"عن إسحاق بن عبد الله بن كنانة قال: أرسلني أمير من الأمراء" جاء في بعض الروايات: أنه الوليد بن عتبة، وما سمي في رواية الباب؛ لأن تسميته لا تضر، يعني وجوده مثل عدمه، المقصود الخبر المترتب على هذا السؤال "أرسلني أمير من الأمراء إلى ابن عباس يسأله عن الصلاة في الاستسقاء؟ فقال ابن عباس: ما منعه أن يسألني؟ " لأن ابن عباس خشي أن يكون منعه الكبر، وهو متصور، لكنه أجابه؛ لأن من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، يعني حتى لو كان المانع الكبر لا بد أن تجيب إذا سئلت عن علم.(50/23)
"فقال ابن عباس: ما منعه أن يسألني؟ خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متواضعاً" لأننا نحتاج إلى التذلل والانكسار والخضوع بين يدي الله -جل وعلا-، ليس مثل العيد يخرجون بكامل الزينة، ويتطلب لها أحسن لباس "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متواضعاً متبذلاً" يعني لابساً لباس البذلة لا لباس الزينة "متخشعاً" في بصره وفي جوارحه وفي صوته "مترسلاً" متأنياً غير مستعجل في مشيه "متضرعاً" ملحاً على الله -جل وعلا- بدعائه أن ينزل الغيث "فصلى ركعتين كما يصلي في العيد" يعني صفة صلاة الكسوف هي صفة صلاة العيد، يكبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً، ويقرأ كما يقرأ في العيد؛ لأن ابن عباس صلى ركعتين كما يصلي في العيد "لم يخطب خطبتكم هذه" التي تطيلون فيها، وتضمنونها ما تضمنونها من الكلام المنمق المرتب المسجوع، المسلمون بحاجة إلى قلب سليم يخطب في الناس، ويدعو الله -جل وعلا- لتجاب دعوته، وليسوا بحاجة في مثل هذا المقام إلى مقامات ومقطوعات أدبية كما يفعله بعضهم، الناس بحاجة إلى قلب صالح سليم، كانوا يتوسلون بدعاء النبي -عليه الصلاة والسلام- فيسقون، وتوسل عمر بدعاء العباس فيسقون، وتوسل معاوية بدعاء يزيد بن الأسود الجرشي فيسقون، نحن بحاجة إلى أمثال هذه القلوب، لسنا بحاجة إلى جمال الظاهر مع أن الباطن الله أعلم به، ولا يقال هذا في شخص بعينه، لكن النتائج تدل على المقدمات، كم نستسقي من مرة؟ وكم نسقى من مرة؟! نستسقي مراراً، المرتين والثلاث والأربع والخمس ولا ينزل قطرة، نحتاج إلى معالجة القلوب، نحتاج إلى إعادة النظر في المعاملة مع علام الغيوب، نحتاج إلى النظر في معاملتنا مع أنفسنا، ومع أهلينا، ومع جيراننا، ومع معارفنا وأرحامنا وأصهارنا، نحتاج إلى أن نعيد النظر في سائر أعمالنا، نستسقي ثم نستسقي ولا يلزم من هذا أننا نقنط، لا، أو نترك، لا، نبذل الأسباب، لكن نسعى في نفي الموانع؛ لأننا نبذل الأسباب، وولي الأمر يضرب موعد لصلاة الاستسقاء، ويخرج المسلمون يستسقون، وفيهم الصالحون، وفيهم المخلطون، لكن النتائج كما رأيتم، والسبب في هذا وجود الموانع، الحرام يؤكل ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) والناس يأكلون المحرم،(50/24)
ويرفعون أيدهم "وذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب" كل هذه من أسباب القبول، كونه أشعث، وكونه أغبر، وكونه مسافر، وكونه يمد يديه من أسباب الإجابة، لكن المانع ((ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له! )) استبعاد، وهذا واقع كثير من المسلمين، وليس هذا سر، هذا الآن أمور معلنة، ولا تنقيب عما في القلوب الناس بدؤوا يظهرون معاصيهم، يعني استفاضت المعاصي، وظهرت للعيان، وكثر الخبث في المسلمين "أنهلك وفيها الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) وإلا العلماء موجودون، العباد موجودون، في زهاد، وفي علماء، وفيه دعاة، وفيه أخيار من الرجال والنساء، لكن الخبث كثير، الموانع موجودة، ولا يعني هذا أننا نيأس، فنحن بحاجة إلى الخروج بهذه القلوب، بالتواضع، بالتبذل، بالتخشع، بالترسل، بالتضرع.
وقد يوجد بعض المنكرات أثناء الخروج لهذه الصلاة، يوجد، تجد امرأة خرجت للصلاة بدون محرم، تجد شخص يؤذي الناس وهو في طريقه إلى المسجد في سيارته، في حاشيته، المقصود أنك تجد مثل هذه، وهم يخرجون لهذه الصلاة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- خرج متواضعاً متبذلاً متخشعاً مترسلاً متضرعاً، نقول: هذه من أسباب القبول، وكان الناس إلى وقت قريب قبل انفتاح الدنيا يعني ما يعوقهم من المطر إلا الخروج للاستسقاء، فتجدهم يبذلون الأسباب قبل الخروج للاستسقاء؛ لأن البيوت ما كانت مشيدة من الأسمنت والحديد، كانت من الطين، فتجدهم ييسرون نزول الماء من السطوح؛ لئلا تكف على أصحابها، ويصنعون بعض الاحتياطات لنزول المطر لثقتهم بما عند الله -جل وعلا-، ومع الأسف أنه يوجد من بعض من ينتسب إلى طلب العلم يقول: إذا خرجنا لصلاة الاستسقاء كأننا نستهزئ، نصر على المعاصي والمنكرات ثم نخرج للاستسقاء! يا أخي أبذل السبب، ومع ذلك تسعى في انتفاء المانع، أما أن المانع موجود والسبب غير موجود ظلمات بعضها فوق بعض.
"فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه" النفي للخطبة ليس على إطلاقه، إنما نفي الخطبة المشابهة لخطبهم التي وجدت في آخر وقت ابن عباس من بعض الأمراء.(50/25)
"رواه أحمد، وهذا لفظه، وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وصححه، وأبو عوانة في صحيحه وابن حبان والحاكم" والحديث مقبول لا بأس به.
"وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: شكا الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه" وعد الناس يوماً يخرجون فيه ليتأهبوا للخروج، يعني ما أخذهم على غرة قال: هيا مشينا إلى الاستسقاء، إنما ليستعدوا بالتوبة النصوح، وبالخروج من المظالم "وعد الناس يوماً يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بدا حاجب الشمس" يعني وقتها إذا ارتفعت الشمس، وخرج وقت النهي "فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله -عز وجل- ثم قال: ((إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم)) " يعني وقت نزوله، ((وقد أمركم الله -عز وجل- أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم)) {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [(60) سورة غافر] ثم قال: ((الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد)) كل الأمور بيده، أزمة الأمور بيده -جل وعلا- ((يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت)) توسل بكلمة التوحيد، ((أنت الغني)) اعتراف وتمجيد لله -جل وعلا- ((ونحن الفقراء)) اعتراف على النفس بالذل والحاجة والفاقة ((أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، واجعل ما أنزلته لنا قوة وبلاغاً إلى حين)) ثم رفع يديه فلا يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه" بالغ -عليه الصلاة والسلام- بالرفع حتى صار ظهور كفيه إلى السماء، كما جاء في بعض الروايات: "ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب أو حول رداءه" جعل ما على الكتف الأيمن على الأيسر والعكس "وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين" وفي الحديث ما يدل على أن الدعاء والخطبة قبل الصلاة، لكن أكثر الروايات على أن الصلاة قبل كالعيد، وعليها عامة أهل العلم، يرون أن الصلاة قبل الخطبة.(50/26)
"فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت ثم أمطرت بإذن الله" النبي -عليه الصلاة والسلام- ما استسقى إلا سقي وأجيب "ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأتِ مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن" يتقون المطر، انطلقوا إلى ما يكنهم ويقيهم المطر "فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه" أنيابه بدت -عليه الصلاة والسلام- من حالهم "فقال: ((أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)) رواه أبو داود، وقال: هذا حديث غريب" وفي بعض ألفاظه غرابة لا سيما ما يتعلق بتأخير الصلاة "إسناده جيد" يعني كون الإسناد جيد لا يعني أن في بعض ألفاظه ما ينكر، والعلماء إذا قالوا: حديث جيد، أو إسناد جيد بعضهم يقول: إنه يعني صحيح، وأطلق الترمذي الجودة بإزاء الصحة، فقال: هذا حديث حسن جيد، في مقابل ما يقوله: هذا حديث حسن صحيح، مع أن ابن حجر -رحمه الله- يقول: الحكم بالجودة يدل على قوة الحديث، لكن الجهبذ النقّاد الخبير لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة، وأنه قد لا يبلغ درجة الصحة.
"وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، وأنه يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه" متفق عليه، واللفظ للبخاري" يعني في صلاة الاستسقاء، وفي الاستسقاء في خطبة الجمعة رفع النبي -عليه الصلاة والسلام- يديه، ورفع المصلون أيديهم في خطبة الاستسقاء، وفي خطبة الجمعة إذا استسقى فقط لا في جميع الدعاء.
"متفق عليه، واللفظ للبخاري".(50/27)
"وعنه عن أنس -رضي الله عنه-" راوي الحديث السابق "أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء" دار القضاء هي دار لعمر بن الخطاب، القضاء في الصدر الأول هو في المسجد، يتولاه الإمام الأعظم في المسجد، ودار القضاء هذه دار لعمر بيعت بعد وفاته لقضاء دينه "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائماً وقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السُبل" هلكت الأموال من الجدب وعدم الخصب، وانقطعت السبل ما في سبل ولا طرق ووسائل الانتقال من المواشي التي ينتقل إليها وتقطع بها السبل، والطرق قد هلكت "فادعُ الله أن يغيثنا، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه وهو يخطب في الجمعة، فقال: ((اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) " وكان إذا دعا -عليه الصلاة والسلام- دعا ثلاثاً "قال أنس: "ولا والله ما نرى في السماء من سحابة ولا قزعة" يعني ما في سحابة مجتمعة، ولا قزعة سحاب متفرق "وما بيننا وبين سلع" جبل معروف بالمدينة
"من بيت ولا دار، قال: فطلعت من رواءه سحابة مثل الترس" سحابة ليست بالكبيرة "فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً" أسبوعاً من الجمعة إلى الجمعة، إلى أن جاء يطلب رفع المطر خشية ضرره "فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة" لا يدرون هل هو الرجل الذي جاء في الأسبوع الماضي أو غيره كما قال أنس؟(50/28)
"ثم دخل رجل من ذلك الباب" الذي هو نحو دار القضاء "في الجمعة المقبلة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل" هلكت في الأول وهلكت في الثاني، انقطعت في الأول وانقطعت في الثاني، لكن السبب الأول غير السبب الثاني، السبب الأول الجدب والقحط، والثاني زيادة المطر، والمطر والغيث كما هو غيث إلا أنه ليس بخير محض، هو خير على كل حال {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [(30) سورة الأنبياء] لكن مع ذلك إذا زاد صار فيضان وغرق، وقوم نوح أهلكوا بالطوفان، فلما كثر هلكت الأموال غرقاً، وانقطعت السبل، أنتم تعرفون إذا كثرت السيول توقفت السيارات فكيف بالمواشي؟
"هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله -عز وجل- يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه فقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا)) " يعني حوالينا لا تبعد عنا لأننا نريد الخير والفضل، نريد كثرة المخزون من الماء في جوف الأرض، ونريد ما ينتج وينبت بسبب هذا الغيث من عشب وربيع.
((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام)) على الهضاب ((والظراب)) يعني على الجبال ((وبطون الأودية)) التي تخلو من السكان ((ومنابت الشجر)) يعني الأراضي التي تنبت الشجر لا القيعان التي لا تنبت ولا ويستفاد منها.
"قال: فأقلعت" وقفت فوراً "قال: وخرجنا نمشي في الشمس" وبقدر الإرث من النبي -عليه الصلاة والسلام- في العلم والعمل يحصل لنا مثل ما حصل لهم، بقدره، وبقدر البعد عن منهجه -عليه الصلاة والسلام- علماً وعملاً وإخلاصاً وإتباعاً يحصل لنا ما يحصل من الحرمان "قال شريك: فسألت أنساً أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري" متفق عليه".
"وعن عبد الله بن زيد المازني قال: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى فاستسقى" خرج ما يدل على أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد تكون خارج البلد، ولا تكون في المساجد إلا لحاجة من برد شديد أو مطر، بخلاف المسجد الحرام فإنه لا يخرج عنه، وما عداه حتى المسجد النبوي تكون صلاة العيد وتكون صلاة الاستسقاء خارج المدينة، فضلاً عن غيرها من البلدان.(50/29)
"خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه حين يستقبل القبلة، وصلى ركعتين، وفي لفظ: وقلب رداءه، وفي لفظ: وجعل إلى الناس ظهره يدع الله" متفق عليه، واللفظ لمسلم" استسقى وصلى ركعتين الواو كما هو معلوم لا تقتضي الترتيب.
"وفي البخاري: "ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة" وهذا لفظ مشكل على قول عامة أهل العلم، وأن الصلاة قبل الدعاء والاستسقاء، منهم من يقول: إنه دعا قبل الصلاة ودعا بعدها، فالذي قال: إنه صلى قبل ما نقل الدعاء الأول، والذي قال: صلى بعد ما نقل الدعاء الثاني "ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة" وله أي البخاري: "فقام فدعا الله قائماً، ثم توجه قبل القبلة وحول رداءه فاسقوا".
"ولأحمد: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- استسقى وعليه خميصة سوداء" يعني من صوف، خميصة سوداء "فأراد أن يأخذ بأسفلها" يقلبها فيجعل أسلفها أعلاها وأعلاها أسفلها "فثقلت عليه" لأنها من صوف "فقلبها عليه، الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن" يعني بدلاً من أن تقلب من أسفل إلى أعلى قلبت من جهة إلى جهة، فتحويل الرداء سنة للإمام بالاتفاق، وأما بالنسبة للمأموم فهو قول جماهير أهل العلم، والذي يعني الإمام من ذلك وهو التفاؤل بتغير الحال يعني المأموم أيضاً، فتخصيص الإمام به لا وجه له كما قال بعضهم.
"ولأبي داود والنسائي نحوه".(50/30)
"وعن أنس أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-" كانوا يسقون "فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا" يعني بدعائه -عليه الصلاة والسلام- كما تقدم يستسقون ويتوسلون فيسقون، النبي -عليه الصلاة والسلام- مات، والميت لا يتوسل به؛ لأنه لا يتصور دعاءه وهو في قبره -عليه الصلاة والسلام-، ولو أمكن ذلك ما عدلوا عنه وهو بين أظهرهم قريب منهم إلى العباس، فدل على أن الدعاء إنما يطلب من الحي لا من الميت، والتوسل بدعاء الحي لا بالميت "إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون" يعني العباس -رضي الله عنه- قال كلاماً فيه شيء من التواضع والانكسار: "اللهم إنهم توجهوا بي إليك لقربي من نبيك -عليه الصلاة والسلام- فسقوا" فنحن بحاجة إلى مثل هذا الانكسار من مثل هذا الرجل العظيم، عندنا مع الأسف أنه يوجد من بعض الخطباء شيء بل قد لا يفرقون بين الأحوال، فتجده في خطبة الاستسقاء لا يختلف وضعه عن خطبة العيد، الظروف تختلف، معاوية عنده علماء الصحابة وعلماء التابعين، عنده الأسود بن يزيد، وعنده سعيد بن المسيب، وعنده كثير من الصحابة، ما قال: يا سعيد بن المسيب يا أفقه التابعين تعال استسقِ بنا، ولا قال للأسود بن يزيد النخعي: تعال استسقِ بنا لأنك أفقه أصحاب بن مسعود، قال: يا يزيد بن الأسود، ليس معدود من فقهاء التابعين، إنما معدود مع عبادهم وزهادهم؛ لأننا في هذا الموضع نحتاج لمثل هذا، الأمة كما هي محتاجة إلى سعيد في علمه، ومحتاجة إلى الأسود بن يزيد في علمه، هي أيضاً محتاج إلى مثل يزيد بن الأسود، ومثل أويس القرني وغيرهم من العباد، ممن يتحرى منهم إجابة الدعوة، والله المستعان.
"إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون" رواه البخاري، وقال الدارقطني: لم يروه غير الأنصاري عن أبيه، وأبوه عبد الله بن مثنى ليس بالقوي" لكن الخبر في البخاري فلا كلام للدارقطني ولا لغيره.(50/31)
"وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى المطر قال: ((صيباً نافعاً)) " صيباً الصيب هو الذي ينزل، وجاء في صفة صلاته -عليه الصلاة والسلام-: "إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه" يشخصه يرفعه، ويصوبه ينزله، فالصيب هو الذي ينزل في الأرض، يعني المطر معروف أنه ينزل "رواه البخاري" فيشرع هذا الدعاء إذا رئي المطر.
"وعن أنس -رضي الله عنه- قال: أصابنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مطر، قال: فحسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "ثوبه حتى أصابه من المطر" أصاب جسده من المطر، ويحسر رأسه وقدميه وذراعيه، لكي يصيبها هذا المطر المبارك، هذا الماء المبارك، "أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: ((لأنه حديث عهد بربه -عز وجل-)) " الآن ينزل من جهة العلو، حديث عهد بأمر الله -جل وعلا- " ((حديث عهد بربه -عز وجل-)) رواه مسلم".
"وعن عائشة بنت سعد أن أباها حدثها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نزل وادياً دهشاً" الذهبي وغيره حكموا على هذا الخبر بأنه موضوع، وفيه ألفاظ غريبة ينبو عنها السمع السليم، فلا يتصور أنها ثابتة عنه -عليه الصلاة والسلام-.(50/32)
"أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نزل وادياً دهشاً، لا ماء فيه، وسبقه المشركون إلى القلات" القلات نُقَر في الجبال كأنها أوعية، يجتمع فيها الماء "فنزلوا عليها" وعرفنا أن الحديث موضوع، فلا يتكلف اعتباره، ولا الاستنباط منه، لكن لا مانع من أن ننظر إلى بعض الألفاظ الغريبة فيه "فنزلوا عليها، وأصاب العطش المسلمين" لأن المشركين استولوا على أماكن تجمع المياه "فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونجم النفاق" في هذه الأزمات ينجم النفاق، في الأزمات ينجم النفاق، وإذا حصل على المسلمين شدة أو ضر أو نزل بهم شيء برز المنافقون "فقال بعض المنافقين: لو كان نبياً كما يزعم لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: ((أو قالوها؟ عسى ربكم أن يسقيكم)) ثم بسط يديه وقال: ((اللهم جللنا)) " يعني: ظللنا، وعمم ما حولنا من أرض ((سحاباً كثيفاً)) يعني متكاثفاً متراكماً بعضه فوق بعض ((قصيفاً)) فيه قصف الرعد يسمع بقوة ((دلوقاً)) يعني ينصب بقوة كأفواه القرب كما حصل في بعض الأحيان ((مخلوفاً)) يعني: يخلف بعضه بعضاً لا ينقطع ((ضحوكاً)) مصحوباً بالبرق ((زبرجاً)) فيه سحاب ملون، مما يدل على أن هذا اللفظ يعني ينبو عنه السمع، كون السحاب ملون فيه حمرة وفيه ألوان هل هذا من المقاصد؟ على كل حال الخبر لا يتكلف اعتباره، ولا الإجابة عنه؛ لأنه من أصله باطل، موضوع.
((تمطرنا منه رذاذاً قطقطاً)) رذاذاً مع قوله: ((دلوقاً)) تنافر ((قطقطاً سجلاً بُعاقاً)) يقولون: متواصلاً لا انقطاع له " ((يا ذا الجلال والإكرام)) فما رد يديه من دعائه حتى أظلتنا السحاب التي وصف" بهذه الصفات التي ذكرت "تتلون في كل صفة وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صفات السحاب، ثم أمطرنا كالضروب التي سألها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأفعم السيل الوادي، وشرب الناس وارتووا" رواه أبو عوانة الإسفرايني في صحيحه" وعرفنا أن الحافظ الذهبي حكم عليه بالوضع.(50/33)
فيما يتعلق بصلاة الكسوف، واختلاف الروايات في عدد الركوعات، بعضهم يبدي جواباً عن الروايات الواردة في الصحيح من عدد الركوعات التي تخالف ما في الصحيحين، فيقول: إن الركوعات التي ذكرت من الثالث والرابع والخامس ليست هي ركوعات في الحقيقة، وإنما النبي -عليه الصلاة والسلام- يرفع رأسه لينظر هل انجلى الكسوف أو لا؟ ثم يعود، هذا لا شك أنه محاولة فيها شيء من النباهة، لكنها لا تكفي؛ لأن الركوع يعني يختلف عن مجرد رفع الرأس وإنزاله، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
طالب: .... إذا كانت الركعة الأولى لا تدرك بالركوع الثاني ...
إيه.
طالب: هل الركعة الثانية تدرك بالركوع الثاني؟
كذلك مثلها، الركوع الثاني لا يدرك به شيء لا في الركعة الأولى ولا في الركعة الثانية.
طالب: هل يتوسل بآل البيت ....
بالصالح منهم، إذا كان فيهم من فيه صلاح، ظهر صلاحه، العبرة بالتقوى، ومع ذلك أهل البيت لهم حقهم ولهم شأنهم، وقربهم من النبي -عليه الصلاة والسلام- له منزلة في الشرع، وهم وصيته -عليه الصلاة والسلام- فلهم حق على الأمة حق عظيم.
طالب:. . . . . . . . .
نعم، يقلب الشماغ، الذي ما عليه إلا شماغ إيش يسوي؟ يفسخ ثوبه!
طالب:. . . . . . . . .
لا، لا ما عنده إلا شماغ في حكم الرداء، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
هو يرفع يديه عادي هكذا حذاء وجهه، ثم بعد ذلك مع الإلحاح والتضرع يرفعها حتى يبالغ، ويرى بياض إبطيه، ويترتب على ذلك أن يكون ظهورها إلى السماء، ومن أهل العلم من يقول: إن ظهورها إلى السماء هكذا.
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(50/34)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر - كتاب الزكاة (1)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:
كتاب الزكاة:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذاً إلى اليمن، فقال: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم)) متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- لما استخلف كتب له حين وجهه إلى البحرين هذا الكتاب، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر:
بسم الله الرحمن الرحيم(51/1)
هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط، في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها ابنة لبون أنثى، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان، طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمساً من الإبل ففيها شاة، وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدق، وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن تيسرتا له.
إن استيسرتا.(51/2)
إن استيسرتا له، أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً، أو شاتين ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي معها شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده، وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه، وليس معه شيء" رواه البخاري.
وعن مسروق عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فأمرني أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم ديناراً، أو عدله معافرياً" رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وعن إسحاق ...
عن ابن.
وعن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا جلب ولا جنْب ولا تؤخذ)) ...
ولا جنَبَ.
((ولا جنَبَ، ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم)) رواه أبو داود.
وللإمام أحمد عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم)).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)) متفق عليه، ولمسلم: ((ليس على العبد صدقة إلا صدقة الفطر)) ...
في، في.
((ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر)) ولأبي داود: ((ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق)).(51/3)
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((في كل سائمة إبل في كل أربعين بنت لبون لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شيء)) رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه، والنسائي، وعند أحمد والنسائي: ((وشطر إبله)) وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال أحمد: هو عندي صالح الإسناد، وقال الشافعي: لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلت به، وذكر ابن حبان: أن بهزاً كان يخطئ كثيراً، ولولا رواية هذا الحديث لأدخلته في الثقات، قال: وهو ممن أستخير الله فيه، وفي قوله نظر، بل هذا الحديث صحيح، وبهز ثقة عند أحمد، وإسحاق وابن المديني وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، والله أعلم.
وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم -وسمى آخر- عن ابن إسحاق ...
عن أبي، عن أبي.
عفا الله عنك.
عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون ديناراً، فإذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك)) قال: فلا أدري أعلي يقول: فما زاد فبحساب ذلك أو رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ وليس في مال زكاة حق حتى يحول عليها الحول، إلا أن جريراً قال: ابن وهب ...
قال ابن وهب.
إلا أن جريراً قال: ابن وهب يزيد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ((ليس في مال زكاة حتى يحول عليها الحول)) قال أبو داود: رواه شعبة وسفيان وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي -رضي الله عنه- ولم يرفعوه.
وعاصم بن ضمرة وثقه أحمد وابن معين وابن المديني والعجلي وغيرهم، وتكلم فيه السعدي وابن حبان وابن عدي والبيهقي وغيرهم، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال الثوري: كنا نعرف فضل حديث عاصم على حديث الأعور.(51/4)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
كتاب: الزكاة
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذاً إلى اليمن.
الكتاب مر التعريف به مراراً في كتاب الطهارة، وفي كتاب الصلاة، وكتاب الجنائز فهو أقرب مذكور.
والزكاة أصلها في اللغة تطلق على النماء والزيادة، تطلق على النماء والتطهير والزيادة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [(103) سورة التوبة] فهي تطهر النفس من الشح والبخل والجشع، وتطهر البدن فجاء ما يدل على أنها دواء، ((داووا مرضاكم بالصدقة)) وهي أيضاً تزكي المال، وتزيده وتنميه ولا تنقصه ((ما نقص مال من صدقة)) والمال الذي بيد من يسره الله له ليس له، إنما مال الله استأمنه عليه {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [(33) سورة النور] فلا منة للغني حينما يبذل هذا القدر المفروض عليه، من فوق سبع سماوات، هذا القدر عليه في فرض من أشد الفرائض، في ركن من أركان الإسلام، ليس له منة على فقير، كما أن الفقير ليس له أن يلوم الغني، إذا أعطى غيره ولم يعطه، ولذا جاء في الحديث الصحيح: ((إنما أنا قاسم، والله المعطي)) يدخل الرجلان في ظروف متقاربة جداً على غني من الأغنياء، فيعطي واحد، ولا يعطي الثاني، الله هو المعطي، الله -جل وعلا- سخره أن يعطي فلاناً ولا يعطيك، لكن على الغني أن يبذل ما افترض الله عليه.(51/5)
والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، وقرنت مع الصلاة في مواضع كثيرة جداً من نصوص الكتاب والسنة، وإذا كان الإجماع قائم على أنه لا يدخل في الإسلام من لا ينطق بالشهادتين والمرجح من حيث قوة الأدلة أن تارك الصلاة كافر، فإن الزكاة يختلف في حكم تاركها أهل العلم، فالجمهور على أنه لا يكفر إذا ترك الزكاة إذا كان مقراً بوجوبها، لا يكفر، وجمع من أهل العلم يرون أنه يكفر كتارك الصلاة، وكذلك بقية الأركان، وهو قول في مذهب مالك، ورواية عن الإمام أحمد، وأبو بكر -رضي الله عنه- قاتل مانعي الزكاة، لما امتنعوا من دفع الزكاة، قاتلهم وراجعه بعض الصحابة ومنهم عمر، كيف تقاتل من يشهد أن لا إله إلا الله؟ والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)) فأجاب أبو بكر -رضي الله عنه- أن الحديث فيه استثناء ((إلا بحقها))، ((فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحقها)) والزكاة من حقها، ثم قال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" فوافقه الصحابة على ذلك، وقاتلهم -رضي الله عنه-، وهكذا إذا امتنع أهل بلد من أي شعيرة من إقامة أي شعيرة عامة من الشعائر فإنهم يقاتلون ولو لم تكن من الأركان، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- إذا غزا قوماً انتظر، فإن سمع أذاناًَ كف، وإن لم يسع الأذان قاتلهم، ولذا لو امتنع أهل بلد من الأذان وهو ليس بمثابة ... ، بل الخلاف في وجوبه معروف، فإنه يقاتلهم ... فكيف بركن من أركان الإسلام؟! "والله لو منعوني عقالاً، أو قال: عناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه" شرح الله صدر أبي بكر -رضي الله عنه- لقتالهم، ووافقه الصحابة فدل على عظم شأن الزكاة.(51/6)
من امتنع من دفع الزكاة أخذت منه قهراً، أخذت منه، أخذها الإمام منه قهراً، ويسقط بها الطلب، بمعنى أنه لا يطالب بها ثانية، أما كونها مجزئة عند الله -جل وعلا- هذا الأمر إلى الله -جل وعلا-، كونها مجزئة في الدنيا نعم مجزئة تسقط عنه الطلب، فتؤخذ منه قهراً بحيث لا تؤخذ منه مرة ثانية، لا يقال: إنه ما نوى الدفع، بل زكاته باطلة هذا إليه، لو قال: إنه أخذت منه من غير نية والأعمال بالنيات، وأراد أن يعيدها ويخرج غيرها فالأمر إليه.
قال -رحمه الله-: "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-" الزكاة كثيراً ما تطلق على المفروضة، والصدقة على الندب والنفل، والزكاة على المفروضة، وسيأتي في حديث أنس إطلاق الصدقة على الزكاة المفروضة؛ لأنها دليل على صدق مؤديها، ولذا جاء في الحديث الصحيح: ((والصدقة برهان)) يعني دليل قاطع على صدق إيمان مخرجها.
قال: "عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذاً إلى اليمن" بالنسبة لفرضية الأركان معلوم أن الشهادتين مع بداية الدعوة، وإنما الدعوة إليهما، والصلاة فرضت قبل الهجرة ليلة الإسراء، والزكاة والصيام فرضا بعد الهجرة في السنة الثانية، والحج في السنة التاسعة، وهنا بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذاًَ إلى اليمن، وكان هذا في السنة العاشرة، وقيل في آخر التاسعة، وبقي معاذ قاضياً ومعلماً في اليمن إلى أن مات النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقدم في خلافة أبي بكر.
"أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذاً إلى اليمن، فقال: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله)) " قبل ذلك قال: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب)) وهذا للتنبيه، تنبيهاً لمعاذ من أجل أن يستعد لهم؛ لأن أهل الكتاب ليسوا كغيرهم من طوائف الكفر، هؤلاء عندهم علم، وعندهم بقية، عندهم أثارة من علم، وإن كان جل ما عندهم محرف، لكن عندهم شيء، يحاجون به، ولذا نبهه النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى ذلك من أجل أن يستعد لهم.
هذا يقول سؤال امرأة موجودة الآن تريد جواب الآن: أعطاها رجل مال لتتصدق به في الحرم، فتصدقت ببعضه، فهل يجوز لها أخذ شيء من الصدقة؛ لأنها بأمس الحاجة إليها، أم تتصدق بغيرها؟(51/7)
على حسب لفظ المتصدق، إن قال: تصدقي به عني أو ادفعيه عني، لا بد أن تدفعه كاملاً، والمفترض أنها بينت حاجتها له؛ ليقول لها: خذيه أو خذي بعضه، أما والحال أنه أعطاها شيئاً تتصدق به في الحرم، فعليها أن تتصدق بكامله.
((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)) هذا الأصل الذي يبنى عليه جميع فروع الدين، وبدون شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله لا يصح شيء، وعلى هذا على الداعية والمعلم والموجه أن يبدأ أول ما يبدأ بالأصل، فإذا تقرر الأصل دعا إلى ما يليه الأهم فالأهم.
((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)) هذا هو الركن الأول من أركان الإسلام.
((فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)) الركن الثاني، لكن لا يؤمرون بالصلاة إلا إذا شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وليس معنى هذا أنهم غير مخاطبين بالصلاة والزكاة وغيرهما من شرائع الإسلام، إذا لم يدخلوا في الإسلام، الكافر مخاطب بفروع الشريعة كأصلها عند جمهور أهل العلم، لكن هذه الفروع لا يصح شيء منها إلا إذا تحقق الأصل، فلا يقال لكافر: صل، ولا ادفع الزكاة، ولا صم، إلا إذا شهد أن لا إله إلا الله؛ لأنها لا تصح منه ولو أداها ما لم يشهد أن لا إله إلا الله، ويحكم بإسلامه.
((فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة)) وهذا من أدلة من يقول بعدم وجوب أي صلاة غير الخمس، وجاء في حديث الأعرابي: هل علي غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع)) والذي يوجب العيد، أو يوجب الوتر، أو يوجب صلاة الكسوف عليه أن يأتي بأدلة خاصة، وقد أوردوا أدلة، كل أورد ما يدل لقوله، المقصود أن الجمهور على هذا، الحنفية يوجبون صلاة العيد، ويوجبون الوتر، وأبو عوانة وجمع من أهل العلم يوجبون صلاة الكسوف ((فإذا رأيتموهما فصلوا)) تبعاً لهذا الأمر.(51/8)
((فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم)) في الجملة الأولى ((أطاعوك لذلك)) وفي الجملة الثانية ((أطاعوا لذلك)) هل بينهما فرق؟ بينهما فرق أو هذا من تصرف الرواة؟ الذي يظهر أنه من تصرف الرواة، والمعنى واحد.
((فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة)) افترض صدقة يعني زكاة واجبة، ((افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم)) يعني ممن يملك النصاب بأي نوع من الأنواع التي تجب فيها الزكاة كالماشية والخارج من الأرض، والنقدين، وعروض التجارة، وغيرها على ما سيأتي تفصيله.
((تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم)) ((تؤخذ من أغنيائهم)) يعني من أغنياء هؤلاء القوم الذين بعثت إليهم وهم أهل اليمن ((وترد في فقرائهم)) يعني في فقراء البلد نفسه، وهذا دليل من يقول بعدم جواز نقل الزكاة من بلد إلى بلد ((تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم)) والمعنى ظاهر أن فقراء البلد أقرب الناس إلى هؤلاء الأغنياء وأولى ببرهم، وهم أيضاً ينظرون إلى هذه الأموال، ونفوسهم معلقة بهذه الأموال، فلهم نصيب فيها، والذي يقول: لا مانع من نقل الزكاة من بلد إلى بلد يقول: إن المراد بفقرائهم فقراء المسلمين في أي بلد، نعم إذا لم يكن في البلد الذي فيه الزكاة فقراء، أو كانت الحاجة في غيره أشد فهذا مبرر عند جمع من أهل العلم في نقل الزكاة.
والشاهد من الحديث: ((فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة)) والمراد بذلك الزكاة.
متفق عليه، واللفظ للبخاري.(51/9)
"وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- لما استخلف" لما مات النبي -عليه الصلاة والسلام- واستخلف بعده خليفته أبو بكر "كتب له حين وجهه إلى البحرين" وجهه إلى البحرين في شرق الجزيرة العربية، وهو أشمل من القطر المعروف الآن، بحيث يشمل ما دون البحرين، كالأحساء مثلاً، كله يقال له: البحرين "وجهه إلى البحرين" جابياً للصدقات، وأعطاه الكتاب الذي كتبه النبي -عليه الصلاة والسلام- في مقادير الزكاة، كتاب أملاه النبي -عليه الصلاة والسلام-، وختمه بخاتمه، دفع لأبي بكر من يد أبي بكر إلى يد أنس بن مالك، ثقة مطلقة بعضهم ببعض، وهم أهل لذلك، لكن لو كان بيدك وثيقة بهذه المثابة يمكن تدفعها لأي شخص كائناً من كان؟ الآن تيسرت الأمور تبي تعطيه صورة، أو ينسخ له نسخة، لكن النسخة الأصلية كتبت بأمره -عليه الصلاة والسلام-، وختمت بخاتمه، وما ذلك إلا لأن القوم أهل لهذه الثقة، ما قال أبو بكر: تضيع، أو تتمزق من يد أنس، لا، هم أحرص على الدين، وما يتعلق بالدين من كل حريص -رضي الله عنهم وأرضاهم-، وبحرصهم وثقتهم وصلنا الدين، وسيبقى إلى قيام الساعة كما أنزل، إلى قرب قيام الساعة، على يد هؤلاء الذين نذروا أنفسهم خدمة للدين، والله المستعان.
ثم يأتي من يأتي من الخلوف الذين يطعنون في هؤلاء القوم، سادات الأمة، وأشرافها وعظمائها، الذين بواسطتهم وصل الدين إلى من بعدهم، يعني تصور أن أبا هريرة ما وجد مثلاً كان نصف الدين ضاع على الأمة، تصور أن أنس ما وجد أو غيره من المكثرين لرواية الحديث، لكن الله -جل وعلا- حفظ بهم هذا الدين، ولذلك من أيسر الأمور أن يقول أبو بكر: خذ، هذا كتاب الصدقة مكتوب بأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- وعليه ختمه، وما ذلك إلا للثقة المطلقة التي هم على قدرها وعلى مستواها في حفظ الدين، وما يتعلق بالدين، فكل واحد أحرص على حفظ الدين من حفظ نفسه وماله وأهله.(51/10)
"أن أبا بكر لما استخلف كتب له حين وجهه إلى البحرين هذا الكتاب، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر، محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر" وجاءت صفة هذه الأسطر عند ابن سعد وغيره أن لفظ الجلالة الله فوق، ورسول تحته، ومحمد أسفل، فهذا الختم الذي فيه هذا التدلي الله، ثم رسول، ثم محمد، هذا لا شك فيه أنه يمنع ما هو موجود في كثير من محاريب المساجد يكتب على جهة اليمين الله، وبنفس المستوى يكتبون محمد، وهذا يوهم المساواة، وإن استدل أو استدل لذلك بقوله -جل وعلا-: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [(4) سورة الشرح] فقال: ((لا أذكر حتى تذكر معي)) أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، الآن هذا الخاتم الذي نقشه ثلاثة أسطر، هل هو في الأصل الذي أمر النبي -عليه الصلاة والسلام-، ودفع إلى أنس، أو أن الكلام فيه ما يوحي إلى أن أبا بكر كتب لأنس كتاباً آخر، هل أبو بكر دفع الكتاب الذي أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بكتابته وختمه بخاتمه؛ لأنه قال: لما استخلف كتب له حين وجهه إلى البحرين "هذا الكتاب، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر" يعني هل هذا يفهم منه أن أبا بكر دفع النسخة الأصلية، أو كتب عنها نسخة دفعها إلى أنس حينما وجهه إلى البحرين؟
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
"أن أبا بكر لما استخلف كتب له حين وجهه إلى البحرين هذا الكتاب" وسيأتي في سياق الخبر في قوله: "هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين" أن هذا كتاب أنشئ بعد، ولكن نقش الخاتم ما الفائدة من ذكره؟ إلا أنه يوحي بأن الكتاب هو الأصل الذي نقش بهذا الخاتم، تأملوا يقول: "أن أبا بكر لما استخلف كتب له حين وجهه إلى البحرين هذا الكتاب" هذا الكتاب المبدوء ببسم الله الرحمن الرحيم، ولو قلنا: إن هذه الجملة مقحمة واعتراضية انتهى الإشكال.
"وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر، محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر".(51/11)
قال: "هذا الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين" يعني قدرها، وقدر الأنصبة، وحدد الأنواع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإلا فالفريضة من الله -جل وعلا- {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [(103) سورة التوبة] فرض من الله -جل وعلا-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قدرها "التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله" الكتاب هذا الذي كتبه أبو بكر على الفهم الثاني، وسلمه لأنس هل هو مرفوع أو موقوف؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
مرفوع، لماذا؟ "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتي أمر الله تعالى بها رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها" يعني سئل ما وجب عليه، من غير زيادة، ولا نقصان "فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط" يعني وجب عليك قدر محدد من الزكاة فطلب أكثر من ذلك كماً أو كيفاً فإنه لا يلزمك أن تدفع، معلوم أنه إذا كان هذا بالاختيار، أما إذا أجبر على الدفع فإنه يبذل، ويسأل الله -جل وعلا- الذي له ((واتق دعوة المظلوم)) فإذا أخذ أكثر مما يجب صار ظالماً، والمأخوذ منه مظلوم ((واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) فدل على أنه يدفع إذا ظلم، ثم يسأل الله -جل وعلا- الذي له، هذا إذا عجز، أما إذا كان باختياره فلا يعط.
"في أربع وعشرين" الآن بدأ التفصيل "في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة" يعني في الخمس الأولى شاة، في العشر شاتان، وفي الخمس عشرة ثلاث، وفي العشرين أربع، وفي الخمس والعشرين بنت مخاض.
قال: "فإذا بلغت" يعني الكمية أو الإبل "خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى" يعني تمت لها سنة سميت مخاض؛ لأن أمها حملت، فهي ماخض {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ} [(23) سورة مريم] المقصود أنها أتمت السنة ودخلت في الثانية، وقيل لها ذلك لأن أمها في الغالب تكون حاملاً.
"بنت مخاض أنثى" أنثى تصريح بما هو مجرد توضيح، المقصود لا يحتاج إليه، إنما هو زيادة في البيان والتوضيح.(51/12)
"بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن" يني فإن لم توجد "فإن لم تكن ابنة مخاض" إن لم توجد ابنة مخاض "فابن لبون ذكر" اللبون تم له سنتان ودخل في الثالثة، وقيل له ذلك لأن أمه قد ولدت وصارت ذات لبن، فدل على أن الإناث أفضل من الذكور، الإناث في بهيمة الأنعام أفضل من الذكر، بينما في بني آدم الجنس جنس الذكر أفضل وخير من جنس الأنثى {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [(36) سورة آل عمران].
"فإذا بلغت" يعني الإبل "ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها ابنة لبون أنثى" فقوله: ذكر وأنثى هذا كله مثلما ذكرنا هو مجرد توضيح، وإلا فلا يحتاج إليه؛ لأن إبل يغني، لو قال: ولد احتجنا أن نقول: ذكر أو نقول: أنثى؛ لأن الولد يشمل الذكر والأنثى، أما ابن خاص بالذكر، لا يشمل الأنثى، وبنت خاص بالأنثى لا يشمل الذكر.
"فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها ابنة لبون أنثى" ابنة لبون أنثى يعني تمت السنة الثانية، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
بنت لبون، تمت السنة الثانية؛ لأن أمها ذات لبن.
"فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل" يعني الحقة أتمت الثالثة، ودخلت في الرابعة، واستحقت أن تركب، وأن يحمل عليها، وأن يطرقها الفحل الجمل "فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة" تمت خمس سنين، وبدأت أسنانها في السقوط جذعة، أكملت الرابعة ودخلت في الخامسة "فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون" وسنه على ما تقدم "فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان، طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة" زادت على عشرين ومائة، يعني مائة وخمسة وعشرين كم؟ مائة وخمسة وعشرين، صح أنها زادت على مائة وعشرين، قال: " ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة" أو أن هذه الأوقاص ما بين العشرين إلى الثلاثين ليس فيها شيء، فإذا بلغت مائة وثلاثين في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، فيكون في مائة وثلاثين بنتا لبون وحقة، في مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وهكذا، مائة وخمسين ثلاث حقاق ... إلى آخره.(51/13)
"ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة" لأن النصاب ما تم "إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمساً من الإبل ففيها شاة" لو قال: أنا عندي خمس من الإبل أخرج عنها بنت مخاض، كما لو كان عندي خمسة وعشرين، تقبل وإلا ما تقبل؟ الآن الواجب عليه شاة؛ لأنه ليس عنده إلا خمس، فلو قال: أنا أدفع بنت مخاض، كما لو كان عندي خمس وعشرون، خلاف بين أهل العلم أن ما عدل في الزكاة عن الجنس إلى غيره رفقاً بالمالك وإلا فالأصل أن الزكاة من جنس المال.
طيب لو كان عنده عشرون وتوجه عليه أربع شياه، فنظر في قيمة الشياه فوجدها أغلى من بنت المخاض، أربع شياه بألفين ريال، وبنت مخاض بألف وخمسمائة ريال، تجزئ وإلا ما تجزئ؟ يقول: هب أن عندي خمس وعشرين، يقول: أنا عندي عشرين، وجاري عنده خمسة وعشرين، أنا با أدفع أربع شياه بألفين ريال، وجاري يبي يدفع بنت مخاض بألف وخمسمائة ريال.
طالب:. . . . . . . . .
ويش هو؟
طالب:. . . . . . . . .(51/14)
يعني مثلما قال الأشقاء في المسألة الحمارية، يعني أولاد الأم يرثون والأشقاء لا يرثون، قالوا: هب أن أبانا حجراً في اليم، يعني زيادة القرب بواسطة الأب افترضها معدومة، وأنت افترض أن هذا الخمس بدل ما عندي عشرين افترضها خمسة وعشرين، يعني الشرع مبني على الرفق، وعلى مصالح الأطراف كلها، يعني حينما يشرع الزكاة رعاية لمصالح الفقراء فإنه في الوقت نفسه لا يهدر مصالح الأغنياء، فإذا قال: جاري عنده خمسة وعشرين وأنا عندي عشرين، لماذا ألزم بأربع؟ ويلزم ببنت مخاض، وقيمة الأربع أكثر من قيمة بنت المخاض؟ افترض أن عندي خمس أنا متبرع، يعني إذا كان عنده خمس، وأراد أن يعدل من الشاة إلى بنت مخاض يعني له وجه؛ لأن بنت المخاض أكثر قيمة وأنفع للفقراء من الشاة، هذا بلا شك، لكن إذا اتجه عليه ووجب عليه أربع شياه، يعني في التقدير الشرعي البدنة عن سبع، لكن هذه ما زالت صغيرة، قد تكون قيمتها أقل من قيمة أربع شياه، فهل نقول: له أن يعدل كما لو كان عنده خمس وعشرون، أو ليس له ذلك لأن هذا الذي فرض عليه شرعاً ولا يجوز له أن يتعداه؟ لا سيما إذا كانت مصلحة الفقير متعلقة فيما فرض الله له، وهذا هو المتجه، وجب عليك أربع شياه، ادفع أربع شياه، بغض النظر عن كونها تسوى ألفين أو ألف، يعني هل يمكن أن يقول مثل هذا الكلام لو كان العكس؟ لو كانت قيمة أربع الشياه ألف ريال، وقيمة بنت المخاض ألفين هل يمكن يقول: أدفع بنت مخاض؟ ما يمكن ....
فعلى كل حال الشارع حدد، ولا شك أن الحكم والمصالح مراعاة، لكن مع ذلك هناك أمور قد لا يدركها العقل، يعني من شرط الزكاة في الماشية في بهيمة الأنعام أن تكون سائمة، فإذا كانت سائمة وجب فيها ما ذكر، طيب إذا لم تكن سائمة معلوفة ما فيها زكاة؟ زكاة بهيمة الأنعام، لكن إذا كانت معلوفة ومعدة للتجارة، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .(51/15)
زكاة عروض التجارة، وأيهما أشق زكاة السائمة أو زكاة عروض التجارة؟ افترض عنده مائة من الإبل يعلفها، ومعدها للتجارة تجب الزكاة في قيمتها بنسبة اثنين ونصف في المائة، وإذا كانت سائمة فإنها تجب على المقادير المذكورة، يعني عنده مائة رأس من الغنم سائمة فيها واحدة، معلوفة ومعدة للتجارة فيها اثنتان ونصف، فهل السوم خفف الزكاة أو شدد في الزكاة؟ نعم السوم خفف، والأصل ما دام كفي المؤونة وسامت من الأرض من غير كلفة، ولذلك يقولون في زكاة الخارج من الأرض ما يسقى بماء السماء ففيه العشر، والذي يسقى بعمل الآدمي نعم نصف العشر، وما كان سقيه بهذا وهذا ثلاثة أرباعه، يعني هل البابان متفقان أو بينهما فرق؟ يعني كون الخارج من الأرض يسقى بماء السماء شدد في الزكاة وإلا خفف؟ شدد في الزكاة، كون الإبل أو بهيمة الأنعام سائمة ترعى من غير كلفة ولا مشقة خفف وإلا شدد؟ خفف، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
بينهما فرق، طيب ما نوع التخفيف الذي في هذه السائمة؟ أنت افترض الزكاة في ماشية، عند زيد سائمة وعند عمرو معلوفة، وكلاهما لا يعدانها للتجارة، إنما للدر والنسل، هذا عليه زكاة وذاك ما عليه زكاة أصلاً؛ لئلا يقول قائل: إن في مثل هذا التشريع بالنسبة لزكاة بهيمة الأنعام وبالنسبة لزكاة الخارج من الأرض فيه شيء من الاختلاف والاضطراب، نقول: لا، ما في لا اختلاف ولا اضطراب.
أنت افترض أن هذه الماشية، ماشية زيد سائمة، وماشية عمرو معلوفة، وكلاهما يعدانها للدر والنسل، فالسائمة فيها زكاة والمعلوفة ليس فيها زكاة، وبهذا تتجلى الحكمة الإلهية، وأن الله -جل وعلا- ما يمكن أن يظلم أحداً على حساب أحد.
"وفي صدقة الغنم في سائمتها" السوم شرط، وسيأتي في الإبل أنها إذا كانت سائمة، وجاء في البقر، لكن فيه ضعف، لكنها مقيسة على غيرها، الجمهور يشترطون السوم، وهو الرعي العام أو أكثر العام، والإمام مالك يقول: لا يشترط، الزكاة في الجميع، سواءً كانت سائمة أو غير سائمة، الوصف المذكور في الحديث إنما جاء لبيان الواقع، لحكاية الواقع، ولا مفهوم له، لأن أكثر بهيمة الأنعام بالنسبة للعرب وغيرهم أن تكون سائمة، فجاء وصفاً كاشفاً لبيان الواقع لا أقل ولا أكثر.(51/16)
"وفي صدقة الغنم في سائمتها" الجمهور على أنه قيد مؤثر، بمعنى أنها إذا لم تكن سائمة ولم تكن للتجارة فإنها لا زكاة فيها.
"إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة" أربعين فيها شاة، خمسين ستين سبعين مائة كلها فيها شاة، فالوقص هنا طويل "فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة" وهذا أطول الأوقاص "زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شاة" أربع مائة فيها أربع شياه، خمسمائة فيها خمس شياه، وما بين ذلك أوقاص لا زكاة فيها.
"فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها" مثلما تقدم فيما نقص عن الخمس في الأربع وما دونها من الإبل.
"فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها" يعني صاحبها، إذا أخرج منها شيئاً بطوعه واختياره الأمر لا يعدوه وينتفع به -إن شاء الله تعالى-، لكن لا على سبيل الوجوب والإلزام.
قال: "ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" لا يجمع أصحاب الأموال بين متفرق، ولا يفرق أرباب الأموال بين المجتمع خشية أن تزيد عليهم الصدقة، كما أنه لا يجوز للساعي والجابي والعامل أن يجمع أو يفرق خشية أن تقل الصدقة "ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" نعم أربعين من الغنم لرجلين، الأربعون فيها شاة، لما سمعوا بقدوم المصدق الساعي فرقوا، واحد له خمس، وواحد له خمسة وثلاثين، واحد له عشر وواحد له ثلاثين، قال: أنا آخذ غنمي، وأنت خذ غنمك؛ لأن الثلاثين ليس فيها شيء، والعشر ليس فيها شيء، لا يجوز لهم ذلك، إذا كانت مجتمعة مختلطة في المبيت والراعي والمرعى والمحلب لا يجوز؛ لأن حكمها حكم المال الواحد، والخلطة في بهيمة الأنعام تصير المالين كالمال الواحد، لما سمعوا بقدوم الجابي -جابي الزكاة- وكان بينهما أربعون من الغنم لواحد ثلاثين ولواحد عشر، قال: نفرق فإذا جاء صاحب العشر ما عليه شيء، وصاحب الثلاثين ما عليه شيء، إذا اجتمعت وجاء المصدق وهي على وضعها وخلطتها فإنه يأخذ منها شاة واحدة، لكن كم يحسب على صاحب الثلاثين، وكم يحسب على صاحب العشر؟(51/17)
"وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" هل نقول: إن هذا عليه نصفها، والثاني عليه نصفها وهذا مقتضى التسوية يتراجعان بينهما بالسوية؟ أو نقول: هذا عليه الربع، وصاحب الثلاثين عليه ثلاثة الأرباع، أيهما؟
طالب:. . . . . . . . .
ربع وثلاثة أرباع، هذا متفق عيه؟ طيب.
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
"وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" إيش معنى السوية؟ بالتساوي، يعني هذا عليه نصف الشاة، وهذا عليه نصفها، هذا صحيح وإلا لا؟ هل هذا ما يقتضيه ظاهر اللفظ وإلا لا؟ نعم؟ ((اتقوا الله وسووا بين أولادكم)) ((واعدلوا بين أولادكم)) هل مقتضى هذا أن يعطى الذكر مثل الأنثى الذي هو مقتضى لفظ التسوية، أو أن المراد العدل والتسوية على ما قسم الله -جل وعلا- {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [(11) سورة النساء]؟ يعني المعنى يقتضي أن صاحب العشر الذي له ربع العدد عليه ربع الزكاة، وصاحب الثلاثين الذي له ثلاثة أرباع العدد أن عليه ثلاثة أرباع الزكاة، هذا من حيث المعنى، فهل نقول: إنهما يتراجعان بالسوية كل واحد نصف، أو على صاحب العشر الربع، وصاحب الثلاثين الثلاثة الأرباع مثل ما في ((اتقوا الله واعدلوا)) ((اتقوا الله وسووا بين أولادكم)) هل نقول: إن مقتضى التسوية أن يعطى الذكر مثل الأنثى؟ وقال بهذا جمع من أهل العلم تحقيقاً للفظ التسوية، أو يقال: إن التسوية والعدل إنما تكون بقسمة الله -جل وعلا- كالميراث {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [(11) سورة النساء]؟
طالب:. . . . . . . . .(51/18)
كل له فهمه، كل على ما يفهم من التسوية ومن العدل، يعني هل من العدل أن يعطى الذكر مثل الأنثى؟ أو نقول: العدل أن يقسم بينهم كما تولى الله -جل وعلا- القسمة؟ مثلما قال أبو بكر: " رضيت لنفسي بما رضي به الله لنفسه " الخمس، فأوصى بالخمس {فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ} [(41) سورة الأنفال] رضيت بالخمس مثلما رضي الله، والذي يريد أن يقسم ويعطي أولاده يرضى بما رضيه الله -جل وعلا- من القسمة بينهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [(11) سورة النساء] أو نقول: إن مقتضى لفظ التسوية أن يكونوا سواء لا فرق؟ وهنا نستفيد ترى من التنظير فيما عندنا، نستفيد من التنظير في معنى السوية "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" افترض أن رجلين عندهما ثمانون من الغنم، كل واحد له أربعون، لكل واحد أربعون، وليسا بخليطين، هما جاران، لما سمعا بالمصدق خلطا المالين من أجل أن تخف الزكاة، تقل الزكاة، فبدلاً من أن يدفعا شاتين يدفعا شاة واحدة، وفي هذه الصورة واضحة السوية، كل واحد عليه نصف هذه الشاة، لو كانا مختلطين، وقل مثل هذا بالنسبة للساعي المصدق، المصدق بالتشديد هو المتصدق الباذل، والمصدق هو الساعي، الذي يأخذ الزكاة، الذي يجبي الزكاة، لما جاء هذا الساعي لهذين الرجلين غير الخليطين هذا عنده أربعين، وهذا عنده أربعين، فرأفة بهما جمع المالين، نقول: هذا غاش لما اؤتمن عليه؛ لأنه نائب عن هؤلاء الفقراء، ولو فرق المالين الخليطين قلنا: هذا ظالم بدلاً من أن يأخذ شاة واحدة يأخذ شاتين.(51/19)
"وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة" هرمة كبيرة، سقطت أسنانها "هرمة ولا ذات عوار" ذات عيبة معيبة، أو عُوار العيب في جميع البدن، "ولا تيس" الذي هو فخل الغنم "إلا أن يشاء المصدق" ومشيئته هذه ليس مردها إلى التشهي، إنما مردها إلى النظر في مصلحة الفقراء، والاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة اتفاقاً، وعوده إلى ما سبقها محل خلاف بين أهل العلم إلا أن يشاء المصدق فيأخذ تيس، هذا ما فيه إشكال؛ لكون هذا التيس أنفع من هذه العنز، أو من هذه الشاة، هذا ما فيه إشكال، إذا كان أنفع للفقراء، لكن هل له أن يأخذ ذات عوار إذا كانت أنفع للفقراء، أو يأخذ هرمة إذا كانت أنفع للفقراء؟ الاستثناء والوصف المتعقب لجمل متعددة محل خلاف بين أهل العلم، هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط أو يعود إلى جميع ما تقدم؟
في القذف {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [(4 - 5) سورة النور] الاستثناء هذا يرجع إلى الأخيرة بالاتفاق، يرتفع الفسق، لكن هل تقبل شهادته يعني القاذف إذا تاب مع قوله -جل وعلا-: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [(4) سورة النور] هذا محل الخلاف بين أهل العلم، ارتفع الوصف المؤثر الذي هو الفسق فارتفع أثره، وهو رد الشهادة، طيب الجلد ثمانين جلدة يسقط بالتوبة وإلا ما يسقط؟ هذا لا يسقط بالاتفاق؛ لأنه حق آدمي، وعندنا "إلا أن يشاء المصدق" إذا رأى أن التيس أنفع للفقراء من هذه العنز، أو هذه الشاة إذا شاء، والمشيئة ردها إلى مصلحة الفقراء لا إلى رغبته وشهوته.
طيب إذا رأى أن ذات العوار أو الهرمة أنفع للفقراء مما يدفع مما هو سليم بأن تكون الهرمة أكثر لحم، وذات العوار أكثر لحماً، أو أطيب لحماً، فهل للمصدق أن يأخذ؟(51/20)
محل خلاف بين أهل العلم، ومرده الخلاف في أصل المسألة الاستثناء إذا تعقب جمل متعددة هل يعود إلى الأخيرة أو يعود إلى الجميع أو ينظر إلى القرائن؟ يعني في آية القذف القرائن دلت على أن التوبة لا ترفع الحد، وهذا أمر متفق عليه بالأدلة الأخرى، وترفع الفسق، وهذا أيضاً متفق عليه، لكن الخلاف فيما بينهما هل تقبل الشهادة أو لا تقبل؟ هذا، وما عندنا مثله، إلا أنه يختلف في الأول، الأول لا يدخل اتفاقاً في آية القذف، وهنا يتناوله الخلاف.
فإذا شاء المصدق أن يأخذ الهرمة؛ لكونها أنفع للفقراء، افترضنا أن الهرمة زنتها خمسين كيلاً، والسليمة زنتها عشرون كيلاً، أيهما أنفع للفقراء؟ نعم؟
طالب: الهرمة.
الهرمة أنفع، طيب ذات العوار معيبة، لكن زنتها مثلما قلنا: خمسين كيلاً، والسليمة زنتها عشرون، لا شك أن
المعيبة هذه أنفع للفقراء، إلا أن ... ، ولذلك رد المشيئة إليه، وهناك في الهدي والأضاحي ما فيها خيار، المعيب لا يقبل مطلقاً، ليس فيها رد إلى مشيئة المضحي أو المهدي، بخلاف ما هنا.(51/21)
"وفي الرقة ربع العشر" الرقة: الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، ربع العشر، يعني اثنين ونصف بالمائة "فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها" لأن النصاب مائتا درهم، فإذا نقصت ولو درهم واحد؛ لأنه قد يقول قائل: إذا لم تكن إلا تسعين، يعني مائة وخمسة وتسعين فيها شيء؟ مفهوم العدد هنا أن فيه، لكن الطريقة المسلوكة والعادة والجادة أن الآحاد تعد بالآحاد، والعقود تعد بالعقود، فما دون المائتين إلا مائة وتسعين من العقود، والمئات كذلك، والألوف كذلك، المقصود أنه لا يوجد عقد بعد المائتين إلا مائة وتسعين؛ لئلا يقول قائل: ما دام مائة وتسعين ما فيها شيء، مفهومه أن مائة وخمسة وتسعين فيها شيء، نقول: ليس فيه عقد دون المائتين إلا المائة والتسعين، ليس فيها شيء إلا إن شاء ربها، يعني إذا بلغت المائتين ففيها ربع العشر، ربع العشر، كم؟ خمسة، خمسة دراهم، زنتها وقياسها بالفضة المتداولة الآن بالريال العربي السعودي ستة وخمسين ريال فضة، ثم بعد ذلك ينظر في قيمة الريال فتعادل بها قيمة الورق، ومن الذهب عشرون مثقالاً، إذا بلغت عشرين مثقال، إحدى عشر جنيه، وأربعة أسباع الجنيه وجبت فيها الزكاة هذا نصاب الذهب، والعشرون مثقالاً فيها نصف مثقال، نصف مثقال ربع العشر، نصف مثقال، طيب إذا أخرج مثقال عن العشرين هل المثقال الكامل هذا أو الدينار من عشرين ديناراً كله واجب، أو النصف هو الواجب والنصف الثاني مندوب؟
طالب:. . . . . . . . .
المسألة مثال على قاعدة عند أهل العلم في أصول الفقه، كمن أخرج ديناراً عن عشرين، بهذا اللفظ في كتب الأصول.
طالب:. . . . . . . . .
الزيادة إذا كانت متميزة فالقدر الواجب هو الفرض، وما زاد على ذلك فهو نفل، مثال ذلك: في صدقة الفطر قلت لصاحب المحل: كل لي صاع وضعه في وعاء، فكاله ووضعه في الوعاء، وربطه وأعطاك إياه، قال: كل لي صاعاً ثانياً، فكاله ووضعه في وعاء وربطه، الصاع الأول هذا هو الفرض، والثاني إذا كانت الزيادة غير متميزة فالكل واجب، إذا كانت الزيادة غير متميزة فالكل واجب.(51/22)
المسألة لها أمثلة كثيرة جداً عند أهل العلم، من أدى دينار عن عشرين، إذا كانت مصروفة نصف ونصف هذا ما فيه إشكال، لكن إذا أدى الدينار جميع، يعني دفع دينار لوكيله، وقال: سلمه فقير، فضاع من وكيله، يضمن دينار وإلا نصف دينار؟ نعم على الخلاف، يعني المسألة ما تسلم من خلاف، الزيادة إذا كانت متميزة لها حكم، وإذا كانت غير متميزة لها حكم.
دخل المأموم والإمام راكع، الإمام سبقه إلى الركوع وسبح ثلاثاً قبل أن يركع المأموم، نقول: انتهى الواجب على الإمام والباقي مسنون؟ بمعنى أنه لو دخل معه بعد أن سبح واحدة الواجبة، نقول: إن هذا حكمه حكم المفترض خلف المتنفل، فلا تصح صلاته عند من لا يجيز صلاة المفترض خلف المتنفل؟ أو نقول: الكل واجب لأن الزيادة غير متميزة؟ لها فروع كثيرة، يعني مثل هذه الأمور على طالب العلم أن يعتني بها، يعني هذه الدعاوى التي تقلل من الأصول وعلم الأصول وكتب الأصول باعتبار ما دخلها من مسائل الكلام وغير ذلك، جعلت بعض طلاب العلم يزهد في هذا العلم، وحينئذٍ يضيع، لا يستطيع أن يتعامل ويتصرف مع النصوص.
طالب:. . . . . . . . .
لكن متميزة الخمسمائة.
طالب:. . . . . . . . .
الخمسمائة متميزة، منفكة عن الألف، ليش؟ لأنها فئة واحدة الخمسمائة، أنت افترض أن عليك زكاة أربعمائة ودفعت زرقاء خمسمائة، هذا اللي غير متميزة.
طالب:. . . . . . . . .
ظهر الفرق؟
طالب:. . . . . . . . .
"ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة" والجذعة من واحد وستين إلى خمسة وسبعين وعنده حقة أقل منها فإنه يدفع الحقة ويدفع معها جبران، شاتان "إن استيسرتا له، أو عشرين درهما" "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة" مراعاة لظروفه، لو قيل له: ادخل إلى السوق وبع هذه الحقة واشتر لنا جذعة يتكلف أكثر بلا شك، والشرع لا يكلفه أكثر مما وجب عليه، فوجد له حل في هذه الصورة.(51/23)
"ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة" يعني أعلى مما يجب عليه "فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً، أو شاتين" هذا يسمونه جبران، وهل هو لازم، أو المسألة مسألة تقويم؟ تقوم الجذعة وتقوم الحقة ويدفع الفرق، وكان الفرق في ذلك الوقت عشرين درهم أو شاتين، أو نقول: إنه لازم، خلاص ادفع شاتين، طيب شاتين أكثر من قيمة الجذعة أحياناً، يقول: يلزمك تدفع شاتين، أو ادفع عشرين درهم؟ أحياناً في بعض الأوقات تهبط الأقيام إلى أن تكون قيمة الأصل أقل من قيمة الجبران، والشرع لا يعجز عن حل مثل هذه المسائل، فلا يكلف أكثر مما أوجب الله عليه.
طيب، قال: ما عندي إلا شاة وعشرة دراهم، نقول: يلزمك شاتين وإلا عشرين درهم؟ منهم من جمد على النص، وقال: ما في إلا هذا، وإلا دبر الواجب عليك، نقول: الشرع دين عدل ومساواة بين الجميع، يعني ما يظلم أحد على حساب أحد؛ لأنه قد يكلف في حملها في الوسائل بمثل قيمتها؛ ليبيعها في السوق، ثم يحمل الأخرى إلى المصدق، لا بد أن يوجد الحل وقد وجد؛ لأن هذه أمثلة، ليست ملزمة، ليست تعبدية، إنما هي أمثلة للجبران.
"ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي معها شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين" كما تقدم "ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهماً" لما يعرف من التفاوت بين السنين "ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده، وعنده بنت لبون فإنه تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها" يعني على المطلوب "وعنده ابن لبون" وجب عليه بنت مخاض، لماذا؟ لأن عنده خمس وعشرين من الإبل، ما عنده بنت مخاض، عنده ابن لبون "فإنه يقبل منه، وليس معه شيء" لا يأخذ ولا يعطي، لماذا؟ لأنه قال في الأول: "فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر" لأن الزيادة في السن في ابن اللبون يقابله النقص في الجنس، فالأنثى أفضل من الذكر في هذا الباب، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(51/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر - كتاب الزكاة (2)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن مسروق عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن" وفي بعض النسخ: "بعثني" وكل من الأسلوبين جائز، لكن "بعثني" هذا هو الأصل؛ لأنه يتحدث عن نفسه، وبعثه على أسلوب التجريد، يعني جرد من نفسه شخصاً آخر فتحدث عنه.
"بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً" رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
الخبر يرويه مسروق بن الأجدع التابعي الجليل عن الصحابي معاذ بن جبل الذي سبق الحديث عن بعثه إلى اليمن، ويختلف أهل العلم في سماع مسروق منه، فجزم بعض الحفاظ أنه لم يسمع من معاذ، والشيء المؤكد المقرر أن مسروقاً في اليمن، في ذلك الوقت، وسنه يحتمل، فالمعاصرة متحققة، والحرص من مسروق موجود؛ لأنه طالب علم، وسنه يؤهله إلى لقاء معاذ، والأخذ منه، فعلى مذهب من يكتفي بالمعاصرة، وهو الذي يقرره الإمام مسلم، ويرد على خصمه بقوة، الحديث ما فيه إشكال متصل، والذي يقول: لا بد من ثبوت اللقاء يتوقف في مثل هذا.
على كل حال الخبر صحيح، ولا إشكال فيه؛ لأن مسروقاً في وقت معاذ كبير ليس بصغير، يقال: لا يلتقي بمعاذ، ومعاذ هو المتفرد بالقضاء والفتيا، فكيف لا يلقاه مسروق مع شدة حرصه، فالخبر إن قلنا بالاكتفاء بالمعاصرة فلا إشكال، وإن قلنا: لا بد من ثبوت اللقاء فهذا يشكل حتى يثبت أن مسروقاً سمع منه، ولكن أكثر أهل العلم ماشين على تصحيح الخبر إذا ثبتت المعاصرة، ولم يكن ثم مانع من اللقاء، ولا مانع من اللقاء هنا.(52/1)
بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن معلماً وموجهاً وقاضياً، بعثه مفتياً إلى اليمن، ذكرنا في درس مضى أن بعثه كان في السنة العاشرة، وأنه لم يقدم من اليمن حتى مات النبي -عليه الصلاة والسلام-، فجاء في خلافة أبي بكر.
"فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً" ذكر له فرض الزكاة مجملاً، ثم ذكر له هذا التفصيل، ولا يمنع أن يكون هناك تفصيل أكثر في حديث معاذ إلا أن الرواة لم ينقلوا إلا ما الحاجة داعية إليه، فزكاة الإبل وزكاة الغنم عرفت في كتاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، والعلماء يقتصرون على قدر الحاجة من الأخبار، فذكروا من حديث معاذ ما يتعلق بزكاة البقر؛ لأنها لم تذكر في كتاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، على ما تقدم.
"فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً" وهو ما تم له سنة، وحينئذٍ يتبع أمه، ولذلك قيل له: تبيع.
"ومن كل أربعين مسنة" ذات حولين تم لها سنتان، هذا بالنسبة للمسلمين، تؤخذ منهم الزكاة فرضاً وركناً من أركان الإسلام، ويؤخذ من غير المسلمين في مقابل إبقائهم في بلاد المسلمين على الخلاف بين أهل العلم، هل تؤخذ من غير أهل الكتاب والمجوس أو لا تؤخذ؟
"ومن كل حالم" يعني بلغ الحلم "ديناراً" من الذهب، أما من لم يبلغ الحلم فإنه لا يكلف ولا يؤخذ منه شيء "أو عدله" يعني مقابل الدينار "معافرياً" ثوب وبرد ينسج باليمن، منسوب إلى معافر، وهي قبيلة باليمن كما قالوا، على كل حال هذا فيه بيان زكاة البقر، وأنها في كل ثلاثين رأس من البقر تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة، خمسة وثلاثين كم فيها؟
طالب: تبيع.
تبيع، والخمس وقص، أو وقَص كما يقول أهل اللغة، خمسة وأربعين مسنة، ستون تبيعان، سبعون تبيع ومسنة وهكذا.(52/2)
"ومن كل حالم" يعني بلغ الحلم، كُلف "ديناراً" وهل هذا ثابت إلى يومنا هذا بأن لا يجوز الأخذ في الجزية على دينار واحد، أو أن هذا مثلما يقال في الأبواب الأخرى من الديات وغيرها، أنها خاضعة لزيادة الأثمان ونقص الأثمان، الفروق كبيرة في الأزمان، أحياناً الدينار لا يقبله الطفل إذا أعطيته إياه، وأحياناً رب الأسرة يتمنى الدينار، ولا يحصل له، فهذه الأمور تختلف باختلاف الأحوال، ومنهم من يقول: لا يزاد على الدينار، هذا قضاء نبوي ولا يجوز الزيادة عليه.
على كل حال المسألة خلافية بين أهل العلم؛ لأنه هل المقصود أن يؤخذ منهم ما يقابل بقاؤهم في بلاد المسلمين وانتفاعهم بها، أو أنه يؤخذ منهم هذا الرسم ولا يزاد عليه؟
على كل المسألة خلاف بين أهل العلم، ولعل مرد ذلك إلى الإمام، إذا رأى المصلحة في الزيادة، وأن الدينار لا يساوي شيئاً، ولا يقابل شيء، ولا يعد في عرف الناس شيء فلا مانع من الزيادة عليه كالديات، الديات في وقت من الأوقات تزيد، وفي وقت من الأوقات تنقص، تبعاً لأقيام الإبل، إذا قلنا: إن الأصل الدية مائة من الإبل.
"أو عدل ذلك معافرياً" معافرياً، هذا البرد اليمني كم يستحق الآن؟ البرد يكسو شخصاً واحداً، قد يكون أقل من قيمة الدينار اليوم، يمكن البرد الآن بعشرة أو عشرين ريال، والدينار بخمسمائة ريال، الذهب فرق كبير بين هذا وهذا، ولذلك لما قال: عدل ذلك، دل على أن التعديل في الأقيام معتبر.
"رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" إن كان مراده أن الشيخين خرجا لمسروق ومعاذ فهذا كلام صحيح، لكن هل خرجا لهما على هذه الصورة ليتم للحاكم أن يقول: على شرط الشيخين، ومن شرط إطلاق هذا اللفظ أن يخرج الشيخان للرجال بالصورة الموجودة في الصحيح، شرطهما رجالهما على الصورة الموجودة في الصحيح، فكلامه فيه نظر.
قال -رحمه الله-: "وعن ابن إسحاق" محمد بن إسحاق، إمام في المغازي، وفي الرواية كما تقدم لأهل العلم فيه كلام طويل، وتوسط جمع من أهل العلم فجعلوه من قبيل متوسطي الرواة، فحديثه إذا صرح بالتحديث حسن.(52/3)
وهو هنا قال: "وعن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" هو عند الإمام أحمد والبيهقي صرح بالتحديث، فأمنا ما كان يخشى من تدليسه.
"عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-" وهذه السلسلة أيضاً قرر أهل العلم أن ما يروى بواسطتها يكون من قبيل الحسن، فالحديث بهذا الإسناد حسن -إن شاء الله تعالى-.
"عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: قال: ((لا جلَب)) أو ((لا جلْب ولا جنَبَ، ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم)) رواه أبو داود" تؤخذ الصدقات على المياه وفي الدور؛ لأن هذا أرفق بأربابها، وأرفق بالساعي أيضاً، فلا يكلف الساعي أن يتتبع المواشي في أماكن رعيها، فيحتاج إلى تعب وإلى زمن طويل، إنما تؤخذ في الدور وعلى المياه، إذا اجتمعت كما أن صاحب المال لا يكلف أن يحضرها إلى الساعي في محل إقامته، فـ ((لا جلب، ولا جنب)) في حديث مضى ((لا إسعاد ولا جلب ولا جنب)) فسروا الجنب هناك بأنه في حال السباق أن يتخذ فرسين يركب أحدهما، فإذا تعب ركب الآخر، لكن هذا تفسير لا يناسب في هذا الباب، اللهم إلا إذا قلنا: إن الشاهد من الحديث في الجملة الأولى لا في الثانية.
فُسر الجنب هنا بكلام يناسب الباب، يناسب كتاب الزكاة، فقالوا: هو أن ينزل العامل على الصدقة بأقصى موضع لأصحاب الصدقة، ثم يأمر بالأموال أن تحضر إليه، هذا الكلام متجه إلى الرفق بالطرفين، فلا يكلف صاحب المال كما أنه لا يكلف الساعي.
((ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم)) لأن هذا أرفق بالساعي بدلاً من أن يتتبع هذه الأموال في أماكن الرعي إذا اجتمعت بالدور أو على المياه فأنه يعدها ويأخذ زكاتها.(52/4)
"رواه أبو داود، وللإمام أحمد عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو" التصريح بالجد، وأنه عبد الله بن عمرو يرفع الاحتمال أن يكون المراد بالجد محمد بن عبد الله بن عمرو؛ لأنه عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، والاحتمال قائم أن يكون الجد محمد، فيكون الخبر مرسلاً، واحتمال أن يكون الجد عبد الله بن عمرو فيكون الخبر متصلاً، وهنا صرح بالجد، ولوجود هذين الاحتمالين أنزل العلماء ما يروى في هذه السلسلة من الصحيح إلى الحسن، وهنا ارتفع الاحتمال الأول، وبقي الاحتمال الثاني، لكن بقي ما يذكر من عدم سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، وهذا أيضاً قول مرجوح.
على كل حال الحديث على الجادة، أقل ما يقال فيه: إنه حسن.
"أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم)) " ومثلما قلنا في الحديث السابق في دورهم وعلى مياههم في أماكن اجتماع أموالهم، فلا يكلف صاحب المال ولا يكلف الساعي، بل يرفق بالجميع.
قال -رحمه الله-: وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)) متفق عليه، ولمسلم: ((ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر)) ولأبي داود: ((ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق)).
((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)) المراد بالعبد المتخذ للخدمة، والفرس المتخذ للركوب بخلاف المعد للتجارة، المعد للتجارة هذا يزكى زكاة عروض التجارة، أما المعد للخدمة -للقنية- فإن هذا لا زكاة فيه كسائر ما يقتنى للانتفاع به.
شخص عنده بيت يسكنه، والبيت بأموال طائلة، هل نقول: يزكي هذا البيت؟ لا يزكي، شخص عنده إبل كثيرة يستقي بها في زراعته نواضح فيها زكاة؟ ليس فيها زكاة، شخص عنده مصانع وآلات ليس فيها زكاة، إنما الزكاة في غلتها، شخص عنده مخابز مصانع ألبان عنده مطابع الزكاة في غلتها، وليست في آلاتها.
((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)) وكذلك كل ما يقتنى للانتفاع لا للنماء، أما الذي يقتنى للنماء ما هو معروف، فالأموال فيها الزكاة.
طالب:. . . . . . . . .(52/5)
يأتي في زكاة الزروع والثمار، هذا يأتي في زكاة الزروع والثمار.
((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)) لأنه لا يعدها للنماء، وإنما يعدها للانتفاع بها للركوب، ولا يعدها للتجارة ((إلا صدقة الفطر))، ((ليس على المسلم في العبد صدقة إلا صدقة الفطر)) فإنه يجب عليه إذا غابت عليه شمس آخر يوم من رمضان وهو في ملكه أن يدفع عنه صدقة الفطر، كما يدفع عن نفسه وزوجه وولده.
"ولأبي داود: ((ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر في الرقيق)) " احتاج إلى قوله: ((في الرقيق)) لأنه عطف الرقيق على الخيل، والخيل معلوم أنها لا تدفع عنها صدقة الفطر، وإنما خاصة ببني آدم.
قال -رحمه الله-: "وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((في كل سائمة إبل)) " التنصيص على السائمة بالنسبة للغنم تقدم في كتاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفي الإبل هنا، وفي البقر بالقياس، وجاء فيها أخبار لا تثبت، لكن القياس متجه؛ لأنها كلها بهيمة أنعام، والحكم فيها واحد.
((في كل سائمة إبل، في كل أربعين بنت لبون)) هذا موافق لما سبق أو مخالف؟ هناك قال: "في ست وثلاثين إلى خمس وأربعين بنت لبون" فهل في هذا مخالفة؟ نعم؟ يعني هل لمثل هذا مفهوم؟ بمعنى أنها إذا نقصت عن الأربعين ليس فيها بنت لبون؟ المفهوم ملغى، لماذا؟ لأنه معارض بنمطوق الحديث السابق.
قال: ((في كل أربعين بنت لبون، لا تفرق بين إبل عن حسابها)) (بين) هذه وجودها مثل عدمها، إنما الإبل لا تفرق عن حسابها، بمعنى أن الشخص إذا كان عنده أربعون من الإبل لا يفرقها خشية الصدقة، كما تقدم في الخليطين، وكذلك يتجه النهي إلى صاحب المال الواحد، فإنه لا يجوز له أن يفرقها، لكن إذا تفرقت من الأصل في كل إقليم مجموعة من المواشي، هل يضم بعضها إلى بعض كسائر التجارات؟(52/6)
شخص عنده تجارة في مصر، وتجارة في الشام، وتجارة في نجد، وتجارة في الهند، إذا كانت من بهيمة الأنعام، هل نقول: تجمع هذه فلا تفرق، أو هي من الأصل متفرقة؟ وكل مال يعتبر مستقلاً عن غيره؟ أو نقول: هذه أصلها مثل عروض التجارة؟ يعني لو كان له أموال عروض تجارة في بلدان متفرقة فإنه يحسبها، ويخرج زكاة واحدة عنها، أما بالنسبة للمواشي فهل تعامل معاملة العروض؟
بعضهم يقول: إذا كان بين المالين أكثر من مسافة قصر فإنها لا تجمع، فيزكى كل مال على حدة، هذا القول هل فيه مصلحة للفقير أو مصلحة لصاحب المال؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
لصاحب المال أو للفقير؟
طالب:. . . . . . . . .
طيب عنده أربعين من الغنم في نجد، وأربعين في مصر؟
طالب:. . . . . . . . .
لا، أقول: هذا التفريق ... ، القول الثاني الذي هو التفريق، كل بلد له حكمة، هل من مصلحة الفقير أن تجمع أو من مصلحته أن تفرق؟
طالب: أن تفرق.
أن تفرق.
طالب:. . . . . . . . .
لا، هذا من مصلحة الغني، لكن أنا أقول: ليس بمطرد أن يكون بمصلحة الغني أو مصلحة الفقير، الفقراء في هذا البلد اتجهت أنظارهم إلى ما عند هذا الرجل من هذا المال، ولذلك القول بأنها لا تجمع لا يهدر، قول له وجهه، والقول بجمعها كسائر الأموال أيضاً هو الأصل؛ لأن الأصل في الزكاة أنها تجب في عين المال، ولها تعلق بالذمة.
((من أعطاها مؤتجراً بها)) يعني طالباً بها الأجر من الله، قاصداً بها وجه الله -عز وجل- مخلصاً في ذلك طيبة بها نفسه، مؤتجراً ما الفرق بين مؤتجراً ومتجراً؟
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
مؤتجر بالفك، ومتجر بالإدغام هل بينهما فرق أو لا فرق بينهما؟
طالب:. . . . . . . . .(52/7)
بينهما فرق؟ مؤتجراً بها، هنا بالفك، ولو قال: متجراً بها من أعطاها متجراً بها، متجر من التجارة، ومؤتجر من طلب الأجر، وطلب الأجر من الله -جل وعلا- تجارة، ومتاجرة مع الله -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [(29) سورة فاطر] هذه تجارة، وعلى هذا يكون لا فرق بين الفك والإدغام، متجر مع الله يرجو الأجر من الله -جل وعلا-، والمؤتجر كذلك، وعلماء المصطلح يذكرون في المتصل، المتصل بالإدغام هذه الجادة، الذي يقابل المنقطع، قالوا: مؤتصل بالفك لغة الإمام الشافعي، مؤتصل، مثل مؤتجر هنا، لغة الإمام الشافعي، كما أشار لذلك ابن الحاجب في شافيته، ابن الحاجب في الشافية في الصرف يقول: مؤتعد ومؤتسر لغة الإمام الشافعي، مؤتعد ومؤتسر يعني بالفك لغة الإمام الشافعي.
وعلى هذا من أعطاها متجراً بها طالباً الأجر والثواب من الله -جل وعلا- قاصداً بذلك وجه الله، هو في الحقيقة متاجر مع الله، يبذل ليأخذ الأجر والثواب من الله -جل وعلا-، والمتاجرة مع الله -جل وعلا- هي المتاجرة الرابحة، هي المتاجرة الرابحة، لماذا؟ لأن الربح على أقل تقدير، عشرة أضعاف، تجدون المنافسة بين البنوك والمؤسسات في خفض الربح، يعني كان عشرة بالمائة، ثم صار ثمانية، ثم صار الآن خمسة، يطالبون الآن لتكون ثلاثة أو أقل، هذه متاجرة مع الخلق، تتجر اليوم وتفتقر غداً، تغتني يوم وتفتقر ثاني، لكن المتاجرة مع الله -جل وعلا- أقل تقدير عشرة أضعاف، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، هذه المتاجرة الحقيقية.(52/8)
والعاقل اللبيب الحريص على نفسه، وعلى ما ينفعه يشتغل بهذه التجارة {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [(29) سورة فاطر] انصرف بعض طلاب العلم قبل سنوات إلى المتاجرة، في تجارات وهمية من أسهم وغيرها، ثم ما لبثوا أن افتقروا في لحظة، اليوم أغنياء وغداً فقراء، وبعضهم اليوم عاقل وغداً مجنون، هذا حاصل، واليوم بين أولاده في صحته، وغداً في المصحات والمستشفيات، هل هذه تجارة حقيقية؟ {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [(77) سورة القصص] لا تكن عالة على غيرك، لكن ليس معنى هذا أن تتجه بكليتك إلى حطام الدنيا، وتنسى ما خلقت لأجله {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [(29) سورة فاطر] التي لا يعدو عليها لص، ولا تخضع لبرصات، ولا حيل ولا إشاعات؛ لأن بعض التجارات مبنية على الإشاعات، وبعضها مبنية على حيل من الأغنياء يتصرفون في رفع الأسعار، وفي خفضها، ويتلاعبون بهذه الأسواق الأسواق المالية، هنا {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [(29) سورة فاطر].
((مؤتجراً بها فله أجرها)) يقول: {سِرًّا وَعَلاَنِيَةً} [(274) سورة البقرة] قد يحتاج الأصل في النفقة أن تكون سراً، وهذا أفضل وأقرب إلى الإخلاص، لكن قد يحتاج الإنسان أن يتصدق علانية ليسن سنة يقتدى به فيها، فيكون له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
((مؤتجراً بها فله أجرها)) لن يحرم أجرها ((ومن منعها)) رفض أن يدفع الزكاة، أبو بكر قاتل مانعي الزكاة باتفاق من الصحابة، بعد أن عارض من عارض، ثم اتفقوا على قتال مانعي الزكاة، هذا إذا لم يكن له منعة، فرد منع الزكاة فإن الإمام يأخذها منه قهراً ويعزره، وإن كان له منعة تدافع عنه قبيلته فإنهم يقاتلون، كما فعل الصديق -رضي الله عنه وأرضاه-.
((ومن منعها فأنا آخذوها)) يعني قهراً ((فإنا آخذوها وشطر ماله)) يعني عطفنا على الضمير المنفصل من غير فاصل، يجوز وإلا ما يجوز؟
طالب:. . . . . . . . .
يجوز وإلا ما يجوز؟
طالب:. . . . . . . . .
ليش؟
طالب:. . . . . . . . .
أي ضمير؟ وإلا ضمير الرفع فقط؟ هذا ضمير إيش؟ ضمير نصب، ما في إشكال، يجوز العطف على ضمير النصب المتصل الذي لا يجوز العطف عليه إلا بفاصل هو ضمير الرفع.(52/9)
((فإنا آخذوها وشطر ماله)) شطر نصف المال، الشطر هو النصف، ((عزمة من عزمات ربنا)) يعني جد وحق، ولازم من حقوق الله -جل وعلا- أن يؤخذ منه مع الزكاة شطر ماله، وهذه مسألة -مسألة العقوبة بالمال- مسألة مختلف فيها بين أهل العلم، منهم من يرى أنه لا يجوز أخذ مال إلا بطيب نفس من صاحبه مطلقاً، فلا تعزير في المال، وهذا قول كثير من أهل العلم، ومنهم من يقول: يجوز التعزير بالمال، وعمدتهم هذا الحديث، وأيضاً أخذ السلب ممن يقطع الشجر في المدينة جاء فيه حديث سعد وغيره.
على كل حال التعزير بالمال مسألة مختلف فيها، فمن يثبت هذا الحديث وهو مختلف في ثبوته يقول: لا مانع من التعزير بالمال حسب ما يراه الإمام، وهو المعمول به الآن، التعزيرات بالمال كثيرة، يعني في كل باب موجودة.
((عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد منها شيء)) منهم من يقول: هذا الحديث ليس فيه دليل على التعزير بالمال، منهم من يقول: هذا الحديث ليس فيه تعزير بالمال، ويكون اللفظ حينئذٍ: ((فإنا آخذوها وشُطِرَ ماله)) شطر ماله يعني جعل شطرين، شطر جياد، وشطر أقل، فتؤخذ الزكاة من الجياد، فحينئذٍ لا يكون فيه أخذ أكثر مما فرض الله عليه.
قال من يقول بالتعزير بالمال إن هذا فيه تعزير بالمال؛ لأنها إذا أخذت الزكاة من الجياد فبدلاً من أن يؤخذ منه عشر من الغنم قيمة الواحدة خمسمائة، أخذت من الجياد قيمة كل واحدة منها سبعمائة، زاد عليه ألفا ريال، يعني العشر بدلاً من أن تكون قيمتها خمسة آلاف صارت قيمتها سبعة آلاف، هذه في زيادة في الأصل، والأصل أن تؤخذ من أوساط المال التي قيمتها خمسمائة؛ لأنه نفترض أن المال فيه الجيد، وفيه المتوسط، وفيه الرديء، فيه سبعمائة، خمسمائة، ثلاثمائة، لا تؤخذ من الثلاثمائة الرديئة، ما قيمته ثلاثمائة الرديئة مراعاةً لحق الفقراء، ولا تؤخذ كلها من الجياد ((إياك وكرائم أموالهم)) هذا منهي عنه، وإذا قلنا: إنه يشطر ماله وتؤخذ الزكاة من الجياد قلنا: إن هذا فيه تعزير بالمال، يعني وقعوا في مثل ما فروا منه، ولم يحصل حل للإشكال.(52/10)
على كل حال الذي يصحح الحديث، وهو على مقتضى طريقتهم بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، مثل عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قالوا: إن الحديث بهذه السلسلة يكون حسناً، والحسن يحتج به في الأحكام، ولكن ليس هذا بمبرر؛ لما حصل في بعض الأقطار، وفي بعض الأمصار والأعصار أن يتسلط الظلمة على أموال الناس، ويعاقبوهم بالأموال، ويعزروهم بالأموال، ويأخذوها لأنفسهم لا، هذه العقوبات وهذه التعزيرات إنما تكون لبيت المال، ليست للأشخاص؛ لأن الشراح ذكروا أن بعض الظلمة استغلوا مثل هذا الحديث فصاروا يفرضون الأموال لأنفسهم، وهذا لا يجوز بحال.
((عزمة من عزمات ربنا)) حق من حقوق الله، وحق الله -جل وعلا- لبيت المال، بيت مال المسلمين، ((ليس لآل محمد منها شيء)) مقتضى قوله: ((عزمة من عزمات ربنا)) هل للساعي أو من فوقه من ولاة الأمر أن يتنازلوا عنها ما دامت عزمة من عزمات ربنا؟ حق من حقوق الله؟ مقتضى اللفظ أنه ليس لأحد أن يتنازل، هذا حق ثابت لله -جل وعلا- كسائر الحقوق، كالكفارات مثلاً، ليس لأحد أن يتنازل عنها، فهي من حقوق الله، ((ليس لآل محمد منها شيء)) الزكوات والصدقات ((إنما هي أوساخ الناس)) {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [(103) سورة التوبة] وما ينتج عن التطهير كالثوب إذا غسل فغسالته وسخة، والزكاة الذي تطهر بها النفوس فيها وسخ، هي أوساخ الناس، فلا تحل لمحمد ولا لآل محمد، لا يحل منها شيء.(52/11)
وآل محمد يختلف فيهم أهل العلم، فعند الشافعية والحنابلة أنهم آل هاشم وآل المطلب، لم يفترقوا بجاهلية ولا إسلام، فكلهم من الآل، ومنهم من يخص الآل ببني هاشم، ومنهم من يخصهم بأهل الكساء، العباس وعلي والحسن والحسين، وعلى كل حال هذه مسألة خلافية بين أهل العلم، لو ادعى شخص أنه من آل محمد، أو استفاض عن شخص أنه من آل البيت، وزعم أنه ليس من آل محمد، وهذه الدعوى سواءً كانت بالنفي أو الإثبات مشتملة على جلب نفع، وعلى دفع ضر، تقبل دعواه فيما لا يجلب له نفعاً، لو قال: إنه من آل محمد قبلنا دعواه ما أعطيناه من الزكاة، لكن هل نقبل دعواه في إعطائه من الخمس؟ إلا ببينة، وإذا قال: إنه ليس من آل محمد قبلنا دعواه في عدم إعطائه من الخمس، ولم نعطه من الزكاة إذا استفاض أنه من آل البيت إلا ببينة وهكذا.(52/12)
((ليس لآل محمد منها شيء)) رواه أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، وعند أحمد والنسائي: ((وشطر إبله)) والإبل من المال، يعني تنصيص على بعض الأفراد لا يقتضي التخصيص، لا يقال: إذا كان ماله من غير الإبل لا يشطر ماله ولا يؤخذ شطره، إنما التنصيص على الإبل، في هذه الرواية تنصيص على فرد من أفراد العام، وهذا لا يقتضي التخصيص عند أهل العلم، إلا إذا كان الحكم مخالف لحكم العام، وهنا موافق "والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه" صحيح الإسناد، ما قال على شرط الشيخين، أو على شرط واحد منهما، البخاري علق لبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، والمعلقات ليس لها حكم الصحيح، فلا يقال على شرط البخاري؛ لأنه خرج لبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وهذا يجرنا إلى مسألة، وهي أيهما أقوى وأرجح وأجود، ما يروى عن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو ما يروى عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده؟ منهم من قال: إنما يروى من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أقوى مما يروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ لأن البخاري علق لبهز بن حكيم عن أبيه عن جده، ولم يعلق لعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومنهم من يقول: العكس، ما يروى من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أقوى مما يروى من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، والتعليق لبهز بن حكيم في صحيح البخاري لا يعني أن البخاري صحح له، وإنما عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحح له البخاري فيما رواه عنه الترمذي، فيما نقله عنه الترمذي.
"وقال أحمد: هو عندي صالح الإسناد" طيب "صالح الإسناد" أشرنا سابقاً أن الصلاحية أعم من أن تكون للاحتجاج أو الاستشهاد، أعم من أن تكون للاحتجاج فتكون صحيحة أو حسنة، أو للاستشهاد بأن تكون ضعيفة لضعف ليس بشديد، فتصلح للاستشهاد والاعتضاد.
والعلماء حينما شرحوا قول أبي داود: "وما سكت عنه فهو صالح" ابن الصلاح ومن يتبعه يجعله بمنزلة الحسن.(52/13)
"وقال الشافعي -رحمه الله-: لا يثبته أهل العلم بالحديث" لأن بهزاً بذاته فيه كلام لأهل العلم، ويرون أن في المتن نكارة، ومخالفة لنصوص كثيرة تدل على احترام أموال المسلمين، وأنه لا يجوز أخذ شيء منها إلا بطيب نفس، وهنا: تؤخذ قهراً منه، فرأوا أن في متنه نكارة، فقال الشافعي "لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولو ثبت لقلت به" والشافعي -رحمه الله تعالى- صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، فيلزمه في مسائل كثيرة لا يراها أن تكون من مذهبه؛ لأن الأخبار صحت بها "وذكر ابن حبان: إن بهزاً كان يخطئ كثيراً" نعم قيل فيه ذلك، ولذلك سبب إنزال هذه السلسلة من الصحيح إلى الحسن هو الكلام في بهز، بينما سبب إنزال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده من الصحيح إلى الحسن هو الاختلاف في عود الضمير في قوله: عن جده، هل يعود إلى عمرو، أو يعود إلى أبيه شعيب، ويترتب على ذلك أنه إذا عاد إلى عمرو فالجد محمد، فيكون الخبر مرسل، وإذا عاد الضمير إلى شعيب وهو الأقرب في الذكر كان الجد عبد الله بن عمرو كما مر بالحديث الذي سقناه آنفاً.(52/14)
"وذكر ابن حبان أن بهزاً كان يخطئ كثيراً، ولولا رواية هذا الحديث لأدخلته في الثقات" لأنه يرى أن في هذا الحديث مخالفة لما تقرر في عمومات الشريعة وقواعدها أن مال المسلم محترم ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) فالأموال محترمة، وإذا صح مثل هذا الخبر فإن هذا ليس بمبرر أن يسترسل في العقوبات بالأموال، فالأصل أن مال المسلم محترم، يعني إذا قرر عقوبة ولو بمبلغ يسير فإن هذا التقرير لا يكون إلا عن تثبت وعن دراسة واعية، لا يكون لأدنى سبب، ولا يكون إلا لمبرر قوي، يجعل الأخذ من مال المسلم من غير طيبة نفس منه، يعني له مبرر، وله وجه بحيث تطمئن النفس إلى أخذه، أما أن يتساهل في الأموال، وكل شيء يؤخذ عليه مال هذا أمر لا شك أنه مخالف للعمومات، يعني فرق بين من يغرق أسواق المسلمين وشوارع المسلمين وأزقة المسلمين بالمياه وبين من يتسرب من بيته شيء يسير، ينبغي أن يلاحظ مثل هذا الأمر، فليس لأدنى شيء تؤخذ الأموال، خرج ماء يسير، ثم إذا جاء إلى الباب ملصق عليه عقوبة، هذا كلام ليس بصحيح، من الذي يستطيع أن يحتاط لكل شيء، لكن شخص أهدر الأموال، وأهدر الماء المتعوب عليه، وآذى الناس في طرقاتهم مثل هذا قد ترتاح النفس إلى تعزيره بالمال، فالأمور تقدر بقدرها، فالأصل المنع، فإذا وجد مبرر قوي يجعل النفس تقرر العقوبة وهي مرتاحة هذا شيء آخر، والحديث أصل في الباب ((فإنا آخذوها وشطر ماله)) فعلى من ولي هذا الأمر أن يحتاط لهذا الأمر.
"ولولا رواية هذا الحديث لأدخلته في الثقات، قال: وهو ممن أستخير الله فيه" هو متردد في بهز بن حكيم هل هو من الثقات أو من الضعفاء؟ هو كلامه في المجروحين "وهو ممن أستخير الله فيه" وعلى قاعدته وجادته في التساهل أن يجعله في الثقات؛ لأنه وثق من هو دونه.
قال المؤلف: "وفي قوله نظر، بل هذا الحديث صحيح، وبهز ثقة عند أحمد وإسحاق وابن معين وابن المديني وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، والله أعلم" وإن لم يصل إلى درجة الثقات؛ لأن فيه كلام لأهل العلم، نعم عنده أخطاء كثيرة، وخالف الثقات، ومع ذلك لا يصل إلى درجة الضعف.(52/15)
"وقال أبو داود حدثنا سليمان بن داود المهري قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني جرير بن حازم -وسمى آخر- عن أبي إسحاق" جرير بن حازم وآخر يؤثر هذا في الإسناد؟
طالب:. . . . . . . . .
لماذا؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
لأن الآخر قدر زائد على المطلوب، ومسلم يروي عن ثقة وآخر، وهذا الآخر فتش عنه فإذا به ابن لهيعة، هل يضر إسناد مسلم أن يعطف على الثقة غيره؟ لأن الخبر يثبت بالثقة، البخاري يروي الخبر عن طريق رجلين أحدهما ثقة والآخر ضعيف، فيذكر الثقة ويسقط الضعيف، وهذا في عدة أحاديث، هل هذا الإسقاط مندرج في تدليس التسوية أو لا؟
طالب:. . . . . . . . .
لماذا؟
طالب:. . . . . . . . .
لأنه اعتمد على الثقة والضعيف قدر زائد لا داعي لذكره، فليس هذا من تدليس التسوية.
"قال: أخبرني جرير بن حازم -وسمى آخر- عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور" عاصم بن ضمرة والحارث الأعور مثل، الآن عطف الحارث وهو تالف على عاصم "عن علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا كان لك)) " هذا الخبر مضعف؛ لعنعنة أبي إسحاق، وإلا عطف الحارث والمجهول على غيرهما من الثقات لا يضر.
على كل حال هو مضعف بعنعنة أبي إسحاق السبيعي، وهو مدلس، وهو مختلف في رفعه ووقفه، والذين رووه عنه مرفوعاً كلهم رووا عنه بعد الاختلاط، فالموقوف أصح.(52/16)
"عن علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول)) " الحول شرط في الزكاة عند عامة أهل العلم إلا في الخارج من الأرض {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [(141) سورة الأنعام] ((وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون ديناراً)) " يعني عشرين مثقال ((فإذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار)) يعني في الذهب والفضة ربع العشر، فالمائتا درهم عشرها عشرون، وربع العشر خمسة والعشرون دينار عشرها ديناران، وربع العشر نصف دينار، وذكرنا في درس الأمس أن إنساناً وجب عليه نصف دينار، فأخرج ديناراً كاملاً، كثيراً ما يجب في الزكاة كسور، زكاته أربعة آلاف وتسعمائة وخمسين، يدفع خمسة آلاف، أكثر من الواجب وهكذا، إذا دفع هذه الزيادة على القدر الواجب فإن كانت متميزة فلا شك أنها ولا خلاف في أنها نفل، وإذا كانت غير متميزة فمن أهل العلم من يقول: كلها واجبة ومنهم من يقول: الواجب ما أوجب الله عليه والقدر الزائد نفل، على ما تقدم شرحه.
((وليس عليك شيء -يعني في الذهب- حتى يكون لك عشرون ديناراً)) وتعادل أحد عشر جنيهاً، وما يزيد على النصف بقليل، يعني قالوا: حدود أربعة أسباع الجنيه.
((فإذا كان لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك)) يعني عندك واحد وعشرين دينار، اثنين وعشرين دينار، خمسة وعشرين دينار، ما نقول: ما بين العشرين والأربعين وقص، كما نقوله في بهيمة الأنعام، كل شيء بحسابه، عندك ثمانية وعشرين دينار ربع العشر، عندك ثلاثون ديناراً ربع العشر، العشر ثلاثة، ربعها دينار إلا ربع خمسة وسبعين بالمائة من الدينار، وهكذا، فالأموال بحسابها، وفي حكمها عروض التجارة؛ لأنها تحسب بالأموال.
" ((فما زاد فبحساب ذلك)) قال: فلا أدري أعلي يقول: فما زاد فبحساب ذلك، أو رفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ " يعني مع الخلاف في رفعه ووقفه إلا أن هذه الجملة مشكوك فيها.(52/17)
"وليس في مال زكاة حق حتى يحول عليه الحول" الحول شرط لوجوب الزكاة عند عامة أهل العلم، ما عدا الخارج من الأرض، فإن زكاتها تجب يوم حصادها.
"إلا أن جريراً قال: ابن وهب يزيد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-" جرير بن حازم يزيد .. ، الآن عندكم قال، النقطتان بعد قال، وإلا قال ابن وهب؟ بعد قال وقبل ابن وهب؟
طالب:. . . . . . . . .
لأنه يتغير به المعنى، علامات الترقيم هذه مهمة جداً جداً، يتغير بها المعنى، إذا قلت: إلا أن جريراً قال ابن وهب، ووضعت النقطتين يزيد في الحديث صار الذي يزيد في الحديث جرير، والقائل هذا الكلام هو ابن وهب، وإذا قلت: إلا أن جريراً قال، وصار ابن وهب من مقول القول، صار الذي يزيد في الحديث ابن وهب، والقائل هو جرير، فينقلب المعنى تبعاً لوضع النقطتين بعد قال أو بعد ابن وهب، ينقلب المعنى، هاه؟ عندنا "إلا أن جريراً قال: ابن وهب يزيد في الحديث" قال تحتاج إلى نقطتين، قال القول ومقول القول، بعد القول والقائل ومقول القول نحتاج إلى نقطتين، ووضعهما يحتاج إلى عناية، فإذا قلت: إلا أن جريراً قال: ووضعت النقطتين ابن وهب يزيد في الحديث، فالقائل هو جرير، والذي يزيد في الحديث هو ابن وهب، وإذا قلت: إلا أن جريراً قال ابن وهب: يزيد في الحديث، فيكون الذي يزيد جرير والقائل هو ابن وهب، يعني مثال ثاني، يعني في بعض الكتب التي ادعي تحقيقها، في حديث اقتناء الكلب ينقص من أجره كل يوم قيراط، رواه مسلم، وفي رواية -وضع نقطتين- له قيراطان، المعنى انقلب، بدلاً من أن ينقص من أجره قيراط، صار يكسب كل يوم قيراطان، وصحة التصرف في مثل هذا تقتضي وفي رواية له، يعني لمسلم، ثم ضع نقطتين قيراطان، يعني ينقص من أجره قيراطان، علامات الترقيم مهمة جداً، إما أن تتركها لفهم القارئ وإلا ضعها في مكانها، يعني وضعها في مكانها هو الأسلم والأصح والأدق، لكن إذا كان احتمال أن تضعها في مكانها، أو في غير مكانها اتركها.(52/18)
نعود إلى ما معنا، إلا أن جريراً قال ابن وهب يزيد في الحديث، قال: ابن وهب يزيد في الحديث، أو إلا أن جريراً قال ابن وهب: يزيد، أيهما أصح؟ إذا نظرنا في السند، نعود إلى السند هل يمكن أن يقول الشيخ: إن التلميذ يزيد في الحديث؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
هل يمكن أن يقول الشيخ: إن التلميذ يزيد في الحديث؟ أو أن التلميذ يقول: إن شيخه يزيد في الحديث؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم التلميذ هو الذي يقول: إن شيخه يزيد، إذا عرضه على رواية الثقات الأثبات ووجد أن هذه الزيادة عنه وليست عند غيره حكم بأن هذه الزيادة من شيخه، لكن لا يمكن أن يحكم الشيخ بأن هذه الزيادة من تلميذه، ظاهر وإلا غير ظاهر؟
طالب: ظاهر يا شيخ.
إذاً صواب الترقيم أن يقال: إلا أن جريراً قال -ضع نقطتين- صح وإلا غلط؟ غلط، إلا أن جريراً (قال ابن وهب) تضعها بين شرطتين، إلا أن جريراً يزيد في الحديث، وهذا الكلام من مقول ابن وهب، فتضع إلا أن جريراً، الكلام الذي في النسخة التي معنا صواب، جريراً ضع شرطة قال ابن وهب ضع شرطة الثانية، ثم ضع النقطتين، يزيد في الحديث، فالذي يزيد الحديث جرير الشيخ، والقائل هو التلميذ ابن وهب "يزيد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((وليس في مال زكاة حتى يحول عليها الحول)) قال أبو داود: رواه شعبة وسفيان وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي ولم يرفعوه" الذين رووه موقوفاً على علي شعبة وسفيان، رووه موقوفاً عن أبي إسحاق، وأبو إسحاق كما هو معروف مدلس، واختلط، وشعبة وسفيان ممن روى عنه قبل الاختلاط وشعبة كفانا تدليسه، فما يروى من طريقه فهو أرجح من غيره، فالمرجح أنه موقوف على علي -رضي الله عنه-.
"وعاصم بن ضمرة وثقه أحمد وابن معين وابن المديني والعجلي، وتكلم فيه السعدي" من السعدي هذا؟
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
السعدي؟
طالب:. . . . . . . . .(52/19)
الجوزجاني، نعم، الجوزجاني؛ إلا أننا لا نأمن من بعض المتطاولين على العلم وتحقيق كتب أهل العلم من الأدعياء أن يترجم للشيخ عبد الرحمن السعدي، ما هو بعيد؛ لأن لهذا نظائر، له نظائر، في البخاري في حديث أبي موسى ((في آخر الزمان يكثر الهرج)) قال أبو موسى: والهرج بلسان الحبشة: القتل، وجاء واحد من المحققين ومترجم لأبي موسى المديني، المتوفى سنة خمسمائة وتسعين، والكلام في البخاري؛ لأن الأدعياء كثر، فلا نأمن أن يأتي من يترجم للشيخ عبد الرحمن السعدي، المتوفى بعد المؤلف بستة قرون وثلث، ما نأمن مجيء مثل هؤلاء، واحد في رسالة علمية ينقل رأي شيخ الإسلام ابن تيمية من تفسير القرطبي، لماذا؟ لأن القرطبي يستعمل نفس الأسلوب الذي يستعمله شيخ الإسلام كثيراً، ما يقول ابن القيم: ولقد سمعت شيخنا أبا العباس مراراً، وقال شيخنا أبو العباس، والقرطبي يقول كذلك، فهذا ألف القراءة في كتب ابن القيم وشيخه أبو العباس هو ابن تيمية، ويسمع سمعت شيخنا، راجعت شيخنا مراراً، مثلما يقول ابن القيم، أبا العباس، يقوله القرطبي، ويقصد بذلك شيخه أبا العباس القرطبي صاحب المفهم، والقرطبي المؤلف قبل شيخ الإسلام، التلميذ قبل شيخ الإسلام، يعني أنت عاد تقول: عنده شبهة، الفرق يسير يعني، لكن يترجم لأبي موسى المديني بدل من أبي موسى الأشعري، في صحيح البخاري! يعني المسألة من يخفى عليه وفاة البخاري؟ مائتين وستة وخمسين، هذا تطاول لا يمكن احتماله، ولذا أقول: يأتي من يأتي ممن يزعم التحقيق من المرتزقة فيترجم للشيخ عبد الرحمن السعدي، فينتبه لمثل هذا، التواريخ تكشف الزيف، لما استعمل الرواة الكذب استعمل العلماء التاريخ، فكمن راوٍ ادعى لقاء فلان، أو الرواية عن فلان فلما سئل عن مولده افتضح، يعني قد يدعي أنه سمع من شخص مات قبل ولادته بسنين، وهذا له أمثلة عند أهل العلم في كتب الجرح والتعديل، في كتب المصطلح، نعم السعدي يعني شهرته بهذه النسبة أقل من الجوزجاني، يعني لو قال: إنه الجوزجاني ما أوقع في لبس انتهى الإشكال، ومثل هذا الاصطلاح ومثل هذا الاستعمال يجعل بعض الناس في حيرة.(52/20)
شخص دخل معرض كتاب دولي فيه ألوف النسخ من الكتاب الذي يطلبه، في كل دار نسخة من هذا الكتاب الذي يبحث عنه، وخرج ما اشترى الكتاب، يمر للمكتبات عندك تفسير القرشي؟ والله ما عندي تفسير القرشي، عندك تفسير القرشي؟ والله ما عندي، يقصد ابن كثير، يعني لو قال: تفسير ابن كثير انتهى الإشكال في أول دار، فكون الإنسان يعمد إلى نسبة لم يشتهر بها الشخص، قد يوقع بعض الناس في لبس.
"وتكلم فيه السعدي وابن حبان وابن عدي والبيهقي وغيرهم، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال الثوري: كنا نعرف فضل حديث عاصم على حديث الأعور" هذا ما يشك فيه أحد، الحارث الأعور تالف، رمي بالكذب، وهو رافضي معروف، لكن مقارنة حديث عاصم به يعني هذه طريقة أهل العلم، لكن ليس بينهما نسبة، ليس بينهما نسبة، عاصم وثقه أحمد وابن معين وابن المديني والعجلي، تكلم فيه السعدي، وابن حبان أيضاً تكلم فيه وابن عدي والبيهقي وغيرهم، لكن قال النسائي –مع أنه معروف بالشدة في أحكامه على الرواة- قال: ليس به بأس، ومع ذلك يقرن بالحارث الأعور؟ لا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
طالب: السلام عليكم.
وعليكم السلام.
طالب: عندي سؤال من فضلك؟
تفضل.
طالب: يجوز أن أحكي مع بنت عمي في. . . . . . . . . في سورية، وأنا هنا يجوز أحكي معاها؟
تحكي معها في الزواج؟
طالب: لا، لا، سلام بس يعني.
وهي محرم لك؟
طالب: لا بالعدة بالعدة.
أعرف أعرف، لكن هي تحتجب عنك؟
طالب: هي بالعدة؟
لكن أنت أجنبي عنها، يعني ابن عم، لست بمحرم من محارمها.
طالب: أخت المرة.
لا ما يجوز، ما يجوز، ما يجوز.
هل يجوز العمل بعدة نوايا في عمل واحد مثل سنة الفجر وتحية المسجد وركعتي الوضوء؟
نعم هذه تتداخل، لكن لو طاف قبل صلاة الصبح، وأراد أن يدخل ركعتي الصبح مع ركعتي الطواف قلنا: لا؛ لأن هذه مقصودة لذاتها، وتلك مقصودة لذاتها.
قوله: تبيعاً أو تبيعة هل يمكن أو يحتمل أن يكون هذا شك من الرواة؟
لا، هذا تخيير هذا، تخيير.
قال: ما حكم حلق اللحية؟
جاءت الأوامر بإعفائها وإكرامها، وعدم التعرض لها، فحلقها حرام.(52/21)
هل لي أن أحلقها لو أجبرني ولي الأمر الحاكم، وإذا لم أحلق فإنني سأسجن أو أتعرض للأذى؟
المكره لا ذنب له، لكن يبقى هل الإكراه ممن يملك؟ وهل هو بالفعل إذا أنذر وتوعد يفعل أو هو مجرد تخويف؟ لأن بعض الناس يخيل إليه أنه إذا أعفى لحيته سجن، أما إذا كان حقيقي وممن يملك فالمكره غير مؤاخذ، لكن لا يبادر ولا يسارع إلى الحلق قبل أن يلزم بذلك ويهدده من يستطيع الفعل.
ما معنى قوله: ((تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم))؟
يعني على مواردهم التي ترد إليها مواشيهم، وتجتمع عليه؛ لئلا يتعب في ذلك الساعي، ولا صاحب المال.
يقول: نحن قبائل بدو سيناء نصوم مع السعودية منذ زمن طويل، وتربطنا صلة قرابة، ونتبادل الأعياد والاتصالات، وهم لا يحسبون بالفلكي والحساب بالرؤيا؟
لا بأس، أسلوبه يعني فيه شيء من الاضطراب وعدم الوضوح، على كل حال إذا كان في البلد الذي تسكنون فيه من يعتمد الرؤية الشرعية وهم ثقات، فصومكم في بلدكم، وفطركم تبعاً لرؤية بلدكم، إذا كانوا يصومون بالحساب وبأقوال الفلكيين .. ، يعتمدون أقوال الفلكيين ولا يتعرضون لرؤية فأنتم تصومون مع من يعتمد الوسائل الشرعية.
متى يكون التأمين خلف الإمام؟ وما هو الضابط في ذلك؟
((إذا قال الإمام: {وَلاَ الضَّالِّينَ} [(7) سورة الفاتحة] فقولوا: آمين فإنه من وافق تأمينه)) يعني لا تتأخر عن الإمام بعد انقطاع نفسه، ولا توافقه ولا تسابقه، فإذا انتهى من قوله: {وَلاَ الضَّالِّينَ} [(7) سورة الفاتحة] فقل: آمين، ((فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له)).
يقول: أنا أعمل في مجال الدفاع المدني، وإنني أصادف حوادث بها موتى، هل يجوز الصلاة على الميت قبل تغسيله وتكفينه؟
لا يجوز حتى يغسل ويكفن ويقدم للصلاة.
تقول: ما الأفضل والأنفع ديناً لأنثى تحفظ القرآن حفظاً جيداً دراسة اللغات والتخصص فيها من خلال الكليات الخاصة أم التخصص في دراسة اللغة العربية؟(52/22)
دراسة اللغات يعني العربية وغير العربية؟ هذه التي تحفظ القرآن جيداً، لماذا لا تتخصص في العلم الشرعي فيما يتعلق بالقرآن، وما يخدم القرآن؟ الأولى أن تعيش مع القرآن، ما دام حفظت القرآن، ويسر الله لها حفظ القرآن أن تعيش مع القرآن فيما يخدم القرآن.
يقول: كيف الحصول على أشرطتكم في شرح منتهى الإرادات في مكة؟ وإلى أي باب وقفتم؟
منتهى الإرادات كتاب عسر وشديد على كثير من طلاب العلم، بدأنا به وأشهر يعني ما استمرينا فيه، أظن أنهينا كتاب الطهارة، أو ما أنهيناه نسيت، لكن الأشرطة موجودة في تسجيلات الراية بالرياض، على كل حال الكتاب فيه عسر، فعدلنا عنه إلى مختصر الخرقي.
يقول: إذا جاز إخراج الزكاة من بلد التي أخرجت منه الزكاة إلى مستحقين في بلد آخر؟
جواب الشرط لم يأتِ.
رجل يأخذ أموال الصدقات ويوزعها على المحتاجين هل له أجر؟
هو في هذا يخدم أرباب الأموال، ويتعاون معهم، ويخدم أيضاً المحتاجين فهو مأجور -إن شاء الله تعالى-؛ لأن هذا من التعاون على البر والتقوى.
يقول: ذكر الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- أن لغة الشافعي هي تسهيل الهمزة، بمثل موتصل وموتجر، كما في تحقيقه لكتاب الرسالة حيث أنها كتبت بهذه الطريقة، من أول الكتاب إلى آخره، وليست لغته تحقيق الهمزة؟
الذي في شافية ابن الحاجب هو تحقيق الهمزة، وقد ترجعون إلى جميع النسخ المطبوعة من شافية ابن الحاجب فلا تجدون هذا الكلام، وأنا وقفت عليه في نسخة خطية في مكتبة المسجد النبوي.
تقول: أصبحت حائضاً في الطريق للعمرة من حلب، وقد استمر الحيض تسعة أيام، وعادتي هي سبعة فقط، ماذا أفعل إذا استمر الحيض؟ وكيف أحرم؟
إذا مررت بالمحرم، وغلب على ظنك أنك تجلسين إلى الطهر فتحرمين وتبقين على إحرامك حتى تطهري، وإذا غلب على الظن أن الرفقة يرجعون ولا تتمكنين من أداء العمرة فإنك لا تحرمين، أو اشترطي إذا أحرمتِ، فإذا انقطع الدم هذان اليومان إذا كان الوصف وصف دم الحيض بجميع خصائصه فإنه من الحيض ولو لم يتكرر.
يقول: عندنا في مصر تجد على أقل شيء من يفرض على الناس نقوداً تحت أي بند وليس لك الخيار في ذلك؟
على كل حال إذا كنت مجبراً فأدِ الذي عليك، واسأل الله الذي لك.(52/23)
يقول: هل يشترط تعلم علم العلامات، ثم نلجأ للتحقيق؟
لا يسوغ بالمحقق، ولا يسعه جهل علامات الترقيم؛ لأنه إذا ما اعتنى بها، ووضعها في أماكنها، فما معنى التحقيق حينئذٍ.
هل يجب تعميم الزكاة على الأصناف الثمانية، أم يجوز صرفها إلى صنف واحد؟
في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن، قال: ((فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنائهم فترد في فقرائهم)) قال أهل العلم في هذا دليل على أنه يجوز صرف الزكاة إلى صنف واحد.
يقول: هل يؤخذ مقدار الزكاة من غير المسلمين ضريبة؟
لا يجوز أخذ غير العشر في تجاراتهم والجزية، الجزية من أهل الكتاب.
هل في صغار المواشي زكاة؟
الصغار إن قصد بها التي تعيش على اللبن ولا ترعى هذه ليس فيها زكاة؛ لأنها ليست سائمة، وإن قصد بالصغار التي تلحق أماتها وترعى معها فهذه تبعاً لأمهاتها، نتاج السائمة له حكمها.
ونكتفي بهذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(52/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر - كتاب الزكاة (3)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين يا رب العالمين.
قال المؤلف -رحمه الله-:
باب: زكاة المعشرات
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((ليس فيما دون خمسة أواقٍ من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة)) رواه مسلم.
وفي لفظ له من حديث أبي سعيد: ((ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة)) وفي لفظ له بدل التمر: ((ثمر)) بالثاء المثلثة.
وعن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) رواه البخاري، ولأبي داود: ((فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلاً العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر)) وإسناده على رسم مسلم.
وعن سفيان عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثهما إلى اليمن، فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم، وقال: ((لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر)) رواه الطبراني والحاكم، وطلحة روى له مسلم.(53/1)
وعن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ بن جبل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر، وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)) رواه الدارقطني والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وزعم أن موسى بن طلحة تابعي كبير، لا ينكر أن يدرك أيام معاذ، هكذا قال، وإسحاق بن يحيى تركه أحمد والنسائي وغيرهما، وقال أبو زرعة: موسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمر مرسلاً، ومعاذ توفي في خلافة عمر، فرواية موسى عنه أولى بالإرسال، وقد قيل: إن موسى ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وسماه، ولم يثبت، قيل: إنه صحب عثمان مدة، والمشهور في هذا ما رواه سفيان الثوري عن عمرو بن عثمان ....
عمرو بنِ
عن عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إنما أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر.
وعن عبد الرحمن بن مسعود قال: جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا، قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وأبو حاتم البستي والحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وقال البزار: لم يروه عن سهل إلا عبد الرحمن بن مسعود بن نيار، وهو معروف، وقال ابن القطان: هذا غير كاف فيما يبتغى من عدالته، فكم من معروف غير ثقة، والرجل لا يعرف له حال، ولا يعرف بغير هذا، كذا قال، وفيه نظر.
وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لونين من التمر الجعرور ولون الحوبيق ...
الحَبِيق، الحَبِيق.
ولون الحَبِيق، وكان الناس يتيممون شرار ثمارهم فيخرجونها في صدقاتهم، فنزلت: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [(267) سورة البقرة] رواه أبو داود والطبراني، وهذا لفظه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وقد روي مرسلاً، قال الدارقطني: وهو الأولى بالصواب.(53/2)
وعن سليمان بن موسى عن أبي سيارة المتعي، قال: قلت: يا رسول الله إن لي نحلاً؟ قال: ((أدِ العشر)) قلت: يا رسول الله احمها لي، فحماها، رواه أحمد وابن ماجه، وهذا لفظه، وقال البيهقي: هذا أصح ما روي في وجوب العشر فيه، وهو منقطع، وقال البخاري وغيره: ليس في زكاة العسل شيء يصح.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: زكاة المعشرات
يريد بذلك الخارج من الأرض من الزروع والثمار، وما في حكمها، مما يختلف فيه أهل العلم.
المعشرات قيل لها ذلك لأنه يجب فيها العشر، أو نصفه، أو ثلاثة أرباعه، على ما سيأتي.
قال -رحمه الله-: "عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((ليس فيما دون خمسة أواقٍ من الورق صدقة)) " خمس أواق: جمع أوقية، والأوقية أربعون درهماً، الخمس مائتا درهم، وهذا تقدم ذكره من الورق، يعني من الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة؛ لأن النقدين هما الأصل فيما يتعامل به، الذهب والفضة، وقيمتهما فيهما، بحيث لا يمكن إلغاؤهما، ما يمكن إلغاء الدينار من الذهب أو الدرهم من الفضة؛ لأن القطعة تحمل القيمة، سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة، يعني ليس التعامل بالذهب والفضة في الأمان مثل التعامل بغيرهما من النقود التي هي في الحقيقة عوض عن الذهب والفضة، فخمس أواق مائتا درهم وزناً، هذا نصاب الفضة الورق، وفيها ربع العشر كما تقدم بيانه.
((ليس فيما دون خمسة أواقٍ من الورق صدقة)) لأن النصاب مائتا درهم، والخمس الأواق في أربعين مائتا درهم، فإذا نقصت، فإذا لم يكن عند الرجل إلا مائة وتسعين، أو مائة وتسعة وتسعين، لكن النص جاء على مائة وتسعين، وعرفنا فيما تقدم أن الحساب يكون فيما فوق الآحاد بالعقود، والعقد الذي يلي المائتين هو مائة وتسعين.(53/3)
((ليس فيما دون خمسة أواقٍ من الورق صدقة)) لأنها لم تبلغ النصاب ((وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)) الذود من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر، وذود وصف لخمس، الخمس ذود؛ لأنها بين الثلاثة إلى العشرة، أما إذا قلنا: وليس فيما دون خمسِ ذودٍ، خمسِ بالإضافة اختل المعنى، المعنى نحتاج إلى خمسة أذواد، والذود من الثلاثة إلى التسعة، يعني أقل تقدير يكون النصاب خمسة عشر، لكن الذود وصف لخمس، فالخمس ذود؛ لأنها واقعة فيما بين الثلاث إلى التسع عند بعضهم، أو إلى العشر عند أكثر أهل اللغة، الذي ليس عنده خمس من الإبل ليس فيها زكاة في الأربع ليس فيها زكاة، الثلاث الثنتان الواحدة إلا أن يشاء ربها كما تقدم، فيخرج صدقة نفل ليست بواجبة، والكلام هنا في الصدقة الواجبة الزكاة.
((وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة)) خمسة أوسق يعني بعض الروايات عند مسلم: ((من الثمر)) الذي يشمل التمر وغير التمر.
((خمسة أوسق)) الوسْق ويقال: الوسَق ستون صاعاً، فإذا ضربنا الستين في خمسة يكون النصاب ثلاثمائة صاع من التمر، إذا قلت عن ثلاثمائة صاع قالوا: يعفى عن الشيء اليسير الحبة والحبتين، لكن إذا قلت شيئاً مؤثراً يلتفت إليه فإنه ليس فيها صدقة.
((وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة)) هذا هو النصاب، خمسة أوسق ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي، الذي هو عبارة عن أربعة أمداد، والمد هو ما يملأ كفي الرجل المتوسط، لا بكبير اليدين ولا بصغير اليدين.
((وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة)) رواه مسلم، وفي لفظ له من حديث أبي سعيد: ((ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة)) تمر ولا حب دل على أن الزكاة في الثمار والحبوب ((ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة)) وفي لفظ له بدل التمر: ((ثمر)) بالثاء المثلثة.
ويأتي الخلاف فيما تجب فيه الزكاة مما يخرج من الأرض في. . . . . . . . . فيوجب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض، وهذا سيأتي.(53/4)
قال -رحمه الله- بعد ذلك: "وعن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر)) " فيما سقت السماء بالمطر أو بالبرد أو بالطل الذي يتحلل فيما بعد مع دفء الجو، وينزل على المزارع إذا كان يكفيها، فهو المطر، أو البرد إذا نزل من السماء ثم ماع في الأرض صار ماءاً.
((أو كان عثرياً)) يعني يعثر على الماء بعروقه، بأن يكون الماء قريباً من سطح الأرض، فيشرب الماء بعروقه، ولا يحتاج إلى سقي يترتب عليه كلفة ومؤونة.
((العشر)) لأن هذه تسقى من غير فعل الآدمي، فزاد فيها حق الله -جل وعلا- إلى أن وصل إلى العشر، أكثر من غيرها، وكلما سهل الحصول على المال كثرت فيه الزكاة، أو زاد نصيب الفقراء منه، وإذا صعب الحصول عليه قل، هذا الأصل؛ لأنه قد يقول قائل: أنا أتعب كثيراً في تحصيل الأموال، وفلان لا يتعب، لماذا لا تكون الزكاة عليه أكثر من الزكاة علي طرداً لمثل هذا الكلام؟ يعني قد يخرج الاثنان إلى السوق في ظروف متشابهة، ويتعاملون بمعاملات متقاربة، فيرجع هذا بالألوف، وهذا قد يرجع بشيء يسير، وقد لا يرجع بشيء، ثم في النهاية إذا حال الحول فإذا بأحدهما عنده مائة ألف، والثاني عنده عشرة آلاف، هل نقول: هذا الذي سهل عليه الكسب وكسب مائة ألف خلال عام عليه أكثر من زكاة الثاني؟ لا، هذا يقتصر على ما ورد فيه النص؛ لأن بعض الناس تيسر له أسباب التجارة، ويربح الأرباح الطائلة من غير عناء ولا مشقة، والسبب في هذا عدم مراعاة مثل هذا الأمر أنه لا ينضبط، ما يمكن ضبطه، بينما ما جاء فيه النص يمكن ضبطه، وأما ما عداه من أنواع التجارات فلا يمكن ضبطه.(53/5)
نقول لهذا الشخص الذي كسب الأموال الطائلة، وتيسرت له أسباب الكسب، ووجوه الربح، الواجب عليك أن تخرج من ربع العشر في تجارتك، إذا لم تكن مما حد فيه، إذا لم تكن التجارة من الإبل، أو من بهيمة الأنعام، أو من الخارج من الأرض، أو من العسل، أو الركاز أو المعادن على ما يختلف فيه أهل العلم، ما عدا ذلك من الأموال، وعروض التجارة كلها زكاتها ربع العشر، نقول مثل هذا؛ لأنه قد يقال: إذا كان المنظور إليه فيه تفاوت القدر الواجب في زكاة الخارج من الأرض الكلفة والمشقة تخفف الزكاة، قد يقول قائل: أنا أشتغل بناء في الشمس في الظهيرة، وأي كلفة ومشقة أشد من هذا، لماذا تكون زكاتي مثل زكاة الذين يجلسون في الأماكن الباردة الفخمة، ويخدمون ويربحون الأموال الطائلة، ما دام هذه قاعدة الشرع في الخارج من الأرض لماذا لا يكون هذا مثله في التجارات؟ نقول: هذا يقتصر على مورد النص؛ لأن غيره لا يمكن ضبطه.
((فيما سقت السماء والعيون)) التي تجري على وجه الأرض تنبع من الأرض وتجري من غير تعب من الآدمي ((أو كان عثرياً)) يشرب الماء بعروقه ((العشر)) العثري: الذي يشرب الماء بعروقه، الآن من التقنيات التي وجدت عند بعض أرباب المزارع الكبيرة يجعلون الماء تحت الطبقة من الأرض، تحت طبقة من الأرض، فيشرب الماء بعروقه، ويستفيدون وفرة في الماء؛ لأن الماء إذا تعرض للشمس قد يتبخر منه شيء ترون أن الأرض تيبس إذا ضربتها الشمس، لكن إذا مدد له مواصير تحت الأرض ونقط تنقيط تحت الطبقة الأولى يترك له مقدار شبر يحميه من الشمس، هل نقول: إن هذا عثري باعتبار أنه وصل إلى الماء بعروقه أم نقول: إن هذا بفعل الآدمي؟ بفعل الآدمي.
((أو كان عثرياً العشر)) عشرة بالمائة ((وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) بالنضح، بالنواضح بالسانية بالمكائن، بالرشاشات، بغيرها مما يتعب عليه، ويتكلف فيه الآدمي، هذا نصف العشر، وعرفنا أن الزكاة تخفف عن مثل هذا؛ لأنه تعب، تعب عليها، وخسر بسببها الأموال، أما الأول فلم يتعب، فزيد عليه في مقدار الزكاة.(53/6)
قد يقول قائل: السماء تسقي المزارع، لكن ليس على طول العام في فصل من فصول السنة، ثم ينقطع، ثم تسقى بالنواضح والسواني والمكاين إذا كان النصف، نصف المدة بالسماء والنصف الثاني بالنواضح والسواني هذا ممكن حسابه، فثلاثة أرباع العشر والشيء اليسير لا يلتفت إليه زيادة أيام أو نقص أيام هذا لا يلتفت إليه، المقصود أنه إذا كان فيه كلفة فالزكاة تخف، وإذا لم يتكلف صاحبه فالزكاة تضاعف عليه حتى تبلغ العشر.
"رواه البخاري، ولأبي داود: ((فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلاً)) " قد يقول قائل: ما سقت السماء هذا واضح في كون المخلوق لا دخل له فيه، وقد يتسبب تسقي السماء مكاناً قريباً منه ثم يتسبب في جلبه إلى أرضه، وقد يجلب الماء من النهر إلى أرضه، نعم الأرض على حافة النهر، لكن هذه الأرض تحتاج إلى سواقي تحفظ الماء، أخاديد يمشي معها الماء إلى المراد سقيه، يعني ما في سقي إلا بهذه الطريقة، فيقول: أنا تعبت، عملت هذه الأخاديد، والماء معروف أنه من النهر، إذ لا يمكن جريان ماء على وجه الأرض إلا بالأخاديد، بخلاف أنهار الجنة التي تجري بغير أخاديد.
أنهارها من غير أخدود جرت ... سبحان ممسكها عن الفيضانِ
أما في الدنيا تعرفون أنه إذا تركت من غير أخاديد ضاعت وتفرقت يميناً وشمالاً، هل يكفي هذا التعب في وضع هذا الأخدود أن تخفف عنه الزكاة؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
كافي؟
طالب:. . . . . . . . .
لكنه يخد هذه الأخاديد مرة واحدة في عمره، وتستمر هذه الزروع والثمار تشرب من ماء النهر من غير كلفة ولا مشقة، يعني مثل هذا لا يلتفت إليه مثل حرث الأرض، هل نقول: أنت حرثت وفلان ما حرث؟ هل يؤثر هذا أو لا يؤثر؟ مثل هذه التصرفات التي لا تتكرر لا يلتفت إليها.
"ولأبي داود: ((فيما سقت السماء والأنهار والعيون)) " التي تفيض على الأرض ((أو كان بعلاً)) بعلاً يكفيه رطوبة الجو، لا سيما إذا كان فيه شيء من الطل والبعول معروفة.
((العشر)) لأنها لا كلفة فيها ولا مشقة ((وفيما سقي بالسواني)) الدواب التي يتستقى عليها أو يستقى بها، يستنبط بها الماء من الأبئار، أبئار أو آبار؟ الجمع؟ آبار أو أبئار؟ جمع بئر؟(53/7)
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
جمع بئر نظيره الأصل أبئار هذا الأصل، لكنهم يسهلونه ويقولون: آبار.
((وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر)) وهذا كما تقدم؛ لأن فيه كلفة ومشقة على صاحبه، فلا يجمع عليه بين هذه المشقة وبين مضاعفة الزكاة.
"وإسناده على رسم مسلم" رواية أبي داود سندها صحيح على شرط مسلم، وهي في معنى ما جاء في مسلم، وفي معنى ما جاء في البخاري، يعني في المعنى المتفق عليه.
قال -رحمه الله-: "وعن سفيان عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثهما إلى اليمن" تقدم ما جاء في بعث معاذ إلى اليمن، وأنه مكث في اليمن إلى أن مات النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم قدم في خلافة أبي بكر، وأما أبو موسى فقدم على النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو في حجة الوداع، وسأله النبي -عليه الصلاة والسلام- بما أحرمت؟ كما سأل علياً -رضي الله عنه- بما أحرمت؟ فقال كل واحد منهما: أحرمت بما أحرم به النبي -عليه الصلاة والسلام-، وعلي ساق الهدي مثل النبي -عليه الصلاة والسلام-، فلم يحل حتى بلغ الهدي محله، كفعله -عليه الصلاة والسلام-، قارن، وأما أبو موسى فلم يسق الهدي فأمره بالإحلال، وسيأتي هذا في المناسك -إن شاء الله تعالى-.
المقصود أن أبا موسى بعثه النبي -عليه الصلاة والسلام- كما بعث معاذاً إلى اليمن، لكن معاذ لم يقدم حتى مات النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأبو موسى قدم عليه وهو في حجته.
"أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثهما إلى اليمن، فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم، وقال: ((لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر)) " لا، الحصر هذا يقتضي أنه لا زكاة إلا في هذه الأربعة الأصناف، لكن هذا مرتب على درجة الحديث وصحة الحديث، ففيه كلام كثير لأهل العلم.
الحديث يقول: عن سفيان، إمام، عن طلحة بن يحيى، وطلحة هذا روى له مسلم كما قال المؤلف عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبي موسى ومعاذ بن جبل، فالسند صحيح، التعليق للمحقق حصل فيه بعض الأوهام.(53/8)
ذكر كلاماً طويلاً في هذا الحديث، وهو مما يتعلق بالحديث الذي يليه، وهو من متعلقات الحديث الذي يليه لأنه قال هنا في التعليق على نفس الحديث، قال: وفي الاتصال بين موسى بن طلحة ومعاذ نظر، فقد ذكروا أن وفاة موسى .. ، ثم قال بعد ذلك: لكن شيخنا الألباني في إرواء الغليل بقوله: وأقول: لا وجه عندي لإعلال هذا السند بالإرسال؛ لأن موسى .. ، موسى موجود في الحديث الذي يليه، نعم؛ لأن موسى إنما يرويه عن كتاب معاذ، ويصرح بأنه كان عنده، فهي رواية من طريق الوجادة، وهي حجة على الراجح من أقوال علماء أصول الحديث، ولا قائل باشتراط اللقاء مع صاحب الكتاب، وإنما يشترط الثقة بالكتاب، وأنه غير مدخول، فإذا كان موسى هذا ثقة، ويقول: عندي كتاب معاذ بذلك فهو وجادة من أقوى الوجادات؛ لقرب العهد بصاحب الكتاب، والله أعلم.
وهذا الكلام موجود في الحديث الذي يليه، نعم، ومع ذلك، مع وجود هذا الكلام فيه، وتقوية الألباني، وأنه وجادة موسى بن طلحة عن معاذ بن جبل وجادة، قال: ضعيف جداً، الحديث الذي يليه، وهذا الحديث الذي معنا صححه، حديث الباب، صحيح وسنده مثلما ترون، سفيان إمام، وطلحة بن يحيى خرج له مسلم، وأبو بردة معروف، تابعي جليل يروي عن أبيه أبي موسى ومعاذ بن جبل، فإسناده صحيح بلا شك، لكن الكلام هل المرجح أنه من قول النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر)) أو أنه من صنيعهما، فكانا لا يأخذان الزكاة إلا من هذه الأصناف الأربعة، كما في بعض الروايات، هذا المحل الذي يؤثر في دراسة الحديث، يعني هل هو موقوف وإلا مرفوع؟ الحديث حديث الباب نص في أنه مرفوع، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر)) وبهذا قال جمع من أهل العلم، وأن الزكاة لا تجب بشيء مما يخرج من الأرض إلا هذه الأصناف الأربعة، والحصر صريح في هذا، ومنهم من يقول: يقاس عليها ما يشاركها في العلة، وهي الادخار، كل ما يقتات ويدخر تجب فيه الزكاة.(53/9)
ومنهم من يقتصر على الادخار، حتى لو كان الخارج من الارض لا يستعمل في الأكل، يستعمل في علاج مثلاً، يستعمل في بهارات مثلاً، يعني ليس قوت، فيقول: إذا وجد الادخار فتجب فيه الزكاة؛ لأن هذه الأمور يجمعها الادخار، يعني نظير ما قالوا في الربويات الذي ينظر إلى العلة يطردها في كل ما يشاركها في علته، والذي لا ينظر إلى العلة، ويقتصر على الوارد كالظاهرية يقول: لا ربا إلا فيما ذكر في الستة الأنواع، ولا زكاة إلا فيما ذكر من هذه الأربعة أنواع، وعلى هذا أهل الحجاز، ((لا زكاة إلا في الأربعة الأصناف)) طيب الشعر والحنطة ماذا عن الأرز؟ فيه زكاة وإلا ما فيه زكاة؟ ماذا عن الذرة، وقد جاء فيها أحاديث لكنها فيها كلام، الأرز فيه زكاة مثل الحنطة وإلا ما فيه؟
طالب:. . . . . . . . .
الذي لا ينظر إلى العلة، ويقتصر على الأربع يقول: ما في زكاة، والذي ينظر إلى العلة يقول: لا زكاة في أي خارج من الأرض إلا ما يشارك هذه الأصناف الأربعة في العلة، وهذا هو المعروف عند الحنابلة.
الحنفية يقولون: كل ما يخرج من الأرض فيه الزكاة، فيما سقت السماء العشر، فتجب في الفواكه والخضروات؛ لأنها تسقيها السماء ففيها العشر، لكن هذا اللفظ، لا شك أنه عام يدخله التخصيص بمثل هذا النص، يدخله التخصيص، فإن قلنا بالاقتصار على هذه الأربعة، وأخرجنا ما عداها، الآن المحاصيل الزراعية من الحبوب والثمار التي هي خارج هذه الأصناف الأربعة أكثر من هذه الأصناف، الأرز مثلاً لو نظرنا على مستوى العالم وجدناه أكثر من الحنطة، فهل نقول: إن مثل هذه الأموال الطائلة ليس فيها زكاة.
الفواكه الخضروات ليس فيها زكاة مطلقاً، وإلا ليس فيها زكاة الخارج من الأرض؟ إنما الزكاة في قيمتها، إذا حال عليها الحول، فالخلاف بين أهل العلم من هذه الحيثية، هل تزكى زكاة الخارج من الأرض؟ فكل ما يخرج من الأرض يزكى عند الحنفية، وعند أهل الحجاز لا يزكى إلا الأربعة، ومن عداهم يقول: تزكى هذه الأربعة وما يشاركها في العلة، ولا شك أن من يقول بالقياس يلزمه أن يقول بزكاة كل ما يتفق مع هذه الأربعة في العلة، الشعير والحنطة والزبيب والتمر.(53/10)
الذرة جاء فيها أحاديث لا يثبتها أهل العلم بالحديث، لكنها تقتات وتدخر، مثلها الدخن، وأولى منهما الأرز، هذه مشاركة في العلة،. . . . . . . . . يقول: هذه ليس فيها زكاة خارج من الأرض، إنما فيها زكاة .. ، الزكاة في قيمتها إذا حال عليها الحول، وأما قول الحنفية في أن كل ما يخرج من الأرض فيه زكاة بدليل: ((فيما سقت السماء العشر)) فقول ضعيف؛ لأن التخصيص بمثل هذا الحديث وارد.
"رواه الطبراني والحاكم، وطلحة روى له مسلم".
"وعن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله عن عمه موسى بن طلحة عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فيما سقت السماء والبعل والسيل العشر)) " على ما تقدم؛ لأنه ليس فيه كلفة ولا مشقة ((وفيما سقي بالنضح نصف العشر، وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب)) هذا الحديث لو صح لقلنا: إن الحبوب يدخل فيها الذرة، ويدخل فيها الأرز، وفيها إشارة إلى الاشتراك في العلة، مما يسند من يقول بأنه يقاس عليها ما يشاركها في العلة، لكنه فيه كلام، ومضعف عند أهل العلم.
((وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)) لأنه لا يقتات، إنما يؤكل في يومه، وإذا بيع فالزكاة في قيمته إذا بلغت نصاباً ((وأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب فقد عفا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)) يعني ليس فيه زكاة الخارج من الأرض، وإنما إذا كان معداً للتجارة بكميات كبيرة يصفو من قيمتها ما يحول الحول عليه وهو نصاب فأكثر فإنه يزكى زكاة التجارة.(53/11)
"رواه الدارقطني والحاكم، واللفظ له، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وزعم أن موسى بن طلحة تابعي كبير، لا ينكر أن يدرك أيام معاذ، كذا قال، وإسحاق بن يحيى تركه أحمد" إسحاق بن يحيى بن طلحة هذا متروك، وهذا هو العلة الحقيقية في ضعف الحديث، وليست العلة الخلاف في إدراك موسى بن طلحة لمعاذ؛ لأن روايته عن معاذ كتاب وجادة، والوجادة طريق من طرق التحمل، تحمل الحديث عند أهل العلم، شريطة ألا يشك الواجد في خط من نسب إليه، الوجادة الطريق الثامن من طريق التحمل، قالوا: وهي منقطعة، وفيها شوب اتصال، لماذا؟ لأنك قد تجد خط شخص لا تشك في خطه، فهل يكون متصل؟ من لازمه أن يكون متصل؟ تقف على خط ابن حجر، تعرف خط ابن حجر، نعرف خط ابن حجر، ونعرف خط غيره من خطوط العلماء، نعرف خط السخاوي، ونعرف خط ابن عبد الهادي، ونعرف خطوط كثير من أهل العلم، بما لا يشك فيه، هل معنى هذا أننا إذا وجدنا بخطه أن يكون هناك اتصال؟ لا، هي منقطعة، لكن فيها شوب اتصال، يعني معرفتك لخطه كأنك سمعت منه بدون واسطة؛ لأنك تنقل عنه بدون واسطة، الوجادة لا بد من التأكد بحيث لا تشك أدنى شك في أن هذا خط فلان، وأحياناً تنسب كتب إلى غير أصحابها لأنها وجدت بخطوط غيرهم، فنسبت إليهم، ويحصل الوهم كثير، وهناك حواشي تعلق على الكتب بخطوط تنسب إلى من هي بخطه، وهو في الحقيقة قد نقلها عن غيره، فلا يلزم منها الاتصال، قالوا: هي منقطعة، فيها شوب اتصال، والشيخ -رحمه الله- الألباني يقول: لأن موسى إنما يرويه عن كتاب معاذ، ويصرح بأنه كان عنده، فهي رواية من طريق الوجادة، وهي حجة على الراجح من أقوال علماء أصول الحديث ولا قائل باشتراط اللقاء مع صاحب الكتاب، وإنما يشترط الثقة بالكتاب، وأنه غير مدخول، يعني هل تشترط معاصرة وإلا ما تشترط؟ يعني تشترط معاصرة وإلا .. ؟ تروي عن شخص قبلك بخمسة قرون أو عشرة قرون تقول: عن فلان، ويكون متصل؟ نعم لك أن تقول: وجدت بخط فلان، فلا تعدو حقيقة الأمر كما هو في كثير من المواضع في مسند الإمام أحمد، قال عبد الله: وجدت بخط أبي، هذه ما فيها إشكال؛ لأنه لقيه، وروى عنه ووجد عنه بخطه الذي لا يشك فيه، أما أن تروي عن شخص تقول: متصل ولا تبين(53/12)
أنه وجادة هذا لا يحمل على الاتصال لا بد أن تبين.
قال: وإنما يشترط الثقة بالكتاب، وأنه غير مدخول، فإذا كان موسى ثقة، ويقول: عندنا كتاب معاذ، فهي وجادة من أقوى الوجادات؛ لقرب العهد بصاحب الكتاب، والله أعلم.
يعني وجد حاشية على المقنع بخط الشيخ سليمان بن عبد الله ابن الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب فطبعت هكذا، وجدت بخطه، والظاهر أنها له، ما لم يوجد تصريح بأنها له فيخشى -وقد وقع- أن تنسب للشيخ جزماً.
بعض الناس يورد الشيء على سبيل التردد لعل المراد كذا، ثم يأتي من يجزم بهذا المتردد فيه، وهذا يحتاج إلى مزيد من التثبت، فما دام ما يوجد نسخة تنص على أنها من تأليفه فلا ينسب إليه الكلام -رحمه الله-.
الحاشية بطبعة المنار القديمة غير منسوبة لأحد، وهي تختلف عن الحاشية التي طبعت في المطبعة السلفية وهي الموجودة بخط الشيخ، فيخشى مع طول العهد أن يأتي من يأتي ولا يبين مثل هذا الإشكال، وأنها وجادة، وأنها مجرد وجادة، وليس كل ما يوجد بخط فلان من الناس أن يكون من مقوله، قد يكون من الفوائد التي نقلها عن غيره، فإذا قلت: وجدت بخط فلان انتهى الإشكال، بينت حقيقة الأمر، ولذا لا يجوز أن تقول: حدثنا أو سمعت أو قال فلان، وأنت لم تتأكد أنها من قوله.(53/13)
"رواه الدارقطني والحاكم، واللفظ له، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وزعم أن موسى بن طلحة تابعي كبير" زعم الحاكم أن موسى بن طلحة تابعي كبير "لا ينكر أن يدرك أيام معاذ، كذا قال" لكن إذا كانت روايته عنه على سبيل الوجادة فهذا قد يتجاوز فيه، أما مجرد احتمال أنه أدرك فلا يكفي، احتمال إلا إذا وجدت المعاصرة على قول من يكتفي بها على ما تقدم، وإسحاق بن يحيى وهذا هو العلة الحقيقية، في تضعيف الخبر إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، وإسحاق بن يحيى تركه أحمد والنسائي وغيرهما "وقال أبو زرعة: موسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمر مرسل" فكيف به عن معاذ بن جبل وقد مات سنة كم؟ ثماني عشرة في الطاعون، طاعون عمواس، يعني قبل عمر، موسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمر مرسل، قد يكون الإرسال خفي، يعني يدرك معاذ؛ لأنه في بلد أمكنه لقاء معاذ، ويروي عن عمر مرسل؛ لأنه في بلد غير بلد عمر، فقد يروي عن الشخص المتقدم الوفاة متصلاً، ويروي عن الشخص المتأخر الوفاة مرسلاً؛ لأنه تيسر له لقاء المتقدم ولم يتيسر له لقاء المتأخر، فيكون من المرسل الخفي، موسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمر مرسل "ومعاذ توفي في خلافة عمر، فرواية موسى عنه بالأولى بالإرسال" لكن إذا قلنا: إن رواية موسى بن طلحة عن معاذ بن جبل بطريق الوجادة، فمن يصحح الرواية بهذا الطريق يرتفع عنده هذا الإشكال.
"فرواية موسى عنه أولى بالإرسال، وقد قيل: إن موسى ولد في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يثبت، وقيل: إنه صحب عثمان مدة" يعني صحبته لعثمان لا تعني إدراكه لعمر، ولا لمعاذ من باب أولى.
قال -رحمه الله-: "والمشهور في هذا ما رواه الثوري عن عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة، قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إنما أخذ الصدقة)) " التركيب ماشي؟ موجود عندكم إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إنما أخذ)).
طالب: إنما أخذ الصدقة.
أعد، أعد.
طالب: أنه إنما أخذ الصدقة.
يعني ما في قال؟
طالب: لا ما في قال، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
طالب: أنه.(53/14)
أنه إنما أخذ الصدقة، يعني من فعله لا من أمره، الحديث السابق: ((لا تأخذ)) وهذا الحديث: "أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر" يعني يكون هذا من فعله، وذاك من قوله، والمرجح من فعله -عليه الصلاة والسلام-، لكن الفعل لا يقتضي الحصر كما في الحديث الذي فيه: لا تأخذ الصدقة إلا من كذا وكذا، ففيه الحصر.
"أنه أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر" ويفيد ما أفاده الحديث السابق في أخذ الزكاة من الأربعة الأنواع إلا أنه يختلف عن الحديث السابق في أن الحديث السابق فيه حصر، ومفهوم الحصر ألا تؤخذ الصدقة من غير الأربعة، وحديث الباب من فعله -عليه الصلاة والسلام-، ولا يقتضي حصر، وسبق الخلاف في ذلك، وأن أهل الحجاز يحصرون الزكاة في الأربعة الأنواع، وأهل الكوفة بما فيهم الحنفية أبو حنيفة وأتباعه كلهم يقولون: الزكاة في جميع ما سقت السماء، في جميع ما يخرج من الأرض حتى الفواكه والخضروات وغيرها، والقول الوسط في هذه المسألة أنها تؤخذ من هذه الأربعة، وما يشاركها في العلة، وهو مقتضى .. ، بل هو لازم لكل من يقول بالقياس.
"وعن عبد الرحمن بن مسعود قال: جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا، قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو حاتم البستي والحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وقال البزار: لم يروه عن سهل إلا عبد الرحمن بن مسعود بن نيار، وهو معروف، قال ابن القطان: هذا غير كافٍ فيما ينبغي من عدالته، فكم من معروف غير ثقة، والرجل لا يعرف له حال، ولا يعرف بغير هذا، كذا قال، وفيه نظر، فإنه من رواية عبد الرحمن بن مسعود بن نيار عن سهل، ووثقه ابن حبان" هذا الحديث مضعف بعبد الرحمن بن مسعود بن نيار، وكونه معروف عند البزار لا يعني أنه ثقة، معروف بأي شيء؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
المعرفة فقط تكفي؟
طالب:. . . . . . . . .
ما تكفي المعرفة في التوثيق، لا تكفي المعرفة في التوثيق، يعني قالوا في تعريف الحسن: والحسن المعروف.
طالب:. . . . . . . . .
إيش؟(53/15)
طالب: طرقاً وغدت.
لا، لا لا، الألفية هذه، الألفية.
والحسن المعروف مخرجاً وقد ... اشتهرت رجاله بذاك حد
حمدٌ، وقال الترمذي: ما سلم ... من الشذوذ مع راوٍ ما اتهم
"المعروف مخرجاً وقد ... اشتهرت رجاله" قالوا: الشهرة ما تكفي، الشهرة لا تكفي، كما يشتهر الراوي بالعدالة يشتهر بالضعف أيضاً، كما يشتهر الراوي بالعدالة يشتهر بالضعف، والمعرفة كما تكون في العدالة تكون أيضاً بالضعف، ولذا لا يكفي من البزار أن يقول: معروف، نعم قد ترتفع الجهالة عنه بالمعرفة عند من يقابل الجهالة بعدم العلم، وأنها عدم معرفة بحال الراوي، أما من يقول: إن الجهالة جرح في الراوي فهذا شأن آخر، وأهل العلم يختلفون في الجهالة، هل هي عدم معرفة بحال الراوي فقط، أو أنها ثبوت جرح فيه، وفي عدد كبير من الرواة في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، قال أبو حاتم: فلان مجهول، أي: لا أعرفه، هل يكون هذا جرح؟ لا، لأنه قد يعرفه غيره، إذا ما عرفه أبو حاتم يعرفه غيره، فلا تتعين أن تكون جرحاً.
وفي النخبة -وقد مر عليكم-: "ومن المهم معرفة أحوال الرواة جرحاً أو تعديلاً أو جهالة" فجعل الجهالة قسيم للجرح، وليست بقسم منه، فالجهالة لا تعني الجرح على هذا، فكونه معروف يعني أنه غير مجهول عند من يقول: إن الجهالة جرح ارتفع عنه هذا الجرح بالجهالة، لكن لا يرتفع عنه الجرح بأسباب أخرى، ومقتضى إدخال الجهالة في مراتب التجريح، وفي ألفاظ التجريح، وهو الذي جرى عليه عمل المتأخرين، أن المجهول مجروح ترد روايته، والفائدة من هذا كله أنك إذا بحثت في إسناد حديث وجدت في رواته من قيل فيه مجهول فإن قلت: إن الجهالة جرح ضعفت الخبر مباشرة، ضعيف؛ لوجود فلان وهو مجهول، وإن كانت عدم علم بحال الراوي إن كانت الجهالة عدم علم بحال الراوي فقط، فعليك أن تتوقف في الحكم على الحديث حتى تعرف حال الراوي، والذي جرنا إلى هذا الكلام قوله: "هو معروف" فالمعرفة والشهرة قد ترفع الجهالة، لكن لا ترفع الطعن بأسباب أخرى.(53/16)
قال: "وعن عبد الرحمن بن مسعود قال: جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا، قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: ((إذا خرصتم)) " الخرص: هو التقدير والحزر، التقدير، وهي حكم بالظن الغالب، يأتي الخبير الثقة لا بد أن يكون ثقة، فيمشي طولاً وعرضاً في البستان، وينظر في أشجاره، ثم يقول في النهاية: في هذا البستان خمسمائة صاع من التمر، وأهل الخبرة يضبطون أمورهم، كل أهل فن يتقنون فنهم، وقد جرب بعض هؤلاء الذين يخرصون، فلا يوجد نقص ولا زيادة إلا بشيء يسير جداً، شيء غير مؤثر، كل من عانى شيئاً ضبطه وأتقنه، تأتي إلى المهندس تريد أن تشتري عمارة، أو بيت فتخبره بقيمته، فيأتي ينظر في سقوفه وفي أرضه وفي كذا، توكل على الله اشتري رخيص، وإلا يقول لك: لا تشتري ترى أساسه غير متين، طيب تشوف الأساس؟ ما يشوف أساس، لكن صاحب خبرة.
تأتي إلى صاحب الذهب والفضة، المجوهرات، تأتي له بقطعة يرميها عليك يقول: هذه لا شيء، مغشوشة، طيب ويش يدريك؟ اعرضها على النار، قال: ما يحتاج عرضها على النار، صاحب خبرة.
تأتي إلى الجهبذ النقاد الخبير تأتيه بحديث سنده كالشمس في الصحة فيقول لك: لا يصح، ليش؟ ما يصح، اذهب إلى غيري، تذهب إلى غيره ممن هو بمستواه في علم الحديث، يقول لك: لا يصح، ولا يذكرون لك علة، فيأتي هذا الخارص يقول: فيه ثمانمائة صاع، قال: ويش يدريك؟ يمكن خمسمائة، أو ألف وخمسمائة، قال: ما لك شغل، تأتي إلى صاحب السيارات تنظر إلى السيارة كالزجاجة، ولا تفرق بينها وبين السيارة التي في الوكالة، يقول: السيارة مرشوشة في ثلاثة مواضع أو في أربعة، خبرة.
ولذلك الجمهور يعملون بالخرص، والحنفية يقولون: لا، هو حزر، ورجم بالغيب، ولا يمكن أن يتم به، نعم في باب الربا لا يكفي الخرص في البيع والشراء، ما نقول: هذا عنده ثمانمائة صاع، وهذا عنده ثمانمائة صاع بالخرص، لا، لكن في مثل الزكاة التي إن نقص يسير أو زاد يسير لا يضر هذا ما فيه إشكال، وجاءت به السنة، وقد أرسل النبي -عليه الصلاة والسلام- من يخرص تمر خيبر.(53/17)
وفي هذا الحديث: ((إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)) يعني خرصتموه ثمانمائة صاع، اتركوا لصاحب البستان الربع، واعتبروه ستمائة، أو دعوا له الثلث، يأكل منه، ويطعم أضيافه، وينفع أقاربه، ويوزع لنفسه على المحتاجين، وخذوا الثلاثة الأرباع أو الثلثين، ((ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)).
الخرص ثابت في خرص تمر خيبر ثابت بلا إشكال، لكن هنا؛ لأن من أهل العلم من يقول: يحتاج إلى الخرص إذا لم يكن صاحب التمر ثقة، والأصل في المسلم العدالة، ما يخرص عليه، إنما إلى ديانته يوكل، كم بلغ تمرك؟ بلغ ثمانمائة صاع، أعطنا العشر أو نصف العشر على حسب حاله.
أما بالنسبة لخيبر وهم يهود لا يوثقون، لا بد أن يبعث من يخرص عليهم التمر، فيكون هذا خاص بغير المسلمين.
على كل حال الحديث فيه مقال، فالمسلم الأصل فيه العدالة، وأنه ثقة، وأن هذه ديانة بينه وبين ربه، كسائر الأموال، ولا يناقش، ولا يستحلف عليها، وهذا عند من يضعف الحديث، وهذا هو المتجه، المتجه ضعف الحديث، ولذا تجدون الآن، ومنذ عصور قديمة، ما في خرص للزروع ولا الثمار، كل يقدر تمره وثماره، ويؤدي زكاته.
"رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو حاتم البستي والحاكم، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وقال البزار: لم يروه عن سهل إلا عبد الرحمن بن مسعود بن نيار وهو معروف" وقلنا: إن مثل هذا لا يكفي في توثيقه "قال ابن القطان: هذا غير كاف فيما ينبغي من عدالته، فكم من معروف غير ثقة" كم من معروف لكنه غير ثقة، لكنه عرف بالضعف "والرجل لا يعرف له حال، ولا يعرف بغير هذا الحديث" يعني معرفة البزار لا تخرجه عن دائرة الجهالة، لماذا؟ رجل لا يعرف له حال، ما عرف لا بتوثيق ولا بتضعيف، إذاً مجهول، مجهول الحال، وإن عرفت عينه برواية أكثر من واحد فإن هذا لا يخرجه عن دائرة جهالة الحال؛ لأنه لا تعرف حاله، لا توثيق ولا بتضعيف، ولا يعرف بغير هذا الحديث؛ لأنه مقل في الرواية.(53/18)
"كذا قال" يقول المؤلف "كذا قال" يعني ابن القطان "فإنه من رواية عبد الرحمن بن مسعود بن نيار عن سهل، ووثقه ابن حبان" توثيق ابن حبان على مراتب، فإذا ذكره ابن حبان، وكان من طبقة شيوخه الذين عرفهم، ونص على أنه ثقة، هذا لا إشكال في أنه ثقة، فهو كغيره، وإذا نص على ثقته، وهو من المتقدمين الذين لا يعرف حالهم نص على توثيقه، فهو مقبول إذا كان الحديث لا يتضمن مخالفة، والرجل معروف برواية الثقات عنه، أما إذا ذكره مجرد ذكر في الثقات، فإنه لا يكفي هذا، وإذا ذكره في الثقات، وروى عنه في صحيحه له حال تختلف عن مجرد ذكره في الثقات، فضلاً عن أن يذكره في الثقات، ويذكره في المجروحين؛ لأنه قد يذكر الراوي هنا وهنا.
وعلى كل حال المتعارف عليه والمتداول عند أهل العلم أن ابن حبان متساهل في التوثيق، وقد يوثق مثل هذا بمجرد معرفته، وارتفاع الجهالة عنه، فقد وثق جمعاً من هذا النوع.(53/19)
"وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن لونين من التمر الجعرور" نوع رديء من التمر "ولون الحبيق" أيضاً نوع رديء "وكان الناس يتيممون شر ثمارهم" يعني البستان فيه ألوان من التمر فيه الجيد، وفيه المتوسط، وفيه الرديء، فيقصدون الرديء يخرجونه من صدقاتهم؛ لأن الكمية لا تزيد بالجودة والرداءة، ولا تنقص، ما تزيد، لكن نزل قول الله -جل وعلا-: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [(267) سورة البقرة] والمراد بالخبيث الرديء لا الحرام {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [(157) سورة الأعراف] هذا رديء، لكنه ليس بمحرم {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [(267) سورة البقرة] ليس المراد منه أن تتيمم الحرام فتنفقه منه إنما تتيمم الخبيث فتنفق منه "وكان الناس يتيممون شر ثمارهم، فيخرجونها في صدقاتهم، فنزلت: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [(267) سورة البقرة] " لا تيمموا الرديء، لكن كيف العمل إذا كان في البستان مائة صنف من التمر؟ هل يزكي كل صنف منه، أو ينظر إلى المتوسط فيخرج الزكاة منه؟ عنده من التمر الكيلو بمائة، وعنده من أنواع التمر الكيلو بخمسين، وعنده من أنواع التمر ما كيلوه بعشرة، ومنها ما الكيلو منه بريال، هل نقول: يخرج الزكاة، وجب عليه، عنده خمسمائة صاع، وجب عليه العشر خمسون صاعاً، أو نصفه خمسة وعشرون صاعاً، هل نقول: تخرج من اللي كيلوه بريال، أو من اللي كيلوه بمائة؟ يعني تقصد الوسط، يعني اللي كيلوه بخمسين، طيب افترض أن الذي كيلوه بمائة قليل جداً، والذي كيلوه بعشرة كثير جداً.(53/20)
منهم من يقول: لا يتم إخراج الزكاة بدقة حتى تخرج زكاة كل نوع منه، توزعه أصناف، تخرج هذا عشر هذا، وعشر هذا، وعشر هذا، وعشر هذا، وهكذا، بهذا تبرأ الذمة، أما أن تنظر إلى المتوسط -وقد قال بهذا جمع من أهل العلم- فتخرج من المتوسط، كما تخرج المتوسط من بهيمة الأنعام، تخرج المتوسط من الحبوب والثمار، لكن بهيمة الأنعام لا يمكن أن تخرج بدقة بالكيلو أو بالصاع ما يمكن، بينما الحبوب والثمار يمكن أن تخرج من كل نوع منها ما يلزم بدقة.
"رواه أبو داود والطبراني، وهذا لفظه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وقد روي مرسلاً، وقد روي مرسلاً، قال الدارقطني: وهو الأولى بالصواب".
وعلى كل حال الحديث له طرق يشد بعضها بعضاً، يصل به إلى درجة القبول -إن شاء الله تعالى-.
قال -رحمه الله-: "وعن سليمان بن موسى عن أبي سيارة عن سليمان بن موسى عن أبي سيارة المتعي قال: قلت: يا رسول الله إن لي نحلاً؟ قال: ((أد العشر)) قلت: يا رسول الله احمها لي، فحماها لي" رواه أحمد وابن ماجه، وهذا لفظه، وقال البيهقي: هذا أصح ما روي في وجوب العشر فيه، وهو منقطع" منقطع، سليمان بن موسى لم يدرك أبا سيارة، وقول البيهقي: "هذا أصح ما روي في وجوب العشر فيه" كونه أصح، ينفي كونه منقطع أو لا ينفيه؟ يعني كلام البيهقي فيه تناقض؟ لأن أصح أفعل التفضيل عند أهل العلم لا سيما أهل الحديث يستعملونها على غير بابها، فيكون أجود، أجود ما في الباب، وإن كان ضعيفاً، كما أن قولهم: هذا الحديث أضعف ما في الباب لا يعني أنه ضعيف، بل في الباب أحاديث، لكنه أضعفها، والضعف والقوة نسبية، فإذا قلت: سالم أوثق من نافع، كلاهما ثقة، هذه أفعل التفضيل على بابها، لكن إذا قلت: نافع أضعف من سالم هل يقتضي أنهما ضعفاء؟ لا، كلاهما ثقة، وإذا قلت: ابن لهيعة أوثق من الإفريقي مثلاً هل يقتضي أنهما ثقات؟ لا يلزم ذلك، فأهل العلم يستعملون أفضل التفضيل على غير بابها، ومنها هذا، بدليل أنه قال: منقطع، فكيف يكون صحيحاً وهو منقطع؟
"هذا أصح ما روي في وجوب العشر فيه، وهو منقطع" وقد اختلف العلماء في زكاة العسل "يقول البخاري وغيره: ليس في زكاة العسل شيء يصح".(53/21)
هنا أبو سيارة المتعي قال: "قلت: يا رسول الله إن لي نحلاً؟ قال: ((أد العشر)) قلت: يا رسول الله احمها لي، فحماها لي" طيب العشر هل للعسل نصاب؟ أولاً: زكاة العسل مسألة مختلف فيها، هل تزكى على هذه الكيفية مثل الخارج من الأرض، يجب فيها العشر، أو أنها تزكى زكاة عروض التجارة؟ إذا اجتمع منها ما يباع، ثم يتحصل من قيمته نصاب فإنه يزكى الثمن، ولا يزكى العسل عند من لا يثبت مثل هذا الحديث.
والذين يقولون بأن العسل يزكى زكاة الخارج من الأرض يقولون: نصابه عشرة أفراق، والفرق: ستة عشر رطلاً، فالنصاب مائة وستون رطلاً، والرطل ثلاثمائة وثمانين جرام، فيكون نصاب العسل واحد وستين جرام وثمن، هذا عند من يقول بزكاة العسل بناءً على ثبوت مثل هذا الخبر، ولا شك أن هذا الخبر فيه ضعف شديد، والبخاري -رحمه الله- إمام الصنعة يقول: لم يصح في هذا الباب شيء، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول: هل حكم الكمامات حكم النقاب للمحرمة؟
لا، هي ليست على هيئة النقاب؛ لأن النقاب للعينين، وهذا للفم والأنف، لكن إذا استعمله الرجل وهو محرم وقد غطى أكثر الوجه، وقد مُنع المحرم من تغطية رأسه ووجهه فهذا فيه مخالفة، وحكم الكمامات للرجل في الصلاة، التلثم صلاة الرجل متلثماً العلماء يطلقون الكراهة، والكراهة عندهم تزول بأدنى حاجة، إذا كان الإنسان محتاج لهذا الكمام، وقد احتاج إلى التلثم لما يخرج أو ينبعث من الأرض، أو من الفرشة -فرش المسجد- من بعض الروائح، أو يكون بجانبه شخص تنبعث منه روائح كريهة هذه حاجة ترفع الكراهة.
يقول: رجل اعترفت -نسأل الله السلامة والعافية- زوجته بالزنا مع جاره.
من عظائم الأمور، أي الذنب أعظم؟ إلى أن قال: ((أن تزاني حليلة جارك)) نسأل الله العافية.
قال: والبلد لا يحكم بشرع الله، والعشائر تأخذ المال مقابل هذا الفعل، والفاعل يتحدى الزوج، ويمر من أمامه ويقول الزوج: فما الحل؟(53/22)
الحل الطلاق؛ لأن إمساك مثل هذه المرأة التي لم يقع منها هذا الأمر هفوة أو زلة أو إكراه، أو ما أشبه ذلك وتابت بعدها توبة نصوحاً إبقاؤها لا يسوغ إطلاقاً ((إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت ... )) قال في الثالثة أو الرابعة: ((فليبعها ولو بظفير)) وهنا يقال له: طلقها، وارتح منها.
يقول -خط رديء جداً من صغير سن الكاتب- يقول: ما هي الأعضاء التي تكشفها المرأة أمام محارمها؟
ما يخرج غالباً، ما تحتاج إلى إخراجه كالشعر مثلاً، والرقبة وأطراف اليدين والساعدين، وأسفل الساقين، إذا لم يكن ثم فتنة.
يقول: هل مخالفة المنهج العلمي الذي وضعه العلماء للدراسة يعتبر خروجاً عن منهج السلف الصالح، حيث أن هناك من الطلبة المبتدئين من يبدأ الدراسة بالعقيدة الطحاوية؟
المنهج هذا تنظيم، يترقى به الطالب من كونه مبتدئاً إلى متوسطاً إلى منتهياً، فهو سلم يترقى فيه إلى التحصيل بواسطة الكتب التي صنفت لطبقات المتعلمين، لكن من خالف هذا المنهج قد يشق عليه التحصيل، فإذا تطاول على كتب المتوسطين وهو لم يقرأ بعد كتب المبتدئين فإنه يتعب، وقد يترك التحصيل؛ لأنها فوق مستواه، وكل إنسان يعرف قدر فهمه ومستواه، فلا يتطلع، يعني بعض طلاب العلم يسمع ابن القيم -رحمه الله- وهو من المتوسطين، يسمع ابن القيم يمدح كتاب العقل والنقل لشيخ الإسلام.
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له نظير ثانِ
ثم يذهب إلى أن يشتري من المكتبة موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، ويقرأ فيه، أو يسمع مدح الحافظ ابن كثير لعلل الدارقطني، ثم يذهب إلى المكتبة يشتري علل الدارقطني، ويقرأ في هذين الكتابين، ثم لا يلبث ولا دقائق أن يرمي بالكتابين، ويكره العلم والتعلم.
فالإنسان عليه أن يعرف قدر نفسه، فالمبتدئ يقرأ في كتب المبتدئين، المتوسط يقرأ ما صنف للمتوسطين، المنتهي والعالم يقرأ، وقد يجد ما يشق عليه ولو كان منتهياً، وقد يجد ما يعسر عليه ولو بلغ من العلم ما بلغ، إلا أن العلم لا نهاية له، لكن على الجادة والطريقة التي رتبها أهل العلم، هذه تيسر التحصيل لطالبه.(53/23)
الحبوب التي تدخل لأجل القوت، وبلغت النصاب هل فيها زكاة؟
لا، كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يدخر قوت سنة لبيوته، فيما يدخره الإنسان لقوته وقوت ولده هذا ليس فيه زكاة.
يقول: كيف يحصل من لا يستطيع شراء الكتاب خاصة، وأن في الحضور من المعتمرين وطلاب العلم المحتاجين؟
بالإمكان أن يصور لهم الباب الذي يقرأ فيه، يعني على حسب مدة بقائه إذا كان سوف يمكث إلى أن ننتهي من كتاب الزكاة، يصور لهم كتاب الزكاة، وإن كان في نيته أن يجلس إلى أن ننهي كتاب الصيام يصور له كتاب الصيام.
يقول: قلت: مائتي درهم، وكم تساوي بالريال السعودي؟
قالوا: إن المائتي درهم تساوي ستة وخمسين ريالاً عربياً من الفضة، ثم بعد ذلك يذهب إلى الصاغة وأهل المجوهرات يسألون كم قيمة الريال العربي من الفضة؟ ثم تضرب قيمة الريال بالستة والخمسين، فيخرج النصاب بالريال الورقي.
يقول: هل عنعنة أبي الزبير عن جابر مردودة ولو كانت في مسلم؟
لا، نعم في غير الصحيحين نحتاج إلى أن يصرح أبو الزبير؛ لأنه من المرتبة الثالثة، ومن الطبقة الثالثة من طبقات المدلسين، لكن عنعنات المدلسين في الصحيحين محمولة على الاتصال عند أهل العلم.
ما حكم عقد الإيجار بنهاية التمليك؟ يعني المنتهي بالتمليك؟
معروف أن فيه فتوى من أهل العلم من الهيئة، وأنه لا يجوز، والسبب في ذلك أن الضمان فيه عائر، يعني لو تلفت هذه السلعة من يضمنها؟ هذا يقول: أنا مستأجر، وما فرطت، فلا أضمن، يضمن صاحب السلعة، وهذا يقول: أنا بائع يضمن المشتري، وكل عقد يوقع في مثل هذا الإشكال لا يجوز، يوقع في خصام.
قد يقول قائل: إن هذا يحله التأمين، نقول: الوسيلة ليست بشرعية، فالنتيجة حتماً ليست بشرعية، كلام على الحلول الشرعية.
يقول: فيما سقت السماء والعيون والأنهار عندنا في البلد أن ماء العيون والأنهار ملك يباع ويشترى على حسب الساعات، فهل يدخل العشر؟
لا، لأنه صار بكلفة من صاحب الزرع، كأنه اشترى آلة وأحضرت له هذا الماء، فيكون فيه نصف العشر.
نكتفي بهذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(53/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر – كتاب الزكاة (4)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين والمستمعين يا رب العالمين.
قال المؤلف -رحمه الله-:
باب: في الحلي والعروض إذا كانت للتجارة
عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها كانت تلبس أوضاحًا من ذهب، فسألت عن ذلك نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: أكنز هو؟ فقال: ((إذا أديت زكاته فليس بكنز)) رواه أبو داود والدارقطني، وهذا لفظه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وقال البيهقي: يتفرد به ثابت بن عجلان، وهذا لا يضر، فإن ثابتاً وثقه ابن معين، وروى له البخاري، والله أعلم.
وعن سمرة بن جندب قال: أما بعد: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع" رواه أبو داود.
وروى البيهقي بإسناده عن أحمد بن حنبل حدثنا حفص بن غياث حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- ...
عمرَ، ابن عمرَ.
عن ابن عمرَ -رضي الله عنهما- قال: "ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة".
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: في الحلي والعروض إذا كانت للتجارة
عندنا أمران، ترجمة لأمرين، للحلي وهو ما تتحلى به النساء {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [(18) سورة الزخرف] فالمرأة تحتاج إلى أن تتحلى وتتزين، فماذا عما تتزين به وتتحلى به؟ والعروض هي الأموال المعدة للتكسب والبيع والشراء.(54/1)
"إذا كانت للتجارة" هذا قيد، ومؤثر، ومر بنا مراراً أنه إذا تعقب القيد المؤثر أو الاستثناء أو الوصف المؤثر أكثر من شيء هل يعود إليها جميعها، أو يعود إلى الأخير منها؟ لأن كلام أهل العلم ينبغي أن يكون دقيقاً مضبوطاً بضوابط العلم، الآن الترجمة عندنا "باب: في الحلي والعروض إذا كانت للتجارة" وعلى الخلاف الذي ذكرناه سابقاً، كونه يعود على الأخير، هذا أمر متفق عليه، العروض لا بد أن تكون معدة للتجارة، لكن الحلي هل يشترط أن يكون للتجارة أو لا؟
لا خلاف بين أهل العلم أن الحلي إذا أعد للتجارة أن فيه الزكاة، هذا محل إجماع، لكن إذا لم يعد للتجارة أعد للبس والاستعمال، القيد في الترجمة يخرجه، إذا قلنا: إنه يعود إلى الجملتين معاً، إلى الحلي، يعود إلى اللفظين، إلى الحلي والعروض، شريطة أن تكون للتجارة، مفهوم ذلك أنه إذا لم يكن الحلي ولم تكن العروض للتجارة أنه لا زكاة فيه، مع أن المؤلف في الترجمة لم يصرح لا بوجوب الزكاة، ولا بعدم وجوبها، إنما الأحاديث التي ذكرها تبين مراده من ذلك، فحديث أم سلمة في الحلي المعد للاستعمال، ومع ذلك فيه الزكاة، وأما بالنسبة للعروض فسيأتي الكلام فيها، وهو طويل لأهل العلم.
والكلام في المسألتين لا يسلم من إشكال؛ لأن الأدلة في المسألة الأولى وهي مسألة الحلي متعارضة، وتكاد أن تكون متعادلة، وهي في نظر الشنقيطي -رحمة الله تعالى عليه-، وهو أفضل من بحث المسألة في أضواء البيان من حيث الأثر والنظر، وفي الأخير قال: هي متساوية، وإخراج الزكاة في الحلي إنما هو من باب الاحتياط، يعني لا من باب الوجوب والإلزام؛ لأن الأصل براءة الذمة، والقاعدة أن ما أعد للقنية والاستعمال ولو علت قيمته أنه لا زكاة فيه ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)) ولا أحد من أهل العلم يقول: إن البيت الذي يسكنه، أو السيارة التي يركبها، ولو كانت غالية الثمن أن فيها زكاة، فكل ما يعد للاستعمال والقنية هذا لا زكاة فيه.
على كل حال الأحاديث ذكر منها المؤلف حديث أم سلمة، وفي الباب أيضاً عن عائشة وعبد الله بن عمرو، والأحاديث الثلاثة كلها يستدل بها من يقول بوجوب الزكاة، زكاة الحلي، وهو قول الحنفية.(54/2)
وعامة أهل العلم أنه لا زكاة في الحلي كسائر المقتنيات للاستعمال.
والأحاديث الثلاثة كلها فيها كلام، وحديث جابر: ((ليس في الحلي زكاة)) أيضاً ضعيف، وإذا ضعفت الأحاديث والأخبار رجع إلى الأصل.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها كانت تلبس أوضاحًا من ذهب" أوضاح من ذهب تلبسها، أسورة في ذراعيها، وقد تلبس المرأة في رجليها، وقد تلبس القروط في أذنيها، وقد تعلق القلادة في عنقها إلى غير ذلك من أنواع ما يتحلى به النساء.
"أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب" والذهب حلال للإناث، حرام على الذكور، كالحرير.
"فسألت، أو قالت: فسألتُ" كأن الكلام عاد إليها، أنها كانت تلبس فسألتُ، أو "فسألت عن ذلك نبي الله -صلى الله عليه وسلم-" يعني مضبوطة فسألتُ، على كل حال الالتفات معروف في النصوص، وفي الأسلوب العربي "فسألت عن ذلك نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: أكنز هو؟ " هي تسأل، يعني هل هذا الذي في يدي يدخل في الوعيد الشديد في: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ} [(34) سورة التوبة] "أكنز هو؟ فقال: ((إذا أديت زكاته فليس بكنز)) " فالمال الذي تؤدى زكاته ولو كان مطموراً تحت الأرض فليس بكنز، والمال الذي لا تؤدى زكاته ولو كان ظاهراً على وجه الأرض فإنه في العرف الشرعي والاصطلاح الشرعي كنز، يعذب به يوم القيامة.(54/3)
" ((إذا أديت زكاته فليس بكنز)) رواه أبو داود والدارقطني، وهذا لفظه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وقال البيهقي: يتفرد به ثابت بن عجلان، وهذا لا يضر، فإن ثابتاً وثقه ابن معين، وروى له البخاري، والله أعلم" على كلٍ الحديث من حيث الصناعة قد يثبت، وقد يقال: إنه يصل إلى درجة الحسن، ويشهد له ما جاء من حديث عائشة وعبد الله بن عمرو، وهذه من أقوى الأدلة على وجوب الزكاة في الحلي، لكن الخصوم يعني في باب المناظرة يسمونهم خصوم، وإلا ليس هناك خصومة بين أهل العلم، إنما هي مناقشات من أجل الوصول إلى الحق، والشافعي -رحمه الله- يقول: والله لا يهمني أن يكون الحق معي أو مع غيري، المقصود أنه يبين الحق، هذه طريقته.
غيرهم يقول: إن هذه الأحاديث على خلاف الأصل، طيب من يقول بوجوب زكاة الحلي -من خلال هذا الحديث- هل يلغي النصاب أو لا يلغيه؟ يقول بالوجوب إذا بلغت نصاباً أو بالوجوب مطلقاً؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني يقيده بالأدلة الأخرى، فإذا لم يبلغ النصاب هل فيه زكاة وهو حلي؟ وحديث الباب نصاب أو غير نصاب؟ هو ما يدرى في الحقيقة، لكن ليس فيها بيان أنها بلغت، والغالب أنها لا تبلغ النصاب، لا سيما إذا كان المستعمل يسير، فعموم الأحاديث القائلة بوجوب الزكاة زكاة الحلي معناها أنه بلغ نصاب أو لم يبلغ.
على كل حال المسألة من عضل المسائل، والأدلة فيها متكافئة، والاحتياط إخراج الزكاة، والأصل براءة الذمة، والأصل أيضاً أن المستعمل لا زكاة فيه، وأن ما يقتنيه الإنسان للاستعمال فلا زكاة فيه.(54/4)
وجاء ما يدل في بعض الأحاديث أن الزكاة بالنسبة للحلي هو الإعارة، كما جاء في قوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [(7) سورة الماعون] يعني توعد على منع الماعون من إعارته، فقد يؤاخذ الإنسان إذا حبس ما يحتاج إليه، وطلب منه، وهو في حال غنى عنه، فمن أهل العلم من يحمل الزكاة المذكورة في هذا الحديث، وما جاء في معناه على الزكاة اللغوية التي تشمل المال والمنفعة، فإذا أعير هذا الحلي فهذه زكاته، وهذا جواب عن هذه الأحاديث، والأحاديث لا شك أن فيها قوة، والقول بموجبها قول له حظ من النظر، ويُفتى به الآن، يعني بعد أن انتشرت هذه الأحاديث، وعرفت في أوساط الناس، ووجد من يتحرر من المذاهب من أهل العلم، قالوا بوجوب زكاة الحلي، وإلا فما كانت الفتوى على هذا، وعلى كل حال الرجال يعرفون بالحق والدليل، والحق لا يعرف بالرجال، فما دام هذه الأدلة فيها قوة فإخراج الزكاة من الحلي له وجه، والإلزام يحتاج إلى أمر أوضح وأصرح من هذه الأدلة مع وجود المعارض.
وعلى كل حال من أخرج الزكاة احتياطاً فله حظ من النظر، ومن قال بوجوبها مستنداً على هذه الأحاديث أيضاً عنده ما يعتمد عليه، ومن عمل بالأصل وأن جميع ما يقتنى ورأى أن هذه الأدلة لا يمكن أن تقاوم الأصل، فله أيضاً نصيبه من النظر، ولا شك أن الاحتياط في إخراج زكاة الحلي.
قال -رحمه الله-: "وعن سمرة بن جندب قال: أما بعد" كأنه خطب خطبة كما هو شأن الخطب أن تبتدئ بالحمد والثناء والصلاة، ثم قال: أما بعد، كسائر الخطب، أو كتب كتاباً ثم قال فيه بعد ذلك: أما بعد، وأما بعد سنة مأثورة عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، رواها عنه أكثر من ثلاثين صحابياً في خطبه ومكاتباته.
يقول: "أما بعد: فإن" عرفنا في كتاب الجمعة أن (أما) حرف شرط وتفصيل، و (بعد) قائم مقام الشرط، وجواب الشرط ما بعد الفاء "فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" وذكرنا في ذلك الباب الأقوال الثمانية في أول من قالها لأهل العلم.
جرى الخلف (أما بعد) من كان بادئاً ... بها عُد أقوال وداود أقربُ
ويعقوب أيوب الصبور وآدم ... وقس وسحبان وكعب ويعربُ(54/5)
فقال بعضهم: إنها فصل الخطاب الذي أوتيه داود -عليه السلام-، ولا تتأدى السنة إلا بهذا اللفظ، ولا تتأدى السنة بإبدال (أما) بالواو كما يتداوله كثير من الناس الآن، ولا تحتاج إلى (ثم) كما يقوله بعض الناس اليوم، تجده يحدث ثم يقول: (ثم أما بعد) ما نحتاج إلى (ثم) إلا إذا احتجت إليها مرة ثانية لتنتقل من أسلوب إلى آخر.
"أما بعد: فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع" رواه أبو داود" لكنه حديث ضعيف، فيه أكثر من مجهول.
زكاة عروض التجارة نقل عليها الإجماع، إجماع أهل العلم، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية، والظاهرية يختلف أهل العلم بالاعتداد في أقوالهم وفاقاً وخلافاً، هل يمكن أن ينقل الإجماع مع خلافهم أو لا ينقل؟ يقول النووي: ولا عبرة بقول داود؛ لأنه لا يرى القياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد، الظاهرية لا يرون الزكاة في عروض التجارة؛ لأن أدلتها -ومنها حديث الباب- قد لا تثبت، يعني بالتصريح بها، وأما من العمومات الأخرى من نصوص الكتاب، وصحيح السنة، والقياس، وأيضاً الإجماع الذي ذكره ابن المنذر وغيره تدل على وجوب الزكاة في عروض التجارة، فثبوت الزكاة في عروض التجارة بالكتاب، يقول الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: "باب صدقة الكسب والتجارة"؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [(267) سورة البقرة] قال ابن جرير: أي بتجارة أو صناعة.
ويقول الله -جل وعلا-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [(103) سورة التوبة] {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [(103) سورة التوبة] عروض التجارة أموال وإلا ليست أموال؟ أموال بلا خلاف، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [(103) سورة التوبة] فعروض التجارة أموال، فيجب أن يؤخذ منها هذه الصدقة، والمراد بها الزكاة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [(267) سورة البقرة] يعني من تجارة أو صناعة أو غيرهما.(54/6)
من السنة حديث الباب، لكنه فيه ضعف، ونقل الإجماع على وجوب الزكاة في عروض التجارة ابن المنذر وابن هبيرة وغيرهما، ولم يخالف في ذلك إلا أهل الظاهر، وأهل الظاهر معروف الخلاف في اعتبارهم في الإجماع والخلاف.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الأئمة الأربعة وسائر الأمة على وجوب الزكاة في عروض التجارة، والقياس يقتضي ذلك فإنها –يعني عروض التجارة- مال نام أشبه بقية الأموال الزكوية" يعني بخلاف ما تقدم، فإن شيخ الإسلام وابن القيم لا يرون الزكاة في الحلي المعد للاستعمال؛ لأنه ليس بمال نام، وإنما هو معد كسائر ما يستعمل من المقتنيات التي اتفق أهل العلم على عدم وجوب الزكاة فيها.
"وروى البيهقي بإسناده عن أحمد بن حنبل قال: حدثنا حفص بن غياث قال: حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة" هذا من كلام ابن عمر، وهو صحيح إلى ابن عمر، لكنه موقوف عليه، والعبرة بالعمومات التي ذكرها أهل العلم، وترجم عليها البخاري "باب ما جاء في زكاة الكسب والتجارة".
سم.
قال -رحمه الله-:
باب: زكاة المعدن والركاز
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس)) متفق عليه.
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ من المعادن القبلية صدقة، وأنه أقطع بلال بن الحارث العقيق أجمع، فلما كان عمر بن الخطاب قال لبلال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقطعك إلا لتعمل، قال: فأقطع عمر بن الخطاب للناس العقيق" رواه البيهقي، وشيخه الحاكم من حديث نَعيم بن حماد.
نُعيم، نُعيم.
من حديث نُعيم بن حماد عن الدراوردي عنه، وقال الحاكم: احتج البخاري بنعيم بن حماد، ومسلم بالدراوردي.
بالدراوردي، الدراوردي.(54/7)
بالدراوردي، وهذا حديث صحيح ولم يخرجاه، كذا قال، والمشهور ما رواه مالك عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية، وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم.
قال الشافعي -رحمه الله-: "ليس هذا مما يَثبُت" ...
يُثبِت.
مما يثبت أهل الحديث، ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا إقطاعه، فأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: زكاة المعدن والركاز
المعدن: ما يوجد في الأرض من ذهب وفضة ونحاس ونفط وغيرها مما يستفاد منه، هذه معادن، والركاز ما يوجد مدفوناً في الأرض، وإن كان هذا الركاز المدفون من دفن الجاهلية، فهذا يملكه آخذه بدون تعريف، وعليه أن يخرج منه الخمس، وإن كان عليه علامة مسلمين أو في بلاد مسلمين فإنه لا بد من تعريفه كسائر ما يلتقط.
قال -رحمه الله-: "عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((العجماء جرحها جبار)) " العجماء البهيمة، سميت عجماء تشبيهاً لها بالأعاجم الذين لا يتكلمون؛ لأن كلام الأعاجم عند أهل العربية لا يدخل في مسمى الكلام؛ لأن تعريف الكلام عندهم هو اللفظ المركب المفيد بالوضع، بالوضع يعني العربي، وعلى هذا كلام الأعاجم ليس بكلام، لا يدخل في حد الكلام، والكلام الذي لا يفهم وجوده مثل عدمه، فكأنه غير موجود، فسميت عجماء؛ لأنها لا تتكلم، والمراد بذلك الدواب، إذا كسرت شيء أو جرحت أو أتلفت فإن جرحها جبار، هدر؛ لأن على أرباب الأموال حفظ أموالهم، وجاء التحديد بأن على أهل الأموال حفظ أموالهم بالنهار، وعلى أهل الدواب العكس ... ، على أن أهل الأموال حفظها عليهم بالليل، وعلى أهل الدواب حفظها في النهار كذا؟ نعم؟ أو العكس؟
طالب: العكس.(54/8)
نعم الدواب الأصل فيها أن تسعى في النهار، هذا إذا كانت بدون قائد، أما إذا كان معها صاحبها فإنه يضمن ما أتلفت؛ لأن عليه أن يكفها عما تتلف، لكن إذا كانت ترعى بمفردها، وأتلفت شيئاً في النهار، فإنه جبار على أهل المواشي أن يحفظوها بالليل، وإن كان الحديث عاماً ((العجماء جرحها جبار)) يعني هدر مطلقاً لا يضمن، لكن جاء ما يدل على أن على أرباب المواشي أن يحفظوها بالليل، وكثير ما يحصل منها الضرر.
كم من حادث في الطرقات حصل بسبب هذه الحيوانات، كم من قائد سيارة في الليل يمشي فاصطدم ببعير مثلاً، الحكم في النهار يختلف عن الحكم بالليل، لكن أحياناً تحصل مسائل معضلة في مثل هذا الباب، تجد صاحب السيارة قد أسرع سرعة لا يملك معها السيارة، فاصطدم بهذا الجمل أو بهذه الناقة لا شك أن عليه كفل مما حصل، وتجد صاحب الدابة أهمل هذه الدابة، فجعلها تتسبب في حوادث السيارات، ومثل هذه الأمور إذا كان صاحب السيارة يمشي بسرعة معتادة، والسيارة ليس فيها شيء من الخلل، المقصود أن مثل هذه الأمور يعتريها ما يقتضي النظر للقاضي؛ لأنه قد يكون السائق احتاط لنفسه، وتفقد السيارة، ومشى السرعة المطلوبة، لكن هذا البعير قطع الطريق فجأة، هذا يضمن صاحب البعير، أما إذا كان صاحب السيارة قد اجتاز الطريق بسرعة أكثر، أو لم يتفقد سيارته، فحصل فيها خلل، أو أراد أن يحرفها فانقلبت به السيارة لضعفها، أو لعدم تكامل متطلباتها، فإن هذا أيضاً عليه كفل من الحادث، وهذه مسائل لا شك أنها بالنسبة للقضاة يحصل عندهم بسببها إشكالات كبيرة.
فكونها جرحها جبار ليس بمطلق، لكنها في الأصل ليست من أهل التكليف، فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه من هذه الدواب، يعني شخص يمشي بين رعية من الإبل، يمشي، فخبطته إحدى هذه الدواب فوقصته فمات جبار، هدر، هو الذي عرض نفسه لها، فلا شك أن هناك من الصور ما يخرج عن هذا الحديث.(54/9)
((والبئر جبار)) شخص حفر بئراً يستقي منها الناس، فجاء شخص فوقع فيها، هذا هدر، لكن لو أن صاحب البئر الذي حفر غطاها بغطاء لا يمنع من السقوط فيها، ولا يعرف أنها بئر، جاء بلوح رقيق ووضعه فوقها، ووضع فوقه التراب، ثم جاء واحد وسقط يضمن وإلا ما يضمن؟ يضمن؛ لأنه هو الذي غره وغشه بهذا.
ذكر الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات أن اثنين ممن يدعون وصول الغاية في التوكل يمشيان في طريق فوقعا في بئر، ومن توكلهم على حد زعمهم أن الناس يمرون بهم ولا يطلبون منهم إخراجهم، حتى جاء قوم قالوا: إن هذه البئر في طريق الناس، فلو طممناها -يعني سقفناها-، وهما يسمعان تحت، فسكتا حتى طمت عليهم البئر وماتا فيها، يعني هل هذا من التوكل؟ ليس هذا من التوكل، هذا من التفريط، فعل السبب لا ينافي التوكل.
((البئر جبار)) عرفنا أنه إذا كانت ليس في طريق فيه شيء من الغرة، أما إذا وجد فيه شيء من الغرة، مثلما قلنا: لو وضع عليها لوح رقيق، وذر عليه شيء من التراب بحيث يتورط من يمشي عليها فيسقط، هذا يضمن بلا شك.
((البئر جبار)) إذا كانت واضحة للناس، يستقون منها، ويعرفون مكانها، لكن لو جاء أعمى ويمشي وسقط في بئر، يضمن وإلا ما يضمن؟ إذا حفرها إنسان متبرعاً بها لسقي الناس، وعرفها الناس، وصاروا يستقون بها، ويردون عليها انتهى، انتهت مسئوليته، فمن يقع فيها حينئذٍ جبار، لكن لو جاء أعمى فسقط فيها، هل نقول: يضمن صاحب البئر أو نقول: إن الأعمى مفرط؟
طالب: الأعمى مفرط.
يعني الأصل أن الأعمى يتخذ قائد، أو يتخذ عصى يستعين بها لمعرفة ما أمامه، لكنه إذا فرط فيضمن، فلا ضمان له، فهو هدر حينئذٍ.
((والمعدن جبار)) يعني الذي يسقط فيه؛ لأنه يحفر كالبئر، ويستخرج ما فيه جبار.(54/10)
((وفي الركاز الخمس)) في الركاز: ما يوجد من دفن الجاهلية فيه الخمس، طيب لماذا الخمس والأموال تتفاوت؟ العشر، نصف العشر، ربع العشر، وهنا الخمس أشد؛ لأن حصوله ليس فيه أدنى كلفة، يعني المعشرات الخارج من الأرض إذا كان يسقى بماء السماء فيه العشر، لكن صاحبه ينتظره لمدة عام، ويتعب عليه من جهات أخرى بالحرث والذر، وتعديل الماء، وما أشبه ذلك، فيه أتعاب، لكن الركاز؟ حفر حفرة في دقائق، واستخرج هذا الركاز، هذا ليس فيه تعب، فضوعف فيه المأخوذ، وإن لم يكن زكاة، إنما فيه الخمس، ومصرفه مصرف الفيء.
طالب:. . . . . . . . .
في المصالح العامة، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
ويش هو؟
طالب:. . . . . . . . .
يُعرّف، يعرف إذا كان عليه علامة مسلم يعرف.
طالب: حديث ابن عباس.
المقصود أنه يعرف ما جاء أحد، تعريفه ما يضره.
قال -رحمه الله-: "وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه -بلال بن الحارث -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ من المعادن القبلية الصدقة، وأنه أقطع بلال بن الحارث العقيق أجمع" الحديث مضعف عند أهل العلم، وفيه انقطاع، والصواب فيه ما سيأتي، ما رواه مالك عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم، هذا فيه انقطاع غير واحد من علمائهم، قال: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ من المعادن القبلية الصدقة، وأنه أقطع بلال بن الحارث العقيق أجمع، فلما كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لبلال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقطعك إلا لتعمل، قال: فأقطع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للناس العقيق" الإقطاع: وهي أن ولي الأمر يهب ويعطي بعض الناس ما يختص به دون غيره من الأراضي الموات، فهل يتم الملك بمجرد الإقطاع، أو يكون هذا ليس بتمليك، وإنما هو مجرد اختصاص؟ فإن تم الإحياء ملك وإلا فلا؟
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لبلال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقطعك إلا لتعمل، قال: فأقطع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للناس العقيق" يعني الإقطاع ما زال جارٍ، لكن هل يفيد التمليك أو يفيد الاختصاص؟
طالب: الاختصاص.(54/11)
أولاً: الخبر -خبر الباب- ضعيف، يعني لا يستدل به على أن الإقطاع لا يفيد التمليك، وأنه مجرد اختصاص كما صنع عمر -رضي الله عنه-، الخبر ضعيف، فنرجع إلى الأصل، ولي الأمر –السلطان- إذا أعطى يعطي تمليكاً أو اختصاصاً؟ هو إذا أعطى مال فلا شك أنه تمليك، وإذا أعطى أرضاً مواتاً وجاء في الخبر: ((من أحيا أرضاً ميتة فهي له)) فبالإحياء يملك، ولو لم يقطعه، إذا سبق إلى أرض مباحة ليست لأحد ثم أحياها ملكها بالنص، أما إذا أقطعها ولم يقم بإحيائها، إن أقطعها فأحياها فلا إشكال، وإن أقطعها ثم تحجرها ولم يحيها فهذا محل خلاف بين أهل العلم، ومن يقول بأنه ملك يقول: كما يعطيه السلطان من سائر الأموال، وإذا أعطى السلطان من غير تطلع ولا استشراف جاء الأمر بأخذ عطية السلطان، في صحيح مسلم دون أن يستشرف المسلم لمثل هذه الأعطيات، الاستشراف مكروه، وفي صحيح مسلم: ((أما إذا كان ثمناً لدينك فلا)) يعني إذا أعطيت شيء ومن وراء هذه العطية أهداف بأن تتنازل عن شيء في مقابل هذه العطية فلا.
نأتي إلى حديث الباب: "فلما كان عمر بن الخطاب قال لبلال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقطعك إلا لتعمل" هذا قد يستند إليه ويعتمد عليه من يرى أن الإقطاع مجرد اختصاص، ولا يملك إلا بالإحياء، والذي يقول: إن المقطع يملك بمجرد الإقطاع، وأن ولي الأمر له أن يتصرف في الأراضي الموات حسب المصلحة، حسب ما تقتضيه المصلحة، فإنه يملكه كسائر الأموال، يعني لو أعطاك مبلغ من المال من بيت المال من غير نظر ولا استشراف تملك هذا المال وتتصرف فيه كيفما شئت.
"لم يقطعك إلا لتعمل قال: فأقطع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للناس العقيق" أخذه من بلال ووزعه على الناس.(54/12)
"رواه البيهقي وشيخه الحاكم، من حديث نُعيم بن حماد عن الدراوردي عنه، قال الحاكم: احتج البخاري بنعيم بن حماد" لكن لم يحتج به على سبيل الاستقلال، وعلى سبيل الاحتجاج، إنما خرج له في الشواهد، "ومسلم بالدراوردي" نعم خرج الإمام مسلم للدراوردي، وقال: "هذا حديث صحيح ولم يخرجاه" يعني البخاري ومسلم "كذا قال" وإذا قيل من قبل أهل العلم: كذا قال، فهذا دلالة على عدم الاقتناع بما قال، "والمشهور ما رواه مالك عن ربيعة عن غير واحد من علمائهم" ما رواه مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، الذي من طريقه يروى هذا الخبر "عن غير واحد من علمائهم" ربيعة ما أدرك إلا أنس بن مالك، فهل يكون غير واحد من علمائهم من الصحابة أو من التابعين؟ من التابعين، قد يقول قائل: إن غير واحد ومن العلماء لا تضر جهالتهم؛ لأنهم جمع من أهل العلم، يجبر بعضهم بعضاً، ولو لم تعرف أسماؤهم، وهذه طريقة لبعض أهل العلم، التوثيق بالكثرة مع الجهالة، يعني أفرادهم مجاهيل لا تعرف أعيانهم، لكن بمجموعهم ووصفهم بأنهم من أهل العلم يكفي هذا، كما روى ابن عدي عن عدة من شيوخه قصة البخاري في قلب الأحاديث، يقول أهل العلم: ابن عدي ثقة، ويروي عن عدة من شيوخه، لم يسمهم، لكن بمجموعهم تنجبر هذه الجهالة، جهالة الأفراد تنجبر بالمجموع بالعدة، فبعضهم يجبر بعضاً.
وهنا يقول: "عن غير واحد من علمائهم" ويبقى أنهم مجموعة من التابعين، من علماء التابعين، فيكون الخبر حينئذٍ مرسلاً "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية، وهي ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم" يعني لا يؤخذ منها أجرة على الأرض، أو مزارعة، أو مخابرة، أو مساقاة، إنما يؤخذ منها الزكاة، فكأنهم ملكوا هذه الأرض، وصارت ملكاً لهم، لكن يبقى أن الخبر مرسل، والمرسل من قبيل الضعيف عند الجمهور.
واحتج مالك كذا النعمانُ ... به وتابعوهما ودانوا
مالك يذكر مثل هذا للاحتجاج به؛ لأنه يعمل بالمرسل.
واحتج مالك كذا النعمانُ ... به وتابعوهما ودانوا
ورده جماهر النقادُ ... للجهل بالساقط في الإسنادِ(54/13)
هنا فيه سقط، هؤلاء المجموعة من العلماء لا يدرى من رووا عنه هذا الخبر.
"قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: ليس هذا مما يثبت أهل الحديث" مالك ما عنده مشكلة في مثل هذا؛ لأنه يعمل بالمراسيل، والمراسيل عنده حجة، وكذلك عند أبي حنيفة.
الشافعي لا يحتج بالمراسيل إلا بالشروط التي ذكرها، أربعة شروط: منها ما يتعلق بالمرسِل، ومنها ما يتعلق بالمرسَل، وفصلها الإمام الشافعي في رسالته، وأما من جاء بعده من بعد الشافعي فإنهم كلهم لا يحتجون بالمراسيل.
"قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: ليس هذا مما يثبت أهل الحديث، ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا إقطاعه، فأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه.
"أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية" انتهى المرفوع المضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- انتهى "وهي من ناحية الفرع" هذا تحديد لموقعها ليس من الخبر، ليس مما يضاف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكذلك قوله: "فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم" لا يمكن نسبة هذا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالمرفوع منه قوله: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية" هذا المرفوع وهو الذي تلزم به الحجة، وأما ما عداه فليس فيه ما يدل على رفعه، ولذا قال الشافعي: "ولو أثبتوه" يعني لو كان صحيح الخبر " لم يكن فيه رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا إقطاعه" فأما الزكاة "لا يؤخذ منها إلا الزكاة دون الخمس" فليست مروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما هو واضح من السياق.
سم.
قال -رحمه الله-:
باب: صدقة الفطر
عن ابن عمرٍ
عمرَ
عن ابن عمرَ -رضي الله عنهما- قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ...
الآن عمر مصروف وإلا ممنوع من الصرف؟
طالب: ممنوع من الصرف.
لماذا؟
طالب: العلمية.
العلمية والعدل، معدول عن عامر يقولون، لكن الذي يرى أنه مأخوذ من جمع عمرة، عمر، هاه؟
طالب: يصرفه.
يصرفه، على هذا أنت .... نعم.(54/14)
قال -رحمه الله-: "عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير" أحياناً يكون للصرف وعدمه لكل منهما وجه، مثل حسان وعفان وحمران وأبان، ابن مالك يرى أن أبان مصروف، وغيره يقول: من صرف أبان فهو أتان، فيعني تقتدي بإمام ولك وجه تكون النون أصلية ليست مزيدة مع الألف فيكون مصروفاً، ثم بعد ذلك تواجه بمثل هذا الكلام هذا فيه، فيه صعوبة، نعم؟
نعم.
قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، متفق عليه، وهذا لفظ البخاري، وفي لفظ آخر: فعدل الناس به نصف صاع من بر.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: كنا نعطيها في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية، وجاءت السمراء قال: أرى مداً من هذا يعدل مدين، متفق عليه، واللفظ للبخاري، وفي لفظ: أو صاعاً من أقط، وقال أبو داود: حدثنا حامد بن يحيى حدثنا سفيان قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى ...
قال: حدثنا، قال: حدثنا، كلها قال: حدثنا.
قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى عن ابن عجلان سمع عياضاً قال: سمعت أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول: لا أخرج أبداً إلا صاعاً، إنا كنا نخرج على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاع تمر أو شعير أو أقط أو زبيب، هذا حديث يحيى، زاد سفيان بن عيينة فيه: أو صاعاً من دقيق، قال حامد: فأنكروا عليه، فتركه سفيان، قال أبو داود: فهذه الزيادة وهم من ابن عيينة، وقال النسائي: لا أعلم أحداً قال في هذا الحديث دقيق غير سفيان بن عيينة، قال البيهقي: ورواه جماعة عن ابن عجلان، منهم حاتم بن إسماعيل، ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم في الصحيح، ويحيى القطان، وأبو خالد الأحمر، وحماد بن مسعدة وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم الدقيق غير سفيان، وقد أنكروا عليه فتركه.
أُنكر.
وقد أنكروا عليه فتركه.
أو أنكر عليه ...(54/15)
وعن أبي يزيد الخولاني عن سيار بن عبد الرحمن عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات، رواه أبو داود، وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وليس كما قال، فإن سياراً وأبا يزيد لم يخرج لهما الشيخان، وأبو يزيد الخولاني هو الصغير، قال فيه مروان بن محمد: كان شيخ صدق.
كان شيخَ صدقٍ.
كان شيخ صدق، وسيار قال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدراقطني: رواة هذا الحديث ليس فيهم مجروح، وقال أبو محمد المقدسي: هذا إسناد حسن، والله سبحانه أعلم.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: صدقة الفطر
يعني ما تقدم في صدقة الأموال، في صدقات وزكوات الأموال، وما في هذا الباب صدقة لكنها لا تتعلق بالأموال، إنما تتعلق بالبدن، وسببها الفطر من رمضان، سببها الفطر من إضافة المسبب إلى سببه، فهذه الصدقة إنما تلزم بإكمال العدة بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان، هذا وقت وجوبها، فمن مات قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان لا تلزمه صدقة فطر، ومن غابت عليه الشمس، وأكمل العدة فإنها تلزمه.
"عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير" جاء في الرواية الأخرى: "صاعاً من طعام، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط" تنصيص على هذه الخمسة؛ لأنها الغالب فيما يقتات في ذلك الزمان، والطعام يدخل فيه كل مطعوم يقتات في أي بلد من البلدان، كما جاء في كفارة اليمين {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [(89) سورة المائدة] وإلا فما الفائدة أن نعطي شعير وهو لا يؤكل؟ وهي طعمة للمساكين، أغنوهم عن السؤال في ذلك اليوم، تعطيهم صاع من شعير وهم لا يأكلونه، إنما المقصود فيما يقتات.(54/16)
"صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين" الزكاة، زكاة الأموال إنما تجب على من عنده مال، الآن العبد ما عنده مال تجب، لكنها تجب على سيده، وإذا قلنا: إن العبد يملك فإنها تجب في ماله، والجمهور على أنه لا يملك ولو مُلك.
"على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين" فتجب على الغني والفقير، لكن شريطة أن يجدها زائدة عن قوت يومه وليلته "على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين" فزكاة الفطر تزكية، طهرة للصائم، وطعمه للمساكين، والكافر ليس أهلاً للتطهير، ولا للتزكية، فلا تجب عليه، وإذا كانت تجب طهرة للصائم، فكيف تجب على الصغير الذي لا يلزمه الصيام؟ هذا خرج مخرج الغالب، والمسلمون حكمهم واحد، وكلهم بحاجة إلى التزكية والتطهير.
"وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" هذا أفضل الأوقات لإخراج زكاة الفطر بعد أن يخرج، يخرجها معه إذا أراد أن يصلي بعد صلاة الصبح، وأراد أن يذهب إلى صلاة العيد يوزعها في ذلك الوقت، ولو قدمها في ليلة العيد فلا مانع، وجاء عن الصحابة ما يدل على تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين لا أكثر؛ لأن المراد بها إغناء الفقراء في ذلك اليوم، فلو قدمت لهم أكثر من هذا الوقت لأكلوها قبل ذلك اليوم، ثم احتاجوا إلى ما يغنيهم في ذلك اليوم.
"وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" أما إذا أخرها عن الصلاة فإنها حينئذٍ تكون صدقة من الصدقات على ما سيأتي، ولا تكون زكاة فطر، ولا تترتب عليها آثارها، تكون تزكية للنفس وتكميلاً وتزكية للصيام الذي حصل فيه شيء من اللغو والرفث على ما سيأتي.(54/17)
"وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" الآن هذا شخص خرج بزكاة الفطر بكيس فيه عشرة آصع مربوط، ولما أراد أن يسلمها لأهل بيت فقراء، أراد أن ينزلها من السيارة انحل الرباط، وانكبت في الأرض، فأخذ يجمعها إن استمر في جمعها فاتته الصلاة، وهو يبحث عن أفضل الأوقات، انحل الوكاء فانكبت، إن ذهب يشتري غيرها قد لا يجد؛ لأن الناس يتجهون إلى المصلى، وإن أخذها يجمعها فاتت الصلاة، في تأخيرها بعد الصلاة في مثل هذه الصورة يؤثر وإلا ما يؤثر؟ هذا أمر مما يملكه ابن آدم وإلا ما .. ؟ هل يكلف في مثل هذا؟ نعم؟ هذا خارج عن إرادته هذا، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
طيب هل يمكن أن يقول للمساكين للفقير الذي يريد استلامها له ولأهل بيته استلموها من الأرض؟ يا إخوان مسائل واقعة هذه، ويحصل فيها شيء من الحرج، نقول: الآن، هذا الحاصل زكاتي زكاة فطر وإلا صدقة من الصدقات؟
طالب:. . . . . . . . .
هو ذهب بها معه، وفي طريقه إلى المصلى يبحث عن أفضل الأوقات "وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" يعني صلى الفجر وذهب يؤديها، فانحل الوكاء وانكبت، ما وجد من يشتري منه، أو ليس معه ما يشتري به، وإن أخذ يجمعها فاتته الصلاة، أو لم يستطع جمعها حتى تنتهي الصلاة، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
اتقوا الله ما استطعتم، نقول: هذا قصد وله ما قصد، ولن يحرمه الله -جل وعلا- ما قصد.
"وفي لفظ آخر: فعدل الناس به نصف صاع من بر".
"وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: كنا نعطيها في زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية وجاءت السمراء" الحنطة، حنطة الشام "قال: أرى مداً من هذا يعدل مدين، متفق عليه، واللفظ للبخاري".
إن كان يعدل في القيمة فالقيمة لا أثر لها؛ لأن بعض الأنواع أضعاف بعض الأنواع في القيمة، وإن كان يعدلها في قيمة الغذاء فهذا أيضاً لا قيمة له؛ لأن بعض الأنواع المذكورة أفضل منها في الغذاء كالتمر مثلاً.(54/18)
"أرى مداً من هذا يعدل مدين" وعلى كل حال هذا اجتهاد من معاوية -رضي الله عنه-، وخولف في اجتهاده، وافقه من وافقه، وخالفه من خالفه، والأصل ما كان يدفع في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، والسمراء التي جاءت في عهد معاوية هي داخلة في قوله: "صاعاً من طعام" فلا يجوز دفع أقل من الصاع لا من السمراء ولا من غيرها، ومعاوية -رضي الله عنه وأرضاه- اجتهد، وله أجر اجتهاده، لكن الصواب في قول غيره.
"متفق عليه، واللفظ للبخاري، وفي لفظ: أو صاعاً من أقط، وقال أبو داود: حدثنا حامد بن يحيى قال: حدثنا سفيان، قال: وحدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى عن ابن عجلان سمع عياضاً، قال: سمعت أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- يقول: لا أخرج أبداً إلا صاعاً، إنا كنا نخرج على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاع تمر، أو شعير، أو أقط، أو زبيب" يعني لا أقلل مما كنت أخرجه على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، يعني الناس مع طول العهد قد يتنازلون عن بعض الأمور، لكن العبرة بما كان في عهده -عليه الصلاة والسلام-.
"لا أخرج أبداً إلا صاعاً، إنا كنا نخرج على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" هذا هو تمام الاتباع، بل هذا هو الاتباع بعينه، والنقص من ذلك نقص بالاتباع، ولو اجتهد من اجتهد، ولو كان هذا المجتهد ممن تبرأ الذمة بتقليده، ولو كان ولياً من أولياء الأمور، إذا كان فعله يخالف ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن معاوية هو ولي الأمر، وهو إمام المسلمين، وعدل الصاع مما ذكر بنصف صاع بمدين من السمراء، ومع ذلك خالفه أبو سعيد والحق معه؛ لأن العبرة بما كان على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولا عبرة بقول من خالفه كائناً من كان.
"هذا حديث يحيى، زاد سفيان بن عيينة فيه: أو صاعاً من دقيق" الدقيق ليس بمحفوظ، بل هو لفظ منكر شاذ تفرد به سفيان "قال حامد: فأنكروا عليه، فتركه سفيان" لما خالفه الناس تركه بعد أن ضبط عنه، وحدث به عنه، ثم بعد ذلك تركه.(54/19)
"قال أبو داود: فهذه الزيادة وهم من ابن عيينة" طيب ابن عيينة إمام حافظ حجة، مجمع على توثيقه وعدالته وضبطه وحفظه وإتقانه، كيف يأتي بهذه الزيادة، وتكون وهماً من حديثه، ويخالف بها حديث الناس؟ نقول: من الذي يعرى أو يعرو من الخطأ والنسيان كما قال الإمام أحمد؟ لا بد أن يقع الخطأ، لا بد أن يقع الخلل، مهما كان الراوي في الحفظ والضبط والإتقان؛ لأنه ليس بمعصوم.
"قال أبو داود: فهذه الزيادة وهم من ابن عيينة، وقال النسائي: لا أعلم أحداً قال في هذا الحديث دقيق غير ابن عيينة، قال البيهقي: ورواه جماعة عن ابن عجلان، منهم حاتم بن إسماعيل، ومن ذلك الوجه أخرجه مسلم في الصحيح ويحيى القطان، وأبو خالد الأحمر، وحماد بن مسعدة وغيرهم، فلم يذكر أحد منهم: الدقيق غير سفيان، وقد أنكروا عليه فتركه" نعم هكذا يجب على المحدث إذا بان له الخطأ أن يرجع، أما إذا بان له الخطأ وأصر وعاند على خطئه فإنه يجرح بهذا الخطأ، أما إذا بان له الخطأ ثم تركه فإن هذا لا يؤثر فيه مثل هذا الخطأ.
يعني بعض الناس يعمد إلى نوع رخيص، وبعضهم يعمد إلى نوع غالي، أما إذا كان خبيثاً رديئاً فهو داخل في قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [(267) سورة البقرة] أما إذا كان نوع أقل جودة من الأعلى، وهو مما يأكله أوساط الناس فلا بأس به، وكل على حسب ما تطيب به نفسه، وتجود به لربه.(54/20)
قال -رحمه الله-: "وعن أبي يزيد الخولاني عن سيار بن عبد الرحمن عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر" فرض، فرض أوجب أو قدر؟ {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [(14 - 15) سورة الأعلى] قالوا: تزكى زكاة الفطر، نعم زكاة الفطر، وهنا: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" هل نقول: إن المراد بفرض أوجب، أو نقول: فرض قدر؟ أو نقول: فرض أوجب وقدر؟ التقدير حاصل من النبي -عليه الصلاة والسلام-، التقدير بالصاع حاصل من النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفرض زكاة الفطر وإن كانت الإشارة إليه بالقرآن إلا أنه ليس بصريح في الفرضية، {قَدْ أَفْلَحَ} [(14) سورة الأعلى] لا يدل على الوجوب، لكن الوجوب إنما يؤخذ من السنة، هذه مسألة، فالفرض هنا بمعنى الإيجاب والتقدير، وإن كان يرد عليه ما يرد على استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى، يعني فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، الجمهور يقولون: قدرت، والحنفية يقولون: أوجبت؛ لأن القصر عندهم واجب، هنا نقول: فرض رسول الله، هل نقول: أوجب أو قدر أو هما معاً؟ لأن الوجوب عرف بالسنة، والتقدير أيضاً عرف بالسنة، لكن هل يؤخذ الفرض الذي هو بمعنى الوجوب وبمعنى التقدير من لفظ واحد، أو من نصوص متعددة؟ يعني لو لم يكن عندنا إلا هذا الحديث: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعاً من تمر" يعني هذا فيه تقدير، فنقول: قدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي النص الثاني: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم" نقول هنا: المراد به الإيجاب، طيب الإيجاب الفرض والواجب معناهما واحد وإلا يختلف معناهما؟
طالب:. . . . . . . . .
فرض يعني أوجب، هناك فرض صاعاً يعني قدر، وهنا فرض زكاة الفطر طهرة، يعني أوجب زكاة الفطر طهرة للصائم، يعني أوجبها، الفرض والواجب ما الفرق بينهما؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
واحد؟ ما في فرق؟
طالب:. . . . . . . . .(54/21)
عند الجمهور ما في فرق، عند الحنفية يفرقون بين الفرض والواجب، فالواجب عندهم ما ثبت بدليل ظني، والفرض ما ثبت بدليل قطعي، طيب زكاة الفطر وجبت بدليل ظني أو قطعي؟ على اصطلاحهم؟
طالب: قطعي.
ليش قطعي؟ عندهم قطعي؟
طالب:. . . . . . . . .
لا تنظر إلى اللفظ الشرعي، انظر إلى الاصطلاح، مجرد عن اللفظ الشرعي، نعم زكاة الفطر عندهم ثبتت بدليل ظني، يعني كغيرهم، يعني لم تثبت بالقرآن أو بمتواتر السنة، فهي ثبتت بدليل ظني، على هذا زكاة الفطر عند الحنفية فرض وإلا واجب؟ على اصطلاحهم؟
طالب: واجب.
واجب، ويعرفون أن الصحابي يقول: فرض رسول الله، ولا ينكرون هذا الخبر، ولا ما جاء في معناه، ويقولون: زكاة الفطر واجبة؛ لأنها ثبتت بدليل ظني، طيب الصحابي وهو أعرف بالأساليب الشرعية والمدلولات اللغوية يقول: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنتم تقولون: لا، ليست بفرض، وإنما واجبة، يستدل الحنفية على وجوب صلاة العيد بقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [(2) سورة الكوثر] ثبت دليل قطعي، لكنهم يقولون: واجبة، وليست بفريضة، لماذا؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم الدلالة ظنية وليست بقطعية، الدلالة ظنية فصلاة العيد واجبة وليست بفرض، وهنا زكاة الفطر واجبة وليست بفرض عندهم؛ لأنها ثبتت بدليل ظني، والصحابي يقول: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعني أوجب، الذي لا يفرق بين الفرض والواجب لا يرد عليه مثل هذا الإشكال، لكن الذين يفرقون ويقولون: إن زكاة الفطر واجبة وليست بفريضة، والصحابي يقول: فرض، لا شك أن مثل هذا الحديث وارد على اصطلاحهم.
"فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم" الحكمة والعلة من شرعية زكاة الفطر أنها تطهر الصائم من اللغو والرفث، الصائم الذي يصوم مدة تصل إلى خمس عشرة ساعة، لا بد أن يعتريه ما يعتريه في أثناء هذه المدة من نطقه أو بعض أفعاله أو تصرفاته من المخالفات فهذه تطهره "من اللغو" الكلام الغير مرضي "والرفث" الفاحش من القول، لا سيما ما يتعلق بالنساء.(54/22)
"من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين" فالعلة مركبة من أمرين: طهرة للصائم، وطعمة للمساكين، طيب قد يقول قائل: أنا حفظت صيامي من غروب الشمس من آخر يوم من شعبان من دخول الشهر إلى خروجه لا لغو ولا رفث، هل يلزمني زكاة فطر؟ نقول: نعم، العلة مركبة من أمرين: إن سلمت من أحدهما لم تسلم من الآخر "طعمة للمساكين" يقول: حفظت صيامي من أول لحظة دخل فيها الشهر إلى آخر لحظة، وبلدي لا يوجد فيه مساكين، تجب عليه زكاة الفطر وإلا ما تجب؟ الآن علة منصوصة، والعلماء يقولون: إن العلل المنصوصة يدور معها الحكم وجوداً وعدماً، إذا قال: بلدي لا يوجد فيه مساكين، قلنا: عندك لغو ورفث، بعض العلة، إذا قال: ما عندي لغو ولا رفث، قلنا: عندك مساكين في سائر أقطار الأرض، يعني إن لم تجد المساكين في بلدك، والأصل في زكاة الفطر أن تكون في البلد الذي فيه البدن، ولا يجوز نقلها عنه إلا إذا لم يوجد فيه مساكين هذا أمر ثاني.
"وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" يعني يقضيها قضاءً، وبعضها يراها أداء في يوم العيد، لكن هذا الحديث جعل الحد الفاصل الصلاة، فما كان قبل الصلاة له حكم، وما كان بعد الصلاة له حكم.
"ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه" نعم البخاري خرج لعكرمة عن ابن عباس، لكنه لم يخرج لسيار وأبي يزيد، فكلام الحاكم ليس بصحيح.
قال المؤلف: "وليس كما قال، فإن سياراً وأبا يزيد لم يخرج لهما الشيخان، وأبو يزيد الخولاني وهو الصغير، قال فيه مروان بن محمد: كان شيخ صدق" يعني مقبول، ليس فيه طعن ينزل حديثه عن درجة القبول "وسيار قال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات" على كل حال حديثهما ممن يحسن، فالحديث حسن.
"وقال الدراقطني في رواة هذا الحديث: ليس فيهم مجروح، وقال أبو محمد المقدسي: هذا إسناد حسن، والله أعلم" وهو كما قال، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
طالب: المريض الذي لا يرجى برؤه.
إيش فيه؟
طالب:. . . . . . . . .(54/23)
المريض الذي لا يرجى برؤه يأتي في كتاب الصيام، وأنه يطعم عنه.
يقول: حلي المرأة المستعمل هل فيه زكاة؟
هو موضوع هذا الدرس، وقلنا: إن الإخراج يكون من باب الاحتياط.
يقول: هل يجوز تشقير الحواجب للنساء؟ وهل هو من النمص المنهي عنه؟
هو ليس بمنص، لكن إذا سبغ بلون البشرة بحيث يقول من رأى هذه المرأة: إنها نامصة، ولا شعر في وجهها هذا له حكم النمص.
امرأة احترق شعرها، وتشوهت خلقتها، هل لها أن تصل شعرها؟ وهل هذا تغيير؟
نعم، لا يجوز لها أن تصل شعرها، لكن إذا أجرت عمليات تجميلية وزرع شعر، وما أشبه ذلك هذا له حكمه.
يقول: رجل صلى الفجر ثم رجع لصلاة الركعتين حسبما يقول للاستخارة.
يعني صلاها بعد صلاة الفجر، وما بعد صلاة الفجر وقت نهي، والاستخارة وقتها موسع، ينتظر إلى أن تطلع الشمس، على كل حال هو فعل، وبعضهم يرى ممن يتوسع بذوات الأسباب، وأنها تفعل في أوقات النهي يرى أن مثل هذا لا شيء فيه، هو في الحقيقة أمر مشكل جداً، ينتظر حتى يخرج وقت النهي.
المقصود ما هو بهذا السؤال.
يقول: فبعد أن انتهيت من الركعة الأولى انضم إلي رجل فما أدري ما أفعل؟
جاء رجل فاتته الصلاة، ورأى هذا يصلي فظن أنه يصلي الفريضة، أو يصلي النافلة التي فاتته، فانضم إليه.
فلم أدر ما أفعل، ثم انضم آخر -صارت جماعة- فحولت نيتي إلى الإمام، وجهرت في الثانية، فما أدري عن هذا الفعل؟
لا شك أن هذا على قول من يقول بصحة صلاة المفترض خلف المتنفل أن هذا لا إشكال فيه، تصح صلاتك وصلاتهم، أنت متنفل، ثم بعد ذلك إذا سلمت تدعو بدعاء الاستخارة.
يقول: إذا أوجبنا الزكاة على عروض التجارة، ومن ثم أوجبناها على صاحب التجارة إذا حال الحول على أرباحه، ألم نأخذ الزكاة من ماله مرتين؟
إذا حال الحول على أصل المال فتؤخذ الزكاة على الأصل، وعلى الربح معاً، فربح التجارة ونتاج السائمة حولهما حول أصلهما.
ماذا على من صلى أربع ركعات دون جلوس أوسط نهاراً، قاصداً أو ناسياً؟(54/24)
جاء في الحديث: ((صلاة الليل مثنى مثنى)) فلا تجوز الزيادة على الركعتين في التطوع بالليل إلا في الوتر له أن يوتر بثلاث، وله أن يوتر بخمس، وله أن يوتر بسبع، وله أن يوتر بتسع بسلام واحد، جاء في الحديث في بعض رواياته: ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)) لكن الزيادة: ((والنهار)) لا يثبتها كثير من أهل العلم، وحينئذٍ فلا مانع من أن يتطوع بالنهار بأكثر من ركعتين بأربع بسلام واحد، وجاء ما يدل على ذلك في الأربع التي قبل صلاة العصر.
يقول: يكثر في هذه الأيام دعوات ترسل بالجوال، هل هذا الدعاء يدخل في الدعاء لأخيه بظهر الغيب؟
لا، إذا أخبره برسالة الجوال ما صارت ظهر الغيب، نعم إذا أخبره بالرسالة أو بمكاتبه، أو قال له في وجهه هذا ليس بظهر الغيب، إنما يدعو له بغيبته، ولا يخبره بذلك، ولا يكتب له بذلك، هذا ظهر الغيب.
وهل إذا كانت الرسالة مبدوءة بالسلام يجب رد السلام شفهياً، أو برسالة؟
كالمكتوب، إذا جاءك الخطاب من أحد وفيه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تقول: وعليكم السلام ورحمة وبركاته، ولا يلزم أن ترسل له.
يقول المفسرون: تقدير الكلام كذا، عند شرح الآية، أو يقولون: هناك كلام محذوف تقديره كذا، ألا يكون ذلك من القول على الله بما لم يقله؟
أحياناً السياق يتطلب ذلك، السياق لا بد فيه من تقدير، ولا يستقيم الكلام إلا بتقدير {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [(106) سورة آل عمران] نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
لا، في آية آل عمران {أَكْفَرْتُم} [(106) سورة آل عمران] {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم} [(106) سورة آل عمران] إيش معنى كفرتم؟ لا بد أن يقال: في الكلام حذف، تقديره: فيقال لهم: أكفرتم؟ ونكتفي بهذا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(54/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر – كتاب الزكاة (5)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
سم.
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين يا رب العالمين.
قال المؤلف -رحمه الله-:
باب: قسم الصدقات
عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني)) رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، وأبو داود وابن ماجه والحاكم، وقال: على شرطهما، وقد روي مرسلاً، وهو الصحيح، قاله الدارقطني، وقال البزار: رواه غير واحد عن زيد عن عطاء بن يسار مرسلاً، وأسنده عبد الرزاق عن معمر والثوري، وإذا حدث بالحديث ثقة فأسنده كان عندي الصواب، وعبد الرزاق عندي ثقة، ومعمر ثقة.
وعن عبيد الله بن عدي بن الخيَّار ...
الخيْار، خيْار بالتخفيف.
وعن عبيد الله بن عدي بن الخيْار أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر فرآهما جلدين، فقال: ((إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب)) رواه الإمام أحمد، وقال: ما أجوده من حديث! وأبو داود والنسائي، وهذا لفظه.
وعن قبيصة بن المخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسأله فيها، فقال: ((أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها)) قال: ثم قال: ((يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبُها ثم يمسك)) ...
يصيبَها
حتى يصيبَها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال سداداً من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش -أو قال سداداً من عيش- فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتاً)) رواه مسلم وأبو داود، وقال: حتى يقول باللام.(55/1)
وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب، فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين -قالا لي وللفضل بن عباس- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلماه، فأمّرهما على هذه الصدقة فأديا ما يؤدي الناس، وأصابا مما يصيب الناس، قال: فبينما هما في ذلك جاء علي بن أبي طالب فوقف عليهما، فذكرا له ذلك، فقال علي: لا تفعلا، فو الله ما هو بفاعل، فانتحاه ربيعة بن الحارث، فقال: والله ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا، فو الله لقد نلت صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما نفسناه عليك، فقال علي: أرسلهما ...
أرسلوهما، بالجمع وإلا بالإفراد؟
فقال علي: أرسلوهما، فانطلقا واضطجع قال: فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر سبقناه إلى الحجرة، فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا، ثم قال: ((أخرجا ما تصرران)) ثم دخل ودخلنا عليه، وهو يومئذٍ عند زينب بنت جحش، قال: فتواكلنا الكلام ثم تكلم أحدنا، فقال: يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل الناس، وقد بلغَنَا النكاح.
بلغْنا، بلغْنا.
وقد بلغْنا النكاح، وجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدي إليك ما يؤدي الناس، ونَصيب كما يصيبون؟
نُصيبُ
ونُصيب كما يصيبون؟ قال: فسكت طويلاً حتى أردنا أن نكلمه، قال: وجعلت زينب تلمِّع إلينا من وراء الحجاب: أن لا تكلماه ...
تُلْمِع، تُلمع.
ألا تُكلماه.
تُلمع.
نعم، أحسن الله إليك.
زينب تُلمع إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه، ثم قال: ((إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، ادعوا لي محمية -وكان على الخمس- ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب)) قال: فجاءاه فقال لمحمية: ((أنكح هذا الغلام ابنتك)) للفضل بن عباس، فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث: ((أنكح هذا الغلام ابنتك)) لي، فأنكحني، وقال لمحمية: ((أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا)) قال الزهري: ولم يسمه لي. وفي طريق آخر: "فألقى علي رداءه، ثم اضطجع عليه، وقال: أنا أبو حسن القرم، والله لا أريم مكاني حتى يرجع إليكما ابناكما بحور ما بعثتما به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".(55/2)
وقال في الحديث: "ثم قال لنا: ((إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) رواه مسلم.
وعن جبير بن مطعم -رضي الله عنه- قال: "مشيت أنا وعثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني عبد المطلب من خمس ...
بني المطلب.
أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد)) رواه البخاري.
وعن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: "أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس: كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع؟
فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع
قال: فأتم له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة من الإبل، وفي رواية: وأعطى علقمة بن علاثة مائة، رواه مسلم.
وعن أبي رافع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها، قال: حتى آتي النبي فأسأله، فأتاه فسأله فقال: ((مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة)) رواه الإمام أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعطي عمر العطاء فيقول له عمر: أعطه يا رسول الله أفقر إليه مني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خذه فتموله، أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك)) قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحداً شيئاً، ولا يرد شيئاً أعطيه" رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:(55/3)
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد ما ذكر الأموال التي تجب فيها الزكاة، وذكر الأنصباء، وما يجب فيها، ذكر كيف تقسم؟ كيف توزع هذه الزكوات وهذه الصدقات؟.
الله -جل وعلا- تولى قسمة هذه الصدقات على الأصناف الثمانية، ولم يكل ذلك إلى أحد، بل بينهم بالتفصيل، والاقتصار في بعض النصوص على بعض هذه الأصناف لا يلغي ما عداها من الأصناف الثمانية ((تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم)) هؤلاء أولى الناس بصرف الزكاة؛ لأنهم لا يجدون ما يقوم بحاجتهم من الطعام والشراب والمسكن وغيرها من الحوائج الأصلية.
الأصناف الثمانية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} [(60) سورة التوبة] ... الآية.
تولى الله -جل وعلا- قسمتها، ولم يكل ذلك لا إلى محمد -عليه الصلاة والسلام- الذي وكل إليه بيان بقية ما أجمل في الكتاب، والسنة هي المبينة للقرآن، لكن في هذه المسألة ما تركت لأحد، بينها الله -جل وعلا-، نعم قد يكون في بعضها شيء من الإجمال، مثل في سبيل الله مثلاً، فيختلف أهل العلم بسبب هذا الإجمال، وإلا فالثمانية لا يجوز أن يزاد عليهم صنف تاسع، ولا يجوز أن يلغى من هذه الأصناف الثمانية حكماً، وإن لم يعط منها حقيقة، لكن لا يجوز أن يلغى حكماً؛ لأنه يجوز صرفها إلى صنف أو صنفين أو ثلاثة، ولا يجب استيعاب الثمانية.(55/4)
{وَفِي سَبِيلِ اللهِ} [(60) سورة التوبة] عامة أهل العلم على أن المراد به الجهاد في سبيل الله، فيجهز الغزاة في سبيل الله من الزكاة الذين ليس لهم ديوان، بمعنى أنهم ليس لهم شيء من بيت المال يقوم بكفايتهم ويجهزهم، منهم من يتوسع في المراد في سبيل الله، فيجعله يشمل كل ما يقرب إلى الله -جل وعلا-، من تعليم، ودعوة، ومصالح عامة للمسلمين، لكن عموم أهل العلم يقصرون ذلك على الجهاد، ومنهم من يلحق بذلك الحج، فيجعله في سبيل الله، وقد جاء ما يدل عليه، لكن الأصل في هذا الباب أنه الجهاد في سبيل الله، ويبقى أن الحج إذا لم يستطع الإنسان الحج فإنه معذور غير مكلف بالحج، فلا يكلف بالأخذ من الزكاة، ولو لم يعط من الزكاة لكان للمنع وجه؛ لأنه غير مكلف أصلاً بالحج ما دام عاجز، وتسميته في سبيل الله يعني من باب الإطلاق العام، كما يقال إذا خرج طالب علم ليطلب علم قيل: في سبيل الله.(55/5)
قال -رحمه الله-: "عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تحل الصدقة لغني)) " لغني؛ لأن الحصر في آية المصارف {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} [(60) سورة التوبة] فخرج الغني بأول كلمة، يستثنى خمسة أشخاص، وإن اتصفوا بالغنى فيعطون من الزكاة لا لأنهم أغنياء، وإنما لأمر استدعى ذلك ((لعامل عليها)) والعامل منصوص عليه {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [(60) سورة التوبة] فالعامل يعطى بقدر أجرته التي تحدد له من قبيل ولي الأمر، أو يعطى أجرة مثله إذا لم يتم التحديد، ولا بد أن يحدد العامل، ويحدد الأجرة من له الأمر، وإلا صارت الأمور فوضى تجد بعض الناس يجمعون الأموال الزكوية وهم في ذلك محسنون، ونياتهم فيما يظهر صالحة، يريدون خدمة الأغنياء، ويريدون أيضاً خدمة الفقراء، ثم بعد ذلك يفرضون لأنفسهم قدراً مما يأخذون باسم العمالة، أو مكلفون من قبل أشخاص لم يوكل لهم هذا الأمر، تجد إمام مسجد يقول للشباب: اجمعوا من الزكوات لنوزع على فقراء الحي هذا عمل طيب، ثم بعد ذلك يفرض لهؤلاء الشباب الذين يجمعون من هذه الزكوات باسم العمالة، هذا ليس بصحيح، لا إمام مسجد، ولا مكتب دعوة، ولا غيره، ما يملكون مثل هذا الأمر، ما يملكه إلا لمن له الأمر، الذي الأصل أن الزكوات تدفع له، أو يرسل من يجبيها، وهو ولي الأمر، وتقدير هذه الأمور وإرجاعها كلٌ إلى ما يقدره في نفسه، والناس يتفاوتون في هذا، لا بد أن تكون جهة التقدير واحدة، الناس يتفاوتون بعض الناس جزل النفس، فإذا جمع هذا الشاب عشرة آلاف يمكن يعطيه ألف، وبعض الناس دنيء النفس إذا جمع له عشرة آلاف أعطاه عشرة ريال، الناس يتفاوتون، فتصير المسألة فوضى، من أراد أن يجمع، من أراد أن يفرض، هذا كلام ليس بصحيح، هذه الأمور مردها إلى ولي الأمر، أو من يكل إليه الأمر ولي الأمر.
((لعامل عليها)) فالعامل يأخذ بقدر أجرته، وإن كان غنياً في مقابل أتعابه.(55/6)
((أو رجل اشتراها بماله)) دفعت الصدقة الزكاة العينية جذعة، حقة، أعطيتها فقير، أو دفعت له شيء من أموال عروض التجارة، أو كفارة دفعت لهذا البيت الذي يسكنه مجموعة من أفراد الأسرة دفعت لهم كيس من الأرز كفارة أو زكاة أو زكاة فطر، دفعتها إليهم، عندهم كيس ثاني، ماذا يصنعون به؟ يتصرفون، هم ملكوه {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء} [(60) سورة التوبة] تمليك ملكوها وانتهينا، فلهم أن يتصرفوا ببيعها إذا كانت قدر زائد عن حاجتهم في هذا الباب، أما إذا كانت قدر زائد عن حاجتهم مطلقاً فلا يجوز لهم أن يأخذوها أصلاً، فلهم أن يبيعوها فمن يشتريها بماله لا يقال: إنه أخذ الصدقة إنما اشتراها.
((أو غارم)) غارم تحمل ديناً إما لنفسه ركبته الديون التي لم يفرط فيها، ولم يأخذ بسببها أموال الناس تكثراً، أو يغامر مغامرة المجانين، ثم بعد ذلك تركبه الديون، ثم زكوات المسلمين قد لا تغطي ديونه مثل هذا يعاقب بنقيض قصده؛ لأنه لو علم مثل هذا لزادت مغامرته، وهو يقول: الزكوات تسدد -إن شاء الله-؛ لأني غارم، لا، من غير تفريط في حوائجه الأصلية، أو تحمل بسبب غيره لإصلاح، إصلاح ذات البين، بين أسرتين، بين قبيلتين، بين رجلين، تحمل للإصلاح فهذا من باب التشجيع على الإصلاح، والصلح خير، يعان من الزكاة.
((أو غاز في سبيل الله)) الغارم والغازي في سبيل الله هؤلاء مما نص عليه في آية المصارف ((أو غاز في سبيل الله)) فيعطى ما يتجهز به للجهاد وما يعينه على أداء هذه المهمة العظيمة التي هي ذروة سنام الإسلام، وهي مصدر عز المسلمين، وما ذلوا إلا بعد أن تركوا الجهاد.(55/7)
((أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني)) مسكين تصدق عليه منها، عليه صدقة ولغيره ممن يأكل معه هدية، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- رأى في البرمة على النار لحماًَ فسأل، فقال: ((ما هذا؟ )) قالوا: هذا تصدق به على بريرة، فقال: ((هو عليها صدقة، ولنا هدية)) والنبي -عليه الصلاة والسلام- يأخذ الهدية، ولا يأخذ الصدقة، فأهدى منها لغني، هنا مسألة يكثر السؤال عنها، قد يكون الشخص غنياً، وله زوجة وأولاد، وأهل زوجته فقراء يأخذون من الصدقات، فإذا ذهبت زوجته التي هي في الأصل تحت غني منفق وأولاده إلى أهلها وأخوالهم، وعندهم طعام من الصدقة يأكلون وإلا ما يأكلون؟ يأكلون، هي للفقراء صدقة، ولهؤلاء هدية، لكن يبقى أن الإنسان عليه أن يلاحظ مثل هذه الأمور، لا يستغل الفرصة ويقول: كفينا المئونة، اذهبوا وأكلوا عند أهلكم، هي لهم صدقة، ولكم هدية، لا، يعني عليه أن يبذل لأصهاره ما يقابل ما تأكله زوجته وأولاده عندهم، لكن إذا حصل اتفاقاً مثل هذا الأمر من غير تخطيط ومن غير قصد هذا لا بأس به، كما حصل للحم الذي أهدي لبريرة، يعني بعض الناس وإن كان غنياً تجده دنيئاً في نفسه، عندنا أصل شرعي الرسول -عليه الصلاة والسلام- أكل مما تصدق به على بريرة، ولسنا بأورع من الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فيقول: فرصة يومياً اذهبوا تغدوا عندهم، وتعشوا عندهم؛ ليسلم من مؤونتهم، هذا الكلام ليس بصحيح، إذا قصد ذلك حرم عليه، إما أن يأتي اتفاقاً، ويقدمون ما تصدق به عليهم بحضور غني لا مانع أن يأكل، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام-، نفرق بين هذا وهذا، يعني إذا كان الإنسان هذا الغني عنده زكوات من ماله، ويعطى من غيره من الأغنياء، ثم يعطي أصهاره بهذا القصد ليأكل هؤلاء الأصهار من هذه الزكوات، وإذا ذهب أولادهم يجدون ما يأكلون أيضاً من هذه الزكوات، ويحمي بذلك ماله، هذا لا يجوز، المسألة مسألة دين، ما هي .. ، ما تمشي الحيل في مثل هذا.
((فأهدي منها لغني)) رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، وأبو داود وابن ماجه والحاكم، وقال: على شرطهما، وقد روي مرسلاً وهو الصحيح، قاله الدارقطني.(55/8)
هو مرسل، يعني طريق من طرقه يروى موصولاً، ويروى متصلاً، ورجح الدارقطني المرسل من هذا الطريق، أما بقية الطرق الموصولة لم يتعرض لها الدارقطني، فالصواب أنه موصول.
"وقال البزار: رواه غير واحد عن زيد عن عطاء بن يسار مرسلاً، وأسنده عبد الرزاق عن معمر والثوري، وإذا حدث بالحديث ثقة فأسنده كان عندي الصواب" يعني العبرة بالموصول، وذكرنا مراراً أن طريقة الأئمة في هذا في هذه المسألة أنهم لا يحكمون بحكم عام مطرد، لا يحكمون بالإرسال مطلقاً، ولا بالوصل مطلقاً، وإنما القرائن هي التي تحكم في مثل هذا الباب.
"وأسنده عبد الرزاق عن معمر والثوري، وإذا حدث بالحديث ثقة فأسنده كان عندي الصواب، وعبد الرزاق عندي ثقة، ومعمر ثقة" وعلى كل حال الحديث صحيح، لا إشكال فيه.
"وعن عبيد الله بن عدي بن الخيْار" هذا من كبار التابعين، عبيد الله بن عدي بن الخيار من كبار التابعين، مرسله يقبله الشافعي، ومن يقبل المراسيل بالشروط المعروفة، وله قصة في الصحيح، وهي أنه قال لشخص: اذهب بنا لنرى وحشي بن حرب الذي قتل حمزة وقتل مسيلمة، وحشي قد جاوز المائة في ذلك الوقت، فتلثما وأقبلا على وحشي، وحشي ما رآهما قبل ذلك، فلما رآهما قال: أنت ولد عدي بن الخيار؟ فك اللثام، قال: نعم، فتعجب كيف عرفه وهو أول مرة يراه؟! قال: ناولتك أمك وأنت في المهد على الدابة، يعني كم؟ عبيد الله تابعي كبير، يعني ممكن في هذا الوقت عمره أكثر من سبعين سنة، ناوله أمه في المهد وعرفه من ذلك الوقت، والواحد منا لو يسلم عليه شخص، ويطلع مع باب ويدخل مع باب نسيه، يعني ليست هذه مبالغة، يعني هذه تجربة، وهذا بعد عقود، والفرق كبير الآن عبيد الله بن عدي تابعي كبير، يعني في الستين، أو في السبعين من عمره، وعرفه قبل ذلك حينما كان في المهد، والله المستعان.(55/9)
"أن رجلين حدثاه" هذا تابعي كبير يقول: إن "رجلين حدثاه" جهالة هذه، لكنها لا تضر، لماذا؟ لأنهما من الصحابة "أن رجلين حدثاه" جهالة الصحابة لا تضر "أنهما أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألانه عن الصدقة، فقلب فيهما البصر" يعني على الإنسان أن يتأنى، الصدقة لها مصارف محددة شرعاً، لا يجوز التساهل فيها بحال، فعلى الإنسان أن يتأمل فيمن يدفع له الصدقة، قد يتجاوز عن الشيء اليسير، وجدت سائل فأعطيته ريال، أو خمسة، أو عشرة، قد يتجاوز في مثل هذا، لكن الأموال التي لها وقع، ولها شأن لا بد أن يتأمل فيمن يُعطاها، ويختلفون فيمن يأخذ الصدقة، هل له أن يتصدق بالشيء اليسير أو لا؟ هو يحتاج في نفقته في العام إلى ثلاثين ألف هو وأسرته، يعني معدل ألفين وخمسمائة ريال شهري، فمر به سائل أو فقير فأعطاه ريال، هل نقول: لا يجوز لك أن تتصدق وأن تأخذ الزكاة، أو الصدقة بالشيء اليسير معفو عنه كما يقول شيخ الإسلام؟ لأن الإنسان أحياناً قد يحرج، قد يحرج في مثل هذه المواطن، فيدفع هذا السائل ولو بشيء يسير، والأصل أنه لا يأخذ إلا ما يحتاج، ومعلوم أن الذي يتصدق به قدر زائد على حاجته، وقد يتصدق الإنسان بما يحتاج دفعاً للحرج الذي يقع فيه، وقد يكون في نفسه شيء من السخاء وإن كان فقيراً؛ لأنه وجد في الواقع ما يدل على ذلك، تجد الإنسان يتكلف ويسأل المسئولين، أو الولاة من بيت المال، ثم يعطى بعض الأموال ثم يسألها فيدفعها فوراً، يعني هذا فيه سخاء نفس، لكن ينبغي للإنسان أن يحتاط لنفسه، والمسألة أمرها -مسألة الأموال- مسألة يعني تحتاج إلى مزيد من التثبت، لا يسأل الإنسان لأدنى سبب، وسيأتي ما فيها مما قاله بعض أهل العلم أن المسألة حرام، ويدل لذلك النصوص الكثيرة التي سيأتي شيء منها، سواء منها ما كان من بيت المال، أو من السلطان، أو من غيره، وإن كان السؤال من بيت المال أسهل والسلطان أيضاً أعطيته تؤخذ، ولو لم يكن هناك حاجة، ما لم يستشرف لها، على ما سيأتي.(55/10)
"فقلب فيهما البصر، فرآهما جلدين" قويين، يستطيعان العمل، يأتي شاب في العشرين والخمس والعشرين والثلاثين يسأل الصدقة؟! لماذا لا تكتسب؟ رآهما جلدين، ما يعطى هؤلاء إلا بعد تثبت أنهما ما وجدا عمل، إذا لم يجدا عمل إلى الله المشتكى، وصف الفقر لازم لهم، أو كررا العمل فأخفقا في التجارة، ومع ذلك يعيدان الكرة.
"فرآهما جلدين، فقال: ((إن شئتما أعطيتكما)) " يعني من الزكاة ((إن شئتما أعطيتكما)) يعني ترك الأمر لذمتهما، وكل الأمر إليهم، ((إن شئتما أعطيتكما)) لكن هذا الأصل ((لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب)) ((لا حظ فيها لغني)) يملك ما ينفق به على نفسه وعلى من تحت يده ((ولا لقوي)) يكفي؟ ((مكتسب)) لأنه قد يكون قوي لكن لا يعرف يكتسب، وقد يعرف الاكتساب لكنه ليس بقوي لا يقوى على الاكتساب، فالمسألة أعني الزكاة لا حظ فيها لغني بالفعل ولا بالقوة؛ لأن هناك اتصاف بالوصف فعلاً، واتصاف به بالقوة القريبة من الفعل، ولذا يقولون: فلان فقيه بالفعل، وفلان فقيه بالقوة القريبة من الفعل، يذكرون هذا في كتب الأصول، فلان فقيه بالفعل المسائل حاضرة في ذهنه بأدلتها، وفلان فقيه بالقوة القريبة من الفعل، إذا سألته ما أجاب الحكم ليس بحاضر في ذهنه، لكنه إذا رجع إلى المصادر والمراجع استطاع أن يحرر المسألة بأدلتها، ويخلص بالقول الراجح بالطريقة المتبعة عند أهل العلم، ولذا ما أحد قال في مالك: إنه ليس بفقيه مع أنه سئل عن مسائل فأجاب عن بعضها، وقال عن كثير منها: الله أعلم، لكنه فقيه بالفعل، وهو أيضاً فقيه بالقوة القريبة من الفعل، فالذي لديه خبرة ودربة ومعرفة كيف يتعامل مع النصوص هذا فقيه بالقوة القريبة من الفعل، وإن لم تكن المسائل حاضرة في ذهنه، وهنا يوجد الغني بالفعل الذي لديه الأموال والأرصدة، ويوجد الغني بالقوة القريبة من الفعل، إذا اتصف بأمرين بالقوة والقدرة على الاكتساب، القوة والاكتساب.
"رواه الإمام أحمد، وقال: ما أجوده من حديث! وأبو داود والنسائي، وهذا لفظه".(55/11)
قد يوجد قوة ومعرفة بالاكتساب مع وجود مانع، يقول: أنا قوي وقادر على الاكتساب، لكن هو مرافق مع أحد والديه في مصحة من المصحات مدة طويلة، يقول: لا أستطيع أن أتركهما، هذا يوجد مانع، ويوجد مانع لكن ينظر في شرعية هذا المانع، كثير ممن يسأل ممن لديه القوة والقدرة على الاكتساب يوجد مانع نظامي ليست عنده إقامة نظامية يتمكن بها من الكسب، فهل يعطى من الزكاة أو لا يعطى؟ هذا يوكل الأمر فيه إلى ولي الأمر؛ لأنه هو الذي يقدر المصالح المرتبة على منعه وعلى إعطائه، هو الذي يقدر المصلحة المرتبة على منعه وعلى إعطائه، وهو لا يمكن من العمل باعتبار أن الإقامة غير نظامية، وهو قوي ويستطيع الاكتساب، فمثل هذا يوكل أمره إلى ولاة الأمور هم الذين يقدرون المصالح والمفاسد المرتبة على إعطائهم، إعطاؤهم يعينهم على البقاء غير النظامي، ومنعهم قد يجرهم إلى أمور محظورة، ومفاسد، لكن هذه ليس للأشخاص أن يقدروها، لا يعرفون ما وراء هذه الأمور.
قال -رحمه الله-: "وعن قبيصة بن المخارق الهلالي، قال: تحملت حمالة" تحملت حمالة، يعني تحمل ديناً أو دية، أو سبب صلح، أو ما أشبه ذلك، المقصود أنه حمل ذمته ديناً بسبب غيره "تحملت حمالة، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسأله فيها؟ " يعني أسأله أن يعينني فيها "فقال: ((أقم حتى تأتينا الصدقة)) " الرسول -عليه الصلاة والسلام- متفرغ للدعوة، ليس .. ، لا يزاول التجارة بعد بعثته -عليه الصلاة والسلام-، فليس من أرباب الأموال، وإنما يمر الهلال والثاني والثالث وما أوقد في بيته نار، ثلاثة أهلة في شهرين -عليه الصلاة والسلام-، وهو أفضل الخلق، وأشرف الخلق، وأكمل الخلق وأكرمهم على الله -جل وعلا- وهذه حاله، هذا عيشه -عليه الصلاة والسلام-.
"فقال: ((أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها)) " الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((والله ما يسرني أن لي مثل أحد ذهباً تأتي علي ثالثة)) أي ثلاث ليال ((وعندي دينار إلا دينار أرصده لدين)) يسدد به دينه ((أقول به: هكذا وهكذا وهكذا)) من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، يوزعه فوراً.(55/12)
" ((فنأمر لك بها)) قال: ثم قال: ((يا قبيصة)) " وعظه -عليه الصلاة والسلام-، وهكذا يجب أن يذكر الإنسان إذا أرد أن يأخذ صدقة يذكر بمثل هذا " ((إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجلٍ)) " بدل من أحد، ويجوز الرفع على تقدير مبتدأ، أحدهم رجلٌ.
((رجلٍ تحمل حمالة)) يعني مثلما أنت فيه يا قبيصة ((فحلت له المسألة حتى يصيبَها ثم يمسك)) هذه الحمالة قدرها إيش؟ عشرة آلاف ريال، لا يجوز أن يأخذ عشرة آلاف وريال، إنما يأخذ عشرة آلاف فقط، حتى يصيبها ثم يمسك، لا يجوز أن يأخذ زيادة على ذلك.
((ورجل أصابته جائحة)) كارثة سماوية أو أرضية ((اجتاحت ماله)) حريق، غرق، صاعقة، آفة من الآفات، ظالم غشوم سطا على أمواله فاستولى عليها، هذه جوائح؛ لأنها تجتاح المال كله ((ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله)) يعني أهلكته وأتت عليه كله، أما ما يأتي على اليسير، ويترك الكثير هذا ليس بمبرر للمسألة، أو الذي يأتي على الكثير، ويبقي شيء يكفي هذا أيضاً ليس بمبرر للمسألة.
((اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش)) يعني ما تقوم به حاجته فقط من غير زيادة على ذلك، شخص عنده بضائع بعشرات الملايين في سفينة غرقت هذه الأموال وعاد فقيراً، هل نقول: يأخذ من الزكاة والصدقات بقدر ما تلف من ماله؟ لا، يأخذ حتى يصيب قواماً من عيش، أو سداداً من عيش، يعني ما يسد حاجته من غير زيادة على ذلك.
((ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى)) أعسر عسراً شديداً، فمثل هذا وقد عرف قبل ذلك بغنى، أما من عرف بالفقر هذا لا يحتاج إلى أن يقيم بينة يُصدق، والمجهول الذي لا يعرف بفقر ولا غنى يكفي إقامة بينة ترجح غلبة الظن أنه محتاج، وأنه فقير، أما من عرف بغنى ثم أصيب بفاقة هذا لا بد أن يحضر ثلاثة من ذوي الحجى، ذوي العقول، الذين يقدرون الأمور قدرها؛ لأن بعض الناس عنده عاطفة، ويحب النفع للآخرين، ثم بعد ذلك يتساهل في أداء الشهادة، مستعد ليشهد لكل من قال، لا، نحن نريد أهل دين وعقل يعرفون متى يشهدون، ويعرفون متى يمتنعون.(55/13)
((حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه)) الذين يعرفونه ويعرفون حاله، أما البعيد ن الناس فإنه قد يشهد على ظن أو خاطر وقع في قلبه، أو إشاعة، إشاعة فلان محتاج، الناس يتداولون هذا إشاعة، وبعض الناس يشهد للإنسان من خلال ظاهره، يلبس الأثمال من الثياب، ويركب الرديء من السيارات، ثم يحضر من يشهد له، بعض الناس يأتي عشرة يشهدون له فقير والبنوك مملوءة بالأرصدة، لكن بهذا القيد من ذوي الحجى، يعني أصحاب العقول، الذين يقدرون للأمور قدرها، من أصحاب الديانة، الذين لا يتسارعون في الشهادة الذي جاء ذم من يسارع إليها.
((حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه)) فيشهدون، والأسلوب ((لقد)) كأن فيه تأكيد الشهادة باليمين؛ لأن اللام قد تكون واقعة في جواب قسم مقدر، والله لقد أصابت فلاناً فاقة؛ لأن الأمر ليس بالسهل، ما يقول قائل: والله هذه زكاة رايحة رايحة، وفلان أولى بها، فلان يستعين به على طاعة الله، وغيره قد يستعين بها على .. ، لا، لا، ما أنت مسئول عن الخلق، مسئول عن نفسك، فأعد الجواب عن نفسك.
((لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش)) مثلما تقدم ما تقوم به حاجته، ويسد فاقته.
((فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت)) حرام ((سحت يأكلها صاحبها سحتاً)) فتقضي عليه، وعلى أمواله، فتقضي عليه، وكل جسد نبت على سحت فالنار أولى به.
"رواه مسلم وأبو داود، وقال: حتى يقول" بدل يقوم "حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى" بدل يقوم وفي رواية: يقوم، ومثله حديث عبادة: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، على أن نقول، أو قال: نقوم بالحق لا نخاف في الله لومة لائم، فنقوم جاءت في هذا الحديث وذاك الحديث، وفي رواية: نقول.
"وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: اجتمع" وفي بعض كتب التراجم تسميه المطلب بدون عبد، فلا يتم الاستدلال على جواز التسمية بعبد المطلب؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما غيره، يعني استدل بإبقاء عبد المطلب هذا على هذه الصفة من يقول بجواز التسمية بعبد المطلب.(55/14)
ابن حزم يقول: لا يجوز التعبيد لغير الله -جل وعلا- حاشا عبد المطلب، واستدل بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)) لكن هذا لا يتم به الاستدلال، لماذا لم يغير النبي -عليه الصلاة والسلام- اسم جده؟ لأنه قد مات، وليس بمسلم، والذي يغير اسمه من يدخل في الإسلام، عبد المطلب الذي معنا مسلم استدل به من يقول بجواز التسمية بعبد المطلب، ولا يتم الاستدلال؛ لأن اسمه كما هو محرر عند جمع من المحققين المطلب بدون عبد.(55/15)
"ابن ربيعة بن الحارث قال: اجتمع ربيعة بن الحارث، والعباس بن عبد المطلب، فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين -قالا لي" عبد المطلب الراوي "وللفضل بن عباس" لأنهما بلغا سن النكاح، وليس عندهما شيء يصدقانه من يتزوجانه منه "قالا لي وللفضل ابن عباس" "لو بعثنا هذين الغلامين قالا لي" يعني في شأني وشأن الفضل بن عباس "لو بعثنا هذين الغلامين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكلماه، فأمرهما على الصدقة" أمرهما على الصدقة من أجل أن يأخذا العمالة، أجرة عملهما لا يأخذان من نفس الصدقة، وإنما باسم العامل عليها "فأديا ما يؤدي الناس" من الزكوات "وأصابا مما يصيب الناس" من أجرة العامل "قال: فبينما هما في كذلك جاء علي بن أبي طالب فوقف عليهما، فذكرا له ذلك" استشاراه، أو بلغاه بما أرادا "فقال علي: لا تفعلا" علي -رضي الله عنه وأرضاه- معه فاطمة بنت الرسول -عليه الصلاة والسلام- "فقال علي: لا تفعلا، فو الله ما هو بفاعل، فانتحاه ربيعة بن الحارث، فقال: والله" يعني وقف في وجه وخاصمه وحاجه، "والله ما تصنع هذا إلا نفاسة منك علينا" غيرة، تخشى أن نزاحمك، تخشى أن ننافسك عند الرسول -عليه الصلاة والسلام- "فو الله لقد نلت صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" نلت هذا اللقب وهذا الشرف العظيم، وهو مصاهرة النبي -عليه الصلاة والسلام- على أفضل بناته، بل أفضل نساء العالمين على قول جمع من أهل العلم "لقد نلت صهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما نفسناه عليك" يعني ما غرنا عليك، ولا ضايقناك، ولا .. "فقال علي: أرسلوهما" شأنكم، يعني المسألة نصيحة ما قبلتم النصيحة أرسلوهما، "فانطلقا واضطجع" علي -رضي الله عنه- "قال: فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر سبقناه إلى الحجر، فقمنا عندها" ينتظرون الرسول -عليه الصلاة والسلام-، الحجر متوالية "فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا، ثم قال: ((أخرجا ما تصرران)) " يعني ما تزوران في نفسيكما، يعني لأي شيء جئتما؟ أبرزا ما في صدوركما، يعني كأن الصدر وعاء للكلام، كما أن من أراد أن يخفي شيئاً يجعله في صرة ويربطها " ((أخرجا ما تصرران)) ثم دخل ودخلنا عليه، وهو يومئذٍ عند زينب بنت جحش،(55/16)
قال: فتواكلنا الكلام" عندهم ما يوجد شيء من التردد بسبب كلام علي، ولذا لم يبادرا، كل واحد يبادر الثاني بالكلام، كل واحد وكل الكلام إلى الآخر، قال: لعله هو الذي يبدأ "فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا" يعني لما ترددنا لا بد من أن يتكلم واحد منا، تكلم أحدنا "فقال: يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل، وقد بلغْنا النكاح، وجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات" يعني ما جاءا يسألانه من الصدقة، لا، إنما يسألان العمالة على الصدقة؛ ليستحقا ما يستحقا في مقابل عملهما "وجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدي إليك ما يؤدي الناس، ونُصيب كما يصيبون؟ " زكوات الناس نعطيك إياها، وأجرتنا وعمالتنا نأخذها.
"قال: فسكت طويلاً حتى أردنا أن نكلمه" سكت -عليه الصلاة والسلام- سكوتاً طويلاً؛ لأن الأمر الذي طلباه غير سائغ وغير لائق، ولا يجوز، لكن الحكم يخفى عليهما، ولذلك اكتفى بهذا "فسكت طويلاً حتى أردنا أن نكلمه، قال: وجعلت زينب تُلمع إلينا من وراء الحجاب" وهي أم المؤمنين "تلمع إلينا من وراء الحجاب ألا تكلماه" كأنها حركت الستار، وقالت: لا تكلماه "قال: ثم قال: ((إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس)) " وهم من آل محمد، هم من الآل، الصدقة سواء كانت الزكاة التي تؤدى باسم الفقر، وكذلك الزكاة التي تؤدى باسم العمالة؛ لأن العمل والكسب متفاوت تفاوت كبير جداً، وإن كان في مقابل عمل، ومقابل كد، ومقابل عرق وجهد، فتتفاوت من أطيب المكاسب الذي هو كسب النبي -عليه الصلاة والسلام-، ((وجعل رزقي تحت ظل رمحي)) والزراعة التي يقول جمع من أهل العلم أنها أفضل المكاسب، والصناعة التي هي كسب داود -عليه السلام-، إلى أن تنتهي إلى الحجامة، وهي في المقابل عمل، لكنه كسب دنيء رديء، ليس بمحرم، لكنه دنيء، كسب الحجام خبيث، يعني رديء وليس بحرام؛ لأنه لو كان حراماً ما أعطى النبي -عليه الصلاة والسلام- الحجام ديناراً، لكنه رديء {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ} يعني الرديء {مِنْهُ تُنفِقُونَ} [(267) سورة البقرة] العمالة هذه بالنسبة لسائر الناس في مقابل عمل وأجرة عمل لا إشكال فيها، لكن بالنسبة لآل محمد لا تحل لهم.(55/17)
((إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، ادعوا لي محمية)) وكان على الخمس" وكان مسئول على الخمس " ((أدعوا لي محمية)) وكان على الخمس، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، قال: فجاءاه، فقال لمحمية: أنكح هذا الغلام ابنتك، للفضل بن عباس، فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث أنكح هذا الغلام ابنتك –لي-" يعني لعبد المطلب بن ربيعة "فأنكحني، وقال لمحمية: ((أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا)) " يعني من سهم ذوي القربى، هذا ما فيه منة لأحد، وليس من أوساخ الناس، وإنما هو شيء فرضه الله -جل وعلا- للآل، لذوي القربى، والسبب في منعهم من الزكاة أنها أوساخ الناس، وهم من المنزلة العليا من الشرف والمكانة بسبب قربهم من النبي -عليه الصلاة والسلام-، لا يليق بهم أن يأكلوا من أوساخ الناس، ولذا لما حرموا من الزكاة فرض لهم من الخمس، هذا الطرد، حرموا من الزكاة ففرض لهم من الخمس، العكس صحيح وإلا ليس بصحيح؟ إذا حرموا من الخمس، أو ما كان هناك خمس يعطون من الزكاة وإلا ما يعطون؟ نعم؟ يعني هل المسألة تصح طرداً وعكساً أو طرداً دون عكس؟ ما في خمس، ما في جهاد ما في خمس، من أين يأكل آل البيت؟ يعطون من الزكاة ولو كانت من أوساخ الناس أو ما يعطون؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
المسألة خلافية بين أهل العلم، منهم من يقول: إنهم إنما حرموا من الزكاة لما لهم من الخمس، وما دام حرموا من الخمس يعطون من الزكاة، ومنهم من يقول: الوصف ثابت ((إنما هي أوساخ الناس)) لا يزيل هذا الوسخ وجود خمس أو عدم وجوده، وعلى كل حال يفرض لهم من بيت المال ما يكفيهم بلا منة لأحد، وهم أولى من يكرم، وأولى من يعطى، وهم وصية النبي -عليه الصلاة والسلام-، فلا بد من إكرامهم، وحقهم على الأمة عظيم بسبب قربهم من النبي -عليه الصلاة والسلام-، وبوصيته بهم.(55/18)
الطرد والعكس مثلما يقال في قول ابن عمر: لو كنت مسبحاً لأتممت، يعني لو كنت متنفلاً في السفر لأتممت الصلاة، صليت صلاة تامة، ما دام خفف من الصلاة الفريضة فلماذا أتكلف السبحة النافلة، والمسافر يكتب له ما كان يعمله مقيماً؟ بعضهم يعكس يقول: إذا أتم يسبح، يعني صلى خلف مقيم، كما يصلي المسافرون هنا في البيت الشريف، صلى أربع يتنفل، الوصف المؤثر هل هو الإتمام أو السفر؟ نعم السفر، السفر انقطع وإلا ما انقطع؟ موجود السفر، فإذا صح طرد قد لا يصح عكس، وهذا نظير مسألتنا؛ لأنه يوجد من يقول: الذي يتم يتنفل؛ لأن مفهوم قوله: لو كنت مسبحاً لأتممت، أنه إذا أتم عليه أن يسبح، نقول: لا، الوصف الذي من أجله ترك التنفل في السفر عدا الوتر وركعتي الفجر التي كان يداوم عليها النبي -عليه الصلاة والسلام- سفراً وحضراً هو الوصف المؤثر هو السفر وجوداً وعدماً.
"قال الزهري: لم يسمه لي" لم يسم الصداق لي، لماذا؟ لأنه لا يترتب عليه فائدة، ما يترتب عليه حكم، إنما الحكم المستنبط من هذا الحديث أن الصدقة لا تحل لآل محمد، وقد يقول قائل: هو ما أخذه صدقه أخذه أجرة، نقول: حتى الأجرة المأخوذة من الصدقة هي أوساخ الناس، هذا إذا كانت الأجرة مأخوذة من الصدقة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [(60) سورة التوبة] لكن إذا كانت الأجرة من بيت المال؟ هذا موظف براتب، اذهب فأتِ لنا بزكاة آل فلان وزكاة آل فلان ويسجل له أسماء، ويستحصل هذه الزكوات، نقول: أوساخ الناس؟ هو أجير، هو موظف، فالعمالة الممنوعة إذا كانت تؤخذ من الصدقة نفسها.(55/19)
"وفي طريق آخر: فألقى علي رداءه ثم اضطجع عليه" اضطجع عليه، علي ينتظر النتيجة، هو حذرهم ونهاهم فما امتثلوا، جلس ينتظر النتيجة "ثم اضطجع عليه، وقال: أنا أبو حسن القرم" صاحب الرأي والمعرفة والخبرة، يقول مثل هذا في مثل هذا الموطن الذي لم يقبل فيه كلامه، وقد يحتاج الإنسان التصريح ببعض الأمور التي لا ينبغي التصريح بها في بعض المواطن التي يهضم فيها، ابن عمر قيل له: إنه عيي، يعني لا يستطيع أن يتكلم، قال: كيف يكون عيياً من في جوفه كتاب الله؟! الإنسان إذا هضم ولم يستشعر مع ذلك الترفع والعظمة على الغير لا مانع أن يصرح ببعض الشيء الذي يرد إليه شيئاً من اعتباره، فقوله: "أنا أبو حسن القرم" لما سمع الجواب عرف أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لا يوليهم مثل هذا، كلامه صواب، لا تكلمونه في العمالة، كلموه في الصداق، اسألوه أن يعطيكم ما يعينكم على الصداق، لا من الصدقة، ولا من العمالة عليها.
"والله لا أريم مكاني" يعني أنا أتوقع، توقع علي -رضي الله عنه- أن يكون جواب النبي -عليه الصلاة والسلام- كما قال "والله لا أريم" يعني لا أبرح ولا أعدو "مكاني" هذا "حتى يرجع إليكما ابناكما بحور ما بعثتما به" يعني حتى يرجعا بما بعثتموهما به "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وقال في الحديث: "ثم قال: ((إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد)) " وهذا تقدم "رواه مسلم".
"وعن جبير بن مطعم قال: مشيت أنا" هذا عطف على الضمير المتصل وقد وجد الفاصل وجوباً "مشيت أنا وعثمان" وهذا الذي سألنا عنه قبل في ضمير النصب، وأنه لا مانع من العطف عليه بغير فاصل، أما ضمير الرفع المتصل لا بد من الفاصل "مشيت أنا وعثمان" وإن على ...
طالب:. . . . . . . . .
أيوه بدون.
طالب:. . . . . . . . .
إيه لكن قد يرد، بيجيك في النظم الحين.
وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافصل بالضمير المنفصل
كما هنا.
. . . . . . . . . ... . . . . . . . . . فافصل بالضمير المنفصل
أو فاصل ما. . . . . . . . . ... . . . . . . . . .
أي فاصل.
. . . . . . . . . وبلا فصل يرد ... في النظم فاشياً وضعفه اعتقد(55/20)
هذا في النظم خاصة، وأما في النصوص النثرية لا بد أن يوجد، وحذفه من تصرف الرواة.
"مشيت أنا وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بنو المطلب وبنو هاشم، شيء واحد)) " جبير بن مطعم بن نوفل بن عبد مناف، عثمان بن عفان بن عبد شمس بن عبد مناف، المطلب بن عبد مناف، هاشم نعم؟ ابن عبد مناف، كلهم يجتمعون في جد واحد، كلهم بمنزلة واحدة، يجتمعون في جد واحد، أربعة أبوهم واحد، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يعطي من خمس خيبر بطنين ويحرم اثنين، وهم بمنزلة واحدة، لماذا؟ يعني استغرب جبير بن مطعم وعثمان بن عفان أن يعطى بنو المطلب وبنو هاشم، ويحرم بنو نوفل وبنو عبد شمس، وهم كلهم إخوة.
أجاب النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: ((إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد)) يعني لم يختلفوا ولم يفترقوا في جاهلية ولا في إسلام، ولما حصر بنو هاشم في الشعب انضم إليهم بنو المطلب بخلاف بني نوفل وبني عبد شمس، هؤلاء لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام، فيكون حكمهم واحد، وإن كان الجد واحد، والغنم مع الغرم، والخراج بالضمان، هؤلاء أعطوا من الخمس، لكن يحرمون من الصدقة، وهذا وجه الشاهد من الإتيان بهذا الحديث في هذا الباب، يعطون من الخمس، لكن يحرمون من الصدقة، يحرم بنو نوفل وبنو عبد شمس من الصدقة؟ لا؛ لأنهم لا يعطون من الخمس، فالحكم يختلف، فمن يأخذ من الخمس يحرم من الصدقة، والذي يحرم من الصدقة لا يحرم من الخمس.
"رواه البخاري".
وعن رافع بن خديج ....
فدل على أن الآل الذين تحرم عليهم الصدقة هم بنو المطلب وبنو هاشم.(55/21)
"وعن رافع بن خديج -رضي الله عنه- قال: أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن حرب" والد معاوية من مسلمة الفتح، ومن الملأ، ومن أعيان القوم ووجهائهم "وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل" يعني شيء كثير جداً، يعني فوق الحاجة، إنما هو باسم الفقر؟ لا، باسم المسكنة؟ لا، باسم العمالة؟ لا، إنما هو بالتأليف {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [(60) سورة التوبة] والتأليف مصرف من مصارف الزكاة، فيؤلف المسلم الذي في ديانته رقة، ويخشى عليه أن يرتد، يؤلف الكافر الذي يرجى إسلامه، فيعطى فيكون من المؤلفة قلوبهم، ويؤلف الكافر الذي يخشى شره، فيعطى دفعاً لشره، ويدخل الجميع في سهم المؤلفة قلوبهم.
أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل "وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك" نقصه، ما هان الأمر على عباس بن مرداس، وهو شاعر، وله ديوان مطبوع، معروف "فقال عباس بن مرداس" شعراً:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع؟
فما كان بدر ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
يعني ما كان آباؤهم وأجدادهم خير من آبائي وأجدادي.
وما كنت دون امرئ منهما ... . . . . . . . . .
حتى ولا أنا بأقل شأناً من واحد منهما.
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تخفض اليوم لا يرفع(55/22)
يعني أنت الرسول -عليه الصلاة والسلام-، المقدم في الأمة، يعني إذا خفضت أحد في مثل هذا اليوم فإنه لن تقوم له قائمة، لن يرتفع أبداً، يُعرف قدره ومنزلته من خلال إعطائك له، لكن هل الذي يتم به تقدير الأشخاص والتفاضل بين الناس هو بالعطاء؟ بعطاء الأموال أو بالتقوى؟ بالتقوى، ولذا لما قسم النبي -عليه الصلاة والسلام- الغنائم وأعطى المهاجرين وأعطى الأعراب وأعطى وأعطى، ثم ترك الأنصار، الأنصار وجدوا في أنفسهم شيء، هل لأنهم أقل شأناً عند النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ لا؛ لأنهم أرفع شأناً عنده -عليه الصلاة والسلام-، لكن كل ينظر إلى الأمور وتقديرها بحسب ما ألف وجبل عليه، الرسول -عليه الصلاة والسلام- هذه الأمور لا تعني شيئاً ألبتة عنده، أعطى غنماً بين جبلين، لا تهمه هذه الأمور، ثم لما رأى ما في وجوه الأنصار من تغير، قال: ((أما ترضون أن يرجع الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ )) ((الأنصار شعار، والناس دثار)) يعني الأنصار أقرب الناس إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الشعار هو اللباس الذي يلي البدن مباشرة، والدثار الذي يلبس فوقه.
قال: "فأتم له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة" ما دام هذا اهتمامه كملوا له المائة، ويش المانع؟ "وفي رواية: وأعطى علقمة بن علاثة مائة، رواه مسلم".
"وعن أبي رافع -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني" أبو رافع مولى للنبي -عليه الصلاة والسلام-، مولى للنبي -عليه الصلاة والسلام- أعطاه إياه العباس، فلما أخبره بإسلام العباس أعتقه النبي -عليه الصلاة والسلام-.(55/23)
"أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها" تصيب من هذه الصدقة، أو من العمالة على الصدقة، أقسم لك مما يضرب لي بسبب العمالة، "قال: حتى آتي النبي فأسأله" هكذا ينبغي أن يكون وضع المسلم، لا يتصرف إلا بسؤال أهل العلم، قال: لا، "حتى آتي النبي -عليه الصلاة والسلام- فأسأله" والناس اليوم بسبب رقة الديانة عند كثير منهم تجده يزاول المحرم المجمع على تحريمه، وهو جاهل، وأهل العلم بين ظهرانيه.
شخص يطلق امرأته قبل الدخول، ثم يراجعها بلا عقد، ويعاشرها مدة طويلة، في بلد مُلئ بأهل العلم، يظن أن له الرجعة، وهو طلق قبل الدخول بانت منه، وليس عليها عدة، لا بد من .. ، إذا أراد الرجعة أن يكون بعقد جديد، يعاشرها حرام، في بلد يزخر بالعلماء، وهذا مولى ويقول: اصحبني وأعطيك مما أصيب منها، والله المستعان.
قال: "لا، حتى آتي النبي -عليه الصلاة والسلام-" وهذا الباب أسهل بكثير من باب النكاح وباب الفروج والاحتياط لها "حتى آتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسأله، فأتاه فسأله، فقال: ((مولى القوم من أنفسهم، وإنها لا تحل لنا الصدقة)) " خلاص ما دام منهم معناها أنها لا تحل لهم، فلا تحل لبني هاشم ولا لبني المطلب ولا لمواليهم لهذا الحديث ((مولى القوم من أنفسهم)) وجاء في حديث صحيح: ((ابن أخت القوم منهم)) افترض أن واحد من آل البيت لا تحل له الصدقة، لكن عنده بنت تزوجت رجلاً بعيداً كل البعد عن آل البيت، فولدت ولداً هذا الولد تحل له الزكاة وإلا ما تحل؟ هاه؟ يعني تزوجت، من آل البيت تزوجت رجل من هذيل مثلاً، أو من تميم، فجاءت بولد هي لا تحل لها الصدقة؛ لأنها من آل البيت، ولدها؟ من تميم أو من هذيل، أو من أي قبيلة؟
طالب:. . . . . . . . .
ما هو بها الحديث اللي معنا، لا.
طالب:. . . . . . . . .
نعم ((ابن أخت القوم منهم)) هل نقول: إن هذا الولد التميمي أو الهذلي من آل البيت؟ لا، قد يطلق الحكم لأدنى مناسبة، وقد يكون وجه الشبه من وجه دون وجه، ما يلزم أن يكون من جميع الوجوه، فهذا ليس من آل البيت، حكمه حكم أبيه، لكن جئنا به لمناسبة ((مولى القوم من أنفسهم)).(55/24)
"رواه الإمام أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، والنسائي والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح".
ثم قال -رحمه الله-: "وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يعطي عمر العطاء" من غير مسألة ولا استشراف "فيقول له عمر -رضي الله عنه-: أعطه يا رسول الله أفقر مني إليه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خذه فتموله، أو تصدق به)) " تصرف به " ((خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل)) " ما تعرضت، ولا استشرفت أنه يأتيك شيء من هذا المال، ولو في قرارة نفسك، لا تصريح، ولا تلميح، إذا جاءك بغير هذا كله ((فخذه، وما لا ... )) يحصل لك بهذه الطريقة من غير سؤال ولا استشراف ((فلا تتبعه نفسك)).
فما جاءك من بيت المال، أو من السلطان بهذا القيد، ما سألت ولا استشرفت خذه، وجاء في الصحيح -في صحيح مسلم-: ((ما لم يكن ثمناً لدينك، أما إذا كان ثمناً لدينك فلا)) لأن بعض الناس يبادر بالعطاء، لكن له مقاصد وله مآرب من هذا العطاء، فمثل هذا إذا أدركته، أو أحسست به، أو شممت أدنى رائحة أنه معاوضة فلا تقبل، فلا تتبعه نفسك.
"قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر" لما قيل لأبيه ما قيل "كان ابن عمر" وهو الصحابي المؤتسي الحريص المتحري المبادر بالامتثال "كان ابن مر لا يسأل أحداً شيئاً" ألبتة "ولا يرد شيئاً أعطيه" من غير مسألة ولا استشراف "رواه مسلم".
اقرأ الباب الذي يليه.
قال -رحمه الله-:
باب: في المسألة
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم)) متفق عليه.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر)) رواه مسلم.
وعن الزبير بن العوام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ((لأن يأخذ أحدكم حبلة فيأتي بحزمة)) ...
إيش؟
((لأن يأخذ أحدكم حبلة فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)) رواه البخاري.(55/25)
وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطاناً، أو في أمر لا بد منه)) رواه الترمذي وصححه.
وعن ابن الفراسي أن الفراسي قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أسألُ؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا، وإن كنت سائلاً لا بد فاسأل الصالحين)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: في المسألة
يعني سؤال الناس شيئاً من حطام الدنيا "نهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال" وجاء النهي عن المسألة، إكثار المسائل حتى فيما يظن أنه من العلم، مع أنه جاء الأمر بالسؤال {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [(43) سورة النحل] لكن جاء النهي عن أسئلة لا حاجة إليها، ولا داعي لها، ونهى عن الأغلوطات، فالأسئلة التي تكون عن افتراضيات بعيدة لم تقع ويندر وقوعها أيضاً هذا جاء المنع منه.
أهل العلم يفصلون المسائل، ويشققون المسائل، ويفترضون المسائل كل هذا بعد أن استقر التشريع؛ لأنه قد يسأل في وقت التشريع عن حكم مسألة ثم يحرم ما كان حلالاً بسبب سؤاله، وأشد الناس جرماً من سأل عن شيء فحرم بسببه، هذه المسألة فيما يتعلق بالعلم، والذي معنا فيما يتعلق بأمور الدنيا.
"عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه-ما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم)) متفق عليه".
مع كل مسألة يسقط شيء من اللحم الذي في وجهه، حتى يأتي يوم القيامة يوافي وجهه كله عظام فقط ليس فيه لحم، هذا لا شك أنه مثال بشع منفر محسوس، تصور الإنسان بدون لحم، عظام فقط، تشوف الجمجمة كيف تكون إذا كانت من عظام فقط، يعني مقززة منفرة، فهذا المثال يدل على تحريم السؤال، لا سيما إذا كان لغير الحاجة، أما إذا كانت هناك حاجة تدعو إلى السؤال، وهو من أهل الحاجة الذين لا يستطيعون التكسب فمثل هذا يسأل بقدر حاجته.
"متفق عليه".(55/26)
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من سأل الناس أموالهم تكثراً)) " البخاري قيد المنع في ترجمته على الحديث الأول في الصحيح بالتكثر، يريد أن يتزيد، لا يريد ما يقوم به قوامه، ويسد به حاجته، إنما يريد أكثر من ذلك، بدليل ((من سأل الناس أموالهم تكثراً)) فهذا قيد يقيد به الحديث السابق، الحديث السابق مطلق، لكن هذا الحديث اشتمل على هذا القيد، والمطلق محمول على المقيد.
((من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر)) يتصور نفسه يأكل الجمر {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [(10) سورة النساء] ((الذي يشرب في آنية الذهب والفضة كأنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) وهنا: ((يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر)) رواه مسلم.(55/27)
وعن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لأن يأخذ أحدكم حبلة)) أو حبله ((فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعه)) هذا عمل شاق، يعني مزاولة الاحتطاب عمل شاق؛ لأنه يلزم عليه الخروج عن البلد، وقد لا يكون عنده دابة، الأمر الثاني: أن معاناة الحطب، والحطب شيء خشن مؤذي مع الفأس والمساحي وما أشبه ذلك، وقد يتعرض لما يؤذيه من دواب وهوام، يتجشم كل هذه الأمور فيأتي بحزمة الحطب على ظهره لا على دابة ((فيكف الله تعالى بها وجهه)) يغنيه الله -جل وعلا- بهذه الحزمة ((خير له من أن يسأل الناس)) يعني يتجشم هذه المصاعب خير له من أن يسأل الناس، وبعض الناس تقول له: يمكن أن تشتغل فراش مسجد في أطهر البقاع في مكان مكيف وبارد، يقول: المهنة هذه .. ، هذه مهنة ذي؟ أنا اشتغل فراش؟! ويسأل الناس أسهل من أن يشتغل فراش مسجد، ما هو بفراش بيت وإلا فراش مدرسة وإلا فراش مكان آخر، لا، لا، أنا ما أشتغل فراش، ومع ذلك يتعرض لسؤال الناس، وقس على هذا، كثير من الناس يأنف من بعض الأعمال، يا أخي ما المانع أن يشتغل الشاب يمسح سيارات، ولا يسأل الناس، أيهما أسهل تمسيح سيارة وإلا يذهب بالفأس إلى البراري بدون سيارة، وبدون دابة فيحتطب؟ بعض الناس يأنف من هذه الأعمال، مع أنه قد يجد أفضل منها، ويأنف منها، وبعض الناس يخلد إلى الراحة، ويقال له: هنا وظيفة أنت شاب بدل ما تكون عاطل، وما قبلتك الجامعات، ومعك الثانوية نعطيك ثلاثة آلاف، تعال عندنا في هذا المكتب المكيف، ثلاثة آلاف ويش تسوي ثلاثة آلاف؟ ومع ذلك يسأل الناس، يتكفف الناس، ويتعرض لهم.(55/28)
المشكلة الإخلاد إلى الراحة والدعة والترف، يعني الترف يصيب الفقراء كما يصيب الأغنياء، وكل بحسبه، نسمع من أولاد الفقراء أمثال هذا الكلام، والترفع عن بعض الأعمال، ومع ذلك لا يأنف أن يسأل الناس، يعني الموازين مختلة، شخص معروف، قال له والده: ألا ترغب أن تشتغل في المكان الفلاني بين صلاتي المغرب والعشاء بألفي ريال؟ قال: يا ليت، المغرب والعشاء قصير وأستعين بها، قال: اجلس بالمسجد واحفظ القرآن أنا أعطيك ألفين شهرياً، قال: والله ما أستطيع، عنده استعداد يشتغل في محل، لكن الإعانة من الله -جل وعلا-، الإنسان لا يأخذ الأمور بيده، وبهمته وبعزيمته، قال: أنا أعطيك ألفين بدل ما تشتغل في المحل اجلس في المسجد احفظ قرآن، كل يوم احفظ ورقة، وأعطيك ألفين، وهو يستطيع أن يحفظ ورقتين أو أكثر ((حفت الجنة بالمكاره)) يمكن المكان اللي يروح له إما معرض سيارات وإلا غيره، والقصة قيل له: معرض سيارات، يروح معرض سيارات يشوف الداخل والطالع ويسمع السواليف، والله المستعان، وقد لا يسمع كلمة ذكر، بدلاً من أن يجلس في المسجد ساعة فقط، ويحفظ ورقة من القرآن، ويأخذ على ذلك ألفين شهرياً.
أقول: الترف، يعني جاء على صور كثيرة، والفرص موجودة، لكن من يستغل هذه الفرص، والله المستعان، وهذا يأخذ الحبل، ويأخذ الفأس، ويحتطب على ظهره، ويبيع هذه الحزمة بكم؟ كم تسوى الحزمة؟ يمكن في وقتهم ما تباع ولا بدرهم، الناس يعملون، ويتجشمون الأعمال، لكن لما فتحت الدنيا ورأوا أن بعضهم تأتيه الأموال من غير تعب، قال البقية: لماذا نتعب؟ تتعب حتى تحصل ما تكف به وجهك.(55/29)
شخص يعمل في تحميل حمل الأمتعة من طلوع الشمس إلى غروبها، ثم يأتيه بعض الناس، بعض الناس كريم يعطيه أجرة طيبة، وبعض الناس بخيل، حتى ذكر في كتب الأدب أن من هذا النوع من يحمل المتاع جاءه شخص فقال: احمل متاعي إلى بيتي، فقال: بكم؟ قال: بدانق، قال الحمال: بدانق، قال صاحب المتاع: الدانق كثير، في أقل من الدانق؟ سدس الدرهم ما فيه، قال: طيب هات، هات حمل، قال: نشتري بالدانق فستق ونأكله أنا وإياك، يعني يتنازلون في حفظ ماء الوجه إلى هذا الحد، ونحن نأنف ونستنكف أن نعمل بأجور مجزية، يعني البيوت مملوءة من العطلة، وهم شباب في العشرينات، في الثلاثينات، كلهم ينتظرون وظائف، والله هذه وظيفة كليفة، هذه وظيفة متعبة هذه .. ، ما هو بصحيح، ثم بعد ذلك إذا أراد أن يتزوج يطرق أبواب الناس، واكتبوا لفلان، وأعطوا فلان، ما هو بصحيح، هذا ما هو بحل، وما جاء في هذا الباب يعني أمور خطيرة ((يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم))
"وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه)) " يلوث بها وجهه، فيذهب بذلك نوره ورونقه وماؤه وحياؤه ((يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل)) هذا استثناء ((إلا أن يسأل سلطاناً، أو في أمر لا بد منه)) الإنسان الذي يسأل في أمر لا بد له منه، ولا يجد حل مطلقاً إلا السؤال فالزكوات والصدقات ما شرعت إلا لمثل هذا، وكذلك السلطان حينما يسأل السلطان لا شك أن هذا يعني خلاف الأولى، إن أعطاك السلطان من غير مسألة ولا استشراف فخذه، وهو من أفضل المكاسب، لكن إن احتاجت المسألة إلى سؤال فالأمر أسهل؛ لأنه لا منة له في ذلك، فإنه إنما يعطي من بيت المال.
"رواه الترمذي وصححه".(55/30)
"وعن ابن الفراسي أن الفراسي قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أسأل؟ " يعني أتعرض لسؤال الناس؟ "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا)) " أولاً: الحديث ضعيف، ابن الفراسي هذا مجهول، لا يدرى منه، وكذلك الراوي عنه مسلم بن مخشي، فالحديث ضعيف على كل حال، وكونه لا يسأل، أو يسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- أسأل؟ فيقول له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لا)) يشهد له ما تقدم، لكن قوله: ((وإن كنت سائلاً لا بد فاسأل الصالحين)) هذه الجملة لا تثبت لأنها جاءت بهذا الخبر الضعيف، وإن كان معناها له وجه صحيح؛ لأنك إذا سألت الصالحين وأعطوك أحببتهم وملت إليهم، فالنفوس مجبولة على حب من يحسن إليها، كما أنها مجبولة على بغض من يسيء إليها، فكونك تحب الصالحين لأنهم أحسنوا إليك، مع حبك إياهم لصلاحهم هذا مطلوب.
قال: "رواه أحمد وأبو داود" والحديث ضعيف وكذلك "النسائي" والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(55/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر – كتاب الزكاة (6)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
بسم الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن عبد الهادي -يرحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:
باب: صدقة التطوع
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله -عز وجل-، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) متفق عليه.
وعن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس -أو قال- حتى يحكم بين الناس)) قال يزيد: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء ولو كعكعة أو بصلة" رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
وعن أبي خالد -الذي كان ينزل في بني دالان- عن نبيح عن أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم)) رواه أبو داود، ونبيح العنزي وثقه أبو زرعة وابن حبان، وأبو خالد اسمه يزيد، وقد وثقه أبو حاتم الرازي، وقال ابن معين والنسائي: ليس به بأس، وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في بعض حديثه.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل -عليه السلام- يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ، فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل -عليه السلام- كان أجود بالخير من الريح المرسلة، متفق عليه.(56/1)
وعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله)) رواه البخاري بهذا اللفظ، وروى مسلم أكثره.
وعن أبي الزبير عن يحيى بن جعدة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقل، وابدأ بمن تعول)) رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود والحاكم، وقال: على شرط مسلم، وليس كذلك، فإن يحيى لم يرو له مسلم، ولكن وثقه أبو حاتم وغيره.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تصدقوا)) فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار، قال: ((تصدق به على نفسك)) قال: عندي آخر، قال: ((تصدق به على زوجتك)) قال: عندي آخر، قال: ((تصدق به على ولدك)) قال: عندي آخر، قال: ((تصدق به على خادمك)) قال: عندي آخر، قال: ((أنت أبصر به)) رواه أبو داود والنسائي، وهذا لفظه، وصححه الحاكم.
وعن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر -إن سبقته يوماً- فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أبقيت لأهلك؟ )) قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر بكل مال عنده، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أبقيت لأهلك؟ )) قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً، رواه عبد بن حميد في مسنده، وأبو داود وهذا لفظه، والترمذي وقال: حديث صحيح، وقد أخطأ من تكلم فيه لأجل هشام، فإن مسلماً روى له، وقال أبو داود: هشام بن سعد من أثبت الناس في زيد بن أسلم.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً)) متفق عليه، وفي رواية: ((من بيت زوجها)).(56/2)
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أضحى -أو فطر- إلى المصلى، ثم انصرف فوعظ الناس، وأمرهم بالصدقة، فقال: ((أيها الناس تصدقوا)) فمر على النساء فقال: ((يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء)) ثم انصرف، فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة عبد الله ابن مسعود تستأذن عليه ...
عبد الله بنِ.
امرأة عبد الله بنِ مسعود -رضي الله عنه- تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله هذه زينب، فقال: ((أي الزيانب؟ )) فقيل: امرأة ابن مسعود، قال: ((نعم ائذنوا لها)) فأذن لها، فقالت: يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم)) رواه البخاري.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: صدقة التطوع(56/3)
التطوع: النفل، القدر الزائد على الواجب، ومن نعم الله -جل وعلا- أن جعل العبادات منها ما هو واجب، يأثم الإنسان بتركه، ومنها ما هو نفل يكمل به الواجب، إذا حوسب الإنسان عن صلاته فوجد فيها الخلل قال الله -جل وعلا-: ((انظروا هل لعبدي من تطوع؟ )) إذا حوسب الإنسان عن زكاته فوجد فيها الخلل، قال الله -جل وعلا-: ((انظروا هل لعبدي من تطوع؟ )) يعني فيكمل به الخلل، وكذلك الصيام والحج وسائر العبادات، شرعية التطوع من نعم الله -جل وعلا- على عباده، إذ لا يسلم الإنسان بحال من الأحوال مهما حرص على عباداته لا يسلم بحال من الأحوال من الخلل الذي يتطرق إلى هذه العبادات، فيكمل للإنسان، يكمل هذا الخلل من هذه التطوعات، والعبد لا يزال يتقرب إلى الله -جل وعلا- حتى يحبه، حتى يكون ولياً من أولياء الله، يتقرب إليه، وأفضل ما يتقرب به الإنسان ما افترض الله عليه، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه الله -جل وعلا-، فإذا أحبه كفاه كل شيء، صار سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله التي .. ، كفاه كل شيء، فصارت تصرفاته على مراد الله -جل وعلا-، وصارت معاداته هذا الذي تقرب إلى الله حتى صار من أوليائه صارت معاداة لله -جل وعلا-، فلا يحرم الإنسان نفسه.
بعض الناس يقول: إذا قيل له: تصدق، قال: خلاص أنا لا عليّ زكاة، ليست عندي أموال أزكي، وإذا كان يزكي قال: أنا أخرجت الواجب، أنت غني عن فضل الله -جل وعلا-؟! غني عن رفع الدرجات؟! حتى يصل الأمر ببعض الناس أنه إذا قيل له: افعل كذا، أو اترك كذا من الواجبات، أو من المحرمات، قال: وهل أنا كفرت إذا تركت هذا الواجب؟ لأن الإنسان يستدرج، لا بد أن يجعل الإنسان لنفسه احتياط؛ لأنه لو اقتصر على الواجبات فقط، وترك المحرمات لا يأمن في يوم من الأيام أن يجد نفسه وقد ترك بعض الواجبات، وارتكب بعض المحرمات.(56/4)
ضع لنفسك احتياط، احتط لنفسك بفعل المندوبات، وترك المكروهات، ويؤثر عن كثير من السلف أنه يترك الحلال خشية أن يقع في الحرام، يتركون الشيء الكثير مما أباحه الله -جل وعلا- خشية أن يقعوا في الحرام؛ لأن النفس إذا ضرت على شيء، وتعودت عليه، وألفته صعب عليها المفارقة، فإذا ألفت المباح من هذا النوع وضرت عليه وفقدته في يوم من الأيام التفتت النفس إلى ما فيه شيء من الشبهة أو الكراهة أو خلاف الأولى، وقد لا يتيسر ذلك، فتتجاوز النفس إلى ما هو أشد من ذلك، فالاحتياط للنفس لا بد منه، فالإنسان يقي نفسه بهذه النوافل، والابتعاد عما منع منه ونهي عنه ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [(187) سورة البقرة].
باب: صدقة التطوع(56/5)
قال -رحمه الله-: "عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) " التنصيص على السبعة لا ينفي من عداهم، أو أنه في أول الأمر أخبر بالسبعة ثم زاد عليهم، وهذا لا يقتضي الحصر، هذا الأسلوب لا يقتضي الحصر، فقد جاء في النصوص أعداد غير هؤلاء السبعة جاء الوعد بأن الله -جل وعلا- يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وصلت عند ابن حجر إلى الأربعين في رسالة أسماها: (معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال) والسيوطي أوصلها إلى سبعين في كتاب أسماه: (بزوغ الهلال في معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال) هذا الأسلوب ليس فيه حصر بدلاً من أن يكونوا سبعة زيد في العدة حتى وصلوا إلى السبعين، لكن أحياناً يأتي الحصر ومع ذلك تأتي نصوص أخرى بقدر زائد على العدد المحصور ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)) وثبت أنه تكلم غيرهم حتى وصلوا إلى سبعة، فأهل العلم يقولون: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر أو أُخبر في أول الأمر بالثلاثة ثم زيد عليهم؛ لأن هذه أمور غيبية لا بد من أن يكون الخبر عن الله -جل وعلا-، يعني خلاف ما قاله بعض من أساء الأدب من الشراح، لما قال: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)) قال: في هذا الحصر نظر، يعني يتكلم في كلام نظير له؟ يستطيع أن يقول: في هذا الحصر نظر؟ الذي قال هذا الحصر من لا ينطق عن الهوى، والخبر في الصحيح، ليس لأحد كلام، لكن هذه إساءة أدب وغفلة.(56/6)
((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) الله -جل وعلا- نور السماوات والأرض: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [(35) سورة النور] فهل النور له ظل، أو الظل لما يقع بين النور وما دونه؟ نعم النور ليس له ظل، الظل إنما يكون لما يحول بين النور وبين ما دونه، ولذا جاء في بعض الروايات: ((في ظل عرشه)) وهذا متصور، والمسألة ما يتعلق بالله -جل وعلا- لا يمكن إنزاله على ما يدركه المخلوق بفهمه، أو تصويره أو تصوره، ما دام الخبر ثبت فليس لأحد كلام، من أهل العلم من يقول: ذاك قيد في ظل عرشه، وإضافة الظل إلى الله -جل وعلا- من باب إضافة التشريف والتكريم، ولا يلزم أن يكون بسبب حاجز، ولا يلزم أن يكون الله -جل وعلا- حائل بين المستظل والنور، لا يلزم، فما يتعلق بالله -جل وعلا- فوق ما تتوهمه الأوهام، وما تبلغه الأفهام، وبعض أهل العلم يقول: هذا الحديث محمول على الآخر، والظل للعرش، وأما الله -جل وعلا- فهو نور السماوات والأرض.
منهم من يؤول الظل هذا يقول: المراد به الكنف والرعاية، فهؤلاء السبعة في حفظ الله ورعايته وكنفه وحياطته، ولا يلزم أن يكون الظل ناشئ عن شيء له إشراق وإحراق، نحتاج إلى الاستظلال دونه؛ لأن النور الذي يكون بسببه الظل إما أن يكون نور إشراق بدون إحراق كنور القمر هذا لا يحتاج أن تستظل دونه؛ لأنه ليس فيه إحراق، وإما أن يكون معه إحراق كنور الشمس، وهذا تحتاج أن تستظل دونه، والشمس تدنو يوم القيامة، حتى تكون على مقدار ميل، ويعرق الناس، ويحتاجون إلى الظل حاجة أمس من حاجتهم إلى الظل في الدنيا؛ لبعد الشمس عنهم.
فهؤلاء السبعة، ومثلهم من جاءت النصوص بالزيادة على هؤلاء السبعة يأمنون من هذا الضيق، وهذا الحرج الذي يحصل في المحشر.
((يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل)) ((يوم لا ظل إلا ظله)) في الدنيا هناك الظلال التي تكون بسبب بني آدم كالسقوف مثلاً، والجدران التي يستظل بها، والأشجار التي يستظل بها، لكن في يوم القيامة؟ ما في ظل إلا الظل الذي ينشئه الله -جل وعلا- لمثل هؤلاء ((يوم لا ظل إلا ظله)).(56/7)
((إمام عادل)) سلطان متصف بالعدل بين الرعية، لا يتلبس بظلم، وليس معنى هذا أنه معصوم، لكنه يحرص على تحقيق الظلم، ولا يقع الظلم منه قصداً، وقد يقع الظلم من بعض من ينوب عنه بغير علمه؛ لاتساع رقعة مملكته مثلاً، لكن لا يعني أنه معصوم، إنما يحرص على العدل بقدر إمكانه وبقدر استطاعته.
((وشاب نشأ في عبادة الله)) يعني ليست له صبوة، منذ أن نشأ وهو في عبادة الله -جل وعلا-، ما عرف بنزوات في شبابه، ولا عرف بمخالفات، ولا عرف بجرائم ولا منكرات، إنما من تكليفه أو من نشأته وهو مطيع لله -جل وعلا-.
((نشأ في عبادة الله)) شخص منذ أن نشأ، وهو في عبادة الله -جل وعلا- إلى أن بلغ الثمانين أو التسعين سنة، ما عرف أنه ارتكب منكراً، وإذا ارتكبه بادر بالتوبة منه والندم عليه، المقصود أنه جار على الاستقامة في جميع أطواره، وآخر قد يكون توأماً معه ولد معه، لكنه نشأ على الضد من ذلك، على المعاصي والفواحش والجرائم والمنكرات إلى أن بلغ مثلما بلغ ذاك ثمانين سنة، أو قل سبعين سنة، ثم تاب الثاني، الأول استمر على استقامته إلى أن مات، والثاني تاب بعد أن بلغ هذا السن توبة نصوحاً بشروطها، وبدلت سيئاته حسنات، أيهما أفضل؟ هذا شاب نشأ في عبادة الله، ومستحق لأن يظله الله في ظله، والثاني نشأ في معاصي وجرائم ومنكرات عقود، سبعون، أو ثمانون سنة، ثم تاب توبة مقبولة صحيحة، فبدل الله سيئاته حسنات، هل يستويان؟ في الحديث: ((شاب نشأ في عبادة الله)) وذاك: نشأ في المعصية، نعم بتوبته بدلت سيئاته حسنات، هل يستويان؟
طالب:. . . . . . . . .
لماذا؟ هذاك جرائمه كلها بدلت حسنات {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [(70) سورة الفرقان] بدلت هذه الجرائم والمنكرات حسنات.
طالب:. . . . . . . . .
الظل لا يستوون، هذا شاب نشأ في عبادة الله، وذاك شاب نشأ في معصية الله، ومع ذلك لا يستويان، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
والله ما أسمع يا أخي، هل من مبلغ؟ ويش يقول؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني ما حيا حياة طيبة.
طالب:. . . . . . . . .(56/8)
لا، أقول: هل يستويان في المنزلة في الجنة؟ هذا عنده حسنات أصلية، وهذا عنده حسنات منقلبة عن سيئات.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
الله أعلم.
طيب.
طالب:. . . . . . . . .
نعم حسنات المطيع مضاعفة، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والحسنات المنقلبة عن سيئات غير مضاعفة؛ لأن البدل له حكم المبدل، فلا يستويان، وشيخ الإسلام -رحمة الله عليه- يرى أن هذه الحسنات المبدلة عن سيئات مضاعفة أيضاً، وأشار إليه ابن القيم في مدارج السالكين، لكن لا يستوين عند الله؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((وشاب نشأ في عبادة الله)) فرق بين من ينشأ في عبادة الله، وبين من ينشأ في معصية الله.
((ورجل قلبه معلق بالمساجد)) يعني إذا خرج من المسجد ووصل إلى عمله أو منزله ينظر إلى الساعة متى يرجع إلى المسجد؟ يعني عكس ما يعيشه كثير من الناس اليوم إذا دخل المسجد ينظر إلى الساعة متى يخرج؟ هذا قلبه معلق بغير المساجد، لكن العبرة بمن قلبه معلق في المساجد ((ورجل قلبه معلق بالمسجد)) ما يخرج من المسجد إلا ويتمنى الرجوع إليه، وينظر إلى الوقت متى يذهب الوقت حتى يعود إلى المسجد، وقد يجلس في المسجد ويمكث في المسجد إذا لم يكن له ما يدعوه إلى الخروج، فقلبه معلق بالمساجد.
((ورجلان تحابا في الله)) وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ((رجلان تحابا في الله)) وضابط هذه المحبة في الله -جل وعلا-؛ لأن كثير من الناس يدعيها، ويحب أخاه، يحب صديقه، يحب زميله وهو في الظاهر يحبه لله، لكن الابتلاء والامتحان إذا حصل أدنى خلل في المصلحة المتبادلة بينهما ماذا يكون مصير الحب في الله؟ قالوا: الحب في الله لا يزيد مع الصفاء، ولا ينقص مع الجفاء، هذه المحبة الخالصة التي هي لله -جل وعلا-، والتي يترتب عليها الوعود الكثيرة.(56/9)
((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) يعني تجد بعض الناس يحرص على زيارة إخوانه، ويحرص على زيارة الأخيار والفضلاء من العلماء والعباد، وما أشبه ذلك، وتجده يخصص يوم في الأسبوع لزيارة هؤلاء، لكن هل زيارته لفلان وفلان على حد سواء؟ أو تختلف باختلاف نوعية الاستقبال من هذا وهذا؟ تجد اللي يستقبله استقبال طيب يمكث عنده، وينبسط، ويتردد عليه كثيراً، لكن لو حصل منه أدنى التفاتة إلى نظيره أو عنه فقط تجد النفس يحصل فيها شيء، ويستثقل الزيارة الثانية، هذه المحبة فيها خلل، والله المستعان.
النفوس لها حظ، وتراعي مثل هذه الأمور جبلة، لكن ينبغي أن يأطر الإنسان نفسه على مراد الله -جل وعلا-.
((اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) يعني صار سبب الاجتماع الحب في الله، والافتراق أيضاً تفرقا على نفس المستوى من المحبة لله -جل وعلا-.
((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال)) ذات منصب: يعني من أشراف الناس، ومن علية القوم، ولها جمال أيضاً، ذات منصب تدعوه تغريه بمالها، وقد تهدده إذا انصرف، كما فعلت امرأة العزيز مع يوسف -عليه السلام-، ولها أيضاً جمال مغري يغري بها، فلما دعته ((قال: إني أخاف الله -عز وجل-)) وهو في مأمن تام من اطلاع الخلق عليه، لكنه يخاف الله -جل وعلا-، فقال: ((إني أخاف الله -عز وجل-)).(56/10)
((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) هذا الذي في الصحيحين، وفي رواية لمسلم: ((حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله)) وهذه يذكرها أهل العلم في المقلوب من الحديث، وأن الخبر انقلب على الراوي، وصوابه ((لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) لأن الإنفاق يكون باليمين لا بالشمال، فأطبقوا على ذكر الرواية بالمقلوب، المقصود من الإنسان أن يخفي الصدقة هذا الذي يمدح عليه في هذا الحديث، وهو الذي يتحقق به الغرض الذي هو الاستظلال بظل الله -جل وعلا-، الإخفاء، ((حتى لا تعلم)) يعني من شدة الإخفاء ((لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) هذا الغالب أن الإنفاق يكون باليمين، لكن قد يستدعي الحال أن ينفق الإنسان بشماله، قد يستدعي الحال بأن يكون عن يمينه أحد، عن يمينه شخص، وعن يساره سائل هل يقول: تعال من هنا أعطيك باليمين أو ينفق باليمين ليعلم من عن يمينه؟ لا يتم الإخفاء بهذا، فليعطيه بشماله، ويمكن حمل الرواية التي في صحيح مسلم على هذا؛ لأن المقصود الإخفاء، فإذا أراد أن يخفي هذه الصدقة عن الجالس بيمينه احتاج أن ينفق بشماله، وحينئذٍ لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، وعلى هذا فالرواية مستقيمة وليست منقلبة.(56/11)
وفي الحديث الصحيح في البخاري وغيره: ((ما يسرني أن لي مثل أحد ذهباً تأتي علي ثالثة وعندي منه دينار إلا دينار أرصد لدين، إلا أن أقول به هكذا وهكذا وهكذا)) عن يمينه وشماله ومن أمهامه ومن خلفه، ينفق من كل جهة، وعلى كل وجه، فالرواية ليس فيها قلب، يعني يمكن حملها على وجه يصح، وإن كان الأصل أن الأخذ والإعطاء باليمين، ولا يمنع أن يقع ذلك بالشمال لظرف من الظروف؛ ليتم الإخفاء الذي المقصود من سياقه هو الإخفاء، الإخفاء لا شك أنه أدعى إلى الإخلاص، لكن قد يستدعي الحال أن يكون الإنفاق علانية، قد يستدعي بعض الأحوال أن يكون الإنفاق علانية أفضل {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} [(271) سورة البقرة] لا شك أن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص وأدعى إليه، لكن قد يكون الإنسان بحيث لا ترتفع منزلته عن التهمة، إذا كانت كل صدقاته خفية اتهمه الناس بأنه لا يؤدي ما أوجب الله عليه، ووقعوا في عرضه، كما هو الحال في التطوعات والصولات في المسجد مثلاً، صلاة التطوع في البيت أفضل إلا المكتوبة، لكن إذا كان بصدد أن يقتدي به الناس عالم لا يصلي نوافل في المسجد، ثم يخرج العامة بدون نوافل، لماذا؟ والله لو أن النوافل فيها فضل كان صلاها الشيخ فلان، طيب صلوا مثل الشيخ فلان في بيوتكم، هم ما يدرون، فإذا كان إظهار العمل من أجل الاقتداء، فجاء فيه: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)) وهذا في صدقة العلانية، ويبقى أن الأصل الإخفاء؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص.(56/12)
جاء في السنن حديث: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)) ويش معنى الجاهر بالقرآن؟ والمسر بالقرآن؟ هل المراد به الذي يرفع صوته بقراءة القرآن كالجاهر بالصدقة؟ على ما هو مقتضى الجهر وهو بالصوت؟ أو المراد به الذي يقرأ القرآن بين الناس كالذي يتصدق بين الناس، والذي يقرأ القرآن في الخلوة كالمتصدق سراً؟ أيهما أقرب؟ لأن الجهر يحتمل معنيين، جهر بالصوت وهذا يناسب قراءة القرآن، والإخفاء إخفاء الصوت وهو يناسب أيضاً، لكن الذي يناسب الصدقة أن تكون بين الناس وبين أن تكون سراً، وتتم المطابقة إذا كانت القراءة بين الناس كالصدقة بين الناس، أو تكون القراءة سراً فتكون كالصدقة سراً، يعني بعض الناس يقرأ القرآن، ولا يسمع منه حرف، ويستدل بمثل هذا الحديث، هل الاستدلال صحيح وإلا غير صحيح؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .(56/13)
يعني الصحيح أن تقرأ في بيتك بدل من أن تقرأ بين الناس، كما أن الصحيح في الصدقة أن تتصدق سراً بين أن تتصدق أمام الناس، لكن الجاهر بالقرآن يحتمل أن يكون برفع الصوت، وجاء الأمر بالتوسط بين الجهر والإسرار في القراءة وفي الصلاة، ويأتي أيضاً في قراءة القرآن سواءً كانت في المسجد، أو بين الناس وبين القراءة في السر في الخلوة، ولا شك أنها أفضل، لا سيما إذا كانت في جوف الليل، ويأتي أيضاً أن كون طلاب العلم لا يرون قدوات يقرؤون القرآن، فما الذي يدريهم أن العلماء يقرؤون القرآن في بيوتهم، أو في تهجدهم، أو في صلواتهم؟ تجد كثير من طلاب العلم يهجر القرآن؛ لأنه لا يجد ما يحدوه، ما يرى من أهل العلم من يقرأ القرآن، هم يقرؤون القرآن قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، وعلى كل وقت، وعلى كل حال، وفي كل آن، ويوجد الآن من أهل العلم من يقرأ .. ، منهك بالأعمال الرسمية، ومع ذلك يختم كل ثلاث، لكن طلاب العلم ما يدرون عنه، لا يحتاج أن يقول فلان: إني أقرأ القرآن بالليل أو أقرأ .. ، لكن إذا فهم طلاب العلم أن العلماء لا يقرؤون القرآن، أو يهجرون القرآن، والأمر ليس كذلك، وهم معروفون بكثرة الذكر والتلاوة، لكن لا يلزم أن يبرزوا ذلك للناس إلا بقدر ما يحقق المصلحة، بأن يكون قدوة للناس، إذا رأى الناس انصرفوا لا مانع من أن يعلن هذا العمل الصالح ليقتدى به.
((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) يعني بغير حضور الناس؛ لأن بعض الناس سهل عليه أن يبكي إذا كان بين الناس، فاضت عيونه بالدموع، وأجهش بالبكاء، ثم إذا صار خالياً ليس هناك ما يدعو، هذا فيه خلل، لكن المطلوب أن يحصل منه هذا في حال الخلوة؛ ليكون خالصاً لله -جل وعلا-.(56/14)
وهذه المسألة مسألة البكاء من خشية الله و ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) وأصيب كثير من .. ، قلوب كثير من الناس بالقسوة لا تراه باكياً، لا في الخلوة ولا في الجلوة، وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، لكن يحرص الإنسان أن يتخذ خبيئة ينفرد بها بربه دون أن يراه أحد، ويلجأ إليه، ويتلذذ بمناجاته، لكن هذا يحتاج إلى قلوب سليمة، وقلوب حية، فعلى الإنسان أن يعالج القلب قبل ذلك ليحصل له مثل هذه النتائج.
((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) الإنسان قد يذكر الله خالياً وتفيض عيناه لا من خشية الله، إنما يتذكر أو يتصور موقف أو شيء من هذا، فلا يلزم أن يكون خالياً، ويذكر الله ثم تفيض عيناه بسبب خشية الله -جل وعلا-، وإنما المطلوب أن يكون هذا البكاء من خشية الله -جل وعلا-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، القدر على النار، وهو يصلي -عليه الصلاة والسلام-، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بغيره ممن تلطخ بالذنوب، وزاول الذنوب، وباشر الذنوب بعدد أنفاسه؟! والله المستعان.
"متفق عليه".
"وعن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((كل امرئ في ظل صدقته)) " قد يكون الظل الذي جاء في الحديث السابق مثل هذا الظل الذي في هذا الحديث، تجسد هذه الأعمال الصالحة حتى تكون ظلاً، ولا مانع أن يقلب الله -جل وعلا- المعاني إلى أجسام، البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان تحاجان عن صاحبهما، تظلانه، مثلما هنا: ((كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس -أو قال- حتى يحكم بين الناس)) تجسد هذه المعاني حتى تكون أجساماً ينتفع بها صاحبها.
"قال يزيد: وكان أبو الخير لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء" هذا من الامتثال، من تمام الامتثال، من تمام التطبيق.(56/15)
"لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء" الإنسان قد يتقال الشيء اليسير ((اتقوا النار ولو بشق تمرة)) ((ولو بشق تمرة)) لا تحقر من المعروف شيئاً ((لا تحقرن جارة لجارتها ولو بفرسن شاه)) يعني أمر يسير جداً ظلف محرق، فكيف بما هو أعلى منه، والتوفيق ظاهر عند بعض الناس تجده ينتبه لمثل هذه الأمور، فلا يضيع منه شيء لا قليل ولا كثير، وبعض الناس يهدر الأموال لعدم توفيقه، ويتكاسل عن حملها إلى من يستفيد منها، وقد تكون أشياء يستفيد منها الناس، ومع ذلك المحروم من حرمه الله، تجدون المزابل أحياناً مملوءة بالأطعمة التي يتمناها كثير من المسلمين، بل وجد ما هو أوضح من ذلك، وجد من فقراء المسلمين من يأخذ من هذه المزابل، ومن يأكل من هذه المزابل؛ لأن هذا الطعام الذي ألقي في هذه المزبلة طعام صالح وجيد، ويتمناه كثير من الناس، بل قد تمر الأيام والشهور على بعض الأسر ما رأوا مثله، والآن -ولله الحمد- الجمعيات تستقبل على مدار الأربعة والعشرين ساعة، وتريحك من عناء طرق البيوت، ولو فعلت ذلك أنت لكان ذلك أفضل، كما كان يفعله خيار هذه الأمة.
أبو بكر -رضي الله عنه- يتعاهد بعض العجائز، وهو خليفة المسلمين في منتصف الليل، يطرق البيوت ومعه الأطعمة، يحمل الأطعمة على ظهره، وكذلك عمر وغيرهما من سادات الأمة، فمن دونهما من باب أولى، ونحن نأنف ونستنكف أن نحمل هذا الطعام الذي بقي إلى من يستفيد منه، والله المستعان.
"وكان أبو الخير لا يخطئه يوم لا يتصدق فيه بشيء ولو كعكعة" يعني كسرة خبز، أو شابورة، أو شيء من هذا يعطيها فقير "أو بصلة" رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه".
نعم الناس يعيشون في هذه الأيام ومنذ ثلاثة عقود أو أكثر في سعة من العيش، وفي رغد من العيش، ويظنون أن الناس لا يأكلون مثل هذه الأمور التي تبقى في الموائد، قياساً على أنفسهم مع أنه يوجد في البيوت من هو بأمس الحاجة إلى مثل هذه الأطعمة حتى ما يبقى على السفر من بقايا الطعام، وفضلات الطعام أناس يحتاجونها، وهي إن لم يحتجها الإنسان يحتاجها الحيوان.(56/16)
يعني لو عدنا قليلاً إلى الوراء، يعني قبل خمسين أو ستين سنة يطرق الطارق السائل البيت فيعطى عظم ليس عليه طعام، ويقال له: هذا العظم ما طبخ إلا مرة أو مرتين، يعني فيه بقية من طعم، يعني لو طبخته مرة ثالثة صار لطعامك شيء من الطعم بسببه، يعني شيء لا نتصوره؛ لأنا ما عشناه، لكن الجيل الذي قبلنا يقولون مثل هذا، خذ هذا والله ما طبخ إلا مرة أو مرتين، هذا بدون لحم عظم مجرد، ونحن نتقلب بنعم، لكن هذه النعم تحتاج إلى شكر {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [(7) سورة إبراهيم] والناس وهم يتحدثون عن الماضي يخشى أن يكونوا مثل من قال: {قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء} [(95) سورة الأعراف] يعني نسوا، نسوا ما مس آباءهم، ثم صاروا يتحدثون به على سبيل التفكه من باب سرد تاريخي فقط، لكن علينا أن نعتبر ونتعظ، الناس أكلوا أشياء لا يأكلها ولا الحيوان بسبب الحاجة والفاقة والجوع، فعلينا أن نشكر الله -جل وعلا-، هذه النعم ليضمن لنا المزيد من فضله {وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [(7) سورة إبراهيم] والله المستعان.
هذا أبو الخير يتصدق كل يوم بصدقة، والإنسان يجب عليه، ويصبح عليه في كل يوم ثلاثمائة وستين صدقة بعدد مفاصل جسده ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة)) لكن الله -جل وعلا- لا يكلف ما لا يستطيعه الإنسان؛ لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يتصدق، فجعل في مقابل ذلك التسبيح والتكبير والتحميد والتهليل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الأعمال الصالحة، كل جملة بصدقة، ثم في الأخير، قال: ((ويكفي من ذلك ركعتان تركهما من الضحى)) يرضى بالقليل -جل وعلا-، لكن كثير من الناس محروم، يمر عليه الأيام ما صلى ركعتين من صلاة الضحى، وبدلاً من أن يتصدق بثلاثمائة وستين صدقة، أو بثلاثمائة وستين من الأذكار، أو من الأعمال الصالحة ((يكفي من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى)) والله المستعان.
"رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه".(56/17)
"وعن أبي خالد الذي كان ينزل في بني دالان" يقال له: خالد الدالاني؛ لأنه كان ينزل فيهم، وليس منهم "عن نبيح عن أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عري كساه الله من خضر الجنة)) " الحديث فيه أبو خالد، وفيه كلام لأهل العلم، أبو خالد الدالاني، ولذلك ضعفه بعضهم، وهو قابل للتحسين؛ لأن الضعف ليس بشديد، وله ما يشهد له، والجزاء من جنس العمل ((أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم)) {جَزَاء وِفَاقًا} [(26) سورة النبأ] والجزاء من جنس العمل، فمن كسا كسي، وأول من يكسى يوم القيامة من؟ إبراهيم -عليه السلام-، لماذا؟ لأنه جرد من ثيابه حينما أرادوا إلقاءه في النار.
((أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عري كساه الله من خضر الجنة)) من السندس والإستبرق ((وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوع)) يدل على أنه كلما كثرت الحاجة زاد الفضل، كلما كان المتصدق عليه أكثر حاجة من غيره كان الأجر أعظم، هذا على عري، وهذا على جوع، وهذا على ظمأ.
((أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأ)) لأنك قد تكسو، وقد تطعم، وقد تسقي شخص عنده ثياب، بينما يوجد غيره، على كل حال أنت مأجور على هذه الصدقة؛ لأنك ظننت أنه من أهلها فتصدقت عليه، لكن لو دفعتها إلى من لا يجد ما يكتسيه فإنك تستحق هذا الوعد، ومثله لو أطعمت جائعاً، أو سقيت على ظمأ، ((سقاه الله من الرحيق المختوم)) الرحيق اللذيذ الذي له طعم لا يدانيه شيء من مشروبات الدنيا، وهو مختوم عليه في إنائه لم يمسه أحد، والله المستعان.
"رواه أبو داود، ونبيح العنزي وثقه أبو زرعة وابن حبان، وأبو خالد اسمه يزيد، وقد وثقه أبو حاتم الرازي، وقال ابن معين والنسائي: ليس به بأس، وقال الحاكم أبو أحمد: لا يتابع في بعض حديثه" على كل حال هو فيه ضعف، لكن الخبر قابل للتحسين.(56/18)
قال -رحمه الله-: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير" النبي -عليه الصلاة والسلام- أكرم الخلق، وكان -عليه الصلاة والسلام- أجود من الريح، بالخير من الريح المرسلة "وكان أجود ما يكون في شهر رمضان" حينما تكون المضاعفات في شهر الجود والكرم "أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل" ولا شك أن لقاء الصالحين له أثر في نفوس الأخيار، يشجعهم ذلك على المزيد من البذل، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- هذا وصفه: "أجود الناس" " كان أجود بالخير من الريح المرسلة" أكرم الناس، ومع ذلك يزداد جوده حينما يزداد الجود الإلهي في رمضان، وحينما يلقاه جبريل "وكان جبريل -عليه السلام- يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ" كل ليلة "يدارسه القرآن" ورمضان هو شهر القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [(185) سورة البقرة] فهو شهر القرآن، فينبغي للإنسان أن تكون عنايته في رمضان إضافة إلى الصيام والقيام تلاوة القرآن "فيدارسه القرآن" مدارسة القرآن سنة لا سيما في ليالي رمضان اقتداءً بما حصل منه -عليه الصلاة والسلام- مع جبريل، فلو أن كل واحد من طلاب العلم اختار له من يناسبه من زملائه وأقرانه فصاروا يتدارسون القرآن، والمدارسة مفاعلة بين الاثنين، ما هي بدراسة، مدارسة، يعني كل واحد يقرأ على الثاني، ويسأل الثاني عما يشكل عليه، هذه، وهذا يكون بين الأقران، وهذه سنة، فإذا جلس الاثنان من طلاب العلم بعد صلاة التراويح مثلاً لمدة ساعة يتدارسون فيها جزءاً من القرآن، هذا يقرأ، وهذا يقرأ، وهذا يستمع، وهذا يستمع، وهذا يسأل عن مشكل، ويكون بين أيديهم كتاب مختصر فيه غريب ألفاظ القرآن، أو شيء ينتفعون به مما يتعلق بالقرآن استفادوا فائدة عظيمة، في كل ليلة جزء من القرآن، ينتهي القرآن بنهاية الشهر، وسوف يجدون غب ذلك، والفائدة العظمى من هذه المدارسة ولو لم يكن فيها إلا إحياء هذه السنة، بدلاً من أن يقضى الليل كامل بالقيل والقال يقتطع منه ساعة للمدارسة؛ لأن الليل تنقطع فيه المشاغل، وأما النهار فيه مشاغل الناس، وفيه التشويش، المقصود أن هذه سنة ينبغي إحياؤها.(56/19)
"فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين يلقاه جبريل -عليه السلام- أجود بالخير من الريح المرسلة" وصفه -عليه الصلاة والسلام- أنه أجود الناس، هذا الوصف الثابت له -عليه الصلاة والسلام- في كل حال، وفي كل زمان، وفي كل مكان، لكن في رمضان شهر الجود، شهر الكرم، حينما يتضاعف الجود الإلهي، وحينما يلتقي النبي -عليه الصلاة والسلام- بجبريل أفضل الملائكة، لا شك أن مثل هذا له أثر في الزيادة، وكل إنسان يحس هذا من نفسه، يعني فرق بين أن تلتقي بعالم عابد تتأثر به، وتنوي العمل الصالح من حين أن تفارقه، وتعمل الأعمال الصالحة؛ لأن رؤية مثل هذا، ومدارسة مثل هذا، ومجالسة مثل هذا مما يعينك على الخير، بخلاف من كان بضد ذلك {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [(28) سورة الكهف].
"متفق عليه".
"وعن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اليد العليا خير من اليد السفلى)) " اليد العليا هي المعطية، واليد السفلى هي الآخذة، جاء تفسير ذلك،
وهذا هو المعتمد عند عامة أهل العلم، وإن كان بعض المتصوفة الذين حبوا الإخلاد إلى الراحة، وعاشوا على فضل غيرهم يرون العكس، يقولون: اليد العليا هي الآخذة، واليد السفلى هي المعطية، لماذا؟ لأن الآخذة نائبة عن الله -جل وعلا-: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [(17) سورة التغابن] هذا نائب عن الله في هذا القرض، الذي يأخذ .. ، قلنا: هذا تبرير لهذا الكسل الذي يعيشونه، وعلى هذا التواكل، نعم قد يضطر الإنسان إلى الأخذ، ويكون من أهل الصدقة، ومن أهل الزكاة، لكن لا شك أن المعطي أفضل منه.
((اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)) ابدأ بمن تعول، الذي يلزمك نفقته ابدأ به، والذي تحت يدك لا تعرضه للضياع ((ولئن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)) ابدأ بمن تعول، فإذا كان الذي عندك لا يكفي فابدأ بنفسك، ثم بولدك، ثم بزوجك، ثم بخادمك، على ما سيأتي في حديث الدنانير الآتي.(56/20)
((وابدأ بمن تعول)) ((وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يمون)) ((وخير الصدقة -ما كان- عن ظهر غنى)) لأنه يبقي لك .. ، إذا تصدقت يبقى لك ما تقوم به حاجتك ومصالحك، ومصالح من تحت يدك.
((ومن يستعفف يعفه الله)) كل أمور الدنيا بالتمرين والتدريج، العلم بالتعلم، الحلم بالتحلم، العفة بالتعفف، ((من يستعفف يعفه الله)) يتحمل يصبر فيعينه الله -جل وعلا- على هذا التحمل، وعلى هذا الصبر، ويكفيه ما يعرضه لامتهان نفسه، ويجازيه الله -جل وعلا- برفع حاجته، إذا أنزلها بالله -جل وعلا- عن خلقه.
((ومن يستغن يغنه الله)) يستغني بالله عن خلقه يغنه الله، وبالعكس من أنزل حاجته بالمخلوق زادت الحاجة، وما ارتفعت، والأمر كله أولاً وآخراً بيد الله -جل وعلا-، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إنما أنا قاسم، والله المعطي)) فعلى الإنسان أن يتصبر، ليس لكل حاجة أو لكل، كلما احتاج شيئاً ذهب يسأل الناس، لا، يتصبر، ويستعفف، فسوف يغنيه الله من فضله.
"رواه البخاري بهذا اللفظ، وروى مسلم أكثره".(56/21)
"وعن أبي الزبير عن يحيى بن جعدة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقل، وابدأ بمن تعول)) " ((ابدأ بمن تعول)) هذا مشترك بين الحديث ((ابدأ بمن تعول)) هذا متفق عليه في الحديثين، لكن في الأول "ما كان عن ظهر غنى" هو خير الصدقة، وهنا: ((جهد المقل)) أي الصدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقل)) فكأن في هذا شيء من التعارض، لا شك أن جهد المقل المتصف باليقين الواثق بالله -جل وعلا- عنده شيء قليل فدفعه إلى السائل هذا جهد مقل، لكن هل هذا يصلح من كل الناس؟ يصلح ممن عنده اليقين والرضا بالله -جل وعلا-؟ كما جاء في حديث أبي بكر قصة أبي بكر وعمر، الذي يقينه بالله -جل وعلا- يجعله يتجاوز هذا الأمر فيتصدق بجميع ما عنده، ولو كان قليلاً، هذا جهد المقل، ويحمد منه إذا كان على يقين من الله -جل وعلا-، وبوعد الله؛ لأن بعض الناس قد يفعل هذا، ثم لا يلبث أن يسأل، أو يتحدث في المجالس، والله أنا دفعت اللي عندي وقعدت، خلاص، الله يعوض خير، ويندم على ذلك، مثل هذا لا يتصدق إلا بالقدر الزائد عن حاجته، يعني بعض الناس يترك العلاج يترك الرقية، يترك الكي، يترك .. ، طمعاً في حديث السبعين الألف، وما أشبه ذلك، ثم تجده في المجالس يتحدث ويتأفف ويتشكى، ومن زاره ذكر له حالته بالتفصيل على سبيل الشكاية، وأنا تركت، وأنا فعلت، هذا يا أخي ابذل جميع الأسباب للشفاء أفضل من شكايتك إلى الخلق، وإخبارك بما بينك وبين ربك، فالناس يتفاوتون، من كان عنده من اليقين ما يتحمل به ما تحمل، من إنفاق للمال أو لتحمل الأمراض والمصائب دون أن يتعرض للأسباب؛ ليدخل في حديث السبعين، مثل هذا يمدح، لكن إذا ترك هذه الأمور المباحة في الأصل، فعل الأسباب مباحة، ولا يلزم الإنسان يتصدق بجميع ماله، لكن مع ذلك إذا تصدق بجميع ماله، وكان من النوع الذي عنده من اليقين والتوكل على الله -جل وعلا-، هذا يمدح، لكن إذا لم يكن عنده يقين ولا توكل، كل من دخل عليه: قال: والله تورطنا دفعنا كل اللي عندنا وقعدنا، هذا يصلح أن يتصدق بجميع ما عنده؟ هذا يتصدق بالقدر الزائد عن حاجته، وإن أمسك بعض القدر الزائد بعد أفضل، والله المستعان.(56/22)
"رواه أحمد، وهذا لفظه، وأبو داود والحاكم، وقال: على شرط مسلم" ومقتضى كونه على شرط مسلم أن يكون الإمام مسلم قد خرج لجميع رواته، قال المؤلف: "وليس -الأمر- كذلك، فإن يحيى" هذا يحيى بن جعده "فإن يحيى لم يرو له مسلم" والحديث ليس على شرطه "ولكن وثقه أبو حاتم وغيره" فهو ثقة، فالحديث صحيح وإن لم يكن على شرط مسلم.
قال -رحمه الله-: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تصدقوا)) فقال رجل: يا رسول الله عندي دينار" يعني اصنع به ما شئت هذا صدقة هذا الدينار "قال: ((تصدق به على نفسك)) " يعني إن كان ما عندك غيره فأنفقه على نفسك "قال: عندي آخر، قال: ((تصدق به على زوجتك)) " يعني أنفقه على زوجتك "قال: عندي آخر، قال: ((تصدق به على ولدك)) " من ذكور وإناث، " قال: عندي آخر، قال: ((تصدق به على خادمك)) قال: عندي آخر، قال: ((أنت أبصر به)) " ولا شك أن النفقات الواجبة مقدمة على الصدقة، وجاء في أكثر من حديث: ((وابدأ بمن تعول)) وهؤلاء تلزمهم نفقته، فهم أولى ببره وإحسانه من غيرهم، والحديث حسن؛ لأنه من رواية ابن عجلان، وعنده بعض الأخطاء، ولذا قالوا: إنه صدوق له أوهام، فالحديث حسن.
"رواه أبو داود والنسائي، وهذا لفظه، وصححه الحاكم".(56/23)
"وعن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتصدق" حث النبي -عليه الصلاة والسلام- على الصدقة "فوافق ذلك مالاً عندي" عمر يقول: وافق ذلك مال عندي، فقلت: فرصة، أنا الآن عندي مال لعلي أسبق أبا بكر؛ لأنهم يسارعون ويسابقون {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [(26) سورة المطففين] يتنافسون على فعل الخير "اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا" يعني إن كان لي فرصة في العمر أسبقه فاليوم؛ لأن عندي مال "فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أبقيت لأهلك؟ )) " كأنه رآه كثير " ((ما أبقيت لأهلك؟ )) قلت: مثله" يعني النصف "قال: وأتى أبو بكر بكل مال عنده، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أبقيت لأهلك؟ )) فقال: أبقيت لهم الله ورسوله" يعني ما أبقى شيئاً، وهذا أبو بكر عنده من اليقين والثقة بالله -جل وعلا- ما عنده، فمثل أبي بكر يحصل منه أن يتصدق بجميع ما عنده، لكن من مثل أبي بكر؟! يقول عمر: "فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً" يعني في هذه الفرصة التي عنده المال ما استطاع أن يسبقه، فكيف يسبقه إذا لم يوجد مثل هذه الفرصة؟!
"رواه عبد بن حميد في مسنده، وأبو داود، وهذا لفظه، والترمذي، وقال: حديث صحيح، وقد أخطأ من تكلم فيه لأجل هشام" يعني هشام بن سعد راوي الحديث "فإن مسلماً روى له" يعني جاز القنطرة، من رواة الصحيح "وقال أبو داود: هشام بن سعد من أثبت الناس في زيد بن أسلم" وهو يروي الحديث عن زيد بن أسلم عن عمر -رضي الله عنه-.(56/24)
"وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة)) " غير مفسدة يعني لا تقصد بذلك الإفساد، وإنما تقصد بذلك الإصلاح، تنفق من بيت زوجها؛ لأنها لها نوع صلاحية، فلها شبهة فيما يوجد في البيت؛ لأنها شريك للزوج المنفق، لا سيما إذا عرفت من حال الزوج أنه لا يتأثر بمثل ذلك، ولو لم يأذن لها؛ لأن كل امرأة تعرف حال زوجها، بعض الناس شحيح يحاسب المرأة على النقير والقطمير، مثل هذا لا بد أن يستأذن، وبعض الناس لا يدري ما في بيته، مجرد ما يقال: والله انتهت الأغراض يحضر بدلها، مثل هذا يتصدق من ماله، يعان على نفسه، ولو لم يعلم، وبعض الناس يعطي إذن عام، يكل الأمر إلى المرأة بقدر الحاجة، كلما مر فقير تصدقي، فالناس يتفاوتون، فالمرأة إذا أنفقت من طعام بيتها غير مفسدة، إذا صنعت الطعام ثم طرق الباب طارق وأعطته شيء يسير ما يؤثر هذه لها أجرها ((كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب)) لأن المال أصله من الزوج، هو الذي كسبه فالزوج له أجره بما بذل من المال، والزوجة لها أجرها بما أنفقت، وبما سعت في إعداد هذا الطعام وإصلاحه، المقصود أنها شريكة في الأجر.(56/25)
((وللخازن مثل ذلك)) الخازن الأمين إذا تصدق بما لا يفسد على صاحب المال ماله أعطى الشيء اليسير بما ينفع ولا يضر مثل هذا له أجر، وبعض الناس تجده خازن مأمور مستودع وتأتيه أوامر الصرف من المسئولين ويبخل على الناس، ويقتر على الناس، ويؤذي الناس، يعني بدلاً من أن تكون خازن أمين، تيسر على الناس، مأجور على هذا التيسير، وعلى هذا العطاء، وهذا موجود مع الأسف، وقد يكون على جهة خيرية، ويشق على الأخيار، قد يكون خازن لكتب علم في جهة توزيع من بيت المال، فإذا جاءه طلاب العلم آذاهم ورددهم مع أوامر الصرف الصريحة، تجدوه يقول: بعد شهر شهرين ثلاثة، ثم إذا جاء قال: والله ما عندنا شيء، انتهت الكتب، هذا فقد، والكتب موجودة، نسأل الله السلامة والعافية، فعلى الإنسان أن يتقي الله -جل وعلا-، الآن هنا الخازن قد لا يكون مصرح له أن ينفق، لكنه ينفق ويبذل بشيء لا يضر بصاحب المال، يعطي الشيء اليسير هذا له أجر، أما إذا صرح له، وبعث له بأوامر الصرف فإنه لا يجوز له حينئذٍ أن يتردد أو يردد، بل عليه أن يصرف فوراً، وما وضع في هذا الموضع إلا لخدمة الناس.
((وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئاً)) لا ينقص شيء، وهل يستوون في الجر؟ الزوج اشترى المواد، الزوجة طبخت، طرق الباب فناولت الزوجة شيئاً من المطبوخ الخادم وقالت: أعطه الذي في الباب، هؤلاء كلهم مأجورون، يشتركون في الأجر، لكن هل هم في الأجر سواء؟ أو كل له بقدر نصيبه منه؟
جاء ما يدل على الاستواء، وفضل الله واسع.
"متفق عليه، وفي رواية: ((من بيت زوجها)) " ليس معنى هذا أن هذا يخول للمرأة أن تتصرف تصرفاً فوق هذا، جاء بالطعام فطرق طارق فأعطته الطعام كله، زوجها أين الغداء؟ أين العشاء؟ والله جاءنا مسكين وأعطيناه إياه، ليس هذا هو المراد، إنما بهذا القيد ((غير مفسدة)) لأن هذا يترتب عليه فساد، حتى فساد حياة الأسرة، وعيش الأسرة، تصور أنه جاء من العمل وتعبان وجائع، ثم قالت: والله طبخنا الغداء، ويش صار عليه؟ والله مر فقير وأعطيته إياه، ليس هذا هو المقصود، إنما تعطي هذا السائل من هذا الطعام من غير إفساد، ومن غير إضرار بأحد.(56/26)
"وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أضحى أو فطر" يعني في يوم عيد "إلى المصلى ثم انصرف فوعظ الناس" يعني صلى، صلى العيد، ثم لما انصرف من صلاته خطب خطبة العيد، وفيها وعظ الناس "وأمرهم بالصدقة" هذا بالنسبة للرجال "فقال: ((أيها الناس تصدقوا)) " فلما فرغ من موعظة الرجال ذهب إلى النساء فوعظهن، وحثهن على الصدقة "فمر على النساء فقال: ((يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) فقلن: وبم ذلك يا رسول الله؟ " الصحابيات يسألون عن السبب الذي به كثرن في النار، وصرن أكثر من الرجال، يسألن عن السبب لاجتنابه "وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: ((تكثرن اللعن)) " نعم اللعن في أوساط النساء أكثر، وعلى ألسنة النساء أكثر من الرجال، وإن كان هذا في بعض المجتمعات دون بعض، لكن هذا الأصل، ولذا في آيات اللعان في الخامسة الرجل يقول: إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة تقول في الخامسة: إن غضب الله عليها؛ لأن النساء يكثرن اللعن فقد لا تكترث، قد تلعن.
"قال: ((تكثرن اللعن، وتكفرن العشير)) " والعشير: الزوج، يعني الزوج ينفق ليل نهار، وقد يكون الرجل كريماً، وقد يكون مسرفاً، ويعطي المرأة كل ما يملك، ويجعلها تتصرف بجميع أمواله، لكن لو وجد يوم من الأيام طلبت منه شيء، وهو معروف بالإسراف والإكرام الزائد، ومع ذلك لو تخلف يوم من الأيام، قالت: ما رأيت خيراً قط.
((تكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين)) نعم المرأة ناقصة عقل ودين، نقصان عقلها شهادتها بنصف شهادة الرجل، ونقصان دينها تمكث الأيام لا تصوم ولا تصلي، لا يقول قائل: إن نقصان العقل أن النساء مجانين ما هو بصحيح، وتفضيل جنس الرجل على جنس المرأة لا يعني أن كل رجل أفضل من كل امرأة، هذا الكلام ليس بصحيح، فكم من امرأة تعدل فئاماً من الرجال، لكن الجنس أفضل من الجنس {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [(36) سورة آل عمران].(56/27)
((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل)) وتسمعون وتقرؤون الخبط والخلط الذي سببه الشعور بالنقص، يعني حينما يتهم الإسلام بظلم المرأة، تجد كثير من الناس يدافع دفاع المتهم حتى يصل به الأمر إلى أن يقول بعض الناس: إن الإسلام كرم المرأة، وجعلها أفضل من الرجل، هذا الكلام ليس بصحيح، الإسلام وضع المرأة موقعها المناسب لها، ومن ظلمها أن تُكلف بما يكلف به الرجال، والذين يدعون المساواة والحرية وحقوق المرأة وكذا، يريدونها تعمل في المصانع، وتشارك في بناء المنشآت، هذا الكلام ليس بصحيح، هذا ظلم للمرأة، تركيبها لا يحتمل هذا، ومع الأسف الشديد أن يقال لامرأة تربي وتنشئ الجيل على الدين وعلى الخير وعلى الفضل على الكتاب والسنة في بيتها أن يقال: هذه امرأة ساذجة، امرأة عاطلة، لكن ماذا يريدون؟ يريدون أن تخرج لتربي أولاد الناس من أجل أن يقال: عاملة، وتأتي بمن يربي أولادها، مسخ للفطر، التي تربي أولادها يقال: عاطلة، والتي تربي أولاد الناس يقال: عاملة، كله من أجل إيش؟ أن تخرج من بيتها، هذا هو المقصود، لا تربي، ما يبونها تربي، المقصود أن تخرج من بيتها، والله -جل وعلا- يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [(33) سورة الأحزاب] وبعض من ينتسب إلى .. ، قد يزعم أنه يدافع عن الإسلام، ويرد هذه الشبهات، لكنه يقع من خلال ما يعيشه من ضعف وشعور بنقص بأمر أشد مما فر منه، عندنا الكتاب والسنة ليس فيها خفاء ولا غبش، أمور ظاهرة وواضحة، هل يراد منا أن نخفي ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- من أجل إرضاء الأعداء؟ أبداً والله، ليقولوا ما يشاءون {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [(33) سورة فصلت] كيف تستخفي بإسلامك؟ بدينك مصدر عزك؟ فخر للمرأة أن تصان، وتكرم ولا تهان، كما فعل بها الإسلام.
كم يتمنى نساء الشرق والغرب أن تكرم المرأة مثلما أكرم الإسلام المسلمات، ومع ذلك نعقد المؤتمرات والندوات، ونكتب البحوث، ونتنازل عن كثير مما جاء في شرعنا، ما هو بصحيح.(56/28)
((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) نعم تجد بعض الرجال مثلما قال الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطرُ
تجد الرجل المهيب المقدم في قومه فإذا جاء في موضوع النساء ضاع.
((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء)) نعم فتنة، المرأة فتنة، وبحوزتها شيء تستطيع أن تساوم عليه، وتغلب به الرجل، وهذه من الحكم الإلهية أن يكون بيد الرجل أمور يستطيع أن يضغط بها على المرأة، وعند المرأة أشياء تستطيع أن تضغط بها على الرجل؛ ليتكامل المجتمع، ولتتم مطالب هذا، وتتم مطالب هذه، وإلا لو كان الأمر كله بيد جهة واحدة ما تم العيش على الوجه المراد، تجد الذي بيده كل شيء يضغط الضغط التام على الجهة الثانية، لكن الجهة الثانية بيدها ما تستطيع به أن تذهب عقل الرجل؛ ليتم التوازن والتكامل؛ وليحصل كل واحد من الطرفين على حقوقه كاملة.
"ثم انصرف، فلما صار إلى منزله" حصل استجابة من النساء فتصدقن ((ولو من حليكن)) فتصدقن، هذا تلقي القرط، وهذه الفتخ، وهذه كذا، فحصل في حجر بلال شيء كثير، واستدل به أهل العلم على أن للمرأة أن تتصدق ولو بغير رضا زوجها، مع أن هذا محمول على اليسير؛ لأن في سنن أبي داود أن ((من كانت ذا مال فلا تتصدق إلا بإذن زوجها)) يعني الشيء الكثير، يعني لا تتصرف بالشيء الكثير إلا بإذن زوجها.(56/29)
"ثم انصرف، فلما صار إلى منزله جاءت زينب امرأة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- تستأذن عليه، فقيل: يا رسول الله هذه زينب" هذه زينب يعني بالباب "فقال: ((أي الزيانب؟ )) " في أكثر من زينب "فقيل: امرأة ابن مسعود، قال: ((نعم، ائذنوا لها)) فأذن لها، فقالت: يا نبي الله إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حلي لي" تلبسه وتتجمل به "فأردت أن أتصدق به" استجابة لله ورسوله "فزعم ابن مسعود" عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن الهذلي ابن أم عبد الصحابي الجليل المشهور زعم "أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم" يعني ابن مسعود غني وإلا فقير؟ نعم محتاج، والفقر ليس بعيب ولا ذم، هذا من خيار الأمة ابن مسعود ((من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد)) ومقامه ومناقبه لا تحصى -رضي الله عنه وأرضاه-، ولديه حاجة يحتاج والحاجة ليست بعيب ولا نقص.
وكل كسر فإن الدين يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبرانُ
ابن مسعود من كملة الرجال، ومع ذلك محتاج، والتفاضل إنما هو بالتقوى لا بالمال.
"زعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم" تعني زوجها "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم)) " ما دامت الحاجة موجودة في البيت والصدقة صدقة نفل تطوع، فلا شك أن إنفاقها على الزوج والولد أفضل مع الحاجة من إنفاقها على غيرهم.
((صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم)) رواه البخاري.(56/30)
أما بالنسبة لصرف الزكاة فالفرع والأصل لا تصرف لهم الزكاة بالاتفاق، واختلف في الزوج، الزوجة لا تدفع لها زكاة زوجها اتفاقاً؛ لأن نفقتها عليه، فلا يجوز أن يقي ماله بزكاته، الزوجة لا يلزمها نفقة زوجها فهل تدفع الزكاة لزوجها؟ خلاف بين أهل العلم، في حديث الباب يستدل به من يقول: إن الزوجة تدفع الزكاة لزوجها؛ لأن نفقته ليست واجبة عليها، والذي يقول: إن مآل هذه الزكاة أن ترجع إليها إذا دفعتها إلى زوجها ثم أنفق عليها من هذه الزكاة رجعت صدقتها إليها، فلا تجوز، فلا تجوز أن تدفع الزكاة إلى زوجها، والحديث محمول على الصدقة النفل، والمسألة خلافية بين أهل العلم، والأوضح أن الزوج لا يدفع زكاته إلى زوجته وهذا أمر معروف ومقرر عند أهل العلم، وكذلك الزوجة لا تدفع إلى زوجها؛ لأنه سوف ينفق منها عليها فتعود زكاتها إليها.
"رواه البخاري" والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول: هل يسن للخطيب في هذا الزمان –يعني مع وجود المكبرات- أن يفرد في خطبته موعظة للنساء مع أنهن يسمعن جميع الموعظة لتوفر المكرفونات المسمعة؟
هناك أمور تختص بالنساء، وأمور تختص بالرجال، يأتي بالأمور العامة، ثم يثني بما يخص الرجال، ثم إن وجد ما يدعو إلى تخصيص النساء بشيء يخصصهن، ولا يلزم أن ينتقل إليهن في مقرهن، يعني في مصلاهن المعزول عن الرجال، إنما يصل إليهن ما يراد من خلال هذه المكبرات، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ...(56/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر - كتاب الصيام (1)
باب: فرض الصوم
الشيخ: عبد الكريم الخضير
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسالم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن عبد الهادي -يرحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:
كتاب الصيام
باب: فرض الصوم
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه)) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) متفق عليه.
ولمسلم: ((فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين)) وللبخاري: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) وله من حديث أبي هريرة: ((فإن غُبّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)).
وعن أبي مالك الأشجعي عن حسين بن الحارث الجدلي (جديلة قيس) أن أمير مكة خطب ثم قال: "عهد إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما، فسألت الحسين بن الحارث من أمير مكة؟ قال: لا أدري، ثم لقيني بعد فقال: هو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب، ثم قال الأمير: إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني، وشهد هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأومأ بيده إلى رجل، قال الحسين: فقلت لشيخ إلى جنبي: من هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال: هذا عبد الله بن عمر وصدق.
عبد الله بنُ عمر.
قال: "هذا عبد الله بنُ عمر وصدق، وهو أعلم بالله منه، فقال: بذلك أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" رواه أبو داود وهذا لفظه، والدارقطني وقال: هذا إسناد صحيح متصل.
وعن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه" رواه أبو داود وابن حبان والحاكم، وقال: على شرط مسلم.(57/1)
وعن ابن عمر عن حفصة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وقد روي عن نافع عن ابن عمر قولُه وهو أصح.
قولَه، قولَه يعني من قوله.
عفا الله عنك.
عن ابن عمر قولَه وهو أصح، وقال النسائي: والصواب عندنا أنه موقوف، وقال البيهقي: قد اختلف على الزهري في إسناده وفي رفعه، وعبد الله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه، وهو من الثقات الأثبات.
وعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "دخل علي النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فقال: ((هل عندكم شيء؟ )) فقلنا: لا، قال: ((فإني إذاً صائم)) ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حيس، فقال: ((أرنيه، فلقد أصبحت صائماً)) فأكل، وفي لفظ طلحة -وهو ابن يحيى-: "فحدثت مجاهداً بهذا الحديث، فقال: ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها". رواه مسلم.
وعن سهل بن سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تسحروا فإن في السحور بركة)) متفق عليهما.
وعن سلمان بن عامر الضبي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وهذا لفظه، وصححه ابن حبان والحاكم، وقال: على شرط البخاري.
حسبك يكفي.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله أصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
كتاب الصيام
الكتاب مر التعريف به مراراً في كتاب الطهارة، وفي كتاب الصلاة، وفي كتاب الجنائز، وفي كتاب الزكاة، وهذا هو الموضع الخامس، ولا داعي لتعريفه مرة خامسة.(57/2)
والصيام مصدر صام يصوم صياماً وصوماً، والأصل في الصيام الإمساك، الإمساك عن أي شيء؟ {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [(26) سورة مريم] يعني الإمساك عن الكلام، الإمساك عن الحركة صيام، الإمساك عن المشي صيام، الإمساك عن الأكل والشرب أيضاً وجميع المفطرات صيام، فالأصل في الصيام مادته الإمساك.
والصيام في الشرع هو الإمساك عن المفطرات من أكل وشرب وشهوة بنية من طلوع الفجر إلى غرب الشمس، لا بد أن يكون مستوعباً لهذا الوقت، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، هذا هو الصيام الشرعي، وأما مجرد الإمساك مدة ولو زادت عن هذا القدر، ولا تكون في هذا الوقت فإنها ليست بصيام، إنه الصيام المعتبر المعتد به شرعاً ما كان بنية لله -جل وعلا- فلو أمر الإنسان بالإمساك عن الطعام والشراب من أجل الحمية، وقيل له: لا تأكل ولا تشرب في هذه المدة من أجل الحفاظ على الصحة، فأمسك امتثالاً لأمر الطبيب، ولنفترض أنه من قبل طلوع الفجر إلى ما بعد غروب الشمس، هذا ليس بصيام، وإن كان إمساكاً؛ لأنه لم ينو به ولم يقصد به وجه الله -جل وعلا-.(57/3)
فالصيام لا بد له من نية خالصة لله -جل وعلا- ولو كان نفلاً، فإن الأعمال بالنيات، فإذا لم يكن بنية خالصة لله -جل وعلا- مستوعباً الوقت الشرعي فإنه لا يسمى صياماً، ولو أمسك بنية من طلوع الشمس إلى غروبها هذا أيضاً لا يسمى صيام شرعي؛ لأنه لم يقع في الوقت المحدد شرعاً، فلا بد أن يقع في الوقت المحدد شرعاً من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأن يكون بنية لله -جل وعلا- خالصة، قد يدخل في هذا شيء من التشريك، ويصحح الصيام حينئذٍ، مثل أن يقال له: لا تأكل مدة خمس عشرة سنة يومياً من أجل أن تحافظ على صحتك، أو من أجل أن يجرى لك عملية مثلاً، فأمسك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ناوياً وقاصداً بذلك الصيام ملاحظاً الوصية من الطبيب، فقال: بدلاً من أن أمسك بدون أجر أمسك بأجر وأصوم، ومثله لو نصحه الطبيب بالمشي فقال: بدلاً من أن أمشي في الشوارع أمشي في المطاف، هذا لا شك أن فيه شيء من التشريك، فالباعث والناهز الأصلي ليس هو العبادة، لكن العدول عن المباح إلى العبادة لا شك أن له أجر على هذا العدول، الذي يقول: بدلاً من أن أمسك مدة تزيد على مدة الصيام بدون أجر أنوي الصيام وأتقرب إلى الله -جل وعلا- وفضله واسع، وبدلاً من أن أمشي وأجوب الأسواق طولاً وعرضاً أمشي في المطاف وأتقرب بذلك إلى الله -جل وعلا-، وإن كان ممتثلاً نصيحة طبيب، فإنه يؤجر على نية العدول من المباح إلى المستحب، بعض الناس يصوم ويقوم متقرباً بذلك إلى الله -جل وعلا- لكن لا على هدي النبي -عليه الصلاة والسلام-.(57/4)
فالفارابي أبو نصر في آخر أمره، في آخر عمره جاور في البيت الحرام، ولزم الصيام والقيام، وكان فطوره كما يقولون: على الخمر المعتق وأفئدة الحملان -نسأل الله السلامة والعافية-، هذا الذي يصوم ويجعل فطره على محرم، قد يقول قائل: إن الجهة منفكة، له أجر صيامه، وعليه إثم ما ارتكب من المحرم، قد يقول قائل مثل هذا الكلام، ويرى أن الجهة تنفك في مثل هذا، والفقهاء قد لا يأمرونه بإعادة الصيام لو كان فرضاً؛ لأنه صام الوقت المحدد شرعاً، وترتبت عليه آثاره، وبه سقط الطلب، لكن العلماء الربانيين أرباب السلوك وأطباء القلوب يرون مثل هذا خدش في العبادة، كيف تصلح نيته ويستقيم أمره وقد أفطر على هذا المحرم المجمع على تحريمه؟! وإلا يوجد في الناس اليوم من يفطر على الدخان، يوجد، ولا شك أن مثل هذا فيه، فيه نوع محادة، الله يأمرك -جل وعلا- عن الإمساك عن المباح ثم تفطر على حرام؟! يعني ونظير هذا ما يذكر -هذه ذكرناها مراراً في مناسبات وذكرها المؤرخون في بغداد- أن رجلاً حج من بغداد ثلاث مرات ماشياً، حج ثلاث مرات ماشي على قدميه، ولما عاد من الحجة الثالثة على قدميه آلاف الأميال، دخل بيته فإذا بأمه نائمة فاضطجع بجوارها فأحست به، فقالت: يا فلان اسقني ماءاً، فتثاقل، جاء تعبان من الحج على قدميه فتثاقل، الماء بضعة أمتار، والمشاعر التي قصدها راجلاً آلاف الأميال فكأنه لم يسمع ثم بعد ذلك قالت: يا فلان اسقني ماءاً، ثم لما طلبته الثالثة اسقني ماءاً راجع نفسه، وقال: أمشي آلاف الأميال في حج نفل، وهذا الفرض في أمر الوالدة هذا فرض ليس له فيه مندوحة، وليست له خيرة، وأمتار يسيرة أتردد؟! لا بد أن تكون نيتي في حجي غير صحيحة، فسأل من سأل من أهل العلم، وهنا يؤكدون كما فعل الحافظ ابن رجب -رحمه الله- في شرح الأربعين في جامع العلوم والحكم أن الفقهاء ينقسمون إلى قسمين: فقهاء الظاهر الذين يصححون الأعمال بمجرد اجتماع شروطها وأركانها وواجباتها، وليس لهم هدف وراء ذلك، وإن كان قد يقول قائل: إن النية شرط لصحة العبادة، وهي من اهتمام الفقهاء، لكن إذا قال لهم السائل: أنا حججت بحج توفرت شروطه وأركانه وواجباته، وشرح لهم طريقة الحج، قالوا: حجك(57/5)
صحيح، كما يصححون دفع الزكاة إذا أخذها الإمام قهراً، الزكاة صحيحة ويسقط بها الطلب، لكن ليس لهم شأن فيما وراء ذلك، هل هي مقبولة أو غير مقبولة؟ سأل هذا الحاج الذي حج ثلاث مرار على قدميه من بغداد سأل فقيه، لكن له عناية بأعمال القلوب ممن جمع بين الفقهين، فقال له: أعد حجة الإسلام، النية غير صحيحة، لكن قد تكون النية غير صحيحة في الحجة الأخيرة، أو في الحجة الثانية، وقد تكون صحيحة في الأولى قد تكون صحية في الثانية، المقصود أن مثل هذا الأمر يذكر في مثل هذا المقام، شخص يفطر على خمر، أو يمسك على محرم، لا شك أنه أمسك في المدة المحددة شرعاً، ونوى الصيام من الليل، المقصود أن مثل هذا يجب ملاحظته ومراعاته؛ لئلا يأتي الإنسان .. ، مسألة الخدش في الصيام هذه موجودة، لكن المسألة في الإجزاء.
يعني أحمد أمين وهو القاضي الشرعي يقول: درسنا في مدرسة القضاء الشرعي شخص أعجبه في علمه ورأيه وسمته، يقول: فجأة انقطع عنا فصرت أبحث عنه عشر سنين، فلم أجده، يقول: سافرت إلى تركيا وفجأة رأيت هذا الرجل وقال: إنه انقطع عن الدنيا، فصار صواماً قواماً، انقطع عن الدنيا، ثم ذكر أحمد أمين أن هذا الرجل صيامه يبدأ من الساعة التاسعة صباحاً إلى غروب الشمس، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
هذا ما هو بصيام، والعذر أقبح من الفعل، لماذا؟ قال: لأن في الشقة التي تحته أسرة يهودية، ولا يستطيع أن يقوم في وقت إعداد الطعام للسحور لئلا يزعجهم، يعني الخلل يصل إلى هذا الحد -نسأل الله السلامة والعافية-، يعني هذا تلاعب بالعبادات، ولا شك أن هذا من تلبيس الشيطان على الناس، وله طرق، وله حيل في الدخول على قلوب الناس، يعني مثل هذا انقطع للعبادة، انقطع للصيام والقيام، ثم ماذا؟ -نسأل الله العافية- النتيجة عاملة ناصبة، يتعب في هذه العبادة وفي النهاية هباءً منثوراً، بل وبال عليه؛ لأن هذا ابتداع في الدين.
فالصيام لا بد أن يكون خالصاً لوجه الله -جل وعلا- كسائر العبادات.(57/6)
الصيام ركن من أركان الإسلام بالإجماع، وهو الركن الرابع أو الخامس على خلاف بين أهل العلم، والخلاف في كفر تاركه كالخلاف الذي سقناه في الزكاة، ومثلهما الحج، الأركان الثلاثة قال جمع من أهل العلم بكفر تاركها، ورواية في مذهب الإمام أحمد وقول عند المالكية، وعامة أهل العلم على أنه لا يكفر إذا اعترف بالوجوب، وأنه ليس شيء من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة.
الصيام هو الركن الرابع عند جمهور أهل العلم، وعليه جروا في مؤلفاتهم، وعليه جاءت الرواية الصحيحة عن ابن عمر في صحيح مسلم: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج)) فقال رجل: الحج وصوم رمضان، قال ابن عمر: لا، صوم رمضان والحج.
مع أنه في الصحيحين في البخاري ومسلم من حديث ابن عمر تقديم الحج على الصيام، وعلى هذا بنى الإمام البخاري ترتيب كتابه فقدم الحج على الصيام، ولكن جمهور أهل العلم على أن الصيام مقدم على الحج، أما اختلاف الرواية عن ابن عمر مسلم قدم الصيام، والمتفق عليها قدمت الحج على الصيام، المسألة يعني يلتمس أهل العلم في ذلك، وابن عمر رد على من قدم الحج، مع أنه قدم الحج كما في الصحيحين، والمرجح عند أهل العلم ما في الصحيحين هذا هو الأصل، على ما تفرد به أحد الشيخين، يعني ما في الصحيحين مقدم على ما في صحيح مسلم، فكيف يرد ابن عمر على من استدرك عليه؟
قالوا: إن ابن عمر احتمال أن يكون نسي الرواية الأخرى، يكون نسي، أو أراد أن يؤدب هذا الذي استدرك عليه، أراد أن يؤدب هذا الذي استدرك، تعجب، يعني هل أنت الذي سمعت الحديث من الرسول أو أنا؟ فكيف ترد علي؟ وقد يكون ابن عمر سمع الحديث على الوجهين.(57/7)
"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقدموا رمضان)) " يعني لا تتقدموا رمضان، نهي، ((لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه)) يعني لا يتقدم رمضان بنية الاحتياط لرمضان، أو ابتداء صوم لم يكن يصمه؛ لأن عندنا وقت محدد لدخول الشهر، لا لبس فيه، ولا غبش فيه ولا إشكال، برؤية الهلال، وبعض الناس يحمله التحري والاحتياط على أن يتقدم الناس بيوم أو يومين، وهذا التحري تنطع، وزيادة في دين الله لم يأذن الله بها، ولذا جاء النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، العلة هذه ترتفع بمن كان يصوم مثلاً يوم معين كالاثنين أو الخميس ثم صادف أن يكون آخر شعبان يوم الاثنين هذا لا بأس، يصوم يوم الاثنين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه؛ لأن العلة التي من أجلها جاء النهي ارتفعت، جاء في حديث عمار بن ياسر أن من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-، فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-، ويوم الشك الذي لم ير فيه الهلال، الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال بسبب غيم أو غبار أو قتر، أو ما أشبه ذلك هذا يوم الشك، فلا يجوز صيامه، وأيضاً إذا لم يوجد هذا الشك بأن جزم بأن هذا اليوم من شعبان وهو آخر أيام شعبان أيضاً لا يجوز صومه إلا إذا كان صوم اعتاده الإنسان في غيره من الشهور كان يصوم الاثنين أو الخميس ثم وافق أن يكون هذا اليوم يوم الاثنين أو الخميس.
متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) متفق عليه.(57/8)
إذا رأيتم الهلال هلال رمضان فصوموا، وإذا رأيتم هلال شوال فأفطروا، والمراد بالرؤية الرؤية البصرية بالعين المجردة، ولا يكلف الإنسان أكثر مما أوتي، لا يقال: استعمل آلات تعينك على الرؤية، لكن لو استعمل وثبت أن الهلال ولد ووجد ورؤي فلا مانع كما يستعمل الإنسان في القراءة ما فيها إشكال، لكنه لا يؤمر باستعمال ما يعينه على الرؤية؛ لأن الأصل أن الله -جل وعلا- لا يكلف نفساً إلا ما آتاها، وهذه الآلات لا توجد على كل حال، لو كلف الناس بها فلم توجد، وهي غير موجودة في عهد النبوة، وفي كثير من أحوال المسلمين في البراري والقفار ليس عندهم آلات، إنما كلفوا بما أوتوا، وهي الرؤية بالعين المجردة، لكن استعمال ما يعين على الرؤية لا على سبيل الإلزام هذا لا إشكال فيه.
((صوموا لرؤيته)) ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) يعني مفهومه أننا إذا لم نره فإننا لا نصوم ولا نفطر، لا بنية رمضان ولا بنية غيره، لا نصوم ولا نفطر، ((إذا رأيتموه فصوموا)) والضمير يعود إلى الهلال، هلال رمضان في الجملة الأولى، وهلال شوال في الجملة الثانية، وإن لم يتقدم له ذكر فإنه معلوم كما في قوله -جل وعلا-: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [(32) سورة ص] لم يتقدم لها ذكر.(57/9)
((فإن غم عليكم)) إن خفي عليكم فلم تروه بسبب حائل من غبار أو غيم أو قترة، وما أشبه ذلك ((فاقدروا له)) هذا اللفظ المجمل الذي يحتمل التقدير بالحساب وإكمال شعبان الثلاثين، ويحتمل التضييق {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [(7) سورة الطلاق] يعني ضيق عليه، كما يقول ابن عمر، فيصام هذا اليوم على هذا القول، يعني ضيقوا شعبان واجعلوه تسعاً وعشرين، من باب تفسير القدر هنا بالتضييق، والرواية المفسرة لهذا المجمل لمسلم: ((فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين)) فاقدروا له يعني شعبان ثلاثين، وللبخاري: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) يعني هل بقي لبس فيما يحتمله اللفظ؟ لا لبس فيه، ومع ذلك يذكر عن ابن عمر أنه يصوم مثل هذا اليوم، وعند الحنابلة أيضاً رواية وهي قوية ومقدمة فإن لم ير الهلال لغيم أو قتر أو غبار فظاهر المذهب يجب صومه، يجب صوم هذا اليوم اتباعاً لابن عمر، مع وجود هذه النصوص الصريحة ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) فالقول بأنه يصام وجوباً أو استحباباً قول في غاية الضعف، ومخالف لما جاء في هذه الروايات المفسرة ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) يعني نحتاج إلى أن نفسر الكلمة لغوياً ونحن عندنا ما نفسر بها من الشرع؟ الألفاظ الشرعية تفسر بالمصطلحات الشرعية؛ لأن الشارع إنما جاء لبيان الشرع، نعم إذا لم نجد في الحقائق الشرعية ما يبين لنا المراد، فإننا حينئذٍ نلجأ إلى الحقائق اللغوية، فالحقيقة الشرعية مقدمة في أمور الشرع، فإذا لم نجد في النصوص ما يفسر رجعنا إلى لغة العرب؛ لأن النصوص جاءت بلسان العرب، قد يكون اللفظ يحتمل أكثر من حقيقة شرعية، كالمفلس مثلاً، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((أتدرون من المفلس؟ )) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، كلام صحيح وإلا غير صحيح؟ حقيقة شرعية وإلا غير شرعية؟ شرعية، من وجد ماله عند رجل قد أفلس، المفلس من لا درهم له ولا متاع، لكن الرسول -عليه الصلاة والسلام- أراد أن يبين لهم حقيقة شرعية غير ما يتبادر إلى الأذهان في هذا الباب الذي يريده ويتحدث عنه -عليه الصلاة والسلام-، ((المفلس من يأتي بأعمال)) في بعض الروايات: ((أمثال الجبال من صيام وصدقة(57/10)
وصلاة، ثم يأتي وقد ظلم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، أخذ مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته)) ... الحديث، هذا مفلس، وذاك أيضاً مفلس، وكلها حقائق شرعية، يعني لو طلب منك في الاختبار في باب الحجر والتفليس، وقيل لك: عرف المفلس، أو من وجد ماله عند رجله قد أفلس، اشرح الكلمات التالية: قد أفلس، تقول: من يأتي بأعمال أمثال الجبال؟ تقول: هذا يصح وإلا ما يصح؟ لا يصح، هذه أكثر من حقيقة شرعية، لكن عندنا ((فاقدروا له)) في هذا الباب يعني أكملوا العدة ثلاثين؛ لأنها جاءت مفسرة بنص صحيح صريح ما يحتمل، فلا نحتاج إلى أن نفسر اللفظ بمعنىً صحيح، لكنه لا يليق بهذا الباب، قدر التضييق، وقدر عليه رزقه يعني ضيق عليه رزقه صحيح، لكن لا يليق بهذا الباب كما أنه لا يليق أن نفسر المفلس بمن جاء بأعمال أمثال الجبال نفسر به حديث: ((من وجد ماله عند رجل قد أفلس)) قد يكون ملياً غنياً مكثراً مفلساً، قد يكون، لكن هذا باعتبار وهذا باعتبار، وهنا المناسب لتفسير اللفظ أننا نكمل العدة ثلاثين كما فسره النبي -عليه الصلاة والسلام- في الروايات الأخرى.
وله من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: ((فإن غبي)) يعني أخفي عليكم ((فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) وله، يعني للبخاري من حديث أبي هريرة ((فإن غبي فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) يعني هل يبقى بعد هذا مستمسك لمن يقول: إننا نضيق شعبان ونجعله تسعة وعشرين؟ هل في احتمال وهذا في البخاري؟ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين، يعني اللفظ الأول والذي قبله فأكملوا العدة قد يفهم الإنسان أننا نكمل عدة رمضان، ولا يلزم من هذا أن نكمل شعبان، لكن هذا اللفظ رافع لكل احتمال، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين.
"وعن أبي مالك الأشجعي عن حسين بن الحارث الجدلي (جديلة قيس) أن أمير مكة خطب، ثم قال: عهد إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" أمير مكة صحابي وإلا غير صحابي؟
طالب:. . . . . . . . .(57/11)
نعم، يقول: "عهد إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ننسك للرؤية" يعني نضحي للرؤية، ونحج للرؤية "فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما" لا بد من شاهدين، ولا بد أن يكون الشاهدان عدلين، هذا بالنسبة لشهر النسك، أما شهر رمضان جميع الشهور تثبت دخولاً وخروجاً بشهادة اثنين، شهر رمضان هو محل الخلاف بين أهل العلم كما سيأتي في حديث ابن عمر والأعرابي، لكن حديث الباب جارٍ على الأصل "وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما" شهدا أنهما رأيا الهلال "فسألت الحسين بن الحارث" يعني الذي يروي عنه أبي مالك الأشجعي يروي عن حسين بن الحارث، سأل الحسين بن الحارث من أمير مكة؟ لأنه قال له: إن أمير مكة خطب ثم قال "من أمير مكة هذا؟ قال: لا أدري" لعله نسيه في هذا الوقت "ثم لقيني بعد فقال: هو الحارث بن حاطب" تذكر أو ذكر "فقال: الحارث بن حاطب، أخو محمد بن حاطب، ثم قال الأمير: إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني" وهذا في عهد الصحابة، الصحابة متوافرون، ومع ذلك يتولى المفضول مع وجود الفاضل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل "ثم قال الأمير: إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني، وشهد هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأومأ بيده إلى رجل، قال الحسين: فقلت لشيخ إلى جنبي: من هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ " كأنه لا يراه، يحول بينه وبينه شيء "فقال: هذا عبد الله بن عمر وصدق" يعني الحارث بن حاطب في مصاف ابن عمر في العلم؟ أبداً، هو أعلم بالله ورسوله من هذا الأمير، ومع ذلك إمارته صحيحة، لا يقدح فيها بسبب أنه وجد من هو أولى منه، لا، مذهب أهل السنة قاطبة صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل، نعم الأولى والأكمل أن يتولى الفاضل؛ لأنه هو الذي سوف يدير الأمور على مراد الله ومراد رسوله، لكن إذا تولى المفضول لا سيما في حال الإجبار أو في حال التولية فإنه يجب السمع والطاعة له، ولو اختل فيه بعض الشروط، ولو كان عبداً حبشياً، أما في حال الاختيار فلا يمكن أن يولى في حال الاختيار إلا من تتوافر فيه الشروط.(57/12)
"قال: هذا عبد الله بن عمر وصدق، وهو أعلم بالله منه، فقال: بذلك أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" يعني أمرنا أن نصوم بالرؤية: ((صوموا لرؤيته)) هذا خطاب متجه لكل من يتأتى منه السماع والفهم ورد الجواب، ممن بوشر بهذا الخطاب من الصحابة، وممن يأتي بعدهم إلى قيام الساعة، هذا خطاب للأمة، ولا يعني أنه متجه إلى كل فرد فرد من أفراد الأمة بأن يتراءوا الهلال ويروه جميعاً، والذي لا يراه لا يصوم، لا ((صوموا لرؤيته)) يعني لرؤيتكم إياه، والرؤية تثبت بمن يثبت خبره، وشهر الصيام شهر العبادة من أمور الآخرة بينما الشهور الأخرى شأنها من شئون الدنيا، تترتب عليها أمور دنيوية، فدخولها وخروجها بشهادة، وأما رمضان فدخوله بخبر؛ لأنه عبادة تثبت بسائر الأخبار كالرواية، ولذا يقبل فيها الواحد على ما سيأتي، وتقبل فيها المرأة، ويقبل فيها العبد؛ لأنها رواية، كما تصح رواية المرأة، وتقبل رواية العبد، أما بقية الشهور فالآثار المترتبة عليها أمور دنيوية، ديون، حلول الديون، وما أشبه ذلك كلها لا بد فيها من شهادات كما تثبت الديون بالشهادات، لا بد من شاهدي عدل دخولاً وخروجاً، أما دخول رمضان فباعتباره عبادة من العبادات فيكفي فيه خبر من يثبت الخبر بقوله، وهو العدل الضابط، يعني الثقة.
رواه أبو داود وهذا لفظه، والدارقطني وقال: هذا إسناد صحيح متصل.(57/13)
"وعن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "تراءى الناس الهلال" هذا أمر يهم الجميع، فينبغي أن يهتم به الجميع، بعض الناس كأن الأمر لا يعنيه، نعم إذا عرف من نفسه أنه سواءً تراءى أو لم يتراءى لا فرق لضعف في بصره، هذا ما فيه إشكال، لكن الذي لديه أهلية ويمكن أن يرى الهلال هذا الأمر يهمه كما يهم سائر الأمة، فعليه أن يتراءى مع الناس، ولذلك قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته" ابن عمر فقط "فصام وأمر الناس بصيامه" واحد، لماذا؟ لأنه عبادة تثبت كسائر الأخبار، يعني هل يشترط العدد في الرواية؟ حديث: الأعمال بالنيات ما رواه إلا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع أنه مجمع على صحته، ومجمع على مقتضاه، وهو اشتراط النية في جميع ما يتقرب به إلى الله -جل وعلا-، هذا خبر، ما يتعلق في عبادات الناس يكفي فيه واحد؛ لأن هذه ديانة، والإنسان مؤتمن على دينه، والمسألة مفترضة في ثقة، أما غير الثقة فإنه لا يقبل.
"تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه" رواه أبو داود وابن حبان والحاكم، وقال: على شرط مسلم.
وعن ابن عمر عن حفصة ...(57/14)
قبل ذلك: مسألة الرؤية وأنها معلقة بالرؤية البصرية على ما تقدم بيانه، ولا نكلف فوق ذلك، ولا نعتمد على حساب ولا فلك ولا غير ذلك، وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة القطعية بأن المقدمات الشرعية نتائجها شرعية ((صوموا لرؤيته)) رآه واحد من المسلمين فصاموا، لو اجتمع أهل الفلك كلهم وقالوا: إن الهلال لم يولد، قلنا: مقدمتنا شرعية ((صوموا لرؤيته)) وقد ثبتت رؤيته، مقدمتنا شرعية نتيجتنا شرعية، حكم الحاكم بشاهدي عدل وتعديلهما بواسطة المزكين، وحكم بأن الحق لفلان شرعاً الحق لفلان، المقدمة شرعية والحكم صحيح، ولو تبين خطأه فيما بعد؛ لأنه ما دامت المقدمة شرعية فالنتيجة شرعية، يعني ما رأينا الهلال فأكملنا شعبان ثلاثين فتبين فيما بعد أن شعبان تسعة وعشرين، فلما صمنا ثمانية وعشرين يوم رئي هلال شوال، تكون مقدمتنا شرعية ولا ضير ولا حرج، ولا أدنى حرج فيما صنعنا، اللهم إلا إذا كان هذا نتج من تقصير في الترائي، أما إذا تراءاه الناس فلم يروه، فلا نكلف أكثر من هذا، والحاكم لا يكلف أن يحكم بأكثر من شاهدي عدل، فإذا حكم بأن الحق لفلان، وفي الواقع أن الحق لفلان، المؤيد بالوحي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إنما أنا بشر أحكم على نحو ما أسمع)) فالحكم صحيح والحاكم مأجور أصاب أو أخطأ، فالنتيجة شرعية ما دامت المقدمة شرعية، لو شهد ثلاثة على رجل بالزنا، وكلهم أثبتوا ذلك، وأقسموا على ذلك بأنهم رأوه بأعينهم، وكلامهم مطابق للواقع، هل نقول: هؤلاء صادقون أم كاذبون؟ نعم؟ {فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [(13) سورة النور] ولو رأوه بأعينهم، لماذا؟ لأن المقدمة شرعية ما تم النصاب، فالنتيجة شرعية، هم كذبة ولو رأوه بأعينهم، فلا نكلف أكثر مما نستطيع، فالشرع رتب نتائج على مقدمات، فإذا وجدت هذه المقدمات الشرعية فالنتائج بلا محالة شرعية، ولو لم تطابق الواقع؛ ولا نقول: كم مرة جربنا وطلع الشهر ثمانية وعشرين، إذاً الرؤية لا تنضبط، تنضبط، ولا نكلف أكثر من ذلك ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) هذا خطاب لكل من يصح توجيه الخطاب إليه من الأمة.(57/15)
طيب ((صوموا لرؤيته)) رآه شخص في بلد من البلدان وهو ثقة، لكن ما رأى القاضي أن الشروط تنطبق عليه فرد شهادته، يصوم وإلا ما يصوم؟ هو رآه مؤكداً؟
طالب:. . . . . . . . .
يصوم وإلا ما يصوم؟ يعني مثلما اختلفتم أنتم اختلف أهل العلم.
طالب:. . . . . . . . .
عندك دليل؟ عندك دليل؟
طالب: رآه.
رآه، عندك دليل، الصوم حينما يصوم الناس، والفطر حينما يفطر الناس، يعني افترض أنه رأى هلال شوال يعيد والناس صائمين؟ نفسها ((أفطروا لرؤيته)) نفس الدليل، المسألة خلافية بين أهل العلم، منهم من يرى أنه مكلف في نفسه برؤيته هو، مكلف برؤيته، فإذا رآه عليه أن يصوم، وإذا رآه عليه أن يفطر؛ لعموم: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) ومنهم من يقول: لا، لا يشذ على الناس، ما دام ردت شهادته فرؤيته غير شرعية، وإن كان متحققاً منها فالصوم يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس.
طيب رآه في بلد بعيد، ثم قدم إلى بلد لم ير فيه الهلال في ذلك اليوم، كما حصل في قصة كريب حينما قدم من الشام وهو في صحيح مسلم رأوا الهلال ليلة الجمعة، وفي المدينة ما رئي الهلال إلا ليلة السبت، قدم كريب فلما أكمل ثلاثين قال: أفطروا، فإننا رأينا الهلال، معاوية والناس رأوا الهلال ليلة الجمعة، فقال ابن عباس: لا، لا نصوم حتى نراه، ولا نفطر حتى نراه، نحن ما رأيناه إلا ليلة السبت، فإذا لم نره في هذه الليلة أكملنا العدة ثلاثين، وهذا دليل على اختلاف المطالع، فالشام مطالعه تختلف عن مطالع المدينة، وما في المشرق يختلف عما في المغرب، وكذلك سائر الأقاليم والأقطار، فلكل إقليم مطلعه، لكل إقليم مطلعه الذي يختص به، فقد يرى في اليمن ولا يرى في الشام والعكس.
المقصود أن اختلاف المطالع أمر متيقن، ومقطوع به، ودليله مع الواقع قصة كريب المخرجة في صحيح مسلم.
ثبتت رؤية الهلال في الشام ليلة الجمعة، لكنه في المدينة ما رئي إلا ليلة السبت، ما قال ابن عباس: إننا ما رأيناه وهو في الحقيقة طالع، فنكتفي بتسعة وعشرين؛ لأنه رئي الهلال، واليوم يوم العيد قطعاً، لا، المطالع تختلف، فرؤية أهل الشام لأهل الشام، ورؤية أهل المدينة لأهل المدينة.
طالب:. . . . . . . . .(57/16)
هي دولة إسلامية واحدة، المدينة تبع معاوية.
من أهل العلم من يرى أنه إذا رئي الهلال، رآه من تصح مخاطبته بصوموا لرؤيته، رآه هذا الشخص الثقة في أي بلد، وفي أي صقع، وفي أي قطر من أقطار الأرض، فإن الناس جميعهم يلزمهم الصوم، وهذا معروف عند الحنابلة وغيرهم، لزم الناس كلهم الصوم، في المشرق والمغرب، في المدينة والشام وغيرها، ابن عباس لما رفض الإفطار بخبر كريب، هو ما كذب كريب، ما كذب كريب، صدق كريب، وأنهم رأوه في الشام، لكن في المدينة نختلف عنكم، "قال: هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" يعني كيف يقول قائل: إنه يلزم الناس كلهم الصوم والقصة صحيحة يعني هل يخفى على الحنابلة هذه القصة وهي في صحيح مسلم؟ ما يخفى عليهم، لكن قول ابن عباس: هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتمل أنه أمرهم بأمر خاص يتعلق باختلاف المطالع، وأنه أمرهم بأمر عام وهو قوله: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) فيكون هذا بناءً على فهم ابن عباس من هذا الحديث، فلا يكون ملزماً، الاحتجاج ظاهر وإلا ما هو بظاهر؟ نعم، يعني قد يقول قائل: كيف يسوغ مثل هذا القول مع قصة كريب مع ابن عباس، وابن عباس يقول: هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ يعني هل أمرهم بأمر خاص يتعلق باختلاف المطالع أنكم إذا رأيتموه في بلد لا يلزم بقية البلدان الصوم حتى يروه، أو أنه أمرهم بقوله: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) ولذا القول الثاني له حظ من النظر، يعني ما هو بخطأ قطعاً؛ لأن هذا مبني على فهم ابن عباس، وعلى ما عند ابن عباس من أمر، هل عنده أمر خاص، أو عنده أمر عام ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) وهذا الحديث يحتمل القولين.
طالب:. . . . . . . . .(57/17)
احتمال أن يكون عند ابن عباس خبر خاص يتعلق بالمطالع سمعه من النبي -عليه الصلاة والسلام-، وطبق عليه ما حصل من قول كريب، ويحتمل أن يكون هذا فهم فهمه ابن عباس من عموم حديث: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)) ولذلك تجدون الفتوى وهي من أناس أهل أثر، ما يقال: والله يقلدون مذهب وإلا غيره، لا، الشيخ ابن باز ما يرى مانع من أن يلزم الناس كلهم بالصوم في جميع الأقطار، وأن البلدان يصومون تبعاً لولاتهم وعلمائهم، كل على حسب فهمه، ولا تضييق في هذه المسألة لأنها مسألة قديمة، ومبنية على فهم لابن عباس -رضي الله عنه-.
القصة صحيحة ما فيها إشكال، لكن يبقى النظر في قوله: هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هل هو بأمر خاص يتعلق باختلاف المطالع، فنقول حينئذٍ: القول الثاني لا وجه له، لكن ما بينه ابن عباس فيحتمل أن الأمر الذي أشار إليه ابن عباس هو ما جاء في قوله: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)).
وعن ابن عمر عن حفصة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)).
قبل الفجر معلوم أن الصيام يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهنا قبل الفجر العلماء يقررون أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، هل يتم الصيام من طلوع الفجر دون إمساك جزء يسير من الليل؟ نعم؟ هل يتم استيعاب غسل الوجه إلا بغسل جزء يسير من الرأس؟ لا يتم هذا إلا بهذا، يمثلون لهذه القاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يمثلون بهاتين المسألتين، لا يتم استيعاب جميع النهار من طلوع الفجر إلا بإمساك جزء من الليل، وكذلك غسل الوجه لا يتم استيعابه إلا بغسل جزء من الرأس.
((من لم يبيت الصيام قبل الفجر)) يعني ينوي الصيام قبل الفجر ((فلا صيام له)) لماذا؟ لأن الصيام عبادة، والعبادة من شرط صحتها النية، فلا صيام إلا بنية.
طالب:. . . . . . . . .
يأتي، ((من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)) لأن النية شرط لجميع العبادات والصيام عبادة.(57/18)
"رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي، والترمذي، وقال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وقد روي عن نافع عن ابن عمر قولَه" يعني من قوله موقوفاً عليه، وهو أصح، ولا مانع أن يذكره ابن عمر عن أخته حفصة ترفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم بعد ذلك يفتي به من قوله، ويتظافر على ذلك المرفوع والموقوف.
وقال النسائي: والصواب عندنا أنه موقوف، ولا يمنع أن يكون سند الموقوف أصح وأنظف من أن يكون المرفوع أيضاً صحيحاً.
وقال البيهقي: قد اختلف على الزهري في إسناده وفي رفعه، وعبد الله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه، وهو من الثقات الأثبات.
يعني فيقبل منه الرفع.
ما تقدم من تبييت النية من الليل هذا الأصل فيه العموم ((من لم يبيت الصيام)) الصيام جنس يشم الفرض والنفل، لكن خرج النفل بحديث عائشة.
وعن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: "دخل علي النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فقال: ((هل عندكم شيء؟ )) دخل الضحى، قال: ((هل عندكم شيء؟ )) فقلنا لا، قال: فإني إذاً صائم، ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله أهدي إلينا حيس فقال: أرنيه دعيني أنظر إليه، ((فلقد أصبحت صائماً)) ثم أكل.
وفي هذا يقول أهل العلم: المتطوع أمير نفسه، يعني إن شاء أتم، وإن شاء أفطر، مع أن المسألة عند أهل العلم يختلفون فيمن أفطر بعد أن عزم على صيام النفل من غير عذر، منهم من يلزمه بالقضاء كالمالكية والشافعية، ومنهم من يقول: هو أمير نفسه.
سلمان عزم على أبي الدرداء أن يفطر، وقال له: إن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- لما أخبر قال: ((صدق سلمان)) فأفطر أبو الدرداء.(57/19)
هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، يعني من الضحى، هو ما أكل في أول النهار، لا يقول قائل: أنا والله صليت الفجر وتصبحت بسبع تمرات، ثم لما جاء وقت الفطور يقول: هل عندكم شيء؟ لا، هذا خلاص انتهى، هذا مفطر من الأصل، لكن إذا كان ممسك من قبل طلوع الفجر ثم ما وجد شيء يصح صومه النفل والنية تنعطف، وأجره من انعقاد النية أو من طلوع الفجر؟ نعم؟ فضل الله واسع، ما دام الصيام صحيح، ومعتد به من طلوع الفجر ولو لم تصحبه نية فلا يمنع أن يكون أجره من طلوع الفجر.
من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر.
الركعة الأولى في الوقت وهي أداء، لكن الثانية بالنسبة لصلاة الصبح قضاء وإلا أداء؟ ويش معنى أدرك؟ أدرك الوقت، من أهل العلم من يقول: حتى الركعة الثانية أداء، ما دام في الخبر الصحيح أدرك، فكيف نقول: نوصل لها في غير الوقت؟ على كل حال مثل هذه الأمور مدارها على النصوص.
" ((هل عندكم شيء؟ )) فقلنا: لا، فقال: ((إني إذاً صائم)) ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله أهدي إلينا حيس" تمر مخلوط بسمن ودقيق وأقط، هذا يسمونه حيس "فقال: ((أرينيه، فلقد أصبحت صائماً)) فأكل" فلا مانع أن يفطر المتطوع، لا مانع من أن يفطر المتطوع.
في الحديث الأول، في الجملة الأولى من الحديث: ((هل عندكم شيء؟ )) فقلنا: لا، فقال: ((إني إذاً صائم)) يعني لو كان عندهم شيء أفطر، طيب لو قالوا: عندنا شيء فنوى الإفطار ثم ذهبوا فلم يجدوا شيئاً، هل له أن يقول: إني صائم؟ هل عندكم شيء؟ قالوا: نعم، راحوا بيجيبوا شيء من المستودع ما وجدوا، نوى الإفطار، بيأكل إذا أحضروا، فما وجدوا شيء، هاه.
طالب:. . . . . . . . .
لأن عندنا صورتين: الصورة الأولى ما عندهم شيء استمر صائم، وفي قرارة نفسه أنه يأكل لو كان عندهم شيء فهو فطر معلق.
الصورة الثانية: صائم وعندهم شيء وأكل، هذا ما فيه إشكال، قال: هل عندكم شيء؟ قالوا: نعم، نوى الإفطار، ذهبوا لإحضاره ما وجدوا شيء، فعاد إلى نيته، أو نقول: من نوى الإفطار أفطر كما يقول أهل العلم؟ يقولون: من نوى الإفطار أفطر.
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟(57/20)
طالب:. . . . . . . . .
لو ما أكل، ومن نوى الإفطار أفطر، خلاص شوف كلام أهل العلم، يقولون: ومن نوى الإفطار أفطر، يعني عزم على الإفطار.
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
والنفل، خلاص نوى الأكل، أكل، يعني هو صائم، خلونا على مذهب من يقول: إن الحجامة تفطر، جاءه من يقول له: إن هناك شخص يحتاج إلى التبرع بالدم، يحتاجون إلى لتر، فذهب إلى المستشفى عازماً على التبرع، ثم لما وصل المستشفى قالوا: استغنينا، وهذا مبني على مسألة الحجامة هل تفطر أو لا تفطر؟ وسيأتي الكلام فيها، قالوا: استغنينا، يعود صائم وإلا نقول: نوى الإفطار؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
ما معنى قول أهل العلم: من نوى الإفطار أفطر؟ عازم هذا رائح، ركب السيارة عشرين كيلو يبي يتبرع، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
المقصود أن هذا كلام أهل العلم: "من نوى الإفطار أفطر" فهل يخرج بذلك بمجرد النية؟ نوى قطع صلاته، هو يصلي نوى قطع الصلاة وما قطعها، تبطل وإلا ما تبطل؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
من قال: لا؟ يتوضأ غسل وجهه ويديه ونوى قطع الوضوء يكمل وإلا يستأنف؟ يستأنف؛ لأن قطع العبادة وجد في أثنائها، لكن لو تم وضوؤه وغسل رجليه، ثم حاول نقض الوضوء فعجز، ينتقض وضوؤه وإلا لا؟ ما ينتقض؛ لأنه فرغ من العبادة، لو نوى الإفطار بعد غروب الشمس، يقول: أنا صمت اليوم، والله الظاهر أني ما أنا بحاجة لصيام هذا اليوم، نوى أن يقطع صيامه الذي انتهى، هذا ما ينقطع صيامه، لكن في أثناء العبادة النية مؤثرة في أثناء العبادة.
وفي لفظ: قال طلحة -وهو ابن يحيى-: فحدثت مجاهداً بهذا الحديث، فقال: ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها. رواه مسلم.
استلم الراتب وقال: هذه خمسمائة ريال من الراتب صدقة، وقبل أن يستلمها المتصدَق عليه رجع في صدقته، يلزمه إخراجها وإلا ما يلزمه؟ ما يلزمه، إلا إذا اقترن ذلك بالعهد، قدم من الرياض مريداً العمرة وقبل أن يحرم رجع، يلزمه وإلا ما يلزمه؟ ما يلزمه، لكن بعد دخوله وشروعه في العبادة يلزمه الإتمام، لا سيما المناسك.(57/21)
وعن سهل بن سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)).
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تسحروا فإن في السحور بركة)) متفق عليهما.
((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)) كان اليهود يؤخرون ويتابعهم بعض المبتدعة الذين يؤخرون الفطر حتى تشتبك النجوم.
الله -جل وعلا- كريم، ويحب أن يبادر الإنسان بالأكل من نعمه وفضله إذا حان وقتها، فكونك تؤخر لا يخلو إما أن يكون من باب الاحتياط للعبادة والقدر الزائد على ما شرع الله -جل وعلا- فهذا لا إشكال في دخوله في هذا الحديث: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)) يعني ما لم يشابهوا اليهود في تأخير الفطر حتى تشتبك النجوم، وبعض من ينتسب إلى القبلة يفعل هذا حذو القذة بالقذة، قد يقول قائل: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- واصل وواصل بأصحابه، وقال: ((من كان منكم مواصلاً فليواصل إلى السحر)) يلزمه على ذلك تأخير الفطور، ويبقى مع ذلك أن الناس لا يزالون بخير وهو الفضل أن يفطر الإنسان بعد غروب الشمس مباشرة، وسيأتي ما في الوصال من كلام.
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((تسحروا فإن في السحور بركة)).
السحور: هي أكلة ما قبل الإمساك، ويسن تأخيره، كما يسن تعجيل الفطر؛ للاستعانة به على الصيام، وهو طعام مبارك ((تسحروا فإن في السحور بركة)) وكثير من الناس اليوم ممن ابتلي بالسهر تجده يؤخر طعام العشاء إلى منتصف الليل ثم يستغني به عن السحور فيحرم هذه البركة. متفق عليهما.
وعن سلمان بن عامر الضبي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وهذا لفظه، وصححه ابن حبان والحاكم، وقال: على شرط البخاري.(57/22)
وقال: على شرط البخاري هل هذا الكلام صحيح؟ الحديث مضعف عند جمع من أهل العلم، الذي يروي الحديث عن سليمان بن عامر الضبي امرأة اسمها الرباب بنت صليع، هذه لا تعرف، هذه لا تعرف فكيف يقول الحاكم: على شرط البخاري؟ هل خرج البخاري للرباب هذه التي لا تعرف؟ فليس الأمر كما قال، بل الحديث مضعف بها، وهو من قوله -عليه الصلاة والسلام-، وأمره -عليه الصلاة والسلام- ضعيف، لكنه ثابت من فعله -عليه الصلاة والسلام- من حديث أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء، هذا ثابت عنه -عليه الصلاة والسلام- من فعله، وأما بالنسبة للأمر فليفطر فلا يصح، بل هو ضعيف، نظيره ثبوت الشيء بفعله لا بقوله له نظائر، ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يضطجع بعد ركعتي الصبح، والأمر بالاضطجاع من قوله -عليه الصلاة والسلام- شاذ، أخطأ فيه عبد الواحد بن زياد، ونظيره أيضاً الجلوس بعد صلاة الصبح حتى تنتشر الشمس من فعله -عليه الصلاة والسلام- ثابت، ومن قوله -عليه الصلاة والسلام- والوعد المرتب على ذلك لا يسلم من ضعف، فقد يثبت الخبر من فعله ثم يتوهم بعض الرواة أنه يأمر به ما دام يفعله هو يأمر به، فيهم بعض الرواة ويرويه من قوله، وهذا له عدة أمثلها، ومنها:(57/23)
حديث الباب النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يفطر على رطبات، فإن لم تكن أفطر على تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء، وأما قوله: ((فليفطر على تمر)) فهذا ضعيف؛ لأن فيه الرباب بنت صليع، وهي لا تعرف، المقصود أنه من فعله -عليه الصلاة والسلام- ثابت، ويبقى أنه من قوله لا يثبت، قد يقول بعضهم كما نقول: إن الموقوف يشهد للمرفوع، والمرسل يشهد للموصول، لماذا لا يشهد القول على ضعفه للفعل؟ نعم، القول يختلف عن الفعل، القول مقرون بلام الأمر، فيترتب عليه أن هذا مأمور به، ومجرد الفعل لا يقتضي الأمر، قد يكون تركه خلاف الأولى، لا يقتضي تحريماً ولا كراهة، فمدلول هذا غير مدلول هذا، ففيه حينئذٍ خلف، مثل الأمر بالاضطجاع، ((إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه)) مع أنه ثبت أنه اضطجع، وفرق بين أن يأمر بالشيء وبين أن يفعله -عليه الصلاة والسلام- مجرداً.
طالب:. . . . . . . . .
ويش هو؟
طالب:. . . . . . . . .
فيه كلام لأهل العلم، مضعف عند جمع من أهل العلم.
طالب:. . . . . . . . .
لا أقول: ضعيف، لكنه مضعف، ويرجى الثواب يرجى من الله -جل وعلا-.
يقول: فطور التمر سنة ... رسول الله سنه ... فاز بالأجر من يحلي منه سنه.
سُنة، سَنه، سِنه، هذا مثلث، هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
فطور التمر سُنة ... رسول الله سنه ... فاز بالأجر من يحلي منه سنه
ويش الفرق بينهن؟ سُنة مثل سِنه؟ مثلها؟
يقول: أنا من دولة تعتمد في صومها وفطرها على الحساب الفلكي فهل أصوم وأفطر مع دولة أخرى تعتمد الرؤية حتى ولو خالفت أهل بلدي؟ وماذا أفعل لتفادي الحرج عند صيامي وأهلي مفطرون؟(57/24)
على كل حال مثل هذه الأمور هذه مشكلة ومعضلة، ويعاني منها كثير من المسلمين في البلدان التي تحكم بغير ما أنزل الله، الأقليات يعانون معاناة شديدة في كثير من القضايا الشرعية، وقد يعاني منها من هم بين أهليهم وبين ذويهم، في مجتمع أهله مسلمون، ومع ذلك يلزمون بمقدمات غير شرعية في عبادات عظيمة مثل الصيام ومثل الحج وغير ذلك، وقد يجبرون على دفع الزكوات فتصرف في غير مصارفها، هذه الأمور حقيقة هذا خلل كبير عند المسلمين في كثير من الأقطار، فعلى المسلم أن يتحرى في عبادته لله -جل وعلا- ما يوافق الشرع.
يقول: هل الخطاب في: ((صوموا لرؤيته)) لأهل الزمان أم لأهل المكان؟
لكل من يتجه له الخطاب هذا هو الأصل، نعم لكل من يتجه له الخطاب هذا هو الأصل فيه، ولا يمكن أن يوجه إلى المسلمين فرداً فرداً؛ لأنه لا يلزم أن يراه جميع الناس، وإنما يثبت برؤية بعض الناس الذين يلزم العمل بخبرهم.
بعض الناس يقول في حديث: ((إننا أمة أمية لا نقرأ ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)) الشهر تسع وعشرون، يقول: إن هذا الخطاب بالنسبة لأهل زمانه -عليه الصلاة والسلام- حينما كانت الأمية غالبة، وبعد أن تعلم الناس وعرفوا من العلوم ما يعينهم على الرؤية بالحساب وبالآلات وما أشبه ذلك؟
نقول: هذا الكلام ليس بصحيح، النبي -عليه الصلاة والسلام- بعث لهذه الأمة من وقته -عليه الصلاة والسلام- إلى قيام الساعة.
لو فرض القول باختلاف المطالع فكيف تكون ليلة القدر ليست ليلة واحدة في الوتر من العشر الأواخر من رمضان؟(57/25)
في مثل هذا وفي مثل ساعة الجمعة أنت تتحرى ساعة الجمعة في آخر ساعة من نهار الجمعة وغيرك قد يكون عنده ليل، ومثله الثلث الأخير من الليل، قد تكون أنت في الثلث وهو بالنسبة لك وقت النزول الإلهي، وعند غيرك نهار، والثلث الأخير عنده ... عندك نهار، هذا الإشكال يرد على ليلة القدر التي ذكرت في السؤال وعلى ساعة الجمعة وعلى وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، هل نقول: هذا مشكل أو كل مسلم مطالب بالنصوص حسب قدرته على تطبيقها وما عدا ذلك وما وراء ذلك فإنه لا يطالب به؟ أنت تعرض للنفحات الإلهية في الثلث الأخير في بلدك بغض النظر عن الآخرين، والآخرون يتحرونه في بلدهم، وتحروا في الساعة الأخيرة من نهار الجمعة، أو وقت دخول الخطيب إلى أن تقضى الصلاة، ومثل ذلك ليلة القدر تتحراها في أرجى ليلة وإن كانت ليلة القدر القول المرجح فيها أنها متنقلة، وأنها في كل سنة في ليلة قد تكون غير الليلة التي كانت في السنة الماضية.
المقصود أن الإنسان عليه أن يمتثل هذه النصوص بحسب قدرته على التطبيق، لا يستطيع أن يوفق في وقت النزول الإلهي على جميع الاحتمالات، ما يمكن، ولا في ساعة الجمعة على ما يتفق فيه جميع الأقطار، فأنت مطالب بنصوص صحيحة صريحة امتثل هذه النصوص، وما جاء في هذه النصوص، وما وراء ذلك لا تكلف به.
طالب:. . . . . . . . .
ما عليك من أحد، هذا الثلث الأخير تعرض لنفحات الله، كونه نهار عند غيرك هذا لا يعنيك، وهذا لا يخفى على من نطق بهذه النصوص.
طالب:. . . . . . . . .
إيه هذا في حديث النزول، بعض المبتدعة الذين ينكرون النزول أوردوا مثل هذا الإشكال، وفنده شيخ الإسلام في شرح حديث النزول.
هذا يقول: ولا أدري ما صحة هذا القول: ذكر الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- أن الرؤية المعتبرة هي رؤية أهل مكة استناداً على حديث: ((الحج يوم يحج الناس، والصوم يوم يصوم الناس))؟
لا، لا، على كل حال بالنسبة للحج ما يعتمده أهل مكة، ومن له الولاية على مكة، ومن له ولاية على الحج نعم قوله هو المعتبر، لكن عليه أن يتقي الله -جل وعلا- باعتبار الوسائل الشرعية لإثبات دخول الشهر.(57/26)
المتطوع في الصيام هل يلزمه تبييت النية قبل الفجر أو أنه يجوز له النية ولو في الصباح؟
يجوز له النية في الصباح، مثلما جاء في حديث عائشة.
يقول: كيف يمكن إجابة من قال: إن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة هو إخبار عن الحال وليس عقد النية؟
إيش لون الحال؟ يعني صائم ممسك لم يجد شيئاً، قال: إني صائم، يعني ممسك إمساك لم آكل هذا إخبار عن حال وإلا صائم صيام شرعي؟ لا، أهل العلم فهموا أنه إذا لم يأكل ولو سأل عن الأكل في النفل ولم يجد، ثم عقد النية من وقته فإنه يصح صومه، منهم من يشترط أن يكون ذلك قبل انتصاف النهار قبل الزوال؛ لأن الحكم للغالب.
يقول: ما رأيكم في كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي -رحمه الله-؟ وهل كل الآثار الموجودة فيه صحيحة؟ وكيف أستطيع أن أميز بين الصحيح وغير الصحيح؟
هذا كتاب من أنفس الكتب، ومن أعظم ما يعين طالب العلم على الاستجمام لطلب العلم، وعلى إثارة الهمة العالية في نفسه لطلب العلم؛ لأنه يسمع أخبار العلماء، وصبر العلماء، وجد العلماء، أما ما فيه من الأخبار ففيها ما يحتمل الصحة، وفيها ما لا يحتملها، وعلى كل حال الأخبار التي فيه لا يترتب عليها أحكام.
طالب:. . . . . . . . .
يعني يتسحر، يسهر ثم يأكل قبل وقت السحور، ثم ينام عن صلاة الصبح، وينام طول اليوم، ويقول: إنه صائم، نعم، كونه نام عن الصلوات لا شك أنه ارتكب محرماً، هذا لا يشك فيه أحد، لا يشك أنه ارتكب محرماً، وصيامه لم يحقق الهدف الذي من أجله شرع الصيام {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة] أما كونه يقضيه أو لا يقضيه هذا لا يلزمه القضاء؛ لأنه صام الصوم المعتبر شرعاً بنيته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وكونه ارتكب حراماً هذا لا يعني أنه كما سيأتي في مسألة ارتكاب المحرم من غيبة ونميمة وغيرها، هذا لا شك أنه مؤثر في الأجر المرتب على الصيام، لكن لا يؤمر بإعادته، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(57/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر - كتاب الصيام (2)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سم
بسم الله
والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا، ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال، فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)) فلما أبو أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يومًا، ثم يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال: ((لو تأخر الهلال لزدتكم)) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا" متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله تعالى حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري.
وعن زيد بن خالد الجهني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من فطر صائماً كتب الله له أجره إلا أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، وابن ماجه وابن حبان والنسائي والترمذي وصححه.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لأربه" متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وله عنها -رضي الله عنها- قالت: " كان رسول الله يقبل في رمضان وهو صائم".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم. رواه البخاري.
وعن شداد بن أوس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى على رجل في البقيع وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) رواه الإمام أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، والنسائي وابن حبان والحاكم، وقال: هذا حديث ظاهرة صحته، وصححه أيضاً أحمد وإسحاق وابن المديني وعثمان الدارمي وغيرهم، وقال ابن خزيمة: ثبتت الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)).(58/1)
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: " أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أفطر هذان)) ثم رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد في الحجامة للصائم.
وكان أنس يحتجم وهو صائم. رواه الدارقطني، وقال: كلهم ثقات، ولا أعلم له علة، وفي قوله نظر من غير وجه. والله أعلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، وللبخاري: ((فأكل وشرب)) وللدارقطني والحاكم وصححه: ((من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة)).
وعنه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ولا كفارة، ومن استقاء فعليه القضاء)) رواه أحمد وأبو داود وقال: سمعت أحمد يقول: ليس من ذا شيء، والنسائي وابن حبان وهذا لفظه، والترمذي وقال: حديث حسن غريب، وقال محمد -يعني البخاري-: لا أراه محفوظًا، والدارقطني وقال في رواته: كلهم ثقات، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، ورواه النسائي أيضاً موقوفاً، وقد روي عن أبي هريرة أنه قال في القيء: "لا يفطر".
يكفي.
حسبك.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- بعد أن ذكر فيما تقدم أن الأمة لا تزال بخير ما لم تؤخر الفطر، فالمستحب تعجيل الإفطار، بمجرد التأكد من غروب الشمس.(58/2)
هنا يقول في حديث "أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال" وهو صوم يومين فأكثر دون إفطار بينهما، يعني مواصلة الصيام ليلاً وناراً "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال" ولأن هذا شاق، والدين يسر ((ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)) فالوصال اقتران يومين أو ثلاثة أو أكثر دون فطر بينها في الليل هذا هو الوصال، فثبت النهي عنه عن النبي -عليه الصلاة والسلام- على خلاف بين أهل العلم هل النهي للتحريم كما هو مقتضاه؟ إذا أطلق ما لم يوجد صارف فالنهي للتحريم، وإذا وجد ما يصرفه عن التحريم فإنه يكون للكراهة، وقد يوجد النهي ولا يقتضي هذا ولا هذا إذا كان الملاحظ فيه مصلحة المنهي، ما نهاهم عن الوصال إلا للإبقاء عليهم، يعني خشية المشقة عليهم، ولذا واصل بهم كما في هذا الحديث يومين، ولو تأخر الهلال لزادهم، ولهذا يقول بعض العلماء: إن الوصال جائز، وبعضهم يرى أنه محرم كما هو مقتضى النهي، ومنهم من يقول: هو مكروه، وما جاء في وصاله -عليه الصلاة والسلام- بهم صارف للنهي عن التحريم إلى الكراهة، والذي يقول: إنه مباح، وقد فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- بنفسه وبأصحابه، وإذا كان النهي ملاحظ فيه المكلف فإنه ليس على ظاهره، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لعبد الله بن عمر: ((اقرأ القرآن في سبع ولا تزد)) وابن عمر جاء بنفسية عالية وهمة يريد أن يقرأ القرآن في كل ليلة، قال: لا، ((اقرأ القرآن في شهر)) فقال: إني أطيق أكثر من ذلك، ((قال: اقرأ القرآن مرتين في الشهر، ثلاث في الشهر)) ثم قال له: ((اقرأ القرآن في سبع ولا تزد)) هذا النهي ما فهم منه أحد من أهل العلم أنه لا تجوز قراءة القرآن في أقل من سبع، بل استحبوا قراءة القرآن في ثلاث، واختلفوا فيما دون الثلاث؛ لأنه جاء في الحديث، في السنن: ((أنه لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)) وثبت عن بعض الصحابة كعثمان -رضي الله عنه- أنه كان يقرأ في ليلة، وثبت عن الأئمة كذلك، وخيار هذه الأمة ما فهموا أن قوله: ((ولا تزد)) يفيد الكراهة ولو على أقل الأحوال، المقصود أن الوصال فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- ونهى عنه، حتى قال بعضهم: إن(58/3)
الوصال من خصائصه -عليه الصلاة والسلام-، والعلة تدل على ذلك.
"نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال، فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل؟ " يعني بعض الناس إذا قيل له شيء قال: وأنت، يعني بعض الناس عنده شيء من الجرأة على مثل هذا الكلام، ولا يظن بهذا الصحابي إلا أنه يريد أن يستوثق من الحكم، ويتأكد، وعنده شبهة في وصال النبي -عليه الصلاة والسلام- "فقال رجل من المسلمين: فإنك يا رسول الله تواصل؟ " ليس من باب المعاندة أو من باب المواجهة بما لا يريده النبي -عليه الصلاة والسلام-.
"فإنك يا رسول الله تواصل؟ " يريد أن يكشف هذه الشبهة "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)) " هذا الطعام وهذا الشراب الذي يطعمه الله -جل وعلا- نبيه -عليه الصلاة والسلام- قال بعضهم: إنه طعام وشراب حقيقي يستفيد منه البدن كما يستفيد من الطعام والشراب، لكن لو كان هذا الطعام والشراب حقيقياً هل يثبت حكم الوصال حينئذٍ؟ يعني إذا كان الجواب أنا لا أواصل؛ لأني آكل وأشرب، لكنه يواصل بالفعل، أقرهم على الوصال، ولا يأكل -عليه الصلاة والسلام-، قال بعضهم: إن هذا من طعام الجنة وشراب الجنة، طعام الجنة وشراب الجنة لا يفطر الصائم قالوا، ((أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني)) ولا شك أنه مشكل؛ لأنه إن كان طعاماً وشراباً حقيقياً فإنه لا يثبت معه حكم الوصال، وإن لم يكن طعاماً وشراباً حقيقياً فإنه لا يوجد في الحقائق الشرعية ولا العرفية ولا اللغوية طعام معنوي، هل يصح أن تقول: شربت وأكلت وأنت ما أكلت ولا شربت على سبيل الحقيقة لا اللغوية ولا الشرعية ولا العرفية؟ هل تستطيع أن تقول: طعمت وشربت وأنت ما أكلت ولا شربت طعاماً حقيقياً؟ إلا على ضرب من المجاز، أو قل إن شئت وهو أولى: المشاكلة، سماه طعاماً وشراباً من باب المشاكلة؛ لأنه ينتفع به، بهذا الغذاء المعنوي، كما ينتفع بالطعام والشراب، يعني كما قال القائل:
قالوا: اقترح شيئاً نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقيمصاً(58/4)
فإما أن نقول: هذا مشاكلة ومجانسة، وهم لا يرون ما ينتفع به إلا الحقيقي الطعام والشراب، النبي -عليه الصلاة والسلام- كما قال ابن القيم: يفيض عليه الله -جل وعلا- من العلوم والمعارف بسبب التجاءه إليه في هذه الليالي المباركة، يفيض إليه من هذه العلوم والمعارف وهي معنوية ما يغنيه عن الطعام والشراب، ما يغنيه ويقوي بدنه على العبادة، وهذا يغنيه عن الطعام والشراب، فإما أن نقول: إن هذه العلوم وهذه المعارف وهذا الغذاء المعنوي حقيقة الطعام الشرعية، حقيقة للطعام شرعية، مثل الطعام والشراب المحسوس، فيكون للطعام حقيقتان شرعيتان، كما قلنا في المفلس، حقيقة للطعام الحسي، وهذا هو الأصل، وحقيقة شرعية في الطعام المعنوي، ويدل له هذا الحديث، فإما أن نقول: للطعام حقيقتان شرعيتان، وإما أن نقول: إن إطلاق الطعام على ما يتقوى به -عليه الصلاة والسلام- من الأمور المعنوية، من باب المشاكلة، مجانسة، تنزل في التعبير {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى].
قالوا: اقترح شيئاً نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقيمصاً
فإما هذا وهذا وحينئذٍ لا إشكال، إذا قلنا: مشاكلة ما في إشكال؛ لأنه لا يرد على حقيقة الوصال أنه يأكل ويشرب.(58/5)
"فلما أبو أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يومًا، ثم يومًا، ثم رأوا الهلال، فقال: ((لو تأخر الهلال لزدتكم)) كالمنكل لهم" المعاقب لهم على اعتراضهم، المعاقب لهم على إلحاحهم واعتراضهم وإلحاحهم على نهيه -عليه الصلاة والسلام-، لا يظن بهم الاعتراض على الحكم الشرعي، وإنما هو سببه الرغبة في الخير، وإنما سببه الرغبة في المزيد من الخير، كما تذاكر الثلاثة عبادات النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال أحدهم: إنه يقوم ولا ينام، وقال بعضهم: يصوم ولا يفطر، وقال بعضهم: لا ينكح النساء، فبلغ ذلك النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا لا شك أن الباعث عليه هو الرغبة في الخير، لكن كم مريد للخير لا يصيبه، هذا خلاف سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يقوم وينام، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء، قال: ((فمن رغب عن سنتي فليس مني)) النبي -عليه الصلاة والسلام- لما نهاهم عن الوصال وراجعوه في الوصال، قالوا: إنك تواصل، وأصروا على ذلك، أبوا أن ينتهوا عن الوصال لمزيد رغبتهم في الخير "واصل بهم يومًا، ثم يومًا، ثم رأوا الهلال" ولو لم يروا الهلال لزادهم في الوصال، لزادهم ثالث ورابع، حتى ينقطعوا عن اعتراضهم، وحتى يعرفوا أن ما دلهم النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الأكمل، فلا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرهم منه.
"كالمنكل لهم" معاقب لهم -عليه الصلاة والسلام- "حين أبوا أن ينتهوا" متفق عليه، واللفظ لمسلم".(58/6)
وبناءً على هذا النبي -عليه الصلاة والسلام- نهى عن الوصال، قال بعضهم: إن الوصال محرم؛ لأنه هو الأصل في النهي إذا أطلق، ومنهم من قال: إنه مكروه، وليس بمحرم بدليل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- واصل بهم، ولو كان الوصال محرماً لما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام-، قد يكون هذا من خصائصه لكن لما واصل بهم، لما أقحمهم في محرم، ولما عاقبهم بمحرم، فقالوا: إن الوصال مكروه، ومنهم من يقول: إنه ما دام الوصال سببه الشفقة عليهم، والإبقاء عليهم فإنه لا يصل إلى حد الكراهة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((فمن كان منكم مواصلاً فليواصل إلى السحر)) فالوصال إلى السحر جائز، لكن يبقى أنه خلاف الأولى، فالأولى أن يبادر بالفطر إذا تحقق من مغيب الشمس.
"وعنه -رضي الله عنه-" يعني عن أبي هريرة، راوي الحديث السابق "وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري".
الله -عز وجل- طلب من عباده أن يعبدوه، وخلقهم لذلك، فتحقيق العبودية هي الحكمة من وجود الثقلين، طلب منهم أن يعبدوه، وأراد منهم ذلك على الوجه الذي جاء عنه، وعن نبيه -عليه الصلاة والسلام-، لكن إذا كانت هذه العبادة على غير مراد الله، وعلى غير مراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هل تكون مطلوبة؟ إذا كان فيها مخالفة، أما إذا كانت المخالفة مضادة لأصل المشروعية فالعمل باطل، وإذا كانت المخالفة في أمر خارج عن أصل المشروعية عن ذات المطلوب، أو شرطه أو جزئه المؤثر، فالعبادة تصح ويسقط بها الطلب، لكن يبقى الإثم كما هنا ((من لم يدع قول الزور)) هذا صائم، ومع ذلك يتكلم في أعراض الناس، ويزاول ما حرم الله -جل وعلا- من آفات اللسان، كالكذب وشهادة الزور والغيبة والنميمة، وما أشبه ذلك، هذا كله زور لازوراره وميله عن الحق، ومن عظائم الأمور، بل من الموبقات التي كررها النبي -عليه الصلاة والسلام- شهادة الزور، ولا يلزم أن تكون شهادة الزور في الأمور المادية، هذا هو أصلها، وهو أوضح ما توجد فيه، لكن قد توجد شهادة الزور في أمور معنوية، و ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)).(58/7)
((من لم يدع قول الزور)) من لم يترك، وهذه المادة التي هي الودع، بمعنى الترك استعمل المصدر فيها، الأصل: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات)) يعني عن تركهم، وهنا ((من لم يدع)) من لم يترك، ((دع ما يريبك)) يعني اترك، يقول أهل العلم: إن الماضي من هذه المادة قد أميت، ما استعمل، ودع بمعنى ترك، استغني عنه بترك، وأما ما يذكر من قراءة "ما ودعك ربك" هذه قراءة شاذة.
((من لم يدع)) يعني من لم يترك ((قول الزور)) القول الباطل المنهي عنه الذي لا يقرب إلى الله، بل يبعد من الله -جل وعلا-، وهو من آفات اللسان؛ لأنه قال: ((وهل يكب الناس على وجوههم -أو قال-: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)) هذا الذي يستعمل اللسان في القيل والقال، في المباح والمحظور، السلف -رضوان الله عليهم- كانوا يحفظون الصيام بالمكث في المساجد؛ لئلا ينجروا إلى الكلام من الكلام المطلوب من الذكر والتلاوة إلى الكلام المباح في القيل والقال، والذي لا يتورع في مثل هذه الظروف عن الكلام المباح يجره إلى الكلام المكروه؛ لأن اللسان له ضراوة إذا اعتاد شيئاً ما استطاع أن يتركه، لا يستطيع أن يتركه.
((من لم يدع قول الزور والعمل به)) يعني بمقتضى هذا القول كان كلاماً ثم بعد ذلك جره ذلك إلى العمل، أو يقال: إن قول الزور هو في الحقيقة عمل، عمل اللسان، والعمل به.
((فليس لله تعالى حاجة)) يعني لا تدخل تحت مراد الله -جل وعلا- الذي من أجله خلق الخلق، وهو تحقيق العبودية، هذه العبودية ليست تحت مراد الله -جل وعلا-، فإن الله -جل وعلا- لا يريد مثل هذا العمل، وإلا فالله -جل وعلا- غني عن عبادات العابدين ((لو أن إنسكم وجنكم)) ((لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)) الله -جل وعلا- غني عن عبادات الخلق، لا تضره المعصية، ولا تزيده الطاعة، لكنه يفرح ويريد إرادة شرعية وكونية أن يعبد.(58/8)
((فليس لله تعالى حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) وليس معنى هذا أن الصيام يبطل، لا، قد يكون ثواب الصيام مقاوماً بقول الزور، فلا يترتب عليه أثر، والصيام الذي لا يحقق العلة التي من أجلها شرع الصيام، لا ينتفع به الإنسان، نعم قد يسقط به الطلب، ولا يؤمر بالإعادة، لكن الذي لا يحقق التقوى هذا تترتب عليه آثار، ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)) ((ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن)) لكن الصيام الذي لا يحقق العلة لا تترتب عليه هذه الآثار {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة] الذي لا يؤثر فيه صيامه ويقوده إلى التقوى هذا لا ينفع، كما أن الصلاة التي لا تؤدى على وجهها فإنها لا تترتب عليها آثارها لا من حيث الأجر، ولا من حيث الانتفاع في الواقع العملي {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [(45) سورة العنكبوت] كثير من الناس يصلي ولا تنهاه صلاته؛ لأنها لم تقع على مراد الله -جل وعلا-، ومراد رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وهكذا الصيام.
فكما أن المصلي قد يخرج من صلاته وليس معه شيء من الأجر، أو معه شيء يسير كالعشر، هذه الصلاة يقول شيخ الإسلام: إن كفرت نفسها فبها ونعمت، يكفي أن تكفر نفسها، لا أن تكون كفارة لما بينها وبين الصلاة الأخرى، وكذلك الصيام، وكذلك الحج وسائر العبادات، فعلى المسلم أن يحرص أن تكون عباداته كلها مؤثرة في واقعه، مقربة إلى ربه "رواه البخاري".
"وعن زيد بن خالد الجهني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من فطر صائماً كتب الله له مثل أجره)) " من فطر صائماً ولو على شيء يسير، على تمرة، على جرعة ماء، ومذقة لبن، لا يلزم أن يفطره بما يشبعه، المقصود أنه ينقله من حال الصيام إلى حال الإفطار بالطعام.
" ((من فطر صائماً كتب الله له مثل أجره)) " والدال على الخير كفاعله، فضل الله واسع، الذي يتسبب في تفطير الناس ولو لم يكن من ماله يكتب له من الأجر مثل أجر المفطر؛ لأن الدال على الخير كفاعله.(58/9)
((من فطر صائماً)) صائماً: نكرة في سياق الشرط، فتعم، لا يلزم أن يكون الصيام صيام الفرض، بل جميع أنواع الصيام ((له مثل أجره)) له مثل أجره، هل للإنسان أن يقول: أنا أبحث عن صائم أجره كامل من عباد الله الصالحين الأخيار الأتقياء؛ ليكون لي مثل أجره، أو يكفيني صيام أي مسلم، ولو كان من النوع السابق الذي خرق صيامه بقول الزور؟ هذا يجعل الإنسان يحرص على أن يفطر الصالحين؛ ليكون له مثل أجورهم، يعني فرق بين أن تفطر رجل صالح أجر صيامه كامل تام، وبين أن تفطر شخص وإن كان فيه أجر، ولك أجر بقدر نيتك، لكن فرق بين من يقول الزور ويعمل به، وبين من يغتاب وينم بين الناس، وبين من حفظ صيامه عن هذا كله.
((فله مثل أجره، إلا أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) وبعض الناس لا يحرص على أن يأكل من فطور غيره؛ ليدخر الأجر لنفسه كاملاً، نقول: يا أخي لا تبخل على أخيك، أنت أحضر طعامك، وكل من طعام أخيك، ودع أخاك يأكل من طعامك؛ لتنال أجره، وينال أجرك، أما بعض الناس أبداً أول ما يأكل من طعامه ثم يأكل من طعام الآخرين، هذا بخل، كل من طعام أخيك، ولا ينقص من أجرك شيء، ودع أخاك يأكل من طعامك، تبادلوا مثل هذا الشعور لتحصل لكم عظائم الأجور ((إلا أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء)) بعض الناس تجده يحضر تمرة في جيبه ثم يجلس مع الناس، هذا صاحب الطعام فرح بهذا الرجل الذي جاء ليفطر من طعامه، ثم يخرج هذه التمرة يأكلها، ثم يأكل من طعام الآخرين، هذا بخيل هذا، قد يقول: أنا لا أطيق المنة، نقول: يا أخي إذا كنت لا تطيق المنة أحضر طعامك ليعرف أنه لا منة لأحد عليك، ودع الناس يأكلون من طعامك لتنال مثل أجورهم، وأفطر من طعام أخيك الذي أراد إكرامك، وحرص على أن يحصل على مثل أجرك.
"رواه الإمام أحمد وهذا لفظه، وابن ماجه وابن حبان والنسائي والترمذي وصححه" لكنه لا يصل إلى حد الصحيح، إنما هو حسن.(58/10)
قال -رحمه الله-: "وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم" يقبل، التقبيل معروف "وهو صائم، ويباشر" المباشرة مس البشرة من غير حائل، لا يفهم منها أنه يفعل مع امرأته كما يفعل وهو مفطر، لكنه لا يجامع، إنما يباشرها، يعني أنه يمس بشرتها من غير حائل، وهو صائم.
تقول عائشة: "ولكنه كان أملككم لأرَبه" يعني لحاجته، وضبط أيضاً لإرْبه، يعني عضوه، لا شك أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يملك هذه الأمور، فلا يحصل في عبادته ما يخدشها، بخلاف غيره الذي قد يسترسل في مثل هذا الأمر، وقد لا يكون من النوع الذي يضبط نفسه، فلا يملك إربه، أو أربه، فيحصل في صيامه الخدش والنقص، ولا بد من ملاحظة ما ذكرته عائشة -رضي الله عنها-، إذ ليس كل إنسان يباح له مثل هذا الفعل، يعني بعض الناس يسمع مثل هذا الخبر، ويقول: الرسول يقبل وهو صائم، إذاً لماذا لا نقبل؟ بل قد قال بعضهم: إنه يستحب له ذلك اقتداءً بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، غافلاً أو متغافلاً عما ذكرته عائشة -رضي الله عنها- "ولكنه كان أملككم لأربه" يعني لحاجته وشهوته، فلا يحصل في صيامه ما يخدشه، نعم قد يوجد من بعض الناس من هو كذلك، يملك أربه، ولا يخرج منه شيء بسبب التقبيل والمباشرة، وبعض الناس لا يملك، فالذي يغلب على ظنه أنه لا يملك أربه مثل هذا لا يجوز له أن يستعمل شيئاً من ذلك.(58/11)
جاء في خبر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سأله سائل عن القبلة فرخص له، وسأله آخر فلم يرخص له، فإذا بالأول شيخ، وإذا بالثاني شاب، يعني لا شك أن الشيخوخة مظنة لضعف الشهوة، وأن الشباب مظنة لقوة الشهوة، لكن مع ذلك العلة من كانت متحققة فيه "ولكنه كان أملككم لأربه" فله أن يفعل ما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإذا لم يتحقق فيه ذلك فليس له أن يفعل، وبعض الناس يكون حديث عهد بزواج، شاب يتزوج شابة، وينامان في نهار رمضان في لحاف واحد، ثم بعد ذلك يعرض نفسه للإثم بإبطال صيامه، ثم يقول: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أنا والله ما استطعت، نقول: يجب عليك أن تبتعد عن زوجتك، إذا كنت غير مالك لإربك، يجب عليك أن تبتعد؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به والصيام إلى غروب الشمس واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكم من إنسان وقع في مثل هذا، كم من إنسان على ما سيأتي في حديث الأعرابي وقع في مثل هذا، مثل هذا لا يجوز له أن ينام مع زوجته في نهار رمضان؛ لأنه لا يتم الواجب وهو إتمام الصيام إلى غروب الشمس إلا بابتعاده عن زوجته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
"متفق عليه، واللفظ لمسلم".
"وله عنها -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله يقبل في رمضان وهو صائم" على ما تقدم؛ لأنه كان -عليه الصلاة والسلام- أملك لإربه، يملك شهوته، فلا يحصل منه ما يخدش الصيام.
ثم قال -رحمه الله-:
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم" وفي بعض الروايات: "احتجم وهو صائم محرم" لم يثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه صام حال إحرامه، إلا ما حصل في يوم عرفة أنه صام في يوم عرفة، ثم أفطر لما رأى الناس، فإن كانت حجامته في ذلك اليوم قبل فطره -عليه الصلاة والسلام- اتجه، وإلا فالرواية شاذة.(58/12)
"احتجم -عليه الصلاة والسلام- وهو محرم" نعم هذا في الصحيح، رواه البخاري ولا كلام "واحتجم -عليه الصلاة والسلام- وهو صائم" وهو كذلك في البخاري، وإن قال بعضهم: إن هذه الرواية شاذة؛ لما يعارضها من الأحاديث التالية، نعم فيه تعارض بين احتجامه -عليه الصلاة والسلام- وهو صائم، في الحج سيأتي حكم الحجامة للمحرم، وما يترتب عليها من قطع لشعر، وما أشبه ذلك، هذا سيأتي، لكن الذي عندنا "واحتجم وهو صائم" وهذا في البخاري، وهو من حديث ابن عباس.
والذي يليه من حديث "شداد بن أوس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى على رجل في البقيع وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي" يقول شداد بن أوس: "وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) " هناك تعارض بين حديث ابن عباس وهو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- احتجم وهو صائم، حتى قال بعضهم: إن هذه الرواية غير محفوظة، هي مخرجة في الصحيح، نعم احتجم وهو صائم محرم حكم عليها جمع من الحفاظ بأنها شاذة، أما رواية احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم، يعني الإحرام على حدة، والصيام على حدة هذه مسألة أخرى، وبعضهم قال: هي كسابقتها غير محفوظة، وقال بأن الحجامة تفطر الصائم، على ما جاء في حديث شداد بن أوس.
حديث شداد بن أوس متقدم على حديث ابن عباس كما قال الإمام الشافعي، وقرره الإمام الشافعي بأن حديث ابن عباس ناسخ لحديث شداد بن أوس، إذاً على هذا الحجامة لا تفطر الصائم؛ لأن حديث ابن عباس متأخر عن حديث شداد، وهذا ما قرره الشافعي، وهو قول جمهور العلماء، أن الحجامة لا تفطر الصائم، وحديث شداد بن أوس لا سيما إذا حكمنا على حديث ابن عباس بأنه غير محفوظ، وحديث شداد محفوظ، ((أفطر الحاجم والمحجوم)) قال به الإمام أحمد، وقال: إن الحجامة تفطر الصائم.
وهذا ما يرجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ويفتي به كثير من أهل العلم الآن، والجمهور على أن الحجامة لا تفطر الصائم، وأن حديث شداد بن أوس منسوخ بحديث ابن عباس.(58/13)
ومما قالوه في الباب، وهو من كلام ابن عباس أن الفطر مما دخل لا مما خرج، والوضوء مما خرج لا مما دخل، الفطر مما دخل لا مما خرج، فعلى هذا الحجامة والقيء لا تفطران الصائم، والوضوء مما خرج لا مما دخل، طيب هذا لا يستقيم طرداً ولا عكساً، الوضوء من لحم الإبل مما دخل وإلا مما خرج؟ مما خرج، لكن قد يقول قائل: إن القائل لا يقول بنقض الوضوء من لحم الإبل، ولا يقول بالفطر بسبب الحجامة ولا القيء، فيكون مستقيم على رأيه، كلامه مستقيم على رأيه.
"أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى على رجل في البقيع وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) رواه الإمام أحمد وأبو داود وهذا لفظه، والنسائي وابن حبان والحاكم، وهو حديث ظاهرة صحته" نعم ((أفطر الحاجم)) لماذا؟ أفطر الحاجم لأنه قد يتسرب إلى جوفه شيء مما يخرج من الدم فيفطر به، والمحجوم أن الحجامة تضعفه، وإذا قلنا بمثل هذا التعليل قلنا: إن الحجامة مظنة للفطر، لكنها ليست مفطرة لذاتها، مظنة للفطر؛ لأن من فعل ذلك يؤول أمره إلى الفطر إذا لم يحتط لنفسه، لا سيما الحاجم فإنه سوف يفطر بما يتسرب إلى جوفه من الدم، والمحجوم يؤول أمره إلى الفطر؛ لأن إخراج الدم سوف يضعفه ثم يحمله ذلك إلى الفطر، فيكون مظنة، والمظنة إذا كانت غالبة تنزل منزلة المئنة، كما يقول أهل العلم، يعني مثل النوم، النوم مظنة للحدث وليس بحدث، ومع ذلك يقرر أهل العلم أنه ناقض للوضوء بالشروط التي ذكروها، والقيود التي اعتبروها، وهذا مثله.(58/14)
منهم من يقول: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) لأنه مر على رجلين أحدهما يحجم الآخر، وهما يغتابان الناس، فقال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) ابن خزيمة في صحيحه انتقد هذا الكلام، يقول: هذا القائل هل يقول بفطر المغتاب؟ هل يقول: إن الغيبة تفطر الصائم؟ ((أفطر الحاجم والمحجوم)) لأنهما يغتابان الناس، طيب هل يقول قائل هذا الكلام: بأن الغيبة تفطر؟ استدرك عليه ابن خزيمة، المغتاب آكل، شاء أم أبى، آكل لحم أخيه ميتاً، كما جاء النص على ذلك في القرآن، والآكل مفطر، وقد يكون الفطر حقيقي، وقد يكون معنوياً، فقوله: ((أفطر)) لأنه أكل لحم أخيه، ولا يلزم من الأكل إذا لم يكن حقيقياً الفطر الحقيقي الذي يبطل الصيام، فهو مفطر باعتباره آكل لحم، كما جاء ذلك في القرآن {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [(12) سورة الحجرات] فهو آكل لعرض أخيه، آكل للحم أخيه، فهو مفطر بهذا الاعتبار، فالأكل معنوي والفطر معنوي ليس بحقيقي.
وعلى كل حال عامة أهل العلم على أن الحجامة لا تفطر، طيب إذا احتاط الحاجم لنفسه، وحجم بآلات كهربائية ما يسمى حاجم؟ هل نستطيع نقول: أفطر؟ هل يمكن أن يقال: أفطر وهو احتجم بآلات كهربائية؟ ولو احتجم بآلات تقليدية، وجزم على بأنه لم يصل إلى جوفه شيء يكون أفطر وإلا ما أفطر؟ ما أفطر حقيقة، وإذا جرى هذا الاحتمال بالنسبة للحاجم فليجرِ الاحتمال بالنسبة للمحجوم، قد يكون الدم المأخوذ منه مما يزيده نشاطاً، إذا كان السبب في كون الحجامة تضعف، فقد تكون الحجامة مما تزيده نشاطاًَ، منهم من يفرق بين من تضعفه الحجامة وبين من لا تؤثر فيه الحجامة، فالذي تضعفه الحجامة يحكم بفطره؛ لئلا يستمر في صيامه فيحصل له نوع من الضرر، والذي لا تضعفه الحجامة يستمر في صيامه؛ لأنه لا يتضرر بذلك، وعلى كل حال مثلما ذكرنا، عامة أهل العلم أن الحجامة لا تفطر، والمذهب عند الحنابلة أنها تفطر، ويختاره شيخ الإسلام وابن القيم، ويفتي به كثير من أهل العلم، ولا شك في ظهور مذهب الجمهور.(58/15)
"رواه الإمام أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، والنسائي وابن حبان والحاكم، وقال: هذا حديث ظاهرة صحته، وصححه أيضاً أحمد وإسحاق وابن المديني وعثمان الدارمي وغيرهم، وقال ابن خزيمة: ثبتت الأخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) " نعم هو مروي من طريق بضعة عشر صحابياً، حتى أوصله بعضهم إلى حد التواتر، لكن الذي قرره أهل العلم من حيث النظر أن حديث ابن عباس متأخر عنه فهو ناسخ، وهذا ما قرره الإمام الشافعي، وأيضاً الكلام في متن حديث: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) أنه يحتمل أن يكون الفطر حسياً، ويحتمل أن يكون معنوياً.
"وعن أنس -رضي الله عنه- قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أفطر هذان)) " يعني الحاجم والمحجوم "ثم رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد في الحجامة للصائم.
وكان أنس يحتجم وهو صائم" أما أنس فهو ثابت عنه أنه كان يحتجم وهو صائم، وأما الخبر قال "رواه الدارقطني، وقال: كلهم ثقات، ولا أعلم له علة" يعني الحديث لا يوجد إلا عند الدارقطني، يعني لا يوجد في دواوين الإسلام، لا الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ولا المعاجم ولا المصنفات ولا الموطئات، لا يوجد إلا عند الدارقطني، ومعلوم أن ما يتفرد به الدارقطني أنه ضعيف، الدارقطني على سبيل الانفراد من مظنة الأحاديث الضعيفة، من مظنة الضعيفة، كما ينسب إلى العقيلي وابن عساكر وابن عدي، وما أشبه ذلك، هذه مظنة للضعيفة.(58/16)
الأمة بأمس الحاجة لمثل هذا الحديث؛ لأنه نص في النسخ "ثم رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد في الحجامة للصائم" يعني ما نحتاج إلى الكلام الذي تقدم، إلى الكلام كله، مع وجود هذا النص، قال: "كلهم ثقات، ولا أعلم له علة، وفي قوله نظر من غير وجه" أولاً: خلو دواوين الإسلام كلها من هذا الحديث علامة على ضعفه، وجعل أهل العلم من الأدلة والأمارات على وضع الخبر أن يفتش عنه في دواوين الإسلام فلا يوجد، إضافة إلى أن متنه منكر؛ لأن هذه القصة كما جاء في بعض طرقها أنها في الفتح، في فتح مكة، وكان قتل جعفر قبل ذلك بمؤتة، وكان قتل جعفر قبل ذلك في غزة مؤتة، ويكفي مثل هذا لتعليل الخبر، إضافة إلى أنه لا يوجد في شيء من دواوين الإسلام المعتبرة إلا الدارقطني الذي هو مظنة للضعيف إذا تفرد، وسنن الدارقطني أشبه ما تكون بكتاب العلل؛ لأنه إمام معلل، إنما يذكر من الأحاديث ما فيه علة غالباً، فإذا تفرد بالخبر فالذي يغلب على الظن عدم صحته، إضافة إلى ما جاء من نكارة متنه، ولو صح لكان نصاً في الباب أن حديث شداد بن أوس منسوخ، على ما قرره الإمام الشافعي.
قال -رحمه الله-: "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، وللبخاري: ((فأكل وشرب)) وللدارقطني والحاكم وصححه: ((من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة)).(58/17)
"عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: من نسي" الناسي يرتفع عنه الإثم، لا إثم عليه إجماعاً {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [(286) سورة البقرة] ثم ما يفعله الناسي حال نسيانه فالنسيان ينزل الموجود منزلة المعدوم، لكنه لا ينزل المعدوم منزلة الموجود، الإثم يرتفع في الحالتين، نسي فزاد شيئاً في صلاته، صلى الظهر خمساً، النسيان ينزل الموجود منزلة المعدوم، هذه الركعة كأنها معدومة، فلا تؤثر في الصلاة، بخلاف ما لو زادها متعمداً فإن الصلاة تبطل، ولكن النسيان لا ينزل المعدوم منزلة الموجود، لو نسي وصلى الظهر ثلاثاً، هل له أن يقول: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ويمشي ويترك تكميل الصلاة؟ لا ليس له ذلك، لا بد أن يأتي برابعة، وإن طال الفصل يعيد الصلاة، هذا النسيان، وهذا ما قرره أهل العلم، الإثم مرتفع اتفاقاً وأما بالنسبة ما يزاد فهذا الزائد مع النسيان حكمه العدم، فينزل الموجود منزلة المعدوم، لكنه لا ينزل المعدوم منزلة الموجود.
صلى ناسياً بغير وضوء، تصح صلاته وإلا ما تصح؟ لا تصح صلاته، لا تصح صلاته؛ لأن النسيان لا ينزل المعدوم منزلة الموجود، أكل من لحم الإبل وصلى ناسياً، لم يتوضأ وهو يرى أن لحم الإبل ينقض الوضوء، نقول: لا بد من أن يتوضأ ويعيد الصلاة؛ لأن النسيان لا ينزل المعدوم منزلة الموجود.
نسي النية في الصيام، نسي، يصح صومه وهو فرض؟ لا يصح؛ لأن النسيان لا ينزل المعدوم منزلة الموجود، لكن نسي وأكل بعد صلاة الصبح أو بعد صلاة الظهر النسيان ينزل الموجود منزلة المعدوم.(58/18)
((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) هذا بالنسبة للأكل والشرب، وهل يطرد ذلك في جميع المفطرات؟ صلى الفجر ونام مع زوجته ونسي أنه صائم فوقع عليها، يفطر وإلا ما يفطر؟ ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب)) منهم من يقول: الحكم واحد، النسيان ينزل الموجود منزلة المعدوم، سواءً أكل أو شرب أو جماع، ومنهم من يرى أن الجماع مفطر؛ لأنه لا يتصور النسيان في هذه المدة كلها، وإن نسي هو ما نسيت الزوجة، لكن المسألة على افتراض النسيان، وقد تكون مدة الأكل والشرب أطول من مدة الجماع، مدة الأكل، الأكل أحياناً يحتاج إلى نصف ساعة، والشرب إذا كان المشروب حاراً كالشاي مثلاً يحتاج إلى وقت، فالقول بأن المدة تعينه على التذكر بالنسبة للجماع، والجماع أمره عظيم بالنسبة للصيام، نقول: الحكم واحد، والمسألة ديانة بين العبد وبين ربه ((الصوم لي وأنا أجزي به)).
الذي يتناسى ويأكل ويشرب أو يجامع هذا حسابه عند ربه، حسابه على الله -جل وعلا-، الذي لا تخفى عليه خافية، الذي يعلم السر وأخفى، فالحكم حينئذٍ واحد.(58/19)
" ((من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، وللبخاري: ((فأكل وشرب)) وللدارقطني والحاكم وصححه: ((من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة)) " فلا قضاء عليه ولا كفارة، وهذا مذهب الجمهور أنه لا يقضي ولا يكفر، وعند المالكية أن من أكل أو شرب ناسياً فعليه القضاء دون الكفارة، ومن أكل أو شرب متعمداً فعليه القضاء والكفارة، والحديث حجة عليهم، والمرجح ما قاله الجمهور استدلالاً بهذا الحديث: ((فلا قضاء عليه ولا كفارة)) يعني من أكل متعمداً ((من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر وإن صامه)) قال بعض أهل العلم: لا يقضي، إذا أفطر متعمداً فإنه لا يقضي، وهو ما يفهم من الحديث: ((لم يقضه صيام الدهر وإن صامه)) وجماهير أهل العلم وعامتهم على أنه يقضي، وإن أفطر متعمداً، وأما ((لم يقضه صيام الدهر)) يعني لم يكفر الإثم الذي ارتكبه ما لم يتب، يعني لو يصوم الدهر وقد أفطر متعمداً يوماً من رمضان فإن إثمه باقٍ، ولا يقابله صوم الدهر، ولا يجبه إلا التوبة، يعني نظير ذلك ما قيل فيمن ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها، يقضي وإلا ما يقضي؟ هذه من غرائب المسائل التي نقل الإجماع على طرفيها، ابن حزم نقل الاتفاق على أنها لا تقضى، وغيره نقل الإجماع على أنها تقضى، على كل حال الأئمة الأربعة وأتباعهم كلهم يقولون: يجب عليه القضاء مع التوبة، يعني ولو أخرها متعمداً، ولو أفطر يوماً من رمضان متعمداً، يجب عليه أن يتوب ويقضي ما أخل به.
"وعنه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من ذرعه القيء)) " يعني سبقه، بادره، فلم يستطع رده، ((من ذرعه القيء فلا قضاء عليه)) لأنه مغلوب، ليس أمره بيده، كما لو احتلم وهو نائم هذا الأمر ليس بيده، فلا يفطر به، ولا قضاء عليه ((ومن استقاء فعليه القضاء)) ومن استقاء يعني طلب القيء، السين والتاء للطلب، طلب القيء، وتعمد القيء فعليه القضاء، عليه أن يقضي، إذا طلب القضاء وتعمده.(58/20)
"رواه أحمد وأبو داود قال: سمعت أحمد يقول: ليس من ذا شيء" إيش معنى "ليس من ذا شيء؟ " ليس من ذا شيء يعني يثبت "والنسائي وابن ماجه، وهذا لفظه، والترمذي وقال: حديث حسن غريب" مع أن المذهب عند الحنابلة أن من استقاء فقاء أفطر، ويلزمه القضاء.
"والترمذي وقال: حسن غريب، وقال محمد -يعني البخاري-: لا أراه محفوظًا" يعني لا أظنه محفوظاً، "والدارقطني، وقال في رواته: كلهم ثقات، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، ورواه النسائي أيضاً موقوفاً، وقد روي عن أبي هريرة أنه قال في القيء: ((لا يفطّر)) " أو لا يفطِر، يعني مقتضى قول من يقول أن الفطر مما دخل لا مما خرج أن القيء لا يفطر كالحجامة، ومن يصحح هذا الحديث وهو قابل للتصحيح قال: إذا تعمد القيء فإنه يفطر، أما من ذرعه القيء وسبقه القيء وغلبه القيء فإنه لا قضاء عليه، ولا يفطر بذلك، والحديث مختلف فيه.
"قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ليس من ذا شيء" يعني لا في حال الغلبة ولا في حال الاستدعاء، مع أن المعروف في مذهبه أن القيء بل طلب القيء واستدعاء القي مفطر.
الترمذي قال: حسن غريب، وفي الغالب وبعضهم يطرد ذلك، لكنه ليس بمطرد في الغالب، أنه إذا قال في حديث: "حسن غريب" يعني ضعيف، وهذا أغلبي، وليس بكلي، كما يقول بعضهم.
"وقال: قال محمد -يعني البخاري-: لا أراه محفوظًا، والدارقطني وقال في رواته: كلهم ثقات، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، ورواه النسائي موقوفاً" يعني على راويه وهو أبو هريرة، كيف البخاري -رحمه الله تعالى- لا يثبت عنده الخبر ويثبت عند غيره من يرجح؟
طالب:. . . . . . . . .
من الأئمة كأحمد مثلاً؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني لو افترضنا أن البخاري قال: هذا حديث ليس بصحيح، وصححه أحمد، أو صححه غيره من الأئمة المعتبرين.
طالب:. . . . . . . . .
والله ما أدري ويش أنت تقول؟ انقلوا كلامه يا الإخوان؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني يرجح قول البخاري أو غيره؟
طالب:. . . . . . . . .
البخاري؛ لأنه إمام الصنعة، لكن .... هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
لماذا؟
طالب:. . . . . . . . .(58/21)
لا، لا، لا تنزل درجة البخاري عن أحمد ولا عن غيره حتى في غير الصحيحين، حتى فيما نقل عنه، لكن قد يقول قائل: إنه ليس من شرط الصحة أن يبلغ شرط البخاري، فقد لا يصل الحديث إلى شرطه وهو صحيح عند غيره، فلا يراه البخاري صحيحاً؛ لأنه لا يصل إلى شرطه، وهو عند غيره صحيح، وهل نحن ملزمون ألا نعمل إلا بما اشترطه البخاري؟ لسنا بملزمين بذلك، يعني إذا صححه إمام معتبر كما لو كان الحديث مخرج في المسند أو في السنن، وبلغ درجة الصحيح، وترجم الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بما يرد هذا الحديث، نقول: نعم، البخاري لا يثبت هذا الحديث على شرطه، لا يصح على شرطه، لكنه يصح عند غيره، البخاري يقول: لا أراه محفوظاً، يعني على طريقته ونقده، لكن هو صحيح عند غيره، يعني إذا كان البخاري يشترط الدرجة العليا، يعني إذا كان الحديث صحيح على شرط مسلم، ومن يقول بقوله وهم الجمهور بالاكتفاء بالمعاصرة، وصُحح على هذا الأساس، ولم يبلغ شرط البخاري، وليس بصحيح على شرطه، هل نقول: إن الحديث ليس بصحيح؛ لأن إمام الصنعة رده؟ لا.
بقي أن نشير وقد أشرنا مراراً أن البخاري ينسب إليه أقوال وتصحيح أحاديث منها ما هو في صحيحه، ومنها ما هو خارج صحيحه، فما في الصحيح لا يرجح عليه أحد كائناً من كان، يعني حديث ابن عمر في رفع اليدين بعد الركعتين خرجه البخاري، وصححه مرفوعاً، والإمام أحمد لا يراه مرفوعاً، ويصحح الوقف على ابن عمر، هل نوازن بين قول البخاري وقول الإمام أحمد؟ ما في أدنى موازنة بين القولين؛ لأن التصحيح في الصحيح الذي تلقته الأمة بالقبول، وله شأن عند الأمة، فلا يعدل به غيره، لكن لو كان تصحيح حديث ابن عمر من البخاري خارج الصحيح فيما نقله عنه الترمذي أو غيره نظرنا في قول البخاري مع أقوال الأئمة، ووازنا بين القولين؛ لأنه إمام كغيره من الأئمة، أما إذا حكم على صحة حديث وخرجه في صحيحه، هذا ليس لأحد كلام، ولا يعدل بقوله قول أحداً كائناً من كان؛ لأن الأمة مجمعة على ترجيح ما في البخاري على غيره، أما ما ينسب إلى البخاري ولو صح في غير الصحيح فيما ينقل عنه من أقوال في الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً فهذا قوله فيه كغيره من سائر الأئمة.(58/22)
طالب:. . . . . . . . .
كيف؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني يزاد يضاف إليه؟
طالب:. . . . . . . . .
لا، مستحيل هذا.
يقول: روى ابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: رخص للصائم في الحجامة والقبلة، أليس يكون شاهداً لحديث أنس؟
على كل حال مثلما ذكرنا، أدلة الجمهور على عدم إفطار الصائم كثيرة.
يقول: هل ينقص أجر الذي يباشر ويقبل ولا يجامع ويملك نفسه عن الجماع ألا ينقص أجره بدليل: ((يترك طعامه وشرابه وشهوته))؟
كون النبي -عليه الصلاة والسلام- يفعل مثل هذه الأمور لا يعني أنها بالنسبة لغيره ولو بنية الاقتداء أنه يؤجر عليها، ولا أنها هي الأولى بالنسبة له، بل قد ينهى عن الشيء ويفعله تشريعاً، فيؤجر عليه -عليه الصلاة والسلام-، وإن كان بالنسبة لغيره يبقى على المنع، قد ينهى عن الشيء -عليه الصلاة والسلام- ثم يفعله صرفاً للنهي من التحريم إلى الكراهة، فيبقى الحكم فيه بالنسبة لغيره مكروهاً، ولا يقال: إن هذا بالنسبة لغيره ولو بالاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- أنه يؤجر عليه، أو أنه هو الأولى له، لا، قد يقال: إن هذا خلاف الأولى.
طالب:. . . . . . . . .
هذا سيأتي، الجماع في نهار رمضان يأتي حكمه -إن شاء الله تعالى-.
يقول: هل يحتج بالقراءات الشاذة؟
لا، لا يحتج بها، القراءات الصحيحة غير المتواترة التي يثبت بعضهم بها القرآن، ولا يشترط التواتر، والجمهور على أنه لا يثبت قرآن إلا بالتواتر، منهم من يقول: إن حكمها حكم الحديث النبوي، يستدل بما دلت عليه من حكم، ولا تثبت بها قراءة.
إذا نسي النية وصام يصح صيامه أم يقضي ذلك اليوم؟
إذا كان الصوم فرض فلا بد من أن يبيت النية من الليل، وإذا لم يبيت النية من الليل فإنه لا يصح صيامه.
يقول: أعطاني أحدهم شيئاً أفطر عليه، ولما جلست في المسجد وجدت رجلاً فأعطاني ما أبتدئ الفطر عليه، فهل إذا أعطيته ما أعطاني الأول ليفطر عليه أكون محصلاً مثل أجر صيامه؟(58/23)
يرجى ذلك؛ لأنك ملكته بإعطائه إياك أنت ملكته، وقد يقول قائل وهو متجه: إن المعطي الأول ليس له مثل أجرك؛ لأنك ما أفطرت على طعامه، وإنما له مثل أجر من أفطر على طعامه، وأنت حينئذٍ تكون واسطة ودال على هذا الخير.
يقول: بعضهم يقول: المقصود بهذا الحديث: من أشبع صائماً ... إلى آخره.
جاء التوضيح على شربة ماء، على مذقة لبن، على كذا.
هذا يقول: من أراد التورع عن الصدقة كما أثر عن الإمام أحمد أن طالب العلم يترفع عن وسخ الناس، وبعض المسلمين يغضب إذا لم يأكل من سفرته التي ....
إذا كان الأكل من طعامه يجبر خاطره فالأكل من طعامه مستحب، وقد يجب كما في وليمة العرس، أما كونك تتورع عمن في طعامه شبهة هذا لا إشكال فيه.
يقول: أنا طالب علم ومجتهد في طلبه ومحب للعلم والقراءة والطلب، ولكني أشكو من ملازمة إحدى الكبائر التي تعيقني عن المواصلة وتثبطني، وهي إدمان النظر الحرام في الإنترنت، وهو بلوى ملازم لي من حوالي عشر سنوات، يقول: دلني على الطريق، وادع لي في هذه الساعة المباركة من أن يصرفني عن السوء والفحشاء؟
أول ما يجب عليك أن تتخلص من الإنترنت، فلا تنظر في خيره ولا شره، إذا كان يقودك إلى الحرام، فما عند الله أنت تقول: أنا أنظر فيه لأن فيه ما ينفع، وفيه علم، وفيه ما يقرب إلى الله، نقول: ما عند الله لا ينال بسخطه، فأول خطوة تخطوها أن تتخلص من الإنترنت، ولا تقول: فيه فوائد فيه كذا فيه كذا، لا؛ لأن فيه ضرر عليك، وأنت لا تستطيع أن تتخلص من هذا الضرر إلا بالبراءة منه براءة كاملة، ولا شك أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(58/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر – كتاب الصيام (3)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
سم.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.
قال الإمام ابن عبد الهادي -رحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة)) وفي لفظ: فقيل له: "إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت؟ فدعا بقدح من ماء بعد العصر" رواه مسلم.
وروى أيضاً عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه)).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "رخص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه" رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: هلكت يا رسول الله! قال: ((وما أهلكك؟ )) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان، قال: ((هل تجد ما تعتق رقبة؟ )) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ )) قال: لا، قال: ((فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ )) قال: لا، ثم جلس فأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر، فقال: ((تصدق بهذا)) فقال: على أفقر منا؟! فما بين لابتيها أهل بيت أفقر إليه منا، فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: ((اذهب فأطعمه أهلك)) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وقد روي الأمر بالقضاء من غير وجه، وهو مختلف في صحته.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه)) متفق عليه، وقد تكلم فيه الإمام أحمد بن حنبل.(59/1)
حسبك.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان" المسافر وجاء الشرع بالتخفيف عنه؛ لأن السفر مظنة المشقة، فمن رخص السفر الجمع والقصر والفطر بالنسبة للصائم، والمسح أكثر من مدة المقيم، ثلاثة أيام بلياليها.(59/2)
هذه الرخص معلقة بوصف مؤثر هو السفر لا غير، سواءً وجدت المشقة أو لم توجد، السفر لا شك أنه مظنة المشقة، وكان القصر معلقاً بالخوف، ثم ارتفع الوصف {إِنْ خِفْتُمْ} [(101) سورة النساء] وبقي الوصف المؤثر للقصر وهو السفر، وكذلك الفطر في رمضان يبيحه السفر المعروف عند أهل العلم، وكل على مذهبه في طوله ومدته، مما سبق شرحه وبيانه في موضعه من هذا الكتاب، فإذا تحقق هذا الوصف فإن الصائم له أن يفطر {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [(184) سورة البقرة] يعني فأفطر فعليه عدة من أيام أخر، إذا أفطر في السفر لوجود الوصف المؤثر الذي علق عليه الترخص، إذا أفطر ولو كان السفر لا يشق عليه، فيجب عليه عدة من أيام أخر، إذا لم يفطر فليس عليه عدة من أيام أخر خلافاً للظاهرية في قولهم: إن المسافر لا يصح صومه، بل يلزمه عدة من أيام أخر {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [(184) سورة البقرة] يعني فعليه عدة، أو فيلزمه {عدة من أيام أخر} لكن الجمهور يقدرون في ذلك فأفطر، وعلى هذا الصوم في السفر رخصة، ومنهم من يفضله مطلقاً، أوجبه الظاهرية كما سمعنا، وأن المسافر لا يصح منه الصوم، وعليه على أي حال عدة من أيام أخر، والجمهور يصححون الصوم، لكن منهم من يفضل الفطر؛ لأنها رخصة من الله -جل وعلا-، والله -سبحانه وتعالى- جواد كريم يحب أن تؤتى رخصه، ومنهم من يقول: الصوم أفضل، ومنهم من يقول: إذا شق عليه الصوم فالفطر أفضل، وإذا لم يشق عليه الصوم فالصوم في وقته أفضل، ولو كان مسافراً، وإذا زادت المشقة على المسافر فيتجه ما في هذا الحديث: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة)) فلا يطرد الحكم في كون الصيام في السفر أفضل، ولا كون الفطر أفضل مطلقاً، بل إذا تساوت المشقة الحاصلة بسبب الصوم مع السفر مثل المشقة الحاصلة بسبب الصوم في الحضر فالمتجه التساوي؛ لأن المبيح للفطر قائم، والملزم بالصيام قائم، وبعض الناس سفره أقل مشقة منه في حال الإقامة كمن بلده حار ويسافر إلى بلد بارد، فهو في السفر أريح منه في حال الإقامة مثل هذا إذا صام والداعي للصيام ما زال قائماً، ووقت الصيام وهو(59/3)
رمضان ما زال، وهو محترم في حال السفر وغير السفر.
على كل حال الرسول -عليه الصلاة والسلام- "خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان" نعم فتح مكة في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة "فصام حتى بلغ كراع الغميم" وادٍ بين مكة والمدينة، قريب من عُسفان "حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس" النبي -عليه الصلاة والسلام- صام، فدل على مشروعية الصيام في السفر "وصام الناس" لكنه -عليه الصلاة والسلام- وهو الرؤوف الرحيم، المشفق على أمته يخشى أن يشق هذا الصيام على من معه، ولا تسمح أنفسهم أن يفطروا وهو صائم.
"ثم دعا بقدح من ماء حتى نظر الناس إليه، ثم شرب" هكذا ينبغي أن يكون القدوة، أن يلاحظ الضعفاء من الناس، ولا ينظر إلى نفسه، بحيث يحمل الناس على قوته وشدته وتحمله، الرسول -عليه الصلاة والسلام- أعطي من القوة ما لم يعطه غيره، ولا يشق عليه أن يصوم في السفر، لكنه لاحظ الناس "فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء" إناء فيه ماء "فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب" يعني كما فعل عشية عرفة؛ لينظر الناس إليه، لأن بعض الناس عنده من الحرص ما يتحمل معه الضرر في سبيل حصول الأجر "فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس" وقد رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- يرفع القدح ويشرب من الماء، رغب عن سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وتحمل هذه المشقة "فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة)) " و ((ليس من البر الصيام في السفر)) وهو منزل على هذه الحالة، إذا وجدت المشقة، وإذا لم توجد المشقة فالصيام متجه؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صام وهو في السفر، وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يسافرون معه، فمنهم الصائم ومنهم المفطر، ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، هذا في حال عدم المشقة، أما إذا وجدت المشقة فالفطر أفضل بلا شك، وإن زادت المشقة، قد وجد شخص قد ظلل عليه من الحر والعطش، ومثل هذا لا يجوز له أن يصوم في السفر، ويدخل في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة)) فالصوم في السفر يحتاج إلى مثل هذا التفصيل؛ لأنه جاء في النصوص ما يدل عليه.(59/4)
"وفي لفظ: فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر" رواه مسلم" لأن بعض الناس يتحمل هذه المشقة، وتزيد عليه المشقة حتى أن بعضهم يتضرر يحتاج إلى الأكل لوجود مرض يستدعي ذلك، ومع ذلك يتحمل هذه المشقة، وقد لا يكون الداعي إلى ذلك كله الرغبة في الخير، قد يكون صيامه مع الناس أخف عليه، ويستثقل القضاء، بعض الناس يستثقل القضاء، ويتحمل ما صام، يقول: أنا صمت الآن، انتصف النهار ما بقي إلا ساعات، أتحمل ولو تضررت، نقول: أولئك العصاة، هذا في السفر، أما في الحضر فلا مندوحة من الصيام، إلا إذا وصل الضرر بحيث يترتب عنه مرض أو زيادة في مرض، أو تأخر برء فإنه حينئذٍ يفطر {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [(184) سورة البقرة].
"وفي لفظ: فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر" يعني فشرب منه، رفعه حتى رآه الناس فشرب منه -عليه الصلاة والسلام- "رواه مسلم".
"وروى أيضاً عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: "يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ " يعني أنا أصوم وقد رأيتك تشرب الماء بعد الصيام "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هي رخصة من الله تعالى، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه)) ".
((هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن)) لأن الله -جل وعلا- يحب أن تؤتى رخصه، والرخصة في الاصطلاح ما جاء على خلاف الدليل الشرعي لمعارض راجح، أو هي: استباحة المحظور مع قيام الحاظر؛ لمعارض راجح، والعزيمة ما جاء على وفق الدليل الشرعي مع عدم المعارض الراجح.
"فهل علي جناح؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن)) " صدقة تصدق الله بها، وجاء في القصر فاقبلوا صدقته.
((ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه)) هذا يدل على أن الصيام والفطر كلاهما جائز، لكن قد يترجح الفطر، وقد يترجح الصيام على ما سبق.
"وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه".(59/5)
رأي ابن عباس في قوله -جل وعلا-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [(184) سورة البقرة] الجمهور على أن الفطر مع الإطعام بالنسبة للقادر على الصيام هو منسوخ {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [(185) سورة البقرة] كان في الأمر الأول على التخير من شاء صام ومن شاء أطعم مع القدرة {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [(184) سورة البقرة] ابن عباس يرى أن الآية ليست منسوخة، وإنما هي في حق الشيخ الكبير يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً، الشيخ الكبير لا يخلو إما أن يكون قادراً على الصيام، وحينئذٍ يلزمه أن يصوم؛ لقوله -جل وعلا-: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [(185) سورة البقرة] وإن كان غير قادر على الصيام صار كالمريض الذي لا يرجى برؤه، فالمريض والمسافر يفطران، والحامل والمرضع تفطران، لكن الذي يستطيع القضاء لا يجزئه الإطعام، والذي لا يستطيع القضاء من كبير، من شيخ كبير هرم، أو مريض لا يرجى برؤه فإن هذا يطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من طعام، ولا قضاء عليه؛ لأنه لا يستطيع ولا يرجى برؤه كالمريض.
"رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري" العلماء ينصون على أن هذا من دقيق فقه ابن عباس، يعني الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [(184) سورة البقرة] الذين يطيقونه، والإطاقة التحمل والاستطاعة، كيف نحمل هذا على شخص لا يطيقه، شيخ كبير؟ لأن الكبر والشيخوخة ليست بوصف مؤثر في الصيام، إنما المؤثر الطاقة والقدرة أو عدم الطاقة والقدرة، فبأي وجه قال أهل العلم إن هذا من دقيق فقه ابن عباس؟ ابن عباس ليجعل الآية محكمة وليست منسوخة، ولا شك أنه إذا أمكن حمل النص ولو على وجه، هو أولى من إلغاء النص، وقول ابن عباس يجعلنا نحمل هذا النص على وجه وهو حمله على الشيخ الكبير أولى من أن نجعله منسوخاً، ملغى من كل وجه، مرفوع الحكم عن كل أحد.
وعلى كل حال قول الجمهور واضح والظاهر يدل عليه؛ لأن الطاقة هي القدرة، فالذي يطيقه يلزمه الصيام، ولا يجوز له أن يفدي، ويترك الصيام.(59/6)
"رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري"
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: هلكت يا رسول الله" جاء رجل، في بعض الروايات: أعرابي "إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: هلكت يا رسول الله، قال: ((وما أهلكك؟ )) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان" قوله: "هلكت" قال العلماء: هذا يدل على أنه يعرف الحكم، وأن الجماع في نهار رمضان محرم، وأنه مفطر، لكنه لا يعرف ما يترتب على هذا المحرم، وأهل العلم يقررون أن من عرف الحكم فإنه يلزمه ما يترتب عليه ولو جهل ذلك بخلاف من لم يعرف الحكم أصلاً، يعني لو قدر أن شخصاً لا يعرف أن الجماع في نهار رمضان مفطر، ولا يعرف أنه حرام هذا معذور بجهله، ولا يرتب عليه شيء، يعني كمن قالوا في من هو حديث عهد بالإسلام وشرب الخمر ما يلزم الحد، لكن إذا كان يعرف أن الخمر حرام أو الزنا حرام، لكن لا يعرف ما يترتب عليه، فإنه يرتب عليه ما يترتب على هذا المحرم؛ لأنه يعرف أنه محرم، فكيف أقدم عليه وهو يعرف؟ وهذا يعرف أن الجماع في نهار رمضان مفطر، وأنه محرم، ولذا قال: "هلكت، وأهلكت" هلك بنفسه وأهلك زوجته معه.
"قال: ((وما أهلكك؟ )) قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان" لو وقع على زوجته وهو صائم في غير رمضان صيام نفل أو قضاء؟ أما بالنسبة للنفل فقد تقدم أن المتطوع أمير نفسه، على خلاف بين أهل العلم أنه هل يفطر من غير حاجة أو لا يجوز له الفطر إلا لحاجة، المسألة تقدمت الإشارة إليها.
في قضاء رمضان لا يجوز له بل يحرم عليه أن يقع على زوجته في نهار رمضان، أو يفطر بأي مفطر، لكن لا تلزمه الكفارة؛ لأن الكفارة خاصة في نهار رمضان احتراماً للوقت.(59/7)
"وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان، قال: ((هل تجد ما تعتق رقبة؟ )) قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ )) قال: لا، قال: ((فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ )) " هذا يدل على أن الكفارة على الترتيب ككفارة الظهار، وجاء في بعض الروايات ما يدل على التخيير، لكنها محمولة على هذه الرواية، وعلى ما جاء في الكفارة الأخرى التي يعبر بها عنها، يعني أهل العلم إذا جاء مثل هذا الرجل ماذا يقولون له؟ يقولون: عليك كفارة ظهار، وهذا معروف، حتى في كتب الفقه من جامع في نهار رمضان فعليه كفارة ظهار، ما يقول أهل العلم: عليه كفارة مجامع في نهار رمضان، لماذا؟ لأن كفارة الظهار ثبتت بالكتاب الذي يقرأه الخاص والعام، يعرفه الناس كلهم، بينما لو قالوا: عليك كفارة مجامع في نهار رمضان، قد لا يعرفها كثير من الناس؛ لأنها ثبتت بالسنة، كثير من الناس لا يعرف السنة، يعرفون القرآن، عوام المسلمين يعرفون القرآن، ويقرؤون القرآن، لكن كثير منهم تخفى عليهم الأحكام الواردة في السنة، ولذلك يقال: عليك كفارة ظهار، وعبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما بايع عليه النساء، وبيعة الرجل متقدمة على بيعة النساء، فكيف يحال على بيعة النساء؟ لأن بيعة النساء ثابتة بالقرآن {إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [(12) سورة الممتحنة] فهي ثابتة في القرآن، فيحال على ما ثبت في القرآن، وإن كان ثبوت الثاني بصحيح وصريح السنة، لما قلنا من أن القرآن معروف لدى الخاص والعام فيحال عليه، فإذا جامع في نهار رمضان قلنا: تلزمه كفارة ظهار، ما قالوا: يلزمه كفارة قتل خطأ، لماذا؟ لأن كفارة الخطأ ليس فيها إطعام.(59/8)
"قال: ((هل تجد ما تعتق رقبة؟ )) " جاءت الرقبة هنا مطلقة، وفي كفارة الظهار مطلقة، وفي كفارة اليمين مطلقة، وفي كفارة القتل مقيدة {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [(92) سورة النساء] المطلق مع المقيد لا يخلو من أن يتفقا في الحكم والسبب، وحينئذٍ يحمل المطلق على المقيد بالاتفاق، أو يختلفا في الحكم والسبب وحينئذٍ لا يحمل المطلق على المقيد بالاتفاق، أو يختلفا في الحكم دون السبب يختلفا في الحكم ويتفقا في السبب فلا يحمل المطلق على المقيد عند الجمهور، وإذا اتحدا في الحكم واختلفا في السبب فإنه يحمل المطلق على المقيد عند جمهور أهل العلم.
والرقبة هنا مطلقة، ومقيدة في كفارة القتل، ما وجه الاتحاد وما وجه الاختلاف؟ اتحدا في إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
العتق، ما زلنا في العتق، اتحدا كلها رقبة.
طالب:. . . . . . . . .
لأن عندنا حكم وسبب، لا نتعدى الأمرين، ولا نتخرص، اتفقا في الحكم، واختلفا في السبب، الصورة الأولى أن يتحدا في الحكم والسبب، فيحمل المطلق على المقيد اتفاقاً {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ} [(3) سورة المائدة] هذا مطلق، والمقيد في قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [(145) سورة الأنعام] فيحمل المطلق على المقيد فلا يحرم إلا الدم المسفوح، هذا بالاتفاق.
إذا اختلفا في الحكم والسبب لا يحمل المطلق على المقيد بالاتفاق، اليد في آية الوضوء مقيدة بكونها إلى المرافق، وفي آية السرقة مطلقة، الحكم واحد، لا، هذا غسل وهذا قطع، السبب واحد، لا، هذا سرقة وهذا حدث، إذاً لا يحمل المطلق على المقيد اتفاقاً، فلا تقطع اليد من المرفق.(59/9)
إذا اتحدا في الحكم واختلفا في السبب، الرقبة هنا مطلقة، وفي كفارة القتل مقيدة، الحكم واحد كله وجوب العتق، والسبب يختلف، هنا جماع في نهار رمضان، أو ظهار، أو يمين، هذا بالنسبة للمطلق، وفي كفارة القتل سببه القتل، والحكم وجوب العتق، وحينئذٍ يحمل المطلق على المقيد عند الجمهور، جمهور أهل العلم على أنه لا تجزئ الرقبة في العتق أياً كان إلا إذا كانت مؤمنة، والجارية لما جيء بها إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- لإعتاقها اختبرها النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد أن شهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقال لها: ((أين الله؟ )) قالت: في السماء، قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) والوصف تكرر في آية القتل مراراً، لكنه في غيره من الكفارات ما ذكر، فهي مطلقة، والحكم واحد، ووجوب العتق، والأئمة الثلاثة على أنه لا بد أن تكون الرقبة مؤمنة خلافاً لأبي حنيفة الذي لم يحمل المطلق على المقيد في هذه الصورة، ولا شك أن الراجح في هذا قول الجمهور.
ولا يعرف أن أحداً في زمنه -عليه الصلاة والسلام- أعتق في كفارة رقبة غير مؤمنة، والشرع يتشوف إلى عتق الرقاب لتتم لهم الحرية التي بها يحققون العبودية التامة، أما رقبة غير المؤمنة فعدم تحريرها أولى؛ لتعيش عند هذا الرجل المسلم علها أن تتأثر به، وتسلم على يديه، وإذا أعتقت وهي غير مؤمنة لا يخشى شرها، ولا يرجى خيرها، فالنظر يقتضي ذلك، مع ما تقرر عند أهل العلم من حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة.
إذا اختلفا في الحكم واتحد السبب، أيضاً لا يحمل المطلق على المقيد عند الجمهور، وهذه تمام القسمة الرباعية، اليد مطلقة في آية التيمم، ومقيدة في آية الوضوء، فهل نمسح إلى المرافق؛ لأن الآية جاءت مطلقة في آية الوضوء؟ السبب واحد وهو الحدث، والحكم يختلف، هذا غسل وهذا مسح، فلا يحمل المطلق على المقيد حينئذٍ.(59/10)
((هل تجد ما تعتق رقبة)) يعني مؤمنة "قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ )) " هو ما استطاع يكمل يوم، ما استطاع أن يكمل يوم من رمضان، ويعرف أن هذا حرام، ماذا قال؟ "قال: لا" لا بد من الصيام أن يكون شهرين متتابعين، فلو صام سبعة وخمسين يوماً متتابعة في شهرين ناقصين فأفطر الثامن والخمسين؛ لأنه إذا ابتدأ بالشهر من أوله من الهلال إلى الهلال أجزأه، ولو تسع وعشرين، بقي يوم فأفطر، تعب، مل، نقول: يستأنف؛ لأن التتابع شرط، وهنا يأتي أيضاً في الكفارات الصيام مقيد بالتتابع، وقد يأتي الصيام مقيد بالتفريق، وقد يأتي الصيام مطلقاً، فهل يحمل على القيد الأول أو على القيد الثاني أو يُترك؟ فيه صيام، صيام ثلاثة أيام جاءت القراءة مبينة متتابعات، لكن لو لم تأتِ هذه القراءة، أو نذر أن يصوم عشرة أيام، هل نقول: لا بد أن تكون متتابعة؛ لأنه جاء القيد في نصوص كثيرة بالتتابع؟ أو نقول: متفرقة؟ {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [(196) سورة البقرة] هذه مقيدة بالتفريق، هل نقول: الذي نذر أن يصوم عشرة أيام يصوم ثلاثة أيام ثم يصوم سبعة حملاً للمطلق هنا على المقيد في الصيام البديل عن الهدي لمن لم يجد الهدي؟ أو نقول: مقيد بالتتابع كما هنا؟ أو نقول: يرجع إلى نية الحالف أو الناذر؟ لأنه إن كان قصدها متتابعة صامها متتابعة، هذا يرجع إلى نيته؛ لأنه لا يمكن حمله على التفريق، ولا يمكن حمله على التتابع؛ لأنه لا يوجد ما يقتضي ذلك.(59/11)
يعني مثل هذه المسائل لا بد من معرفتها؛ لأنه يرد عليك أشياء تحتاج إلى أن تحمل على غيرها، أشياء فيها قصور، نذر أن يصوم عشرة أيام ويش تقول له؟ متتابعة وإلا غير متتابعة؟ يعني فرق بين من نذر أن يصوم شهراً وبين من نذر أن يصوم ثلاثين يوماً، فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين، يعني لو أخل بيوم واحد عليه أن يستأنف، ولا يستثنى من ذلك إلا بما يبيح الفطر في رمضان؛ لأن الأصل في صيام رمضان التتابع، فإذا وجدت الرخصة الشرعية التي تبيح له الإخلال بهذا التتابع في الركن من أركان الإسلام جاز له أن يخل بهذا التتابع في الكفارة، ما لم يتخذ ذلك حيلة، إن صام شهر قال: أسافر على شان أفطر، أتلين وأرتاح، وأرجع لأصوم الشهر الثاني، قلنا: لا، هذه حيلة، لكن لو طرأ عليه سفر، وأفطر في هذا السفر، ويباح له الفطر في رمضان، هذان الشهران من باب أولى.
"قال: لا، قال: ((فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ )) " كل مسكين على الخلاف بين أهل العلم هل يكفي المد أو لا بد من نصف الصاع؟ المسألة خلافية بين أهل العلم، والعِرق أو العَرق الذي فيه خمسة عشر صاعاً يشهد لقول من يقول بأن المقدار مد، ربع؛ لأن الخمسة عشر صاعاً هي ستون مداً.
" ((فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ )) قال: لا، ثم جلس فأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بعِرق" أو عَرق كما ضبطه بعضهم، وهو مكتل، زمبيل، وعاء يسع خمسة عشر صاعاً "فيه تمر، فقال: ((تصدق بهذا)) " هذه الكفارات تقبل النيابة كالديون إذا تحملها من تحملها من قريب أو بعيد سقطت عمن لزمته "فقال: ((تصدق بهذا)) فقال: على أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا! " وفي بعض الروايات أكد ذلك باليمين: "فو الله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر منا" استدل أهل العلم بهذا على أنه يجوز الحلف على غلبة الظن، يعني هل عنده يقين أنه لا يوجد في المدينة في جميع بيوتها أفقر منهم؟ لما غلب على ظنه لأنه لا يجد شيء، ولا يتصور أن هناك أفقر ممن لا يجد شيئاً، يوجد، يعني إذا كان لا يجد شيئاً وهو غير مدين، هذا فقير، لكن إذا كان لا يجد شيئاً ألبتة وغرق بالديون هذا أفقر منه، فهو ظن أنه لا يوجد، فحلف على غلبة ظنه.(59/12)
"فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه" النبي -عليه الصلاة والسلام- في الغالب يتبسم، ولا يسمع له صوت، لكنه ضحك -عليه الصلاة والسلام- من شدة العجب، رجل جاء خائفاً وجلاً هالكاً مهلكاً، ثم يرجع بالطعام إلى أولاد "ثم قال: ((اذهب فأطعمه أهلك)) " ماذا عن الكفارة؟ سقطت وإلا ما سقطت؟ نعم؟ أو بقيت ديناً في ذمته؟ الآن هذا العرق الذي فيه الخمسة عشر صاعاً هل هو الكفارة؟ وإذا كان هو الكفارة يجوز أن يأكله من وجبت عليه الكفارة؟ أو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: خذ هذا تمشية لحالك وحاجتك أنت وأهل بيتك، والكفارة كسائر الديون، تبقى في ذمتك، وهذا قول معتبر، وقول كثير من أهل العلم.
الآن هذا العرق الذي .. ، يعني لو أخذه وتصدق به، ودفعه إلى أهل بيت فقراء برئت ذمته من الكفارة؛ لأنها تحملت عنه، وتحملها جائز، لكن هو الآن ما بذل، ما بذل هذا المكتل، أو هذا الزنبيل، أو هذا التمر، أكله، فهل لمن وجبت عليه الكفارة أن يأكلها هو وأهله؟ عليه أن يخرج، فجمع من أهل العلم يقولون: إنه لا يجوز له أن يأكلها، بل ثبتت في ذمته كسائر الديون، يعني في الفرائض أول ما يبحث في كتب الفرائض الحقوق المتعلقة بالتركة، أولها: مؤونة التجهيز كما تقدم في الجنائز، والثاني: الديون المتعلقة بعين التركة، كالديون التي فيها رهن، الثالث: الديون المتعلقة بذمة الميت من حقوق العباد وحقوق الله -جل وعلا- ((دين الله أحق أن يقضى)) ويذكرون في هذا الكفارات، دين في ذمته كسائر الديون، إن استطاعها في حياته، وإلا من تركته إن كانت، وإلا إن تحملها أحداً عنه، وإلا تبقى كسائر الديون، ومنهم من يقول: إذا لم يستطع فإنها تسقط، وهذا الحديث ليس فيها ذكر بعد ذلك، ومن أهل العلم من يقول: هذه كفارة، هذا العرق وهذا المكتل كفارة، فلو أخرجها بنفسه لما جاز له أن يأكلها، لكن لما تحملها غيره جاز لهذا المتحمل أن يدفعها لمن شاء من فقراء الأمة، وهذا من فقراء الأمة، وأهل بيته ممن تدفع لهم مثل هذه الكفارة.
طالب:. . . . . . . . .(59/13)
الأصل أن الذي يتحمل الكفارة الجاني نفسه، لكن لو تحملها أحداً عنه، قال: خلاص، علي، مثلما تحمل الدين على الرجل الذي رفض النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يصلي عليه، تحمله أبو قتادة فصلى عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-، يسوغ التحمل للقريب والبعيد، أي شخص يتبرع فيتحمل ديناً عن أخيه، هو مأجور على هذا، ويبقى دين في ذمته، هنا تحملها النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم دفعها إليه وأهل بيته، فإذا كانت الكفارة ليست من هذا الشخص بنفسه جاز له أن يأكل منها، كما في هذا الحديث، وهذا قول لجمع من أهل العلم، ولا شك أن الأحوط أنه يبقى مستحضراً لهذه الكفارة، ولو قيدها في وصيته كسائر الديون، بحيث إذا استطاع أن يخرجها في وقت من الأوقات أخرجها كسائر الديون، وإذا عجز عنها فالله -جل وعلا- أرحم من أن يعذبه على شيء عجز عنه.
"متفق عليه، واللفظ لمسلم، وقد روي الأمر بالقضاء" هذا أفطر يوم من نهار رمضان متعمداً، فهل عليه القضاء أو ليس عليه القضاء؟ سبقت الإشارة إلى حديث: ((من أفطر في يوم من نهار رمضان عامداً لم يقضه صيام الدهر وإن صامه)) وقال جمع من أهل العلم: إنه لا يصوم ولا يقضي، فهو أعظم من أن يقضى، إنما تلزم التوبة والاستغفار، وذكرنا مثل هذا بالنسبة للصلاة والخلاف في ذلك، والجمهور على أنه لا بد من القضاء.
"وقد روي الأمر بالقضاء من غير وجه، وهو مختلف في صحته" لكن كثرة الطرق تدل على أن له أصل ملزم، فيلزمه حينئذٍ القضاء إذا أفطر ولو كان متعمداً، سواءً كان فطره بجماع أو أكل أو شرب أو غير ذلك من المفطرات.
قال -رحمه الله-: "وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه)) متفق عليه. وقد تكلم فيه الإمام أحمد بن حنبل" يعني هل يلتفت إلى كلام الإمام الجليل الحجة في هذا الباب في حديث خرجه الشيخان؟ لا يلتفت إلى أحد كائناً من كان، فالحديث لا إشكال فيه.(59/14)
((من مات وعليه صيام صام عنه وليه)) الصيام لا يخلو إما أن يكون نفلاً أو واجباً، عليه صيام كيف يكون عليه صيام نفل؟ اعتاد أن يصوم أيام معينة فمات عنها، خلاص انقطع عنه التكليف، بقي صيام الواجب، صيام الواجب إما أن يكون مما وجب بأصل الشرع، أو مما أوجبه الإنسان على نفسه، ما وجب بأصل الشرع كرمضان، أو أوجبه على نفسه كالنذر، ما وجب بأصل الشرع هذا عليه صيام يعني واجب، ولا يقال عليه إلا في الواجب، طيب، عليه صيام نكرة في سياق الشرط فتعم أنواع الصيام، وقلنا: إن النفل يخرج، يبقى الواجب، فيشمل ما وجب بأصل الشرع، وما أوجبه الإنسان على نفسه، وما وجب بأصل الشرع جاء فيه: ((لا يصل أحد عن أحد)) وجاء فيه قبول النيابة في الحج: ((حج عن أبيك)) وهذا ركن وهذا ركن.
جاء النهي عن الصلاة ((لا يصل أحد عن أحد)) وجاء في الحج: ((حج عن أبيك)) نعم الصيام ما جاء فيه شيء، جاء ((لا يصل أحد عن أحد)) وجاء ((حج عن أبيك)) فهل الصيام كالصلاة لأنه عبادة بدنية أو كالحج لأن فيه بدل مالي وهو الفدية؟ فهل يلحق بهذا أو بهذا في قبول النيابة؟ دعونا من الحديث، الآن ننظر في قياس الشبه في الصيام، الصيام عبادة بدنية فهل تلحق بالصلاة؟ وقد جاء: ((لا يصل أحد عن أحد)) أو تحلق بالحج ((حج عن أبيك)) والصيام له بدل مالي وهو الإطعام ففيه وجه شبه بالصلاة، وفيه وجه شبه بالحج، وهنا يستعمل فيه قياس الشبه، وهو تردد فرع بين أصلين، يلحق بالأقوى به شبهاً.
نأتي إلى الحديث: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه)) وما وجب بأصل الشرع مثل الصلاة، وما أوجبه الإنسان على نفسه هذا يقبل النيابة، ولذا اختلف أهل العلم في المراد بالصيام هنا، منهم من قال: عليه صيام واجب، سواءً كان بأصل الشرع أو أوجبه على نفسه، فيصوم عنه وليه، ومنهم من قال: لا، ما وجب بأصل الشرع كالصلاة لا يقبل النيابة، وما أوجبه الإنسان على نفسه هو الذي يقبل النيابة، ويرجحه ما جاء في بعض طرق الحديث: إن أبي مات وعليه، أو أمي ماتت وعليها صوم نذر، في بعض طرق الحديث: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، قال: ((من مات وعليه صوم صام عنه وليه)).(59/15)
يبقى النظر في عموم اللفظ وخصوص السبب، اللفظ عام يشمل جميع أنواع الصيام، والسبب خاص بالنذر، فهل يقصر هذا العام على سببه؟ أو نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ معروف أن المذهب عند الحنابلة أنه لا يصام ما وجب بأصل الشرع، إنما يصام ما كان في النذر، وهو الذي يختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، قالوا: وهو الموافق للأدلة العامة، وهو الموافق لعمومات الشريعة.
ننظر في مسألة عموم اللفظ وخصوص السبب، الشيء الذي يكاد أن يكون متفقاً عليه، بل نقل عليه الاتفاق أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يبقى أن إذا كان مفهوم العموم معارض بمنطوق أخص منه حمل العموم على السبب، يعني ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً)) مع ((صلاة القاعدة على النصف من أجر صلاة القائم)) والحديث الأول لا يصحح الصلاة من قعود بالنسبة للقادر على القيام، وهذا محمول على الفريضة بينما ((صلاة القاعدة على النصف من أجر صلاة القائم)) محمول على النافلة؛ لأن السبب جاء في نافلة، دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- المسجد والمدينة محمة، والناس يصلون من قعود، يصلون فريضة وإلا نافلة؟ نافلة قطعاً، ما يمكن أن يصلوا قبل حضوره -عليه الصلاة والسلام- الفريضة، فهم يصلون من قعود، فقال: ((صلاة القاعدة على النصف من أجر صلاة القائم)) فهذا محمول على سببه، لماذا؟ لأنه معارض بما هو أقوى منه ((صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً)) فللجمع والتوفيق بين النصوص يُسلك مثل هذا، يحمل العام على سببه، يقصر العام على سببه؛ لأنه معارض بما هو أقوى منه، وهذا معارض بما هو أقوى منه، فيحمل على سببه، وتقصر النيابة في الصيام على صوم النذر، كما حملت الصلاة من قعود على صلاة النافلة؛ لما دل عليها من سبب الورود.
سم.
وقال -رحمه الله-:
باب: في قيام شهر رمضان
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من قام رمضان إيمانًا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.(59/16)
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلى فصلوا بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: ((أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)) فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك" متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" متفق عليه.
حسبك.
يكفي.
قال -رحمه الله-:
باب: في قيام شهر رمضان(59/17)
في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ما فرقه البخاري -رحمه الله تعالى- ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) وهنا: ((من قام رمضان إيمانًا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) الجملة الثالثة: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) والذي عندنا ما يناسب قيام شهر رمضان قوله: ((من قام رمضان إيمانًا واحتساباً)) يعني قاصداً بذلك وجه الله، مخلصاً في ذلك لله -جل وعلا-، لا يبعثه ولا ينهزه على ذلك إلا الإيمان الواقر في قلبه، واحتساب الأجر من الله -جل وعلا-، لا لأمر من الأمور ليترتب على ذلك جواب الشرط ((غفر له ما تقدم من ذنبه)) وأي حرمان بالنسبة لمن يسمع مثل هذه الأحاديث الصحيحة، ولا يقوم رمضان، وقد يقوم رمضان ويتعب نفسه ولا يحقق القيد الوارد في الحديث الذي يرتب عليه الأجر إيماناً واحتساباً، فتجد بعض الناس يصلي مجاملة، أو يصلي مراءاة لغيره، فلا بد من أن يكون قيامه رمضان إيماناً واحتساباً، والمراد بالقيام القيام في لياليه، الصيام في النهار، والقيام للصلاة والذكر والتلاوة في الليل ((غفر له ما تقد من ذنبه)) على الإنسان أن يحرص، المسألة لا تكلف شيئاً، الآن بما يتحقق القيام؟ ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) وبعض الأئمة قيامه لا يزيد على نصف ساعة، لكن الحرمان لا نهاية له، تجده يبحث عن إنسان أخف من صلاة هذا الإمام الذي لا يزيد عن نصف ساعة، وعنده استعداد أن يمشي، وأن يركب السيارة مدة ساعة ذهاباً وساعة إياباً لإمام أخف من الإمام الذي بجوار مسجده الذي لا تزيد صلاته على نصف ساعة، قالوا: فلان ينتهي بعشرين دقيقة من القيام، يركب السيارة، مهما كلفه ذلك، ويرجع مثل ذلك، ويستغرق في ذهابه وإيابه وقتاً طويلاً؛ ليحصل وليوفر عشر دقائق، وما ذلك إلا لثقل العبادة على كثير من الناس.(59/18)
يعني يصل الأمر إلى حد أن يُسأل عن آية الدين، هل تقسم في ركعتين؟ هذا سؤال جاد، إمام مسجد يسأل عن آية الدين، وفي الحديث الصحيح: ((من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)) وإذا كان في المسجد أكثر من إمام فحكم الجميع حكم الإمام الواحد، لا بد أن يبدأ مع الأول وينتهي مع الآخر؛ لأن الأصل أن الإمام واحد، لكن إذا كانت الصلاة مراوحة بين أكثر من إمام فلا يتحقق القيام إلا من أوله إلى آخره، من التكبيرة الأولى إلى السلام؛ لأن بعض الناس يصلي مع الأول، ثم ينصرف معه ويقول: صليت مع الإمام حتى انصرف، نقول: لا، هذا نصف إمام، وليس بإمام كامل، المنظور إليه الصلاة حتى تنتهي الصلاة.
((غفر له ما تقدم من ذنبه)) ومثله: ((رمضان إلى رمضان، والصلوات الخمس، والعمرة إلى العمرة)) كلها كفارات، وأسباب لمغفرة الذنوب، لكن الجمهور يحملون هذا الغفران وهذا التكفير على الصغائر دون الكبائر، وأما الكبائر لا بد فيها من التوبة، عند جمهور أهل العلم؛ لأنه جاء هذا القيد: ((ما اجتنبت الكبائر)) ((ما لم تغش كبيرة)) فالكبيرة لا بد فيها {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [(31) سورة النساء] فكل هذه المكفرات إنما هي للصغائر دون الكبائر.
"وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد" في ليلة من ليالي رمضان "خرج ليلة من جوف الليل" يعني من أثنائه، وفي وسطه "فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته" اقتدوا به، فصلاة الليل سواءً كانت في رمضان أو في غير رمضان، لا مانع من أن تكون جماعة، هذا في غير رمضان، دليله حديث ابن عباس صلى مع النبي -عليه الصلاة والسلام- وصلى معه ابن مسعود، المقصود أنها لا مانع من أن تصلى جماعة، ما لم تتخذ عادة، إلا في رمضان؛ لما سيأتي.(59/19)
النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى ليلة في جوف الليل من رمضان، فصلى رجال بصلاته "فأصبح الناس فتحدثوا" هؤلاء الذين صلوا مع النبي -عليه الصلاة والسلام- نقلوا ذلك للناس، والله صلينا مع النبي -عليه الصلاة والسلام- البارحة صلاة تهجد، فزاد العدد في الليلة الثانية، فصلى فصلوا بصلاته، ثم تحدثوا من الغد، فزاد العدد، فلما صار في الليلة الثالثة أو الرابعة، هنا يقول الرابعة، وفي بعض الروايات: فلما كان في الليلة الثالثة أو الرابعة "عجز المسجد عن أهله" يعني امتلأ المسجد، عجز المسجد، فلم يخرج إليهم -عليه الصلاة والسلام- "حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر" صلى الفجر "أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: ((أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم)) " المسجد مملوء، والمسجد بجوار الحجر، يسمع، ((فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم)) الرسول -عليه الصلاة والسلام- ترك صلاة الليل في المسجد جماعة رفعاً لحكمها أو خشية أن تفرض عليهم؟ خشية أن تفرض عليهم، فبهذا يستدل على أن صلاة التراويح جماعة في المسجد مشروعة، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما تركها خشية أن تفرض، فلما أمن هذا المخشي بموته -عليه الصلاة والسلام- جمع الناس عمر -رضي الله تعالى عنه- على إمام واحد، جمع الناس عمر -رضي الله تعالى عنه- على إمام واحد، فيما عرف فيما بعد بالتراويح، التراويح؛ لأنهم يتروحون، يستريحون بين كل تسليمتين، وهذا مأخوذ من حديث عائشة: "ما زاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً" يعني فاصل بين الأربع الأولى والثانية راحة، هذه تسمى تراويح؛ لأنهم يستريحون بين كل أربع ركعات، بين كل تسليمتين يستريحون، طيب عمر -رضي الله عنه- لما جمع الناس على التراويح جماعة، دليله هذا الحديث، الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما استمر، أبو بكر ما فعل.
طالب:. . . . . . . . .(59/20)
نعم ما استمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- للعلة التي ذكرها " ((خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)) فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمر على ذلك" يصلون أوزاعاً، وكل واحد يصلي لنفسه، وجاءت خلافة أبي بكر وهي قصيرة، والأمر على ذلك، ثم صدر من خلافة عمر الأمر على ذلك، ثم رأى أن يجمع الناس عليها، مستدلاً بهذا، خرج عليهم كما في الصحيح ليلة من الليالي، وأعجبه المنظر، أعجبه اجتماع الناس، وكثرة الناس على إمام واحد، واجتماع كلمتهم، فقال -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة هذه" "نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل منها" يعني هذه التي يصلونها في أول الليل ممدوحة، يعني نعمة، والتي ينامون عنها في آخر الليل أفضل، لا شك أن صلاة آخر الليل أفضل من أوله، طيب نعمت هذا مدح، والبدعة مذمومة، وكل بدعة ضلالة، فكيف يقول: نعمت البدعة؟ نعم من أهل العلم من يرى أن من البدع ما يمدح؛ لأن هناك بدع مستحسنة، وبدع سيئة، ((من سن سنة حسنة)) ((ومن سن سنة سيئة)) وهنا يقول: "نعمت البدعة" ما فعله عمر -رضي الله عنه- بدعة وإلا سنة؟ نعم؟ سنة، هل هي بدعة لغوية؟ والبدعة في الأصل ما عمل على غير مثال سابق، هذه البدعة اللغوية، عمر عمل التراويح على غير مثال سابق؟ لا، عمل ذلك على مثال سبق، سبقه النبي -عليه الصلاة والسلام-، فليست بدعة لغوية، هل هي بدعة شرعية؟ ليست بدعة شرعية؛ لأن لها دليل من السنة، والبدعة الشرعية ما عمل مما يتعبد به ويتقرب به إلى الله من غير أن يسبق له شرعية من كتاب ولا سنة، والتراويح سبقت شرعيتها في السنة، وإنما تركها النبي -عليه الصلاة والسلام- لا نسخاً لها، ولا عدولاً عنها، وإنما خشيت أن تفرض، طيب كيف يقول: بدعة؟(59/21)
الشاطبي يقول: مجاز، وشيخ الإسلام يقول: بدعة لغوية، والتعريف للبدعة اللغوية لا ينطبق عليها، كما أن البدعة الشرعية من باب أولى لا تنطبق، كيف يقول: نعمت البدعة؟ التعبير بالبدعة هنا وهي ليست بدعة لا لغوية ولا شرعية، ماذا يبقى لنا؟ أن يكون من باب المشاكلة، المشاكلة التي هي المجانسة في التعبير {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] الجناية سيئة، لكن عقوبة الجاني سيئة وإلا حسنة؟ حسنة بلا شك، تسميتها سيئة إنما هي مشاكلة في التعبير، في العبارة، مثلما ذكرنا البيت السابق.
قالوا: اقترح شيئاً نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقيمصا
مشاكلة مجانسة في التعبير، كأن قائلاً: ابتدعت يا عمر، فقال: "نعمت البدعة هذه" فشاكله وتنزل على أسلوبه وعلى حسب دعواه، والمشاكلة لا يلزم أن تكون بلفظ محقق؛ لأنهم في كتب البديع يقولون: تحقيقاً أو تقديراً، ولذا قالوا: أو قلنا: كأن قائلاً: ابتدعت يا عمر، هذا تقدير.
"متفق عليه، وهذا لفظ البخاري".
"وعنها -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر" التي هي أرجى الليالي بالنسبة لليلة القدر، النبي -عليه الصلاة والسلام- اعتكف العشر الأول من رمضان، يتطلب ويرجو ليلة القدر، ويتحرى ليلة القدر، ثم اعتكف العشر الأواسط، ثم استقر اعتكافه في العشر الأواخر.(59/22)
"كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره" يعني اجتهد في العبادة، واعتزل النساء، وطوى الفراش "وأحيا ليله، وأيقظ أهله" مفهوم هذا أنه يحيي الليل كله، مع أنه جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه ما أحيا ليلة كاملة إلى الفجر، فإما أن يقال: ما أحيا ليلة في غير العشر، أو نقول: أحيا ليله يعني غالبه، فعلى الإنسان أن يجتهد في هذه الليالي العشر، وأن يحفظ صيامه وقيامه مما يخدشه، لا يكون حظه من الصيام الجوع والظمأ، وحظه من القيام السهر والتعب؛ لأنه يسمع حتى من بعض المعتكفين كثير من القيل والقال، وقد يستدرجون في الكلام، فيصل إلى حد المكروه أو المحرم أحياناً، فضلاً عن كون بعض المعتكفين يتوسع، يتوسع توسعاً غير مرضي، وبعضهم يدخل معه المعتكف الآلات، الكمبيوتر، والإنترنت والجوالات، وقد يمضي الساعة في مكالمة، ويمضي الوقت الطويل مشاهداً لبعض الأشياء التي لا تسوغ، ولا تليق في أوقات الرخاء، فضلاً عن أوقات الشدة، مثل هذه الساعات النفيسة، وبعضهم يدخل الجرائد، نعم بعض الناس وإن كان ليس هذا وقته يستعمل التليفون ليرد على فتاوى المستفتين، هو من أهل العلم معتكف ويرد على الفتاوى، وقد تضيع الليلة كلها في الرد على الفتاوى.(59/23)
الرسول -عليه الصلاة والسلام- هذا وضعه، يستغل هذه الليالي بالصلاة والذكر والتلاوة لا غير، وأهل العلم قاطبة على ذلك، فيتركون التعليم، ويتجهون إلى قراءة القرآن، بل منهم من يترك التعليم من دخول الشهر إلى خروجه؛ لأن هذا شهر القرآن، لكن المقرر عند عامة أهل العلم أن النفع المتعدي أولى من القاصر، فإذا وجد النفع المتعدي والنبي -عليه الصلاة والسلام- جاهد في رمضان، كثير من الغزوات حصلت في رمضان، فبدر والفتح في رمضان، لكن من قال: أنا أستدل بالسلف وأهتدي بهديهم، وأترك كل شيء، وأقطع الصلات، وأتجه إلى قراءة القرآن، وأدارس القرآن في ليالي رمضان، وأكثر من التلاوة في نهار رمضان، وأحفظ صيامي في المسجد، ولا أختلط بالناس هذا عمل خير، لا يمكن أن يقال له: إلا أحسنت، لكن الإشكال إذا استدل في الترك وتوقف عن أفعال الخير، وما استغل الوقت كاستغلال السلف، يكون هذا حينئذٍ من تلبيس الشيطان عليه، فيترك ما كان يزاوله من أعمال الخير قبل رمضان وبعد رمضان، ويتفرغ في رمضان على حد زعمه مقتدياً بالسلف، وهو بعيد كل البعد عن حال السلف، تجده سهر ليل إلى الفجر في القيل والقال، ويقول: لا، أنا أقتدي بالسلف، نقول: لا، ما هو بهذا فعل السلف، نعم اقتدي بالسلف والزم المصحف، واختم مثلهم في كل ثلاث كما جاء عن بعضهم، أو في كل ليلة كما جاء عن بعضهم أيضاً، هذا الذي يقتدي بالسلف، يقول: والله أقتدي بالسلف وبعدين يتكلم في موضوع الاعتكاف، ويقول: لا تقول لي: أنا معتكف، ثم تمر عليك العشر ما ختمت ولا ختمة، اقرأ يا أخي القرآن، وأكثر، اقرأ جزء، جزأين.
طالب:. . . . . . . . .
هذا يقرأه عادي الناس بغير الاعتكاف.
على كل حال المسألة الناس منازل ومقامات، ما يمكن أن ينزلوا منزلة وحدة مع الأسف تدخل المسجد الذي فيه معتكف تجد فيه عشرات الجوالات في شواحنها من كهرباء المسجد، وتجد هذا يكلم، وهذا يتصل، وهذا يسولف، وهذا يتناول شيء يأكله، وهذا يشرب، وهذا ما أدري ويش؟ ويتحلقون على هذه الأمور التي قد تضرهم ولا تنفعهم.
سيأتي في الاعتكاف شيء من هذا -إن شاء الله تعالى-، لكن على الإنسان أن يحفظ وقته، وأن يتجه إلى ما هو بصدده.
سم.
وقال -رحمه الله-:(59/24)
باب: ما جاء في صيام التطوع
عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الصيام يوم عرفة؟ فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: ((يكفر السنة الماضية)) وسئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: ((ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت -أو أنزل علي– فيه)) رواه مسلم.
وعن أم الفضل بنت الحارث أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره، فشربه" متفق عليه، واللفظ لمسلم.
وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) رواه مسلم، وقد روي موقوفاً.
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)) متفق عليه، ولفظه لمسلم.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان" متفق عليه، وهذا لفظ مسلم.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه)) متفق عليه، واللفظ للبخاري، ولأبي داود: ((غير رمضان)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
باب: ما جاء في صيام التطوع
انتهى المؤلف من الكلام على الصوم الواجب، وأردفه بصوم التطوع، ومن نعم الله -جل وعلا- على المسلمين أن شرع لهم هذا الصيام التطوع ليكمل منه النقص في الصيام الواجب كالنوافل بعد الفرائض، فإذا حوسب الإنسان ووجد في فرائضه شيء من النقص قيل: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل به ذلك الخلل.(59/25)
"عن أبي قتادة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن الصيام يوم عرفة؟ " يعني في يوم عرفة "فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) " ((يكفر السنة الماضية)) هذا لا إشكال فيه ذنوب وقعت وحصلت من المسلم تكفر بالصيام، وهذا كما تقدم المراد بالذنوب المكفرة هي الصغائر، وأما الكبائر فإنها لا تكفرها إلا التوبة عند الجمهور، وإن كان الصغائر قليلة مع أنها ... ، أو لا توجد، وهذا لا يتصور، فإنه يخفف من الكبائر بقدر ما فعله من نوافل.
((يكفر السنة الماضية والباقية)) يعني اللاحقة، يكفر سنتين، فإما أن يوفق لعدم الوقوع في الذنوب، أو إذا وقع منه شيء من ذلك كفر عنه، كما حصل في السنة الماضية، وإذا صام يوم عرفة اللاحق فإنه وقد كفرت ذنوبه في السنة الماضية بسبب صيامه الماضي، لا شك أنه يخفف عنه من الذنوب الأخرى، أو ترفع درجاته، يعني الله -جل وعلا- لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
قد يقول قائل: أنا أصوم عرفة في كل سنة، فما معنى يكفر سنة ماضية وسنة لاحقة؟ أنا لا أحتاج إلا لسنة واحدة؛ لأن السنة الثانية مكفرة بعرفة، نقول: لا، الله -جل وعلا- لا يضيع عملك، إذا أحسنت العمل فالله -جل وعلا- يدخر لك ذلك، فإن صادف ما ينبغي تكفيره كفر، وإلا رفعت بذلك الدرجات.(59/26)
"فقال: ((يكفر السنة الماضية والباقية)) وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: ((يكفر السنة الماضية)) " يعني يكفر سنة واحدة، ولذا فصيام يوم عرفة أفضل من صيام يوم عاشوراء، وما طلعت الشمس على يوم خير من يوم عرفة، وهو أفضل أيام العام على الإطلاق، وصوم يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية، وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يصومه، ويأمر بصيامه، وكان صيامه واجباً قبل فرض رمضان، فلما فرض رمضان صار صيامه نفلاً، ثم في آخر سنة قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) وقال: ((صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)) وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحب موافقة أهل الكتاب، فلما أيس منهم أمر بمخالفتهم، لا يقول قائل: إن النبي -عليه الصلاة والسلام- صام سنوات كثيرة موافقاً لأهل الكتاب، ثم في آخر سنة قال: خالفوهم، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، نقول: كان يحب موافقتهم تأليفاً لهم، فلما أيس منهم قال: ((صوموا يوماً قبله)) وخالفوا أهل الكتاب، خالفوا اليهود والنصارى، إلى آخره، خالفوا المشركين، ومثله ما جاء عنه في فرق الشعر.
"وسئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: ((ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه -أو أنزل علي– فيه)) " نعم هذا يوم فاضل، وجاء في بعض النصوص الصحيحة أنه ترفع فيه الأعمال كالخميس ((وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)) فهناك علل متعددة لصيام الاثنين، منها:(59/27)
كونه -عليه الصلاة والسلام- ولد فيه، وولادته نعمة تستحق الشكر من الله -جل وعلا-، وشكره بفعل ما شرعه لا بالابتداع في دينه، الشكر المستحق في مقابل ولادة خير البشرية، خير البرية، وهادي البشرية أن يشكر الله -جل وعلا- بما شرع، لا أن يتعبد بما لم يشرعه من البدع، يعني كما أحدث بعض المبتدعة في عاشوراء أحدث بعض المبتدعة في مثل هذا اليوم فلا هذا ولا هذا، نحن أمة اقتداء، أمة نص، فلا نتعبد لله -جل وعلا- إلا بما شرعه لنا، فلا نجعل عاشوراء مأتم، ولا نجعل يوم المولد يوم احتفال، كما يحتفل الناس بمناسباتهم، ونتعبد بذلك، وهذا شيء لم يفعله أهل القرون المفضلة، إنما نعبد الله -جل وعلا- بما شرع لنا، نصوم؛ لأن هذا يوم حصلت فيه هذه النعمة من الله -جل وعلا-، فنشكر الله -جل وعلا- بفعل ما شرعه لنا. ((ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه)) والعلة مركبة من هذه الأمور كلها، هل يستطيع من يقيم المولد أن يقول: هذا يوم ترفع فيه الأعمال، سوي مولد يوم الخميس؛ لأنه ترفع فيه الأعمال، ما يمكن أن يقول هذا؟ العلة مركبة من كونه ولد فيه -عليه الصلاة والسلام-، ويوم بعث فيه، وأنزل عليه القرآن، وترفع فيه الأعمال، كل هذه الأمور مجتمعة يصام من أجله، يشكر الله -جل وعلا- على هذه النعمة، ولا ننتظر حتى يحول الحول على ذلك، هذا في كل أسبوع نفعله، شكراً لله -جل وعلا- "رواه مسلم".
"وعن أم الفضل بنت الحارث أن ناساً تماروا" ...
يعني جاء الحث على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وجاء الحث على صيام البيض الثلاثة، فالثلاثة الأيام يمكن أن تتداخل مع أمور أخرى، يمكن أن يصومها الإنسان في يوم الاثنين من كل أسبوع، أو يصوم اثنين وخميس واثنين من الأسبوع الثاني، أو يصوم الثلاث البيض ويحصل له الأجور المرتبة على هذا كله.(59/28)
"وعن أم الفضل بنت الحارث أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة" والرسول -عليه الصلاة والسلام- واقف بعرفة، سمعنا أن صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية، يكفر سنتين، فهل يحرم منه الحاج؟ حاج يقول: أنا أقف في هذا الموقف العظيم، وأتعرض لنفحات الله، وأصوم، أتقرب إلى الله بالصيام، رجاء أن يكفر عني الذنوب الماضية واللاحقة، تماروا اختلفوا، فبعض الناس قالوا: الرسول -عليه الصلاة والسلام- صائم؛ لأنه ما يمكن أن يفوت هذه الفرصة يكفر سنتين ولا يصوم، وبعضهم قال: لا، الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما صام.
"تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه -أم الفضل- بقدح لبن، وهو واقف على بعيره فشربه" متفق عليه، واللفظ لمسلم".
وهكذا يجب أن يكون القدوة حاضر في مواضع الحاجة إليه، أما أن يترك الناس يدوكون ويبحثون ويسألون ولا يجدون من يكشف لهم الأمر، وآخر من يتكلم في كثير من المجالات هو القدوة، هذا ليس بمنهج شرعي ولا نبوي، هذا تقصير، النبي -عليه الصلاة والسلام- لما حصل هذا شرب القدح وهو واقف على بعيره، يراه الناس كلهم، وهناك في كراع الغميم شرب والناس ينظرون كلهم، ينبغي أن يكون القدوة أول من يحضر في مثل هذه المناسبات؛ لئلا يترك الناس حيص بيص؛ لأنه في بعض المناسبات تفوت هذه المناسبة والناس ما يدرون ما يفعلون، والقدوة غائب، هذا صنيعه -عليه الصلاة والسلام-، في كل مناسبة يجب أن يحضر، وعلى أتباعه من ورّاث نبوته العلماء أن يكونوا حاضرين في كل مناسبة، يحتاج إليهم فيها، أما أن تلوك ألسنة الناس من جميع الفئات ما يحتاج إليه المسلمون في دينهم، ثم نجد آخر من يتكلم من يجب عليه البيان هذا تقصير، وهو مسئول عن هذا أمام الله -جل وعلا-.
الرسول -عليه الصلاة والسلام- أتي بقدح فشرب على البعير، يراه الناس كلهم؛ لأن الناس يحتاجوه في هذا الموضع، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذا هو واجب ورّاث علمه ونبوته من أهل العلم.
"متفق عليه، واللفظ لمسلم".(59/29)
"وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) رواه مسلم، وقد روي موقوفاً".
لكن العبرة بما خرجه مسلم من رواية الحديث مرفوعاً، ولا إشكال فيه، وعامة أهل العلم على استحباب صيام الست من شوال، ولا يعرف مخالف إلا الإمام مالك -رحمه الله-، فإنه قال في موطئه: إنه لم ير أحداً من أهل العلم والفقه يصومها، وعلته في ذلك أن الخبر لم يثبت عنده، والأمر الثاني: ألا يظن وجوبها، يعني لزوم الناس لها قد يظنه بعض الجهال أنها واجبة، ولكن هذا الكلام لا يمكن أن يستقيم مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)) لأن رمضان عن عشرة أشهر، والستة الأيام عن ستين يوماً، الحسنة بعشر أمثالها، فصيام رمضان وست شوال كأن الإنسان صام الدهر كله.
طيب صيام رمضان مع الست من شوال ممدوح وإلا مذموم؟ ممدوح، صيام الدهر ممدوح وإلا مذموم؟ ((لا صام من صام الأبد)) نعم، فهو مذموم، كيف يشبه الممدوح بالمذموم؟ نقول: لا يلزم من التشبيه أن يكون مطابقاً المشبه للمشبه به من كل وجه، لا تلزم المطابقة من كل وجه، فقد يكون وجه الشبه من وجه دون وجه، فكأنه استوعب الأيام كلها بالصيام، لكن لو صام الدهر على الخلاف في ذلك من أهل العلم من يقول: حرام، ومنهم من يخص التحريم بما إذا صام الأيام المحرمة، المقصود أن التشبيه لا يلزم مطابقة المشبه بالمشبه به من كل وجه "رواه مسلم".
((من صام رمضان ثم أتبعه)) والتابع لا بد أن يكون بعد نهاية المتبوع، وإلا ما يسمى تابع، إلا إذا انتهى المتبوع يأتي التابع، فعلى هذا من بقي عليه شيء من رمضان فإنه لا يصح منه صيام الست إلا إذا أكمل رمضان ليصح أنه أتبع رمضان الست من شوال، ولذا من عليه قضاء من امرأة عذرت فأفطرت في رمضان يلزمها أن تقضي قبل الست، من سافر في رمضان وأفطر في رمضان يلزمه القضاء قبل الست؛ ليصح أنه أتبعه ستاً من شوال، أما من صام الست وفي ذمته شيء من رمضان لا يصح أنه أتبعه ستاً من شوال.(59/30)
((من صام رمضان)) شرط، وستاً نكرة في سياق الشرط تعم، أي ست من أوله، من أثنائه، من آخره، مجتمعة، مفرقة، لكن الإتباع يوحي بأن الأفضل أن تكون تبعاً له مباشرة، تتبعه مباشرة، لكن لو صام من أثنائه، أو من آخره مجتمعة أو متفرقة صح أنه صام ستاً من شوال، وست مؤنث، والأيام مذكر، لما لم يذكر التمييز جاز التذكير والتأنيث، ولو ذكر التمييز للزم التذكير ستة أيام من شوال.
عائشة -رضي الله عنه- تقول: "كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لمكان النبي -عليه الصلاة والسلام- مني" هل يقال: إنها تترك الست؟ تترك يوم عرفة؟ تترك ... ؟ أو نقول: إن هذا يجوز أن تقدم هذه المواسم المؤقتة التي تفوت والقضاء لا يفوت؟ خلاف بين أهل العلم، لكن مقتضى الحديث أن الست لا تصح ممن في ذمته شيء من رمضان، وهذا هو المرجح أن الإنسان لا يصوم الست إلا إذا فرغ من صيام رمضان.
"وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)) " يعني سبعين سنة، بسبب صوم يوم ((في سبيل الله)) وفي سبيل الله إذا أطلق كما أطلق في آية الصدقة ينصرف إلى الجهاد في سبيل الله، وعلى هذا حمله الإمام البخاري، فترجم في كتاب الجهاد: باب الصيام في الجهاد، فحمله على الصوم في الجهاد، وأن من جمع بين الجهاد، جهاد العدو بالسنان، وجهاد النفس بالصيام يحصل له هذا الأجر بخلاف من صام مبتغياً بذلك وجه الله في غير الجهاد، ومن أهل العلم من حمله على الصيام في سبيل الله، يعني مبتغياً بذلك وجه الله -جل وعلا-، مخلصاً في ذلك لله -جل وعلا-، فإن الله يباعد وجهه عن النار سبعين خريفاً، ولو لم يكن في الجهاد، وفضل الله واسع "متفق عليه، ولفظه لمسلم".(59/31)
"وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم" الرسول -عليه الصلاة والسلام- حياته كلها جهاد، وتبليغ لدعوة الله -جل وعلا-، فقد تتابع عليه الأيام منهمكاً في جهاد مثلاً، أو في دعوة، أو في استقبال وفود، وما أشبه ذلك فيؤخر الصيام يفطر أيام متتابعة، حتى يقول الناظر له: الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما هو بيصوم، ثم يسنح له فرص وشيء من الفراغ يستغلها بالصيام حتى نقول: إنه لا يفطر، وهكذا يفعل أتباعه ممن ينوء بأحمال الأمة، يعني الأمة لا بد لمن يقوم لله بالحجة فيحمل هم الدعوة والتعليم والقضاء وغير ذلك ممن هو بمثابة عالم الأمة، مثل هذا لو صام في بعض الأيام والأمة بحاجته إلى أمر عام، هل يكون الصيام في حقه أفضل؟ لا، نقول: هذا يفطر حتى تسنح الفرصة بحيث تمر عليه الأيام والأسابيع ما يصوم.
"يفطر حتى نقول: لا يصوم" ثم تسنح له فرص؛ لأن الدنيا فرص يجب على المسلم أن يستغلها يحصل عنده شيء من الفراغ فيستغل هذا الفراغ بالصيام، وهذا شأنه وهذا ديدنه، وهذه طريقته -عليه الصلاة والسلام-.
" كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان" متفق عليه، وهذا لفظ مسلم".
"ما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان" هل يلزم من هذا أنه يصوم في النصف الثاني من شعبان، وقد جاء فيه: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا))؟ لا يلزم، يعني إذا صام نصفه الأول نعم، المقارنة ليست بالنسبة للشهر، يعني لا يعني أنه يصوم أكثر الشهر، إنما يصوم في هذا الشهر أكثر من الأشهر السابقة، في غيره من الأشهر، مع أنه جاء: ((أفضل الصيام صيام شهر الله المحرم)).(59/32)
على كل حال جاء الحث على الصيام في شهر المحرم باعتباره شهر حرام، من الأشهر الحرم، وجاء أيضاً النبي -عليه الصلاة والسلام- يغتنم غفلة الناس في شعبان؛ لأن الناس يغفلون عن شعبان؛ لأنه واقع بين رجب وهو شهر حرام، وواقع بين رمضان وهو شهر الله المعظم، فينبغي استغلال الغفلات، غفلات الناس بالعبادة.
"وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان" متفق عليه، وهذا لفظ مسلم" وأما حديث: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)) فقد ضعفه كثير من أهل العلم بحديث: ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين)) متفق عليه، فمفاده ومفهومه جواز الصيام من شعبان قبل الشهر بثلاثة أيام، وجواز من كان يصوم صوماً فليصمه ولو تقدم الشهر بيوم أو يومين على ما تقدم، وهذا لا شك أنه أرجح من حديث: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا)).
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه)) " يعني الزوج له حق عظيم على الزوجة، يقدم على جميع النوافل، وعرفنا أن عائشة -رضي الله عنها- يكون عليها القضاء من رمضان فتؤخر هذا القضاء حتى يضيق الوقت، حتى شعبان، حتى يضيق الوقت، ويتعين الصيام في هذه المدة، وحينئذٍ لا يكون للزوج سلطان على المرأة، فما أوجبه الله -جل وعلا- مقدم على حق الزوج، لكن يبقى أنه إذا كان الوقت متسع يؤخر، ولا تصوم المرأة نفلاً وزوجها شاهد إلا بإذنه، وهذا إذا كان يتعارض مع حقوقه، لكن إذا كان لا يحتاجها، امرأة كبيرة في السن لا يحتاجها زوجها، وزوجها حاضر، وهي تعرف أنه لا يحتاجها، ولا يتأثر بذلك هذا في حكم الإذن، ولو أخذت منه الإذن المطلق، وعليه أن يأذن لها في هذه الحالة، لا يحرمها الأجر وهو لا يحتاجها، ويكون هذا من باب التعاون على البر والتقوى، فإنه عليه أن يأذن لها، أما إذا كان بحاجتها لا يستطيع الصبر عنها، وليس عنده ما يغنيه عنها، فإنه لا يجوز لها ولا يحل لها أن تصوم صوم نفل إلا بإذنه.
"متفق عليه، واللفظ للبخاري، ولأبي داود: ((غير رمضان)) " أما رمضان ما فيه إذن لأحد، هذا واجب والفطر فيه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وما أوجبه الله -جل وعلا- مقدم على كل واجب يوجبه غيره، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وغداً نكمل كتاب الصيام؛ ليكون آخر الدروس درس الغد -إن شاء الله تعالى-.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(59/33)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر - كتاب الجامع (1)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
ففي هذه الدورة الثانية من الدورات العلمية المباركة التي تقام في هذا المكان لطلاب العلم اقترح الإخوة أن يكون المشروح كتاب الجامع؛ لكثرة ما يشرح ويسمع ويقرأ في أحاديث الأحكام، اقترحوا أن يكون في هذا الباب أو في الكتاب الجامع من هذا الكتاب النافع، وهذا الكتاب يضم ما يقرب من مائة حديث، مائة إلا ثلاثة أحاديث، الأربعون الأولى منها في الصحيحين متفق عليه، ولذا لما يشر المؤلف إلى تخريجه، الأربعون الأولى في الصحيحين، يليها ثلاثة عشر حديثاً في البخاري، يعني من مفرداته، أربعة عشر حديثاً، ثم ثلاثة وعشرون حديثاً من مفردات مسلم، وعشرون حديثاً متفرقة، فجل الأحاديث وغالبها مما اتفق على صحته؛ لوجوده في الصحيحين أو في أحدهما، والضعيف منها يسير جداً، وفيها الحسن وهو قليل، وما بقي من ذلك فهو صحيح.(60/1)
هذا الكتاب اعتاد أهل العلم ممن يصنف في الأحكام أن لا يخلو باب الآداب والرقاق، وما يكون دواء للقلوب مما ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- اعتادوا أن لا يخلو كتبهم من هذا الباب، أو من هذا الكتاب الجامع؛ لأن طالب العلم إذا عرف الأحكام تأهل للخدمة؛ لتحقيق ما خلق من أجله وهو العبودية، لكن من الذي يضطره إلى العمل بهذه الأحكام؟ تضطره أحاديث الرقاق، وفي هذا الكتاب الجامع منها ما يجعل طالب العلم يعمل بعلمه؛ لأنه في غمرة الأحكام العملية المتعلقة بالبدن، ومعلوم أن الأحكام العملية البدنية إذا أديت على الوجه المشروع لا شك أنها حياة للقلوب، لكن في الغالب والمشاهد في كثير من الناس أنه يأخذ هذه الأحكام ويغرق في بحث هذه الأحكام وأقوال أهل العلم فيها، ويغفل عما يصلح قلبه، ولذا يوجد الجفاء بين كثير من طلاب العلم، بل ممن ينتسب إلى العلم أحياناً، وعدم الإقبال على الله -جل وعلا- في عباداته، ولهذا الثمرة المرجوة من هذه العبادات ضعيفة، فالصلاة تثمر التقوى والخشية والمراقبة لله -جل وعلا-، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، فنجد من طلاب العلم من يصلي ويحرص على الصلاة، ومع ذلك توجد منه بعض المخالفات فضلاً عن عامة الناس، والسبب في هذا الخلل الموجود في هذه الصلاة {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [(45) سورة العنكبوت] فالصلاة إذا أُديت على الوجه المطلوب، ووجد لبها وهو الخشوع، وتدبرت وعقلها صاحبها أثمرت الثمرة المرجوة، وإلا ماذا يتوقع من صلاة لم يخرج صاحبها إلا بعشر أجرها، هذه الصلاة هل يتوقع أن تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ ((الصلوات الخمس كفارات لما بينهما ما لم تغش الكبيرة)) هذه الصلاة تكفر ما بينها وبين الصلاة الأخرى؟! شيخ الإسلام يقول: إن كفرت نفسها فبها ونعمت، وكذلك بقية الأركان.(60/2)
الصوم إنما شرع للتقوى، لتحقيق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [(183) سورة البقرة] يصوم كثير من المسلمين بما في ذلك بعض طلاب العلم ولا يورث هذا الصيام شيئاً، بحيث إذا انتهى رمضان، أو أفطر من صوم النفل عاد يزاول ما كان يزاوله في شعبان، لماذا؟ لأنه لم يؤدَ على الوجه المطلوب.
وأيضاً الغفلة عن الأحاديث التي تعالج أمراض القلوب، والعناية بالحديث ظاهرة ولله الحمد، لكن يبقى أن كثيراً من أبواب الدين مهجورة، على طالب العلم أن يُعنى بالفقه بالدين، والدين يشمل جميع أبواب الدين، ليس معنى هذا في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) .. فهل معنى هذا أنه يعرف الأحكام العملية ويغفل عن غيرها؟ الفقه العلم بالله، وما يجب لله من .. ، هذا هو الفقه الأكبر عند أهل العلم، ثم بعد ذلك بقية أبواب الدين، ولذا لما جاء جبريل إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان قال: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فهذه الأمور مجتمعة هي الدين، والعلم بها هو الفقه في الدين، وما وجد هذا الخلل إلا بإهمال بعض أبواب الدين، ومن أعظم الأبواب أبواب الرقاق، وتعريف الإنسان بحقيقة هذه الدنيا ليزهد فيها ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) كان الراوي ابن عمر يقول: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" الذي يتصور الدنيا على حقيقتها لا شك أنه سوف يتجافى عنها، ويعمل لآخرته محققاً ما خلق من أجله.
والكتاب هنا كتاب الجامع مصدر كتب يكتب كتاباً وكتابة وكتباً، وأصل المادة تدور على الجمع، تكتب بني فلان إذا اجتمعوا، وجماعة الخيل كتيبة، والمراد به هنا اسم المفعول المكتوب الجامع لما تحته من أبواب من الآداب والزهد والرقاق وغيرها.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:(60/3)
كتاب: جامع باب الزهد والورع
وعن الشعبي عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال.
في حديث عمر؟!
نعم.
ولا في باب؟!
نعم يا شيخ؟
كتاب الجامع عن عمر بن الخطاب.
إيش الطبعة التي معك؟
هذه الطبعة مخرجة ....
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات)) " هذا الحديث حديث عمر: ((إنما الأعمال بالنيات)) حديث مشهور عند أهل العلم تلقوه بالقبول، وبنوا عليه أحكام عظيمة جداً، بل بُني عليه الشرط الأول مع ما جاء في بابه من الآيات والأحاديث، بُني عليه الشرط الأول لقبول الأعمال وهو الإخلاص لله تعالى، هذا الحديث عظم العلماء من شأنه، حتى قال قائلهم: إنه ينبغي أن يكتب هذا الحديث في بداية كل باب من أبواب العلم؛ لماذا؟ ليستحضر طالب العلم النية التي عليه مدار تصحيح العمل، فالنية كما هو معروف شرود والمؤثرات والخوادش عليها كثيرة جداً، فإن استحضرنا هذا الحديث وجعلناه في بداية كل باب ما غفلنا عنها، وصدر به جمع من أهل العلم كتابه، وأول حديث في الصحيح هذا الحديث في البخاري: ((إنما الأعمال بالنيات)).
وقال الشافعي: إنه يدخل في سبعين باباً من أبواب العلم، وجزم بعضهم بأنه ربع العلم، فالعلم والدين يدور على أربعة أحاديث هذا أولها.
عمدة الدين عندنا كلمات ... مسندات من قول خير البرية
اتقِ الله وازهد وادع ما ... ليس يعنيك واعملن بنية(60/4)
المقصود أن هذا الحديث شأنه عظيم، ورغم عظمته ومسيس الحاجة إليه لم يثبت عن أحد من الصحابة إلا عن عمر بن الخطاب، ولم يثبت عن عمر إلا من طريق علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا من طريق محمد إبراهيم التيمي، ولا يروى عنه بسند صحيح أو مقبول إلا من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وعنه انتشر، حتى بلغ رواته عند يحيى بن سعيد فيما قيل سبعمائة، وإن كان الحافظ ابن حجر ينازع في بلوغ العدد، وأنه حرص وتعب على جمع طرقه ورواته عن يحيى بن سعيد فما استطاع تكميل المائة، فالمقصود أن هذا مجمع على صحته، ومتلقىً بالقبول، ومخرج في الصحيحين فلا كلام لأحد، وإن كان فرداً مطلقاً، بل هو مثال للفرد المطلق.
وكون الحديث لا يروى إلا من طريق عمر، ولا يروى عنه إلا من طريق علقمة، وتتلقاه الأمة بالقبول فيه الرد العملي على من يرد الخبر الواحد أو يرد ما تفرد بروايته راوٍ واحد، وإن قال بهذا بعض العلماء، وأن هذا شرط لصحة الخبر أن يروى عن اثنين فأكثر، أو شرط للبخاري في صحيحه، لكن هذا الكلام ليس بصحيح، وفي هذا الحديث رد على من يقول بذلك.
وليس شرطاً للصحيح فاعلمِ ... وقد رمي من قال بالتوهمِ
يعني: تعدد الرواة، ويفهم ويومئ كلام الحاكم إلى اشتراط العدد، والبيهقي أيضاً أشار إلى شيئاً من ذلك، والكرماني الشارح -شارح البخاري- أشار في مواضع إلى أن شرط البخاري أن يروي الحديث أكثر من واحد، ابن العربي في عارضة الأحوذي قال: إن حديث: ((هو الطهور ماؤه)) لم يخرجه البخاري لأنه لم يثبت إلا من طريق واحد، لكن ماذا يصنع بهذا الحديث؟! أول حديث في الصحيح، وآخر حديث في الصحيح فرد مطلق في هذا رد على من اشترط العدد في الرواية، رد عملي.
فالحديث أو الخبر عموماً إذا بلغ من طريق من يقبل قوله وتقبل روايته صار حجة ملزمة ولو تفرد به، ما لم يخالف من هو أوثق منه، حجة ملزمة؛ لأن هذا يثير إشكال عند بعض الناس، يعني: هل يتردد أحد في صحة حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) بل لو أقسم أحد على أنه صحيح ما حنث.(60/5)
وقال أهل العلم: لو طلق شخص زوجته أن هذا الحديث صحيح ما طلقت زوجته، وتوجد الدعاوى من المعتزلة وأتباع المعتزلة أن خبر الواحد لا يقبل، وهذه حكمة، هذا الحديث خطب به على المنبر ومع ذلك لا يثبت إلا من طريق واحد، حكمة إلهية أن يبرهن على قبول الخبر الواحد بمثل هذا الخبر، بمثل هذا الحديث، وإذا بلغ الخبر لزم العمل به إذا كان ممن تقبل روايته، ولا يلزم في ذلك التعدد في الرواة، ويستشكل كثير من الباحثين ما يُذكر عن الأئمة من مئات الألوف من الأحاديث التي يحفظونها، فالإمام أحمد سبعمائة ألف، وأبو داود خمسمائة ألف، والبخاري مائة ألف، وغيرهم كثير، أين ذهبت هذه الأحاديث؟ لو جمعنا ما في كتب السنة ما بلغت هذا القدر ولا عشره، ولا عشر هذا العدد، هل نقول: إن الأمة فرطت بشيء من دينها؟ كلا، الدين محفوظ، والأمة معصومة من أن تفرط بدينها؛ لأنه محفوظ، ضمان بقائه إلى قيام الساعة معلوم، هو من هذا النوع، الحديث خطب به على المنبر فحفظه المئات، ثم بعد ذلك عند الأداء أداه من تقوم به الحجة، فلا يلزم أدائه من جميع الناس، فالخبر إذا أداه من تقوم به الحجة يكفي، على أن الأعداد المذكورة عند أهل العلم هي بالتكرار، رُب حديث يروى عن طريق مائة فيكون مائة حديث عندهم، ويدخل فيه أيضاً فتاوى الصحابة والتابعين.
وفيه ما فيه لقول الجعفي ... أحفظ منه عُشر ألف ألفِ
ولعله أراد بالتكرارِ ... لها وموقوفٍ وفي البخاري
المقصود أن مثل هذه الأعداد لا تشكل علينا، بأن يقول قائل أو يثير من يريد أن يشكك، من أراد أن يشكك يقول: الإمام أحمد يحفظ سبعمائة ألف حديث وين الأحاديث؟ الدين ضاع، ولعل ما ينصره من قول مخالف للشرع على حد زعمه في حديث ضُيع أو الحديث الذي يستدل به عليه معارض بحديث ضيع في ضمن ما ضيع من مئات الألوف من الأحاديث التي يحفظها الأئمة، نقول: هذا الكلام ليس بصحيح، الأمة معصومة من أن تفرط بدينها، والدين محفوظ ومضمون بقاؤه إلى قيام الساعة، لكن لا يلزم أن يروي الحديث كل من سمعه لا يلزم؛ لأن الأمر بالتبليغ: ((بلغوا عني ولو آية)) ((وليبلغ الشاهد الغائب)) هذا إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، ولا يلزم الباقين أن يبلغوا.(60/6)
"قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات)) " إنما: أداة حصر، فالأعمال محصورة بنياتها، فوجود العمل وجوده حقيقة العمل الشرعية مرتبطة بالنية، قد توجد صورة العمل، لكن هذا الوجود لا قيمة له؛ لأن العبرة بالوجود الشرعي، ولذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام- للمسيء: ((صل فإنك لم تصل)) لقائل أن يقول: صلى ركع وسجد وقام وقرأ، لكن نقول: لا، هذه الصلاة لا قيمة لها، وإن وجدت صورتها، العبرة بالحقيقة الشرعية، فالأعمال الشرعية وجودها الشرعي بالنيات، بنياتها، ويختلف أهل العلم في تقدير متعلق الجار والمجرور، فمنهم من يقدر الصحة، ومنهم من يقدر الكمال، لكنهم لا يختلفون في اشتراط النية لصحة المقاصد، وإن اختلفوا في اشتراطها بالنسبة للوسائل، الصلاة لا يصححها أحد من أهل العلم بغير نية، لكن يوجد من يصحح الوضوء بغير نية لأنه وسيلة، وعامة أهل العلم على أن الوضوء عبادة تشترط لها النية داخلة في الحديث، والذي لا يشترط النية في الوضوء يشترطها للتيمم مع أنه وسيلة، بل بدلاً عن وسيلة، فاشتراط النية والصدق فيها والإخلاص لله -جل وعلا- أمر معلوم عند أهل العلم، وبه يقول الكافة، إذا أنضاف إلى هذا الشرط الشرطُ الثاني الذي يدل عليه الحديث الثاني وهو أن يكون العمل موافقاً لما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويأتي ذكره في الحديث الثاني.(60/7)
((إنما الأعمال)) الأعمال: الأصل أن (أل) هذه جنسية، يصلح أن يكون مكانها (كل) كل الأعمال "إنما كل الأعمال أو جميع الأعمال بالنيات" أو يكون المقصود بها العهد، وهي الأعمال المعهودة الشرعية صحتها بالنية، الذي يقدر اللام جنسية يطرد قوله في الأعمال الشرعية وغير الشرعية، فالشرعية تشترط النية لصحتها، وغير الشرعية تشترط النية لترتب الثواب عليها فتكون الجنسية، جميع الأعمال تفتقر إلى نية، فإن كان العمل شرعي مما يتقرب به إلى الله -جل وعلا- توقفت صحته على النية، وإن كان العمل عادي من أمور الدنيا توقف ثوابه على النية وإن صح بغير نية، فالذي يطلب العلم الشرعي والعلم الشرعي المبني على الوحيين عبادة لا يصح إلا بنية خالصة لله -جل وعلا-، وإذا دخلت هذه النية لا شك أن المتعلم في هذه الحالة على خطر، وإذا انعدمت هذه النية وتعلم لينال بذلك الدنيا أو الشرف أو ليقال: صار من الثلاثة الذي هم أول من تسعر بهم النار -نسأل الله السلامة والعافية-، لكن انظر إلى الطبيب والمهندس هذه من أمور الدنيا لا يشترط في صحة العمل نية، فلو طلبه للدنيا طبيب ليرتزق، مهندس يقصد بذلك الدنيا ليعيش، مزارع كذلك، صانع كذلك، لكن من الذي يرتب الثواب على هذه الأعمال النية، إذا طلب هذا العلم أو هذا العمل بنية خالصة صالحة أثيب عليه وإلا خرج منه كفافاً.
((وإنما لكل امرئ ما نوى)) عرفنا أن صحة الأعمال وترتب الثواب على الأعمال إنما هو بالنيات ((وإنما لكل امرئ ما نوى)) ليس له من العمل غير ما نواه، فهذه منطوق هذه الجملة يؤكد مفهوم الجملة الأولى، فإذا لم ينو شيئاً لم يحصل له شيء، وإن نوى غير ما تدل عليه الجملة الأولى هذا الذي يطلب العلم لا لشيء مثلاً ليس له شيء، والذي يطلبه للدنيا {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} [(16) سورة هود] هذا طلب للدنيا.(60/8)
((فمن كانت)) الفاء هذه التفريعية ((من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) (من) شرطية، ومنهم من يقول: موصولة مشربة معنى الشرط، ولذا اقترن جوابها بالفاء ((من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) الهجرة في الأصل: الترك، وهي في الشرع: الانتقال من بلاد الكفر إلى ديار الإسلام إلى بلاد الإسلام، وهي واجبة إلى قيام الساعة، وحديث: ((لا هجرة بعد الفتح)) إنما هو بعد الفتح لأن مكة صارت دار إسلام فلا هجرة بعد الفتح.
((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) فعل الشرط: من كانت هجرته إلى الله ورسوله، وجواب الشرط: ((فهجرته إلى الله ورسوله)) العلماء يشترطون تغاير الشرط مع الجزاء، واتحاد الشرط مع الجزاء ممنوع عندهم، لا يصح عندهم أن تقول: من قام قام، ومن أكل أكل، من أكل فقد أكل، ومن قام فقد قام، يصح أو ما يصح؟ لا يصح عندهم، اتحاد الشرط مع الجزاء، هنا لتعظيم الأمر وتهويله ((من كانت هجرته إلى الله ورسوله)) إذا أريد تعظيم الأمر كرر بحروفه:
أنا أبو النجم وشعري شعري ... . . . . . . . . .
((من كانت هجرته إلى الله ورسوله)) لا بد من التقدير هنا ليتغاير الشرط مع الجزاء نية وقصداً ((فهجرته إلى الله ورسوله)) حقيقة وحكماً أو ثواباً وأجراً، جاء في الحديث: ((من رآني فقد رآني)) يعني: رأى حقيقتي؛ لأن الشيطان لا يتمثل به -عليه الصلاة والسلام-.(60/9)
((فهجرته إلى الله ورسوله)) هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة مرتين، وهاجروا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة، ووجبت الهجرة على من أسلم أن يهاجر إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ومنُع المهاجر أن يمكث في البلد الذي هاجر منه، الذي تركه لله، ولم يستثن من ذلك إلا المستضعف الذي لا يستطيع حيلة، ولم تذكر الحيلة في شيء من النصوص صراحة إلا في الهجرة؛ لماذا؟ لعظم الأثر المترتب على إقامة المسلم بين الكفار، فالحيلة الصريحة إنما جاء التنصيص عليها في الهجرة، والسبب في هذا عظم الأثر المترتب على إقامة المسلم بين ظهراني الكفار، وكم من أخبار وكم من قصص يندى لها الجبين بالنسبة لمن يقيم بين ظهراني الكفار، وكم من شخص ارتد -نسأل الله السلام والعافية- بسبب ذلك، وأولاد المسلمين يؤخذون قهراً منهم، ويعلمون في مدارس غيرهم، السبب في هذا إقامتهم بين ظهراني الكفار إلا العاجز، العاجز الذي لا يستطيع حيلة مثل هذا معذور، جاء التنصيص عليه في آية النساء، أما الذي يستطيع أن ينتقل من بلاد الكفر إلى بلاد المسلمين يجب عليه ذلك.
وقد برئ المعصوم من كل مسلم ... يقيم بدار الكفر غير مصارم
المقصود أن الأمر ليس بالسهل لعظم الأثر المترتب عليه، والحيلة الشرعية إنما تجوز وتكون شرعية إذا كانت مما يتوصل به إلى فعل الواجب أو ترك المحرم، أما إذا كانت الحيلة على العكس يتوصل بها إلى ترك واجب أو إلى فعل محرم هذه حيل اليهود التي نُهينا عن التشبه بهم فيها ((لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)) فالذي يتحايل على الواجبات فيتركها، أو يتحايل على المحرمات فيرتكبها هذا فيه شبه من اليهود.(60/10)
((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) هجرته إلى ما هاجر إليه، سياق الشرط الثاني في مقابل الشرط الأول، الشرط الأول مدح والثاني ذم أو ليس بذم؟ الذي يقابل المدح الذم، ولا شك أن السياق يشعر بالذم، لكن من هاجر إلى بلد من البلدان لأنه ضاقت به المسالك في بلده، وانتقل إلى بلد آخر طلباً للزرق أو ماتت زوجته أو بحث عن زوجة فلم يجد ما يتزوجه في بلده فانتقل إلى بلد آخر لأنه يجد امرأة يتزوجها هناك يذم أو ما يذم؟ يذم؟ لا يذم؛ لماذا؟ لأنه هاجر طلباً للمباح، وأحياناً يكون طلباً لمستحب، وأحياناً يكون طلباً لواجب على حسب الحكم الشرعي بالنسبة له إلى طلب الدنيا ليتعفف بها عن سؤال الناس، أو طلب الزوجة ليحصن نفسه، لكن السياق هنا سياق ذم، وهو محمول على من تظاهر بالهجرة إلى الله ورسوله وحقيقة الأمر أنه إنما أراد الدنيا أو المرأة.(60/11)
ذكرنا مثالاً في الدورة الماضية يصور لنا أو يقرب لنا هذه الهجرة، يعني الحديث محمول على شخص هاجر وفي نيته أنه يطلب المال، ثم يقول للناس: والله هذا البلد ليس فيه ما يعين على العبادة، أو تحصيل العلم، أو ما أشبه ذلك، أنا انتقل إلى البلد الفلاني، انتقل من المدينة إلى الرياض أو إلى كذا؛ لأن المشايخ والعلماء متوافرون هناك، ويتيسر لي أن أطلب العلم وهو في الحقيقة لأن فرص العمل الدنيوي أكثر في حقيقة الأمر، وكذلك إذا قال: يذهب هناك للبلد الفلاني لأن العُباد أكثر يعينونه على تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، وفي حقيقة الأمر أنه ذكر له امرأة تناسبه هناك، فيتظاهر بغير الواقع، والمثال الذي كررناه: لو افترضنا أن شخصاً إذا بقي على غروب الشمس ربع ساعة نصف ساعة من يوم الاثنين أخذ التمر والقهوة والماء وذهب إلى المسجد وبسط سماطه في المسجد ووضع التمر وانتظر حتى يؤذن وهو ما صام، وكل من دخل من باب المسجد: تفضل أفطر معنا، هو ما صام، إذا نظرنا إلى أصل المسألة الأكل في المسجد مباح، وكونه لا يأكل إلا في وقت معين ما لم يتعبد به ينتظر مباح، لكن كونه يرتبط بهذا الوقت بهذه المدة على هيئة الصائمين، ويدعو الناس ليفطروا الناس معه، وينتظر حتى يؤذن، هذا يتظاهر للناس، بل يظهر للناس خلاف ما هو عليه، فيذم من هذه الحيثية، وإلا الأكل في المسجد ما فيه شيء، يعني: لو جاء بعدته من التمر والشاي والقهوة الضحى مثلاً، وصلى ركعتي الضحى وجلس يذكر الله حتى يؤذن لصلاة الظهر، ومعه التمر والشاي والقهوة وكذا ما يلومه أحد، لكن كونه يتحين هذا الوقت ويتظاهر للناس الذي يدخلون مع الأبواب أنه إنما يستعد للفطور من الصيام من هذه الحيثية يذم، ولذا الذي هاجر للدنيا أو هاجر من أجل المرأة، وقد أظهر للناس بقوله أو بفعله، بلسان حاله أو مقاله أنه إنما هاجر لله ولرسوله الذم من هذه الحيثية ((ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها)) دينا الدنيا ما قبل الآخرة، وما قبل الموت بالنسبة للأفراد، سميت بذلك لدنوها وقربها، أو لدناءتها وحقارتها.(60/12)
((أو امرأة)) المرأة ومرأة مؤنث المرء والامرأ، وهذه الكلمة يقولون: إنها من الغرائب الامرأ، يقولون: لأن عينه تابعة للامه في الحركات، الراء تابعة للهمزة، جاء امرؤٌ، ورأيت امرأً، ومررت بامرئ، فالعين تابعة للام.
((فهجرته إلى ما هاجر إليه)) والحديث متفق عليه، متلقىً بالقبول، مجمع على صحته.
والوقت لا يستوعب أكثر من هذا.
نعم.
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الحديث الثاني:
"وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) " الإحداث والابتداع والتجديد لأن الحديث هو الجديد، والإحداث يطلق ويراد به الإنشاء والاختراع، ويطلق ويراد به التجديد.
((في أمرنا)) يعني في الدين، أما الإحداث والابتداع في أمور الدنيا، والإبداع والتجديد لا يدخل في هذا الحديث؛ لأنه يقول: ((في أمرنا)) يعني: في ديننا وفي شأننا.(60/13)
((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) الإحداث والابتداع في الدين مردود على من فعله كائناً من كان ((كل بدعة ضلالة)) والبدعة مردودة ممن جاء بها، لكن إذا أُثرت عمن أُمرنا بالاقتداء به فإنها حينئذٍ لا تكون بدعة ولا إبداع ولا إحداث، فمثلاً في قول عمر -رضي الله تعالى عنه-: "نعمت البدعة" يعني: صلاة التراويح التي جمع الناس عليها، نعمت البدعة، بعض الشراح أساء الأدب وقال: "والبدعة مردودة ولو كانت من عمر" عمر أُمرنا بالاقتداء به والاستنان بسنته ((اقتدوا باللذين من بعدي)) ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)) إذاً كيف يحدث ويبتدع عمر؟ ونقول: هذه بدعة لكنها من عمر فهي مقبولة، ومعلوم أن الأمر بالاقتداء باللذين من بعده والاهتداء بهديهم إنما هو فيما لا معارضة له مع ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((كل بدعة ضلالة)) عمر -رضي الله تعالى عنه- لما جمع الناس على صلاة التراويح وخرج ورآهم يصلون وأعجبه جمعهم على الإمام الواحد وعدم تفرقهم، الذي يترتب عليه اجتماع وأتلاف القلوب قال: نعمت البدعة، الشاطبي يقول: مجاز، استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: بدعة لغوية وليست شرعية، البدعة اللغوية ما عمل على غير مثال سابق، والشرعية ما دل عليها الحديث، ما أحدث في الدين مما لم يسبق له شرعية من كتاب أو سنة، فهل جمع عمر الناس في صلاة التراويح على إمام واحد من باب البدعة اللغوية أو الشرعية؟ هل عمل عمر على غير مثال سبق؟ هل أحدث في الدين ما لم يسبق له شرعية في الكتاب والسنة؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى بهم ثلاث ليالٍ ثم ترك، ترك نسخ وإلا خشية أن تفرض مع بقاء الحكم؟ نعم، خشية أن تفرض وليس نسخاً لها، تركها لسبب، فإذا ارتفع السبب ارتفع الترك، آمنا من فرضيتها بموته -عليه الصلاة والسلام- فيعود الحكم الذي هو الترك، فليست ببدعة شرعية قطعاً؛ لأنها عُملت على مثال سبق بأن سبق لها شرعية من عمله -عليه الصلاة والسلام-، وليست ببدعة لغوية لأنها مثل ما ذكرنا لا ينطبق عليها حد البدعة اللغوية؛ لأن أكثر ما يتمسك به المبتدعة(60/14)
بقول عمر، ومن يقسم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة يستند إلى قول عمر، ومن يقسم البدع إلى الأحكام التكليفية الخمسة يستند إلى قول عمر، فإذا أجبنا عن قول عمر انتهى الإشكال.
قال: وهذه بدعة لكنها حسنة، فما المانع من أن يحدث بدع حسنة بخلاف البدع السيئة؟ هذه بدعة مستحبة فلماذا لا نبتدع بدع واجبة؟ إلى غير ذلك مما يحتمله أحكام التكليف، نقول: أصلاً هذه ليست ببدعة، طيب تقولون: ليست ببدعة وصاحبها يقول: بدعة؟ نقول: ليست ببدعة، طيب كيف يقول: بدعة؟ نقول: هذه ليست بمجاز لأنه لا مجاز، وهذه أيضاً ليست ببدعة لغوية لأنها سبق لها شرعية، ولم تعمل على لا مثال سبق، إنما سبق لها التشريع من المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فليست ببدعة لا لغوية ولا شرعية، وإنما هي من باب المشاكلة والمجانسة في التعبير {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [(40) سورة الشورى] الأولى سيئة بالفعل والثانية حسنة؛ لأن معاقبة الجاني ليس بسيئة، هذه مشاكلة في التعبير، مجانسة، وهذا أسلوب معروف في البديع من علوم البلاغة.
قال: اقترح شيئاً نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
مشاكلة، والمشاكلة: أن يأتي المتكلم بكلام له مشاكل ومجانس في السياق حقيقة أو حكماً، يعني: هل يوجد من قال لعمر: ابتدعت يا عمر فقال: نعمت البدعة؟ لا يشترطون أن يكون المجانس والمشاكل مذكور، بل لو وجد حكمه كأن عمر -رضي الله تعالى عنه- خشي أن يقول قائل: ابتدعت يا عمر، فقال: نعمت البدعة، وعلى هذا التقسيم تقسيم البدع إلى ما يمدح وما يذم أو إلى ما يجب ويستحب ويباح تقسيم لا أصل له، والشاطبي في الاعتصام رده رداً قوياً، وقوض دعائمه، وإن قال به بعض العلماء، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((كل بدعة ضلالة)) وهنا (من) من صيغ العموم.(60/15)
((من أحدث)) مهما كان المحدث ومهما كان الحدث ((في أمرنا)) في ديننا هذا ((ما ليس منه فهو رد)) يعني: مردود عليه، رد مصدر يراد به اسم المفعول كالحمل يطلق ويراد به المحمول، فكل من أحدث في الدين فهو في ضلالة؛ لأن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، هل المراد أن هذا الضلالة نفسها البدعة نفسها في النار مع سلامة صاحبها، أو المراد أن صاحبها في النار؟ نعم المراد صاحبها ((ما أسفل من الكعبين ففي النار)) يعني: الثوب في النار وإلا صاحب الثوب؟ صاحب الثوب بلا شك.
والحدث والإحداث في الدين شأنه خطير لأنه تشريع، ومشاركة لله -جل وعلا- في شرعه، وصد عن دينه؛ لأن كل بدعة توجد تكون في مقابل سنة، كل من ابتدع أو عمل ببدعة حرم من العمل بالسنة بقدرها، ولذا جاء في الحديث الصحيح: ((الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يُحدث، ما لم يؤذِ)) الحدث هذا يحتمل أن يكون إبطال الطهارة، ويحتمل أيضاً أن يكون إحداثه في الدين، فيحرم من هذا الدعاء، المقصود أن الحوادث والبدع شأنها عظيم، وأمرها خطير، وله قواعد، ولها ضوابط، ولها أمثلة كثيرة في كلام أهل العلم، وألفت فيها الكتب، ولا داعي للإطالة بتفصيلها.
هذا الحديث مع الرواية الأخرى: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) عليه الشرط أو منه يؤخذ الشرط الثاني لقبول الأعمال وهو المتابعة، فكل عبادة يشترط لها شرطان: الإخلاص كما دل عليه الحديث الأول، والمتابعة وهو ما دل عليه الحديث الثاني {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [(7) سورة هود] يعني ما قال: أكثر، أحسن.(60/16)
يقول الفضيل بن عياض: {أَحْسَنُ عَمَلاً} [(7) سورة هود] أخلصه وأصوبه، الخالص هو الشرط الأول أخلصه، يكون العامل مخلصاً لله -جل وعلا- في عمله، صواباً على سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وإذا اختل شرط من هذين الشرطين لم يقبل العمل، منهم من يقول: يكتفى بالشرط الثاني، وهو أن يكون موافقاً لما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، يكفي أن تصلي كما رأيت النبي -عليه الصلاة والسلام-، يكفي أن تأخذ عنه المناسك، يكفي أن تأخذ عنه الصيام، وغير ذلك لأنه هو الأسوة والقدوة يكفي هذا الشرط؛ لأنك إذا عملت مثل ما عمل غير مخلصاً لله -جل وعلا- ما تحقق الشرط الثاني، فلن يتحقق الشرط الثاني إلا بتحقق الشرط الأول، فعلى هذا يكتفى بالشرط الثاني، ويشترط لصحة العمل أن يكون صواباً على هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن هديه الإخلاص، إذاً لا داعي لأن يشترط الشرط الأول، وأقول: أهل العلم يؤكدون على الشرط الأول، وهو وإن دخل من حيث العموم والجملة في الشرط الثاني إلا أنه لا بد من التنصيص عليه؛ لأن الغفلة عنه تجعل العمل على نقيض المقصود مقصود العامل، لا يكفي أن تكون مثلاً الصلاة باطلة إذا لم يكن الرجل مخلصاً فيها، ولا يكفي أن يكون حكمه حكم العوام إذا لم يكن مخلصاً في علمه، إنما يكون وبالاً على صاحبه -نسأل الله السلامة والعافية-، فالتنصيص على الإخلاص والتذكير به في كل مناسبة أمر لا بد منه، ولذا قال أهل العلم ما ذكرناه في أول الدرس: أن هذا الحديث حديث عمر ينبغي أن يجعل في صدر كل باب من أبواب الدين.(60/17)
((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) يستدل به من يبطل جميع التصرفات الشرعية إذا وقع فيها ما ليس من أمره -عليه الصلاة والسلام-، أو ما ليس من فعله -صلى الله عليه وسلم-، فيستدل بهذا من يرى عدم وقوع الطلاق إذا لم يكن سنياً إذا كان بدعياً، فالثلاث المجموعة لا تقع كيف لا تقع؟ لأنها بدعة، لكن هل يقول قائل: إنها لا تقع بالكلية أو تقع واحدة؟ الطلاق في الحيض لا يقع لأنه بدعي، وليس عليه أمرنا فهو مردود على صاحبه، الطلاق في طهر جامعها فيه لا يقع لأنه بدعي وليس عليه أمر النبي -عليه الصلاة والسلام-، طلاق الثلاث مقتضى هذا أن لا يقع به شيء صح وإلا لا؟ مثل الطلاق في الحيض، لكن هل يقول قائل: إن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً لم يتخللها رجعه أنه لا يقع شيء لأنه بدعي أو يقع واحدة؟ يقع واحدة، لكن لو قلنا بالتطبيق الحرفي لهذا الحديث على هذه المسألة فالمقتضى أن لا يقع شيء لأنه بدعي مردود نرده بالجملة، بالكلية، كيف نرد طلقتين ونقبل واحدة؟ جاء الخبر الصحيح أن الطلاق الثلاث على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- وعهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر واحدة، وعلى هذا يعول من يقول: إن الطلاق الثلاث إنما يقع واحدة، وهو القول المرجح عند شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم، وإن كان الجمهور على خلافه؛ لأن عمر أوقعه لما رأى الناس يتتابعون عليه، ويتلاعبون بحدود الله أوقعه عليهم، وعمل به جماهير أهل العلم تبعاً لعمر، والمفتى به والمرجح عند أهل التحقيق أن الثلاث تكون واحدة، والعمدة في هذا حديث الباب مع ما يفسره من كونهم يجعلون الثلاث في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر الثلاث واحدة، وإذا كان هذا هو الموجود في عصر النبي -عليه الصلاة والسلام- فهو الحجة وهو المعتبر، وكون عمر يمضيه على الناس من باب التعزير ليس معنى هذا أنه يستقر حكماً شرعياً، يعني: مثل ما جاء في الأمر بقتل المدمن ((إذا شرب الرابعة فاقتلوه)) قالوا: إن حده الأربعون جلدة، أو الثمانون على خلاف بين أهل العلم، وأما قتله فمن باب التعزير، إذا لم يرتدع الشُرّاب بالحد يقتل من يرتدع بهم الباقي.(60/18)
الزيادة على المشروع، الأعداد المقدرة شرعاً مثل ركعات الصلوات، شخص صلى الظهر متعمد خمس ركعات، أو صلى الصبح ثلاث ركعات، أو المغرب أربع ركعات متعمداً هذا صلاته باطلة اتفاقاً؛ لأنه أحدث في الدين فهو مردود عليه؛ لأن هذا حد محدد ومقدر شرعاً لا تجوز الزيادة عليه والنقص منه.
زاد على الأذكار المطلوبة قلنا: الزيادة في الأعداد في أعداد ركعات الصلوات تبطلها، فإذا زاد على الأذكار هل يترتب الوعد من الثواب أو الحفظ على هذه الزيادة، أو نقول: إن هذه الزيادة كأعداد الصلوات تبطل المزيد؟ مثلاً: ((من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) لو قالها مائة وعشر، قال: ما من زيادة التسبيح إلا خير، تأتي عليها بالبطلان ولا يترتب عليها أثرها؟ أو نقول: المقصود حصل بالمائة والزيادة قدر زايد الأولى أن لا يزاد وإن زيْد فلا أثر له؟ ولذا جاء في حديث: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة كتب له .. ومحي عنه .. وحفظ .. وكانت حرزاً له من الشيطان، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا شخص عمل مثله أو زاد)) يعني هل معنى هذا أن من قال: لا إله إلا الله إلى آخر المائة وعشرة يحوز على هذه الآثار المترتبة على هذا الذكر والزيادة مقبولة في مثل هذا لأنه ذكر ((وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)) فالزيادة تكون من المطلق، أو نقول: لا بد أن يتقيد بالعدد كأعداد الصلوات؟ وما معنى: أو زاد؟ هل المراد به زاد على المائة أو زاد في المئات؟ يعني: قالها مائة، ثم قالها مائة ثانية، ثم قالها مائة ثالثة، وهكذا؟
طالب: ثانية.(60/19)
الذي يظهر أنه زاد على المائة، فتكون المائة محققة للوعد، وما زاد عليها له أجره، ولم يأت على المزيد بالبطلان، وهذا يخفف في هذا الباب، وإلا فالأصل أن الأعداد التي جاءت عن الشارع ورتب عليها بعض الأمور أن قائلها لا بد أن يتقيد بها، وإلا ما صار للعدد فائدة، هل يدخل قولهم الزيادة مطلوبة أو الزيادة من الثقة مقبولة في مثل هذا؟ يعني سبحان الله وبحمده مائة مرة قالها مائة وعشرة، أو قال: لا إله إلا الله مائة وعشرة أو مائة وعشرين هل نقول: هذا يدخل فيمن زاد؟ ويترتب عليه الأثر والأجور المرتبة في الحديث والزيادة لها أجرها تكون من المطلق؟
قوله: "أو زاد" هل يحمل على المئات أو على العشرات أو الآحاد؟ إذا جاء بمائة حقق ما طلب منه، وترتب عليه آثاره، لكن لو نقص واحدة أو زاد واحدة، يعني: هل العدد له مفهوم أو لا مفهوم له؟ جاء بمائة في أول النهار، جاء بمائة بعد الظهر، جاء بمائة بعد العصر، جاء بمائة بعد المغرب، جاء بمائة بعد العشاء، هل نقول: إن هذا يدخل فيمن زاد، أو نقول: إن المطلوب مائة في اليوم؟ أو كما جاء في بعض الروايات: في اليوم مرتين، يعني: في النهار وفي الليل، جاء في بعض الروايات ما يدل على هذا، فعلى هذا من جاء بها ثلاث مرات، يعني: هل الزيادة عليها مؤثرة؟ لا، ليست مؤثرة، بدليل قوله: ((أو زاد)) لكن هل هذه الزيادة غير المؤثرة في المئات كما يقول بعضهم: إن العدد المحدد ما فيه زيادة عليه، مائة مائة لا تزيد ولا تنقص، لكن إن زدت مئات دخلت في قوله: "أو زاد" لكن إن زدت آحاد أو عشرات زدت على القدر المحدد شرعاً فلا يثبت لك الأجر إن سلمت من الوزر.
طالب:. . . . . . . . .
ما دام اللفظ محتمل واللفظ صحيح ما الذي يجعلنا نضيق على أنفسنا، نعم الأعداد التي لم يأتِ فيها مثل هذا لا يزاد عليها ولا ينقص، لكن من جاء بهذا الذكر الذي فيه: ((أو زاد)) ما المانع أن يأتي بالمائة، ويضمن ما رتب عليها، وبعد ذلك يقول ما شاء ليزيد.
طالب:. . . . . . . . .
نعم.(60/20)
وعن الشعبي عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن الشعبي" عامر بن شراحيل التابعي الجليل "عن النعمان بن بشير" الصحابي الجليل يقول: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه" ليبين أنه متحقق من ضبط هذا الخبر وحفظه وإتقانه، وأنه سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- مباشرة من غير واسطة، سمعه بأذنيه، لكن هل الخبر يسمع بأذنين أو بأذن واحدة؟ يعني: أشار بأذنيه {وَتَعِيَهَا} [(12) سورة الحاقة].
طالب:. . . . . . . . .
إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
{أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} هل الخبر يسمع بأذن واحدة أو بأذنين؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
تظن الأخبار بالهدفون تجي بالأذنين! النعمان أهوى -رضي الله عنه- بأصبعيه، الصحابي يقول: سمعته أذناي، لا شك أن وصول الخبر إلى الحاسة حاسة السمع على حسب موقع المخبر، إذا كان المخبر من جهة اليمين فالأذن اليمنى، وإن كان من جهة الشمال فالتي تسمع الأذن اليسرى، وإن كان في المقابل من الأمام أو من الخلف بحيث يكون بعد الصوت عن الأذنين على حد سواء يسمع بأذنيه أو تسمعه الأذن الأقوى في السمع دون الأخرى.
"وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه" لبين أنه سمعه من النبي -عليه الصلاة والسلام- من دون واسطة.(60/21)
يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين)) الحلال بين وواضح، الحرام بين واضح لا خفاء فيه، وهذا من باب المقابلة بين المتضادين، هذا حلال وهذا حرام، فالحلال ضد الحرام، والحرام ضد الحلال، ولذا لما جاؤوا في ترجمة حرام بن عثمان قالوا: بلفظ ضد الحلال ليضبط اسمه لئلا يصحف، حرام إيش معنى حرام؟ شخص يسمى حرام؟! يهجم عليه من يصححه فيقول: حزام مثلاً، لا، قالوا: بلفظ ضد الحلال، وهذه طريقة لهم في ضبط الأسماء، الحكم بن عتيبة كثير من الكتب مصحف فيها إلى عيينة، لكن الشراح يقولون: بتصغير عتبة الدار وينتهي الإشكال، ما نحتاج إلى أن نقول: بضم العين المهملة ولا .. ، أبد، تصير معروفة، وهذه من طرقهم في ضبط الألفاظ.
((إن الحلال بين)) تأكيد ((وإن الحرام بين)) واضح لا اشتباه فيه، وأيهما الأصل الحظر أو الحل؟
طالب:. . . . . . . . .
أيهما الأصل؟
طالب:. . . . . . . . .
الحل الأصل.
طالب:. . . . . . . . .
تفصيل.
طالب:. . . . . . . . .
أبو حنيفة يقول: الحلال ما أحله الله، والشافعي ومن معه يقولون: الحرام ما حرمه الله، الذي يسمع هذا الكلام يقول: ما في فرق، في فرق بين المذهبين؟
طالب:. . . . . . . . .
أبو حنيفة يقول: الحلال ما أحله الله، مفهومه أن ما عدا ما أحله الله فهو حرام، إذن الأصل الحظر.
وقول الشافعي: الحرام ما حرمه الله، يكون الأصل الحل، ثم إن وجد ما يرفع هذا الأصل إلى التحريم انتقل عن الأصل، لو خرجت في نزهة إلى البر فوجدت نباتاً أو حيواناً لا تعرف حكمه ما عندك فيه دليل لا دليل يبيح ولا دليل يمنع تأكل أو لا تأكل؟ على رأي أبي حنفية ما تأكل؛ لأن الحلال ما أحله الله، وليس عندك نص يدل على أن الله أحل هذا، وعند الشافعي تأكل حتى تقف على نص يمنعك منه.(60/22)
((إن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات)) بعض الروايات: ((مشبهات)) بعض الروايات: ((متشابهات)) وهنا يقول: ((مشتبهات)) يعني: ملتبسات ((لا يعلمهن كثير من الناس)) يلتبس الأمر فيهن على كثير من الناس، كون الأمر يلتبس على العامة هذا هو الأصل؛ لأنهم لا علم لهم بالحلال والحرام إلا ما علم من الدين بالضرورة، لكن كون الأمر يشتبه ويلتبس على طلاب العلم أو بعض أهل العلم، والاشتباه أمر نسبي قد يكون هذا مشتبه وملتبس على زيد من الناس ولا يلتبس على عمرو، يلتبس على هذا العالم، ويظهر الحكم لآخر، يلتبس فهم الخبر على هذا العالم ويتجلى لغيره، فهذه الأمور نسبية، وعلى كل حال إذا كان الشخص من أهل النظر فالمشتبهات بالنسبة له، هذه الأمور المشتبه منهم من يقول: هي المكروهات، فهذه المكروهات تتقى خشية أن تكون من المحرمات في حقيقة الأمر، وإن لاح للمجتهد أنها لا تصل إلى التحريم فهذه شبهة، برزخ بين الحلال والحرام، ومنهم من يقول: المشتبهات ما يختلف فيه بين العلماء من غير ترجيح، فيخشى أن يكون القول الراجح مع من حرم، ومنها أقوال كثيرة لأهل العلم لكن الخلاصة: أن على المسلم أن لا يقرب المحرمات الواضح تحريمها، البين تحريمها، وعليه أن يتقي الشبهات استبراءاً لدينه وعرضه؛ لئلا يقع في المحرمات، ومن ورع السلف -رحمهم الله- أنهم يتركون الحلال الذي يخشى منه أن يجر إلى الحرام، فالاستمرار والإكثار من مزاولة المباحات وتعويد النفس عليها لا شك أنه يجر إلى المكروهات، ويجر إلى الشبهات، متى وصل بنو إسرائيل إلى الجريمة العظمى قتل الأنبياء؟ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [(112) سورة آل عمران] تبدأ الأمور بالشيء السهل، ثم يتطور يتجاوزه إلى ما عداه؛ لأن عقوبات المعاصي معاصي أكبر منها، السيئة تقول: أختي أختي، فإذا عمل هذه المعصية جرته هذه المعصية عقوبة له إلى المعصية التي تليها {ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [(112) سورة آل عمران] إلى أن وصل الأمر إلى قتل الأنبياء، ووصل الأمر بغيرهم إلى قتل الذين يأمرون الناس بالقسط، وهو مقرون بقتل الأنبياء -نسأل الله السلامة والعافية-، تجد هذا يبدأ بمعصية(60/23)
صغيرة، ثم التي تليها، ثم التي تليها، ثم يستمرئ الكبائر والجرائم، ثم يعتادها فتجره إلى ما هو أعظم، فعلى الإنسان أن يجعل لنفسه حداً وسداً منيعاً لئلا يُستدرج بسبب ما يقع فيه من معاصي يظنها سهلة إلى ما هو أعظم منها، وإلا هل يتصور مسلم يعقل ما يقول والله -جل وعلا- يقول: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [(28) سورة الرعد] أن يقول:
ألا بذكر الله تزداد الذنوبُ ... وتنطمس البصائر والقلوبُ
يتصور؟! لا، هل هذه أول ما قال؟ لا، ليست أول ما قال، هل يتصور مسلم يصلي يسجد لله يقول: سبحان ربي الأسفل؟ إلا أنه قد قال قبلها كلمات، وأنتم وفي هذه الأيام التي نعيشها نفاجأ بأن فلان قال كذا، ونستعظم هذا الأمر، لكنه قال قبله كلمات رققت مثل هذه الكلمة، وتصرف هذه التصرفات التي سهلت عليه مثل هذا الكلام، ولذا هذا الاحتياط في هذا الحديث ينبغي أن يكون نصب عيني المسلم وبالذات طالب العلم.
((وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات)) أو ((المشتبهات)) أو ((المتشابهات)) اتقاها جعل بينه وبينها وقاية، كيف تجعل وقاية؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .(60/24)
بالابتعاد عنها تجعل هناك سد واقي، ولا يكون إلا بترك شيء من المباحات، الآن تصور المحرمات بعيدة عنك لأنك مسلم تتدين بقال الله وقال رسوله، تتدين بقوله: افعل ولا تفعل، المحرمات في أول الأمر بعيدة عنك، دونها الشبهات البرزخ، ثم دونها مباحات، ثم دونها ما دونها، حتى لا تصل إلى الشبهات تترك شيء من المباحات؛ لتضمن أنك بعيد عن الشبهات، وبعدك عن الشبهات دليل على أنك للمحرمات أبعد، نضرب مثال: المساهمة في شركة فيها الحرام بين، الربا الصريح مهما قلت نسبته هل هذا من الشبهات أو من الحرام البين؟ هذا حرام بين، دون هذه الشبهة دون هذا الحرام البين شركات أو مؤسسات تتعامل بأمور يختلف فيها العلماء، منهم من يجيز، ومنهم من يمنع، وقد يدخل بعض عقودهم شيء يغطي ويلبس أمر هذه العقود، ويخفي وضعها على بعض الناس، هذه شبهات، قد يرد على هذه الشركات أو هذه المؤسسات شيء ما حسبت له حساب، هذه شبهات يمكن أن يُتخلص منها، والأولى أن لا يدخل في شيء فيه شبهة، فضلاً عن كونه يدخل في شيء ويقدم على محرم، يعني: يقدم على محرم يقول: يتخلص منه؟ ليس بصحيح، الإقدام على المحرم حرام، لكن تقدم على شيء مباح حلال بين، ثم يرد عليك من غير قصد شيء فيه شبهة هذا تتخلص منه.(60/25)
((فمن اتقى الشبهات)) جعل بينه وبين هذه الشبهات وقاية، الآن لو أن شخصاً سكن سواء كان في بيت، أو في محل تجاري بجوار مطعم أو بجوار مخبز، في وقاية بينه وبين المخبز جدار، لكن إذا وضعت يدك على الجدار تحس بالحرارة وإلا ما تحس؟ تحس بالحرارة، تحتاج إلى عوازل، لا بد من عوازل تقيك هذه الحرارة، وقد يحتاط فيضع عوازل وعوازل أخرى، هذا لأمر دنياه يحتاط؛ ليش؟ لأنه ما يريد الحرارة، ويحتاط أيضاً لئلا يحمل الكهرباء أكثر مما تتحمله؛ لأنه بدل ما يحتاج إلى مكيف يضع اثنين إذا صار بجواره مخبز، لكن إذا وضع العوازل ووضع .. اتقى هذا الحر بما يستطيعه من وقاية ابتعد عن الحرارة، وهنا نقول: اتقى الشبهات، كيف يتقي الشبهات؟ يتقيها بترك ما يقرب منها من مباحات، فيقع في المحرم وهو لا يشعر، تستدرجه هذه المقدمات إلى النتائج المحرمة، فهذا معنى: ((استبرأ لدينه)) طلب البراءة لدينه فلم يرتكب محرم بسبب تجاوزه هذه الشبهة، واستبرأ أيضاً لعرضه لئلا يقع فيه من يقع، يعني: إذا رأى الناس شخص يتساهل في معاملاته، لا يأتي إلى المحرم الصريح، لكنه لا يتورع عن أمور قد لا يتبينها، أو قد يرد عليه أشياء أو قد .. ، المقصود أن مثل هذا يكون فرصة لكلام الناس، يتحدث الناس فيه، فلان لا يتورع، فلان لا .. إلى أن يقال: إن فلان يأكل الحرام، وإن كانت حقيقته لا يأكل الحرام البين، لكنه هو الذي عرض نفسه لكلام الناس.
((استبرأ لدينه وعرضه)) يعني: قطع ألسنة الناس عنه، لكن هل هذا يبرر للناس أن يقعوا في عرضه؟ لا، ليس بمبرر، ومثل هذا لا يبيح عرضه، بل هو مسلم له حقوقه، وعرضه مصان، وغيبته حرام، وجاء في المماطل: ((مطل الغني ظلم، يبيح عرضه وعقوبته)) هل معنى هذا أن الناس يجعلونه مادة لأنسهم وحديثهم؟ لا، إنما أبيح .. ، أهل العلم قالوا: إن الحديث يبيح من عرضه أن يقول المظلوم المُماطل: مطلني فلان، لا يزيد على ذلك، ومثل هذا لا تجوز غيبته، يعني كونه يقع لا يعني أنه يباح.(60/26)
((استبرأ لدينه وعرضه)) وكثير من الناس يعرض نفسه وعرضه للقيل والقال، ومن كف الغيبة عن نفسه وأعان على كف الغيبة عن نفسه هذا لا شك أنه يسلم من الناس وأذاهم، ومع ذلك يسلم غيره من معرة غيبته، فالمسألة فيها طرفان: هذا الشخص الذي عرض نفسه لغيبة الناس يتوجه إليه الخطاب بهذا الحديث، والذي وقع في عرضه له نصوص يواجه بها، وقل مثل هذا: عالم زل مثلاً أو كثر منه الشذوذ مثلاً، لا شك أنه ما استبرأ لعرضه، هذا هو الذي صار في طريق الناس يطئونه ذهاباً وإياباً، لكن ليس هذا بمبرر أن يطأه الناس، أو يلوكون عرضه، أو يتكلمون فيه، هذا ليس بمبرر، فكل له من خطاب الشرع ما يخصه، وعلى الإنسان إذا أراد أن يتكلم سواء كان هذا الشخص الذي وقع في الشبهات، أو الشخص الذي كثر منه الشذوذ في الفتوى بحيث صار فاكهة في مجالس الناس عليه أن يراقب الله -جل وعلا-، فلا يعرض إخوانه المسلمين لأن يقعوا في عرضه، ويأثمون بذلك، وعلى الآخرين أيضاً أن يحاسبوا أنفسهم، وعلى كل أحد أن يجعل المراقبة والخشية لله -جل وعلا- حق، نصب عينيه، وأعراض المسلمين حفرة من حفر النار ...(60/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر - كتاب الجامع (2)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
المراقبة والخشية لله -جل وعلا- حق، نصب عينيه، وأعراض المسلمين حفرة من حفر النار، يقول ابن دقيق العيد: وقف على شفيرها العلماء والحكام، المقصود أن مثل هذا الذي لا يتقي الشبهات لا بد وأن يقع في الحرام، كما أن الذي يسترسل في المباحات قد يبحث عن هذه المباحات التي عود نفسه عليها فلا يجدها، وحينئذٍ يتجاوزها إلى ما وراءها من المكروهات والشبهات، ثم بعد ذلك يبحث عن هذه الشبهات والمكروهات فلا يجدها، وقد ألفتها نفسه فيتجاوزها إلى المحرمات معللاً بأن الله -جل وعلا- غفور رحيم، لكن يغفل عن كونه شديد العقاب، عن كونه -جل وعلا- شديد العقاب، فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه.
((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) نعم الذي يعتاد هذا الأمر لا شك أنه قد عود نفسه، واستمرأ على هذا الشيء لا بد أن يتجاوزه إلى غيره؛ لأنه قد يطلبه في وقت من الأوقات فلا يحصل له.
((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)) شرط جزاء ((كالراعي)) هذا مثال وتنظير مطابق، واستعمال للقياس الصحيح.
((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)) في رواية: ((يرتع)) الراعي يرعى حول الحمى، الحمى الأصل أن الملوك لهم دواب، ولهم مواشٍ يرتزقون من ورائها، مما لا يشغلهم عن ملكهم، ويحمون لهم الحمى، والنبي -عليه الصلاة والسلام- حمى لأبل الصدقة، وأبو بكر وعمر، فهذا الحمى إذا رعى هذا الراعي حوله، يعني كون الراعي يمر بأبله أو بغنمه على حافة هذا الحمى على نفس الحد، هل يأمن أن تدخل واحدة من هذه المواشي فتأكل من الأرض المحمية؟ لا يملك، لا بد وأن .. ، والغالب أن الأرض المحمية تكون أخصب من غيرها، فتند منه الشاردة من الإبل أو من الغنم فتأكل من هذا الحمى، وهو أيضاً إذا مشى على الحافة ولم يتقِ الشبهات لا شك أنه سوف يقع فيما حرم الله عليه.(61/1)
((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، إلا وإن لكل ملك حمى، إلا وإن حمى الله محارمه)) لا يجوز قربانها، فكون المحرم لا يجوز قربانه أبلغ من كونه لا يجوز الوقوع فيه، بمعنى أنه يمنع وتمنع الوسائل الموصلة إليه، يُمنع المحرم وتمنع الوسائل الموصلة إليه، ولذا حرم الله النظر، وأمر بغض البصر وجوباً، فيأثم الذي يرسل نظره ولو لم يقع في الفاحشة؛ لماذا؟ حماية للمحرم، وصيانة له.(61/2)
((ألا وإن حمى الله محارمه)) (ألا) أداة تنبيه تجعل السامع ينتبه لما بعدها ((ألا وإن في الجسد مضغة)) في الجسد في جسد ابن آدم مضغة، يعني: بقدر ما يمضغه الإنسان ((في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)) إذا صلحت هذه المضغة صلح الجسد كله ((وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) فالجسد بجميع أجزائه مملكة، القلب هذا هو الملك، والجوارح أعوان له، الجوارح والحواس كلها أعوان فيما يصدر منه وفيما يرد إليه وسائط، إذا صلحت هذه المضغة صلح الجسد كله، وإذا فسدت بالعكس، والعكس بالعكس، فالمعول على هذه المضغة وهي القلب، فعلى المسلم أن يسعى لصلاحها، وشفاؤها بتدبر القرآن، وفهم ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- والعمل به، هذه المضغة المحسوسة القلب مثار إشكال كبير عند أهل العلم من الشرعيين والأطباء وغيرهم، يعني خطاب الشرع في جملته يتجه إلى القلب، والعقل عند أهل العلم هو مناط التكليف، وجاء الاقتران بين العقل والقلب في بعض الآيات، فهل المراد فيما وجه إليه الخطاب الشرعي القلب القطعة المعروفة في بدن الإنسان التي تضخ الدم أو هي غيرها؟ الأطباء يجعلون المعول على العقل الذي محله الدماغ، وأما القلب فكغيره كالرئة مثلاً، كغيره بدليل أنه يغير قلب إنسان يزرع له قلب ولا يتأثر عندهم، لكن ماذا نصنع بخطاب الشرع الذي في جملته موجه إلى القلب مثل هذا الحديث؟ وقوله: ((إلا وإن في الجسد مضغة)) لدلالة على أن هذا أمر حسي لا معنوي ((إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب)) ولذا عامة أهل العلم أو أكثرهم على أن العقل محله القلب، الأطباء يقولون: يزرع قلب جديد والعقل هو هو ما تغير، وقد يوجد قلب سليم من الناحية الطبية مائة بالمائة في جسد مجنون، لا عقل له، فدل عندهم على أنه لا ارتباط بين العقل والقلب، يقولون: العقل محله الدماغ، وقد يختل العقل والقلب سليم، والعكس، وتمشياً مع النصوص التي كلها تخاطب القلب يقول أهل العلم: إن العقل محله القلب، الإمام أحمد له رأي في المسألة وهو: أن العقل محله القلب وله اتصال بالدماغ، بمعنى أنه يكون -على جهة التمثيل- مثل الكهرباء فيه السالب والموجب أحدهما لا يعمل بغير(61/3)
الآخر، ومثل هذا الأمر الذي يخفى على الناس المسألة من عضل المسائل، وهي من أقرب ما يتصوره الإنسان إلى نفسه قلبه، كما أن روحه التي بين جنبيه لا يعرف كنهها ولا حقيقتها، وكذلك جاء مثل هذا في أقرب وأهم شيء في الإنسان لا يدرك حقيقة الأمر فيه ليعلم يقيناً أنه مهما بلغ من العلم، ومهما بلغ من الفهم، ومهما بلغ من غاية العقل أنه لن يخرج عن قوله -جل وعلا-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [(85) سورة الإسراء] وهذا القلب المحسوس المضغة فيه العجائب، ويذكر الأطباء المتخصصون في جراحة القلب أمور لا تخطر على بال، تنبغي والأمر معلق بالقلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، ينبغي بل يتعين على طالب العلم أن يسعى جاهداً لإصلاح هذا القلب، وإصلاحه بالدواء الناجع المفيد فيما جاء عن الله وعن رسوله، والقلوب لها أمراض، والران يتراكم عليها ويحجبها، لكن دواءها وجلاءها بكتاب الله -جل وعلا-، وما جاء عن نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وما ذكره العلماء المحققون في بيان عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- في أمراض القلوب فلتراجع، وليكن لطالب العلم نصيب وافر منها، ومؤلفات ابن القيم -رحمه الله- مملوءة بما تعالج به أمراض القلوب.
سم.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)).
نعم، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) " اجتنبوا يعني: ابتعدوا، السبع المذكورة في هذا الحديث، والعدد لا مفهوم له، لكن لأهمية هذه السبع جاء التنصيص عليها، وإلا فالذنوب المهلكة كثيرة جداً، حتى الصغائر قد تجتمع على الإنسان فتهلكه فضلاً عن الكبائر، والموبقات: المهلكات لفاعلهن.(61/4)
"قيل: يا رسول الله وما هن؟! " قيل من قبل الصحابة، وهذا من حرصهم، والأمر يعنيهم، وما هن؟ وتجد الإنسان يسمع هذا الكلام المجمل والمفصل، ولا يحفظ مثل هذه السبع الموبقات التي تقضي عليه وتهلكه، بينما لو كان هذا الأمر المؤثر عليه مما يؤثر على تجارته ضبطه وأتقنه، والناس لهم عناية فيما يمس دنياهم، تجد الموظف ومدير الدائرة ووكلاءه ورؤساء الأقسام عنده عنايتهم بالأنظمة التي تسير عملهم، يتفهمونها ويحفظونها ويشرحونها، وإذا أشكل عليهم شيء منها طلبوا تفسيره من الجهات، وكذلك التاجر تجده يعكف على نظام الشركة الفلانية؛ لأنه يريد أن يتعامل معها، والشركة الفلانية لأنه يريد كذا وكذا، وهذا لا يقال فيه شيء، لكن عندنا أمور أمر خلقنا من أجله، لا بد من تحقيقه، فلا بد أن نُعنى به، تجد المسلم يسمع القول: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) هذه السبع المهلكات.
قيل: يا رسول الله وما هن؟ يعني يمكن أن يمر هذا الكلام على الصحابة دون ...
طالب:. . . . . . . . .
ما يمر مثل هذا الكلام على الصحابة إلا يطلبون تفصيله "قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: ((الشرك بالله)) "
وهو أعظم الذنوب، وما عصي الرب -جل وعلا- بأعظم منه ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك)) ومع الأسف أنه في حياة كثير من الناس أن لا يستعظمون أمر التوحيد، وما يناقض التوحيد {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [(48) سورة النساء] الشرك بالله، وهذا يشمل الشرك الأكبر والأصغر، وكلاهما داخل في قوله -جل وعلا-: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [(48) سورة النساء] على خلاف بينهم في الأصغر، هل حكمه حكم الكبائر الداخل تحت المشيئة {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [(48) سورة النساء]؟ أو حكمه حكم الشرك لا بد أن يعاقب وإن لم يخلد كالمشرك الشرك الأكبر؟(61/5)
((والسحر)) وفيه شرك إلا أن التنصيص عليه وعطفه على الشرك من باب عطف الخاص على العام للعناية به، وإلا فالأصل أن الساحر لن يصل إلى ما يريد إلا بعد أن يقرب للشياطين، ويشرك بالله -جل وعلا-، وكذلك من يتعامل مع الساحر لا بد أن يقدم شيئاً، وهو نوع من الشرك، والسحر شأنه خطير، وأمره عظيم، وحصلت بسببه المصائب والكوارث، وهدمت البيوت بسببه، وزاد شره واستطار واستفحل أمره في العصور المتأخرة، فلا بد من الضرب بيد من حديد على هؤلاء السحرة والمشعوذين، وقطع الطريق على كل من يسعى في تشريع عملهم؛ لأن من أهل العلم من يسعى في التشريع وفي بقائهم من حيث لا يشعر، يشعر أو لا يشعر، فالذي يفتي الناس بجواز الذهاب إلى السحرة لحل السحر هذا تشريع لبقائهم، ما دام هذا العمل جائز كيف تأمر بالقضاء عليهم؟! ولا شك أن مثل هذه الفتوى سبيل وطريق إلى تشريع عملهم وإبقائهم، بل الدعوة بأنهم محسنون، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((والسحر)).
((وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)) والقتل قتل العمد أمره عظيم {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [(93) سورة النساء] نسأل الله السلامة والعافية، وقرن بالشرك: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [(68) سورة الفرقان] هذه عظائم الأمور، مقرون بعضها ببعض، طيب ((قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)) وجاء في تعظيم قتل النفس ما جاء من نصوص الكتاب والسنة، فلا يجوز التعدي على النفس المعصومة سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة، معاهد أو ذمي، والمسلم من باب أولى ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) فالأمر جد خطير، وشأنه عظيم ((قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)) إلا بأن تستحق ((النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه، المفارق للجماعة)).(61/6)
((وأكل مال اليتيم)) اليتيم في الشرع: هو من مات أبوه وهو دون البلوغ، فنظراً لضعف جانبه بموت أبيه يتسلط بعض الناس على ماله فيأكله، وإلا فأكل مال غيره حرام، لكن غيره له من يدافع عنه فصار أخف من مال اليتيم، ولذا جاء التشديد في شأنه، والحث والأجور العظيمة على كفالته، وفي حكم اليتيم من لا أب له ألبتة بالكلية كأولاد الزنا مثلاً هذا لا أبا له ولا ولي أمر، بل من أهل العلم من يرى أنه أحوج إلى الرعاية والعناية من اليتيم؛ لأن اليتيم قد يكون وارثاً، قد يكون له عم، قد يكون له أخ، لكن مثل هذا ليس له أحد، ولذا يقول بعض العلماء: إن رعاية مثل هؤلاء رغم ما جاء في كفالة الأيتام إلا أنه ...
طالب:. . . . . . . . .
وأكل أموال الناس محرم، الأيتام وغير الأيتام، لكن التنصيص على اليتيم لما ذكرنا؛ لأنه في الغالب ليس له من يدافع عنه بخلاف غير اليتيم.(61/7)
((وأكل الربا)) أكل الربا من السبع الموبقات، وجاء في تعظيم أمره وشأنه من النصوص في الكتاب والسنة ما تنزعج له القلوب، ومع ذلك يؤكل الربا، ممن يتدين بالدين، ويشهد أن لا إله إلا الله، وما ذلكم إلا لما غطى على القلوب من الران، والتنافس في الدنيا، وإيثار العاجل على الآجل، وإلا لو قيل لشخص: إنك تبعث يوم القيامة مجنون يرضى؟! لو قيل له: إنك محراب لله ولرسوله يرضى؟! {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [(275) سورة البقرة] قال جمع من أهل العلم: إنهم يبعثون مجانين، فعلى من يأكل الربا وإن وجد من يهون من شأنه ويتساهل في أمره، لكن من يجادل الله عنه يوم القيامة الذي يأكل الربا؟ هل يأتي هذا ويقول: أنا الذي أبحت له الربا، أو هونت له من شأن الربا؟! أنت تعرف الحكم الشرعي، وعرفت أن الربا حرام وتعاملت بالربا لا عذر لك، فعليك أن تتوب، وإن تاب تاب الله عليه، وله حينئذٍ رأس ماله {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [(279) سورة البقرة] من تاب من الربا يعني تعامل بالربا مدة {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ} [(275) سورة البقرة] له ما سلف، بمعنى أنه إذا تاب من الربا دخل في الربا وهو يملك ألف ريال، وتاب بعد عشر سنين وهو يملك مليون ريال، لكم رؤوس أموالكم، له ما سلف، ما الذي سلف؟ وما رأس ماله؟ هل المقصود رأس ماله الذي دخل به في البيع والشراء الألف أو رأس ماله وقت التوبة وهو المليون؟
طالب:. . . . . . . . .
كلهن واحد، الإشارة ما تكفي.
طالب:. . . . . . . . .(61/8)
يعني تصور أن شخص دخل التجارة بعشرين ريال، وتاب عن عشرين مليار، نقول: ما لك إلا عشرين ريال، أو نقول: لك رأس مالك وقت التوبة ولك ما سلف، والله -جل وعلا- أكرم من أن يردك فقيراً تتكفف الناس، واللفظ محتمل، وقول الأكثر: رأس ماله الذي دخل به التجارة عشرين ريال، ويتخلص من عشرين مليار، والمعنى الثاني تحتمله الآية، وهو اللائق بكرم الله -جل وعلا- وجوده، وما دامت المسألة محتملة والله -جل وعلا- رغب في التوبة، وحث الناس عليها، والله -جل وعلا- أشد فرحاً بتوبة عبده مما ذكر في الحديث، ويستحيل في العقل والدين أن الله -جل علا- يحث ويأمر ويوجب التوبة ويفرح بها ويصد الناس عنها؛ لأنه أبو عشرين ريال هذا الذي دخل في التجارة وتاب عن .. ، هل إذا قلنا له: ما لك إلا عشرين ريال هذا بيتوب أو ما هو بتائب؟ هذا لن يتوب، المجزوم به أنه لن يتوب، واللفظ الآية محتمل، فنقول: لك رأس مالك وقت التوبة، لك ما سلف، لك رأس مالك، بقي ربا في ذمم الناس لا يجوز أن تستلم منه ريال، لكن الذي في يدك وقت التوبة لك {فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ} [(275) سورة البقرة] قد يقول قائل: إن هذا فيه تهوين من شأن الربا، وتجعل الناس يتعاملون بالربا فإذا تجروا يتوبون، إذا كثرت أموالهم، نقول: لا، هذا مثل غيره من الذنوب، ما هو بأعظم من الشرك، حينما يقال للمشرك: إنك متى ما تبت تاب الله عليك، هل معنى هذا نهون عليه الشرك إلى أن يتوب؟! ما الذي يضمن له أن يعيش إلى أن يتوب، سواء كان من الشرك أو من الربا أو من الزنا، التوبة تهدم ما كان قبلها، هل معنى هذا أننا إذا قلنا للزاني رغبناه في التوبة، وأنها تجب ما قبلها أننا نهون عليه الزنا يزني حتى يتوب فيما بعد؟! لا ليس الأمر كذلك، بل عليه أن يتوب فوراً، لكن إذا تاب التوبة الشرعية المقبولة بشروطها تاب الله عليه {فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ} [(275) سورة البقرة] هذا نص القرآن.(61/9)
((والتولي يوم الزحف)) المقصود به الفرار عند لقاء العدو؛ لأن التولي في هذه الحالة مضعف للمسلمين، إذا تولى شخص وهرب ثم الذي بجانبه غلب على ظنه أنهم مهزومون؛ لأن هذا ما هرب إلا لسبب ثم تبعه، تبعه ثالث، ثم بعد ذلك انكسرت المعنويات، وهزم المسلمون، فلا يجوز التولي يوم الزحف إلا متى في صورة واحدة؟
طالب: متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة.
نعم، متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، وما عدا ذلك لا يجوز؛ لأن هذا مما يتعين فيه الجهاد، فالجهاد يتعين إذا استنفره الإمام، وإذا حضر هنا عند لقاء العدو، وإذا دهم العدو بلده تعين عليه.
((وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) قذف المحصنات اللاتي لم يحصل منهن شيء مما يزاوله الفاجرات الباغيات الداعرات الغافلات اللاتي لا تخطر الفاحشة على بالهن، المؤمنات المتدينات العفيفات، فالقذف جرمه عظيم؛ لأنه يخدش العرض، ولا يقتصر على شخص، بل يسري إليه وإلى ولده ووالده، إلى المرأة وولدها ووالدها وزوجها، جريمة -نسأل الله السلامة والعافية-، ولذا جاء في الخبر وإن كان فيه ما فيه: ((قذف محصنة يحبط عبادة ستين سنة)) ولذا رتب عليه الحد، لو أن ثلاثة قذفوا محصنة ولو كانوا من أتقى الناس مع أن قذفهم إياها ينافي التقوى لحدوا وجلدوا حد الفرية، وجاء في وصف عائشة -رضي الله عنها-:
حصان رزان لا تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافلِ
غرثى، يعني: جائعة، إن كان ما عندها طعام إلا اللحوم النساء تجوع إيش المانع؟ هكذا ينبغي أن يكون المسلم أن لا يسلط لسانه على أحد، والقذف -نسأل الله السلامة والعافية- لأنه يدنس الأعراض، وأثره على المقذوفة، وعلى من حولها من أولادها وأبويها وإخوانها وأسرتها وزوجها وأسرة الزوج ومن قرب منهم كلهم يتدنسون بهذه الكلمة، فالأمر عظيم.
((الغافلات)) اللاتي لا تخطر الفاحشة على بالهن، أصل الغفلة: عزوف الشيء عن الذهن، يعني: لا يخطر على باله، فهؤلاء الغافلات لا تخطر الفاحشة على بالهن، وهل الغفلة عن كون الفاحشة لا تخطر على البال مدح وإلا قدح؟ مدح، وعلى هذا يفضل الغافل عن الفاحشة على من تخطر الفاحشة على باله ويجاهد نفسه عن اقترافها، أيهما أفضل؟
طالب: الثاني.(61/10)
الشخص الذي لا تخطر الفاحشة على باله أو الذي تخطر على باله فيجاهد نفسه على تركها، والشخص الذي لا تتيسر له الفاحشة، ولا يعرض نفسه لمواقعها، أو الشخص الذي يتعرض لها ويجاهد نفسه ويجاهد غيره عن الوقوع في هذه الفاحشة، أيهم أفضل؟
طالب: الثاني.
يعني: افترض شخصاً جالس في مكتبته يطالع، جالس من أول النهار إلى آخره هذا ما خطر في باله فاحشة، هل هذا أفضل أو من عرضت له الفاحشة فجاهد نفسه وتركها؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني هل هذا الذي جلس في مكتبته يطالع ويقرأ يؤجر على ترك الفاحشة مثل من يؤجر من عرضت له هذه الفاحشة وتركها؟
طالب: لا، الثاني.
وهل يؤجر من خطرت على قلبه الفاحشة أو تيسر له بعض أسبابها ممن تيسر له جميع الأسباب بأن جلس عليها وتركها لله -جل وعلا- فصار من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؟ أيهم أفضل؟
طالب: الثاني.
يعني عندنا شخص غافل ما طرأ على ذهنه ولا على باله ذكر للفاحشة، وشخص في مكان يمكن لو بذل السبب حصلت له الفاحشة، وبين شخص تعرض للفاحشة وضويق من أجلها، وبين شخص زاول أسباب الفاحشة وعمل مقدمات الفاحشة، ثم قال: إني أخاف الله، أيهم أفضل؟
طالب: الأخير ..
الأخير الذي هو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
الثالث.
طالب:. . . . . . . . .
عندنا مراحل، هذا في مكتبته ما خطر على باله أي فاحشة، هل نقول: هذا يؤجر على الفاحشة غافل عن الفاحشة؛ لأن الغفلة هنا سيقت مساق المدح، فهل الغفلة في هذا الباب مطلوبة مطلقاً؟
طالب:. . . . . . . . .
إذن عندنا أمور: غفلة ابتدائية، وغفلة تنشأ عن مجاهدة هذا شيء، وعندنا مباشرة أسباب والامتناع من أجل الله -جل وعلا- عن وصول الغاية.
طالب:. . . . . . . . .(61/11)
عندنا الحديث السابق: ((ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) وأيضاً: ((من الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار رجل بذل الأموال، ثم بعد ذلك تمكن من المرأة، فقالت له: يا عبد الله اتقِ الله)) فاتقى الله -جل وعلا-، فاستحق هذه الكرامة، فدل على أنه ممدوح، فالغافل الذي لا تخطر الفاحشة على باله لا شك أنه أقل درجة ممن تيسرت له الأسباب وتركها لله -جل وعلا-، لكن هذا بالنسبة للفعل وعدمه، لكن بالنسبة للقذف الذي معنا هذا الذي تعرض .. ، يعني نفترض شخص غافل غفلة تامة عن الفواحش وفي مكتبته ليل نهار، وشخص يتعرض للأسواق وصاحب محل ويجاهد نفسه، يعني هل قذف هذا الذي في مكتبته ما يخرج من المكتبة، أو ما يخرج من المسجد قذفه مثل قذف هذا الذي يرتاد الأسواق؟ لا، فهذه غير تلك المسألة، هذه مسألة أخرى.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الرحمين، أما بعد:
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)).
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:(61/12)
"وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- حرم عليكم)) " فالتحليل والتحريم إنما هو لله -جل وعلا-، والنبي -عليه الصلاة والسلام- إنما هو مبلغ عن الله -جل وعلا-، الرسل يبلغون عن الله ما يحله وما يحرمه على عباده، فجاء في بعض الأحاديث نسبة التحليل والتحريم إلى الرسل ((إن إبراهيم حرم مكة)) ((إن الله ورسوله ينهيانكم)) فالإضافة الحقيقة والنسبة الحقيقة إلى الله -جل وعلا-، وقد ينسب الفعل إلى الواسطة من باب التجوز {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ} [(42) سورة الزمر] مع قوله -جل وعلا-: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [(61) سورة الأنعام] فالذي يتوفى الأنفس هو الله -جل وعلا-، لكن لما كان الرسل من الملائكة وسائط يتولون قبض روح الإنسان نسب إليهم، كما ينسب الفعل إلى الشخص نفسه، يصح أن تقول: مات زيد، وروحه خرجت حتف أنفه قهراً عليه، واللغة تستوعب ذلك، وتتسع له، فالله -جل وعلا- له التحريم والتحليل وليس لأحد شركة في هذا الأمر {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} [(31) سورة التوبة] عبدوهم وإلا ما عبدوهم؟ "قال: لسنا نعبدهم، قال: ((يحرمون الحلال فتحرمونه، يحلون الحرام فتحلونه؟! )) قال: نعم، قال: ((تلك عبادتهم)) فالتحليل والتحريم إنما هو لله -جل وعلا-، وهذا شرك في التشريع، والله المستعان.
((إن الله -عز وجل- حرم عليكم عقوق الأمهات)) عقوق الأمهات يعني عصيان الأمهات، وإيصال الأذى، أي نوع من أنواع الأذى من التأفيف فما فوق، كل هذا حرام على الولد تجاه أمه، والتنصيص على الأم لعظم حقها، وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها، وإلا فالأب أيضاً يحرم عقوقه كالأم، لكن عقوق الأم أشد؛ لأن حقها أعظم، ولأنها لا تستطيع أن تدافع عن نفسها غالباً.(61/13)
((عقوق الأمهات)) كون العقوق يصدر من فاسق لا يستغرب، لكن كونه يصدر ممن ظاهره الصلاح وممن ديدنه حضور الدروس، وطلب العلم هذا هو الغريب، وكثير من الآباء والأمهات يشكون أولادهم الذين ظاهرهم الصلاح والاستقامة، تجده من أيسر الأمور أن يركب مع زميله لأي مشوار، والمشوار لزميله، يقول له: نبي نروح الآن سيارتي يقول للزميل: متعطلة أبيك توديني إلى التشليح مثلاً، هذا بعد صلاة العصر، ويركب معه، ويمضي العصر كامل والمغرب والعشاء وهو ما له مصلحة، والجو حار، والمناظر بعد ليست مؤنسة، ومع ذلك يسهل على نفسه هذا الأمر، لكن لو تقول له الوالدة: أنا أذهب إلى أختي في نفس الحي ضاق بها ذرعاً، وتضمر منها، وأنا مشغول، وأنتم عطلتموني عن طلب العلم، هذا مع الأسف يحصل من بعض طلاب العلم، كثير من الآباء يشكو، كثير من الأمهات أيضاً تبكي من ولدها، يسمع في الدرس مثلاً أن الورع كذا مثلاً من باب الورع مثلاً يسمع من الشيخ، ثم يلزمه أبوه بهذا الأمر الذي تركه من باب الورع، ثم يقول: لا أبداً، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويصارحه بهذا، ولا يمكن، ولا أعينك على معصية، يا أخي المسألة ورع.(61/14)
يعني من الأمثلة شخص طلب لنفسه ولأولاده منح من ولي الأمر، فجاءت المنح باسمه وأسماء أولاده، هذا خلاف الأولى، يعني أن تطلب وتستشرف، لكن هل يقال: حرام وهو من بيت المال؟ نعم؟ ليس بحرام، عرض الأراضي على الأولاد كلهم قبلوا إلا واحد من طلاب العلم، من الملازمين للدروس، قال: أنا لا أستشرف، قال: أنت ما استشرفت جاك وأنت جالس، قال: لا أقبل، يا أخي أنت مقدم على زواج ولا عندك شيء، قال: ولو، طيب نذهب إلى المحكمة وتفرغ لي الأرض، قال: ما أعينك على معصية، في أي فقه هذا الفقه؟! حقيقة مثل هذه الصور توجد من بعض المتعلمين، يتمسك بشيء على حساب ما هو أعظم منه، فعلى طالب العلم أن ينتبه إلى هذا الأمر، لا يفعل المستحب على حساب واجب، ولا يترك مكروه ويرتكب محظور، فكثير من الأمهات تتصل بحرقة تامة تشكو من عقوق ولدها؛ لأنها تعرف أنه يحضر الدروس وطالب العلم من حلقة إلى حلقة، ومن درس إلى آخر، ووقته مشغول بالحفظ والمراجعة، طيب هذا كله عمل صالح، بل من أفضل الأعمال، لكن لا يعادل محرم، ارتكاب محرم.
((ووأد البنات)) وأد البنات دفن البنات وهن على قيد الحياة، وهذا كان العرب يفعلونه خشية العار من شدة الغيرة، والغيرة إذا زادت عن حدها الشرعي بدلاً من أن تكون ممدوحة تصير مذمومة، فكل شيء له حد شرعي، كل غريزة وملكة لها طرفان ووسط، والخير في الوسط، فالعرب كانوا يئدون البنات، يدفنونهن أحياء خشية العار، ويقتلون الأولاد خشية أن يطعموا معهم، هذه من الموبقات لاشتمالها على جريمة القتل وقتل ذي الرحم أعظم جرماً، فالتنصيص على البنات مع أنه يوجد قتل للأولاد بما في ذلك الأبناء والبنات خشية إملاق، خشية أن يطعموا معهم، وكل هذا من كبائر الذنوب -نسأل الله السلامة والعافية-، لكن التنصيص على البنات لأنه صار ظاهرة أكثر؛ لأن البنت تقتل لسببين: السبب الأول: العار، وهذا هو الكثير الغالب، والثاني: ما تشارك فيه الابن من خشية الإملاق، أو خشية أن يطعم معه.(61/15)
((ومنع وهات)) منعاً حرم عليك المنع، منع ما يجب عليك دفعه من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة، لا يجوز لك أن تمنع الحق عن مستحقه "وهات" طلب وسؤال ما لا تستحقه من أمور الدنيا، فيكون الإنسان جماعاً مناعاً، هذا لا يجوز بحال، يمنع ما أوجب الله عليه {وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ} [(33) سورة النور] ما هو من مالك هذا، من مال الله الذي آتاك الله وأتمنك عليه، ومع ذلك لا تسأل فالمسألة من غير حاجة تدعو إليها حرام "هات" هذه صفة، صفة زيد من الناس أنه لا يعطي، ومع ذلك ما جاءه بل يطلب، ديدنه المنع للواجبات وهات، إذا رأى شيئاً أو رأى شخصاً يظن أنه يبذل طلب منه، فالسؤال مذموم، بل من غير حاجة حرام، وجاء ذمه في النصوص.
((وكرهه لكم ثلاثاً: قيل وقال)) عمارة المجالس بالقيل والقال وكثرة الكلام، يتحدث بكل ما سمع، اليوم قيل كذا وقالوا كذا، قال زيد كذا، وقيل له كذا ((كفى بالمرء إثماً)) وفي رواية: ((كذباً أن يحدث بكل ما سمع)) قيل وقال، إضاعة الوقت والفراغ الذي هو نعمه من نعم الله -جل وعلا- بمثل هذا حسرة وندامة، وقوله: ((كره)) لا يعني أنه كراهية اصطلاحية التي هي مجرد تنزيه لا يترتب عليها إثم، لا، إن كان قيل وقال في حدود المباح يمكن أن يقال هذا؛ لأنه إضاعة للوقت، لكن إن كان قيل وقال وإثارة وإشاعة للإشاعات من أجل بث الذعر بين المسلمين، أو الحط من قيمة بعض الناس، أو رفع شأن لبعض الناس الذين لا يستحقون، فمثل هذا لا يجوز، والكراهة حينئذٍ تكون للتحريم.(61/16)
((وكثرة السؤال)) كثرة السؤال إذا كان السؤال في أمور الدنيا الصحابة بايعوا النبي -عليه الصلاة والسلام- أن لا يسألوا أحد، فكان أحدهم يسقط سوطه فينزل من دابته ويأخذه دون أن يقول لفلان من الناس: أعطني السوط، ومن أيسر الأمور أن يجلس الإنسان والشيء بجواره لو مد يده إليه أخذه: قم يا فلان هات مصحف، قم يا فلان هات لي ماء، قم يا فلان .. ، هذا كثرة السؤال، هذا سؤال، لكن الخدمة من غير طلب من الصغير للكبير مطلوبة من غير طلب، فخدمة الصغير للكبير من غير طلب من الكبير لا تدخل في مثل هذا، كثرة السؤال يشمل أيضاً السؤال في مسائل العلم إذا لم يقصد من السؤال التفقه والفائدة، إنما يقصد منه تعجيز المسئول، أو إظهار فضل للسائل؛ لأن بعض الطلاب يعرف الجواب، لكن يسأل لا ليعرف غيره الجواب وإنما ليظهر للحاضرين أنه لديه قدرة وفهم للموضوع، ويستطيع أن يسأل سؤالاً دقيقاً، هذا إذا لم يقصد به إفادة نفسه أو إفادة غيره دخل في هذا، وإن قصد من وراء ذلك تعجيز الشيخ، وإظهار عجزه، وتعالمه على من حضر فالأمر أسوء، وقد جاء النهي عن الأغلوطات، وجاء في قوله -جل وعلا-: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [(101) سورة المائدة] فقد يسأل الإنسان عن شيء يكون في جوابه ما يسوؤه، وقد سأل الصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بعض الأشياء فقال فلان: من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم قال فلان: من أبي؟ قال: كذا، ثم غضب النبي -عليه الصلاة والسلام- غضباً شديداً، ثم قال: ((سلوني، سلوني)) ليبين -عليه الصلاة والسلام- أن غضبه هذا ليس سببه العجز عن الجواب مثل ما يفعله بعض الناس، بعض الناس إذا سُئل سؤالين غضب وضاق بالسائل ذرعاً؛ لماذا؟ لأنه يخشى أن يرد عليه سؤال لا يعرف جوابه، فالرسول يقول: ((سلوني، سلوني)) فبرك عمر -رضي الله تعالى عنه- بين يدي النبي -عليه الصلاة والسلام- واستعفاه من الأمر، وفرج عنه، المقصود أن مثل هذا الذي يقصد به التعنيت، أو يكون في جوابه ما يسوء السائل، أو يسوء بعض الحاضرين مثل هذا ينهى عنه.(61/17)
((وإضاعة المال)) إضاعة المال صرفه فيما لا ينفع في أمر الدين ولا الدنيا هذا إضاعة، هذه إضاعة، فالمال به قوام الحياة، لا يمكن أن يعيش الإنسان ويبقى النوع الإنساني بغير المال؛ لأنه بواسطته يُحصل على الطعام والشراب وغيرها من الضروريات، فكونه يضاع يترتب عليه إما أن يكون عالة على الناس يتكفف الناس، ويقع في السؤال المذموم، أو يعرض نفسه للتلف، أو يعرض نفسه لارتكاب المحرمات من سرقات وغصوب وغيرها، والتسديد والمقاربة هو المطلوب، والتوسط في هذا الباب هو المطلوب {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [(29) سورة الإسراء] {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [(67) سورة الفرقان] المقصود أن المطلوب من المسلم أن يتوسط، وكم من إنسان إضاع ماله وبقي ملوماً محسوراً، يحتاج الشيء اليسير ما يجد، وكان عنده من المال الشيء الوفير لكنه ضيعه، واشترى به ما لا يحتاجه فضلاً عن كونه يشتري به ما حرم الله عليه، فهذا يجتمع فيه الأمران، لكن إذا أكثر من شراء ما يمدح به، أو أكثر من الإنفاق في سبيل الله فهل للإنسان أن يتصدق بجميع ماله؟ المسألة خلافية بين أهل العلم، وحصل هذا من أبي بكر، فإن كان له مصدر يمكن أو يغلب على الظن أنه يقتات منه فلا مانع كما هو شأن أبي بكر، وإلا فالثلث والثلث كثير، كما في حديث سعد.
إضاعة المال لها صور، وأحياناً يتعارض حفظ الوقت مع حفظ المال، فأيهما أغلى في حياة المسلم؟ الآن نضرب مثال يسير والمال الذي يضيع فيه يسير، يقول مثلاً: أنا أذهب إلى المكان الفلاني أو أرجع إلى بيتي لاستفيد من وقتي، ذهبت مع الدائري أحتاج إلى ثلاثين كيلو، ونحتاج من البنزين إلى خمسة ريالات، أو عشرة مثلاً، وإن ذهبت مع وسط البلاد وأمامي عشرين إشارة أصرف ريال واحد بنزين، لكن الدائري اقطعه بربع ساعة، ومع وسط البلد أحتاج إلى نصف ساعة، نقول: تحافظ على المال أو على الوقت؟
طالب:. . . . . . . . .
أيهما أغلى في حياة المسلم؟
طالب:. . . . . . . . .
الوقت أغلى؛ لأن وجوده، وجود الشخص نفسه هو وقته، ولا يعد مضيعاً للمال إذا حرص على حفظ الوقت، نعم.(61/18)
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)).
كذا عندك؟
نعم.
بتقديم الحج على الصيام.
طالب:. . . . . . . . .
إيش عندك؟
لا، تقديم الحج المثبت ثم الصوم.
إيش عندك؟
الحج ثم الصوم.
تقديم الحج على الصيام؟
نعم.(61/19)
حتى النسخة التي معنا، وهي معتنىً بها بتقديم الصوم على الحج، لكن الرواية المتفق عليها إنما هي بتقديم الحج على الصيام، يعني في الصحيحين من حديث ابن عمر: ((بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)) هذه الرواية الموجودة في الصحيحين، وعليها بنى الإمام البخاري ترتيب الكتاب، وقدم الحج على الصيام، والجمهور على أن الصيام هو الركن الرابع، والحج هو الركن الخامس، في صحيح مسلم من حديث ابن عمر: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) بتقديم الصيام فقال رجل: ((وحج البيت، وصوم رمضان)) فقال: لا، ((صوم رمضان، والحج)) استدرك على ابن عمر حينما قدم الصيام على الحج، مع أنه في الصحيحين على قول الرجل المستدرك من حديث ابن عمر، هذه الرواية المتفق عليها بتقديم الحج على الصيام، والبخاري بنى ترتيب الكتاب على هذا الأساس، فقدم الحج على الصيام، وفي صحيح مسلم قدم ابن عمر الصوم على الحج، فاستدرك عليه رجل فقال: ((وحج البيت، وصوم رمضان)) مع أن ابن عمر هو الراوي للحديث في الموضعين، فقال: لا، ((صوم رمضان، وحج البيت)) فمنهم من يقول: ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- حينما حدث بالحديث في هذا الوقت نسي الرواية التي فيها .. ، أو نسي تقديم الحج على الصوم، وقد أداه قبل ذلك كذلك، ومنهم من قال: ابن عمر ما نسي ويستحضر هذا وهذا وأن الواو لمطلق الجمع، وأراد بهذا الرد وتأديب هذا المستدرك، كأنه لما رد على ابن عمر قال: لا، ((وصوم رمضان، والحج)) يريد أن يؤدبه، كيف يتكلم بحضرة صحابي جليل هو الذي سمع الحديث من النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ أحياناً بعض الناس يعني يوجد من عجلة بعض الناس وهذه لا شك أنها تحمل أحياناً على سوء الأدب، أحياناً يستدرك على شخص في اسمه، يذكر اسمه ويكون معروف بأكثر مثلاً من اسم أو لقب أو كنية أو شيء من هذا، فيعرف بنفسه: أنا أبو فلان الفلاني، يقول: لا، أنت فلان بن فلان، أو العكس مثلاً، هذا يوجد من بعض الناس عجلة بهذه الطريقة، وأحياناً يصوب في(61/20)
كلام الشخص نفسه فيما يعنيه، ابن عمر أراد أن يؤدب هذا الشخص، يعني أنا صاحب الشأن، أنا الذي سمعته من النبي -عليه الصلاة والسلام- كيف ترد عليَّ؟! قال: لا ((وصوم رمضان، والحج)) وكلام المستدرك صحيح؛ لأنه في الصحيحين على كلام المستدرك، لكن لعل ابن عمر سمعه على الوجهين، وأراد مرة أن يبلغه على هذا الوجه، ومرة على الوجه الثاني ولا مانع لأن الواو لمطلق الجمع.
نعم الأولية لها نصيب في الأولوية، حينما يقدم في الذكر الصوم على الحج نعرف أن الصيام عند الشارع أهم من الحج أو العكس، فالرواية التي فيها تقديم الصيام على الحج هذه رواية مسلم، وعرفنا أن الأحاديث الأربعين كلها متفق عليها، فالرواية الصحيحة: ((حج البيت، وصوم رمضان)).
((بُني الإسلام على خمس)) بُني البناء بناء الشيء على غيره، بناء الشيء على شيء آخر أو بناء الشيء على شيء يدل على أن المبني غير المبني عليه، صح وإلا لا؟
طالب: الأصل يا شيخ.
إذا بنينا شيء على شيء فمعناه أن الشيء المبني غير المبني عليه، وإذا رتبنا نتيجة على وسيلة صارت النتيجة غير الوسيلة، وقل مثل هذا: ((بُني الإسلام على خمس)) يعني في البناء الحسي ظاهر أن المبني غير المبني عليه، وهنا المبني الإسلام، والمبني عليه الخمس التي هي الدعائم والأركان، فهل الإسلام غير الخمس أو هو الخمس؟ لما سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام أجاب بهذه الخمس، فدل على أن المبني والمبني عليه شيء واحد، أو أن نقول: الإسلام في مسماه حقيقة معنوية ترجمتها هذه الأمور العملية، يعني: هناك دقائق قد لا ينتبه لها، وتقرأ على أنه ما فيها إشكال، في حديث: ((إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد)) ما الداعي لقوله: ((مائة إلا واحد)) مو بتأكيد العدد؟ تأكيد العدد يأتي من يشرح الحديث ويقول: فيه دليل على أن الأسماء الحسنى مائة ((تسعة وتسعين)) ((مائة إلا واحد)) وتقول: في الحديث ما يدل على أن الأسماء الحسنى مائة اسم؟! له وجه وإلا ما له وجه؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
له وجه، والرسول يقول: ((تسعة وتسعين ... مائة إلا واحد))؟ ما وجه هذا الكلام؟ من الحديث نفسه، من الحديث، نعم؟(61/21)
طالب:. . . . . . . . .
من إيش؟
طالب:. . . . . . . . .
كيف صارت مائة؟
طالب: إن لله ...
نعم، أضاف إليها المسمى الذي هو لفظ الجلالة الله، هذا الاسم (الله) له تسعة وتسعين اسماً يعني غيره، إذن تكون مائة، هذا إذا قلنا: إنها غير، وإذا قلنا: إن المسمى بهذا الاسم له تسعة وتسعين منها هذا الاسم، وهو قول الأكثر، يعني: الذات الإلهية إن صح إطلاق اللفظ، الذات، يصح إطلاق الذات على الله -جل وعلا-؟ أهل العلم يقولون: الكلام في الصفات فرع عن الكلام ...
طالب: في الذات.
في الذات، وإبراهيم -عليه السلام- كما في البخاري كذب ثلاث كذبات ثنتان منها في ذات الله، فهل لنا أن نثبت لله ذات؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
نقول: لله ذات؟ نقول: له نفس {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [(116) سورة المائدة] لكن هل نقول: له ذات؟ من خلال حديث إبراهيم، كذب ثنتان في ذات الله، وأيضاً قول الصحابي: وذلك في ذات الإله، يعني هل مجيء الذات في هذين الخبرين يساوي النفس أو أنها من أجل الله؟
طالب:. . . . . . . . .
من أجله، نعم من أجله، وليس المراد به في ذات الله؛ لأنه لو قلنا: في ذات الله و (في) للظرفية صار محل لهذه الأمور، وليس الأمر كذلك، ولا يوجد دليل يدل على إثبات الذات إلا حديث -إن صح-: ((تفكروا في آلاء الله ... ولا تتفكروا في ذات الله)) هذا -إن صح- صار دليل على إثبات الذات، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يكثر من قول: الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يقرر هذا الكلام، يقرر أن حديث إبراهيم ما فيه دليل.
((بُني الإسلام على خمس)) أي: خمس دعائم، في رواية: خمسةٍ، خمسة أركان، وإذا حذف التمييز جاز التذكير والتأنيث ((من صام رمضان وأتبعه ستاً)) الأصل أن تكون ستة لأن التمييز مذكر.
((على خمسٍ: شهادة)) بدل بعض من كل ((شهادة أن لا إله إلا الله)) إذا قلنا: بُني الإسلام على خمسٍ أحدُها: شهادة أن لا إله إلا الله، أو نقول: أحدِها بناءاً على أنه بدل؟ اختلف العلماء في كذا على خمسةِ أقوالٍ أحدُها أو أحدِها؟
طالب:. . . . . . . . .
بالرفع وإلا بـ ... ؟
طالب:. . . . . . . . .(61/22)
نعم ما تجي نصب، المسألة إما جر بدل، أو الرفع على الاستئناف والابتداء.
طالب:. . . . . . . . .
أيهما أفصح؟
طالب:. . . . . . . . .
هو يجوز الوجهان لكن أفصحهما؟
طالب: البدل.
هاه؟ البدل؟ {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا} [(76) سورة النحل] نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
لا، الابتداء أفصح.
((شهادة أن لا إله إلا الله)) الشهادة هي الإقرار والاعتراف والنطق بحيث يكون هذا المقر به والمعترف به، وهذه الكلمة المنطوق بها كالمرئي المشاهد، سميت شهادة ليش؟ الأصل في المشاهدة الإبصار، وإذا بلغ اليقين إلى هذا الحد إذاً لا شيء وراءه، يعني: الأخبار ليس الخبر كالمعاينة صح وإلا لا؟ لو جاءك شخص من أوثق الناس وقال: جاء زيد، هل هو أقوى مما لو رأيت زيد بعينك؟ نعم؟ لكن من الأخبار ما يساوي المعاينة، يعني قصة الفيل مثلاً التي شاعت وكثر الحديث عنها في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- ولم يدركها لأنه ولد عام الفيل، بلغته بطريق يشبه أو يكون في حكم المعانية، ولذا قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [(1) سورة الفيل] فهنا الشهادة على المقر بها التي هي كلمة التوحيد والمعترف بها، والمذعن لها، والناطق بها أن يكون اعتقاده لها في حكم اعتقاده بالمشاهد.(61/23)
((شهادة أن لا إله إلا الله)) وهذه الكلمة هي التي تعصم الدم ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله)) والنطق لا بد منه ((حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) وعلى هذا لو وقر الإيمان في قلب عبد ولم يتمكن من النطق بها، وقر الإيمان في قلبه ولم يتمكن من النطق بها، جزم يقيناً بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله، لكن ما وفق بأحد يلقنه هذه الشهادة، أو يذكر له أنه لا بد من النطق بها، هل يدخل في الإسلام أو ما يدخل؟ الغاية: ((حتى يقولوا)) هذا ما قال، ولذا يقرر أهل العلم أنه ليس بمسلم حكماً، وأما فيما بينه وبين ربه الله يتولاه، لا يستطيع أحد أن يحول بينه وبين ربه، لكن في أحكام الدنيا ما أسلمت؛ لأن الغاية ما تحققت ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) قد يقول قائل: هذا يستبعد أن إنسان يقر الإيمان في قلبه ومع ذلك لا ينطق، ليش ما ينطق؟
يعني سؤال يقول: شخص له صديق نصراني ووقر الإيمان في قلبه، واقتنع بالإسلام، وذهبنا إلى شيخ ليلقنه الشهادة، الشيخ ما وفق لأن المسألة ما تحتاج إلى وقت، قال: الآن باقي على صلاة الظهر ربع ساعة، ونبغي نتجهز للصلاة، وإذا صلينا -إن شاء الله- نلقنه الشهادة، خرجا من عنده في تبادل إطلاق نار وقتل، ويسأل هل هو مسلم يغسل ويكفن ويصلى عليه وإلا ما هو مسلم؟ نقول: لا، حكماً ما أسلم، فهذا الشيخ محروم حقيقة حرم نفسه وحرم هذا المسكين، ومع ذلك فيما بينه وبين ربه الله يتولاه ((حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) فالركن الأول من أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله.(61/24)
((وأن محمداً عبده ورسوله)) هذه من لوازمها ولا تتم إلا بها، وإذا لم تذكر في بعض الروايات فلأنها ذكرت ولأنها من متطلبات شهادة أن لا إله إلا الله إذ لا تتم إلا بها، لكن في حديث: ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)) يعني: في النزع قال: لا إله إلا الله، محمداً رسول الله، نقول: هذا آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله أو آخر كلامه من الدنيا محمداً رسول الله؟ عرفنا أنه لا يدخل في الدين حتى يشهد بلسانه، لكن في خروجه من الدنيا، وكان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله محمداً رسول الله هل نقول: دخل في الحديث؟ دخل وإلا ما دخل؟ يعني الآن ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)) وشخص قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وقد يضيف إلى ذلك ما هو حق، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، أتى بكلام حق، هل يصدق عليه أنه صار آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله؟ يعني: مثل ما قلنا في الأذكار السابقة، يعني: من جاء بالمشروع وزيادة هل يصدق عليه أنه جاء بالمشروع؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
لكن هل هذا يصدق عليه أنه آخر كلامه أو تكلم بكلام غيره؟
طالب:. . . . . . . . .(61/25)
هو من اللوازم في الدخول، لا يدخل الإسلام حتى يشهد أن محمداً رسول الله، لكن إذا أردنا أن نطبق حقيقة حرفية الحديث ((من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)) هل يدخل في هذا الوعد إذا قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ثم قبضت روحه، نقول: أتى بالمراد وزيادة؟ أو نقول: فاته الوعد في هذا الحديث ولم يحرم أحاديث أخرى؟ لأنه افترض أنه ما قالها مثلاً، هل معنى هذا أنه يدخل النار؟ حيل بينه وبين أن يقولها، ارتج عليه، أغمي عليه ما قالها، نعم، ليس معنى هذا أنه يدخل النار، وعلى هذا يحرص الإنسان أنه يلقن المحتضر أن لا يزيد على لا إله إلا الله، يعني: إن كان في فسحة من المدة، ورأى عليه أمارات البقاء مدة يقول فيها ما ينفعه من ذكر وغيره لا بأس، ويذكره ببعض الأمور؛ لكي يتوب إلى الله -جل وعلا- منها، ثم بعد ذلك يكون آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله هذا هو المطلوب.
((وأن محمداً عبده ورسوله)) -عليه الصلاة والسلام-، عبد ورسول، في هذا رد على الغلاة والجفاة كونه عبد رد على الغلاة الذين يصرفون له بعض حقوق الرب -جل وعلا-، وإثبات الرسالة له رد على الجفاة، والجمع بينهما سبيل الأمة الوسط، وفي أشرف المقامات نص على العبودية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [(1) سورة الإسراء] {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [(19) سورة الجن] في أشرف المقامات ينص على العبودية، والعبودية بالنسبة للعابد شرف؛ لأنها هي الهدف من وجوده، هذا الهدف أو هذا الأمر الذي هو تحقيق العبودية هو الهدف من وجود الجن والإنس، وسيدهم ومقدمهم محمد -عليه الصلاة والسلام-.(61/26)
والركن الثاني: ((إقام الصلاة)) وإقامة الصلاة يشتمل على قدر زائد على مجرد أدائها والإتيان بها، فإقامتها وتقويمها على ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- هو المطلوب، لكن هل الركن الصلاة أو إقام الصلاة؟ في الحديث: ((إقام الصلاة)) وإذا قلنا: إن الركن إقام الصلاة، وعرفنا أن إقام الصلاة قدر زائد على ما يسقط الطلب ويصحح العبادة؛ لأن إقام الصلاة وتقويمها على ضوء ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- على الطريق والهدي المستقيم الثابت عن النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن اللفظ يوحي بهذا، ما قال: وأداء الصلاة والإتيان بالصلاة أو والصلاة لتصدق على ما يسقط به الطلب، وعلى كل حال التنصيص على إقامة الصلاة في نصوص كثيرة يدل على أن المطلوب من المسلم أن يصلي كما صلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
((وإيتاء الزكاة)) دفعها ممن وجبت عليه إلى من وجبت لهم من الأصناف الثمانية بشروطها المعروفة عند أهل العلم.
((وصوم رمضان)) أو ((وحج البيت، وصوم رمضان)) وكلاهما ركن من أركان الإسلام، وتفصيل أحكام الأركان مدون في الكتب، وله مناسباته.(61/27)
هذه الأركان الخمسة الركن الأول الذي لا يأتي به لم يدخل في الإسلام إجماعاً وهو الشهادتان، الثاني وما يليه الذي لا يعترف بها يكفر إجماعاً ولو جاء بالشهادتين، من يجحد بقية الأركان يكفر اتفاقاً، لكن الذي يعترف بها ولا يأتي بها، بمعنى أنه لا يصلي ولا يزكي ولا يصوم ولم يحج، كفره يعني كفر تارك أحد الأركان الأربعة العملية قول معروف في مذهب مالك ورواية عن أحمد، وأشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان، يعني: من لم يحج يكفر، من لم يصم رمضان يكفر، من لم يزك كافر، ومن لم يصل من باب أولى، هذا قول معروف، والجمهور على أنه لا يكفر بالنسبة للأركان الثلاثة، إيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، الجمهور على أنه لا يكفر، وإن كان على خطر، على خطر عظيم {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ} [(97) سورة آل عمران] وأبو بكر -رضي الله تعالى عنه- قاتل المرتدين وفيهم من منع الزكاة، وشأن الصيام عظيم، وأما الصلاة فالقول بكفره قول متجه، والنصوص فيها أكثر من غيرها ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))، ((بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة)) ولذا المفتى به أن تارك الصلاة كافر كفر أكبر مخرج عن الملة، وأما بقية الأركان فالجمهور على عدم كفره، نعم.
وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:(61/28)
"وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ثلاث)) " يعني خصال أو خلال ((من كن فيه)) يعني إذا اجتمعن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان في قلبه، وكثير من المسلمين لم يجد حلاوة الإيمان، الإيمان إذا باشر القلب، الإيمان الصحيح الذي يصير الهوى تبعاً له يدور مع إيمانه، ومع ما يمليه عليه إيمانه بهذا يجد حلاوة الإيمان، بعض الناس يسيره هواه، نعم هو في الأصل مسلم يعترف وينقاد، لكن يبقى أنه لو تعارضت مصلحته الخاصة مع الأوامر الشرعية أو النواهي الشرعية قدم هواه على ما يريده الله -جل وعلا- ورسوله.
((وجد بهن حلاوة الإيمان)) الإيمان له حلاوة، والخلوة بالله لها أنس، والمناجاة لها لذة، وكثير من الناس من طلاب العلم لا ....(61/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر - كتاب الجامع (3)
الشيخ: عبد الكريم الخضير(62/1)
والمناجاة لها لذة، وكثير من الناس من طلاب العلم لا يجد مثل هذا، بل لم يتلذذ بما هو بصدده الذي هو العلم والتعليم، فمثل هذا يحتاج إلى مزيد من الجهاد، يحتاج إلى صدق ولجوء إلى الله -جل وعلا- أن يعينه على تحقق هذه الحلاوة ليعيش في نعيم في الدنيا قبل الآخرة، وقد وجد الصحابة -رضوان الله عليهم- النعيم، وشموا رائحة الجنة، وتلذذوا بمناجاة الله، وقال القائل من سلف هذه الأمة وأئمتها: إنه في نعيم لو علم به الملوك لجالدوهم عليه بالسيوف، وكلامهم في هذا يكثر، بعضهم يتململ من طول النهار؛ لماذا؟ ليأتي الليل فيسدل عليه الستر لينطرح بين يدي ربه وخالقه بمناجاته، بعضهم يفرح إذا خلا البيت من العمار والسكان، الواحد منا إذا وجد في مكان خالٍ ضاقت به الأرض ذرعاً؛ لماذا؟ لأنه لم يعود نفسه بالصلة بالله -جل وعلا-، والأنس به، متى يجد الإنسان حلاوة الإيمان؟ في الحديث: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، المسألة تحتاج إلى جهاد، بعض الناس يؤثر زوجته على مراد الله ومراد رسوله، بعض الناس يؤثر ولده على مراد الله وعلى رسوله، وبعض الناس يؤثر رئيسه على أوامر الله وأوامر رسوله، مثل هذا ما يجد حلاوة الإيمان، إذا وجد التعارض فلا شيء مع مرضات الله -جل وعلا- ((من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) بل يحب الله -جلا وعلا- ويقدم أوامره ونواهيه حتى على رغباته وشهواته، وكذلك أوامر الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وسيأتي في الحديث الذي يليه: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) أحب إليه مما سواهما بما في ذلك النفس؛ ولذا لما قال عمر -رضي الله تعالى عنه-: إنك يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، قال: ((بل ومن نفسك)) فقال: ومن نفسي، قال: ((الآن يا عمر)) لا بد أن يكون حب الله وحب الرسول مقدم على النفس، وبرهان ذلك تقديم الأوامر والنواهي الشرعية على شهوات النفس، أما من يعصي الرب -جل وعلا-، ويزعم أنه يحبه أو يحب الرسول يزعم زوراً وبهتاناً أنه يحب الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ويأتي بالمخالفات، ويأتي بالبدع،(62/2)
ويقول: إنه يحب الله ورسوله، نقول: كذب.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمري في القياس شنيعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيعُ
((أحب إليه مما سواهما)) يحب الله -جل وعلا- أحب إليه من نفسه فضلاً عن غيره، ونشاهد تقديم الناس ملاذهم، بل رضا غيرهم، دنيا غيرهم على أوامر الله وأوامر الرسول، تجد المجاملة بل المداهنة لشخص لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا يرجى خيره، ولا يخشى شره، ومع ذلك تداهن، هذا لا يجد حلاوة الإيمان، قد يقول قائل -وهذا السؤال بالحديث الذي يليه أليق لكن لا مانع من تقديمه- يقول: أنا أحب الله ورسوله، أحب الله -جل وعلا-؛ لكي يدخلني الجنة، وأحب الرسول وأطيع الرسول لكي أدخل الجنة، إذاً أنا أحببت الله ورسوله من أجلي، لا من أجله هو واضح وإلا ما هو بواضح؟ هل هذا يحب الله ورسوله أكثر من نفسه أو هو في الحقيقة يحب نفسه؟ هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
يقول: لا بأس أنا أحب الله ورسوله، وجاءت الأوامر بأن أحبوا الله ورسوله، وأنا أحب الله ورسوله، لكن لماذا تحب الله ورسوله؟ يعني الآن الإيمان لتدخل الجنة، تجد حلاوة الإيمان لتدخل الجنة، إذاً أنت تسعى لمصلحتك، وأنت تحب الرسول أكثر من نفسك؛ لماذا؟ لكي تدخل الجنة، إذاً أنت تسعى لمصلحة نفسك، يعني: هل المقصود حب الله -جل وعلا- لذاته، وحب الرسول لذاته، أو لما يترتب على ذلك من مصلحتك؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
هذا الأصل أن يكون لذات الله -جل وعلا-، ولذات الرسول -عليه الصلاة والسلام-، لكن كون الأمور والأعمال التي ذكرت ورتب عليها الثواب وذكرت الجنة بنعيمها، وذكرت النار بجحيمها وعذابها، يعني: ملاحظة هذا الهدف؛ لماذا تصلي يا فلان؟ يقول: أتخلص من النار، هذا من أجل أدخل الجنة، يعني حينما يذكر الهدف ملاحظة هذا الهدف الذي جاء ذكره في النصوص، من فعل كذا دخل الجنة، أنا أفعل كذا لكي أدخل الجنة، يعني: ملاحظة الهدف الذي جاء ذكره في النصوص يقدح وإلا ما يقدح؟ أو ما ذُكر إلا ليلاحظ؟ ليكون باعثاً على العمل؟ باعث على العمل، لكن لا يكون هو الهدف الأصلي.(62/3)
طيب، الله -جل وعلا- حينما أمر بطاعته، ووعد من أطاعه بالجنة، وتوعد من عصاه بالنار، أنت لما تعصي تترك المعصية خشية من الله أو خشية من النار؟ دعونا نضرب مثال يقرب لنا المسألة: الآن لو هددك شخص بيده عصا، وقال: لا تسلك هذا الطريق وإلا أضربك، أنت تخشى من الإنسان أو من العصا؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
من الإنسان، العصا بمفردها لا يساوي شيئاً، والنار بمفردها لا تعمل شيئاً، فالخشية لله -جل وعلا- أولاً وآخراً.
((من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)) وأحب خبر (كان) ((ومما سواهما)) جمع الضمير ضمير الرب -جل وعلا- وضمير نبيه -عليه الصلاة والسلام-، والجمع بين الضميرين، بين ضمير النبي -عليه الصلاة والسلام- مضافاً إلى ضمير الله -جل وعلا- جاء ذم الخطيب، ذُمّ الخطيب الذي قال: "ومن يعصهما" بأس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعصي الله ورسوله، وهنا: ((مما سواهما)) ما قال: مما سوى الله ورسوله، جمع بينهما، فهناك أجوبة ذكرها .. ؛ لأنه لا يتصور منه -عليه الصلاة والسلام- لمعرفته بمقام ربه ومنزلة نفسه التشريك حينما يجمع بين الضميرين، لكن حينما يقول غير النبي -عليه الصلاة والسلام- يتصور منه ذلك، وقد انتقد النبي -عليه الصلاة والسلام- من جمع بينهما، منهم من يقول: إذا كانت المسألة خطبة والخطب تقتضي البسط والتوضيح لا يجمع الضمير، وإذا كان الكلام في غير مقام الخطب يجوز ذلك، إلى غير ذلك، المقصود أنه جاءت النصوص من قوله -عليه الصلاة والسلام- بالجمع، وجاء ذمه للخطيب، فيحرص الإنسان أن لا يجمع بين ضمير النبي -عليه الصلاة والسلام- مضافاً إلى ضمير الله -جل وعلا- فيحرص على هذا؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- ذم الخطيب، أما كونه يجمع فلما ذُكر.
طيب، أحياناً نجد في المساجد على المحراب على حد سواء في دائرة: (الله) في الدائرة الثانية موازية لها وبحجمها: (محمد) ماذا نقول عن هذا؟
طالب:. . . . . . . . .(62/4)
يعني في بعض الجهات لا سيما بعض الجهات العسكرية يذكرون الله فوق، وتحت المليك، الوطن، هذا ما فيه إشكال، الله .. ، طيب، لكن هنا في المساجد مثلاً يذكر في دائرة (الله) وفي دائرة موازية بحجمها (محمد) هل في هذا ما يشعر الندية أو ما يقرب منها؟ أو من باب: ((لا أذكر إلا وتذكر معي))؟ يعني نقول: الأمر فيه سعة أو نقول: إن هذا فيه مشابهة؟ نعم يا الإخوان؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني هل الأولى أن يفعل مثل هذا أو لا يفعل؟
طالب: لا يفعل.
نعم، الأولى أن لا يفعل، يعني الأصل أن المساجد تخلو من هذه كلها، لكن إذا أردوا أن يذكروا شيء مع مخالفتهم لما جاء في ذم زخرفة المساجد فلا يجعل بهذه الطريقة، وإن كان الحديث: ((لا أذكر)) {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [(4) سورة الشرح] ((لا أذكر إلا وتذكر معي)) أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، نعم، يحتمل هذا، والأمر فيه سعة يعني ما يصير فيه مشاحة، لكن من باب التنبيه فقط.(62/5)
((وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) ((أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) ((وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) لا يحبه إلا لله، هذا يجد به حلاوة الإيمان، له أخ في الله ليس له عليه نعمة، إنما يحبه لاستقامته، هذا يجد به حلاوة الإيمان، ولكن ينظر في هذه المحبة في أوقات الامتحان، الابتلاء، في أوقات الصفاء والجفاء، هل تزيد هذه المحبة أو تنقص؟ إن زادت مع الصفاء أو نقصت مع الجفاء فهذه ليست لله، وهذا الأمر قال ابن عباس في الصدر الأول: ولقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا -في عصر الصحابة- ولو دققنا في السر والسبب الحقيقي لحبنا بعض الناس ممن ظاهره الصلاح، أو من الصالحين لوجدنا الأمر على خلاف ما جاء في الحديث، لو تختلف المعاملة أدنى اختلاف لو يحتفي بغيرك ولا يلتفت إليك تغير الوضع، من استمرأ المدح والثناء وعاش عليه وسمعه كثيراً وصار يستنكر إذا ما وجد؛ لأن النفوس مدخولة، يعني إلى وقت قريب كان الناس ينفرون نفرة تامة عن المدح، ويشددون على من يمدح، ثم تساهلوا فصاروا يسمعون المدح ولا يتأثرون، والسنة الإلهية الثابتة بالتجربة أن من سمع مدحه بما ليس فيه لا بد أن يذم بما ليس فيه إذا لم ينكر، وإذا مدح بما فيه ولم ينكر ذم بما فيه، هذه سنة إلهية، لو حضرت إلى شخص بينك وبينه مودة وصلة وكذا، ثم جاء واحد من أقرانك وصار التفت إلى هذا القرين، وصار وجهه إليه وتركك، ويش يصير وضعك؟ ما تأثرت؟! ما تنقص المحبة والمودة؟! بعض الناس المودة مبنية على هذا من الأساس؛ لماذا تزور فلان؟ لأنه والله يستقبلني استقبال طيب، وفلان والله ما لقينا وجهه، أنت تحبه ليش؟ لماذا تحبه؟ فعلى الإنسان أن يختبر نفسه في هذا الباب، طيب.(62/6)
((وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) طيب، قد تجتمع المحبة الجبلية مع المحبة الشرعية، وقد تنفرد المحبة الجبلية دون الشرعية والعكس، فالرجل يحب ولده المستقيم لأنه اجتمع فيه الآمران يحبه جبلة لأنه ولده، ويحبه لأنه مستقيم، قد يكون الولد غير مستقيم يحبه جبلة، لكن يبغضه شرعاً، جار ليس بولد مستقيم يحبه شرعاً، وإن لم يكن هناك جبلة لأنه ليس بقريب، الزوجة المودة والرحمة التي جعلت بين الزوجين تبعث على المحبة؛ فماذا عن محبة المرأة الكافرة الكتابية؟ ((وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) هل يقدح في مثل هذا الحديث أن يحب المرأة التي من خصيصة الزواج المودة والرحمة، بل من نتيجته المودة والرحمة {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [(21) سورة الروم] امرأة كافرة تقول: المسيح ابن الله، ويحبها للمودة والمحبة التي جعلت ومع ذلك يبغضها لدينها، فقد تجتمع المودة والمحبة من وجه دون وجه.(62/7)
((وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار)) وفي رواية: ((أن يقذف في النار)) يكره أن يعود في الكفر، ولا يحس بهذا إلا من كان في أول الأمر كافر، أما من ولد في الإسلام فإحساسه بهذا أقل، ولا شك أن من كان كافراً وعرف الكفر وعرف الشر وعاش عيشة الكفار، الجملة الأخيرة في الحديث: ((وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار)) يعني لو خُيَّر بين أن يرجع ويرتد عن دينه بعد أن دخل فيه، أو يقذف في النار؛ لأنه في الحديث كما يكره يعني على حد سواء مثل ما يكره، يكره أن يعود في الكفر بقدر كراهيته لإلقائه في النار، لكن لو وجد مثلاً شخص عاش في جاهلية في كفر، ثم أسلم ووقر الإيمان في قلبه، وخالط قلبه بشاشة الإيمان، ثم عرض عليه إما أن ترتد أو نلقيك في النار، كما حصل لأهل الأخدود، لأصحاب الأخدود، لا شك أنه إن ارتكب العزيمة وقبل الإلقاء في النار هذا أكمل أو ما هو بأكمل؟ أكمل، لكن إن ترخص ونطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فالرخصة تسعه {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [(106) سورة النحل] لكن إذا قبل الإلقاء في النار لا شك أنه كره أن يعود للكفر أشد من الإلقاء في النار، لكن لو أحجم عن الإلقاء في النار وقال كلمة الكفر لا شك أنها مرتبة أدنى وأنقص؛ لأن المسألة مفترضة في استوائهم ((كما يكره أن يلقى في النار)) متى يكون مثل هذا؟ هذا في الكلام النظري، لكن إذا جاء المحك العملي، وهدده من يملك إيقاع الفعل ثبت على دينه وارتكب العزيمة صار كراهيته للعود إلى الكفر أعظم من أن يلقى في النار، وإن ترخص فالحمد لله الدين فيه فسحة، وهذا منصوص عليه {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [(106) سورة النحل] فالدين يشمله، والرخصة تسعه، لكن العزيمة أكمل.
نعم.
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:(62/8)
"وعنه" يعني عن أنس، صاحبي الحديث السابق "-رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يؤمن أحدكم)) " والحديث الذي بعده: ((لا يؤمن عبد)) نفي الإيمان ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) النفي هنا لحقيقة الإيمان أو لكمال الإيمان؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني لو أن شخصاً لو قيل مثلاً: ما الضابط لمحبة الرسول -عليه الصلاة والسلام- أكثر من النفس ومن الولد ومن الوالد والناس أجمعين؟ نقول: تقديم أوامر النبي -عليه الصلاة والسلام-، وتقديم شرعه ودينه على هؤلاء كلهم، لو تعارضت مصلحة الوالد أو الولد أو أي أحد من الناس مع الأمر الشرعي يقدم الأمر الشرعي، لكن لو قدر أن إنساناً قدم مصلحة الوالد أو الولد على الأمر الشرعي، فهل نقول: ((لا يؤمن أحدكم)) نفي للإيمان بالكلية أو نفي لكمال الإيمان؟ ((لا يؤمن أحدكم)) الإيمان الكامل، ويبقى أن إيثاره لهذه المعصية وهذه المخالفة قدح في الإيمان، لكنها لا ترفع الإيمان بالكلية كشأن سائر المعاصي، ماذا نقول؟ معصية من المعاصي، إذا قال له أبوه: افعل كذا في وقت الصلاة، الصلاة تقام ويقول: لا، افعل هذا قبل، وتنظر فإذا العمل يستوعب الصلاة كلها، ما تنتهي إلا والصلاة انتهت، وافترض أن هذا يستوعب وقت الصلاة كله، لا تصلي إلا أنت موظباً السيارة مثلاً، توظيب السيارة يحتاج إلى ثلاث ساعات يطلع الوقت، يقول: لا، ما يمكن، الأصل أن يقدم طاعة الله وطاعة رسوله -عليه الصلاة والسلام- على طاعة الوالد، لكن إذا قدم وفعل وعصى وآثر محبة أو طاعة الوالد على طاعة الله ورسوله هل يكفر بهذا؟ هل يرتفع عن الإيمان بالكلية؟ لا، لا يرتفع عنه الإيمان بالكلية.(62/9)
((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده)) في بعض الروايات: ((من والده وولده)) تقديم الولد لأنه في الغالب أحب من الوالد، هذا من باب المحبة الجبلية والشفقة والرحمة، في الغالب أن الولد يؤثر على الوالد جبلة، نعم، لكن شرعاً محبة الوالد أعظم من محبة الولد من حيث الشرع، أيضاً تقديم الوالد على الولد يقول أهل العلم: لأن كل إنسان له والد وليس كل إنسان له ولد، فلذا قدم الوالد في هذه الرواية ((والناس أجمعين)) من باب عطف العام على الخاص، والتصريح بالولد وهو يشمل الذكر والأنثى {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [(11) سورة النساء] والوالد هنا مفرد مضاف يشمل؟
طالب: الأب والأم.
الأبوين، لكن عقوق الأمهات يشمل الآباء؟ لا، لا يشمل، لكن النصوص الأخرى دلت على دخول الآباء، هنا: ((ولده ووالده)) عرفنا أن الولد يشمل بالنص {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} [(11) سورة النساء] يشمل الذكر والأنثى، الوالد عندنا والد وعندنا والدة التي هي الأم، فإذا قلنا: والديه يدخل فيه الأم لأن النساء يدخلن في خطاب الرجال تبعاً في النصوص الشرعية، وقد جاء عن مريم أنها كانت من القانتين، في الدعاء الذي يسمع باستمرار ((اللهم اغفر لنا ولوالدينا)) هل يكفي أن نقول: ووالدينا، وتدخل الأم في الوالدين؟ أو نقول: لا بد من التثنية؟ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [(28) سورة نوح]؟ بالتثنية، أو نقول: مفرد مضاف يشمل؟ نعم هو مفرد مضاف يشمل جميع الوالدين الذي هم الآباء، لكن ما تدخل الأم إلا في التثنية، وهنا قال: ((ووالده)) مفرد مضاف يشمل جنس الوالد الذي يدخل فيه الأم؛ لأنه ليس له إلا والد واحد، لكن إذا جمعنا الضمير وقلنا: ووالدين يشمل جميع الآباء، ولا يدخل فيهم الأمهات حتى نأتي بالتثنية {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [(28) سورة نوح].
((والناس أجمعين)) يعني من باب أولى، وهذا من عطف العام على الخاص للعناية بشأن الخاص، والاهتمام به.
نعم.
وعنه -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره)) أو قال: ((لأخيه ما يحب لنفسه)).(62/10)
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في هذا الحديث:
"وعنه" يعني وعن أنس صاحبي الحديثين السابقين "-رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((والذي نفسي بيده)) " الواو قسم ((الذي نفسي بيده)) مقسم به، والنفس هي الروح، وبيده: فيه إثبات اليد لله -جل وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته.
كثير من الشراح حينما يتعرضون لشرح هذه الجملة: ((والذي نفسي بيده)) يقول: "والذي روحي في تصرفه" ولا شك أن هذا حيد عن إثبات الصفة التي هي إثبات اليد لله -جل وعلا-، نعم، الأرواح في تصرف الله -جل وعلا-، ولا أحد ينكر هذا، لكن هذا من اللازم، تفسير اللفظ باللازم خلاف قول أهل السنة والجماعة، تأويل الرحمة مثلاً بإرادة الإنعام، تأويل الغضب بإرادة الانتقام، تأويل اليد هنا بالتصرف، كل هذا خلاف ما عليه سلف الأمة وأئمتها.
((والذي نفسي بيده)) النبي -عليه الصلاة والسلام- يقسم، كثيراً ما يقول: ((والذي نفسي بيده)) وقد يقول: ((لا ومقلب القلوب)) حُفظ عنه القسم في مواضع كثيرة، وهذا يكون على الأمور المهمة شرعاً،
أما الكثرة أو الإكثار من القسم في الأمور غير المهمة جاء {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} [(224) سورة البقرة] فلا يبتذل في غير الأمور المهمة، وقد أمر الله -جل وعلا- نبيه أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع في كتابه {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [(53) سورة يونس] في سورة يونس، وفي سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [(3) سورة سبأ] وفي التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [(7) سورة التغابن] فالقسم على الأمور المهمة وارد شرعاً، بل مطلوب ليعظم هذا الأمر، يعظم ما عظمه الله ورسوله.
((والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد)) هناك: ((لا يؤمن أحدكم)) أحدكم مثل ما قلنا: مفرد مضاف يعم ويشمل الرجال والنساء لدخولهن في خطاب الرجال، وهنا قال: ((لا يؤمن عبد)) نكرة في سياق النفي فتكون عامة لمن اتصف بهذا الوصف من الرجال وفي حكمهم النساء.(62/11)
((لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره)) أو قال: ((لأخيه)) أو هذه شك، وجاء في بعض الروايات في الصحيح: ((حتى يحب لأخيه)) بالجزم ((لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحبه لنفسه)) قال: ((لأخيه ما يحبه لنفسه)) الجار المجاور في المسكن، ويشمل عند أهل العلم إلى أربعين بيتاً، أو من يسمع أذان المسجد، أو من يصلي صلاة الصبح في المسجد، أقوال، والأولى من الجيران الأقرب باباً، كما جاء في الحديث الصحيح عن عائشة: ((أقربهم باباً)) هذا أولى.
((حتى يحب لجاره)) والجار جاءت النصوص باحترامه وتقديره ونفعه، وكف الأذى عنه ((والله لا يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه)) ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) فالجار له شأن ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) والجيران منهم المسلم وغير المسلم، ومنهم القريب والبعيد، فالجار القريب المسلم له ثلاثة حقوق: حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام، والجار المسلم البعيد له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام، والجار غير المسلم له حق الجوار فقط، فهذه الحقوق لا بد من مراعاتها ((حتى يحب لجاره)) أو قال: ((لأخيه)) ويشمل أخوة النسب وأخوة الدين، أخوة الدين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [(10) سورة الحجرات] وأخوة النسب معروفة {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [(65) سورة الأعراف] أخوة نسب، وليست أخوة دين.
أو قال: ((لأخيه ما يحبه لنفسه))، ((لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره)) أو ((لأخيه)) وعرفنا أن النفي ليس لحقيقة الإيمان وأصله وإنما هو لكماله، هذا في عرف كثير من الناس في حكم المستحيل، وأحياناً حقيقة الأمر متعذرة في مثل هذا، يعني طلبة يتنافسون في الدراسة هل يتمنى أجودهم في الدراسة وأحرصهم على التحصيل وأكثرهم تعباً أن يكون كل واحد من هؤلاء الإخوان الأول مكرر؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .(62/12)
هذا متعذر، لكن يتمنى لأخيه من التوفيق ما يتمنى لنفسه في الجملة، سابقوا، سارعوا، أصل المسابقة أن يكون فيه سابق ومسبوق، فكيف تمتثل هذا الأمر وأنت تريد أن تصل مع أصحابك إذاً ما في سباق ولا مسابقة؟ نعم يراد بالنصوص الحث على التقدم وهو مطلوب من الجميع، من الجميع التقدم، لكن هل يطلب من الإنسان أن يكلف نفسه ويروض نفسه على أن يصلوا إلى الغاية سواء؛ ليحب ما يحب لنفسه؟ على كل حال الإنسان يسعى ويسدد ويقارب ويحرص أن يحقق أكبر قدر مما جاء، والقلوب السليمة قد يسهل عليها مثل هذا، أما القلوب المدخولة يستحيل عليها تحقيق مثل هذا، حتى جزم بعضهم أن تحقيق ما في هذا الحديث مستحيل؛ لماذا؟ لأنه يحكي واقعه وواقع من حوله، لكن القلب السليم يتحقق فيه مثل هذا، لا سيما وأنك ما عليك نقص ((حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)) يحب لنفسه بيت واسع يعني ما تحب لأخيك أن يكون بيته واسع؟ نعم؟ وبعض الناس يسعى جاهداً لكتمان ما عنده؛ لئلا يقلد فيصير الناس مثله، ما يصير له مزية حينئذٍ، ومع الأسف قد يوجد هذا بين طلاب العلم، يسمع فائدة من الشيخ يقيدها فلا يبوح بها لزملائه، ويُسأل عنها ويكتمها؛ ليتميز بها في الامتحان، هذا يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟! لا، المقصود أن مثل هذا كما قال أهل العلم يسهل على القلب السليم، وأما القلب المدخول فهو في غاية الصعوبة، وإذا كان هذا مفاد هذا الحديث فدلالته على ضده من باب أولى، على نفي الحسد والحقد الذي به يتمنى الإنسان زوال النعمة عن غيره، يعني: بدلاً من أن يحب لنفسه من يحب لغيره يتمنى أن تزول النعمة عن الغير هذا -نسأل الله العافية- أمره عظيم الذي هو الحسد والحقد على الناس، وإرادة الشر بهم، ويفرح إذا أصيبوا بمكروه، ويغتم إذا أصابهم شيء من السرائر، هذا لا شك أنه أشد مما جاء في هذا الحديث، يعني مما يفهم من هذا الحديث أنه إذا لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه ارتفع عنه كمال الإيمان، فكيف إذا أحب لغيره لأخيه أو لجاره الضر لكن بعض النفوس مجبولة على هذا، فيها شر، وفيها حسد، وفيه حقد، يتمنى باستمرار ويفرح إذا أصيب أحد، ويغيظه أن يصاب إنسان بخير، وإذا قيل له: إن فلان وفق بزوجة صالحة جميلة صينة دينة، ما(62/13)
استطاع أن ينام تلك الليلة من الحسد، صحيح، هذا يوجد يا إخوان! موجود بكثرة، وهذا سببه أن القلوب مدخولة، لكن هل يأثم بمجرد ذلك أم يكون هذا من حديث النفس المعفو عنه ما لم يتحدث أو ما لم يتكلم ويعمل؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
حديث نفس.
طالب:. . . . . . . . .
يعني إذا ما نام تلك الليلة مغموم؛ لأن صديقه وفق أو صاحبه أو أخاه وفق بامرأة صالحة، أو وفق بوظيفة وعمل، نقول: هذا حديث نفس ما لم يعمل أو يتكلم؟ هاه؟ أو أن نقول: هذا الذنب مرتب على هذا القدر والعمل والحديث قدر زائد على ذلك؟ لأن أدواء القلوب أعمال القلوب سواء كانت الممدوحة أو المذمومة محلها القلب، الأصل فيها أن محلها القلب، وجاء ذمها ومحلها القلب، وجاء مدح ما يمدح منها ومحله القلب، يعني لو أن شخصاً أحب شخصاً في الله، واستمر على ذلك إلى أن مات محبة شرعية خالصة، ولا أخبره أنه يحبه، ولا كلم أحد أنه يحبه يؤجر أو ما يؤجر؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
يؤجر بلا شك، وقل مثل هذا في العكس؛ لأن هذه أعمال القلوب الأصل فيها أنها مستقرها القلب، ولا يلزم أن يتحدث بها، بل رتب الإثم عليه بمجرد انطواء القلب على هذه الخلة، كأن ابن الجوزي في صيد الخاطر يميل إلى أن الحسد لا يؤثر إلا إذا تكلم أو عمل بمقتضاه ويجعل هذا من حديث النفس.
اقرأ حديث ابن مسعود.
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((سباب المسلم)) " سباب: مصدر سابب يسابب سباباً، مثل: قاتل يقاتل قتالاً، ومسابة ومقاتلة، والسب والشتم بمعنى واحد، فسب المسلم وشتمه وعيبه وذمه وشينه كله محرم.
والمسلم يشمل الحي والميت، وجاء النهي عن سب الأموات: ((لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا))، ((لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء))، ((اذكروا محاسن موتاكم)) وإذا كان يتأذى ويتأذى أهله فكيف يتأذى بنفسه فيسب وهو حي؟!(62/14)
((سباب المسلم فسوق)) خروج عن الطاعة، قادح في عدالة المسلم، عدالة الساب وديانته ترد به شهادته وروايته، الفاسق لا تقبل شهادة ولا تقبل روايته.
والأحكام المترتبة على الفسق كثيرة، فإذا ثبت أن هذا الشخص يسب المسلم فَسَقَ بهذا، فضلاً على أن يسب ويذم أهل الخير وأهل الفضل وأهل الصلاح، يسب أهل الحسبة لماذا؟ لأنهم قاموا بهذه الشريعة، هذا خطر عظيم -نسأل الله العافية- يخشى عليه من النفاق؛ لأنه إن كان يذمهم ويسبهم ويتحدث بهم في المجالس من أجل قيامهم بهذه الشعيرة هذا يخشى عليه من النفاق -نسأل الله السلامة والعافية-، وإذا كان يذم الواحد منهم لما حصل بينه وبينهم من أمور الدنيا فهذا لا يجوز، لكنه يبق أنه أخف من الأول.
((سباب المسلم فسوق)) وسبابه إذا كان بما فيه مع غيبته فهو غيبه، وان كان بحضرته فليس بغيبة، لكن يبق أنه إذا كان يؤذيه هذا السباب فهو محرم.
((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) قتاله كفر فضلاً عن قتله، القتال والمقاتلة أعم من القتل؛ لأنه قد يحصل القتال ولا يحصل القتل، تحصل المقاتلة ولا يحصل القتل ((وقتاله كفر)) وهو إن استحله فهو كفر أكبر مخرج عن الملة، وإن كان لأمر من الأمور، ومن غير استحلال، ويرى أنه محرم، وغلبته نفسه على هذا فهو كفر دون كفر غير مخرج عن الملة.(62/15)
وفي هذا الحديث تعظيم حقوق المسلمين وحرماتهم وأعراضهم ودمائهم، فحفظ الضروريات جاءت بها الشرائع، ومنها الأعراض الذي يتعرض لها المسبوب، منها: القتال وهو أعظم، ولذا رتب عليه من الحكم ما هو أعظم، فإذا كان مجرد السباب فسوق فالقتال كفر -نسأل الله السلامة والعافية-، وأبو ذر -رضي الله تعالى عنه- الصحابي الجليل لما عير رجلاً بأمه قال له النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) يعني فيه خصلة من خصال الجاهلية، فالتعيير بالآباء أو الأمهات هذا من خصال الجاهلية، ولذا قيل: ((فيك جاهلية)) لكن أبو ذر ليس بجاهلي، يعني قد يكون في الإنسان خصلة من خصال يكون فيه جاهلية، يكون فيه نفاق، يكون فيه شرك، يكون فيه وصف مذموم، لكنه لا يوصف بالوصف الكامل، ما يقال: أبو ذر جاهلي، كما قرر ابن رجب -رحمه الله تعالى- في أهل الكتاب أنهم فيهم شرك، لكنهم ليسوا بمشركين، ابن رجب قرر هذا، ولذا عطفوا على المشركين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [(6) سورة البينة] يعني عُطف المشركون عليهم، دليل على أنهم غير مشركين، وإن كان فيهم شرك، ووقوع الشرك فيهم قديم، ووقت النزول أو التنزيل فيهم هذا الشرك، وجاء في التنزيل ما يدل على أنهم أشركوا وأنهم جعلوا لله نداً {قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [(73) سورة المائدة] قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} [(30) سورة التوبة] وقالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} [(30) سورة التوبة] كفروا وأشركوا، ومع ذلك جاء من الأحكام لهم ما يخصهم من بين سائر الطوائف؛ لأنهم ليسوا بمشركين، وان كان فيهم شرك، ولذا تحل نساؤهم، مع أنه لا يحل للمسلم أن ينكح مشركة، لكن يحل له أن ينكح كتابية؛ لأن فيها شرك وليست بمشركة على قول ابن رجب -رحمه الله تعالى-، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين، أما بعد:
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:(62/16)
وعنه -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك)) قال: قلت له: إن ذلك لعظيم، قال: قلت ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)) قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((ثم أن تزاني حليلة جارك)).
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على بعده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعنه" يعني عن ابن مسعود صحابي الحديث السابق، وجرت عادت المؤلفين في المختصرات أنهم يكنون عن المكرر بالضمير، ولا يقول: عن ابن مسعود، ولا عن عبد الله بن مسعود مرة ثانية، ولا عن أنس، ولا عن أبي هريرة، بل يعطفون عليه إذا اتحد الصحابي.(62/17)
"قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الذنب أعظم عند الله تعالى؟ " الفائدة من السؤال أن يجتنب ويتقى ويحذر منه ((أي الذنب أعظم عند الله تعالى؟ )) والمراد بالذنب جنس الذنب، أي الذنوب أعظم عند الله تعالى؟ فأجابه النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: ((أن تجعل لله نداً وهو خلقك)) يعني أن تشرك بالله، تجعل لله نداً يعني شريكاً نظيراً مشابهاً مساوياً له وهو الذي خلقك وأوجدك، وله عليك النعم الظاهرة والباطنة، أسبغ عليك النعم ومع ذلك تكون عبادتك لغيره بمفرده أو معه، فالشرك أمره عظيم، بل هو أعظم الذنوب على الإطلاق، وما عصي الرب -جل وعلا- بمثل الشرك، ولذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((أن تجعل)) والسؤال مكرر في الجواب حكماً، فكأنه قال: أعظم الذنب عند الله تعالى أن تجعل له نداً وهو خلقك، حكم مقروناً بعلته المقتضية للتنفير من العمل، الله -جل وعلا- هو الذي خلقك، يعني لو رأيت رجلاً عاقاً لوالديه أو لأمه كيف تعق أباك؟ ثم تذكر السبب في منعك العقوق بالنسبة له، فتقول: هو سبب وجودك، وهو الذي .. ، فلو قال شخص لآخر: كيف تعق أباك أو تعق أمك وهما سبب وجودك؟! تذكره بما يكون حافزاً له، وهنا يقول: ((وهو خلقك)) تذكير للإنسان بما يدعوه إلى ترك هذا العمل الشنيع، تجعل لله نداً بأن تصرف له شيئاً من أنواع العبادة التي هي من خصائص الرب -جل وعلا-، ويوجد هذا مع الأسف في الأمة كثير ممن يقول: لا إله إلا الله، فتجد المرء في بعض الأقطار يطوف على القبر وهو يقول لا إله إلا الله، وهذا دليل على أنه لا يعرف معنى لا إله إلا الله، المعنى الذي عرفه أبو جهل وأبو لهب ما عرفه هذا، ابتليت الأمة بالغلو في الصالحين وعبادتهم، توجد القبور والمشاهد في شرق الأرض وغربها، ومع ذلك النصوص في التحذير من الشرك والحث على التوحيد وتحقيقه كثيرة جداً، لا يمكن الإحاطة بها في نصوص الكتاب والسنة ومع ذلك تجد المخالف، وذلك مصادق قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان)) هذا لا بد أن يقع في الأمة، لكن مع ذلك كونه يقع قدراً لا يجوز شرعاً، لا يعني أن يجوز شرعاً، والبلوى بالقبور والفتنة بها أشربها(62/18)
قلوب كثير من المسلمين من القدم، حتى أقيمت المباني وشيدت البنايات الشاهقة على القبور، ويوجد ضريح من أكبر الأضرحة يدعى (ضريح الشعرة) يعني ضريح عليه بناية كبيرة جداً وحوله السدنة يطوفون الناس، ويبيعون عليهم الغبار والتراب، ويبيعون عليهم الماء الذي يمر بهذا الضريح، وضريح شعرة، شعرة مدفونة في هذا على ما يذكر شعرة، شعرة ممن هذه الشعرة؟ من عبد القادر الجيلاني، فكيف بقبره الذي فيه جسمه؟! الأمر فيه أعظم، كيف بمن هو أفضل منه؟! حصلت الفتنة به أكثر، وهذا الباب أعني باب الشرك الذي لا يغفر، فالشرك ليس بقابل للغفران، كما قال -جل وعلا-: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [(48) سورة النساء] كثير من المبتدئة يرون أن الشرك في الربوبية، ويغفلون عن الأهم الذي من أجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، ومن أجله حارب النبي -عليه الصلاة والسلام-، وغزا قومه وغيرهم لتقريره، وإلا فالمشركون يقرون بتوحيد الربوبية، النبي -عليه الصلاة والسلام- إنما طالبهم بتوحيد الإلوهية الذي ينكرونه.(62/19)
"قلت له: إن ذلك لعظيم" يعرف ابن مسعود من خلال ما سمع من النصوص عظمة الشرك، وخطورة الشرك {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [(65) سورة الزمر] ما في شيء يحبط العمل غير الشرك {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [(65) سورة الزمر] وهذا يقال في حق من؟ في حق النبي -عليه الصلاة والسلام-، فكيف بمن دونه؟! فالشرك أمره عظيم، خافه أخشى الناس وأتقى الناس وأعلم الناس بالله -جل وعلا-، والذي حطم الأصنام إبراهيم الخليل {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [(35) سورة إبراهيم] يقول إبراهيم التيمي: "من يأمن البلاء بعدك يا إبراهيم؟! " صحيح، إذا كان إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- إمام الحنفاء، والذي بنى البيت، وحطم الأصنام يخشى من الشرك، فعلى الإنسان أن يحذره، وأن يتعلم من التوحيد وحماية التوحيد وسد الذرائع، حماية جناب التوحيد وسد جميع الذرائع الموصلة إلى الشرك، تعلم من ذلك ما يكون بإذن الله -جل وعلا- وقاية وحصناً وسداً منيعاً من الوقوع في بعض الشركيات التي قد يقع فيها من حيث يشعر أو لا يشعر.
من قرأ على سبيل المثال بعض الرحلات وجد كثير من الرحالين أول ما يدخلون البلدان يذهبون إلى قبور الأولياء، ومن أراد الأمثلة على جميع خوارم توحيد الإلوهية فلينظر في رحلة ابن بطوطة، التي فيها من الشرك الأكبر فما دون، على كل حال هذا وقع في الأمة، لكن على المسلم أن يحذره أشد الحذر؛ لأنه أعظم الذنوب عند الله -جل وعلا-.(62/20)
"قال: قلت له: إن ذلك لعظيم، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)) " وهذه العلة لا مفهوم لها، إذا قتل ولده مع أنه غني وكريم يجود على الناس فكيف بولده؟! لا يخشى أن يطعم معه، فقتله لأمر من الأمور يجوز؟ لا، لا يجوز بحال، ولذا يقول أهل العلم: إن مثل هذا القيد لا مفهوم له، أن تقتل ولدك، بل الذي هو أقرب الناس إليك، ومضى وأد البنات، فالولد والبنت بصدد أن يشفق عليهم، ويحنى عليهم، وأن يحاطوا بالعناية والرعاية فإذا حصل خلاف ذلك دل على الانحراف الخطير في حياة الشخص، فهذا من العظائم أن يقتل ولده خشية أن يطعم معه، من عظائم الأمور أيضاً القتل، سواء كان للولد وهو أشدها، أو لغيره كالقريب والجار أو البعيد المسلم وغير المسلم، مما عصم دمه من ذمي أو معاهد، كل هذه من عظائم الأمور، ولا يزال المسلم في فسحة من أمره أو من دينه حتى يصيب دماً حراماً -نسأل الله السلامة والعافية-، فالقتل مقرون بالشرك في هذا الحديث وفي آية الفرقان.
"قال: قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)) " يعني زوجة الجار، تزاني مفاعلة، والعدول عن المفاعلة إلى الفعل، ما قال: أن تزني بحليلة جارك، تزاني مفاعلة؛ ليكون الفعل من الطرفين منك ومنها -نسأل الله السلامة والعافية-، ولا يكون هذا إلا بعد إفسادها على زوجها، وهذا شأنه خطير في الشرع، إذا حصلت المفاعلة بين الطرفين يكون بعد إقناعها وإفسادها لتحصل الرغبة منها ومنه؛ ليكون من طرفين، وهذا فيه أكثر من جريمة وأكثر من خيانة، مع الأسف أن مثل هذه الصورة في القوانين الوضعية أشد أو الإكراه؟ نعم؟
طالب: الإكراه.(62/21)
الإكراه، أمورهم معلقة بالإكراه، أما إذا كان مزاناة ورضا وإقناع هذا ما يهمهم -نسأل الله السلامة والعافية-، وهي محادة لله ولرسوله، فالعدول من الفعل إلى المفاعلة لا شك أنه لنكتة، ما قال: أن تزني بحليلة جارك قال: أن تزاني؛ لأن المفاعلة تدل على وجود الرغبة من الطرفين، ولا يكون هذا إلا بعد إفسادها على زوجها، هذه الأمور الثلاثة التي هي: الشرك وقتل النفس والزنا من عظائم الأمور، ومن أشد الموبقات، في آية الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [(68) سورة الفرقان] هذه الثلاثة مقرون بعضها ببعض، مقرونة ببعض لعظمها، وشدة خطرها، فكما أن العناية متجهة إلى حرب الشرك والقضاء عليه بجميع الوسائل، والقضاء على الشرك هو السبب الحقيقي للأمن، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [(55) سورة النور] فمتى وجد الشرك انتهى الأمن، والأمن بجميع صوره لا الأمن الذي مبني على حديد وعلى نار وإزعاج وإرهاب وتخويف، لا، الكلام على الأمن الحقيقي الذي جاءت به الشريعة {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} [(82) سورة الأنعام] ومع الشرك مما .. ، محاربة الشرك مما يحقق الأمن الحقيقي مواجهة القتل والقتلة والقضاء عليهم {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [(68) سورة الفرقان] فلا أمن بدرء هذه المفسدة العظيمة.
والأمر الثالث مما يتعين بل هو من أوجب الواجبات على من ولاه الله أمر المسلمين القضاء على الفساد الخلقي كالزنا واللواط والفواحش، وما يدعو إليها، قرنت في آية واحدة، وفي حديث واحد، فلا يجوز التفريق بينها، نعم بعضها أعظم من بعض، فالشرك هو الأعظم، ثم القتل، ثم الزنا، لا يجوز أن يتساهل الإنسان بأمر معصية وجريمة مثل هذه الجرائم.
"قال: ((أن تزاني حليلة جارك)) " والحليلة هي الزوجة.
سم.(62/22)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((آية المنافق ثلاث)) " آية المنافق ثلاث يعني: علامة المنافق، علامته الظاهرة ثلاث: ((إذا حدث كذب)) العلامة الأولى والخصلة الأولى من خصال المنافقين الكذب في الحديث ((إذا حدث كذب)) الكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف واقعه، يعني الخبر الذي لا يطابق الواقع عمداً كان أو سهواً، هذه هي حقيقة الكذب عند أهل السنة عمداً كان أو سهواً، فالكلام إما صدق وإما كذب، فإن طابق الواقع فهو الصدق، وإن خالف الواقع فهو الكذب، ولا يشترط فيه العمدية أعني لتسميته كذباً، فالكذب نقيض الصدق لا ضد الصدق، إذ لا واسطة بينهما عند أهل السنة، وعند المعتزلة واسطة، في واسطة، كلام ليس بصدق ولا كذب، فيه واسطة بين الصدق والكذب، ولذا جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه المتواتر لفظه ومعناه: ((من كذب عليَّ متعمداً)) فيدل على أن هناك كذب لكن ليس عن عمد، المعتزلة عندهم هناك واسطة لأن الكذب قوبل بغير الصدق، فدل على أنه ليس نقيضاً له، نعم هو ضد، لكن ليس بنقيض {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} [(8) سورة سبأ] ما قوبل الكذب بالصدق، فدل على أن هناك أشياء غير الصدق والكذب، لكن كونه به جنة هذا كلام يكون مقابلاً للكذب؟! {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} [(8) سورة سبأ] المجنون يتصرف ويتكلم بكلام يليق به، وتصرْف يليق به، لكن هل كلام المجنون الذي لا يعقل كلامه، وكلام النائم الذي لا يعقل كلامه، وكلام الطيور التي لا يقصد منها الكلام هل تدخل في حقيقة الكلام في لغة العرب أو لا تدخل؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .(62/23)
الكلام هو: اللفظ المركب المفيد بالوضع، فقولهم: بالوضع يعني بالقصد، فعلى هذا لا يدخل كلام النائم ولا كلام المجنون، ولا كلام الطيور، لا يسمى كلام في لغة العرب، ومنهم من يقول: المراد بالوضع يعني بوضع اللغة العربية، لكن يترتب على هذا أن كلام الأعاجم لا يسمى كلاماً، واضح الفرق؟! على هذا نقول: كلام المجنون وكلام من لا يقصد الكلام مثل النائم، ومثل بعض أنواع الطيور هذا ليس بكلام، ولذا لما استدلوا بقول الله -جل وعلا-: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} [(8) سورة سبأ] المجنون يتصرف ويتكلم بكلام لا يقصده ولا يريده ولا يفهم معناه، فكلامه ليس بكلام، فلا يقابل بالكذب من هذه الحيثية، لكن ما حصل منه -عليه الصلاة والسلام- على حد زعمهم وعلى حسب تصورهم أنه إن كان عاقلاً فقد افترى على الله كذباً، وإن كان مجنوناً قد قال كلاماً أو فعل فعلاً يناسب فعل المجانين، فلا يقابل هذا بهذا باعتباره كلاماً، فالمقابل للكذب هو الصدق ولا واسطة بينهما.(62/24)
((إذا حدث كذب)) (إذا) شرطية (حدث) فعل الشرط، و (كذب) جوابه، والتعبير بـ (إذا) يدل على أن هذا ديدنه، يعني كل ما حدث كذب، وأما من يحصل منه الكذب أحياناً ونادراً مثل هذا لا يكون منافقاً؛ لأن (إذا) تقتضي الاستمرار والجزم بوقوع الجزاء إذا وقع شرطه، يعني كلما حدث كذب -نسأل الله السلامة والعافية- ((ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) فتجد الإنسان يُستدرج في هذا الباب، في أول مرة يكذب من غير قصد ليضحك أو لينكت، أو لأمر من الأمور والمقاصد التي يفعلها بعض الناس، ثم بعد ذلك يزيد، تجده خاطره معمور بالتزوير تزوير الكلام الكاذب، ماذا يقول لأصحابه إذا جلس معهم؟ ينسج ويزور في نفسه كلاماً يدخل به السرور على أصحابه على حد زعمه، ثم بعد ذلك يزيد، ثم لا يلبث أن يكون كذاباً، يكون كذبه أكثر من صدقه، فيكذب لمصلحة ولغير مصلحة -نسأل الله السلامة والعافية- ((ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) وعرفنا أن الكذب إذا لم يطابق الواقع فهو كذب، لكن هناك صور أُبيحت للمصلحة الراجحة من هذا النوع للإصلاح، كذب الرجل على زوجته، وفي الحرب مثلاً، المقصود أنه إذا صارت المصلحة راجحة، وقد لا يقصد بهذا الكذب الصريح قد يقصد منه المعاريض، فإذا كانت المعاريض تؤدي الغرض ففيها مندوحة عن الكذب، هناك أمور لا تطابق الواقع، ومع ذلك تداولها بعض العلماء مثل المقامات، المقامات الأدبية من هذا النوع، حدث الحارث بن همام قال .. ، ما في حارث بن همام أصلاً، وحدث عيسى بن هشام، وحدث فلان وعلان، ما في شيء، اخترعها اختلقها من تلقاء نفسه، صاحب المقامات اختلقها، ومع ذلك تداولها الناس، واعتنوا بها، وقرروها ودرسوها وشرحوها، وهم يعرفون أنها كذب، وزاولها جمع من أهل العلم قالوا: للمصلحة الراجحة، وكل يعلم أنه لا محدث ولا مُحدث، ومثل هذا المناظرات تعقد مناظرة بين خصمين، والأصل أن هذه المناظرة لا حقيقة لها، إنما هي على لسان شخص واحد، إذا أراد أن يبسط مسألة مثلاً بقولين لأهل العلم قال فلان كذا، وقال كذا، ورد عليه كذا، وقال كذا، ومن أوضح ما يذكر في هذا المناظرة بين العلوم، هذه لا يتصور الكلام فيها،(62/25)
قال علم التفسير، قال علم الحديث، كل واحد يذكر فضله وميزته، قال علم الفقه، قال علم العقائد وهكذا، هذه مناظرات هل هذا صدق وإلا كذب؟ يعني: إذا عرضناه على الحد، هل هو مطابق للواقع أو مخالف للواقع؟ مخالف، لا يمكن أن يقول علم التفسير: أنا أشرف بشرف المقصود وبشرف الهدف؛ لأنني أبين كلام الله وهكذا، ما يمكن، أو يقول علم الحديث ما يقول، هذه مناظرات فعلها بعض العلماء، وقد يفعلونها بين فريقين، قال السني كذا، قال الجبري كذا، قال الرافضي كذا، قال الجهمي كذا، وهي من شخص واحد، هذا فن المناظرة، وفعله بعض أهل العلم، وتسمحوا في مثل هذا، قالوا: لأن المصلحة راجحة.
((وإذا وعد أخلف)) يعد بالهدية، يعد بأن يأتي إليه في وقت معين، ثم بعد ذلك لا يحصل، وإخلاف الوعد أمره عظيم لما يترتب عليه، فإذا قال لزيد من الناس: عندي لك كتاب كذا أعطيك إياه -إن شاء الله-، ثم بعد ذلك ما أعطاه إياه، أو قال له: آتيك في الساعة الفلانية، أجيك في الساعة الفلانية، وجلس ينتظره الساعة والساعتين فما جاء، لا شك أنه متضرر، ولذا صار هذا الوصف من علامات النفاق، وأهل العلم يقولون: إن مثل هذا الشنيع إنما يتجه في حق من كان في نيته الخلف مع الوعد، من الأصل ما هو موفي، أما من كان في نيته الوفاء ثم طرأ عليه بعد ذلك ما يطرأ فلا يدخل في مثل هذا، نعم هو خلاف الأولى، إذا قال: والله عندي لك كذا، ثم ذهب إلى البيت فوجد الكتاب قد يحتاجه أحياناً، أو النسخة التي يريد إهداءها له تختلف عن النسخة الثانية، ولها ميزة، وقال: احتفظ بالنسختين، وإذا قال مثلاً: إذا جاء الراتب أتصدق بمائة مثلاً، ثم بعد ذلك لما جاء الراتب طمع ووجد التكاليف كثيرة، والفواتير مجتمعة ترك، هذا عند أهل العلم هو مجرد وعد، لكن إن اقترن هذا الوعد بالعهد صار من علامات النفاق {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [(75) سورة التوبة] إلى أن قال: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [(77) سورة التوبة] المقصود أن مثل هذه الأمور الأصل أنك إذا وعدت تفي، لكن إذا حصل لك ما يمنعك من الوفاء فأهل العلم لا يدخلونه في هذه الصورة.(62/26)
((وإذا أؤتمن خان)) يأتمنه الناس على أموالهم وعلى أسرارهم، ثم بعد ذلك يجحد الأموال، ويبوح بالأسرار، هذه علامة من علامات النفاق -نسأل الله السلامة والعافية-، والوفاء موجود في الناس، والخيانة أيضاً موجودة من بعض الناس، في هذه الأمة، وفيما تقدمها من الأمم، فالذي يجحد وينكر الأمانة خيانة هذه، والذي يؤتمن على عمل من أعمال المسلمين ويفرط فيه خائن، والذي يلقن جاره أو صاحبه الجواب في الامتحان خائن، والمدرس الذي لا يؤدي الأمانة ما وكل إليه خائن، القاضي كذلك، المفتي كذلك الذي .. ، كل عليه كفله ونصيبه من هذا، فلا بد من أن تؤدى الأمانة، والأمانة شأنها عظيم {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [(72) سورة الأحزاب] ((فأدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [(58) سورة النساء] وفي الحديث: ((أدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) لهذا يمنع جمع من أهل العلم أن يكون لك دين على أحد ثم تظفر بشيء له يعادل هذا الدين فتجحده، أو تأخذه من غير علمه، لك عند أحد زملائك مائة ريال، ولا بينة لك، أعارك كتاباً قيمته مائة، ثم لما جاء يطلبه قلت له: أبداً ما عندي لك شيء، لا شيء لك عندي، هذه يسميها أهل العلم مسألة الظفر، يجيزها بعضهم إذا كانت بقدر ما عنده له، ويستدلون بحديث: ((خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)) يعني ولو من غير علمه؛ لأنه رجل شحيح، والذي لا يجيزها يذهب إلى حديث: ((أدِ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) ومن أهل العلم من يفصل، يقول: ما كان بين الأقارب مما لا يمكن فيه إقامة الدعاوى كالنفقات وشبهها مثل هذا يؤخذ ولو من غير علمه، وما يمكن فيه إقامة الدعاوى لا يؤخذ.(62/27)
جاء في روايات أخرى: ((وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) إذا عاهد يعاهد الإنسان على أمر من الأمور بأن .. ، يقول له: تخبرني بكذا، أو تعطيني كذا ولك عليَّ العهد أن لا أخبر عن كذا، يعني مما يضره، ولا يكون على حساب غيره، أو أن لا أتعرض لك بسوء، أو أرد عنك من أراد أن يعتدي عليك، ثم بعد ذلك يغدر به هو، بدلاً من أن يقيه شر غيره يغدر به هو، المقصود أن هذه من علامات المنافقين.
((وإذا خاصم فجر)) خاصم سواء كان لنفسه أو لغيره كالمحامي مثلاً حصلت له خصومة، وصار طرفاً فيها أجلب عليها بكل ما أوتي من بيان مع علمه بأن الحق لغيره لا له ولا لموكله، هذا فجور في الخصومة، وعلى هذا على المرء أن يتقي الله -جل وعلا- في الخصومة؛ لئلا يشبه المنافقين، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((إنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، أو من حق أخيه شيئاً فإنما أقضي له قطعة من نار، فليأكلها أو ليدعها)) تحذير وتنفير، والوضوح في الخصومة أمر لا بد منه بأن يكشف الإنسان ما عنده على حقيقته، لا يلبس على القاضي، ولا يصادر ما عند الخصم من إجابة؛ لأن بعض الناس عنده أسلوب يصير يدرس المحاماة من أجل إبطال الحقوق، أما من يدرسها من أجل إقامة الحقوق، والدفاع عن أهلها هذا مأجور -إن شاء الله تعالى-، وقل مثل هذا ممن يتولى المحاماة إذا كان قصده نصر المظلوم، واستخراج الحقوق لأهلها مأجور، لكن إذا كان قصده الكسب المادي بغض النظر عن كون الحق لصاحبه أو لا هذا يدخل في الحديث: ((إذا خاصم فجر)).(62/28)
وكان الناس إلى وقت قريب قبل أن تفتح الدنيا على الناس فيهم الوضوح والصدق، حتى أنه وجد من يوكل خصمه ليدلي بحجته عند القاضي، يقول: أنت تعرف القضية من أولها إلى آخرها، يقول لخصمك، اذهب وقل للقاضي المسألة كذا وكذا، فإذا قضى لأحدنا انتهينا، وبالفعل يذهب الخصم ويشرح القضية للقاضي فيقول: الحق لصاحبك، ويذهب هذا لصاحبه ويقول: الحق لك، وهناك أمور من الفجور الظاهرة والخفية، هناك أمور تخفى على كثير من الناس، شريح القاضي جاءه ولده وقال له: يا أبتي إن لي خصومه مع بني فلان أريد أن أعرضها عليك، فإن كان الحق لي جئت بهم وإلا تركتهم، قال: أعرض، فلما عرضها، قال: الحق لك هاتهم، فجاء بهم فقضى عليه، هو من الأصل الحق لهم، ليس له، فقضى عليه، وقال: إن الحق لهم، فلما انتهت القضية، قال: يا أبتي أن قلت لك من الأول: أخبرنا أن الحق لهم ونرتاح ونريحهم، قال: لا، لو قلت: إن الحق لك ذهبت تصالحهم على أدنى شيء؛ لأن بعض الناس يفتدي التعب والحضور إلى المحاكم والقضاة بما يستطيع، يعني لو شخص ادعي عليه بمليون ريال، جاءه شخص مفتري ليس عنده أدنى بينة، قال: في ذمة فلان عنده مليون ريال، يا الله عند للقاضي ...(62/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر - كتاب الجامع (4)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
جاءه شخص مفتري ليس عنده أدنى بينة، قال: في ذمة فلان عنده مليون ريال، يا الله القاضي، الطرف الثاني عنده استعداد يقول: هذه عشرة آلاف وريحنا من المحكمة، وهو ما له حق أصلاً، فشريح قال لولده: الحق لك، من أجل أن يحضرهم فينتهوا من عند القاضي، هل يستطيع أن يقول: أعطوني شيئاً أصالحكم به بعد أن بان أن الحق لهم؟ ما يمكن.
نعم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل، فيسب الرجل أباه، ويسب أمه فيسب أمه)).
نعم.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من الكبائر)) " الذنوب فيها الكبائر وفيها الصغائر، والكبائر جاء التنصيص عليها في نصوص كثيرة {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [(31) سورة النساء] يعني في الكتاب والسنة جاء التنصيص عليها، لكن الصغائر بهذا اللفظ، هل ورد فيها نص، التقسيم موجود في الشرع إلى أن الذنوب .. ، والذنوب متفاوتة، ثم أي؟ ثم أي؟ الذنوب متفاوتة بلا شك، وهناك ذنوب تعرف عند أهل العلم بالكبائر، وجاء التنصيص عليها، ووضعوا لها الضوابط، وهناك ما دونها من المعاصي التي تكفر باجتناب الكبائر، وبالصلوات الخمس، وبرمضان، وبالعمرة إلى العمرة، وهي مأخوذة من مقابلة اللفظ، ما لم تغش كبيرة، الصلوات الخمس كفارات لما بينها، الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، العمرة إلى العمرة كفارة لما بينها ما لم تغش كبيرة، تكفر إيش؟ تكفر الصغائر؛ لأن المفهوم من الكبائر أن المكفَر غير الكبائر ولا غير الكبائر إلا الصغائر، وإن لم يوجد التنصيص على الصغائر.
جاء التعبير باللمم مثلاً، لكن بهذا اللفظ الصغائر قد يعوز الاستدلال عليه، لكنه استنباط قوي من مفهوم الكبيرة، وأن الذي يقابلها الصغيرة.(63/1)
الكبائر جاء عدد أو تعداد شيء منها، وألحق بها ما يشاركها في الضابط، فإذا نفي الإيمان عن صاحب المعصية صارت هذه المعصية كبيرة، إذا توعد بالنار صار كبيرة، بحرمان الجنة كبيرة، لا ينظر الله إليه كبيرة، رتب عليه حد في الدنيا، عذاب في الآخرة هذه كبائر، هذا الضابط عند أهل العلم، ومن أهل العلم من يرى أن كل معصية كبيرة نظراً إلى عظمة من عصاه، وقد يحتف بالذنب الذي لم يتوعد عليه بشيء معين ما يحتف به مما يجعله في مصاف الكبائر من الاستخفاف مثلاً أو الإسرار، أو عدم الاكتراث والمبالاة، وقد يحتف بالكبيرة من الندم والخوف والوجل ما يمحو أثرها، عند أهل العلم الكبائر لا بد لها من توبة، مع أنها تحت المشيئة، وأما الصغائر تكفر بما ذكر من اجتناب الكبائر: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [(31) سورة النساء] وتكفر أيضاً الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة، والمراد على ذلك الذي يؤتى به على الوجه الشرعي بحيث تترتب عليه آثاره، فهذه تكفر الذنوب.(63/2)
((من الكبائر شتم الرجل والديه)) والديه ما قال: ((والدِيه)) لا، شتم الرجل والديه الأب والأم، يتصور أن ولداً يشتم والديه؟ الصحابة ما تصوروا هذا، لكن في زماننا الأمر أعظم، يحصل من الأولاد العققة ما هو أعظم، يحصل من بعض من ابتلي بسوء الخلق ما هو أشد، ولو كان ظاهره الصلاح، يحصل من هذا شيء، الصحابة استغربوا قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ استبعاد، ما يتصور يعني رجل سوي عاقل يشتم والديه مهما بلغ من التساهل أو من الفسق، ما يتصور أبداً، وهذا الكلام يجرنا إلى الكلام عن مسألة ما تصورها بعض العلماء، ما تصوروها، بعض المغاربة في القرن السابع يقول: إن الخلاف في كفر تارك الصلاة نظري ما هو بعملي، كيف نظري؟! يقول: ما يتصور أن أحد يترك الصلاة، إن كان في عهد شرار الناس أو بعد خروج الدجال ممكن، أما ما يتصور مسلم يترك الصلاة أبداً، يقول: الخلاف لا حقيقة له في الواقع، والآن البيوت ابتليت بمن يترك الصلاة إما بالكلية، أو ينام عن صلاة اليوم الكامل، الصحابة استغربوا وهل يشتم الرجل والدية؟ قال: ((نعم)) والجواب مطابق للسؤال أو غير مطابق؟ سؤالهم عن التسبب أو عن المباشرة؟ عن المباشرة، يعني: ما يتصور أن يقول شخص لأبيه: لعنك الله -نسأل الله السلامة والعافية-، أو يا فاعل أو يقذفه، أو ما أشبه ذلك، وكذلك الأم، فجاء الجواب بالتسبب؛ لأن المباشرة لا وجود لها في الأصل، في وقتهم ما لها وجود المباشرة فأُوقع، يعني: إذا ارتفعت المباشرة أو كان المباشر غير أهل للتكليف يتجه التكليف إلى المتسبب وإلا فالمباشرة تقضي على أثر التسبب عند أهل العلم.
((نعم، يسب أب الرجل فيسب أباه)) يكون سبباً في سب أبيه، لا أنه يباشر سب أبيه، أما إذا باشر سب أبيه فالأمر أعظم، يعني إذا كان سبباً في سب أبيه أو في شتم أمه سبب فكونه يباشر ذلك أعظم -نسأل الله السلامة والعافية-.
((يسب أبا الرجل فيسب أباه)) يسب الرجل أباه ((ويسب أمه فيسب أمه)) يعني يكون سبباً في السبب، ولو لم يباشر ذلك هذا من الكبائر، أما إذا باشر ذلك فالأمر أعظم.(63/3)
نأتي إلى المباشرة والتسبب عند أهل العلم أنه إذا وجد مباشر أو متسبب فالتبعة على المباشر ولو وجد المتسبب إلا أنه يأخذ نصيبه من العقاب، لكن ليس كعقاب المباشر، لو أن شخصاً -يمثل به أهل العلم- لو أن شخصاً رمى آخر من شاهق فتلقاه آخر بالسيف قبل أن يصل إلى الأرض فالقاتل الرامي وإلا صاحب السيف؟ صاحب السيف لأنه هو الذي باشر القتل، وذاك متسبب، لو أن شخصاً دفع آخر حتى دهسته سيارة القاتل صاحب السيارة، وهذا متسبب إلى غير ذلك من الصور التي يذكرها أهل العلم، ولا شك أن المتسبب عليه نصيبه وكفله من العقوبة، لكن مع ذلك لا يصل إلى عقوبة المباشر، إذا كان المباشر غير أهل للعقوبة يرجع إلى المتسبب، لو أن شخصاً أعطى مجنوناً سيفاً وقال: اقتل فلان فقتله يُرجع إلى المتسبب دون المباشر؛ أو لو كان صبي مثلاً، فإذا كان هذا الذنب العظيم ومن كبائر الذنوب قد رُتب على التسبب فالمباشرة من باب أولى.
نعم.
وعن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في يده في نار جهنم، خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم، خالداً مخلداً فيه أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن الأعمش" سليمان بن مهران "عن أبي صالح" ذكوان السمان "عن أبي هريرة -رضي الله عنه-" وجاء في التابعي والراوي عنه والعادة الاقتصار عن الصحابي، جرت عادته كغيره من المصنفين في المتون والمختصرات أن يقتصروا على الصحابي مخرج الحديث، وهنا ذكر التابعي ومن دونه لأن الأعمش مدلس، وروى الحديث بالعنعنة.
وفي الصحيح عدة كالأعمشِ ... وكهشيم بعده وفتشِ
يعني من المدلسين، إلا أن عنعنات المدلسين في الصحيحين محمولة على الاتصال، ومع ذلك أورده من أجل هذه النكتة، ذكره من أجل هذه النكتة.
"عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من قتل نفسه بحديدة)) " أو بسم، أو تردى، فعليه الوعيد المذكور في الحديث.(63/4)
أولاً: لا يعلم نص صحيح صريح يجيز للإنسان أن يباشر قتل نفسه مهما كان ظرفه، قد يوجد من النصوص ما يجعل الإنسان يتسبب في قتل نفسه، يكون سبباً لا مباشراً لقتل النفس، يتسبب فرد واحد اقتحم الصف فيقتل، يعني على غلبة الظن أنه يقتل، صار سبب في قتل نفسه، وقصة الغلام التي سيقت في شرعنا مساق المدح هو الذي دلهم على كيفية قتله ولم يقتل نفسه، المقصود أنه لا يوجد نص صحيح صريح يجيز للإنسان أن يباشر قتل نفسه، لكن يتسبب يتسور الجدار عليهم بمفرده بين الكفار، إيش الذي يغلب على الظن؟ أنهم يقتلونه، يدخل يخترق الصفوف وهو واحد، لكن يتولى قتل نفسه لا يوجد ما يدل عليه، وهذا العمليات كلها على هذا، فمن منعها فمن هذه الحيثية، ومن أجازها قال: فيها نكاية في العدو، ولا وسيلة غيرها لا يمكن أن يستخرج الحق، أو ينظر إلى الطرف الآخر إلا بهذه الوسيلة، وفيها نكاية بالعدو واحد يقتل في سبيل أن يقتل من العدو عدد كبير، فنظراً لهذه المصلحة الراجحة المترتبة أجازوها، وإلا فعلى حد علمي لا أعلم نصاً يدل على مباشرة الإنسان قتل نفسه، ثم قد أفتي بمن أسر وعنده من العلوم التي يضر إفشائها بالمسلمين أفتي بأن يقتل نفسه، المقصود أن مثل هذه الأمور الأصل فيها العدم، فإن ذلك لا يجوز ألبتة، يعني مباشرة قتل النفس، ومن أفتى بالقول الآخر نظراً لنكايتها بالعدو، وأنه لا يوجد وسيلة غيرها على كل حال لهم اجتهادهم، لا نعترض على أحد، أما على حد علمي فلا أعلم ما يدل على ذلك.(63/5)
"قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه)) " يعني يطعن بها بطنه، يشق بها بطنه ((في نار جهنم خالداً مخلداً فيها)) إذا كان تمني الموت جاء النهي عنه ((فلا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)) إذا كان تمني الموت لا يجوز فمباشرته لا تجوز، وهذا الحديث فيه الوعيد الشديد على من باشر قتل نفسه ((من قتل نفسه بحديده فحديدته في يده يتوجأ)) يطعن ويشق بها بطنه ((في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها)) لماذا؟ لأنه تعمد قتل نفسه، والمتعمد للقتل {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا} [(93) سورة النساء] غير نفسه {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [(93) سورة النساء] وإذا قتل نفسه فالحكم كذلك ((خالداً مخلداً فيها أبداً)) نسأل الله السلامة والعافية، وهذا من نصوص الوعيد التي هي عند أهل العلم تمر كما جاءت مع الجزم والقطع بأن ما دون الشرك تحت المشيئة، وهذا منها، فقاتل نفسه وقاتل غيره هذا ....
يقول: ((من قتل نفسه بحديده فحديدته)) وفي حكمها -حكم الحديدة- كل ما ينفذ في البدن، ويكون سبباً في إزهاق النفس ((فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها)) وعرفنا أنها من نصوص الوعيد التي تمر كما جاءت، مع علمنا اليقيني واعتقادنا أن ما دون الشرك تحت المشيئة، وهذا من باب التعظيم من شأن القتل، والنص على التأبيد في مثل هذا مثل: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [(95) سورة البقرة] مع أنهم قالوا: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [(77) سورة الزخرف] المقصود أن هذا النص نظير ما جاء في سورة النساء بالنسبة لقاتل غيره عمداً.
((ومن شرب سَماً)) أو سُماً أو سِماً بتثليث السين، والأفصح الفتح ((ومن شرب سَماً قتل نفسه)) بهذا المشروب، ويدخل فيه من قتل نفسه بواسطة فمه بأي مشروب كان، سواء كان سم أو غير سم، لو جزم بأن هذا الطعام يقتله، فما الحكم؟ ولو كان الطعام مباح، نعم؟
طالب:. . . . . . . . .(63/6)
مريض مثلاً مريض ضغط وإلا سكر، أو أي مرض من الأمراض، مريض سكر جاب له قلة تمر من النوع المركز وأخذ يأكل حتى مات، وهو يعرف أن هذا يضره، إذا كان يغلب على ظنه أنه يموت الحكم واحد قتل نفسه، وقل مثل هذا في الأمراض الأخرى التي فيها حساسية من بعض الأطعمة، أو بعض المأكولات، المقصود أن مثل هذا يتقى ويجتنب.
الإمام مسلم -رحمه الله- أكل التمر، وأكثر منه فمات، لكن هل عنده خبر أنه أو يغلب على ظنه أنه يموت؟ ما يفعل هذا.
((ومن شرب سَماً فقتل نفسه فهو يتحساه)) يشربه ويتجرعه ((يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيه أبداً)) نسأل الله السلامة والعافية.
((ومن تردى من جبل فقتل نفسه)) وقع من شاهق أراد أن ينتحر فصعد على جبل أو صعد على الدور العاشر مثلاً أو الخامس أو الرابع مثلاً الذي يغلب على الظن أنه يموت فيه قاصداً بذلك قتل نفسه يدخل في الحديث، وغير ذلك من الآلات بالسيف، بالحبل، بعض الناس يخنق نفسه بحبل، أو يشنق نفسه ينتحر -نسأل الله العافية- لأدنى شيء، الحياة الآن ضاق بها الناس ذرعاً، رغم ما فيها من وسائل راحة، ومع ذلك للبعد عن الهدي النبوي، والبعد عن مدارسة كتاب الله، والأنس بالله صار الإنسان يزهق من أدنى شيء، وتضيق به الحياة لأدنى سبب، وقد ينتحر لمصيبة في غيره، يعني لما مات بعض المغنيين مثلاً أو المغنيات ذكر أعداد انتحروا -نسأل الله السلامة والعافية-، حقائق وأعلن بها في الصحف، لما ماتت أم كلثوم أو غير أم كلثوم كثير من الناس انتحروا، قيمة هذه الحياة التي تُنهى بهذه الطريقة بالنسبة لهذا الشخص ما قيمتها؟! هل هذه حياة؟ والله إنها ليست بحياة، يعني إذا كان المسلم والمؤمن والمخلص يصيبه الغم والهم لما يرى من وضع الأمة المتدني، ولما يرى من انتشار المنكرات، ولما يرى من علو وتعالي الباطل على الحق نعم يغتم ومعه حق، ويثاب على هذا، لكن هل يصل به الحد إلى أن ينتحر؟ لا يجوز ذلك بحال، فكيف إذا كان الانتحار لغير سبب، أو لسبب ليس بسبب، هو على حد زعمهم سبب، لكن ليس بسبب، في عرف العقلاء كافة ليس بسبب.(63/7)
((ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها)) نسأل الله العافية والسلامة، والقتل كما مر بنا شأنه عظيم، جاء تعظيمه في نصوص الكتاب والسنة، سواء قتْل نفسه أو قتْل غيره، ولا يبرر للإنسان أن يقتل نفسه أي مبرر، والذي استعجل وتحامل على السيف حتى مات دخل النار -نسأل الله السلامة والعافية-، ولو أكره إنسان على قتل آخر، أكره شخص إما أن تقتل فلان وإلا نقتلك، له ذلك أو ليس له ذلك؟ هل نقول: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} [(106) سورة النحل]؟ لا، ليس له ذلك ولو أدى إلى قتله.
نعم.
وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعنه" يعني عن أبي هريرة، والظن منصوب على التحذير كما ينصب اللفظ على الإغراء ينصب أيضاً على التحذير.
((إياكم والظن)) الظن يطلق ويراد به ما يرادف اليقين {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [(46) سورة البقرة] يكفي الظن وإلا لا بد من اليقين؟ هذا ظن يرادف اليقين، ويطلق الظن ويراد به الاحتمال الراجح، وهو الذي استقر عليه الاصطلاح، ويطلق الظن ويراد به ما يرادف الشك المستوي الطرفين، ويطلق الظن ويراد به الاحتمال المرجوح، ويطلق الظن ويراد به الكذب.(63/8)
فيطلق على جميع الاحتمالات، الاصطلاح: على أن ما لا يحتمل النقيض فيقال له: علم، ويقال له: قطع، ويقال له: يقين، والاحتمال الراجح الذي يحتمل النقيض من وجه ضعيف هذا يقال له: ظن، وأما ما يستوي فيه الطرفان الوقوع وعدمه الصدق والكذب هذا يقال له: شك، والاحتمال المرجوح بحيث يغلب على الظن عدم ثبوت الخبر يقال له: وهم، وما يخالف الواقع كذب، فالاصطلاح استقر على هذا الاحتمال المرجوح، يعني من عدم مطابقة الواقع بالكلية كذب، إذا قال: جاء زيد وتبين أن زيداً لم يحضر، هذا كذب سواء كان عن عمد أو عن خطأ أو عن سهو كذب، وإذا قال: حضر زيد، ويغلب على ظنك عدم صدقه، ولا تجزم بعدم صدقه هذا وهم، وإذا قال: جاء زيد، وأنت شاك في خبره على حد سواء، احتمال يكون جاء، واحتمال ما جاء ولا مرجح، شك، الاحتمال المساوي شك، والاحتمال الراجح ظن، المراد به غلبة الظن، غلب الاحتمال الآخر فقيل له: ظن، إذا كان فيه من الصفات ما تجعل نفسك تطمئن إلى خبره، ولم تجزم به فهذا ظن، فإن جزمت به بحيث لا يحتمل خبره النقيض صار علماً، هذا الظن، الظن المذكور في الحديث: ((إياكم والظن)) هو أكذب الحديث، وهو الذي لا يغني من الحق شيئاً.
((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) يعني: هل الظن مذموم مطلقاً أو المذموم بعض الظن؟ ولذا جاء قوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [(12) سورة الحجرات] دل على أن بعضه ليس بإثم، وهل المقصود في الحديث الظن في الإخبار العادية التي لا أثر لها أو الظن في الأخبار التي ترتب عليها الآثار السيئة؟(63/9)
يعني الاصطلاح الذي ذكرناه ينطبق على كل الظنون، سواء ترتب عليها أثر، أو لم يترتب عليها أثر، لكن هل المراد به في الحديث: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) يعني: لو أخبرك زيد من الناس وهو ثقة عندك، لكن لا تجزم بخبره، احتمال راجح أن يقول: قدم زيد، هذا ظن، لكن هل هذا أكذب الحديث؟ جاء زيد وإلا ما جاء الأمر سهل يعني، لكن الإشكال في الظن الذي هو الريبة والتهمة، يعني يكثر الظن والشك في الناس، والزوجة تشك بزوجها، والزوج يتهم زوجته الذي يترتب عليه الأثر السيء، وهذا هو المراد في الحديث، يعني بعض الناس يصل به الأمر إلى حد أن يضع أجهزة تنصت على زوجته، وأجهزة تسجيل لا يثق بها، والعكس قد تضع الزوجة هذا الأمر شكاً بزوجها، وظناً له، واتهاماً له، مثل هذا على المسلم أن يجتنبه، وجاء التحذير منه، كيف يهنأ بعيش وهذه حاله؟ يعني ظن واتهم وشك وارتاب من أقرب الناس إليه، الذي جعلت بينه وبينها المودة والرحمة فكيف بغيره؟! وبعض الناس يساوره الشك باستمرار من كثير من الناس، وهذا طبع وخلق ذميم، وقد يوجد هذا في كثير من الناس وهو في بعض العميان أظهر؛ لأنه قد يخفى عليهم بعض الأمور، وصار عنده ضيف، حرص على تقفيل الباب، اترك الباب، رد الباب، اجلس هنا، لا تصير قدام الباب، نعم، يوجد هذا يعني بغض النظر عن كون الوصف هذا مدح وإلا ذم، يعني العميان سادوا الدنيا بلا شك، لكن مع ذلك قد يوجد هذا فيهم؛ لأنهم ما عندهم حاسة البصر فيخشى أن المرأة تمر من يمين وإلا يسار، وطالعة وإلا ذاهبة فيقع بصره عليها، أو يخشى أن يحصل بينه وبينها اتفاق، قد يوجد الشيطان يلبس على الناس، ووجد قضايا من هذا النوع، لكن الذي لا يستند إلى أمارة ولا علامة ولا قرينة تدل عليه يدخل في الحديث، لكن إذا جرب مثلاً، مرة اتصل أو دخل البيت خفية مع أنه لا يجوز أن يدخل خفية، يبغتها إذا كان مسافر لا بد أن يخبرها، ولا يحضر ليلاً، التجسس والتصنت كل هذا مردود بهذا الحديث، فإذا وجد قرينة، أو صار له سوابق مثلاً دخل مرة وإذا بها تكلم مثلاً بكلام مريب، فمثل هذا يعظها ويهجرها وينصحها، فإن تكرر منها شدد عليها في ذلك، وإن وقع منها ما هو أعظم من ذلك فارقها؛ لأنها لا(63/10)
تليق به، المقصود أن مثل هذا الأمر في قبل وجود القرائن والدلائل ينبغي أن تكون القلوب طيبة وسليمة إذا وجدت القرائن التي تدل على وجود شيء من هذا، هذا لا شك أنه منكد للحياة، ولذا لا يجوز ابتداؤه ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) والمقصود به الريبة والاتهام والشك في الناس على وجه العموم، بعض الناس عملاً بالحديث الضعيف: ((احترسوا من الناس بسوء الظن)) والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) يعني ولو كل إنسان احترس من جميع الناس بسوء الظن هل تطيب الحياة؟ ما تطيب الحياة، الأصل أن قلب المسلم سليم، سلامة الصدر من أوصاف الأخيار، ليس معنى هذا الغباء والغفلة بحيث تقع المشاكل والمصائب والجرائم في بيته وهو لا يشعر، لا، أو يترك الحبل على الغارب، ويثق بكل أحد، ويثق بالزوجة والبنات تذهب مع كل أحد ولكل أحد من غير رقابة ومن .. ، لا، لا هذا ولا هذا، هو راعٍ ومسئول عن رعيته، لكن مع ذلك لا يصل الحد إلى الاتهام الذي لم تقم وتدل عليه القرائن.(63/11)
((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) ولعل المراد به حديث النفس في بداية الأمر، ثم إذا تحدث به إلى غيره، وشكا الأمر إلى غيره جاء حديث اللسان: ((ولا تحسسوا، ولا تجسسوا)) ولا تحسسوا يعني: لا تفتشوا وتدققوا في بواطن الأمور وخفاياها بحيث يترصد الإنسان ويترتقب الزلات، ويتحسس حاجات البيت ليرتب عليها النتائج السيئة، لماذا انتهى هذا؟ لماذا فرغ هذا؟ يومياً يدخل المستودع ويتفقد، ما صارت حياة هذه، لماذا نقص هذا؟ لماذا زاد هذا؟ من أين جاء هذا؟ اترك، إلا إذا خشيت من ريبة فالأمر أشد، لكن مجرد التحسس وتطلب الأخبار والأمور والتفتيش هذا إذا كان في الأمور المباحات، يعني إنسان لو نظرنا إلى الشعير الذي عند عائشة -رضي الله عنها- أخذت تأكل منه مدة، فلما كالته انتهى، دل على كون الأمور تمشي في البركة من غير تدقيق، ومن غير تحسس ولا ترقب متى يفرغ؟ متى ينتهي؟ مثل هذا لا شك أنه أدعى إلى البركة، ولما كالت الشعير وعرفت مقداره انتهى، فإذا كان هذا في مثل هذه المادة المباحة فلن يكون تحسس الأخبار والتجسس والجاسوس صاحب السر، ويطلق على الذي يتحسس الأخبار السيئة ويتجسسها بخلاف الناموس الذي هو صاحب سر الخير.
((ولا تجسسوا)) لا تترقب، لا تتصنت، لا تستمع إلى حديث غيرك، لا تراقب جارك، والله الجار دخل اليوم بكذا، خرج بكذا، هذا تحسس، لكن إن كان قصدك إيقاع الشر به وجمع المعلومات التي توقعه في كارثة أو في مصيبة فهذا تجسس، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يخبروه عن أحد ((لا تخبروني عن أحد من أصحابي)) وذلك أدعى إلى سلامة الصدر، يأتيك اليوم يخبرك عن خبر، والله فلان قال كذا، وعلان كذا، وفلان صنع كذا، تنشحن النفوس، وتسوء القلوب، وتفسد النيات، فهذه الأمور ينبغي أن تسود بين المسلمين على أكمل وجه من الصفاء والمودة والمحبة.(63/12)
((ولا تجسسوا)) شخص يزاول منكر في بيته، يشرب خمر مثلاً هل لنا أن نطلع عليه من علو أو من ثقب أو نحوه لنشهد عليه؟ لا، ليس لنا ذلك، لكن أهل العلم يقولون: الأضرار المتعدية التي تفوت لا مانع من صنيع ذلك، يعني خلا رجل بآخر ويغلب على الظن وقامت القرائن على أنه يريد أن يقتله مثلاً، لا مانع من التجسس عليه؛ لأنه إذا فات قتله وانتهى ماذا نصنع؟ لكن إذا عرفنا وحلنا دونه ودونه هذا مطلوب، إذا خلا بامرأة ليزني بها وغلب على الظن ذلك، وقامت القرائن على ذلك لا مانع من التجسس عند أهل العلم، ويفرقون بين ما يفوت وبين ما لا يفوت.
((ولا تنافسوا)) المنافسة الرغبة في التقدم على الغير، ولعل المراد هنا في أمور الدنيا، يعني يسعى الإنسان جاهداً أن يكون أغنى من في البلد، أو عنده أفخر بيت في البلد، أو أفخر سيارة في البلد، أو .. , ليتفرد بذلك ويشار إليه في أمور الدنيا وحطامها الفاني، لكن جاء الأمر بالمسارعة، وجاء الأمر بالمسابقة، وهذا في أمور الآخرة محمود بلا شك.
((ولا تحاسدوا)) يعني لا يحسد بعضكم بعضاً، والحسد تمني زوال النعمة عن الغير، وهذه آفة من آفات القلوب، ومرض من أمراضها، وجاءت النصوص بذمه، وأنه يأكل الحسنات، فالحسد داء من أدواء القلوب، لا بد من التخلي منه، وجاء في الحديث: ((لا حسد إلا في اثنتين)) والمقصود به الغبطة عند أهل العلم، المقصود به الغبطة، وعدم تمني زوال النعمة، يريد أن تثبت هذه النعمة عند أخيه، لكن يتمنى أن يكون له مثل هذه النعمة، هذه غبطة.(63/13)
((ولا تباغضوا)) ولا تباغضوا والمحاسدة والمنافسة والمباغضة والتدابر كلها مفاعلة، مدابرة، منافسة، مباغضة، كلها مفاعلة تكون من طرفين، فهل إذا حصلت من طرف واحدة جازت والممنوع من الطرفين أو إذا حصلت من طرف فهي مذمومة وتدخل في الحديث، وأشد منها أن يسود هذا بين المسلمين ويحصل بين جميع الأطراف؟ ويكون حينئذٍ أسوأ، يعني كون زيد يبغض عمرو فقط وعمرو يحبه أسهل، أو لو وجدت المباغضة من الطرفين، زيد يبغض عمراً، وعمرو يبغض زيداً، أيهما أسوء؟ أسوأ المفاعلة؛ لأنه إذا كان كل واحد يبغض الثاني ما أمكن الإصلاح، لكن لو كان زيد يبغض عمراً، وعمرو يحبه سعى عمرو في إرضائه، ومثل هذا المحاسدة، قد يقول قائل: إن وجود الأمر من طرف واحد أشد من وجوده من الطرفين؛ لماذا؟ لأن وجوده من الطرفين يكون هناك مبرر، هذا يبغضني إذاً أبغضه، فالأمر في هذا أخف لوجود المبرر، وعلى كل حال الفعل الذي هو أصل المادة البغض للمسلم حرام، إنما الواجب محبة المسلم، والحب في الله من أوثق عرى الإيمان، كما أن البغض في الله من أوثق عرى الإيمان، فإذا أبغض أخاه لما يرتكبه من معاصي وجرائم ومحرمات أجر على هذا، ويحبه بما عنده من إيمان ومن عمل صالح فيُحب، يجتمع الحب والبغض في آن واحد في شخص واحد نظراً لانفكاك الجهة، فيحب على شيء، ويبغض على شيء.
((ولا تدابروا)) ولا تدابروا يعني لا تقاطعوا؛ لأن من شأن القطيعة أن يولي كل واحد من المتقاطعين الآخر دبره، وهذه نتيجة للتباغض ونتيجة للتقاطع وإذا كانت هذه بين المحارم كان الأمر أشد، وإذا كانت بالنسبة لمن له عليه حق كانت أشد، ولا يجوز لمسلم أن يهجر أخاه على ما سيأتي في الحديث الذي يليه فوق ثلاث.
((وكونوا عباد الله إخواناً)) خبر (كان) (إخواناً) و (عباد الله)؟ نعم؟
طالب: مناداة.(63/14)
إيش؟ مناداة نعم، الأصل: ((وكونوا يا عباد الله إخواناً)) فعباد الله منادى حذف حرف النداء، وهو منصوب؛ لأنه مضاف، و (إخواناً) خبر (كان) والأصل أن عباد الله إخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [(10) سورة الحجرات] لكن قد يغفل الإنسان عن هذه الأخوة وإلا فالأصل أنهم إخوة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [(10) سورة الحجرات] هذا خبر يراد به الأمر، فلا بد أن تسود الأخوة الإيمانية بين المسلمين، وجاء الأمر بها هنا ((وكونوا عباد الله إخواناً)).
نعم.
وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليالٍ يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن أبي أيوب الأنصاري -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لا يحل لمسلم)) " وفي حكمه المسلمة، والنساء شقائق الرجال، النساء يدخلن في خطاب الرجال ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه)) ما قال: لا يحل لمؤمن؛ لأن مثل هذا لا يحصل من المؤمن لأنه خدش في إيمانه، الأصل أن لا يحصل هذا من مؤمن ((لا يحل)) وإذا انتفى الحل ثبت ضده وهو الحرمة، يعني يحرم على المسلم؛ لأن الذي يقابل الحلال الحرام، فإذا انتفى الحلال ثبتت الحرمة.
((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه)) يعني يقطع ما بينه وبينه، ويترك كلامه وزيارته والسلام عليه، يهجره بمعنى أنه يتركه.
((أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال)) فالثلاث الليال فما دونها إذا وجد السبب فالنفس لها حظوظ لا بد من مراعاتها، ولو كلف المسلم بأقل من ذلك صار من التكليف بما لا يطاق، عند بعض الناس لا يتحمل لا بد أن يقع منه الهجر، فالممنوع فوق الثلاث، فما دونها إذا وجد سببه لا يحرم.(63/15)
((يلتقيان)) يعني في طريق أو في مجلس فيعرض هذا بوجهه عن أخيه، وهذا بوجهه ((وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) السلام أدب إسلامي يبعث على المحبة والمودة ((لا تدخلوا الجنة حتى تحابوا)) ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) لا شك أن السلام طريق إلى المحبة ووسيلة إليها، فكونه يعرض هذا ويعرض هذا خلاف المودة والمحبة، ويثبت بعد ذلك التباغض والتدابر والتقاطع، خيرهما الذي يبدأ بالسلام، جاء في الحديث: "أن الصغير يسلم على الكبير، والماشي يسلم على الجالس، والراكب يسلم .. ، والواحد يسلم على الجماعة" وهكذا، هذا هو الأصل، لكن افترض أن شخصاً مر بك وهو أصغر منك سناً هل لك أن تقول: الحق الشرعي لي ما سلم عليَّ ما أسلم عليه، أو نقول: خيرهما الذي يبدأ بالسلام؟ خيرهما الذي يبدأ بالسلام، وبعض الناس وموجود الآن وكثير في العمالة الوافدة من البلدان الأخرى، وهم يرون أنفسهم في حكم المستضعف، تجد هذا جالس ثم يمر واحد ثم يباشر الجالس: السلام عليكم، نعم الحق الأصلي على الماشي يسلم على الجالس، لكن لو افترضنا أن الماشي ما سلم نقول للجالس: لا تسلم؟! بعض الناس يتهم مثل هذا بضعف العقل أو الجهل كيف يسلم وهو جالس؟! نقول: خيرهما الذي يبدأ بالسلام، نعم الأصل أن الماشي هو الذي يسلم، لكن ترك هذا الفضل العظيم، فالطرف الثاني يبدأ، ولذا يقول: ((وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) مع أنه جاء التوجيه بأن الصغير يسلم على الكبير، لكن ما سلم الصغير يترك؟ تترك السنة؟! تترك الوسيلة لإشاعة المحبة والمودة؟ لا تترك، لكن بعض الناس إذا مر عليه أحد ولا سلم رد عليه قال: وعليكم السلام، على شان إيش؟ لا يريد بذلك تحصيل السنة، لو أراد بتحصيل السنة قال: السلام عليكم، هو يريد أن ينتقده بأسلوب، يريد أن ينتقده، فعلى كل حال الضابط في الخيرية الذي يبدأ بالسلام، ولو كان كبيراً، ولو كان جالساً، ولو كان ماشياً، المقصود أن مثل هذا تنبغي مراعاته.(63/16)
((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) هذا في مسائل أمور الدنيا، لكن لو حصل من إنسان مخالفة شرعية فالهجر شرعي، النبي -عليه الصلاة والسلام- هجر الثلاثة الذين خلفوا، هجرهم خمسين يوم، فوق ثلاث، فدل على أن الهجر لأمر الدين لا يتقيد بزمن حتى تترتب عليه الفائدة المرتبة عليه، فيهجر المخالف، يهجر العاصي، يهجر المبتدع حتى ينزجر، علماً بأن الهجر عند أهل العلم علاج، الأصل الصلة، فإذا هجر من أجل هذه المعصية فالهدف من ذلك أن يرتدع عن معصيته، لكن إذا كان الهجر يزيده، خلاص احتمال يستحي من الناس إذا خالطوه وعاشروه، فإذا هجروه نزع جلباب الحياء، وأصر وعاند وجاهر بمعصيته وزاد شره، نقول: الهجر علاج، ما ينفع مثل هذا تنفع الصلة، وكما أن الهجر موجود أيضاً التأليف موجود، والزكاة ركن من أركان الإسلام الأصل أن لا تصرف إلا لمن يحتاجها، وهذا الركن من أركان الإسلام صرفت للمؤلفة قلوبهم ولو كانوا أغنياء، فالتأليف باب من أبواب الدين في الشرع معروف، كما أن الهجر معروف، وكلاهما علاج، فبعض الناس يفيد فيه الهجر، ويرتدع إذا هجر، يرتدع إذا زجر، يرتدع إذا ترك لم يعاشر ولم يخالط، لكن بعض الناس يزداد شره إذا فعل معه هذا، بل بعض الناس يتمنى أن يهجره الناس لكي يأخذ راحته، ولا يجاملهم ولا يجاملونه، فمثل هذا يسلك معه المسلك الآخر، فإن لم ينفع رجع إلى الهجر فيجرب هذا وهذا.(63/17)
((خيرهما الذي يبدأ بالسلام)) يعني بالهجر الذي يرفع القطيعة، ويرفع الهجر عند أهل العلم السلام، يتصور أن زيداً وعمرو متقاطعين متهاجرين فمر أحدهما بالآخر فقال زيد: السلام عليكم، هذا خيرهما، وارتفع الهجر بالنسبة له، لكن إذا كان زيد قد عود عمرو على شيء من الإكرام والتقدير والنفوس في الغالب على ما تعودت، أو كان زيد قريب له، أو له حق عليه، أخ أكبر منه، أو عم، أو ما أشبه ذلك حصل شيء من سوء التفاهم فتقاطعا، ثم بعد ذلك جاء زيد إلى عمرو قال: السلام عليكم إما في شارع أو في هاتف أو ما أشبه ذلك، من أهل العلم من يقول: لا يزول الهجر إلا بأن تعود الحال إلى ما كانت عليه قبله، لا يكفي السلام، والحديث دليل على أن السلام كافي، هذا هو الأصل، فإذا عادت الأمور إلى مجاريها أكمل.
نعم.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإنه الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((عليكم بالصدق)) " إغراء، ((عليكم بالصدق)) الصدق مطابقة الواقع بالكلام، ومخالفته هو الكذب كما تقدم، ولا واسطة بينهما عند أهل السنة، والمعتزلة أثبتوا الواسطة.
((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة)) {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [(177) سورة البقرة] فهو يهدي إلى هذه الأمور إلى البر الذي جاء تفسيره في الآية، الصدق يهدي، والحسنة تقول: أختي، فالصدق ما دام ممدوحاً وهو حسناً في الميزان الشرعي والمعيار الشرعي فإنه يهدي إلى ما هو أعظم منه من الأعمال الخيرية والبر، وهذه الأعمال التي مجموعها يحصل البر المفسر في الآية يهدي إلى الجنة، يقود ويوصل إلى الجنة.(63/18)
((وما يزال الرجل يصدق)) يعني لا يتحدث إلا بالصدق ((ويتحرى الصدق)) بحيث إذا أراد أن يتكلم نظر في الكلام قبل أن ينطق، فهو صاحب تحري وتثبت، يتحرى الصدق ليكون كلامه صحيحاً مطابقاً للواقع، إذا كانت هذه عادته وديدنه أخذاً من قوله: ((وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)) صديق، يعني منزلة الصديقية منزلة لا يبلغها إلا القليل النادر من الناس {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء} [(69) سورة النساء] منزلة الصديقين فوق منزلة الشهداء، ولم يشتهر بذلك إلا أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-، والسبب في ذلك في القصة المعروفة لا يحتاج إلى ذكر.
((وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)) حتى يكتبَ فيكتب في المستقبل أو في الحال أو في الماضي؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
في المستقبل، في شيء يجد مما يكتب على الإنسان، أو أنه كتب له وعليه وانتهى؟ لأن قوله: ((وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً)) هو ما كان صديق ثم صار صديق؟
طالب:. . . . . . . . .
عند الله -جل وعلا- في اللوح المحفوظ؟ نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
في الحال؟ لكن ما كتب عليه في اللوح المحفوظ أنه صديق؟
طالب: .... ما الذي يكفر السنة ...
نعم.
طالب: مثل الذي يكفر السنة القابلة.
طالب:. . . . . . . . . السنة الباقية هي نفس. . . . . . . . .(63/19)
يعني هذا مما يمحوه الله ويثبته؟! {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} [(39) سورة الرعد] يعني كان له وصف غير هذا ثم مُحي وأثبت الصديقية من باب: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ} [(39) سورة الرعد]؟ نعم؟ أو نقول: إنه في اللوح المحفوظ صديق؟ كما أن محمداً -عليه الصلاة والسلام- في اللوح المحفوظ نبي، نوح نبي في اللوح المحفوظ، يعني هل كان غير نبي في اللوح المحفوظ ثم كتب نبي؟ وهذا كان غير صديق ثم كتب صديق؟ المقطوع به أن ما في علم الله -جل وعلا- لا يتغير، ولا يتجدد في علمه شيء، لكن بالنسبة لعلم الملائكة، لعلم المخلوق قد يتجدد، ويجاب بهذا عن: ((من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) الأجل مكتوب، والرزق مكتوب من قبل، فكيف يتغير ما كتب بصلة الرحم؟ نقول: الذي يتغير ما في علم الملك، وأما ما في علم الله فلا يتغير، وهنا: ((حتى يكتب عن الله صديقاً)) وأبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- لما قال له من قال: إن صاحبك يخبر أنه ذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلة جاءوا فرحين بها، قد جزموا بأن أبا بكر سوف يحكم العادة، والعادة أن بيت المقدس أن يصله أحد بليلة ويرجع، فظناً منهم أن أبا بكر سوف يحكم العادة، وينفي ما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- فجاءوا بالخبر مستبشرين؛ لأن أبا بكر هو الرجل الثاني، فإذا تخلى الرجل الثاني وجد الخلل، يعني ما ذهبوا إلى غير أبي بكر؛ لماذا؟ لأن الخصم يذهب إلى من له أثر، يعني لو ذهبوا إلى شخص عادي من أعراب المسلمين، وقال: أبداً ما هو بصحيح وارتد أثره مثلما لو كان ما حصل من أبي بكر؟ نعم الخصم إنما يذهب إلى من له أثر؛ ليزعزع إيمانه، ويخلخل ما عنده، فإذا كسبه كسب العشرات بل المئات، يعني مثل ما يتجه أعداء السنة مثلاً إلى الطعن في أبي هريرة، ويش الهدف من الطعن في أبي هريرة؟ هل أبو هريرة أفضل الصحابة؟ ما طعنوا في أبي بكر مثل ما طعنوا في أبي هريرة؛ لأنهم إذا طعنوا في أبي هريرة نسفوا الدين، نصف الدين جاء عن طريق أبي هريرة، ما في شخص لا من المتقدمين ولا من المتأخرين طعن في أبيض بن حمال مثلاً، الذي ما يروي إلا حديث واحد، فهم يعمدون إلى من له أثر، إذا حصل(63/20)
الخلل من قبلهم انتهى الإشكال، فجاءوا إلى أبي بكر قالوا: صحابك يزعم أنه ذهب البارحة إلى بيت المقدس ورجع في ليلته، قال: إن كان قد قال ذلك فقد صدق، أسقط في أيديهم، وانتهى الإشكال، ومن ذلك اليوم يسمى الصديق.
((وإياكم)) التحذير في مقابل الإغراء ((وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور)) نسأل الله السلامة والعافية، والفجور في مقابل البر ((وإن الفجور يهدي إلى النار)) يعني وسائل، تلك وسائل إلى دخول الجنة، وهذه وسيلة إلى دخول النار ((وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)) نسأل الله السلامة والعافية، وصديق مبالغة، كما أن كذاب مبالغة، فلا يستحق الوصف بالصديقية إلا من بلغ في هذا الوصف نهايته، كما أن كذاب مبالغة في الوصف في الكذب، يتحرى الكذب، يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وإذا كانت عادة الإنسان في نقص واستمر عليه كتب عليه هذا النقص، وإذا كانت عادته في ازدياد من الخيرات كتب له هذا الخير الذي لا يزال يزداد وينمو ((ولا يزال أناس يتأخرون حتى يؤخرهم الله في النار)) والجزاء من جنس العمل، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين، أما بعد:
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ...
الذي بعده.
نعم؟
الذي بعده.
وعنه -رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون ... ))
نطفة، نطفة.
نعم؟
((أربعين يوماً نطفة)).
نعم، ليس موجود هنا.
نعم.
عفا الله عنك.(63/21)
((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويأمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعاً فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)).
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعنه -رضي الله تعالى عنه-" يعني عن ابن مسعود راوي الحديث السابق "قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" حدثنا هذا الأصل في الرواية وهو التحديث، فالأصل أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يتكلم وهم يستمعون ويتلقون، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يؤدي وهم يتحملون، والتحديث الأصل فيه المشافهة مثل السماع دون واسطة.
"حدثنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام-" والتحديث أضيق من الإخبار، لو قال: أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكانت المسألة أوسع من التحديث؛ لأن التحديث لا يكون إلا بالنطق، وأما الإخبار فكما يكون بالنطق يكون بغيره من الإشارة والكتابة ونصب العلامة كلها إخبار.
"حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق" الصادق الذي قوله -عليه الصلاة والسلام- مطابق للواقع، فلا يقع في كلامه ما يخالف الواقع لا عمداً ولا سهواً ولا خطأ إلا ليشرع، فقد يسهو -عليه الصلاة والسلام- ليشرع، المقصود أنه صادق في جميع أفعاله وأقواله وتصرفاته لأنه معصوم، صادق في نفسه، مصدوق، مصدوق: اسم مفعول من الفعل الثلاثي (صدق) اسم الفاعل صادق واسم المفعول مصدوق، ومن المضعف مصدَّق، فهو مصدوق ومصدَّق من قبل الله -جل وعلا- بإقامة الأدلة والبراهين القطعية على صدقه، وهو مصدق ممن يسمعه -عليه الصلاة والسلام-.(63/22)
يقول: ((إن أحدكم)) والخطاب لكل من يصح توجيهه إليه، وهم بنو آدم ((إن أحدكم يجمع خلقه)) يجمع من ماء الرجل وماء المرأة ((يجمع خلقه في بطن أمه)) في بطن أمه وهو المستقر، وهو الوعاء للحمل ((في بطن أمه أربعين يوماً نطفة)) نطفة من ماء مهين ((ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك)) يعني: في تلك المدة علقة، قطعة من دم، أربعين يوماً بعد الأربعين الأولى، الطور الأول أربعين، والطور الثاني أربعين، ثم يكون في ذلك المستقر مضغة مثل ذلك، مثل تلك المدة مضغة بقدر ما يمضغه الإنسان، قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان، ثم بعد ذلك ((يرسل الملك فينفخ فيه الروح)) وفي أثناء كونه مضغة يتم تصويره وتخليقه، فإذا بدأ التصوير والتخليق ثبتت أحكام الأم، في أثناء الطور الثاني أو الثالث؟ الثالث، يعني في التسعين أو قبلها بيسير أو بعدها يبدأ التخليق والتصوير، وحينئذٍ تبدأ أحكام الأم، بمعنى أنها لو ألقته وفيه شيء من خلق الإنسان تثبت لها أحكام النفساء، وقبل ذلك فلا.
((ثم يرسل إليه الملك)) إذا انتهت الأطوار الثلاثة، انتهت الأربعون الأولى، ثم الأربعون، ثم الأربعون، فصار له مائة وعشرون يوم يرسل إليه ملك، مائة عشرين يوم ((يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح)) ينفخ فيه الروح فإذا نفخت فيه الروح ثبتت أحكامه هو، بمعنى أنه لو سقط قبل نفخ الروح ليس له أحكام، فإذا سقط بعد نفخ الروح ثبتت أحكامه مما يفعل بالإنسان الكامل من التغسيل والتكفين والصلاة والدفن.(63/23)
((يجمع خلقه في أربعين يوماً نطفة)) في الطور الأول هو نطفة ما ثبت له أي حكم، ولذا يقول أهل العلم: إنه يجوز إلقاء النطفة قبل تمام الأربعين بدواء مباح؛ لأنها ما انتقلت إلى طور آخر، ولا ثبتت إلى الآن ما زالت نطفة، يجوز إلقاء النطفة قبل الأربعين بدواء مباح، لكن إذا انتقل إلى الطور الثاني لا يجوز، وجوازه عندهم .. ، أولاًَ: ينبغي أن يقيد بالحاجة، الأمر الثاني: أن تثبت الحاجة الحقيقية، وأن لا يوجد هناك ريبة، وإلا لو فتح باب الإجهاض لصار في هذا عون على انتشار الفاحشة، فإذا خشي من هذا الأمر لا يجوز بحال، وعلى الرقابة على المستشفيات والمستوصفات أن يعنوا بهذا الأمر عناية تامة؛ لأن الإجهاض هذا نعم قد يحتاج إليه لحاجة الأم، الأم تتضرر بهذا الحمل، إذا قرر الأطباء أن الأم تتضرر بهذا الحمل حينئذٍ حياة الأم أولى من حياة هذا الحمل، لكن إذا كان الأم عليها مشقة، لكن لا ضرر عليها، ولا خوف على حياتها فلا؛ لأن الأصل المشقة، الحمل الأصل فيه المشقة، وما يتذرع فيه كثير من الناس من أنهم ينظمون الحمل، ويرتبون النسل من أجل الإعانة على التربية، أو ما يتعلق بالمعاش، وأن الأب لا يستطيع أن يتحمل أولاد متتابعين مثل هذا لا يجوز ولا ينظر إليه شرعاً، كثيراً ما يسأل عن الحمل الذي يقرر الأطباء أنه فيه شيء من النقص إما تشويه أو إعاقة، أو ما أشبه ذلك، ويسألون عن إسقاطه؟ لا يجوز إسقاطه بحال لأنه نفس، قبل الأربعين مسألة ثانية، لكن ما يقرون هذا قبل الأربعين، ما يقررونه إلا بعد، فلا يجوز إسقاطه، ويغفل الناس عن هذا الشخص أو هذا الحمل الذي يغلب على الظن من خلال كلام الأطباء أن فيه شيء من التعويق، أو شيء من النقص، أولاً: كلام الأطباء ليس بمطرد، قالوا مثل هذا الكلام وخرج الولد سليماً، الأمر الثاني: أنه لو كان مطرداً يغفل الأب أنه قد يرزق بسببه ((إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)) الأمر الثالث: أن هذا من المصائب التي يؤجر عليها الإنسان، تصور ابن ولد معوق يجوز أن يتعرض له أحد بشيء؟ لا يجوز أن يتعرض له أحد بشيء، ولو قتل عمداً لقتل به، ولو كان معوقاً، أحكامه كاملة، فلا يجوز أن يتعرض له لا قبل الولادة ولا بعدها، فليس عندهم من(63/24)
الصبر واليقين ورجاء الثواب إلا الشيء اليسير، إذا كانت الأمور ماشية جارية على العادة طبيعية يطنطنون بالصبر واليقين، لكن إذا حصل لهم أدنى ما يحصل صارت النتيجة صفر، فعلى الإنسان أن يصبر ويحتسب، وهذا ابتلاء من الله -جل وعلا-، ولو قيل: إنه باب خير فتح لهذه الأسرة ما بعد، والمصائب هي في ظاهرها وخلاف ما تطلبه النفوس، لكن عاقبتها حميدة {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [(10) سورة الزمر] منهم من يقول: إنه يجوز إلقاء النطفة قبل النفخ في الروح، لكن هذا القول ليس بشيء؛ لأنه يسبب مشاكل، إذا كان العزل الذي جاء النص بجوازه جاء في بعض النصوص تسميته بالوأد الخفي، العزل، قبل وقوع النطفة في بطن الأم جاءت تسميته بالوأد الخفي، ولا شك أنه وأد، لكنه وأد جاء الدليل على إباحته "كنا نعزل والقرآن ينزل، ولو كان منهي عنه لنهى عنه القرآن" حديث جابر، لكنه مع ذلك هو وأد، لكن لا يعني أنه وأد مثل وأد البنات المحرم الذي مر ذكره في الكبائر، وعلى هذا تبقى النطفة كما هي، وتبقى العلقة كما هي، تبقى المضغة كما هي من غير أن يتعرض لها، اللهم إلا في حالة واحدة إذا خشي على الأم من الموت، فالمحافظة على حياة الأم أولى من المحافظة على حياة الولد.
التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب يبحث في المجامع والهيئات العلمية، وبعض الناس إذا أصيب بمرض -نسأل الله السلامة والعافية للجميع- مرض السرطان مثلاً يقولون: إن الكيماوي يقضي على الإنجاب، فيسأل يقول: قبل أن يستعمل الكيماوي يستخرج من مائه ما يحفظ فيلقح به زوجته فيما بعد، لكن على المسلم أن يرضى بما قدر الله له، ويسلم ولا يزاول أي طريقة غير الطريقة التي سنها الله لخلقه، وإن كان المجامع العلمية أفتوا بجواز بعض الصور، لكن كما قال الناظم.
وكن صابراً للفقر وأدرع الرضا ... بما قدر الرحمن واشكره واحمد(63/25)
تسعى، فإذا رضيت بالقدر رضيت بالحمل لعل الله -جل وعلا- أن يخرج من صلبك ما ينصر الله الإسلام على يديه، ترضى بهذا ولا تسقطه، بالمقابل إذا لم يتيسر لك الولد ترضى، احتمال أن يأتيك ولد يكون سبباً لشقائك وما يدريك، وكما من أسرة عاشت في الجحيم بسبب ولدها الذي حرصت عليه، وتعبت وراءه، فعلى المسلم أن يرضى ويسلم على الحالين، سواء كان رزق بالأولاد أو لم يرزق.
((ثم يرسل الملك)) في الأطوار المذكورة في حال النطفة، في حال العلقة والمضغة قبل أن يرسل الملك هذا لا يعلمه إلا الله -جلا وعلا- {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [(34) سورة لقمان] هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
خمس، مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ الآية في آخر سورة لقمان ((ويعلم ما في الأرحام)) فلا يعلم ما في الأرحام إلا الله -جل وعلا- كما فسرها الحديث الصحيح: ((في خمس لا يعلمهن إلا الله)) قد يقول قائل: الأطباء يخبرون الناس بأن الولد ذكر، ويخبرونهم بأنه أنثى، ويخبرونهم بما في البطن، أما قبل علم الملك ما زال في دائرة الغيب الذي لا يعلمه إلا الله -جل وعلا-، وأما بعد أن يرسل الملك ويطلع عليه وينفخ فيه الروح خرج عن دائرة الغيب، فبالإمكان أن يعلمه الأطباء، وكثير من الأخبار التي يخبرون بها الناس لا تقع مطابقة للواقع، وعلى كل حال ما في ما يمنع من علمهم بعد خروجه عن دائرة الغيب ((ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح)) التي هي مادة الحياة.(63/26)
((ويؤمر بأربع كلمات)) والروح جاء تعريفها عند الطوائف كلها بتعاريف كثيرة جداً، لكن كما قال الله -جل وعلا-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [(85) سورة الإسراء] وفي جهل الإنسان بروحه التي بين جنبيه، وبها حياته جهله بهذه الروح دليل على جهله العام، وأنه مهما أوتي من العلم ومن القوة والقدرة والفهم والذكاء أنه لا يخرج عن قول الله -جل وعلا-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [(85) سورة الإسراء] ويؤمر الملك من قبل الله -جل وعلا- بأربع كلمات: ((بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)) كتب رزقه ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، هذا له زرق محدد منذ أن يولد إلى أن يموت، لا يزيد ولا ينقص، وأجله له مدة محددة يعيشها في هذه الدنيا، لا يمكن أن تزيد أو تنقص {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [(34) سورة الأعراف] وما جاء في حديث الصلة ((من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -أو أجله- فليصل رحمه)) ...(63/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح: المحرر - كتاب الجامع (5)
الشيخ: عبد الكريم الخضير
((من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره -أو أجله- فليصل رحمه)) من أهل العلم من يرى أن الزيادة في الرزق والأجل زيادة معنوية لا حسية، كتب له من الرزق كذا لن يزيد، وكتب له من الأجل كذا لن يزيد ولن ينقص ولو وصل رحمه، لكن الزيادة زيادة معنوية، بركة، بمعنى أنه يكون رزقه مثل رزق زيد من الناس، أو أقل من رزق زيد من الناس، لكن يكون في هذا الرزق من البركة ما يجعله يفوق ما يكسبه زيد أضعاف مضاعفة، وهذا القول له وجه. . . . . . . . . عند أهل العلم، وقل مثل هذا في الأجل، يكتب له من الأجل سبعون عاماً، ويصل رحمه ليزيد إلى ثمانين؟ ما يزيد، سبعين، لكن عن مائة وخمسين مثلاً بالنسبة لعمر زيد، والواقع يشهد بذلك، تجد من الناس من يعيش مائة سنة، فإذا مات كان نسياً منسياً، ما كأنه وطأ على الأرض، ومنهم من يعيش خمسين سنة أو أقل ويملأ الدنيا علماً وعملاً، هذه الزيادة في الأجل، والعبرة بما يودع في هذه الخزائن، الأيام خزائن، ثم ماذا إذا وضعت في بيتك ألف خزينة وكلها فارغة، أفضل منها خزينة واحدة مملوءة، أفضل وإلا ما هي بأفضل؟ ألف خزينة فاضية لا قيمة لها، اللهم إلا إذا قلت: ببيع هذه الخزائن، لكن في مسألتنا ما يمكن بيعها، الأيام الذي هو الظرف الذي تعيشه إذا كان فارغاً مما ينفعك في آخرتك فلا قيمة له، عشت سبعين أو عشت مائة أو مائتين لا فرق، فالعبرة بما يودع في هذه الخزائن، والأمثلة كثيرة نرى من الناس من يعيش المائة مثل ما ذكرنا، ومن أهل العلم من عاش في الثلاثينات الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله- كم؟
طالب:. . . . . . . . .(64/1)
خمسة وثلاثين أو أربعة وثلاثين سنة، وعلمه ملأ الدنيا -رحمة الله عليه-، النووي ستة وأربعين سنة في كل مسجد من مساجد الدنيا قال: قال -رحمه الله تعالى-، وغيرهم كثير، شيخ الإسلام ابن تيمية كم؟ من واحد وستين إلى ثمانية وعشرين يعني سبعة وستين سنة، المقصود أن مثل هذه الأعمار إذا قيست بالأعمال التي طرح الله ووضع فيها البركة لا شيء، حُسب بعض التصانيف لبعض العلماء وقسمت على مدته التي عاشها ووجد يكتب في اليوم تسع كراريس، فإذا أردت أن تنظر إلى البركة انظر في نفسك وفيمن حولك، إذا أردت أن تحرر مسألة، كم تحتاج هذه المسألة من وقت؟ تحتاج مسألة لتكتب فيها صفحتين أو ثلاث تحتاج إلى أوقات طويلة، شيخ الإسلام -رحمه الله- كتب الفتوى الكيلانية وصاحبها مستوفز يريدها مائتين وثلاثين صفحة، فالعبرة بالبركة.
من أهل العلم من يرى أن الزيادة حقيقية، وأنه يكتب له في اللوح المحفوظ ستون سنة فيصل رحمه فيزاد عشرين، فيعيش ثمانيين سنة، ويكون هذا فيما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ، وأما ما في علم الله -جل وعلا- يعلم -جل وعلا- أنه يصل رحمه، ويزيد بسبب الصلة إلى ثمانين، وهذا أيضاً قول معتبر عند أهل العلم، فما في علم الله -جل وعلا- لا يتغير، والذي في علم الملك يتغير، قوله -جلا وعلا-: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [(34) سورة الأعراف] هذا إذا جاء، افترض في زيادة الصلة قبل مجيء الأجل، يعني يمكن أن يجاب بهذا.
((وعمله)) ما الذي يعمله مما يمكن أن يكتب عليه من الأعمال يدون هذا، الكذا من الطاعات، ويفعل كذا من المعاصي، ويفعل كذا، يكتب عليه كل شيء في الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.(64/2)
((وشقي أو سعيد)) النتيجة هل هو شقي أو سعيد؟ ولا ثالث لهما {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ} [(105 - 106) سورة هود] أعمالهم معروفة، ومآلهم معروف، وأما الذين سعدوا كذلك، فليحرص الإنسان على ما ينفع، قد يقول قائل: ما دام مكتوب عليَّ وأنا في بطن أمي كيف أعمل؟ قد سأل الصحابة النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا السؤال، قال: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له)) يعني ما فيه جبر، في شيء من الاختيار للإنسان ما الذي يمنعه أن يقوم فيصلي ركعتين؟ ما الذي يمنعه من أن يفتح المصحف ويقرأ ما كتب له؟ هل وجد الإنسان من نفسه في يوم من الأيام أنه وضع المصحف في يده فأُخذ منه؟ لا، أو حيل دونه ودونه؟ لا، إنما هي أعمالك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واحرص على أن تكون من أهل السعادة.(64/3)
((فو الذي لا إله غيره)) يقسم النبي -عليه الصلاة والسلام- بالذي لا إله غيره وهو الله -جل وعلا-، ((فو الذي لا إله غيره)) وما طلب منه القسم، فيجوز الحلف من غير استحلاف، لا سيما في الأمور المهمة، كثيراً ما يقول: ((والذي نفسي بيده)) كما تقدم، وهنا يقول: ((فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة)) أعمال أهل الجنة من الصلاة والزكاة والصيام والحج والبر والصلة والذكر والتلاوة والجهاد وغيرها من أعمال أهل الجنة، ويجتنب مع ذلك المحرمات، فلا يعرف بشيء منها ((فو الله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل)) تأكيد بالقسم، و (إن) واللام ((ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعاً)) يعني هذا تمثيل وإلا المقصود به الزمن اليسير من مدة حياته التي إذا فارقها دخل الجنة بسبب عمله، وإن كانت الجنة لا تنال بالعمل، وإنما العمل سبب ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعاً فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار)) نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله حسن الخاتمة ((فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) والعبرة بالخواتيم، وبالمقابل: ((وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعاً)) كسابقه يعمل بالجرائم، بالمنكرات، يترك الوجبات، يرتكب الموبقات، حتى ما يكون بينه وبين النار بوفاته إلا ذراع، زمن يسير يمكنه أن يتوب فيه إلى الله -جل وعلا-، فيسبق عليه الكتاب الذي كتب عليه، وهو في بطن أمه، يسبق عليه الكتاب الذي كتب عليه في بطن أمه، أو في اللوح المحفوظ ((فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) يتوب، والتوبة تجب ما قبلها، وتهدم ما كان قبلها ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب)) الذي كتب عليه وهو في بطن أمه ((فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) يدخلها مؤقتاً أو مخلداً؟ على حسب ما يعمل في آخر حياته، إن عمل بعمل أهل النار مما يقتضي الدخول دون الخلود حصل له ذلك، وهو في ذلك تحت المشيئة، وإن عمل من عمل أهل النار ما يقتضي الخلود خلد فيها كالكفار -نسأل الله السلامة والعافية-، يعني شخص يتعبد سبعين ثمانين سنة، وفي آخر لحظة يرتد(64/4)
-نسأل الله السلامة والعافية-، أو يعمل بعمل أهل النار من الكفر والفسوق والفجور، ثم بعد ذلك يتوب يسلم، يدخل في الإسلام ويتوب ويحسن إسلامه ويدخل الجنة، والله -جل وعلا- لا يُسأل عن ما يفعل، وهذا الحديث مخوف يخاف منه السلف خوفاً شديداً، جاء في بعض روايته: ((وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)) ((وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس)) فالذي يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس يكون ظاهره صالح، ولكن باطن العمل فاسد؛ لأنه لم يخلص فيه لله -جل وعلا-، ومثل هذا يُمكر به في الغالب، إن لم يوفق لتوبة نصوح.(64/5)
عندنا النص المطلق حديث الباب والنص المقيد الذي قوله: ((فيما يبدو للناس)) قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضي ذلك، وأن من عمل لله بعمل أهل الجنة محققاً شروط القبول، مخلصاً لله -جل وعلا-، متابعاً لنبيه -عليه الصلاة والسلام- أنه لا يحصل له مثل هذا؛ لأن الحديث تفسيره الرواية المقيدة ((فيما يبدو للناس)) وأهل العلم يقولون: الفواتح عنوان الخواتم، وأنه إذا وجد تغير في آخر العمر دل على أن عمله السابق غير خالص لله -جل وعلا-، والرواية المطلقة قد يكون خالص لله -جل وعلا-، يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله، مخلصاً لله، متابعاً لنبيه، ثم بعد ذلك يحصل له ما يحصل، فهل يحمل المطلق على المقيد؟ وهل يستطيع المسلم أن يأمن على نفسه مع هذه النصوص حتى بالروايات المقيدة؟ القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، وما سُمي القلب إلا أنه يتقلب، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يكثر من قوله: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) فمثل هذه الأمور لا بد أن تورث خوف، ووجل في نفس المسلم، لا يقول: أنا والله أنا أعمل مخلص لله -جل وعلا-، متابع، حريص على اتباع السنة، وأنا في مأمن من أن .. ، لا، ما يمكن، دعواك هذه وتصورك عن نفسك هذا التصور قد يوقعك في المكر، ويُمكر بك وأنت لا تشعر، والسلف عموماً عندهم خوف شديد من سوء العاقبة، وديدنهم الدعاء بحسن الخاتمة، نسأل الله للجميع حسن الخاتمة، فعلى الإنسان أن يحسن عمله، ويخلص في عمله، ويتابع ويحرص على متابعة النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويلهج دائماً بدعاء الله -جل وعلا- أن يثبته على دينه حتى يقبضه.
نعم.
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- .... "
هنا مسألة يمكن أن يشار إليها، وهي أن شخصاً عمل بعمل أهل الجنة مخلصاً لله -جل وعلا-، متابعاً لنبيه -عليه الصلاة والسلام- مدة طويلة سبعين أو ثمانين سنة وقبض على ذلك، وهو على خير عظيم، وأنه لا يجزم له بشيء، لكنه على غير عظيم، وآخر عمل نفس المدة بضد ما عمله الأول، ما ترك فاحشة ولا جريمة ولا كبيرة ولا صغيرة إلا ارتكبها، نفس المدة ثمانين سنة، في آخر عمره وفق لتوبة نصوح، أيهما أفضل؟ الأول وإلا الثاني؟
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .(64/6)
نعم؟
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
لا لا، ختم له بخير، هذا عاش ثمانين سنة يعمل الأعمال الصالحة وقته معمور بالعبادة وقبض على ذلك، والثاني بضده إلا أنه وفق لتوبة نصوح، وبدلت سيئاته حسنات، ومات على ذلك، على التوبة النصوح، وبدلت كل السيئات التي ارتكبها حسنات، أيهما أفضل؟
طالب:. . . . . . . . .
نعم يا الإخوان.
طالب:. . . . . . . . .
يقول: إن الذي عمل بالطاعة هذه المدة الطويلة ليس بمعصوم، قد تخلل هذه المدة شيء من المخالفة، وأما الذي عمل بمنكرات ثم تاب وبدلت سيئاته حسنات كلها، طيب، يقول: هذا ما تخلله شيء يخدش فيه؛ لأنها كلها حولت، فعلى هذا الثاني أفضل {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [(70) سورة الفرقان] نعم؟ لكن هل يستويان؟
طالب:. . . . . . . . .
أولاً: الذي عمل الحسنات طيلة عمره حسناته مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، المسألة مفترضة من شخص مخلص متبع، والشخص الذي بدلت سيئاته حسنات هل هذه الحسنات مضاعفة أو غير مضاعفة؟ لأن البدل له حكم المبدل، والسيئة لا تضاعف، إذاً الحسنة لا تضاعف، تبدل سيئة بحسنة، يعني مقابلة الحسنات {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [(70) سورة الفرقان] مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة أفراد، يعني سيئة بحسنة، فهل يستويان؟ يستويان وإلا ما يستويان؟
طالب:. . . . . . . . .
ما يستويان، لا يستويان، وهذا من عدل الله -جل وعلا-، وإن كان في كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ما يدل على أن الحسنات المنقلبة عن سيئات لا يوجد ما يمنع من مضاعفتها، لكن العدل الإلهي لا شك أن الذي عمل بالطاعة والخدمة هذه المدة الطويلة ولم تحصل منه مخالفة، قد تحصل الزلة فيبادر بالتوبة منها، وأما الذي عمر عمره كله بالسيئات على كل حال فضل الله لا يحد، وهذا عنده -جل وعلا-، لكن في الميزان الشرعي لا يستويان.
طالب:. . . . . . . . .
لا لا، أنت لا تفترض أنه عاش بعد عشر سنين عشرين سنة، عاش بحيث تمكن من التوبة النصوح .... ، بدل كل سيئة حسنة.(64/7)
طالب:. . . . . . . . .
هو {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [(70) سورة الفرقان] هذا الشرط، يعمل.
طالب:. . . . . . . . .
هاه؟
طالب:. . . . . . . . .
يعني يبدل هو بنفسه؟ يبدل الله ما هو الذي يبدل.
طالب:. . . . . . . . .
هو الأصل أن الله -جل وعلا- يبدل، معاصيه بدلت يعني جزاء معاصيه بدل بحسنات، وعلى هذا لو قلنا بما قاله الأخ: إنه لا بد أن تتبدل حاله فيعمل في مقابل كل سيئة حسنة ذهبت منه على هذا يعمر طول العمر الذي فات وإلا ما يتم الشرط.
طالب:. . . . . . . . .
لا لا، ما يجي.
طالب:. . . . . . . . .
تفضل.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودناه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ )) ثم يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: واقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [(30) سورة الروم].
نعم.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:(64/8)
"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما من مولود)) " مولود نكرة في سياق النفي فهي للعموم، ومن هذه أيضاً للتأكيد، تأكيد العموم ((ما من مولود)) يعني لا يمكن أن يولد مولد يخرج عن ما ذكر ((إلا يولد على الفطرة)) وما في مولود يولد يهودي أو يولد نصراني إنما يولد على الفطرة، على الدين الصحيح ((فأبواه)) تأتي المؤثرات الخارجية، الأصل أنه على الدين الصحيح، على الميثاق الذي أُخذ عليه ((فأبواه)) لا شك أن للأبوين أثراً كبيراً في حياة الابن، فإذا كانا يهوديين سعيا في تهويده، وإذا كانا نصرانيين أثرا عليه فجعلاه نصرانياً، وإذا كانا مجوسيين فالأمر كذلك، فالبيئة لها أثرها على الشخص، وللأبوين من التأثير على الولد الأثر البالغ، فهو ينشأ عن تربيتهما، ويعيش في أحضانهما، ويتأثر بأقوالهما وأفعالهما، ولهما عليه من اليد والمنة ما يفرض هذا الأثر أحياناً، وللأب من القوة والسلطة على ابنه ما يجعله يؤثر عليه، فليحرص الآباء على أن يكون لهم أثر حسن في تربية أولادهم، فالذي يتولى تربيته أبوه وينشئه على الدين وعلى الخير والفضل، وكذلك الأم لا شك أنه أولاً: هذا جهاد في سبيل الله، تنشئة جيل صالح ينفع نفسه وينفع أمته ودينه هذا جهاد، لكن الملاحظ مع الأسف الشديد أن أكثر الآباء مشغول عن تربية أولاده، فإذا لم يتول الأب التربية تولاه الناس، فإن وفق لمعلم مشفق ناصح يأخذ بيده صار ذلك سبباً في هدايته، وإلا تلقفه الأشرار وحرفوه عن سواء السبيل، مع الأسف أن الأمهات وعملهن الأصلي التربية، انشغلن عن أولادهن بأعمالهن، أو بلا شيء أحياناً سهر وقيل وقال مع الأقارب والجيران في الليل، ونوم في النهار، ويُترك الأولاد، تترك تربيتهم للعاملات، وقد جاء هؤلاء العاملات من بلدان شتى، ومع الأسف أنه يوجد في العاملات من غير المسلمين، ووجد من أبناء المسلمين من يقسم بالمسيح في بيوت المسلمين، ووجد من يشرك، والأصل فيه أنه على الفطرة، ومن أبوين مسلمين، وقد يكون من أولاد بعض من يتنسب إلى العلم، والأم قد تكون صالحة وداعية أحياناً تنتقل من مكان إلى مكان، والأب يعلم الناس الخير ولا يفرغ لأولاده أن يوجههم، ويسدي(64/9)
لهم النصيحة، لا شك أن هذا خلل في التصور، يعني يعنى بأولاد الناس، ويقضي وقته كله مع الناس، في وظيفته، في عمله، أحياناً في دعوته، وأولاده في أمس الحاجة إليه فلا بد من التوازن، يصرف لأولاده ما يكفيهم لينشئوا على الدين والخير والفضل، ويصرف للناس ما يستطيعه، فالتربية شأنها عظيم، ولذا يقول -جل وعلا- في الدعاء المعروف: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا} إيش؟ {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [(24) سورة الإسراء] فالآية تدل على أن الذي لا يربي ولده التربية الصحيحة لا ينال مثل هذه الدعوة، ولا يستحق مثل هذه الدعوة، فيكون الحرص على النفس وعلى الولد وعلى الأقربين أشد من الحرص على غيرهم، نعم قد يكون القبول بين الأولاد والأسرة من هذا العالم ومن طالب العلم أقل من الناس، فيرى الأثر والنتيجة في أولاد الناس ولا يراه في ولده، فيمل ويتركهم، فعلى الأب أن يعنى بأولاده ولو. . . . . . . . .، ولو وجد مثل هذا، يحرص ويجاهد، ولو بأن يبذل السبب في أن يصحبهم الصحبة الطيبة؛ لأن أثر الوالد أحياناً قد يكون أقل، وكما يقال: أزهد الناس بالعالم أهله وجيرانه؛ لأنهم يرونه على أوضاع كثيرة، وفي حالات مختلفة فتخف قيمته عندهم، ويخف وزنه؛ لأنه وجد من النساء زوجها عالم كبير معدود بعلماء الأمة ثم إذا قال شيئاً قالت: لا، الشيخ الفلاني يقول كذا، وإن كان من أصغر طلابه، وجد هذا؛ لأنها تراه على أوضاع مختلفة، وأحياناً في ابتذال، وأحياناً في وضع غير مناسب، وأحياناً .. ، هذه هي عادة الناس إذ خلوا، والعالم ابن مجتمعه، ما هو منزل من السماء له مواصفات خاصة، لا، يزاول ما يزاوله الناس، ويحتاج ما يحتاجه الناس، لكن على كل حال على الأب أن يبذل النصيحة، وأن لا يموت غاشاً لرعيته، معللاً ذلك بأنه يزاول أعمالاً صالحة وفيها خير ونفع للناس، نعم النفع مطلوب، والدعوة مطلوبة، والتعليم مطلوب، والقضاء مطلوب، والإفتاء مطلوب، لكن كما جاء في الأمر الإلهي: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [(214) سورة الشعراء] النبي -عليه الصلاة والسلام- أول ما بدأ بأقاربه: ((يا فاطمة بنت محمد)) ((يا صفية عمة رسول الله)) ((يا عباس عم رسول الله)) المهم أنه يبدأ(64/10)
بالأقربين، هم أولى الناس بعنايتك ورعايتك، لكن إذا وجدت وأعيتك المسالك، وهذا حاصل في بعض البيوت أن الأب لا أثر له، ولا ينظر إليه، ولا يلتفت إليه، عليه أن يستمر بالرفق واللين، ويبذل أسباب أخرى تكون سبباً في هدايته، ويزاول ما يزاوله من النفع العام.
((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)) وليس في الحديث ولا في رواية من روايته: "أو يسلمانه" فدل على أن الإسلام هو دين الفطرة.
((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء)) (تُنتج) ما سمع إلا على هذه الصيغة، على صيغة البناء للمجهول وهي للمعلوم ((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء)) سليمة من العيوب، أطرافها كاملة، ما قطع منها شيء، مجتمعة، فيها جميع ما خلقت عليه، بهيمة جمعاء، وسميت البهيمة بهيمة لأنها لا تنطق، كما تسمى عجماء.
((هل تحسون فيها من جدعاء)) يعني مقطوعة الأذن، مكسورة القرن، مقطوعة اليد، مقطوعة الإلية، هي مجتمعة، أطرافها متكاملة ((هل تحسون)) هل تجدون فيها من جدعاء؟ "ثم يقول أبو هريرة ... " يعني ألا يمكن أن تولد بهيمة ناقصة الخلقة؟ ما يمكن أو يمكن؟ يمكن، لكن هذا هو الأصل، وهذا هو الغالب أنها تولد كذلك، ثم يحصل لها ما يحصل.(64/11)
ثم يقول أبو هريرة: وقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [(30) سورة الروم] لا تبديل هذا خبر يراد منه الأمر، لا تبدلوا خلق الله، ولذا من وظائف الشيطان {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [(119) سورة النساء] فهذه وظيفة الشيطان وأتباع الشيطان، فعلى الإنسان أن يحرص على نفسه، ثم على ولده ومن ولاه أمره من أبناء وبنات وزوجات وأقارب وجيران، ثم بعد ذلك ينتشر نفعه، وإذا بذل الإنسان النفع لنفسه أولاً أُعين على نفع ولده، وإذا أُعين على نفع ولده، وأثمرت جهوده أُعين على نفع الآخرين، وهذا بالتجربة ثابت، لكن قد يقول قائل: إن الإنسان وهو مؤيد بوحي يبذل الأسباب لنفع أقرب الناس إليه ولا يستطيع، نقول: صحيح، نوح ما استطاع أن يدخل ولده في دينه، وامرأة نوح وامرأة لوط مثلاً للكفار، وبالمقابل امرأة فرعون مثلاً للمؤمنين، فالإنسان لا يستطيع أن يصل إلى النتائج، وإنما عليه أن يبذل الأسباب، والنتائج بيد الله -جل وعلا- {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [(56) سورة القصص] ولا يظن سوء بمن بذل ما يستطيعه في نصح ولده وأهل بيته ثم لم ينجح؛ لأنه يشاهد بعض أولاد العلماء عندهم مخالفات كبيرة، وبعض أولاد العامة فيهم استقامة، هل نقول: إن هذا بذل وهذا ما بذل؟ النتائج بيد الله -جل وعلا-، ويحدثني شخص أنه يقول: والله ما علمت -عنده ولدين- أن أولادي حفظوا القرآن إلا بعد أن دُعيت للحفل، حفل التكريم، ما عرف أنهم حفظوا القرآن، ولا يحفظوا القرآن ما يدري، مشغول عنهم، هذا من توفيق الله -جل وعلا- للأولاد، أما الذي ما بذل كيف يؤجر؟ إنما الذي يلبس حلة الكرامة لمن سعى في ذلك، وحمل أولاده على هذا، ويوجد من أولاد العلماء من عندهم من المخالفات وعندهم والقلوب بيد الله -جل وعلا-، ولو حرص الإنسان أشد الحرص كما حرص النبي -عليه الصلاة والسلام- على هداية عمه، وفي النهاية قال عمه: هو على ملة عبد المطلب، وفيه نزل قول الله -جل وعلا-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [(56) سورة القصص].(64/12)
نعم.
وعنه -رضي الله عنه- قال ...
انتقل عن هذه الفطرة أو لم ينتقل؟ فجاء جوابه -عليه الصلاة والسلام-: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) أما بالنسبة لأطفال المسلمين فهم مع أهلهم في الجنة، هذا القول المرجح عند أهل العلم، وجاء فيه ما جاء من النصوص، وابن القيم -رحمه الله- في آخر طريق الهجرتين ذكر الخلاف في المسألة فيهم وفي أولاد المشركين، ومنهم من يقول أيضاً: إن أطفال المشركين أيضاً في الجنة؛ لأنهم ما بلغوا حداً يؤاخذون فيه من التكليف، وهم في الأصل على الفطرة فهم في الجنة، ومنهم من يقول: بمفاد هذا الحديث وهو الأولى، ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) ومنهم من يقول: حكمهم حكم أهل الفترة والمجانين ومن في حكمهم مما لا يعقل الدعوة، أو لم تبلغه الدعوة يُختبر في الآخرة، فيخرج له لسان من نار فإن دخله دخل الجنة، ويؤمر بدخوله فإن دخله دخل الجنة، وإن رفض دخل النار، ولا أكمل ولا أجمل ولا أعم ولا أشمل من قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)).
نعم.
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما شاء لا مكره له)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:(64/13)
"وعنه" الصحابي السابق أبي هريرة "-رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت)) " ليعزم المسألة، ولا يتردد فيها، إذا سأل الله -جل وعلا- يسأله وهو موقن بالإجابة، بعد أن يبذل الأسباب، وينفي الموانع ((فإن الله صانع ما شاء لا مكره له)) قد أمر الله -جل وعلا- بالدعاء ووعد بالإجابة {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [(60) سورة غافر] فعلى الإنسان أن يبذل الأسباب أسباب إجابة الدعاء، ومن أعظم الأسباب طيب المطعم، ومع الأسف أن كثير من المسلمين يجتمع الفئام الألوف المؤلفة يدعون الله -جل وعلا- ولا يستجيب لهم؛ نظراً لما دخل المطاعم من الشبهات، بل المحرمات، وجاء في الحديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- "ذكر الرجل الأشعث الأغبر يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له" يتخبط في الحرام من أكل وشرب وملبس وغذاء، ثم بعد ذلك يرجو الإجابة "أنى" استبعاد، وإن كان بعض الأسباب موجود، السفر مظنة إجابة، المسافر له دعوة، وأشعث أغبر أقرب إلى الانكسار، يمد يديه رفع اليدين في الدعاء أيضاً من الأسباب، ويكرر: يا رب يا رب، وهذا الاسم من أسماء الله -جل وعلا- هو كما يقرر أهل العلم أولى ما يدعى به، وفي آخر سورة آل عمران لما كُرر خمساً حصلت الإجابة {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [(195) سورة آل عمران] ويصرح بعض العلماء إلى أن من يكرر الدعاء بـ (يا رب) خمس مرات يستجاب له، لكن هذا سبب من الأسباب، فإذا انتفت الموانع ترتب الأثر، مع أنه قد يدعو الإنسان والأسباب متوافرة والموانع منتفية، ومع ذلك لا يجاب له، لا يستجاب له؛ لأن الدعوة قد تستجاب بنفس ما دعا به الإنسان، وقد يدفع عنه من الشر بقدرها أو أعظم منها، وقد يدخر له يوم القيامة خير منها، فهذه كلها إجابة {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [(60) سورة غافر] يتحقق الأمر بمثل هذا، فعلى الداعي أن يبذل الأسباب، ويحرص على انتفاء الموانع، في هذه الظروف التي نعيشها، مع وجود الشبهات، كثرة الشبهات، بل ارتكاب كثير من المسلمين مع الأسف(64/14)
الشديد للمحرمات في المعاملات، ويرجون الإجابة، أنى يستجاب لذلك؟! ولا قنوط ولا يأس من رحمة الله، على الإنسان أن يدعو، عليه أن يدعو، لكن الطمع في الإجابة إنما يكون مع توافر الأسباب، وانتفاء الموانع.
((لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت)) يعني بهذا اللفظ، الدعاء بلفظ الأمر لا يقرنه بالمشيئة ((اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت)) لكن إذا جاء الدعاء بلفظ الخبر: غفر الله له إن شاء الله، رحمه الله إن شاء الله، يعني ما جاء بلفظ الأمر فدل الدليل على جوازه ((طهور إن شاء الله)) ((وثبت الأجر إن شاء الله)) لا مانع من أن يقترن إذا لم يكن بلفظ الأمر، ومسائل الدعاء وفوائد الدعاء كثيرة جداً، لكن مثل ما ذكرنا القبول له أسباب، وهناك موانع، وهناك أوقات ترجى فيها الإجابة فليستحضر الإنسان هذه الأحوال وهذه الأسباب وهذه الموانع.
نعم.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خير لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي)).
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:(64/15)
"وعن أنس -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يتمنين)) " (لا) هذه ناهية، والنون نون التوكيد الثقيلة، ولذا بني معها الفعل المضارع على الفتح، والأصل فيه أنه في محل جزم، فإذا اتصلت به نون التوكيد الثقيلة بني على الفتح، ومثلها الخفيفة ((لا يتمنين)) التمني هناك تمني، وهناك ترجي، التمني يكون بـ (ليت) والترجي يكون بـ (لعل) فإذا تمنى بأن يحصل له .. ، التمني الأصل فيه تمني حصول المحبوب، يتمنى أن يحصل له محبوب هذا الأصل، يتمنى أن يكون مثل فلان، ويتمنى أن يكون له من المال كذا، ويكون له من الأعمال كذا، أو من البيوت كذا، هذا الأصل في حصول المحبوب، فإذا جاء على خلاف الأصل تمني الموت، الموت محبوب وإلا مكروه؟ مكروه في الأصل، فتمنيه من قبل هذا المتمني دليل على أنه محبوب عنده بالنسبة لحالته التي يعيشها، فتمنيه للموت إنما هو بسبب حياة تعيسة على حد زعمه يعيشها ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)) إما في أمر معاشه وماله، أو في بدنه، أو في ولده، كثير من الناس يتمنى الموت بسبب ولده، وبعضهم بسبب زوجه، وبعضهم بسبب ماله. . . . . . . . .(64/16)
من خوف على دينه من فتنة، إذا خشي على دينه من فتنة، رأى الفتن تموج في الناس، وكل يوم أو كل ساعة يسقط واحد، وجاء في أحاديث الفتن أنه يأتي فتن كبيرة يصبح الرجل مسلماً ويمسي كافراً، فمثل هذه الحالة إذا تمنى أن يموت على أحسن حال على أكملها وعلى حاله من الدين والعلم والفضل لا بأس، شريطة أن يكون على هذه الحال لا لذات الموت، كما قال يوسف -عليه السلام-: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [(101) سورة يوسف] يعني حال كوني مسلماً، فهو ليس تمني للموت لذات الموت، وإنما تمني للموت على الإسلام، وإنما المحظور أن يكون تمني الموت من أجل ضرر دنيوي نزل به، إذا ضاقت به المسالك، وأراد أن يتمنى وعجز عن أن يصد نفسه عن هذا، فإن كان لا بد متمنياً فليقل .. ، يترك الأمر لله -جل وعلا-، يختار له ما هو الأصلح له ((فإن كان لا بد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي)) فإذا كانت الحياة شر له فالوفاة ((وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) فيترك الاختيار لله -جل وعلا-، فإن كانت الحياة خيراً له بأن يزول عنه هذا الضرر، ويكسب في بقية عمره ما يوصله إلى الله -جل وعلا- فيسأل الله الحياة: ((اللهم أحيني)) وإذا كان بالعكس إذا كانت الوفاة خير له لما يخشى على نفسه من فتنة في دينه، ولو كانت الفتنة مرتبة على أمر دنيوي؛ لأن بعض الناس إذا خسر خسائر أو أصيب بمرض جزع وتضرر في دينه، فيسأل الخيرة من الله -جل وعلا-، إذا كانت الوفاة خير له إن يتوفاه الله على حال حسنة غير مبدل ولا مغير.
سم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين برحمتك يا أرحم الراحمين، أما بعد:
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
وعنه -رضي الله عنه- عطس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان فشمت أحدُهما ولم ...
فشمت أحدَهما.
نعم؟
أحدَهما.
عفا الله عنك.
وعنه -رضي الله عنه- عطس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان فشمت أحدُهما ...
أحدَهما.(64/17)
أحدَهما ولم يشمت الآخر، فقال الذي لم يشمت: عطس فلان فشمته، وعطست فلم تشمتني، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن هذا حمد الله وأنت لم تحمد الله)).
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:
"وعنه" يعني عن أنس "-رضي الله تعالى عنه- قال: عطس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان" العطاس لا يحتاج إلى تعريف، معروف عند كل أحد، والعطاس نعمة من نعم الله، يخرج بسببه الأبخرة المجتمعة في الدماغ بحيث لو اجتمعت وتراكمت لضرت الإنسان، وهو أيضاً يزلزل البدن، كما يقول أهل العلم، العطاس يزلزل البدن، فكونه ينتهي بسلام، تنتهي هذه الزلزلة يعني وجه شبه مع زلزلة الأرض هذا كلام أهل العلم، كونه ينتهي بسلام، وتخرج هذه الأبخرة المحتقنة في الدماغ نعمة من نعم الله -جل وعلا-، تحتاج إلى شكر، والله -جل وعلا- يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [(7) سورة إبراهيم] فتحتاج إلى شكر بأن يقول العاطس: الحمد لله، وإن قال: الحمد لله رب العالمين فقد جاء ما يدل عليه.(64/18)
"قال: عطس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر" يعني هل هذا مرده إلى التفريق بين الناس؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- قاسم، والله المعطي، على القاسم أن يعدل بين من يقسم بينهم، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- عدل بين أصحابه، وما جاء في صفة صلاة الخوف من أجلى صور العدل، فيها أجلى صور العدل بين الرعية وبين الناس، فهل شمت أحدهما من دون سبب وترك الآخر لغير سبب؟ العلة في ذلك في جواب سؤال من لم يشمت "فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمته وعطست أنا فلم تشمتني" التشميت والتسميت كما يقولوا البعض، كما في بعض الروايات: ((وإذا عطس فسمته)) بالإعجام والإهمال، بعض اللغويين يقول: الأصل الإهمال، أصلها سمته فأعجمت، ويقال بهذا وهذا، ولا بأس، المقصود أن الذي لم يشمت صار في نفسه شيء، يدعى لأخيه ولا يدعى له، إذا عطس العاطس وقال: الحمد لله يقول المشمت: يرحمك الله، ومن يستغني عن هذه الدعوة؟! لا سيما إذا صدرت من النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو مجاب الدعوة، صار في نفسه فسأل "فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمته، وعطست أنا فلم تشمتني" فقال مبيناً السبب في التفريق -عليه الصلاة والسلام-: ((إن هذا حمد الله وأنت لم تحمد الله)) فالسبب أن التشميت مبني على الحمد، فالذي لا يحمد الله لا يشمت، لا يستحق التشميت، ولكن هل يذكر بأن يقال له: احمد الله، أو يقول السامع: الحمد لله ليذكره؟ النبي -عليه الصلاة والسلام- ما ذكر الرجل الذي لم يحمد الله، ما ذكره، ومن أهل العلم من يقول: إنه يذكر، من باب النصيحة له؛ ليثبت له أجر الحمد، ويدعى له من قبل المسلمين، ويدعو لمن دعا له، وهذه مصالح التذكير بها نصيحة للمسلمين، لكن العبرة بفعله -عليه الصلاة والسلام- ولم يثبت أنه ذكره، والتشميت من حقوق المسلم على المسلم: ((وإذا عطس فحمد الله فشمته)) في هذا أمر حتى أوجب بعضهم التشميت لمن حمد الله، كما هو الأصل في الأمر، والجمهور على أنه مستحب، فإذا عطس العاطس وقال: الحمد لله، قال المشمت: يرحمك الله، وقال العاطس: يهديكم الله ويصلح بالكم، وجاء في بعض الروايات أن التشميت بقوله: "يغفر الله لنا ولكم" حتى قال بعضهم: إنه(64/19)
يجمع بين الرحمة والمغفرة لهذا، جاء في خبر وهو سبق العاطس بالحمد، يعني يعطس الشخص فيقال له: الحمد لله، يُذكر قبل أن يدرى هل هو يحمد أو لا يحمد؟ قبل أن يحمد الله العاطس، جاء في خبر عزي لابن ماجه: ((من سبق العاطس بالحمد)) فيه إيش؟ ((أمن الشوص واللوص والعلوص)) هذه أمراض، لكنه حديث لم أقف عليه في سنن ابن ماجه، عزاه لابن ماجه القرطبي في تفسيره، والشنقيطي أيضاً، ولعله أخذه من القرطبي، والعبرة بفعله -عليه الصلاة والسلام-، هذا عطس فحمد الله فشمته، وهذا عطس ولم يحمد الله فلم يشمته، هذا من باب التعزير له.
أبو داود السجستاني صاحب السنن سمع عاطساً حمد الله، عطس شخص وحمد الله وهو في مركب على سفينة، ومشت السفينة ولم يتمكن من تشميته، هذا ذكره ابن عبد البر عن أبي داود، وحسن إسناده، فاستأجر أبو داود قارب ولحق به فشمته، فلما رجع رئي في المنام من يقول: اشترى أبو داود الجنة بدرهم، بأجرة هذا القارب، على كل حال العبرة بالنصوص الثابتة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ...(64/20)