَالَ مَالِكٌ وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرَةُ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ، وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ، وَأَمَّا الْأَرْضُ وَالرِّبَاعُ كُلُّهَا وَأُصُولُ الشَّجَرِ مِمَّا لَا يُنْقَلُ، وَلَا يُحَوَّلُ فَأَمْرُهَا ظَاهِرٌ يُعْلَمُ صِدْقُ مُدَّعِي
(5/242)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ: وَمَا كَانَ مِنْ رَهْنٍ يَهْلِكُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يُعْلَمُ هَلَاكُهُ إلَّا بِقَوْلِهِ فَهُوَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ لِقِيمَتِهِ ضَامِنٌ يُقَالُ لَهُ صِفْهُ فَإِذَا وَصَفَهُ أُحْلِفَ عَلَى صِفَتِهِ وَتَسْمِيَةِ مَالِهِ فِيهِ ثُمَّ يُقَوِّمُهُ أَهْلُ الْبَصَرِ بِذَاكَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَمَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ضَيَاعَهَا مِنْ كَذِبِهِ.
وَأَمَّا الْحَيَوَانُ فَإِنَّ ادِّعَاءَ إبَاقِ الْعَبْدِ، وَهُرُوبِ الْحَيَوَانِ أَمْرٌ لَا يَكَادُ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُقِيمَ بِهِ بَيِّنَةً؛ لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ كَثِيرًا فِي وَقْتِ الْغَفْلَةِ، وَفِي حِينٍ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِهِ قَالَ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَا أَخَذَهُ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِ الضَّمَانِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ وَذَلِكَ مِثْلُ مَا قَالَ أَشْهَبُ إذَا زَعَمَ أَنَّ الدَّابَّةَ انْفَلَتَتْ مِنْهُ أَوْ الْعَبْدَ كَابَرَهُ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ النَّاسِ فَيُنْكِرُونَ ذَلِكَ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ اُدُّعِيَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ عُدُولٍ فَلَا يُصَدَّقُونَ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِهِ فِيمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا غَيْرَ عُدُولٍ لَمْ يَثْبُتْ كَذِبُهُ وَكَانَ عَلَى أَصْلِهِ فِي التَّصْدِيقِ وَانْتِفَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ أَخَذَهُ فَوُجُودُ غَيْرِ الْعُدُولِ كَعَدَمِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ لَهُ وَعَلَيْهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا فِي الْمَوْتِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ يُصَدَّقُ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ بِدَعْوَاهُ ذَلِكَ بِمَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ أَهْلُهُ ذَلِكَ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُصَدَّقُ إذَا ادَّعَى مَوْتَهُ فِي الْفَيَافِي وَالْقَفْرِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بِهِ مَنْ يُعْرَفُ بِهِ صِدْقُهُ أَوْ كَذِبُهُ فَإِنْ كَانَ فِي الْقُرَى وَحَيْثُ يَكُونُ النَّاسُ فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ فِيهِ أَهْلُ الْعَدْلِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَوْتَ ذَلِكَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ قَالَ مَاتَتْ دَابَّةٌ لَا نَعْلَمُ لِمَنْ هِيَ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ فَوَصَفُوهَا إنْ عَرَفُوا الصِّفَةَ أَوْ لَمْ يَصِفُوهَا قَبْلَ قَوْلِهِ إنَّهَا هِيَ، وَيَحْلِفُ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ الْعِلْمِ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ أَهْلُ الْجِهَةِ الَّتِي مَاتَتْ الدَّابَّةُ بِهَا فَإِذَا عَدِمَ ذَلِكَ عُلِمَ كَذِبُهُ فِيمَا زَعَمَهُ مِنْ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَأَى دَابَّةً مَيِّتَةً سَأَلَ عَمَّنْ مَلَكَهَا، وَلَا يَتَبَيَّنُ صِفَتَهَا بَلْ يَصْرِفُ بَصَرَهُ عَنْهَا، وَيُسْرِعُ الْمَشْيَ فِي الْبُعْدِ عَنْهَا فَلَا يَتَبَيَّنُ كَذِبُ مُدَّعِي ذَلِكَ فِي عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْقِصُ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا يُرِيدُ أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الرَّاهِنِ بِكَمَالِهِ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ لِأَجْلِ مَا ذَهَبَ مِنْ الرَّهْنِ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ إذَا رَهَنَ مِنْ رَاهِنِهِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: الرَّهْنُ كُلُّهُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ.
وَرَوَى الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ ارْتَهَنَ نِصْفَ عَبْدٍ وَقَبَضَهُ كُلَّهُ وَتَلِفَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إلَّا بِصِفَةٍ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ لِمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَضْمُونٌ بِقَدْرِ الدَّيْنِ دُونَ قِيمَتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ لَا يُضْمَنُ بِقِيمَةِ غَيْرِهِ كَالْوَدِيعَةِ.
وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: قُلْت فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ إنْ ضَاعَ فَقَالَ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُ قِيمَةٌ، وَلَا صِفَةٌ لِقَوْلِ الرَّاهِنِ، وَلَا الْمُرْتَهِنِ، وَلَا غَيْرِهِمَا فَهَذَا لَا طَلَبَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَجْعَلَ قِيمَتَهُ مِنْ أَدْنَى الرَّهْنِ.
وَقَدْ ذُكِرَ لِي ذَلِكَ عَنْ أَشْهَبَ وَمَا قُلْت لَك أَوَّلًا هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ، وَأَحَقُّهُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ قَالَ أَبُو الزِّنَادِ، وَفِي الْحَدِيثِ إذَا عَمِيَتْ قِيمَتُهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَثْبُتُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ شَيْءٌ، وَلَا لَهُ أَصْلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الرَّهْنَ يُضْمَنُ مِنْهُ قَدْرُ الدَّيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهِ فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَا رُوِيَ فَوْقَ هَذَا مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ هُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ إنَّمَا ذَلِكَ إذَا جُهِلَتْ صِفَاتُهُ، وَلَمْ يَدَّعِ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ رَاهِنٌ، وَلَا مُرْتَهِنٌ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَبَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ إذَا ضَاعَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -.
(5/243)
سَمَّى فِيهِ الْمُرْتَهِنُ أَخَذَهُ الرَّاهِنُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى أَحْلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى مَا سَمَّى الْمُرْتَهِنُ، وَبَطَلَ عَنْهُ الْفَضْلُ الَّذِي سَمَّى الْمُرْتَهِنُ فَوْقَ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يَحْلِفَ أَعْطَى الْمُرْتَهِنَ مَا فَضَلَ بَعْدَ قِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِنْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ: لَا عِلْمَ لِي بِقِيمَةِ الرَّهْنِ حَلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى صِفَةِ الرَّهْنِ وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ إذَا جَاءَ بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا يُسْتَنْكَرُ قَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ إذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، وَلَمْ يَضَعْهُ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(ش) : قَوْلُهُ: وَمَا كَانَ مِنْ رَهْنٍ يَهْلِكُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يُعْلَمُ هَلَاكُهُ إلَّا بِقَوْلِهِ فَهُوَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ يُرِيدُ أَنَّهُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلَا يَكَادُ أَنْ يُعْلَمَ هَلَاكُ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا بِقَوْلِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ كَالثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ وَالْعَنْبَرِ وَالْحُلِيِّ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْجِنْسُ مِنْ الرُّهُونِ إذَا ضَاعَ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَقُومَ بِضَيَاعِهِ بَيِّنَةٌ أَوْ لَا تَقُومُ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَإِنْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ فَعَنْ مَالِكٍ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَبِهَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ وَأَصْبَغُ وَاخْتَارَهَا ابْنُ الْمَوَّازِ وَالثَّانِيَةُ: يَضْمَنُ فِي الرَّهْنِ وَالْعَارِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ فِي الرَّهْنِ، وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ الرُّهُونِ لَا يُضْمَنُ، وَإِنَّمَا يُضْمَنُ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى الرُّهُونِ وَالْإِقْرَاضِ وَالشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ وَمَا يُغَابُ عَلَيْهِ يَدَّعِي فِيهِ الضَّيَاعَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْلَمُ فِيهِ كَذِبُ مُدَّعِيهِ غَالِبًا فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى ضَيَاعِ أَمْوَالِ النَّاسِ.
وَالْمُرْتَهِنُ يَأْخُذُهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ فَيَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهِ فَإِذَا لَمْ تَقُمْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِهَلَاكِهِ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ كَمَا أُلْزِمَ الْمُكْرِي ضَمَانَ مَا يَنْفَرِدُ بِحَمْلِهِ مِنْ الطَّعَامِ لِمَا خِيفَ مِنْ تَسَرُّعِ أَمْثَالِهِ إلَى أَكْلِهِ حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ فِيمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَإِذَا كَانَ يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ فِي الْحَيَوَانِ، وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لِمَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ أَمْرِهِ ظُهُورُهُ فَبِأَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الضَّمَانُ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْلَى وَأَحْرَى وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ الرُّهُونِ حُكْمُهَا الضَّمَانُ، وَعَلَى ذَلِكَ أُخِذَتْ فَاسْتَوَى فِيهَا ثُبُوتُ إتْلَافِهَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ خَفَاءِ ذَلِكَ كَالرَّهْنِ مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ لَمَّا قُبِضَ عَلَى غَيْرِ الضَّمَانِ اسْتَوَى فِيهِ ثُبُوتُ ذَلِكَ أَوْ خَفَاءُ ذَلِكَ.
(فَرْعٌ) وَإِذَا قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَامَتْ بَيِّنَةٌ بِهَلَاكِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ الرُّهُونِ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيعٍ مِنْ الْمُرْتَهِنِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَضْمَنُ وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهُ رَهْنًا فِي الْبَحْرِ فِي الْمَرْكَبِ فَيَغْرَقُ الْمَرْكَبُ أَوْ يَحْتَرِقُ مَنْزِلُهُ أَوْ يَأْخُذُهُ لُصُوصٌ مِنْهُ بِمُعَايَنَةٍ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
1 -
(فَرْعٌ) وَإِذَا جَاءَ الْمُرْتَهِنُ بِالرَّهْنِ وَقَدْ احْتَرَقَ وَقَالَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَارٌ فَلَا يُصَدَّقُ، وَهُوَ ضَامِنٌ إلَّا أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ يَكُونَ الِاحْتِرَاقُ أَمْرًا مَعْرُوفًا مَشْهُورًا مِنْ احْتِرَاقِ مَنْزِلِهِ أَوْ حَانُوتِهِ فَيَأْتِي بِبَعْضِ ذَلِكَ مُحْتَرِقًا فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَدَّعِي احْتِرَاقَ الثَّوْبِ يَكُونُ عِنْدَهُ بِمَا لَا يُعْلَمُ سَبَبُهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ وَقَعَ فِي نَارٍ أَوْ جَاوَرَتْهُ نَارٌ لَمْ تَتَعَدَّ إلَى غَيْرِهِ أَوْ تَعَدَّتْ إلَى يَسِيرٍ يَخْفَى مِثْلُهُ أَوْ يَدَّعِي احْتِرَاقَ ذَلِكَ بِمَا يُعْلَمُ سَبَبُهُ كَاحْتِرَاقِ الْمَنْزِلِ أَوْ الْحَانُوتِ فَإِذَا كَانَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ سَبَبُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ جَاءَ بِهِ مَحْرُوقًا إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِمَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ سَبَبُهُ كَاحْتِرَاقِ مَنْزِلِهِ أَوْ حَانُوتِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ ذَلِكَ الثَّوْبَ كَانَ فِيمَا احْتَرَقَ مِنْ حَانُوتِهِ أَوْ مَنْزِلِهِ أَوْ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ فَلَا خِلَافَ فِي تَصْدِيقِهِ سَوَاءٌ أَتَى بِبَعْضِ ذَلِكَ مَحْرُوقًا أَوْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ أَتَى بِبَعْضِ ذَلِكَ مَحْرُوقًا صُدِّقَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَانُوتِهِ الَّذِي احْتَرَقَ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَادَّعَى احْتِرَاقَ جَمِيعِهِ فَظَاهِرُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إذَا كَانَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِرَفْعِهِ مِنْ الرَّهْنِ فِي الْحَوَانِيتِ حَتَّى يَكُونَ مُتَعَدِّيًا بِنَقْلِهِ عَنْهُ كَأَهْلِ الْحَوَانِيتِ مِنْ التُّجَّارِ الَّذِينَ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِارْتِهَانِ الثِّيَابِ وَرَفْعِهَا فِي
(5/244)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
حَوَانِيتِهِمْ لَا يَكَادُونَ يَنْقُلُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَنْهَا فَإِنِّي أَرَى أَنْ يُصَدَّقُوا فِيمَا يَدَّعُونَ مِنْ احْتِرَاقِ ذَلِكَ فِيمَا عُرِفَ وَشُوهِدَ مِنْ احْتِرَاقِ حَانُوتِهِ، وَقَدْ أَفْتَيْتُ بِذَلِكَ فِي طَرْطُوشَةَ عِنْدَ احْتِرَاقِ أَسْوَاقِهَا وَكَثُرَتْ الْخُصُومَةُ فِي مِثْلِ هَذَا، وَأَنَا مَعَهُمْ بِهَا وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ بَعْضَ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَظْهَرَ إلَيَّ رِوَايَةً عَنْ ابْنِ أَيْمَنَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ إنَّمَا قَبَضَ الرَّهْنَ عَلَى الضَّمَانِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ خَوْفُ ضَمَانِ التَّعَدِّي، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ ضَيَاعِهِ لَا بِضَمَانٍ أَثْبَتَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الرَّهْنِ فَإِذَا كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ مِنْ احْتِرَاقِ حَانُوتِهِ وَكَانَ هَذَا الرَّهْنُ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِحِفْظِهِ فِي حَانُوتِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ كَوْنِهِ فِيهِ حِينَ احْتِرَاقِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا أَتَى الْمُرْتَهِنُ بِالرَّهْنِ، وَهُوَ سَاجٌ قَدْ تَأْكُلُهُ السُّوسُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَيَحْلِفُ مَا ضَيَّعَهُ، وَلَا أَرَادَ فِيهِ فَسَادًا، وَإِنْ كَانَ أَضَاعَهُ، وَلَمْ يَنْظُرْ فِي أَمْرِهِ حَتَّى أَصَابَهُ بِسَبَبِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ رَوَاهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: إذَا تَآكَلَتْ الثِّيَابُ عِنْدَ مُرْتَهِنِهَا أَوْ قَرَضَهَا الْفَأْرُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ أَضَاعَهَا ضَمِنَ، وَإِلَّا لَمْ يَضْمَنْ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَضْمَنُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ تَلِفَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ فِي أَنَّهُ مَضْمُونٌ خِلَافًا لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيِّ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الرَّهْنَ كُلَّهُ أَمَانَةٌ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ قَبْضَ مَا يُمْلَكُ فَمَنْفَعَتُهُ لِلْقَابِضِ مُؤَثِّرَةٌ فِي الضَّمَانِ كَالشِّرَاءِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ عَلَى حُكْمِ الِارْتِهَانِ فِي الضَّمَانِ مِنْ حِينِ يَقْبِضُهُ الْمُرْتَهِنُ إلَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَى رَاهِنِهِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى فِيمَنْ سَأَلَكَ سَلَفًا فَأَعْطَاك بِهِ رَهْنًا فَتَلِفَ الرَّهْنُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ السَّلَفُ إلَى الرَّاهِنِ فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ يَضْمَنُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ إلَّا بِمَعْنَى الِاسْتِيثَاقِ، وَلَوْ دَفَعَ الرَّاهِنُ إلَى الْمُرْتَهِنِ مَا عَلَى الرَّهْنِ مِنْ الدَّيْنِ ثُمَّ تَلِفَ الرَّهْنُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَقَدْ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِيمَنْ ارْتَهَنَ رَهْنًا بِدَيْنٍ فَاسْتَوْفَاهُ ثُمَّ ضَاعَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى حُكْمِ الرَّهْنِ فَلَا تَأْثِيرَ فِيهِ لِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِائَةٌ فَأَدَّاهَا كُلَّهَا إلَّا دِرْهَمًا وَاحِدًا ثُمَّ ضَاعَ الرَّهْنُ لَمْ يُنْقِصْهُ مَا أَدَّى مِنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ لَوَجَبَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ بِقَدْرِ مَا أَدَّى مِنْ دَيْنِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ بِضَمَانِهِ تَعَلُّقٌ لَكَانَ مَضْمُونًا بِدَيْنِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ كَانَ لَك عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَهُ بِيَدِك رَهْنٌ فَوَهَبْته الدَّيْنَ ثُمَّ ضَاعَ عِنْدَك الرَّهْنُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ أَنَّك تَضْمَنُهُ، وَنَحْوُهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى حُكْمِ الرَّهْنِ فَبَرَاءَةُ الرَّاهِنِ مِمَّا رَهَنَ بِهِ لَا تُغَيِّرُ حُكْمِهِ فِي الضَّمَانِ كَمَا لَوْ قَضَاهُ ذَلِكَ.
(فَرْعٌ) وَهَلْ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ قَالَ أَشْهَبُ يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِيمَا وَضَعَ مِنْ حَقِّهِ لِيُقَاصَّهُ بِهِ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِنْ بَقِيَ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهُ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الثَّوْبِ شَيْءٌ أَدَّاهُ قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُضَيِّعْ حَقَّهُ لِيُتْبَعَ بِقِيمَتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَيُّ وَقْتٍ يُرَاعَى فِي قِيمَتِهِ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ يَضْمَنُ قِيمَةَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ الرَّهْنِ مِنْ حُلِيٍّ وَثِيَابٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ الضَّيَاعِ لَا يَوْمَ الرَّهْنِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ ارْتَهَنَهُ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَيْهِ مِنْ يَوْمِ الرَّهْنِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لَمْ يَضْمَنْهُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ ضَاعَ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ ضَمِنَهُ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْقِيمَةِ فَلِذَلِكَ رُوعِيَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا يَوْمَ الرَّهْنِ وَقَالَ أَصْبَغُ فِي الْوَاضِحَةِ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرَاعَى قِيمَتُهُ يَوْمَ الضَّيَاعِ فَإِنْ جُهِلَتْ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ.
(فَرْعٌ) وَهَذَا إذَا لَمْ يُقَوَّمْ الرَّهْنُ يَوْمَ الِارْتِهَانِ، وَأَمَّا لَوْ قُوِّمَ الرَّهْنُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَضَاعَ فَتِلْكَ الْقِيمَةُ تَلْزَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَا قَدْ زَادَا فِي قِيمَتِهِ أَوْ نَقَصَا فَيُرَدُّ إلَى قِيمَتِهِ إذَا عُلِمَ بِذَلِكَ قَالَهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ تَقْوِيمَهُمَا لِلرَّهْنِ عِنْدَ الرَّاهِنِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى قِيمَتِهِ، وَإِقْرَارٌ بِذَلِكَ
(5/245)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فَيُحْمَلَانِ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَثْبُتَ الزِّيَادَةُ فِي ذَلِكَ أَوْ النُّقْصَانُ فَيُحْمَلَانِ عَلَيْهِ بَعْدَ الضَّيَاعِ، وَيُمْنَعَانِ مِنْ إقْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ الضَّيَاعِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ رَهْنًا ثُمَّ رَهَنَ فَضْلَهُ الْآخَرَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَضْمَنُ الْأَوَّلُ مِنْهُ إلَّا قَدْرَ مَبْلَغِ حَقِّهِ مِنْ قِيمَتِهِ، وَهُوَ فِي بَاقِيهِ أَمِينٌ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الثَّانِي.
وَقَالَ أَشْهَبُ ضَمَانُهُ كُلُّهُ مِنْ الْأَوَّلِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ رِضَا الْمُرْتَهِنِ الْأَوَّلِ بِارْتِهَانِ الثَّانِي الْفَضْلَةَ نَقْلٌ لَهَا إلَى حُكْمِ الْأَمَانَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ الثَّانِي فِيهَا؛ لِأَنَّهُ رَهْنٌ عَلَى يَدِ أَمِينٍ فَلَا يَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ: أَنَّهُ قَدْ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّهْنِ فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهُ بِرَهْنِ غَيْرِهِ إلَّا بِقَبْضِهِ مِنْهُ كَمَا لَوْ قَضَاهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى حُكْمِ الْأَمَانَةِ الْوَدِيعَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى رَأْيِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا قَبَضَ مَا عَلَى الرَّهْنِ مِنْ الدَّيْنِ، وَطَلَبِ صَاحِبُهُ قَبْضَهُ فَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ حَتَّى يَقْتَضِيَهُ أَوْ يُوَافِقَهُ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ عَلَى حُكْمِ الْوَدِيعَةِ فَيُقِرُّهُ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَنْتَقِلُ إلَى حُكْمِ الْوَدِيعَةِ أَوْ يَبِيعُهُ مِنْهُ فَيَنْتَقِلُ إلَى حُكْمِ الْمَبِيعِ، وَاَلَّذِي أَبَاحَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ غَيْرُهُ فَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ عِنْدَهُ عَلَى حُكْمِ الْأَمَانَةِ، وَلَمْ يُبْقِهِ عِنْدَهُ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقْبِضَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ، وَيَقُولَ لَهُ هَذَا رَهْنُك فَاقْبِضْهُ فَيَقُولُ اُتْرُكْهُ لِي عِنْدَك وَدِيعَةً فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي انْتِقَالِهِ إلَى حُكْمِ الْوَدِيعَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ شَرَطَ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ، وَأَنْ يَقْبَلَ قَوْلَهُ فِيهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ شَرْطُهُ بَاطِلٌ، وَهُوَ ضَامِنٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْبَرْقِيِّ عَنْ أَشْهَبَ: شَرْطُهُ جَائِزٌ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الرَّهْنِ وَالْعَارِيَّةِ قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ الْمَوَّازِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الشَّرْطَ إذَا انْعَقَدَ عَلَى نَقْلِ ضَمَانِهِ مِنْ مَحَلِّهِ لَمْ يَنْقُلْهُ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فِي هَذَا أَقْوَى مِنْ الشَّرْطِ، وَهَذَا حُكْمُ الضَّمَانِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَبْضِهَا، وَلَا تَأْثِيرَ لِلشَّرْطِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِيهِ فِي مَحَلِّ الضَّمَانِ كَالْمَبِيعِ الْغَائِبِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ لِتَرَدُّدِ الضَّمَانِ عِنْدَهُ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَلِذَلِكَ كَانَ لِلشَّرْطِ فِيهِ تَأْثِيرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: يُقَالُ لَهُ صِفْهُ ثُمَّ يَحْلِفُ عَلَى صِفَتِهِ، وَيُسَمِّي مَا لَهُ فِيهِ إلَى آخِرِ الْفَصْلِ مَعْنَاهُ إنْ لَمْ يَخْتَلِفْ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي صِفَةِ الرَّهْنِ الَّذِي تَلِفَ، وَلَزِمَ الْمُرْتَهِنَ ضَمَانُهُ إمَّا لِتَعَدِّيهِ أَوْ لِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ضَيَاعِهِ أَوْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ الرُّهُونِ عَلَى رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى صِفَةِ الرَّهْنِ حُكِمَ بِقِيمَةِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ وَقِيمَتِهِ؛ وَصَفَهُ الْمُرْتَهِنُ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى مَا لَهُ فِيهِ يُرِيدُ إنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الدَّيْنِ قَالَ ثُمَّ: يُقَوَّمُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْقِيمَةِ فَضْلٌ أَخَذَهُ الرَّاهِنُ، وَإِنْ كَانَ نَقْصٌ حَلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى مَا سَمَّى، وَبَطَلَ عَنْهُ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِنْ نَكَلَ أَدَّى مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُرْتَهِنَ غَارِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُنْكِرُهُ مِمَّا يَدَّعِيهِ عَلَيْهِ الرَّاهِنُ مِنْ صِفَةِ الرَّهْنِ، وَيَحْلِفُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَابَلَهُ فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ إلَى مُنْتَهَى قِيمَةِ تِلْكَ الصِّفَةِ فَلِذَلِكَ جَمَعَتْ لَهُ يَمِينُهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِيَمِينِهِ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ فَإِنْ حَلَفَ فَكَانَ فِي الْقِيمَةِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ أَدَّى الْفَضْلَ إلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ فِي الدَّيْنِ فَضْلٌ عَلَى الْقِيمَةِ حَلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى مَا سَمَّاهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ دَيْنِهِ لِيُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ مَا فَضَلَ مِنْهُ عَلَى قِيمَةِ رَهْنِهِ إنْ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الدَّيْنِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ السِّلْعَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ وَصِفَتِهِ، وَاتَّفَقَا فِي قَدْرِ الدَّيْنِ فَقَالَ الرَّاهِنُ: قِيمَةُ الرَّهْنِ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قِيمَتُهُ ثَلَاثُونَ دِينَارًا وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ عَشَرَةٌ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ: يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ مَا قِيمَتُهُ إلَّا ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ، وَيَسْقُطُ مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِهَا.
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِبَقِيَّةِ قَدْرِ الدَّيْنِ وَذَلِكَ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ قَدْ أَقَرَّ أَنَّ الدَّيْنَ عَشَرَةٌ فَإِنْ أَثْبَتَ أَنَّ قِيمَةَ الرَّهْنِ ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ بِيَمِينِ الْمُرْتَهِنِ أَدَّى بَاقِيَ الدَّيْنِ سَبْعَةَ دَنَانِيرَ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَشْهَدُ لِقِيمَةِ
(5/246)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الرَّهْنِ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّهْنَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَاعَى قِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى يَوْمَ يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ، وَلِذَلِكَ يَرْتَهِنُ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ يَوْمَ الرَّهْنِ كَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تُؤَبَّرْ وَتَلِفَ الرَّهْنُ قَبْلَ وَقْتِ بَيْعِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُشْهَدْ الدَّيْنُ بِقِيمَتِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو زَيْدٍ فِي سَمَاعِهِ عَنْ أَصْبَغَ فِيمَنْ رَهَنَ رَهْنًا بِأَلْفِ دِينَارٍ فَقَضَاهَا ثُمَّ أَخْرَجَ إلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ ثَوْبًا قِيمَتُهُ دِينَارٌ وَاحِدٌ وَقَالَ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُك ثَوْبًا وَشَيْئًا وَوَصَفَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِينَارٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاهِنِ إذَا تَفَاوَتَ الْأَمْرُ هَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ مِنْ بَابِ شَهَادَةِ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَا يُشْبِهُ، وَيَدَّعِي صَاحِبُهُ مَا يُشْبِهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي مَا يُشْبِهُ إلَّا أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ شَهَادَةِ الدَّيْنِ لِلرَّهْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ عَنْ الْيَمِينِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ يَحْلِفُ الرَّاهِنُ أَنَّ قِيمَةَ رَهْنِهِ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَيَحُطُّ عَنْهُ لِلدَّيْنِ عَشَرَةً، وَيَأْخُذُ عَشَرَةً بَقِيَّةَ قِيمَةِ رَهْنِهِ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ مِثْلَهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنْ أَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يَحْلِفَ أَعْطَى الْمُرْتَهِنَ مَا فَضَلَ بَعْدَ قِيمَةِ الرَّهْنِ يُرِيدُ أَنَّ الرَّاهِنَ لَمَّا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ بَعْدَ مَا رُدَّتْ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الرَّهْنِ مِنْ الْقِيمَةِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُرْتَهِنُ فَيُعْطِي الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ مَا فَضَلَ مِنْ دَيْنِهِ عَنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ لَا عِلْمَ لِي بِقِيمَةِ الرَّهْنِ حَلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى صِفَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ إذَا جَاءَ بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا يُسْتَنْكَرُ يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُشْبِهُ مِنْ صِفَةِ مَا يُرْهَنُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَمَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الْقِيمَةِ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهُ عَلَى مَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ فِي الرُّهُونِ، وَإِنَّمَا رَاعَى فِي ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِي لَا يُسْتَنْكَرُ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَمْ يَنْكُلَ عَنْ الْيَمِينِ، وَلَا ادَّعَى الْجَهْلَ بِصِفَةِ الرَّهْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا ادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْقِيقِ الصِّفَةِ عَلَى وَجْهٍ يَحْلِفُ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ صِفَتَهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا فَإِذَا أَتَى الرَّاهِنُ بِصِفَةٍ تَبْعُدُ عَنْ مِقْدَارِهَا عِنْدَهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى أَنْ يَصِفَهَا بِصِفَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ صِفَةِ الرَّهْنِ، وَهِيَ دُونَ الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهَا بِهَا الرَّاهِنُ بِكَثِيرٍ فَيُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَسْتَنْكِرُهُ مِنْ الثَّمَنِ، وَلَوْ سَمِعَ وَصْفَ الرَّاهِنِ ثُمَّ نَكَلَ هُوَ عَنْ الْيَمِينِ وَرُدَّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ لَكَانَ لِلرَّاهِنِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَا يُسْتَنْكَرُ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ حِينَ رُدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَقَوْلُ مَالِكٍ وَذَلِكَ إذَا قَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ، وَلَمْ يَضَعْهُ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ يُرِيدُ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ الرَّهْنَ الَّذِي يُغَابُ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ إذَا كَانَ هُوَ الْحَائِزَ لَهُ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَوْضُوعًا عَلَى يَدِ غَيْرِهِ بِحُكْمِ حَاكِمٍ أَوْ بِاتِّفَاقِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي ضَيَاعِهِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ وَأَمَّا سَائِرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي شَهَادَةِ قِيمَةِ الرَّهْنِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ هَذَا الشَّرْطُ عَلَى قَوْلِ أَصْبَغَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَهُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
وَفِي ذَلِكَ سِتَّةُ أَبْوَابٍ الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الْحِيَازَةِ لِلرَّهْنِ وَكَوْنِهَا شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ أَوْ إتْمَامِهِ وَالْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْحِيَازَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِمَّا لَيْسَ بِحِيَازَةٍ وَالْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَنْ يَكُونُ وَضْعُ الرَّهْنِ عَلَى يَدِهِ حِيَازَةً وَتَمْيِيزُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَالْبَابُ الرَّابِعُ فِيمَنْ يُوضَعُ عَلَى يَدَيْهِ الرَّهْنُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَرَاهِنَيْنِ وَالْبَابُ الْخَامِسُ فِيمَنْ يَقُومُ بِالرَّهْنِ، وَيَلِي الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْلَالَ لَهُ وَالْبَابُ السَّادِسُ فِي حُكْمِ الْعَدْلِ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى يَدِهِ الرَّهْنُ.
[الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الْحِيَازَةِ لِلرَّهْنِ] 1
(الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ الْحِيَازَةِ لِلرَّهْنِ وَكَوْنِهَا شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ أَوْ إتْمَامِهِ) لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرَّهْنِ السَّفَرُ خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا فِي السَّفَرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ كُلَّ وَثِيقَةٍ صَحَّتْ فِي السَّفَرِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ فِي الْحَضَرِ كَالْكَفَالَةِ، وَلَا يَتِمُّ لَهُ حُكْمُ الرَّهْنِ إلَّا بِالْحِيَازَةِ لَهُ
(5/247)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الرَّهْنِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَذَلِكَ بِمَعْنَى الشَّرْطِ فِيهِ فَصَارَ حُكْمُ الرَّهْنِ مُتَعَلِّقًا بِالرَّهْنِ الْمَقْبُوضِ وَإِذَا أَقَرَّ الرَّهْنَ بِيَدِ الرَّاهِنِ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ، وَلَا يَهَبَهُ، وَلَمْ يَطْلُبْهُ، وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ فَلَيْسَ بِرَهْنٍ حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ وَكِيلُهُ أَوْ مَنْ تَرَاضَيَا بِهِ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - وَصَفَ الرِّهَانَ بِأَنَّهَا رِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ، وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْقَبْضِ عَلَى مَا يَبْقَى بِيَدِ الرَّاهِنِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا جُعِلَتْ الْحِيَازَةُ شَرْطًا فِيهِ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِمَعْنَى الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا يَكْفِي مِنْ حِيَازَتِهِ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مُعَايَنَةِ ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَذَلِكَ أَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ حِينَ الْحَاجَةِ إلَى الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ رَهْنًا بَعْدَ مَوْتِ الرَّاهِنِ أَوْ فَلَسِهِ وَقْتَ تَعَلُّقِ الْغُرَمَاءِ بِهِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ لَهُمَا إلَى ذَلِكَ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمَا بِصِحَّتِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ أَوْ أَفْلَسَ وَوُجِدَ الرَّهْنُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ بِيَدِ الْأَمِينِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِهِ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يَنْفَعُ ذَلِكَ حَتَّى تَعْلَمَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ حَازَهُ قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْ الْفَلَسِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ صَوَابٌ لَا يَنْفَعُهُ إلَّا مُعَايَنَةُ الْحَوْزِ لَهَا حِينَ الِارْتِهَانِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ بِيَدِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ الْفَلَسِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّهْنِ لَهُ قَبْضُهُ وَحِيَازَتُهُ قَبْلَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ فِي وَقْتِهِ وَقَبْلَ فَوْتِهِ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَعِنْدِي لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ وُجِدَ بِيَدِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ ثُمَّ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ لَوَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا يَنْفَعُهُ إلَّا بِمُعَايَنَةِ الْحَوْزِ بِمَعْنَى كَوْنِ الرَّهْنِ بِيَدِهِ فِي وَقْتٍ يَصِحُّ فِيهِ الْحَوْزُ وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْفَعَ هَذَا حَتَّى يُعَايِنَ تَسْلِيمَ الرَّاهِنِ لَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ سَنُورِدُهَا وَنُنَبِّهُ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
[الْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْحِيَازَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِمَّا لَيْسَ بِحِيَازَةٍ] 1
(الْبَابُ الثَّانِي فِي صِفَةِ الْحِيَازَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِمَّا لَيْسَ بِحِيَازَةٍ) فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّهْنَ يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِمَا لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] قَالَ: فَلَنَا مِنْ الْآيَةِ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فَأَثْبَتَهَا رِهَانًا قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْآخَرُ أَنَّ قَوْلَهُ {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] أَمْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُوجَدَ رَهْنٌ غَيْرُ مَقْبُوضٍ وَمِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ الرَّاهِنَ لَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَسَلَّمَ فَصَحَّ فَيَثْبُتُ أَنَّهُ آمِرٌ وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ عَقَدَ وَثِيقَةً كَالْكَفَالَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ يَكُونُ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْحِيَازَةِ لِلرَّهْنِ أَنْ يَقْبِضَهُ الْحَائِزُ لِذَلِكَ أَمْ لَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ اكْتَرَى دَارًا أَوْ عَبْدًا سَنَةً أَوْ أَخَذَ حَائِطًا مُسَاقَاةً ثُمَّ ارْتَهَنَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ فَلَا يَكُونُ مُحَوِّزًا لِلرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَبْلَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَفِي الْمَجْمُوعَةِ قَالَ سَحْنُونٌ: وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَ الرَّجُلُ مَا فِي يَدِهِ بِإِجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ حِيَازَةً لِلْمُرْتَهِنِ كَاَلَّذِي يُخْدِمُ الْعَبْدَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى آخَرَ فَحَوْزُ الْمُخْدَمِ حَوْزٌ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ إنْ رَهَنَ عَيْنًا كَانَ غَصَبَهَا قَبْلَ ذَلِكَ صَحَّ وَسَقَطَ ضَمَانُ الْغَصْبِ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا رَهْنٌ بَقِيَ بِيَدِ مَنْ اسْتَحَقَّ قَبْضَهُ قَبْلَ الرَّهْنِ فَلَمْ يَكُنْ مَحُوزًا كَمَا لَوْ بَقِيَ بِيَدِ الرَّاهِنِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ احْتِجَاجِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ رَهَنَ بَيْتًا مِنْ دَارٍ بِمَا يَلِيهِ مِنْ الدَّارِ فَحَازَ الْمُرْتَهِنُ بِغَلْقٍ أَوْ كِرَاءٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ إنْ حَدَّ لَهُ نِصْفَ الدَّارِ فَهُوَ أَحْسَنُ، وَإِنْ لَمْ يَحُدَّهُ، وَلَكِنَّهُ رَهَنَهُ الْبَيْتَ بِعَيْنِهِ، وَنِصْفُ الدَّارَ شَائِعًا فَحِيَازَتُهُ لِلْبَيْتِ تَكْفِيهِ، وَهِيَ
(5/248)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
حِيَازَةٌ لِلْجَمِيعِ وَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ فَحِيَازَةُ الْمُرْتَهِنِ بِغَلْقِ الْبَيْتِ أَنَّ غَلْقَهُ لِلْبَيْتِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ حِيَازَةٌ لَهُ، وَسَائِرُ مَا ارْتَهَنَ مِنْ الدَّارِ، وَأَمَّا الْكِرَاءُ فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْجَمِيعِ وَاخْتَارَ أَصْبَغُ أَنْ يَحُدَّ لَهُ مَا احْتَازَهُ مِنْ الدَّارِ بِحُدُودٍ تُضْرَبُ فِيهِ بِمَعْنَى الْقِسْمَةِ لَهُ حَتَّى يَتَمَيَّزَ الرَّهْنُ مِنْ غَيْرِهِ لَكِنَّهُ إنْ حَازَ الْبَيْتَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَيْتَ هُوَ مُعْظَمُ الرَّهْنِ وَالْبَاقِيَ تَبَعٌ لَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى جَوَازِ حِيَازَةِ الْمُشَاعِ مَعَ غَيْرِ الرَّهْنِ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ بَقِيَّةُ الدَّارِ لِغَيْرِ الرَّاهِنِ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ ارْتَهَنَ الدَّارَ، وَفِيهَا طَرِيقٌ لِلْمُسْلِمِينَ يَسْلُكُهَا الرَّاهِنُ وَغَيْرُهُ قَالَ: إذَا حَازَ الْبُيُوتَ لَمْ يَضُرَّهُ الطَّرِيقُ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ فَرَاعَى فِي الْحِيَازَةِ الْبُيُوتَ دُونَ السَّاحَةِ، وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَبَعٌ لِلْبُيُوتِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ رَهْنُ الْمُشَاعِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ قَبْضُهُ بِالْبَيْعِ صَحَّ ارْتِهَانُهُ كَالْمَقْسُومِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ فَلَا يَخْلُو مِنْ رَهْنِ نِصْفِ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ بَاقِيهِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ لِأَشْهَبَ مَنْ كَانَ لَهُ نِصْفُ عَبْدٍ أَوْ نِصْفُ دَابَّةٍ أَوْ مَا يُنْقَلُ، وَيُحَوَّلُ كَالثَّوْبِ وَالسَّيْفِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ حِصَّتَهُ إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَا يَنْقَسِمُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ بَيْعَ نَصِيبَهُ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ اُنْتُقِضَ الرَّهْنُ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ جَازَ ذَلِكَ ثُمَّ لَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ، وَلَا لَهُ بَيْعُهُ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى جَمِيعُهُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ إلَى الْأَجَلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ عَلَى يَدِ الشَّرِيكِ، فَأَرَادَ الشَّرِيكُ بَيْعَ نَصِيبِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ بِيَدِهِ إلَى الْأَجَلِ جَازَ، وَلَا يُفْسِدُ ذَلِكَ الْبَيْعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِقُرْبِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَالثَّوْبِ فِي الْغَائِبِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَا عِنْدِي لَا يَمْنَعُ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ رَهْنَ نَصِيبٍ مِنْهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ بَيْعِ نَصِيبِهِ إنْ شَاءَ بِأَنْ يُفْرِدَهُ بِالْبَيْعِ أَوْ بِأَنْ يَدْعُوَ الرَّاهِنُ إلَى بَيْعِ حِصَّتِهِ مَعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّهْنِ فَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ كَانَ الثَّمَنُ رَهْنًا فَإِنْ كَانَ بِجِنْسِ الدَّيْنِ قَضَى مِنْهُ دَيْنَهُ إنْ لَمْ يَأْتِ بِرَهْنٍ بَدَلٍ مِنْهُ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ إلَّا أَنْ يَحْتَمِلَ ذَلِكَ الْقِسْمَةَ فَيُقْسَمُ وَتَصِيرُ حِصَّةُ الرَّاهِنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ بِيَدِ أَمِينٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ بِإِذْنِ الشَّرِيكِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّ الْحَوْزَ فِيهِ يَكُونُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَنْ يَحِلَّ الْمُرْتَهِنُ فِيهِ مَحَلَّ الرَّاهِنِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يَتِمُّ فِيهِ الْحَوْزُ إلَّا بِأَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَهُ عَلَى يَدَيْ الشَّرِيكِ قَالَ أَشْهَبُ أَوْ غَيْرُهُ أَوْ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ هَذَا رَهْنٌ لِجُزْءٍ مُشَاعٍ فَجَازَ أَنْ يُحَازَ بِأَنْ يَحِلَّ الْمُرْتَهِنُ فِيهِ مَحَلَّ الرَّاهِنِ مَعَ شَرِيكِهِ كَالدَّارِ وَالْحَمَّامِ وَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَشْهَبُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ فِي الدَّارِ وَالْحَمَّامِ وَذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمَا ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ عَبْدُوسٍ وَقَالَا، وَهَذِهِ حِيَازَةُ مَا لَا يُزَالُ بِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ رَهَنَهُ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا فَإِنَّ حِيَازَتَهُ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْعَدْلِ لِجَمِيعِهِ فَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ عَنْ أَشْهَبَ هُوَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إنْ شَاءَ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ وَاحِدًا لَا يَنْقَسِمُ بِيعَ فَأَخَذَ الْمُرْتَهِنُ ثُمُنَ مَا لِلرَّاهِنِ يَتَعَجَّلُهُ مِنْ دَيْنِهِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ فَيُبَاعُ بِدَنَانِيرَ أَوْ يَكُونَ دَيْنُهُ دَنَانِيرَ فَيُبَاعُ بِدَرَاهِمَ وُقِفَ رَهْنًا إلَى الْأَجَلِ قَالَ: وَلَوْ رَهَنَك النِّصْفَ ثُمَّ أَرَادَ بَيْعَ النِّصْفِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى الرَّهْنُ إلَى أَجَلِهِ، وَيَحُوزُ الْمُرْتَهِنُ مِنْهُ النِّصْفَ الثَّانِيَ مَعَ الْمُسْتَحِقِّ لِنِصْفِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
(فَصْلٌ) :
فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ فَرَهَنَ نِصْفَهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ بِيَدِ الرَّاهِنِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ يُسَلِّمَ جَمِيعَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ أَوْ إلَى الْعَدْلِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا مَا لَا يُنْقَلُ، وَلَا يُحَوَّلُ
(5/249)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
كَالدُّورِ وَالْأَرْضِينَ وَالرِّبَاعِ فَإِنَّهُ إنْ رَهَنَهُ نِصْفَ دَارٍ لَهُ جَمِيعًا جَازَ ذَلِكَ قَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: فَيَقُومُ بِذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ مَعَ الرَّاهِنِ يُكْرِيَانِهِ جَمِيعًا أَوْ يَحُوزَانِهِ أَوْ يَضَعَانِهِ عَلَى يَدَيْ غَيْرِهِمَا، وَفِي الْمَجْمُوعَةِ لِابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ قَبْضَهُ أَنْ يَحُوزَهُ دُونَ صَاحِبِهِ، وَهَذَا إنْ أَشَارَ بِهِ إلَى الْجُزْءِ الَّذِي ارْتَهَنَ فَمُوَافِقٌ لِمَا فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ، وَإِنْ أَشَارَ بِهِ إلَى جَمِيعِ مَا رَهَنَ بَعْضَهُ فَمُخَالِفٌ لَهُ.
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: لَا حِيَازَةَ فِيهِ إلَّا بِقَبْضِهِ كُلِّهِ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ يَدِ عَدْلٍ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ حِيَازَةً فِي الْهِبَةِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ حِيَازَةً فِي الرَّهْنِ كَقَبْضِ الْكُلِّ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْهِبَةَ لَمَّا كَانَتْ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا الْفَسَادُ بَعْدَ تَمَامِهَا بِالْحِيَازَةِ جَازَ أَنْ يَكْفِيَ فِيهَا مِنْ الْحِيَازَةِ قَبْضُ الْحِصَّةِ الْمَوْهُوبَةِ، وَالرَّهْنُ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ بَعْدَ تَمَامِهِ بِالْحِيَازَةِ فَلَمْ تَصِحَّ حِيَازَتُهُ إلَّا بِمَنْعِ الرَّاهِنِ مِنْهُ جُمْلَةً.
(فَرْعٌ) وَلَوْ رَهَنَ رَجُلٌ حِصَّةً مِنْ دَارٍ ثُمَّ اكْتَرَى مِنْ شَرِيكِهِ حِصَّتَهُ لَمْ يُبْطِلْ ذَلِكَ الرَّهْنَ فِي الْحِصَّةِ الَّتِي رَهَنَ، وَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُهُ مِنْ سُكْنَى الْحِصَّةِ الَّتِي اكْتَرَى حَتَّى يُقَاسِمَهُ فَيَحُوزُ حِصَّةَ الرَّهْنِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَزَادَ أَشْهَبُ وَيَمْنَعُهُ الْقِيَامُ بِالْحِصَّةِ الَّتِي اكْتَرَى حَتَّى يَجْعَلَ مَا اكْتَرَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِيَدِهِ لِيَتِمَّ الْحَوْزُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مِلْكَهُ لِمَنَافِعِ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّارِ لَا يَمْنَعُ مِنْ حِصَّةِ حِيَازَةِ الرَّهْنِ كَمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مِلْكُهُ لِمَنَافِعِ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ سُكْنَاهُ إيَّاهُ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَوْ فَعَلَهُ فِي حِصَّةِ الرَّهْنِ لَأَبْطَلَ حِيَازَتَهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمِنْ صِحَّةِ حِيَازَةِ الرَّهْنِ أَنْ تَتَّصِلَ حِيَازَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنْ أَحْدَثَ الرَّاهِنُ فِيهِ حَدَثًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ فَكُلُّ مَا فَعَلَ فِيهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ وَطْءٍ أَوْ عِتْقٍ، أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عَطِيَّةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ نَافِذٌ إنْ كَانَ مَلِيًّا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَنْفُذْ مِنْهُ إلَّا أَنْ تَحْمِلَ الْأَمَةُ أَوْ يَبِيعُهَا رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ، وَلَوْ قَامَ الْمُرْتَهِنُ بِطَلَبِ حِيَازَةِ الرَّهْنِ قَبْلَ أَنْ يُفْلِسَ الرَّاهِنُ أَوْ يُحْدِثَ مَا ذَكَرْنَاهُ قُضِيَ لَهُ بِذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَنْفُذُ عِتْقُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّانِي مِثْلُ قَوْلِنَا فَإِنْ حَازَهُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى يَدِهِ أَوْ يَدِ عَدْلٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرَّاهِنِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بِإِجَارَةٍ أَوْ مُسَاقَاةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا: قَدْ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي سُكْنَى الدَّارِ لَخَرَجَتْ عَنْ الرَّهْنِ قَالَ هُوَ وَأَشْهَبُ: وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي زِرَاعَةِ الْأَرْضِ فَزَرَعَهَا، وَهِيَ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ الرَّهْنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُدِمَتْ الصِّفَةُ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ كَوْنِهِ رَهْنًا، وَهِيَ الْحِيَازَةُ.
1 -
(فَرْعٌ) وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ فَأَكْرَى الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ بَعْدَ أَنْ حَازَهُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ بَعْضِ وَرَثَتِهِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ الرَّهْنِ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ذِمَمِ الْوَرَثَةِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُبْطِلُ الْحِيَازَةَ ثُمَّ قَامَ الْمُرْتَهِنُ يُرِيدُ رَدَّ ذَلِكَ لِيَصِحَّ رَهْنُهُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ عَبْدُوسٍ عَنْ أَشْهَبَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَفُوتَ بِتَحْبِيسٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ تَدْبِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قِيَامِ غُرَمَائِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إلَّا فِي الْعَارِيَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعَارَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَهُ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ فِي الْعَارِيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ: إنَّمَا فَرَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَتْ الْعَارِيَّةُ مُؤَجَّلَةً فَلَيْسَ لَهُ ارْتِجَاعُ الرَّهْنِ بَعْدَ أَنْ يُعِيرَهُ إلَّا أَنْ يُعِيرَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ غَيْرَ مُؤَجَّلَةٍ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الرَّهْنَ بَعْدَ الْأَجَلِ كَالْإِجَارَةِ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مَنْ جُعِلَ عَلَى يَدَيْهِ إذَا أَكْرَاهُ مِنْ الرَّاهِنِ بِعِلْمِ الْمُرْتَهِنِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الرَّهْنِ، وَإِنْ سَكَتَ حِينَ عَلِمَ بِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ الرَّهْنِ، وَلَوْ أَكْرَاهُ بِإِذْنِهِ أَوْ تَرَكَ الْفَسْخَ حِينَ أُعْلِمَ بِذَلِكَ، وَقَدْ أَكْرَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ إنْ تَأَخَّرَ قَبْضُ
(5/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الرَّهْنِ لَا يَمْنَعُ تَلَافِيَهُ قَبْلَ فَوْتِهِ كَمَا لَوْ تَرَكَ قَبْضَهُ وَقْتَ الرَّهْنِ ثُمَّ قَامَ يُرِيدُ قَبْضَهُ قَبْلَ فَوْتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ الْقَبْضَ الْوَاجِبَ لِحَقِّ الرَّهْنِ قَدْ وَجَبَ أَوَّلًا فَإِذَا رَدَّهُ فَقَدْ تَرَكَ حَقَّهُ وَرَدَّهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ فَاتَ قَبْلَ الِارْتِجَاعِ بِعِتْقٍ أَوْ تَحْبِيسٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَالرَّاهِنُ عَدِيمٌ رُدَّ لِعُدْمِهِ، وَلَا يُرَدُّ الْبَيْعُ، وَلَا يُعَجَّلُ مِنْ ثَمَنِهِ الدَّيْنُ، وَلَا يُوضَعُ لَهُ الثَّمَنُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رَدَّهُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ قَبْلَ حِيَازَةِ الْمُرْتَهِنِ قَالَهُ أَشْهَبُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ.
(فَصْلٌ) :
وَهَذَا فِي حِيَازَةِ الْأَعْيَانِ، وَأَمَّا الدُّيُونُ فَارْتِهَانُهَا جَائِزٌ قَالَهُ مَالِكٌ، وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ دَيْنٌ لَهُ ذِكْرُ حَقٍّ أَوْ دَيْنٌ لَا ذِكْرَ لَهُ فَإِنْ كَانَ دَيْنٌ لَهُ ذِكْرُ حَقٍّ فَحِيَازَتُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ ذِكْرَ الْحَقِّ، وَيَشْهَدَ لَهُ بِهِ فَهَذَا جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ مِنْ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْتِ وَالْفَلَسِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي حِيَازَتِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلدَّيْنِ ذِكْرُ حَقٍّ فَهَلْ يُجْزِئُ فِيهِ الْإِشْهَادُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذِكْرُ حَقٍّ فَأَشْهَدَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَنَحْوِهِ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا: إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذِكْرُ حَقٍّ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ حَقٍّ جَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِشْهَادَ أَقْوَى مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ غَايَةُ مَا يُتَوَثَّقُ بِهِ، وَيُصْرَفُ بِهِ الْمَالُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ إعْلَامِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَلَا اعْتِبَارَ بِرِضَاهُ فِي ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِإِعْلَامِهِ عَلَى مَعْنَى الْإِشْهَادِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ لِلرَّاهِنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ كَانَ أَجَلُ الدَّيْنِ إلَى مِثْلِ أَجَلِ الَّذِي رُهِنَ بِهِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُ جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ أَجَلُ الدَّيْنِ الَّذِي رُهِنَ بِهِ أَقْرَبَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الرَّهْنِ بَعْدَ مَحَلِّهِ رَهْنًا كَالسَّلَفِ فَصَارَ فِي الْبَيْعِ بَيْعًا وَسَلَفًا إلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ بِيَدِ عَدْلٍ إلَى مَحِلِّ أَجَلِ الدَّيْنِ الَّذِي رُهِنَ بِهِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي هُوَ الرَّهْنُ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَكَانَ الْأَجَلُ إلَى شَهْرٍ ثُمَّ اشْتَرَى سِلْعَةً يُرِيدُ إلَى شَهْرَيْنِ عَلَى أَنْ يُؤَخَّرَ بِدَيْنِهِ الْحَالِّ أَوْ الْمُؤَجَّلِ إلَى شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ فَهُوَ بَيْعٌ وَسَلَفٌ، وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ إلَى شَهْرَيْنِ فَاشْتَرَى سِلْعَةً إلَى شَهْرٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَا يَقْضِي دَيْنَهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهِ، وَيَبْقَى الدَّيْنُ الَّذِي هُوَ الرَّهْنُ إلَى أَجَلِهِ، وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى بَيْعِهِ بِيعَ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ أَجَلِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ تَسَلَّفَ مِنْ امْرَأَتِهِ دَرَاهِمَ وَرَهَنَهَا بِهَا خَادِمًا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْعُتْبِيَّةِ: أَحَبُّ إلَيَّ لَوْ جَعَلَاهَا بِيَدِ غَيْرِهِمَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَكُونُ ذَلِكَ رَهْنًا.
وَقَالَ أَصْبَغُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: ذَلِكَ حَوْزٌ لَهَا وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِي الْبَيْتِ إلَّا رَقَبَةَ الْبَيْتِ فَلَا يَكُونُ سُكْنَاهَا فِيهَا حَوْزًا، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا مَبْنِيًّا عَلَى صِحَّةِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ مَا رَهَنَهُ الزَّوْجُ أَوْ مَنْعُ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجَةِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الزَّوْجِ، وَالْمَنْزِلَ مَنْزِلُ الزَّوْجِ فَلَا يُحَازُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ مَا كَانَ فِيهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَصْبَغَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَنْ يَصِحُّ وَضْعُ الرَّهْنِ عَلَى يَدِهِ] 1
(الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَنْ يَصِحُّ وَضْعُ الرَّهْنِ عَلَى يَدِهِ) فَإِذَا كَانَ يَتِيمٌ لَهُ وَلِيَّانِ فَإِنْ رَهَنَ مِنْهُمَا رَهْنًا بِدَيْنٍ عَلَى الْيَتِيمِ فَوُضِعَ عَلَى يَدِ أَحَدِهِمَا فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يَتِمُّ فِيهِ الْحَوْزُ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُمَا، وَلَا يَحُوزُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ ارْتَهَنَ حَائِطًا فَجُعِلَ عَلَى يَدِ الْمُسَاقِي فِيهِ أَوْ الْأَجِيرِ فَلَيْسَ بِرَهْنٍ حَتَّى يُجْعَلَ عَلَى يَدِ غَيْرِ مَنْ فِي الْحَائِطِ، وَلْيَجْعَلْ الْمُرْتَهِنُ مَعَ الْمُسَاقِي رَجُلًا يَسْتَخْلِفُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ عَلَى يَدِ مَنْ يَرْضَيَانِ بِهِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: إنْ كَانَ رَهَنَ نِصْفَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْأَجِيرِ وَالْقَيِّمِ، وَإِنْ كَانَ رَهَنَ جَمِيعَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُسَاقِيَ وَالْأَجِيرَ لَمَّا كَانَا عَامِلَيْنِ لِلرَّاهِنِ كَانَتْ أَيْدِيهِمَا لَهُ فَلَا
(5/251)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
تَصِحُّ الْحِيَازَةُ مَعَ بَقَاءِ الرَّهْنِ بِيَدِ الرَّاهِنِ أَوْ بِيَدِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ كَمَا لَوْ رَهَنَ نِصْفَ الْحَائِطِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ يَدَ الْأَجِيرِ إنَّمَا نَابَتْ عَنْ يَدِ الرَّاهِنِ بِأَمْرِهِ فَإِذَا بَقِيَ لَهُ أَمْرٌ فِي بَقَائِهِ بِيَدِهِ لِبَقَاءِ بَعْضِهِ غَيْرَ مَرْهُونٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ حَائِزًا مَحُوزًا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ فَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْأَجِيرِ عَنْ جَمِيعِ الرَّهْنِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَصَارَ الرَّهْنُ بِيَدِهِ لِمَعْنًى آخَرَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُوضَعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِ غَيْرِ الرَّاهِنِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ إذَا وُضِعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِ قَيِّمِ رَبِّهِ مِنْ عَبْدِهِ أَوْ أَجِيرِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يُرْهَنُ بَعْضُهُ فَلَيْسَ بِحَوْزٍ، وَإِنْ رُهِنَ جَمِيعُهُ فَذَلِكَ حِيَازَةٌ إلَّا فِي عَبْدِهِ قَالَ: وَحَوْزُ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ الرَّهْنَ لَيْسَ بِحَوْزٍ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ يَدَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَحُوزًا مَعَ بَقَائِهِ بِيَدِ الرَّاهِنِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا وَضْعُ الرَّهْنِ بِيَدِ زَوْجَةِ الرَّاهِنِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ أَصْبَغَ: أَنَّهُ إنْ حِيزَ الرَّهْنُ بِذَلِكَ عَنْ رَاهِنِهِ حَتَّى لَا يَلِيَ عَلَيْهِ، وَلَا يُقْضَى فِيهِ فَهُوَ رَهْنٌ ثَابِتٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: يُفْسَخُ ذَلِكَ وَنَحْوُهُ عَنْهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ وَجْهُ قَوْلِ أَصْبَغَ: أَنَّ الزَّوْجَةَ تَحُوزُ لِنَفْسِهَا عَنْهُ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَحُوزَ لِغَيْرِهَا وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا نَوْعٌ مِنْ الْحَجْرِ، وَلِذَلِكَ هِيَ مَمْنُوعَةٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَلَمْ تَحُزْ الرَّهْنَ عَلَى الزَّوْجِ كَعَبْدِهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا وَضْعُ الرَّهْنِ بِيَدِ أَخِي الرَّاهِنِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ الرَّهْنُ عَلَى يَدِ أَخِي الرَّاهِنِ وَذَلِكَ لِضَعْفِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: أَمَّا فِي الْأَخِ فَذَلِكَ رَهْنٌ تَامٌّ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الرَّهْنَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُنَافَاةِ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ وَالْمُعْتَادُ مِنْ حَالِ الْأَخِ أَنْ لَا يَمْنَعَ أَخَاهُ مِنْ مِثْلِ هَذَا فَلِذَلِكَ ضَعُفَتْ حِيَازَتُهُ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِنَفْسِهِ بَائِنٌ عَنْهُ بِمِلْكِهِ فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا وَضْعُ الرَّهْنِ عَلَى يَدِ ابْنِ الرَّاهِنِ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الِابْنُ فِي حِجْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَمَّا الِابْنُ الْمَالِكُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ الْبَائِنُ عَنْ أَبِيهِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدِ ابْنِهِ.
وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ: إنْ وُضِعَ عَلَى يَدِهِ فُسِخَ وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ هَذَا فِي الصَّغِيرِ، وَأَمَّا الْكَبِيرُ الْبَائِنُ عَنْهُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ فِي الِابْنِ وَالْبِنْتِ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْبَابُ الرَّابِعُ فِيمَنْ يُوضَعُ عَلَى يَدَيْهِ الرَّهْنُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَرَاهِنَيْنِ] 1
(الْبَابُ الرَّابِعُ فِيمَنْ يُوضَعُ عَلَى يَدَيْهِ الرَّهْنُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَرَاهِنَيْنِ) فَإِنَّهُ إذَا شَرَطَ الْمُرْتَهِنُ كَوْنَ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْهِ جَازَ ذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُكَالُ، وَلَا يُوزَنُ، فَأَمَّا الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيهَا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا فَيَرُدَّ مِثْلَهَا.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: لَا أُحِبُّ ارْتِهَانَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَالْفُلُوسِ إلَّا مَطْبُوعَةً لِلتُّهْمَةِ فِي سَلَفِهَا فَإِنْ لَمْ تُطْبَعْ لَمْ يَفْسُدْ الرَّهْنُ، وَلَا الْبَيْعُ، وَيُسْتَقْبَلُ طَبْعُهَا مَتَى عُثِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ دُونَ الْأَمِينِ وَمَا أَرَى ذَلِكَ فِي الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَمَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْفَى التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَيَخْفَى فِي الْعَيْنِ فَالتُّهْمَةُ فِيهِ أَبْيَنُ، وَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَالْفُلُوسِ أَنَّهُ يَجُوزُ ارْتِهَانُهَا إذَا طُبِعَ عَلَيْهَا، وَإِلَّا فَلَا قَالَ: وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَجَمِيعُ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إذَا طُبِعَ عَلَيْهَا وَحِيلَ بَيْنَ الْمُرْتَهِنِ، وَبَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ قَالَ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ يُؤْكَلُ وَالْعَيْنَ تُنْفَقُ، وَيُؤْتَى بِمِثْلِهَا وَالثِّيَابُ وَالْحُلِيُّ لَا يُؤْتَى بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ شَرَطَ كَوْنَهَا عَلَى يَدِ أَمِينٍ لَزِمَهُمَا ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَطْبَعَ مِنْهَا عَلَى مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا شَيْئًا فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: إنَّهُمَا إذَا اخْتَصَمَا فِي ذَلِكَ قِيلَ لَهُمَا اجْعَلَاهُ عَلَى يَدِ مَنْ رَضِيتُمَا فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى الرِّضَى بِأَحَدٍ جَعَلَهُ الْقَاضِي عِنْدَ مَنْ يَرْضَاهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا شَرَطَا مَنْ يُوضَعُ عَلَى يَدِهِ لَزِمَهُمَا ذَلِكَ
(5/252)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطَاهُ وَرَضِيَا بِهِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُمَا، وَلَزِمَهُمَا مَنْ رَضِيَا بِهِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ كَمَا لَزِمَهُمَا عِنْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ عَائِدٌ إلَى الْحُكْمِ كَمَالٍ لِلْيَتِيمِ لَا وَلِيَّ لَهُ أَوْ مَالٍ لِلْغَائِبِ لَا وَكِيلَ لَهُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُرْتَهِنَ أَنْ يُوضَعَ ذَلِكَ عَلَى يَدِهِ إذَا أَبَاهُ قَالَ: لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُزِيلَ عَنْ نَفْسِهِ ضَمَانَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ مَاتَ الْأَمِينُ فَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ عَلَى يَدِهِ، وَلَكِنْ عَلَى يَدِ مَنْ يَرْضَى الْمُتَرَاهِنَانِ بِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: وَعَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يُعْلِمَهُمَا بِمُؤَنِهِ ثُمَّ إنْ شَاءَ إقْرَارَهُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ جُعِلَ بِيَدِ أَفْضَلِ الرَّجُلَيْنِ.
[الْبَابُ الْخَامِسُ فِيمَنْ يَلِي الرَّهْنَ وَيَقُومُ بِهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْلَالِ لَهُ]
(الْبَابُ الْخَامِسُ فِيمَنْ يَلِي الرَّهْنَ وَيَقُومُ بِهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِغْلَالِ لَهُ) رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَلِي كِرَاءَ الرَّهْنِ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَأْمِرَ الرَّاهِنَ إنْ حَضَرَ فَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ مَضَى ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُكْرِيَ الرَّهْنَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: إنْ لَمْ يَأْمُرْهُ الرَّاهِنُ بِالْكِرَاءِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَلِي كِرَاءَ الرَّهْنِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ، وَكَذَلِكَ مَنْ وُضِعَ عَلَى يَدِهِ يَلِي ذَلِكَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ وَوَضْعَهُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ يَقْتَضِي أَنْ يَلِيَ كِرَاءَهُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَوَلِّيَهُ يُخْرِجُهُ عَنْ الرَّهْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ الرَّهْنُ عَلَى تَضْيِيعِ الْغَلَّةِ فَاقْتَضَى عَقْدُ الرَّهْنِ أَنْ يَلِيَ كِرَاءَهُ مَنْ وُضِعَ عَلَى يَدِهِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الرَّاهِنِ لَا يَقْتَضِي حِفْظَ الْمُرْتَهِنِ لِلْعَيْنِ الَّتِي رَهَنَهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي حِفْظِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَلِيَ كِرَاءَهُ وَاسْتِغْلَالَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِنَّمَا لَهُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ مَنْعُ الرَّاهِنِ مِنْ الْقِيَامِ بِذَلِكَ كَمَا لَهُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ مَنْعُ الرَّاهِنِ مِنْ الْقِيَامِ بِحِفْظِ الرَّهْنِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُحَابِيَ فِي كِرَاءِ الرَّهْنِ فَإِنْ حَابَى ضَمِنَ الْمُحَابَاةَ وَقَضَى الْكِرَاءَ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْكِرَاءِ إلَيْهِ فَإِذَا عَقَدَهُ لَزِمَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْكِرَاءَ فَإِنْ حَابَى بِشَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ هِبَةٌ مِنْهُ لِلْمُكْتَرِي فَعَلَيْهِ ضَمَانُ ذَلِكَ الْقَدْرِ الَّذِي حَابَى بِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ صَارَ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي كِرَاءِ الرَّهْنِ يَلْزَمُهُ فِعْلُ مَنْ وُضِعَ عَلَى يَدِهِ فِيهِ مِنْ الْعَقْدِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا حَابَى فِيهِ مِنْ قِيمَةِ مَنْفَعَتِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُعَجِّلَ الدَّيْنَ، وَيَفْسَخَ الْكِرَاءَ فَإِنْ كَانَ الْكِرَاءُ بِلَا وَجِيبَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهُ، وَإِنْ كَانَ بِوَجِيبَةٍ فَلِلرَّاهِنِ فَسْخُهُ، وَإِنْ كَانَ أَجَلُهُ دُونَ أَجَلِ الدَّيْنِ رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: إنْ كَانَتْ وَجِيبَةً إلَى أَجَلِ الدَّيْنِ، وَأَدْوَنَ فَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ فَسْخُهُ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ مِنْ أَجَلِ الدَّيْنِ فَلَهُ فَسْخُ مَا زَادَ عَلَيْهِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ بَيْنَ الْوَجِيبَةِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِرَاءِ إذَا انْعَقَدَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَتَقَدَّرُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَنْفَسِخْ بِفَوَاتِ زَمَانٍ، وَإِنْ أُغْلِقَ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَقُدِّرَ بِزَمَانٍ انْفَسَخَ بِفَوَاتِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَجْهُ قَوْلِ أَصْبَغَ: أَنَّ الْكِرَاءَ عَلَى اللُّزُومِ فَإِذَا لَزِمَ مَا تَقَدَّرَ مِنْهُ بِالْعَمَلِ فِيمَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ عَلَى الرَّاهِنِ أَوْ اسْتَدَامَ بَقَاءَ الدَّيْنِ إلَى أَجَلِهِ فَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّرَ مِنْهُ بِالزَّمَانِ قَالَ أَصْبَغُ: وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا لَمْ أَرَ لَهُ أَنْ يُكْرِيَهَا بِوَجِيبَةٍ طَوِيلَةٍ جِدًّا فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَلْزَمْ الرَّاهِنَ إذَا عَجَّلَ الدَّيْنَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا تَرَكَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُكْرِيَ الدَّارَ حَتَّى حَلَّ الْأَجَلُ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الدُّورِ الَّتِي لَهَا قَدْرٌ كَدُورِ مَكَّةَ وَمِصْرَ أَوْ كَانَ الْعَبْدُ نَبِيلًا ارْتَفَعَ ثَمَنُهُ لِخَرَاجِهِ فَيَدَعُهُ لَا يُكْرِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَجْرِ مِثْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَبِيرُ كِرَاءٍ، وَمِثْلُهُ قَدْ يُكْرِي، وَلَا يُكْرِي لَمْ يَضْمَنْهُ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ قَالَ أَصْبَغُ: لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ عَلَى الْكِرَاءِ يَتْرُكُ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّ الرَّاهِنَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي كِرَاءِ دَارِهِ
(5/253)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَرُبُعِهِ الَّذِي رَهَنَهُ وَذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ فَإِذَا ضَيَّعَهُ لَزِمَهُ مَا ضَيَّعَ وَتَعَدَّى بِتَرْكِهِ وَجْهُ قَوْلِ أَصْبَغَ أَنَّهُ كَالْوَكِيلِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ إلَّا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ أَكْرَى الرَّاهِنُ الدَّارَ بِأَمْرِ الْمُرْتَهِنِ خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ، وَلَكِنْ يُكْرِيهِ الْمُرْتَهِنُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: إنْ أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يَلِيَهُ الْمُكْتَرِي، وَيَدْخُلَ مَعَهُ فِيهِ حَتَّى يَصِيرَ فِي حُكْمِ مَا هُوَ فِي يَدِهِ.
وَقَدْ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ إنَّمَا قُلْتُ: إنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ لَا يُبْطِلُ الرَّهْنَ إذَا بَاعَهُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ يَبِيعُهُ لِنَقْضِ رَهْنِهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَقَالَ يَجُوزُ إنْ ارْتَهَنَ حِصَّةَ الْمُرْتَهِنِ مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الطَّعَامِ فَإِنْ أَرَادَ شَرِيكُهُ قِسْمَتَهُ فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ حَاضِرًا أُمِرَ أَنْ يَحْضُرَ فَيُقَاسِمَ شَرِيكَهُ وَالرَّهْنُ كَمَا هُوَ بِيَدِهِ، فَهَذَا وَجْهُ ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
وَيَحْتَمِلُ الْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ فَعَلَى هَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَيْعُهُ وَمُقَاسَمَتُهُ بِمَعْنَى الْإِذْنِ فِيهِ وَمُبَاشَرَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُكْتَرِيَ يَدُهُ يَدُ مَنْ أَكْرَاهُ مِنْهُ فَإِذَا بَاشَرَ الرَّاهِنُ الْكِرَاءَ فَقَبَضَهُ الْمُكْتَرِي انْتَقَصَ بِذَلِكَ الرَّهْنُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَبَضَهُ الرَّاهِنُ، وَإِذَا بَاشَرَ ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَانْتَقَلَ بِكِرَائِهِ إلَى الْمُكْتَرِي فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ يَدِهِ فَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الرَّهْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ إنْ أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ يَدُ الْمُعِيرِ، وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ فَإِنْ بَاعَهُ الرَّاهِنُ، وَهُوَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ انْتَقَلَ إلَى يَدِ الْمُشْتَرِي وَقَبَضَ الْمُرْتَهِنُ الثَّمَنَ فَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الرَّهْنِ وَكَذَلِكَ قِسْمَةُ الطَّعَامِ لَا تَنْقُلُ الرَّهْنَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى يَدِ الرَّاهِنِ، وَلَا إلَى مَنْ يَدُهُ فِي حُكْمِ يَدِ الرَّاهِنِ، وَإِنَّمَا يَبْقَى بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلِذَلِكَ جَازَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا كَانَ الْكَرْمُ رَهْنًا بِيَدِ عَدْلٍ فَأَتَى رَبُّهُ بِحَفَّارٍ يَحْفِرُهُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ سَحْنُونٌ: وَلَا يَحْضُرُ حَفْرَهُ، وَلَا يَأْتِي بِحَفَّارٍ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهِ الْمُرْتَهِنُ، وَهُوَ يَأْمُرُ بِالْحَفْرِ وَمِنْ حَيْثُ يَبْدَأُ وَكَذَلِكَ حَرْثُ الْأَرْضِ، فَهَذَا وَجْهُ مَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَعَمَلُ الْحَائِطِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَمَرَمَّةُ الدَّارِ وَنَفَقَةُ الْعَبْدِ وَكِسْوَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الرَّهْنَ يَخْرُبُ، وَيَفْسُدُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا تَهَوَّرَتْ الْبِئْرُ الْمُرْتَهَنَةُ فَعَلَى الرَّاهِنِ إصْلَاحُهَا رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَمَعْنَاهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَإِذَا غَرِمَ الْمُرْتَهِنُ خَرَاجَ الْأَرْضِ الْمُرْتَهَنَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا مَظْلَمَةٌ، وَكَذَا اخْتِزَانُ الرَّهْنِ إنْ كَانَ مِمَّا يُخْتَزَنُ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُخْتَزَنُ عَلَى الرَّاهِنِ مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ فَلَا كِرَاءَ فِيهِ رَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَأَمَّا الرَّهْنُ يَحِلُّ بَيْعُهُ بِحَيْثُ لَا سُلْطَانَ بِهِ، وَلَا يُوجَدُ مَنْ يَبِيعُهُ إلَّا بِجُعْلٍ فَقَدْ رَوَى عِيسَى، وَأَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْجُعْلَ عَلَى مَنْ طَلَبَ الْبَيْعَ قَالَ عِيسَى: وَمَا أَرَى الْجُعْلَ إلَّا عَلَى الرَّاهِنِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ عَلَى الرَّاهِنِ صَرْفَ الرَّهْنِ إلَى صِفَةٍ يَقْتَضِي مِنْهَا الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَعْلُ صَرْفِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ الْمُرْتَهَنُ فَكَفَنُهُ وَدَفْنُهُ عَلَى رَاهِنِهِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مِنْ مُؤْنَتِهِ وَذَلِكَ لَازِمٌ لِمَالِكِهِ دُونَ مُرْتَهِنِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا أَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّهْنِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ فَهُوَ سَلَفٌ، وَلَا يَكُونُ فِي الرَّهْنِ إلَّا بِشَرْطٍ سَوَاءٌ أَنْفَقَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَيْسَ كَالضَّالَّةِ يُنْفِقُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ عِنْدَ مَالِكٍ أَوْلَى بِهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ نَفَقَتَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ الرَّاهِنَ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ فِي غَيْبَتِهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ أَشْهَبُ هُوَ مِثْلُ الضَّالَّةِ وَالرَّهْنُ بِهَا رَهْنٌ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ مَنْعُهُ
(5/254)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَهْلَكُ إنْ كَانَ حَيَوَانًا، وَيَخْرُبُ إنْ كَانَ رَبْعًا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ يَلْزَمُ الرَّاهِنَ الْإِنْفَاقُ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَفِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ ارْتَهَنَ زَرْعًا أَوْ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا فَانْهَارَتْ بِئْرُهَا، وَأَبَى الرَّاهِنُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا فَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَيَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ يَكُونُ مَا أَنْفَقَ فِي رِقَابِ النَّخْلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ، وَيَبْدَأَ بِمَا أَنْفَقَ قَبْلَ الدَّيْنِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُخْتَصَرِ مِنْ غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الرَّاهِنَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِصْلَاحِ إنْ كَانَ مَلِيًّا وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْعَيْنَ الَّتِي ارْتَهَنَهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ فَلَيْسَ عَلَى الرَّاهِنِ بَدَلُهَا كَمَا لَوْ مَاتَ الْحَيَوَانُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِبَدَلِهِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ نَفَقَةٌ يَحْيَا بِهَا الرَّهْنُ فَلَزِمَتْ الرَّاهِنَ كَنَفَقَةِ الرَّقِيقِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا حَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ، وَلَمْ يَقْضِ الرَّاهِنُ الدَّيْنَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَرَا الرَّهْنَ عَنْ شَرْطٍ أَوْ يَكُونَ جَعَلَ الرَّاهِنُ بَيْعَهُ لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَرْطٌ فَلَيْسَ لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ بَيْعُهُ، وَيُرْفَعُ ذَلِكَ إلَى السُّلْطَانِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ: فَإِنْ بَاعَهُ رَدَّ بَيْعَهُ قَالَ، وَلَا يَبِيعُهُ إلَّا رَبُّهُ أَوْ السُّلْطَانُ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فَلَا يَلِي أَحَدٌ بَيْعَ مَالِهِ إلَّا أَنْ يَأْبَى مِنْ الْحَقِّ فَيَبِيعُهُ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ شُرِطَ لَهُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْأَجَلِ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّاهِنُ قَدْ شَرَطَ إنْ لَمْ يَأْتِ بِالدَّيْنِ إلَى الْأَجَلِ وَاَلَّذِي هُوَ بِيَدِهِ مُسَلَّطٌ عَلَى بَيْعِهِ فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ لَا يَبِيعُهُ إلَّا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ زَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا كَانَ عَلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ يَدِ غَيْرِهِ، وَشَرَطَ ذَلِكَ فَلَا يَفْعَلُ وَشَدَّدَ فِيهِ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ نَافِعٍ مَا أَرَى بَيْعَهُ جَائِزًا إلَّا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَإِنْ شُرِطَ ذَلِكَ.
وَقَالَ عِيسَى: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِثْلَهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ عَلَى بَيْعِهِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَيَصِحُّ كَالْوَكَالَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَبَلَغَنِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ فَإِنْ بَاعَهُ نَفَذَ الْبَيْعُ، وَلَمْ يُرَدَّ فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ كَانَ لَهُ بَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا أَصَابَ وَجْهَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ بِيعَ بِإِذْنِ رَبِّهِ.
وَرَوَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَصْبَغَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ: يَمْضِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ بَالٌ كَالدُّورِ وَالْأَرْضِينَ وَالرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ وَمَا لَهُ بَالٌ فِي الْقَدْرِ أَيْضًا فَلْيُرَدَّ إنْ لَمْ يَفُتْ فَإِنْ فَاتَ أَمْضَى إلَّا أَنْ يُعْلَمَ لَهُ صِفَةٌ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِمَّا بِيعَ بِهِ فَيُضْمَنُ الْفَضْلُ قَالَ: وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ: أَمَّا الْقَصَبُ وَالْقِثَّاءُ، وَمَا يُبَاعُ مِنْ الثَّمَرِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَلْيُبَعْ بِمَحْضَرِ قَوْمٍ كَمَا شُرِطَ وَأَمَّا الرَّقِيقُ وَالدُّورُ وَالثِّمَارُ فَلَا بُدَّ مِنْ السُّلْطَانِ وَقَالَ أَشْهَبُ: وَهَذَا بِمَوْضِعِ السُّلْطَانِ، وَأَمَّا بَلَدٌ لَا سُلْطَانَ بِهِ فِيهِ أَوْ سُلْطَانٌ يَعْسُرُ تَنَاوُلُهُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ إذَا صَحَّ وَأُمِنَ الْغَرَرُ وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَحَكَى عَنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا كَانَ اشْتِرَاءَ الْقَصَبِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَبْقَى مِثْلُهُ أَوْ يَنْقُصُ بِبَقَائِهِ فَلِلْمُرْتَهِنِ الْمُوَكَّلِ عَلَى الْبَيْعِ يَبِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا أَوْ رَبْعًا تَكْثُرُ قِيمَتُهُ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ فَقَدْ كُرِهَ لَهُ بَيْعُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ إذَا غَابَ رَبُّهُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الرَّبْعِ وَغَيْرِهِ وَجْهُ الْقَوْلِ بِمَنْعِ الْبَيْعِ أَنَّهُ بَائِعٌ بِسَبَبِ نَفْسِهِ فَتَقْوَى فِيهِ التُّهْمَةُ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ تَوْكِيلُهُ عَلَى بَيْعِ غَيْرِ الرَّهْنِ صَحَّ تَوْكِيلُهُ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ كَالْأَجْنَبِيِّ.
1 -
(فَرْعٌ) وَإِذَا أَرَادَ الرَّاهِنُ فَسْخَ وَكَالَةِ الْوَكِيلِ فَقَدْ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ وَالْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ الْمَذْهَبِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ: لَهُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذِهِ وَكَالَةٌ إذَا شُرِطَتْ فِي الْعَقْدِ صَارَتْ مِنْ مُوجِبَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ فَسْخُهَا كَإِمْسَاكِ الرَّهْنِ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ عَقْدُ وَكَالَةٍ فَلَمْ يَلْزَمْ بِالْعَقْدِ كَسَائِرِ الْوَكَالَاتِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَبَيْعُ الرَّهْنِ مُخْتَلِفٌ قَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ: إذَا أَمَرَ الْإِمَامُ بِبَيْعِ الرَّهْنِ فَأَمَّا الْيَسِيرُ الثَّمَنِ فَيُبَاعُ فِي مَجْلِسٍ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ فَفِي الْأَيَّامِ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ فَفِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْجَارِيَةُ الْفَارِهَةُ وَالدَّارُ وَالْمَنْزِلُ وَالثَّوْبُ الرَّفِيعُ فَبِقَدْرِ ذَلِكَ حَتَّى
(5/255)
(الْقَضَاءُ فِي الرَّهْنِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ) (ص) : (قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ فِي الرَّجُلَيْنِ يَكُونُ لَهُمَا رَهْنٌ بَيْنَهُمَا فَيَقُومُ أَحَدُهُمَا بِبَيْعِ رَهْنِهِ وَقَدْ كَانَ الْآخَرُ أَنْظَرَهُ بِحَقِّهِ سَنَةً قَالَ: إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَقْسِمَ الرَّهْنَ فَلَا يَنْقُصُ حَقُّ الَّذِي أَنْظَرَهُ بِحَقِّهِ بِيعَ لَهُ نِصْفُ الرَّهْنِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا فَأَوْفَى حَقَّهُ، وَإِنْ خِيفَ أَنْ يَنْقُصَ حَقُّهُ بِيعَ الرَّهْنُ كُلُّهُ فَأَعْطَى الَّذِي قَامَ بِبَيْعِ رَهْنِهِ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الَّذِي أَنْظَرَهُ بِحَقِّهِ لَمْ يَدْفَعْ نِصْفَ الثَّمَنِ إلَى الرَّاهِنِ، وَإِلَّا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ أَنَّهُ مَا أَنْظَرَهُ إلَّا لِيُوقِفَ لِي رَهْنِي عَلَى هَيْئَتِهِ ثُمَّ أُعْطِيَ حَقَّهُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يُشْتَهَرَ، وَيُسَعَّرَ بِهِ وَرُبَّمَا نُودَى عَلَى السِّلْعَةِ الشَّهْرَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَكُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا أَمَرَ الْإِمَامُ بِبَيْعِ الرَّهْنِ بِغَيْرِ الْعَيْنِ مِنْ عَرَضٍ أَوْ طَعَامٍ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: إنْ بَاعَهُ بِمِثْلِ مَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ تِلْكَ الْفَضْلَةِ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِيمَا بَقِيَ إنْ شَاءَ تَمَسَّكَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّرِكَةِ، وَإِنْ بَاعَهُ بِغَيْرِ مَا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ.
[الْقَضَاءُ فِي الرَّهْنِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ]
(ش) : وَهَذَا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ: إنَّ الرَّجُلَيْنِ يَصِحُّ أَنْ يَرْتَهِنَا رَهْنًا مِنْ رَجُلٍ فَإِنْ رَضِيَ الرَّاهِنُ أَنْ يَكُونَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَيَضْمَنُ حِصَّتَهُ مِنْهُ، وَهُوَ فِي بَاقِيهِ أَمِينٌ يَضْمَنُهُ الرَّاهِنُ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ زَادَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ: فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا بِكَوْنِهِ بِيَدِ أَحَدِهِمَا جُعِلَ بِيَدِ أَمِينٍ، وَلَا يَضْمَنَانِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: وَإِنْ قَبَضَاهُ مِنْ الرَّاهِنِ، وَلَمْ يَجْعَلَاهُ بِيَدِ أَحَدِهِمَا ضَمِنَاهُ، وَإِنْ جَعَلَاهُ بِيَدِ أَمِينٍ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا أَسْلَمَهُ إلَيْهِمَا فَإِنْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِقَبْضِهِ أَوْ اتَّفَقَا عَلَى وَضْعِهِ عِنْدَ مَنْ شَاءَا فَقَدْ تَعَدَّيَا فِيهِ وَجَعَلَاهُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمَا فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فِي الرَّجُلَيْنِ إذَا ارْتَهَنَا رَهْنًا بِحَقٍّ لَهُمَا ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْتَهِنَاهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَالثَّانِي أَنْ يَرْتَهِنَ أَحَدُهُمَا فَضْلَ الْآخَرِ وَمَسْأَلَةُ الْكِتَابِ تَقْتَضِي أَنَّهُمَا ارْتَهَنَاهُ مَعًا وَلَوْ ارْتَهَنَا رَهْنًا بِدَيْنٍ لَهُمَا عَلَى رَجُلٍ فَأَنْظَرَهُ أَحَدُهُمَا بِحَقِّهِ سَنَةً وَقَامَ الْآخَرُ يَطْلُبُ تَعْجِيلَ حَقِّهِ فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ لَا تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بِالْقِسْمَةِ قَالَ فِي الْأَصْلِ: إنْ لَمْ تُنْقِصْ قِسْمَتُهُ حَقَّ الَّذِي أَنْظَرَهُ بِحَقِّهِ بِيعَ، وَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى، وَأَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إنْ قَدَرَ عَلَى قَسْمِ الرَّهْنِ بِمَا لَا يَنْقُصُ بِهِ حَقُّ الْقَائِمِ بِحَقِّهِ قُسِمَ فَبِيعَ لِهَذَا نِصْفُهُ فِي حَقِّهِ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَعِنْدِي إنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ إدْخَالُ الْقِسْمَةِ النَّقْصَ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَإِذَا دَخَلَ النَّقْصُ فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْآخَرِ فَتَارَةً أَظْهَرَ مُرَاعَاةَ حَقِّ الْقَائِمِ وَتَارَةً أَظْهَرَ مُرَاعَاةَ حَقِّ الْآخَرِ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّهْنَ بَيْنَهُمَا بِنِصْفَيْنِ وَقَدْ زَادَ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْعُتْبِيَّةِ أَنَّ دَيْنَهُمَا سَوَاءٌ فَإِذَا بِيعَ نِصْفُ الرَّهْنِ فَكَانَ ثَمَنُهُ قَدْرَ الدَّيْنِ قَبَضَهُ الْقَائِمُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قَصَّرَ عَنْ الدَّيْنِ طَلَبَهُ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَاعَ شَيْءٌ مِنْ بَقِيَّةِ الرَّهْنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ صَاحِبِهِ بِهِ، وَبَقِيَ إلَى الْأَجَلِ الَّذِي أَنْظَرَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ دَيْنِ الَّذِي أَنْظَرَهُ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ دَيْنِهِ فَقَدْ رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ رَهَنَ عَبْدًا أَوْ دَارًا فِي دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَقَامَ عَلَيْهِ غَرِيمٌ آخَرُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يُرِيدُ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنْ كَانَ فِي الرَّهْنِ فَضْلٌ عَمَّا رُهِنَ بِهِ بِيعَ فَقَضَى الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ مُعَجَّلًا وَقَضَى الْغَرِيمُ الْآخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ لَمْ يُبَعْ حَتَّى يَحِلَّ أَجَلُ الْمُرْتَهِنِ فَعَلَى هَذَا لَا تُبَاعُ حِصَّةُ الَّذِي تَأَجَّلَ دَيْنُهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِ الَّذِي تَعَجَّلَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ دَيْنِ صَاحِبِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي حِصَّةِ الَّذِي تَعَجَّلَ فَقْدٌ عَنْ دَيْنِهِ فَإِنَّمَا يُبَاعُ مِنْهُ عِنْدِي بِقَدْرِ الدَّيْنِ الْمُعَجَّلِ، وَلَا يَكُونُ مَا فَضَلَ عَنْ الدَّيْنِ رَهْنًا، وَيُدْفَعُ
(5/256)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
إلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَهَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ ذَلِكَ الرَّهْنِ فَلَا دُخُولَ لِلْآخَرِ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَإِنْ خِيفَ أَنْ يَنْقُصَ حَقُّهُ بِيعَ الرَّهْنُ كُلُّهُ فَأُعْطِيَ الَّذِي قَامَ بِبَيْعِ رَهْنِهِ مِنْ ذَلِكَ أَضَافَ الرَّهْنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ لِمَا كَانَ لَهُ ثَمَنُهُ، وَكَانَ بِيَدِهِ وَقَالَ: إنَّ الرَّهْنَ كُلَّهُ يُبَاعُ، وَيُعْطَى مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَ مَا يُعْطَى، وَلَا يُبَيِّنُ أَيَّ قَدْرٍ يُعْطَى، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنَّ الْقَائِمَ يَأْخُذُ مِنْ نِصْفِهِ حَقَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى النِّصْفِ الَّذِي هُوَ حِصَّةُ الَّذِي أَنْظَرَهُ مِنْ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ دَيْنَهُ مِنْ النِّصْفِ الَّذِي ارْتَهَنَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُ الَّذِي أَنْظَرَهُ بِحَقِّهِ دَفَعَ نِصْفَ الثَّمَنِ إلَى الرَّاهِنِ، وَإِلَّا حَلَفَ مَا أَنْظَرْته إلَّا لِيُوقِفَ لِي رَهْنِي يُرِيدُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الرَّاهِنِ ثَمَنَ نِصْفِ الرَّهْنِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ ارْتَهَنَهُ الْمُؤَجَّلُ بِالدَّيْنِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رَهْنٌ قَدْ طَابَتْ نَفْسُهُ بِرَدِّهِ إلَى الرَّاهِنِ، وَيُنْظِرُهُ مَعَ ذَلِكَ بِدَيْنِهِ، وَإِنْ أَبَى مِنْ ذَلِكَ حَلَفَ يُرِيدُ أَنَّهُ مَا أَخَّرَهُ إلَّا لِيَبْقَى الرَّهْنُ وَثِيقَةً بِحَقِّهِ ثُمَّ يَقْتَضِي مِنْ ثَمَنِ حِصَّتِهِ مِنْ الرَّهْنِ دَيْنَهُ، وَهَذَا إذَا بِيعَ الرَّهْنُ بِمِثْلِ مَا لَهُ مِنْ الدَّيْنِ، وَكَانَ الدَّيْنُ عَيْنًا فَإِنْ بِيعَ بِعَيْنٍ مُخَالِفٍ لِلْعَيْنِ الَّذِي لَهُ فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ فِي الرَّهْنِ يَسْتَحِقُّ نِصْفَهُ، وَلَا يَنْقَسِمُ، وَلَا يَرْضَى الْمُسْتَحِقُّ بِبَقَائِهِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ: إنَّهُ يُبَاعُ، وَيُعَجَّلُ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّهُ إنْ بِيعَ بِمِثْلِ دَيْنِهِ فَإِنْ بِيعَ بِدَنَانِيرَ وَدَيْنُهُ دَرَاهِمُ أَوْ بِيعَ بِدَرَاهِمَ وَدَيْنُهُ دَنَانِيرُ وَقَفَ لِلْمُرْتَهِنِ ذَلِكَ رَهْنًا إلَى الْأَجَلِ فَيُبَاعُ حِينَئِذٍ فِي حَقِّهِ لِمَا يُرْجَى مِنْ غَلَاءِ ذَلِكَ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ الَّتِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَهَا، وَيَرْجُو مِنْ الرِّبْحِ فِي نَقْلِهَا إلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِ دَيْنِهِ مَا لَا يَرْجُوهُ الْآنَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبَاعَ فَيُعَجِّلَ مِنْ ثَمَنِهِ دَيْنَهُ كَمَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الرَّهْنِ.
(فَصْلٌ) :
وَإِنْ بِيعَ بِقَمْحٍ وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ قَمْحٌ مِثْلُهُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُبَاعَ بِدَنَانِيرَ وَدِينُهُ دَنَانِيرُ أَوْ يُبَاعَ بِدَرَاهِمَ وَدَيْنُهُ دَرَاهِمُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْعُتْبِيَّةِ: إنَّهُ إنْ بِيعَ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الْإِدَامِ أَوْ الشَّرَابِ، وَهُوَ مِثْلُ الَّذِي لَهُ صِفَةً وَجِنْسًا وَجَوْدَةً فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنَّ لَهُ تَعْجِيلَهُ، وَإِنْ أَبَى صَاحِبُهُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْطِيهِ مِثْلَهُ إذَا لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمُ كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَا فِي حُكْمِهِمَا وَكَذَلِكَ قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ: إنْ بِيعَ بِمِثْلِ حَقِّهِ فَلْيُعَجِّلْ لَهُ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ طَعَامًا بِيعَ فَيَأْبَى أَنْ يَتَعَجَّلَهُ فَذَلِكَ لَهُ فَاعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رِضَا الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ مَنْ اشْتَرَى طَعَامًا مُؤَجَّلًا لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ بِخِلَافِ الْعَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ بِيعَ بِطَعَامٍ مُخَالِفٍ لِمَالِهِ فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: يُوضَعُ رَهْنًا بِيَدِهِ إلَى حُلُولِ حَقِّهِ وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْعُتْبِيَّةِ: وَكَذَلِكَ إنْ بَيْع بِعَرَضٍ بِمِثْلِ حَقِّهِ أَوْ مُخَالِفٍ لَهُ وُضِعَ لَهُ رَهْنًا، وَلَيْسَ لَهُ تَعْجِيلُهُ بِغَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ لَا تَكَادُ تَصِحُّ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ فَقَدْ يَجِدُ عِنْدَ الْأَجَلِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمُمَاثَلَةِ، وَأَيْسَرُ عَلَيْهِ فِيمَا يُجْزِئُ عَنْهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُعْطَى حَقَّهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَقَدْ رَوَى فِي الْعُتْبِيَّةِ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ يَحْلِفُ، وَيُعْطَى حَقَّهُ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ الرَّاهِنُ بِرَهْنٍ فِيهِ وَفَاءُ حَقِّ الَّذِي أَنْظَرَهُ، فَيَكُونُ لَهُ أَخْذُ الثَّمَنِ فَبَيَّنَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْأَصْلِ إنَّمَا هِيَ فِي الْمُعْسِرِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ كَانَ أَصْلُ دَيْنِهِمَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ قَرْضٍ وَالْآخَرُ مِنْ بَيْعٍ جَازَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُقْرِضْهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الْآخَرُ فَلَا يَجُوزُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِشَرْطٍ جَازَ ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ أَقْرَضَاهُ وَارْتَهَنَا مِنْهُ دَارًا أَوْ ثَوْبًا وَقَضَى أَحَدُهُمَا خَرَجَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الرَّهْنِ فَإِنْ كَانَ دَيْنُهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَكَتَبَاهُ فِي ذِكْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ، وَلِلْآخَرِ شَعِيرٌ جَازَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَقْضِيَ دُونَ الْآخَرِ، وَلَوْ كَتَبَاهُ بِغَيْرِ ذِكْرٍ وَاحِدٍ، أَوْ يَكُونُ الرَّهْنُ لَهُمَا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ
(5/257)
(ص) : (قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ فِي الْعَبْدِ يَرْهَنُهُ سَيِّدُهُ، وَلِلْعَبْدِ مَالٌ: أَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِرَهْنٍ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُرْتَهِنُ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
دَنَانِيرَ كُلَّهَا أَوْ قَمْحًا كُلَّهُ أَوْ شَيْئًا وَاحِدًا أَوْ نَوْعًا وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبَا بِهِ كِتَابًا فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَقْتَضِيَ دُونَ الْآخَرِ وَذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْحَقِّ إذَا جَمَعَهُمَا أَوْ الرَّهْنَ فَقَدْ جَعَلَهُمَا مَعَ اتِّفَاقِ جِنْسِ الدَّيْنِ كَالشَّرِيكَيْنِ فَلَا يَقْبِضُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ دَيْنُهُمَا مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ انْتَفَتْ الشَّرِكَةُ وَتَبَايَنَتْ الْحُقُوقُ فَلَمْ يُمْنَعُ أَحَدُهُمَا مِنْ قَبْضِ حَقِّهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَضْمَنَا مَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِذِكْرِ حَقٍّ، وَلَا رَهْنٍ وَكَتَبَا حَقَّهُمَا مُفَرَّقًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ إفْرَادَ ذِكْرِ الْحَقِّ يُمَيِّزُ الْحَقَّ كَمَا يُمَيِّزُهُ إفْرَادُ نَفْسِ الْحَقِّ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا إذَا ارْتَهَنَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ فَهُوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْتَهِنَ أَحَدُهُمَا جُزْءًا مِنْ الرَّهْنِ ثُمَّ يَرْهَنُ رَجُلًا آخَرُ بَاقِيَهُ فَإِنْ كَانَ أَجَلُ الدَّيْنَيْنِ وَاحِدًا فَحُكْمُهُ مَا رَهَنَا جَمِيعَهُ مَعًا، وَإِنْ كَانَ أَجَلُهُمَا مُخْتَلِفًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فِي الرَّجُلَيْنِ يُنْظِرُ أَحَدُهُمَا، وَيَتَعَجَّلُ الثَّانِي.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا رَهَنَ رَجُلٌ رَهْنًا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَدَانَ مِنْ آخَرَ وَرَهَنَهُ فَضْلَةَ ذَلِكَ الرَّهْنِ الْأَوَّلِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ مَالِكٍ ذَلِكَ جَائِزٌ إنْ رَضِيَ الْمُرْتَهِنُ الْأَوَّلُ فَإِنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ، وَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ قَالَ لِي أَشْهَبُ: لَهُ ذَلِكَ رَضِيَ الْأَوَّلُ أَوْ سَخِطَ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إذْ هُوَ الْمَبْدَأُ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إنَّمَا أَرَادَ مَالِكٌ رِضَا الْأَوَّلِ إنْ لَمْ يَتِمَّ الْحَوْزُ لِلثَّانِي، وَإِذَا لَمْ يَرْضَ لَمْ يَتِمَّ، وَلَا تَكُونُ الْفَضْلَةُ لَهُ رَهْنًا بَلْ هُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فِيهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ رَهَنَ رَهْنًا وَجَعَلَهُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ ثُمَّ رَهَنَ فَضْلَهُ الْآخَرُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَحُوزَهُ غَيْرُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا حَازَهُ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ رَهْنًا لِلثَّانِي قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إلَّا أَنْ يَرْضَى الْأَوَّلُ فَيَحُوزُ، وَيَبْدَأُ الْأَوَّلُ، وَيَكُونُ لِلثَّانِي مَا فَضَلَ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: إذَا جَعَلَ الرَّهْنَ بِيَدِ غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ جَازَ أَنْ يَرْهَنَ فَضْلَهُ الْآخَرُ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ الْأَوَّلُ إذَا عَلِمَ مَنْ هُوَ عَلَى يَدِهِ لِتَتِمَّ الْحِيَازَةُ لَهُمَا وَقِيلَ عَنْ مَالِكٍ: حَتَّى يَرْضَى الْأَوَّلُ وَالْقِيَاسُ مَا قُلْتُ لَك.
وَقَدْ رَوَى الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ رِوَايَةً أُخْرَى فِي رَهْنِ فَضْلَةِ الرَّهْنِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَذِنَ فِيهِ الْمُرْتَهِنُ الْأَوَّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا حَلَّ أَجَلُ دَيْنِ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ لِأَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْأَوَّلُ أَنَّ دَيْنَ الثَّانِي يَحِلُّ قَبْلَ دَيْنِهِ بِيعَ الرَّهْنُ، وَيُعْطَى الْأَوَّلُ حَقَّهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ، وَيُعْطَى الثَّانِي مَا فَضَلَ عَنْ دَيْنِهِ ثُمَّ إنْ بِيعَ بِمِثْلِ حَقِّهِ أَوْ بِخِلَافِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَشْهَبَ وَسَحْنُونٍ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ.
وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ فِي الْعُتْبِيَّةِ: إنَّمَا تَفْسِيرُ قَوْلِ أَشْهَبَ فِي الرَّهْنِ يَسْتَحِقُّ نِصْفَهُ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرَّهْنِ يَرْهَنُ فَضْلَتَهُ فَيَحِلُّ حَقُّ الثَّانِي فَيُبَاعُ لَهُ فَإِنَّهُ إذَا وَقَفَ الْأَوَّلُ مِقْدَارَ حَقِّهِ فَقَدْ يَتَغَيَّرُ مَا يُوقَفُ لَهُ حَتَّى يُنْقِصَ عِنْدَ الْأَجَلِ مِنْ حَقِّهِ قَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ: وَكَأَنَّهُ يَرَى فِيمَا رَأَيْتُ أَنَّهُ إنْ كَانَ إنَّمَا يُبَاعُ بِخِلَافِ حَقِّ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يُبَاعَ إلَى أَجَلِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بِيعَ بِخِلَافِهِ وَقَفَ الرَّهْنُ كُلُّهُ، وَلَمْ يَقْضِ الثَّانِي شَيْئًا فَلَا فَائِدَةَ فِي بَيْعِهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ لَهُ إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ الْأَوَّلِ، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا إذَا بِيعَ بِمِثْلِ مَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ إنَّ مَنْ ارْتَهَنَ عَبْدًا لَهُ مَالٌ فَإِنَّ مَالَ الْعَبْدِ لَا يَبِيعُهُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِلرَّاهِنِ، وَالرَّاهِنُ إنَّمَا يَرْهَنُهُ مَا يَمْلِكُهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُرْتَهِنُ يُرِيدُ فَيَكُونُ رَهْنًا مَعَ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ رَهْنًا مَعَ الْعَبْدِ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ يَوْمَ اشْتِرَاطِهِ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ أَوْ نَمَاءُ ذَلِكَ الْمَالِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ نَمَاءَ كُلِّ مَالٍ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ فِي سَائِرِ أَحْكَامِهِ، وَلِذَلِكَ تَبِعَهُ فِي الزَّكَاةِ، وَأَمَّا مَا أَفَادَ بَعْدَ الِارْتِهَانِ فَلَا يَكُونُ رَهْنًا مَعَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
(5/258)
الْقَضَاءُ فِي جَامِعِ الرُّهُونِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ فِيمَنْ ارْتَهَنَ مَتَاعًا فَيَهْلِكُ الْمَتَاعُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، وَأَقَرَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ بِتَسْمِيَةِ الْحَقِّ وَاجْتَمَعَا عَلَى التَّسْمِيَةِ وَتَدَاعَيَا فِي الرَّهْنِ فَقَالَ الرَّاهِنُ: قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا.
وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَالْحَقُّ الَّذِي لِلرَّجُلِ فِيهِ عِشْرُونَ دِينَارًا قَالَ مَالِكٌ: يُقَالُ لِلَّذِي بِيَدِهِ الرَّهْنُ صِفْهُ فَإِذَا وَصَفَهُ أُحْلِفَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ تِلْكَ الصِّفَةَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِمَّا رَهَنَ بِهِ قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ اُرْدُدْ إلَى الرَّاهِنِ بَقِيَّةَ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِمَّا رَهَنَ بِهِ أَخَذَ الْمُرْتَهِنُ بَقِيَّةَ حَقِّهِ مِنْ الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ فَالرَّهْنُ بِمَا فِيهِ) .
(ص) : (قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي الرَّهْنِ يَرْهَنُهُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيَقُولُ الرَّاهِنُ أَرْهَنْتُكَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَيَقُولُ الْمُرْتَهِنُ ارْتَهَنْتُهُ مِنْك بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَالرَّهْنُ ظَاهِرٌ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ قَالَ يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ حِينَ يُحِيطُ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ عَمَّا حَلَفَ أَنَّ لَهُ فِيهِ، أَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ، وَكَانَ أَوْلَى بِالتَّبْدِئَةِ بِالْيَمِينِ لِقَبْضِهِ الرَّهْنَ وَحِيَازَتِهِ إيَّاهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّ الرَّهْنِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَقَّهُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَ رَهْنَهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ ثَمَنُ الرَّهْنِ أَقَلَّ مِنْ الْعِشْرِينَ الَّتِي سَمَّى أُحْلِفَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْعِشْرِينَ الَّتِي سَمَّى ثُمَّ يُقَالُ لِلرَّاهِنِ إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ وَتَأْخُذَ رَهْنَك، وَإِمَّا أَنْ تَحْلِفَ عَلَى الَّذِي قُلْتَ أَنَّك رَهَنْتُهُ بِهِ وَيَبْطُلُ عَنْك مَا زَادَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ بَطَلَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَزِمَهُ غُرْمُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
[الْقَضَاءُ فِي جَامِعِ الرُّهُونِ]
(ش) : أَكْثَرُ مَا فِي هَذَا الْفَصْلِ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرَّهْنَ إذَا ضَاعَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، وَكَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِضَيَاعِهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِضَمَانِهِ لَهُ، وَإِنْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا رَوَاهُ أَشْهَبُ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ، وَادَّعَى الرَّاهِنُ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الْمُرْتَهِنُ قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ صِفْهُ قَالَ فَإِذَا وَصَفَهُ حَلَفَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ يُرِيدُ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ خَالَفَهُ فِيهَا، وَادَّعَى أَفْضَلَ مِنْهَا، وَلَوْ جَهِلَ الرَّاهِنُ الصِّفَةَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ: إذَا وَصَفَهُ الْمُرْتَهِنُ حَلَفَ، وَإِنْ نَكَلَ بَطَلَ حَقُّهُ، وَكَانَ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الرَّاهِنُ مَعْرِفَةَ الصِّفَةِ وَنَكَلَ الْمُرْتَهِنُ حَلَفَ الرَّاهِنُ وَقُوِّمَتْ الصِّفَةُ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا قَوَّمَهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ فَرُبَّمَا قَوَّمُوهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ الْأَكْثَرِ مِنْ قَدْرِ الدَّيْنِ أَوْ يَكُونَ زَعَمَ أَوَّلًا أَنَّ قِيمَتَهَا أَقَلُّ مِنْ قَدْرِ الدَّيْنِ أَوْ بِمِثْلِ قَدْرِ الدَّيْنِ لَكِنَّهُ وَصَفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِصِفَةٍ قُوِّمَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ فَهَذَا يَقْطَعُ دَيْنَهُ مِمَّا لَزِمَهُ مِنْ الْقِيمَةِ، وَقِيلَ لَهُ رُدَّ الْفَضْلَ عَلَى الرَّاهِنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ عَلَى الرَّاهِنِ أَنْ يُوَفِّيَ بَقِيَّةَ الدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَقَدْ قَالَ: إنَّ الرَّهْنَ بِمَا فِيهِ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي قَالَ فِيهَا مَنْ تَقَدَّمَ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ أَوْ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ أَوَّلًا بِقِيمَةِ الرَّهْنِ فَلَمَّا خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ الرَّاهِنُ وَصَفَهُ بِصِفَةٍ قُوِّمَتْ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا أَوَّلًا فَإِنَّ عِنْدِي أَنَّهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ الْأُولَى الَّتِي أَقَرَّ بِهَا، وَيُحْمَلُ مَا وَصَفْنَا بِهِ الرَّهْنَ مِمَّا قَصُرَ عَنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ جَحْدُ الْبَعْضِ الْقِيمَةَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأُحْكَمُ.
(5/259)
الْمُرْتَهِنُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
(ش) : وَهَذَا عَلَى مَا قَالَ إنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الدَّيْنِ فَقَالَ الرَّاهِنُ: عَشَرَةً، وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: عِشْرُونَ وَالرَّهْنُ قَائِمٌ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ يَحْلِفُ حَتَّى يُحِيطُ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ قَالَ: وَكَانَ مُبْدَأٌ بِالْيَمِينِ؛ لِقَبْضِهِ الرَّهْنَ وَحِيَازَتِهِ لَهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَسَوَاءٌ عِنْدِي كَانَ بِيَدِهِ أَوْ وُضِعَ لَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَدْلِ حَائِزَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يَبْدَأُ الْمُرْتَهِنُ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ شَاهِدٌ لَهُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ عِشْرِينَ دِينَارًا فَهُوَ لِلْمُرْتَهِنِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الرَّاهِنُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَيَأْخُذَ رَهْنَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْأَصْلِ.
(فَصْلٌ) :
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقَلَّ مِنْ الْعِشْرِينَ الَّتِي سَمَّاهَا أُحْلِفَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْعِشْرِينَ الَّتِي سَمَّى يُرِيدُ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْعِشْرِينَ الَّتِي ادَّعَى قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَلَوْ قَالَ الْمُرْتَهِنُ لَا أَحْلِفُ إلَّا عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ وَحَكَى عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ الْقَرَوِيِّينَ أَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ كَمَا لَوْ ادَّعَى عِشْرِينَ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي شَهِدَ لَهُ بِهَا شَاهِدُهُ دُونَ الْعِشْرِينَ الَّتِي ادَّعَاهَا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا إلَّا مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ: إنَّ الْمُرْتَهِنَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الْعِشْرِينَ أَوْ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالشَّاهِدِ أَنَّ الرَّهْنَ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَالشَّاهِدُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ أَقَرَّ بِالْعِشْرِينِ فَإِنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ رَهْنًا بِجَمِيعِهَا، وَلَا يَخْتَصُّ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا مِنْهَا وَلَوْ أَقَرَّ بِتَصْدِيقِ الشَّاهِدِ لَمْ يَكُنْ لِشَهَادَتِهِ تَعَلُّقٌ بِغَيْرِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي شَهِدَ بِهَا فَجَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَيَحْلِفُ مَعَ الرَّهْنِ عَلَى الْعِشْرِينَ الَّتِي ادَّعَى.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا بِالتَّخْيِيرِ فَحَلَفَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْعِشْرِينَ قِيلَ لِلرَّاهِنِ إمَّا أَنْ تَحْلِفَ وَتُسْقِطُ عَنْ نَفْسِك الْخَمْسَةَ الزَّائِدَةَ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَإِمَّا أَنْ تَنْكُلَ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ أَوَّلًا عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يَحْلِفُ الرَّاهِنُ؛ لِيُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ بَقِيَّةَ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ، وَهِيَ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِنْ نَكَلَ الرَّاهِنُ لَمْ يُقْضَ لِلْمُرْتَهِنِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نُكُولِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ وَجَبَتْ فِي الْخَمْسَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ أَوَّلًا عَلَى الرَّاهِنِ، وَكَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُضِيفَ الْيَمِينَ فِيهِمَا إلَى يَمِينِهِ الَّتِي لَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهَا فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ الَّتِي شَهِدَ لَهُ بِهَا الرَّهْنُ فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَحَلَفَ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ فَلَا مَعْنَى لِيَمِينِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ قَدْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَهَا بِيَمِينِهِ وَشَهَادَةِ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَلَوْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْيَمِينِ جُمْلَةً حَلَفَ الرَّاهِنُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ حَقِّهِ عَشَرَةٌ فَيَكُونُ يَمِينُهُ فِي الْخَمْسَةِ الَّتِي شَهِدَ بِهَا الرَّهْنُ مَرْدُودَةً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ لِلْمُرْتَهِنِ ابْتِدَاءً بِشَهَادَةِ قِيمَةِ الرَّهْنِ فَلَمَّا نَكَلَ عَنْهَا رُدَّتْ عَلَى الرَّاهِنِ وَتَكُونُ يَمِينُهُ فِي الْخَمْسَةِ الْأُخْرَى يَمِينًا غَيْرَ مَرْدُودَةٍ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ حَلَفَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْعَشَرَةُ بِالْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورِينَ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَتْهُ الْخَمْسَةُ الَّتِي رُدَّتْ عَلَيْهِ فِيهَا الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ كُلِّ مَنْ نَكَلَ عَنْ يَمِينٍ رُدَّتْ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْخَمْسَةُ الْأُخْرَى فَإِنْ قُلْنَا إنَّ امْتِنَاعَ الْمُرْتَهِنِ أَوَّلًا مِنْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا نُكُولٌ مُؤَثِّرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَ نُكُولِ الْمُدَّعِي وَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ نُكُولِهِ فَقَدْ سَقَطَتْ عَنْ الرَّاهِنِ؛ لِوُجُودِ نُكُولِ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الْيَمِينِ الَّتِي حُكْمُهَا أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ النُّكُولِ إلَّا بَعْدَ نُكُولِ الرَّاهِنِ لِمَا يَلْزَمُ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّرْتِيبِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ فَيَسْتَحِقَّهَا أَوْ يَنْكُلَ فَتَبْطُلَ دَعْوَاهُ بِهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا فَقَدْ رَوَى يَحْيَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إنْ قَالَ الرَّاهِنُ أَنَا أَدْفَعُ إلَيْك خَمْسَةَ عَشَرَ وَآخُذُ رَهْنِي فَلَيْسَ ذَلِكَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدْفَعَ عِشْرِينَ
(5/260)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
دِينَارًا قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: إذَا دَفَعَ الرَّاهِنُ إلَى الْمُرْتَهِنِ قِيمَةَ الرَّهْنِ كَانَ أَوْلَى بِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِهِ: وَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ قَدْ تَعَلَّقَ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى نَحْوِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِالْعِشْرِينِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَحَلٌّ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ كَانَ مَحَلُّهَا الرَّهْنَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ زَادَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ بَعْدَ الْيَمِينِ، وَقَبْلَ الْبَيْعِ لَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُرْتَهِنِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَحَقَّ بِالْعَيْنِ حَتَّى يُعْطَى مَا اسْتَوْجَبَ بِيَمِينِهِ وَذَلِكَ الْعِشْرُونَ دِينَارًا وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ: أَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ دُونَ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ دُونَ عَيْنِ الرَّهْنِ فَإِذَا أَعْطَاهُ الرَّاهِنُ الْقِيمَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَخْذُ رَهْنِهِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ عَبْدُوسٍ إنْ شَاءَ الرَّاهِنُ أَنْ يُعْطَى مَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ، وَإِلَّا بِعْت الرَّهْنَ وَدَفَعْتُ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ مَا ذَكَرَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَتَى تُرَاعَى قِيمَةُ الرَّهْنِ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ فِي النَّوَادِرِ إنْ كَانَ الرَّهْنُ قَائِمًا فَقِيمَتُهُ يَوْمَ الْحُكْمِ، وَإِنْ هَلَكَ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِهِ وَرَوَاهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الرَّهْنَ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الضَّيَاعِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَوْمَ الرَّهْنِ فَعَلَى قَوْلِنَا بِاعْتِبَارِ تَضْمِينِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الضَّيَاعِ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ فِي مَبْلَغِ الدَّيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ: أَنَّ الرَّهْنَ إذَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ شَهِدَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ لِوُجُودِهِ يَوْمَ الْحُكْمِ، وَإِذَا عَدِمَ ضَمِنَ لَقِيمَتِهِ فَكَانَتْ الْقِيمَةُ فِي ذَلِكَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ عِنْدَ وُجُودِهَا.
(فَرْعٌ) وَهَذَا إذَا كَانَ مِمَّا يَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ لِكَوْنِهِ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ إمَّا؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ أَوْ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ عَلَى يَدِ أَمِينٍ أَوْ قَامَتْ بِضَيَاعِهِ بَيِّنَةٌ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَا كَانَ الرَّهْنُ قَائِمًا.
وَقَالَ أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي الرَّهْنِ يَكُونُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ ثُمَّ يَخْتَلِفُ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَضَعْ الرَّهْنَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ رَهْنٌ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ الرَّهْنِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ فَكَانَ شَاهِدًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ كَاَلَّذِي يَضْمَنُ بِالْيَدِ وَوَجْهُ قَوْلِ أَصْبَغَ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إلَيْهِ وَلَا مُؤْتَمَنٍ عَلَيْهِ فَلَمْ يَشْهَدْ لِدَيْنِهِ وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَمْنَعُ شَهَادَةَ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ مَعَ بَقَائِهِ وَتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ عَلَّلْنَا بِأَنَّ مَا لَا يُضْمَنُ مِنْ الرُّهُونِ وَلَا يُشْهَدُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ضَيَاعِهِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَإِنَّ عَيْنَهُ لَا تَشْهَدُ بِهِ مَعَ بَقَائِهِ كَالْوَدِيعَةِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ تَلِفَ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِضَيَاعِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَأَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَيْسَ عَلَى الرَّاهِنِ إلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّهْنَ قَدْ بَطَلَ وَحَلَّ مِنْهُ الرَّهْنُ فَأَشْبَهَ الْمُدَايَنَةَ دُونَ رَهْنٍ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُقَالُ لِلرَّاهِنِ إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الْعِشْرِينَ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا وَتَأْخُذَ رَهْنَك، وَإِمَّا أَنْ تَحْلِفَ عَلَى الَّذِي زَعَمْتَ أَنَّك رَهَنْته بِهِ وَبَطَلَ عَنْك مَا زَادَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: إنْ كَانَ الرَّهْنُ يُسَاوِي مَا قَالَ الْمُرْتَهِنُ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تَكُنْ الْيَمِينُ إلَّا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِي إلَّا مَا قَالَ الرَّاهِنُ فَأَقَلَّ لَمْ يَحْلِفْ إلَّا الرَّاهِنُ وَحْدُهُ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْمُرْتَهِنِ لَا تَنْفَعُهُ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الرَّاهِنُ أَوْ أَقَلَّ مِمَّا ادَّعَاهُ الْمُرْتَهِنُ فَهَاهُنَا يَحْلِفَانِ وَيَبْدَأُ الْمُرْتَهِنُ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ شَاهِدٌ لَهُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِ مِنْ الدَّيْنِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الدَّيْنِ فَقَالَ الرَّاهِنُ هُوَ بِمِائَةِ إرْدَبِّ حِنْطَةً وَقَالَ الْمُرْتَهِنُ إنَّمَا ارْتَهَنْته بِمِائَةِ دِينَارٍ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ مِائَةُ دِينَارٍ قَالَ أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ إنْ كَانَ قِيمَةُ الْمِائَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا الرَّاهِنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ مِائَةِ دِينَارٍ فَالرَّاهِنُ مُصَدَّقٌ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَتُبَاعُ بِهَا الْحِنْطَةُ فَيُوَفَّى، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَالْمُرْتَهِنُ مُصَدَّقٌ كَمَا لَوْ صَدَّقَهُ فِي كَثْرَةِ النَّوْعِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُقَالُ لِلرَّاهِنِ إمَّا أَنْ تُعْطِيَهُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ تَأْخُذَ رَهْنَك، وَإِمَّا أَنْ تَحْلِفَ عَلَى
(5/261)
(ص) : (قَالَ مَالِكٌ: فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ وَتَنَاكَلَا الْحَقَّ فَقَالَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ كَانَتْ لِي فِيهِ عِشْرُونَ دِينَارًا وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لَمْ يَكُنْ لَك فِيهِ إلَّا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ قِيمَةُ الرَّهْنِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا قِيلَ لِلَّذِي لَهُ الْحَقُّ صِفْهُ فَإِذَا وَصَفَهُ أُحْلِفَ عَلَى صِفَتِهِ ثُمَّ أَقَامَ تِلْكَ الصِّفَةَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَى فِيهِ الْمُرْتَهِنُ أُحْلِفَ عَلَى مَا ادَّعَى ثُمَّ يُعْطَى الرَّاهِنُ مَا فَضَلَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِمَّا يَدَّعِي فِيهِ الْمُرْتَهِنُ أُحْلِفَ عَلَى الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ لَهُ فِيهِ ثُمَّ قَاصُّوهُ بِمَا بَلَغَ الرَّهْنُ ثُمَّ أُحْلِفَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ عَلَى الْفَضْلِ الَّذِي بَقِيَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَبْلَغِ ثَمَنِ الرَّهْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ الرَّهْنُ صَارَ مُدَّعِيًا عَلَى الرَّاهِنِ فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ عَنْهُ بَقِيَّةُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ مِمَّا ادَّعَى فَوْقَ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بَعْدَ قِيمَةِ الرَّهْنِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الَّذِي قُلْت وَيَبْطُلُ عَنْك مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ يُرِيدُ أَنَّ يَمِينَهُ تُسْقِطُ عَنْهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ إنْ نَكَلَ لَزِمَ جَمِيعُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ، وَإِنْ كَانَ أَضْعَافُ قِيمَةِ الرَّهْنِ.
وَلَوْ نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ يَحْلِفُ الرَّاهِنُ وَلَا يَغْرَمُ إلَّا مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَهِنُ مُضَعِّفًا لِدَعْوَاهُ وَمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ الرَّهْنُ وَغَيْرُهُ فَلَمَّا حَلَفَ الرَّاهِنُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غَيْرُ مَا أَقَرَّ بِهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الرَّاهِنُ غَرِمَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إنَّمَا يَحْلِفُ أَوَّلًا عَلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، وَلِذَلِكَ إذَا نَكَلَ وَلَمْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِنُكُولِ الرَّاهِنِ عَنْهَا وَقَدْ جَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ حُجَّتِهِ مَا قَالَهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُرَدُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ سَلِمَ لَهُ قَالَ وَمِنْ عَيْبِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ عَلَى عِشْرِينَ فَوَجَبَ لَهُ أَخْذُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَيَمِينُ الْمَطْلُوبِ عَلَى الْخَمْسَةِ الزَّائِدَةِ فَنَكَلَ الْمَطْلُوبَ أَلَيْسَ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الرَّاهِنِ فَيَصِيرُ يَحْلِفُ مَرَّتَيْنِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدِي أَنَّ الْمَسْأَلَةَ تَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا أَنَّ يَمِينَ الْمُرْتَهِنِ أَوَّلًا قُدِّمَتْ عَلَى مَوْضِعِهَا لِيَسْلَمَ مِنْ تَكْرِيرِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ بِهَا وَبِنُكُولِ الرَّاهِنِ بَعْدَهَا مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ اجْتَمَعَ فِيهِ يَمِينُ الْمُدَّعِي وَنُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يُقْضَى بِهِ كَمَا لَوْ تَقَدَّمَ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ تِلْكَ الْيَمِينَ فِيمَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ لَيْسَتْ لِاسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِيُحِقَّ الْمُرْتَهِنُ بِهَا دَعْوَاهُ دُونَ أَنْ يَلْزَمَهُ أَوْ يَقْتَضِيَ مِنْهُ فَإِنَّ نُكُولَ الرَّاهِنِ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ الْمُرْتَهِنُ يَقْتَضِي رَدَّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَهُوَ يَدَّعِي عِشْرِينَ فَحَلَفَ مَعَ الْعِشْرِينَ مَعَ شَاهِدِهِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ الْخَمْسَةِ فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ فِي الْخَمْسَةِ يَمِينًا ثَانِيَةً يَسْتَحِقُّهَا بِهَا.
(فَرْعٌ) وَإِذَا نَكَلَ الْمُرْتَهِنُ أَوَّلًا ثُمَّ نَكَلَ الرَّاهِنُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: حُكْمُهُمَا إذَا نَكَلَا مِثْلُ حُكْمِهِمَا إذَا حَلَفَا لَا يَلْزَمُ الرَّاهِنَ إلَّا قِيمَةُ الرَّهْنِ قَالَ: وَلَا أُلْزِمُ الرَّاهِنَ إذَا نَكَلَ غُرْمَ مَا أَعَادَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَكَلَ لَمْ يَلْزَمْ غُرْمُ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ حَتَّى يَرُدَّ الْيَمِينَ عَلَى مُدَّعِيهَا فَلَمَّا تَقَدَّمَ نُكُولُهُ عَنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا صِحَّةُ مَا تَقَدَّمَ نُكُولُ الْمُدَّعِي قَبْلَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ يَمِينِهِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ: وَلَا يَبْعُدُ هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ نُكُولِ الْمُرْتَهِنِ وَيَمِينِ الرَّاهِنِ فَلَا يَكُونُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ نُكُولِ الْمُدَّعِي وَنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ يَمِينِهِ تَرْتِيبٌ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَرْتِيبٌ وَلِهَذَا تَأْثِيرٌ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَأَمَّا إذَا تَلِفَ الرَّهْنُ بَعْدَ نُكُولِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ: إنَّ الْمُتَرَاهِنَيْنِ إذَا تَنَاكَلَا وَقَدْ ضَاعَ الرَّهْنُ، وَكَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ: قِيمَةُ الرَّهْنِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَدَيْنِي فِيهِ عِشْرُونَ دِينَارًا وَقَالَ الرَّاهِنُ
(5/262)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
قِيمَةُ الرَّهْنِ عِشْرُونَ دِينَارًا وَدَيْنُك فِيهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمُرْتَهِنِ صِفْهُ؛ لِأَنَّهُ الْغَارِمُ فَإِذَا وَصَفَهُ حَلَفَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ إذَا كَانَتْ أَدْوَنَ مِنْ الَّذِي ادَّعَاهَا الرَّاهِنُ ثُمَّ قَوَّمَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ تِلْكَ الصِّفَةَ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الْعِشْرِينَ الَّتِي ادَّعَاهَا الْمُرْتَهِنُ مِنْ الدَّيْنِ أُحْلِفَ عَلَى مَا ادَّعَى ثُمَّ يُعْطَى الرَّاهِنُ مَا فَضَلَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ عَنْ دَيْنِهِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ بِإِقْرَارِ الْمُرْتَهِنِ وَيَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ فَكَانَا سَوَاءً فِي الشَّهَادَةِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أُحْلِفَ الْمُرْتَهِنُ؛ لِيَسْقُطَ عَنْهُ مَا ادَّعَاهُ الرَّاهِنُ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ زَائِدًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِمَّا يَدَّعِي فِيهِ الْمُرْتَهِنُ أُحْلِفَ عَلَى الَّذِي يَدَّعِيهِ ثُمَّ قَاصُّوهُ بِذَلِكَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ يُرِيدُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ لَا يُعْلَمُ ضَيَاعُهُ إلَّا بِقَوْلِ الْمُرْتَهِنِ، وَكَانَ أَصْلُ الدَّيْنِ مِنْ سَلَمٍ رُوعِيَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ يَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْمُسَلِّمِ وَيَجُوزُ أَخْذُهُ مِنْ الْمُسَلَّمِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرَانِ جَائِزَيْنِ صَحَّتْ الْمُقَاصَّةُ، وَإِنْ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا امْتَنَعَتْ الْمُقَاصَّةُ مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ دَنَانِيرَ وَرَأْسُ مَالِ الْمُسَلِّمِ دَرَاهِمَ فَلَا يَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ؛ لِأَنَّ مَا أَظْهَرَاهُ مِنْ السَّلَمِ مُلْغَى وَمَا آلَ أَمْرُهُمَا إلَى سَلَمِ دَرَاهِمَ فِي دَنَانِيرَ فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ دَنَانِيرَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الرَّهْنُ أَكْثَرَ لَمْ تَجُزْ الْمُقَاصَّةُ؛ لِأَنَّ مَآلَ أَمْرِهِمَا إلَى سَلَمِ دَنَانِيرَ فِي أَكْثَرَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ دَنَانِيرُ الرَّهْنِ مِثْلَ دَنَانِيرَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَوْ أَقَلَّ صَحَّتْ الْمُقَاصَّةُ لِتَبْعُدَ التُّهْمَةُ.
(فَرْعٌ) وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَرَضًا مِنْ جِنْسِ مَا سَلَّمَ فِيهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ لَمْ تَجُزْ الْمُقَاصَّةُ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ ضَعْ وَتَعَجَّلْ أَوْ الزِّيَادَةُ لِحَطِّ الضَّمَانِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ عَدَدًا وَجَوْدَةً فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ عَرَضًا مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ أَفْضَلُ جُودَةً وَلَا عَدَدًا وَلَا أَقَلُّ جُودَةً وَعَدَدًا، وَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
(فَرْعٌ) وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَرَضًا، وَالرَّهْنُ عَرَضًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ مُيَسَّرٍ: يَجُوزُ أَنْ يَتَقَاصَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ وَهَذَا أَصْلٌ مُتَنَازَعٌ فِيهِ، وَهَلْ يُرَاعَى فِي ذَلِكَ قِيمَةُ الرَّهْنِ إنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مُيَسَّرٍ: إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ لَمْ يَجُزْ وَيَجُوزُ إنْ كَانَتْ مِثْلَهُ فَأَقَلَّ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيمَةَ عَيْنٌ مِنْ جِنْسٍ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَيَدْخُلُهُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّهْنُ بَاقِيًا فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ سَلَفِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ قَدْ تَلِفَتْ وَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ بَعُدَتْ التُّهْمَةُ بَلْ اسْتَحَالَتْ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ ثُمَّ أُحْلِفَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِيمَا فَضَلَ مِنْ الدَّيْنِ عَنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ الرَّهْنُ مُدَّعٍ فِيمَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ فَإِذَا حَلَفَ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ ذَلِكَ مَعَ قِيمَةِ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ لَمَّا لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ فِي إثْبَاتِ مَا يُقَابِلُ مِنْ دَيْنِهِ قِيمَةَ الرَّهْنِ فَأُضِيفَ إلَيْهَا الْيَمِينُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ زِيَادَةً مِنْ الرَّهْنِ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ وَجُعِلَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً لِئَلَّا يَكُونَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ مَعَ إمْكَانِ إفْرَادِهَا وَجَمْعِهَا لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مَا يُقَوِّي دَعْوَاهُ فِي الزِّيَادَةِ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِهَا فَإِنْ حَلَفَ الرَّاهِنُ أَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَإِنْ نَكَلَ قَوَّى نُكُولُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ يَمِينِ الْمُرْتَهِنِ بِهَا فَحُكِمَ لَهُ بِذَلِكَ وَتَقَدَّمَتْ يَمِينُ الْمُرْتَهِنِ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى نُكُولِ الرَّاهِنِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَمِينَيْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ إحْدَاهُمَا عَلَى الصِّفَةِ وَالثَّانِيَةَ عَلَى إثْبَاتِ الدَّيْنِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمَا يَلْزَمَانِهِ مُنْفَصِلَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ الْأَوَّلَ تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَجِبَ الثَّانِيَةُ وَلَا يُمْكِنُ النَّظَرُ فِي أَسْبَابِ الثَّانِيَةِ إلَّا بَعْدَ إنْفَاذِ الْيَمِينِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَجِبُ لِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَلَا تَجِبُ الثَّانِيَةُ
(5/263)
الْقَضَاءُ فِي كِرَاءِ الدَّابَّةِ وَالتَّعَدِّي بِهَا (ص) : (قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَسْتَكْرِي الدَّابَّةَ إلَى الْمَكَانِ الْمُسَمَّى ثُمَّ يَتَعَدَّى ذَلِكَ الْمَكَانَ وَيَتَقَدَّمُ أَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يُخَيَّرُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ كِرَاءَ دَابَّتِهِ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَعَدَّى بِهَا إلَيْهِ أُعْطَى ذَلِكَ وَيَقْبِضُ دَابَّتَهُ وَلَهُ الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَحَبَّ رَبُّ الدَّابَّةِ فَلَهُ قِيمَةُ دَابَّتِهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي تَعَدَّى مِنْهُ الْمُسْتَكْرِي وَلَهُ الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ اسْتَكْرَى الدَّابَّةَ الْبَدْأَةَ فَإِنْ كَانَ اسْتَكْرَاهَا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا ثُمَّ تَعَدَّى حِينَ بَلَغَ الْبَلَدَ الَّذِي اسْتَكْرَى إلَيْهِ فَإِنَّمَا لِرَبِّ الدَّابَّةِ نِصْفُ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكِرَاءَ نِصْفُهُ فِي الْبَدْأَةِ وَنِصْفُهُ فِي الرَّجْعَةِ فَتَعَدَّى الْمُتَعَدِّي بِالدَّابَّةِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَنَّ الدَّابَّةَ هَلَكَتْ حِينَ بَلَغَ بِهَا الْبَلَدَ الَّذِي اسْتَكْرَى إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُسْتَكْرِي ضَمَانٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُكْرَى إلَّا نِصْفُ الْكِرَاءِ قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ أَمْرُ أَهْلِ التَّعَدِّي، وَالْخِلَافُ لِمَا أُخِذَ وَالدَّابَّةُ عَلَيْهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَنْ أَخَذَ مَالًا قِرَاضًا مِنْ صَاحِبِهِ فَقَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ لَا تَشْتَرِ بِهِ حَيَوَانًا وَلَا سِلَعًا كَذَا، وَكَذَا لِسِلَعٍ يُسَمِّيهَا وَيَنْهَاهُ عَنْهَا وَيُكْرَهُ أَنْ يَضَعَ مَالَهُ فِيهَا فَيَشْتَرِي الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ وَيَذْهَبَ بِرِيحِ صَاحِبِهِ فَإِذَا صَنَعَ ذَلِكَ فَرَبُّ الْمَالِ بِالْخِيَارِ إنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِي السِّلْعَةِ عَلَى مَا شَرَطَا بَيْنَهُمَا مِنْ الرِّبْحِ فَعَلَ، وَإِنْ أَحَبَّ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ ضَامِنًا عَلَى الَّذِي أَخَذَ الْمَالَ وَتَعَدَّى قَالَ: وَكَذَلِكَ أَيْضًا الرَّجُلُ يُبْضِعُ مَعَهُ الرَّجُلُ الْبِضَاعَةَ فَيَأْمُرُهُ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ سِلْعَةً بِاسْمِهَا فَيُخَالِفُ فَيَشْتَرِي بِبِضَاعَتِهِ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ وَيَتَعَدَّى ذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِضَاعَةِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ أَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ مَا اشْتَرَى بِمَالِهِ أَخَذَهُ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ الْمُبْضِعُ مَعَهُ ضَامِنًا لِرَأْسِ مَالِهِ فَذَلِكَ لَهُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
بَعْدُ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الرَّهْنِ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الرَّاهِنُ فَلَا مَعْنَى لِيَمِينِ الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَلِبُ بِهَا مَنْفَعَةً، وَلَا يُقْضَى لَهُ بِيَمِينِهِ، وَلَا يُنْظَرُ فِي الْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ يَمِينِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ صِفَةِ الرَّهْنِ بِيَمِينِ الْمُرْتَهِنِ الَّذِي هُوَ الْغَارِمُ فَإِذَا ثَبَتَتْ الصِّفَاتُ بِيَمِينِهِ قُوِّمَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ فَإِذَا ثَبَتَتْ قِيمَتُهَا، وَكَانَتْ أَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ الرَّاهِنُ اُسْتُحْلِفَ الْمُرْتَهِنُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ ذِكْرَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْيَمِينُ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورِينَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُفَرِّقَهُمَا بَلْ لَهُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تُقَوَّمَ الصِّفَةُ الَّتِي يُقِرُّ بِهَا الْمُرْتَهِنُ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهَا أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ حَلَفَ الْمُرْتَهِنُ يَمِينًا وَاحِدَةً يَنْفِي بِهَا مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ مَا زَادَ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الرَّاهِنُ وَتَقَدَّمَهَا لِنُكُولِ الرَّاهِنِ فِيمَا ادَّعَاهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الدَّيْنِ زِيَادَةٌ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ عِنْدِيّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْقَضَاءُ فِي كِرَاءِ الدَّابَّةِ وَالتَّعَدِّي بِهَا]
(ش) : قَوْلُهُ فِيمَنْ يَكْتَرِي الدَّابَّةَ إلَى مَكَان مُسَمًّى ثُمَّ يَتَعَدَّاهُ بِالتَّقَدُّمِ أَمَامَهُ فَإِنَّ لِرَبِّ الدَّابَّةِ أَنْ يَأْخُذَ كِرَاءَ دَابَّتِهِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي تَعَدَّى إلَيْهِ مَعَ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ وَيَأْخُذُ دَابَّتَهُ، وَإِنْ أَحَبَّ كَانَتْ لَهُ قِيمَةُ دَابَّتِهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي تَعَدَّى مِنْهُ الْمُكْتَرِي، وَلَهُ الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّى بِالدَّابَّةِ، وَزَادَ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي اكْتَرَى إلَيْهِ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ التَّعَدِّي، وَلَحِقَهُ الضَّمَانُ، وَذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرُدَّ
(5/264)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الدَّابَّةَ الْمُكْتَرِي عَلَى حَالِهَا وَالثَّانِي: أَنْ يَرُدَّهَا وَقَدْ تَغَيَّرَتْ فَإِنْ رَدَّهَا عَلَى حَالِهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَهَا فِي تَعَدِّيهِ إمْسَاكًا يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا فَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَمْسَكَهَا يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا يَسِيرَةً فَفِي الْمَوَّازِيَّةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ الْيَوْمُ وَشِبْهُهُ قَالَ وَقَالَهُ مَالِكٌ فِي الْبَرِيدِ وَالْبَرِيدَيْنِ، وَإِنْ كَانَ اكْتَرَاهَا بِالْأَيَّامِ ثُمَّ أَمْسَكَهَا أَيَّامًا زَائِدَةً عَلَى أَيَّامِ الْكِرَاءِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَهُ الْكِرَاءُ فِي أَيَّامِ التَّعَدِّي مَعَ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ قَالَهُ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الدَّابَّةَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا التَّعَدِّي فِي عَيْنٍ وَلَا قِيمَةٍ وَلَا فَوَاتِ أَسْوَاقٍ فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا وَعَلَيْهِ قِيمَةُ كِرَائِهَا فِي الْأَيَّامِ الزَّائِدَةِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ حَبَسَهَا الْأَيَّامَ الْكَثِيرَةَ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: الشَّهْرُ.
وَقَالَ فِي الْوَاضِحَةِ مِثْلُ شَهْرٍ وَنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَيَّامًا كَثِيرَةً كَحَوْلٍ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَصَاحِبُهَا مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ، وَكِرَاءِ مَا تَعَدَّى بِحَبْسِهَا فِيهِ وَبَيْنَ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ وَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ دَابَّتِهِ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ غَصَبَهُ مَنَافِعَ الدَّابَّةِ دُونَ الرَّقَبَةِ، وَمِنْ مَنَافِعِهَا بَيْعُهَا فِي أَسْوَاقِهَا، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ فِيهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِهَا.
(فَرْعٌ) وَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ غَصَبَهُ رَقَبَتَهَا وَحَبَسَهَا شَهْرًا أَوْ أَشْهُرًا ثُمَّ رَدَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ تَتَغَيَّرْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَنْ يُلْزِمَهُ قِيمَتَهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ: أَنَّهُ لَمَّا غَصَبَهُ رَقَبَتَهَا سَقَطَتْ عَنْهُ مَنَافِعُهَا لِضَمَانِهِ رَقَبَتِهَا فَإِذَا لَمْ يَغْصِبْهُ رَقَبَتَهَا وَاسْتَخْدَمَهَا جَوْرًا وَظُلْمًا لَزِمَهُ الْكِرَاءُ فِيمَا رَكِبَهَا فِيهِ وَاسْتَخْدَمَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ كِرَائِهَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: عَلَيْهِ كِرَاؤُهَا فِيمَا حَبَسَهَا فِيهِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ حَبْسٍ بِغَيْرِ عَمَلٍ وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: إنْ كَانَ مَعَهُ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا فَكَأَنَّهُ رَاضٍ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا، وَكِرَاءِ الْمُدَّةِ الْأُولَى، وَلَهُ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ الْأَكْثَرُ مِنْ حِسَابِ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ قِيمَةِ كِرَائِهَا فِيمَا حَبَسَهَا فِيهِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ حَبْسٍ بِغَيْرِ عَمَلٍ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ عَلَى هَذَا فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ كِرَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقِيمَتَهَا يَوْمَ حَبْسِهَا وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّ إمْسَاكَهَا لَمَّا كَانَ بِغَيْرِ عَقْدِ كِرَاءٍ لَزِمَهُ كِرَاءُ الْمِثْلِ فِي مِثْلِ مَا حَبَسَهَا فِيهِ كَمَا لَوْ تَعَدَّى بِاسْتِخْدَامِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْجَارٍ وَوَجْهُ قَوْلِ الْغَيْرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ قَدْ تَغَابَنَ فِيهِ، فَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ فِيهِ غَبْنٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَإِنْ كَانَ الْكِرَاءُ الثَّانِي بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَالْمُتَعَدِّي قَدْ رَضِيَ بِهِ حِينَ اسْتَدَامَ الْعَمَلَ بَعْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهِ وَبِنَحْوِ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِرَاءِ الْمِثْلِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا كِرَاءَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا نَقُولُهُ أَنَّهُ قَدْ غَصَبَ الْمَنَافِعَ فَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا كَالْأَعْيَانِ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَلَهُ الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ إنْ كَانَ اسْتَكْرَى الدَّابَّةَ الْبَدْأَةَ، وَإِنْ كَانَ اسْتَكْرَاهَا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا ثُمَّ تَعَدَّى حِينَ بَلَغَ الْبَلَدَ الَّذِي اسْتَكْرَى إلَيْهِ الدَّابَّةَ مِنْ مِصْرَ إلَى بُرْقَةَ فَلَمَّا بَلَغَ بُرْقَةَ تَعَدَّى عَلَيْهَا فَإِنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ لَهُ الْكِرَاءُ كُلُّهُ إلَى بُرْقَةَ ثُمَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْخِيَارُ فِي أَخْذِ قِيمَةِ الدَّابَّةِ مَعَ الْكِرَاءِ إلَى بُرْقَةَ ذَاهِبًا وَرَاجِعًا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ نِصْفُهَا لِلْبَدْأَةِ وَنِصْفُهَا لِلْعَوْدَةِ ثُمَّ يَكُونُ الْخِيَارُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ النِّصْفَ فِي الْبَدْأَةِ وَالنِّصْفَ فِي الْعَوْدَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قِيمَتَهُمَا سَوَاءٌ؛ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْمَسَافَةِ، وَهُوَ الْغَالِبُ مِنْ أَحْوَالِ الْمَسَافَةِ، وَلَوْ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْكِرَاءِ عِنْدَ النَّاسِ فِي الْبَدْأَةِ أَوْ الْعَوْدَةِ لَلَزِمَ التَّقْوِيمُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ رَدَّهَا وَقَدْ تَغَيَّرَتْ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ تَغَيَّرَتْ تَغَيُّرًا كَثِيرًا أَوْ هَلَكَتْ فَإِنْ تَغَيَّرَتْ تَغَيُّرًا شَدِيدًا فَفِي الْوَاضِحَةِ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ رَدَّ الدَّابَّةَ، وَلَمْ يُمْسِكْهَا إلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً فَلَا شَيْءَ لِرَبِّ الدَّابَّةِ غَيْرَ كِرَائِهَا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ كِرَائِهَا وَبَيْنَ قِيمَتِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ عَطِبَتْ فِي مُدَّةِ التَّعَدِّي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ وَالتَّعَدِّي يَكُونُ فِي حَبْسِهَا بِقَدْرٍ مِنْ الْكِرَاءِ، وَيَكُونُ فِي أَنْ يَتَعَدَّى بِهَا مَكَانَ الْكِرَاءِ، وَيَكُونُ
(5/265)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
فِي أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهَا مَا لَمْ تُكْتَرَ لَهُ فَأَمَّا التَّعَدِّي بِتَجَاوُزٍ مِنْ الْكِرَاءِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَأَمَّا التَّعَدِّي بِتَجَاوُزِ مَسَافَةِ الْكِرَاءِ فَمِثْلُ أَنْ يَكْتَرِيَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ مِنْ مِصْرَ إلَى بُرْقَةَ فَيَرْكَبُهَا إلَى إفْرِيقِيَةَ فَهَذَا حُكْمُهُ فِي طُولِ الْإِمْسَاكِ، وَقَرَّبَهُ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى زَمَنِ الْكِرَاءِ إنْ رَدَّهَا سَالِمَةً فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ الْأَمَدَ إلَّا بِالْيَسِيرِ الَّذِي لَا خِيَارَ لِصَاحِبِهَا فِيهِ إذَا سَلِمَتْ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهَا إلَّا كِرَاءُ مَا زَادَ وَلَوْ زَادَ كَثِيرًا فِيهِ الْأَيَّامُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِي مِثْلِهَا سُوقُهَا مِنْ رَبِّهَا إنْ رَدَّهَا الْمُتَعَدِّي سَالِمَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ عَطِبَتْ فِي الْقَلِيلِ أَوْ الْكَثِيرِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا.
(فَرْعٌ) وَلَوْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِ الْمِيلَ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: هُوَ ضَامِنٌ وَصَاحِبُ الدَّابَّةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ وَبَيْنَ كِرَائِهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي زِيَادَةِ الْمِيلِ وَالْمِيلَيْنِ قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقِيلَ إنَّهُ ضَامِنٌ وَلَوْ زَادَ خُطْوَةً، وَأَمَّا مَا يَعْدِلُ النَّاسُ إلَيْهِ مِنْ الرَّاحِلَةِ فَلَا يَضْمَنُ فِيهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْعُدُولَ مُعْتَادٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ الْعُدُولِ عَنْ الطَّرِيقِ لِلنُّزُولِ لِرَاحَةٍ وَغِذَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا الْعُدُولُ بِتَعَدٍّ.
(فَرْعٌ) وَلَوْ لَمْ يَعْطَبْ الْبَعِيرُ إلَّا بَعْدَ أَنْ رَجَعَ إلَى الْمَسَافَةِ الَّتِي اكْتَرَى لَهَا وَخَرَجَ سَالِمًا عَنْ مَسَافَةِ التَّعَدِّي فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَمْ يُجَاوِزْ الْمَسَافَةَ إلَّا بِالْيَسِيرِ مِمَّا لَا خِيَارَ فِيهِ لِصَاحِبِهَا مَعَ السَّلَامَةِ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا كِرَاءُ الزِّيَادَةِ، وَأَمَّا إنْ زَادَ زِيَادَةً كَثِيرَةً أَيَّامًا تَتَغَيَّرُ فِيهَا أَسْوَاقُهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا كَمَا لَوْ مَاتَتْ فِي مَسَافَةِ الزِّيَادَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ يَضْمَنُهَا، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ يَسِيرَةً.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَهُوَ عِنْدَنَا غَلَطٌ مِنْ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ تَعَدَّى فَتَسَلَّفَ مِنْ وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ ثُمَّ رَدَّ فِيهَا مَا تَسَلَّفَهُ ثُمَّ تَلِفَتْ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ فَهَذَا مِثْلُهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنَّمَا لَهُ كِرَاءُ مَسَافَةِ التَّعَدِّي عَلَى قِيمَةِ كِرَاءِ مَا تَعَدَّى، وَلَيْسَ عَلَى قَدْرِ مَا تَكَارَى قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَوَجْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ عَمِلَ بِدَابَّتِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَلَا عَقْدٍ بِقَدْرِ أُجْرَةِ الْعَمَلِ فَلَزِمَهُ كِرَاءُ مِثْلِهِ، أَصْلُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ بَيْنَهُمَا عَقْدُ كِرَاءٍ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا التَّعَدِّي فِي الْحَمْلِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الزِّيَادَةُ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ وَالثَّانِي: حَمْلُ غَيْرِ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ فِيمَنْ اكْتَرَى بَعِيرًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ قَفِيزًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي عَطَبِ الْبَعِيرِ إذَا كَانَ الْقَفِيزُ يَسِيرًا لَا تَعْطَبُ مِنْهُ الدَّابَّةُ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا أَرْطَالًا مُسَمَّاةً فَيَحْمِلَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَعَطِبَتْ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ يُعْطَبُ مِنْ مِثْلِهَا فَلِصَاحِبِ الدَّابَّةِ الْكِرَاءُ، وَكِرَاءُ الزِّيَادَةِ أَوْ قِيمَةُ الدَّابَّةِ يَوْمَ التَّعَدِّي دُونَ الْكِرَاءِ فَخُيِّرَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ يُعْطَبُ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْكِرَاءُ الْأَوَّلُ، وَكِرَاءُ مَا تَعَدَّى فِيهِ وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنْ زَادَ فِي الْحَمْلِ وَلَوْ رَطْلًا وَاحِدًا ضَمِنَ.
(فَرْقٌ) قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الْمَسَافَةِ أَنَّ مُجَاوَزَةَ الْمَسَافَةِ تَعَدٍّ كُلُّهُ فَلِذَلِكَ ضَمِنَهَا فِي قَلِيلِهِ، وَكَثِيرِهِ، وَزِيَادَةُ الْحَمْلِ إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ تَعَدٍّ، وَإِذْنٌ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ يُعْطَبُ مِنْ مِثْلِهَا ضَمِنَ، وَإِلَّا لَمْ يَضْمَنْ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا أَنَّ لَهُ كِرَاءَ الزِّيَادَةِ إنْ شَاءَ فَفِي قَوْلِ مَالِكٍ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ الْقَفِيزِ الزَّائِدِ مَا بَلَغَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُ قَفِيزٍ مِنْ الْعَشَرَةِ الَّتِي اكْتَرَى عَلَيْهَا يُرِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الْقَفِيزُ الزَّائِدُ مِنْ سِعْرِهِ مَا أَكْرَى مِنْهُ الْعَشَرَةَ الْأَقْفِزَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا غَبَنَ صَاحِبَهُ فِي عَقْدِ الْكِرَاءِ، وَإِنَّمَا لَهُ قِيمَةُ كِرَاءِ مِثْلِهِ مَا بَلَغَتْ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ عَقْدٌ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ مُرَاعَاةَ أُجْرَةِ حَمْلِهِ زَائِدًا عَلَى حَمْلِ الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَضَرَّ مِنْ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ حَمَلَ غَيْرَ الْجِنْسِ الَّذِي اتَّفَقَ مَعَهُ فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مَضَرَّتُهُ كَمَضَرَّةِ مَا تَكَارَى عَلَيْهِ أَوْ أَشَدَّ فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ مَضَرَّتِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ مَالِكٍ إلَّا بِجِنْسِ الْمَضَرَّةِ، وَلَوْ اكْتَرَى رَجُلٌ مِنْ حَمَّالٍ عَلَى حَمْلٍ بِعَيْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُبْدِلَهُ بِمِثْلِهِ مِمَّا مَضَرَّتُهُ مِثْلُ مَضَرَّتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ بَدَلُهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ ضَرَرًا
(5/266)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مِنْهُ فَالْمُرَاعَى فِي ذَلِكَ مَا يَضْغَطُ بِثِقَلِهِ جَانِبَيْ الدَّابَّةِ وَيَضُرُّ بِهَا أَوْ الْجَفَاءُ وَعِظَمُ الْحَمْلِ الَّذِي يَجْفُو عَلَى الدَّابَّةِ وَيَضُرُّ بِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِنْ كَانَ اكْتَرَى عَلَى حَمْلٍ وَحَمَلَ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ فِي الْمَضَرَّةِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: فِيمَنْ اكْتَرَى بَعِيرًا لِحَمْلِ خَمْسِمِائَةِ رَطْلِ بُرٍّ فَحَمَلَ عَلَيْهِ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَضَرَّ بِالْبَعِيرِ قَالَ مَالِكٌ: وَلَهُ أَنْ يُكْرِيَهُ مِمَّنْ يَحْمِلُ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ خِلَافَ مَا سَمَّى فَيَحْمِلُ الْقُطْنَ بِوَزْنِ مَا سَمَّى مِنْ الْبُرِّ، وَلَا يَحْمِلُ بِوَزْنِهِ مَا هُوَ أَضُرُّ مِنْهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْأَحْمَالِ وَأَمَّا الرَّاكِبُ فَقَدْ يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ أَخْلَاقِ النَّاسِ مَعَ تَسَاوِي أَجْسَامِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ فِيهِ رِفْقٌ وَمِنْهُمْ مَنْ فِيهِ عُنْفٌ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُكْرِيَ الرَّجُلُ دَابَّةً فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا غَيْرَهُ فَقَدْ يَكُونُ الرَّاكِبُ أَخَفَّ مِنْ الْمُكْتَرِي وَلَعَلَّهُ أَخْرَقَ فِي الرُّكُوبِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا مَنْ هُوَ فِي مِثْلِهِ فِي الثِّقَلِ وَالْحَالِ وَالرُّكُوبِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَمْ يَكُنْ مَالِكٌ يَقِفُ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا وَقَوْلُهُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُكْرِيَهَا مِنْ مِثْلِهِ فِي حَالِهِ وَخِفَّتِهِ فَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا مَنْ هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ أَوْ غَيْرُ مَأْمُونٍ فَهُوَ ضَامِنٌ وَالْخِلَافُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ إنَّمَا هُوَ عِنْدِي فِي ابْتِدَاءِ الْكِرَاءِ فَقَدْ اسْتَثْقَلَ مَالِكٌ لِمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً لِرُكُوبِهِ أَنْ يُكْرِيَهَا مِنْ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ أَوْ يُقِيمَ فَقَدْ جَوَّزَهُ مَالِكٌ أَيْضًا، وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي الْأَحْمَالِ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَمَعْنَى ذَلِكَ فِي الدَّابَّةِ مَعَهَا صَاحِبُهَا يَتَوَلَّى سَوْقَهَا وَالْحَمْلَ عَلَيْهَا وَالْحَطَّ عَنْهَا فَأَمَّا إنْ كَانَ يُسَلِّمُهَا إلَى الْمُكْتَرِي فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ الْكِرَاءِ مِنْ غَيْرِهِ لِاخْتِلَافِ سَوْقِ النَّاسِ وَرِفْقِهِمْ وَحِيَاطَتِهِمْ وَتَضْيِيعِهِمْ لَهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ أَرَادَ مَنْ اكْتَرَى شَقَّ مَحْمَلٍ أَنْ يُعَقِّبَ آخَرَ فَقَدْ رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ لَيْسَ لِلْجَمَّالِ مَنْعُهُ قَالَ أَصْبَغُ إنْ أَعْقَبَ رَاكِبًا مُرِيحًا فَذَلِكَ، وَإِنْ أَعْقَبَ مَاشِيًا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَضَرَّ وَأَثْقَلَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ مَنْ أَخَذَ مَالًا قِرَاضًا فَقَالَ إنَّ رَبَّ الْمَالِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِي السِّلْعَةِ عَلَى مَا شَرَطَا أَوْ يَكُونَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ يَضْمَنُهُ الْمُتَعَدِّي، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَظْهَرَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَى أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ ظَهَرَ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ الْبَيْعِ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: يُبَاعُ عَلَيْهِ مَا نَهَى عَنْ شِرَائِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ فَهُوَ عَلَى الْقِرَاضِ، وَإِنْ كَانَ نُقْصَانٌ ضَمِنَهُ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ ضَمَّنَهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَتَرَكَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى ذَلِكَ لَهُ عَلَى الْقِرَاضِ فَجَعَلَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَجِّلَ بَيْعَ السِّلْعَةِ فَيَكُونُ رِبْحُهَا عَلَى الْقِرَاضِ وَخَسَارَتُهَا عَلَى الْعَامِلِ الْمُتَعَدِّي وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُعَجِّلَ تَضْمِينَهُ إيَّاهَا وَيَأْخُذَ مِنْهُ الْمَالَ الَّذِي سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ عَلَى الْقِرَاضِ وَذَكَرَ فِي أَصْلِ الْمُوَطَّأِ وَجْهَيْنِ التَّضْمِينَ أَوْ الْإِبْقَاءَ عَلَى حُكْمِ الْقِرَاضِ الَّذِي كَانَا عَقَدَاهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هُوَ فِي تَعْجِيلِ الْبَيْعِ، وَأَنَّهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا ظَهَرَ مِنْ تَعَدِّي الْعَامِلِ، وَلَوْ اشْتَرَى مَا أُمِرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ تَعْجِيلُ بَيْعٍ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: إنَّ رَبَّ الْمَالِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ فِي السِّلْعَةِ عَلَى مَا شَرَطَا بَيْنَهُمَا مِنْ الرِّبْحِ يُرِيدُ إنْ كَانَا شَرَطَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا الرِّبْحُ بِنِصْفَيْنِ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَا الْأَقَلَّ لِأَحَدِهِمَا وَالْأَكْثَرَ لِلْآخَرِ كَالثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْزَاءِ فَإِنْ أَحَبَّ صَاحِبُ الْمَالِ أَنْ يُقِرَّ السِّلْعَةَ عَلَى الْقِرَاضِ فَإِنَّمَا يُقِرُّهَا عَلَى الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ حَتَّى بَاعَ السِّلْعَةَ فَفِي الْوَاضِحَةِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمَالَ عَلَى الْقِرَاضِ فَإِنْ بِيعَتْ بِنَقْصٍ ضَمِنَهُ يُرِيدُ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ رِبْحٌ فَهُوَ عَلَى شَرْطِهِمَا فِي الْقِرَاضِ، وَإِنْ كَانَتْ وَضِيعَةً ضَمِنَهُ الْعَامِلُ الْمُتَعَدِّي؛ لِأَنَّهَا لَمَّا بِيعَتْ بِمِثْلِ الْعَيْنِ الَّذِي
(5/267)
الْقَضَاءُ فِي الْمُسْتَكْرَهَةِ مِنْ النِّسَاءِ (ص) : (مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ قَضَى فِي امْرَأَةٍ أُصِيبَتْ مُسْتَكْرَهَةً بِصَدَاقِهَا عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهَا قَالَ يَحْيَى: سَمِعَتْ مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِي الرَّجُلِ يَغْتَصِبُ الْمَرْأَةَ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَعَلَيْهِ صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا وَالْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُغْتَصِبِ وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمُغْتَصَبَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُغْتَصِبُ عَبْدًا فَذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُسْلِمَهُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
هُوَ رَأْسُ مَالِ الْقِرَاضِ ظَهَرَ الرِّبْحُ فِيهِ وَالْوَضِيعَةُ، فَلِرَبِّ الْمَالِ حِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ وَعَلَى الْعَامِلِ جَمِيعُ الْوَضِيعَةِ؛ لِأَنَّهَا بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ نَهَاهُ عَنْ الْعَمَلِ بِالْمَالِ وَهُوَ عَيْنٌ بَعْدُ فَعَمِلَ بِهِ فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ وَابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ الرِّبْحَ لِلْعَامِلِ وَالْوَضِيعَةَ عَلَيْهِ كَالْوَدِيعَةِ زَادَ ابْنُ حَبِيبٍ مَا لَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ اشْتَرَى السِّلْعَةَ بِاسْمِ الْقِرَاضِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا فَالرِّبْحُ عَلَى شَرْطِ الْقِرَاضِ، وَلَا يُخْرِجُهُ مَا لَمْ يُفَوِّتْ بِذَلِكَ غَرَضًا فَإِنْ فَوَّتَ غَرَضًا كَانَ لِصَاحِبِهِ فِيهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُبْضِعُ مَعَهُ لِيَشْتَرِيَ سِلْعَةً مُسَمَّاةً فَيَشْتَرِيَ غَيْرَهَا فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْبِضَاعَةِ أَنْ يَأْخُذَ مَا اشْتَرَى بِمَالِهِ أَوْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُبْضِعَ مَعَهُ قَدْ تَعَدَّى عَلَى الْبِضَاعَةِ وَمَنَعَ صَاحِبَهَا غَرَضَهُ مِنْهَا وَأَرَادَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا دُونَ صَاحِبِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَعْلَمَ بِتَعَدِّيهِ قَبْلَ بَيْعِ مَا اشْتَرَى بِهِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ فَإِنَّهُ عَلَى مَا قَالَ يُخَيَّرُ رَبُّ الْبِضَاعَةِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ السِّلْعَةَ الَّتِي ابْتَاعَ الْمُبْضِعُ مَعَهُ بِمَالٍ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ ثَمَنَهَا، وَإِنْ عَلِمَ بِذَلِكَ بَعْدَمَا بَاعَ الْمُبْضِعُ مَعَهُ السِّلْعَةَ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الرِّبْحَ لِلْمُبْضِعِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ الْبِضَاعَةَ قَالَ عِيسَى أَمَرَنِي ابْنُ الْقَاسِمِ أَنْ أَضْرِبَ عَلَيْهَا وَأُوقِفَهَا وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي ثَمَنِهَا رِبْحٌ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْبِضَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ نَقْصٌ فَعَلَى الْمُبْضِعِ مَعَهُ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ جِنْسٍ مَخْصُوصٍ فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ بِشِرَائِهِ مَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُبْضِعِ مَعَهُ إلَّا الِاسْتِبْدَادُ بِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ كَالْوَدِيعَةِ وَبِهَذَا خَالَفَ الْعَامِلَ فِي الْقِرَاضِ فَإِنْ قَصَدَ رَبُّ الْمَالِ الرِّبْحَ فَلَمَّا خَالَفَهُ الْعَامِلُ أَرَادَ الِاسْتِبْدَادَ بِالرِّبْحِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ رَبَّ الْبِضَاعَةِ قَدْ أَمَرَهُ بِتَصْرِيفِهَا فِي وَجْهٍ مَخْصُوصٍ فَإِذَا تَعَدَّى عَلَى الْبِضَاعَةِ وَأَرَادَ الِانْفِرَادَ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ كَمَالِ الْقِرَاضِ وَبِهَذَا يُخَالِفُ الْوَدِيعَةَ فَإِنَّ الْوَدِيعَةَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَصْرِيفِهَا لَهُ فِي مَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا وَهَذَا الْغَرَضُ لَا يَفُوتُهُ بِتَصْرِيفِهَا فِيمَا اشْتَرَى بِهِ لِنَفْسِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الْوَدِيعَةِ أَخْذُ مَا اشْتَرَى بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ بَاعَ الْمُبْضِعُ مَعَهُ مَا اشْتَرَى بِالْبِضَاعَةِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا أَوْ اشْتَرَى بِهَا مَا أَمَرَهُ بِهِ فَتَلِفَ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِرَدِّهَا.
وَقَالَ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَيْسَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَى الْمُبْضِعُ مَعَ سِلَعِهِ لِنَفْسِهِ بِالْبِضَاعَةِ مَا بَاعَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُمِرَ بِالشِّرَاءِ فِيهِ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَمْ يَفُتْ الشِّرَاءُ فَكَانَ لِهَذِهِ الْبِضَاعَةِ حُكْمُ الْوَدِيعَةِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ تَسَلَّفَهَا وَصَيَّرَهَا فِي ضَمَانِهِ فَلَمَّا رَدَّهَا قَبْلَ فَوَاتِ مَا أُمِرَ بِهِ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَاجَتِهِ إلَى الْبَيِّنَةِ فِي رَدِّ ذَلِكَ إلَى حَالِ الْوَدِيعَةِ وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي الْوَدِيعَةِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[الْقَضَاءُ فِي الْمُسْتَكْرَهَةِ مِنْ النِّسَاءِ]
(ش) : الْمُسْتَكْرَهَةُ لَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَلَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا عَلَى مَنْ اسْتَكْرَهَهَا وَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
(5/268)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: عَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَ الصَّدَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ الْحَدَّ وَالصَّدَاقَ حَقَّانِ أَحَدُهُمَا لِلَّهِ وَالثَّانِي لِلْمَخْلُوقِ فَجَازَ أَنْ يَجْتَمِعَا كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَرَدِّهَا قَالَ مَالِكٌ: وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَوْ صَغِيرَةً افْتَضَّهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ افْتَضَّهَا بِأُصْبُعِهِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنْ افْتَضَّ بِكْرًا بِأُصْبُعِهِ وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَوْ كَبِيرَةٌ أَنَّهَا كَالْجَائِفَةِ وَفِي ذَلِكَ ثُلُثُ دِيَتِهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحَبُّ مَا فِيهِ إلَيَّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قَدْرِ مَا نَقَصَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْأَزْوَاجِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِهَا بِكْرًا مِائَةً وَمَهْرُ مِثْلِهَا ثَيِّبًا خَمْسُونَ فَيُؤَدِّي مَا نَقَصَ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ؛ لِأَنَّهُ جُرْحٌ وَلَيْسَ بِوَطْءٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ الَّذِي افْتَضَّهَا صَبِيًّا فَافْتَضَّ صَغِيرَةً بِذَكَرِهِ أَوْ أُصْبُعِهِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: فِيهِ فِي قَوْلِنَا الِاجْتِهَادُ بَعْدَ رَأْيِ الْإِمَامِ وَرَأْيِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ حَكَمَ فِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بِأَرْبَعِينَ دِينَارًا وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ جُرْحٌ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَشِينُ وَيُزَهِّدُ فِي الْمَرْأَةِ، وَإِنْ لَمْ يَشِنْ الْجَسَدَ فَلِذَلِكَ صُرِفَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ النِّسَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ كَبِيرَةٍ وَصَغِيرَةٍ لَا تُمَيِّزُ وَصَغِيرَةٍ تُمَيِّزُ فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَهَذَا حُكْمُهَا إنْ أُكْرِهَتْ وَأَمَّا إنْ أَمْكَنَتْ مِنْ نَفْسِهَا فَعَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَا شَيْءَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا أَبَاحَتْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهَا، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ الَّتِي تُمَيِّزُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْ أَشْهَبَ فِي الصَّبِيَّةِ تُمَكِّنُ مِنْ نَفْسِهَا رَجُلًا فَيَطَؤُهَا فَإِنْ كَانَ مِثْلُهَا يُخْدَعُ فَلَهَا الصَّدَاقُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهَا لَا يُخْدَعُ فَلَا صَدَاقَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَحِضْ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَبِمَاذَا يَثْبُتُ الْإِكْرَاهُ إنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً بِهِ فَهُوَ أَقْوَى مَا فِيهِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَلَا يَثْبُتُ هَذَا إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ أَنَّهُ زَنَا بِهَا مُكْرَهَةً فَهَذَا الَّذِي يَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ لَهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ، وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَوْ دُونَ أَرْبَعَةٍ لَحُدُّوا بِالْقَذْفِ قَالَ أَصْبَغُ: لِأَنَّهُمَا قَطَعَا عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ أَدْخَلَهَا مَنْزِلَهُ غَصْبًا فَغَابَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ أَصَابَنِي فَقَالَ قَالَ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَهَا الصَّدَاقُ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهَا وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى الشَّاهِدِينَ وَوَجْهُ ذَلِكَ قُوَّةُ الْأَمْرِ بِالْبَيِّنَةِ تَشْهَدُ بِاحْتِمَالِهَا مُكْرَهَةً وَالْمَغِيبُ عَلَيْهَا ثُمَّ مَا بَلَّغَتْهُ مِنْ فَضِيحَتِهَا فَقَوَّى ذَلِكَ دَعْوَاهَا وَاسْتَحَقَّتْ بَيِّنَتُهَا صَدَاقَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ فَأَلْفَيْنَهَا بِكْرًا فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ قَالَ أَمَّا أَشْهَبُ فَلَمْ يَرَ لَهَا شَيْئًا قَالَ أَصْبَغُ وَقَدْ قِيلَ لَهَا ذَلِكَ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ بِالْبَكَارَةِ تَبْطُلُ مَا ادَّعَتْهُ مِنْ إصَابَتِهِ إيَّاهَا وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ النِّسَاءَ فِيمَا فِي أَرْحَامِهِنَّ مُؤْتَمَنَاتٌ وَالْحَرَائِرُ لَا يُنْظَرُ إلَيْهِنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
فَإِنْ لَمْ يَشْهَدَا لَهَا بِالْإِكْرَاهِ، وَلَا بِاحْتِمَالِهَا وَالْمَغِيبِ عَلَيْهَا وَلَكِنْ جَاءَتْ مُتَعَلِّقَةً بِهِ وَهِيَ تَدْمَى إنْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ لَا تَدْمَى إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَقَدْ فَضَحَتْ نَفْسَهَا فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَغَيْرِهِ لَا تُحَدُّ هِيَ لِمَا رَمَتْهُ بِهِ وَلَمْ يُفَصِّلْ وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ إحْدَاهَا أَنْ لَا تَدْمَى وَيَكُونَ الْمَقْذُوفُ صَالِحًا فَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: عَلَيْهَا حَدُّ الْقَذْفِ قَوْلًا وَاحِدًا وَالثَّانِيَةَ: أَنْ تَكُونَ تَدْمَى فَهَذِهِ فِيهَا رِوَايَتَانِ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ تُحَدُّ وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ مَالِكٍ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ فَهَذَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ رَوَاهَا ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ.
فَوَجْهُ صَرْفِ الْحَدِّ عَنْهَا أَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَى أَنْ تُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهَا بِمَا جَنَى عَلَيْهَا مَخَافَةَ أَنْ يَظْهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهَا إلَّا بِالتَّعَلُّقِ بِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَلِيقُ ذَلِكَ بِهِ فَلَمَّا كَانَتْ مُضْطَرَّةً إلَى صَرْفِ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ عَنْ نَفْسِهَا كَانَتْ كَالرَّجُلِ يَقْذِفُ زَوْجَتَهُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لَمَّا كَانَ مُضْطَرًّا إلَى ذَلِكَ لِحِمَايَةِ نَسَبِهِ، وَكَانَ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ اللِّعَانِ يُقَوِّي دَعْوَاهُ وَيَصْرِفُ الْحَدَّ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا تُبَلِّغُهُ
(5/269)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْمَرْأَةُ مِنْ فَضِيحَةِ نَفْسِهَا يُقَوِّي دَعْوَاهَا وَيَصْرِفُ الْحَدَّ عَنْهَا وَلَهَا مَعَ ذَلِكَ مَعْنَيَانِ يُقَوِّيَانِ دَعْوَاهَا أَحَدُهُمَا التَّعَلُّقُ بِهِ، وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ دَامِيَةً فَإِنْ اجْتَمَعَ لَهَا ذَلِكَ فَقَدْ أَتَتْ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مِنْ جِهَتِهَا فِي تَقْوِيَةِ دَعْوَاهَا فَإِنْ قَامَ ذَلِكَ مَعَ صَلَاحِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثَبَتَ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَجْهُ إثْبَاتِ الْحَدِّ عَلَيْهَا: أَنَّ صَلَاحَهُ الْمَشْهُورَ يَشْهَدُ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ خُلُوِّهِ بِهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي مِنْهُ مَا يَشْهَدُ لَهَا، وَكُلُّ مَوْضِعٍ تَشْهَدُ فِيهِ الْخَلْوَةُ بِالْوَطْءِ فَإِنَّهُ لَا تَقُومُ مَقَامَهُ الدَّعْوَى كَخَلْوَةِ الزَّوْجِ بِالزَّوْجَةِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي بِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهَا مَا يَظْهَرُ بِهَا مِنْ الدَّمِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَا حَلَّ بِهَا مَعَ تَعَلُّقِهَا بِهِ وَهَذِهِ مَعَانٍ ظَاهِرَةٌ فِيمَا تَدْعِيهِ مِنْ الظُّلْمِ لَهَا مَعَ أَنَّ هَذَا غَايَةُ مَا يُمْكِنُهَا وَضَرُورَةُ صَرْفِهَا إلَى حَدِّ الزِّنَا عَنْهَا إنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَا عِنْدِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الثَّيِّبِ الَّتِي لَا تَدْمَى؛ لِأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي صَرْفِ حَدِّ الزِّنَا عَنْهَا بِمَا تَتَوَقَّعُهُ مِنْ ظُهُورِ الْحَمْلِ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(فَرْعٌ) وَإِذَا كَانَ مُتَّهَمًا فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ، وَلَا تُحَدُّ هِيَ إذَا كَانَتْ بِكْرًا تَدْمَى سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ ذَلِكَ أَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا بِالتَّشَكِّي مَعَ مَا يَصْدُقُ مِنْ ظُهُورِ دَمِهَا يُقَوِّي دَعْوَاهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا لِإِقْرَارِهَا بِمُجَامَعَةِ الرَّجُلِ لَهَا، وَلَوْ ظَهَرَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَمْلٌ؛ لِأَنَّ مَا بَلَغَتْهُ مِنْ فَضِيحَةِ نَفْسِهَا بِالِاسْتِغَاثَةِ وَالتَّشَكِّي مِمَّا جَنَى عَلَيْهَا شُبْهَةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهَا فِي الْقَذْفِ فَبِأَنْ يَسْقُطَ عَنْهَا فِي حُقُوقِ الْبَارِي - تَعَالَى - أَوْلَى.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَيْسَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ حَلَفَتْ حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْبَارِي فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَعَلَيْهِ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا الْأَدَبُ، رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ يُعْرَفْ بِسَفَهٍ وَلَا حِلْمٍ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إنْ كَانَ مُتَّهَمًا أُدِّبَ أَدَبًا وَجِيعًا كَانَتْ تَدْمَى أَوْ لَا تَدْمَى قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا أَدَبَ وَلَا عِقَابَ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا أَوْ لَمْ يُعْرَفْ حَالُهُ قَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونَ وَأَشْهَبُ زَادَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِهِ فَلَا صَدَاقَ لَهَا.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا صَدَاقَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدَّعَارَةِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ أَنَّهُ احْتَمَلَهَا وَخَلَا بِهَا فَيَكُونُ لَهَا الصَّدَاقُ إذَا حَلَفَتْ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ وُجُوبَ الصَّدَاقِ مُتَعَلِّقٌ بِدَعْوَاهَا مَعَ مَا بَلَّغَتْهُ مِنْ فَضِيحَةِ نَفْسِهَا، وَأَمَّا الْخُلُوُّ بِهَا فَغَيْرُ مُوجِبٍ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَا بِهَا وَلَمْ تَدَّعِ إصَابَةً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ صَدَاقٌ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مَا يُقَوِّي دَعْوَاهَا، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهَا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى فَلَا تَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ صَدَاقًا كَمَا لَوْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجِ الْإِصَابَةَ دُونَ ثُبُوتِ الْخَلْوَةِ فَلَا يَجِبُ لَهَا صَدَاقٌ وَلَوْ ادَّعَتْهُ مَعَ ثُبُوتِ الْخَلْوَةِ لَوَجَبَ لَهَا الصَّدَاقُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَلْ يُشْتَرَطُ يَمِينُهَا فِي اسْتِحْقَاقِهَا الصَّدَاقَ؟ أَصْحَابُ مَالِكٍ يَقُولُونَ لَا يَجِبُ لَهَا الصَّدَاقُ إلَّا بِيَمِينِهَا وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ وَابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ إذَا أَتَتْ مُتَعَلِّقَةً بِهِ فَلَهَا الصَّدَاقُ بِلَا يَمِينٍ سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا تَدْمَى أَوْ ثَيِّبًا لَا تَدْمَى وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ دَعْوَاهَا قَوِيَتْ بِمَا قَارَنَهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ بِهَا شَيْئًا إلَّا بِيَمِينِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ مِنْ دَعْوَاهَا وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ مَا بَلَّغَتْ بِنَفْسِهَا لَمَّا أَسْقَطَ عَنْهَا حَدَّ الْقَذْفِ وَحَدَّ الزِّنَى أَوْجَبَ لَهَا الصَّدَاقَ كَالْبَيِّنَةِ بِمَا قَارَنَهَا.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَلَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْحُرَّةِ وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي الْأَمَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ فَإِنْ أَكْرَهَهَا فَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ عَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا وَيُرِيدُ بِالثَّمَنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْقِيمَةَ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْأَمَةِ الْفَارِهَةِ تَتَعَلَّقُ بِرَجُلٍ تَدَّعِي أَنَّهُ غَصَبَهَا نَفْسَهَا قَالَ الصَّدَاقُ عَلَيْهِ لِمَا بَلَّغَتْ مِنْ فَضِيحَةِ نَفْسِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ عَلَيْهَا كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا قَالَ يُرِيدُ فِي عَدَمِ مَا نَقَصَهَا فِي الْحَدِّ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي إلْزَامِهِ نَقَصَ الْأَمَةِ
(5/270)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَصَدَاقَ الْحُرَّةِ بِهَذَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْأَمَةُ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: عَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الصَّدَاقَ حَقٌّ لِلسَّيِّدِ فَلَا يَسْقُطُ بِإِبَاحَةِ الْأَمَةِ كَمَا لَوْ أَبَاحَتْ لَهُ قَطْعَ يَدِهَا وَوَجْهُ قَوْلِ الْغَيْرِ أَنَّهَا مَحْجُورٌ عَلَيْهَا فَبِإِبَاحَتِهَا الْوَطْءَ سَقَطَ الْمَهْرُ كَالْبِكْرِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَالْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُغْتَصِبِ، وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمُغْتَصَبَةِ يُرِيدُ عَلَى الْمُغْتَصِبِ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِ الْمَرْأَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمُغْتَصَبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَةَ فِي الزِّنَى لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ فَقَالَ مُطَرِّفٌ وَسَحْنُونٌ: لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ هُدِّدَ بِالْقَتْلِ فَإِنْ فَعَلَ حُدَّ قَالَ سَحْنُونٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَشِرُ لِذَلِكَ إلَّا بِلَذَّةٍ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَالظَّاهِرُ عِنْدِي خِلَافُ هَذَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَهِي الْإِنْسَانُ الْخَمْرَ وَأَخْذَ مَالِ غَيْرِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَمْ يَفْعَلْهُ لِالْتِذَاذِهِ بِهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِلْإِكْرَاهِ وَلَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ أَنْ لَا يَنْتَشِرَ، وَلَوْ مَلَكَهُ وَفَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَجَرُّعِهِ الْخَمْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَهِيهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ فِعْلُهُ وَلَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ الْتِذَاذُهُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ مِنْ الْأَفْعَالِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ يُوجِبُهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ وَلَا يَلْزَمُهُ عَلَى هَذَا الْكُفْرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَمَّا فِي نَفْسِهِ فَإِذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ كَذِبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ الْمُغْتَصِبُ عَبْدًا فَذَلِكَ عَلَى سَيِّدِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُسْلِمَهُ يُرِيدُ أَنَّ الْعَبْدَ إنْ أَكْرَهَ حُرَّةً فَصَدَاقٌ، وَمَا نَقَصَ الْأَمَةَ يَغْرَمُهُ السَّيِّدُ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ جِنَايَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْتِكَهُ بِالْجِنَايَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ أَوْ يُسْلِمَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ جَنَى عَلَيْهِ وَهَذَا إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: وَمَا لَزِمَهُ مِنْ صَدَاقِ الْحُرَّةِ وَنَقْصِ الْأَمَةِ فَفِي رَقَبَتِهِ وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْعَبْدِ فِيهِ بِفَوْرِ مَا فَعَلَ ذَلِكَ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ تَدْمَى فَأَمَّا مَا فَعَلَ ذَلِكَ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ تَدْمَى بَعْدُ مِنْ فِعْلِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُلْحَقُ بِرَقَبَتِهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ تَسْتَحِقُّ فِيهِ الْحُرَّةُ الصَّدَاقَ بِيَمِينِهَا فَإِنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَلَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِ الْعَبْدِ عِنْدِي وَذَلِكَ أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ إنَّمَا يُقْبَلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ مِنْ الْحُدُودِ بِجَسَدِهِ فَأَمَّا فِيمَا يُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِ سَيِّدِهِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ ذِمِّيًّا فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ: إنْ أَكْرَهَهَا قُتِلَ كَنَقْضِ الْعَهْدِ فِي الْمُحْصَنَاتِ الْمُسْلِمَاتِ وَقَالَهُ اللَّيْثُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَقَدْ قَتَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذِمِّيًّا اسْتَكْرَهَ مُسْلِمَةً.
وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ إذَا اغْتَصَبَ النَّصْرَانِيُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً قُتِلَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ إنْ اغْتَصَبَهَا صُلِبَ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اغْتِصَابَهُ الْمُسْلِمَةَ وَتَغَلُّبَهُ عَلَيْهَا نَقْضٌ لِلْعَهْدِ وَتَغْلِيظٌ لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ.
(فَرْعٌ) وَبِمَاذَا يَثْبُتُ اغْتِصَابُهُ قَالَ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَقَدْ كَانَ يَقُولُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى هَذَا وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ وَجْهُ اعْتِبَارِ الْأَرْبَعَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ سَحْنُونٌ مِنْ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْوَطْءِ وَلَا يَثْبُتُ الْوَطْءُ إلَّا بِأَرْبَعَةٍ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْإِكْرَاهِ وَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِكْرَاهُ لَمْ يَجِبْ الْقَتْلُ وَالْإِكْرَاهُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ تُحَدُّ هِيَ وَيُنَكَّلُ هُوَ وَالنَّكَالُ فِي هَذَا مِثْلُ ضِعْفَيْ الْحَدِّ وَأَكْثَرَ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: يُجْلَدُ جَلْدًا يَمُوتُ مِنْهُ، وَإِنْ اسْتَكْرَهَ أَمَةً مُسْلِمَةً قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهَا لَمْ أَقْتُلْهُ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ لِمَا جَاءَ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: وَعَلَيْهِ فِي الْأَمَةِ مَا نَقَصَهَا فِي الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْحَدِّ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ يُرَدُّ إلَى أَهْلِ ذِمَّتِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا عُقِدَتْ لَهُمْ الذِّمَّةُ لِتُنَفَّذَ بَيْنَهُمْ أَحْكَامَهُمْ
(5/271)
الْقَضَاءُ فِي اسْتِهْلَاكِ الْحَيَوَانِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِ (ص) : (قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعَتْ مَالِكًا يَقُولُ الْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْخَذَ بِمِثْلِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ صَاحِبَهُ فِيمَا اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ اسْتِهْلَاكِهِ الْقِيمَةَ أَعْدَلَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَشَرَائِعَهُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَتَقَرَّرَ هَذَا فِي الْحُدُودِ مُسْتَوْعَبًا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
[الْقَضَاءُ فِي اسْتِهْلَاكِ الْحَيَوَانِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِ]
(ش) : وَهَذَا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ: إنَّ مَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ إنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْعُرُوض، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَلَا مَعْدُودٍ وَمَعْنَى قَوْلِنَا مَعْدُودٍ أَنْ تَسْتَوِيَ آحَادُ جُمْلَتِهِ فِي الصِّفَةِ غَالِبًا كَالْبَيْضِ وَالْجَوْزِ كَمَا تَسْتَوِي حُبُوبُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ مِنْ الْمَكِيلِ وَآحَادِ الْعِنَبِ الْمَوْزُونِ، وَأَمَّا جُمْلَةُ الْحَيَوَانِ مِنْ الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ، وَإِنْ اسْتَوَى عَدَدًا فَإِنَّ آحَادَ جُمْلَتِهِ لَا تَسْتَوِي بَلْ تَتَبَايَنُ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَدَدًا مِنْ جُمْلَةِ الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ تَعْيِينُهَا دُونَ خِيَارٍ يَثْبُتُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَرْطٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّعْيِينِ غَيْرُ ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَأَمَّا الرَّقِيقُ وَالثِّيَابُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهَا عَدَدًا مِنْ الْجُمْلَةِ إلَّا بِالتَّعْيِينِ أَوْ شَرْطِ الْخِيَارِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ بِمَعْنَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ فَيَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي بِالْقِسْمَةِ عَلَى الْقِيمَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَلَا يُعْتَدُّ لَهُ فِي الْقِسْمَةِ مِنْ جِهَةِ أَعْيَانِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ لَهُ مِنْ جِهَةِ قِيمَتِهِ وَالْمَكِيلُ وَالْمَعْدُودُ وَالْمَوْزُونُ إنَّمَا يُقْسَمُ بِمَا يُعْتَبَرُ بِهِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهِ دُونَ قِيمَتِهِ فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَلَا مَعْدُودٍ مَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْهُ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ مِثْلَهُ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ شُيُوخِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ» وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْقِيمَةَ أَعْدَلُ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ صِفَاتِهِ، وَلَا يَكَادُ يَجِدُ مِثْلَ مَا أَتْلَفَ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَيْضًا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ الْجُزَافُ فِي عَدَدِ مَبِيعِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِإِتْلَافِهِ الْمِثْلُ كَالدُّورِ، وَقَدْ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ مَنْ لَمْ يُمْعِنْ النَّظَرَ بِحَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فَكَسَرَتْ الْقَصْعَةَ» وَقَدْ كَانَ احْتَجَّ بِهِ عَلَى بَعْضِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا ثُمَّ رَأَيْت غَيْرَهُ قَدْ أَدْخَلَهُ فِي تَأْلِيفِهِ فَخِفْت أَنْ يَكُونَ قَدْ ذَهَبَ عَلَيْهِ وَجْهُ تَأْوِيلِهِ فَلِذَلِكَ أَوْرَدْتُهُ وَأَوْرَدْتُ بَعْضَ مَا كُنْتُ جَاوَبْتُ بِهِ عَنْهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتُهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِيهِ لَهُ لَا سِيَّمَا مِمَّا يُسْتَخْدَمُ وَيُسْتَعْمَلُ، وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ الَّذِي وَرَدَتْ مِنْهُ الْهَدِيَّةُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقَصْعَتَانِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنَّهُ أَرْسَلَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ إلَى بَيْتِ الَّتِي أَرْسَلَتْ بِقَصْعَتِهَا صَحِيحَةً وَأَبْقَى الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْهَا تُشَعِّبُهَا وَتَنْتَفِعُ بِهَا بَدَلًا مِنْ الصَّحْفَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهَا وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَصْعَتَيْنِ لِلْمَرْأَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ إذَا اتَّفَقَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الرِّضَا بِهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ مَا قُلْنَاهُ مِنْ الْقِيمَةِ إذَا أَبَيَا ذَلِكَ أَوْ أَبَاهُ أَحَدُهُمَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى ذَلِكَ سَدَادًا فِي الْأَمْرِ فَرَضِيَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، وَانْتَقَلَ إلَى الْأُخْرَى فَرَضِيَتْهُ، وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا أَبَتْ ذَلِكَ فَحَكَمَ بِهِ فَالْحَدِيثُ لَا يَتَنَاوَلُ مَوْضِعَ الْخِلَافِ بِوَجْهٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَاسْتِهْلَاكُ الْحَيَوَانِ
(5/272)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَالْعُرُوضِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْجُمْلَةَ وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْبَعْضَ وَاسْتِهْلَاكُ الْكُلِّ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ غَصْبٌ أَوْ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ غَصْبٌ فَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ غَصْبٌ فَإِنَّ الضَّمَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْغَصْبِ دُونَ الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ الْغَصْبُ لَضَمِنَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِيمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَمَاتَ مِنْ وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ بِتَعَدِّيهِ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيمَنْ غَصَبَ دَارًا فَلَمْ يَسْكُنْهَا حَتَّى انْهَدَمَتْ أَنَّهُ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ مَا لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ كَالْأَرْضِينَ وَالْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ أَنَّ هَذَا مَعْنَى يُضْمَنُ بِهِ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ فَضُمِنَ بِهِ مَا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْإِتْلَافِ وَالِاسْتِهْلَاكِ.
وَقَالَهُ أَشْهَبُ، وَإِنْ هَلَكَ بِأَمْرٍ مِنْ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَصْبَ تَعَدٍّ يَضْمَنُ بِهِ الْغَاصِبُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَا غَصَبَ وَيُسَلِّمَهُ إلَى صَاحِبِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَفَاتَهُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ إنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ غَصَبَ أُمَّ وَلَدِ رَجُلٍ فَمَاتَتْ عِنْدَهُ فَفِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا عَلَى أَنَّهَا أَمَةٌ لَا عِتْقٌ فِيهَا،.
وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ لَا يَضْمَنُ وَيَضْمَنُ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ وَجْهُ الْقَوْلِ أَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ بِالرِّقِّ فَضُمِنَتْ بِالْغَصْبِ كَالْأَمَةِ؛ وَلِأَنَّ ابْنَهَا لَهُ حُكْمُهَا وَقَدْ جَمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فَكَذَلِكَ الْأُمُّ وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا يَصِحُّ بَيْعُهَا بِوَجْهٍ وَلَا تُسَلَّمُ فِي جِنَايَةٍ فَلَمْ يَضْمَنْهَا بِالْغَصْبِ كَالْحُرَّةِ وَفَرَّقَ بَيْنَ أُمِّ الْوَلَدِ وَبَيْنَ وَلَدِهَا بِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُسَلَّمُ فِي الْجِنَايَةِ وَلَا تُسْتَخْدَمُ وَوَلَدُهَا يُسْتَخْدَمُ وَيُسَلَّمُ فِي الْجِنَايَةِ، فَالْغَاصِبُ لَهُ قَدْ حَبَسَ مَنَافِعَهُ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَإِنْ أَدْرَكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ عَيْنَ مَالِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ لَا يَدْخُلَهُ تَغْيِيرٌ أَوْ يَدْخُلَهُ تَغْيِيرٌ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهُ تَغْيِيرٌ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَيْنُ مَالِهِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ضَمَانِهِ تَغْيِيرُ الْأَسْوَاقِ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِنُقْصَانٍ وَلَا طُولِ مُدَّةٍ، وَإِنْ كَانَتْ سِنِينَ كَثِيرَةً رَوَاهُ فِي الْمَجْمُوعَةِ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَإِنَّ تَغَيُّرَ الْأَسْوَاقِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَيَوَانٍ وَلَا غَيْرِهِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حَوَالَةَ الْأَسْوَاقِ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي عَيْنِ مَا غَصَبَهُ الْغَاصِبُ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي ضَمَانِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي بَلَدٍ فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَفِي الْمَجْمُوعَةِ مِنْ رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبِيدَ وَالدَّوَابَّ حَيْثُ وَجَدَهُمْ لَيْسَ لَهُ إلَّا ذَلِكَ.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ: إنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ حَيْثُ وَجَدَهُ أَوْ يَأْخُذَ قِيمَتَهُ مِنْهُ حَيْثُ غَصَبَهُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَنْتَقِلُ غَالِبًا بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ عَلَى النَّاقِلِ فَلَا مَضَرَّةَ فِي ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَمَوَّنْ فِي نَقْلِهِ إلَّا مَا كَانَ يُتَمَوَّنُ فِي مَقَامِهِ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُهُ لَا مَضَرَّةَ عَلَيْهِ فِي رَدِّهِ وَلَا مُؤْنَتِهِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ وَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ نُقِلَ فَثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ كَالْعُرُوضِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا الْبَزُّ وَالْعُرُوضُ فَرَبُّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهِ بِعَيْنِهِ أَوْ قِيمَتِهِ حَيْثُ غَصَبَهُ وَقَالَهُ أَشْهَبُ قَالَ سَحْنُونٌ: الْبَزُّ وَالرَّقِيقُ سَوَاءٌ إنَّمَا لَهُ أَخْذُهُ حَيْثُ وَجَدَهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي يَدَيْهِ وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ قَدْ يَنْقُصُهُ نَقْلُهُ مِنْ بَلَدِ الْغَصْبِ إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ فَكَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْقِيمَةِ وَوَجْهُ قَوْلِ سَحْنُونٍ مَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ أَنَّهُ نَقْصٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ فَلَمْ يُوجِبْ الْخِيَارَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ كَحَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ.
1 -
(فَرْعٌ) فَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ بِلَادِ الْغَصْبِ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ، وَلَا نَفَقَةَ وَلَا عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّهُ قَالَهُ أَصْبَغُ وَلِأَشْهَبَ نَحْوُهُ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِيمَنْ تَعَدَّى عَلَى خَشَبِ رَجُلٍ فَحَمَلَهُ مِنْ عَدْنٍ إلَى جَدَّةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ: فَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فَلِرَبِّ السِّلْعَةِ أَنْ يُكَلِّفَهُ رَدَّهُ إلَى عَدْنٍ أَوْ يَأْخُذَهُ حَيْثُ وَجَدَهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عَلَى صِفَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَخْذُهُ وَلَمَّا نَقَلَهُ عَنْ مَكَانِهِ الْغَاصِبُ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّهُ كَمَا لَوْ نَقَلَهُ إلَى مَكَان قَرِيبٍ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا تَغَيُّرُ الْبَدَنِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْأَمَةِ تَتَغَيَّرُ عِنْدَ
(5/273)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْغَاصِبِ تَغَيُّرًا يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا فَإِنَّ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا أَوْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَهَرَمُ الْجَارِيَةِ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَوْتٌ قَالَ أَشْهَبُ: سَوَاءٌ كَانَ مَا أَصَابَهَا مِنْ الْهَرَمِ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا مِثْلَ انْكِسَارِ الْيَدَيْنِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ لِصَاحِبِهَا أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ إنْ شَاءَ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا إذَا كَانَ مَا دَخَلَهَا مِنْ النَّقْصِ بِأَمْرٍ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا بِفِعْلِ الْغَاصِبِ، وَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ إلَّا أَخْذُهَا بِغَيْرِ أَرْشٍ أَوْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا وَمَا نَقَصَ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ لَمْ يَضْمَنْ مَا حَدَثَ بِانْفِرَادِهِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ بِضَمَانِ الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَا نَقَصَ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ فَهَلْ لَهُ أَخْذُ الْأَرْشِ فِيهِ خِلَافٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَوَّازِ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَهُ أَخْذُهَا نَاقِصَةً بِغَيْرِ أَرْشٍ أَوْ إسْلَامُهَا وَأَخْذُ قِيمَتِهَا يَوْمَ الْغَصْبِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ كَالْمُبْتَدَأَةِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْغَصْبِ وَلِذَلِكَ لَا يَضْمَنُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْغَصْبِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَقَدْ وَجَدْت لِسَحْنُونٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْجِنَايَةِ فِي الْعَمْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ اغْتَصَبَ وَدْيًا مِنْ النَّخْلِ أَوْ شَجَرًا صِغَارًا فَغَرَسَهَا فِي أَرْضِهِ فَكَبُرَتْ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ لِرَبِّهَا أَخْذُهَا، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ أَوْ الرَّقِيقُ يَكْبَرُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ إنَّمَا يَحْكُمُ بِقَلْعِ النَّخْلِ إذَا كَانَ مِمَّا يُعَلَّقُ إنْ قُلِعَتْ وَغُرِسَتْ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الرَّقِيقِ فَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَيْرُ حَيَوَانِهِ وَرَقِيقِهِ كَمَا لَوْ سَمُنَتْ وَأَمَّا النَّخْلُ وَالشَّجَرُ فَعِنْدِي أَنَّ الْغَاصِبَ إنْ كَانَ قَلَعَهَا وَقَدْ عَلِقَتْ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ شَجَرَهُ أَوْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ أَنْ تَعْلَقَ إنْ قَلَعَهَا وَغَرَسَهَا، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَخَذَهَا مَقْلُوعَةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيَوَانِ لَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لَهُ الْخِيَارُ فِي مَوْضِعِ النَّقْصِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ فِيمَنْ غَصَبَ خَمْرًا فَخَلَّلَهَا: فَلَيْسَ لِصَاحِبِهَا إلَّا أَخْذُهَا.
وَقَالَ أَشْهَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا ذِمِّيًّا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا أَوْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا خَمْرًا يَوْمَ الْغَصْبِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْخَمْرُ لِمُسْلِمٍ فَقَدْ زَادَتْ بِالتَّخَلُّلِ وَلَمْ تَنْقُصْ فِي حَقِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا عَيْنُ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لِذِمِّيٍّ فَقَدْ نَقَصَتْ فِي حَقِّهِ بِالتَّخْلِيلِ فَلِذَلِكَ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا غَابَ الْغَاصِبُ عَنْ الْجَارِيَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ وَطِئَهَا فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّ صَاحِبَهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا أَوْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا قَالَهُ مَالِكٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَسْنَا نَقُولُ ذَلِكَ فِي الرَّقِيقِ الْمَذْكُورِ، وَلَا فِي الدَّوَابِّ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى الْغَاصِبِ أَنْ يُصِيبَهَا، وَذَلِكَ يُنْقِصُ ثَمَنَهَا، وَقَالَ أَصْبَغُ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْجَارِيَةِ الرَّائِعَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْقِيمَةَ الْوَاجِبَةَ فِي الْغَصْبِ هِيَ قِيمَةُ السِّلْعَةِ يَوْمَ الْغَصْبِ سَوَاءٌ زَادَتْ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَوْ نَقَصَتْ قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَقَدْ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ فِيمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً صَغِيرَةً تُسَاوِي مِائَةً فَلَمَّا كَبُرَتْ وَصَارَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا مَاتَتْ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ قَالَ أَشْهَبُ فِيمَنْ جَرَحَ عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِينَارٍ فَمَاتَ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ: فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْجُرْحِ، وَهَذَا إذَا مَاتَتْ بِغَيْرِ فِعْلِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهَا إنْ مَاتَتْ بِسَبَبِهِ مِثْلَ أَنْ يَقْتُلَهَا وَقَدْ زَالَتْ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: لَا يَضْمَنُ إلَّا قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ: الْقَتْلُ فِعْلٌ ثَانٍ، وَقَالَ إنَّ لَهُ أَخْذَهُ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَتْلِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: وَلَوْ بَاعَهَا وَهِيَ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا قِيمَتُهَا يَوْمَ الْغَصْبِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ فَقَأَ الْغَاصِبُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَيْنَ الْجَارِيَةِ أَوْ قَطَعَ يَدَهَا فَلَيْسَ لِرَبِّهَا إلَّا قِيمَتُهَا يَوْمَ الْغَصْبِ أَوْ يَأْخُذُهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْمَجْمُوعَةِ وَغَيْرِ مَوْضِعٍ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَمَا نَقَصَهَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: يُرِيدُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ قَالَ سَحْنُونٌ: وَهَذَا خِلَافُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْقَتْلِ أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ فَيَأْخُذُهَا وَمِثْلَ قِيمَتِهَا أَوْ أَكْثَرَ فَيَأْخُذُ فِي الْيَدِ مَا لَا يَأْخُذُ فِي النَّفْسِ، وَإِنَّمَا لَهُ
(5/274)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
أَخْذُهَا نَاقِصَةً فَقَطْ أَوْ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْغَصْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقَتْلِ لِسَحْنُونٍ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي قَطْعِ الْيَدِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا إنَّ عَرَا الِاسْتِهْلَاكُ وَالتَّعَدِّي مِنْ الْغَصْبِ فَإِنَّمَا لَهُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الِاسْتِهْلَاكِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَجْمُوعَةِ فِيمَنْ تَعَدَّى فَوَطِئَ أَمَةَ رَجُلٍ وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ فَحَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ ثُمَّ قَامَ صَاحِبُهَا وَقِيمَتُهَا خَمْسُونَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوَطْءِ وَهِيَ فِي ضَمَانِهِ مِنْ يَوْمِئِذٍ وَعَلَيْهِ فِي الْغَصْبِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْغَصْبِ لَا يَنْظُرُ إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَصْبَ مَعْنًى تُضْمَنُ بِهِ فَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا حَدَثَ بَعْدَهُ، وَأَمَّا التَّعَدِّي فَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى حَالَيْ الضَّمَانِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِهِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَأَمَّا إنْ اسْتَهْلَكَ بَعْضَ الْعَيْنِ أَوْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا نَقْصًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا فَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَإِنَّ لِصَاحِبِهَا أَخْذَهَا وَقِيمَةَ مَا نَقَصَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهَا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ كَانَتْ جِنَايَتُهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا وَيُخَالِفُ ذَلِكَ الْغَاصِبُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِالْفَسَادِ الْيَسِيرِ لِتَقَدُّمِ الْغَصْبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ وَأَشْهَبُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: فِيمَنْ كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ قُمْقُمًا أَوْ شَقَّ ثَوْبًا أَوْ كَسَرَ سَرْجًا فَإِنَّ فِي النَّقْصِ الْكَثِيرِ قِيمَتَهُ وَفِي الْيَسِيرِ مَا نَقَصَهُ قَالَ أَشْهَبُ: بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: بَعْدَ رَفْوِهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ عِنْدِي مَا يَلِيقُ بِالثَّوْبِ مِنْ خِيَاطَتِهِ أَوْ رَفْوِهِ وَهَذَا عِنْدِي إذَا كَانَ الْيَسِيرُ لَا يَبْطُلُ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْحَيَوَانِ فَإِذَا بَطَلَتْ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ لَزِمَ الْجَانِيَ جَمِيعُ قِيمَتِهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ وَأَصْبَغَ فِي الَّذِي يَقْطَعُ ذَنَبَ فَرَسٍ أَوْ حِمَارٍ فَارِهٍ أَوْ بَغْلٍ مِمَّا يَرْكَبُ مِثْلَهُ ذَوُو الْهَيْئَاتِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ الْغَرَضَ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ وَسَوَّى بَيْنَ الْأُذُنِ وَالذَّنَبِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِمَا: إنَّمَا فِي ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَتْلَفَ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْعَيْنِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا كَمَا لَوْ أَتْلَفَ جَمِيعَهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ تَعَدَّى عَلَى شَاةٍ فَقَلَّ لَبَنُهَا فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ إنْ كَانَ عَظُمَ مَا يُرَادُ إلَيْهِ اللَّبَنُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا إنْ شَاءَ رَبُّهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَزِيرَةَ اللَّبَنِ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَا نَقَصَهَا، وَأَمَّا الْبَقَرَةُ وَالنَّاقَةُ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَا نَقَصَهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَزِيرَةَ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ غَيْرَ اللَّبَنِ وَقَالَهُ أَصْبَغُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِ غَيْرِهِ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ: إنَّ عَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ فَجَعَلَ قَطْعَ الْيَدِ أَوْ فَقْءَ الْعَيْنِ فِي حَيِّزِ الْيَسِيرِ.
وَقَالَ: وَأَمَّا قَطْعُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ فِي الْبَهَائِمِ فَيَبْطُلُ جَعْلُ مَنَافِعِهَا أَوْ جَمِيعِهَا أَنَّ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ، وَأَمَّا فَقْءُ الْعَيْنِ وَقَطْعُ الْأُذُنِ أَوْ الذَّنَبِ أَوْ كَسْرُهَا كَسْرًا يَنْجَبِرُ فِيهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا وَقَالَهُ مَالِكٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو الزِّنَادِ وَرَوَى فِي الْمَجْمُوعَةِ أَشْهَبُ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ فِي قَطْعِ يَدِ الْعَبْدِ وَفَقْءِ الْعَيْنِ: أَنَّ رَبَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ مَا نَقَصَهُ أَوْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ فَجَعَلَهُ فِي حَيِّزِ الْكَثِيرِ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَّرِفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ فِيمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَإِنْ كَانَ صَانِعًا وَعَظُمَ قَدْرُهُ لِصَنْعَتِهِ ضَمِنَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَانِعًا فَقِيمَةُ مَا نَقَصَهُ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا نَبِيلًا، وَأَمَّا فَقْءُ الْعَيْنِ فَفِيهِ مَا نَقَصَهُ، وَإِنْ كَانَ صَانِعًا.
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْفَسَادُ كَثِيرًا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ فِيمَنْ كَسَرَ قَصْعَةً أَوْ سَرْجًا أَوْ قُمْقُمًا أَوْ شَقَّ ثَوْبًا أَنَّ فِي النَّقْصِ الْكَثِيرِ قِيمَتَهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ أَوْ رِجْلَيْهِ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ.
وَقَالَهُ ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: إلَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ بَعْدَ الْعَمَى وَقَطْعِ
(5/275)
(ص) : (قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّمَا يَرُدُّ عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلَ طَعَامِهِ بِمَكِيلَتِهِ مِنْ صِنْفِهِ، وَإِنَّمَا الطَّعَامُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّمَا يَرُدُّ مِنْ الذَّهَبِ الذَّهَبَ وَمِنْ الْفِضَّةِ الْفِضَّةَ وَلَيْسَ الْحَيَوَانُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ فِي ذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ ذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ الْمَعْمُولُ بِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْيَدَيْنِ لَمْ تَذْهَبْ أَكْثَرُ مَنَافِعِهِ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ عَمْدًا أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ عَمْدًا خُيِّرَ رَبُّهُ بَيْنَ أَخْذِ مَا نَقَصَهُ أَوْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَهُ.
قَالَ أَشْهَبُ إذَا أَذْهَبَ قَطْعُ يَدِهِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرَ مَنَافِعِهِ فَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ إلَّا قِيمَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُذْهِبْ أَكْثَرَ مَنَافِعِهِ فَرَبُّهُ مُخَيَّرٌ كَمَا قَالَ مَالِكٌ فَعَلَى هَذَا يَتَنَوَّعُ الْفَسَادُ عِنْدَ مَالِكٍ نَوْعَيْنِ يَسِيرٌ يَجِبُ بِهِ مَا نَقَصَ وَلَيْسَ لَهُ تَضْمِينُهُ، وَكَثِيرٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ فَمَرَّةٌ قَالَ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْقِيمَةُ، وَهُوَ الَّذِي رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونَ فِيمَنْ قَطَعَ رِجْلَيْ عَبْدٍ أَوْ يَدَيْهِ أَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ كُلُّهَا وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَخْتَارَ إمْسَاكَهُ وَيَأْخُذَ مَا نَقَصَهُ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْعَبْدِ مِنْ عَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَمَرَّةً قَالَ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهِ وَمَا نَقَصَ أَوْ أَخْذِ قِيمَتِهِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَإِلَى هَذَا رَجَعَ مَالِكٌ فِي الْفَسَادِ الْكَثِيرِ وَيَتَنَوَّعُ الْفَسَادُ عَنْ أَشْهَبَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا يَسِيرٌ لَيْسَ إلَّا مَا نَقَصَ وَالثَّانِي أَنْ يَنْقُصَ الْكَثِيرُ وَلَا يَذْهَبُ أَكْثَرُ الْمَنَافِعِ فَهَذَا يَكُونُ صَاحِبُ السِّلْعَةِ مُخَيَّرًا عَلَى مَا ذُكِرَ، وَأَمَّا إذَا أَتْلَفَ أَكْثَرَ الْمَنَافِعِ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ إلَّا الْقِيمَةُ.
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ فِي الثَّوْبِ وَالْعَبْدِ إذَا كَانَ لَهُ تَضْمِينُهُ الْقِيمَةَ بِكَثْرَةِ الْفَسَادِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَأْخُذَ مَا نَقَصَهُ، وَإِنَّمَا لَهُ أَخْذُهُ بِحَالِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ يَلْزَمُهُ قِيمَةُ جَمِيعِهِ وَكَذَلِكَ ذَابِحُ الشَّاةِ فَلَيْسَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا لَحْمًا وَيَأْخُذَ مَا نَقَصَهَا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ عَنْ غَيْرِ الْعَيْنِ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ سِلْعَتَهُ وَبَعْضَ الْقِيمَةِ وَلَا يَأْخُذَ غَيْرَ الْقِيمَةِ إلَّا بِاجْتِمَاعٍ مِنْهُمَا عَلَى أَمْرٍ جَائِزٍ إلَّا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ السِّلْعَةِ أَنْ يَأْخُذَهَا نَاقِصَةً دُونَ شَيْءٍ فَذَلِكَ لَهُ، وَاحْتَجَّ أَشْهَبُ أَنَّهُ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ فِي الْيَسِيرِ كَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ فِي الْكَثِيرِ أَنْ يَأْخُذَ سِلْعَتَهُ وَمَا نَقَصَهُ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ: إنَّ مَنْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ تَعَدِّيًا فَإِنَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ فِي الْكَيْلِ وَالصِّفَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْكَيْلِ، وَكَذَلِكَ مَا يُوزَنُ وَيُعَدُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْلُومِ الْقَدْرِ فَإِنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ لِحَوْزِ صُبْرَتِهِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مِثْلَ مَا حُوِّزَ فِيهَا لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ عَنْ صُبْرَتِهِ حِنْطَةَ أَكْثَرَ مِنْهَا أَوْ أَقَلَّ فَيُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ فِي الطَّعَامِ.
(فَرْعٌ) وَهَذَا قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فَأَمَّا إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فَقَدْ رَوَى سَحْنُونٌ عَنْ أَشْهَبَ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِيمَنْ غَصَبَ صُبْرَةَ قَمْحٍ فَأَرَادَ الْغَاصِبُ أَنْ يُصَالِحَ مِنْهَا عَلَى كَيْلٍ مِنْ الْقَمْحِ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَلْزَمَ الْغَاصِبَ الْقِيمَةَ بِحُكْمٍ أَوْ صُلْحٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ كَيْلًا مِنْ الْقَمْحِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلِرَبِّهَا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا عِشْرُونَ إرْدَبًّا وَيَأْخُذَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُصَالِحَهُ مِنْ الْمَكِيلِ عَلَى مَا لَا شَكَّ فِيهِ يُرِيدُ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ حَقِّهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ غَصَبَ خَلْخَالًا فِضَّةً وَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ خَلَطَ قَمْحًا لِرَجُلٍ بِشَعِيرٍ لِغَيْرِهِ ضَمِنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ طَعَامِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أَتْلَفَ عَيْنَ طَعَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمَنَعَهُ الْوُصُولَ إلَى قَبْضِهِ.
(فَرْعٌ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَانِي مَالٌ بِيعَ الطَّعَامُ الْمَخْلُوطُ وَاشْتَرَى مِنْ ثَمَنِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ طَعَامِهِ قَالَهُ أَشْهَبُ قَالَ: فَإِنْ فَضُلَ شَيْءٌ فَلِلْجَانِي، وَإِنْ نَقَصَ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ صَاحِبَا الطَّعَامِ أَنْ يَتْرُكَا طَلَبَ الْجَانِي وَيَأْخُذَا الطَّعَامَ وَيَقْتَسِمَانِهِ بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ جَوَّزَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَاخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَشْتَرِكَانِ فِي الطَّعَامِ الْمُخْتَلَطِ أَحَدُهُمَا بِقِيمَةِ قَمْحِهِ وَالْآخَرُ بِقِيمَةِ شَعِيرِهِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِيهِ إلَّا عَلَى السَّوَاءِ إنْ كَانَتْ مَكِيلَةَ طَعَامِهِمَا سَوَاءٌ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى التَّفَاضُلِ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
(5/276)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
يُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَقَالَ سَحْنُونٌ لَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَتْرُكَاهُ لِلْغَاصِبِ وَيَأْخُذَا الطَّعَامَ الْمُخْتَلَطَ عَلَى التَّسَاوِي وَلَا عَلَى الْقِيمَةِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ خَلَطَ زَيْتًا بِسَمْنٍ أَوْ سَمْنَ بَقَرٍ بِسَمْنِ غَنَمٍ يَضْمَنُ مَا ضَاعَ مِنْهُ وَمَا بَقِيَ وَلَوْ خَلَطَ نَوْعًا وَاحِدًا كَزَيْتٍ بِزَيْتٍ أَوْ سَمْنًا بِعَسَلٍ أَوْ بِزَيْتٍ أَوْ سَمْنًا بِسَمْنٍ فَضَاعَ بَعْضُهُ ضَمِنَ مَا ضَاعَ وَمَا بَقِيَ وَلِصَاحِبَيْ ذَلِكَ أَنْ يَقْتَسِمَاهُ بِشَطْرَيْنِ أَوْ يَدَعَاهُ وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسَيْنِ كَالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ فَلَهُمَا أَنْ يَصْطَلِحَا فِيهِ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمَا بَاعَ ثُلُثَ سَمْنِهِ بِثُلُثَيْ عَسَلِ صَاحِبِهِ قَالَ ذَلِكَ أَشْهَبُ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ خَلْطَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ جِنَايَةٌ عَلَى مَنْ خَلَطَ مَالَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ لَا سِيَّمَا أَنَّ التَّسَاوِيَ الْمُحَقَّقَ فِي الْأَغْلَبِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ فَإِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْنَهُمَا التَّفَاضُلُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتَسِمَاهُ عِنْدَ أَشْهَبَ إلَّا عَلَى التَّسَاوِي؛ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ يَحْرُمُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَا مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَالْعَسَلِ وَالسَّمْنِ جَازَ أَنْ يَقْتَسِمَاهُ عَلَى مَا يَتَرَاضَيَانِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِمَا غَيْرُ مَمْنُوعٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٍ فِي مِثْلِ هَذَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَمَّا مَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ فِيمَنْ خَلَطَ جَوْزَ رَجُلٍ بِحِنْطَةِ آخَرَ: إنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِ ذَلِكَ بِلَا مَضَرَّةٍ عَلَى الْقَمْحِ وَالْجَوْزِ قَالَ: وَكَذَلِكَ خَلْطُ الْجَوْزِ بِالرُّمَّانِ وَالرُّمَّانِ بِالْأُتْرُجِّ وَالتُّفَّاحِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَلْطُهُمَا يُفْسِدُ أَحَدَهُمَا فَيَضْمَنُ الَّذِي يَفْسُدُ بِالْخَلْطِ، وَإِنْ كَانَ يَفْسُدَانِ بِذَلِكَ ضَمِنَهُمَا، وَلَوْ تَلِفَا قَبْلَ الْفَسَادِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: كَيْفَ يَضْمَنُهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْسُدَا، وَالْخَلْطُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلضَّمَانِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُهُ الْفَسَادُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ غَصَبَ قَمْحًا فَطَحَنَهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: عَلَيْهِ مِثْلُهُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ فِي غَيْرِهَا: يَأْخُذُ صَاحِبُ الْقَمْحِ دَقِيقَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي طَحِينِهِ وَأَصْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي هَذَا مُخَالِفٌ لِأَصْلِ أَشْهَبَ وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: إنَّ الْغَاصِبَ إذَا صَنَعَ فِيمَا غَصَبَ صِنَاعَةً لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَدْفَعَ إلَى الْغَاصِبِ قِيمَةَ تِلْكَ الصِّنَاعَةِ، وَإِلَّا ضَمَّنَهُ مَا غَصَبَهُ إيَّاهُ فَإِنْ كَانَ ثَوْبًا صَبَغَهُ الْغَاصِبُ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ قِيمَةَ صَبْغِهِ أَوْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ فَكَذَلِكَ يَدْفَعُ إلَيْهِ قِيمَةَ صِنَاعَتِهِ أَوْ يَأْخُذُ مِنْهُ مِثْلَ مَا لَهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّهَا حِنْطَةٌ وَدَرَاهِمُ بِدَقِيقٍ وَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا التَّفَاضُلُ وَأَشْهَبُ يَقُولُ: إنَّ مَا يَصْنَعَهُ الْغَاصِبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَبْطُلُ وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ وَلَا يُعْطِيهِ قِيمَةَ الصَّبْغِ وَيَأْخُذَ الْحِنْطَةَ وَلَا يُعْطِيهِ قِيمَةَ الطَّحْنِ.
وَاتَّفَقَا فِي الْمَجْمُوعَةِ عَلَى أَنَّهُ مَنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا سَوِيقًا وَلَتَّهُ فَلَيْسَ لِرَبِّهَا أَخْذُ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْغَاصِبِ مَالٌ بِيعَ السَّوِيقُ فَاشْتَرَى مِنْ ثَمَنِهِ مِثْلَ الْحِنْطَةِ فَمَا فَضَلَ فَلِلْغَاصِبِ وَمَا نَقَصَ اتَّبَعَ بِهِ قَالَ أَشْهَبُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الثَّوْبُ يُصْبَغُ وَالثَّوْبُ يُقْطَعُ وَالْعَمُودُ يَدْخُلُ فِي الْبُنْيَانِ؛ لِأَنَّ اسْمَ ذَلِكَ قَائِمٌ بَعْدُ، وَاسْمُ الْقَمْحِ قَدْ زَالَ وَانْتَقَلَ إلَى اسْمِ السَّوِيقِ قَالَ سَحْنُونٌ: كُلُّ مَا غُيِّرَ حَتَّى يَصِيرَ لَهُ اسْمٌ غَيْرَ اسْمِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ وَهُوَ فَوْتٌ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّ لِرَبِّ الْحِنْطَةِ أَنْ يَأْخُذَهَا إذَا طَحَنَهَا الْغَاصِبُ سَوِيقًا أَوْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَهَا وَلَا حُجَّةَ لِلْغَاصِبِ فِي الصَّنْعَةِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» وَاتَّفَقَ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَجَعَلَهُ ظِهَارَةً أَوْ بِطَانَةً لِجُبَّةٍ أَوْ جَعَلَهُ قَلَانِسَ فَإِنَّ لِرَبِّهِ فَتْقَهُ وَأَخْذَهُ أَوْ أَخْذَ قِيمَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عِنْدَ أَشْهَبَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ اسْمِهِ وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لَيْسَ فِيهِ غَيْرُ صِنَاعَةٍ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَتُهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ غَصَبَ عَمُودًا أَوْ خَشَبَةً فَأَدْخَلَهَا فِي بُنْيَانِهِ فَإِنَّ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا، وَإِنْ خَرِبَ الْبُنْيَانُ قَالَهُ مَالِكٌ وَأَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ عَمِلَ الْخَشَبَةَ بَابًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ قَالَ مَالِكٌ: لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُعِيدَهُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ قَدْ انْتَقَلَ عَنْ اسْمِ الْخَشَبَةِ إلَى اسْمِ الْبَابِ، وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْبَابِ دُونَ غُرْمِ قِيمَةِ الصَّنْعَةِ وَلَا أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيَدْفَعَ قِيمَةَ الصَّنْعَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَالَ إلَى غَيْرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَالَ: وَكَذَلِكَ
(5/277)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
الْحِنْطَةُ تُتَّخَذُ خُبْزًا وَالْجِلْدُ خِفَافًا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ غَصَبَ فِضَّةً فَصَاغَهَا حُلِيًّا أَوْ ضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ فَصَاغَهَا حُلِيًّا أَوْ غَصَبَ حُلِيًّا فَكَسَرَهُ وَصَاغَ مِنْهُ حُلِيًّا آخَرَ يُخَالِفُهُ أَوْ نُحَاسًا فَصَنَعَ مِنْهُ آنِيَةً أَوْ حَدِيدًا فَصَنَعَ مِنْهُ سُيُوفًا أَوْ آنِيَةً فَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ هَذَا أَخْذُ ذَلِكَ وَلَهُ مِثْلُ وَزْنِ فِضَّتِهِ وَنُحَاسِهِ وَحَدِيدِهِ وَمِثْلُ دَرَاهِمِهِ وَقِيمَةُ الْحُلِيِّ قَالَ أَشْهَبُ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَةَ الصَّنْعَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْفِضَّتَيْنِ وَلَا أَنْ يَذْهَبَ بِصَنْعَتِهِ بَاطِلًا وَلَيْسَ كَالْحِنْطَةِ يَطْحَنُهَا سَوِيقًا؛ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالسَّوِيقِ، وَإِنْ لَمْ يُلَتَّ جَائِزٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي السَّوِيقِ مَا يَجِبُ أَنْ يَتَفَاضَلَ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ فِيمَنْ غَصَبَ فِضَّةً فَصَاغَهَا حُلِيًّا أَنَّ لِرَبِّهَا أَخْذَهَا أَوْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ فِضَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِعَمَلِ ظَالِمٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ رَدُّهَا إلَى مَا كَانَتْ مَعَهُ عَلَيْهِ كَالْجِذْعِ وَالْحَجَرِ يَدْخُلُ فِي الْبُنْيَانِ وَهَذَا يُخَالِفُ صَبْغَ الثَّوْبِ وَطَحْنَ الْقَمْحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَهْلِكُ مِنْ أَحَدِهِمَا مَجْهُولَ الْعَدَدِ لَزِمَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمِثْلِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْوَزْنِ لَا يَكَادُ يُسْلَمُ فِيهِ مِنْ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الذَّهَبَيْنِ وَالْوَرِقَيْنِ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ بِاتِّفَاقٍ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ غَصَبَ كَتَّانًا مَغْزُولًا أَوْ مَنْقُوشًا فَغَزَلَهُ ثُمَّ نَسَجَهُ ثَوْبًا فَعَلَيْهِ مِثْلُ الْكَتَّانِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فَقِيمَتُهُ يَوْمَ اسْتِهْلَاكِهِ رَوَاهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: عَلَيْهِ قِيمَةُ الْغَزْلِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ عِنْدَ أَشْهَبَ قَدْ انْتَقَلَ إلَى اسْمٍ آخَرَ وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ قَدْ انْتَقَلَ إلَى جِنْسٍ آخَرَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا غَصَبَهُ مَعَ النَّسَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ وَجَدَ طَعَامَهُ بِغَيْرِ بِلَادِ الْغَصْبِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَنْ أَشْهَبَ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهِ وَأَخْذِ مِثْلِهِ فِي مَوْضِعِ الْغَصْبِ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ لَا أَعْرِفُ قَوْلَ أَشْهَبَ هَذَا، وَإِنَّمَا لَهُ أَخْذُهُ بِمِثْلِهِ فِي مَوْضِعِ الْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ رَوَى أَصْبَغُ عَنْ أَشْهَبَ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ، وَكُلُّ مَا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ قَالَ أَصْبَغُ: إنْ كَانَ الْبَلَدُ الْبَعِيدُ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا كَبَعْضِ الْأَرْيَافِ وَالْقُرَى وَيَحْمِلُ عَلَى الظَّالِمِ بَعْضَ الْحَمْلِ وَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ أَنَّ نَقْلَهُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ زِيَادَةٌ لَا غِبْنَ لَهَا فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صَاحِبَ الْحَقِّ مِنْ أَخْذِهِ حَقِّهِ، وَقَدْ وَجَدَهُ بِعَيْنِهِ أَوْ يَكُونُ نَقْصًا فِي الصِّفَةِ فَقَدْ رَضِيَ بِهَا وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْحَمْلَ زِيَادَةٌ فِي الطَّعَامِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطَى عَنْهَا عِوَضًا لِمَا يَدْخُلُ ذَلِكَ مِنْ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الطَّعَامَيْنِ الَّذِي وَجَبَ لَهُ بِالنَّقْلِ وَاَلَّذِي نَقَلَ وَلِذَلِكَ يُجْبَرُ صَاحِبُ الطَّعَامِ فِيهِمَا وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا الْمُسَامَحَةُ بِقَدْرِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْقِيمَةُ، وَإِذَا اخْتَارَهَا صَاحِبُ الطَّعَامِ عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ فَلَا يَرْفَعُ الطَّعَامَ الْمَنْقُولَ إلَى الْغَاصِبِ حَتَّى يَتَوَثَّقَ مِنْهُ قَالَ أَشْهَبُ: يُحَالُ بَيْنَ الْغَاصِبِ وَبَيْنَ الطَّعَامِ حَتَّى يُوَفَّى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ حَقَّهُ وَقَالَ أَصْبَغُ: يَتَوَثَّقُ لَهُ بِحَقِّهِ قَبْلَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَقَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ أَتْلَفَ عَسَلًا أَوْ سَمْنًا بِبَلَدٍ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ مِثْلَهُ فَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمِثْلِهِ، وَلَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ قِيمَتَهُ إلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى أَمْرٍ يَجُوزُ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: رَبُّ الطَّعَامِ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ صَبَرَ وَأَلْزَمَهُ الْمِثْلَ يَأْتِي بِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَلْزَمَهُ الْقِيمَةَ الْآنَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ: اُخْتُلِفَ فِي هَذَا كَمَا اُخْتُلِفَ فِي الْفَاكِهَةِ يُسْلَمُ فِيهَا فَيَنْقَضِي إبَّانُهَا وَقَدْ بَقِيَ بَعْضُهَا فَالصَّبْرُ حَتَّى يُؤْتِيَ بِالطَّعَامِ مِنْ هَذَا خَيْرٌ كَالصَّبْرِ حَتَّى يَأْتِيَ إبَّانُ الثَّمَرَةِ إلَى قَابِلٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَلْزَمُ الطَّالِبَ التَّأْخِيرُ فِيهِمَا.
وَقَالَ أَشْهَبُ يَرُدُّ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِهِ فِي السَّلَمِ وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ، وَقَالَ فِي الطَّعَامِ: يَأْخُذُ قِيمَةَ الطَّعَامِ إنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُؤَخِّرَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ عَلَى يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ الْأَمْرُ الْقَرِيبُ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا مِثْلُ طَعَامِهِ يَأْتِيهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ فِي تَأْخِيرِهِ
(5/278)
(ص) : (قَالَ يَحْيَى: وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ إذَا اسْتَوْدَعَ الرَّجُلُ مَالًا فَابْتَاعَ بِهِ لِنَفْسِهِ وَرَبِحَ فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الرِّبْحَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ إلَى صَاحِبِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
ضَرَرٌ أَوْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ فِي لُجِّ بَحْرٍ أَوْ سَفَرٍ بَعِيدٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيْثُ اسْتَهْلَكَهُ يَأْخُذُهُ بِهِ حَيْثُ لَقِيَهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا الطَّعَامُ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَرُدُّ مِنْ الذَّهَبِ الذَّهَبَ وَمِنْ الْفِضَّةِ الْفِضَّةَ وَذَلِكَ أَنَّ الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ لَا يَخْلُوَانِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْ الْقَدْرِ أَوْ غَيْرَ مَعْلُومَيْ الْقَدْرِ فَإِنْ كَانَتَا مَعْلُومَيْ الْقَدْرِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَصُوغٍ أَوْ مَصُوغًا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَصُوغٍ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ تِبْرًا أَوْ مَضْرُوبًا فَإِنَّ هَذَا فِيهِ الْمِثْلَ يَرُدُّ مِنْ الذَّهَبِ ذَهَبًا، وَمِنْ الْفِضَّةِ فِضَّةً فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِيهَا مَوْجُودٌ غَيْرُ مَعْدُومٍ، وَإِنَّمَا يَعْدِلُ إلَى الْقِيمَةِ إذَا عُدِمَ التَّمَاثُلُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِنْ كَانَ الذَّهَبُ أَوْ الْفِضَّةُ مَصُوغَيْنِ فَإِنَّ عَلَيْهِ قِيمَتَهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الصِّيَاغَةِ إنْ كَانَ الْمُسْتَهْلَكُ ذَهَبًا فَقِيمَتُهُ مِنْ الْفِضَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِضَّةً فَقِيمَتُهُ مِنْ الذَّهَبِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الصِّيَاغَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اُسْتُهْلِكَ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَالتَّمَاثُلَ مُتَعَذِّرٌ فِيهَا لَا سِيَّمَا مُرَاعَاةُ جِنْسِ فِضَّتِهَا؛ لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لَا تُضْرَبُ إلَّا بَعْدَ رَدِّهَا إلَى التَّمَاثُلِ فِي الْجِنْسِ، وَالتَّمَاثُلُ فِي السِّكَّةِ غَيْرُ مَعْدُومٍ، وَأَمَّا الصَّائِغُ فَلَا يَعْتَبِرُ فِي وُجُودِ مَا يَصُوغُهُ شَيْئًا بَلْ يَتَفَاوَتُ جَوْدَةُ مَا يُصَاغُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا التَّمَاثُلُ، وَكَذَلِكَ جِنْسُ مَا يُصَاغُ مِنْهُ يَبْعُدُ فِيهِ التَّمَاثُلُ فَلِذَلِكَ لَزِمَتْ فِيهِ الْقِيمَةُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ تَعَدَّى عَلَى سِوَارَيْنِ لِغَيْرِهِ فَهَشَّمَهُمَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ: عَلَيْهِ قِيمَةُ الصِّيَاغَةِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَلَيْسَ كَالْفَسَادِ الْفَاحِشِ فِي الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الصَّنْعَةَ.
وَقَالَ أَشْهَبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُوغَهُمَا لَهُ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيهِمَا وَفِي الْجِدَارِ يَهْدِمُهُ: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصُوغَهُمَا فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِمَا مَصُوغَيْنِ وَمَكْسُورَيْنِ وَلَا أُبَالِي قُوِّمَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: عَلَيْهِ قِيمَةُ مَا نَقَصَتْهُمَا الصَّنْعَةُ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ عَلَى الذَّهَبِ، وَإِنَّمَا تَعَدَّى عَلَى الصِّيَاغَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا؛ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ.
وَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُوغَهُمَا لَهُ؛ لِأَنَّ الصِّيَاغَةَ عِنْدَهُ مِمَّا لَهَا مِثْلٌ وَلِذَلِكَ قَالَ فِيمَنْ اسْتَهْلَكَهُمَا لَا أُلْزِمُهُ مِثْلَهُمَا؛ لِأَنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ذَهَبِهِ أَوْ أَقَلُّ وَفِي الْكَثِيرِ إنَّمَا يَصُوغُ ذَهَبَهُمَا نَفْسَهُ وَهَذَا الَّذِي قَالَ غَيْرُ مُتَخَلِّصٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِذَهَبٍ مِثْلِهِ وَيَصُوغَ مِثْلَ تِلْكَ الصِّنَاعَةِ وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْمَوَّازِ عَلَيْهِ مَا نَقَصَتْهُمَا الصِّيَاغَةُ أَنَّهُ نَقْصٌ طَرَأَ عَلَى الْحُلِيِّ لَا يُتَصَوَّرُ انْفِرَادُهُ دُونَهُ وَهُوَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ فَكَانَ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى ثَوْبٍ بِتَخْرِيقٍ.
(ش) : وَهَذَا عَلَى حَسَبِ مَا قَالَ إنَّ مَنْ تَجَرَ بِمَالٍ اُسْتُوْدِعَهُ فَرَبِحَ فِيهِ فَإِنَّ الرِّبْحَ لَهُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي جَوَازِ السَّلَفِ مِنْ الْوَدِيعَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُودِعِ فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مَعُونَتِهِ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ.
وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ تَرْكُ ذَلِكَ أَحَبُّ إلَيَّ وَقَدْ أَجَازَهُ بَعْضُ النَّاسِ فَرُوجِعَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِيهِ وَفَاءٌ وَأَشْهَدَ فَأَرْجُو أَنْ لَا بَأْسَ بِهِ وَوَجْهُ الْكَرَاهِيَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا إنَّمَا دَفَعَهَا إلَيْهِ؛ لِيَحْفَظَهَا لَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا وَلَا لِيَصْرِفَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا عَمَّا قَبَضَهَا عَلَيْهِ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ مَنْ اسْتَوْدَعَ مَالًا أَوْ بَعَثَ بِهِ مَعَهُ فَلَا أَرَى أَنْ يَتَّجِرَ بِهِ وَلَا أَنْ يُسَلِّفَهُ أَحَدًا وَلَا يُحَرِّكَهُ عَنْ حَالِهِ؛ لِأَنِّي أَخَافُ أَنْ يُفْلِسَ أَوْ يَمُوتَ فَيُتْلِفَ الْمَالُ وَيُضَيِّعَ أَمَانَتَهُ.
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ؛ فَإِنَّهُ لَا مَضَرَّةَ فِي انْتِفَاعِ الْمُودَعِ بِهَا إذَا رَدَّ مِثْلَهَا، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهَا وَيَتَمَسَّكَ بِهَا مَعَ بَقَاءِ أَعْيَانِهَا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا فِيمَا لَا يَتَعَيَّنُ فَأَمَّا مَا يَتَعَيَّنُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ مَا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ، وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ فَأَمَّا مَا لَهُ مِثْلٌ فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي الْمَنْعُ مِنْهُ وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرَى بِرَدِّ مِثْلِهِ إبَاحَةَ ذَلِكَ وَسَيَجِيءُ ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَأَمَّا مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَلَا شُبْهَةَ فِي الْمَنْعِ مِنْهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
1 -
(فَرْعٌ)
(5/279)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَإِنْ تَلِفَتْ الْوَدِيعَةُ بَعْدَ مَا تَسَلَّفَ مِنْهَا فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ لَا يَضْمَنُ إلَّا مَا تَسَلَّفَ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ إنْ اسْتَوْدَعَهَا مَصْرُورَةً فَحَلَّ صِرَارَهَا ثُمَّ تَسَلَّفَ مِنْهَا شَيْئًا ضَمِنَ جَمِيعَهَا تَلِفَتْ بَعْدَ أَنْ رَدَّ فِيهَا مَا تَسَلَّفَ أَوْ قَبْلَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَّهَا وَلَمْ يَتَسَلَّفْ مِنْهَا وَلَوْ أَوْدَعَهَا مَنْثُورَةً لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَ مَا تَسَلَّفَ مِنْهَا.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ اسْتَسْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَرَدَّهُ فَقَدْ قَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ: اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الَّذِي يُنْفِقُ مِنْ وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ ثُمَّ يَرُدُّ مَا أَنْفَقَ فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْثُورَةً أَوْ مَصْرُورَةً وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا لَا يَبْرَأُ، وَإِنْ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ وَبِهَذَا أَخَذَ الْمَدَنِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَرَوَاهُ الْمِصْرِيُّونَ وَلَمْ يَأْخُذُوا بِهِ وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ إذَا اسْتَوْدَعَهَا مَصْرُورَةً فَحَلَّ صِرَارَهَا ثُمَّ تَلِفَ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ الرَّدِّ ضَمِنَهُ، وَإِنْ اسْتَوْدَعَهَا مَنْثُورَةً ثُمَّ رَدَّ مَا تَسَلَّفَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ مَالِكٍ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَحَكَى ابْنُ الْمَاجِشُونَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاحْتَجَّ لِقَوْلِ مَالِكٍ بِأَنَّ الَّذِي أَوْجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ تَعَدِّيهِ بِالْأَخْذِ فَإِذَا رَدَّ مَا أَخَذَ فَقَدْ زَالَ التَّعَدِّي وَسَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ قَالَ؛ وَلِأَنَّهُ حَافِظٌ لَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَجْهُ قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ الْأَمَانَةِ بِأَخْذِهَا عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي فَرَدُّهُ إيَّاهَا لَا يُزِيلُ عَنْهُ الضَّمَانَ كَمَا لَوْ جَحَدَهَا ثُمَّ اعْتَرَفَ بِهَا.
(فَرْعٌ) إذَا قُلْنَا: إنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ بِالرَّدِّ فَإِنَّ ذَلِكَ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحِنْطَةِ وَالْعَسَلِ، وَكُلِّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ، وَأَمَّا فِيمَا يَلْزَمُ فِيهِ الْقِيمَةُ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ حَكَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ وَهُوَ مَعْنَى مَا قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ إنْ رَدَّ مِثْلَ الثِّيَابِ فِي الصِّفَةِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ لَمْ يُبْرِئْهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ مَنْ اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا فَقَدْ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مَكَانَهَا ثَوْبًا.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا يَبْرَأُ بِرَدِّ الْمِثْلِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِرَدِّ الْمِثْلِ بَرِئَ، وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ: فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى أَمَانَتِهِ كَادِّعَائِهِ التَّلَفَ وَالثَّانِيَةُ لَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ مَا تَسَلَّفَ قَدْ تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَشَارَ إلَى مَا رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُزَنِيَّة أَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ إنْ رَدَّهُ بِبَيِّنَةٍ بَرِئَ، وَإِلَّا لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ وَهْبٍ وَرَوَاهُ مُحَمَّدٌ بْنُ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ إنْ تَسَلَّفَهَا بِبَيِّنَةٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ تَسَلَّفَهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا قُلْنَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي رَدِّ ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ يَمِينًا وَقَالَ فِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ هُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ وَقَالَهُ أَشْهَبُ فِي كِتَابِهِ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ تَلِفَتْ وَلَمْ آخُذْ مِنْهَا شَيْئًا لَصُدِّقَ وَجْهُ الرِّوَايَةِ بِنَفْيِ الْيَمِينِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهَا يَمِينُ تُهْمَةٍ فَلَا يَلْزَمُ الْمُؤْتَمَنُ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَعَلَّقَ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يُصَدَّقْ فِي بَرَاءَتِهِ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَهَذَا إذَا تَسَلَّفَ مِنْهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا، وَأَمَّا مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَقِيلَ لَهُ تَسَلَّفْ مِنْهَا إنْ شِئْت فَتَسَلَّفَ مِنْهَا وَقَالَ رَدَدْتهَا فَقَدْ قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: لَا يُبْرِئُهُ رَدُّهُ إيَّاهَا إلَّا إلَى رَبِّهَا وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا قَالَ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ صَارَ هُوَ الْمُسَلِّفُ فَلَا يَبْرَأُ الْمُتَسَلِّفُ إلَّا بِرَدِّ ذَلِكَ إلَيْهِ وَعِنْدِي أَنَّهُ يَبْرَأُ بِرَدِّهَا إلَى الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ كَانَتْ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَسَلَّفَهَا فَإِذَا رَدَّهَا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُنَا: إنَّهُ إنْ ابْتَاعَ بِهِ لِنَفْسِهِ فَرَبِحَ فَالرِّبْحُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ يُرِيدُ إنْ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ عَيْنًا أَوْ غَيْرَ عَيْنٍ فَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ مَا ابْتَاعَ بِهِ لَهُ وَأَنَّ الرِّبْحَ فِي ذَلِكَ لَهُ وَالْخَسَارَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدِي مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالْغَصْبِ وَلِذَلِكَ قَالَ
(5/280)
الْقَضَاءُ فِيمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ (ص) : (يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا نَرَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» أَنَّهُ مِنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ مِثْلَ الزَّنَادِقَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ فَإِنَّ أُولَئِكَ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ قُتِلُوا وَلَمْ يُسْتَتَابُوا؛ لِأَنَّهُ لَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُمْ، وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسُرُّونَ الْكُفْرَ وَيُعْلِنُونَ الْإِسْلَامَ فَلَا أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ هَؤُلَاءِ، وَلَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ قَوْلُهُمْ وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ وَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا عَلَى ذَلِكَ رَأَيْتُ أَنْ يُدْعَوْا إلَى الْإِسْلَامِ وَيُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا قُتِلُوا وَلَمْ يَعْنِ بِذَلِكَ فِيمَا نَرَى - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَنْ خَرَجَ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ وَلَا مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ إلَى الْيَهُودِيَّةِ وَلَا مَنْ يُغَيِّرُ دِينَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إلَى الْإِسْلَامِ فَمَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ، وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي عُنِيَ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
إنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ طَعَامًا فَبَاعَهُ بِثَمَنٍ فَإِنَّ صَاحِبَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْضَاءِ الْبَيْعِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ أَوْ تَضْمِينِهِ مِثْلَ طَعَامِهِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالصِّفَةِ وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْمُودَعَ لَمْ يُبْطِلْ عَلَى الْمُودِعِ غَرَضَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا وَلَوْ كَانَتْ بِضَاعَةً أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا سِلْعَةً مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَاشْتَرَى بِهَا سِلْعَةً لِنَفْسِهِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِضَاعَةِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ مِثْلَ بِضَاعَتِهِ أَوْ يَأْخُذَ مَا اشْتَرَى بِهَا وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رَامَ أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ غَرَضَهُ مِنْ بِضَاعَتِهِ وَيَسْتَبِدَّ بِرِبْحِهَا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) وَابْتِيَاعُهُ لِنَفْسِهِ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي مِنْ شَرْطِهَا التَّنَاجُزُ فِي الْمَجْلِسِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ لَوْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ دَرَاهِمَ فَصَرَفَهَا بِدَنَانِيرَ أَوْ دَنَانِيرُ فَصَرَفَهَا بِدَرَاهِمَ لِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لِرَبِّهَا إلَّا مَا كَانَ لَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا صَرَفَهَا بِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْمُودِعُ، فَإِنْ صَرَفَهَا لِرَبِّهَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا صَرَفَهَا بِهِ، وَإِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ وَلَكِنْ يَصْرِفُ هَذِهِ إنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ بِمِثْلِ دَنَانِيرِهِ فَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَلِرَبِّهَا وَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ ضَمِنَهُ الْمُتَعَدِّي بِخِلَافِ التَّعَدِّي فِي الْعُرُوضِ الَّتِي يَكُونُ رَبُّهَا مُخَيَّرًا فِي التَّعَدِّي عَلَيْهِ وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا صَرَفَ الدَّرَاهِمَ لِنَفْسِهِ صَحَّ الصَّرْفُ فِيهَا، وَإِذَا صَرَفَهَا لِصَاحِبِهَا كَانَ بِالْخِيَارِ فَمَنَعَ ذَلِكَ صِحَّةَ الصَّرْفِ فَإِنْ فَاتَ بِإِنْكَارٍ مِنْ صَارِفِهِ أَوْ مَغِيبِهِ لَمْ يَحُلَّ لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ أَخْذُ عِوَضِهَا مِنْ الذَّهَبِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إمْضَاءٌ مِنْهُ لِصَرْفِ الْخِيَارِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَنَّ رِبْحَ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودِعِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَرَبِيعَةُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ لِلْمُودِعِ وَلَا لِلْمُودَعِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ اشْتَرَى بِذَلِكَ الْمَالِ بِعَيْنِهِ فَالرِّبْحُ لِصَاحِبِهِ، وَإِنْ اشْتَرَى بِمَالٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَقَضَى مِنْ الْوَدِيعَةِ فَالرِّبْحُ لِلْمُودِعِ وَجْهُ ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّهُ اغْتَصَبَ عَدَدًا مَا فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِهِ ثَوْبًا يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ فَلَبِسَهُ أَوْ وَهَبَهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ حَتَّى يُوَفِّيَهُ إلَى صَاحِبِهِ يُرِيدُ عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ أَوْ إلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامُهُ فِي الْقَبْضِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَدَّهُ إلَى الْوَدِيعَةِ فَقَدْ رَدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ تَنُوبُ عَنْ يَدِ صَاحِبِهِ فَإِذَا نَوَى رَدَّهُ وَوَجَدَ مِنْهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا يُتِمُّ بِهِ ذَلِكَ فَقَدْ رَدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْمَاجِشُونَ فِي الْمَصْرُوفِ لَا يَبْدَأُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْهُ أَوْ عَلَى رِوَايَةِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْهُ فِي إطْلَاقِ ذَلِكَ وَالْأَمْرُ أَبْيَنُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأُحْكَمُ.
[الْقَضَاءُ فِيمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ]
(ش) : قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ مَعْنَاهُ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْتَتَابُ فِيهِ كَالزَّنَادِقَةِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ
(5/281)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» يَعْنِي بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ فَإِنْ تَابَ تُرِكَ فَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْمُرْتَدِّ الْمُظْهِرِ لِارْتِدَادِهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو أَنْ يُسِرَّ كُفْرَهُ أَوْ يُظْهِرَهُ، فَإِنْ أَسَرَّهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى: مَنْ أَسَرَّ مِنْ الْكُفْرِ دِينًا خِلَافَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ مَنَانِيَّةً أَوْ غَيْرِهَا مِنْ صُنُوفِ الْكُفْرِ أَوْ عِبَادَةِ شَمْسٍ أَوْ قَمَرٍ أَوْ نُجُومٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَيْهِ فَلْيُقْتَلْ وَلَا تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَمَنْ أَظْهَرَ كُفْرَهُ مِنْ زَنْدَقَةٍ أَوْ كُفْرٍ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ.
وَرَوَى سَحْنُونٌ وَابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ وَلَا يُسْتَتَابُ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ قَالَ سَحْنُونٌ إنْ تَابَ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 84] {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْبَأْسُ هَاهُنَا السَّيْفُ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَاحْتَجَّ مَالِكٌ لِذَلِكَ بِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُعْرَفُ.
وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَمَّا كَانَ الزِّنْدِيقُ يُقْتَلُ عَلَى مَا أَسَرَّ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّ مَا يُظْهِرُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يُسِرُّ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ فَلَا عَلَامَةَ لَنَا عَلَى تَوْبَتِهِ، وَالْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ عَلَى مَا أَظْهَرَ فَإِذَا أَظْهَرَ تَوْبَتَهُ أَبْطَلَ بِهَا مَا أَظْهَرَ مِنْ الْكُفْرِ.
قَالَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاهَرَ بِالْفَسَادِ وَالسَّفَهِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَصَارَ إلَى الْعَدَالَةِ وَمَنْ شَهِدَ بِالْعَدَالَةِ وَشَهِدَ بِالزُّورِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ أَظْهَرَ الرُّجُوعَ عَمَّا ثَبَتَ عَلَيْهِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَإِذَا أَقَرَّ الزِّنْدِيقُ بِكُفْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ فَهَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَمْ لَا قَالَ أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَسَى أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ ذَلِكَ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ تَزَنْدَقَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَفِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبِ عَنْ مَالِكٍ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغَ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ دِينٌ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا أَعْلَمُ مَنْ قَالَهُ غَيْرُهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالزَّنْدَقَةِ هَاهُنَا الْخُرُوجَ إلَى غَيْرِ شَرِيعَةٍ مِثْلَ التَّعْطِيلِ وَمَذَاهِبِ الدَّهْرِيَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الِاسْتِسْرَارَ بِمَا خَرَجَ إلَيْهِ، وَالْإِظْهَارَ لِمَا خَرَجَ عَنْهُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
1 -
(فَرْعٌ) وَإِذَا أَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ الَّذِي تَزَنْدَقَ فَقَدْ رَوَى أَبُو زَيْدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَالْمُسْلِمِ يَتَزَنْدَقُ ثُمَّ يَتُوبُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ فَأَظْهَرَ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَرَوَى سَحْنُونٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ لَا بُدَّ أَنْ يُقْتَلَ، وَإِنْ تَابَ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ قَوْلُ اللَّهِ - تَعَالَى - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] وقَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25] وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حَدٌّ وَلَا حَقٌّ لِمَخْلُوقٍ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَا عُقُوبَةَ عَلَى الْمُرْتَدِّ إذَا تَابَ رَوَاهُ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا مُنْتَقِلٌ مِنْ كُفْرٍ إلَى إيمَانٍ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُفْرِ كَالنَّصْرَانِيِّ يُسْلِمُ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَيُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ تَابَ فِيهَا، وَإِلَّا قُتِلَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَلَهُ قَوْلٌ ثَانٍ يُسْتَتَابُ فِي الْحَالِ فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ وَقَدْ رَوَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَنْ مَالِكٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَ جُمَعٍ وَدَلِيلُنَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ
(5/282)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَسَأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ عُمَرُ هَلْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ فَقَالَ نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ قَالَ فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ قَالَ قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ فَقَالَ عُمَرُ أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ عُمَرُ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
مَنْ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ عُرِضَتْ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَيْسَ فِي اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ تَخْوِيفٌ وَلَا تَعْطِيشٌ فِي قَوْلِ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: يُخَوَّفُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ بِالْقَتْلِ وَيُذَكَّرُ الْإِسْلَامَ وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ هَذَا إكْرَاهٌ بِنَوْعٍ مِنْ الْعَذَابِ فَلَمْ يُؤْخَذْ بِهِ فِي مُدَّةِ الِاسْتِتَابَةِ كَالضَّرْبِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَالْعَبْدُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَهَذَا عَامٌّ وَمِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَبَبٌ يُقْتَلُ بِهِ الرَّجُلُ فَجَازَ أَنْ تُقْتَلَ بِهِ الْمَرْأَةُ كَالْقَتْلِ.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُرْتَدُّ مِمَّنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يُولَدْ عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ هُمْ سَوَاءٌ يُسْتَتَابُونَ كُلُّهُمْ فَإِنْ تَابُوا، وَإِلَّا قُتِلُوا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَى غَيْرِهِ فَكَانَ حُكْمُهُ مَا تَقَدَّمَ كَاَلَّذِي بَدَّلَهُ وَهُوَ عَلَى الْإِسْلَامِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَمَنْ كَانَ إسْلَامُهُ عَنْ ضِيقٍ أَوْ غُرْمٍ أَوْ خَوْفٍ ثُمَّ ارْتَدَّ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَهُ فِي ذَلِكَ عُذْرٌ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا عُذْرَ لَهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ ضِيقٍ وَقَالَ أَصْبَغُ قَوْلُ مَالِكٍ أَحَبُّ إلَيَّ إلَّا أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَهَابِ الْخَوْفِ فَهَذَا يُقْبَلُ وَأَنْكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَنْ ضِيقٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيُقْتَلُ إنْ رَجَعَ قَالَهُ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونَ عَنْ مَالِكٍ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ لَا حُكْمَ لَهُ وَهَذَا لَمَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كُرْهًا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُهُ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُ الرَّبِّ - تَعَالَى - {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إلَى {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5] فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَإِنْ دَخَلُوا الْإِسْلَامَ عَلَى ذَلِكَ ثَبَتَ لَهُمْ حُكْمُهُ.
(مَسْأَلَةٌ) :
فَإِذَا قُلْنَا لَا يُقْتَلُ عَلَى الرِّدَّةِ مَنْ أَسْلَمَ عَنْ ضِيقِ خَرَاجٍ أَوْ جِزْيَةٍ أَوْ مَخَافَةٍ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ: يُؤْمَرُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ وَيُحْبَسُ وَيُضْرَبُ فَإِنْ رَجَعَ، وَإِلَّا تُرِكَ، وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِسْلَامَ فَلِذَلِكَ نَدْعُوهُ إلَيْهِ وَنُشَدِّدُ عَلَيْهِ فِي مُرَاجَعَتِهِ وَلَا يَبْلُغُ الْقَتْلَ لِمَا ثَبَتَ مِنْ ظَاهِرِ أَمْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
(ش) : قَوْلُهُ: إنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَسَأَلَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَخْبَرَهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ مِنْ السُّؤَالِ عَمَّنْ غَابَ عَنْهُ مِنْ رَعِيَّتِهِ؛ لِيَعْرِفَ أَحْوَالَهُمْ وَيَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ الْوَارِدِ وَالصَّادِرِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَلَافِيَ مَا ضَاعَ مِنْهَا.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ هَلْ فِيكُمْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ سَأَلَهُ أَوَّلًا عَنْ الْمَعْهُودِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَمَا يَعُمُّهُمْ ثُمَّ سَأَلَهُ عَمَّا عَسَى أَنْ يَطْرَأَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُسْتَغْرَبُ وَلَيْسَتْ بِمُعْتَادَةٍ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ نَادِرًا عِنْدَهُمْ مِمَّا يُسْتَغْرَبُ وَلَا يَكَادُ يَسْمَعُ بِهِ وَلِذَلِكَ حَكَمَ فِيهِ أَبُو مُوسَى بِحُكْمٍ مُخَالِفٍ لِمَا يَرَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَلَوْ كَانَ أَمْرًا يَكْثُرُ وَيَتَكَرَّرُ لَكَانَ عِنْدَ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي ذَلِكَ عُمَرُ؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ مُوَافَقَةُ أَصْحَابِهِ فَيَشِيعُ ذَلِكَ أَوْ يَظْهَرُ مُخَالِفَةُ مَنْ أَخْطَأَ فَيَشِيعُ ذَلِكَ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ فَمَا فَعَلْتُمْ بِهِ بَحْثٌ عَنْ حُكْمِهِمْ فِيهِ وَتَعَرُّفٌ لَهُ؛ لِيَأْمُرَ بِاسْتِدَامَةِ الصَّوَابِ وَالْإِقْلَاعِ عَنْ الْخَطَأِ فَقَالَ قَدَّمْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِتَابَةً وَلَا غَيْرَهَا وَقَدْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقْتَلَ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ
(5/283)
الْقَضَاءُ فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا (ص) : (مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ السِّمَانِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَأَيْتَ إنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ» )
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَإِبَايَتِهِ مِنْ الْمُرَاجَعَةِ لَكِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهِمَ مِنْهُ تَرْكَ الِاسْتِتَابَةِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى قَتْلِهِ بِنَفْسِ كُفْرِهِ.
وَقَدْ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى وُجُوبِ اسْتِتَابَتِهِ قَوْلُ عُمَرَ هَذَا، وَأَنْ لَا مُخَالِفَ لَهُ وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَحْمِلَ فِعْلَ أَبِي مُوسَى عَلَى أَنَّهُ قَتَلَ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ وَلَعَلَّ النَّاقِلَ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا، وَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ مِمَّنْ وَافَقَهُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِلَّا فَأَبُو مُوسَى وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ.
1 -
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ أَفَلَا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّلَاثَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] ؛ وَلِأَنَّ الثَّلَاثَ قَدْ جُعِلَتْ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ فِي اعْتِبَارِ مَعَانٍ وَاخْتِيَارُهَا فِي الْمُصَرَّاةِ وَفِي اسْتِظْهَارِ الْمُسْتَحَاضَةِ وَعَهْدَةِ الرَّقِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي، وَإِطْعَامُهُ الرَّغِيفَ كُلَّ يَوْمٍ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يُوَسِّعَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ تَوْسِعَةً يَكُونُ فِيهَا إحْسَانٌ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُعْطَى مَا يَبْقَى بِهِ رَمَقُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَضِرُّ بِهِ وَلَا يَكُونُ مِنْهُ تَعْذِيبٌ لَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْمُزَنِيَّة عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ فِي أَنْ يُطْعَمَ الْمُرْتَدُّ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَلَكِنْ يُطْعَمُ مَا يَكْفِيهِ وَيَقُوتُهُ وَلَا يَجُوعُ، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مِنْ مَالِهِ قَالَ ابْنُ مُزَيْنٍ: يَعْنِي فِي غَيْرِ تَوَسُّعٍ وَلَا تَفَكُّهٍ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: يَقُوتُ مِنْ الطَّعَامِ بِمَا لَا يَضُرُّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِقَوْلِهِ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى قَوْلِ عُمَرَ يُطْعَمُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا بِمَعْنَى أَنْ لَا يَجْعَلَ ذَلِكَ حَدًّا وَلَمْ يُرِدْ عُمَرُ أَنْ يَجْعَلَهُ حَدًّا، وَإِنَّمَا أَشَارَ إلَى قِلَّةِ مُؤْنَتِهِ وَيَسَارَةِ وِرَاثَتِهِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيُرَاجِعُ أَمَرَ اللَّهِ - تَعَالَى - يُرِيدُ بِهِ الرُّجُوعَ إلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ لَا يُسْتَتَابُ وَلَا يُعْرَضُ لَهُ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» يُرِيدُ الدِّينَ الَّذِي رَضِيَهُ اللَّهُ وَدَعَا إلَيْهِ، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ مِلَّةِ الْكُفْرِ إلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يُغَيِّرْ بِذَلِكَ دِينَهُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ قَالَ مَالِكٌ: سَوَاءٌ خَرَجَ إلَى دِينِ مَجُوسٍ أَوْ كِتَابٍ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ وَلَمْ آمُرْ وَلَمْ أَرْضَ إذَا بَلَغَنِي تَبَرُّؤٌ مِنْ الْأَمْرِ وَتَصْرِيحٌ بِخَطَأِ فَاعِلِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِنَصٍّ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ إجْمَاعٍ بَعْدَهُ.
وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَتَابَ أَهْلَ الرِّدَّةِ.
وَقَدْ رَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الصِّدِّيقَ اسْتَتَابَ أُمَّ قِرْفَةَ إذْ ارْتَدَّتْ فَقَتَلَهَا فَلَعَلَّهُ قَدْ عَلِمَ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَفَعَلَ أَبُو مُوسَى غَيْرَ ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ، وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ أَبُو مُوسَى مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَحَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا إجْمَاعَ لِغَيْرِ مَا يَرَاهُ عُمَرُ لَمْ يَبْلُغْ عُمَرُ مِنْ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدَّ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لِأَبِي مُوسَى ذَلِكَ لِمَا جَازَ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْحُكْمَ حَتَّى يُطَالِعَهُ عَلَى قَضِيَّتِهِ، وَفِي هَذَا مِنْ فَسَادِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَتَوَقُّفِ الْأَحْكَامِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
[الْقَضَاءُ فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا]
(ش) : قَوْلُهُ «أَرَأَيْتَ إنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ» عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَامِ مِنْ قِبَلِهِ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُبَادَةَ كَانَ يَقُولُ إنْ وَجَدَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ
(5/284)
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ خَيْبَرَى وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ قَتَلَهُمَا فَأَشْكَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْقَضَاءُ فِيهِ فَكَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَسْأَلُ لَهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا هُوَ بِأَرْضِي عَزَمْت عَلَيْك لَتُخْبِرُنِي فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى كَتَبَ إلَيَّ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَسْأَلُك عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلِيٌّ أَنَا أَبُو حَسَنٍ إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[المنتقى]
وَيَضْرِبُهُ بِسَيْفٍ غَيْرِ مُصَفَّحٍ فَأَتَى هَذَا الْقَوْلُ عَلَى سَبِيلِ الْحُجَّةِ لِيُخْبِرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ شِدَّةِ غِيرَتِهِ وَالْإِظْهَارِ لِعُذْرِهِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَمْ عَلَى مَعْنَى الْمَنْعِ لَهُ مِنْ قَتْلِهِ وَأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ وَيَصْرِفَهُ عَنْ مَنْزِلِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَخْلِيَتُهُ مَعَهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمَنْعِ لَهُ مِنْ قَتْلِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ فِعْلِهِ.
(ص) : (مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ خَيْبَرَى وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ قَتَلَهُمَا فَأَشْكَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الْقَضَاءُ فِيهِ فَكَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَسْأَلُ لَهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا هُوَ بِأَرْضِي عَزَمْت عَلَيْك لَتُخْبِرُنِي فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى كَتَبَ إلَيَّ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَسْأَلُك عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلِيٌّ أَنَا أَبُو حَسَنٍ إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ) .
(ش) : قَوْلُهُ: إنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ قَتَلَهُمَا ثُمَّ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ أَوْ اعْتَرَفَ بِهِ فَأَشْكَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ الْقَضَاءُ فِي ذَلِكَ، وَكَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ يَسْأَلُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ وَتَوَقُّفِهِ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ وَسُؤَالُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ يَثِقُ بِعِلْمِهِ وَيَتَسَبَّبُ إلَيْهِ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْئُولُ مُنَابِذًا لَهُ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا هُوَ بِأَرْضِي يُرِيدُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَبَلَغَهُ خَبَرُهُ وَتَقَدَّمَ الِاسْتِعْدَاءُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ لَا سِيَّمَا، وَهُوَ مِمَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ حُكْمُ شَهِيرٌ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ أَرَادَ الْحُكْمَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي مُوسَى: عَزَمْت عَلَيْك لَتُخْبِرُنِي عَلَى مَعْنَى تَبْيِينِ الْقِصَّةِ وَالْبَحْثِ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يُمْكِنُ وَرُبَّمَا احْتَاجَ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَمَلِهِ إلَى أَنْ يُشَخِّصَ الْخُصُومَ فِي ذَلِكَ لِيُبَالِغَ فِي تَتْمِيمِ الْقَضِيَّةِ.
(فَصْلٌ) :
وَقَوْلُهُ أَنَا أَبُو حَسَنٍ مِمَّا تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ عِنْدَ إصَابَةِ ظَنِّهِ كَمَا أَصَابَ ظَنُّهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِهِ وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ عِيسَى ثُمَّ قَالَ: إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَى بَيْنَ الْمَقْتُولَيْنِ أُعْطِيَ بِرُمَّتِهِ يُرِيدُ سُلِّمَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولَيْنِ يَقْتَصُّونَ مِنْهُ إنْ شَاءُوا.
(مَسْأَلَةٌ) :
وَلَوْ قَطَعَ رِجْلَهُ أَوْ جَرَحَهُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ إنْ قَاتَلَهُ فَكَسَرَ رِجْلَهُ أَوْ جَرَحَهُ أَنَّ ذَلِكَ جُبَارٌ، وَإِنْ قَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَى الزِّنَى بَيْنَهُمَا وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُودَهُ فِي دَارِهِ أَوْجَبَ لَهُ أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ وَالْأَذَى وَالْإِبْعَادِ فَإِنْ قَاتَلَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ خُرُوجِهِ كَانَ لَهُ مُدَافَعَتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْجِرَاحِ وَمَا أَشْبَهِهَا وَأَمَّا الْقَتْلُ فَلَا يُسْتَبَاحُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ.
1 -
(مَسْأَلَةٌ) :
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَوْلُ عَلِيٍّ عِنْدِي ذَلِكَ فِي الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ أَنَّهُ وَطِئَهَا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ وَهُوَ عِنْدِي مَعْنَى قَوْلِ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِ الثَّيِّبِ وَلَا الْبِكْرِ إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِمَا زَعَمَ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَّ بِهِ مِثْلَ هَذَا يَخْرُجُ عَنْ عَقْلِهِ وَلَا يَكَادُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ، وَالْجَانِي أَحَقُّ مَنْ حُمِلَ عَلَيْهِ.
(فَرْعٌ) فَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهَا، وَإِنْ كَانَا بِكْرَيْنِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُزَنِيَّة: عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي الْبِكْرِ وَقَالَهُ ابْنُ كِنَانَةَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِكْرًا إذَا كَانَ قَدْ كَثُرَ التَّشَكِّي مِنْهُ قَالَهُ ابْنُ مُزَيْنٍ.
وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ: دَمُهُ هَدَرٌ فِي الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ وَقَدْ أَهْدَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ غَيْرَ دَمٍ فِي شَبَهِ هَذَا مِنْ التَّعَدِّي.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونَ: يُؤَدَّبُ مَنْ قَتَلَ مِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ دُونَ الْإِمَامِ وَهَذَا فِي الثَّيِّبِ وَيُقْتَلُ فِي الْبِكْرِ وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَتْلُ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ لَزِمَتْ الدِّيَةُ وَجْهُ قَوْلِ مَنْ أَهْدَرَ دَمَهُ أَنَّهُ عَمْدٌ
(5/285)