فَهُوَ بجاد، فَإِن جعل شقة وَلها هدب فَهِيَ نمرة، وَبرد، وشملة، فَإِذا كَانَت النمرة فِيهَا خطوط سوى ألوانها فَهِيَ برجد، فَإِن كَانَت منسوجة خيطا على خيط فَهِيَ منيرة، فَإِذا عرضت الخيوط الْبيض فَهِيَ عباءة، فَإِذا غزل شرزا جَاءَ خشنا لَا يدفئ وَهُوَ الَّذِي يغزل على الوحشي، وَإِذا غزل يسرا وَهُوَ الَّذِي يغزل على الْإِنْسِي جَاءَ لينًا دفيئا رَقِيقا.
وَقَوله: أينعت. قَالَ الزّجاج: يُقَال: ينع وأينع بِمَعْنى أدْرك قَالَ الْفراء: أينع أَكثر من ينع. وَهَذَا اسْتِعَارَة لما فتح الله عَلَيْهِم من الدُّنْيَا وَقَوله: يهدبها، الدَّال مَكْسُورَة، يُقَال: هدب الثَّمَرَة يهدبها هدبا: إِذا اجتناها.
2243 - / 2846 - وَفِي أَفْرَاد مُسلم:
شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرمضاء فَلم يشكنا. الرمضاء: شدَّة الْحر. وَالْأَصْل أَن الرمضاء الرمل، فَإِذا احْتَرَقَ بالتهاب حر(4/41)
الشَّمْس عَلَيْهِ نسب الْحر إِلَيْهِ. وَفِي الحَدِيث تَفْسِير ذَلِك، وَأَنَّهُمْ أَرَادوا تَأْخِير الظّهْر.(4/42)
(95) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن زَمعَة بن الْأسود
فِيهِ حَدِيث وَاحِد:
2244 - / 2847 - وَفِيه ذكر النَّاقة: " انتدب لَهَا رجل عَزِيز عَارِم منيع فِي رهطه مثل أبي زَمعَة ".
الْعَزِيز: الْعَظِيم الْقدر الْبعيد الْمثل.
والعارم: الشَّديد الْجَاهِل. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: العرم: الْجَاهِل. وَقَالَ الْفراء: العرام: الْجَهْل.
والمنيع: الْمُمْتَنع على من أَرَادَهُ.
وَأَبُو زَمعَة كَانَ عَم الزبير بن الْعَوام.(4/43)
(96) كشف الْمُشكل من مُسْند جُبَير بن مطعم
جملَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عشرَة.
2245 - / 2851 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الرَّابِع: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الْمغرب بِالطورِ، فَلَمَّا بلغ: {أم خلقُوا من غير شَيْء أم هم الْخَالِقُونَ} [الطّور: 35] ، إِلَى قَوْله: { ... المسيطرون} [الطّور: 37] كَاد قلبِي أَن يطير.
الطّور: الْجَبَل، قَالَ مُجَاهِد: الطّور: الْجَبَل بالسُّرْيَانيَّة. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الطّور: مَا لَا ينْبت من الْجبَال وَمَا أنبت فَلَيْسَ بطور.
وَيُمكن أَن يكون قَرَأَ جَمِيع السُّورَة وَيُمكن أَن يكون قَرَأَ بَعْضهَا، فَقَالَ: سمعته يقْرَأ بِالطورِ. وَالْبَاء قد تكون بِمَعْنى من، كَقَوْلِه تَعَالَى: {عينا يشرب بهَا عباد الله يفجرونها تفجيرا} [الْإِنْسَان: 6] أَي مِنْهَا.
وَقَوله: {أم خلقُوا من غير شَيْء} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْمَعْنى لَيْسُوا بأشد من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَقد خلقت من غير شَيْء وهم(4/44)
خلقُوا من آدم. وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: أم خلقُوا لغير شَيْء؛ أَي: أخلقوا عَبَثا، ذكرهمَا الزّجاج. وَالثَّالِث: أم خلقُوا فوجدوا بِلَا خَالق، وَذَلِكَ مَا لَا يجوز، لِأَن تعلق الْخلق بالخالق من ضَرُورَة الِاسْم: {أم هم الْخَالِقُونَ} لأَنْفُسِهِمْ، فَإِذا ثَبت أَن لَهُم خَالِقًا فليؤمنوا بِهِ، ذكره الْخطابِيّ، قَالَ: وَقَول: {بل لَا يوقنون} هِيَ الْعلَّة الَّتِي منعتهم عَن الْإِيمَان، وَلِهَذَا انزعج جُبَير بن مطعم لحسن مَعْرفَته بِمَا تحوي الْآيَة.
2246 - / 2852 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم عَرَفَة وَاقِفًا مَعَ النَّاس بِعَرَفَة، فَقلت: هَذَا وَالله من الحمس، فَمَا شَأْنه هَاهُنَا؟
كَانَت قُرَيْش وَبَنُو كنَانَة يسمون الحمس، لأَنهم تحمسوا فِي دينهم: أَي تشددوا، والحماسة: الشدَّة فِي كل شَيْء، وَكَانُوا يقفون عَشِيَّة عَرَفَة بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَقُولُونَ: نَحن قطن الْبَيْت، وَكَانَ بَقِيَّة الْعَرَب وَالنَّاس يقفون بِعَرَفَات، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} [الْبَقَرَة: 199] ، وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي الْإِسْلَام وَذَاكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهَذَا الرجل إِنَّمَا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَاهِلِيَّة، فَكَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَالف قومه فِي هَذَا مَعَ مَا خَالف.
فَأَما حجَّة الْوَدَاع فَإِنَّهُ لم يكن ثمَّ مُشْرك. وَسَيَأْتِي هَذَا مُبينًا فِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين من مُسْند عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا.(4/45)
2247 - / 2853 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لامْرَأَة: " إِن لم تجديني فَأتي أَبَا بكر ".
وَهَذَا من النُّصُوص الْخفية على خلَافَة أبي بكر.
2248 - / 2854 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي أُسَارَى بدر: " لَو كَانَ الْمطعم بن عدي حَيا ثمَّ كلمني فِي هَؤُلَاءِ النتنى لتركتهم لَهُ ".
النتنى جمع نَتن، كالزمنى جمع زمن. وَإِنَّمَا خص الْمطعم بِهَذَا لِأَنَّهُ لما مَاتَ عَمه أَبُو طَالب وَمَاتَتْ خَدِيجَة خرج إِلَى الطَّائِف وَمَعَهُ زيد بن حَارِثَة، فَأَقَامَ بهَا شهرا ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة فِي جوَار الْمطعم بن عدي، فَأحب مكافأته لَو أمكن.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على جَوَاز إِطْلَاق الْأَسير والمن عَلَيْهِ من غير فدَاء. وَعِنْدنَا أَن الإِمَام مُخَيّر فِي الْأُسَارَى الْبَالِغين، إِن شَاءَ من عَلَيْهِم من غير فدَاء، وَإِن شَاءَ فاداهم، وَإِن شَاءَ قَتلهمْ، أَي ذَلِك كَانَ أصلح وأعز لِلْإِسْلَامِ فعل، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي: إِن شَاءَ قَتلهمْ، وَإِن شَاءَ فاداهم، وَإِن شَاءَ استرقهم، وَلَا يمن عَلَيْهِم بِغَيْر عوض؛ فَإِن ذَلِك تَقْوِيَة للْكفَّار، وَزعم بَعضهم أَن الْمَنّ كَانَ خَاصّا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه دَعْوَى لَا دَلِيل عَلَيْهَا.(4/46)
2249 - / 2855 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: اضطروه إِلَى سَمُرَة فخطفت رِدَاؤُهُ.
السمرَة: شَجَرَة الطلح. والعضاة: شجر من شجر الشوك كالطلح والعوسج.
والاختطاف: الاستلاب بِسُرْعَة.
2250 - / 2856 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: مشيت أَنا وَعُثْمَان بن عَفَّان إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت: يَا رَسُول الله! أَعْطَيْت بني عبد الْمطلب وَتَرَكتنَا، وَنحن وهم مِنْك بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، فَقَالَ: " إِنَّمَا بَنو الْمطلب وَبَنُو هَاشم شَيْء وَاحِد ".
إِنَّمَا مَشى جُبَير وَعُثْمَان لِأَن جبيرا من بني نَوْفَل، وَعُثْمَان من بني عبد شمس، وهما أخوا هَاشم وَالْمطلب، إِلَّا أَن هاشما وَالْمطلب وَعبد شمس أخوة لأَب وَأم، وَنَوْفَل أخوهم لأبيهم لَا لأمهم. وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أعْطى بني هَاشم وَبني الْمطلب من خمس خَيْبَر وَلم يُعْط بني عبد شمس، فَمضى عُثْمَان يطْلب لكَونه من بني عبد شمس، وَمضى جُبَير يطْلب لِأَنَّهُ من بني نَوْفَل، وَقَالا: نَحن وهم مِنْك بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، يعنون أَن الْكل أخوة، فَقَالَ: " إِنَّمَا بَنو الْمطلب وَبَنُو هَاشم شَيْء وَاحِد " أَي حكمهمَا وَاحِد. وَكَانَ يحيى ابْن معِين يرويهِ بِالسِّين الْمُهْملَة فَيَقُول: سي وَاحِد: أَي مثل وَاحِد، يُقَال: هَذَا سي هَذَا، وهما سيان. قَالَ الْخطابِيّ: وَهُوَ أَجود.(4/47)
أما قَوْله: " لم يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّة وَلَا إِسْلَام " سَمِعت شَيخنَا أَبَا الْفضل ابْن نَاصِر يَقُول: بَنو الْمطلب دخلُوا مَعَ بني هَاشم إِلَى الشّعب لما حصرهم الْمُشْركُونَ دون غَيرهم.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِثْبَات سهم ذِي الْقُرْبَى؛ لِأَن عُثْمَان وجبيرا إِنَّمَا طَالبا لقرابتهما.
وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم:
2251 - / 2857 - " لَا حلف فِي الْإِسْلَام، وَأَيّمَا حلف كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة لم يزده الْإِسْلَام إِلَّا شدَّة ".
أصل الْحلف: المعاقدة والمعاهدة على المعاضدة، فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّة على الْقِتَال والغارات فَذَلِك الَّذِي أبْطلهُ الشَّرْع بقوله: " لَا حلف فِي الْإِسْلَام "، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّة على نصر الْمَظْلُوم وصلَة الْأَرْحَام، فَهُوَ الَّذِي لم يزده الْإِسْلَام إِلَّا شدَّة.(4/48)
(97) كشف الْمُشكل من مُسْند الْمسور بن مخرمَة
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة أَحَادِيث.
2252 - / 2858 - فَفِي الحَدِيث الأول: أَن عَليّ بن أبي طَالب خطب بنت أبي جهل.
أما بنت أبي جهل هَذِه فاسمها جوَيْرِية، أسلمت وبايعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخَطَبَهَا عَليّ، فجَاء عمومتها يستأذنون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك فَقَالَ هَذَا الْكَلَام.
وَقَوله: " أَخَاف أَن تفتن " أصل الْفِتْنَة الاختبار والابتلاء، ثمَّ قد يُطلق على الْمخوف من الِابْتِلَاء، فَيُقَال: فتن فلَان فِي دينه: بِمَعْنى وَقع فِيمَا لَا يجوز. وَالضَّمِير الَّذِي ذكره مَا بنى عَلَيْهِ هُوَ أَبُو الْعَاصِ بن الرّبيع زوجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْنَته زَيْنَب.
وَقَوله: " لست أحرم حَلَالا وَلَا أحل حَرَامًا " الْمَعْنى: إِن هَذَا وَإِن جَازَ(4/49)
فَمَا يَقع، وَكَأن قَوْله: وَالله لَا تَجْتَمِع بنت نَبِي الله وَبنت عَدو الله " من جنس قَول أنس بن النَّضر: وَالله لَا يكسر سنّ الرّبيع، وَقَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَو أقسم على الله لَأَبَره ". وَيحْتَمل أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد شَرط على عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام حِين زوجه فَاطِمَة أَلا يتَزَوَّج عَلَيْهَا، وَالشّرط فِي مثل هَذَا صَحِيح، وَلِهَذَا قَالَ: " لَا آذن " وَهَذَا الْوَجْه أولى من الأول، وَيدل عَلَيْهِ أَنه أثنى على أبي الْعَاصِ وشكره. وَجَاء فِي بعض الحَدِيث أَنه قَالَ: " حَدثنِي فوفى لي ".
والبضعة: الْقطعَة من اللَّحْم.
وَقَوله: " يريبني مَا رابها " يُقَال: رَابَنِي الرجل: إِذا استبنت مِنْهُ الرِّيبَة، وأرابنى: إِذا ظَنَنْت بِهِ ذَلِك وَلم تستبنه. قَالَ الشَّاعِر:
(أَخُوك الَّذِي إِن ربته قَالَ إِنَّمَا ... أربت، وَإِن عاتبته لَان جَانِبه)
فَمَعْنَى أربت: ظَنَنْت وَلم تحقق، وَقَالَ الْفراء وَأَبُو عُبَيْدَة: راب وأراب بِمَعْنى.
2253 - / 2859 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: قسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقبية.
القباء فَارسي مُعرب، وَقيل: هُوَ عَرَبِيّ واشتقاقه من القبو وَهُوَ الضَّم(4/50)
وَالْجمع، كَذَلِك قرأته على شَيخنَا أبي مَنْصُور.
2254 - / 2860 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وزمن الْحُدَيْبِيَة.
الْحُدَيْبِيَة مُخَفّفَة، وَرُبمَا شددها من لَا يعرف، وَسميت بذلك لأجل شَجَرَة جدباء كَانَت هُنَاكَ.
والثنية: طَرِيق مُرْتَفع بَين جبلين.
وَقَوله: حل حل: زجر للناقة، يُقَال: حلحلت بِالْإِبِلِ: إِذا زجرتها لتنبعث.
فألحت: أَي لَزِمت مَكَانهَا. يُقَال: تلحلح الرجل: إِذا لزم مَكَانَهُ، وتحلحل عَنهُ: إِذا فَارقه.
وَقَوْلهمْ: خلأت. هُوَ مثل قَوْلهم: حرن الْفرس. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: لَا يكون الخلأ إِلَّا للنوق خَاصَّة.
وَقَوله: " مَا ذَاك لَهَا بِخلق " أَي مَا هُوَ من عَادَتهَا.
وَقَوله: " حَبسهَا حَابِس الْفِيل " يَعْنِي أَن الله تَعَالَى حَبسهَا كَمَا حبس الْفِيل حِين جَاءَ بِهِ أَبْرَهَة الحبشي ليهْدم الْكَعْبَة. وَوجه الْحِكْمَة فِي جَرَيَان(4/51)
الْقدر بذلك أَنه لَو دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة عامئذ لم يُؤمن وُقُوع قتال كثير، وَقد سبق فِي الْعلم الْقَدِيم إِسْلَام جمَاعَة مِنْهُم وَوُجُود ذُرِّيَّة مُسلمين، فحبس عَن ذَلِك كَمَا حبس الْفِيل؛ إِذْ لَو دخل أَصْحَاب الْفِيل مَكَّة قتلوا خلقا، وَقد سبق الْعلم بِإِيمَان قوم، فَلم يكن للفيل عَلَيْهِم سَبِيل، فَمنع سَببه.
وَقَوله: " لَا يَسْأَلُونِي خطة يعظمون فِيهَا حرمات الله إِلَّا أَعطيتهم "، الخطة: الْحَال، قَالَ الزُّهْرِيّ: وَلِهَذَا لما قَالُوا: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن وَلَا نكتب رَسُول الله، وافقهم على مَا أَرَادوا.
والثمد: المَاء الْقَلِيل الَّذِي لَا مَادَّة لَهُ.
ويتبرضه النَّاس: أَي يأخذونه قَلِيلا قَلِيلا.
ونزحوه: أخذُوا جَمِيعه.
وتجيش: تَفُور وترتفع. يُقَال: جَاشَتْ الْقدر: إِذا غلت.
وصدروا: رجعُوا بعد ورودهم.
قَوْله: وَكَانُوا عَيْبَة نصح رَسُول الله: أَي مَوضِع سره وثقته، مُسلم الْقَوْم وكافرهم، لحلف كَانَ بَينهم فِي الْجَاهِلِيَّة.
وتهامة سميت بذلك لشدَّة حرهَا.
وَقَوله: تركت كَعْب بن لؤَي. أَي بني كَعْب بن لؤَي، وَهُوَ من قدماء الأجداد، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ ابْن عبد الله بن الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي. وعامر أَخُو كَعْب.
وَقَوله: نزلُوا أعداد مياه الْحُدَيْبِيَة، الْأَعْدَاد جمع عد: وَهُوَ المَاء الْكثير(4/52)
الجم الَّذِي لَا انْقِطَاع لمادته، كَمَاء الْعين، وَالْمعْنَى نزلُوا على هَذِه الْمِيَاه.
والعوذ المطافيل: قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُرِيد النِّسَاء وَالصبيان. والعوذ جمع عَائِذ: وَهِي النَّاقة إِذا وضعت وَبعدهَا تضع أَيَّامًا حَتَّى يقوى وَلَدهَا قَلِيلا، فَإِذا مَشى فَهُوَ مرشح، فَإِذا تبعها فَهِيَ متلية؛ لِأَنَّهُ يتلوها.
والمطافيل: الأمات، جمع مطفل: وَهِي النَّاقة مَعهَا طفلها، وَإِنَّمَا اسْتعَار ذَلِك. قَالَ ابْن فَارس: كل أُنْثَى إِذا وضعت فَهِيَ سَبْعَة أَيَّام عَائِذ بَيِّنَة العوذ، وَالْجمع عوذ، كَأَنَّهَا تعوذ بِوَلَدِهَا وتشتغل بِهِ.
وَقَوله: قد نهكتهم الْحَرْب. الْهَاء مكسوره، وَالْمعْنَى: أضرت بهم وأثرت فيهم، يُقَال: نهكته الْحمى: إِذا بلغت مِنْهُ وأثرت فِيهِ.
وَقَوله: " فقد جموا " يَعْنِي استراحوا، والجمام: الرَّاحَة بعد التَّعَب.
وَقَوله: " تنفرد سالفتي " السالفة: صفحة الْعُنُق من لدن مُعَلّق القرط، وهما سالفتان عَن يَمِين وشمال، وَإِنَّمَا عَنى الْهَلَاك؛ لِأَن السالفة لَا تنفرد عَمَّا يَليهَا إِلَّا بِالْقَتْلِ.
وَقَوله: استنفرت أهل عكاظ أَي دعوتهم إِلَى الْقِتَال. فَلَمَّا بلحوا عَليّ أَي أَبَوا. وأصل التبليح: الإعياء وَالْعجز، يُقَال: بلح الرجل: إِذا انْقَطع من الإعياء وَعجز عَن الْحَرَكَة، وَقد يُقَال بلح بِالتَّخْفِيفِ.
قَوْله: قد عرض خطة رشد، الخطة: الْحَال، والرشد: الصَّوَاب.
والاستئصال: الإفراط فِي قطع الْأُصُول، وَنَحْوه الاجتياح.(4/53)
وَقَوله: أرى أشوابا، الأشواب والأوشاب والأوباش والأشايب: الأخلاط من النَّاس من قبائل شَتَّى.
وَقَوله: خليقا أَن يَفروا: أَي لَا يبعد ذَلِك مِنْهُم.
وَقَوله: امصص بظر اللات، البظر: مَا تبقيه الخافضة عِنْد الْقطع، وَالْمرَاد شتم آلِهَتهم.
وَقَوله: فَكلما كَلمه أَخذ بلحيته، هَذِه كَانَت عَادَة من عادات الْعَرَب تجْرِي مجْرى الملاطفة، وَلم يَدْفَعهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك حلما عَنهُ واستمالة لَهُ.
ونعل السَّيْف: مَا يكون أَسْفَل القراب من حَدِيد أَو فضَّة، وَإِنَّمَا فعل بِهِ الْمُغيرَة هَذَا لِأَن تِلْكَ الْعَادة كَانَت تجرى بَين النظراء.
وَأما قيام الْمُغيرَة على رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ كَانَ كالحراسة لَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مقَام حَرْب، فَلَا يجوز أَن يُؤْخَذ من هَذَا جَوَاز الْقيام على رَأس الرئيس على وَجه الْكبر؛ فَإِنَّهُ قد نهى عَلَيْهِ السَّلَام عَن ذَلِك بقوله: " من أحب أَن يتَمَثَّل لَهُ الرِّجَال قيَاما فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار ".
قَوْله: أَي غدر، الْغَيْن مَضْمُومَة وَالدَّال مَفْتُوحَة، وَهُوَ نعت للمبالغ فِي الْغدر.
وَقَوله: أَلَسْت أسعى فِي غدرتك؟ ؛ كَانَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة قد خرج مَعَ نفر من بني مَالك إِلَى الْمُقَوْقس وَمَعَ الْقَوْم هَدَايَا، فقبلها مِنْهُم الْمُقَوْقس(4/54)
ووصلهم بجوائز، وَقصر بالمغيرة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْقَوْم، فجلسوا فِي بعض الطَّرِيق يشربون، فَلَمَّا سَكِرُوا وناموا قَتلهمْ الْمُغيرَة جَمِيعًا وَأخذ مَا كَانَ مَعَهم، وَقدم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر: مَا فعل المالكيون الَّذين كَانُوا مَعَك؟ قَالَ: قَتلتهمْ وَجئْت بأسلابهم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليخمسها أَو يرى فِيهَا رَأْيه فَإِنَّمَا هِيَ غنيمَة من الْمُشْركين، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أما إسلامك فنقبله، وَلَا آخذ من أَمْوَالهم شَيْئا وَلَا أخمسه؛ لِأَن هَذَا غدر، والغدر لَا خير فِيهِ ". وَإِنَّمَا امْتنع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَخذ تِلْكَ الْأَمْوَال لِأَن الرفقاء يصطحبون على الْأَمَانَة، وَالْأَمَانَة مُؤَدَّاة إِلَى الْمُسلم وَالْكَافِر، وَبلغ الْخَبَر ثقيفا بِالطَّائِف فتداعوا لِلْقِتَالِ، ثمَّ اصْطَلحُوا على أَن يحمل عَنهُ عُرْوَة بن مَسْعُود - وَهُوَ عَم الْمُغيرَة - ثَلَاثَة عشر دِيَة، فَلذَلِك قَالَ: أَي غدر! أَلَسْت أسعى فِي غدرتك؟ .
وَقَوله: جعل يرمق أَصْحَاب رَسُول الله، أَي يلحظهم كالمسارق للنَّظَر.
وتنخم، من النخامة: وَهُوَ مَا يَأْتِي من أقْصَى الْفَم.
وَقَوله: يعظمون الْبدن: أَي يعظمون مَا أهدي إِلَى الْبَيْت احتراما للبيت.
وَقَوله: " رجل فَاجر "؛ أصل الْفُجُور: الْخُرُوج عَن الْحق.
وَقَوله: " قد سهل لكم من أَمركُم " دَلِيل على اسْتِحْبَاب التفاؤل بِالِاسْمِ الْحسن، وَإِنَّمَا يكره التشاؤم وَهُوَ التطير.(4/55)
وَفِيمَا جرى من موافقتهم فِي كتب مَا أَرَادوا تَعْلِيم لِلْخلقِ حسن المداراة والتلطف، وَلَا يَنْبَغِي أَن تخرج المداراة عَن الشَّرْع؛ فَإِن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا وافقهم إِلَّا فِي جَائِز؛ لِأَن قَوْله: " بِاسْمِك اللَّهُمَّ " يتَضَمَّن معنى بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَنسبه إِلَى أَبِيه لَا يُخرجهُ عَن النُّبُوَّة.
وَأما قَول سُهَيْل: أما الرَّحْمَن فوَاللَّه مَا أَدْرِي مَا هُوَ. فَإِنَّهُم كَانُوا يعْرفُونَ الرَّحْمَن، إِلَّا أَنه قَلِيل فِي لغتهم، قَالَ ثَعْلَب: هُوَ اسْم عبراني. قَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: يذهب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أَن الرَّحْمَن اتّفقت فِيهِ لُغَة الْعَرَب ولغة الْعَجم، وَقد كَانَت الْعَرَب تعرف الرَّحْمَن فِي الْجَاهِلِيَّة، قَالَ بَعضهم:
(أَلا ضربت تِلْكَ الفتاة هجينها ... أَلا قضب الرَّحْمَن رَبِّي يَمِينهَا)
وَقَالَ سَلامَة بن جندل:
( ... ... ... ... ... ... ... . . ... وَمَا يَشَأْ الرَّحْمَن يعْقد وَيُطلق)
وَقَوله: هَذَا مَا قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّد؛ أَي فصل الحكم عَلَيْهِ. قَالَ الزّجاج: الْقَضَاء فِي اللُّغَة على ضروب، مرجعها إِلَى انْقِطَاع الشَّيْء وَتَمَامه.
وَقَوله: أَخذنَا ضغطة، الضغظة: الْقَهْر والتضييق.(4/56)
وَقد ذكرنَا قصَّة أبي جندل فِي مُسْند سهل بن حنيف.
والرسف: مشي الْمُقَيد.
وَقَوله: فَأَجره لي. هَكَذَا ضَبطه الْحميدِي بالراء. وَالزَّاي أليق.
وَأما غضب عمر ومراجعته، وتسكين أبي بكر فورة عمر، فَذَلِك دَلِيل على أَن أَبَا بكر أعلم النَّاس برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأعرفهم ببواطن أُمُوره، وَإِن كَانَ عمر إِنَّمَا سَأَلَ لكشف الشُّبْهَة وتعرف أوجه الْحِكْمَة، لَا على وَجه الِاعْتِرَاض على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وجرأه على ذَلِك حرصه على ظُهُور الدّين وعزه، كَمَا اجترأ يَوْم الصَّلَاة على ابْن أبي.
وَقَوله: لم نعطى الدنية؟ يَعْنِي: الدون.
وَقَول أبي بكر: استمسك بغرزه. الغرز للرحل بِمَنْزِلَة الركاب من السرج.
قَول عمر: فَعمِلت لذَلِك أعمالا، كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَنه اسْتغْفر مِمَّا فعل وَاعْتذر.
وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه: " قومُوا فَانْحَرُوا واحلقوا " دَلِيل على أَن من أحرم بِحَجّ أَو عمْرَة ثمَّ أحْصر فَإِنَّهُ ينْحَر الْهَدْي مَكَانَهُ وَيحل وَإِن لم يكن هَدْيه قد بلغ الْحرم.
وَأما توقف الصَّحَابَة وَهُوَ يَأْمُرهُم فَلَا يَخْلُو من ثَلَاثَة أَشْيَاء: إِمَّا أَن(4/57)
يَكُونُوا ظنُّوا أَنه يَأْمُرهُم بِالرُّخْصَةِ وَيلْزم هُوَ الْعَزِيمَة من بَقَائِهِ على الْإِحْرَام، فأحبوا مُوَافَقَته، أَو أَن يكون لرجاء أَن يَأْتِي الْوَحْي بِأَمْر يتمم لَهُم نسكهم، أَو أَن يَكُونُوا بهتُوا لذَلِك مفكرين فِيمَا قد لحقهم من الذل مَعَ بذل النُّفُوس لإعزاز الدّين.
وَأما مُشَاورَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم سَلمَة وَقبُول قَوْلهَا فَفِيهِ دَلِيل على جَوَاز الْعَمَل بمشاورة النِّسَاء، ووهن لما يُقَال: شاوروهن وخالفوهن.
وَقَوله: {إِذا جَاءَكُم الْمُؤْمِنَات مهاجرات} [الممتحنة: 10] ، لما وَقع الصُّلْح وَشرط فِيهِ رد من جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَجَاء أَبُو جندل فَرده على مَا شرحنا فِي مُسْند سهل بن حنيف، فَجَاءَت أم كُلْثُوم بنت عقبَة ابْن أبي معيط، فَخرج فِي أَثَرهَا أَخَوَاهَا الْوَلِيد وَعمارَة ابْنا عقبَة فَقَالَا: يَا مُحَمَّد، ف لنا بشرطنا. فَقَالَت أم كُلْثُوم: يَا رَسُول الله {أَنا امْرَأَة، وَحَال النِّسَاء إِلَى الضعْف مَا قد علمت، فتردني إِلَى الْكفَّار يفتنونني وَلَا صَبر لي} فنقض الله الْعَهْد فِي النِّسَاء وَأنزل فِيهِنَّ هَذِه الْآيَة، وَحكم بِحكم رضوه كلهم.
والامتحان أَن يَقُول: وَالله مَا أخرجكن إِلَّا حب الله وَرَسُوله، وَمَا خرجتن لزوج وَلَا مَال، فَإِذا قُلْنَ ذَلِك تركن فَلم يرددن.
وَالْمَشْهُور أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أم كُلْثُوم. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا فِي سبيعة بنت الْحَارِث، وَقيل: فِي أُمَيْمَة بنت بشر. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل دخل رد النِّسَاء فِي عقد الْهُدْنَة لفظا أَو عُمُوما؟(4/58)
فَقَالَت طَائِفَة: كَانَ شَرط ردهن فِي عقد الْهُدْنَة لفظا صَرِيحًا، فنسخ الله تَعَالَى ردهن من العقد، وَمنع مِنْهُ وأبقاه فِي الرِّجَال على مَا كَانَ. وَهَذَا يدل على أَن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يجْتَهد بِرَأْيهِ فِي الْأَحْكَام، وَلَكِن الله عز وَجل لَا يقره على خطأ. وَقَالَت طَائِفَة: لم يشرط ردهن فِي العقد لفظا صَرِيحًا وَإِنَّمَا أطلق العقد، فَكَانَ ظَاهر الْعُمُوم اشتماله عَلَيْهِنَّ مَعَ الرِّجَال؛ لأَنهم قَالُوا: لَا يَأْتِيك منا أحد، فَبين الله عز وَجل خروجهن من عُمُوم اللَّفْظ، وَفرق بَينهُنَّ وَبَين الرِّجَال لأمرين: أَحدهمَا: أَنَّهُنَّ ذَوَات فروج فحرمن عَلَيْهِم. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ أرق قلوبا وأسرع تقلبا. فَأَما المقيمة على شركها فمردودة عَلَيْهِم.
وَقَوله: {الله أعلم بإيمانهن} أَي إِن هَذَا الامتحان لكم وَالله أعلم بِهن. {فَإِن علمتموهن مؤمنات} وَذَلِكَ بإقرارهن.
وَقَوله: {وَآتُوهُمْ} يَعْنِي أَزوَاجهم الْكفَّار {مَا أَنْفقُوا} يَعْنِي الْمهْر. وَهَذَا إِذا تزَوجهَا مُسلم، وَإِن لم يَتَزَوَّجهَا أحد فَلَيْسَ لزَوجهَا شَيْء، وَهَذَا مِمَّا نسخ.
وَقَوله: {إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورهنَّ} يَعْنِي المهور.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الحربية إِذا هَاجَرت بعد دُخُول زَوجهَا بهَا: فمذهب الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل أَن الْفرْقَة تقف على انْقِضَاء عدتهَا، فَإِن أسلم الزَّوْج قبل انْقِضَاء عدتهَا فَهِيَ امْرَأَته. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تقع الْفرْقَة باخْتلَاف الدَّاريْنِ.
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تمسكوا بعصم الكوافر} ؛ عصمتهن: عقد نِكَاحهنَّ، وَالْمرَاد نهي الْمُؤمنِينَ عَن الْمقَام على نِكَاح الكوافر؛ لِأَن(4/59)
عصمتهن قد انْقَطَعت.
قَالَ الزّجاج: وأصل الْعِصْمَة الْحَبل، وَالْمعْنَى قد انبت عقد النِّكَاح.
وَقَوله تَعَالَى: {واسألوا مَا أنفقتم} أَي إِن لحقت امْرَأَة مِنْكُم بِأَهْل الْعَهْد من الْكفَّار مرتدة فسلوهم مهرهَا إِذا لم يدفعوها إِلَيْكُم. {وليسألوا} يَعْنِي الْمُشْركين الَّذين لحقت أَزوَاجهم بكم مؤمنات، ليطلبوا مهورهن مِمَّن يتزوجهن مِنْكُم. وَالْمعْنَى: عَلَيْكُم أَن تغرموا الْمهْر كَمَا يغرمون لكم.
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن فاتكم شَيْء من أزواجكم إِلَى الْكفَّار فعاقبتم} أَي أصبتموهم بعقوبة حَتَّى غَنِمْتُم. وَقَالَ الزّجاج: كَانَت العقبى لكم بِأَن غلبتم {فآتوا الَّذين ذهبت أَزوَاجهم} أَي أعْطوا الْأزْوَاج من رَأس الْغَنِيمَة مَا أَنْفقُوا، وَهُوَ الْمهْر.
وَاعْلَم أَن هَذِه الْأَحْكَام من أَدَاء الْمهْر، وَأَخذه من الْكفَّار، وتعويض الزَّوْج من الْغَنِيمَة، كل ذَلِك مَنْسُوخ بِآيَة السَّيْف، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي زمَان الْهُدْنَة.
وَأما أَبُو بَصِير فاسمه عتبَة بن أسيد بن جَارِيَة، أسلم بِمَكَّة قَدِيما، فحبسه الْمُشْركُونَ عَن الْهِجْرَة، وَذَلِكَ قبل عَام الْحُدَيْبِيَة، فَلَمَّا نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحُدَيْبِيَة وقاضى قُريْشًا على مَا قاضاهم عَلَيْهِ وَقدم الْمَدِينَة أفلت أَبُو بَصِير من قومه، فَسَار على قَدَمَيْهِ سبعا حَتَّى أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،(4/60)
فَكتب الْأَخْنَس بن شريق وأزهر بن عبد عَوْف إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتابا، فِيهِ أَن يردهُ إِلَيْهِم على مَا اصْطَلحُوا عَلَيْهِ، وبعثاه مَعَ خُنَيْس بن جَابر، فَخرج خُنَيْس وَمَعَهُ مَوْلَاهُ كوثر، فَدفعهُ إِلَيْهِمَا فَخَرَجَا بِهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِذِي الحليفة عدا أَبُو بَصِير على خُنَيْس فَقتله، وهرب كوثر حَتَّى قدم الْمَدِينَة، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرجع أَبُو بَصِير فَقَالَ: وفت ذِمَّتك يَا رَسُول الله، دفعتني إِلَيْهِم فَخَشِيت أَن يفتنوني عَن ديني فامتنعت، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكوثر: " خُذْهُ فَاذْهَبْ بِهِ " فَقَالَ: أَخَاف أَن يقتلني، فَتَركه وَرجع إِلَى مَكَّة، فَأخْبر قُريْشًا، وَخرج أَبُو بَصِير إِلَى الْعيص فَنزل نَاحيَة على طَرِيق عير قُرَيْش إِلَى الشَّام، فَجعل من بِمَكَّة من المحبوسين يَتَسَلَّلُونَ إِلَى أبي بَصِير، فَاجْتمع عِنْده مِنْهُم قريب من سبعين، مِنْهُم أَبُو جندل والوليد ابْن الْوَلِيد، فَجعلُوا لَا يظفرون بِأحد من قُرَيْش إِلَّا قَتَلُوهُ، وَلَا بعير لَهُم إِلَّا اقتطعوها، وكتبت قُرَيْش إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسألونه بأرحامهم إِلَّا أَدخل أَبَا بَصِير وَأَصْحَابه إِلَيْهِ فَلَا حَاجَة لنا بهم، فَكتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أبي بَصِير أَن يقدم عَلَيْهِ مَعَ أَصْحَابه، فَجَاءَهُ الْكتاب وَهُوَ يَمُوت، فَجعل يقرأه ويقبله ويضعه على عَيْنَيْهِ، فَمَاتَ وَهُوَ فِي يَده، فَغسله أَصْحَابه وصلوا عَلَيْهِ ودفنوه هُنَاكَ، ثمَّ قدمُوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخبروه، فترحم عَلَيْهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ حسن أَن يرد مُسلما إِلَى الْكفَّار؟ فَالْجَوَاب: أَن أَبَا بَصِير هَذَا كَانَت لَهُ عشيرة وموال يَذبُّونَ عَنهُ، ثمَّ غَايَة مَا يحملونه عَلَيْهِ التَّكَلُّم بالْكفْر، وَذَلِكَ جَائِز على جِهَة التقية على مَا بَينا فِي قصَّة أبي جندل فِي مُسْند سهل بن حنيف.(4/61)
وَقَوله: " ويل أمه، مسعر حَرْب "؛ ويل أمه كلمة تعجب، يصفه بالإقدام، والمسعر: الموقد، فَالْمَعْنى أَنه موقد حَرْب. يُقَال: سعرت النَّار وأسعرتها فَهِيَ مسعرة ومسعورة. والمسعر: الْخشب الَّذِي تسعر بِهِ النَّار: أَي توقد.
وَسيف الْبَحْر: ساحله.
والعصابة: الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ لَهَا وَاحِد من ألفاظها. وَأما الْعصبَة فنحو الْعشْرَة، وَقيل: هِيَ الْعشْرَة إِلَى الْأَرْبَعين، وَجَمعهَا عصب.
وَقَوله: طلق عمر امْرَأتَيْنِ، كَانَ عمر قد تزوج فِي الشّرك قريبَة بنت أبي أُميَّة، وَأم كُلْثُوم بنت جَرْوَل، وَكَانَت قد ولدت لعمر زيدا وَهُوَ الْأَصْغَر، وَعبيد الله.
وَقَوله: وَهِي عاتق، العاتق من الْجَوَارِي الَّتِي تحدر حِين تدْرك.
والأحابيش: الْجَمَاعَات المجتمعون من قبائل شَتَّى، والتحبش: التجمع.
2255 - / 2861 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " حَتَّى يرفع إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمركُم ".
العرفاء جمع عريف، والعريف: الَّذِي يتعرف أَحْوَال الْقَوْم وأمورهم كالنقيب.
2256 - / 2862 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِن سبيعة نفست ".(4/62)
أَي ولدت. يُقَال: نفست الْمَرْأَة ونفست بِضَم النُّون وَفتحهَا: إِذا ولدت، فإمَّا إِذا حَاضَت فبفتح النُّون.(4/63)
(98) كشف الْمُشكل من مُسْند حَكِيم بن حزَام
أسلم يَوْم الْفَتْح، وَكَانَ يبكي على تَأَخّر إِسْلَامه وَيَقُول: مَا أهلكنا إِلَّا الِاقْتِدَاء بِآبَائِنَا وكبرائنا.
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة.
2257 - / 2865 - وَفِي الحَدِيث الأول: " إِن هَذَا المَال خضر حُلْو ".
كل غض ناعم خضر، وَأَصله من خضرَة الشَّجَرَة
وَقَوله: " فَمن أَخذه بسخاوة نفس " أَي بِلَا شَره وَلَا إلحاح، وَقل من يَأْخُذ الشَّيْء بشره إِلَّا وَيَأْخُذهُ بِغَيْر حَقه وَمن غير وَجهه.
وَقَوله: " بإشراف نفس " أَي بتطلع إِلَيْهِ وحرص عَلَيْهِ وطمع فِيهِ.
وَقَوله: " الْيَد الْعليا " قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: " لَا أرزأ أحدا بعْدك " أَي لَا أُصِيب مِنْهُ شَيْئا. يُقَال: فلَان كريم مرزأ: أَي يُصِيب النَّاس من رفده وعطائه. وأصل الرزء النُّقْصَان، وَسميت الْمُصِيبَة رزءا لِأَنَّهَا نقص من المَال والأحباب.(4/64)
وَقد كَانَ حَكِيم بن حزَام يعد من الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم، ثمَّ اسْتَقر الْإِيمَان فِي قلبه فَصَارَ أثبت من الْجبَال، فَكَانَ لَا يَأْخُذ حَقه من بَيت المَال، لَا من أبي بكر وَلَا من عمر.
2258 - / 2866 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: يَا رَسُول الله! أَرَأَيْت أمورا كنت أتحنث بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة من صَلَاة وعتاقة وَصدقَة، هَل لي فِيهَا أجر؟ فَقَالَ: " أسلمت على مَا سلف لَك من خير ".
أتحنث بِمَعْنى أَتَعبد وأقصد الْبر. وَكَانَ حَكِيم بن حزَام قد أعتق مائَة رَقَبَة فِي الْجَاهِلِيَّة، وَحمل على مائَة بعير، ونرى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورى عَن جَوَابه، فَإِنَّهُ سَأَلَهُ: هَل لي فِيهَا أجر؟ يُرِيد ثَوَاب الْآخِرَة، وَمَعْلُوم أَنه لَا ثَوَاب فِي الْآخِرَة لفعل كَافِر، فَقَالَ لَهُ: " أسلمت على مَا سلف لَك من خير " فالعتق فعل خير، وَقد قَالَ شُعَيْب لِقَوْمِهِ " {إِنِّي أَرَاكُم بِخَير} [هود: 84] يُشِير إِلَى رخص الأسعار، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّك قد فعلت خيرا، وَالْخَيْر يمدح فَاعله، وَقد يجازى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. وَقد سبق فِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " أما الْكَافِر فيطعم بحسناته فِي الدُّنْيَا، فَإِذا لَقِي الله عز وَجل لم يكن لَهُ حَسَنَة يعْطى بهَا خيرا ". وَقد يدْفع عَن الْكَافِر بعض الْعَذَاب، كَمَا دفع عَن أبي طَالب فَكَانَ أخف أهل النَّار عذَابا، وَقد أجَاب أَبُو سُلَيْمَان البستي بِجَوَاب آخر فَقَالَ: قد رُوِيَ أَن حَسَنَات الْكَافِر إِذا ختم لَهُ بِالْإِسْلَامِ(4/65)
مَقْبُولَة ومحتسبة لَهُ، فَإِن مَاتَ على كفره كَانَ هدرا، وَإِن صَحَّ هَذَا كَانَ الْمَعْنى: أسلمت على قبُول مَا لَك من خير.
2259 - / 2867 - والْحَدِيث الثَّالِث: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
2260 - / 2868 - وَالرَّابِع: بعضه فِي مُسْند ابْن عمر، وَبَعضه فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.(4/66)
(99) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن مَالك
هَذَا الرجل يعرف بِأُمِّهِ بُحَيْنَة، وَلَا يكَاد ينْسب إِلَى أَبِيه مَالك، وَقد كتب الْحميدِي فِي كتاب " الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ " عبد الله بن مَالك، ابْن بُحَيْنَة، فَرُبمَا ظن من لَا خبر لَهُ بِعلم النَّقْل أَن بُحَيْنَة اسْم جده أَو جدته، وَإِنَّمَا ذكر أَبوهُ وَعرف باسم أمه. وَقد بَينا فِيمَا سبق مثل هَذَا فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِنَّهُ يُقَال فِيمَا يرويهِ ابْنه مُحَمَّد: مُحَمَّد بن عَليّ، ابْن الْحَنَفِيَّة. وَكَذَلِكَ يُقَال: عبد الله بن أبي، ابْن سلول، وسلول أمه. وَقد ذكرنَا هَذَا ليعرف.
وَجُمْلَة مَا روى ابْن بُحَيْنَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة.
2261 - / 2869 - فَفِي الحَدِيث الأول: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد للسَّهْو قبل السَّلَام.
وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي هَذَا فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
2262 - / 2870 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم(4/67)
وَهُوَ محرم بِلحي جمل فِي وسط رَأسه.
قد تكلمنا فِي حجامة الْمحرم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
ولحي جمل: اسْم مَوضِع فِي طَرِيق مَكَّة.
2263 - / 2871 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كَانَ إِذا صلى فرج بَين يَدَيْهِ حَتَّى يرى بَيَاض إبطَيْهِ. وَفِي رِوَايَة: كَانَ إِذا سجد يجنح فِي سُجُوده حَتَّى يرى وضح إبطَيْهِ.
قَوْله: فرج بَين يَدَيْهِ: أَي فِي السُّجُود. وَالْمعْنَى أَنه يبعد عضديه عَن جَنْبَيْهِ، وَهَذَا معنى يجنح. قَالَ الْفراء: جنَاح الرجل: عضده وإبطه، وَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: الْعَرَب تستعير الْجنَاح فتسمي بِهِ مَا بَين الْإِبِط والعضد من الْإِنْسَان.
والوضح: الْبيَاض.
2264 - / 2872 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا وَقد أُقِيمَت الصَّلَاة يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاث بِهِ النَّاس، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " آلصبح أَرْبعا؟ آلصبح أَرْبعا؟ " وَفِي لفظ: " يُوشك أَن يُصَلِّي أحدكُم الصُّبْح أَرْبعا ".
لاث بِهِ النَّاس: أحاطوا بِهِ واجتمعوا.(4/68)
وَقَوله: يُوشك. الوشك: الْقرب.
وَقد ذكرنَا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة أَن من سمع الْإِقَامَة فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يتشاغل إِلَّا بالمكتوبة، وحكينا أَن أَبَا حنيفَة قَالَ: إِذا كَانَ خَارج الْمَسْجِد وَعلم أَنه يدْرك الرُّكُوع فِي الثَّانِيَة جَازَ لَهُ أَن يُصَلِّي رَكْعَتي الْفجْر.(4/69)
(100) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي وَاقد اللَّيْثِيّ
وَقد اخْتلفُوا فِي اسْمه وَاسم أَبِيه، فَقَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: الْحَارِث بن عَوْف. وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: الْحَارِث بن مَالك، وَقَالَ غَيرهمَا: عَوْف بن الْحَارِث. أسلم قَدِيما، وَكَانَ يحمل لِوَاء بني لَيْث وضمرة وَسعد بن بكر يَوْم الْفَتْح، وَقد ذكر الْحميدِي أَنه شهد بَدْرًا، وَهَذَا غلط؛ لإنه مَا ذكره أحد فِي أهل بدر، وَقد ذكره مُحَمَّد بن سعد فِي الطَّبَقَة الثَّالِثَة من الصَّحَابَة مِمَّن شهد الخَنْدَق وَمَا بعْدهَا.
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
2265 - / 2873 - فَفِي الحَدِيث الأول: " أما أَحدهمَا فأوى إِلَى الله ".
أَي رَجَعَ وَانْصَرف. يُقَال: أَوَى فلَان أويا، وآويته أَنا أؤويه إيواء: إِذا ضممته وَجعلت لَهُ مأوى. وَتقول: أويت إِلَى الْمنزل: إِذا رجعت.(4/70)
2266 - / 2874 - وَقد تكلمنا على الحَدِيث الثَّانِي فِي مُسْند النُّعْمَان بن بشير.(4/71)
(101) كشف الْمُشكل من مُسْند الْمسيب بن حزن
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة.
2267 - / 2875 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أَن أَبَا طَالب لما حَضرته الْوَفَاة جَاءَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ عِنْده أَبَا جهل وَعبد الله بن أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة، فَقَالَ: " أَي عَم، قل: لَا إِلَه إِلَّا الله، كلمة احاج لَك بهَا عِنْد الله " فَقَالَ أَبُو جهل وَعبد الله بن أُميَّة: أترغب عَن مِلَّة عبد الْمطلب؟ فَلم يزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعرضهَا عَلَيْهِ ويعودان لتِلْك الْمقَالة حَتَّى قَالَ أَبُو طَالب آخر مَا كَلمهمْ بِهِ: أَنا على مِلَّة عبد الْمطلب.
عبد الله بن أبي أُميَّة. وَاسم أبي أُميَّة سُهَيْل، ويلقب زَاد الرَّاكِب، كَانَ إِذا سَافر مَعَه قوم أنْفق عَلَيْهِم، وَهُوَ سُهَيْل بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم، وَأمه عَاتِكَة بنت عبد الْمطلب بن هَاشم، وَعبد الله أَخُو أم سَلمَة زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ أَشد النَّاس عَدَاوَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لأبي طَالب: أترغب عَن مِلَّة عبد الْمطلب؟ فَلَمَّا كَانَت عمْرَة الْقَضِيَّة وَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة خرج هُوَ من مَكَّة حَتَّى كَانَ على عشرَة أَمْيَال من مَكَّة، وَجعل يستخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأخْبر أَنه فِي(4/72)
عز وَقُوَّة، فَوَقع فِي قلبه الْإِسْلَام، فلقي أَبَا سُفْيَان بن الْحَارِث وَقد وَقع الْإِسْلَام فِي قلب أبي سُفْيَان أَيْضا، فَخَرَجَا فلقيا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا بَين السقيا وَالْعَرج، فطلبا الدُّخُول عَلَيْهِ فَأبى، فكلمته أم سَلمَة وَقَالَت: يَا رَسُول الله! صهرك وَابْن عَمَّتك، وَابْن عمك وأخوك من الرضَاعَة - تَعْنِي أَبَا سُفْيَان، وَقد جَاءَ الله بهما مُسلمين، لَا يَكُونَا أَشْقَى النَّاس بك. فَقَالَ: " لَا حَاجَة لي بهما " فَقَالَت: قد عَفَوْت عَن أعظم جرما. فرق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهما، فَأَسْلمَا وشهدا مَعَه الْفَتْح وحنينا والطائف، وَرمي عبد الله من حصن الطَّائِف فَقتل شَهِيدا.
2268 - / 2876 - الحَدِيث الثَّانِي: عَن الْمسيب أَنه كَانَ مِمَّن بَايع تَحت الشَّجَرَة، قَالَ: فرجعنا إِلَيْهَا الْعَام الْمقبل فعميت علينا.
وَالْمعْنَى: عمينا عَنْهَا، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {فعميت عَلَيْكُم} [هود: 28] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال عمي عَليّ هَذَا الْأَمر: إِذا لم أفهمهُ، وعميت عَنهُ بِمَعْنى، وَقَالَ الْفراء: هَذَا مِمَّا حولت الْعَرَب الْفِعْل إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الأَصْل لغيره، كَقَوْلِهِم: دخل الْخَاتم فِي يَدي، والخف فِي رجْلي، وَإِنَّمَا الإصبع يدْخل فِي الْخَاتم وَالرجل فِي الْخُف، واستجازوا ذَلِك إِذا كَانَ الْمَعْنى مَعْرُوفا.(4/73)
2269 - / 2877 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ:
مَا اسْمك؟ قَالَ: حزن. قَالَ: " بل أَنْت سهل "، قَالَ سعيد: فَمَا زَالَت فِينَا الحزونة بعد.
الْحزن: مَا غلظ من الأَرْض، وَيُقَال: فِي خلق فلَان حزونة: أَي غلظة وقساوة. وَكَأن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كره الِاسْم لهَذَا الْمَعْنى فأبدله بضده تفاؤلا، فَأبى الرجل.(4/74)
(102) كشف الْمُشكل من مُسْند سُفْيَان بن أبي زُهَيْر
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
2270 - / 2878 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " يَأْتِي قوم يبسون ".
هَذَا كِنَايَة عَن الرحيل والانتقال. والبس: زجر الْإِبِل واستحثاثها فِي السّير، يُقَال: بسست وأبسست.
2271 - / 2879 - والْحَدِيث الثَّانِي: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.(4/75)
(103) كشف الْمُشكل من مُسْند الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ
أسلم قَدِيما، وولاه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَحْرين، وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
2272 - / 2880 - وَفِيه: " يُقيم المُهَاجر بِمَكَّة بعد قَضَاء نُسكه ثَلَاثًا ".
اعْلَم أَنه كَانَ يكره لِلْمُهَاجِرِ من مَكَّة أَن يعود فيقيم بهَا؛ لِأَنَّهُ كالرجوع فِيمَا ترك، ورثى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسعد بن خَوْلَة لكَونه مَاتَ بِمَكَّة، فَجعل لِلْمُهَاجِرِ أَن يُقيم بعد النّسك ثَلَاثًا ثمَّ يخرج لتتحقق هجرته.
وَقد كَانَ جمَاعَة من الصَّحَابَة يرَوْنَ أَن هَذَا كَانَ فِي بداية الْإِسْلَام، فَلَمَّا صَارَت دَار إِسْلَام واستقرت الْقَوَاعِد كَانَ ابْن عمر وَجَابِر يجاوران بهَا، وَقد توطنها خلق كثير من الصَّحَابَة، وَقد ذكرتهم فِي كتاب " مَكَّة " وعَلى اسْتِحْبَاب الْمُجَاورَة بهَا أَكثر الْفُقَهَاء، مِنْهُم أَحْمد بن حَنْبَل. وَقد كره الْمُجَاورَة بهَا أَبُو حنيفَة، وَقد علل بعض أَصْحَابه بخوف الْملَل، وَقلة الاحترام لمداومة الْأنس بِالْمَكَانِ، وَخَوف ارْتِكَاب الذُّنُوب، وَهَذَا يُقَابله فضل الْمَكَان وَفضل الْعِبَادَة فِيهِ.(4/76)
والنسك: التَّعَبُّد، والمناسك: المتعبدات.
والصدر: الرُّجُوع بعد الْوُرُود، يُقَال: صدر الْقَوْم عَن الْمَكَان: أَي رجعُوا عَنهُ.(4/77)
(104) كشف الْمُشكل من مُسْند الصعب بن جثامة
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
2273 - / 2881 - فَالْأول: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2274 - / 2882 - وَفِي الثَّانِي: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أهل الدَّار يبيتُونَ فتصاب ذَرَارِيهمْ، فَقَالَ: " هم مِنْهُم ".
البيات: قصد الْعَدو لَيْلًا. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَجَاءَهَا بأسنا بياتا} [الْأَعْرَاف: 4] .
وَقَوله: " هم مِنْهُم " أَي فِي حكم الدّين وَإِبَاحَة الدَّم، وَلم يرد قَتلهمْ ابْتِدَاء، وَلَكِن إِذا لم يُوصل إِلَى أُولَئِكَ إِلَّا بهؤلاء لم يكن فِي قَتلهمْ إِثْم.
وَقَوله: " لَا حمى إِلَّا لله وَلِرَسُولِهِ "؛ الْحمى: هُوَ الْمَمْنُوع، يُقَال: حميت كَذَا أحميه: إِذا منعته. قَالَ الشَّافِعِي: كَانَ الشريف فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا نزل بَلَدا فِي حيه استعوى كَلْبا، ووقف من يسمع صَوته، فحمى مدى عواء الْكَلْب لَا يشركهُ فِيهِ غَيره، وَهُوَ يُشَارك الْقَوْم فِي سَائِر مَا(4/78)
يدعونَ، فَنهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك.
فَإِن قَالَ قَائِل: فقد حمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لإبل الصَّدَقَة وضعاف الْخَيل. قَالَ الزُّهْرِيّ: حمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النقيع، وَهُوَ مَوضِع مَعْرُوف بِالْمَدِينَةِ تستنقع فِيهِ الْمِيَاه وينبت الْكلأ. وَقد حمى عمر بن الْخطاب الربذَة وسرف. قُلْنَا: إِنَّمَا أبطل مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة؛ لأَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِمُقْتَضى الْغَلَبَة والهوى، وَمَا يفعل فِي الْإِسْلَام على خلاف ذَلِك. وَمعنى قَوْله: " لَا حمى إِلَّا لله وَلِرَسُولِهِ " أَي: إِلَّا على الْوَجْه الَّذِي أذن الله فِيهِ وَرَسُوله، وَذَلِكَ على قدر الْحَاجة والمصلحة، وَإِنَّمَا حمى عمر لإبل الصَّدَقَة وَالْخَيْل الْمعدة فِي سَبِيل الله عز وَجل، وَللْإِمَام أَن يحمي على وَجه النّظر فِي تَقْوِيَة الْخَيل والكراع مَا لم يضق على الْعَامَّة المرعى.(4/79)
(105) كشف الْمُشكل من مُسْند السَّائِب بن يزِيد، ابْن أُخْت نمر
ذكر أَبُو بكر الْخَطِيب عَن أبي الْحسن الْمَدَائِنِي أَنه قَالَ: أُخْت نمر اسْم جده، وَهُوَ رجل وَلَيْسَ بِامْرَأَة.
وَقد أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة أَحَادِيث.
2275 - / 2883 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: ذهبت بِي خَالَتِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: إِن ابْن أُخْتِي وجع. وَفِي رِوَايَة: وَقع. فَنَظَرت إِلَى خَاتمه بَين كَتفيهِ مثل زر الحجلة.
الحجلة: بَيت كالقبة يستر بالثياب، وَيجْعَل لَهُ بَاب من جنسه فِيهِ زر وَعُرْوَة يشد إِذا أغلق. وَوَقع مثل وجع.
2276 - / 2884 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
حج بِي فِي ثقل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(4/80)
الثّقل: الرحل وَالْمَتَاع وَمَا ينْقل من القماش، وَجمعه أثقال، وَفِيه دَلِيل على صِحَة حج الصَّبِي.
2277 - / 2885 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن عُثْمَان زَاد النداء الثَّالِث.
النداء الثَّالِث الَّذِي زَاد عُثْمَان هُوَ الأول الْيَوْم، وَإِنَّمَا كَانُوا يُؤذنُونَ إِذا صعد الْخَطِيب الْمِنْبَر. وَالْإِقَامَة تسمى نِدَاء أَيْضا، فَزَاد الأول، فَأذن قبل صُعُوده الْمِنْبَر.
والزوراء: مَوضِع بِالْمَدِينَةِ.
وَقَوله: لم يكن لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مُؤذن وَاحِد؛ يَعْنِي يَوْم الْجُمُعَة لم يُؤذن لَهُ إِلَّا مرّة. وَقد كَانَ فِي غير الْجُمُعَة يُؤذن بِلَال وَابْن أم مَكْتُوم وَأَبُو مَحْذُورَة.
2278 - / 2886 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: خرجت مَعَ الغلمان إِلَى ثنية الْوَدَاع.
الثَّنية: طَرِيق مُرْتَفع بَين جبلين، وَالْإِشَارَة إِلَى مَوضِع بِالْمَدِينَةِ.
2279 - / 2887 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: جلد عمر أَرْبَعِينَ حَتَّى إِذا عتوا وفسقوا جلد ثَمَانِينَ.
العتو: الْمُبَالغَة فِي ركُوب الْمعاصِي. والعاتي: هُوَ الَّذِي لَا يُؤثر عِنْده(4/81)
الْوَعْظ والزجر.
وَالْفِسْق: الْخُرُوج عَن الطَّاعَة. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: وَلم يسمع فِي كَلَام الْجَاهِلِيَّة لَا فِي شعر وَلَا فِي كَلَام: فَاسق، وَهَذَا عجب وَهُوَ كَلَام عَرَبِيّ، وَلم يَأْتِ فِي شعر جاهلي.(4/82)
(106) كشف الْمُشكل من مُسْند عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
2280 - / 2888 - فَفِي الحَدِيث الأول: أَنه رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحتز من كتف شَاة فِي يَده فدعي إِلَى الصَّلَاة، فَألْقى السكين وَصلى وَلم يتَوَضَّأ.
أصل الحز الْقطع، وَقد يكون بَائِنا وَغير بَائِن، وَقد كَانُوا يقطعون اللَّحْم بالسكين.
وَفِي هَذَا الحَدِيث ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار.
2281 - / 2889 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمسح على عمَامَته وخفيه.
أما جَوَاز الْمسْح على الْعِمَامَة فَهُوَ مَذْهَب الْحسن الْبَصْرِيّ وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَحَكِيم بن جَابر فِي آخَرين، وَبِه يَقُول أَحْمد بن حَنْبَل خلافًا(4/83)
لأكْثر الْعلمَاء فِي قَوْلهم: لَا يجوز.
وَمن شُرُوط جَوَاز الْمسْح على الْعِمَامَة أَن تكون تَحت الحنك، ساترة لجَمِيع الرَّأْس، إِلَّا مَا جرت الْعَادة بكشفه، كمقدم الرَّأْس والأذنين. فَإِن لم تكن تَحت الحنك بل كَانَت مُدَوَّرَة لَا ذؤابة لَهَا لم يجز الْمسْح عَلَيْهَا، فَإِن كَانَ لَهَا ذؤابة فلأصحابنا وَجْهَان فِي جَوَاز الْمسْح عَلَيْهَا. وَيمْسَح أَكثر الْعِمَامَة، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: لَا يُجزئ إِلَّا مسح جَمِيعهَا.
وَأما الْمسْح على الْخُفَّيْنِ فقد تقدم فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.(4/84)
(107) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ الكعبي
واسْمه خويلد بن عَمْرو، كَذَلِك سَمَّاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم. وَقَالَ مُحَمَّد ابْن سعد: اسْمه خويلد بن صَخْر بن عبد الْعُزَّى. وَقَالَ أَبُو بكر البرقي: اسْمه كَعْب.
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرُون حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة.
2282 - / 2890 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أَنه قَالَ لعَمْرو بن سعيد وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث إِلَى مَكَّة: ائْذَنْ لي أحَدثك مَا قَامَ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغَد من يَوْم الْفَتْح، قَالَ: " إِن مَكَّة حرمهَا الله فَلَا يحل لامرئ يُؤمن بِاللَّه أَن يسفك فِيهَا دَمًا، وَلَا يعضد بهَا شَجَرَة ... " فَذكر الحَدِيث. فَقَالَ: يَا أَبَا
شُرَيْح، إِن الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا وَلَا فَارًّا بِدَم وَلَا بخربة.
أما الْبعُوث الْمَذْكُورَة فَإِن عبد الله بن الزبير لم يزل بِالْمَدِينَةِ إِلَى أَن توفّي مُعَاوِيَة، فَبعث الْوَلِيد بن عتبَة وَالِي الْمَدِينَة إِلَيْهِ يَأْمُرهُ بالبيعة ليزِيد، فَخرج إِلَى مَكَّة، وَلم يزل يحرض النَّاس على بني أُميَّة، فَغَضب يزِيد فَمضى ابْن الزبير إِلَى يحيى بن حَكِيم وَالِي مَكَّة فَبَايعهُ ليزِيد، فَكتب بذلك يحيى، فَقَالَ يزِيد: لَا أقبل حَتَّى يُؤْتى بِهِ فِي وثاق، فَأبى ابْن(4/85)
الزبير وَقَالَ: أَنا عَائِذ بِالْبَيْتِ، فعزل يزِيد الْوَلِيد عَن الْمَدِينَة وَولى عَمْرو ابْن سعيد بن الْعَاصِ، وَكتب إِلَيْهِ: أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ يقسم بِاللَّه لَا يقبل من ابْن الزبير شَيْئا حَتَّى يُؤْتى بِهِ فِي جَامِعَة، فعرضوا ذَلِك على ابْن الزبير، فَأبى فَكتب يزِيد إِلَى عَمْرو بن سعيد أَن يُوَجه إِلَيْهِ جندا، فَبعث الْبعُوث.
وَقَوله: " أَن يعضد بهَا شَجَرَة " أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: يعضد بِضَم الضَّاد، وَقَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: يعضد بِكَسْر الضَّاد.
ويعيذ بِمَعْنى يجير؛ يُقَال: عاذ بالشَّيْء: إِذا استجار بِهِ ولجأ إِلَيْهِ، وأعاذه: أَي مَنعه وحماه.
والخربة: السّرقَة، وَالْخَاء مَضْمُومَة، والخارب: اللص، وَيُقَال فِي سَارِق الْإِبِل خَاصَّة ثمَّ استعير لكل سَارِق.
وَاعْلَم أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على أَن من جنى فِي الْحرم لَا يُؤمن؛ لِأَنَّهُ هتك حُرْمَة الْحرم ورد الْأمان. وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَن جنى خَارِجا ثمَّ لَجأ إِلَيْهِ: فروى أَبُو بكر الْمروزِي عَن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: إِذا قتل أَو قطع يدا أَو أَتَى حدا فِي غير الْحرم ثمَّ دخل لم يقم عَلَيْهِ الْحَد وَلم يقْتَصّ مِنْهُ، وَلَكِن لَا يُبَايع وَلَا يشارى ولايؤاكل حَتَّى يخرج. فَإِن فعل شَيْئا من ذَلِك فِي الْحرم استوفي مِنْهُ. وروى عَنهُ حَنْبَل أَنه قَالَ: إِذا قتل خَارج الْحرم ثمَّ دخل لم يقتل، وَإِن كَانَت الْجِنَايَة دون النَّفس فَإِنَّهُ يُقَام عَلَيْهِ(4/86)
الْحَد وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: يُقَام الْحَد فِي جَمِيع ذَلِك فِي النَّفس وَفِيمَا دون النَّفس.
2283 - / 2891 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم ضَيفه " قَالُوا: وَمَا جائزته؟ قَالَ: " يَوْمه وَلَيْلَته ".
الضَّيْف يَقع على الْوَاحِد وعَلى الْجَمَاعَة. يُقَال: هَذَا ضيف، وَهَؤُلَاء ضيف.
والجائزة: الْعَطِيَّة. وجوائز السُّلْطَان: عطاياه. وَالْمرَاد بالجائزة هَاهُنَا مَا يجوز بِهِ مَسَافَة يَوْم وَلَيْلَة. وَهَذَا عِنْد أَكثر الْعلمَاء مُسْتَحبّ، وَقَالَ أَحْمد: يجب على الْمُسلم ضِيَافَة الْمُسلم الْمُسَافِر المجتاز بِهِ لَيْلَة، لحَدِيث آخر رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " لَيْلَة الضَّيْف وَاجِبَة على كل مُسلم ".
وَمن نزل بِهِ الضَّيْف فَامْتنعَ عَن ضيافته كَانَ الضَّيْف مُخَيّرا بَين مُطَالبَته بذلك عِنْد الْحَاكِم أَو إعفائه. وَلَا يجب إنزاله فِي بَيته إِلَّا أَن يجد مَسْجِدا أَو رِبَاطًا يبيت فِيهِ. وَسَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند عقبَة بن عَامر قَالَ: قلت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّك تبعثنا فَنَنْزِل بِقوم لَا يقرونا، فَمَا ترى؟ فَقَالَ: " إِن لم يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُم حق الضَّيْف الَّذِي يَنْبَغِي لَهُم " وَأما ضِيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام فمستحبة.(4/87)
وَقَوله: " حَتَّى يؤثمه " وَذَلِكَ أَنه إِذا لم يكن لَهُ مَا يقربهُ بِهِ تسخط بإقامته، وَرُبمَا ذكره بقبيح، وَرُبمَا أَثم فِي كسب مَا يُنْفِقهُ عَلَيْهِ.
2284 - / 2892 - والْحَدِيث الَّذِي للْبُخَارِيّ قد سبق فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
(108)
ومافي مُسْند خفاف بن إِيمَاء قد سبق شَرحه.(4/88)
(109) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب
وَهُوَ حَدِيث وَاحِد.
2285 - / 2894 - وَفِيه: انْطَلَقت فِي الْمدَّة الَّتِي كَانَت بيني وَبَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الشَّام.
كَانُوا قد اصْطَلحُوا على مُدَّة يتركون فِيهَا الْقِتَال، وَكَتَبُوا الْكتاب الَّذِي تولاه سُهَيْل بن عَمْرو، وَقد ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَذكرنَا دحْيَة فِي مُسْند جَابر ابْن عبد الله.
وهرقل هُوَ قَيْصر، وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: هِرقل اسْم أعجمي، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب، قَالَ جرير يمدح الْوَلِيد بن عبد الْملك:
(وَأَرْض هِرقل قد قهرت وداهرا ... وَيسْعَى لكم من آل كسْرَى النواصف)
والترجمان: الْمعبر.
وَقَوله: لَوْلَا أَن يأثروا عني الْكَذِب: أَي لَوْلَا أَن يذكروني بِالْكَذِبِ ويروونه عني، يُقَال: أثرت الحَدِيث أَثَرَة: إِذا رويته.(4/89)
والحسب: الفعال الْحسن للآباء، مَأْخُوذ من الْحساب إِذا حسبوا مناقبهم، وَذَلِكَ أَنه إِذا عد كل وَاحِد مِنْهُم مناقبه ومآثر آبَائِهِ وحسبها، كَانَ أحسبهم أَكْثَرهم عددا
وَقَوله: سجالا: أَي مرّة لنا وَمرَّة لَهُ، وَأَصله من السّجل وَهُوَ الدَّلْو، وَذَلِكَ أَن الرجلَيْن إِذا استقيا نزع هَذَا سجلا وَهَذَا سجلا.
وَقَوله: إِذا خالط بشاشته الْقُلُوب، أصل البشاشة فِي اللِّقَاء، وَهُوَ الْفَرح بِالْمَرْءِ والانبساط إِلَيْهِ والملاطفة فِي الْمَسْأَلَة. يُقَال: بش فلَان بفلان وتبشبش بِهِ، فَشبه الْإِيمَان إِذا ورد على الْقلب ففرح بِهِ وانشرح الصَّدْر لَهُ بذلك.
وَقَوله: عَظِيم الرّوم: أَي الَّذين يعظمونه ويقدمونه بالرئاسة. وَلم يكْتب إِلَى ملك الرّوم لما يَقْتَضِيهِ هَذَا الِاسْم من الْمعَانِي الَّتِي لَا يَسْتَحِقهَا من لَيْسَ بِمُسلم، وَالْإِسْلَام قد عَزله عَن المملكة، فَلم يخله من نوع إكرام.
وَقَوله: " سَلام على من اتبع الْهدى " هَذَا شَيْء لَا يغْضب مِنْهُ أحد؛ لِأَن قَيْصر يظنّ أَنه مِمَّن اتبع الْهدى.
وَقَوله: " أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام " الدعاية من قَوْلك: دَعَا يَدْعُو دعاية، كَمَا يُقَال: شكا يشكو شكاية، المُرَاد دَعْوَة الْإِسْلَام وَهِي الشهادتان.
وَقَوله: " إِثْم الأريسيين "، وَفِي لفظ: " اليريسيين " قد ذكرنَا اللفظتين فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. فَأَما قَوْله: " إِثْم الركوسيين " فالركوسية دين بَين النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ.(4/90)
وَقَوله: " {يَا أهل الْكتاب} الْآيَات [آل عمرَان: 64] دَلِيل على جَوَاز كِتَابَة آيَة أَو آيَتَيْنِ مِمَّا يَقع بِهِ الْإِنْذَار إِلَى أَرض الْعَدو، وَلَا يُعَارض بقوله: " لَا تسافروا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو "؛ لِأَن المُرَاد بذلك السُّور والآيات الْكَثِيرَة.
وَأما اللَّغط فَهُوَ الْأَصْوَات الَّتِي لَا تفهم.
وَقَوله: أَمر أَمر ابْن أبي كَبْشَة. أَمر بِمَعْنى عظم وارتفع. وَأما أَبُو كَبْشَة فأنبأنا أَبُو عبد الله الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب النَّحْوِيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو جَعْفَر بن الْمسلمَة قَالَ: أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد الطوسي قَالَ: أخبرنَا الزبير بن بكار قَالَ: أول من عبد الشعرى أَبُو كَبْشَة، واسْمه وجز بن غَالب بن عَامر، وَكَانَ يَقُول: إِن الشعرى تقطع السَّمَاء عرضا، وَلَا أرى فِي السَّمَاء شمسا وَلَا قمرا وَلَا نجما يقطع السَّمَاء عرضا غَيرهَا. وَالْعرب تسمي الشعرى العبور؛ لِأَنَّهَا تعبر السَّمَاء عرضا.
ووجز هُوَ أَبُو كَبْشَة الَّذِي كَانَت قُرَيْش تنْسب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ جده من قبل أمه، وَالْعرب تظن أَن أحدا لَا يعْمل شَيْئا إِلَّا بعرق نَزعه شبهه، فَلَمَّا خَالف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دين قُرَيْش قَالَ مشركو قُرَيْش: نَزعه أَبُو كَبْشَة، فَإِن أَبَا كَبْشَة خَالف النَّاس بِعِبَادَتِهِ الشعرى. وَكَانَ أَبُو كَبْشَة سيدا فِي خُزَاعَة، لم يعيروا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نقص كَانَ فِيهَا، وَلَكِن لما خَالف دينهم نسبوه إِلَى خلاف أبي كَبْشَة، فَقَالُوا: خَالف كَمَا خَالف أَبُو كَبْشَة.(4/91)
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: لما خَالف أَبُو كَبْشَة دين قومه شبهوا بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ كَقَوْلِهِم لِمَرْيَم: {يَا أُخْت هَارُون} [مَرْيَم: 28] أَي يَا شَبيه هَارُون فِي الصّلاح. وهما شعريان: أحداهما هَذِه، والشعرى الْأُخْرَى هِيَ الغميصاء، وَهِي تقَابلهَا، وَبَينهمَا المجرة، والغميصاء من الذِّرَاع الْمَبْسُوط فِي نُجُوم الْأسد، وَتلك فِي الجوزاء.
وَقَالَ غَيره: أَبُو كَبْشَة جد جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قبل أمه.
ونقلت من خطّ أبي الْفَتْح مُحَمَّد بن الْحسن الْأَزْدِيّ الْحَافِظ وتصنيفه قَالَ: أَبُو كَبْشَة حاضن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زوج حليمة ظئر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اسْمه الْحَارِث بن عبد الْعُزَّى، مَاتَ قبل أَن يدْرك النُّبُوَّة، وَهُوَ الَّذِي كَانَت قُرَيْش تعير بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيَقُولُونَ: ابْن أبي كَبْشَة.
قلت: وَالْقَوْل الأول عِنْدِي أصح من هَذَا.
وَبَنُو الْأَصْفَر: الرّوم، سموا بذلك لصفرة اعترت أباهم، قَالَ عدي ابْن زيد: وَبَنُو الْأَصْفَر الْكِرَام مُلُوك الرّوم لم يبْق مِنْهُم مَذْكُور.
قَوْله: وَكَانَ قَيْصر لما كشف الله عَنهُ جنود فَارس مَشى من حمص إِلَى إيلياء.
إيلياء: بَيت الْمُقَدّس، وَقد سبق فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة. وَإِنَّمَا فعل(4/92)
ذَلِك شكرا لله تَعَالَى لما أبلاه. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال من الْخَيْر: أبليته أبليه إبلاء، وَمن الشَّرّ: بلاه يبلوه بلَاء.
وَمَا زَالَت الْحَرْب قَائِمَة بَين فَارس وَالروم، فَغلبَتْ الرّوم، فَبلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فشق عَلَيْهِم، وَفَرح الْمُشْركُونَ بذلك؛ لِأَن فَارس لم يكن لَهَا كتاب، ثمَّ ظَهرت الرّوم على فَارس ففرح الْمُسلمُونَ، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {ويومئذ يفرح الْمُؤْمِنُونَ [4] بنصر الله} [الرّوم: 4، 5] . وَاتفقَ ذَلِك فِي يَوْم بدر، وَقيل: يَوْم الْحُدَيْبِيَة.
وَقَوله وَكَانَ ابْن الناطور صَاحبه. أَي صَاحب هِرقل. وهرقل أسقفه على نَصَارَى الشَّام: أَي جعله أسقفا، وَهِي سنة فِي دينهم.
والحزاء والحازي هُوَ الحازر الَّذِي يحزر الشَّيْء وَيقدر مَا فِيهِ - بظنه. وَيُقَال للَّذي ينظر فِي النُّجُوم حزاء على هَذَا الْمَعْنى؛ لإنه يظنّ بنظره فِي النُّجُوم شَيْئا ويقدره، فَرُبمَا أصَاب.
وَقَوله: فَلم يرم حمص: أَي لم يبرح مِنْهَا، يُقَال: لَا ترم: أَي لَا تَبْرَح.
وَالْعجب من قَيْصر مَعَ ذكائه وفطنته، ومبالغته فِي الْبَحْث عَن أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنَظره فِي النُّجُوم - على زَعمه - وموافقة من يعده نَظِيره فِي الْعلم على صِحَة نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَيفَ لم يتبعهُ! غير أَن جنود الْهوى بُنيان مرصوص.
والدسكرة وَاحِدَة الدساكر: وَهِي الْقُصُور.
وحاصوا: نفروا وجالوا، يُقَال: حَاص يحيص: إِذا مَال ملتجئا إِلَى ملْجأ.(4/93)
(110) كشف الْمُشكل من مُسْند مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَثَلَاثَة وَسِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة عشر.
2286 - / 2895 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: قصرت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمشقص.
المشقص: نوع من الجلم يقص بِهِ الشّعْر، وَيُقَال لنصل السهْم إِذا كَانَ طَويلا مشقص أَيْضا. وأصل الشّقص الْقطع والتقسيم.
2287 - / 2896 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن مُعَاوِيَة تنَاول قصَّة من شعر وَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْهَى عَن مثل هَذِه.
الْقِصَّة بِضَم الْقَاف: شعر الناصية. وَالْإِشَارَة إِلَى وصل الشّعْر.
وَفِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَمَّاهُ الزُّور.
2288 - / 2897 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه(4/94)
فِي الدّين.
الْفِقْه: الْفَهم. وَأول مَرَاتِب الْفَقِيه أَن يفهم أصُول الشَّرِيعَة وموضوعها، فَحِينَئِذٍ يتهيأ لَهُ إِلْحَاق فرع بِأَصْل، وتشبيه شَيْء بِشَيْء، فَتَصِح لَهُ الْفَتْوَى، ثمَّ يرتقي إِلَى فهم الْمَقْصُود بِالْعلمِ، فَيصير حِينَئِذٍ من عُمَّال الله تَعَالَى، وَذَلِكَ الْفِقْه النافع. وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول: إِنَّمَا الْفَقِيه من يخْشَى الله عز وَجل.
وَقَوله: " لَا تزَال عِصَابَة من الْمُسلمين يُقَاتلُون " الْعِصَابَة: الْجَمَاعَة.
وناوأهم: عاداهم وخاصمهم. وَهَذِه الْعِصَابَة تَنْقَسِم: فَمِنْهَا المجاهدون فِي الثغور، وَمِنْهَا الآمرون بِالْمَعْرُوفِ من أهل الْخَيْر، وَمِنْهَا الْعلمَاء الَّذين يَذبُّونَ عَن الشَّرْع ويقمعون أهل الْبدع، فَهَؤُلَاءِ كلهم وَإِن أزيل مِنْهُم بالقهر لَهُم، فالعاقبة لَهُم.
2289 - / 2899 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
قَالَ مُعَاوِيَة فِي كَعْب الْأَحْبَار: إِن كَانَ من أصدق المخبرين عَن أهل الْكتاب، وَإِن كَانَ مَعَ ذَلِك لنبلو عَلَيْهِ الْكَذِب.
يَعْنِي أَن الْكَذِب فِيمَا يخبر بِهِ عَن أهل الْكتاب لَا مِنْهُ، فالأخبار الَّتِي يحكيها عَن الْقَوْم يكون بَعْضهَا كذبا، فَأَما كَعْب الْأَحْبَار فَمن كبار(4/95)
الأخيار.
2290 - / 2900 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أذن الْمُؤَذّن، فَقَالَ مُعَاوِيَة مثله إِلَى أَن قَالَ: حَيّ على الصَّلَاة، فَقَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا سمعنَا نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول.
الْأَذَان فِي اللُّغَة: الْإِعْلَام، فَمَعْنَى أذن الْمُؤَذّن: أعلم الْمعلم. والمؤذن: الْمعلم بأوقات الصَّلَاة.
وَقَوله: الله أكبر، فِيهِ قَولَانِ: أَن أكبر بِمَعْنى كَبِير، فتقديره: الله الْكَبِير، فَوضع أفعل مَوضِع فعيل، كَقَوْلِه: {وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ} [الرّوم: 27] ، وأنشدوا:
(إِن الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لنا ... بَيْتا دعائمه أعز وأطول)
وَالثَّانِي: الله أكبر من كل شَيْء فحذفت " من " لوضوح مَعْنَاهَا، قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَالنَّاس يضمون الرَّاء من قَوْلهم الله أكبر، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس يَقُوله بِإِسْكَان الرَّاء، ويحتج بِأَن الْأَذَان سمع مَوْقُوفا غير مُعرب. وَكَذَلِكَ حَيّ على الصَّلَاة. حَيّ على الْفَلاح.
وَقَوله: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. أَي أعلم وَأبين ذَلِك، كَقَوْلِه: {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} [آل عمرَان: 18] أَي بَين لكم وَأعْلمكُمْ.(4/96)
وَقَوله: حَيّ على الصَّلَاة: أَي هلموا إِلَى الصَّلَاة وَأَقْبلُوا إِلَيْهَا، وَفتحت الْيَاء من حَيّ لسكونها وَسُكُون الْيَاء الَّتِي قبلهَا، كَمَا قيل: لَيْت وَلَعَلَّ. وَقَول ابْن مَسْعُود: إِذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر مَعْنَاهُ: فَأَقْبَلُوا على ذكر عمر.
وَفِي الْفَلاح قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْبَقَاء. وَالثَّانِي: الْفَوْز.
وَقَوله: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. الْحول: الْحِيلَة. يُقَال: حولق الرجل وحوقل: إِذا قَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. كَمَا يُقَال بسمل: إِذا قَالَ: بِسم الله، وهيلل: إِذا قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، وحيعل: إِذا قَالَ: حَيّ على الصَّلَاة.
وَإِنَّمَا قوبلت كَلِمَات الْأَذَان بِمِثْلِهَا؛ لِأَنَّهَا إِقْرَار وَشَهَادَة. فَأَما حَيّ على الصَّلَاة، حَيّ على الْفَلاح، فدعاء للسامع إِلَى الْحُضُور، فَلَا يصلح أَن يُقَابل بِمثلِهِ، وَإِنَّمَا يُقَال: لَا حول: أَي لَا قدرَة لي أَن أُجِيب مَا دعيت إِلَيْهِ إِلَّا بِاللَّه.
2291 - / 2901 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَنه بلغ مُعَاوِيَة أَن عبد الله ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ يحدث أَنه سَيكون ملك من قحطان. فَغَضب مُعَاوِيَة، فَقَامَ فَقَالَ: إِنَّه بَلغنِي أَن رجَالًا مِنْكُم يتحدثون أَحَادِيث لَيست فِي كتاب الله، وَلَا تُؤثر عَن رَسُول الله، وَأُولَئِكَ جهالكم، فإياكم والأماني الَّتِي تضل أَهلهَا؛ فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " إِن هَذَا(4/97)
الْأَمر فِي قُرَيْش، لَا يعاديهم أحد إِلَّا كَبه الله على وَجهه، مَا أَقَامُوا الدّين ".
قَوْله: لَا تُؤثر: أَي لَا تروى.
والأماني: بِمَعْنى التِّلَاوَة، وأنشدوا:
(تمنى كتاب الله أول ليله ... وَآخره لَاقَى حمام المقادر)
فَيكون الْمَعْنى: إيَّاكُمْ وَقِرَاءَة مَا فِي الصُّحُف الَّتِي تُؤثر عَن أهل الْكتاب مِمَّا لم يَأْتِ بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَأَن عبد الله بن عَمْرو قَرَأَ هَذَا من كتاب، وَقد كَانَ ينظر فِي التَّوْرَاة ويحكي عَنْهَا، فَغَضب مُعَاوِيَة، وَلَو كَانَ حدث بِهِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُنكر عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَّهمًا.
2292 - / 2903 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" إِن الله عز وَجل يباهي بكم الْمَلَائِكَة ".
المباهاة: الْمُفَاخَرَة، وَمَعْنَاهَا من الله عز وَجل التَّفْضِيل لهَؤُلَاء على الْمَلَائِكَة.
2293 - / 2905 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قُمْت فِي مقَامي فَصليت،(4/98)
فَقَالَ مُعَاوِيَة: أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا توصل صَلَاة حَتَّى نتكلم أَو نخرج.
إِنَّمَا أَمر بذلك ليتبين انْفِصَال مَا بَين الصَّلَاتَيْنِ.(4/99)
(111) كشف الْمُشكل من مُسْند الْمُغيرَة بن شُعْبَة
شهد الْحُدَيْبِيَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يلازمه فِي سَفَره وحضره، وَيحمل وضوءه مَعَه.
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَسِتَّة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ اثْنَا عشر حَدِيثا.
2294 - / 2908 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " يَا مغير، خُذ الْإِدَاوَة " فَتبرز قبل العائط، وَفِي لفظ: وَتَوَضَّأ وَمسح بناصيته وعَلى الْعِمَامَة والخفين، وَأَقْبَلت مَعَه فيجد النَّاس قد قدمُوا عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فصلى لَهُم، فَأدْرك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا سلم عبد الرَّحْمَن قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتم صلَاته، فأفزع ذَلِك الْمُسلمين فَأَكْثرُوا التَّسْبِيح، فَلَمَّا قضى صلَاته قَالَ: " أَحْسَنْتُم " يَغْبِطهُمْ أَن صلوا الصَّلَاة لوَقْتهَا.
الْإِدَاوَة: إِنَاء من جُلُود كالركوة.
وتبرز: خرج وبرز من الْبيُوت. وَالْبرَاز مَفْتُوحَة الْبَاء اسْم للفضاء الْوَاسِع من الأَرْض، كنوا بِهِ عَن حَاجَة الْإِنْسَان، كَمَا كنوا بالخلاء عَنهُ،(4/100)
يُقَال: تبرز الرجل: إِذا تغوط. وَقيل: الْغَائِط نَحوه، وَهُوَ الْمَكَان المطمئن.
والناصية: مقدم شعر الرَّأْس.
وَقَوله: تَوَضَّأ. اشتقاق الْوضُوء من الْوَضَاءَة، وَهِي الْحسن، يُقَال: وَجه وضيء: أَي حسن، من أوجه وضاء، ثمَّ صَار التنظف بِالْمَاءِ نوعا من الْحسن.
وَقد سبق بَيَان الْمسْح على الْعِمَامَة فِي مُسْند عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي قبل أوراق، وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَإِنَّمَا فزع الْمُسلمُونَ من تقديمهم سوى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وائتمام الرَّسُول بِغَيْرِهِ.
ويغبطهم: يحسن لَهُم فعلهم ويمدحهم عَلَيْهِ وَيبين لَهُم أَنه مِمَّا يغبط على مثله.
وَقَوله: أَن صلوا: أَي لِأَن صلوا لوَقْتهَا.
2295 - / 2909 - وَقد سبق الحَدِيث الثَّانِي: فِي مُسْند مُعَاوِيَة وَغَيره.
2296 - / 2910 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: مَا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد عَن الدَّجَّال أَكثر مِمَّا سَأَلته، فَقَالَ: " مَا ينصبك مِنْهُ؟ " قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّهُم يَقُولُونَ: إِن مَعَه أَنهَار المَاء وجبال الْخبز، قَالَ: " هُوَ أَهْون على الله من ذَلِك ".(4/101)
قَوْله: " ينصبك " أَي يتعب فكرك ويشغل قَلْبك. وَالنّصب: التَّعَب، وَتارَة يكون تَعب الْجِسْم، وَتارَة يكون تَعب الْقلب.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: " هُوَ أَهْون من ذَلِك " وَقد سبق فِي مُسْند حُذَيْفَة أَن: " مَعَ الدَّجَّال مَاء ونار "؟ فَالْجَوَاب: أَنه تخييل لَا حَقِيقَة، بِدَلِيل تَمام الحَدِيث؛ فَإِنَّهُ قَالَ: " فَالَّذِي يرى النَّاس أَنه نَار فماء بَارِد، وَالَّذِي يرَاهُ النَّاس أَنه مَاء بَارِد فَنَار تحرق " وَفِي الْجُمْلَة فقد أعطي شَيْئا يَسِيرا للفتنة، فَإِن الله تَعَالَى يُقيم الشُّبْهَة فِي مُقَابلَة الْحجَّة، ويفرض على الْعقل الْفرق.
2297 - / 2911 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد "
وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي سعيد.
وَفِيه: كَانَ ينْهَى عَن قيل وَقَالَ، وإضاعة المَال، وَكَثْرَة السُّؤَال. وَكَانَ ينْهَى عَن عقوق الْأُمَّهَات، ووأد الْبَنَات، وَمنع وهات.
أما قيل وَقَالَ فَالْمُرَاد بِهِ حِكَايَة مَا لَا يعلم صِحَّته؛ فَإِن الحاكي يَقُول: قيل وَقَالَ.
وَأما إِضَاعَة المَال فَيكون من وُجُوه أمهاتها أَرْبَعَة: أَحدهمَا: أَن يتْركهُ(4/102)
من غير حفظ لَهُ فيضيع. وَالثَّانِي: أَن يتلفه إِمَّا بِتَرْكِهِ إِذا كَانَ طَعَاما حَتَّى يفْسد، أَو يرميه إِن كَانَ يَسِيرا كبرا عَن تنَاول الْقَلِيل، أَو بِأَن يرضى بِالْغبنِ، أَو بِأَن ينْفق فِي الْبناء واللباس والمطعم مَا هُوَ إِسْرَاف. وَالثَّالِث: أَن يُنْفِقهُ فِي الْمعاصِي، فَهَذَا تَضْييع من حَيْثُ الْمَعْنى. وَالرَّابِع: أَن يسلم مَال نَفسه إِلَى الخائن، أَو مَال الْيَتِيم إِلَيْهِ إِذا بلغ مَعَ علمه بتبذيره.
أما كَثْرَة السُّؤَال فَفِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: كَثْرَة السُّؤَال للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ فَإِنَّهُ قد قَالَ: " ذروني مَا تركتكم "؛ فَإِنَّهُ رُبمَا سَأَلُوا فأجيبوا بِمَا لَا يطيقُونَهُ من الْمَفْرُوض. وَالثَّانِي: سُؤال النَّاس؛ فَإِن من قصد سد الْفَاقَة لم يكثر السُّؤَال.
وَأما عقوق الْأُمَّهَات فَإِنَّمَا خص الْأُمَّهَات بِالذكر لعظم حقهن، وحقهن مقدم على حق الْأَب كَمَا قدمهن فِي الْبر، وَإِنَّمَا يخص الشَّيْء بِالذكر من بَين جنسه لِمَعْنى فِيهِ يزِيد على غَيره، كَمَا قَالَ: " من رمانا بِاللَّيْلِ فَلَيْسَ منا "؛ وَإِن كَانَ الحكم كَذَلِك بِالنَّهَارِ، وَلَكِن الرَّمْي بِاللَّيْلِ أَشد قبحا ونكاية؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي على غَفلَة.
وَأما وأد الْبَنَات فَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ من الموءودة، وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك ببناتهم فِي الْجَاهِلِيَّة، كَانَ أحدهم رُبمَا ولدت لَهُ الْبِنْت فيدفنها وَهِي حَيَّة حِين تولد، وَلِهَذَا كَانُوا يسمون الْقَبْر صهرا: أَي قد زَوجهَا مِنْهُ، قَالَ الشَّاعِر:(4/103)
(سميتها إِذْ ولدت تَمُوت ... )
(والقبر صهر ضَامِن زميت ... )
(لَيْسَ لمن ضمنه تربيت ... )
(يَا بنت شيخ مَا لَهُ سبروت ... )
أَي قَلِيل، من قَوْلهم: أَرض سباريت: وَهِي الَّتِي لَا شَيْء فِيهَا.
وَقَوله: وَمنع وهات، يَعْنِي منع مَا على الْإِنْسَان من الْحُقُوق والواجبات وَطلب مَا لَا يحل لَهُ أَخذه من أَمْوَال النَّاس. قَالَ ابْن مَنْصُور: قلت لِأَحْمَد بن حَنْبَل: مَا معنى منع وهات؟ قَالَ: أَن تمنع مَا عنْدك، وَلَا تصدق، وَلَا تُعْطِي، وتمد يدك فتأخذ من النَّاس.
2298 - / 2912 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قَالَ سعد بن عبَادَة: لَو رَأَيْت رجلا مَعَ امْرَأَتي لضربته بِالسَّيْفِ غير مصفح.
الْمَعْنى: غير ضَارب بصفحة السَّيْف. وصفحتاه: وجهاه، وَأَرَادَ أَنِّي كنت أضربه بحده. وَقَول بعض الروَاة: غير مصفح عَنهُ، غلط؛ لِأَنَّهُ(4/104)
رَوَاهُ بِالْمَعْنَى، وظنه من الصفح الَّذِي هُوَ الْعَفو فَزَاد فِيهِ لَفْظَة: عَنهُ.
وَقد تكلمنا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود فِي معنى غيرَة الله عز وَجل، وَمعنى: مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن.
وَأما قَوْله: " وَلَا شخص أغير من الله " فالشخص هَاهُنَا يرجع إِلَى الْأَشْخَاص المخلوقين، لَا أَن الله عز وَجل يُقَال لَهُ شخص، فَكَأَن الْمَعْنى: لَيْسَ مِنْكُم أَيهَا الْأَشْخَاص أغير من الله. وَمثل هَذَا قَوْله: مَا خلق الله من سَمَاء وَلَا أَرض أعظم من آيَة الْكُرْسِيّ. والخلق رَاجع إِلَى الْمَخْلُوقَات، وَالْمعْنَى: أَن آيَة الْكُرْسِيّ أعظم من جَمِيع الْمَخْلُوقَات، وَكَذَلِكَ قَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل فِي حَدِيث آيَة الْكُرْسِيّ.
وَقد انزعج لهَذِهِ اللَّفْظَة الْخطابِيّ فَقَالَ: الشَّخْص لَا يكون إِلَّا جسما مؤلفا، وَإِنَّمَا يُسمى شخصا مَا كَانَ لَهُ شخوص وارتفاع، وَمثل هَذَا النَّعْت منفي عَن الله تَعَالَى، وخليق أَن تكون هَذِه اللَّفْظَة غير صَحِيحَة، أَو أَن تكون تصحيفا من الرَّاوِي. قَالَ: وَقد رَوَاهُ أَبُو عوَانَة عَن عبد الْملك وَلم يذكر هَذِه اللَّفْظَة، وَقد روته أَسمَاء بنت أبي بكر فَقَالَت: " لَا شَيْء أغير من الله " قَالَ: فالشخص وهم وتصحيف، وَلَيْسَ كل الروَاة يراعون اللَّفْظ؛ بل مِنْهُم من يحدث بِالْمَعْنَى، وَلَيْسَ كلهم بفقيه.(4/105)
قلت: أما قَول الْخطابِيّ: قد رَوَاهُ أَبُو عوَانَة فَلم يذكر فِيهِ هَذِه اللَّفْظَة فغلط؛ فَإِن فِي حَدِيث القواريري وَأبي كَامِل وَالطَّيَالِسِي والمقدمي كلهم عَن أبي عوَانَة عَن عبد الْملك: " وَلَا شخص " وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث زَائِدَة عَن عبد الْملك: " وَلَا شخص " وَمَعَ مَا بَينا ينْكَشف الْإِشْكَال وَلَا يبْقى انزعاج. وَإِذا حمل على أَنه من بعض الروَاة كَانَ وَجها حسنا.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى:
2299 - / 2915 - الحَدِيث الثَّامِن: أول من نيح عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ قرظة ابْن كَعْب.
هَذَا رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ قرظة بن كَعْب بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ. وَقد تكلمنا فِي تَعْذِيب الْمَيِّت بالنياحة فِي مُسْند عمر.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: " من حدث عني بِحَدِيث يرى أَنه كذب " وَقد سبق فِي مُسْند سَمُرَة.
2300 - / 2916 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: أَن عمر استشارهم فِي إملاص الْمَرْأَة، فَقَالَ الْمُغيرَة: قضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالغرة: عبد أَو أمة.
أملصت الْمَرْأَة: رمت وَلَدهَا، إملاصا، وأملص الشَّيْء من يَدي:(4/106)
أفلت، وملص الرشاء يملص، وكل مَا زلق من الْيَد فقد ملص ملصا، وَأنْشد الْأَحْمَر:
(فر وَأَعْطَانِي رشاء ملصا ... )
يَعْنِي: رطبا يزلق من الْيَد.
وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ الْمَرْأَة تضرب فِي بَطنهَا فتلقي جَنِينهَا. وَإِنَّمَا سمي إملاصا لِأَن الْمَرْأَة تزلقه قبل وَقت الْولادَة. وَقد تكلمنا على هَذَا الحَدِيث وَحكمه فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
وَقَوله: " أسجع كسجع الْأَعْرَاب؟ " لَيْسَ يذم نفس السجع؛ إِنَّمَا كَانَ حكامهم يسجعون ليدفعوا الْحُقُوق بكلماتهم المرصوفة , قَالَ ابْن عقيل: إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِم جعل السجع فِي الِاحْتِجَاج وَالسُّؤَال والاعتراض، وَصَاحب الْمَسْأَلَة يَنْبَغِي أَن يكون قَصده الْبَيَان، فَأنْكر السجوع المخالطة للحجة والتكلف.
2301 - / 2917 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ:
بعث عمر النَّاس فِي أفناء الْأَمْصَار يُقَاتلُون.
أفناء الْأَمْصَار: نَوَاحِيهَا.(4/107)
والشدخ: كسر الشَّيْء الأجوف.
والأرواح: الرِّيَاح. وَكَأَنَّهُ انْتظر بِالرِّيحِ أَن تهب لَهُ، فقد قَالَ تَعَالَى: {وَتذهب ريحكم} [الْأَنْفَال: 46] ، وانتظر وَقت الصَّلَاة لِأَنَّهُ وَقت تفتح فِيهِ أَبْوَاب السَّمَاء ويستجاب الدُّعَاء.
2302 - / 2919 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد مُسلم:
" من أدنى أهل الأَرْض منزلَة؟ " أَي أدون وَأَقل.
وَقَوله: " وَأخذُوا أخذاتهم " أَي نزلُوا مَنَازِلهمْ.(4/108)
(112) كشف الْمُشكل من مُسْند عَمْرو بن الْعَاصِ
وَعَامة أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: ابْن الْعَاصِ بِغَيْر يَاء، وَهُوَ خطأ، وَالَّذِي حفظناه عَن أهل اللُّغَة، مِنْهُم أَبُو مُحَمَّد بن الخشاب إِثْبَات الْيَاء، أسلم قبيل الْفَتْح.
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِسْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة أَحَادِيث.
2303 - / 2921 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الثَّانِي: " وَلَكِن لَهُم رحم أبلها بِبلَالِهَا ".
أبلها من البلل والنداوة: أَي أنديها بالصلة وَالْبر، وَهَذِه اسْتِعَارَة وَقد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث.
2304 - / 2922 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد ثمَّ أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ، وَإِذا حكم واجتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر ".(4/109)
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وسع الْإِنْسَان سوى الِاجْتِهَاد، فَمَا خلا الْمُجْتَهد من أجر.
فَإِن قيل: فقد تساوى الِاجْتِهَاد فِي مَوضِع الْإِصَابَة وَمَوْضِع الْخَطَأ، فَلم ضوعف الْأجر هُنَاكَ؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْمُخطئ وَإِن كَانَ مُجْتَهدا فَفِي اجْتِهَاده تَقْصِير، فَلَو أمعن فِي طلب الْأَدِلَّة لوقع بِالصَّوَابِ، فقصر فِي أجره لتَقْصِيره فِي الطّلب. وَالثَّانِي: أَن الْمُصِيب موفق، والموفق مصطفى، فضوعف لَهُ الْأجر لمَكَان اصطفائه، كَمَا ضوعف الْأجر لهَذِهِ الْأمة دون سَائِر الْأُمَم.
2305 - / 2923 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" فصل مَا بَين صيامنا وَصِيَام أهل الْكتاب أَكلَة السحر ".
اعْلَم أَن الْأكل فِي ليَالِي الصَّوْم كَانَ مُبَاحا لأهل الْكتاب مَا لم يَنَامُوا، فَإِذا نَامُوا حرم عَلَيْهِم، وَكَذَلِكَ كَانَ فِي أول الْإِسْلَام حَتَّى نزل قَوْله تَعَالَى: {وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض} [الْبَقَرَة: 187] وَقد سبق شرح هَذَا. فندب الشَّرْع إِلَى السّحُور لسِتَّة أوجه:
أَحدهَا: اسْتِعْمَال رخصَة الشَّرْع فِي قَوْله: {وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر} ، وَفِي الحَدِيث: " إِن الله تَعَالَى يحب أَن يُؤْخَذ بِرُخصِهِ كَمَا يحب أَن يُؤْخَذ بِعَزَائِمِهِ.(4/110)
وَالثَّانِي: لظُهُور الْفرق؛ فَإِن صَاحب الشَّرْع كَانَ يَأْمر بمخالفة أهل الْكتاب.
وَالثَّالِث: لبَيَان أَن هَذَا الدّين سمح سهل.
وَالرَّابِع: ليظْهر رفق الْحق بِهَذِهِ الْأمة فيبدو أثر حبه لَهَا فِي اللطف بهَا.
وَالْخَامِس: ليتقوى الصَّائِم على أَدَاء الْفَرْض.
وَالسَّادِس: لدفع مَا يُوجب التأفف بالتكليف.
2306 - / 2924 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: إِن أفضل مَا نعد شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله.
بعض قرأة الحَدِيث يَقُول: أفضل مَا تعد بِالتَّاءِ الْمَفْتُوحَة؛ لِأَن ابْنه ذكره لَهُ أَشْيَاء، وَالصَّوَاب نعد بالنُّون وَكسر الْعين.
والاطباق: الْأَحْوَال، وَاحِدهَا طبق.
وَقَوله: فسنوا عَليّ التُّرَاب سنا: أَي صبوه صبا. وَالسّن: الصب مَعَ تَفْرِيق.
وَقَوله: حَتَّى أستأنس بكم. وَقد سبق فِي مُسْند أنس وَغَيره أَن الْمَيِّت يسمع خَفق النِّعَال إِذا ولوا، وَإِذا كَانَ كَذَلِك حسن أَن يَقُول: حَتَّى أستأنس بكم.
وَالْمرَاد بالرسل هُنَا مُنكر وَنَكِير.(4/111)
(113) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ
أسلم قبل أَبِيه، وَكَانَ متعبدا زاهدا، وَاسْتَأْذَنَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كِتَابَة مَا يسمع مِنْهُ فَأذن لَهُ.
وَجُمْلَة مَا ضبط عَنهُ سَبْعمِائة حَدِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا.
2307 - / 2925 - فَفِي الحَدِيث الأول: " أَربع من كن فِيهِ كَانَ منافقا خَالِصا: إِذا اؤتمن خَان، وَإِذا حدث كذب، وَإِذا عَاهَدَ غدر، وَإِذا خَاصم فجر "، وَفِي رِوَايَة: " إِذا وعد أخلف " مَكَان قَوْله: " إِذا اؤتمن خَان ".
هَذَا الحَدِيث قد سبق فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة قبل الْأَرْبَعين وَمِائَة، وَبينا هُنَالك معنى النِّفَاق، إِلَّا أَن فِي هَذَا الحَدِيث زِيَادَة، وَهِي: " إِذا عَاهَدَ غدر، وَإِذا خَاصم فجر ".
والعهد: العقد، يُقَال: عَاهَدَ فلَان: أَي عقد عقدا يُوجب عَلَيْهِ الْقيام بِمَا ضمن. والغدر: نقض الْعَهْد.
والفجور: الْخُرُوج عَن الْحق والانبعاث فِي الْبَاطِل.(4/112)
2308 - / 2926 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لم يكن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاحِشا وَلَا متفحشا.
الْفَاحِش: ذُو الْفُحْش، وَالْفُحْش: زِيَادَة الشَّيْء على المألوف من مِقْدَاره. والمتفحش: الَّذِي يتَكَلَّف ذَلِك ويتعمده.
2309 - / 2928 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنِّي أَقُول: وَالله لأصومن النَّهَار ولأقومن اللَّيْل مَا عِشْت. فَقَالَ: " أَنْت الَّذِي تَقول ذَلِك؟ ".
لما أقسم على فعل نَافِلَة وَلم يسْتَثْن زمَان مرض أَو ضعف صلح أَن يُنكر عَلَيْهِ فَيَقُول: " أَنْت الَّذِي تَقول ذَلِك؟ " وَحقّ الْجَسَد اللطف بِهِ، فَإِنَّهُ كالراحلة ترَاد للتبليغ، فَإِذا لم يرفق بهَا لم تبلغ، وَكَذَلِكَ الْعين إِذا لم يرفق بهَا ضعفت وَذَهَبت فتأذى الْبدن، وإدامة الصَّوْم والتعبد يُؤثر فِيهَا.
وَالزَّوْج يُرَاد بِهِ الْمَرْأَة، وَفِيه لُغَتَانِ: زوج وَزَوْجَة، إِلَّا أَن حذف الْهَاء أفْصح، وَبهَا ورد الْقرَان. وَمَتى أجهد الرجل نَفسه فِي الْعِبَادَة ضعف عَن قَضَاء حق الْمَرْأَة.
والحظ: النَّصِيب، وَجمع الْحَظ أحاظ على غير قِيَاس.
والزور: الْجَمَاعَة الزائرون، وَيُقَال ذَلِك للْوَاحِد وَالْجَمَاعَة.(4/113)
وَقد دلّ هَذَا على أَنه يسْتَحبّ لمن نزل بِهِ ضيف أَن يفْطر مُوَافقَة لَهُ؛ لِئَلَّا يقصر فِي الْأكل.
وَأما صَوْم دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ صَوْم يَوْم وإفطار يَوْم , وَفِيه لطف من وَجه ومشقة من وَجه: أما اللطف فَإِنَّهُ بإفطار يَوْم يتقوى ليَوْم الصَّوْم , وَأما الْمَشَقَّة فَإِن النَّفس تسكن إِلَى الْإِفْطَار فتصوم، وتسكن إِلَى الصَّوْم فتفطر.
قَوْله: " كَانَ أعبد النَّاس " قد بَين عِبَادَته فِي صَوْمه وتهجده، فَجمع بَين التَّعَبُّد والرفق بِالنَّفسِ.
وَقَوله: " كَانَ لَا يفر إِذا لَاقَى " المُرَاد أَنه كَانَ يستبقي قوته للْجِهَاد، فَكَأَنَّهُ أمره باستبقاء قوته للْجِهَاد وَغَيره من الْحُقُوق.
وَقَوله: " اقْرَأ الْقُرْآن فِي سبع " وَذَلِكَ أَن المُرَاد من الْقِرَاءَة التدبر.
وَقَوله: " هجمت لَهُ الْعين " أَي غارت وَدخلت، مِنْهُ: هجمت على الْقَوْم: دخلت عَلَيْهِم، وهجم عَلَيْهِم الْبَيْت: سقط.
ونهكت: جهدت.
و" نفهت لَهُ النَّفس " أَي أعيت وكلت، وَيُقَال للمعيى: نافه ومنفه، قَالَ رؤبة:
(بِهِ تمطت غول كل ميله ... )
(بِنَا مراجيح المهاري النفه ... )
وميله: يَعْنِي الْبِلَاد الَّتِي يوله النَّاس فِيهَا.(4/114)
وَقَوله: " لَا صَامَ من صَامَ الْأَبَد " قد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند أبي قَتَادَة.
وَقَوله: " ذَات حسب " قد سبق شرح الْحسب فِي مُسْند أبي سُفْيَان بن حَرْب.
والكنة: امْرَأَة الْوَلَد.
والكنف: السّتْر.
وَإِنَّمَا قَالَ: يَا لَيْتَني أخذت بِالرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّهُ كره أَن يُفَارق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على عَزِيمَة ثمَّ يتَغَيَّر عَنْهَا، لَا أَن ذَلِك يجب عَلَيْهِ.
وَقد سبق شرح مَا بعد هَذَا.
2310 - / 2933 - والْحَدِيث التَّاسِع: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2311 - / 2935 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: ذكر الْحَوْض: " مَاؤُهُ أَبيض من الْوَرق، من شرب بِهِ فَلَا يظمأ ".
الْوَرق: الْفضة.
والظمأ: الْعَطش.(4/115)
و " بِهِ " بِمَعْنى مِنْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {عينا يشرب بهَا عباد الله} [الْإِنْسَان: 6] ، وأنشدوا:
(شربت بِمَاء الدحرضين فَأَصْبَحت ... زوراء تنفر عَن حِيَاض الديلم)
2312 - / 2936 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: أرهقتنا الصَّلَاة.
أَي قربت منا فاستعجلنا إِلَيْهَا. يُقَال: رهقه الْأَمر: إِذا غشيه، وَقد رَوَاهُ الْخطابِيّ: أَرْهقنَا الصَّلَاة، وَقَالَ: مَعْنَاهُ: أخرناها، وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيح؛ لِأَنَّهُ فِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح: أرهقتنا الْعَصْر. وَفِي لفظ: وَقد حضرت صَلَاة الْعَصْر.
2313 - / 2937 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: أَي الْإِسْلَام خير؟ قَالَ: " تطعم الطَّعَام ".
أَرَادَ: أَي الْأَفْعَال فِي الْإِسْلَام أَكثر أجرا.
2314 - / 2938 - وَالرَّابِع عشر: قد تقدم فِي مُسْند أبي بكر. وَقد سبق مَا بعده.
2315 - / 2940 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " الْمُسلم من سلم(4/116)
الْمُسلمُونَ من يَده وَلسَانه ".
الْمَعْنى: إِن هَذَا هُوَ الْمُسلم الْكَامِل، كَمَا تَقول الْعَرَب: المَال الْإِبِل: أَي هِيَ أفضل الْأَمْوَال. وَالشعر زُهَيْر، والجود حَاتِم. وَالْمرَاد: إِن سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده فَهُوَ الَّذِي قَامَ بِحُقُوق الْإِسْلَام؛ لِأَنَّهُ عمل بِمُقْتَضى مَا قَالَ، وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} [الْأَنْفَال: 2] ، فَلَمَّا وَصفهم بأعمال الْمُؤمنِينَ قَالَ: {أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا} [الْأَنْفَال: 4] ، وَكَذَلِكَ المُهَاجر الممدوح حَقًا هُوَ الَّذِي جمع إِلَى هِجْرَة وَطنه هجران المناهي.
2316 - / 2941 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: لما كَانَ بَين عبد الله بن عَمْرو وَعبد الله بن عَنْبَسَة بن أبي سُفْيَان مَا كَانَ تيسروا لِلْقِتَالِ، فَركب خَالِد بن الْعَاصِ إِلَى عبد الله فوعظه، فَقَالَ عبد الله: أما علمت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد "؟ .
ظَاهر هَذِه الْخُصُومَة أَنَّهَا كَانَت على شَيْء من المَال، وَقد روينَا أَن مُعَاوِيَة أَرَادَ أَن يَأْخُذ أَرضًا لعبد الله.
وتيسروا: تهيؤوا لِلْقِتَالِ.
وَإِنَّمَا جعل الْمَقْتُول على المدافعة عَن مَاله شَهِيدا لِأَنَّهُ مَأْذُون لَهُ فِي المدافعة عَن مَاله، فَإِذا قتل كَانَ مَظْلُوما.(4/117)
2317 - / 2942 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
قَول قُرَيْش: سفه أَحْلَامنَا: أَي نسب عقولنا إِلَى السَّفه، وَهُوَ خفَّة الْعقل، يُقَال: ثوب سَفِيه: إِذا كَانَ رَقِيقا بَالِيًا، وأنشدوا:
(فمادت كَمَا مادت ريَاح تسفهت ... أعاليها مر الرِّيَاح النواسم)
وَقَوله: غَمَزُوهُ: أَي نالوا مِنْهُ بألسنتهم.
وَالذّبْح: الْقَتْل.
وَقَوله: كَأَنَّمَا على رَأسه طَائِر. لِأَنَّهُ إِذا تحرّك ذهب الطَّائِر.
وَقَوله: أَشَّدهم فِيهِ وصاة: أَي إِن أَشد من كَانَ يُوصي غَيره بأذاه.
يرفؤه: يسكنهُ ويلين لَهُ القَوْل ويترضاه، وَالْأَصْل الْهَمْز، وَقد يُخَفف، يُقَال: رفوت الرجل ورفأته: إِذا سكنته من غضب.
وَأما مَا نهى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُقَال للمتزوج: بالرفاء والبنين، فَإِن الرفاء يكون بمعنيين: أَحدهمَا من الِاتِّفَاق وَحسن الِاجْتِمَاع، وَمِنْه أَخذ رفء الثَّوْب؛ لِأَنَّهُ يرفأ فيضم بضعه إِلَى بعض ويلأم بَينه. وَيكون من الهدوء والسكون، قَالَ أَبُو خرَاش:
(رفوني وَقَالُوا: يَا خويلد لم ترع ... فَقلت وَأنْكرت الْوُجُوه: هم هم)(4/118)
وَحكى أَبُو عبيد عَن أبي زيد قَالَ: الرفاء: الْمُوَافقَة، وهى المرافاة بِلَا همز، وأنشدوا:
(وَلما أَن رَأَيْت أَبَا رُوَيْم ... يرافينى وَيكرهُ أَن يلاما)
وَلما كَانَ من عَادَة الْجَاهِلِيَّة أَن يَقُولُوا: بالرفاء والبنين نهى عَن ذَلِك؛ لِأَنَّهُ قد لَا يكون ذَلِك. وَقد قَالَ رجل لرجل ولد لَهُ: لِيَهنك الْفَارِس. فَقَالَ لَهُ الْحسن: وَمن أَيْن لَك أَنه فَارس؟ .
وَقَوله: انْصَرف راشدا: أَي مَحْفُوظًا عَن أَن تخاطب بمكروه.
وَقَوله: بمجمع الرِّدَاء: وَهُوَ مَا اجْتمع مِنْهُ حول الْعُنُق.
2318 - / 2943 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: فِي صفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّوْرَاة: إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا، وحرزا للأميين.
أَي حَافِظًا لدينهم، وَالْمرَاد الْعَرَب، وَسموا بالأميين لِأَن الْكِتَابَة كَانَت فيهم قَليلَة، وكل من لَا يكْتب وَلَا يقْرَأ أُمِّي، نسب بذلك إِلَى أمه.
وَقَوله: لَيْسَ بِفَظٍّ. أصل الْفظ مَاء الكرش يعتصر فيشرب عِنْد عوز المَاء. وَسمي فظا لكَرَاهَة طعمه وَغلظ مشربه.
والغليظ: الجافي القاسي الْقلب.
والسخاب يرْوى بِالسِّين وَالصَّاد. والصخب: الصياح والجلبة. وَالْمعْنَى: لَيْسَ مِمَّن ينافس فِي الدُّنْيَا وَجَمعهَا، فيحضر الْأَسْوَاق لأَجلهَا(4/119)
ويصخب مَعَ أَصْحَابهَا فِي ذَلِك.
وَالْملَّة العوجاء: مَا كَانَت عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة من جحد التَّوْحِيد وَعبادَة الْأَصْنَام.
والغلف: الَّتِي كَأَنَّهَا فِي غلاف لَا تصل إِلَى فهم شَيْء من الْخَيْر.
2319 - / 2944 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " من قتل معاهدا لم يرح رَائِحَة الْجنَّة ".
اخْتلفت الرِّوَايَة فِي يرح على ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: يرح بِفَتْح الْيَاء وَكسر الرَّاء. وَالثَّانِي: بِضَم الْيَاء وَكسر الرَّاء. وَالثَّالِث: بِفَتْح الْيَاء وَالرَّاء، وَهِي اخْتِيَار أبي عبيد، وَهِي الصَّحِيحَة، فَيُقَال: رحت الشَّيْء أراحه وأريحه، وأرحته أريحه: إِذا وجدت رِيحه.
والمعاهد: الْمُشرك الَّذِي يَأْخُذ من الْمُسلمين عهدا، فَوَاجِب حفظ مَا عوهد عَلَيْهِ.
2320 - / 2945 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " لَيْسَ الْوَاصِل بالمكافئ، وَلَكِن الْوَاصِل الَّذِي إِذا قطعت رَحمَه وَصلهَا ".
اعْلَم أَن المكافئ مُقَابل الْفِعْل بِمثلِهِ. والواصل للرحم لأجل الله تَعَالَى يصلها تقربا إِلَيْهِ وامتثالا لأَمره وَإِن قطعت، فَأَما إِذا وَصلهَا حِين تصله فَذَاك كقضاء دين، وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ: " أفضل الصَّدَقَة على ذِي الرَّحِم(4/120)
الْكَاشِح "، وَهَذَا لِأَن الْإِنْفَاق على الْقَرِيب المحبوب مشوب بالهوى , فَأَما على الْمُبْغض فَهُوَ الَّذِي لَا شوب فِيهِ.
2321 - / 2946 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " الْكَبَائِر الْإِشْرَاك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين، وَقتل النَّفس، وَالْيَمِين الْغمُوس ".
العقوق من العق: وَهُوَ الْقطع والشق.
والغموس: الَّتِي تغمس صَاحبهَا فِي الْإِثْم ثمَّ فِي النَّار، وَصفَة هَذِه الْيَمين أَن يَقُول: وَالله مَا فعلت، وَقد فعل. أَو: لقد فعلت، وَمَا فعل. وَقد اخْتلفت الْعلمَاء: هَل تجب الْكَفَّارَة بِهَذِهِ الْيَمين؟ وفيهَا رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد: المنصورة أَنَّهَا لَا تجب؛ لِأَنَّهَا أعظم من أَن تكفر. وَالثَّانيَِة: تجب كَقَوْل الشَّافِعِي.
وَاعْلَم أَن الْمَذْكُور من الْكَبَائِر فِي هَذَا الحَدِيث كَأَنَّهُ أُمَّهَات الْكَبَائِر. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود وَأبي بكرَة وَأبي هُرَيْرَة وَغَيرهم ذكر أَشْيَاء من الْكَبَائِر، وَكَأَنَّهُ يذكر مَا يعظم أمره، وكل الْمَذْكُور باسم الْكَبَائِر عَظِيم، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْكَبَائِر وأطالوا الْكَلَام فِيهَا على مَا ذكرته فِي " التَّفْسِير "، وَقد أَشرت إِلَى ذَلِك فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.(4/121)
2322 - / 2947 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: منيحة العنز.
وَقد سبق بَيَان المنيحة، وَأَنَّهَا الْعَطِيَّة، وَقد تكون هبة للْأَصْل، وَقد تكون هبة للمنافع.
2323 - / 2948 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج "، وَقد تقدم فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
و" من كذب عَليّ " قد تقدم فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
2324 - / 2949 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: كَانَ على ثقل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل يُقَال لَهُ كركرة فَمَاتَ , فَقَالَ: " هُوَ فِي النَّار " فوجدوا عباءة قد غلها.
الثّقل: الْمَتَاع الْمَحْمُول فِي السّفر مِمَّا يَسْتَعْمِلهُ الْمُسَافِر.
وَبَعض الروَاة يَقُول: كركرة بِكَسْر الْكَاف، وَبَعْضهمْ يفتحها.
والعباءة والعباية: ضرب من الأكسية. وَقد سبقت قصَّة هَذَا الرجل فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.(4/122)
2325 - / 2950 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" إِن المقسطين على مَنَابِر من نور ".
المقسط: الْعَادِل، والقاسط: الجائر.
2326 - / 2951 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنزلنا منزلا، فمنا من يصلح خباءه، وَمنا من ينتضل، وَمنا من هُوَ فِي جشره.
قَالَ أَبُو عبيد: الخباء من وبر أَو صوف، وَلَا يكون من شعر.
وينتضل " يفتعل " من النضال، وَهُوَ الرَّمْي بِالسِّهَامِ، يُقَال: نضل فلَان فلَانا فِي المراماة: إِذا غَلبه.
وَأما الجشر فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُرِيد بِهِ أَنهم أخرجُوا دوابهم من الْمنزل الَّذِي نزلوه يرعونها قرب الْبيُوت. والجشر: أَن يخرج الْقَوْم دوابهم من الْمنَازل يرعونها، يُقَال: بَنو فلَان جشر: إِذا كَانُوا يُقِيمُونَ فِي المرعى لَا يرجعُونَ إِلَى الْبيُوت كل لَيْلَة، قَالَ عُثْمَان بن عَفَّان: لَا يَغُرنكُمْ جشركم من صَلَاتكُمْ، يُرِيد عُثْمَان أَن هَذَا لَيْسَ بسفر فَلَا تقصرُوا فِيهِ الصَّلَاة.
وَقَوله: " تَجِيء فتْنَة يزلق بَعْضهَا بَعْضًا " أَي يدْفع بَعْضهَا بَعْضًا، كَأَن الثَّانِيَة تزحم الأولى لعجلة وُرُودهَا عَلَيْهَا، يُقَال: مَكَان مزلق: أَي لَا تثبت عَلَيْهِ قدم.(4/123)
ويرهق: يغشى، وَيقرب بَعْضهَا من بعض.
وَقَوله: " من بَايع إِمَامًا فَأعْطَاهُ صَفْقَة يَده وَثَمَرَة قلبه " صَفْقَة الْيَد: الْمُبَايعَة: وَثَمَرَة الْقلب: الْإِخْلَاص فِي المعقد والمعاهدة.
قَوْله: " فَإِن جَاءَ آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " قد سبق فِي مُسْند أبي سعيد معنى هَذَا، وَأَن المُرَاد: قَاتلُوهُ، فَإِن آل الْأَمر إِلَى قَتله جَازَ.
وَقَوله: هَذَا ابْن عمك - يُشِير إِلَى مُعَاوِيَة.
2327 - / 2953 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، وَخُرُوج الدَّابَّة، وَكِلَاهُمَا قد تقدم فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
2328 - / 2954 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ ثَوْبَيْنِ معصفرين، فَقَالَ: " أمك أَمرتك بِهَذَا؟ " قلت: أغسلهما؟ قَالَ: " بل احرقهما " وَفِي لفظ: " إِن هَذِه من ثِيَاب الْكفَّار ".
الثِّيَاب المعصفرة لَيست من ملابس الرِّجَال، وَإِنَّمَا تلبسها النِّسَاء، فَإِذا لبسهَا الرجل تشبه بِالْمَرْأَةِ، وَقد لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء، ولعلها قد كَانَت من ملابس الرّوم أَو فَارس، فَلذَلِك قَالَ: " من ثِيَاب الْكفَّار ".(4/124)
وَقَوله: " احرقها " مُبَالغَة فِي النَّهْي عَنْهُمَا لَا أَنه أَرَادَ الإحراق حَقِيقَة. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لهَذَا الرجل: " إِن ثَوْبك هَذَا لَو كَانَ فِي تنور أهلك أَو تَحت قدر أهلك لَكَانَ خيرا لَك " فَذهب الرجل، فَلَا يدرى، أجعله فِي التَّنور أَو تَحت الْقدر، ثمَّ غَدا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " مَا فعل الثَّوْب؟ " قَالَ: صنعت مَا أَمرتنِي بِهِ. فَقَالَ: " مَا كَذَا أَمرتك، أَفلا أَلقيته على بعض نِسَائِك؟ ". قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّك لَو بِعته ثمَّ اشْتريت بِثمنِهِ دَقِيقًا تخبزه وحطباً توقده لَكَانَ خيرا لَك من أَن تلبسه، وَلم يرد إحراقه، لِأَن ذَلِك فَسَاد، فَلَمَّا أحرقه الرجل قَالَ: " مَا كَذَا أَمرتك " أَفلا إِذْ لم تفهم مَا أَمرتك بِهِ كسوته بعض نِسَائِك، وَهَذَا لِأَن المعصفر مَكْرُوه للرِّجَال وَلَيْسَ بمكروه للنِّسَاء.
2329 - / 2955 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " سلوا الله لي الْوَسِيلَة ".
الْوَسِيلَة: الْقرْبَة والمنزلة عِنْد الله عز وَجل. وَكَأن الْمنزلَة الَّتِي ذكرهَا فِي الْجنَّة ثَمَرَة الْقرب إِلَى الله والمنزلة عِنْده.
2330 - / 2956 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَلا: {رب إنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس} [إِبْرَاهِيم: 36] .(4/125)
الْإِشَارَة إِلَى الْأَصْنَام، وَإِنَّمَا نسب الإضلال إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا كَانَت سَببا للضلال، فَكَأَنَّهَا أضلت.
2331 - / 2957 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " لَا يدخلن رجل على مغيبة ".
المغيبة: الْمَرْأَة الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوجهَا، يُقَال: أغابت الْمَرْأَة، فَهِيَ مغيبة.
2332 - / 2958 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " يُرْسل الله ريحًا من قبل الشَّام فَلَا يبْقى أحد فِي قلبه مِثْقَال ذرة إِلَّا قَبضته، حَتَّى لَو أَن أحدكُم دخل فِي كبد جبل لدخلته عَلَيْهِ ".
كبد جبل اسْتِعَارَة، وَالْمرَاد مَا غمض من بَاطِنه.
وَقَوله: " فِي خفَّة الطير وأحلام السبَاع " الْإِشَارَة بخفة الطير إِلَى سرعَة حركته وطيرانه.
والأحلام: الْعُقُول. والسبع لَا يردهُ عقله عَن الافتراس والقهر، فَكَأَنَّهُ يُشِير إِلَى مبادرتهم إِلَى قهر النَّاس وظلمهم من غير عقل صَاد عَن غَرَض.
وَقَول الشَّيْطَان للنَّاس: " أَلا تستحيون " أَي من كونكم لَا تَعْبدُونَ إِلَهًا، وَهَذَا من خَفِي مكره، فَإِذا مالوا إِلَى قَوْله أَشَارَ عَلَيْهِم بالأصنام.
والصور: قرن ينْفخ فِيهِ فَيَمُوت النَّاس عِنْد النفخ، لَا بِهِ، وَإِنَّمَا النفخ كالتنبيه لمن يسمع، لذَلِك الْحَيَاة تكون عِنْده لَا بِهِ، وَلَو كَانَت النفخة(4/126)
توجب الْمَوْت لما أوجبت الْحَيَاة؛ لِأَن الشَّيْء لَا يُوجب ضدين.
وأصغى: بِمَعْنى مَال بسمعه.
والليت: صفحة الْعُنُق، وهما ليتان من جَانِبي الْعُنُق.
ويليط حَوْضه: أَي يطينه بالطين ويسد خروقه.
ويصعق: بِمَعْنى يَمُوت.
والطل: أَضْعَف الْمَطَر. وَأما الظل بالظاء فتصحيف مِمَّن رَوَاهُ.
وَقد سبق معنى: " يكْشف عَن سَاق " فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
2333 - / 2959 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: هجرت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسمع صَوت رجلَيْنِ اخْتلفَا فِي آيَة، فَخرج يعرف فِي وَجهه الْغَضَب.
هجرت: أَي أَتَيْته وَقت الهاجرة، وَهُوَ نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر، كَذَا فسره بعض الْعلمَاء، وَالْأَشْبَه أَن يكون معنى هجرت: بكرت، وَمِنْه التهجير إِلَى صَلَاة الْجُمُعَة، وَهُوَ التبكير، وَقد سبق فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة: " مثل المهجر إِلَى الْجُمُعَة كَمثل الَّذِي يهدي بَدَنَة ".
وَقد سبق بَيَان الِاخْتِلَاف فِي الْآيَات، وَأَنه اخْتِلَاف فِي اللُّغَات، وَقد أجَاز لَهُم الْقِرَاءَة على لغاتهم، وَإِنَّمَا خَافَ من اخْتلَافهمْ لِئَلَّا يجْحَد بَعضهم مَا هُوَ من الْقُرْآن فيكفر.(4/127)
2334 - / 2960 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " ثمَّ ينطلقون إِلَى مَسَاكِين الْمُهَاجِرين فيحملون بَعضهم على رِقَاب بعض ".
كَأَن الْإِشَارَة إِلَى تَقْدِيم بَعضهم على بعض فِي الولايات.
2335 - / 2961 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " وَوقت الْمغرب مَا لم يسْقط ثَوْر الشَّفق ".
الشَّفق: الْحمرَة الَّتِي تكون من وَقت الْمغرب إِلَى وَقت الْعشَاء. وثور الشَّفق: انتشاره وثورانه، قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: ثار يثور ثورا وثورانا: إِذا انْتَشَر فِي الْأُفق.
وَقد سبق بَيَان قَوْله: " بَين قَرْني شَيْطَان " فِي مَوَاضِع.
2336 - / 2964 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: " أَفْلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنعه الله بِمَا آتَاهُ ".
أَفْلح: بِمَعْنى فَازَ وَنَجَا.
والكفاف: مَا كف عَن الِاحْتِيَاج وَكفى.
والقناعة: الرِّضَا بالكفاف وَترك الشره إِلَى الازدياد
2337 - / 2965 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " مَا من غَازِيَة أَو(4/128)
سَرِيَّة تخفق وتصاب إِلَّا تمت أُجُورهم ".
الغازية: الْجَمَاعَة الغازية.
والسارية: جمَاعَة تسري إِلَى الْعَدو. وَقَالَ ابْن السّكيت: السّريَّة: مَا بَين الْخَمْسَة إِلَى ثَلَاثمِائَة. وَالْخَمِيس: مَا زَاد على ذَلِك.
وَقَوله: " تخفق " يُقَال: أخفق الرجل يخْفق فَهُوَ مخفق: إِذا غزا وَلم يغنم، ثمَّ يسْتَعْمل هَذَا فِي كل من خَابَ فِي مطلبه.
2338 - / 2966 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: " الدُّنْيَا مَتَاع، وَخير مَتَاع الدُّنْيَا الْمَرْأَة الصَّالِحَة ".
الْمَتَاع: مَا ينْتَفع بِهِ ويستمتع.
وَصَلَاح الْمَرْأَة دينهَا، وصاحبة الدّين تجتنب الأنجاس والأوساخ، وتحسن أخلاقها، وتصبر على جفَاء زَوجهَا وَقلة نَفَقَته، وَلَا تخونه فِي مَاله، فيطيب لذَلِك عيشه.
2339 - / 2967 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " كتب الله مقادير الْخَلَائق قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِخَمْسِينَ ألف سنة ".
كَأَن الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى خلق اللَّوْح وَالْكِتَابَة فِيهِ، وَذَلِكَ قد كَانَ قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض.
2340 - / 2968 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: " إِن قُلُوب بني آدم كلهَا(4/129)
بَين إِصْبَعَيْنِ من أَصَابِع الرَّحْمَن كقلب وَاحِد يصرفهُ حَيْثُ يَشَاء ".
قَالَ بعض الْعلمَاء: لما كَانَ المتقلب بَين إِصْبَعَيْنِ دَلِيلا لمقلبه، مقهورا فِي قسره، دلّ على أَن الْقُلُوب متصرفة على مَا يصرفهَا.
2341 - / 2970 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: " فرَاش للرجل، وفراش لامْرَأَته، وَالثَّالِث للضيف، وَالرَّابِع للشَّيْطَان ".
هَذَا الحَدِيث قد نبه على حسن المعاشرة للزَّوْجَة باتخاذ فرَاش لَهَا وفراش لزَوجهَا، وَذَلِكَ ضد مَا أكبر الْعَوام عَلَيْهِ من النّوم إِلَى جَانب الزَّوْجَة؛ فَإِن النّوم قد يحدث فِيهِ حوادث يكرهها أَحدهمَا من الآخر، وَلَا يَنْبَغِي أَن يجتمعا إِلَّا على أحسن حَال لتدوم الْمحبَّة؛ فَإِن ظُهُور الْعُيُوب تسلي عَن المحبوب، وَيَنْبَغِي أَن يكون الْفراش قَرِيبا من الآخر ليجتمعا إِذا أَرَادَا وينفصلا إِذا شاءا.
وَقد نبه على هَذَا مَا تقدم فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِذا دَعَا الرجل امْرَأَته إِلَى فرَاشه ... "، وعَلى هَذَا جُمْهُور الْمُلُوك والحكماء. وَمَتى كَانَت الْمَرْأَة عَاقِلَة احترزت أَن يرى الرجل مِنْهَا مَكْرُوها، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي للرجل أَن يحْتَرز. قَالَ ابْن عَبَّاس: إِنِّي لأحب أَن أتزين للْمَرْأَة كَمَا تتزين لي، وَقَالَت بدوية لابنتها حِين أَرَادَت زفافها: لَا يطلعن مِنْك على قَبِيح، وَلَا يشمن إِلَّا طيب ريح.(4/130)
وَأما قَوْله: " فالرابع للشَّيْطَان " فَإِن اتِّخَاذه إِسْرَاف؛ إِذْ لَا حَاجَة إِلَيْهِ وَرُبمَا قصد بِهِ مَا لَا يحسن.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: برك بِهِ بعير، وَفِي لفظ: أزحف بِهِ. إِنَّمَا قيل: برك الْبَعِير؛ لِأَنَّهُ يَقع على صَدره وَيثبت عَلَيْهِ، والبرك: الصَّدْر، وَسميت بركَة المَاء لثُبُوت المَاء فِيهَا.
وَقَوله: أزحف بِهِ، يُقَال: أزحف الْبَعِير: إِذا قَامَ من الإعياء، وزحف، وأزحفه السّير.(4/131)
(114) كشف الْمُشكل من مُسْند عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ
جملَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة وَسِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة:
2342 - / 2971 - فَفِيمَ انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ: " ثمَّ موتان يَأْخُذ فِيكُم كقعاص الْغنم ".
الموتان بِضَم الْمِيم وَسُكُون الْوَاو: الْمَوْت، يُقَال: وَقع الموتان فِي المَال. ويغلط بعض أَصْحَاب الحَدِيث فِي هَذَا فَيَقُول: موتان بِفَتْح الْمِيم وَالْوَاو، وَإِنَّمَا ذَلِك اسْم للْأَرْض لم تحي بعد بزرع وَلَا إصْلَاح، وفيهَا لُغَة أُخْرَى: فتح الْمِيم وَإِسْكَان الْوَاو. فالموات بِفَتْح الْمِيم وَالْوَاو اسْم لتِلْك الأَرْض.
والقعاص: دَاء يَأْخُذ الْإِبِل فَلَا يلبثها أَن تَمُوت، وَمِنْه أَخذ الإقعاص، وَهُوَ الْقَتْل على الْمَكَان، يُقَال: ضربه فأقعصه. وَأما استفاضة المَال فكثرته، وَمِنْه يُقَال: حَدِيث مستفيض، وَلَا يجوز أَن يُقَال: مستفاض إِلَّا أَن يُقَال: مستفاض فِيهِ: أَي كثير الجريان فِي كَلَام النَّاس.(4/132)
والهدنة: أَصْلهَا السّكُون. يُقَال: هدنت أهدن، فَسُمي الصُّلْح على ترك الْقِتَال هدنة ومهادنة؛ لِأَنَّهُ سُكُون عَن الْقِتَال بعد التحرك فِيهِ.
وَبَنُو الْأَصْفَر: الرّوم. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند أبي سُفْيَان.
والراية مَعْرُوفَة. وَقد جَاءَ فِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق آخر: غَايَة بالغين، قَالَ لنا شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: راية وَغَايَة وَالْمعْنَى وَاحِد، وَقد رَوَاهُ بَعضهم بِالْبَاء مَعَ الْغَيْن، والغابة: الأجمة، فَشبه كسر الرماح بالأجمة، كَذَلِك حكى أَبُو عبيد، قَالَ: وَقد رَوَاهُ بَعضهم غياية، وَلَا مَوضِع للغياية هَاهُنَا.
2343 - / 2973 - وَقد سبق تَفْسِير الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد مُسلم.
2344 - / 2974 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث من أَفْرَاد مُسلم: كُنَّا نرقي فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، كَيفَ ترى فِي ذَلِك؟ فَقَالَ: " اعرضوا عَليّ رقاكم , لَا بَأْس بالرقى مَا لم يكن شرك ".
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الْمنْهِي عَنهُ فِي الرقى مَا كَانَ بِغَيْر لِسَان الْعَرَب , فَلَا يدرى مَا هُوَ , وَلَعَلَّه قد دخله سحر وَكفر , فَإِذا كَانَ مَفْهُوم الْمَعْنى , وَكَانَ فِيهِ ذكر الله تَعَالَى فَإِنَّهُ مُسْتَحبّ متبرك بِهِ.(4/133)
2345 - / 2975 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " مثلكُمْ وَمثلهمْ كَمثل رجل استرعى غنما فأوردها حوضا فشرعت فِيهِ ".
أَي وَردت شَرِيعَته، وَهِي مَوضِع الْوُرُود إِلَى المَاء.
وَقَوله: قضى بالسلب للْقَاتِل. السَّلب: كل مَا كَانَ على الْمَقْتُول فِي حَال الْقِتَال من ثِيَاب وَسلَاح وَحلية. فَأَما الْفرس فَهَل هُوَ من السَّلب أم لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَأما نَفَقَته ورحله فغنيمة. وَقد سبق الْكَلَام فِي السَّلب فِي مُسْند أبي قَتَادَة.(4/134)
(115) كشف الْمُشكل من مُسْند وَاثِلَة بن الْأَسْقَع
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة وَخَمْسُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
2346 - / 2977 - فَفِي الحَدِيث الأول: " أعظم الفرى أَن يَدعِي الرجل إِلَى غير أَبِيه ".
يَدعِي بِمَعْنى ينتسب. وَقد شرحنا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عمر.
2347 - / 2978 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " إِن الله اصْطفى كنَانَة من بني إِسْمَاعِيل ".
الْمَعْنى: اخْتَار، وصفوة الشَّيْء: خالصه. أخبرنَا عبد الله بن سعيد الْأَزجيّ قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَيُّوب قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْعَلَاء الوَاسِطِيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الْفَارِسِي قَالَ: قَالَ الزّجاج: اصْطفى فِي اللُّغَة بِمَعْنى اخْتَار، أَي جعلهم صفوة خلقه، وَهَذَا تَمْثِيل بِمَا يرى؛ لِأَن الْعَرَب تمثل الْمَعْلُوم بالشَّيْء المرئي، فَإِذا سمع السَّامع ذَلِك الْمَعْلُوم كَانَ عِنْده بِمَنْزِلَة(4/135)
مَا يُشَاهد عيَانًا، وَنحن نعاين الشَّيْء الصافي أَنه النقي من الكدر، فَكَذَلِك صفوة الله من خلقه.(4/136)
(116) كشف الْمُشكل من مُسْند عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ
جملَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة وَخَمْسُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة عشر.
2348 - / 2979 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " إِنِّي فرط لكم ".
الفرط: الْمُتَقَدّم، وَقد سبق شَرحه.
ومفاتيح الخزائن: مَا يفتح على أمته من الْغَنَائِم.
والمنافسة فِي الشَّيْء: الْمُنَازعَة على الِانْفِرَاد بِهِ.
2349 - / 2980 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: اهدي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فروج جَدِيد فلبسه.
الَّذِي ضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد وَغَيره فروج بِفَتْح الْفَاء مَعَ تَشْدِيد الرَّاء، وَأخْبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا التبريزي قَالَ: قَالَ المعري: وَيُقَال: فروج بِضَم الْفَاء وَالرَّاء من غير تَشْدِيد على وزن(4/137)
خُرُوج. قَالَ أَبُو عبيد: وَهُوَ القباء الَّذِي فِيهِ شقّ من خَلفه.
2350 - / 2981 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: فَبَقيَ عتود فَقَالَ: " ضح بِهِ ".
العتود من أَوْلَاد الْمعز فَوق الجفر، والجفر: الَّذِي فصل عَن أمه بعد أَرْبَعَة أشهر، وَجمع العتود أعتدة وعدان، وَهَذَا مَحْمُول على أَنه قد بلغ سِتَّة أشهر وأجذع.
2351 - / 2982 - والْحَدِيث الرَّابِع: قد سبق فِي مُسْند أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ.
2352 - / 2983 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " أَحَق الشُّرُوط أَن توفوا بِهِ مَا استحللتم بِهِ الْفروج ".
وَفِي يَفِي، وأوفى يُوفي، لُغَتَانِ، وَمَعْنَاهُ الْقيام بِمَا ضمنه، مثل أَن يَتَزَوَّجهَا على أَلا يُخرجهَا من دارها أَو من بَلَدهَا وَنَحْو ذَلِك، فَعَلَيهِ الْوَفَاء بِهَذَا، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل خلافًا لأكثرهم.
2353 - / 2984 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " إيَّاكُمْ وَالدُّخُول على(4/138)
النِّسَاء "، فَقَالَ رجل: أَفَرَأَيْت الحمو؟ قَالَ: " الحمو الْمَوْت ".
قَالَ أَبُو عبيد: الحمو: أَبُو الزَّوْج، وَفِيه لُغَات: حموها مثل " أَبوهَا " وحماها مثل قفاها، وحمؤها مَقْصُور مَهْمُوز، وحمؤها وحمها. قَالَ: وَقَوله: " الْمَوْت " يَقُول: فليمت وَلَا يفعل ذَلِك. فَإِذا كَانَ هَذَا من رَأْيه فِي أبي الزَّوْج وَهُوَ محرم فَكيف بالغريب.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الْمَعْنى: احذر الحمو كَمَا تحذر الْمَوْت. وَفِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ اللَّيْث: الحمو: أَخُو الزَّوْج وَمَا أشبهه من أقَارِب الزَّوْج: ابْن الْعم وَنَحْوه. وَلَا أَدْرِي من أَي وَجه قَالَ هَذَا اللَّيْث إِلَّا أَن يكون أَرَادَ ذكر من يحرم على الْمَرْأَة، فَلَا يكون تَفْسِيرا للحمو.
2354 - / 2985 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: نذرت أُخْتِي أَن تمشي إِلَى بَيت الله، وأمرتني أَن أستفتي لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: " لتمشي ولتركب ".
إِذا مشت فتعبت فقد فعلت قدر طاقتها، فَإِذا ركبت لموْضِع عجزها(4/139)
عَن الْمَشْي فعلَيْهَا كَفَّارَة يَمِين.
2355 - / 2986 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ:
أتيت عقبَة فَقلت: أَلا أعْجبك من أبي تَمِيم؟ يرْكَع رَكْعَتَيْنِ قبل صَلَاة الْمغرب. فَقَالَ عقبَة: إِنَّا كُنَّا نفعله على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت فَمَا يمنعك الْآن؟ قَالَ: الشّغل.
أَبُو تَمِيم هُوَ الجيشاني، واسْمه عبد الله بن مَالك، وَلَيْسَ من الصَّحَابَة؛ إِنَّمَا هُوَ تَابِعِيّ سمع من عمر بن الْخطاب وَأبي ذَر.
وَأما الرُّكُوع قبل الْمغرب فَلقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " بَين كل أذانين صَلَاة، لمن شَاءَ "، وَلِأَن وَقت النَّهْي قد خرج بغيبوبة الشَّمْس.
2356 - / 2987 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" كَفَّارَة النّذر كَفَّارَة الْيَمين ".
وَذَلِكَ أَن من نذر فعل شَيْء يجوز فعله وَجب عَلَيْهِ الْإِتْيَان بِمَا نذر، فَإِن عجز كفر كَفَّارَة يَمِين.(4/140)
2357 - / 2988 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " ألم تَرَ آيَات أنزلت هَذِه اللَّيْلَة لم ير مِثْلهنَّ قطّ؟ {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} ، و {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} ، وَفِي لفظ: " المعوذتين ".
أعوذ بِمَعْنى: ألجأ وألوذ.
وَفِي {الفلق} أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: الصُّبْح، وَالثَّانِي: الْخلق كُله. وَالثَّالِث: سجن فِي جَهَنَّم، وَهَذِه الْأَقْوَال عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ وهب: حَيَّة فِي جَهَنَّم. وَقَالَ السّديّ: وَاد فِي جَهَنَّم. وَالرَّابِع: أَنه كل مَا انْفَلق عَن شَيْء كالصبح وَالْحب والنوى، قَالَه الْحسن.
وَفِي أَحْدَاث الطلاب من يَقُول: المعوذتين بِفَتْح الْوَاو، وَالصَّوَاب الْكسر.
2358 - / 2989 - والْحَدِيث الثَّالِث: قد تقدم.
2359 - / 2990 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " من علم الرَّمْي ثمَّ تَركه فَلَيْسَ منا. أَو قد عصى ".
قَوْله: " لَيْسَ منا " أَي لَيْسَ على سيرتنا , وَهَذَا لِأَن الرَّمْي من آلَة الْجِهَاد، فَإِذا تَركه من علمه نَسيَه.(4/141)
2360 - / 2991 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قَالَ عبد الله بن عَمْرو: لَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار الْخلق، هم شَرّ من أهل الْجَاهِلِيَّة. فَقَالَ عقبَة: أما أَنا فَسمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لَا تزَال عِصَابَة من أمتِي يُقَاتلُون ظَاهِرين ".
وَجه الْجمع بَين الْقَوْلَيْنِ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى إِقَامَة السَّاعَة أمات الأخيار فَقَامَتْ على الأشرار. وَالثَّانِي: أَن يكون الأخيار نَادرا فِي ذَلِك الزَّمَان ويعم الشَّرّ.
2361 - / 2992 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن فِي الصّفة فَقَالَ: " أَيّكُم يحب أَن يَغْدُو إِلَى بطحان أَو إِلَى العقيق فَيَأْتِي مِنْهُ بناقتين كوماوين؟ ".
الصّفة: مَوضِع مظلل من الْمَسْجِد كَانَ الْفُقَرَاء يأوون إِلَيْهِ.
وبطحان مَوضِع مَعْرُوف، وَسمي بذلك لسعته، وَكَذَلِكَ الأبطح. والعقيق مَوضِع.
والكوماء من الأبل: الْعَظِيمَة السنام.
2362 - / 2993 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينهانا أَن نصلي فِيهِنَّ أَو أَن نقبر فِيهِنَّ مَوتَانا: حِين تطلع الشَّمْس بازغة، وَحين يقوم قَائِم الظهيرة، وَحين تضيف الشَّمْس للغروب.(4/142)
يُقَال: بزغت الشَّمْس فَهِيَ بازغة لأوّل طُلُوعهَا.
والظهيرة: اشتداد الْحر قبل الزَّوَال.
وتضيفت الشَّمْس للغروب وضافت: مَالَتْ. وَيُقَال: ضاف السهْم عَن الهدف: إِذا مَال عَنهُ، وأضفته أَنا. قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(فَلَمَّا دخلناه أضفنا ظُهُورنَا ... إِلَى كل حاري حَدِيد مشطب)
قَالَ أَبُو عبيد: وتصيفت بالصَّاد مثل تضيفت.(4/143)
(117) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي
قد اخْتلفُوا فِي اسْمه على أَقْوَال قد ذكرتها فِي " التلقيح "، أثبتها جرهم ابْن ناشب. وَأخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
2363 - / 2996 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: قلت: يَا رَسُول الله، إِنَّا بِأَرْض قوم أهل كتاب، أفنأكل فِي آنيتهم؟ قَالَ: " إِن وجدْتُم غَيرهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِن لم تَجدوا فَاغْسِلُوا وكلوا فِيهَا ".
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: إِنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي أواني الْمَجُوس وَمن يذهب مَذْهَبهم فِي مس النَّجَاسَات، وَكَذَلِكَ فِيمَن يعْتَاد أكل لُحُوم الْخَنَازِير، فَأَما من مذْهبه توقي النَّجَاسَات فَإِن أصل آنيتهم الطَّهَارَة.
2364 - / 2997 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: نهى عَن أكل كل ذِي نَاب من السبَاع. وَقد تقدم.
وَفِيه: قَالَ يُونُس: سَأَلت ابْن شهَاب: هَل يتَوَضَّأ أَو يشرب ألبان الْإِبِل أَو مرَارَة السَّبع أَو أَبْوَال الْإِبِل؟ فَقَالَ: كَانَ الْمُسلمُونَ يتداوون بهَا،(4/144)
وَأما ألبان الأتن فقد بلغنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن لحومها، وَلم يبلغنَا عَن أَلْبَانهَا أَمر وَلَا نهي.
فِي كَلَام الزُّهْرِيّ اخْتِصَار، وَالْمعْنَى: هَل يتَوَضَّأ من أكل لُحُوم الْإِبِل أَو من شرب أَلْبَانهَا؟
وَأما التَّدَاوِي بأبوال الْإِبِل فقد سُئِلَ أَحْمد عَن ذَلِك فَقَالَ: لَا بَأْس. وَسُئِلَ مرّة أُخْرَى فَقَالَ: أما من عِلّة فَنعم، وَأما رجل صَحِيح فَلَا يُعجبنِي أَن يشرب أَبْوَال الْإِبِل. قَالَ الْخلال: وَالرِّوَايَة الصَّحِيحَة جَوَاز شربهَا لغير ضَرُورَة.
والأتن: الْحمير، وَأَلْبَانهَا تَابِعَة لَهَا، وَكَذَلِكَ مرَارَة السَّبع تَابِعَة لجملته.
2365 - / 2998 - والْحَدِيث الثَّالِث: قد تقدم.
2366 - / 2999 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم:
" إِذا رميت بسهمك فَغَاب عَنْك فَأَدْرَكته فكله مَا لم ينتن ".
اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن أصَاب صيدا بِالرَّمْي فَغَاب عَنهُ ثمَّ وجده مَيتا،(4/145)
فالمنصور عندنَا أَنه يحل. وَعَن أَحْمد أَنه إِن وجده فِي يَوْمه حل وَإِن غَابَ عَنهُ لم يحل، وَعنهُ: إِن كَانَت الْإِصَابَة مُوجبَة حل وَإِلَّا فَلَا، وَهَكَذَا الحكم فِيهِ إِذا أرسل الْكَلْب عَلَيْهِ فَغَاب عَنهُ ثمَّ وجده قَتِيلا، وَعَن مَالك كالروايتين الْأَوليين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن اشْتغل بِطَلَبِهِ حل وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي أحد قوليه: لَا يحل بِحَال، وَالْقَوْل الآخر كالرواية الأولى.(4/146)
(118) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ
واسْمه صدي بن عجلَان، وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِائَتَا حَدِيث وَخَمْسُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة.
2367 - / 3000 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: " الْحَمد لله كثيرا غير مكفي وَلَا مُودع وَلَا مُسْتَغْنى عَنهُ، رَبنَا، وَلَا مكفور ".
قَوْله: " غير مكفي " إِشَارَة إِلَى الطَّعَام. وَالْمعْنَى: رفع هَذَا الطَّعَام غير مكفي: أَي غير مقلوب عَنَّا، من قَوْلك: كفأت الْإِنَاء: إِذا قلبته. وَالْمعْنَى: غير مُنْقَطع عَنَّا.
وَقَوله: " وَلَا مُودع " يَعْنِي الطَّعَام الَّذِي رفع. " وَلَا مُسْتَغْنى عَنهُ " عَائِذ إِلَيْهِ أَيْضا. ثمَّ قَالَ: " رَبنَا " بِفَتْح الْبَاء، وَالْمعْنَى: يَا رَبنَا، فَحذف حرف النداء. وَبَعض الْمُحدثين يَقُولُونَ: " رَبنَا " بِالرَّفْع، وَالْمعْنَى على مَا شرحناه.
وَكَذَلِكَ قَوْله: " غير مكفور " يرجع إِلَى الطَّعَام. وَالْمعْنَى: لَا نكفر(4/147)
نِعْمَتك بِهَذَا الطَّعَام. وَقَالَ شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: صَوَابه: غير مكافأ، فَيَعُود إِلَى الله تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا تكافأ نعْمَته.
2368 - / 3001 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: عَن أبي أُمَامَة أَنه رأى سكَّة وشيئا من آلَة الْحَرْث فَقَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لَا يدْخل هَذَا بَيت قوم إِلَّا دخله الذل ".
السِّكَّة: الحديدة الَّتِي يحرث بهَا.
وَوجه الذل فِي ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا يلْزم الزراع من حُقُوق الأَرْض فيطالبهم السُّلْطَان بذلك. وَالثَّانِي: أَن الْمُسلمين إِذا أَقبلُوا على الزِّرَاعَة شغلوا عَن الْغَزْو، وَفِي ترك جِهَاد الْعَدو نوع ذل.
2369 - / 3002 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِنَّمَا كَانَت حليتهم العلابي والآنك ".
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: العلابي: العصب، الْوَاحِدَة علْبَاء، وَبِه سمي الرجل، وَكَانَت الْعَرَب تشد بالعلابي وَهِي رطبَة أجفان السيوف فتجف عَلَيْهَا، وتشد الرمْح بهَا إِذا خيف أَن ينكسر. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: العلابي جمع العلباء: وَهُوَ عصب الْعُنُق، وهما علباوان، والعلباء أمتن مَا يكون فِي الْبَعِير من الأعصاب.(4/148)
فَأَما الآنك فَقَالَ أَبُو الْحسن الْهنائِي اللّغَوِيّ: الآنك: الأسرب، وَهُوَ الرصاص القلعي، وَلَيْسَ فِي الْكَلَام اسْم على " أفعل " غَيره.
2370 - / 3003 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" وَلَا يلام على كفاف ".
الكفاف: قدر الطَّاقَة الَّتِي لَا فضل فِيهَا، فَهُوَ مَا كف وَكفى. وَالْفضل: مَا فضل عَن الكفاف وَصَارَ ذخيرة بعد الْقُوت.
2371 - / 3005 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: جَاءَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت حدا، فأقمه عَليّ - ثَلَاث مَرَّات -. فَقَالَ: " أَلَيْسَ تَوَضَّأت وَشهِدت الصَّلَاة مَعنا؟ " قَالَ: نعم، قَالَ: " فَإِن الله قد غفر لَك حدك " أَو قَالَ: " ذَنْبك ".
هَذَا الرجل مَا ذكر شَيْئا يُوجب عَلَيْهِ شَيْئا، فَلذَلِك سكت عَنهُ وَجعل ندمه وَصلَاته مكفرة لذنبه، وَقد سبق هَذَا.
2372 - / 3006 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " اقْرَءُوا الزهراوين، فَإِنَّهُمَا يأتيان كَأَنَّهُمَا غمامتان أَو غيايتان، أَو كَأَنَّهُمَا فرقان من طير صواف ".(4/149)
وَقَالَ فِي " الْبَقَرَة ": " لَا تستطيعها البطلة ".
الزهراوان: المنيرتان. يُقَال لكل مُنِير زَاهِر. والزهرة: الْبيَاض النير.
وَقَوله: " كَأَنَّهُمَا غمامتان " الغمامة والغمام: الْغَيْم الْأَبْيَض، وَسمي غماما لِأَنَّهُ يغم السَّمَاء: أَي يغطيها، يُقَال: غامت السَّمَاء وأغامت وتغيمت وغيمت وغمت وأغمت وغيمت.
وَقَوله: " أَو غيايتان " قَالَ أَبُو عبيد: الغياية: كل شَيْء أظل الْإِنْسَان فَوق رَأسه مثل السحابة والغبرة. وَيُقَال: غايا الْقَوْم فَوق رَأس فلَان بِالسَّيْفِ، كَأَنَّهُمْ أظلوه، قَالَ لبيد:
(فتدليت عَلَيْهِ قَافِلًا ... وعَلى الأَرْض غيايات الطِّفْل)
وَقَوله: " كَأَنَّهُمَا فرقان " الْفرق: الْقطعَة من الشَّيْء، قَالَ عز وَجل: {فَكَانَ كل فرق كالطود الْعَظِيم} [الشُّعَرَاء: 63] ، وَيُقَال للقطيع من الْغنم: فرق. وَمعنى قَوْله: " فرقان " قطعتان.
وَقَوله: " صواف " أَي مصطفة متضامة لتظلل قَارِئهَا. البطلة: السَّحَرَة.(4/150)
(119) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن بسر السكونِي
أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان. انْفِرَاد البُخَارِيّ بِحَدِيث وَاحِد.
2373 - / 3007 - وَفِيه: كَانَ فِي عنفقته شَعرَات بيض.
العنفقة: مَا تَحت الشّفة السُّفْلى من شعر اللِّحْيَة.
2374 - / 3008 - وَانْفَرَدَ مُسلم بِحَدِيث وَهُوَ: نزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَاما ورطبة.
كَذَا فِي كتاب مُسلم فِيمَا وَقع إِلَيْنَا، وَحَكَاهُ أَبُو مَسْعُود صَاحب " التعليقة " بِالْوَاو فَقَالَ: ووطبة. وَلَا شكّ أَنه قد وجده فِي نُسْخَة أُخْرَى وَقد رَوَاهُ البرقاني فِي كِتَابه بِالْوَاو كَمَا حَكَاهُ أَبُو مَسْعُود، وَذكر عَن النَّضر ابْن شُمَيْل فِي تَفْسِيره أَن الوطبة الحيس. قَالَ: وَذَلِكَ أَنه يجمع بَين التَّمْر البرني والأقط المدقوق وَالسمن الْجيد ثمَّ يسْتَعْمل. وَالنضْر بن شُمَيْل هُوَ الَّذِي روى الحَدِيث عَن شُعْبَة على الصِّحَّة ثمَّ فسره، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَمن رَوَاهُ بالراء من أَصْحَاب الحَدِيث فَإِنَّهُ لم يعرف الوطبة وَعرف(4/151)
الرّطبَة، وَقَلِيل من الْمُحدثين يعرف الْعَرَبيَّة.(4/152)
(120) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي مَالك أَو أبي عَامر الْأَشْعَرِيّ
كَذَا رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن غنم فَشك أَي الرجلَيْن حَدثهُ، وَهُوَ حَدِيث وَاحِد أخرجه البُخَارِيّ تَعْلِيقا. وَأما أَبُو مَالك فَاخْتَلَفُوا فِي اسْمه وَاسم أَبِيه على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا عَمْرو. وَالثَّانِي: عبيد. وَالثَّالِث: كَعْب بن عَاصِم. وَالرَّابِع: الْحَارِث بن مَالك. وَجُمْلَة مَا روى سَبْعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، وَمَا أخرج عَنهُ سوى مُسلم، فَإِنَّهُ أخرج لَهُ حديثين من غير شكّ، وَسَيَأْتِي بعد هَذَا، وَأخرج هَذَا الحَدِيث البُخَارِيّ على الشَّك.
وَأما أَبُو عَامر فاسمه عبيد بن هَانِئ، وَجُمْلَة مَا روى حديثان، وَلم يخرج لَهُ سوى هَذَا الحَدِيث الْمَشْكُوك فِيهِ.
2375 - / 3009 - وَفِي الحَدِيث الْمَشْكُوك فِيهِ: " يسْتَحلُّونَ الْخَزّ وَالْحَرِير وَالْمَعَازِف، ولينزلن أَقوام إِلَى جنب علم تروح عَلَيْهِم سارحة لَهُم فيبيتهم الله، وَيَضَع الْعلم ".
الَّذِي فِي هَذَا الحَدِيث الْخَزّ بِالْخَاءِ وَالزَّاي، وَهُوَ مَعْرُوف. وَقد جَاءَ(4/153)
فِي حَدِيث يرويهِ أَبُو ثَعْلَبَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يسْتَحل الْحر وَالْحَرِير " يُرَاد بِهِ استحلال الْحَرَام من الْفروج، فَهَذَا بِالْحَاء وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ مخفف، فَذَكرنَا هَذَا لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنَّهُمَا شَيْء وَاحِد.
وَأما المعازف فَهِيَ الملاهي المصوتة، مَأْخُوذَة من عزفت الْجِنّ: إِذا صوتت، وَهِي فِي الْعرف اسْم لنَوْع مَخْصُوص يلْعَب بِهِ. والعزف: اللّعب بالمعازف.
وَالْعلم: الْجَبَل، وَجمعه أَعْلَام، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَله الْجوَار الْمُنْشَآت فِي الْبَحْر كالأعلام} [الرَّحْمَن: 24] ، وأنشدوا:
(إِذا قطعن علما بدا علم ... )
والسارحة: الْمَاشِيَة الَّتِي تسرح بِالْغَدَاةِ إِلَى مراعيها. وَمعنى تروح عَلَيْهِم: أَي بالْعَشي.
قَوْله: " فيبيتهم الله " أَي يُهْلِكهُمْ بِاللَّيْلِ، والبيات والتبييت: إتْيَان الْعَدو لَيْلًا، وَبَيت الرجل الْأَمر: إِذا دبره لَيْلًا، قَالَ الشَّاعِر:
(أَتَوْنِي فَلم أَرض مَا بيتوا ... وَكَانُوا أَتَوْنِي بِشَيْء نكر)
والبيوت: الْأَمر يبيت عَلَيْهِ صَاحبه مهتما بِهِ. قَالَ الْهُذلِيّ:
(وَأَجْعَل فقرتها عدَّة ... إِذا خفت بيُوت أَمر عضال)(4/154)
وَقَوله: " وَيَضَع الْعلم " أَي يَرْمِي بِالْجَبَلِ أَو يخسف بِهِ.
2376 - / 3010 - وَفِي الحَدِيث الأول من مُسْند أبي مَالك: " الطّهُور شطر الْإِيمَان ".
الطّهُور هَاهُنَا يُرَاد بِهِ التطهر. والشطر: النّصْف. وَكَأن الْإِشَارَة إِلَى الصَّلَاة وَأَنَّهَا لَا تصح إِلَّا بِالطَّهَارَةِ فَكَأَنَّهَا نصفهَا. وَقد سمى الله عز وَجل الصَّلَاة إِيمَانًا بقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} [الْبَقَرَة: 143] .
وَقَوله: " سُبْحَانَ الله " هُوَ تَنْزِيه الله عز وَجل عَن كل مَا نزه عَنهُ نَفسه.
وَقَوله: " الْحَمد لله " الْحَمد ثَنَاء على الْمَحْمُود، ويشاركه الشُّكْر، إِلَّا أَن بَينهمَا فرقا: وَهُوَ أَن الْحَمد ثَنَاء على الْإِنْسَان فِيمَا فِيهِ حسن؛ ككرم وشجاعة وَحسب، وَالشُّكْر ثَنَاء عَلَيْهِ بِمَعْرُوف أولاكه. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَقد يوضع الْحَمد مَوضِع الشُّكْر فَيُقَال: حمدته على معروفه عِنْدِي، كَمَا يُقَال: شكرت لَهُ، وَلَا يوضع الشُّكْر مَوضِع الْحَمد، فَيُقَال: شكرت لَهُ على شجاعته.
وَقَوله: " وَالصَّلَاة نور " أَي بَين يَدي الْمُصَلِّي فِي سبله.
وَقَوله: " وَالصَّدَََقَة برهَان " أَي حجَّة لطلب الْأجر من جِهَة أَنَّهَا قرض.
وَقَوله: " وَالصَّبْر ضِيَاء " لِأَن مستعمله يرى طَرِيق الرشد، وتارك الصَّبْر فِي ظلمات الْجزع.
وَقَوله: " فبائع نَفسه "؛ من بَاعَ نَفسه ربه عز وَجل أعْتقهَا فنجت،(4/155)
وَمن بَاعهَا للهوى وَسلم قياده إِلَيْهِ أوبقها: أَي أهلكها. والموبق: المهلك.
2377 - / 3011 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " أَربع من أَمر الْجَاهِلِيَّة: الْفَخر بِالْأَحْسَابِ، والطعن فِي الْأَنْسَاب، وَالِاسْتِسْقَاء بالنجوم، والنياحة " وَقَالَ: " النائحة إِذا لم تتب قبل مَوتهَا تُقَام يَوْم الْقِيَامَة وَعَلَيْهَا سربال من قطران وردع من جرب ".
قد سبق معنى الْحسب آنِفا وَأَنه عد المفاخر وحسبانها، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تحترب فِي التفاخر.
فَإِن قيل: فَإِذا كَانَ هَذَا من أَمر الْجَاهِلِيَّة، فَمَا معنى: " تنْكح الْمَرْأَة لحسبها "؟
فَالْجَوَاب: أَن الْحسب إِذا انْفَرد لم يعْتَبر، وَإِنَّمَا يعْتَبر إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ الْإِسْلَام وَالتَّقوى، فَيكون حِينَئِذٍ وجوده فِي حق الْمسلمَة زِيَادَة فِي الرُّتْبَة، كَمَا قَالَ: " النَّاس معادن، خيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خيارهم فِي الْإِسْلَام إِذا فقهوا ".
وَأما الطعْن فِي الْأَنْسَاب فقذف.
وَأما الاسْتِسْقَاء بالنجوم فَالْمُرَاد بهَا الأنواء. وَقد تقدم ذكر ذَلِك فِي مُسْند زيد بن خَالِد.(4/156)
وَقَوله: " عَلَيْهَا سربال من قطران " السربال: الْقَمِيص. والقطران: شَيْء يتحلب من شجر يهنأ بِهِ الْإِبِل. وَإِنَّمَا جعلت سرابيلهم مِنْهُ لِأَن النَّار إِذا لفحته قوي اشتعالها، فَاشْتَدَّ إحراقها للجلود.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا وَبَين حَالهَا أَن نوحها لما كَانَ سَببا لتحريق المحزونين ثِيَابهمْ ألبست ثوبا من الْعَذَاب تود لَو أَنه تحرق. وَلما كَانَ نوحها كلما تردد زَادَت اللوعة وَقَوي احتراق الْقُلُوب بِنَار الوجد جعل لباسها من قطران؛ لِأَنَّهُ كلما لفحته النَّار زَاد اشتعاله، وَكَذَلِكَ جعل لَهَا درع من جرب؛ لِأَن الجرب يثير دَاء الحكة، ونوحها يثير مَا فِي بواطن الْقُلُوب من الْجزع والأسى.(4/157)
كشف الْمُشكل من المسانيد الَّتِي انْفَرد البُخَارِيّ بِالْإِخْرَاجِ مِنْهَا
فَمِنْهَا:
(122) مُسْند سعد بن معَاذ
اسْلَمْ على يَدي مُصعب بن عُمَيْر، فَأسلم بِإِسْلَامِهِ بَنو عبد الْأَشْهَل، وَهِي أول دَار أسلمت من الْأَنْصَار، وَشهد بَدْرًا وَأحد، وَثَبت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ، وَرمي يَوْم الخَنْدَق، ثمَّ انفجر كَلمه بعد ذَلِك فَمَاتَ.
وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ حَدِيثا وَاحِدًا.
2378 - / 3012 - وَفِيه: أَنه نزل على أُميَّة، وَخرج مَعَه يطوف بِالْبَيْتِ، فَقَالَ أَبُو جهل: أَلا أَرَاك تَطوف آمنا وَقد آويتم الصباة.
الصباة جمع صابئ. والصابئ: الْخَارِج من دين إِلَى دين. وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تسمي من خرج من عبَادَة الْأَوْثَان إِلَى دين الْإِسْلَام صابئا لتِلْك الْعَادة.
وَقَوله: لأمنعن طريقك على الْمَدِينَة. يُشِير إِلَى خُرُوجه إِلَى الشَّام للتِّجَارَة.
وَأَبُو الحكم هُوَ أَبُو جهل، كَانَ يكنى بالكنيتين.(4/158)
والوادي هَاهُنَا مَكَّة؛ لِأَنَّهَا بَين جبلين.
وَقَوله: اسْتنْفرَ أَبُو جهل: أَي دَعَا النَّاس إِلَى أَن ينفروا لِلْقِتَالِ.
وَالْعير: الْإِبِل تحمل الْميرَة.
والصريخ هَاهُنَا: المستغيث بِالنَّاسِ لِيخْرجُوا.
والجهاز: مَا يصلح الْإِنْسَان. يُقَال: جهزت الْقَوْم: إِذا هيأت لَهُم مَا يصلحهم، وجهاز الْبَيْت: مَتَاعه.
والأشراف جمع شرِيف: وَهُوَ العالي الْقدر، وَذَلِكَ يكون بِالنّسَبِ وبالجاه وبالعلم وبالمال، إِلَى غير ذَلِك.
وَأُميَّة قتل يَوْم بدر بِلَا شكّ , وَهُوَ من جملَة من سحب إِلَى القليب. وَظَاهر هَذَا الحَدِيث يدل على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتله , فَإِنَّهُ قَالَ: " إِنِّي قَاتلك " وَقد قتل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد أبي بن خلف.(4/159)
(123) وَأخرج البُخَارِيّ لأبي عقبَة سُوَيْد بن النُّعْمَان حَدِيثا وَاحِدًا
2379 - / 3013 - وَفِيه: فَأمر بالسويق فثري , فلاك مِنْهُ ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ.
ثري بِمَعْنى بل، وَمِنْه الثرى وَهُوَ التُّرَاب الندي، وَأَرْض ثرياء: أَي ندية.
واللوك: ترديد اللُّقْمَة فِي المضغ.
وَقد قيل: هَذَا نَاسخ لأَمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْوضُوءِ مِمَّا مست النَّار.(4/160)
(125)
2380 - / 3016 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من: مُسْند رِفَاعَة بن رَافع:
كُنَّا نصلي وَرَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا رفع رَأسه من الرَّكْعَة قَالَ: " سمع الله لمن حَمده " وَقَالَ رجل وَرَاءه: رَبنَا وَلَك الْحَمد، حمدا كثيرا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " رَأَيْت بضعَة وَثَلَاثِينَ ملكا يبتدرونها: أَيهمْ يَكْتُبهَا أول ".
قَالَ بعض الْعلمَاء: إِنَّمَا كَانُوا بضعَة وَثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّهَا بضعَة وَثَلَاثُونَ حرفا، فَكل حرف لملك.(4/161)
(128) وَأخرج لأبي سعيد بن الْمُعَلَّى حَدِيثا وَاحِدًا
2381 - / 3021 - وَفِيه: كنت أُصَلِّي فدعاني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم أجبه، ثمَّ أَتَيْته فَقلت: يَا رَسُول الله! إِنِّي كنت أُصَلِّي، فَقَالَ: " ألم يقل الله: {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ} [الْأَنْفَال: 24] ، ثمَّ قَالَ: " لأعلمنك سُورَة هِيَ أعظم السُّور فِي الْقُرْآن: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} هِيَ السَّبع المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم الَّذِي أُوتِيتهُ ".
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الْأَمر على الْفَوْر؛ لِأَنَّهُ عاتبه لما تَأَخّر عَن إجَابَته.
وَفِيه دَلِيل على لُزُوم الْعَمَل بِمُقْتَضى اللَّفْظ، إِلَّا أَن يصرف عَنهُ دَلِيل؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ألم يقل: {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ} .
وَأما السُّورَة فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: من همز السُّورَة جعلهَا من: أسأرت، يَعْنِي أفضلت، كَأَنَّهَا قِطْعَة من الْقُرْآن، وَمن لم يهمزها جعلهَا من سُورَة الْبناء: أَي منزلَة بعد منزلَة. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: إِنَّمَا سميت سُورَة؛ لِأَنَّهَا يرْتَفع فِيهَا من منزلَة إِلَى منزلَة.
وَقَوله: {الْحَمد لله} دَلِيل على أَن الْبَسْمَلَة لَيست مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ(4/162)
ب {الْحَمد} . وَقَوله: {هِيَ السَّبع} لِأَنَّهَا سبع آيَات.
وَإِنَّمَا سميت بالمثاني لِأَنَّهَا تثنى فِي كل رَكْعَة , قَالَه ابْن الْأَنْبَارِي. وَقيل: لِأَنَّهَا مِمَّا أثني بِهِ على الله عز وَجل , ذكره الزّجاج , قَالَ: و " من " هَاهُنَا للصفة , فَيكون السَّبع هِيَ المثاني , كَقَوْلِه: {فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان} [الْحَج: 30] .(4/163)
(130) وَأخرج لِمَعْنٍ بن يزِيد حَدِيثا وَاحِدًا
2382 - / 3023 - وَفِيه: بَايَعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنا وَأبي وجدي , وخطب عَليّ فأنكحني , وخاصمت إِلَيْهِ: كَانَ أبي يزِيد أخرج دَنَانِير يتَصَدَّق بهَا فوضعها عِنْد رجل فِي الْمَسْجِد , فَجئْت فأخذتها , فَأَتَيْته بهَا فَقَالَ: " وَالله مَا إياك أردْت , فَخَاصَمته إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " لَك مَا نَوَيْت يَا يزِيد , وَلَك مَا أخذت يَا معن ".
معن هُوَ ابْن يزِيد بن الْأَخْنَس بن الْحباب السّلمِيّ، ويكنى معن أَبَا يزِيد، ويكنى يزِيد أَبَا معن.
وَقَوله: وخطب عَليّ: يَعْنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَوله: كَانَ أبي أخرج دَنَانِير فوضعها عِنْد رجل: أَي تَركهَا عِنْده ليتصدق بهَا، فَجئْت فأخذتها: أَي أَعْطَانِي إِيَّاهَا من الصَّدَقَة، فَأَتَيْته: أَي فَجئْت أبي بِتِلْكَ الدَّنَانِير فَقَالَ: وَالله مَا إياك أردْت: أَي مَا أخرجتها لأتصدق عَلَيْك بهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَك مَا نَوَيْت " أَي لَك ثَوَاب الصَّدَقَة.(4/164)
(132) وَأخرج لأبى سروعة عقبَة بن الْحَارِث المَخْزُومِي ثَلَاثَة أَحَادِيث
2383 - / 3025 - وَفِي الحَدِيث الأول: أَنه تزوج امْرَأَة فَجَاءَت امْرَأَة فَقَالَت: إِنِّي قد أرضعتكما، فَركب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كَيفَ وَقد قيل؟ " ففارقها عقبَة.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان البستي: قَوْله: " كَيفَ وَقد قيل " يدل على أَنه إِنَّمَا اخْتَار لَهُ فراقها من طَرِيق الْوَرع وَالْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ دون الحكم بذلك، وَلَيْسَ قَول الْمَرْأَة الْوَاحِدَة شَهَادَة يجب بهَا حكم فِي أصل من الْأُصُول، وَلَو كَانَ سَبِيلهَا سَبِيل الشُّهُود لاعتبر عدالتها وصدقها.
2384 - / 3026 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " ذكرت شَيْئا من تبر عندنَا فَكرِهت أَن يحبسني ".
التبر من الذَّهَب وَالْفِضَّة: مَا كَانَ غير مطبوع.
وَقَوله: " فَكرِهت أَن يحبسني " أَي يشغل قلبِي فيمنعه من انطلاقه فِيمَا يُرِيد.(4/165)
(134) وَأخرج لمرداس الْأَسْلَمِيّ حَدِيثا وَاحِدًا
2385 - / 3028 - وَفِيه: " وَتبقى حثالة كحثالة الشّعير " وَفِي لفظ: " حفالة " - لَا يبالهم الله بالة ".
حثالة الطَّعَام: رديئه. وحثالة الدّهن: ثفله. والحثالة: الرَّدِيء من كل شَيْء، وَكَذَلِكَ الحفالة، وَالْفَاء والثاء يتعاقبان، يُقَال: جدث وجدف، وثوم وفوم. وَمثل الحثالة الخشارة.
وَقَوله: " لَا يباليهم الله بالة " أَي لَا يُبَالِي بهم وَلَا يُقيم لَهُم وزنا. والبالة مصدر كالمبالاة، وَيُقَال: باليت بالشَّيْء بالة ومبالاة. وَتقول: لَا أُبَالِي بِكَذَا: أَي لَا يجْرِي على بالي. والبال: الْقلب، إِلَّا أَنه فِي حق الله عز وَجل بِمَعْنى الْإِعْرَاض عَنْهُم وَسُقُوط قدرهم عِنْده
وَقَوله: " يعبأ بهم " قَالَ الزّجاج: يُقَال: مَا عبأت بفلان: أَي مَا كَانَ لَهُ عِنْدِي وزن وَلَا قدر.(4/166)
(136) وَأخرج لعَمْرو بن سَلمَة الْجرْمِي
عَن أَبِيه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا وَاحِد، والمسند مِنْهُ لسَلمَة , فَأَما عَمْرو فَإِنَّهُ أدْرك زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يلقه، وَقد أم الصَّحَابَة فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
2386 - / 3031 - وَفِي الحَدِيث: كُنَّا بِمَاء ممر النَّاس.
أَي: كُنَّا نزلا بِمَاء يمر النَّاس عَلَيْهِ.
والركبان والراكبون والركب لَا يكونُونَ إِلَّا على جمال.
وَقَوله: يغرى فِي صَدْرِي: أَي يلصق بالغراء: وَهُوَ صمغ أَو مَا يقوم مقَامه.
وَقَوله: تلوم بِإِسْلَامِهِمْ الْفَتْح: أَي يتربص وينتظر. وَالْفَتْح: فتح مَكَّة.
وَقَوله: فقدموني. قد بَين سَبَب تَقْدِيمه وَهُوَ كَثْرَة مَا مَعَه من الْقُرْآن، وَهَذَا دَلِيل على تَقْدِيم الْقَارئ.
فَأَما صلَاته بهم وَهُوَ صَغِير فيحتج بهَا الشَّافِعِي فِي جَوَاز إِمَامَة الصَّبِي للبالغين. وَيحْتَمل أَنه أمّهم فِي النَّافِلَة.(4/167)
(140) وَأخرج لعبد الله بن هِشَام الْقرشِي حديثين
2387 - / 3035 - فَفِي الأول: أَن عمر قَالَ: يَا رَسُول الله، لأَنْت أحب إِلَيّ من كل شَيْء إِلَّا نَفسِي. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أكون أحب إِلَيْك من نَفسك ".
إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ كلفه بِمَا لَا يدْخل تَحت طوقه؛ فَإِن الْمحبَّة فِي الْجُمْلَة لَيست إِلَى الْإِنْسَان، ثمَّ إِن حبه لنَفسِهِ أَشد من حبه لغَيْرهَا، وَلَا يُمكنهُ تَغْيِير ذَلِك؟ فَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا كلفه الْحبّ الشَّرْعِيّ، وَهُوَ إيثاره على النَّفس وَتَقْدِيم أوامره على مراداتها. فَأَما الْحبّ الطبعي فَلَا. وَقد سبق بَيَان هَذَا فِي مُسْند أنس.
2388 - / 3036 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا لي بِالْبركَةِ، فَكَانَ رُبمَا أصَاب الرَّاحِلَة كَمَا هِيَ.
فِي هَذَا الحَدِيث رد على جهلة المتزهدين فِي اعْتِقَادهم أَن سَعَة الْحَلَال مذمومة.(4/168)
(141) وَأخرج لشيبة بن عُثْمَان الحجبى حَدِيثا وَاحِدًا
2389 - / 3037 - قَالَ: قَالَ عمر: لقد هَمَمْت أَلا أدع فِيهَا صفراء وَلَا بَيْضَاء إِلَّا قسمته. قلت: إِن صاحبيك لم يفعلا. قَالَ: هما المرءان أقتدي بهما.
الصَّفْرَاء: الذَّهَب. والبيضاء: الْفضة. وَأَرَادَ مَال الْكَعْبَة الَّذِي كَانَ اجْتمع فِيهَا، وَكَانُوا قَدِيما يهْدُونَ إِلَى الْكَعْبَة المَال فيجتمع فِيهَا.(4/169)
(142) وَأخرج لعَمْرو بن تغلب حديثين
2390 - / 3038 - وَفِي الأول: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْطى رجَالًا وَترك رجَالًا , فَبَلغهُ أَن الَّذين ترك عتبوا.
العتب: الموجدة , فَمَعْنَى عتبوا: وجدوا فِي أنفسهم كَرَاهِيَة لذَلِك. وَقَوله: " إِنِّي أعطي أَقْوَامًا لما أرى فِي قُلُوبهم من الْجزع ". الْجزع ضد الصَّبْر: وَهُوَ شدَّة القلق من الْمُصِيبَة. والهلع: شدَّة الْجزع.
وَقَوله: " أكل أَقْوَامًا إِلَى مَا جعل الله فِي قُلُوبهم من الْغنى " أَي أتركهم مَعَ مَا وهب الله لَهُم من غنى النَّفس، وصبروا وتعففوا عَن الطمع والشره.
2391 - / 3039 - والْحَدِيث الثَّانِي: قد سبق شَرحه فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة وَغَيره.(4/170)
(143) وَأخرج لسلمان بن عَامر الضَّبِّيّ حَدِيثا وَاحِدًا
2392 - / 3040 - وَفِيه: " مَعَ الْغُلَام عقيقته، فأهريقوا عَنهُ دَمًا، وأميطوا عَنهُ الْأَذَى ".
قَالَ أَبُو عبيد: الْعَقِيقَة أَصْلهَا الشّعْر الَّذِي يكون على رَأس الصَّبِي حِين يُولد، وَإِنَّمَا سميت الشَّاة الَّتِي تذبح عَنهُ عقيقة لِأَنَّهُ يحلق عَنهُ الشّعْر عِنْد الذّبْح، وَهُوَ قَوْله: " أميطوا الْأَذَى عَنهُ " وَيَعْنِي بالأذى ذَلِك الشّعْر. وَقَالَ غَيره: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك الشّعْر أَذَى لِأَنَّهُ قد علق بِهِ دم الرَّحِم. وَقيل: كَانُوا يلطخون رَأس الصَّبِي بِدَم الْعَقِيقَة وَهُوَ أَذَى , فنهوا عَن ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: الْعَقِيقَة: الشَّاة نَفسهَا، وَسميت عقيقة لِأَنَّهَا تعق مذابحها: أَي تشق وتقطع. يُقَال: عق الْبَرْق فِي السَّحَاب وانعق: إِذا تشقق، وَمِنْه عقوق الْوَلَد.
وَاعْلَم أَن الْعَقِيقَة عِنْد أَحْمد مُسْتَحبَّة، وَعند أبي حنيفَة لَا تسْتَحب، وَعند دَاوُد وَاجِبَة، وَقد اخْتَار هَذَا أَبُو بكر بن عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا، وَنَقله عَن أَحْمد.
وَالْمُسْتَحب شَاتَان عَن الْغُلَام، وَعَن الْجَارِيَة شَاة، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق بن رَاهْوَيْةِ، وَقَالَ مَالك: شَاة عَن الْجَمِيع. وَكَانَ الْحسن وَقَتَادَة لَا يريان عَن الْجَارِيَة عقيقة.(4/171)
وَقد روى أَبُو دَاوُد فِي " سنَنه " من حَدِيث أم كرز الْكَعْبِيَّة قَالَت: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " عَن الْغُلَام شَاتَان مكافئتان، وَعَن الْجَارِيَة شَاة ". قَالَ: وَسمعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: شَاتَان مكافئتان: مستويتان أَو متقاربتان. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَحَقِيقَة ذَلِك التكافؤ فِي السن، يُرِيد: شَاتين مُسنَّتَيْنِ تجوزان فِي الضَّحَايَا، لَا تكون إِحْدَاهمَا مُسِنَّة وَالْأُخْرَى غير مُسِنَّة.
وَيسْتَحب ذَبحهَا يَوْم السَّابِع، فَإِن لم يتهيأ فَيوم الرَّابِع عشر، فَإِن لم يتهيأ فَيوم وَاحِد وَعشْرين، لما روى سَمُرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " الْغُلَام مُرْتَهن بعقيقته، تذبح عَنهُ يَوْم السَّابِع، وَيُسمى ويحلق رَأسه ". وَفِي رِوَايَة: " ويدمى " مَكَان " وَيُسمى ".
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي معنى ارتهانه بعقيقته: فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: أَجود الْوُجُوه مَا ذهب إِلَيْهِ أَحْمد بن حَنْبَل فَإِنَّهُ قَالَ: هَذَا فِي الشَّفَاعَة إِن لم يعق عَنهُ فَمَاتَ طفْلا لم يشفع فِي وَالِديهِ. قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: " مُرْتَهن بعقيقته " أَي بأذى شعره، وَاسْتدلَّ بقوله: " فأميطوا عَنهُ الْأَذَى " والأذى: مَا علق بِهِ من دم الرَّحِم.
وَقد اخْتلف النَّاس فِي معنى " يدمى " فَكَانَ قَتَادَة يَقُول: إِذا ذبحت الْعَقِيقَة يُؤْخَذ مِنْهَا صوفة فيستقبل بهَا أوداجها، ثمَّ تُوضَع على يافوخ(4/172)
الصَّبِي ثمَّ يغسل رَأسه بعده ويحلق. وَرُوِيَ عَن الْحسن أَنه قَالَ: يطلى رَأسه بِدَم الْعَقِيقَة. وَكره أَكثر أهل الْعلم لطخ رَأسه بِدَم الْعَقِيقَة، وَقَالُوا: كَانَ ذَلِك من عمل الْجَاهِلِيَّة. وَمِمَّنْ كره ذَلِك: الزُّهْرِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق , وَتَكَلَّمُوا فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق همام عَن قَتَادَة فَقَالُوا: قَوْله: " يدمى " غلط، وَإِنَّمَا هُوَ " يُسمى ". كَذَلِك رَوَاهُ شُعْبَة وَسَلام بن أبي مُطِيع عَن قَتَادَة، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَشْعَث عَن الْحسن.
وَقد اسْتحبَّ جمَاعَة مِنْهُم الْحسن وَمَالك أَلا يُسمى الصَّبِي قبل السَّابِعَة.(4/173)
(144) وَأخرج للمقدام بن معدي كرب حديثين
2393 - / 3041 - فَفِي الأول: " كيلوا طَعَامكُمْ يُبَارك لكم فِيهِ ".
يشبه أَن تكون هَذِه الْبركَة للتسمية عَلَيْهِ فِي الْكَيْل.
2394 - / 3042 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " مَا أكل أحد طَعَاما خيرا لَهُ من أَن يَأْكُل من عمل يَده ".
وَإِنَّمَا فضل عمل الْيَد لِأَن مَا تناله الْأَعْضَاء من تنَاول الْأجر فِي مُقَابلَة تعبها.(4/174)
(148) وَقد حكى أَبُو مَسْعُود صَاحب التعليقة أَن البُخَارِيّ أخرج من حَدِيث عَمْرو بن مَيْمُون
2395 - / 3047، 3048 - قَالَ: رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة قردة زنت فرجموها.
وَهَذَا فِي بعض النّسخ بالبخاري لَا فِي كلهَا، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة النعيمي عَن الْفربرِي. قَالَ الْحميدِي: وَلَعَلَّ هَذَا من الْمُقْحمَات الَّتِي أقحمت فِي كتاب البُخَارِيّ. وَقد أوهم أَبُو مَسْعُود بترجمة عَمْرو بن مَيْمُون أَنه من الصَّحَابَة الَّذين انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنْهُم البُخَارِيّ، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ لَيْسَ من الصَّحَابَة , وَلَا لَهُ فِي الصَّحِيح مُسْند.
وَكَذَلِكَ فعل فِي أبي رَجَاء العطاردي، وَلَيْسَ من الصَّحَابَة أَيْضا، وَإِنَّمَا لَهُ حِكَايَة يَقُول فِيهَا: كُنَّا إِذا لم نجد حجرا جَمعنَا جثوَة من تُرَاب فحلبنا عَلَيْهَا ثمَّ طفنا بهَا، فَإِذا جَاءَ رَجَب قُلْنَا: منصل الأسنة.
الجثوة: قدر مَا يجْتَمع فِي الْكَفّ.
ومنصل الأسنة: مخرجها من أماكنها من الرماح والسهام إبطالا لِلْقِتَالِ، وتركا للحرب. يُقَال: أنصلت السهْم وَالرمْح: إِذا أخرجت نصلة: وَهِي حديدته.(4/175)
(150) وَأخرج البُخَارِيّ لوحشي بن حَرْب حَدِيث مقتل حَمْزَة
2396 - / 3049 - وَفِيه: خرجت مَعَ عبيد الله بن عدي فسألنا عَن وَحشِي، فَقيل: فِي ظلّ قصره، كَأَنَّهُ حميت، وَعبيد الله معتجر بعمامته.
الحميت: الزق، وَأكْثر مَا يُقَال هَذَا فِي أوعية السّمن وَالزَّيْت.
والاعتجار: لف الْعِمَامَة على الرَّأْس دون أَن يتلحى مِنْهَا بِشَيْء، يُقَال: إِنَّه لحسن العجرة.
فَإِن قيل: فقد قَالَ فِي الحَدِيث: مَا يرى وَحشِي إِلَّا عَيْنَيْهِ. فَالْجَوَاب: أَنه كَانَ قد غطى وَجهه بعد الْعِمَامَة لَا بهَا.
والمبارز: الَّذِي يخرج إِلَى قتال من يتعاطى قِتَاله، وَهُوَ مَأْخُوذ من البرَاز: وَهُوَ اسْم للفضاء الْوَاسِع.
وَقَوله: يَا ابْن مقطعَة البظور. البظور جمع بظر: وَهُوَ مَا تقطعه الخاتنة من فروج النِّسَاء، وَكَانَت أمه خاتنة تختن النِّسَاء، وَتسَمى الخافضة فَعَيَّرَهُ بذلك. وَبَعض أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: مقطعَة بِفَتْح الطَّاء، وَهُوَ خطأ.(4/176)
وَمعنى المحادة أَن يكون هَذَا فِي حد وَهَذَا فِي حد، وَكَذَلِكَ المشاقة: أَن يكون هَذَا فِي شقّ وَهَذَا فِي شقّ.
وَقَوله: فَشد عَلَيْهِ: أَي حمل عَلَيْهِ. فَكَانَ كأمس الدابر، هَذَا كِنَايَة عَن هَلَاكه.
وَقَوله: وكمنت: أَي استترت، وَمِنْه الكمين.
وَقَوله: " هَل تَسْتَطِيع أَن تغيب وَجهك عني؟ " فِي هَذَا إِشْكَال على من قل علمه، فَإِنَّهُ يَقُول: إِذا كَانَ الْإِسْلَام يجب مَا قبله، فَمَا وَجه هَذَا القَوْل من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ وَهُوَ قَول يشبه مُوَافقَة الطَّبْع، وَأَيْنَ الْحلم؟ . وَالْجَوَاب: أَن الشَّرْع لَا يُكَلف نقل الطَّبْع، إِنَّمَا يُكَلف ترك الْعَمَل بِمُقْتَضَاهُ، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلما رأى وحشيا ذكر فعله فتغيظ عَلَيْهِ بالطبع، وَهَذَا يضر وحشيا فِي دينه، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ اللطف فِي إبعاده.
وَأما الثلمة فَهِيَ كالفرجة. وأصل الثلمة الْخلَل.
والأورق: الْبَعِير الَّذِي لَونه كلون الرماد.
والثائر الرَّأْس: الَّذِي شعره غير مطمئن.(4/177)
(153) وَأخرج البُخَارِيّ من حَدِيث سعيد بن الْمسيب عَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
2397 - / 3050 - " يرد عَليّ الْحَوْض رجال فيحلئون عَنهُ " أَي يطردون عَنهُ. وَهَذَا قد سبق فِي مَوَاضِع.
(156)
2398 - / 3053 - وَأخرج عَن سراقَة بن مَالك حَدِيثا سَيَأْتِي فِي مُسْند عَائِشَة تَاما. وَيَأْتِي تَفْسِيره إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(4/178)
كشف الْمُشكل من المسانيد الَّتِي انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ مِنْهَا مُسلم
فَمِنْهَا:
(157) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الْمطلب بن ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب
2399 - / 3054 - أخرج لَهُ حَدِيثا وَاحِدًا:
وَفِيه: اجْتمع ربيعَة بن الْحَارِث وَالْعَبَّاس فَقَالَا: لَو بعثنَا هذَيْن الغلامين - قَالَ لي وللفضل بن الْعَبَّاس - إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكَلمَاهُ فَأَمرهمَا على هَذِه الصَّدقَات.
قَوْله: لي وللفضل: أَي قَالَ عني وَعَن الْفضل.
وَقَوله: فانتحاه ربيعَة: أَي قَصده وَاعْترض عَلَيْهِ فِي كَلَامه.
وَقَوله: نفاسة مِنْك: أَي حسدا وكراهية للمشاركة فِي الْمنزلَة.
وَقَوله: " أخرجَا مَا تصرران " أَي مَا تكتمان فِي صدوركما، وكل شَيْء جمعته فقد صررته.
قَوْله: فتواكلنا الْكَلَام: أَي كل منا قد وكل الْكَلَام إِلَى صَاحبه يُرِيد(4/179)
من صَاحبه أَن يَبْتَدِئ هُوَ بالْكلَام لموْضِع الْحيَاء.
وَقَوله: تلمع إِلَيْنَا: أَي تُشِير.
ومحمية هُوَ ابْن جُزْء الْأَسدي. وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتَعْملهُ على الْأَخْمَاس.
وَقَوله: " أصدق عَنْهُمَا من الْخمس " إِمَّا أَن يُشِير إِلَى سَهْمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْخمس، أَو إِلَى سهم ذَوي الْقُرْبَى.
وَالْقَرْمُ: السَّيِّد الْمُعظم، شبه بالقرم، وَهُوَ الْفَحْل المكرم المرفه عَن الابتذال والاستخدام، الْمعد لما يصلح لَهُ من الفحلة لكرمه.
وَقد رَوَاهُ بعض الْمُحدثين: أَنا أَبُو حسن الْقَوْم، وَهُوَ غلط وَقلة معرفَة بالْكلَام.
وَقَوله: لَا أريم مَكَاني: أَي لَا أزول من موضعي حَتَّى يرجعا بحور مَا بعثتما؛ أَي بِجَوَاب ذَلِك وَمَا يرد فِيهِ. وأصل الْحور الرُّجُوع، يُقَال: كلمت فلَانا فَمَا أحار لي جَوَابا: أَي مَا رده عَليّ.(4/180)
(158) وَأخرج لهشام بن حَكِيم بن حزَام حَدِيثا وَاحِد
2400 - / 3055 - وَفِيه: أَنه مر على قوم من الأنباط.
الأنباط جمع نبط: وهم صنف من الفلاحين بِالشَّام، لَهُم خبْرَة بعمارة الأَرْض وزراعتها.(4/181)
(160) وَأخرج للشريد بن سُوَيْد حديثين
2401 - / 3057 - فَفِي الأول: كَانَ فِي وَفد ثَقِيف رجل مجذوم فَأرْسل إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنَّا قد بايعناك فَارْجِع ".
قد سبق الْكَلَام فِي هَذَا فِي قَوْله: " فر من المجذوم " فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
2402 - / 3058 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ردفت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " هَل مَعَك من شعر أُميَّة بن أبي الصَّلْت شَيْء؟ " قلت: نعم، قَالَ: " هيه " فَأَنْشَدته بَيْتا فَقَالَ: " هيه "، ثمَّ أنشدته بَيْتا فَقَالَ: " هيه " حَتَّى أنشدته مائَة بَيت فَقَالَ: " إِن كَاد ليسلم " وَفِي رِوَايَة: " ليسلم فِي شعره ".
قَوْله: ردفت رَسُول الله: أَي كنت وَرَاءه.
وَأُميَّة هَذَا رجل كَانَ يتطلب الدّين، فَأخْبرهُ عُلَمَاء الْكِتَابَيْنِ أَنه سَيظْهر نَبِي فِي هَذَا الزَّمَان، فَمَا زَالَ يبْحَث عَن صفته ويرجو أَن يكون هُوَ الْمَبْعُوث، فَلَمَّا أَخْبرُوهُ بسنه قَالَ: قد عبرت هَذَا السن، فَلَمَّا ظهر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كفر بِهِ وَمَات على الْكفْر.
وَقَوله: " هيه " كلمة يُرِيد بهَا الْمُخَاطب استزادة الْمُخَاطب من الشَّيْء(4/182)
الَّذِي بَدَأَ فِيهِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث جَوَاز استنشاد الشّعْر الَّذِي يحسن سَمَاعه من غير كَرَاهِيَة؛ فَإِن شعر أُميَّة كَانَ معظمه ذكر التَّوْحِيد.
وَقَوله: " إِن كَاد ليسلم " كَاد بِمَعْنى قَارب.(4/183)
(161) وَأخرج لنافع بن عتبَة بن أبي وَقاص حَدِيثا وَاحِدًا
2403 - / 3059 - وَفِيه: أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قوم من قبل الْمغرب عَلَيْهِم ثِيَاب الصُّوف، فوافقوه عِنْد أكمة وَإِنَّهُم لقِيَام وَهُوَ قَاعد، فَقَالَت لي نَفسِي: ائتهم فَقُمْ بَينهم وَبَينه لَا يغتالونه. ثمَّ قلت: لَعَلَّه نجي مَعَهم. فأتيتهم فَقُمْت بَينهم وَبَينه.
الأكمة: الْمَكَان الْمُرْتَفع كالرابية.
والاغتيال: أَخذ الْإِنْسَان على غَفلَة من حَيْثُ لم يظنّ.
والنجي: من الْمُنَاجَاة، وَهِي الإنفراد بِالْحَدِيثِ مَعَ المناجي.
وَفِي هَذَا الحَدِيث مَا يدل على حسن فطنة نَافِع , وينبه كل صَاحب أَن يحْتَرز لمصحوبه، وَأَن ينظر فِي مَصَالِحه وَإِن لم يَأْمُرهُ بهَا.(4/184)
(162) وَأخرج لمطيع بن الْأسود حَدِيثا وَاحِدًا
وَكَانَ اسْمه العَاصِي فَسَماهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطيعًا.
2404 - / 3060 - قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة: " لَا يقتل قرشي صبرا بعد هَذَا الْيَوْم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
أصل الصَّبْر الْحَبْس. وَقتل فلَان صبرا: أَي قتل وَهُوَ مأسور مَحْبُوس للْقَتْل لَا فِي معركة، وَمِنْه المصبورة الَّتِي نهى عَنْهَا. قَالَ الْحميدِي: وَقد تَأَول بعض الْعلمَاء هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: الْمَعْنى: لَا يقتل مُرْتَدا ثَابتا على الْكفْر صبرا؛ إِذْ قد وجد من قتل مِنْهُم صبرا، وَهُوَ ثَابت على الْكفْر.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.(4/185)
(165) وَأخرج لسبرة بن معبد الْجُهَنِيّ حَدِيثا وَاحِدًا فِي ذكر الْمُتْعَة
2405 - / 3064 - وَفِيه: أذن لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمُتْعَة، فَانْطَلَقت أَنا وَرجل إِلَى امْرَأَة كَأَنَّهَا بكرَة عيطاء.
الْبكر: الفتي من الأبل، وَالْأُنْثَى بكرَة.
والعيطاء: الطَّوِيلَة الْعُنُق، وَكَذَلِكَ العنطنطة. وَالذكر أعيط وعنطنط.
وَأما الدمامة فحدثنا ابْن نَاصِر عَن أبي زَكَرِيَّا قَالَ: الدميم بِالدَّال غير الْمُعْجَمَة فِي الْخلق، وبالذال الْمُعْجَمَة فِي الْخلق. وَقَالَ غَيره: الدمامة بِالدَّال الْمُهْملَة: قبح فِي الْوَجْه، يُقَال: دم وَجه فلَان يدم دمامة فَهُوَ دميم.
والخلق: الرث.
والغض: الطري الناعم.
والعطف: الْجَانِب. وَيُقَال: فلَان ينظر فِي عطفيه، كِنَايَة عَن الْإِعْجَاب؛ لِأَن المعجب ينظر فِي أعطافه.
والمح: الْبَالِي.
وَقَوله: فآمرت نَفسهَا: أَي استأمرت تنظر مَا تأمرها بِهِ النَّفس.
وَإِنَّمَا اختارته لشبابه وَحسنه، وَهَذَا لَا يُنكر على الرِّجَال الحازمين،(4/186)
فَكيف يستنكر من النِّسَاء، وَهل هن إِلَّا شقائق الرِّجَال، قَالَ عَلْقَمَة بن عَبدة:
(فَإِن تَسْأَلُونِي بِالنسَاء فإنني ... بَصِير بأدواء النِّسَاء طَبِيب)
(يردن ثراء المَال أَيْن وجدنه ... وشرخ الشَّبَاب عِنْدهن عَجِيب)
وَقَوله: قَالَ ابْن الزبير: إِن نَاسا يفتون بِالْمُتْعَةِ، يعرض بِرَجُل؛ الرجل عبد الله بن عَبَّاس.
فناداه: يَعْنِي ابْن عَبَّاس نَادَى ابْن الزبير فَقَالَ: إِنَّك لجلف جَاف. والجلف هُوَ الجافي، وَإِنَّمَا جَاف إتباع وتأكيد فِي الْوَصْف. وأصل الجلف الشَّاة المسلوخة بِلَا رَأس وَلَا قَوَائِم.
وَاعْلَم أَن نِكَاح الْمُتْعَة كَانَ مُبَاحا، ثمَّ حرمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكر هَذَا فِي هَذَا الحَدِيث. وَالظَّاهِر من حَال ابْن عَبَّاس أَنه بلغته الْإِبَاحَة وَلم يبلغهُ التَّحْرِيم، فَلذَلِك أَبَاحَهُ، إِلَّا أَنه قد رُوِيَ رُجُوعه عَن إِبَاحَته.(4/187)
(168) وَأخرج لمعمر بن عبد الله حديثين
2406 - / 3067 - فِي أَحدهمَا: صَاع قَمح: وَهُوَ الْبر.
وَفِيه: أَخَاف أَن يضارع. والمضارعة: المشابهة.
2407 - / 3068 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " من احتكر طَعَاما فَهُوَ خاطئ " فَقيل لسَعِيد بن الْمسيب: إِنَّك تحتكر. فَقَالَ: إِن معمرا الَّذِي كَانَ يحدث هَذَا الحَدِيث كَانَ يحتكر.
الاحتكار: حبس الطَّعَام لانتظار غلائه. وَرُبمَا توهم سامع هَذَا الحَدِيث أَن رُوَاته قد خالفوه، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن سعيد بن الْمسيب كَانَ يحتكر الزَّيْت، والمذموم احتكار الطَّعَام فِي مثل مَكَّة وَالْمَدينَة لِئَلَّا تغلو الأسعار على ساكنيها، وَقد قَالَ عمر بن الْخطاب: لَا تحتكروا الطَّعَام بِمَكَّة، فَإِن احتكار الطَّعَام بِمَكَّة إلحاد بظُلْم.
وَأما احتكار مَا لَيْسَ بضرورة من الْعَيْش كالزيت وَنَحْوه لَا يكره. وَأما احتكار الطَّعَام فِي مثل بَغْدَاد وَغَيرهَا من الْبلدَانِ يطرقها الجلب كل وَقت، فَجَائِز.(4/188)
(169) وَأخرج عَن أبي الطُّفَيْل عَامر بن وَاثِلَة حديثين
وَأَبُو الطُّفَيْل آخر من مَاتَ مِمَّن رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَاشَ ثمانيا وَتِسْعين سنة، وَمَات بِمَكَّة سنة مائَة، وَقيل: بعد الْمِائَة.
2408 - / 3069 - وَفِي الحَدِيث الأول: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبيض مليحا مقصدا، إِذا مَشى كَأَنَّهُ يهوي فِي صبوب.
الْمَقْصد: الَّذِي لَيْسَ بجسيم وَلَا قصير. وَقيل: هُوَ الربعة من الرِّجَال.
والصبوب: المنحدر من الأَرْض، وَمن مَشى فِي مثل ذَلِك تثبت.
2409 - / 3070 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَلم الرُّكْن بمحجن مَعَه، وَيقبل المحجن. قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا لَا يدعونَ عَنهُ وَلَا يكْرهُونَ.
الاستلام: اللَّمْس.
والمحجن: عَصا معوجة الطّرف، وكل متعقف أحجن.
وَقَوله: لَا يدعونَ عَنهُ: أَي لَا يدْفَعُونَ وَلَا يكْرهُونَ عَن التنحي.(4/189)
(170) وَأخرج لعمير مولى آبي اللَّحْم حَدِيثا وَاحِدًا
وَاسم آبي اللَّحْم عبد الله بن عبد. قَالَ هِشَام بن مُحَمَّد: وَإِنَّمَا سمي آبي اللَّحْم لِأَنَّهُ كَانَ يَأْبَى أكل مَا ذبح على الْأَصْنَام.
2410 - / 3071 - وَفِي الحَدِيث: أَمرنِي مولَايَ أَن أقدر لَحْمًا، فجَاء مِسْكين فأطعمته.
الْمَعْنى: أَمرنِي أَن أطبخه فِي الْقدر. يُقَال: قدرت اللَّحْم أقدره: أَي جعلته قَدِيرًا، وأنشدوا
(فظل طهاة اللَّحْم من بَين منضج ... صفيف شواء أَو قدير معجل)
وَقَوله: " الْأجر بَيْنكُمَا " يَعْنِي: إِذا تصدق بِمَا يعلم أَنه لَا يكرههُ، وَمَتى علم العَبْد أَن السَّيِّد يكره ذَلِك لم يجز لَهُ أَن يتَصَدَّق، وَلَا للْمَرْأَة من الْبَيْت.(4/190)
(173) وَأخرج لأبي الْيُسْر كَعْب بن عَمْرو حَدِيثا يجمع أَحَادِيث
2411 - / 3073 - من رِوَايَة الْوَلِيد بن عبَادَة قَالَ: لَقينَا أَبَا الْيُسْر وَمَعَهُ غُلَام لَهُ مَعَه ضمامة من صحف.
كَذَا فِي الأَصْل، وَالصَّوَاب إضمامة: وَهِي الإضبارة، وَجَمعهَا أضاميم، وكل شَيْء ضم بعضه إِلَى بعض فَهُوَ إضمامة وأضاميم.
والصحف جمع صحيفَة، وَهِي الورقة من الْكتب، وكل مَا انبسط فَهُوَ صحيفَة، وَسميت صَحْفَة الطَّعَام صَحْفَة لانبساطها.
والبردة: الشملة المخططة، وَجَمعهَا: برد وبرود.
والمعافري: نوع من الثِّيَاب ينْسب إِلَى المعافر، وَهِي محلّة بالفسطاط، أَو إِلَى قوم يعملونها من هَذِه الْقَبِيلَة.
والسفعة: التَّغَيُّر فِي اللَّوْن. قَالَ الْخَلِيل: السفعة لَا تكون فِي اللَّوْن إِلَّا سوادا مشربا حمرَة.
وَقَوله: فَخرج ابْن لَهُ جفر. والجفر من الغلمان الَّذِي قد قوي وَقَوي أكله. يُقَال استجفر الصَّبِي: إِذا قوي على الْأكل، وَأَصله فِي أَوْلَاد العنز، فَإِنَّهُ إِذا أَتَى على ولد العنز أَرْبَعَة أشهر، وَفصل عَن أمه وَأخذ فِي(4/191)
الرَّعْي قيل لَهُ: جفر، وَالْأُنْثَى جفرة.
والأريكة وَاحِدَة الأرائك، وَلَا تكون أريكة إِلَّا سريرا متخذا من قبَّة عَلَيْهِ نجده وشواره. والشوار: مَتَاعه الَّذِي يصلح لَهُ.
ونياط الْقلب: مَا يتَعَلَّق بِهِ.
وَقَوله: لكَانَتْ عَلَيْك حلَّة. وَهَذَا لِأَن الْحلَّة ثَوْبَان من جنس وَاحِد.
وَقَوله: عرجون ابْن طَابَ. العرجون: عود الكباسة الَّذِي عَلَيْهِ الشماريخ.
وَابْن طَابَ: اسْم جنس من الرطب.
والنخامة تخرج من أقْصَى الْفَم.
وَقَوله: فخشعنا. الْخُشُوع: التطامن والذل. وَبَعض الْمُحدثين يَقُوله بِالْجِيم، وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَهُ؛ لِأَن الجشع الْحِرْص.
والعبير: أخلاط من الطّيب.
وَقَوله: ثمَّ بَعثه: أَي حركه ليقوم.
فتلدن عَلَيْهِ بعض التلدن: أَي تمكث وتلكأ وَلم ينبعث. يُقَال: تلدنت فِي هَذَا الْأَمر: أَي تلبثت.
فَقَالَ لَهُ شأ: وَهُوَ زجر الْإِبِل. وَبَعْضهمْ يَقُول بِالْجِيم.
وَقَوله: " لَا تصحبنا بملعون " قد تقدم الْكَلَام فِي هَذَا فِي مُسْند عمرَان(4/192)
ابْن حُصَيْن وَأبي بَرزَة.
وَقَوله: " لَا تدعوا على أَنفسكُم " هَذَا إِعْلَام بِأَن للإجابة أوقاتا، وَأَن الْإِجَابَة تقع عَامَّة، وَفِيه تحذير مِمَّا قد اعتاده النَّاس فِي أَحْوَال الضجر وَالْغَضَب من الدُّعَاء على أنفسهم وَأَوْلَادهمْ.
وعشيشية تَصْغِير عَشِيَّة، وَهُوَ تَصْغِير نَادِر.
ويمدر الْحَوْض: يطينه ويسد خلله ليمسك المَاء.
والسجل: الدَّلْو.
وَنَزَعْنَا فِيهِ: اسْتَقَيْنَا حَتَّى اصطفقناه: أَي ملأناه.
وَقَوله: " أتأذنان؟ " لِأَنَّهُمَا أَصْحَاب المَاء، وَفِيه تَعْلِيم للْأمة.
فأشرع نَاقَته: أَي أوردهَا المَاء ومكنها من الشّرْب مِنْهُ.
وشنق لَهَا: أَي مد الزِّمَام إِلَيْهِ لتزول عَن المَاء.
فشجت: أَي قطعت الشّرْب. يُقَال: شججت الْمَفَازَة: أَي قطعتها بالسير.
والذباذب: كل مَا يتَعَلَّق من الشَّيْء فيتحرك. والذبذبة: حَرَكَة الشَّيْء الْمُعَلق.
وتواقصت عَلَيْهَا: أَمْسَكت عَلَيْهَا بعنقي لِئَلَّا تسْقط: وَهُوَ أَن يحني(4/193)
عَلَيْهَا عُنُقه.
وَقَوله: فأدارني عَن يَمِينه، دَلِيل على بطلَان صَلَاة الْفَذ.
وَقَوله: فدفعنا حَتَّى أقامنا خَلفه. هَذَا هُوَ الْمسنون للْإِمَام إِذا صلى إِلَى جَانِبه رجل ثمَّ جَاءَ آخر أَن يؤخرهما عَنهُ وَلَا يتَقَدَّم هُوَ؛ لِأَن الْمَأْمُوم أَحَق بالتغير.
والحقو: معقد الْإِزَار فِي الْوسط، ثمَّ يُقَال للإزار حقوا؛ لِأَنَّهُ يشد على الحقو.
وَقَوله: قوت كل رجل منا تَمْرَة. هَذَا يبين قُوَّة صبرهم وَمَا فضلوا بِهِ، وَيعرف العاجزين عَن الصَّبْر مقاديرهم، وَإِنَّمَا كَانُوا يصرون النواة فِي ثِيَابهمْ لأَنهم كَانُوا فِي بعض النَّهَار يعيدون مصها تشاغلا. وَيحْتَمل أَن يَكُونُوا قصدُوا الِانْتِفَاع بهَا حَتَّى لَا تضيع.
قَوْله: نختبط: أَي نضرب الْخبط، وَهُوَ ورق الشّجر.
وَقَوله: حَتَّى قرحت أشداقنا. الشدق: جَانب الْفَم. وقرحت: بِمَعْنى لَان جلدهَا وانكشط.
فأقسم أخطئها: أَي لقد أخطئها رجل: أَي أخطئ التمرة فَلم يُعْطهَا غَفلَة عَنهُ أَو نِسْيَانا. فَانْطَلَقْنَا ننعشه: أَي نشْهد لَهُ كَأَنَّهُ قد عثر فانتعش؛ أَي قَامَ وَأَخذهَا بشهادتنا لَهُ.
والأفيح: الْوَاسِع المنفسح.
والإداوة: قد تقدّمت فِي مَوَاضِع.
وشاطئ الْوَادي: جَانِبه.(4/194)
وَقَوله: فانقادت كالبعير المخشوش: وَهُوَ الَّذِي جعل فِي أَنفه الخشاش ليذل بِهِ عِنْد الرّكُوب.
وَالْمنصف: النّصْف.
وَقَوله: وحسرته: أَي قطعته. فاندلق لي: أَي تحدد. وأصل الاستحسار الِانْقِطَاع.
والأشجاب جمع شجب: وَهُوَ مَا استشن وأخلق من الأسقية، وَالْمَاء يبرد فِيهِ أَكثر من الْجَدِيد.
وجريد النّخل: سعفها.
والحمارة: سعفات مِنْهَا تُقَام مُخْتَلفَة ويعلق عَلَيْهَا المَاء.
والعزلاء: مستخرج مَاء الْقرْبَة.
وَقَوله: " يَا جَفْنَة الركب " أَي جيئوني بهَا. والركب: الْجَمَاعَة يركبون الْإِبِل، وهم يستصحبون جَفْنَة كَبِيرَة يَأْكُلُون فِيهَا.
وزخر الْبَحْر: أَي هاج وَارْتجَّ.
فأورينا على شقها النَّار: أَي أوقدنا على جَانبهَا.
وحجاح الْعين: الْعظم المستدير حولهَا الَّذِي فِي دَاخله تكون المقلة.(4/195)
(174) وَأخرج لعَمْرو بن عبسة السّلمِيّ حَدِيثا وَاحِدًا
2412 - / 3075 - وَفِيه: قَالَ عَمْرو: كنت وَأَنا فِي الْجَاهِلِيَّة أَظن أَن النَّاس على ضَلَالَة.
هَذَا أَمر يدْرك ببداية الْعُقُول، وَهُوَ أَن عبَادَة حجر لَا يضر وَلَا ينفع لَا معنى لَهُ، ثمَّ ذل من يعقل لمن لَا يعقل، وخدمة من يفهم لمن لَا يفهم لَا تحسن.
وَقَوله: حراء عَلَيْهِ قومه: أَي غضاب مغمومون قد عيل صبرهم بِهِ حَتَّى أثر فِي أجسامهم، وَهُوَ من قَوْلهم: حرى جِسْمه يحري: إِذا نقص من ألم أَو غم. وَيُقَال: أَفْعَى حارية: أَي قد كَبرت وَنقص لَحمهَا، وَهِي أَخبث الْحَيَّات. وَفِي بعض النّسخ: جرآء بِالْجِيم، وَهُوَ من الجرأة.
وَقَوله: " بَين قَرْني شَيْطَان " قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: " مَشْهُودَة محضورة " أَي تشهدها الْمَلَائِكَة وتحضرها الْحفظَة.
وَقَوله: " حَتَّى يسْتَقلّ الظل بِالرُّمْحِ " أَي كَانَ بمقداره.
وتسجر: توقد.
والنثرة: الْأنف. فَيحْتَمل قَوْله: " ينتثر " يدْخل المَاء فِي أَنفه(4/196)
للاستنشاق، وَيحْتَمل يلقِي مَا فِي أَنفه بالامتخاط، وَهُوَ أليق بِهَذَا الْمَكَان. والخياشيم جمع خيشوم: وَهُوَ الْأنف.
وَقَوله: ومجده. التمجيد: التَّعْظِيم وَوَصفه بِمَا هُوَ لَهُ أهل.
وَقَوله: قَالَ أَبُو أُمَامَة لعَمْرو لصَاحب الْعقل رجل من بني سليم. قد رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده فَقَالَ فِيهِ: فَقَالَ أَبُو أُمَامَة: يَا عَمْرو بن عبسة صَاحب الْعقل عقل الصَّدَقَة رجل من بني سليم، بِأَيّ شَيْء تدعى أَنَّك ربع الْإِسْلَام؟ . وَالْمعْنَى: أَنْت صَاحب الْعقل، وَهِي جمع عقال، وَكَأَنَّهُ تولى أَمر الصَّدَقَة، وَأَنت رجل من بني سليم فَمن أَيْن تَدعِي هَذَا؟ وَإِنَّمَا ادّعى أَنه ربع الْإِسْلَام؛ لِأَنَّهُ لَقِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة فَقَالَ لَهُ: من مَعَك على هَذَا الْأَمر؟ فَقَالَ: " حر وَعبد " وَكَانَ مَعَه أَبُو بكر وبلال، فَلَمَّا أسلم عَمْرو رأى نَفسه ربع الْإِسْلَام؛ لِأَنَّهُ صَار رَابِع أَرْبَعَة، إِلَّا أَنه لما أسلم رَجَعَ إِلَى بِلَاده، ثمَّ هَاجر بعد دُخُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة.(4/197)
(176) وَأخرج لأبي مرْثَد كناز بن الْحصين حَدِيثا وَاحِدًا
2413 - / 3077 - أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَا تصلوا إِلَى الْقُبُور، وَلَا تجلسوا عَلَيْهَا ".
وَالْمرَاد: لَا تعظموها بِالصَّلَاةِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يشبه الْعِبَادَة لَهَا، وَلَا تهينوها بِالْجُلُوسِ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا مُحْتَرمَة.
وَجُمْهُور الْفُقَهَاء أَنه يكره الْجُلُوس على الْقَبْر والاتكاء إِلَيْهِ خلافًا لمَالِك فِي قَوْله: لَا يكره.(4/198)
(177) وَأخرج لفضالة بن عبيد حديثين
2414 - / 3078 - فِي الأول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بتسويتها يَعْنِي الْقُبُور.
اخْتلف النَّاس: هَل السّنة تسنيم الْقُبُور أَو تسطيحها؟ فمذهب أَحْمد أَن السّنة التسنيم، وَقَالَ الشَّافِعِي: السّنة التسطيح، وَقد رُوِيَ فِي صفة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التسنيم والتسطيح.
2415 - / 3079 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أُتِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقلادة فِيهَا خرز وَذهب وَهِي من الْمَغَانِم تبَاع. وَفِي لفظ: فطارت لي ولأصحابي قلادة. أَي صَارَت لي بِالْقُرْعَةِ.
والقلادة: مَا يتقلد بِهِ من أَي نوع كَانَ.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَنه لَا يجوز بيع جنس من الرِّبَا بِجِنْسِهِ وَمَعَ أَحدهمَا من غير جنسه كَهَذا الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وكما لَو بَاعَ مد عَجْوَة وَدِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ، أَو كرّ حِنْطَة وكر شعير بكري شعير، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل، وَعَن أَحْمد أَنه يجوز، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة.(4/199)
وَقد تجاسر بعض المتفقهة الَّذين جعلُوا بضاعتهم الجدل دون معرفَة النَّقْل فَقَالَ: لَعَلَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لَا يُبَاع حَتَّى يفضل بالضاد الْمُعْجَمَة. وَهَذَا تَصْحِيف على الروَاة وَسُوء ظن بالنقلة , مَعَ علمنَا بتحريهم , وَلم يروه أحد كَذَلِك , ويحقق مَا قُلْنَا أَن فِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح أَن فضَالة سُئِلَ عَن هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَالَ: انْزعْ ذهبها فاجعله فِي كفة , وَاجعَل ذهبك فِي كفة , لَا تأخذن إِلَّا مثلا بِمثل.(4/200)
(178) وَأخرج للنواس بن سمْعَان ثَلَاثَة أَحَادِيث
2416 - / 3080 - فَفِي الحَدِيث الأول: سَأَلته عَن الْبر وَالْإِثْم.
الْبر يكون بِمَعْنى الطَّاعَة وَيكون بِمَعْنى الصدْق، وَكَأن المُرَاد بِهِ هَاهُنَا الطَّاعَة.
وحاك بِمَعْنى أثر، والحيك: تَأْثِير الشَّيْء فِي الْقلب يُقَال: مَا يحيك كلامك فِي قلبِي: أَي مَا يُؤثر. وَهَذَا لِأَن النَّفس لَا تسكن إِلَى مَا لَا يصلح؛ وَإِن أَتَتْهُ أَتَتْهُ بانزعاج؛ فَإِنَّهَا لَا تفعل الْمعْصِيَة إِلَّا وَهِي منزعجة فَإِذا فعلت الطَّاعَة سكنت؛ لِأَنَّهُ قد ركز فِي طبعها الْفرْقَان بَين الْحق وَالْبَاطِل وَمَعْرِفَة ثَمَرَتهَا، فَهِيَ تسكن إِلَى الْحق وتنفر من الْبَاطِل.
2417 - / 3081 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " يُؤْتى بِالْقُرْآنِ يَوْم الْقِيَامَة وَأَهله تقدمه الْبَقَرَة وَآل عمرَان ".
الْمَعْنى: يُؤْتى بِثَوَاب الْقُرْآن.
والظلة: مَا يسترك فَوْقك.
والشرق بِسُكُون الرَّاء: وَهُوَ الضَّوْء. وَقَوله: " حزقان " ذكره الْحميدِي فَقَالَ: خرقان بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة مَعَ الرَّاء الْمُهْملَة، وَقَالَ: إِن كَانَ مَحْفُوظًا فالخرق مَا انخرق من الشَّيْء وَبَان(4/201)
مِنْهُ، وَالصَّوَاب حزقان بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمُعْجَمَة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الحزق والحزيق والحزيقة والحازقة: الْجَمَاعَة من الطير وَالنَّاس.
والصواف: الَّتِي قد بسطت أَجْنِحَتهَا فِي الطيران.
2418 - / 3081 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّجَّال، فخفض فِيهِ وَرفع، يَعْنِي أعَاد وأبدأ وَقرب ذكره.
وَقَوله: " إِن يخرج وَأَنا فِيكُم " دَلِيل على أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يعلم مَتى يخرج، وَأَنه ظن قرب السَّاعَة بالعلامات الَّتِي جعلت لَهُ.
والطافية: الْخَارِجَة عَن مَكَانهَا؛ فالعنبة الطافية: الَّتِي قد برزت عَن مُسَاوَاة أخواتها.
وَأما عبد الْعُزَّى بن قطن فقد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عمر أَنه مَاتَ فِي الْجَاهِلِيَّة.
وَأما قِرَاءَة أول سُورَة الْكَهْف أَو آخرهَا فقد ذكرنَا سر ذَلِك فِي مُسْند أبي الدَّرْدَاء.
وَقَوله: " إِنَّه خَارج خلة بَين الشَّام وَالْعراق ". الْخلَّة وَاحِدَة الْخلّ.
والخل: الطَّرِيق من الرمل. وَالْمعْنَى أَنه خَارج فِي خلة: أَي فِي طَرِيق من(4/202)
هَاتين الْجِهَتَيْنِ.
والتخلل: الدُّخُول فِي الشَّيْء.
وَقَوله: " فعاث " أَي فيعيث. والعيث: الْفساد.
وَقَوله: " يَا عباد الله اثبتوا " يُوصي من يكون حِينَئِذٍ بالثبات.
قَوْله: " يَوْم كَسنة، وَيَوْم كشهر " قد تَأَوَّلَه أَبُو الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي فَقَالَ: الْمَعْنى أَنه يهجم عَلَيْكُم غم عَظِيم لشدَّة الْبلَاء، وَأَيَّام الْبلَاء طوال، ثمَّ يتناقص ذَلِك الْغم فِي الْيَوْم الثَّانِي، ثمَّ ينقص فِي الثَّالِث، ثمَّ يعْتَاد الْبلَاء، كَمَا يَقُول الرجل: الْيَوْم عِنْدِي سنة؛ إِلَّا أَن الزَّمَان تغير، كَقَوْل الشَّاعِر:
(وليل الْمُحب بِلَا آخر ... )
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " تكون السّنة كالشهر، والشهر كَالْجُمُعَةِ " قَالَ حَمَّاد بن سَلمَة: سَأَلت أَبَا سِنَان عَن معنى ذَلِك فَقَالَ: يستلينون الْعَيْش فتقصر الْأَيَّام عَلَيْهِم. قلت: وَهَذَا التَّأْوِيل الْمَذْكُور يردهُ قَوْلهم بعد هَذَا: تكفينا فِيهِ صَلَاة يَوْم وليله؟ قَالَ: " لَا، أقدروا لَهُ قدره "، وَالْمعْنَى: قدرُوا لأوقات الصَّلَوَات.
غير أَن أَبَا الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي قد طعن فِي صِحَة هَذِه اللفظات - يَعْنِي قَوْلهم: أتكفينا صَلَاة يَوْم؟ قَالَ: " لَا، اقدروا لَهُ قدره " - فَقَالَ: هَذَا عندنَا من المداسيس الَّتِي كادنا بهَا ذَوُو الْخلاف علينا قَدِيما، وَلَو كَانَ ذَلِك صحيحيا لاشتهر ذَلِك على أَلْسِنَة الروَاة كَحَدِيث الدَّجَّال، فَإِنَّهُ قد رَوَاهُ ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَجَابِر بن عبد الله وَحُذَيْفَة وَعبادَة بن الصَّامِت وَأبي بن كَعْب وَأَبُو هُرَيْرَة وَسمرَة بن جُنْدُب وَأَبُو الدَّرْدَاء وَأَبُو مَسْعُود(4/203)
البدري وَأنس بن مَالك وَعمْرَان بن حُصَيْن ومعاذ بن جبل وَمجمع بن جَارِيَة فِي آخَرين، وَلَو كَانَ ذَلِك لقوي اشتهاره، ولكان أعظم وأفظع من طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَه هُوَ الظَّاهِر، وَإِن كَانَ مَا قدح فِيهِ مُمكن الْوُجُود، وَالله أعلم.
وَقَوله: " كالغيث استدبرته الرّيح " أَي أَنه يسْرع.
والسارحة: الْمَاشِيَة الَّتِي تسرح بِالْغَدَاةِ إِلَى المرعى.
والدر: اللَّبن.
وَقَوله: " وأسبغه ضروعا " السابغ: التَّام، وَهَذِه كِنَايَة عَن امتلاء الضَّرع بِاللَّبنِ.
وَقَوله: " وأمده خواصر " كِنَايَة عَن الشِّبَع بِالْخصْبِ، كَأَنَّهَا تنقبض من الجدب.
وَالْمحل: الجدب وَقلة المرعى.
واليعاسيب جمع يعسوب: وَهُوَ فَحل النَّحْل.
وَقَوله: " فيقطعه جزلتين " أَي قطعتين.
وَقَوله: " رمية الْغَرَض " أَي: كرمية الْغَرَض فِي السرعة.
وَقَوله: " ويتهلل وَجهه " يَعْنِي الدَّجَّال، كَأَنَّهُ يفرح بِمَا جرى على يَدَيْهِ من إحْيَاء الْمَيِّت. وَقد بَينا فِي مُسْند أبي سعيد أَنه يُرِيد قَتله مرّة أُخْرَى فَلَا يُسَلط عَلَيْهِ.(4/204)
وَقَوله: " بَين مهرودتين " الثَّوْب المهرود: الْمَصْبُوغ بالصفرة.
وَيُقَال: إِنَّه يصْبغ أَولا بالورس ثمَّ بالزعفران فيسمى مهرودا، وَأَصْحَاب الحَدِيث يَخْتَلِفُونَ فِي هَذِه اللَّفْظَة، فبعضهم يَقُولهَا بِالدَّال غير الْمُعْجَمَة، وَبَعْضهمْ بِالذَّالِ. وَقد حكى أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي أَنَّهَا تقال بهما. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هَذِه الْكَلِمَة عِنْدِي غلط من بعض النقلَة، وَلَا أرَاهُ إِلَّا مهروتين، يُرِيد ملاءتين صفراوين، يُقَال: هريت الْعِمَامَة: إِذا لبستها صفراء، قَالَ الشَّاعِر:
(رَأَيْتُك هريت الْعِمَامَة بَعْدَمَا ... أَرَاك زَمَانا حاسرا لم تعصب)
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّك لبست عِمَامَة صفراء كَمَا تلبس السَّادة، وَكَانَ السَّيِّد يعتم بعمامة مصبوغة بصفرة وَلَا يكون ذَلِك لغيره. قَالَ: وَيشْهد لهَذَا الْمَذْهَب قَوْله فِي وصف الْمَسِيح: " بَين مُمَصَّرَتَيْنِ " فالممصرة من الثِّيَاب الَّتِي فِيهَا صفرَة خَفِيفَة وَهِي نَحْو المهروة، وَإِن كَانَت الرِّوَايَة " مهرودتين " فَلَا أعلم لَهَا وَجها إِن لم يكن مَنْسُوبا إِلَى نَبَات يصْبغ بِهِ، إِلَّا أَن يَجْعَل من الهرد، والهرد والهرت: الشق، كَأَنَّهُ قَالَ: بَين شقتين، والشقة: نصف الملاءة فِي الْعرض، فَإِذا وصلت نصفا بِنصْف فَهِيَ ملاءة، وَإِن كَانَت الملاءة قِطْعَة وَاحِدَة فَهِيَ ريطة.(4/205)
وَقَوله: " إِذا طأطأ رَأسه قطر " يَعْنِي من الْعرق.
والجمان: مَا اسْتَدَارَ من الدّرّ، ويستعار لكل مَا اسْتَدَارَ من الْحلِيّ.
وَقَوله: " فيمسح عَن وُجُوههم " كَأَنَّهُ يرفع غمهم بِمَا لاقوا من الدَّجَّال.
وَقَوله: " فحرز عبَادي إِلَى الطّور " أَي ضمهم إِلَيْهِ.
وَقد سبق ذكر يَأْجُوج وَمَأْجُوج فِي مُسْند أبي سعيد.
وَقَوله: " وهم " أَي يَأْجُوج وَمَأْجُوج " من كل حدب يَنْسلونَ " قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي من كل نشز من الأَرْض وأكمة يَنْسلونَ، من النسلان، وَهُوَ مقاربة الخطو مَعَ الْإِسْرَاع كمشي الذِّئْب إِذا بَادر. وَقَالَ الزّجاج: يَنْسلونَ: يسرعون.
وَقَوله: " حَتَّى يكون رَأس الثور خيرا لَهُم من مائَة دِينَار " يُشِير إِلَى المجاعة.
والنغف: دود يكون فِي أنوف الْغنم وَالْإِبِل، وَاحِدهَا نغفة، وَهِي محتقرة وإيلامها شَدِيد، وَيُقَال فِي الْمثل: " مَا هُوَ إِلَّا نغفة ".
وَقَوله: " فيصبحون فرسى " أَي مفروسين هالكين، وأصل الْفرس دق الْعُنُق من الذَّبِيحَة، ثمَّ سمي كل قتل فرسا.(4/206)
وَقَوله: " ملأَهُ زهمهم " الأَصْل فِي الزهومة مَا تعلق رِيحه من اللَّحْم بِالْيَدِ، ثمَّ قد يستعار للتغير وَالنَّتن.
وَالطير جمَاعَة، وَالْوَاحد طَائِر.
وَالْبخْت من الْإِبِل: السريعة السّير، الطَّوِيلَة الْأَعْنَاق.
والزلفة مَفْتُوحَة الزَّاي وَاللَّام. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الزلفة: مصنعة المَاء، وَجَمعهَا زلف، وَأَرَادَ أَن الْمَطَر يكثر حَتَّى يقوم فِي الأَرْض فَتَصِير الأَرْض كَأَنَّهَا مصنعة من مصانع المَاء.
وَأخْبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا الْمُبَارك ابْن عبد الْجَبَّار قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن عمر الْقزْوِينِي وَأَبُو إِسْحَاق الْبَرْمَكِي قَالَا: أخبرنَا أَبُو عمر بن حيويه قَالَ: أخبرنَا أَبُو عمر الزَّاهِد قَالَ: يُقَال الزلفة والزلقة جَمِيعًا: وَهِي الرَّوْضَة.
والعصابة: الْجَمَاعَة.
وأصل القحف الْعظم الَّذِي فَوق الدِّمَاغ، وَقد استعير هَاهُنَا لرأس الرمانة لما بَينهمَا من مُنَاسبَة الصيانة لما تَحْتَهُ.
وَالرسل: اللَّبن.
واللقحة: النَّاقة ذَات اللَّبن، وَالْجمع لقاح.
والفئام: الْجَمَاعَة من النَّاس.
والفخذ دون الْقَبِيلَة وَفَوق الْبَطن. قَالَ الزبير بن بكار: الْعَرَب على سِتّ طَبَقَات: شعب وقبيلة وَعمارَة وبطن وفخذ وفصيلة، وَمَا بَينهمَا من(4/207)
الْآبَاء إِنَّمَا يعرفهَا أَهلهَا، فمضر شعب، وَرَبِيعَة شعب، ومذحج شعب، وحمير شعب.
وَإِنَّمَا سميت الشعوب؛ لِأَن الْقَبَائِل تشعبت مِنْهَا، وَسميت الْقَبَائِل قبائل لِأَن العمائر تقابلت عَلَيْهَا، فأسد قَبيلَة، ودودان بن أَسد عمَارَة، فالشعب يجمع الْقَبَائِل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع الْبُطُون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل. وكنانة قَبيلَة، وقريش عمَارَة، وقصي بطن، وهَاشِم فَخذ، وَبَنُو الْعَبَّاس فصيلة.
والتهارج: الِاخْتِلَاط فِي الْفِتْنَة، وَقد هرج النَّاس يهرجون: إِذا اختلطوا فِي فَسَاد.
وجبل الْخمر عِنْد بَيت الْمُقَدّس.
وَرُجُوع النشاب إِلَيْهِم مدمى فتْنَة لَهُم.(4/208)
(180) وَأخرج لِصُهَيْب بن سِنَان ثَلَاثَة أَحَادِيث
حديثان ظاهران.
2419 - / 3086 - وَفِي الثَّالِث: كَانَ الْغُلَام يُبرئ الأكمه.
الأكمه: الَّذِي يُولد أعمى.
والمنشار مَذْكُور فِي أول مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
ومفرق الرَّأْس: وَسطه حَيْثُ ينفرق الشّعْر، وَجمعه مفارق.
والشقان: الجانبان، وَاحِدهَا شقّ.
وذروة الْجَبَل: أَعْلَاهُ.
والقرقور: ضرب من السفن.
فَانْكَفَأت بهم: أَي انقلبت.
والكنانة: جعبة السِّهَام.
وكبد الْقوس: وَسطهَا.
والصدغ: مَا بَين لحظ الْعين إِلَى أصل الْأذن.
وَالْأُخْدُود: الشق فِي الأَرْض.(4/209)
والسكك جمع سكَّة، وَهِي الدَّرْب، وَسمي سكَّة لاصطفاف الدّور، وَأَصله من السِّكَّة الَّتِي هِيَ الطَّرِيقَة المصطفة من النّخل.
وَقَوله: فاحموه فِيهَا: أَي أحرقوه.
وتقاعست: توقفت وَلم تقدم.(4/210)
(181) وَأخرج لسفينة مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا وَاحِدًا
وَاعْلَم أَن سفينة لقب سَببه أَنه خرج مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه , فثقل عَلَيْهِم مَتَاعهمْ , فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أبسط كساءك " فبسطه، فَجعلُوا مَتَاعهمْ فِيهِ، ثمَّ حملوه عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " احْمِلْ، فَمَا أَنْت إِلَّا سفينة "، واسْمه مهْرَان، وَيُقَال: رُومَان. وَيُقَال: عِيسَى. وَقد حكى الْحميدِي نَجْرَان، وَهُوَ أبعد الْأَقْوَال، غير أَنه غلب عَلَيْهِ لقبه.
وَقد غلبت على خلق كثير ألقابهم فَتركت أَسمَاؤُهُم: فَمنهمْ الْجَارُود الْعَبْدي واسْمه بشر. وأشج عبد الْقَيْس واسْمه الْمُنْذر. والأقرع بن حَابِس واسْمه فراس. وآبي اللَّحْم واسْمه عبد الله. وشقران مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسْمه صَالح. وَذُو الْغرَّة واسْمه يعِيش، لقب بذلك لبياض كَانَ فِي وَجهه. وَذُو الجوشن واسْمه شرَاحِيل، كَانَ صَدره ناتئا فلقب ذَا الجوشن. وَذُو الْيَدَيْنِ كَانَ فِي يَدَيْهِ طول. وكل هَؤُلَاءِ من الصَّحَابَة.
وَمِمَّنْ بعدهمْ أَبُو عبد الله الْأَغَر واسْمه سلمَان. الْأَجْلَح الْكِنْدِيّ واسْمه يحيى بن عبد الله بن حسان. الْأَعْمَش واسْمه سُلَيْمَان بن مهْرَان. غنْدر واسْمه مُحَمَّد بن جَعْفَر. لوين واسْمه مُحَمَّد بن سُلَيْمَان، كَانَ يَبِيع الرَّقِيق بِالْمصِّيصَةِ، فَكَانَ يَقُول: عِنْدِي جَارِيَة لَهَا لوين. جزرة واسْمه صَالح بن مُحَمَّد الْحَافِظ، كَانَ يقْرَأ على بعض الشُّيُوخ أَنه كَانَ لبَعض(4/211)
الصَّحَابَة خرزة فَقَالَ: جزرة، فلقب بهَا. مشكدانة واسْمه عبد الله بن عمر بن مُحَمَّد الْكُوفِي، قَالَ: رَآنِي أَبُو نعيم وثيابي نظيفة ورائحتي طيبَة فَقَالَ: مَا أَنْت إِلَّا مشكدانة فَبَقيت عَليّ. عَارِم واسْمه مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي، وَيُقَال: إِن عارما اسْمه لَا لقبه. بومة واسْمه مُحَمَّد بن سُلَيْمَان الْحَرَّانِي. سَعْدَوَيْه واسْمه سعيد بن سُلَيْمَان الوَاسِطِيّ. صَاعِقَة واسْمه مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم، لقب صَاعِقَة لجودة حفظه. دُحَيْم واسْمه عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم. مطين واسْمه مُحَمَّد ابْن عبد الله الْحَضْرَمِيّ، قَالَ: كنت أَلعَب مَعَ الصّبيان فِي الطين وَقد تطينت وَأَنا صبي لم أسمع الحَدِيث، فَمر بِي أَبُو نعيم فَقَالَ: يَا مطين، قد آن أَن تحضر الْمجْلس لسَمَاع الحَدِيث. جبر واسْمه عِصَام بن يزِيد الْأَصْبَهَانِيّ. مربع واسْمه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْأنمَاطِي. أَبُو العيناء واسْمه مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْبَصْرِيّ، سَأَلَ أَبَا زيد: مَا تَصْغِير عيناء؟ قَالَ: عييناء يَا أَبَا العيناء. نفطويه واسْمه مُحَمَّد بن عَرَفَة فِي خلق يطول ذكرهم.
2420 - / 3087 - والْحَدِيث الَّذِي أخرجه لسفينة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل بالصاع ويتطهر بِالْمدِّ.(4/212)
قد ذكرنَا قدر الصَّاع فِي مُسْند ابْن عمر. وَأما الْمَدّ فَهُوَ ربع الصَّاع. وَأَرَادَ بقوله: يتَطَهَّر: يتَوَضَّأ، وَهَذَا الْقدر هُوَ الْكَافِي فِي الْأَغْلَب، فَإِن أَسْبغ المغتسل والمتوضئ بِدُونِ هذَيْن جَازَ، وَإِن زَاد جَازَ، إِلَّا أَنه نهى عَن الْإِسْرَاف؛ فَإِنَّهُ إِذا زَاد على الثَّلَاث فِي الْوضُوء كَانَ مُسْرِفًا.(4/213)
(182) وَأخرج لثوبان مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرَة أَحَادِيث
2421 - / 3090 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِنِّي لبعقر حَوْضِي أذود النَّاس لأهل الْيمن ".
عقر الْحَوْض بِضَم الْعين: مؤخره، وَقيل: هُوَ موقف الْإِبِل إِذا وَردت.
وأذود بِمَعْنى أطْرد. لأهل الْيمن: أَي لأجلهم لكَي يتقدموا.
ويرفض: يتفرق أجزاؤها، يُقَال: ارْفض الدمع من الْعين: إِذا سَالَ.
وعمان قد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند أبي ذَر.
وَقَوله: " يغت فِيهِ مِيزَابَانِ " أَي يمدانه ويدفقان فِيهِ المَاء دفقا مُتَتَابِعًا، وَيُقَال: غت الشَّارِب فِي الشّرْب، وَالْقَائِل فِي القَوْل: إِذا أتبع الشّرْب الشّرْب، وَالْقَوْل القَوْل. وَرُبمَا قَرَأَ بعض أَصْحَاب الحَدِيث يعب بِالْعينِ الْمُهْملَة، وَهُوَ تَصْحِيف، وَقد رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده: ينثعب.
وَالْوَرق: الْفضة.(4/214)
2422 - / 3091 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ذبح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضحيته ثمَّ قَالَ: " أصلح لي لحم هَذِه " فَلم أزل أطْعمهُ مِنْهَا حَتَّى قدم الْمَدِينَة.
قَالَ الْأَصْمَعِي: فِي الضحية أَربع لُغَات: أضْحِية وإضحية وَالْجمع أضاح، وضحية وَالْجمع ضحايا، وأضحاة وَالْجمع أضحى.
وَقَوله: فَلم أزل أطْعمهُ مِنْهَا. يُشِير إِلَى مَا يسن أكله من الضحية، فَإِن الْمَشْرُوع أَن يَأْكُل الثُّلُث، وَيهْدِي الثُّلُث، وَيتَصَدَّق بِالثُّلثِ.
2423 - / 3092 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن يَهُودِيّا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيْن يكون النَّاس يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض؟ قَالَ: " هم فِي الظلمَة دون الجسر ".
اخْتلف الْعلمَاء فِي معنى تَبْدِيل الأَرْض على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه تبدل صفاتها وَأَحْوَالهَا، تذْهب آكامها وجبالها وأوديتها وأشجارها، وتمد مد الْأَدِيم، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تبدل بغَيْرهَا، ثمَّ فِي ذَلِك أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا تبدل بِأَرْض بَيْضَاء كَأَنَّهَا فضَّة لم يسفك فِيهَا دم حرَام وَلم يعْمل فِيهَا خَطِيئَة، رَوَاهُ ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تبدل نَارا، قَالَه أبي بن كَعْب. وَالثَّالِث: تبدل بِأَرْض من فضَّة، قَالَه أنس بن مَالك. وَالرَّابِع: تبدل بخبزة بَيْضَاء فيأكل الْمُؤمن من تَحت قَدَمَيْهِ، قَالَه أَبُو هُرَيْرَة وَسَعِيد بن جُبَير.(4/215)
والجسر: الصِّرَاط.
وَقَوله: من أول النَّاس إجَازَة؟ أَي جَوَازًا.
والتحفة: الْكَرَامَة وَالْبر وَمَا يطْلب بِهِ سرُور المتحف.
وَأما زِيَادَة كبد الْحُوت فقد سبق فِي مُسْند أنس بن مَالك.
وَقَوله: " يَأْكُل من أطرافها " يَعْنِي أَطْرَاف الْجنَّة.
وَقَوله: " تسمى سلسبيلا " قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: السلسبيل: صفة للْمَاء لسلسه وسهولة مدخله فِي الْحلق، يُقَال: شراب سلسل وسلسال وسلسبيل. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: قَوْله: {تسمى سلسبيلا} [الْإِنْسَان: 18] . قيل هُوَ اسْم أعجمي نكرَة فَلذَلِك انْصَرف، وَقيل: هُوَ اسْم معرفَة إِلَّا أَنه أجري لِأَنَّهُ رَأس آيَة. وَعَن مُجَاهِد قَالَ: حَدِيدَة الجرية. وَقيل: سلسبيل: سَلس مَاؤُهَا مستقيد لَهُم.
2424 - / 3093 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " اللَّهُمَّ أَنْت السَّلَام ومنك السَّلَام ".
السَّلَام اسْم من أَسمَاء الله عز وَجل، وَمَعْنَاهُ: الَّذِي سلم من كل عيب وَنقص.
وَقَوله: " ومنك السَّلَام " أَي بك تقع السَّلامَة من النكبات.(4/216)
وتبارك: " تفَاعل " من الْبركَة، وَهِي الْكَثْرَة وَالسعَة.
والجلال مصدر الْجَلِيل، يُقَال: جليل بَين الْجَلالَة والجلال. وَالْإِكْرَام مصدر أكْرم يكرم إِكْرَاما. وَالْمعْنَى أَن الله سُبْحَانَهُ مُسْتَحقّ أَن يجل وَيكرم فَلَا يجْحَد وَلَا يكفر وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: أَن يكرم أهل ولَايَته وَيرْفَع درجاتهم بالتوفيق لطاعته فِي الدُّنْيَا، ويجلهم بِأَن يتَقَبَّل أَعْمَالهم وَيرْفَع فِي الْجنان درجاتهم. وَيحْتَمل أَن يكون أحد الْأَمريْنِ وَهُوَ الْجلَال مُضَافا إِلَى الله تَعَالَى بِمَعْنى الصّفة لَهُ، وَالْآخر مُضَافا إِلَى العَبْد بِمَعْنى الْفِعْل مِنْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {هُوَ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة} [المدثر: 65] فَانْصَرف أحد الْأَمريْنِ إِلَى الله وَهُوَ الْمَغْفِرَة، وَالْآخر إِلَى الْعباد وَهُوَ التَّقْوَى، قَالَه الْخطابِيّ.
2425 - / 3096 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " عَائِد الْمَرِيض فِي مخرفة الْجنَّة ".
شبه عَلَيْهِ السَّلَام مَا يحوزه الْعَائِد من الثَّوَاب بِمَا يحوزه مخترف الثَّمَرَة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْمَعْنى: عَائِد الْمَرِيض فِي بساتين الْجنَّة؛ لِأَنَّهَا اسْتحقَّهَا بِالْعبَادَة، فَهُوَ صائر إِلَيْهَا. قَالَ: وَلَو جعلت المخرفة هَاهُنَا من مخرفة النعم وَهُوَ الطَّرِيق لَكَانَ وَجها حسنا، كَأَنَّهُ قَالَ: عَائِد الْمَرِيض على طَرِيق الْجنَّة؛ لِأَن عيادته تُؤَدِّيه إِلَيْهَا. وَقد تكلمنا فِي معنى المخرف فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.(4/217)
2426 - / 3097 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " إِن الله زوى لي الأَرْض، فَرَأَيْت مشارقها وَمَغَارِبهَا ".
زوى بِمَعْنى قبض وَجمع حَتَّى أمكنني الإشراف على مَا زوي لي مِنْهَا. قَالَ أَبُو عبيد: وَلَا يكون الانزواء إِلَّا بانحراف مَعَ تقبض، قَالَ الْأَعْشَى:
(يزِيد يغض الطّرف عني كَأَنَّمَا ... زوى بَين عَيْنَيْهِ على المحاجم)
(فَلَا ينبسط من بَين عَيْنَيْك مَا انزوى ... وَلَا تلقني إِلَّا وأنفك راغم)
والأحمر: الذَّهَب. والأبيض: الْفضة.
وَقَوله: " بِسنة بعامة " أَي بجدب يعم الْكل.
وبيضتهم: جَمَاعَتهمْ وأصلهم. وبيضة الدَّار: معظمها ووسطها.
والقطر: النَّاحِيَة. والأقطار: الجوانب.
الفئام: الْجَمَاعَة.(4/218)
(183) وَأخرج لتميم الدَّارِيّ حَدِيثا وَاحِدًا
2427 - / 3098 - " الدّين النَّصِيحَة ".
الْمَعْنى أَن النَّصِيحَة أفضل الدّين وأكمله، كَمَا يُقَال: المَال الْإِبِل، وَمعنى النَّصِيحَة إِرَادَة الْحَظ للمنصوح. وَفِي اشتقاق النَّصِيحَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه من قَوْلهم: نصح الرجل ثَوْبه: إِذا خاطه، وَكَأن الناصح جمع الصّلاح للمنصوح جمع الناصح ثَوْبه بالخياطة. وَالثَّانِي: أَنه من قَوْلهم: نصحت الْعَسَل: إِذا صفيته من الشمع، فَشبه خلوص النصح من شوب الْغِشّ والخيانة بخلوص الْعَسَل من كدره.
وَاعْلَم أَن النَّصِيحَة لله عز وَجل المناضلة عَن دينه والمدافعة عَن الْإِشْرَاك بِهِ وَإِن كَانَ غَنِيا عَن ذَلِك، لَكِن نَفعه عَائِد على العَبْد، وَكَذَلِكَ النصح لكتابه الذب عَنهُ والمحافظة على تِلَاوَته، والنصيحة لرَسُوله إِقَامَة سنته وَالدُّعَاء إِلَى دَعوته، والنصيحة لأئمة الْمُسلمين طاعتهم، وَالْجهَاد مَعَهم، والمحافظة على بيعتهم، وإهداء النصائح إِلَيْهِم دون المدائح الَّتِي تغر. والنصيحة لعامة الْمُسلمين إِرَادَة الْخَيْر لَهُم، وَيدخل فِي ذَلِك تعليمهم وتعريفهم اللَّازِم، وهدايتهم إِلَى الْحق.(4/219)
(184) وَأخرج لِسُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِيّ حَدِيثا وحدا
2428 - / 3099 - " قل آمَنت بِاللَّه ثمَّ اسْتَقِم ".
وَالْمعْنَى: اسْتَقِم على الْعَمَل بِطَاعَة الله. وَفِي رِوَايَة: " لَا تغْضب " وَقد سبق الْكَلَام فِي الْغَضَب فِي مُسْند سُلَيْمَان بن صرد وَأبي هُرَيْرَة.
(186) وَأخرج لعبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان حَدِيثا وَاحِدًا
2429 - / 3102 - أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن لقطَة الْحَاج.
وَكَأن الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى اللّقطَة الْمَوْجُودَة فِي الْحرم. وَقد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس فِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " وَلَا تلْتَقط لقطته إِلَّا من عرفهَا " أَن لقطَة الْحرم لَا تحل إِلَّا لمن يعرفهَا أبدا. وَهَذَا مَذْهَبنَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَأحد الْقَوْلَيْنِ لأَصْحَاب الشَّافِعِي.(4/220)
(189) وَأخرج لِوَائِل بن حجر سِتَّة أَحَادِيث
2430 - / 3105 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: جَاءَ رجل فَقَالَ: إِن هَذَا انتزى على أرضي.
أَي وثب عَلَيْهَا وسارع إِلَى أَخذهَا. والتنزي: تسرع الْإِنْسَان إِلَى الشَّرّ ووثوبه على مَا لَيْسَ لَهُ الْوُثُوب عَلَيْهِ.
والتورع: الِامْتِنَاع.
وَاسم الرجل المخاصم ربيعَة بن عَبْدَانِ - بِكَسْر الْعين وَبعدهَا بَاء مُعْجمَة بِوَاحِدَة، وَقيل: عيدَان بِفَتْح الْعين وبياء مُعْجمَة بِاثْنَتَيْنِ. وَاسم خَصمه امْرُؤ الْقَيْس بن عَابس الْكِنْدِيّ.
2431 - / 3107 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: جَاءَ رجل يَقُود آخر بنسعة فَقَالَ: هَذَا قتل أخي، فَقَالَ: " كَيفَ قتلته؟ " قَالَ: كنت أَنا وَهُوَ نختبط من شَجَرَة فسبني فأغضبني، فَضربت رَأسه بالفأس على قرنه فَقتلته. فَرمى إِلَيْهِ بنسعته فَقَالَ: " دُونك صَاحبك " فَانْطَلق بِهِ الرجل، فَلَمَّا ولى قَالَ: " إِن قتلته فَهُوَ مثله ".
النسعة والنسع: سير مضفور، وَالْجمع نسوع، وَهُوَ يشبه الأعنة.(4/221)
والاختباط: ضرب الشّجر ليَقَع الْوَرق.
والقرن: حرف الرَّأْس.
وَقَوله: " فَهُوَ مثله " قَالَ ابْن قُتَيْبَة: لم يرد أَنه مثله فِي المأثم، وَكَيف يُرِيد هَذَا وَقد أَبَاحَ الله عز وَجل قَتله بِالْقصاصِ، وَلَكِن كره لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقْتَصّ، وَأحب لَهُ الْعَفو، فَعرض تعريضا أَوْهَمهُ بِهِ أَنه إِن قَتله كَانَ مثله فِي الْإِثْم ليعفو عَنهُ، وَكَأن مُرَاده أَنه مثله فِي أَن هَذَا قتل نفسا وَهَذَا قتل نفسا، وَكِلَاهُمَا قَاتل فقد اسْتَويَا فِي قَاتل وَقَاتل، إِلَّا أَن الأول ظَالِم وَالثَّانِي مقتص.
2432 - / 3109 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن طَارق بن سُوَيْد سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْخمر وَقَالَ: إِنَّمَا أصنعها للدواء. فَقَالَ: " إِنَّه لَيْسَ بدواء وَلكنه دَاء ".
هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَنه لَا يجوز شرب الْخمر لأجل الضَّرُورَة كالعطش والتداوي، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز، وَعَن الشَّافِعِيَّة ثَلَاثَة أوجه: اثْنَان كالمذهبين، وَالثَّالِث: يجوز للتداوي دون الْعَطش.
2433 - / 3110 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " لَا تَقولُوا: الْكَرم، وَلَكِن قُولُوا: الْعِنَب والحبلة ".(4/222)
قد بَينا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة عِلّة كَرَاهِيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تسمى الْخمر كرما. فَأَما الحبلة بِفَتْح الْحَاء وَسُكُون الْبَاء فَهِيَ الأَصْل من الْكَرم، وَمِنْه فِي الحَدِيث: أَن نوحًا لما خرج من السَّفِينَة غرس الحبلة. وَكَانَت لأنس بن مَالك حبلة يسميها أم الْعِيَال. فَأَما الحبلة بِضَم الْحَاء وَسُكُون الْبَاء فَهِيَ ثَمَر العضاه، وإليها أَشَارَ سعد فِي قَوْله: وَمَا لنا طَعَام إِلَّا الحبلة. وَقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْنده، وَقد حقق اللفظتين أَبُو مُحَمَّد بن قُتَيْبَة.(4/223)
(191) وَأخرج لعمارة بن رويبة حديثين
2434 - / 3113 - أَحدهمَا: أَنه رأى بشر بن مَرْوَان على الْمِنْبَر رَافعا يَدَيْهِ فَقَالَ: قبح الله هَاتين الْيَدَيْنِ، لقد رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يزِيد على أَن يَقُول هَكَذَا - وَأَشَارَ بالمسبحة - يَعْنِي فِي الدُّعَاء على الْمِنْبَر، وَهُوَ مَذْكُور فِي الحَدِيث.
2435 - / 3114 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " لن يلج النَّار أحد صلى قبل طُلُوع الشَّمْس وَقبل غُرُوبهَا ".
فَإِن قيل: كَيفَ الْجمع بَين هَذَا وَبَين دُخُول الْمُوَحِّدين النَّار وَقد صلوا؟ فَالْجَوَاب من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون قَالَ هَذَا قبل نزُول الْحُدُود وَبَيَان الْمُحرمَات. وَالثَّانِي: أَن يكون خَارِجا مخرج الْغَالِب، وَالْغَالِب مِمَّن صلى وراعى هَاتين الصَّلَاتَيْنِ أَن يَتَّقِي مَا يحمل إِلَى النَّار. وَالثَّالِث: لن يدخلهَا دُخُول خُلُود. وَالرَّابِع: أَن يُرَاد بِهِ النَّار الَّتِي يدخلهَا الْكفَّار. وَالْخَامِس: أَن يكون هَذَا حكمه أَلا يدْخل النَّار، كَمَا تَقول إِذا رَأَيْت دَارا صَغِيرَة: هَذِه لَا ينزلها أَمِير، وَقد ينزلها.(4/224)
(192) وَأخرج لعدي بن عميرَة حَدِيثا وَاحِدًا
2436 - / 3115 - وَفِيه: " ... فكتمنا مخيطا فَمَا فَوْقه كَانَ غلولا ".
الْمخيط: الإبرة. فَأَما الْخياط فَيكون الإبرة كَقَوْلِه تَعَالَى: {فِي سم الْخياط} [الْأَعْرَاف: 40] ، وَيكون بِمَعْنى الْخَيط كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: " أَدّوا الْخياط والمخيط ".
وَقد سبق بَيَان الْغلُول، وَأَنه أَخذ شَيْء من الْغَنِيمَة فِي سر.
(193) وَأخرج لعرفجة بن شُرَيْح حَدِيثا وَاحِدًا
2437 - / 3116 - " إِنَّه سَيكون هَنَات وهنات، فَمن أَتَاكُم يُرِيد أَن يشق عصاكم فَاقْتُلُوهُ ".
قَوْله: " هَنَات وهنات " كِنَايَة عَن الْفِتَن وَالِاخْتِلَاف وَمَا يجْرِي فِي ضمن ذَلِك من الْأُمُور السَّيئَة، يُقَال: فِي فلَان هَنَات: أَي خِصَال سَيِّئَة، وكل مَذْمُوم فِي دين أَو خلق فَهُوَ هنة.(4/225)
وشق الْعَصَا كِنَايَة عَن إثارة الْفِتَن؛ لِأَن الْعَصَا جملَة مجتمعة، فَإِذا شقها فرق الْمُجْتَمع.
(196) وَأخرج لسويد بن مقرن حَدِيثا وَاحِدًا
2438 - / 3120 - وَفِيه: لطمت مولى لنا فهرب، فَدَعَاهُ أبي وَدَعَانِي، ثمَّ قَالَ: امتثل: أَي افْعَل مثل مَا فعل.
وَقَوله: عجز عَلَيْك إِلَّا حر الْوَجْه. الْمَعْنى: عجزت أَن تضرب فِي غير هَذَا الْموضع الْمُعظم. فَكَأَنَّهُ لما منع أَن يُؤْذى كَانَ كَالْحرِّ الَّذِي لَا يُسَلط عَلَيْهِ، وَلما كَانَت اللَّطْمَة ظلما بِالْيَدِ جعل الْعتْق فِي مقابلتها، وَهُوَ رفع الْيَد.
وَأَرَادَ بالصورة هَاهُنَا الْوَجْه، فَسَماهُ صُورَة لِأَن بِهِ تتمّ الصُّورَة، وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا قَاتل أحدكُم فليجتنب الْوَجْه ".(4/226)
(198) وَأخرج لهشام بن عَامر حَدِيثا وَاحِدًا
2439 - / 3124 - وَهُوَ: " مَا بَين خلق آدم إِلَى قيام السَّاعَة خلق أَكثر من الدَّجَّال ".
فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: عظم خلقه، فقد أخبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَابق قَالَ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يخرج الدَّجَّال وَله حمَار يركبه، عرض مَا بَين أُذُنَيْهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعا ".
وَالثَّانِي: عظم فتنته، فَإِنَّهُ يقتل شخصا ثمَّ يحييه، وَمَعَهُ مِثَال جنَّة ونار، وَيَأْمُر السَّمَاء فتمطر فِيمَا يرى النَّاس، إِلَى غير ذَلِك من الْفِتَن.(4/227)
(199) وَأخرج لعتبة بن غَزوَان حَدِيثا وَاحِدًا
2440 - / 3125 - وَفِيه: " إِن الدُّنْيَا آذَنت بِصرْم، وَوَلَّتْ حذاء "
آذَنت بِمَعْنى أعلمت.
والصرم: الِانْقِطَاع والانصرام.
قَالَ أَبُو عبيد: والحذاء: السريعة الْخَفِيفَة الَّتِي قد انْقَطع آخرهَا، وَمِنْه قيل للقطاة: حذاء، لقصر ذنبها مَعَ خفتها.
والصبابة: الْبَقِيَّة الْيَسِيرَة تبقى فِي الْإِنَاء من الشَّرَاب.
وشفير كل شَيْء: حرفه.
فَيهْوِي: أَي يهْبط.
والمصراع: أحد الْبَابَيْنِ.
والكظيط: الممتلئ. يُقَال: اكتظ النَّهر: أَي امْتَلَأَ. وكظني الْأَمر: أَي مَلأ قلبِي.
والحبلة قد بيناها آنِفا، وَفِي مُسْند سعد أَيْضا.(4/228)
(201) وَأخرج لحنظلة بن الرّبيع الْكَاتِب حَدِيثا وَاحِدًا
2441 - / 3128 - وَفِيه: لَقِيَنِي أَبُو بكر فَقَالَ: كَيفَ أَنْت يَا حَنْظَلَة؟ قلت: نَافق حَنْظَلَة. قَالَ: سُبْحَانَ الله! مَا تَقول؟ قلت: نَكُون عِنْد رَسُول الله يذكرنَا الْجنَّة وَالنَّار كأنا رَأْي عين، فَإِذا خرجنَا عافسنا الْأزْوَاج وَالْأَوْلَاد ونسينا مَا كَانَ.
معنى النِّفَاق إِظْهَار مَا يُخَالِفهُ الْبَاطِن، حذر مِنْهُ هَذَا الرجل لاحترازه، فخاف أَن يكون مَا يجْرِي عَلَيْهِ شُعْبَة من النِّفَاق.
وَقَوله: كأنا رَأْي عين. أَي كأنا نرى مَا يصف بأعيننا.
وَقَوله: عافسنا الْأزْوَاج. قَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحسن الْهنائِي اللّغَوِيّ: العفس: الْوَطْء، والمعفوس: الموطوء. وعفسه: إِذا ضرب بِهِ الأَرْض، وَالرجل يعفس الْمَرْأَة بِرجلِهِ: إِذا ضربهَا بِرجلِهِ على عجيزتها، يعافسها وتعافسه.
وَقَوله: " مَه " قَالَ بَعضهم: الْمَعْنى: مَا الْخَبَر؟ وَالْهَاء للْوَقْف. وَيحْتَمل الْمَعْنى: اسْكُتْ عَن هَذَا، وَالله أعلم.
وَقَوله: " سَاعَة وَسَاعَة " مَعْنَاهُ: سَاعَة لقُوَّة الْيَقَظَة وَسَاعَة للمباح وَإِن أوجبت بعض الْغَفْلَة. وَهَذَا لِأَن الْإِنْسَان لَو حقق مَعَ نَفسه مَا بَقِي فَلَا بُد للمتيقظ من التَّعَرُّض لأسباب الْغَفْلَة ليعدل مَا عِنْده، وَمن أَيْن يقدر على(4/229)
الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع من يرى الْأَمر كَأَنَّهُ معاين، وَإِن من الْغَفْلَة لنعمة عَظِيمَة، إِلَّا أَنَّهَا إِذا زَادَت أفسدت، إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن تكون بِمِقْدَار مَا يعدل.(4/230)
(202) وَأخرج للأغر الْمُزنِيّ حَدِيثا وَاحِدًا
2442 - / 3129 - " إِنَّه ليغان على قلبِي، وَإِنِّي لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائَة مرّة ".
قَالَ أَبُو عبيد: يَعْنِي أَنه يتغشى الْقلب مَا يلْبسهُ، قَالَ: كَأَنَّهُ يَعْنِي من السَّهْو، وَكَذَلِكَ كل شَيْء يَغْشَاهُ شَيْء حَتَّى يلْبسهُ فقد غين عَلَيْهِ، يُقَال: غينت السَّمَاء غينا، وَهُوَ إطباق الْغَيْم السَّمَاء، وَأنْشد:
(كَأَنِّي بَين خافيتي عِقَاب ... أصَاب حمامة فِي يَوْم غين)
قلت: وَيحْتَمل مَعْنيين: أَحدهمَا أَن معرفَة الله عز وَجل عِنْد الْعَارِف كل لَحْظَة تزيد لما يستفيده من الْعلم بِهِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ فِي صعُود دَائِم، فَكَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كلما ارْتقى عَن مقَام بِمَا يستفيده من الْعلم بِاللَّه عز وَجل حِين قَالَ لَهُ: {وَقل رب زِدْنِي علما} [طه: 114] يرى ذَلِك الَّذِي كَانَ فِيهِ نقصا وغطاء، فيستغفر من الْحَالة الأولى، وَمن هَذَا الْمَعْنى قيل: حَسَنَات الْأَبْرَار ذنُوب المقربين. هَذَا وَاقع وَقع لي.
ثمَّ رَأَيْت ابْن عقيل قد ذكر مثل ذَلِك فَقَالَ: كَانَ يترقى من حَال إِلَى(4/231)
حَال، فَتَصِير الْحَالة الأولى بِالْإِضَافَة إِلَى الثَّانِيَة من التَّقْصِير كالذنب فَيَقَع الاسْتِغْفَار لما يَبْدُو لَهُ من عَظمَة الرب، وتتلاشى الْحَال الأولى بِمَا يَتَجَدَّد من الْحَال الثَّانِيَة.
وَالْمعْنَى الثَّانِي: أَن التغطية على قلبه كَانَت لتقوية الطَّبْع على مَا يلاقي، فَيصير بِمَثَابَة النّوم الَّذِي تستريح فِيهِ الْأَعْضَاء من تَعب الْيَقَظَة، وَذَلِكَ أَن الطَّاعَة على الْحَقَائِق ومواصلة الْوَحْي تضعف قلبه وتوهن بدنه، وَقد أَشَارَ عز وَجل إِلَى هَذَا فِي قَوْله: {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا} [المزمل: 5] ، وَقَوله: {لَو أنزلنَا هَذَا الْقُرْآن على جبل لرأيته خَاشِعًا متصدعا من خشيَة الله} [الْحَشْر: 21] ، فلولا أَنه كَانَ يتَعَاهَد بالغفلة لما عَاشَ بدنه لثقل مَا يعرض لَهُ. وَشَاهد هَذَا مَا يلْحقهُ من البرحاء والعرق عِنْد الْوَحْي، وَقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يتَعَرَّض لهَذِهِ التغطية بِأَسْبَاب يلطف فِيهَا طبعه كالمزاح ومسابقة عَائِشَة، وتخير المستحسنات، وكل ذَلِك ليعادل عِنْده من قُوَّة الْيَقَظَة.
فَإِن قيل: على هَذَا فَكيف يتَعَرَّض بِشَيْء ثمَّ يسْتَغْفر مِنْهُ؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ يرى تِلْكَ الْحَالة بِالْإِضَافَة إِلَى الْجد تقصيرا، إِلَّا أَن الْحَاجة تَدْعُو إِلَيْهَا، فَتكون بِمَثَابَة زمن الْأكل وَالنَّوْم وَالْغَائِط.(4/232)
(203) وَأخرج لمعاوية بن الحكم السّلمِيّ حَدِيثا وَاحِدًا
2443 - / 3130 - بَين أَنا أُصَلِّي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ عطس رجل من الْقَوْم، فَقلت: يَرْحَمك الله. فَرَمَانِي الْقَوْم بِأَبْصَارِهِمْ، فَقلت: واثكل أمِّياه، مَا لكم تنْظرُون إِلَيّ؟ .
هَذَا الحَدِيث قد أخرجه البُخَارِيّ فِي كتاب " الْقِرَاءَة خلف الإِمَام " فَرَوَاهُ عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن الْحجَّاج الصَّواف، وَقد أخرج عَنْهُم فِي صَحِيحه، والْحَدِيث من شَرطه، وَلَا يدرى مَا الَّذِي مَنعه من إِخْرَاجه فِي الصَّحِيح.
قَوْله: واثكل أمِّياه. الثكل: الْمُصِيبَة والفجيعة.
ويصمتوني: يأمروني بِالصَّمْتِ.
وَقَوله: مَا كَهَرَنِي. الْكَهْر: الِانْتِهَار، يُقَال: كهره يكهره كهرا، قَالَه أَبُو عبيد.
وَهَذَا يعلم المؤدبين كَيفَ يؤدبون , فَإِن اللطف بالجاهل قبل التَّعْلِيم أَنْفَع لَهُ من التعنف. ثمَّ لَا وَجه للتعنف لمن لَا يعلم؛ إِنَّمَا يعنف من خَالف مَعَ الْعلم.(4/233)
وَقَوله: " لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس " هَذَا يدل على أَنه لَا يجوز فِيهَا إِلَّا الْمَنْقُول. وَقد احْتج بِهَذَا من رأى بطلَان الصَّلَاة بِكَلَام النَّاسِي. وَجَوَابه أَن يُقَال: إِن السَّهْو صير وجود ذَلِك كَالْعدمِ، كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْم.
وَأما التطير فقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: " ذَاك شَيْء يجدونه فِي صُدُورهمْ " أَي يحدث عِنْدهم من قبل الظَّن والتوهم. " وَلَا يصدنهم " أَي لَا يخَافُوا ضَرَره.
وَقَوله: " كَانَ نَبِي من الْأَنْبِيَاء يخط " الْخط هَاهُنَا هُوَ الَّذِي يخطه الزاجر بإصبعه فِي التُّرَاب وَمَا يجْرِي مجْرَاه، يَدعِي بِهِ علم مَا يكون قبل كَونه.
أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن عمر الْقزْوِينِي وَإِبْرَاهِيم بن عمر الْبَرْمَكِي قَالَا: أخبرنَا ابْن حيويه قَالَ: أخبرنَا أَبُو عمر الزَّاهِد قَالَ: نقلت عَن ابْن الْأَعرَابِي: الْخط كَانَ علما قَدِيما ترك، وَذَلِكَ أَن الكاهن يكون بَين يَدَيْهِ تخت عَلَيْهِ سحاله وَمَعَهُ ميل، فَيَأْتِي الرجل صَاحب الْحَاجة فيعطيه الدَّرَاهِم فَيَقُول لَهُ الكاهن: على شَرط إِن خرج لَك خير أخذت الدَّرَاهِم، وَإِن خرج لَك شَرّ رَددتهَا عَلَيْك. قَالَ: وَيكون للكاهن غُلَام وَاقِف فيخط ذَلِك الكاهن بذلك الْميل خُطُوطًا بالعجلة لَا يلْحقهَا الْإِحْصَار، وَيَقُول الْغُلَام الْوَاقِف فِي تِلْكَ الْحَال: ابْني عيان، أَسْرعَا الْبَيَان. ثمَّ يرجع الكاهن فَيَمْحُو اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، فَإِن بَقِي من الخطوط اثْنَان فَهُوَ الْفَوْز، وَأخذ الكاهن الدَّرَاهِم، وَيُعْطِي صَاحب الْحَاجة الْغُلَام شَيْئا، وَإِن بَقِي من الخطوط وَاحِد رد(4/234)
الكاهن الدَّرَاهِم، وَقَالَ: خرج لَك شَرّ.
قَالَ ابْن حيويه: وَأخْبرنَا أَبُو مُحَمَّد السكرِي قَالَ: سَمِعت إِبْنِ قُتَيْبَة يَقُول: حَدثنِي أَبُو حَاتِم عَن أبي زيد أَنه يُقَال للخطين اللَّذين يخطهما الخطاط فِي الأَرْض ثمَّ يزْجر: ابْنا عيان.
وَقَوله: " فَمن وَافق خطه فَذَاك " قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: يشبه هَذَا أَن يكون زجرا عَن الْخط؛ لأَنهم لَا يصادفون خطّ النَّبِي؛ لن خطه كَانَ علما لنبوته.
وَقَوله: آسَف كَمَا يأسفون: أَي أغضب. والأسف: الْغَضَب، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى " {فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم} [الزخرف: 55] .
وَقَوله: صَكَكْتهَا. الصَّك: ضرب الْوَجْه برؤوس الْأَصَابِع.
قَوْله فَعظم ذَلِك عَليّ. وَذَلِكَ أَنه ظلمها بِالضَّرْبِ؛ لِأَنَّهَا لَو قدرت لدفعت الذَّنب. فَأمره بِالْعِتْقِ وَهُوَ رفع الْيَد الَّتِي انبسطت ظلما.
وَقَوله لَهَا: " أَيْن الله؟ " استنباط مِنْهُ لعلامة إيمَانهَا، وَلَيْسَ بسؤال عَن أصل الْإِيمَان وَحَقِيقَته.(4/235)
(204) وَأخرج لعبد الله بن سرجس ثَلَاثَة أَحَادِيث
2444 - / 3131 - فَفِي الحَدِيث الأول: نظرت إِلَى خَاتم النُّبُوَّة بَين كَتفيهِ عِنْد ناغض كتفه الْيُسْرَى جمعا عَلَيْهِ خيلان كأمثال الثآليل.
أما خَاتم النُّبُوَّة فقد ذكرنَا صفته فِي مُسْند السَّائِب ابْن أُخْت نمر.
والناغض: غضروف الْكَتف، وَقد ذكرنَا فِي مُسْند أبي ذَر.
وَقَوله: جمعا. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُرِيد مثل جمع الْكَفّ. يُقَال: ضربه بِجمع كَفه: إِذا جمعهَا وَضم أَصَابِعه. وَفِيه لُغَة أُخْرَى: جمع الْكَفّ بِكَسْر الْجِيم.
والخيلان جمع خَال: وَهِي نقط متغيرة عَن الْبيَاض، كَانَت على ذَلِك الْموضع الْمُرْتَفع من الْخَاتم.
والتآليل: قطع متحثرة من اللَّحْم، مُرْتَفعَة عَن الْجَسَد متصلبة.
2445 - / 3132 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَ يتَعَوَّذ من وعثاء السّفر.(4/236)
الوعثاء مَعْنَاهَا الْمَشَقَّة والشدة , وَأَصله من الوعث , وَهِي أَرض فِيهَا رمل تَسُوخ فِيهَا الأرجل. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند ابْن عمر.
فَأَما كآبة المنقلب فَهِيَ تغير النَّفس بالانكسار من شدَّة الْحزن والهم إِمَّا لما أَصَابَهُ فِي سَفَره من الْآفَات، أَو لما تقدم عَلَيْهِ من مرض أَهله أَو فقد بَعضهم أَو غير ذَلِك مِمَّا يحزن. وَيُقَال: كآبة وكابة، بتَخْفِيف الْهمزَة وَإِسْكَان الْألف، مثل رآفة ورافة.
والمنقلب: الْمرجع.
وَقَوله: " والحور بعد الْكَوْن " الْحور: الرُّجُوع عَن الاسْتقَامَة وَالْحَالة الجميلة بعد أَن كَانَ عَلَيْهَا. وَفِي بعض الرِّوَايَات " بعد الكور " بالراء، وَقيل: مَعْنَاهُ أَن يعود إِلَى النُّقْصَان بعد الزِّيَادَة. وَقيل: من الرُّجُوع عَن الْجَمَاعَة المحقة بعد أَن كَانَ فِيهَا. يُقَال: كَانَ فِي الكور: أَي فِي الْجَمَاعَة، شبه اجْتِمَاع الْجَمَاعَة باجتماع الْعِمَامَة إِذا لفت. وَحكى الْحَرْبِيّ أَنه يُقَال: كار عمَامَته: إِذا لفها. وحار عمَامَته: إِذا نَقصهَا. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: يجوز أَن يُرَاد من ذَلِك الِاسْتِعَارَة لفساد الْأُمُور وانتقاضها بعد صَلَاحهَا واستقامتها كانتقاض الْعِمَامَة بعد تأتيها وثباتها على الرَّأْس.(4/237)
(205) وَأخرج عَن قبيصَة بن مُخَارق، وَزُهَيْر بن عَمْرو
حَدِيثا وَاحِدًا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ، قَالَا:
2446 - / 3134 - لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} [الشُّعَرَاء: 214] انْطلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى رضمة جبل فعلا أَعْلَاهَا حجرا وَقَالَ: " مثلي ومثلكم كَرجل رأى الْعَدو فَانْطَلق يربأ أَهله، فخشي أَن يسبقوه، فَجعل يَهْتِف: يَا صَبَاحَاه ".
الرضمة، وَالْجمع رضام: وَهِي الصخور المجتمعة.
ويربأ أَهله: أَي يحرسهم وَيكون عينا لَهُم على الْعَدو، وَهُوَ الربيئة: عين الْقَوْم يكون على مربإ من الأَرْض: أَي ارْتِفَاع.
وَقَوله: " يَا صَاحِبَاه " مُفَسّر فِي مُسْند سَلمَة بن الْأَكْوَع.(4/238)
(206) وَأخرج لقبيصة بن مُخَارق حَدِيثا وَاحِدًا
2447 - / 3135 - وَفِيه: تحملت حمالَة.
تَفْسِيره الْحمالَة: أَن يصلح الرجل بَين قوم قد اقْتَتَلُوا وسفكت بَينهم دِمَاء وَيحْتَمل ديات المقتولين رَغْبَة فِي سُكُون الْفِتْنَة، وَهَذَا من بَاب المكرمات. وسؤال هَذَا أَن يعان جَائِز إِلَى أَن تَبرأ ذمَّته مِمَّا حمل.
والجائحة: مَا إِذا ذهب المَال أَو معظمه، كالسيل والحريق وَالْبرد يفْسد الزَّرْع، فَهَذِهِ أُمُور ظَاهِرَة.
والقوام بِكَسْر الْقَاف: مَا يقوم بِهِ الشَّيْء.
قَالَ أَبُو عبيد: والسداد بِكَسْر السِّين كل شَيْء سددت بِهِ خللا، وَمِنْه سداد القارورة: صمامها؛ لِأَنَّهُ يسد رَأسهَا، وَمِنْه سداد الثغر: وَهُوَ أَن يسد بِالْخَيْلِ وَالرِّجَال، وأنشدوا:
(أضاعوني وَأي فَتى أضاعوا ... ليَوْم كريهة وسداد ثغر)
وَأما السداد بِالْفَتْح فالإصابة فِي الْمنطق والرأي وَالرَّمْي.
والفاقة: الْفقر.
وَهَذَا رجل كَانَ غَنِيا فَادّعى تلف مَاله: إِمَّا بلص طرقه، أَو بخيانة من(4/239)
أودعهُ، فَيحْتَاج إِلَى من يشْهد لَهُ من أهل الحجى: أَي من أهل الْعقل.
وَإِنَّمَا اشْترط الْعقل فِي حَقهم لِئَلَّا يَكُونُوا من أهل الغباوة فتخفى عَلَيْهِم بواطن الْأُمُور، وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الشَّهَادَة، إِنَّمَا هُوَ من بَاب التَّعْرِيف للأحوال، وَلِهَذَا كَانُوا ثَلَاثَة، وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ للثَّلَاثَة فِي بَاب الشَّهَادَات مدْخل.
والسحت: الْحَرَام. قَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: السُّحت والسحت لُغَتَانِ، وهما أَسمَاء الشَّيْء المسحوت. وَقَالَ غَيره: سمي سحتا؛ لِأَنَّهُ يسحت الدّين ويسحت الْعَذَاب عَلَيْهِ.(4/240)
(209) وَأخرج لنبيشه الْهُذلِيّ حَدِيثا
2448 - / 3138 - وَهُوَ: " أَيَّام التَّشْرِيق أَيَّام أكل وَشرب وَذكر الله تَعَالَى ".
وَفِي هَذَا دَلِيل على أَنه لَا يجوز صَومهَا؛ لِأَنَّهُ وسمها بِالْأَكْلِ وَالشرب كَمَا وسم الْعِيد بِالْفطرِ. والاتفاق وَاقع على أَنه لَا يجوز صيامها نفلا، وَاخْتلفُوا فِي صَومهَا عَن فرض، وَقد ذكرنَا ذَلِك وَسبب تَسْمِيَتهَا بأيام التَّشْرِيق فِي مُسْند كَعْب بن مَالك.
وَقَوله: " كُنَّا ننهاكم عَن لُحُوم الْأَضَاحِي فَوق ثَلَاث كي تَسَعكُمْ " أَي لتعم الْكل، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد حرم عَلَيْهِم الادخار فَوق ثَلَاث ليتصدقوا على قوم أقدمتهم إِلَى الْمَدِينَة المجاعة، ثمَّ أباحهم مَا كَانَ مَحْظُورًا، وأعلمهم سَبَب الْحَظْر، وَهَذَا مشروح فِيمَا سَيَأْتِي من مُسْند عَائِشَة عَلَيْهَا السَّلَام.
قَوْله: " وَائْتَجِرُوا " كَذَا فِي كتاب الْحميدِي. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبرْقَانِي، وَهُوَ اللَّفْظ الصَّحِيح، وَمَعْنَاهُ: تصدقوا طلبا لِلْأجرِ. وَقد رَوَاهُ بعض الْمُحدثين فَقَالَ: " وَاتَّجرُوا " من التِّجَارَة، وَالتِّجَارَة لَا تكون فِي(4/241)
لُحُوم الْأَضَاحِي إِلَّا أَن يُرَاد بهَا تِجَارَة الْآخِرَة، من قَوْله تَعَالَى: {هَل أدلكم على تِجَارَة} [الصَّفّ: 10] ، وَاللَّفْظ الصَّحِيح وَالْمعْنَى هُوَ مَا أَنْبَأتك.(4/242)
(210) وَأخرج لعياض بن حمَار حَدِيثا وَاحِدًا
2449 - / 3139 - وَفِيه: " كل مَال نحلته عبدا حَلَال ".
النحلة: الْعَطِيَّة المبتدأة لَا عَن عوض.
والحنفاء جمع حنيف. وَفِي الحنيف قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْمُسْتَقيم، وَإِنَّمَا قيل للأعرج حنيف تطيرا إِلَى السَّلامَة، قَالَه ابْن قُتَيْبَة. وَالثَّانِي: أَنه المائل إِلَى دين الله سُبْحَانَهُ. والحنف: ميل كل وَاحِدَة من الْقَدَمَيْنِ إِلَى أُخْتهَا بأصابعها، قَالَه الزّجاج.
وَقَوله: " واجتالتهم عَن دينهم " أَي أزالتهم، مَأْخُوذ من الجولان، والجائل زائل عَن مَكَانَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو عبيد: فأحالتهم.
وَالسُّلْطَان: الْحجَّة.
والمقت: أَشد الْغَضَب. وَإِنَّمَا اسْتثْنى بقايا من أهل الْكتاب لأَنهم لم يبدلوا.
والإبتلاء: الاختبار.
وَقَوله: " لَا يغسلهُ المَاء " أَي لَا ينمحي لدوام ظُهُوره وشهرته، فَهُوَ لكَونه مبثوثا فِي الصُّحُف والصدور لَو مُحي من صحيفَة وجد فِي(4/243)
أُخْرَى، أَو قَامَ بِهِ الْحفاظ.
فَإِن قيل: فَكيف يَقْرَؤُهُ نَائِما؟ فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه: أَن معنى تقرؤه: تجمعه حفظا وَأَنت نَائِم كَمَا تقرؤه فِي الْيَقَظَة. وَالثَّانِي: أَن الْإِشَارَة إِلَى تسهيله، فَضرب النّوم مثلا للسهولة، كَمَا يُقَال: أَنا أسبق فلَانا - إِذا عدا - قَاعِدا. وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى: تقرؤه وَأَنت متهيئ للنوم، وَالْمرَاد عَن ظهر الْقلب. وَمن سبق من الْأُمَم كَانُوا لَا يقرءُون كتبهمْ إِلَّا من الصُّحُف.
وَقَوله: " أَمرنِي أَن أحرق قُريْشًا " كِنَايَة عَن الْقَتْل.
وَقَوله: " يثلغوا رَأْسِي " الثلغ: الشدخ، وَقيل: هُوَ فَضَحِك الشَّيْء الرطب باليابس، فَإِذا انبسط بالثلغ أشبه الخبزة فِي انبساطها.
وَقَوله: " واغزهم نعنك " كَذَا فِي كتاب الْحميدِي، وَهُوَ من الْإِعَانَة، وَفِي مُسْند أَحْمد: " نغزك ".
وَقَوله: " نبعث خَمْسَة مثله " إِشَارَة إِلَى الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: " مقسط " أَي عَادل.
وَقَوله: " موفق " كَذَا فِي كتاب الْحميدِي، وَهُوَ فِي مُسْند أَحْمد " مرفق " وَهُوَ أليق للمناسبة بَين التَّصَدُّق والإرفاق.
وَقَوله: " رَحِيم " رَقِيق الْقلب. وَهَذَا يدْخلهُ الْجنَّة رَحمته لِلْخلقِ ورقة(4/244)
قلبه، فَيحسن إِلَيْهِم وَلَا يظلمهم.
والعفيف: الَّذِي يكف يَده عَمَّا لَا يحل لَهُ.
وَقَوله: " لَا زبر لَهُ " قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي لَا رَأْي لَهُ يرجع إِلَيْهِ، يُقَال: رجل لَا زبر لَهُ وَلَا زور لَهُ وَلَا صيور: إِذا لم يكن لَهُ رَأْي يرجع إِلَيْهِ. وَقَالَ الْحميدِي: لَا عقل لَهُ.
وَقَوله: " الَّذين هم فِيكُم تبعا لَا يَبْتَغُونَ أَهلا وَلَا مَالا " قد جَاءَ فِي هَذَا الحَدِيث تَفْسِير هَذَا، وَأَنَّهُمْ الَّذين يتبعُون الْقَوْم لفساد يطلبونه، قَالُوا: فَكَانَ الرجل يرْعَى على الْحَيّ مَا بِهِ إِلَّا وليدتهم يَطَؤُهَا.
قَوْله: " والشنظير: الفحاش " الشنظير: السَّيئ الْخلق. والفحاش: المبالغ فِي الْفُحْش فِي كَلَامه.(4/245)
(211) وَقد أخرج مُسلم عَن رجل من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسم
2450 - / 3140 - أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرّ بالقسامة على مَا كَانَت عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقضى بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين نَاس من الْأَنْصَار فِي قَتِيل ادعوهُ على الْيَهُود.
والقسامة: الْأَيْمَان فِي أَمر الْقَتِيل.
وَاعْلَم أَن صَاحب الشَّرْع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث بمكارم الْأَخْلَاق، وَدفع الظُّلم، فَرَأى أَشْيَاء فِي الْجَاهِلِيَّة حَسَنَة فأقرها، فَمِنْهَا الْقسَامَة. وَأول من قضى بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، فأقرها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقضى بهَا بَين نَاس من الْأَنْصَار، وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة.
وَمِنْهَا خلع النَّعْلَيْنِ عِنْد دُخُول الْكَعْبَة، أول من فعله فِي الْجَاهِلِيَّة الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، فَخلع النَّاس نعَالهمْ فِي الْإِسْلَام. وَهُوَ أول من قطع فِي السّرقَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَأقرهُ الْإِسْلَام.
وَأول من سنّ مائَة من الْإِبِل عبد الْمطلب. وَيُقَال: أَبُو سيارة العدواني.
وَأول عَرَبِيّ قسم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ عَامر بن جشم ذُو(4/246)
المجاسد، فَنزل الْقُرْآن بذلك.
وَأول من قضى فِي الْجَاهِلِيَّة فِي الْخُنْثَى بِالْمِيرَاثِ من حَيْثُ يَبُول عَامر ابْن الظرب.
وَأول من سبى السَّبي سبأ بن يعرب بن قحطان، وَلذَلِك سمي سبأ، وَإِنَّمَا اسْمه عَامر.
وَأول عَرَبِيَّة كست الْكَعْبَة الْحَرِير والديباج نتيلة بنت جناب، أم الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب.(4/247)
(212) كشف الْمُشكل من مُسْند أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة
وَجُمْلَة مَا رَوَت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألفا حَدِيث وَمِائَتَا حَدِيث وَعشرَة أَحَادِيث، أخرج مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثمِائَة حَدِيث إِلَّا ثَلَاثَة أَحَادِيث.
2451 - / 3144 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: اسْتَأْذَنت سَوْدَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة جمع - وَكَانَت ثَقيلَة ثبطة - أَن تفيض من جمع بلَيْل.
الثبطة / البطيئة. والتثبط: الإبطاء.
والإفاضة: الدّفع. وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقدم ضعفة أَهله لَيْلَة جمع قبل حطمة النَّاس على مَا بَينا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2452 - / 3145 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: طمثت صَفِيَّة.
الطمث: الْحيض. يُقَال: طمثت الْمَرْأَة، بِفَتْح الْمِيم، وطمثت بِكَسْرِهَا. وطمث الرجل الْمَرْأَة: إِذا افتضها، بِفَتْح الْمِيم لَا غير.(4/248)
وَقَوله: فَرَأى صَفِيَّة كئيبة. الكآبة: الانكسار من الْحزن.
وَقَوله: " عقرى حلقى " أَصْحَاب الحَدِيث يَرْوُونَهُ عقرى حلقى على وزن " فعلى " وَقَالَ أَبُو عبيد: الصَّوَاب: عقرا حلقا، على الْمصدر، يُرِيد: عقرهَا الله عقرا، وحلقها حلقا. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: معنى عقرى: عقرهَا الله. وحلقى: أَصَابَهَا بوجع فِي حلقها. وَظَاهر هَذَا الدُّعَاء عَلَيْهَا؛ وَلَيْسَ يُرَاد بِهِ الدُّعَاء، إِنَّمَا هُوَ مَذْهَب مَعْرُوف للْعَرَب يَقُولُونَ مَا ظَاهره الدُّعَاء على الشَّخْص وَلَا يقصدون ذَلِك، كَقَوْلِهِم: تربت يداك.
وَطواف الْإِفَاضَة هُوَ الَّذِي يدعى الزِّيَارَة، وَهُوَ الَّذِي لَا يتم الْحَج إِلَّا بِهِ. ويحتج بِهَذَا الحَدِيث من يرى طواف الْوَدَاع لَيْسَ بِوَاجِب وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2453 - / 3146 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا أبْكِي، فَقَالَ: " مَالك أنفست؟ " وَفِي رِوَايَة: " طمثت؟ ".
قَوْله: " نفست " أَي حِضْت. يُقَال: نفست الْمَرْأَة ونفست بِضَم النُّون وَفتحهَا: إِذا ولدت، وَأما إِذا حَاضَت فتفتح النُّون، هَذَا هُوَ المشتهر، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال: نفست تنفس، ونفست تنفس، وطمثت ودرست وعركت بِمَعْنى حَاضَت.
وَقَوله: " كتبه الله على بَنَات آدم " أَي قضى بِهِ عَلَيْهِنَّ، كَقَوْلِه: (كتب(4/249)
الله لأغلبن أَنا ورسلي} [المجادلة: 21] .
وَقَوله: " غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ " دَلِيل على أَن طواف الْمُحدث لَا يُجزئ، وَلَو كَانَ ذَلِك لأجل الْمَسْجِد لقَالَ: لَا تدخلي الْمَسْجِد: وَقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي طواف الْمُحدث وَالنَّجس، فَروِيَ عَنهُ: لَا يَصح. وَرُوِيَ عَنهُ: يَصح وَيلْزمهُ دم كَقَوْلِه أبي حنيفَة.
وَقَوله: " اجْعَلُوهَا عمْرَة " قد سبق الْكَلَام فِيهِ.
وأهلوا: رفعوا أَصْوَاتهم بِالتَّلْبِيَةِ.
وَقَوله: فَأمرنِي فأفضت. يَعْنِي دفعت للطَّواف باليبت.
وَلَيْلَة الحصبة هِيَ اللَّيْلَة الَّتِي ينزل النَّاس المحصب عِنْد انصرافهم من منى إِلَى مَكَّة. والتحصيب: إقامتهم بالمحصب: وَهُوَ الشّعب الَّذِي مخرجه إِلَى الأبطح.
ومؤخرة الرحل: آخِره.
وَقَوله: " فأحقبها ": أَي أردفها. والمحقب: المردف.
والقتب: أَدَاة الرجل للجمل كالإكاف لغيره.
وَقَوْلها: وَحرم الْحَج: يَعْنِي فروضه وَمَا يجب الْتِزَامه فِيهِ واجتنابه.
وَقَوله: " يَا هنتاه ". قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: مَعْنَاهُ: يَا هَذِه، يُقَال للمذكر إِذا كني عَنهُ: هن، وللمؤنث هنة، وَقَالَ الْحميدِي: يَا هنتاه: كَأَنَّهُ نَسَبهَا إِلَى البله وَقلة الْمعرفَة بِالشَّرِّ. وَيُقَال: امْرَأَة هنتاء: أَي بلهاء.(4/250)
وَقَوله: " دعِي عمرتك " قَالَ الشَّافِعِي: إِنَّمَا أمرهَا بترك الْعَمَل للْعُمْرَة من الطّواف وَالسَّعْي، لَا أَنه أمرهَا بترك الْعمرَة أصلا. وَلما قَضَت حَجهَا أخْبرهَا أَن طوافها وسعيها يَكْفِي عَن النُّسُكَيْنِ، فآثرت هِيَ عمْرَة مُفْردَة، فَأمر أخاها فأعمرها فَكَانَت عمرتها هَذِه تَطَوّعا.
وَقَوْلها: وَأما الَّذين جمعُوا الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا.
ثمَّ إِن هَذَا يدل على أَن الْقَارِن يَكْفِيهِ طواف وَاحِد على مَا بَينا فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوْلها: ويصدر النَّاس بنسكين. الصَّدْر: الرُّجُوع، وَهُوَ خلاف الْوُرُود.
والنسك: كل مَا تقرب بِهِ إِلَى الله عز وَجل. وأرادت بالنسكين الْحَج وَالْعمْرَة.
وَلَيْلَة النَّفر: لَيْلَة الرُّجُوع من منى بعد تَمام الْحَج.
وَقَوله: " الْحجر من الْبَيْت " دَلِيل على أَنه إِذا ترك الْحجر فِي طَوَافه لم يجزه، خلافًا لأبي حنيفَة.
2454 - / 3147 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَنَّهَا استعارت من أَسمَاء قلادة فَهَلَكت. أَي ضَاعَت.
وَقَوْلها: فصلوا بِلَا وضوء. دَلِيل على أَن من لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا صلى على حَاله، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وعنهما فِي الْإِعَادَة رِوَايَتَانِ. وَإِنَّمَا صلوا لأَنهم فَهموا أَن فقد الشَّرْط لَا يمْنَع فعل الْمَشْرُوط.(4/251)
وَلم يُنكر عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو كَانَ مُنْكرا لأنكره، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا لم يصل، وَعَن مَالك كالمذاهب الثَّلَاثَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: ظَاهر الحَدِيث أَنَّهَا كَانَت فِي قصتين فِي حالتين. قُلْنَا: بل كَانَت قصَّة وَاحِدَة، وَإِنَّمَا الروَاة تختصر وتخالف بَين الْعبارَات، فَإِن القلادة كَانَت لأسماء واستعارتها مِنْهَا عَائِشَة وأضافتها إِلَيْهَا فَقَالَت: ضَاعَ عقد لي، فَأَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لالتماسها، وَبعث رجَالًا يطلبونها فِي الْموضع الَّذِي رحلوا عَنهُ، فصلى أُولَئِكَ بِغَيْر وضوء، وَجَاءُوا وَقد نزلت آيَة التَّيَمُّم، فصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بِالتَّيَمُّمِ.
2455 - / 3148 - والْحَدِيث الْخَامِس: حَدِيث بَرِيرَة، وَفِيه: " إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق "، وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَن اشْتِرَاط الْوَلَاء كَانَ مُقَارنًا للْعقد، فَالْأَظْهر أَن يكون سَابِقًا للْعقد وَعدا بذلك.
وَقَوله: " وليشترطوا مَا شَاءُوا " الْمَعْنى: لَيْسَ لَهُم تحكم فِي الشَّرْع؛ لِأَن الشُّرُوط اللَّازِمَة شَرْعِيَّة. وَقد رُوِيَ فِي لفظ صَحِيح: " خذيها واشترطي لَهُم الْوَلَاء، فَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق " وَهَذَا مِمَّا قد رده قوم وأبوا صِحَّته، وَذكروا فِي رده علتين:
إحدهما: أَنه شَيْء انْفَرد بِهِ مَالك عَن هِشَام بن عُرْوَة.(4/252)
وَالثَّانِي: أَنه غرور، وَلَا يجوز على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَأْمر بغرور أحد، قَالَه يحيى بن أَكْثَم.
وَقَول من قَالَ: انْفَرد بِهِ مَالك، غلط؛ فَإِنَّهُ قد تَابعه جرير بن عبد الحميد وَحَمَّاد بن أُسَامَة، وَفَسرهُ الْمُزنِيّ فَقَالَ: اشترطي لَهُم: أَي عَلَيْهِم، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَلَهُم اللَّعْنَة} [غَافِر: 52] .
وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا ثَلَاثَة أَشْيَاء:
أَن يكون هَذَا اللَّفْظ من رِوَايَة بعض الروَاة بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّهَا قَالَت: إِنَّهُم يشترطون الْوَلَاء فَقَالَ: خذيها، ظن الرَّاوِي أَن الْمَعْنى خذيها واشترطي لَهُم الْوَلَاء، فَذكره بِالْمَعْنَى فغلط.
وَالثَّانِي: أَنهم لما كَانُوا جاهلين بِالشَّرْعِ لم يعبأ باشتراطهم فتركهم يشترطون ليَكُون نَهْيه على الْمِنْبَر عَن أَمر قد جرى فَيكون أبلغ، من جنس قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لَهُم مُوسَى ألقوا} [يُونُس: 80] .
وَالثَّالِث: أَنه مَحْمُول على أَن الْقَوْم قد علمُوا قبل هَذَا أَن الْوَلَاء لمن أعتق ثمَّ أَرَادوا اشْتِرَاطه فَجعل نقض مَا اشترطوه أبلغ فِي عقوبتهم.
وَقد روى أَبُو بكر الْأَثْرَم قَالَ: سَأَلت أَحْمد بن حَنْبَل عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: قد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبرهُم أَن الْوَلَاء لمن أعتق، فَلَمَّا لم يقبلُوا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعمِلُوا بِخِلَاف مَا أَمرهم واشترطوا شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله عز وَجل وَلَا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعَائِشَة: " اشترطي لَهُم الْوَلَاء " أَي لَيْسَ ذَلِك لَهُم وَلَا يجب عَلَيْك.
وَقَوله: " شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله " لم يرد أَن الشُّرُوط مَنْصُوص عَلَيْهَا فِي الْقُرْآن، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِالْكتاب إِلَى حكم الله عز وَجل، وَمن(4/253)
حكمه مَا ينْطق بِهِ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا كَمَا قَالَ: اقْضِ بَيْننَا بِكِتَاب الله.
وَأما الأواقي فَجمع أُوقِيَّة، وَهِي أَرْبَعُونَ درهما، وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
ونجمت: أَي جعلت نجوما. والنجم: وَظِيفَة معلقَة بِوَقْت.
وَقَوله: ونفست فِيهَا، النُّون مَفْتُوحَة وَالْفَاء مَكْسُورَة، وَالْمعْنَى: بخلت بهَا عَائِشَة أَن تخرج عَن يَدهَا.
وَقَوله: " فاشتريها فأعتقيها " دَلِيل على جَوَاز بيع رَقَبَة الْمكَاتب، وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل خلافًا لأكثرهم. وَعنهُ رِوَايَة توَافق الْقَوْم.
وَقَوله: فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زَوجهَا؛ وَذَاكَ لِأَن زَوجهَا كَانَ عبدا. وَقد سبق بَيَان هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2456 - / 3149 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد سترت سهوة لي بقرام فِيهِ تماثيل.
حكى أَبُو عبيد عَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ: السهوة كالصفة تكون بَين يَدي الْبَيْت، وَقيل: هِيَ شَبيهَة بالرف أَو الطاق يوضع فِيهِ الشَّيْء. وَأهل الْيمن يَقُولُونَ: هِيَ عندنَا بَيت صَغِير منحدر فِي الأَرْض، وسمكه مُرْتَفع من الأَرْض، شَبيه بالخزانة الصَّغِيرَة يكون فِيهَا الْمَتَاع.(4/254)
وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: السهوة: الكوة بَين الدَّاريْنِ.
والقرام: السّتْر الرَّقِيق.
والتماثيل: الصُّور.
ويضاهون: يشبهون.
والمرفقة: الوسادة، وَجَمعهَا مرافق، وَكَذَلِكَ النمرقة، وَجَمعهَا نمارق.
وَإِنَّمَا جَازَ أَن تجْعَل وسَادَة لِأَنَّهَا تبتذل، وَكَذَلِكَ لَو فرشت بِخِلَاف مَا إِذا علقت فَإِن فِيهَا تَعْظِيمًا لَهَا.
وَقد بَينا سَبَب امْتنَاع الْمَلَائِكَة من بَيت فِيهِ صُورَة أَو كلب، فِي مُسْند أبي طَلْحَة.
والدرنوك: مَا كَانَ لَهُ حمل من الستور، وَأَصله الثِّيَاب الْغِلَاظ الَّتِي لَهَا حمل، فَإِذا بسط سمي بساطا، وَإِذا علق سمي سترا.
والقطيفة وَاحِدَة القطائف: وَهُوَ ضرب من الأكسية.
والنمط: ضرب من الْبسط.
وَقَوله: " لم يَأْمُرنَا أَن نكسو الْحِجَارَة والطين " دَلِيل على كَرَاهِيَة ستر الْجِدَار كَمَا يَفْعَله كثير من الْعَوام فِي الأعراس.
2457 - / 3150 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين(4/255)
أحرم، ولحله حِين أحل بِطيب فِيهِ مسك. وَفِي لفظ بذريرة.
الذريرة: شَيْء من الطّيب.
فَأَما الوبيص فَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ البريق، وَقد وبص الشَّيْء يبص وبيصا. والبصيص مثله أَو نَحوه، يُقَال مِنْهُ: بص يبص.
والمفارق جمع مفرق: وَهُوَ حَيْثُ يتفرق شعر الرَّأْس.
وَقَوله: " أنضح طيبا " أَي يظْهر مني. يُقَال: عين نضاحة: كَثِيرَة المَاء.
وَالْحرم بِضَم الْحَاء وَسُكُون الرَّاء: الْإِحْرَام، وَرُبمَا كسرهَا بعض قرأة الحَدِيث وَلَيْسَ بصواب؛ لِأَنَّهَا إِذا كسرت صَارَت بِمَعْنى الْحَرَام، يُقَال: حرم وَحرَام.
وَقد دلّ هَذَا الْحَدث على أَن للْمحرمِ أَن يتطيب قبل إِحْرَامه بِطيب يبْقى أَثَره بعد الْإِحْرَام. وَعِنْدنَا أَنه يسْتَحبّ لَهُ أَن يتطيب. وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، إِلَّا أَنه قد رُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: إِن تطيب بِمَا يبْقى بعد الْإِحْرَام فَعَلَيهِ الْفِدْيَة، وَشبهه أَصْحَابه باللباس يستصحب بعد الْإِحْرَام. والفارق بَين مَا جمعُوا من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بِفِعْلِهِ بَين الطّيب واللباس.
وَالثَّانِي: أَن الطّيب بغرض الِاسْتِهْلَاك واللباس للاستبقاء. وَلِهَذَا لَو حلف وَهُوَ متطيب: لَا تطيبت، لَا يلْزمه إزاله مَا على بدنه، بِخِلَاف مَا لَو حلف: لَا لبست، فَإِنَّهُ يلْزمه نزع اللبَاس.(4/256)
وَقَالَ مَالك: لَا يجوز للْمحرمِ أَن يتطيب، وَإِن فعل غسله.
2458 - / 3151 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَن عَائِشَة قَالَت: مَا لفاطمة خير فِي أَن تذكر هَذَا - يَعْنِي قَوْلهَا: لَا سُكْنى وَلَا نَفَقَة.
اعْلَم أَن فَاطِمَة بنت قيس طَلقهَا زَوجهَا ثَلَاثًا فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا سُكْنى لَك وَلَا نَفَقَة " وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مسندها إِن شَاءَ الله، وَأنْكرت عَائِشَة عَلَيْهَا هَذَا وتأولته، وَقَالَت: كَانَت فَاطِمَة فِي مَكَان وَحش فخيف على ناحيتها، فَلذَلِك أرخص لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي أَن تخرج من بَيتهَا.
2459 - / 3152 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: تَلا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْك الْكتاب مِنْهُ آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات} [آل عمرَان: 7] وَقَالَ: " إِذا رَأَيْت الَّذين يتبعُون مَا تشابه مِنْهُ فَأُولَئِك الَّذين سمى الله، فاحذروهم ".
اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمُحكم والمتشابه على أَقْوَال كَثِيرَة قد ذكرتها فِي " التَّفْسِير "، وَأظْهر الْأَقْوَال فِي الْمُحكم أَنه الَّذِي يتَبَيَّن مَعْنَاهُ بِنَفس تِلَاوَته.
وَأما الْمُتَشَابه فينقسم: فَمِنْهُ مَا إِذا رد إِلَى الْمُحكم وَاعْتبر بِهِ عقل مَعْنَاهُ، وَمِنْه مَا لَا سَبِيل إِلَى معرفَة كنهه، وَهُوَ الَّذِي انْفَرد الْحق عز وَجل بِعِلْمِهِ، وَهُوَ الَّذِي يتبعهُ أهل الزيغ وَيطْلبُونَ سره، كالقدر وَنَحْوه،(4/257)
فالباحث عَن مثل هَذَا طَالب للفتنة، وَلَا يبعد أَن يتعبدنا الله عز وَجل بِمَا طريقنا فِيهِ تَسْلِيم الْأَمر.
2460 - / 3153 - والْحَدِيث الْعَاشِر: قد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2461 - / 3154 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: كَانَ إِذا أَرَادَ سفرا أَقرع بَين نِسَائِهِ.
وَفِيه دَلِيل على جَوَاز الحكم بِالْقُرْعَةِ. وَقد سبق بَيَانهَا فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
2462 - / 3155 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " من أحدث فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد ".
الْأَمر هَاهُنَا المُرَاد بِهِ الدّين. وَالْحَدَث فِيهِ: مَا يناقضه ويضاده.
وَالرَّدّ بِمَعْنى الْمَرْدُود.
2463 - / 3156 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: وَكَانَ مَعَه مثل الهدبة، فَلم يقربنِي إِلَّا هنة وَاحِدَة.(4/258)
الهدب: طرف الثَّوْب وَمَا لَان مِنْهُ وتفرق كالخيوط.
والجلباب: الْإِزَار.
وَقَوْلها: إِلَّا هنة: أَي مرّة وَلم يصل مني إِلَى شَيْء.
والعسيلة تَصْغِير الْعَسَل. وَهَذَا كِنَايَة عَن بُلُوغ الشَّهْوَة فِي الْجِمَاع بالإنزال، شبه ذَلِك بالعسل وحلاوته.
وَفِي عِلّة تَأْنِيث الْعسيلَة أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْعَسَل يذكر وَيُؤَنث. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْقطعَة من الْعَسَل. وَالثَّالِث: أَنه أنث على معنى النُّطْفَة، وَهِي مُؤَنّثَة. وَالرَّابِع: أَنه أنث على نِيَّة اللَّذَّة.
وَقَوْلها: فَتزوّجت عبد الرَّحْمَن بن الزبير. الزبير هَاهُنَا بِفَتْح الزَّاي وَكسر الْبَاء. ولعَبْد الرَّحْمَن صُحْبَة، وَكَانَ لَهُ ابْن اسْمه الزبير بِضَم الزَّاي. وروى مَالك بن أنس عَن الْمسور بن رِفَاعَة عَن الزبير بن عبد الرَّحْمَن ابْن الزبير.
وَالزُّبَيْر أَيْضا بِفَتْح الزَّاي عبد الله بن الزبير الشَّاعِر، أَتَى عبد الله بن الزبير يستعطيه فحرمه، فَقَالَ: لعن الله نَاقَة حَملتنِي إِلَيْك، قَالَ لَهُ: إِن وراكبها.
وَيَجِيء فِي حَدِيث آخر أَن الزبير بن باطا من عُلَمَاء الْيَهُود تحدث بِخُرُوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يبْعَث، فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة بِفَتْح الزَّاي. فَأَما الزبير بضَمهَا فكثير. وَقد يشكل بزنبر، وَهُوَ سعيد بن دَاوُد بن أبي زنبر، لَهُ أَحَادِيث مَنَاكِير.(4/259)
وَقَوله: أنفضها نفض الْأَدِيم، هَذِه كِنَايَة عَن شدَّة الْحَرَكَة عِنْد المواقعة.
وَقَوله: وَلكنهَا ناشز، يُقَال: نشزت الْمَرْأَة فَهِيَ ناشز: إِذا نفرت عَن زَوجهَا.
2464 - / 3157 - والْحَدِيث الرَّابِع عشر: قد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2465 - / 3158 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: أَنا فتلت تِلْكَ القلائد من عهن كَانَ عندنَا، فَأصْبح فِينَا حَلَالا يَأْتِي مَا يَأْتِي الْحَلَال من أَهله.
القلائد: مَا يعلق فِي عنق الْهَدْي ليعلم أَنه هدي.
والعهن: الصُّوف الملون، واحدته عهنة.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن إِشْعَار الْبدن وتقليدها سنة، وَقد سبق الْكَلَام فِي ذَلِك فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوْلها: فَأصْبح فِينَا حَلَالا. دَلِيل على أَن سوق الْهَدْي لَا يدْخل صَاحبه فِي الْإِحْرَام. وَكَانَ ابْن عمر يَقُول: إِذا قلد هَدْيه فقد أحرم.
2466 - / 3159 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: كَانَ إِذا اغْتسل دَعَا بِشَيْء نَحْو الحلاب.
الحلاب والمحلب: الْإِنَاء الَّذِي تحلب فِيهِ ذَوَات الألبان، وَهُوَ يسع(4/260)
قدر حلبة نَاقَة، وأنشدوا:
(صَاح، هَل رَأَيْت أَو سَمِعت براع ... رد فِي الضَّرع مَا قرا فِي الحلاب)
وَقد غلط جمَاعَة فِي تَفْسِيره، مِنْهُم البُخَارِيّ؛ فَإِنَّهُ ظن الحلاب شَيْئا من الطّيب فَقَالَ: بَاب من بَدَأَ بالحلاب وَالطّيب، وَذكر هَذَا الحَدِيث فَقَط، وَكَأَنَّهُ توهم أَن الحلاب هُوَ المحلب الَّذِي يسْتَعْمل فِي غسل الْأَيْدِي، وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَهُ.
وصحف آخَرُونَ لَفظه، مِنْهُم الْأَزْهَرِي فَإِنَّهُ قَالَ: دَعَا بِشَيْء مثل الْجلاب بِالْجِيم وَتَشْديد اللَّام، وَقَالَ: هُوَ مَاء الْورْد، وَهُوَ فَارسي مُعرب، كَذَلِك حَكَاهُ عَنهُ الْحميدِي وقرأناه على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: أَرَادَ بالجلاب مَاء الْورْد، وَهُوَ فَارسي مُعرب، وَكَذَلِكَ ذكره أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ فِي بَاب الْجِيم فَقَالَ: الْجلاب، إِلَّا أَنه كَأَنَّهُ لم ينصره.
وَهَؤُلَاء عَن معرفَة الحَدِيث بمعزل، إِنَّمَا البُخَارِيّ أعجب حَالا؛ لِأَن لفظ الحَدِيث: دَعَا بِشَيْء نَحْو الحلاب، فَلَو كَانَ دَعَا بالحلاب كَانَ رُبمَا يشكل، وَنَحْو الشَّيْء غَيره، على أَنه فِي بعض الْأَلْفَاظ: دَعَا بِإِنَاء مثل الحلاب.(4/261)
وَأما الْفرق فالراء مَفْتُوحَة، وَمِقْدَار الْفرق سِتَّة عشر رطلا، وَمن سكن الرَّاء فقد غلط؛ لِأَن الْفرق بالتسكين مائَة وَعِشْرُونَ رطلا.
قَالَ الْخطابِيّ: وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الْوضُوء بِفضل الْمَرْأَة جَائِز، فَإِن النَّهْي عَن ذَلِك مَنْسُوخ.
وَقَول الْخطابِيّ لَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا يغتسلان مَعًا، فَمن أَيْن لَهُ أَنه كَانَ يغْتَسل بفضلها وَقد خلت بِهِ، فاستدلاله بِاللَّفْظِ الْمُطلق على معنى خَاص، ثمَّ قد فسر بِمَا ذكرنَا غَايَة الْخَطَأ.
وَيدل على مَا قُلْنَا الحَدِيث الثَّامِن عشر: كَانَ يوضع لي ولرسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا المركن فنشرع فِيهِ جَمِيعًا والمركن: الإجانة الَّتِي يغسل فِيهَا الثِّيَاب، قَالَه أَبُو عبيد، وَمعنى نشرع فِيهِ: نغترف مِنْهُ مَعًا، وَأَصله شُرُوع الْإِبِل فِيمَا تورد عَلَيْهِ من المَاء.
2467 - / 3162 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: " إِن قَوْمك حِين بنوا الْكَعْبَة اقتصروا عَن قَوَاعِد إِبْرَاهِيم " فَقلت: أَلا تردها على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم؟ فَقَالَ: " لَوْلَا حدثان قَوْمك بالْكفْر لفَعَلت ".
قَوْله: " إِن قَوْمك حِين بنوا الْكَعْبَة " قَالَ الزُّهْرِيّ: لما بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحلم أجمرت امْرَأَة الْكَعْبَة، فطارت شررة فاحترقت ثِيَاب الْكَعْبَة، فوهى الْبَيْت، فنقضته قُرَيْش وبنته.(4/262)
وَقَوله: " اقتصروا عَن قَوَاعِد إِبْرَاهِيم " أَي قصروا عَنْهَا فبنوا دونهَا.
وَقَوله: " لَوْلَا حدثان قَوْمك بالْكفْر " أَي حَدَاثَة عَهدهم. وَهَذَا تَنْبِيه على مُرَاعَاة أَحْوَال النَّاس ومداراتهم، وَألا يبدهوا بِمَا يخَاف قلَّة احتمالهم لَهُ، أَو بِمَا يُخَالف عاداتهم إِلَّا أَن يكون ذَلِك من اللازمات.
وَأما كنز الْكَعْبَة فقد ذكرنَا فِي مُسْند شبية أَنهم كَانُوا يهْدُونَ المَال إِلَيْهَا فيخبأ فِيهَا.
والجدر: الْحجر، سمي جدرا لما فِيهِ من أصُول الْحِيطَان.
وَقَوله: قصرت بهم النَّفَقَة: أَي قلت.
وَقَوله: احْتَرَقَ الْبَيْت زمن يزِيد بن مُعَاوِيَة. قد بَينا فِي مُسْند أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ أَن يزِيد قَالَ: لَا أقبل من ابْن الزبير مبايعته حَتَّى أُوتى بِهِ فِي وثاق، فَأبى عبد الله، وَأَن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ لما ولي الْمَدِينَة بعث الْبعُوث إِلَى ابْن الزبير بِمَكَّة وَأمر عَلَيْهِ عَمْرو بن الزبير أَخا عبد الله - وَكَانَت بَينهمَا معاداة - فَمضى إِلَى مَكَّة، وراسل عبد الله فَقَالَ: أما أَنا فَمَا أُخَالِف، فَأَما أَن يَجْعَل فِي عنقِي جَامِعَة ثمَّ أقاد إِلَى الشَّام فَلَا يحل لي أَن أحل بِنَفس، فَجرى بَينهمَا قتال.
ثمَّ إِن يزِيد عزل عَن الْمَدِينَة عَمْرو بن سعيد وولاها الْوَلِيد بن عتبَة ثمَّ عَزله وَولى عُثْمَان بن مُحَمَّد، فَوَثَبَ عَلَيْهِ أهل الْمَدِينَة فأخرجوه فَوجه يزِيد مُسلم بن عقبَة وَأمره أَن يتَّخذ الْمَدِينَة طَرِيقا، فَإِن هم تَرَكُوهُ مضى إِلَى ابْن الزبير فقاتله، فَإِن منعُوهُ دُخُولهَا ناجزهم الْقِتَال، فمنعوه فَكَانَت الْحرَّة.(4/263)
ثمَّ خرج يُرِيد ابْن الزبير فَمَاتَ فِي الطَّرِيق، فولى الْحصين بن نمير، فَقدم الْحصين فحاصر ابْن الزبير أَرْبَعَة وَسِتِّينَ يَوْمًا، وَنصب الْحصين المنجنيق على ابْن الزيبر، وَرمى الْكَعْبَة، وَمَات يزِيد فارتحل الْحصين، فَأمر ابْن الزبير بِتِلْكَ الحصاص الَّتِي كَانَت حول الْكَعْبَة فهدمت، فبدت الْكَعْبَة، وَأمر بِالْمَسْجِدِ فكنس مَا فِيهِ من الْحِجَارَة والدماء، فَإِذا الْكَعْبَة قد وهت من أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلهَا من حِجَارَة المنجنيق، وَإِذا الرُّكْن قد اسود وَاحْتَرَقَ من الْحَرِيق الَّذِي كَانَ حول الْكَعْبَة، فَتَركهَا ابْن الزبير كَذَلِك حَتَّى جَاءَ الْمَوْسِم وَرَآهَا النَّاس، ليذموا أهل الشَّام.
قَوْله: يُرِيد أَن يحربهم: أَي يزِيد فِي غضبهم. يُقَال: حَرْب الرجل: أَي غضب، وحربته أَنا: إِذا حرشته وسلطته وعرفته مَا يغْضب مِنْهُ. وَمن قَالَ يجرئهم أَرَادَ يزِيد جرأتهم عَلَيْهِم وعَلى مطالبتهم باستحلالهم بحريق الْكَعْبَة.
وَقَوله: قد فرق لي رَأْي فِيهَا: أَي اتَّضَح وانكشف.
وَقَوله: فتحاماه النَّاس: أَي تجنبوه وَلم يجسروا عَلَيْهِ. ثمَّ إِن ابْن الزبير هَدمه وبناه.
والتلطيخ: التلويث والتخليط بِالرَّأْيِ الْفَاسِد.
2468 - / 3163 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ , فأقرت صَلَاة السّفر وأتمت صَلَاة الْحَضَر.(4/264)
هَذِه إِشَارَة مِنْهَا إِلَى الْفَرْض الأول، فَإِنَّهُ قد نقل أَنه كَانَ فرض على النَّاس فِي أول الْإِسْلَام أَن يصلوا رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا فرضت الْخمس وَجَبت على الْمُقِيم تَامَّة، وَرخّص للْمُسَافِر فِي الْقصر فَعَاد إِلَى الْفَرْض الأول.
2469 - / 3164 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: أَلا يُعْجِبك أَبُو فلَان، جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانب حُجْرَتي يحدث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسمعني ذَلِك وَكنت أسبح.
أَبُو فلَان تُرِيدُ بِهِ أَبَا هُرَيْرَة.
وأسبح بِمَعْنى أتنفل.
وسرد الحَدِيث: أَن يُؤْتى بِهِ مُتَتَابِعًا على الْوَلَاء. وَكَأَنَّهَا إِنَّمَا أنْكرت سرد الحَدِيث وكثرته وأرادت مِنْهُ أَن يتحدث قَلِيلا بتثبت، لَا أَنَّهَا أنْكرت نفس مَا حدث بِهِ.
2470 - / 3165 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: إِن أَبَا سُفْيَان رجل مسيك.
المسيك " فعيل " من الْإِمْسَاك، وَهُوَ بياء الْمُبَالغَة، فَكَأَنَّهُ يتَكَرَّر مِنْهُ الْإِمْسَاك، كالصديق والسكيت والسكير. وَالْمرَاد بالإمساك هَاهُنَا الْبُخْل: وَالشح نَحْو الْبُخْل، وَقد ذكرنَا بَينهمَا فرقا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله، وَإِنَّمَا أجَاز لَهَا أَن تَأْخُذ مَا يكفيها لِأَنَّهُ حق عَلَيْهِ، وَقيد ذَلِك بقوله: " بِالْمَعْرُوفِ " لِئَلَّا تَأْخُذ فَوق الْكِفَايَة.(4/265)
2471 - / 3166 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: إِن أَفْلح أَخا أبي القعيس اسْتَأْذن عَليّ بعد الْحجاب، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " ائذني لَهُ؛ فَإِنَّهُ عمك ".
قَالَ هِشَام بن عُرْوَة: إِنَّمَا هُوَ أَبُو القعيس أَفْلح، يكنى أَبَا الْجَعْد، وَهُوَ عَم عَائِشَة من الرضَاعَة، وَقَول هِشَام لَيْسَ بِصَحِيح؛ إِنَّمَا هُوَ أَبُو الْجَعْد أَخُو أبي القعيس.
وَقد سبق معنى " تربت يَمِينك " فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
2472 - / 3168 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: " فاقدروا قدر الْجَارِيَة العربة الحديثة السن ".
العربة: الطّيبَة النَّفس الحريصة على اللَّهْو.
وبعاث يَوْم كَانَ للْأَنْصَار فِي الْجَاهِلِيَّة، اقْتَتَلُوا فِيهِ وَقَالُوا الْأَشْعَار، وَبقيت الْحَرْب قَائِمَة بَين الْأَوْس والخزرج مائَة وَعشْرين سنة حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام. وَرُبمَا صحف بعض قرأة الحَدِيث فَقَالَ: بغاث بالغين الْمُعْجَمَة.
والمغنية: الَّتِي اتَّخذت الْغناء صناعَة، وَلَا يَلِيق بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَماع مثلهَا، وَأما من أنْشد بَيْتا أَو بَيْتَيْنِ من غير تطريب وَلَا فحش فِي القَوْل فَلَا بَأْس بِهِ.(4/266)
وَقَوله: بِمَا تقاذفت بِهِ الْأَنْصَار: أَي رمى بِهِ بَعضهم بَعْضًا من الْأَشْعَار.
وَقد روى: تعازفت. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَيحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون من عزف اللَّهْو وَضرب المعازف على ذَلِك الشّعْر. وَالثَّانِي: أَن يكون من العزيف، كعزيف الرِّيَاح وَهُوَ دويها، وعزيف الْجِنّ وَهُوَ أصواتها.
وَقَوله: " دونكم يَا بني أرفدة " إِذن لَهُم وإغراء. وَحقّ هَذِه الْكَلِمَة أَن تتقدم على الِاسْم، وَقد جَاءَ تَقْدِيم الِاسْم عَلَيْهَا فِي قَول الشَّاعِر:
(يَا أَيهَا المائح دلوي دونكا ... )
وَبَنُو أرفدة لقب للحبشة.
وَفِي الحَدِيث رخصَة فِي المثاقفة بِالسِّلَاحِ رياضة للحرب.
وَقَوله: " أمنا يَا بني أرفدة " فِي نَصبه وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن الْمَعْنى آمنُوا منا وَلَا تخافوا.
وَالثَّانِي: أَنه أَقَامَ الْمصدر مقَام الصّفة، كَقَوْلِهِم: رجل صَوْم: أَي صَائِم، وَالْمعْنَى: آمِنين.
2473 - / 3170 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: كَانُوا يهلون لمناة فيتحرجون أَن يطوفوا بَين الصَّفَا والمروة.
جُمْهُور الروَاة على أَن الْقَوْم فِي الْجَاهِلِيَّة كَانُوا إِذا أهلوا لمناة لم يطوفوا بَين الصَّفَا والمروة، وَانْفَرَدَ أَبُو مُعَاوِيَة عَن هِشَام عَن عُرْوَة عَن(4/267)
عَائِشَة قَالَت: كَانَت الْأَنْصَار يهلون فِي الْجَاهِلِيَّة لصنمين على شط الْبَحْر يُقَال لَهما أساف ونائلة، ثمَّ يجيئون فيطوفون بَين الصَّفَا والمروة وَقد ذكرنَا فِي مُسْند أنس عَن الشّعبِيّ: أَن أسافا ونائلة كَانَا على الجبلين فَكَانُوا يسعون بَينهمَا وفسرنا الْآيَة هُنَاكَ، وَالله أعلم.
2474 - / 3171 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: دخل رَهْط من الْيَهُود على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: السام عَلَيْك. ففهمتها، فَقلت: عَلَيْكُم السام والذام واللعنة.
الرَّهْط: دون الْعشْرَة. وَيُقَال: بل إِلَى الْأَرْبَعين، حَكَاهُ ابْن فَارس.
والسام: الْمَوْت. وَكَانَ قَتَادَة يَقُول فِي رِوَايَة: السآم عَلَيْكُم، يمد الْألف من السَّآمَة، يُرِيدُونَ أَنكُمْ تسأمون دينكُمْ.
قَالَ الْفراء: والذام: الذَّم، يُقَال: ذأمت الرجل أذأمه وذممته أذمه ذما، وذمته أذيمه ذيما. وَرجل مذءوم ومذموم ومذيم، قَالَ حسان بن ثَابت:
(وَأَقَامُوا حَتَّى انبروا جَمِيعًا ... فِي مقَام وَكلهمْ مذءوم)
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: المذءوم: المذموم بأبلغ الذَّم.(4/268)
وَقَوله: " يحب الرِّفْق فِي الْأَمر كُله " وَالْمعْنَى: فِي كل شَيْء حَتَّى فِي خطاب الْأَعْدَاء الْمُشْركين، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {فقولا لَهُ قولا لينًا} [طه: 44] .
وَقَوله: " عَلَيْكُم " بِلَا وَاو، رد صَرِيح لقَولهم. وَأما قَوْله: " وَعَلَيْكُم " بِالْوَاو، فَإِنَّهُ قد بَين أَنه يُسْتَجَاب لنا فيهم وَلَا يُسْتَجَاب لَهُم فِينَا، وَذَلِكَ لأننا على الْحق وهم على الْبَاطِل، ثمَّ إِنَّهُم يعلمُونَ صدقنا ويعاندوننا، فَنحْن فِي مقَام مظلوم.
والعنف وَالْفُحْش: مَا جَاوز الْحَد المألوف من السب.
وَمَا فعلته عَائِشَة فَلَيْسَ بفاحش، وَلكنه نهاها عَن مُجَاوزَة الْقَصْد فِي الْأُمُور إِلَى الإفراط.
2475 - / 3172 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: أَن قُريْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْن الْمَرْأَة المخزومية الَّتِي سرقت. وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَت امْرَأَة مخزومية تستعير الْمَتَاع وتجحده، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقطع يَدهَا.
اسْم هَذِه الْمَرْأَة فَاطِمَة بنت الْأسود بن عبد الْأسد بن هِلَال بن عبد الله ابْن عَمْرو بن مَخْزُوم، أسلمت وبايعت، وَإِنَّمَا سرقت فِي غزَاة الْفَتْح، مرت بركب نزُول فَأخذت عَيْبَة لَهُم، فَأَخَذُوهَا فأوثقوها، فَلَمَّا أَصْبحُوا أَتَوا بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعاذت بحقوي أم سَلمَة، فَأمر بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فافتكت يداها من حقويها، وَقَالَ: " وَالله لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا " ثمَّ أَمر بهَا فَقطعت يَدهَا، فَخرجت تقطر يَدهَا دَمًا حَتَّى(4/269)
دخلت على امْرَأَة أسيد بن الْحضير فآوتها.
وَقد زعم قوم أَن السارقة أم عَمْرو بنت سُفْيَان بن عبد الْأسد.
وَأما قَوْله: كَانَت تستعير الْمَتَاع وتجحده، فعندنا أَنه يجب الْقطع على جَاحد الْعَارِية أخذا بِهَذَا الحَدِيث، وَهُوَ مَذْهَب سعيد بن الْمسيب وَاللَّيْث ابْن سعد خلافًا لأكْثر الْعلمَاء.
2476 - / 3173 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تبرق أسارير وَجهه فَقَالَ: " ألم تري مجززا نظر آنِفا إِلَى زيد بن حَارِثَة وَأُسَامَة بن زيد فَقَالَ: إِن هَذِه الْأَقْدَام بَعْضهَا من بعض ".
قَول: تبرق أسارير وَجهه. البريق: الْإِشْرَاق، قَالَ أَبُو عبيد: والأسارير: الخطوط الَّتِي فِي الْجَبْهَة مثل التكسر فِيهَا، الْوَاحِد سر وسرر، وَالْجمع أسرار وأسرة، ثمَّ الأسارير جمع الْجمع، قَالَ الْأَعْشَى:
(انْظُر إِلَى كف وأسرارها ... هَل أَنْت إِن واعدتني ضائري)
يَعْنِي خطوط بَاطِن الْكَفّ. وَالْمعْنَى: انْظُر من طَرِيق الكهانة كَمَا ينظر فِي الْيَد فِي التخت، ثمَّ إِن الخطوط فِي كل شَيْء كَذَلِك.
ومجزز كَانَ قائفا، والقائف: الَّذِي يتتبع الْآثَار فيقف عَلَيْهَا، ويتعرف الِاشْتِبَاه فيدركه بِالنّظرِ، وَلَا نَعْرِف أَنه أسلم.(4/270)
وَقَوله: " نظر آنِفا " أَي مُنْذُ سَاعَة.
وسرور النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك لاخْتِلَاف لونيهما؛ فَإِن زيدا كَانَ أَبيض، وَأُسَامَة أسود، فَتكلم النَّاس بِشَيْء كَانَ يسوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَمَاعه، فَلَمَّا سمع قَول مجزز سر بذلك، وَهُوَ لَا يسر إِلَّا بِالْحَقِّ. فَدلَّ على ثُبُوت أَمر الْقَافة، وَصِحَّة الحكم بقَوْلهمْ فِي إِلْحَاق الْوَلَد. وَهَذَا قَول عَامَّة الْعلمَاء خلافًا لأهل الرَّأْي.
2477 - / 3174 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: " خمس من الدَّوَابّ، كُلهنَّ فَاسق ".
قد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عمر. وَفِي هَذَا الحَدِيث: " والغراب الأبقع " وَهُوَ الَّذِي فِيهِ سَواد وَبَيَاض، وَذَاكَ لَا يحل أكله عندنَا خلافًا فِي قَوْله: تحل الطُّيُور كلهَا.
2478 - / 3175 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: كَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح.
أَي مثل ضيائه إِذا انْفَلق وانماز عَن ظلام اللَّيْل وَذَلِكَ حِين يَتَّضِح فَلَا يشك فِيهِ.
والخلاء بِالْمدِّ: الْخلْوَة. وَإِنَّمَا حببت إِلَيْهِ الْخلْوَة فِي الْبِدَايَة ليجتمع همه(4/271)
لما يلقى إِلَيْهِ.
وحراء مَمْدُود: جبل مَعْرُوف.
ويتحنث: أَي يتعبد. وَالْمعْنَى: يفعل فعلا يخرج فِيهِ من الْحِنْث وَهُوَ الْإِثْم، كَمَا يُقَال: فلَان يتأثم: أَي يلقِي الْإِثْم عَن نَفسه. ويتحرج: أَي يتَجَنَّب مَا يُوجب الْحَرج.
وَينْزع إِلَى أَهله: أَي يرجع.
وفجئه بِمَعْنى فاجأه. وَالْمرَاد أَنه جَاءَ بَغْتَة.
وَقَوله: " فغطني " الغط: الضغط الشَّديد، وَمِنْه الغط فِي المَاء. وغطيط النَّائِم، وَهُوَ تردد النَّفس إِذا لم يجد مساغا مَعَ انضمام الشفتين. وَمعنى الغط فِي هَذَا الحَدِيث الخنق، وَمن فعل بِهِ هَذَا لأجل شَيْء يقدر عَلَيْهِ أَتَى بِهِ، فَلَمَّا لم يَأْتِ بالمطلوب مِنْهُ دلّ على أَنه لَا يقدر عَلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْهُ.
وَقَوله: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} [العلق: 1] . قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْمَعْنى: اقْرَأ اسْم رَبك، وَالْبَاء زَائِدَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي اذكر اسْمه مستفتحا بِهِ قراءتك، وَإِنَّمَا قَالَ: {الَّذِي خلق} لِأَن الْكفَّار كَانُوا يعلمُونَ أَنه الْخَالِق دون أصنامهم.
و (الْإِنْسَان) هَاهُنَا ابْن آدم.
و (العلق) جمع علقَة: وَهِي دم عبيط جامد، وَقيل: وَإِنَّمَا سميت علقَة لرطوبتها وتعلقها بِمَا تمر بِهِ، وَلما كَانَ الْإِنْسَان فِي معنى الْجَمَاعَة(4/272)
ذكر العلق جمعا.
وَقَوله: {اقْرَأ} تَقْرِير للتَّأْكِيد. ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ: {وَرَبك الأكرم} وَهُوَ الَّذِي لَا يوازيه كريم.
{الَّذِي علم بالقلم} يَعْنِي الْكِتَابَة.
{علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} من الْخط والصنائع.
قَوْله: ترجف بوادره. ترجف: تضطرب. والبوادر جمع بادرة: وَهِي اللحمة الَّتِي بَين الْعُنُق والمنكب.
وَقَوله: " زَمِّلُونِي " قد سبق فِي مُسْند جَابر.
والروع: الْفَزع.
وَقَوله: " لقد خشيت على نَفسِي " كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخَاف فِي بداية الْأَمر أَن يكون مَا يرَاهُ من قبل الشَّيْطَان، لِأَن الْبَاطِل قد يلتبس بِالْحَقِّ، وَمَا زَالَ يستقري الدَّلَائِل وَيسْأل الْآيَات إِلَى أَن وضح لَهُ الصَّوَاب. وكما أَن أَحَدنَا يجب عَلَيْهِ أَن يسبر صدق الْمُرْسل إِلَيْهِ وَينظر فِي دَلَائِل صدقه من المعجزات، فَكَذَلِك الرُّسُل يجب عَلَيْهَا أَن تسبر حَال الْمُرْسل إِلَيْهَا، هَل هُوَ ملك أَو شَيْطَان؟ فاجتهادها فِي تَمْيِيز الْحق من الْبَاطِل أعظم من اجتهادنا، وَلذَلِك علت منَازِل الْأَنْبِيَاء لعظم مَا ابتلوا بِهِ من ذَلِك.
وَكَانَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بدايته قد نفر من جِبْرِيل وَنسب الْحَال إِلَى الْأَمر الْمخوف، وَقَالَ لِخَدِيجَة: " قد خشيت على نَفسِي " إِلَى أَن بَان لَهُ أَن الْأَمر حق، ثمَّ استظهر بِزِيَادَة الْأَدِلَّة حَتَّى تحقق لَهُ الْيَقِين.(4/273)
أخبرنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن السماك قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الطّيب قَالَ: أخبرنَا عُثْمَان بن مُحَمَّد بن يُوسُف العلاف قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن سلمَان النجار قَالَ: حَدثنَا عبد الْملك بن مُحَمَّد قَالَ: حَدثنِي عبيد الله بن مُحَمَّد وَأَبُو ربيعَة وَدَاوُد بن شبيب قَالُوا: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن عَليّ بن زيد عَن أبي رَافع عَن عمر قَالَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحجون فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَرِنِي آيَة لَا أُبَالِي من كَذبَنِي بعْدهَا من قُرَيْش " فَقيل لَهُ: ادْع هَذِه الشَّجَرَة، فَدَعَاهَا فَأَقْبَلت على عروقها فقطعتها، ثمَّ أَقبلت تخد الأَرْض حَتَّى وقفت بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَت: مَا تشَاء؟ مَا تُرِيدُ؟ قَالَ: " ارجعي إِلَى مَكَانك " فَرَجَعت إِلَى مَكَانهَا، فَقَالَ: " وَالله مَا أُبَالِي من كَذبَنِي من قُرَيْش ".
وَقد كَانَ الشَّيْطَان يلبس على خلق كثير مثل مَا لبس على ابْن صائد، وَبَيَان التلبيس أَنه قَالَ: يأتيني صَادِق وكاذب. وَقد ذكرنَا من جنس تلبيسه على من ادّعى النُّبُوَّة فِي كتاب " تلبيس إِبْلِيس ".
وَأما قَول خَدِيجَة: وَالله مَا يخزيك الله أبدا. فالخزي: الإهانة والذل. ويحزنك من الْحزن.
وَالْكل: الأثقال والحوائج المهمة. وكل مَا يثقل حمله فَهُوَ كل.
وَقَوله: تكسب الْمَعْدُوم. التَّاء مَفْتُوحَة، يُقَال: كسبت مَالا، وكسبت زيدا مَالا، وأكسبته لُغَة أَيْضا، وَأنْشد ثَعْلَب:(4/274)
(فاكسبته مَالا وأكسبني حمدا ... )
إِلَّا أَن حذف الْألف أفْصح اللغتين. وَالَّذِي فِي هَذَا الحَدِيث: تكسب الْمَعْدُوم، وَالْمرَاد بِهِ المعدم. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: صَوَابه: تكسب المعدم، لِأَن الْمَعْدُوم لَا يدْخل تَحت الْأَفْعَال. وأرادت خَدِيجَة أَن من يفعل الْخَيْر لَا يجازى عَلَيْهِ بِالشَّرِّ.
وَقَول ورقة: هَذَا الناموس. قَالَ أَبُو عبيد: الناموس: هُوَ صَاحب سر الرجل الَّذِي يطلعه على بَاطِن أمره ويخصه بِمَا يستره عَن غَيره، يُقَال مِنْهُ: نمس الرجل ينمس نمسا، وَقد نامسه منامسة: إِذا ساره، قَالَ الْكُمَيْت:
(فأبلغ يزِيد إِن عرضت ومنذرا ... وعميهما والمستسر المنامسا)
وَقَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: الناموس: صَاحب سر الْخَيْر، والجاسوس: صَاحب سر الشَّرّ. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: إِنَّمَا سمي جِبْرِيل ناموسا لِأَنَّهُ مَخْصُوص بِالْوَحْي والغيب الَّذِي لَا يطلع عَلَيْهِ غَيره.
وَقَوله: يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا. الْكِنَايَة بقوله فِيهَا عَن نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنصب جذعا على إِضْمَار: كنت، كَذَلِك قَالَ الْخطابِيّ. والجذع: اسْم لولد الْمعز إِذا قوى. وَقد سبق الْكَلَام فِي الْجذع فِي مُسْند جَابر،(4/275)
وَمعنى الْكَلَام: لَيْتَني بقيت إِلَى وَقت مخرجك وَكنت شَابًّا لأبالغ فِي نصرتك بِقُوَّة الشَّبَاب.
وَقَوله: إِلَّا عودي. يَعْنِي أَن الْحق لَا يَخْلُو من أهل بَاطِل يعادونه.
أنصرك نصرا مؤزرا: أَي بليغا مؤكدا.
وَقَوله: فَلم ينشب ورقة أَن مَاتَ. أَي لم يلبث، كَأَن الْمَعْنى: فجئه الْمَوْت قبل أَن ينشب فِي فعل شَيْء. وَالْكِنَايَة عَن السرعة.
والشواهق جمع شَاهِق: وَهُوَ الْجَبَل العالي.
وَقَوله: فيسكن جأشه: أَي يسكن مَا ثار من فزعه وهاج من حزنه.
2479 - / 3176 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي من اللَّيْل وَأَنا مُعْتَرضَة بَينه وَبَين الْقبْلَة فأكره أَن أسنحه.
أسنحه مَأْخُوذ من سنح لي كَذَا: إِذا عرض، وأرادت: أكره أَن أَمر بَين يَدَيْهِ، والسانح عِنْد الْعَرَب مَا مر بَين يَديك عَن يَمِينك، وَكَانُوا يتيمنون بِهِ.
وَقَوْلها: فأنسل: أَي أَمر بِرِفْق.
2480 - / 3177 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: وَمَا كَانَ لكم أَن تنزروا رَسُول الله. أَي تلحوا عَلَيْهِ. يُقَال: نزرت الرجل: أَي ألححت عَلَيْهِ.
2481 - / 3178 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَصِير، وَكَانَ يحتجره بِاللَّيْلِ.(4/276)
أَي يَتَّخِذهُ حجرَة يسْتَتر فِيهَا ويخلو.
ويثوبون: يرجعُونَ.
وَقَوله: " اكلفوا من الْعَمَل مَا تطيقون " اللَّام فِي قَوْله: " اكلفوا " مَفْتُوحَة، كَذَلِك قَالَ أهل اللُّغَة، وَالْمعْنَى تكلفوا فعل مَا تقوى عَلَيْهِ طاقتكم دون مَا تعجزون عَنهُ.
وَقَوله: " فَإِن الله لَا يمل حَتَّى تملوا " الْملَل للشَّيْء: الاستثقال لَهُ والكراهية ونفور النَّفس عَنهُ، وَذَلِكَ لَا يجوز فِي صِفَات الله عز وَجل، لِأَنَّهُ لَو جَازَ لدخلت عَلَيْهِ الْحَوَادِث.
وَاخْتلفُوا فِي معنى الْكَلَام على أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن الْمَعْنى: لَا يمل أبدا، مللتم أَو لم تملوا، وَجرى هَذَا مجْرى قَوْلهم: حَتَّى يشيب الْغُرَاب، ويبيض القار، وأنشدوا:
(صليت مني هُذَيْل بخرق ... لَا يمل الشَّرّ حَتَّى يملوا)
الْمَعْنى: لَا يمل وَإِن ملوا، إِذا لَو مل عِنْد ملالهم لم يكن لَهُ عَلَيْهِم فضل.
وَالثَّانِي: لَا يمل من الثَّوَاب مَا لم تملوا من الْعَمَل، وَمعنى يمل: يتْرك، لِأَن من مل شَيْئا تَركه، حَكَاهُمَا أَبُو سُلَيْمَان.
وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى: لَا يقطع عَنْكُم فَضله حَتَّى تملوا سُؤَاله، فَسمى فعله مللا وَلَيْسَ بملل، وَلَكِن لتزدوج اللَّفْظَة بأختها فِي اللَّفْظ وَإِن خالفتها فِي الْمَعْنى، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ} [الْبَقَرَة: 194](4/277)
وَقَوله: {ومكروا ومكر الله وَالله خير الماكرين} [آل عمرَان: 54] وَقَوله: {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} [الشورى: 40] . وأنشدوا:
(أَلا لَا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فَوق جهل الجاهلينا)
وَالرَّابِع: أَن الْمَعْنى: لَا يطرحكم حَتَّى تتركوا الْعَمَل لَهُ وتزهدوا فِي الرَّغْبَة إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الاطراح لَا يكَاد يَقع إِلَّا عَن ملل وَكَانَ المجازى عَلَيْهِ هُوَ الْملَل، حسن أَن يُسمى باسمه.
وَقَوله: " فَإِن أحب الْأَعْمَال إِلَى الله أدومها وَإِن قل " إِنَّمَا أحب الدَّائِم لمعنيين:
أَحدهمَا أَن الْمقبل على الله عز وَجل بِالْعَمَلِ إِذا تَركه من غير عذر كَانَ كالمعرض بعد الْوَصْل، فَهُوَ معرض للذم، وَلِهَذَا ورد الْوَعيد فِي حق من حفظ آيَة ثمَّ نَسِيَهَا، وَإِن كَانَ قبل حفظهَا لَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْحِفْظ، وَلكنه أعرض بعد المواصلة، فلاق بِهِ الْوَعيد، وَكَذَلِكَ يكره أَن يُؤثر الْإِنْسَان بمكانه من الصَّفّ الأول لِأَنَّهُ كالراغب عَن الْقرب إِلَى الله عز وَجل، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لعبد الله بن عَمْرو: " لَا تكونن مثل فلَان، كَانَ يقوم اللَّيْل فَترك قيام اللَّيْل ".
وَالثَّانِي: أَن مداوم الْخَيْر ملازم للْخدمَة، فَكَأَنَّهُ يتَرَدَّد إِلَى بَاب الطَّاعَة كل وَقت، فَلَا ينسى من الْبر لتردده، وَلَيْسَ كمن لَازم الْبَاب يَوْمًا دَائِما(4/278)
ثمَّ انْقَطع شهرا كَامِلا.
وَأما الصَّارِخ فَقَالَ الْحميدِي: هُوَ الديك. قَالَ لنا شَيخنَا ابْن نَاصِر: أول مَا يَصِيح نصف اللَّيْل.
وَقَوله: " لن يدْخل الْجنَّة أحدا عمله " قد سبق فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
2482 - / 3179 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: إِن كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليَدع الْعَمَل وَهُوَ يحب أَن يعْمل بِهِ خشيَة أَن يعْمل بِهِ النَّاس فيفرض عَلَيْهِم.
قَوْلهَا: ليَدع الْعَمَل، تَعْنِي التَّنَفُّل.
وَقَوْلها: فيفرض عَلَيْهِم، يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: فيفرضه الله تَعَالَى: وَالثَّانِي: فيعملونه اعتقادا أَنه مَفْرُوض.
وَقَوْلها: مَا سبح سبْحَة الضُّحَى. يَعْنِي مَا صلى صَلَاة الضُّحَى. وَهَذَا اللَّفْظ نفت بِهِ، وَقد أثبت فِي اللَّفْظ الآخر، وَالْعَمَل على الْإِثْبَات
2483 - / 3180 - والْحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2484 - / 3181 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: كن نسَاء الْمُؤمنِينَ يشهدن مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متلفعات بمروطهن، لَا يعرفهن أحد من الْغَلَس.(4/279)
المروط: الأكسية، وَاحِدهَا مرط. وَقد سبق فِي مُسْند عمر.
والتلفع بِهِ: الاشتمال بِهِ.
والغلس: اخْتِلَاط ضِيَاء الصُّبْح بظلمة اللَّيْل. والغبش قريب مِنْهُ، فَإِنَّهُ بقايا ظلمَة اللَّيْل، وَبَعْضهمْ يَقُول: الغبس بِالسِّين الْمُهْملَة، قَالَ الْأَزْهَرِي: الغبس: بَقِيَّة ظلمَة اللَّيْل يخالطها بَيَاض الْفجْر، وَلذَلِك قيل فِي ألوان الدَّوَابّ: أغبس. وَقَالَ الزّجاج: غطش اللَّيْل وأغطش، وغبس وأغبس، وغبش وأغبش، وغسق وأغسق، وغسا وأغسى، كُله بِمَعْنى أظلم.
وَفِي هَذَا حجَّة لمن يرى التغليس بِالْفَجْرِ أفضل إِذا اجْتمع الْجِيرَان، فَإِن تَأَخّر الْجِيرَان فَالْأَفْضَل تَأْخِيرهَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: الْأَفْضَل التَّقْدِيم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْإِسْفَار أفضل.
2485 - / 3182 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس لم تخرج من حُجْرَتهَا.
وَالْمعْنَى: لم تصعد من قاعة الدَّار إِلَى أعالي الْحِيطَان. وَهَذِه إِشَارَة إِلَى تَقْدِيم الْعَصْر. وتعجيلها عندنَا أفضل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تَأْخِيرهَا أفضل مَا لم تصفر الشَّمْس.(4/280)
2486 - / 3183 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي خميصة لَهَا أَعْلَام، فَنظر إِلَى أعلامها نظرة، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: " اذْهَبُوا بخميصتي هَذِه إِلَى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فَإِن ألهتني آنِفا عَن صَلَاتي ".
الخميصة: كسَاء مربع أسود معلم، فَإِن لم يكن معلما فَلَيْسَ بخميصة، وَقد يكون من خَز وَمن صوف، وَجَمعهَا خمائص.
والأنبجانية: كسَاء غليظ من الصُّوف لَهُ خمل وَلَيْسَ لَهُ علم.
وَأَبُو جهم اسْمه عَامر بن حُذَيْفَة الْقرشِي. وَقيل: اسْمه عبيد. وَفِي الصَّحَابَة آخر يُقَال لَهُ أَبُو جهيم بِزِيَادَة يَاء، واسْمه عبد الله بن الْحَارِث بن الصمَّة الْأنْصَارِيّ.
فَإِن قيل: فَمَا وَجه إنفاذها إِلَى أبي جهم؟ فَالْجَوَاب: أَنه كَانَ أَبُو جهم قد أهداها إِلَيْهِ فَردهَا عَلَيْهِ. أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بن المظفر الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد الطَّحَاوِيّ قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن يحيى الْمُزنِيّ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي قَالَ: حَدثنَا مَالك عَن عَلْقَمَة بن أبي عَلْقَمَة عَن أمه عَن عَائِشَة قَالَت: أهْدى أَبُو جهم بن حُذَيْفَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خميصة شامية لَهَا علم، فَشهد فِيهَا الصَّلَاة، فَلَمَّا انْصَرف قَالَ: " ردي هَذِه الخميصة إِلَى أبي جهم؛ فَإِنِّي نظرت إِلَى علمهَا فِي(4/281)
الصَّلَاة فَكَانَ يفتنني ".
فَإِن قيل: كَيفَ يخَاف الافتتان بِعلم من لم يلْتَفت إِلَى الأكوان لَيْلَة {مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى} ؟ فَالْجَوَاب: أَنه كَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة خَارِجا عَن طباعة، وأشبه ذَلِك نظره من وَرَائه. فَأَما إِذا رد إِلَى طبعة البشري فَإِنَّهُ يُؤثر فِيهِ مَا يُؤثر فِي الْبشر. وَلم يرد بالافتتان إِلَّا دُعَاء الطَّبْع إِلَى النّظر.
فَإِن قيل: فالمراقبة فِي الصَّلَاة قد شغلت خلقا من أَتْبَاعه حَتَّى إِنَّه وَقع سقف إِلَى جَانب مُسلم بن يسَار وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَلم يعلم. فَالْجَوَاب: أَن هَؤُلَاءِ كَانُوا يؤخذون عَن طباعهم فيغيبون عَن وجودهم. وَكَانَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْلك طَرِيق الْعَوام وَطَرِيق الْخَواص، فَإِذا دخل طَرِيق الْخَواص عبر الْكل فَقَالَ: " لَيست كأحدكم " وَإِذا سلك طَرِيق الْعَوام قَالَ: " إِنَّمَا أَنا بشر " فقد رد إِلَى حَالَة الطَّبْع فَرَأى الْأَعْلَام، فَنزع الخميصة ليستن بِهِ فِي ترك كل شاغل.
2487 - / 3184 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: " عرضت نَفسِي على ابْن عبد ياليل ".
وَهُوَ عَظِيم الطَّائِف. روى ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا نزل هَذَا الْقُرْآن على رجل من القريتين عَظِيم} [الزخرف: 31] . قَالَ: عَظِيم الطَّائِف ابْن عبد ياليل. وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما يئس من أهل مَكَّة أَن يُجِيبُوهُ خرج إِلَى الطَّائِف لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَام، وَذَلِكَ بعد(4/282)
موت أبي طَالب، ثمَّ قدر الله تَعَالَى أَن قدم وَفد الطَّائِف فِي سنة تسع من الْهِجْرَة مَعَ عبد ياليل فأسلموا.
وَقَوله: " إِن شِئْت أطبقت عَلَيْهِم الأخشبين " قَالَ أَبُو عبيد: الأخشب: الْجَبَل، وَأَصله الغليظ، وَأنْشد:
(تحسب فَوق الشول مِنْهُ أخشبا ... )
يَعْنِي الْبَعِير، شبه ارتفاعه فَوق النوق بِالْجَبَلِ. فَأَما تَثْنِيَة الأخشب فَلِأَن مَكَّة بَين جبلين.
وَمعنى أطبقت: جمعت بَين أعالي الجبلين حَتَّى يكون ذَلِك لاما بَينهمَا عَلَيْهِم.
2488 - / 3188 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: عَن عَائِشَة: أَنَّهَا كَانَت تَأمر بالتلبين للْمَرِيض والمحزون.
التلبين والتلبينة: حساء يعْمل من دَقِيق أَو نخاله وَيجْعَل فِيهِ الْعَسَل، كَذَلِك وَصفه الْأَصْمَعِي. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَلَا أَرَاهَا سميت تلبينة إِلَّا لبياضها ورقتها.
وَقَوْلها: هُوَ البغيض النافع. تُشِير إِلَى أَن الْمَرِيض يبغضها كَمَا يبغض الْأَدْوِيَة.(4/283)
وَمعنى تجم الْفُؤَاد: تكشف عَنهُ وتخفف وتريح. وَقيل: تجمه بِمَعْنى تريح ألمه وتنبه شَهْوَته وتكمل صَلَاحه ونشاطه.
وَيَجِيء فِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: إِنَّه يرتو فؤاد الحزين: أَي يشده ويقويه، ويسرو عَن فؤاد السقيم: أَي يكْشف عَنهُ.
2489 - / 3189 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: " أعوذ بك من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال " قد سبق ذكره وَتَفْسِير الاسمين.
فَإِن قيل: كَيفَ احْتَاجَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يستعيذ من الدَّجَّال وَقد ثَبت أَن الدَّجَّال إِذا رأى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يذوب، وَنَبِينَا أَعلَى منزلَة؟ فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا أَنه أَرَادَ تعليمنا. وَالثَّانِي: أَن يكون تعوذ مِنْهُ لأمته. وَالثَّالِث: لِأَن عصمته من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ مُحْتَاج إِلَى الِاسْتِعَاذَة من كل شَيْء.
والفتنة فِي الأَصْل الاختبار، ثمَّ يُقَال لمن " وَقع فِيمَا يُخَالف الاختبار لأَجله: قد فتن، فَيحْتَمل قَوْله: " أعوذ بك من فتْنَة الْغنى والفقر " أَن يكون بِمَعْنى الاختبار وَبِمَعْنى الافتتان.
وَأما فتْنَة النَّار فَهِيَ الإحراق، كَقَوْلِه تَعَالَى {يَوْم هم على النَّار يفتنون} [الذاريات: 13] .
وَقَوله: اغسل خطاياي بِمَاء الثَّلج وَالْبرد " قد ذكرنَا فِي مُسْند عبد الله(4/284)
ابْن أبي أوفى فِي تَخْصِيصه الثَّلج وَالْبرد وَجْهَيْن: أَحدهمَا: لِأَنَّهُمَا على أهل الطَّهَارَة لم تمسهما يَد. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُمَا غَايَة الصفاء، والإنقاء بِالْمَاءِ الصافي أَكثر من الإنقاء بالكدر، فَذكر الْمُبَالغَة فِي الْغسْل للْمُبَالَغَة فِي محو الذُّنُوب. وَقيل لما اشْتَمَل الْبرد على الْبرد استعير هَاهُنَا للسرور، كَمَا يُقَال: أقرّ الله عَيْنك.
فَأَما قَوْله: " كَمَا نقيت الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس " و " كَمَا باعدت " إشباع وتوكيد فِي الْبَيَان على مَذْهَب الْعَرَب الْجَارِي بَين المتخاطبين، وَإِلَّا فَالله سُبْحَانَهُ غَنِي أَن يضْرب لَهُ الْأَمْثَال، وَأَن يدل على مَعَاني الْأُمُور بالنظائر والأشباه.
2490 - / 3190 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: " كَانَ عَاشُورَاء يَوْمًا تستر فِيهِ الْكَعْبَة " أَي تُكْسَى، وَأول من كسا الْكَعْبَة تبع، واسْمه أسعد الْحِمْيَرِي، رأى فِي الْمَنَام أَن يَكْسُوهَا فكساها الأنطاع، ثمَّ أرِي أَن اكسها، فكساها ثِيَاب حبرَة. فَلَمَّا نَشأ أَبُو زَمعَة بن الْمُغيرَة قَالَ: أَنا أكسو أَو جدي الْكَعْبَة سنة، وَجَمِيع قُرَيْش سنة، فَكَانَ يَأْتِي الْحبرَة فيكسوها إِلَى أَن مَاتَ، فَسَمتْهُ قُرَيْش الْعدْل لِأَنَّهُ عدل فعله بِفعل قُرَيْش كلهَا.
وَأول عَرَبِيَّة كست الْكَعْبَة الْحَرِير والديباج نتيلة بنت جناب، أم الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب.
وَقد روى الْوَاقِدِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن أبي حَبِيبَة عَن أَبِيه قَالَ: كسي الْبَيْت فِي الْجَاهِلِيَّة بالأنطاع، ثمَّ كَسَاه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثِّيَاب اليمانية، ثمَّ كَسَاه عمر وَعُثْمَان الْقبَاطِي، ثمَّ كَسَاه الْحجَّاج الديباج.
وروى ابْن أبي نجيح عَن أَبِيه أَن عمربن الْخطاب كسا الْكَعْبَة الْقبَاطِي(4/285)
من بَيت المَال.
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيد الْأَزْرَقِيّ: حَدثنِي جدي قَالَ: كَانَت الْكَعْبَة تُكْسَى فِي كل سنة كسوتين: كسْوَة ديباج وَكِسْوَة قَبَاطِي. فَأَما الديباج فتكساه يَوْم التَّرويَة فيعلق الْقَمِيص ويدلى وَلَا يخاط، فَإِذا صدر النَّاس من منى خيط الْقَمِيص وَترك الْإِزَار حَتَّى يذهب الْحَاج لِئَلَّا يحرقوه، فَإِذا كَانَ عَاشُورَاء علق الْإِزَار فوصل بالقميص، فَلَا تزَال هَذِه الْكسْوَة عَلَيْهَا إِلَى يَوْم سبع وَعشْرين من رَمَضَان فتكسى الْقبَاطِي للفطر.
2491 - / 3191 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: أَن أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كن يخْرجن قبل المناصع - وَهُوَ صَعِيد أفيح.
المناصع: مَوضِع مَعْرُوف.
والصعيد: وَجه الأَرْض. والأفيح: الْوَاسِع. يُقَال: دَار فيحاء: إِذا كَانَت وَاسِعَة.
وَقَوله: تفرع النِّسَاء: أَي تعلوهن. والفارع من كل شَيْء: العالي. وجبل فارع: عَال، وَفرع فلَان فلَانا: إِذا علاهُ طولا أَو قدرا.
وانكفأت: رجعت.
والعرق: عظم عَلَيْهِ بَقِيَّة لحم.
2492 - / 3192 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ يعْتَكف الْعشْر الْأَوَاخِر.(4/286)
الِاعْتِكَاف: الْإِقَامَة، وَكَذَلِكَ الْمُجَاورَة.
والتحري للشَّيْء: الِاجْتِهَاد فِي طلبه فِي مظان وجوده.
وتقويض الْبناء: نقضه من غير هدم.
وَأما اعْتِكَافه فِي شَوَّال فدليل على أَن قَضَاء النَّوَافِل مسنون.
2493 - / 3193 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول وَهُوَ صَحِيح: " إِنَّه لن يقبض نَبِي حَتَّى يرى مَقْعَده من الْجنَّة ثمَّ يُخَيّر ".
إِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه التَّخْيِير بعد أَن يرى مَقْعَده من الْجنَّة؟ وَلَو أَن أَحَدنَا رأى مَكَانَهُ من الْجنَّة لم يتَخَيَّر الدُّنْيَا عَلَيْهِ.
فَالْجَوَاب: أَن التَّخْيِير يكون إِكْرَاما لَهُ ليَكُون قبض روحه عَن أمره، فَيجوز أَن يخْتَار تَعْجِيل معاناة الْمَوْت لما يصير إِلَيْهِ، وَيجوز أَن يخْتَار تَأْخِير الْمَوْت عَنهُ مَعَ علمه بِمَنْزِلَتِهِ إيثارا لطاعة الله على حَظّ النَّفس.
وَأما " الرفيق الْأَعْلَى " فقد ذهب قوم إِلَى أَن الْمَعْنى: ألحقني بك، وَقد رده الْأَزْهَرِي وَقَالَ: هَذَا غلط؛ وَإِنَّمَا الرفيق هَاهُنَا جمَاعَة الْأَنْبِيَاء الَّذين يسكنون أَعلَى عليين، اسْم جَاءَ على " فعيل " وَمَعْنَاهُ الْجَمَاعَة. وَيُقَوِّي هَذَا القَوْل أَن فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث أَنه قَالَ: " مَعَ الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ". وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الرفيق بِمَعْنى الرفقاء، كَمَا يُقَال للْجَمَاعَة: صديق وعدو. قَالَ: وَيَعْنِي الْمَلَائِكَة.
قَوْلهَا: فَأَخَذته بحة. البحح: انخفاض الصَّوْت لمَرض أَو غَيره.(4/287)
وَكَانَ ابْن عقيل يَقُول: لما كَانَ السّتْر مسبلا قَالَ: " واكرباه " فَلَمَّا كشف قَالَ: " الرفيق الْأَعْلَى " وَإِنَّمَا أسبل السّتْر لينطق بالتألم تخويفا لأهل الْغَفْلَة من مثل ذَلِك المقطع، وَإِنَّمَا كشف السّتْر لينطق بِمثل ذَلِك النُّطْق لأرباب الْأَحْوَال فتصفو لَهُم مناهلهم وتعذب مشاربهم، وَهَذَا الْمَعْنى هُوَ الَّذِي خلع على السَّحَرَة بعد رغبتهم فِي الدُّنْيَا حَتَّى قَالُوا: {أئن لنا لأجرا} [الشُّعَرَاء: 41] فَقَالُوا عِنْد تغير الْأَحْوَال: {فَاقْض مَا أَنْت قَاض} [طه: 72] .
2494 - / 3194 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: أَنَّهَا كَانَت ترجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي حَائِض وَهُوَ معتكف فِي الْمَسْجِد، وَهِي فِي حُجْرَتهَا يناولها رَأسه.
ترجل: تسرح. وَشعر مرجل.
ويصغي: يمِيل.
وَقد روى أَبُو مُحَمَّد الرامَهُرْمُزِي بِإِسْنَاد لَهُ أَن امْرَأَة وقفت على مجْلِس فِيهِ يحيى بن معِين وَأَبُو خَيْثَمَة وَخلف بن سَالم فِي جمَاعَة يتذاكرون الحَدِيث، فسألتهم عَن الْحَائِض تغسل الْمَوْتَى وَكَانَت غاسلة، فَلم يجبها أحد مِنْهُم، وَجعل ينظر بَعضهم إِلَى بعض، فَأقبل أَبُو ثَوْر فَقَالُوا لَهَا: عَلَيْك بِهَذَا الْمقبل، فألتفتت إِلَيْهِ فَسَأَلته، فَقَالَ: نعم، تغسل الْمَيِّت لحَدِيث عَائِشَة، فَإِذا فعلت هَذَا بِرَأْس الْحَيّ فرأس الْمَيِّت أولى فَقَالُوا: نعم، رَوَاهُ فلَان، وَحدثنَا فلَان. فَقَالَت الْمَرْأَة: فَأَيْنَ كُنْتُم إِلَى(4/288)
الْآن؟ .
وَأما الْمُبَاشرَة فَهِيَ إلصاق الْبشرَة بالبشرة. وَقد اتّفق الْعلمَاء على تَحْرِيم جماع الْحَائِض، فَأَما الِاسْتِمْتَاع بِمَا دون الْفرج فَقَالَ أَحْمد: يجوز، وَقَالَ أَكْثَرهم: لَا يجوز إِلَّا مَا فَوق الْإِزَار.
2495 - / 3197 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: " كَانَ إِذا أَوَى إِلَى فرَاشه كل لَيْلَة جمع كفيه ثمَّ نفث فيهمَا ".
يُقَال: أويت إِلَى منزلي بقصر الْألف، وآويت غَيْرِي بمدها، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يُوسُف: 69] أَي ضمه. والمأوى: الْمَكَان الَّذِي يأوي إِلَيْهِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: أَوَى وآوى بِمَعْنى وَاحِد ,
وَأما النفث فَهُوَ شَبيه بالنفخ بِلَا ريق. فَأَما التفل فَلَا يكون إِلَّا وَمَعَهُ شَيْء من ريق، وأنشدوا:
( ... ... ... ... ... . ... مَتى مَا يحس مِنْهَا مائح الْقَوْم يتفل)
يصف بِئْرا نزل فِيهَا المائح فذاق ماءها فكرهه فَرَمَاهُ من فِيهِ.
2496 - / 3198 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: أَن عقبَة بن أبي وَقاص عهد إِلَى أَخِيه سعد: أَن ابْن وليدة زَمعَة مني فاقبضه إِلَيْك، فَلَمَّا(4/289)
كَانَ عَام الْفَتْح أَخذه سعد فَقَالَ: ابْن أخي، عهد إِلَيّ فِيهِ. فَقَالَ عبد بن زَمعَة: أخي وَابْن وليدة أبي، ولد على فرَاشه، فتساوقا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ سعد: يَا رَسُول الله، ابْن أخي قد كَانَ عهد إِلَيّ فِيهِ أَنه ابْنه، انْظُر إِلَى شبهه، وَقَالَ عبد بن زَمعَة: أخي وَابْن وليدة أبي، ولد على فرَاشه، فَنظر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأى شبها بَينا بِعتبَة فَقَالَ: " هُوَ لَك يَا عبد بن زَمعَة، الْوَلَد للْفراش، وللعاهر الْحجر "، ثمَّ قَالَ لسودة بنت زَمعَة: " احتجبي مِنْهُ " لما رأى من شبهه بِعتبَة.
هَذَا حَدِيث يعبره أَكثر الْمُحدثين وَلَا يعتبرون رُؤْيَاهُ؛ لِأَن هَمهمْ فِي الحَدِيث إِسْنَاده لَا مُرَاده، وَنحن نكشف إِن شَاءَ الله إشكاله كَمَا أوضحنا أشكاله:
أعلم أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانَت تكون لَهُم إِمَاء يبغين، وَفِي ذَلِك نزل قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا} [النُّور: 33] وَكَانَت السَّادة تَأتي فِي خلال ذَلِك الْإِمَاء، فَإِذا أَتَت إِحْدَاهُنَّ بِولد فَرُبمَا يَدعِيهِ السَّيِّد، وَرُبمَا يَدعِيهِ الزَّانِي، فَإِن مَاتَ السَّيِّد وَلم يكن ادَّعَاهُ وَلَا أنكرهُ فَادَّعَاهُ ورثته لحق بِهِ، إِلَّا أَنه لَا يُشَارك مستلحقيه فِي ميراثهم إِلَّا أَن يستلحقه قبل الْقِسْمَة، وَإِن كَانَ السَّيِّد قد أنكرهُ لم يلْحق بِحَال.
وَكَانَ لزمعة بن قيس بن عبد شمس أبي سَوْدَة زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمة على مَا وَصفنَا من أَن عَلَيْهَا ضريبة وَأَنه يلم بهَا، فَظهر بهَا حمل كَانَ يظنّ أَنه من عتبَة بن أبي وَقاص أخي سعد، وَهلك عتبَة كَافِرًا، فعهد إِلَى اخيه سعد قبل مَوته فَقَالَ: استلحقوا الْحمل الَّذِي بِأمة زَمعَة، فَلَمَّا(4/290)
اسْتَلْحقهُ سعد خاصمه عبد بن زَمعَة، فَقَالَ سعد: هُوَ ابْن أخي، يُشِير إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ عبد: بل هُوَ أخي ولد على فرَاش أبي، يُشِير إِلَى مَا اسْتَقر عَلَيْهِ الحكم فِي الْإِسْلَام، فَقضى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد إبطالا لحكم الْجَاهِلِيَّة.
وَفِي قَوْله لسودة: " احتجبي مِنْهُ " دَلِيل على أَن من فجر بِامْرَأَة حرمت على أَوْلَاده وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رأى الشبة بِعتبَة علم أَنه من مَائه، فأجراه فِي التَّحْرِيم مجْرى النّسَب فَأمرهَا بالاحتجاب مِنْهُ. وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا تحرم عَلَيْهِم، وحملوا قَوْله: " احتجبي مِنْهُ " على الإستحباب والتنزه.
وَقَوله: " الْوَلَد للْفراش " أَي لصَاحب الْفراش. وَهَذَا يدل على أَن الْأمة فرَاش كَالْحرَّةِ.
وَقَوله: " وللعاهر الْحجر " يَعْنِي الخيبة، تَقول الْعَرَب للرجل إِذا آيسته من شَيْء: مَا فِي يدك غير الْحجر، وَمَا فِي كفك إِلَّا التُّرَاب.
وَلَيْسَ المُرَاد بِالْحجرِ هَاهُنَا الرَّجْم، إِذْ لَيْسَ كل زَان يرْجم. وَقد فسرنا هَذَا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
2497 - / 3199 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: أَن أم حَبِيبَة بنت جحش استحيضت سبع سِنِين، فاستفتت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " إِن هَذِه لَيست بالحيضة، وَلَكِن هَذَا عرق ".
اعْلَم أَن الْمُسْتَحَاضَة ترجع إِلَى عَادَتهَا فِي الْحيض لتفرق بَين الْحَائِض(4/291)
والاستحاضة، فَإِن لم يكن لَهَا عَادَة رجعت إِلَى تمييزها، فَكَانَ حَيْضهَا أَيَّام الدَّم الْأسود، واستحاضتها أَيَّام الدَّم الْأَحْمَر.
فَإِن لم يكن لَهَا عَادَة وَلَا تَمْيِيز فَمَا مِقْدَار مَا تجلسه للْحيض؟ فِيهِ عَن أَحْمد أَربع رِوَايَات: إِحْدَاهُنَّ: تجْلِس أقل الْحيض. وَالثَّانيَِة: تجْلِس غَالب الْحيض، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ كالروايتين. وَالثَّالِثَة: أَكثر الْحيض، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَعَن مَالك مثل هَذِه الرِّوَايَة الَّتِي قبلهَا. وَالرَّابِعَة: تجْلِس كعادة نسائها مثل أمهَا وَأُخْتهَا وخالتها.
فَإِن كَانَت لَهَا عَادَة فنسيت وَقتهَا وعددها فَهَذِهِ تسمى الحيرى، وَفِيمَا تجلسه رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أقل الْحيض، وَالثَّانيَِة: غَالب الْحيض، وَبَعض أَصْحَابنَا يَقُول: هِيَ بِمَنْزِلَة الَّتِي لَا عَادَة لَهَا وَلَا تَمْيِيز. وَقد ذكرنَا فِي تِلْكَ أَربع رِوَايَات.
فَإِذا انْقَضى الزَّمَان الَّذِي تعتده الْمُسْتَحَاضَة حيضا اغْتَسَلت، وَفِي بَقِيَّة الزَّمَان تغسل فرجهَا وتشده وتتوضأ لوقت كل صَلَاة، فَتُصَلِّي مَا شَاءَت من الْفَرَائِض والنوافل، فطهارتها مقدرَة بِوَقْت الصَّلَاة، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ الشَّافِعِي: تتوضأ لكل صَلَاة مَفْرُوضَة. فَالْخِلَاف يَقع مَعَه فِي قَضَاء الْفَوَائِت وَالْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقت إِحْدَاهمَا، فَعنده لَا يجوز، وَعند البَاقِينَ يجوز.
وَأما من روى فِي هَذَا الحَدِيث أَنَّهَا كَانَت تَغْتَسِل لكل صَلَاة، فقد قَالَ اللَّيْث: لم يذكر ابْن شهَاب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرهَا أَن تَغْتَسِل عِنْد كل صَلَاة، وَلكنه شَيْء فعلته هِيَ. وَقد روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث الزُّهْرِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرهَا بِالْغسْلِ لكل صَلَاة. وَهَذَا مَحْمُول(4/292)
على الِاسْتِحْبَاب لَا أَنه يجب.
وَأما قَوْله: " هَذَا عرق " فَمَعْنَاه دم عرق. وَإِنَّمَا كَانَ الْمَعْنى هَذَا لِأَن الدَّم لَيْسَ بعرق، وَإِنَّمَا حذف الْمُضَاف توسعا فِي الْكَلَام كَقَوْلِه تَعَالَى {وأشربوا فِي قُلُوبهم الْعجل} [الْبَقَرَة: 93] أَي حب الْعجل. وَقد روى هَذَا الحَدِيث التِّرْمِذِيّ فَقَالَ فِيهِ: " إِنَّمَا ذَلِك عرق، فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم، وتوضئي لكل صَلَاة ".
وَقد أَفَادَ هَذَا أَن خُرُوج النَّجَاسَات من غير السَّبِيلَيْنِ ينْقض الْوضُوء لِأَنَّهُ علل بِأَنَّهُ دم عرق، وعلق عَلَيْهِ الْوضُوء.
وَدم الفصاد دم عرق، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأحمد بن حَنْبَل، إِلَّا أَن أَبَا حنيفَة يسْتَثْنى الْقَيْء، وَيَقُول: إِن كثر نقض.
وَلأَحْمَد فِي يسير النَّجَاسَات رِوَايَتَانِ، فَأَما الْفَاحِش فينقض، رِوَايَة وَاحِدَة. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَنهُ فِي الْفَاحِش فَقَالَ فِي رِوَايَة الْأَثْرَم: لَا أحده، مَا كَانَ عنْدك أَنه فَاحش.
وَاعْلَم أَن تعرف الْفَاحِش على هَذَا يُوجد من أوساط النَّاس، فَلَا يعْتَبر بالمتبذلين فِي الأنجاس كالجزارين، وَلَا بالمتقززين كالموسوسين. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: أَن الْفَاحِش شبر فِي شبر، نقلهَا ابْن مَنْصُور عَن أَحْمد. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد: ينْقض خُرُوج النَّجَاسَات من غير السَّبِيلَيْنِ بِحَال. وَزَاد مَالك فَقَالَ: وَلَا ينْقض دم الِاسْتِحَاضَة، وَلَا كل مَا يخرج من الْفرج نَادرا كالدود. فالحجة على الشَّافِعِي أَنه علل بِأَنَّهُ دم عرق،(4/293)
وعَلى مَالك أَنه نَص على انْتِقَاض الطَّهَارَة بِدَم الِاسْتِحَاضَة فَقَالَ: " توضئي لكل صَلَاة ".
فَإِن قَالَ الْخصم: فَمَا علمْتُم وَلَا أَبُو حنيفَة بِهَذَا الحَدِيث، لأنكم فهمتم من إِطْلَاقه شَيْئا ثمَّ خصصتم. فَالْجَوَاب: أما بِحَق فَلَا تَخْصِيص على رِوَايَة، فَيَنْقَطِع كلامكم، وَإِن نصرنَا الرِّوَايَة الْأُخْرَى فَذَاك لأدلة خصصت.
وَأما المركن فَهُوَ شَبيه بالجفنة الْكَبِيرَة.
2498 - / 3200 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاس عَن الْكُهَّان، فَقَالَ: " لَيْسَ بِشَيْء ".
أَي لَيْسَ قَوْلهم بِشَيْء يعْتَمد عَلَيْهِ، وَالْعرب تَقول لمن عمل شَيْئا لم يحكمه: مَا عملت شَيْئا.
والاختطاف: الاستلاب بِسُرْعَة.
وَقَوله: " فيقرها " الْيَاء مَضْمُومَة. وَقَوله: " قر الدَّجَاجَة " أَي كصوتها إِذا قطعته. يُقَال: قرت الدَّجَاجَة تقر قرا. فَإِن رَددته قيل: قرقرت قرقرة. والقر: ترديدك الْكَلَام فِي أذن الأطروش حَتَّى يفهم، كَمَا يسْتَخْرج مَا فِي القارورة شَيْئا إِذا أفرغت.
وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فَقَالَ: قر الزجاجة بالزاي. فَكَأَنَّهُ اعْتَبرهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي فِيهِ، كَمَا تقر القارورة، وَيكون قر الزجاجة مَعْنَاهُ صَوتهَا إِذا أفرغ مَا فِيهَا، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: صحف الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي هَذَا، وَالصَّوَاب الدَّجَاجَة بِالدَّال.(4/294)
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الكهنة قوم لَهُم أذهان حادة ونفوس شريرة، وطباع نارية، وَألفتُهُم الشَّيَاطِين لما بَينهم من التناسب فِي هَذِه الْأُمُور، وساعدتهم بِمَا فِي وسعهَا من الْقُدْرَة.
2499 - / 3201 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: حَدِيث أم زرع وَالَّذِي فِي الصَّحِيح: قَالَت عَائِشَة: جلس إِحْدَى عشرَة امْرَأَة ... ثمَّ قَالَت فِي آخر الحَدِيث: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كنت لَك كَأبي زرع لأم زرع ".
وَقد روى هَذَا الحَدِيث سعيد بن سَلمَة الْمَدِينِيّ عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَخِيه عَن أَبِيه عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كنت لَك كَأبي زرع لأم زرع " ثمَّ أنشأ يحدث بِحَدِيث أم زرع وصواحبها، قَالَ: اجْتمع(4/295)
إِحْدَى عشرَة امْرَأَة ... وَهَذَا مَحْمُول على أَن الْقَائِل: ثمَّ أنشأ يحدث هُوَ هِشَام بن عُرْوَة يَحْكِي عَن أَبِيه أَنه أنشأ يحدث. فدرج الرَّاوِي ذَلِك وَصَارَ كَأَنَّهُ إِخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِلَّا فَالصَّحِيح أَنه من كَلَام عَائِشَة، وَلَيْسَ فِيهِ من قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا: " كنت لَك كَأبي زرع لأم زرع ".
وَأما قَول الأولى: زَوجي لحم جمل غث. الْمَشْهُور فِي الرِّوَايَة خفض الغث، ويروى بِالرَّفْع والتنوين على الصّفة للحم، قَالَ لنا شَيخنَا ابْن نَاصِر: الْجيد بِالرَّفْع، وَكَذَا قرأته على أبي زَكَرِيَّا، وَقَالَ: رَأَيْته بِخَط أبي الْقَاسِم الرقي بِالرَّفْع وفوقه مَكْتُوب: رفع. والغث: المهزول.
على رَأس جبل: تصف قلَّة خَيره، وَبعده مَعَ الْقلَّة، كالشيء الحقير فِي قلَّة الْجَبَل الصعب، فَلَا ينَال إِلَّا بالمشقة فِي الصعُود إِلَيْهِ والانحدار بِهِ، يبين ذَلِك قَوْلهَا: لَا سهل فيرتقى - تَعْنِي الْجَبَل - وَلَا سمين فَينْتَقل: أَي لهزاله لَا تنتقله النَّاس إِلَى مَنَازِلهمْ للْأَكْل، بل يرغبون عَنهُ وَلَا يتكلفون الْمَشَقَّة فِيهِ.
وَمن روى: ينتقى، أَرَادَ لَيْسَ لَهُ نقي، وَهُوَ المخ، وَقلة المخ دَلِيل على الهزال. يُقَال: نقوت الْعظم ونقيته وانتقيته: إِذا استخرجت مخه، وَمِنْه قَوْلهم: نَاقَة منقية: أَي سَمِينَة، قَالَ الْأَعْشَى:
(حاموا على أضيافهم فشووا لَهُم ... من لحم منقية وَمن أكباد)
وَهَذِه تصف زَوجهَا بِسوء الْخلق والكنز مَعَ الْبُخْل.(4/296)
وَقَوله الثَّانِيَة: لَا أبث خَبره، إِنِّي أَخَاف أَلا أذره. فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِنِّي أَخَاف أَلا أبث خَبره من طوله واتصال مَا أصف مِنْهُ، قَالَه يَعْقُوب بن السّكيت.
وَالثَّانِي: إِنِّي أَخَاف أَلا أقدر على ترك زَوجي لعلقي عِنْده وأولادي مِنْهُ، قَالَه أَحْمد بن عبيد النَّحْوِيّ.
وَقَوْلها: إِن أذكرهُ أذكر عُجَره وبجره. قَالَ أَبُو عبيد: العجر: أَن يتعقد العصب وَالْعُرُوق حَتَّى ترَاهَا ناتئة من الْجَسَد. والبجر نَحْوهَا إِلَّا أَنَّهَا لَا تكون إِلَّا فِي الْبَطن، وَاحِدهَا بجرة، وَهُوَ كالانتفاخ، يُقَال: رجل أبجر: إِذا كَانَ عَظِيم الْبَطن أَو ناتئ السُّرَّة، وَالْجمع بجر، وَمِنْه قَول عَليّ ابْن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم الْجمل: أَشْكُو إِلَى الله عجري وبجري. أَي همومي وأحزاني، وأرادت بالبجر والعجر عيوبه الْبَاطِنَة. وَقَالَ ثَعْلَب: العجر من الظّهْر، والبجر من الْبَطن، وَالْمعْنَى: إِن ذكرته ذكرت عيوبه الَّتِي أشتكيها.
وَقَول الثَّالِثَة: زَوجي العشنق. قَالَ الْأَصْمَعِي: العشنق: الطَّوِيل، وَهَذِه الْمَرْأَة تذم زَوجهَا، وتعني أَنه طَوِيل لَيْسَ عِنْده أَكثر من طوله بِلَا مَنْفَعَة، فَهُوَ منظر بِلَا مخبر، فَإِن ذكرت مَا فِيهِ طَلقنِي، وَإِن سكت(4/297)
تركني معلقَة، لَا أَيّمَا وَلَا ذَات بعل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فتذروها كالمعلقة} [النِّسَاء: 129] .
وَقَوله الرَّابِعَة: زَوجي كليل تهَامَة. ضربت ذَلِك مثلا، أَي لَيْسَ عِنْده أَذَى وَلَا مَكْرُوه، لِأَن الْحر وَالْبرد كِلَاهُمَا فِيهِ أَذَى إِذا اشْتَدَّ.
وَقَوْلها: وَلَا مَخَافَة. أَي لَيْسَ عِنْده غائلة وَلَا شَرّ أخافه. وَلَا سآمة: أَي لَا يسأمني فيمل صحبتي. وَأَبُو عبيد يرويهِ: لَا حر وَلَا قر بِالرَّفْع والتنوين، وَكَذَلِكَ بَاقِي الْكَلِمَات.
وَقَول الْخَامِسَة: زَوجي إِن دخل فَهد. تصفه بِكَثْرَة النّوم والغفلة فِي الْمنزل، على جِهَة الْمَدْح، لِأَن الفهد مَوْصُوف بِكَثْرَة النّوم، يُقَال فِي الْمثل: " أنوم من فَهد " وأرادت أَنه لَا يتفقد مَا يذهب من مَاله وَلَا يلْتَفت إِلَى معايب الْبَيْت، وَيبين هَذَا الْمَعْنى قَوْلهَا: وَلَا يسْأَل عَمَّا عهد تَعْنِي عَمَّا كَانَ يعهده عِنْدهَا. وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس: إِن دخل فَهد: أَي وثب كَمَا يثب الفهد، فَكَأَنَّهَا مدحت بعض أَحْوَاله وذمت بَعْضًا.
وَقَوْلها: وَإِن خرج أَسد. أَسد واستأسد بِمَعْنى وَاحِد، وَالْمعْنَى أَنَّهَا تصفه بالشجاعة إِذا خرج إِلَى الْبَأْس: أَي إِنَّه يقوم فِي الحروب مقَام الْأسد فِي شجاعته وحمايته.(4/298)
وَقَول السَّادِسَة: زَوجي إِن أكل لف. اللف فِي الْأكل: الْإِكْثَار من الْمطعم مَعَ التَّخْلِيط فِي صنوفه. وَقَوْلها: وَإِن شرب اشتف. والاشتفاف فِي الشّرْب: استقصاء مَا فِي الْإِنَاء، وَإِنَّمَا أَخذ من الشفافة، وَهِي الْبَقِيَّة تبقى فِي الْإِنَاء من الشَّرَاب، فَإِذا شربهَا قيل: اشتفها وتشافها.
وَقَوْلها: وَلَا يولج الْكَفّ. قَالَ أَبُو عبيد: أَحْسبهُ كَانَ بجسدها دَاء أَو عيب تكتئب بِهِ؛ لِأَن البث هُوَ الْحزن، فَكَانَ لَا يدْخل يَده فِي ثوبها ليمس ذَلِك الْعَيْب فَيشق عَلَيْهَا. تصفه بِالْكَرمِ.
قلت: وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: أَنه لَا يمس الْعَوْرَة، لِأَنَّهُ رُبمَا شقّ هَذَا على الْمَرْأَة فِي بعض الْأَوْقَات وأحزنها، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيث " حَتَّى تستحد المغيبة ".
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: قد ذمَّته بلفظين فَكيف تمدحه بالثالث؟ وَإِنَّمَا أَرَادَت أَنه إِذا رقد التف نَاحيَة وَلم يَمَسهَا كَمَا يمس الرجل زَوجته فَيعلم البث، وَلَا بَث هُنَاكَ غير حب الْمَرْأَة دنو زَوجهَا مِنْهَا. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: يجوز أَن تمدحه بِشَيْء وتذمه بِشَيْء، فَإِنَّهُنَّ تعاهدن أَلا يكتمن شَيْئا. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: مَعْنَاهُ لَا يضاجعني فَيعلم مَا عِنْدِي لَهُ من الْحبّ لقُرْبه، وَلَا بَث هُنَاكَ إِلَّا مَا ينطوي عَلَيْهِ من الشَّهْوَة لقرب زَوجهَا مِنْهَا. وَقَالَ أَحْمد ابْن عبيد تَفْسِيره: وَلَا يدْخل يَده فِي أموري فَيعلم مِنْهَا مَا أكرهه فيزيله عني.(4/299)
وَقَول السَّابِعَة: عياياء أَو غياياء. الصَّحِيح بِالْعينِ غير الْمُعْجَمَة، وَهُوَ الْعنين الَّذِي يعييه مباضعة النِّسَاء، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْإِبِل الَّذِي لَا يضْرب وَلَا يلقح. والطباقاء: الغبي الأحمق الفدم. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: هُوَ المطبق عَلَيْهِ حمقا. وَقَالَ أَبُو عُثْمَان الجاحظ فِي قَوْلهَا: عياياء طباقاء، قَالَ: خبرت عَن جَهله بإتيان النِّسَاء وعيه وعجزه، وَأَنه إِذا سقط عَلَيْهَا انطبق وَالنِّسَاء يُكْرهن وُقُوع صُدُور الرِّجَال على صدورهن، وَلذَلِك قَالَت: عياياء طباقاء.
وَقَوْلها: كل دَاء لَهُ دَاء. أَي كل شَيْء من أدواء النَّاس فَهُوَ فِيهِ.
وَقَوْلها: شجك أَو فلك. الشج: شج الرَّأْس: وَهُوَ شقَّه. والفل نَحْو الشج، وَهُوَ تَأْثِير فِي الْجَسَد، وَمِنْه فلول السَّيْف: وَهُوَ انثلام فِيهِ وتأثير فِي حَده. وأصل الفل: الْكسر. والمفلول: المكسور الْمَهْزُوم. وَقَالَ عمر بن أبي ربيعَة:
(وشتيتا كأقحوان عذَابا ... لم يُغَادر بهَا الزَّمَان فلولا)
يَعْنِي ثغر امْرَأَة: وَقيل شجك: أَي شج رَأسك أَو بعض جوارحك. أَو فلك: أَي كسر أسنانك. أَو جمع كلالك: أَي جمع الْأَمريْنِ عَلَيْك.
وَقَول الثَّامِنَة: زَوجي الرّيح ريح زرنب: وَهُوَ نوع من أَنْوَاع الطّيب مَعْرُوف، قَالَ يَعْقُوب بن السّكيت: الزرنب: شجر طيب الرّيح، وَأنْشد:(4/300)
(يَا بِأبي أَنْت وفوك الأشنب ... )
(كَأَنَّمَا ذَر عَلَيْهِ زرنب ... )
(أَو أقحوان فَهُوَ - عمري - أطيب ... )
وَيحْتَمل قَوْلهَا ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: ريح جسده وثيابه لِكَثْرَة تطيبه وَالثَّانِي: ريح الثَّنَاء عَلَيْهِ بمكارمه. وَالثَّالِث: حسن عشرته لَهَا.
وَقَوْلها: الْمس مس أرنب. وَصفته بِحسن الْخلق ولين الْجَانِب، تَشْبِيها بِمَسّ الأرنب ولين وبرها.
وَقَول التَّاسِعَة: زَوجي رفيع الْعِمَاد. تصفه بالشرف وعلو الْقدر. وأصل الْعِمَاد عماد الْبَيْت، ثمَّ يستعار لعلو المناقب.
وَقَوْلها: طَوِيل النجاد. النجاد: حمائل السَّيْف، فَهِيَ تصفه بطول الْقَامَة، وأنشدوا:
(قصرت حمائله علهي فقلصت ... وَلَقَد تحفظ قينها فأطالها)
وَقَوْلها: عَظِيم الرماد. يحْتَمل شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن تكون وَصفته بِكَثْرَة الضِّيَافَة، فَإِنَّهُ إِذا نحر وَذبح عظمت ناره فيكثر الرماد. وَالثَّانِي: أَن يكون وَصفا بإيقاد النَّار ليستدل بهَا الضَّيْف، وَهَذِه كَانَت عَادَة للْعَرَب، قَالَ الشَّاعِر:(4/301)
(مَتى تأته تعشو إِلَى ضوء ناره ... تَجِد خير نَار عِنْدهَا خير موقد)
وَقَوْلها: قريب الْبَيْت من الناد. النادي: الْمجْلس، وَيُقَال لَهُ النادي والندي، قَالَ الشَّاعِر:
(كَانُوا جمالا للْجَمِيع وموئلا ... للخائفين وسَادَة فِي النادي)
وَقَالَ الآخر:
(ودعيت فِي أولى الندي وَلم ... ينظر إِلَيّ بأعين خزر)
أَرَادَ أَنه ينزل بَين ظهراني النَّاس ليعلموا مَكَانَهُ فتنزل بِهِ الأضياف. قَالَ زُهَيْر:
(يسط الْبيُوت لكَي يكون مَظَنَّة ... من حَيْثُ تُوضَع جَفْنَة المسترفد)
وَمعنى يسط: يتوسط. المظنة: الْمعلم. قَالَ الشَّاعِر:
(بَيْضَاء خَالِصَة الْبيَاض كَأَنَّهَا ... قمر توَسط ليل صيف مبرد)
(موسومة بالْحسنِ ذَات حواسد ... إِن الحسان مَظَنَّة للحسد)
وَقَول الْعَاشِرَة: زَوجي مَالك، وَمَا مَالك. هَذَا تَعْظِيم لشأنه كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأَصْحَاب الْيَمين مَا أَصْحَاب الْيَمين} [الْوَاقِعَة: 27] .
وَقَوْلها: مَالك خير من ذَلِك. أَي خير مِمَّا أصفه بِهِ.
وَقَوْلها: لَهُ إبل كثيرات الْمُبَارك، قليلات المسارح. فِي معنى هَذَا(4/302)
الْكَلَام ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه أَكثر بروكها وَأَقل تسريحها مَخَافَة أَن ينزل بِهِ ضيف وَهِي غَائِبَة عَنهُ , ذكره أَبُو عبيد. وَالثَّانِي: أَنَّهَا إِذا بَركت كَانَت كَثِيرَة لوفور عَددهَا، وَإِذا سرحت كَانَت قَليلَة لِكَثْرَة مَا نحر من أجل الضيفان، قَالَه إِسْمَاعِيل بن أبي أويس. وَالثَّالِث: أَنَّهَا كَانَت إِذا بَركت كَانَت كَثِيرَة لكثيرة من يَنْضَم إِلَيْهَا مِمَّن يلْتَمس لَحمهَا ولبنها وَإِذا سرحت كَانَت قَليلَة لقلَّة من يَنْضَم إِلَيْهَا من الضيفان وَالْعَافِينَ، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي.
وَقَوْلها: إِذا سمعن صَوت المزهر. المزهر: الْعود الَّذِي يضْرب بِهِ، قَالَ الْأَعْشَى:
(جَالس حوله الندامي فَمَا ... يُؤْتى بمزهر مندوف)
يُرِيد: أَن من عَادَته أَن يَأْتِي أضيافه بالمعازف والملاهي إِكْرَاما للأضياف.
وَقَول الْحَادِيَة عشرَة: أنَاس من حلي أُذُنِي. النوس: الْحَرَكَة من كل شَيْء، يُقَال: نَاس ينوس نوسا. تُرِيدُ أَنه حلاني قرطة وشنوفا تنوس بأذني، والنوس للحلي لَكِنَّهَا جعلته للأذن على وَجه التَّجَوُّز، كَمَا تَقول: أدخلت الْخَاتم فِي إصبعي.
وَقَوْلها: وملأ من شَحم عضدي. أَرَادَت سمن بدنهَا كُله بِكَثْرَة(4/303)
إحسانه إِلَيْهَا، فاقتصرت على العضدين لِأَنَّهُمَا إِذا سمنا سمن سَائِر الْبدن.
وَقَوْلها: فبجحني فبجحت إِلَيّ نَفسِي. وَرَوَاهُ أَبُو عبيد: بجحني بِالتَّشْدِيدِ فبجحت بِضَم التَّاء وَفتح الْجِيم وَكسرهَا مَعًا، وأرادت: سرني بتوالي إحسانه فسرى السرُور فِي نَفسِي فَبَان موقعه مني، يُقَال: بجح وبجح إِذا فَرح، قَالَ الرَّاعِي:
(وَمَا الْفقر فِي أَرض الْعَشِيرَة ساقنا ... إِلَيْك وَلَكنَّا بقرباك نبجح)
أَي: نفرح.
وَقَوْلها: وجدني فِي أهل غنيمَة بشق، قد ذكره أَبُو عبيد بِفَتْح الشين وَأَصْحَاب الحَدِيث يكسرون الشين، وَهُوَ اسْم مَوضِع. وَقَالَهُ ابْن جني بِالْكَسْرِ. وَقَالَ غَيرهمَا من الْعلمَاء: الشق: الْجهد. وأرادت أَن أَهلهَا كَانُوا أَصْحَاب غنم لَا أَصْحَاب إبل وَلَا خيل.
فجعلني فِي أهل صَهِيل وأطيط. والصهيل: أصوات الْخَيل. والأطيط أصوات الْإِبِل. وَقَالَ ابْن السّكيت: الأطيط: زفير الْإِبِل من البطنة. وَقَالَ أَحْمد بن عبيد: الأطيط ثَلَاثَة مَوَاضِع، يُقَال: لَا أُكَلِّمك مَا أطت الْإِبِل: تَعْنِي مَا حنت إِلَى أَوْلَادهَا وأوطانها، وَيُقَال: قد أطت الْإِبِل برحالها وَيُقَال: قد أطت الْإِبِل: إِذا شربت فانبسطت جلودها وَسمع لذَلِك(4/304)
صَوت.
والدائس: الَّذِي يدوس الطَّعَام بعد حَصَاده، والمنقي: الَّذِي ينقيه وينظفه. وَقَالَ إِسْمَاعِيل بن أويس: ومنق بِكَسْر النُّون، وَفَسرهُ بنقيق الْمَوَاشِي والأنعام. وعنت بِهَذَا الْكَلَام أَنهم أهل زرع، فَأَرَادَتْ أَنه نقلني عَن د قوم لَا قدر لَهُم وَلَا مَال، إِلَى من لَهُ المَال وَالْقدر.
وَقَوْلها: فَعنده أَقُول فَلَا أقبح: أَي يقبل قولي وَلَا يرد. وأشرب فأتقمح أَي أروى حَتَّى أمج الشَّرَاب من كَثْرَة الرّيّ، يُقَال: نَاقَة قامح، وإبل قماح، وَإِنَّمَا ترفع الْإِبِل رءوسها بعد انْتِهَاء شربهَا، قَالَ عز وَجل: {فهم مقمحون} [يس: 8] .
وَمن رَوَاهُ: فأتقنح بالنُّون فَمَعْنَاه الزِّيَادَة على الشّرْب بعد الرّيّ، يُقَال: قنحت من الشَّرَاب أقنح قنحا: إِذا شربت بعد الرّيّ. وَقَالَ يَعْقُوب ابْن السّكيت أتقنح مَعْنَاهُ أقطع الشّرْب وأشرب قَلِيلا قَلِيلا. وَقَالَ أَبُو عبيد: لَا أعرف أتقنح بالنُّون وَلَا أرى الْمَحْفُوظ إِلَّا بِالْمِيم.
وَقَوْلها: فأرقد فأتصبح. يَعْنِي أَنَّهَا تستوفي من نومها وَلَا يكرهها على عمل تحْتَاج فِيهِ إِلَى الانتباه.
وَقَوله: عكومها رداح. العكوم جمع عكم: وَهِي الْأَحْمَال والأعدال الَّتِي فِيهَا صنوف الْأَطْعِمَة. وَرُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا خرج مَعَ رَفِيق لَهُ فَسرق شَيْء من عكمه فَرفع عكم رَفِيقه فَإِذا هُوَ ثقيل، فَأَنْشد:(4/305)
(عكم تعشى بعض أعكام الْقَوْم ... لم أر عكما سَارِقا قبل الْيَوْم)
والرداح: الْعَظِيمَة الْكَثِيرَة الحشو. وَامْرَأَة رداح: عَظِيمَة الكفل، وَمِنْه قيل للكتيبة الْعَظِيمَة رداح، قَالَ لبيد:
(وأبنا ملاعب الرماح ... ومدره الكتيبة الرداح)
والتأبين: الثَّنَاء على الْمَيِّت.
وَقَوْلها: وبيتها فساح: أَي وَاسع.
وَقَوْلها: ومضجعه كمسل شطبة. أصل الشطبة مَا شطب من جريد النّخل وَهُوَ سعفه، وَذَلِكَ أَن يشقق مِنْهَا قضبان دقاق، فشبهته فِي خفَّة لَحْمه بذلك.
وَقَوْلها: ويشبعه ذِرَاع الجفرة: وَهِي الْأُنْثَى من ولد الْمعز: وَالذكر جفر. وَإِذا أَتَى على ولد العنز أَرْبَعَة أشهر ففصل عَن أمه وَأخذ فِي الرَّعْي قيل لَهُ جفر، وَالْمرَاد أَنَّهَا مدحته بقلة لَحْمه وَقلة أكله، وهما ممدوحان عِنْد الْعَرَب، قَالَ الشَّاعِر:
(تكفيه حزة فلذ إِن ألم بهَا ... من الشواء ويروي شربه الْغمر)
وَقَوْلها: وملء كسائها: تَعْنِي أَنَّهَا ذَات لحم.
وَقَوْلها: وصفر ردائها. وَالْمعْنَى أَنَّهَا ضامرة الْبَطن، فَكَأَن رداءها(4/306)
صفر: أَي خَال لشدَّة ضمور بَطنهَا. والرداء يَنْتَهِي إِلَى الْبَطن.
وَقَوْلها: وغيظ جارتها: أَي لما فِيهَا من الْخِصَال الَّتِي تفوق بهَا الْجِيرَان.
وَقَوْلها: وعقر جارتها: أَي هلاكها لمَكَان الْحَسَد.
وَقَوْلها: لَا تبث حديثنا تبثيثا: أَي لَا تشيعه وتنمه. يُقَال: بثثتك مَا عِنْدِي وأبثثتك: إِذا أظهرته لَك، قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله} [يُوسُف: 86] وَقَالَ ذُو الرمة:
(وقفت على ربع لمية نَاقَتي ... فَمَا زلت أبْكِي عِنْده وأخاطبه)
(وأسقيه حَتَّى كَاد مِمَّا أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه)
ويروى: لَا تنث حديثنا تنثيثا بالنُّون، وَهُوَ فِي معنى الأول، يُقَال: بَث الحَدِيث ونثه: إِذا أفشاه. وأرادت أَنَّهَا مَأْمُونَة على الْأَسْرَار.
وَقَوْلها: وَلَا تنقث ميرتنا تنقيثا. وَرَوَاهُ أَبُو عبيد: وَلَا تنقل ميرتنا تنقيثا. وأصل التنقيث الْإِسْرَاع فِي السّير، يُقَال: خرج يتنقث فِي سيره: إِذا أسْرع. والميرة: مَا يمتار من مَوضِع إِلَى مَوضِع. وأرادت أَنَّهَا أمينة على حفظ طعامنا لَا تفرط فِيهِ.
وَقَوْلها: وَلَا تملأ بيتنا تعشيشا. قد رويت بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالغين الْمُعْجَمَة؛ فَمن روى بِالْعينِ الْمُهْملَة فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: التعشيش مَأْخُوذ من قَوْلك عشش الْخبز: إِذا تكرج وَفَسَد، تُرِيدُ أَنَّهَا تحسن مُرَاعَاة الطَّعَام(4/307)
المخبوز وتتعهده بِأَن يطعم مِنْهُ أَولا فأولا طريا، وَلَا تغفل عَنهُ فيتكرج وَيفْسد.
وَأما التغشيش بالغين الْمُعْجَمَة فَقَالَ يَعْقُوب بن السّكيت: التغشيش: النميمة وَمَا يشاكلها.
وَقَوْلها: خرج أَبُو زرع والأوطاب تمخض، الأوطاب جمع وطب: وَهِي أسقية اللَّبن. وتمخض بِمَعْنى تحرّك ليستخرج زبدها.
وَقَوْلها: مَعهَا ولدان لَهَا كالفهدين يلعبان من تَحت خصرها برمانتين؛ قَالَ إِسْمَاعِيل بن أبي أويس: عَنى بالرمانتين ثدييها. وَقَالَ أَبُو عبيد: لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا عَظِيمَة الكفل، فَإِذا استلقت صَارَت بَينهَا وَبَين الأَرْض فجوة يجْرِي فِيهَا الرُّمَّان.
قَوْلهَا: فنكحت بعده رجلا سريا؛ أَي لَهُ سرو وجلالة. وَقيل: السرو: سخاء فِي مُرُوءَة.
ركب شريا: وَهُوَ الْفرس الَّذِي يستشري فِي سيره: أَي يلج ويمضي بِلَا قنوت، وَيُقَال: شري فِي الْغَضَب: إِذا احتد فِيهِ. وَقَالَ يَعْقُوب بن السّكيت: ركب شريا: أَي ركب مركبا فائقا خيارا.
وَقَوْلها: وَأخذ خطيا. الخطي: رمح ينْسب إِلَى الْخط: وَهِي قَرْيَة ترفأ إِلَيْهَا السفن تحمل الرماح من أَرض الْهِنْد، قَالَ زُهَيْر:
(وَهل ينْبت الخطي إِلَّا وشيجه ... وتغرس إِلَّا فِي منابتها النّخل)(4/308)
وَيُقَال: إِن الرماح على جَانب الْبَحْر كالخط بَين البدو وَالْبَحْر، فَقيل للرمح خطي لذَلِك.
وَقَوْلها: وأراح عَليّ نعما ثريا. النعم: الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، فَيُقَال لهَذِهِ الْأَشْيَاء إِذا اجْتمعت نعم، وَيُقَال لِلْإِبِلِ وَحدهَا نعم، وَلَا يُقَال للبقر وَالْغنم إِذا لم يكن مَعهَا إبل نعم، وَإِنَّمَا يُقَال أنعام للأجناس الثَّلَاثَة مجتمعة ومتفرقة. والثري: الْكثير، من قَوْلهم: ثرا بَنو فلَان بني فلَان: إِذا غلبوهم بِالْكَثْرَةِ. والثراء: كَثْرَة المَال، وَأنْشد ثَعْلَب:
(أماوي مَا يُغني الثراء عَن الْفَتى ... إِذا حشرجت يَوْمًا وضاق بهَا الصَّدْر)
وَقَوْلها: وَأَعْطَانِي من كل رَائِحَة: أَي من كل مَا يروح عَلَيْهِ من أَصْنَاف مَاله، زوجا: أَي نَصِيبا مضاعفا؛ لِأَن الزَّوْج مَا كَانَ لَهُ قرين من جنسه، وَلَا يُوقع الزَّوْج على الِاثْنَيْنِ أبدا، قَالَ الله تَعَالَى: {وَأَنه خلق الزَّوْجَيْنِ الذّكر وَالْأُنْثَى} [النَّجْم: 45] .
وَمن روى: ذابحة، فَالْمُرَاد بِهِ المذبوحة، وَكثير مَا يَأْتِي " فَاعل " بِمَعْنى " مفعول " كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَهُوَ فِي عيشة راضية} [الحاقة: 21] أَي مرضية، فَيكون الْمَعْنى: أَعْطَانِي من كل شَيْء يذبح.
2500 - / 3202 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: قَالَ الْحَارِث بن هِشَام: يَا رَسُول الله! كَيفَ يَأْتِيك الْوَحْي؟ قَالَ: " أَحْيَانًا يأتيني فِي مثل صلصلة الجرس ".(4/309)
الصلصلة: الصَّوْت. إِنَّمَا شبهه بالجرس لِأَنَّهُ صَوت متدارك لَا يفهمهُ فِي أول وهلة حَتَّى يتثبت، وَلذَلِك قَالَ: و " هُوَ أشده عَليّ ".
وَقَوله: " فَيفْصم عني " أَي يقْلع عني وينجلي مَا يَغْشَانِي مِنْهُ، وَأَصله من الفصم: وَهُوَ الْقطع.
وَقَوْلها: وَإِن جَبينه. للْإنْسَان جبينان والجبهة بَينهمَا. وَقد سبق هَذَا.
وَقَوله: ليتفصد: بِمَعْنى يسيل عرقا كَمَا يفصد الْعرق.
وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلقى مشقة شَدِيدَة لثقل مَا يلقى عَلَيْهِ من الْقُرْآن، فيعتريه مَا يعتري المحموم، وَكَانَ ذَلِك من هَيْبَة الْكَلَام وتعظيم الْمُتَكَلّم، وَجمع الْفَهم للوعي، وَخَوف التحريف لنَقص الْعُقُول، من غير قصد. وَقد خوف من هَذَا بقوله: {وَلَو تَقول علينا بعض الأوقاويل} [الحاقة: 44] إِلَى غير ذَلِك من الْأُمُور المزعجة الَّتِي تضعف عَن إطاقتها البشرية.
2501 - / 3203 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: أُتِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بصبي فَبَال على ثَوْبه، فَدَعَا بِمَاء فَأتبعهُ إِيَّاه، وَفِي لفظ: فَلم يغسلهُ.
معنى أتبعه إِيَّاه: رَمَاه عَلَيْهِ على سَبِيل الرش. وَهَذَا الصَّبِي لم يكن أكل الطَّعَام، وَسَيَأْتِي ذَلِك فِي مُسْند أم قيس مُبينًا، وَأَنه دَعَا بِمَاء فنضحه وَلم يغسلهُ. وَالْمرَاد أَنه رشه عَلَيْهِ.
وَعِنْدنَا أَنه يرش بَوْل الْغُلَام الَّذِي لم يَأْكُل الطَّعَام خلافًا لأبي حنيفَة وَمَالك فِي قَوْلهمَا: يغسل. وَالْحَدِيثَانِ حجَّة عَلَيْهِمَا.(4/310)
وَلَيْسَ المُرَاد بِالطَّعَامِ كل مَا يطعم، وَإِنَّمَا هُوَ الْقُوت الْمَعْرُوف من حِنْطَة أَو شعير أَو مَا يقوم مقامهما من الْحبّ، وَإِلَّا فهم كَانُوا يحنكون الصَّبِي يَوْم وِلَادَته بِالتَّمْرِ.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى:
2502 - / 3206 - الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: وَفِيه: " فَإِن الله تَعَالَى لَا يمل حَتَّى تملوا ".
وَسبق أَن مَعْنَاهُ لَا يمل وَإِن مللتم.
2503 - / 3208 - وَقد سبق بَيَان الْخَامِس وَالسِّتِّينَ فِي مُسْند جَابر ابْن عبد الله.
2504 - / 3209 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: لما بدن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَثقل كَانَ أَكثر صلَاته جَالِسا.
قَالَ أَبُو عبيد: بدن الرجل تبدينا: إِذا أسن، وَأنْشد:
(وَكنت خلت الشيب والتبدينا ... والهم مِمَّا يذهل القرينا)
قَالَ فَأَما: بدنت فَمن كَثْرَة اللَّحْم، وَلَيْسَ هَذَا من صِفَاته، وَإِنَّمَا(4/311)
يُقَال فِي صِفَاته: رجل بَين رجلَيْنِ، جِسْمه ولحمه.
وَقد حكى الْخطابِيّ أَن قوما يَرْوُونَهُ: بدن، خَفِيفَة. قلت: وَلَيْسَ هَذَا بِشَيْء: أما من جِهَة الراوية فالتشديد ضبط الْمُحَقِّقين، وَهُوَ الَّذِي ضَبطه لنا أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد وَغَيره. وَأما من جِهَة الْمَعْنى فَمَا كَانَت كَثْرَة اللَّحْم من صِفَاته كَمَا قَالَ أَبُو عبيد. وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْمسند أَنه كثر لَحْمه، وسترى الْكَلَام عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَوْلها: كَانَ يُصَلِّي قَاعِدا بَعْدَمَا حطمه النَّاس. هَذَا كِنَايَة عَن كبره فيهم، يُقَال: حطم فلَانا أَهله: إِذا كبر فيهم كَأَنَّهُمْ بِمَا حملوه من أثقالهم صيروه شَيخا محطوما. وَقد جَاءَ فِي بعض الحَدِيث: من بعد مَا حطمته السن.
2505 - / 3211 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: مَا ترك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر عِنْدِي قطّ.
ذكر فِيهِ أَبُو سُلَيْمَان وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذَا دون الْخلق، قَالَ ابْن عقيل: لَا وَجه إِلَّا هَذَا الْوَجْه، لِأَنَّهُ قد نهى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر، وَكَانَ مَخْصُوصًا بِجَوَاز ذَلِك كَمَا خص بالوصال. وَالثَّانِي: أَنه فَاتَتْهُ يَوْمًا رَكعَتَا الظّهْر فقضاهما بعد الْعَصْر، وَكَانَ إِذا فعل فعلا لم يقطعهُ بعد ذَلِك فواظب عَلَيْهَا. وَفِيه أَن النَّوَافِل تقضى.(4/312)
وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى:
2506 - / 3215 - الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: وَفِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " مروا أَبَا بكر يُصَلِّي بِالنَّاسِ " قَالَت عَائِشَة: إِن أَبَا بكر إِذا قَامَ فِي مقامك لم يسمع النَّاس من الْبكاء فَمر عمر، فَقَالَ: " مروا أَبَا بكر ".
أما اجْتِهَاد عَائِشَة فِي أَلا يتَقَدَّم أَبُو بكر فَلهُ وَجْهَان: أَحدهمَا مَذْكُور فِي الحَدِيث، وَهُوَ قَوْلهَا: كنت أرى أَلا يقوم مقَامه أحد إِلَّا تشاءم النَّاس بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا علمت أَن النَّاس قد علمُوا أَن أَبَا بكر يصلح لخلافة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا رَأَوْهُ استشعروا موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِخِلَاف غَيره.
والأسيف: السَّرِيع الْحزن والبكاء، وَهُوَ الأسوف أَيْضا.
وَقَوله: " هريقوا " بِمَعْنى أريقوا عَليّ.
والوكاء: السّير أَو الْخَيط الَّذِي يشد بِهِ رَأس الْقرْبَة أَو الصرة.
وَأما حصر الْعدَد بالسبع، فَلِأَن السَّبع تكْثر على أَلْسِنَة الْعَرَب وتتردد فِي كثير من أُمُور الشَّرْع، كالطواف، وَالسُّجُود على سَبْعَة أَعْضَاء.
وَإِنَّمَا طلب صب المَاء عَلَيْهِ لِأَن الْمَرِيض فِي بعض الْأَمْرَاض إِذا صب عَلَيْهِ المَاء الْبَارِد رجعت قوته إِلَيْهِ. فَأَما اشْتِرَاطه أَن تكون مَا حلت فَيحْتَمل ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: التَّبَرُّك بِذكر الله تَعَالَى عِنْد شدها وحلها. وَالثَّانِي طَهَارَة المَاء؛ إِذْ لم تمسه بعد يَد. وَالثَّالِث: أَن يكون على برودته لم يسخن بحرارة الْهَوَاء.(4/313)
والمخضب كالإجانة.
وَقَوْلها: لينوء: أَي ليقوم.
وَقد اخْتلف النَّاس فِي مُدَّة الْأَيَّام الَّتِي مَرضهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: اثْنَا عشر يَوْمًا. وَالثَّانِي: أَرْبَعَة عشر.
وَفِي عدد الصَّلَوَات الَّتِي صلى أَبُو بكر بِالنَّاسِ قَولَانِ: أَحدهمَا: سبع عشرَة صَلَاة. وَالثَّانِي: ثَلَاثَة أَيَّام.
وَقد بَينا فِي مُسْند سهل بن سعد كَيفَ غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نِيَّة الْإِمَامَة. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي مُوسَى وَابْن عمر أَيْضا.
2507 - / 3216 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَل فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَيَقُول: أَيْن أَنا غَدا؟ أَيْن أَنا غَدا؟ يُرِيد يَوْم عَائِشَة.
وَفِي هَذَا دَلِيل على فَضلهَا وَشدَّة حبه إِيَّاهَا. وَفِي لفظ لم يذكرهُ الْحميدِي قَالَت عَائِشَة: إِن كَانَ ليتعذر فِي مَرضه: " أَيْن أَنا غَدا؟ " استبطاء ليَوْم عَائِشَة قَالَ الْخطابِيّ: التَّعَذُّر يجْرِي مجْرى التمنع والتعسر، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:(4/314)
(وَيَوْما على ظهر الْكَثِيب تَعَذَّرَتْ ... عَليّ وآلت حلفة لم تحلل)
والنحر: مَوضِع القلادة. وَالسحر: مَا لصق بالحلقوم. والمريء: من أَعلَى الْبَطن. قَالَ أَبُو عبيد: السحر: مَا يتَعَلَّق بالحلقوم. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: السحر عِنْد الْعَرَب الرئة وَمَا يتَعَلَّق بهَا، وَفِيه ثَلَاث لُغَات: سحر، وسحر، وسحر.
والسواك مكسور السِّين. ويستن: يستاك.
وَقَوْلها: فأبده بَصَره: أَي أتبعه بَصَره، كَأَنَّهُ أعطَاهُ بدة من بَصَره: أَي حظا، والبدة: الْحَظ والنصيب.
وَقَوْلها: فقضمته: أَي لينت مِنْهُ مَا اشْتَدَّ، من قَوْلهم: قضمت الدَّابَّة شعيرها. وَبَعض الْمُحدثين يَقُول: فقضمته بالصَّاد الْمُهْملَة، والقصم: الْكسر، وَالضَّاد أصح.
وَأما الحاقنة فَقَالَ أَبُو عبيد: كَانَ أَبُو عَمْرو يَقُول: هِيَ النقرة الَّتِي بَين الترقوة وحبل العاتق، وهما حاقنتان، والذاقنة طرف الْحُلْقُوم وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الحاقنة: نقرة الترقوة: والذاقنة مَا يَنَالهُ الذقن من الصَّدْر.
والعلبة: قدح ضخم من خشب يحلب فِيهِ(4/315)
وَمسح وَجهه بِالْمَاءِ دَلِيل على كرب قد تغشاه وَشدَّة، وَلِهَذَا قَالَ: " إِن للْمَوْت سَكَرَات " فنسأل الله عز وَجل أَن يعيننا على مَا بَين أَيْدِينَا بِلُطْفِهِ ورأفته.
2508 - / 3217 - والْحَدِيث الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة.
2509 - / 3218 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: إِن كَانَ رَسُول الله ليقبل بعض ازواجه وَهُوَ صَائِم. ثمَّ ضحِكت.
ضحكها دَلِيل على أَنَّهَا هِيَ كَانَت. وَفِي رِوَايَة: كَانَ يقبل ويباشر وَهُوَ صَائِم، وَكَانَ أملككم لإربه.
الْمُبَاشرَة: إلصاق الْبشرَة بالبشرة.
فَأَما الأرب فَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ وطر النَّفس وحاجتها قَالَ أَبُو عبيد: فِيهِ ثَلَاث لُغَات: أرب وإرب، وإربة.
فَإِن قيل: كَأَن حَاجَة الْإِنْسَان يملكهَا، فَإِنَّهُ لَو قيل: فأمذى وَأنزل لم يكن رد هَذَا إِلَيْهِ وَلَا ملك لَهُ عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَاب: إِن اللَّمْس والتقبيل يخَاف مِنْهُ دُعَاء النَّفس إِلَى غَيره، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَالِكًا لنَفسِهِ، لَا يُمكنهَا أَن تَدعُوهُ إِلَى مَا لَا يجوز لَهُ، وَلَعَلَّه كَانَ يخْطر على قلبه عِنْد التَّقْبِيل(4/316)
نوع من المراقبة فَتبقى صُورَة التَّقْبِيل وَيمْتَنع الْمخوف مِنْهُ.
وَقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد: هَل تكره الْقبْلَة للصَّائِم إِذا كَانَ مِمَّن لَا تحرّك شَهْوَته؟ على رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا: لَا تكره، وَالثَّانيَِة: تكره كَقَوْل مَالك: فَإِن لمس فأمذى فَعَلَيهِ الْقَضَاء فِي مَذْهَب أَحْمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا قَضَاء عَلَيْهِ. فَأَما إِذا أنزل عَن مُبَاشرَة فَإِن صَوْمه يفْسد عِنْد الْجُمْهُور، خلافًا لداود.
2510 - / 3220 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: كفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب بيض سحُولِيَّة من كُرْسُف.
الكرسف: الْقطن، وَيُقَال لَهُ أَيْضا: العطب، والبرس، والطوط.
والسحولية مَفْتُوحَة السِّين، منسوبة إِلَى قَرْيَة بِالْيمن يُقَال لَهَا: سحول، قَالَ الْحميدِي: وَقد قَرَأنَا نَحن بِمَكَّة على شيخ من شُيُوخ الحَدِيث كَانَ من أهل هَذِه الْقرْيَة. وَكَانَ ابْن قُتَيْبَة يَقُول: سحُولِيَّة بِضَم السِّين، وَيَقُول: سحول جمع سحل: وَهُوَ الثَّوْب الْأَبْيَض. وَقَالَ أَبُو عمر الزَّاهِد: إِنَّمَا هِيَ بِفَتْح السِّين.
وَقَالَ: وَقَوله: سحول جمع سحل، خطأ؛ إِنَّمَا جمع سحل سحل.
والحلة لَا تكون إِلَّا ثَوْبَيْنِ، فَهِيَ إِزَار ورداء. وَالْمرَاد برود الْيمن.
والحبرة: نوع من البرود مخطط.
2511 - / 3221 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: " جَاءَ بك الْملك(4/317)
فِي سَرقَة من حَرِير ".
قَالَ أَبُو عبيد: سرق الْحَرِير: هِيَ الشقق إِلَّا أَنَّهَا الْبيض مِنْهَا خَاصَّة، الْوَاحِدَة سَرقَة، وَهِي فارسية معربة. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: السرق: الْحَرِير، وَأَصله سره بِالْفَارِسِيَّةِ: أَي جيد قَالَ الزفيان:
(وَالْبيض فِي أَيْمَانهم تألق ... )
(وذبل فِيهَا شبا مذلق ... )
(يطير فَوق رؤوسهن السرق ... )
ذبل: رماح. وشبا كل شَيْء: حَده. ومذلق: محدد، أَرَادَ الأسنة وَأَرَادَ الرَّايَات.
2512 - / 3222 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: فوعكت فتمرق شعري فوفى جميمة.
والوعك: آلام الْمَرَض.
وتمرق الشّعْر بالراء الْمُهْملَة وتمرط وامرط وامرق: إِذا انْتَشَر وانتتف. والجميمة تَصْغِير جمة. وجمة الْإِنْسَان: مُجْتَمع شعر ناصيته. والناصية: قصاص الشّعْر. والوفرة: الجمة إِلَى الْأُذُنَيْنِ فَقَط.
والأرجوحة مَعْرُوفَة: وَهِي حَبل يعلق طرفاه من جانبين يمِيل بهم من نَاحيَة إِلَى نَاحيَة. وَالْأَصْل فِي الأراجيح الاهتزاز والتحريك.(4/318)
وأنهج بِضَم الْألف. يُقَال: نهج وأنهج: إِذا رَبًّا وتدارك نَفسه.
وَقَوْلها: هه هه، حِكَايَة تتَابع النَّفس. وَقيل: بل حِكَايَة شدَّة الْبكاء.
وزفت إِلَيْهِ: أَي حملت بِسُرْعَة وإزعاج. يُقَال: زف الْقَوْم فِي سيرهم: إِذا أَسْرعُوا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يزفون} [الصافات: 94] .
وَقَوْلها: ولعبها مَعهَا. تحْتَمل أَمريْن: أَحدهمَا: أَن يكون هَذَا قبل تَحْرِيم الصُّور.
وَالثَّانِي: أَن تكون لعبها غير مصورة.
وَأما قَوْلهَا: فِي شَوَّال، فَلِأَن قوما كَانُوا يكْرهُونَ الرفاف فِي شَوَّال، فأنكرت إنكارهم.
والخطوة: علو الْمنزلَة وَالْمَكَان.
2513 - / 3223 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: بشر خَدِيجَة بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب.
وَهَذَا قد سبق فِي مُسْند عبد الله بن أبي أوفى.
وَفِيه: فيهدي فِي خلائلها. أَي فِي صدائقها.
قَالَت: فَقلت: مَا تذكر من عَجُوز حَمْرَاء الشدقين؟ أَي بَيْضَاء الشدقين، وَالْعرب تَقول: امْرَأَة حَمْرَاء: أَي بَيْضَاء، وَمِنْه قَوْله لعَائِشَة: " يَا حميراء "، وَإِذا كَبرت الْمَرْأَة ابيض شدقاها.(4/319)
2514 - / 3224 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: أَن سَوْدَة وهبت يَوْمهَا لعَائِشَة، فَكَانَ يقسم لعَائِشَة يَوْمهَا وَيَوْم سَوْدَة.
أما سَوْدَة فَهِيَ بنت زَمعَة بن قيس بن عبد شمس. أسلمت قَدِيما وبايعت، وَكَانَت عِنْد ابْن عَم لَهَا يُقَال لَهُ السَّكْرَان بن عَمْرو، أسلم أَيْضا وَهَاجَر إِلَى أَرض الْحَبَشَة فِي الْهِجْرَة الثَّانِيَة، فَلَمَّا قدما مَكَّة مَاتَ زَوجهَا، وَيُقَال: مَاتَ بِالْحَبَشَةِ، فَلَمَّا حلت خطبهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَزَوجهَا وَدخل بهَا بِمَكَّة، وَهَاجَر بهَا إِلَى الْمَدِينَة. وَأكْثر الرِّوَايَات أَنه تزَوجهَا قبل عَائِشَة، وَفِي بعض الرِّوَايَات أَنه تزوج عَائِشَة ثمَّ سَوْدَة، وَهَذَا الحَدِيث يؤكده، إِلَّا أَنه إِنَّمَا بنى بعائشة بِالْمَدِينَةِ، فَيحْتَمل أَن يكون عقد على سَوْدَة ثمَّ على عَائِشَة، وَبنى بسودة بِمَكَّة؛ لِأَن عَائِشَة كَانَت صَغِيرَة حِينَئِذٍ.
قَالَ أهل السّير: لما كَبرت سَوْدَة أَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَلاقهَا، فَقَالَت: لَا تفعل وَدعنِي فِي نِسَائِك، وَجعلت يَوْمهَا لعَائِشَة، فَأَمْسكهَا، وَتوفيت بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَخمسين.
وَقَوْلها: فِي مسلاخها. مسلاخ الْإِنْسَان: ثِيَابه، وَهَذِه اسْتِعَارَة، وَالْمعْنَى: أحب أَن أكون فِي مثل هديها وطريقتها إِلَّا أَنِّي أكره مَا فِيهَا من الحدة.
2515 - / 3225 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: كنت أَلعَب بالبنات.(4/320)
الْبَنَات: لعب يلْعَب بِهن صغَار الْجَوَارِي، فَإِن كَانَت صورا فقد كَانَ هَذَا قبل التَّحْرِيم، وَإِلَّا فقد يُسمى بِهَذَا مَا لَيْسَ بِصُورَة.
2516 - / 3226 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: كَانَت خَوْلَة بنت حَكِيم من اللَّاتِي وهبْنَ أَنْفسهنَّ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا أَحللنَا لَك أَزوَاجك} إِلَى قَوْله: {وَامْرَأَة مُؤمنَة} [الْأَحْزَاب: 50] ، وَالْمعْنَى: وأحللنا لَك امْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا لَك، وَهَذَا عَام. كَانَ مِمَّن وهبت نَفسهَا لَهُ: خَوْلَة بنت حَكِيم، فأرجأها فَتَزَوجهَا عُثْمَان بن مَظْعُون. وَأم شريك الْأَزْدِيَّة، وَاسْمهَا غزيَّة بنت جَابر ابْن حَكِيم. وَقد ذكرُوا أَن ليلى بنت الخطيم وهبت نَفسهَا لَهُ فَلم يقبلهَا. ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث، وَزَيْنَب بنت خُزَيْمَة.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي معنى قَوْله: {ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ} [الْأَحْزَاب: 51] على أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: تطلق من تشَاء من نِسَائِك وَتمسك من تشَاء من نِسَائِك قَالَه ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: تتْرك نِكَاح من تشَاء وَتنْكح من نسَاء أمتك من تشَاء، قَالَه الْحسن.
وَالثَّالِث: تعزل من شِئْت من أَزوَاجك وَلَا تأتيها بِغَيْر طَلَاق، وَتَأْتِي من تشَاء فَلَا تعزلها، قَالَه مُجَاهِد.
وَالرَّابِع: تقبل من تشَاء من الْمُؤْمِنَات اللواتي يهبن أَنْفسهنَّ لَك وتترك من تشَاء، قَالَه الشّعبِيّ وَعِكْرِمَة.(4/321)
2517 - / 3228 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: {وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 6] قَالَت: أنزلت فِي وَالِي الْيَتِيم، يُصِيب من مَاله إِذا كَانَ مُحْتَاجا مَكَان قِيَامه عَلَيْهِ بِمَعْرُوف.
اعْلَم أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي الْأكل بِالْمَعْرُوفِ على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه استقراض الْفَقِير مِنْهُ، روى الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: من كَانَ فَقِيرا اسْتقْرض من مَال الْيَتِيم فَإِذا وجد ميسرَة قَضَاهُ، فَذَاك أكله بِالْمَعْرُوفِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُول عمر بن الْخطاب: إِنِّي أنزلت مَال الله مني بِمَنْزِلَة الْيَتِيم، إِن استعنيت اسْتَعْفَفْت، وَإِن افْتَقَرت أكلت بِالْمَعْرُوفِ ثمَّ قضيت. وَهَذَا مَذْهَب عُبَيْدَة السَّلمَانِي وَأبي وَائِل وَسَعِيد بن جُبَير وَأبي الْعَالِيَة وَمُجاهد، وَرَوَاهُ يَعْقُوب بن بختان عَن أَحْمد بن حَنْبَل.
وَالثَّانِي: أَنه الْأكل من مَال الْيَتِيم على غير وَجه الْإِسْرَاف، روى عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْوَصِيّ إِذا احْتَاجَ وضع يَده مَعَ أَيْديهم وَلَا يلبس عِمَامَة. وَقَالَ الْحسن وَعَطَاء وَمَكْحُول: يَأْخُذ مَا يسد الجوعة ويواري الْعَوْرَة وَلَا يقْضِي إِذا وجد، وَهَذَا مَذْهَب قَتَادَة وَالنَّخَعِيّ.
وَالثَّالِث: أَنه ينزل مَال الْيَتِيم بِمَنْزِلَة الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة، فَإِن أيسر قَضَاهُ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي حل، قَالَه الشّعبِيّ.
وَالرَّابِع: أَن يَأْخُذ الْوَلِيّ بِقدر أجرته إِذا عمل للْيَتِيم عملا، وَهَذَا معنى مَا روى الْقَاسِم بن مُحَمَّد عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ عَطاء، وَكَذَلِكَ روى أَبُو طَالب وَابْن مَنْصُور عَن أَحْمد بن حَنْبَل.(4/322)
2518 - / 3229 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: {الَّذين اسْتَجَابُوا لله وَالرَّسُول من بعد مَا أَصَابَهُم الْقرح} [آل عمرَان: 172] قَالَت عَائِشَة لعروة: كَانَ أَبَوَاك مِنْهُم: الزبير وَأَبُو بكر.
فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَصْحَابه عقيب غزَاة أحد بِاتِّبَاع أبي سُفْيَان وَأَصْحَابه فاستجابوا، رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: أَن أَبَا سُفْيَان لما أَرَادَ الِانْصِرَاف عَن أحد قَالَ: يَا مُحَمَّد، موعد مَا بَيْننَا موسم بدر، فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَام الْمقبل للموعد وَخرج أَبُو سُفْيَان، ثمَّ ألْقى الله فِي قلبه الرعب فَرجع، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن مُجَاهِد وَعِكْرِمَة فِي آخَرين.
و {اسْتَجَابُوا} بِمَعْنى أجابوا.
وَفِي {الْقرح} قراءتان: بِفَتْح الْقَاف وَهِي قِرَاءَة الْأَكْثَرين، وَضمّهَا وَهِي قِرَاءَة حَمْزَة وَالْكسَائِيّ. وَهل هما بِمَعْنى وَاحِد أم يَخْتَلِفَانِ؟ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، ومعناهما الْجراح وألمها، قَالَه الزّجاج.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ، فالقرح بِفَتْح الْقَاف: الْجراح، وَبِضَمِّهَا: ألم الْجراح، قَالَه الْفراء وَأَبُو عُبَيْدَة.(4/323)
وَقَوْلها لعروة: أَبَوَاك: الزبير وَهُوَ وَالِده، وَأَبُو بكر وَهُوَ أَبُو أمه أَسمَاء.
2519 - / 3230 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: {إِذْ جاءوكم من فَوْقكُم وَمن أَسْفَل مِنْكُم} [الْأَحْزَاب: 9] .
قَالَت: كَانَ ذَلِك يَوْم الخَنْدَق.
قَالَ أهل الْعلم بالسير، لما أجلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني النَّضِير سَارُوا إِلَى خَيْبَر، فَخرج نفر من أَشْرَافهم إِلَى مَكَّة، فألبوا قُريْشًا ودعوهم إِلَى الْخُرُوج لقتاله، ثمَّ خَرجُوا من عِنْدهم فدعوا غطفان وسليم، ففارقوهم على مثل ذَلِك، وتجهزت قُرَيْش وَمن تَبِعَهُمْ من الْعَرَب فَكَانُوا أَرْبَعَة آلَاف، وَخرج يقودهم أَبُو سُفْيَان، ووافتهم بَنو سليم بمر الظهْرَان، وَخرجت بَنو أَسد وفزارة وَأَشْجَع، وَكَانَ جَمِيع من وافى الخَنْدَق من الْقَبَائِل عشرَة آلَاف، وهم الْأَحْزَاب. فَلَمَّا بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خُرُوجهمْ أخبر النَّاس خبرهم وشاورهم، فَأَشَارَ سلمَان بالخندق، فأعجب ذَلِك الْمُسلمين، وعسكر بهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى سفح سلع، وَجعل سلعا خلف ظَهره، وَالْخَنْدَق بَينه وَبَين الْقَوْم، ودس أَبُو سُفْيَان حييّ بن أَخطب إِلَى بني قُرَيْظَة يسألهم أَن ينقضوا الْعَهْد الَّذِي بَينهم وَبَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَجَابُوا، وَاشْتَدَّ الْخَوْف وَعظم الْبلَاء، وَجَرت بَينهم مناوشة وقتال، وَحصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بضع عشرَة لَيْلَة حَتَّى خلص إِلَيْهِم الكرب.
قَالَ تَعَالَى: {إِذْ جاءوكم من فَوْقكُم وَمن أَسْفَل مِنْكُم} أَي من فَوق الْوَادي وَمن أَسْفَله، {وَإِذ زاغت الْأَبْصَار} أَي مَالَتْ وَعدلت فَلم تنظر إِلَى شَيْء إِلَّا إِلَى عدوها مُقبلا من كل جَانب، {وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر} وَهِي جمع(4/324)
حنجرة، والحنجرة: جَوف الْحُلْقُوم. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْمَعْنى: كَادَت الْقُلُوب تبلغ الْحُلْقُوم من الْخَوْف. إِلَّا أَن الله تَعَالَى أرسل عَلَيْهِم ريحًا فأكفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم، وملائكة تقلع أوتادهم وتطفئ نيرانهم، وتكبر فِي جَوَانِب عَسْكَرهمْ، فَانْهَزَمُوا من غير قتال.
2520 - / 3231 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين: ذكر الْإِفْك.
قَوْله: " أبنوا أَهلِي " الْبَاء خَفِيفَة، قَالَ ثَعْلَب: يَعْنِي اتهموا أَهلِي، وَفِي الحَدِيث: كَانَ مجْلِس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تؤبن فِيهِ الْحرم أَي لَا يذكرُونَ بقبيح.
وَقَوْلها: فَسَأَلَ عني خادمي، تَعْنِي بَرِيرَة.
وَقَوْلها: إِنَّهَا ترقد حَتَّى تدخل الشَّاة فتأكل خبزها. تَعْنِي أَنَّهَا لَا تعرف الشَّرّ.
وَقَوْلها: فانتهرها. أَي: اسْتَقْبلهَا بِكَلَام يزجرها بِهِ.
وَقَوْلها: حَتَّى أسقطوا لَهَا بِهِ. قيل: مَعْنَاهُ: صَرَّحُوا لَهَا بذلك. وَقيل: جَاءُوا بسقط من الْكَلَام فِي خطابها، كَأَنَّهُمْ سبوها وأغلظوا لَهَا لتخبرهم بِمَا تعرف.
والتبر: مَا لم يطبع من الذَّهَب وَالْفِضَّة.
وَالرجل الَّذِي قيل عَنهُ هُوَ صَفْوَان بن الْمُعَطل.(4/325)
وكنف الْأُنْثَى: سترهَا.
وَقَول عَائِشَة: لَا أقوم إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَده، قَول مدل على محبه.
وتستوشيه: تستخرجه بالبحث عَنهُ وَالِاسْتِقْصَاء عَلَيْهِ. يُقَال: استوشى الرجل مجْرى فرسه: إِذا ضرب جنبه وحركه ليجري.
وَكبر الشَّيْء: معظمه.
وَحمْنَة هِيَ بنت جحش، أُخْت زَيْنَب.
وَقَوله: {وَلَا يَأْتَلِ} [النُّور: 22] أَي: لَا يحلف.
وَأما مسطح، فمسطح لقب، واسْمه عَوْف بن أَثَاثَة بن عباد بن الْمطلب بن عبد منَاف، وَأمه بنت أبي رهم بن الْمطلب بن عبد منَاف، وَهُوَ ابْن خَالَة أبي بكر.
وَقَوْلها: وَقَالَ رجل من الْأَنْصَار: مَا يكون لنا أَن نتكلم بِهَذَا. وَهُوَ أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ.
وَقَوْلها: فَإِذا عقد لي من جزع أظفار. كَذَا وَقع فِي الرِّوَايَة، وَالصَّوَاب: من جزع ظفار، وَهِي مَدِينَة بِالْيمن يكون فِيهَا هَذَا الْجزع. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: ظفار مَدِينَة ينْسب إِلَيْهَا الْجزع الظفاري. وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: ظفار: جبل بِالْيمن.
وَقَوْلها: لم يهبلن. كَذَا قَالَ لنا ابْن الخشاب: بِفَتْح الْيَاء وَإِسْكَان الْهَاء وَكسر الْبَاء، وَالْمعْنَى: لم يكثر لحمهن من السّمن فيثقلن. وَفِي رِوَايَة: لم يهبلهن اللَّحْم: أَي لم يرهلهن. والمهبل: الْكثير اللَّحْم الثقيل(4/326)
الْحَرَكَة من السّمن وَيُقَال: أصبح فلَان مهبلا: أَي متهيجا، كَأَن بهَا ورما من سمنه.
والعلقة: الْبلْغَة قدر مَا يتبلغ بِهِ. وأصل الْعلقَة شجر يبْقى فِي الشتَاء فتعلقها الْإِبِل وتجتزئ بهَا حَتَّى يدْرك الرّبيع.
والهودج: مركب من مراكب النِّسَاء مقبب، وَقد يَسْتَعْمِلهُ الرِّجَال.
وَقَوْلها: بَعْدَمَا اسْتمرّ الْجَيْش: أَي سَار.
وعرس الْمُسَافِر: إِذا نزل وَحط رَحْله من آخر اللَّيْل للراحة.
وَقَوْلها: فادلج. هُوَ مشدد الدَّال، وَهُوَ الْخُرُوج من آخر اللَّيْل. فَأَما أدْلج بِلَا تَشْدِيد فَهُوَ قطع اللَّيْل كُله سيرا.
واسترجاعه: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} [الْبَقَرَة: 156] .
وَقَوْلها: فخمرت وَجْهي: أَي غطيته بجلبابي وَهُوَ مَا تستتر بِهِ الْمَرْأَة كالإزار وَنَحْوه.
وَقَوْلها: موغرين. الوغرة: شدَّة الْحر. يُقَال: وغرت الهاجرة وغرا، وأوغر الرجل: إِذا صَار فِي ذَلِك الْوَقْت، كَمَا يُقَال: أظهر وَأصْبح وَأمسى.
وَقَوله: وغر صَدره يوغر: إِذا اغتاظ وحمي.
ويفيضون: يَخُوضُونَ فِيهِ ويكثرون.
والإفك: الْكَذِب. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: سمي إفكا لِأَنَّهُ كَلَام قلب عَن الْحق، وَأَصله من أفكت الرجل: إِذا صرفته عَن رَأْي كَانَ عَلَيْهِ.(4/327)
وَقَوْلها: وَهُوَ يريبني. الريب: الشَّك.
واللطف فِي الْأَفْعَال: الرِّفْق. وَفِي الْأَقْوَال: لين الْكَلَام، يُقَال: لطف الله بك: أَي أوصل إِلَيْك مرادك من غير تَعب.
وَقَوله: " كَيفَ تيكم؟ " يدل على لطف من حَيْثُ سُؤَاله عَنْهَا، وعَلى نوع جفَاء لقَوْله: " كَيفَ تيكم؟ ".
وَقَوْلها: نقهت. يُقَال: نقه الرجل من مَرضه ينقه نقوها: إِذا أَفَاق.
والمناصع: مَوضِع مَعْرُوف، وَقد ذَكرْنَاهُ آنِفا.
والمتبرز: الْمَكَان الَّذِي يقْصد لذَلِك. يُقَال تبرز وبرز: إِذا ظهر إِلَى البرَاز: وَهُوَ الْموضع الْوَاسِع الظَّاهِر. والكنف جمع كنيف، والكنيف: السَّاتِر، وَيُسمى الترس كنيفا؛ لِأَنَّهُ يستر. وَالْغَائِط: الْمَكَان المطمئن من الأَرْض.
والمرط: كسَاء من صوف أَو خَز يؤتزر بِهِ، وَجمعه مروط.
وتعس بِمَعْنى سقط وعثر.
والانبهار قد سبق آنِفا.
وَقَوْلها يَا هنتاه. قد تقدم فِي أول هَذَا الْمسند.
وَقَوْلها: لَا يرقأ لي دمع. أَي لَا يَنْقَطِع.
وأغمصه: أعيبه.(4/328)
والداجن: الشَّاة الَّتِي تحبس فِي الْبَيْت لدرها وَلَا تخرج إِلَى المرعى. يُقَال: دجن بِالْمَكَانِ: إِذا أَقَامَ بِهِ.
وَقَوله: " من يعذرني؟ " فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: من يُقيم عُذْري إِن عاتبته أَو عاقبته.
وَالثَّانِي: من يعذرني إِن شَكَوْت مِنْهُ.
وَقَوْلها: احتملته الحمية: أَي أغضبته الأنفة والتعصب. وَحكى ابْن السّكيت أَن الِاحْتِمَال الْغَضَب وَقيل: حَملته الحمية على ذَلِك القَوْل. واجتهلته: حَملته على الْجَهْل.
وقلص دمعي: أَي انْقَطع انسكابه. يُقَال: قلص الشَّيْء وتقلص: إِذا تضام وَنقص.
وَقَوْلها: مَا رام مَجْلِسه: أَي مَا برح من مَكَانَهُ.
والبرحاء من البرح: وَهُوَ أَشد مَا يكون من الكرب والأذى. وتعني أَنه أَصَابَهُ من الْحَرَارَة وَالْكرب مَا يُصِيب المحموم. وَهَذَا كَانَ شَأْنه إِذا جَاءَ الْوَحْي.
والجمان جمع جمانة: وَهِي اللؤلؤة المتخذة من الْفضة.
وَثقل القَوْل: هيبته.
وسري عَنهُ: أَي كشف مَا ضامره من الكرب.
وَقَوْلها: أحمي سَمْعِي وبصري: أَي أمنعهما من أَن أخبر أَنِّي سَمِعت مَا لم أسمع، وأبصرت مَا لم أبْصر؛ تَنْفِي عَن نَفسهَا بذلك الْكَذِب.(4/329)
وَقَوْلها: تساميني. المساماة: المفاعلة من السمو. وَالْمعْنَى: كَانَت تطلب من السمو والعلو والحظوة عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أطلب.
فعصمها الله: أَي منعهَا من الشَّرّ بالورع: وَهُوَ مجانبة مَا يخَاف شَره.
وَقَول حسان: مَا تزن بريبة: أَي مَا تتهم.
والغرث: الْجُوع، وَهَذِه اسْتِعَارَة؛ وَالْمعْنَى أَنَّهَا لَا تغتاب أحد مِمَّن هُوَ غافل عَن مثل هَذَا الْفِعْل.
وَقَوْلها: كَانَ ينافح: أَي يدافع ويذب بِلِسَانِهِ.
والهجاء: ذمّ الْإِنْسَان بخصاله القبيحة وَمَا يضع مِنْهُ، وغالب ذَلِك أَن يكون بالشعر، وَقد يكون بالْكلَام المنثور.
وَهَذَا حَدِيث الْإِفْك كَانَ فِي غزَاة الْمُريْسِيع، وَكَانَت فِي سنة سِتّ من الْهِجْرَة.
2521 - / 3232 - والْحَدِيث التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ: قد تقدم فِي مُسْند جُبَير بن مطعم.
2522 - / 3233 - والْحَدِيث التِّسْعُونَ وَالْحَادِي وَالتِّسْعُونَ: كِلَاهُمَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.(4/330)
2523 - / 3235 - وَالثَّانِي وَالتِّسْعُونَ: قد سبق.
2524 - / 3236 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين: أول مَوْلُود ولد فِي الْإِسْلَام عبد الله بن الزبير.
تَعْنِي بِهَذَا بعد الْهِجْرَة. وَقد سبق هَذَا وَمَا بعده.
2525 - / 3239 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالتسْعين: " لَا يَقُولَن أحدكُم: خبثت نَفسِي ".
وَقد سبق بَيَانه فِي مُسْند سهل بن حنيف.
2526 - / 3240 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين: توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا فِي بَيْتِي من شَيْء يَأْكُلهُ ذُو كبد إِلَّا شطر شعير فِي رق لي، فَأكلت مِنْهُ حَتَّى طَال عَليّ، فكلته ففني.
قَوْلهَا: شطر شعير. أَي جُزْء مِنْهُ، لِأَنَّهَا أشارت إِلَى بعض مِنْهُم. وَيُشبه أَن يكون نصف شَيْء كالصاع وَنَحْوه. وَقد قَالَ بَعضهم: هُوَ نصف وسق.
فَإِن قيل: كَيفَ الْجمع بَين هَذَا وَبَين مَا تقدم فِي مُسْند الْمِقْدَام بن معدي كرب: " كيلوا طَعَامكُمْ يُبَارك لكم فِيهِ "؟ فَالْجَوَاب: أَن عَائِشَة كالت(4/331)
الطَّعَام ناظرة إِلَى مُقْتَضى الْعَادة غير متلمحة فِي تِلْكَ الْحَالة منحة الْبركَة، فَرد إِلَى مُقْتَضى الْعَادة كَمَا ردَّتْ زَمْزَم إِلَى عَادَة البئار حِين جمعت هَاجر ماءها.
وَكَذَلِكَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي رَافع: " ناولني الذِّرَاع " قَالَه لَهُ ثَلَاث مَرَّات، فَقَالَ: وَهل للشاة إِلَّا ذراعان؟ فَقَالَ: " لَو سكت لناولتني مِنْهَا مَا دَعَوْت بِهِ " فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستمدا للبركة، وَكَانَ أَبُو رَافع نَاظرا إِلَى مُقْتَضى الْعَادة.
2527 - / 3242 - وَقد تكلمنا على الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين فِي مُسْند أنس، بعد الْمِائَة.
2528 - / 3244 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: " أهجوا قُريْشًا؛ فَإِنَّهُ أَشد عَلَيْهِم من رشق النبل ".
قد تقدم بَيَان معنى الهجاء آنِفا.
والرشق بِكَسْر الرَّاء: الْوَجْه من الرَّمْي، إِذا رمى الْقَوْم بأجمعهم. قَالُوا: رمينَا رشقا. فَأَما بِفَتْح الرَّاء فَهُوَ الْمصدر، تَقول: رشقت بِالسَّهْمِ رشقا.
وأدلع لِسَانه: أخرجه من فِيهِ.
وَقَوله: لأفرينهم. ذكر الزّجاج عَن الأصعمي وَأبي عبيد: فريت الشَّيْء وأفريته: إِذا قطعته، وَقَالَ الْحميدِي: أفريت الشَّيْء: إِذا شققته(4/332)
على وجهة الْإِفْسَاد، فَإِذا فعلته للإصلاح قلت: فريت بِغَيْر ألف. وَيُقَال فِي الذَّبِيحَة: أفرى الْأَوْدَاج، بِالْألف، لِأَنَّهُ إِفْسَاد لَهَا وَإِن كَانَ يُؤَدِّي إِلَى إصْلَاح، وَهُوَ اسْتِعْمَالهَا، وَإِنَّمَا يُرَاعى حَال الْفِعْل.
والقدس: الطَّهَارَة. وروح الْقُدس: جِبْرِيل.
والمنافحة: المدافعة والمخاصمة عَن الشَّيْء.
وَقَول حسان:
(فَإِن أبي ووالده وعرضي ... ... ... ... ... .)
عرض الرجل: نَفسه وَقد سبق الْكَلَام فِي هَذَا وَالْخلاف فِيهِ، والوقاء: السَّاتِر.
وَقَوْلها: يبارين الأعنة: أَي يجارينها ويسابقنها.
مصعدات: مرتفعات.
والأسل: الرماح.
والظماء: الْبَعِيدَة الْعَهْد بِالدُّخُولِ فِي الدِّمَاء، فَهِيَ إِلَيْهَا مسارعة، اسْتِعَارَة، كالظامئ الَّذِي بعد عَهده بِالْمَاءِ فَهُوَ يشتهيه ويسارع إِلَيْهِ.
والمتمطرات: المتعرضات بالمطر. يُقَال تمطر الرجل: إِذا تعرض(4/333)
للمطر وتجرد عَنهُ وُقُوعه لإمراره على جسده. واستعاره حسان للخيل، أَي إِنَّهَا متعرضات لرشق السِّهَام والأسنة وَالدُّخُول فِي الْقِتَال.
وَالْخمر جمع خمرة: وَهِي كالسجادة. وَقيل: جمع خمار.
واللطم: الضَّرْب على الْوَجْه بباطن الرَّاحَة، ثمَّ استعاره للخمر. وَإِنَّمَا فعلوا ذَلِك يَوْم فتح مَكَّة سُرُورًا بِالْفَتْح.
وَقَوله: قد يسرت جندا: أَي بعثتهم.
وَقَوله: عرضتها اللِّقَاء: اي يعترضون لِقَاء الأقران للمحاربة.
2529 - / 3245 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب الْحَلْوَاء وَالْعَسَل.
قد دلّ هَذَا الحَدِيث على جَوَاز اتِّخَاذ الحلاوات من اخلاط شَتَّى، لِأَن الْحَلْوَاء لَا تقع إِلَّا على مَا دَخلته صَنْعَة، وَجمع بَين الْحَلَاوَة وَالدَّسم المستهلكين فِي ثفل، كَذَلِك قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ.
وَقد كَانَ بعض المتزهدين لَا يَأْكُل إِلَّا مَا كَانَ حلوا بجوهره كالعسل وَالتَّمْر، وَاتِّبَاع الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه هُوَ الْمنْهَج الْمُسْتَقيم، فَإِنَّهُ قد تعْمل المجموعات مَا لَا تعْمل الْمُفْردَات، وللنفس حَظّ، وللطبيعة تَدْبِير، وللشهوة تَأْثِير فِي تنَاول مَا يصلح الْبدن، فَلَا يلْتَفت إِلَى المتزهدين الجهلاء، وَعَلَيْك بِالْعلمِ.
وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعجبهُ الذِّرَاع، وَكَانَ يَأْكُل القثاء بالرطب، والبطيخ بالرطب. وَقدم إِلَى عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فالوذج فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: الْيَوْم النيروز. قَالَ: فنورزوا كل يَوْم. وَكَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ مَعَ(4/334)
ورعه إِذا سَافر فَفِي سفرته الْحمل المشوي والفالوذج. وَقدم إِلَى الْحسن الْبَصْرِيّ الخبيص، فَقَالَ رجل: لَا آكله، لِأَنِّي لَا أؤدي شكره. فَقَالَ الْحسن: أَو تُؤدِّي شكر المَاء الْبَارِد؟
والمغافير فِيهَا لُغَتَانِ: مَغَافِير ومغاثير، مثل جدف وجدث، وَالْوَاحد مغْفُور ومغثور، وَهُوَ شَيْء ينضجه العرفط كالناطف، وَله ريح مُنكرَة. والعرفط: نوع من شجر الْعضَاة، والعضاة: كل شجر لَهُ شوك كالطلح والعوسج.
وَيُقَال: قد أَغفر العرفط: إِذا ظهر ذَلِك مِنْهُ. وَخرج النَّاس يتمغفرون: إِذا خَرجُوا يجتنون ذَلِك. وَقد ذكرنَا أَن وَاحِد المغافير مغْفُور، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: لَيْسَ فِي الْكَلَام " مفعول " بِضَم الْمِيم إِلَّا مغْفُور، ومغرور بالغين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ ضرب من الكمأة، ومنخور: وَهُوَ المنخر، ومعلوق: وَاحِد المعاليق.
وَقَوله: جرست: أَي أكلت، وَيُقَال للنحل جوارس: أَي أواكل وأصل الجرس الصَّوْت الْخَفي: يُقَال: سَمِعت جرس الطير: أَي صَوت مناقيرها على مَا تَأْكُله. قَالَ الْأَصْمَعِي: كنت فِي مجْلِس شُعْبَة فروى فِي الحَدِيث: فيسمعون جرش طير الْجنَّة، بالشين الْمُعْجَمَة، فَقلت جرس، فَنظر إِلَيّ وَقَالَ: خذوها عَنهُ فَهُوَ أعلم بهَا.
وَاخْتلفت الرِّوَايَة: فِي الَّتِي شرب عِنْدهَا الْعَسَل على ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنَّهَا حَفْصَة، وَأَن الْقَائِل لَهُ: أكلت مَغَافِير عَائِشَة وَسَوْدَة وَصفِيَّة.
وَالثَّانِي: زَيْنَب بنت جحش، وَأَن الَّذِي قَالَه عَائِشَة وَحَفْصَة. والطريقان مذكوران فِي الصَّحِيح. وَالثَّالِث: سَوْدَة وَالْقَائِل لَهُ عَائِشَة(4/335)
وَحَفْصَة، رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس. والأليق أَنَّهَا زَيْنَب، لِأَن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كن حزبين: فعائشة وَحَفْصَة وَصفِيَّة وَسَوْدَة فِي حزب وَزَيْنَب وَأم سَلمَة والباقيات فِي حزب، وَالله أعلم.
وَقَوله: {لم تحرم مَا أحل الله لَك} [التَّحْرِيم: 1] فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْعَسَل، لقَوْله: " لن أَعُود إِلَيْهِ " وَفِي لفظ: " وَالله لَا أشربه ". وَالثَّانِي: أَنه جَارِيَته مَارِيَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: ذهبت حَفْصَة إِلَى أَبِيهَا، فَأرْسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جَارِيَته فظلت مَعَه فِي بَيت حَفْصَة، فَرَجَعت حَفْصَة فَوَجَدتهَا فظلت تنْتَظر خُرُوجهَا. فَلَمَّا خرجت دخلت حَفْصَة فَقَالَت: قد رَأَيْت من كَانَ عنْدك، وَالله لقد سؤتني، فَقَالَ: " وَالله لأرضينك إِنِّي مسر إِلَيْك سرا فاحفظيه، أشهدك أَن سريتي هَذِه عَليّ حرَام " فَانْطَلَقت فَأخْبرت عَائِشَة.
وَقَوله: {وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا} يَعْنِي بهَا حَفْصَة من غير خلاف.
وَفِيمَا أسر إِلَيْهَا ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: تَحْرِيم مَارِيَة، رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنه قَالَ: " أَبوك وَأَبُو عَائِشَة واليا النَّاس بعدِي " رَوَاهُ سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَنه قَالَ: " إِن أَبَا بكر خليفتي من بعدِي " قَالَه مَيْمُون بن مهْرَان.
قَوْله: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله} يَعْنِي عَائِشَة وَحَفْصَة، أَي من التعاون على رَسُول الله بالإيذاء {فقد صغت قُلُوبكُمَا} [التَّحْرِيم: 4] قَالَ ابْن عَبَّاس: زاغت وأثمت.(4/336)
2530 - / 3246 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: أُصِيب سعد يَوْم الخَنْدَق، رَمَاه ابْن العرقة فِي الأكحل.
هَذَا سعد هُوَ ابْن معَاذ. وَكَانَ قد أسلم على يَدي مُصعب بن عُمَيْر لما بَعثه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة، فَأسلم بِإِسْلَامِهِ بَنو عبد الْأَشْهَل، وَهِي أول دَار أسلمت من الْأَنْصَار، وَشهد بَدْرًا، وَكَانَ مَعَه لِوَاء الْأَوْس يَوْمئِذٍ، وَشهد أحدا وَثَبت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الخَنْدَق خرج لِلْقِتَالِ.
وَأخْبرنَا أَبُو بكر بن أبي طَاهِر قَالَ: أخبرنَا الْجَوْهَرِي قَالَ: حَدثنَا ابْن حيوية قَالَ: حَدثنَا ابْن مَعْرُوف قَالَ: حَدثنَا ابْن الْفَهم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن سعد قَالَ: أخبرنَا يزِيد بن هَارُون قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَلْقَمَة عَن أَبِيه عَن جده عَن عَائِشَة قَالَت: خرجت يَوْم الخَنْدَق أقفو أثر النَّاس فَسمِعت وئيد الأَرْض من ورائي، فَالْتَفت فَإِذا أَنا بِسَعْد بن معَاذ وَمَعَهُ ابْن أَخِيه الْحَارِث بن أَوْس يحمل مجنه، فَجَلَست إِلَى الأَرْض، فَمر سعد وَهُوَ يرتجز وَيَقُول:
(لبث قَلِيلا يدْرك الهيجا حمل ... مَا أحسن الْمَوْت إِذا حَان الْأَجَل)
قَالَت: وَعَلِيهِ درع قد خرجت مِنْهُ أَطْرَافه، فَأَنا أَتَخَوَّف على أَطْرَاف سعد، وَكَانَ سعد من أطول النَّاس وأعظمهم. قَالَت: فَقُمْت فَاقْتَحَمت حديقة، فَإِذا فِيهَا نفر من الْمُسلمين وَفِيهِمْ عمر بن الْخطاب، وَفِيهِمْ رجل عَلَيْهِ تسبغة - تَعْنِي المغفر، قَالَ لي عمر: مَا جَاءَ بك؟ وَالله إِنَّك لجريئة، وَمَا يُؤمنك أَن يكون تحور أَو بلَاء؟ . قَالَت: فَمَا زَالَ يلومني حَتَّى تمنيت أَن الأَرْض انشقت ساعتئذ فَدخلت فِيهَا. قَالَت: فَرفع الرجل التسبغة عَن(4/337)
وَجهه فَإِذا هُوَ طَلْحَة بن عبيد الله. قَالَت: فَقَالَ: وَيحك يَا عمر، إِنَّك قد أكثرت مُنْذُ الْيَوْم، وَأَيْنَ التحور أَو الْفِرَار إِلَّا إِلَى الله؟ قَالَت: وَرمى سَعْدا رجل من الْمُشْركين يُقَال لَهُ ابْن العرقة فَقَالَ: خُذْهَا وَأَنا ابْن العرقة، فَأصَاب أكحله، فَدَعَا الله سعد فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تمتني حَتَّى تشفيني من قُرَيْظَة. وَكَانُوا موَالِيه وحلفاءه فِي الْجَاهِلِيَّة.
قَالَت: فرقأ كَلمه، وَبعث الله الرّيح على الْمُشْركين، وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال، وَرجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَدِينَة، فَأمر بقبة فَضربت على سعد بن معَاذ فِي الْمَسْجِد، قَالَت: فَجَاءَهُ جِبْرِيل على ثناياه النَّقْع فَقَالَ: أَو قد وضعت السِّلَاح؟ فوَاللَّه مَا وضعت الْمَلَائِكَة السِّلَاح بعد، اخْرُج إِلَى بني قُرَيْظَة فَقَاتلهُمْ. فَقَالَت: فَلبس رَسُول الله لأمته، وَأذن فِي النَّاس بالرحيل، فَأَتَاهُم رَسُول الله فَحَاصَرَهُمْ خمْسا وَعشْرين لَيْلَة.
فَلَمَّا اشْتَدَّ حصرهم قيل لَهُم: انزلوا على حكم رَسُول الله، فاستشاروا أَبَا لبَابَة فَأَشَارَ إِلَيْهِم أَنه الذّبْح، فَقَالُوا: ننزل على حكم سعد ابْن معَاذ. فَبعث رَسُول الله إِلَى سعد، فَحمل على حمَار عَلَيْهِ إكاف من لِيف، وحف بِهِ قومه فَجعلُوا يَقُولُونَ: يَا أَبَا عَمْرو، حلفاؤك ومواليك وَمن قد علمت، وَهُوَ لَا يرجع إِلَيْهِم شَيْئا، فأنزلوه، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله: " احكم فيهم " قَالَ: فَإِنِّي أحكم فيهم أَن تقتل مُقَاتلَتهمْ، وتسبى ذَرَارِيهمْ، وتقسم أَمْوَالهم. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لقد حكمت فيهم بِحكم الله وَحكم رَسُوله " قَالَت: ثمَّ دَعَا الله عز وَجل سعد فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت أبقيت على نبيك من حَرْب قُرَيْش شَيْئا فأبقني لَهَا، وَإِن كنت قطعت الْحَرْب بَينه وَبينهمْ فاقبضني إِلَيْك.(4/338)
قَالَت: فانفجر كَلمه وَكَانَ قد برأَ. وحضره رَسُول الله وَأَبُو بكر وَعمر، فوالذي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ، إِنِّي لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر وَأَنا فِي حُجْرَتي.
فَأَما قَوْلهَا: وتحجر كَلمه. الْكَلم: الْجرْح. وَالْمعْنَى: اشْتَدَّ حَتَّى صَار كالحجر.
والليت: صفحة الْعُنُق، وهما ليتان من الْجَانِبَيْنِ.
وَقَوْلها: يغذ دَمًا: أَي يسيل كثيرا. والإغذاد: سرعَة السّير.
وَابْن العرقة اسْمه حبَان. وَسميت أمه العرقة لِأَنَّهَا كَانَت تفوح طيبا. وَلما مَاتَ سعد حَضَره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يغسل، فَقبض ركبته وَقَالَ: " دخل ملك فَلم يكن لَهُ مَكَان فَأَوْسَعْت لَهُ " وَقَالَ: " لقد اهتز الْعَرْش لمَوْت سعد بن معَاذ ".
فَلَمَّا دفن اطَّلَعت أمه فِي قَبره قبل أَن يسوى عَلَيْهِ فَقَالَت: احتسبك عِنْد الله عز وَجل. وَكَانَ ابْن سبع وَثَلَاثِينَ سنة.
2531 - / 3247 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة: سحر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى كَانَ يخيل إِلَيْهِ أَنه يصنع الشَّيْء وَمَا يصنعه. ثمَّ قَالَ: " أشعرت أَن الله قد أفتاني فِيمَا استفتيته ".(4/339)
الْمَعْنى: أجابني عَمَّا سَأَلته.
والمطبوب: المسحور. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الطِّبّ حرف من الأضداد يُقَال: طب لعلاج الدَّاء، وطب للسحر، وَهُوَ من أعظم الأدواء.
ولبيد بن الأعصم كَانَ من الْيَهُود. وَقد جَاءَ فِي هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ منافقا، فَهَذَا يدل على أَنه قد أسلم نفَاقًا.
وَأما المشاطة فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هِيَ الشّعْر الَّذِي يسْقط من الرَّأْس إِذا سرح بالمشط. وَمثله مِمَّا جَاءَ على " فعالة " مِمَّا يسْقط عَن معالجة وَعمل: النحاتة: وَهُوَ اسْم مَا وَقع عَن النحت. والسحالة: اسْم مَا وَقع عَن السحل. والخلالة: اسْم مَا سقط عَن الْفَم عَن التخلل. والكساحة، وَالْقُمَامَة، والخمامة: أَسمَاء مَا وَقع عَن الكسح والقم والخم، وَهُوَ الكنس. وقلامة الظفر: اسْم مَا وَقع عَن تقليمه، والقوارة: اسْم مَا وَقع عَن التقوير.
وَفِي لفظ: ومشاقة. وَهِي مشاقة الْكَتَّان.
وجف طلعة يَعْنِي وعاءها: وَهُوَ الغشاء الَّذِي عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو عبيد: وَقد رَوَاهُ بعض الْمُحدثين: " وَجب طلعة "، وَلَا أعرف الْجب إِلَّا الْبِئْر الَّتِي لَيست بمطوية.(4/340)
وَقَوله: تَحت راعوفة. يُقَال: راعوفة، وأرعوفة، وفيهَا ثَلَاثَة أَقْوَال ذكرهَا أَبُو عبيد: أَحدهَا: أَنَّهَا صَخْرَة تتْرك فِي أَسْفَل الْبِئْر إِذا احتفرت تكون ناتئة هُنَاكَ، فَإِذا أَرَادوا تنقية الْبِئْر جلس المستقي عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا حجر يكون على رَأس الْبِئْر يقوم عَلَيْهِ المستقي. وَالثَّالِث: أَنَّهَا حجر ناتئ فِي بعض الْبِئْر يكون صلبا، وَلَا يُمكنهُم إِخْرَاجه وَلَا كَسره فَيتْرك على حَاله.
وَقَوله: " بِئْر ذِي أروان " وَفِي لفظ: " بِئْر ذروان " قَالَ الْأَصْمَعِي: بِئْر ذِي أروان مَعْرُوفَة، وَبَعْضهمْ يَقُول ذروان وَهُوَ غلط.
وَقد رُوِيَ من طَرِيق آخر أَنه بعث عليا وَالزُّبَيْر وعمار بن يَاسر فنزحوا الْبِئْر وَرفعُوا الصَّخْرَة وأخرجوا الجف، فَإِذا فِيهِ مشاطة رَأسه وأسنان مشطه ووتر معقد، فَكلما قَرَأَ من المعوذتين آيَة انْحَلَّت عقدَة وَوجد عَلَيْهِ السَّلَام خفَّة.
وَقَوْلها: أفأخرجته؟ وَفِي لفظ: فَهَلا أحرقته. يدل على أَنه الَّذِي سحر فِيهِ.
إِلَّا أَنا قد روينَاهُ من طَرِيق آخر وَفِيه: قَالَ: يَا رَسُول الله، أَفلا تَأْخُذ الْخَبيث فتقتله. فَقَالَ: " أما أَنا فقد شفاني الله، وأكره أَن أثير على النَّاس شرا " وَهَذَا يدل على أَن الْإِشَارَة إِلَى الْيَهُودِيّ السَّاحر. وَالظَّاهِر أَن(4/341)
هَذَا للساحر وَذَلِكَ للسحر.
وَقد جَاءَ فِي بعض الحَدِيث: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سحر احْتجم على رَأسه بقرن. ذكره أَبُو عبيد، وَرُبمَا حمله بعض طلاب الحَدِيث على أَن الْحجامَة وَقعت بقرن الشَّاة، وَلَا يستبعد هَذَا من طلاب الحَدِيث الْيَوْم لقلَّة علمهمْ. وَقد حُكيَ لنا عَن بعض مشايخهم المقتصرين على النَّقْل دون الْفِقْه والفهم، وأدركنا نَحن ذَاك الشَّيْخ وَقد سُئِلَ عَن الحَدِيث: احْتجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلحي جمل فَقَالَ: كَأَن لحي الْجمل المشارط. وَحكي لنا عَن شيخ آخر أدركناه أَنه سُئِلَ عَن قَوْله: " من تعار من اللَّيْل " فَقَالَ مَعْنَاهُ: تعرى. وَإِذا كَانَ هَذَا فِي أَمر ظَاهر، فَكيف إِذا رأى فِي كتاب أبي عبيد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم على رَأسه بقرن حِين سحر. ثمَّ تَركه أَبُو عبيد وَلم يفسره. وَإِنَّمَا قرن اسْم مَوضِع لَا غير، كَذَا ذكره السيرافي والرقي اللّغَوِيّ.
وَقد أنكر قوم من الْمُتَكَلِّمين صِحَة هَذَا الحَدِيث وَقَالُوا: لَو جَازَ أَن يُؤثر السحر فِي رَسُول الله لم يُؤمن أَن يُؤثر ذَلِك فِي الْوَحْي إِلَيْهِ فَيَقَع ضلال. وَالْجَوَاب: أما نقل الحَدِيث فَلَا يرتاب بِصِحَّتِهِ. وَقد نطق الْقُرْآن بِالسحرِ، وَأمر بالتعويذ من النفاثات فِي العقد. ورتب الْفُقَهَاء أحكاما فِي حق السَّاحر. والأنبياء بشر يجْرِي عَلَيْهِم مَا يجْرِي على الْبشر، إِلَّا أَن مَا يتَعَلَّق بِالْوَحْي مَحْفُوظ وهم محفوظون فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا من ارتضى من رَسُول فَإِنَّهُ يسْلك من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه رصدا} [الْجِنّ: 27] وَالْمعْنَى أَنه يحفظ الْوَحْي من استراق الشَّيَاطِين لِئَلَّا يلقوه إِلَى الكهنة فيتكلموا بِهِ قبل النَّبِي.(4/342)
2532 - / 3248 - والْحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند أبي لبَابَة.
2533 - / 3249 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة: إِن كُنَّا لنرفع الكراع فنأكله بعد خمس عشرَة لَيْلَة. الكراع من الْإِنْسَان: مَا دون الرّكْبَة. وَمن الدَّوَابّ: مَا دون الكعب. وَالْأَصْل أَن كرَاع الشَّيْء طرفه.
وَقَوْلها: الأسودان: التَّمْر وَالْمَاء. وَإِنَّمَا الْأسود التَّمْر خَاصَّة، فوصفتهما جَمِيعًا بِصفة أَحدهمَا على عَادَة الْعَرَب، فَإِنَّهُم إِذا رَأَوْا شَيْئَيْنِ مُجْتَمعين كأخوين وصديقين لَا يفترقان أَو شَيْئَيْنِ مهما كَانَا كَذَلِك سموهما بِالِاسْمِ الْأَشْهر، كَقَوْلِه: {كَمَا أخرج أبويكم} [الْأَعْرَاف: 27] .
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " بَين كل أذانين صَلَاة " يَعْنِي الْأَذَان وَالْإِقَامَة. وَقَوله: " البيعان بِالْخِيَارِ " وَقَالَ سلمَان: أحيوا مَا بَين العشاءين. وَيَقُولُونَ: سنة العمرين، يعنون أَبَا بكر وَعمر، وَإِنَّمَا لم يغلبوا أَبَا بكر وَهُوَ الْمُقدم، لِأَن لفظ عمر أخف. وَقَالَ قيس بن زُهَيْر يُعَاتب زهدما وقيسا ابْني جُزْء:
(جزاني الزهدمان جَزَاء سوء ... وَكنت الْمَرْء يجزى بالكرامة)(4/343)
فَقَالَ الزهدمان، وَإِنَّمَا هما زَهْدَم وَقيس.
وَقَالَ آخر يُعَاتب أَخَوَيْنِ يُقَال لأَحَدهمَا الْحر وَللْآخر أبي:
(أَلا من مبلغ الحرين عني ... مغلغلة وَخص بهَا أَبَيَا)
وَأنْشد الْأَحْمَر:
(نَحن سبينَا أمكُم مقربا ... يَوْم صبحنا الحيرتين الْمنون)
يُرِيد: الْحيرَة والكوفة.
وَمِمَّا اسْتعْمل مثنى فِي الْكَلَام: يُقَال: أَتَى عَلَيْهِ العصران، وهما الْغَدَاة والعشي. والملوان: اللَّيْل وَالنَّهَار، وهما الجديدان. وَيُقَال: ذهبت بِهِ الأطيبان، وهما الْأكل وَالنِّكَاح. وأفسد الرِّجَال الأحمران، وهما اللَّحْم وَالْخمر. وَأهْلك النِّسَاء الأصفران، وهما الذَّهَب والزعفران. وَاجْتمعَ للْمَرْأَة الأبيضان، وهما الشَّحْم والشباب.
وَأما المنائح فقد تكون هبة للْأَصْل، وَقد تكون هبة للمنافع. وَالْمرَاد(4/344)
هَاهُنَا أَنه كَانَت للْأَنْصَار شِيَاه أَو إبل يمنحون لَبنهَا.
2534 - / 3250، 3251 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الْمِائَة: فِي مُسْند رَافع بن خديج. وَكَذَلِكَ الثَّامِن بعد الْمِائَة فِي مُسْند أنس.
2535 - / 3252 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَة: لم أر امْرَأَة خيرا من زَيْنَب، أَشد ابتذالا لنَفسهَا فِي الْعَمَل الَّذِي تصدق بِهِ وتقرب بِهِ إِلَى الله وَمَا عدا سُورَة من حد كَانَ فِيهَا، تسرع فِيهِ الْفَيْئَة.
كَانَت زَيْنَب تعْمل بِيَدِهَا وَتَتَصَدَّق على الْفُقَرَاء.
وَالسورَة: حِدة الْغَضَب وثورانه. وَالْحَد: الحدة.
والفيئة: الرُّجُوع والسكون.
وَقَوْلها: لم أنشبها: أَي لم أتركها تنشب فِي شَيْء حَتَّى أثخنت عَلَيْهَا: أَي أفرطت.
وَقَوله: " أَنَّهَا ابْنة أبي بكر " أَي هَذِه الفصاحة والفطنة من ذَاك.
2536 - / 3253 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر بعد الْمِائَة: أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي افتلتت نَفسهَا.(4/345)
أَكثر الروَاة على نصب النَّفس، وَبَعْضهمْ يرفعها. وَالْمعْنَى مَاتَت فَجْأَة فلتة لم تمرض. وكل أَمر فعل على غير تمكث فقد افتلت، وَالِاسْم الفلتة.
2537 - / 3254 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الْمِائَة: كَانَ بِلَال إِذا أقلع عَنهُ يرفع عقيرته وَيَقُول:
(أَلا لَيْت شعري هَل أبيتن لَيْلَة ... بواد وَعِنْدِي إذخر وجليل)
(وَهل أردن يَوْمًا مياة مجنة ... وَهل يبدون لي شامة وطفيل)
فَقَالَ رَسُول الله: " اللَّهُمَّ حبب إِلَيْنَا الْمَدِينَة ".
قَوْلهَا: إِذا أقلع: أَي رفعت عَنهُ الْحمى.
وَقَوْلها: يرفع عقيرته. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يَقُول النَّاس لمن رفع صَوته: قد رفع عقيرته. وأصل هَذَا أَن رجلا قطعت إِحْدَى رجلَيْهِ، فَرَفعهَا ووضعها على الْأُخْرَى وصرخ بِأَعْلَى صَوته، فَقيل لكل رَافع صَوته: قد رفع عقيرته.
والإذخر: نبت مَعْرُوف.
والجليل: نبت أَيْضا، يُقَال: إِنَّه الثمام.
ومجنة: سوق كَانَت بِقرب مَكَّة يتجرون فِيهَا.
وشامة وطفيل: عينان، وليسا بجبلين.(4/346)
وَإِنَّمَا دَعَا أَن ينْقل حماها إِلَى الْجحْفَة لِأَنَّهَا كَانَت إِذْ ذَاك دَار الْيَهُود.
وبطحان: وَاد بِالْمَدِينَةِ.
وَقَوْلها: يجْرِي نجلا: تَعْنِي نزا، وَهُوَ نبع المَاء من الأَرْض على مثل الدبيب. وَيُقَال: إستنجل الْوَادي: إِذا ظَهرت نزوزه.
2538 - / 3255 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر بعد الْمِائَة: عَن عُرْوَة قَالَ: كنت أَنا وَابْن عمر مستندين إِلَى حجرَة عَائِشَة، فَقلت: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن، أعتمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رَجَب؟ قَالَ: نعم. فَقلت: أَي أمتاه، أَلا تسمعين مَا يَقُول؟ فَقَالَت: يغْفر الله لَهُ، لعمري مَا اعْتَمر رَسُول الله فِي رَجَب، وَمَا اعْتَمر من عمْرَة: إِلَّا وَإنَّهُ لمعه. وَابْن عمر يسمع، مَا قَالَ: لَا، وَلَا: نعم.
اعْلَم أَن سكُوت ابْن عمر لَا يَخْلُو من حَالين: إِمَّا أَن يكون قد شكّ فَسكت، أَو أَن يكون ذكر بعد النسْيَان فَرجع بسكوته إِلَى قَوْلهَا. وَعَائِشَة قد ضبطت هَذَا ضبطا جيدا. وَقد تقدم فِي مُسْند أنس: اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَربع عمر، كلهَا فِي ذِي الْقعدَة.
وَهَذَا حَدِيث يدل على حفظ عَائِشَة وَحسن ضَبطهَا، وَكَانَ لَهَا مَعَ الضَّبْط فهم غزير، تقدم بِهِ على الرَّد على جمَاعَة من الصَّحَابَة، وَمن(4/347)
ذَلِك ردهَا على ابْن عَبَّاس فِي تَفْسِير قَوْله: {وظنوا أَنهم قد كذبُوا} [يُوسُف: 110] وعَلى عمر وَابْن عمر فِي تَعْذِيب الْمَيِّت ببكاء الْحَيّ وَفِي أَن الشؤم فِي الْفرس وَالدَّار، وعَلى أبي هُرَيْرَة فِي رِوَايَته: من أصبح جنبا فَلَا صَوْم عَلَيْهِ، وعَلى غَيرهم.
2539 - / 3256 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة: أَن رجلا اسْتَأْذن على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: " بئس أَخُو الْعَشِيرَة " فَلَمَّا جلس تطلق النَّبِي فِي وَجهه.
هَذَا إِنَّمَا فعله رَسُول الله على وَجه المداراة، فسن ذَلِك لأمته، فَيجوز أَن يسْتَعْمل مثل هَذَا فِي حق الشرير والظالم.
2540 - / 3258 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد الْمِائَة: " الرَّحِم معلقَة بالعرش، تَقول: من وصلني وَصله الله، وَمن قطعني قِطْعَة الله ".
المُرَاد من هَذَا الحَدِيث أَن الرَّحِم كالقريب المسموع مِنْهُ المستجاب دعاؤه، وَقد أَشَرنَا إِلَى هَذَا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
2541 - / 3259 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَة: كَانَ النَّاس مهنة أنفسهم، وَلم يكن لَهُم كفاة.(4/348)
المهنة جمع ماهن، والماهن: الْخَادِم. والمهن، والمهنة: الْخدمَة، بِكَسْر الْمِيم وَلَا تفتح. وَتقول: مهنت الْقَوْم أمهنهم وأمهنهم، وامتهنوني: أَي استخدموني.
والكفاة: من تكفيه أَعمالهَا.
والتفل: الرَّائِحَة الكريهة.
والأرواح: الرّيح الْمَكْرُوهَة.
وَقَوله: " اغتسلتم " دَلِيل على أَن غسل الْجُمُعَة مُسْتَحبّ وَاجِب.
2542 - / 3260 - والْحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند بُرَيْدَة.
2543 - / 3262 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة: " من ابْتُلِيَ من هَذِه الْبَنَات بِشَيْء ".
إِنَّمَا ذكرهن بالابتلاء لموْضِع الْكَرَاهَة لَهُنَّ، وَالثَّوَاب إِنَّمَا يعظم على الْمَكْرُوه.
2544 - / 3263 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين بعد الْمِائَة: " كل شراب أسكر فَهُوَ حرَام ".
وَهَذَا دَلِيل وَاضح على أَن قَلِيل الْمُسكر وَكَثِيره حرَام من أَي نوع(4/349)
كَانَ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى جنس الشَّرَاب الَّذِي يكون مِنْهُ السكر بِالِاسْمِ الْعَام والنعت الْخَاص الَّذِي هُوَ عِلّة الحكم، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَو قَالَ: كل شراب أروى فَهُوَ حرَام، فَهُوَ يسْتَغْرق الْجِنْس، فَكَذَلِك هَاهُنَا.
2545 - / 3264 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " يَا عَائِشَة، هَذَا جِبْرِيل يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام ".
إِن قَالَ قَائِل: فَهَلا واجهها جِبْرِيل بِالسَّلَامِ فَكَانَ أعجب كَمَا واجه مَرْيَم.
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لما قدر وجود عِيسَى لأمر آتٍ بعث جِبْرِيل إِلَى مَرْيَم يعلمهَا بِكَوْنِهِ قبل كَونه، لتعلم أَنه مكون بِالْقُدْرَةِ فتسكن فِي زمن الْحمل، ثمَّ بعث إِلَيْهَا عِنْد الْولادَة لكَونهَا فِي حيرة ووحدة، فَقَالَ لَهَا: {أَلا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سريا} [مَرْيَم: 24] ، فَكَانَ خطاب الْملك لَهَا فِي الْحَالَتَيْنِ تسكينا لانزعاجها، ومبدأ لمعجز وَلَدهَا، بِخِلَاف عَائِشَة، وَأَنَّهَا لم تكن تقع فِي مثل هَذِه الْحَالَات.
وَالثَّانِي: أَن مَرْيَم كَانَت خَالِيَة عَن زوج، فواجهها بِالْخِطَابِ، وَعَائِشَة احترمت لمَكَان الرَّسُول، كَمَا احترم الرَّسُول قصر عمر الَّذِي رَآهُ فِي الْمَنَام أَن يدْخلهُ خوفًا من غيرَة عمر، وَهَذَا أبلغ فِي فضل عَائِشَة؛ لِأَنَّهَا إِذا احترمها جِبْرِيل الَّذِي لَا شَهْوَة لَهُ حفظا لقلب زَوجهَا كَانَت عَن الْفَحْشَاء الَّتِي قيلت عَنْهَا أبعد.
2546 - / 3265 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: خيرنا رَسُول الله فَلم نعده طَلَاقا.(4/350)
اعْلَم أَنه إِنَّمَا خيرهن عِنْد نزُول هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا النَّبِي قل لِأَزْوَاجِك إِن كنتن تردن الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا} [الْأَحْزَاب: 28] فعلى هَذَا يكون الْمَعْنى: إِن اخترتن الدُّنْيَا فأخبرنني حَتَّى أطلقكن. وَلَا يكون من تَخْيِير الْمَرْأَة الَّتِي إِذا اخْتَارَتْ فِيهِ نَفسهَا وَقع الطَّلَاق، فَإِنَّهُ إِذا قَالَ للْمَرْأَة: اخْتَارِي، كَانَ كِنَايَة فِي حَقه يفْتَقر إِلَى نِيَّته، أَو أَن يكون جَوَابا عَن سؤالها الطَّلَاق، وَهُوَ كِنَايَة فِي حَقّهَا أَيْضا إِن قبلته بِلَفْظ الْكِنَايَة كقولها: اخْتَرْت نَفسِي، وَلَا تدخل عَليّ، فَإِن هَذَا يفْتَقر نِيَّتهَا. فَأَما إِذا قَالَت: طلقت نَفسِي مِنْك وَقع الطَّلَاق من غير نِيَّة، وَذَلِكَ مَوْقُوف على الْمجْلس، فَأمرهَا بِيَدِهَا مَا لم تقم عَن الْمجْلس أَو تَأْخُذ فِي علم يقطع حكم الْمجْلس، خلافًا لأحد قولي الشَّافِعِي: إِنَّه على الْفَوْر، فَإِن قَامَت وَلم تطلق نَفسهَا خرج الْأَمر من يَدهَا. وَقَالَ الْحسن وَالزهْرِيّ: أمرهَا بِيَدِهَا أبدا. وَإِذا قَالَ: اخْتَارِي، وَنوى وَاحِدَة فَاخْتَارَتْ فَهِيَ رَجْعِيَّة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: وَاحِدَة بَائِن. وَقَالَ مَالك: إِن كَانَ مَدْخُولا بهَا فَهِيَ رَجْعِيَّة، فَإِن قَالَ: اخْتَارِي، وَنوى الثَّلَاث فَاخْتَارَتْ ونوت الثَّلَاث فَهِيَ ثَلَاث، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تقع وَاحِدَة.
2547 - / 3266 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: " من ظلم قيد شبر " أَي قدر شبر. وَقد سبق فِي مُسْند سعيد بن زيد.
2548 - / 3267 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: قَالَت:(4/351)
كَانَ يكون عَليّ الصَّوْم من رَمَضَان فَمَا أَسْتَطِيع أَن أَقْْضِي إِلَّا فِي شعْبَان.
اعْلَم أَن تَأْخِير قَضَاء رَمَضَان جَائِز إِلَى شعْبَان، إِلَّا أَنه إِذا بَيت النِّيَّة ليقضي ثمَّ أصبح صَائِما لم يجز لَهُ أَن يفْطر ذَلِك الْيَوْم، لِأَنَّهُ بشروعه فِيهِ قد تعين وَقَامَ مقَام الْمقْضِي، وَكَانَت عَائِشَة أحب نِسَائِهِ إِلَيْهِ، فَلم يُمكنهَا أَن تبيت النِّيَّة للْقَضَاء مَخَافَة أَن يريدها، فأخرت الْقَضَاء قَضَاء لواجب حَقه، فَلَمَّا علمت أَنه يَصُوم شعْبَان أخذت فِي الْقَضَاء. وَقد دلّ هَذَا على أَن حق الزَّوْج مقدم على كل شَيْء مَا خلا الْفَرَائِض.
2549 - / 3268 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: قَالَت مَا ألفاه السحر عِنْدِي إِلَّا نَائِما.
السحر: آخر اللَّيْل.
وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينَام أول اللَّيْل، فَرُبمَا قَامَ نصف اللَّيْل أَبُو قبله فَيصَلي، فَإِذا جَاءَ السحر عَاد إِلَى نَومه، وَقد قَالَ: " أفضل الصَّلَاة صَلَاة دَاوُد، كَانَ ينَام نصف اللَّيْل، وَيقوم ثلثه، وينام سدسه " وَقد قيل: إِن سَبَب الصُّفْرَة فِي الْوَجْه سهر آخر اللَّيْل، فَإِذا نَام الْإِنْسَان قبل الْفجْر لم تظهر عَلَيْهِ صفرَة فِي الْوَجْه، وَلَا أثر فِي السهر.
2550 - / 3271 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: مَا رَأَيْته(4/352)
فِي شهر أَكثر صياما مِنْهُ فِي شعْبَان.
قد بَين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبَب صَوْمه فِي شعْبَان فِي حَدِيث آخر، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَن صَوْمه فِيهِ فَقَالَ: " إِن الْآجَال تكْتب فِيهِ، فَأحب أَن يكْتب أَجلي وَأَنا فِي عبَادَة رَبِّي " ثمَّ إِنَّه شهر يغْفل النَّاس عَنهُ تقويا بِالْفطرِ لرمضان، وكل وَقت يغْفل النَّاس عَنهُ يكون فَاضلا لقلَّة القائمين بِالْخدمَةِ، وكما بَين العشاءين، وَنصف اللَّيْل وَأَشْبَاه ذَلِك.
2551 - / 3272 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: أَن رجلا أَتَى رَسُول الله فَقَالَ: إِنَّه احْتَرَقَ. وَقَالَ مَالك: قَالَ: أصبت أَهلِي فِي رَمَضَان.
الْمَعْنى أَنِّي احترقت بِنَار الْإِثْم الَّذِي يؤول إِلَى الاحتراق بالنَّار. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
2552 - / 3273 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: كنت أغسل الْجَنَابَة من ثوب رَسُول الله: وَفِي لفظ: كنت أفركه.
أما غسله فللتنظف وَأما فركه فدليل على طَهَارَته. وَكَذَلِكَ حكمه إِذا كَانَ يَابسا، وَمَعْلُوم أَنه لَا ييبس عَاجلا.(4/353)
وَالظَّاهِر صَلَاة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام فِي ذَلِك الثَّوْب قبل حكه، لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ ثِيَاب كَثِيرَة.
وَقد اخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْمَنِيّ، فالمنصور عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ أَن مني الْآدَمِيّ وَمَا يُؤْكَل لَحْمه طَاهِر، وَعَن أَحْمد أَنه نجس نَجَاسَة خَفِيفَة، فيجزي فرك يابسه، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك، إِلَّا أَن مَالِكًا أوجب الْغسْل فِي رطبه ويابسه.
2553 - / 3274 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: مَا رَأَيْت رَسُول الله مستجمعا قطّ ضَاحِكا حَتَّى ترى مِنْهُ لهواته.
الْمَعْنى: مَا جمع همه لذَلِك وَلَا تهَيَّأ لَهُ وَلَا قَصده، وَلَا أسْرع فِيهِ.
واللهوات جمع لهاة: وَهِي اللحمة الْحَمْرَاء المتدلية من الحنك الْأَعْلَى.
والعارض من السَّحَاب: الضخن.
والمخيلة بِفَتْح الْمِيم: السحابة الَّتِي يغلب على الظَّن وجود الْمَطَر مِنْهَا. وَيُقَال: أخالت السَّمَاء فَهِيَ مخيلة: إِذا تغيمت غيما يُوهم وجود الْمَطَر.
وأمطرت لُغَة، قَالَ الزّجاج: يُقَال مطرَت السَّمَاء وأمطرت.
وَمعنى سري عَنهُ: كشف عَنهُ.
وعصفت الرّيح: اشْتَدَّ هبوبها.(4/354)
2554 - / 3275 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: سهر رَسُول الله مقدمه الْمَدِينَة لَيْلَة. وَفِي لفظ: أرق.
السهر: عدم النّوم بِاللَّيْلِ. والأرق: السهر.
وخشخشة السِّلَاح: صَوته عِنْد تحريكه.
والغطيط: صَوت ترديد النَّفس فِي النّوم.
وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحرس حَتَّى نزلت: {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} [الْمَائِدَة: 67] .
فَإِن قيل: كَيفَ طلب الحراسة مَعَ توكله وثقته بِالْقدرِ؟ فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهمَا: أَنه سنّ هَذِه الْأَشْيَاء لَا لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا، كَمَا ظَاهر بَين درعين، وشاور طبيبين، وَاسْتَشَارَ أَصْحَابه. وَيدل على غناهُ عَنْهَا أَنهم كَانُوا إِذا اشْتَدَّ الْبَأْس قدموه وَاتَّقوا بِهِ، وَلما وَقع فزع بِالْمَدِينَةِ ركب وَحده وَخرج.
وَالثَّانِي: أَن التَّوَكُّل والثقة بِاللَّه سُبْحَانَهُ لَا ينافيان الْعَمَل بالأسباب، بِدَلِيل قَوْله: " اعلقها وتوكل "؛ وَهَذَا لِأَن التَّوَكُّل عمل يخْتَص بِالْقَلْبِ، والتعرض بالأسباب أَفعَال تخْتَص الْبدن وَلَا تنَاقض.
وَالثَّالِث: أَن وساوس النَّفس وحديثها لَا يدْفع إِلَّا بمراعاة الْأَسْبَاب، وَمِنْه قَول إِبْرَاهِيم: {وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي} [الْبَقَرَة: 260] وَمَتى وسوست النَّفس شغلت الْقلب عَن وظائفه، فَإِذا سكنت وسوستها بِشَيْء من(4/355)
الْأَسْبَاب تشاغلت بِهِ عَن إِيذَاء الْقلب المتَوَكل النَّاظر إِلَى الْمُسَبّب. وَمن هَذَا حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي: أَنهم رَأَوْهُ يحمل طَعَاما وَيَقُول: إِن النَّفس إِذا أحرزت قوتها اطمأنت.
2555 - / 3276 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: إِن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: من أصبح جنبا فَلَا يصم، وَأَن عَائِشَة وَأم سَلمَة روتا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يُدْرِكهُ الْفجْر وَهُوَ جنب ثمَّ يغْتَسل ويصوم. فَلَمَّا قيل لأبي هُرَيْرَة قَالَ: لم أسمعهُ من رَسُول الله، سمعته من الْفضل بن الْعَبَّاس.
وَقد تعلق بِهَذَا بعض الطاعنين على أبي هُرَيْرَة فَقَالَ: لما بَان لَهُ الصَّوَاب أحَال على ميت. لِأَن الْفضل مَاتَ سنة ثَمَانِي عشرَة فِي خلَافَة عمر.
وَالْجَوَاب: أَن يُقَال لهَذَا الْجَاهِل بِالْعلمِ: أما أَبُو هُرَيْرَة فَلَا مطْعن فِيهِ، وَقد ذكرنَا فَضله فِي حَدِيث " الْمُصراة " من مُسْنده، ورددنا على الطاعنين عَلَيْهِ. ثمَّ لَو علمت مَا جرى فِي هَذِه الشَّرِيعَة من النَّاسِخ والمنسوخ، وَعرفت أَن جمَاعَة من الصَّحَابَة استصحبوا الْعَمَل بالمنسوخ وَلم يبلغهم النَّاسِخ مَا قلت هَذَا، وَلَكِن الْجَهْل مهلك.
ثمَّ إِنَّه قد كَانَ فِي أول الْإِسْلَام يحرم على من نَام أَن يَأْكُل إِذا انتبه بِاللَّيْلِ، أَو يُجَامع، فَكَانَ مَا قَالَه أَبُو هُرَيْرَة تَابعا لذَلِك الحكم، فَلَمَّا جَاءَت الْإِبَاحَة للْأَكْل وَالْجِمَاع إِلَى حِين طُلُوع الْفجْر صَار من ضَرُورَة(4/356)
المجامع إِلَى وَقت الْفجْر أَن يصبح جنبا.
وَهَذِه الْأَشْيَاء لَا يطلع على حقائقها إِلَّا فُقَهَاء النقلَة.
2556 - / 3277 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: " وَمِنْه نُوقِشَ الْحساب عذب ".
قَالَ أَبُو عبيد: المناقشة: الِاسْتِقْصَاء فِي الْحساب حَتَّى لَا يتْرك مِنْهُ شَيْء، وَمِنْه قَوْلهم: انتقشت مِنْهُ جَمِيع حَقي، وأحسب نقش الشَّوْكَة من هَذَا، وَهُوَ استخراجها حَتَّى لَا يتْرك فِي الْجَسَد مِنْهَا شَيْء.
قلت: وَظَاهر هَذَا الحَدِيث أَن من فتش عَن كل شَيْء عمله عذب، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يفتش المسخوط عَلَيْهِ، فَأَما المرحوم فَإِن بداية رَحمته الْمُسَامحَة فِي الْمَسْأَلَة، وَيحْتَمل أَن يكون معنى الحَدِيث: من نُوقِشَ عذب بنقاشه.
2557 - / 3278 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: " إِن أبْغض الرِّجَال إِلَى الله الألد الْخصم ".
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: رجل أَلد، بَين اللدد، وَقوم لد قَالَ الزّجاج: واشتقاقه من لديدي الْعُنُق: وهما صفحتا الْعُنُق. وتأويله أَن خَصمه من أَي وَجه أَخذ عَن يَمِين أَو شمال من أَبْوَاب الْخُصُومَة غَلبه فِي ذَلِك.(4/357)
2558 - / 3279 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: قلت: يَا رَسُول الله، يستأمر النِّسَاء فِي أبضاعهن؟ قَالَ " نعم ".
الأبضاع جمع بضع، وَهُوَ كِنَايَة عَن الْفرج. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2559 - / 3281 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: " لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح، وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة، وَإِذا استنفرتم فانفروا ".
قد سبق هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَبينا أَن مَكَّة هِيَ أم الْقرى، فَلَمَّا فتحت كَانَ كَأَنَّهُ قد فتح الْكل، فَسقط معنى الْهِجْرَة.
2560 - / 3282 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: كَانَ عمله دِيمَة.
قَالَ أَبُو عبيد: أصل الديمة الْمَطَر الدَّائِم مَعَ السّكُون، قَالَ لبيد:
(باتت وأسبل واكف من دِيمَة ... يروي الخمائل دَائِما تسجامها)
وَقَالَ أَبُو زيد الْأنْصَارِيّ: الديمة: الْمَطَر الدَّائِم الَّذِي لَيْسَ فِيهِ رعد وَلَا برق، أَقَله ثلث النَّهَار أَو ثلث اللَّيْل. والتهتان نَحْو الديمة. والرهمة أَشد(4/358)
وَقعا من الديمة وأسرع ذَهَابًا، فشبهت عمله فِي دَوَامه مَعَ الاقتصاد بديمة الْمَطَر.
2561 - / 3284 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كَانَت إحدانا إِذْ كَانَت حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يُبَاشِرهَا أمرهَا أَن تأتزر من فَور حَيْضَتهَا ثمَّ يُبَاشِرهَا.
فَور الْحَيْضَة: إقبالها وانبعاثها.
وَقد سبق فِي هَذَا الْمسند بَيَان قَوْلهَا: أملككم لإربه، وَسبق ذكر مُبَاشرَة الْحَائِض.
2562 - / 3285 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: أهْدى مرّة غنما فقلدها.
هَذَا يدل على أَن الْغنم من الْهَدْي. وَقد زعم بَعضهم أَنه لَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْهَدْي.
وَفِي هَذَا الحَدِيث مَا يدل على أَن الْمسنون تقليدها، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يسن.
2563 - / 3286 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: رخص(4/359)
لأهل بَيت من الْأَنْصَار فِي الرّقية من كل ذِي حمة.
أما الرُّخْصَة فقد جَاءَت بِلَفْظ عَام وَهُوَ: " لَا رقية إِلَّا من عين أَو حمة " وَقد سبق بَيَان هَذَا فِي مُسْند أنس. وَقد تكلمنا فِيمَا يتَعَلَّق بِالْعينِ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2564 - / 3287 - وَقد سبق بَيَان الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة فِي مُسْند ابْن عَبَّاس أَيْضا.
2565 - / 3288 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كنت مسندته إِلَى صَدْرِي، فَدَعَا بالطست، فَلَقَد انخنث فِي حجري فَمَا شَعرت أَنه مَاتَ.
الطست مَذْكُور فِي مُسْند أبي ذَر.
وانخنث بِمَعْنى مَال. قَالَ أَبُو عبيد: انخنثت عُنُقه أَو غَيرهَا من الْجَسَد، وَأَصله التثني والتكسر.
2566 - / 3289 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: " إِذا أنفقت الْمَرْأَة من طَعَام بَيتهَا غير مفْسدَة فلهَا أجرهَا وَللزَّوْج ... " وَقد(4/360)
تقدم فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
2567 - / 3290 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: مَا رَأَيْت أحدا الوجع أَشد عَلَيْهِ من رَسُول الله.
اعْلَم أَن شدَّة الِابْتِلَاء على مِقْدَار الْمعرفَة، وَكلما علت منزلَة الْعَارِف لصق الْبلَاء بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَكلما اشتدت رفق بِهِ.
وَقد سبق عَن ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " إِنِّي أوعك كَمَا يوعك رجلَانِ مِنْكُم ".
وَأخْبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا وَكِيع قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن عَاصِم بن أبي النجُود عَن مُصعب بن سعد عَن أَبِيه قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله! أَي النَّاس أَشد بلَاء؟ قَالَ: " الْأَنْبِيَاء، ثمَّ الصالحون، ثمَّ الأمثل فالأمثل من النَّاس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فَإِن كَانَ فِي دينه صلابة زيد فِي بلائه، وَإِن كَانَ فِي دينه رقة خفف عَنهُ ".
2568 - / 2478 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: قلت لعَائِشَة: يَا أمتاه، هَل رأى مُحَمَّد ربه؟ فَقَالَت: لقد قف شعري مِمَّا قلت، من حَدثَك أَن مُحَمَّدًا رأى ربه فقد كذب.(4/361)
قَوْله: يَا أمتاه. الْهَاء للْوَقْف.
وَقَوْلها: قف: أَي قَامَ وارتفع من الْفَزع والاستعظام.
والفرية: الْكَذِب المختلق.
وَهَذَا الحَدِيث يحْتَج بِهِ من يَنْفِي الرُّؤْيَة، وَجَوَابه ينْحَصر فِي ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه رَأْي لَا رِوَايَة، وَمثل هَذَا لَا يرجع فِيهِ إِلَى رَأْي صَحَابِيّ ينْفَرد بِهِ.
وَالثَّانِي: أَنه نفي: وَالْإِثْبَات مقدم. وَقد صَحَّ الْإِثْبَات للرؤية من طرقه، وَقد مضى من طَرِيق مُتَّفق عَلَيْهَا: " إِنَّكُم لترون ربكُم " و " هَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة الشَّمْس وَالْقَمَر، فَكَذَلِك لَا تضَارونَ فِي رُؤْيَته " وَقد روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " رَأَيْت رَبِّي ".
وَالثَّالِث: أَن هَذَا أَمر مَا كَانَت عَائِشَة فِي زَمَنه عِنْد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ إِنَّمَا رأى ربه فِي لَيْلَة الْمِعْرَاج، والمعراج كَانَ قبل الْهِجْرَة، وَعَائِشَة إِنَّمَا زفت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة ثِنْتَيْنِ من الْهِجْرَة وَهِي بنت تسع سِنِين.
فَأَما قَوْله: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار} [الْأَنْعَام: 103] فَقَالَ الزّجاج: معنى الْآيَة: الْإِحَاطَة بِحَقِيقَة الرُّؤْيَة، وَلَيْسَ فِي ذَلِك دفع للرؤية لما صَحَّ عَن رَسُول الله من الرُّؤْيَة.
وَأما قَوْله: {مَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا} [الشورى: 51] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: المُرَاد بِالْوَحْي هَاهُنَا الْوَحْي فِي الْمَنَام {أَو من وَرَاء حجاب}(4/362)
كَمَا كلم مُوسَى، {أَو يُرْسل رَسُولا} كجبريل، {فَيُوحِي} ذَلِك الرَّسُول إِلَى الْمُرْسل إِلَيْهِ بِإِذن الله مَا يَشَاء. قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: وَهَذِه الْآيَة مَحْمُولَة على أَنه لَا يكلم بشرا إِلَّا من وَرَاء حجاب فِي الدُّنْيَا.
2569 - / 3292 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: " إِنَّمَا الرضَاعَة من المجاعة ".
قَالَ أَبُو عبيد: الْمَعْنى: إِن الَّذِي إِذا جَاع كَانَ طَعَامه أَن يشبعه اللَّبن إِنَّمَا هُوَ الصَّبِي الرَّضِيع. فَأَما الَّذِي يشبعه من جوعه الطَّعَام فَإِن أرضعتموه فَلَيْسَ برضاع. فَمَعْنَى الحَدِيث: إِنَّمَا الرَّضَاع مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ قبل الْفِطَام والمصة: الْمرة الْوَاحِدَة، وَهَذَا لِأَنَّهَا لَا تسد الْجُوع وَلَا حُرْمَة لَهَا.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي مُدَّة الرَّضَاع، وَفِي قدر مَا يحرم مِنْهُ. وَسَيَأْتِي ذَلِك بعد أَحَادِيث.
2570 - / 3293 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين بعد الْمِائَة: كَانَ يُعجبهُ التَّيَمُّن فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره، وَفِي شَأْنه كُله.
لما جعلت الْقُوَّة فِي الْيَمين خص بِالْيَمِينِ الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل، فَكَانَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقدم أهل الْيَمين، ويخص الْجَانِب الإيمن لفضله.(4/363)
2571 - / 3294 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة: كَانَ يكثر أَن يَقُول فِي رُكُوعه وَسُجُوده: " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغْفِر لي " يتَأَوَّل الْقُرْآن.
تَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {فسبح بِحَمْد رَبك وَاسْتَغْفرهُ} [النَّصْر: 3] .
2572 - / 3297 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة: كَانَ إِذا دخل الْعشْر شدّ المئزر.
هَذَا الحَدِيث يتَأَوَّل على وَجْهَيْن ذكرهمَا ابْن قُتَيْبَة: أَحدهمَا: اعتزال النِّسَاء، فكنى عَن ذَلِك بشد المئزر، وَإِن لم يكن ثمَّ مئزر، وَإِنَّمَا هُوَ مثل، قَالَ الأخطل:
(قوم إِذا حَاربُوا شدوا مآزرهم ... دون النِّسَاء وَلَو باتت بأطهار)
وَالثَّانِي: أَنه الْجد فِي الْعِبَادَة، تَقول: قد شددت لهَذَا الْأَمر مئزري: أَي جددت فِيهِ، قَالَ الْهُذلِيّ:
(وَكنت إِذا جاري دَعَا لمضوفة ... أشمر حَتَّى ينصف السَّاق مئزري)
والمضوفة: الْأَمر يحذر مِنْهُ.
وَإِنَّمَا كَانَ يجْتَهد فِي الْعشْر لمعنيين: أَحدهمَا: لرجاء لَيْلَة الْقدر. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ آخر الْعَمَل، وَيَنْبَغِي أَن يحرص على تجويد الخاتمة.(4/364)
2573 - / 3299 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين بعد الْمِائَة: " الماهر بِالْقُرْآنِ مَعَ السفرة الْكِرَام البررة ".
الماهر: الحاذق.
والسفرة: الْمَلَائِكَة. وَفِي تسميتهم بالسفرة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مَأْخُوذ من الْبَيَان والإيضاح، فسموا سفرة: أَي كتبة؛ لِأَن الْكَاتِب يبين الشَّيْء ويوضحه، وَيُقَال لِلْكَاتِبِ سَافر.
وَالثَّانِي: مَأْخُوذ من السفارة، والسفير: الَّذِي يصلح بَين الِاثْنَيْنِ.
يُقَال: سفرت بَين الْقَوْم: أَي أصلحت.
وَفِيمَا يسفرون فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم يسفرون فِيمَا بَين الله وأنبيائه. وَالثَّانِي: فِي صَلَاح النَّاس، لأَنهم ينزلون بِالْوَحْي والتأديب المصلح.
وَقَوله: الْكِرَام البررة: أَي كرام على رَبهم، بررة: أَي مطيعون.
والتعتعة: التَّرَدُّد فِي الشَّيْء والتبلد.
وَرُبمَا تخايل السَّامع فِي قَوْله: " لَهُ أَجْرَانِ " أَنه يزِيد على الماهر، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن المضاعفة للماهر لَا تحصر؛ فَإِن الْحَسَنَة قد تضَاعف إِلَى سَبْعمِائة وَأكْثر، فَإِنَّمَا الْأجر شَيْء مُقَدّر، فالحسنة لَهَا ثَوَاب مَعْلُوم، وفاعلها يعْطى ذَلِك الثَّوَاب مضاعفا إِلَى عشر مَرَّات، وَلِهَذَا المقصر مِنْهُ أَجْرَانِ.
فَإِن قيل: فَهَلا جعل أجر هَذَا الَّذِي يشق عَلَيْهِ الْقُرْآن أَكثر، لِأَن مشقته أعظم؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه لَا يمهر مِنْهُ غَالِبا إِلَّا عَن كَثْرَة الدراسة، وَلَا يَقع التتعتع(4/365)
غَالِبا إِلَّا عَن قلتهَا، فباجتهاد الْحَافِظ حَتَّى اسْتَقر فِي قلبه ارْتَفع أجره
وَالثَّانِي: أَن يفضل الْحَافِظ الْفَهم على البليد لجوهرية خص بهَا لَا تكسب، كَمَا فضل الْعَرَبِيّ على الكودن، وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2574 - / 3303 - وَفِي الحَدِيث السِّتين بعد الْمِائَة: سمع رَسُول الله صَوت خصوم بِالْبَابِ، فَإِذا أَحدهمَا يستوضع الآخر ويسترفقه، وَهُوَ يَقُول: وَالله لَا أفعل، فَخرج عَلَيْهِمَا رَسُول الله فَقَالَ: " أَيْن المتألي على الله لَا يفعل الْمَعْرُوف؟ ".
يستوضع: يسْأَل الوضيعة: وَهُوَ أَن يضع لَهُ شَيْئا من حَقه: أَي يحط عَنهُ.
ويسترفقه: يسْأَله الرِّفْق، والرفق: اللين واللطف.
وَفِي هَذَا الحَدِيث نهي للْإنْسَان أَن يحلف على ترك الْبر وَالْخَيْر.
2575 - / 3304 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: لما جَاءَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قتل ابْن حَارِثَة وجعفر وَابْن رَوَاحَة جلس يعرف فِيهِ الْحزن وَأَنا أنظر من صائر الْبَاب.
هَذَا الحَدِيث يدل على أَن ظُهُور الْحزن على الْآدَمِيّ لَا يقْدَح فِي الصَّبْر، وَلَا يُؤثر فِي الرِّضَا بِالْقضَاءِ؛ لِأَن الْإِنْسَان لَا يملك مَا يظْهر عَلَيْهِ(4/366)
من الْحزن وجريان الدمع.
وصائر الْبَاب وصيره: شقَّه.
وَقَوْلها: أرْغم الله أَنْفك: أَي ألصقه بالرغام: وَهُوَ التُّرَاب.
والعناء: الْمَشَقَّة والكلفة.
2576 - / 3305 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: لَو أَن رَسُول الله رأى مَا أحدث النِّسَاء لمنعهن الْمَسْجِد كَمَا منعت نسَاء بني إِسْرَائِيل.
إِنَّمَا أشارت عَائِشَة بِمَا أحدث النِّسَاء من الزِّينَة واللباس وَالطّيب وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يخَاف مِنْهُ الْفِتْنَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ يحيى بن سعيد: فَقلت لعمرة: أنساء بني إِسْرَائِيل منعن الْمَسْجِد؟ قَالَت: نعم.
أما عمْرَة: فقد روى عَن عَائِشَة أَربع نسْوَة كُلهنَّ اسْمهَا عمْرَة: إِحْدَاهُنَّ راوية هَذَا الحَدِيث.
وَالثَّانيَِة: رَوَت أَنَّهَا دخلت مَعَ أمهَا على عَائِشَة فسألتها: مَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي الْفِرَار من الطَّاعُون؟ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " كالفرار من الزَّحْف ".(4/367)
وَالثَّالِثَة: قَالَت: خرجت مَعَ عَائِشَة سنة قتل عُثْمَان إِلَى مَكَّة، فمررنا بِالْمَدِينَةِ ورأينا الْمُصحف الَّذِي قتل وَهُوَ فِي حجره، فَكَانَت أول قَطْرَة قطرت من دَمه على هَذِه الْآيَة: {فَسَيَكْفِيكَهُم الله وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم} [الْبَقَرَة: 137] قَالَت عمْرَة: فَمَا مَاتَ مِنْهُم رجل سويا.
وَالرَّابِعَة: رَوَت عَن عَائِشَة قَالَت: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْهَى عَن الْوِصَال، وَيَأْمُر بتبكير الْإِفْطَار، وَتَأْخِير السّحُور.
فَأَما الأولى فَهِيَ عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن الْأَنْصَارِيَّة، حدث عَنْهَا الزُّهْرِيّ وَغَيره وَهِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث الَّذِي نَحن فِيهِ.
وَالثَّانيَِة: عمْرَة بنت قيس العدوية.
وَالثَّالِثَة: عمْرَة بنت أَرْطَأَة العدوية، وَقد قَالَ بعض الْحفاظ: إِن هَذِه الثَّالِثَة هِيَ الثَّانِيَة، وَإِنَّمَا نسبت تَارَة إِلَى أَبِيهَا وَتارَة إِلَى جدها.
وَأما الرَّابِعَة: فَيُقَال لَهَا: الطاحية.
2577 - / 3306 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: كَانَ إِذا اشْتَكَى الْإِنْسَان أَو كَانَ بِهِ جرح قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإصبعه هَكَذَا - وَوضع الرَّاوِي سبابته بِالْأَرْضِ ثمَّ رَفعهَا فَقَالَ: " بِسم الله. تربة أَرْضنَا، بريقة بَعْضنَا، يشفى بِهِ سقيمنا، بِإِذن رَبنَا ".
المُرَاد من هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ يَأْخُذ بإصبعه من تُرَاب الأَرْض فيضعه على ذَلِك الْجرْح.(4/368)
وَقَوله: " بريقة بَعْضنَا " يدل على أَنه كَانَ يضع السبابَة فِي فَمه لتبتل بالريق فيعلق بهَا التُّرَاب.
والاستشفاء بِتُرَاب وَطن الْإِنْسَان مَعْرُوف عِنْد الْعَرَب، وَكَانَت الْعَرَب إِذا سَافَرت حملت مَعهَا من تربة بَلَدهَا تستشفي بِهِ عِنْد مرض يعرض. قَالَ رجل من بني ضبة:
(نسير على علم بكنه مسيرنا ... وعدة زَاد فِي فنَاء المزاود)
(ونحمل فِي الْأَسْفَار مِنْهَا قبيضة ... من المنتأى النائي لحب الموالد)
وَأوصى الْإِسْكَنْدَر إِذا مَاتَ أَن يحمل إِلَى بَلَده حبا لوطنه. واعتل اسفنديار فِي بعض غَزَوَاته فَقيل لَهُ: مَا تشْتَهي؟ قَالَ: شمة من تربة بَلخ، وشربة من مَاء واديها. واعتل سَابُور ذُو الأكتاف بالروم وَكَانَ مأسورا، وَكَانَت بنت ملكهم قد عشقته، فَقَالَت لَهُ: مَا تشْتَهي؟ فَقَالَ: شربة من مَاء دجلة، وشميما من تُرَاب اصطخر، فغبرت عَنهُ أَيَّامًا ثمَّ أَتَت بِمَاء من الْفُرَات وقبضة من شاطئه، وَقَالَت: هَذَا من دجلة، وَهَذِه من تربة أَرْضك. فَشرب بالوهم واشتم تِلْكَ التربة، فنقه من علته.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى:
2578 - / 3309 - الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: وَفِيه: أَن امْرَأَة سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن غسلهَا من الْمَحِيض، فَقَالَ: " خذي فرْصَة من مسك فتطهري بهَا ".(4/369)
هَذِه الْمَرْأَة السائلة اسْمهَا أَسمَاء بنت شكل الْأَنْصَارِيَّة.
قَالَ أَبُو عبيد: الفرصة: الْقطعَة من الصُّوف أَو الْقطن أَو غَيره. وَإِنَّمَا أَخذ من: فرصت الشَّيْء: أَي قطعته، وَمِنْه المفراص: الحديدة الَّتِي تقطع بهَا الْفضة، قَالَ الْأَعْشَى:
(وأدفع عَن أعراضكم وأعيركم ... لِسَانا كمفراص الخفاجي ملحبا)
وكل شَيْء قطع بِهِ فَهُوَ ملحب.
وَفِي وَقَوله: " ممسكة " وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه من الْمسك. الثَّانِي من الْإِمْسَاك. يُقَال: أَمْسَكت الشَّيْء ومسكته. يُرِيد أَنَّهَا تمسكها بِيَدِهَا فتستعملها.
وَيصدق الْوَجْه الأول أَنا قد ذكرنَا فِي بعض الْأَلْفَاظ " فرْصَة من مسك ". وَيُقَوِّي الْوَجْه الثَّانِي أَنه لم يكن الْمسك عِنْدهم بِحَيْثُ يبتذله الْفُقَرَاء.
والشئون جمع شَأْن، وَهِي تسمى الْقَبَائِل، وَهِي أَربع قطع فِي جمجمة الرَّأْس، مشعوب بَعْضهَا بِبَعْض. وَيُقَال: إِن الدمع يجْرِي مِنْهَا فِي عروق إِلَى الْعين. وَمُرَاد الحَدِيث أَن يبلغ المَاء إِلَى أصُول الشّعْر.
2579 - / 3311 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: أَن جَارِيَة مَرضت فتمعط شعرهَا، فأرادوا أَن يصلوها، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لعن الله(4/370)
الْوَاصِلَة وَالْمسْتَوْصِلَة "
تمعط بِمَعْنى تناثر. يُقَال: ذِئْب أمعط: إِذا سقط شعره فَبَقيَ أجرد وَمثله تمرط الشّعْر.
وَإِنَّمَا نهي عَن ذَلِك لما فِيهِ من الْغِشّ وَالْخداع. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند ابْن عمر وَغَيره.
2580 - / 3312 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: أَن امْرَأَة قَالَت لعَائِشَة: مَا بَال الْحَائِض تقضي الصَّوْم وَلَا تقضي الصَّلَاة؟ فَقَالَت: أحرورية أَنْت؟ كُنَّا نؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا نؤمر بِقَضَاء الصَّلَاة.
إِنَّمَا قَالَت لَهَا هَذَا لِأَن الحرورية يتنطعون ويتعمقون فِي الْفُرُوع وَإِن كَانُوا قد ضيعوا الْأُصُول.
2591 - / 3313 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين بعد الْمِائَة: قَالَت عَائِشَة: لما كثر لَحْمه صلى جَالِسا.
اعْلَم أَنه مَا وصف أحد رَسُول الله بالسمن أصلا، وَلَقَد مَاتَ وَمَا شبع من خبز الخمير فِي يَوْم مرَّتَيْنِ. فأحسب أَن بعض الروَاة روى قَوْلهَا: لما بدن، بِمَا يَظُنّهُ الْمَعْنى، فَقَالَ: كثر لَحْمه، فَإِن قوما قد ظنُّوا أَن بدن بِمَعْنى سمن، وَلَيْسَ كَذَلِك. وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ من هَذَا الْمسند. وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى ثقل لَحْمه وَإِن كَانَ قَلِيلا.(4/371)
2582 - / 3314 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين بعد الْمِائَة: كَانَ إِذا أَرَادَ أَن ينَام وَهُوَ جنب غسل فرجه وَتَوَضَّأ للصَّلَاة.
أما غسل الْفرج فلإزالة الْأَذَى. وَأما الْوضُوء فلتخفيف الْحَدث. وَقد تقدم هَذَا فِي مُسْند عمر.
2583 - / 3315 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين بعد الْمِائَة: أَن بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَ لَهُ: أَيّنَا أسْرع بك لُحُوقا؟ قَالَ: " أَطْوَلكُنَّ يدا " فَأخذُوا قَصَبَة يَذْرَعُونَهَا، فَكَانَت سَوْدَة أَطْوَلهنَّ يدا، فَعلمنَا بعد أَنما كَانَ طول يَدهَا للصدقة، فَكَانَت أَسْرَعنَا لُحُوقا بِهِ، وَكَانَت تحب الصَّدَقَة.
هَذَا الحَدِيث غلط فِيهِ بعض الروَاة، وَالْعجب من البُخَارِيّ كَيفَ لم يُنَبه عَلَيْهِ، وَلَا أَصْحَاب التَّعَالِيق، وَلَا الْحميدِي، وَلَا علم بِفساد ذَلِك الْخطابِيّ، فَإِنَّهُ فسره وَقَالَ: لُحُوق سَوْدَة بِهِ من أَعْلَام نبوته. وكل ذَلِك وهم، وَإِنَّمَا هِيَ زَيْنَب، فَإِنَّهَا كَانَت أَطْوَلهنَّ يدا بالعطاء وَالْمَعْرُوف، قَالَ ابْن أبي نجيح: كَانَت زَيْنَب تعْمل الأزمة والأوعية تقوى بهَا فِي سَبِيل الله عز وَجل، وَتوفيت زَيْنَب سنة عشْرين، وَهِي أول أَزوَاجه لُحُوقا بِهِ. وَسَوْدَة إِنَّمَا توفيت فِي سنة أَربع وَخمسين، وَقد ذكره مُسلم على الصِّحَّة من حَدِيث عَائِشَة بنت طَلْحَة عَن عَائِشَة قَالَت: فَكَانَت أطولنا يدا زَيْنَب لِأَنَّهَا كَانَت تعْمل وَتَتَصَدَّق.(4/372)
2584 - / 3316 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين بعد الْمِائَة: دف أهل أَبْيَات من أهل الْبَادِيَة حَضْرَة الْأَضْحَى.
الدافة: الْجَمَاعَة الواردون، وَأَصله من الدفيف: وَهُوَ سير لين. يُقَال: دف يدف دفيفا. وَمثله دج ودب، يدج ويدب.
والأسقية جمع سقاء. وَهِي مَذْكُورَة فِي مُسْند أبي حميد السَّاعِدِيّ.
وجملت الشَّحْم بِمَعْنى أذبته، فَهُوَ جميل.
والودك: الدّهن الْكَائِن فِي الْإِبِل أَو الْبَقر أَو الْغنم، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند سهل بن سعد.
2585 - / - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين بعد الْمِائَة: أَن أَبَا حُذَيْفَة ابْن عتبَة تبنى سالما، وَهُوَ مولى لامْرَأَة من الْأَنْصَار.
اخْتلفُوا فِي اسْم هَذِه الْأَنْصَارِيَّة، فَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: كَانَ سَالم لثبيتة بنت يعار فأعتقته، وَكَانَت تَحت أبي حُذَيْفَة، فَتَوَلّى أَبَا حُذَيْفَة فَتَبَنَّاهُ أَبُو حُذَيْفَة. فسالم يذكر فِي الْأَنْصَار لعتق ثبيتة إِيَّاه , وَفِي الْمُهَاجِرين لتوليه أَبَا حُذَيْفَة. وَقَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب: كَانَ لسلمى بنت يعار فأعتقته.
وَقَوْلها: فيراني فضلا: أى متبذلة فِي ثِيَاب مهنتي. يُقَال: رجل(4/373)
فضل: إِذا كَانَ عَلَيْهِ رِدَاء وقميص وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِزَار وَلَا سَرَاوِيل. وَإِنَّمَا كَانَ يأوي مَعَهم فِي بَيت وَاحِد لِأَن أَبَا حُذَيْفَة لما تبناه أنكحه ابْنة أَخِيه هندا بنت الْوَلِيد بن عتبَة، وَكَانَ مَعَهم.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي مُدَّة الرَّضَاع: فَعِنْدَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد: مُدَّة الرَّضَاع حولان. وَعند أبي حنيفَة سنتَانِ وَنصف. وَقَالَ مَالك: سنتَانِ وَشَيْء وَلم يحده. وَرُوِيَ عَنهُ فِي التَّحْدِيد ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهُنَّ: أَيَّام يسيرَة. وَالثَّانيَِة: شهر. وَالثَّالِثَة: شَهْرَان. وَقَالَ زفر: ثَلَاث سِنِين.
فَأَما هَذَا الَّذِي جرى فِي حق سَالم من أَنه أمرهَا أَن ترْضِعه وَهُوَ رجل فَلهُ محملان: أَحدهمَا: أَنه خَاص، وَإِنَّمَا ذهب إِلَى أَن حكمه عَام عَائِشَة على مَا ذكرنَا عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَن يكون مَنْسُوخا.
فَإِن قيل: إِذا قُلْتُمْ: إِن حكم رضَاع الْكَبِير نسخ، فَكيف اقتضيتم مِنْهُ حكم الْخمس رَضعَات؟ فَالْجَوَاب: أَن نسخ ذَلِك لَا يمْنَع بَقَاء حكم الْخمس، لِأَن النَّاسِخ إِنَّمَا يعرض للكبير وَالصَّغِير لَا لعدد الرضعات.
فَإِن قيل: فَكيف ارتضع وَهُوَ رجل؟ فَالْجَوَاب: أَنَّهَا خلبت لَهُ فِي إِنَاء وَشرب.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الرضعات الْمُحرمَة على ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: خمس رَضعَات، وَهَذَا الحَدِيث يدل على ذَلِك، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
وَالثَّانِي: رضعة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك، وَرِوَايَة عَن أَحْمد.(4/374)
وَالثَّالِث: ثَلَاث رَضعَات، وَهُوَ قَول أبي عبيد وَدَاوُد، وَرِوَايَة عَن أَحْمد، وَوَجهه قَوْله: " لَا تحرم المصة والمصتان " فَكَانَ دَلِيل قَوْله: إِن الثَّلَاث تحرم.
وَاخْتلف الْعلمَاء هَل يتَعَلَّق تَحْرِيم الرَّضَاع بالوجور والسعوط؟ فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: يتَعَلَّق بذلك. وَقَالَ دَاوُد: لَا يتَعَلَّق بِهِ وَعَن أَحْمد كالمذهبين. وَاخْتَارَ أَبُو بكر عبد الْعَزِيز الرِّوَايَة الَّتِي توَافق دَاوُد.
وَأما اللَّبن المشوب بِالْمَاءِ وَالطَّعَام والدواء فَإِنَّهُ يتَعَلَّق بِهِ التَّحْرِيم، سَوَاء كَانَ اللَّبن مَغْلُوبًا أَو غَالِبا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة أَنه إِذا خالطه الدَّوَاء حرم وَإِن كَانَ مَغْلُوبًا.
فَإِن صنعت الْمَرْأَة من لَبنهَا جبنا فأطعمته صَبيا حرم، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يحرم.
فَإِن حلب لبن ميتَة وأرضع بِهِ صبي حرم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يحرم، وَهُوَ اخْتِيَار أبي بكر الْخلال من أَصْحَابنَا. وَأما قَول عَائِشَة: فَتوفي رَسُول الله وَهِي فِيمَا نَقْرَأ من الْقُرْآن. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن عشر وَلَا خمس. فَالْجَوَاب أَن هَذَا مِمَّا نسخ لَفظه وَبَقِي حكمه فَأَشَارَتْ إِلَى أَن هَذَا فِي آخر زمَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى صَار بعض من لم يبلغهُ النّسخ يقْرَأ ذَلِك على الرَّسْم الأول، ثمَّ أزيل ذَلِك من الْقُلُوب(4/375)
وَبَقِي حكمه، كَمَا يرْوى فِي قَوْله: (وَالشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة) .
وَقَول أم سَلمَة: الْغُلَام الأيفع: تَعْنِي الَّذِي قد قَارب الِاحْتِلَام، يُقَال: أَيفع الْغُلَام وَهُوَ يافع، وَجمع اليافع أيفاع. وَيُقَال: غُلَام يافع، وغلامان يافعان، وغلمة أيفاع، وَيُقَال: يفعة، فِي الْوَاحِد والاثنين وَالْجَمَاعَة.
2586 - / 3318 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين بعد الْمِائَة: " يَغْزُو جَيش الْكَعْبَة، فَإِذا كَانُوا ببيداء من الأَرْض يخسف بأولهم وَآخرهمْ ويبعثون على نياتهم ".
إِن قيل: مَا ذَنْب من أكره على الْخُرُوج مِنْهُم، أَو من جمعه وإياهم الطَّرِيق؟
فَالْجَوَاب: أَنه يكون أَجله قد حضر، فَيكون مَوته بالخسف فيبعث على نِيَّته.
2587 - / 3319 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يقومُونَ للجنازة، وَيَقُولُونَ إِذا رأوها: كنت فِي أهلك مَا أَنْت - مرَّتَيْنِ -.
قَوْلهم: مَا أَنْت، ويكررون الْكَلِمَة، تَعْظِيم لشأنها، كَقَوْلِه تَعَالَى:(4/376)
{مَا الحاقة} [الحاقة: 2] .
2588 - / 3320 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَت إحدانا تحيض ثمَّ تقترض الدَّم من ثوبها فتغسله.
تقترض: تقتطع. كَأَنَّهَا تحوره دون بَاقِي الْمَوَاضِع فتغسله.
والنضح: رش المَاء على الشَّيْء.
2589 - / 3321 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كَانَ إِذا رأى الْمَطَر قَالَ: " صيبا نَافِعًا ".
الصيب: الْمَطَر، وَأَصله صيوب على " فعيل " فقلبت الْوَاو يَاء ثمَّ أدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، وَهُوَ من صاب يصوب: إِذا نزل، وكل نَازل من علو فقد صاب يصوب، قَالَ الشَّاعِر:
(كَأَنَّهُمْ صابت عَلَيْهِم سَحَابَة ... صواعقها لطيرهن دَبِيب)
2590 - / 3322 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: قَالَت عَائِشَة: وَا رأساه فَقَالَ: " ذَاك لَو كَانَ وَأَنا حَيّ ".
قَوْله: " ذَاك لَو كَانَ " يَعْنِي الْمَوْت.
والثكل: موت الْقَرِيب وفقدانه.
وَقَوله: " فأعهد، أَن يَقُول " أَي مَخَافَة أَن يَقُول الْقَائِلُونَ.(4/377)
وَهَذَا الحَدِيث نَص على أبي بكر.
2591 - / 3324 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: مرض غَالب بن أبجر، فعاده ابْن أبي عَتيق فَقَالَ لنا: عَلَيْكُم بِهَذِهِ الْحبَّة السَّوْدَاء فَخُذُوا مِنْهَا خمْسا أَو سبعا فاسحقوها ثمَّ اقطروها فِي أَنفه بقطرات زَيْت.
أما ابْن أبي عَتيق فاسمه عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق، وَأَبُو عَتيق هِيَ كنية مُحَمَّد، وَمُحَمّد قد رأى رَسُول الله، وَأَبوهُ عبد الرَّحْمَن، وجده أَبُو بكر، وَأَبُو جده أَبُو قُحَافَة، لَا نَعْرِف أَرْبَعَة رَأَوْا رَسُول الله على نسق سواهُم.
وَأما الْحبَّة السَّوْدَاء فَهِيَ الشونيز.
والسام: الْمَوْت، وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
وَيُشبه أَن يكون مرض هَذَا الَّذِي وصف لَهُ ابْن أبي عَتيق هَذَا الْوَصْف الزُّكَام، فَإِن المزكوم ينْتَفع برِيح الشونيز.
2592 - / 3325 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: قَول الشَّاعِر يرثي قَتْلَى بدر:
(وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تزين بالسنام)
(وماذا بالقليب قليب بدر ... من الْقَيْنَات وَالشرب الْكِرَام)
(يحدثنا الرَّسُول بِأَن سنحيا ... وَكَيف حَيَاة أصداء وهام)
القليب: الْبِئْر لم تطو.(4/378)
والشيزى: جفان الطَّعَام. وأصل الشيزى شَجَرَة يتَّخذ مِنْهَا الجفان.
تزين بالسنام: أَي بِلَحْم أسنمة الْإِبِل، وصف من كَانَ يفعل ذَلِك مِنْهُم.
والقينات جمع قينة: وَهِي الْمُغنيَة.
وَالشرب: الْقَوْم يَجْتَمعُونَ على الشَّرَاب.
وَقَوله: وَكَيف حَيَاة أصداء وهام. كِنَايَة عَن الْهَلَاك الَّذِي لَا محيا لمن هلك. وَقد سبق تَفْسِير " لاهامة " فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
2593 - / 3328 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَ النِّكَاح على أَرْبَعَة أنحاء. فَذكرت مِنْهُ: كَانَ الرجل يَقُول لامْرَأَته إِذا طهرت من طمثها: أرسلي إِلَى فلَان فاستبضعي مِنْهُ.
الطمث: الْحيض.
واستبضعي: اطلبي أَن يَأْتِيك ليَكُون مِنْهُ الْوَلَد.
والبغايا: الزواني.
وَقد سبق آنِفا بَيَان الْقَافة.
والتاط بِهِ: اسْتَلْحقهُ. وأصل اللوط اللصوق، وَمِنْه قَول أبي بكر: الْوَلَد ألوط: أَي ألصق بِالْقَلْبِ.
2594 - / 3330، 3331 - والْحَدِيث الثَّانِي عشر: قد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَسبق الثَّالِث عشر أَيْضا.(4/379)
2595 - / 3332 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: قَالَ أَبُو بكر: أخرجني قومِي. فَقَالَ ابْن الدغنة أَنْت تكسب الْمَعْدُوم.
معنى أخرجني قومِي: اضطروني إِلَى الْخُرُوج لمنعهم إيَّايَ من عبَادَة رَبِّي عز وَجل.
وَقَوله: تكسب الْمَعْدُوم. قد فسرناه آنِفا فِي حَدِيث مبدأ الْوَحْي.
وَقَوله: وَتعين على نَوَائِب الْحق: تَعْنِي مَا يَنُوب من الْحُقُوق: أَي يطْرَأ.
وَقَوله: فيتقصف عَلَيْهِ نسَاء قُرَيْش: أَي يزدحمن حَتَّى يسْقط بَعضهنَّ على بعض. يُقَال: انقصف الشَّيْء: إِذا انْكَسَرَ.
قَوْله: فَلم تكذب قُرَيْش بجواره: أَي لم ترده. وَهَذَا لِأَن من كذب بِشَيْء رده.
وَقَوله: أجرنا أَبَا بكر: أَي آمناه.
ونخفرك: ننقض عَهْدك.
قَوْله: على رسلك. قد سبق فِي مُسْند عمر.
وَنحر الظهيرة: أوائلها. والظهيرة: اشتداد الْحر.(4/380)
وَقَوله: متقنعا: أَي مغطيا رَأسه بِثَوْب يستره.
وَقَوله: " بِالثّمن " تشريع لِلْخلقِ فِي ترك التَّعَرُّض بالمنن، وَإِن كَانَ أَبُو بكر لَا يمن، فَإِذا رد عَطاء من لَا يمن كَانَ رد عَطاء من يمن أولى. وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أهدي إِلَيْهِ شَيْء كافأ عَلَيْهِ ليسلم من مِنْهُ.
والنطاق: أَن تَأْخُذ الْمَرْأَة ثوبا فتلبسه ثمَّ تشد وَسطهَا بِحَبل أَو نَحوه، ثمَّ ترسل الْأَعْلَى على الْأَسْفَل، وَبِه سميت أَسمَاء بنت أبي بكر ذَات النطاقين، لِأَنَّهَا كَانَت تطارق نطاقا على نطاق. هَكَذَا ذكر جمَاعَة من الْعلمَاء.
ومتقضى هَذَا الحَدِيث أَنَّهَا سميت بذلك لشق نطاقها وربطها بذلك فَم الجراب. وَسَيَأْتِي هَذَا مُبينًا فِي مُسْند أَسمَاء، وَأَنَّهَا شقَّتْ نطاقها فَربطت بِنصفِهِ فَم السفرة وبنصفه فَم الْقرْبَة، فَلذَلِك سميت ذَات النطاقين.
والثقف: الثَّابِت الْمعرفَة بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ. واللقن: السَّرِيع الْفَهم.
ويدلج مُشَدّدَة الدَّال: يخرج من آخر اللَّيْل، فَإِذا خرج من أَوله فقد أدْلج بِلَا تَشْدِيد.
ويكادان، من الكيد: وَهُوَ الْمَكْر.
إِلَّا وعاه: أَي حفظه.
والمنحة والمنيحة أَصْلهَا أَن يَجْعَل لبن نَاقَته أَو شاته لآخر وقتا مَا، وَقد يكون بِهِبَة الأَصْل، ثمَّ يَقع ذَلِك على كل مَا يرزقه الْمَرْء ويعطاه، يُقَال: نَاقَة منوح: إِذا بَقِي لَبنهَا بَعْدَمَا تذْهب ألبان الْإِبِل، فَكَأَنَّهَا أَعْطَتْ(4/381)
أَصْحَابهَا اللَّبن ومنحتهم إِيَّاه.
وَقَوْلها: فيريحها عَلَيْهِمَا. الرواح يكون بالْعَشي.
فيبيتان فِي رسل. الرُّسُل بِكَسْر الرَّاء: اللَّبن.
وينعق: يَصِيح بالغنم لتسرح، يُقَال: نعق بالغنم ينعق نعقا ونعيقا ونعاقا ونعقانا.
والغلس: ظلام آخر اللَّيْل.
وَأما دليلهم فاسمه عبد الله بن أبي أريقط اللَّيْثِيّ، وَكَانَ كَافِرًا فأمناه.
والخريت: الماهر بالهداية. قَالَ الْأَصْمَعِي: الخريت: الدَّلِيل. ونرى أَنه اشتق من الشَّيْء اللَّطِيف: أَي أَنه يدْخل فِي مثل خرت الإبرة.
والأسودة جمع سَواد: أَي أشخاص، وكل شخص سَواد، سَوَاء كَانَ إنْسَانا أَو جمادا. وَقد سبق هَذَا.
والأكمة: الرابية المرتفعة. وَقد سبق هَذَا.
وَقَوله: تقرب بِي. يُقَال: قرب الْفرس تَقْرِيبًا: وَهُوَ دون الْعَدو وَفَوق السّير الْمُعْتَاد، وَله تقريبان: أَعلَى وَأدنى.
والأزلام: القداح. وَقد سبق ذكرهمَا فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص.
وَقَوله: لأثر يَديهَا عثان. قد رَوَاهُ قوم: غُبَار، وَهُوَ تَصْحِيف، وَالصَّحِيح عثان. قَالَ أَبُو عبيد: العثان: الدُّخان، وَجمعه عواثن. وَكَذَلِكَ جمع دُخان دواخن على غير قِيَاس. وَلَا نَعْرِف فِي الْكَلَام شَيْئا يشبههما. وَإِنَّمَا أَرَادَ بالعثان الْغُبَار، فَشبه غُبَار قَوَائِمهَا بالدخان.(4/382)
وَقَوله: فَلم يرزآني. أَي لم يصيبا مني شَيْئا، وأصل الرزء الْمُصِيبَة.
وَقَوله: وَقَالَ: " أخف عَنَّا " أَي اسْتُرْ أمرنَا.
وَقَوله: فَسَأَلته أَن يكْتب لي كتاب أَمن. لما ظَهرت لسراقة مخايل النَّصْر من سؤوخ فرسه، وحبسه عَن أَذَاهُ، غلب على ظَنّه أَنه سينصر، فَسَأَلَهُ أَن يكْتب لَهُ كتاب أَمن: أَي إِن ظَهرت كنت آمنا. فَلَمَّا كتب لَهُ رَجَعَ إِلَى قُرَيْش فَقَالَ: قد عَرَفْتُمْ بَصرِي بالأثر، وَقد استبرأت لكم مَا هَاهُنَا، فَسَكَتُوا عَن الطّلب.
قَالَ سراقَة: فوَاللَّه مَا ذكرت رَسُول الله حَتَّى أعزه الله. فَلَمَّا كَانَ بَين الطَّائِف والجعرانة لَقيته فتخلصت إِلَيْهِ، فوقفت فِي مقنب من جيل الْأَنْصَار فَجعلُوا يقرعوني بِالرِّمَاحِ وَيَقُولُونَ: إِلَيْك إِلَيْك، مَا أَنْت، وَمَا تُرِيدُ؟ وأنكروني، حَتَّى إِذا دَنَوْت وَعرفت أَنه يسمع كَلَامي أخذت الْكتاب الَّذِي كتبه فَجَعَلته بَين إصبعي، ثمَّ رفعت يَدي إِلَيْهِ وناديت: أَنا سراقَة بن جعْشم، وَهَذَا كتابي، فَقَالَ رَسُول الله: " هَذَا يَوْم وَفَاء وبر، ادنوه " فأدنيت فَأسْلمت.
وَقَوله: أوفى رجل: أَي صعد على أَطَم. والأطم: الْبناء الْمُرْتَفع. وَقد سبق فِي مَوَاضِع.
وَقَوله: يَزُول بهم السراب: أَي تظهر حركتهم فِيهِ. والسراب: الَّذِي يرى نصف النَّهَار كَأَنَّهُ مَاء.
وَقَوله: هَذَا جدكم: أَي حظكم ودولتكم الَّتِي كُنْتُم تتوقعونها. وَذَلِكَ فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ كَانَ، فِي ربيع، اثْنَي عشر يَوْمًا، وَكَذَلِكَ مضى مِنْهُ(4/383)
وَتوفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتمت لَهُ عشر سِنِين كوامل.
أما الْمَسْجِد الَّذِي أسس على التَّقْوَى فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مَسْجِد رَسُول الله الَّذِي فِيهِ منبره، قَالَه ابْن عمر وَزيد بن ثَابت وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " هُوَ مَسْجِدي هَذَا ".
وَالثَّانِي: أَنه مَسْجِد قبَاء، قَالَه ابْن عَبَّاس وَأَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة.
وَقَوله: كَانَ مربدا للتمر. المربد: الْموضع الَّذِي يجمع فِيهِ التَّمْر حِين جداده، وَقد شرحنا هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله. وَقَالَ أَبُو عبيد: المربد: كل شَيْء حبست بِهِ الْإِبِل. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: والمربد أَيْضا: مَوَاضِع الثَّمر.
وَقَوله: فِي حجر سعد بن زُرَارَة: هَذَا أَخُو أسعد بن زُرَارَة، وَكَانَ أسعد من نقباء الْأَنْصَار، وَكَانَ نقيب النُّقَبَاء، وَسعد هَذَا أَخُوهُ مَعْدُود فِي الْمُنَافِقين.
والحمال من الْحمل. وَالَّذِي يحمل من خَيْبَر التَّمْر. فَأَرَادَ أَن نقل اللَّبن فِي بَاب الْأجر وَحسن الْعَاقِبَة خير من نقل التَّمْر للْبيع وَالتِّجَارَة.
وَقَوله: يعقبانه. يُقَال: أعقبت الرجل على الدَّابَّة: إِذا ركبت مرّة(4/384)
وَركب أُخْرَى، كَأَنَّهُ ركب عقيب ركوبك: أَي بعده.
2596 - / 3333 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: " مَا أَزَال أجد ألم الطَّعَام الَّذِي أكلت بِخَيْبَر، فَهَذَا أَوَان وجدت انْقِطَاع أَبْهَري ".
الْأَبْهَر: عرق مستبطن الصلب، وَالْقلب مُتَّصِل بِهِ، فَإِذا انْقَطع لم يكن مَعَه حَيَاة.
2597 - / 3334 - والْحَدِيث السَّادِس عشر: قد تقدم فِي مُسْند أبي أسيد.
2598 - / 3335 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: إِن قوما قَالُوا: يَا رَسُول الله: إِن قوما يأتوننا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أذكر اسْم الله عَلَيْهِ أم لَا. فَقَالَ " سموا أَنْتُم وكلوا ".
الظَّاهِر من الْمُسلم والكتابي أَنه يُسَمِّي، فَيحمل أمره على أحسن أَحْوَاله، وَلَا يلْزمنَا سُؤَاله عَن هَذَا.
وَقَوله: " سموا أَنْتُم " لَيْسَ يَعْنِي أَنه يَجْزِي عَمَّا لم يسم عَلَيْهِ، وَلَكِن التَّسْمِيَة على الطَّعَام سنة.
2599 - / 3336 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: أَنَّهَا قَالَت لعبد الله بن الزبير: ادفني مَعَ صواحبي وَلَا تدفني مَعَ رَسُول الله فِي الْبَيْت؛ فَإِنِّي(4/385)
أكره أَن أزكى بِهِ.
تَعْنِي: أَن أمدح بِهِ وَتجْعَل لي مزية ومنزلة. وَهَذَا مِنْهَا على جِهَة التَّوَاضُع والاحتقار للنَّفس، وَمن هَذَا الْجِنْس مَا أخبرنَا بِهِ أَبُو بكر بن حبيب الصُّوفِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو سعيد بن أبي صَادِق الْحِيرِي قَالَ: أخبرنَا ابْن باكويه قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْقَاسِم الْعَبْدي. قَالَ: حَدثنَا عمرَان بن مُوسَى السجسْتانِي قَالَ: حَدثنَا هدبة قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب أَنه قيل لعمر بن عبد الْعَزِيز لما مرض: إِن فِي الْبَيْت مَوضِع قبر، فَإِن أتيت الْمَدِينَة فَحدث بك حدث دفنت فِيهِ. فَقَالَ: مَا يسرني وَلَو عذبني الله بِكُل عَذَاب أَن يعلم الله فِي قلبِي أَنِّي أرى نَفسِي أَهلا لذَلِك.
فَإِن قيل: فَلم اخْتَار عمر بن الْخطاب أَن يدْفن هُنَالك؟ وهلا تواضع كعائشة.
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن عمر علم أَنه مَقْطُوع لَهُ بِالْجنَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يخَاف من تَفْرِيط فِي الْخلَافَة بِخِلَاف غَيره.
وَالثَّانِي: أَن شدَّة الْخَوْف الَّتِي توجب إبعاد النَّفس عَن مَكَان لَا يَرَاهَا صَالِحَة لَهُ هُوَ الْمُوجب لمزاحمة من ترجى شَفَاعَته وينال الْخَلَاص بِقُرْبِهِ، فَمن لم ير نَفسه أَهلا لذَلِك فقد احتقرها، وَمن أَرَادَ ذَلِك الْمَكَان فقد استشفع لَهَا، وكلا الْأَمريْنِ صادر عَن خوف.(4/386)
2600 - / 3337 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: زفت امْرَأَة إِلَى رجل من الْأَنْصَار، فَقَالَ نَبِي الله: " يَا عَائِشَة هَل كَانَ مَعكُمْ لَهو؟ فَإِن الْأَنْصَار يعجبهم اللَّهْو ".
الْإِشَارَة باللهو إِلَى الإنشاد الَّذِي يستعملونه فِي الْعرس. وَقد أخبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا أسود قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر عَن أجلح عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة: " أهديتم الْجَارِيَة إِلَى بَيتهَا؟ " قَالَت: نعم، قَالَ: " فَهَلا بعثتم مَعهَا من يغنيهم، يَقُول: أَتَيْنَاكُم أَتَيْنَاكُم. فحيونا نحييكم. فَإِن الْأَنْصَار قوم فيهم غزل ".
2601 - / 3340 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: نظر حُذَيْفَة يَوْم أحد فَإِذا هُوَ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: أبي أبي. فوَاللَّه مَا انحجزوا عَنهُ حَتَّى قَتَلُوهُ.
انحجز الْقَوْم وتحاجزوا: إِذا افْتَرَقُوا بعد قتال أَو مُنَازعَة.
وَكَانَ حُذَيْفَة قد أسلم هُوَ وَأَبوهُ قَدِيما، فَلَمَّا حضر يَوْم أحد وَاخْتَلَطَ النَّاس يَوْمئِذٍ قَتله الْمُسلمُونَ وَلم يعرفوه، وَكَانَ حُذَيْفَة يَقُول: أبي أبي، وهم لَا يفهمون مَا يَقُول، فَقَالَ حُذَيْفَة: يغْفر الله لكم، فَأخْرج رَسُول الله دِيَته.
وَقَوله: مَا زَالَت فِي حُذَيْفَة مِنْهَا بَقِيَّة خير. أَي إِنَّه لما عذر الْمُسلمين أَنهم لم يعرفوه وَقَالَ: يغْفر الله لكم، زَاد بذلك خَيره، وارتفع قدره.(4/387)
2602 - / 3341 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: كَانَ يَوْم بُعَاث يَوْمًا قدمه الله لرَسُوله.
قد سبق ذكر بُعَاث فِي أول هَذَا الْمسند، وَأَنه قتال وَقع بَين الْأَوْس والخزرج.
وَالْمَلَأ: الْأَشْرَاف، وَكَذَلِكَ السروات.
فَلَمَّا بعث الله نبيه كَانَ سَببا للصلح بَينهم بدخولهم الْإِسْلَام.
2603 - / 3342 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: أنزلت: {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} [الْبَقَرَة: 225] فِي قَول الرجل: لَا وَالله، بلَى وَالله.
اللَّغْو: المطرح. وَيُسمى مَا لَا يُؤْخَذ من الْإِنْسَان فِي الدِّيَة لَغوا لاطراحه. وَيُقَال: لغوت ألغي.
فَكَأَن الْقَائِل: لَا وَالله، من غير قصد عقد الْيَمين قد دخل قَوْله - لعدم قَصده - فِي اللَّغْو.
2604 - / 3343 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: لددناه فِي مَرضه.
قَالَ أَبُو عبيد: اللدود: مَا سقِِي الْإِنْسَان فِي أحد شقي الْفَم، وَهُوَ(4/388)
مَأْخُوذ من لديدي الْوَادي: وهما جانباه، وَمِنْه قيل للرجل: هُوَ يتلدد: إِذا الْتفت عَن جانبيه يَمِينا وَشمَالًا. يُقَال: لددت الرجل ألده لدا: إِذا سقيته ذَلِك. وَجمع اللدود ألدة.
وَإِنَّمَا فعل ذَلِك بهم عُقُوبَة لَهُم؛ لأَنهم فَعَلُوهُ من غير أَن يَأْمُرهُم بِهِ.
2605 - / 3344 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: أسلمت امْرَأَة وَكَانَ لَهَا حفش فِي الْمَسْجِد.
الحفش: الْبَيْت الصَّغِير. وَأَصله الدرج، وَجمعه أحفاش، فشبهت هَذَا الْبَيْت من صغره بالدرج. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: سمي بذلك لضيقه. والتحفش: الانضمام والاجتماع.
والوشاح: مَا يوشح بِهِ من أحد الْجَانِبَيْنِ إِلَى الآخر.
والحديا هِيَ الحدأة وَجَمعهَا حدأ بِالْقصرِ: وَهِي طَائِر مَعْرُوف.
2606 - / 3345 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقبل الْهَدِيَّة ويثيب.
إِنَّمَا كَانَ يقبل الْهَدِيَّة ليظْهر حسن خلقه، ولتتألف الْقُلُوب على محبته.
وَإِنَّمَا كَانَ يثيب عَلَيْهَا لِئَلَّا يكون لأحد عَلَيْهِ منَّة.(4/389)
2607 - / 3347 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: " من عمر أَرضًا لَيست لأحد فَهُوَ أَحَق ".
أما إحْيَاء الأَرْض الَّتِي لَا مَالك لَهَا فَجَائِز. وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي إحْيَاء مَا باد أَهله من الأَرْض على رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا: تجوز، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك. وَالثَّانيَِة لَا تجوز.
فَإِن أَحْيَا مَا مَالِكه حَيّ وَقد تَركه حَتَّى صَار مواتا لم يملكهُ، رِوَايَة وَاحِدَة. وَقَالَ مَالك: يملكهُ.
وَيجوز إحْيَاء الْموَات بِغَيْر إِذن الإِمَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز. وَقَالَ مَالك فِيمَا كَانَ فِي البراري كَقَوْلِنَا، وَفِيمَا كَانَ يقرب الْعمرَان وينساح النَّاس فِيهِ كَقَوْلِه.
وَإِذا حوط على موَات ملكه. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يملك أَرضًا حَتَّى يسْتَخْرج لَهَا مَاء ويزرعها، وَلَا دَارا حَتَّى يقطعهَا بُيُوتًا ويسقفها.
2608 - / 3349 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: جَاءَت المجادلة إِلَى رَسُول الله.
اخْتلف الْعلمَاء فِي اسْم المجادلة ونسبها على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: خَوْلَة بنت ثَعْلَبَة، رَوَاهُ مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ عِكْرِمَة وَقَتَادَة والقرظي. وَالثَّانِي: خَوْلَة بنت خويلد، رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس،(4/390)
وَالثَّالِث: خَوْلَة بنت الصَّامِت، رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَالرَّابِع: خُوَيْلَة بنت الدليج، قَالَه أَبُو الْعَالِيَة.
وَأما زَوجهَا فَهُوَ أَوْس بن الصَّامِت، وَكَانَا من الْأَنْصَار، ظَاهر مِنْهَا فَقَالَ: أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي، فَأَتَت رَسُول الله فَقَالَت: يَا رَسُول الله، أبلى شَبَابِي، وَنَثَرت لَهُ بَطْني، حَتَّى إِذا كبر سني، وَانْقطع وَلَدي، ظَاهر مني، اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْك. وَكَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا ظَاهر من امْرَأَته حرمت عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهَا رَسُول الله: " قد حرمت عَلَيْهِ " فَجعلت تَقول: وَالله مَا ذكر طَلَاقا، فَكلما قَالَ رَسُول الله: " قد حرمت عَلَيْهِ " تَقول: وَالله مَا ذكر طَلَاقا. فَهَذِهِ كَانَت مجادلتها.
وَكَانَت عَائِشَة تَقول: تبَارك الَّذِي وسع سَمعه كل شَيْء، إِنِّي لأسْمع كَلَام خَوْلَة وَيخْفى عَليّ بعضه، فَمَا بَرحت حَتَّى نزل جِبْرِيل بِهَذِهِ الْآيَات.
2609 - / 3351 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبث بِمَكَّة عشر سِنِين ينزل عَلَيْهِ الْقُرْآن، وبالمدينة عشرا.
قد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس، وَبينا أَنه بَقِي ثَلَاث سِنِين مستخفيا بأَمْره، ثمَّ نزل عَلَيْهِ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} [الْحجر: 94] فَكَأَنَّهَا لم تحسب تَكُ؟ ؟ السنين.
2610 - / 3352 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: " لَا تسبوا الْأَمْوَات، فَإِنَّهُم قد أفضوا إِلَى مَا قدمُوا ".(4/391)
الْمَعْنى: قد صَارُوا إِلَى جَزَاء مَا قدمُوا، فَإِن كَانُوا قد جوزوا بِالشَّرِّ فَيَكْفِي مَا هم فِيهِ، وَإِن كَانُوا قد غفر لَهُم لم يضرهم السب.
2611 - / 3353 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: مَا كَانَ لإحدانا إِلَّا ثوب وَاحِد تحيض فِيهِ، فَإِذا أَصَابَهُ شَيْء من دم قَالَت بريقها فمصعته. وَفِي رِوَايَة: فقصعته.
الفرك والقصع: الدَّلْك. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: المصع: الضَّرْب الشَّديد، فَيكون الْمَعْنى الْمُبَالغَة فِي حكه. والقصع: دلكه بالظفر ومعالجته بِهِ، وَمِنْه قصع القملة.
2612 - / 3354 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: كَانَت تَطوف حجرَة.
أَي نَاحيَة مُنْفَرِدَة
2613 - / 3356 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: سَأَلت رَسُول الله عَن الِالْتِفَات فِي الصَّلَاة فَقَالَ: " هُوَ اختلاس يختلسه الشَّيْطَان من صَلَاة العَبْد ".
الاختلاس: الاختطاف، وَهُوَ أَخذ الشَّيْء بِسُرْعَة. وَالْمعْنَى أَنه أزعجه إِلَى الِالْتِفَات بحادث، فاستلب من خشوعه وأدبه ذَلِك الْمِقْدَار.(4/392)
2614 - / 3357 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: أَن عَائِشَة كَانَت تكره أَن يَجْعَل يَده فِي خاصرته، وَتقول: إِن الْيَهُود تَفْعَلهُ.
قد ذكرنَا النَّهْي عَن الِاخْتِصَار فِي الصَّلَاة فِي مُسْند جَابر، وَيجوز أَن تُرِيدُ، بِهِ على الْإِطْلَاق فِي كل وَقت.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2615 - / 3361 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: خطب مَرْوَان فَذكر يزِيد بن مُعَاوِيَة لكَي يُبَايع لَهُ بعد أَبِيه، فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر شَيْئا، فَقَالَ: خذوه.
كَانَ مُعَاوِيَة قد اسْتعْمل مَرْوَان على الْحجاز، وَبَايع مُعَاوِيَة لِابْنِهِ يزِيد، فَذكر ذَلِك مَرْوَان ليَأْخُذ لَهُ الْبيعَة، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: أهرقلية؟ أَي أتجرون على سنة هِرقل - وَهُوَ قَيْصر - فِي إِقَامَة الْوَلَد مقَام الْوَالِد فِي الْملك.
فَأَما قَوْله: {وَالَّذِي قَالَ لوَالِديهِ أُفٍّ} [الْأَحْقَاف: 17] فَقَالَ الزّجاج: الصَّحِيح أَنَّهَا نزلت فِي الْكَافِر الْعَاق، وَلَا يجوز أَن يُقَال: إِنَّهَا فِي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {أُولَئِكَ الَّذين حق عَلَيْهِم القَوْل} [الْأَحْقَاف: 18] وَعبد الرَّحْمَن من خِيَار الْمُسلمين.(4/393)
وَقد ذكرنَا معنى (أُفٍّ) وَالْكَلَام فِيهَا فِي مُسْند أنس بن مَالك.
2616 - / 3363 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: اعْتكف مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعض نِسَائِهِ وَهِي مُسْتَحَاضَة.
مَا عرفنَا من أَزوَاج رَسُول الله من كَانَت مُسْتَحَاضَة. وَالظَّاهِر أَن عَائِشَة أشارت بقولِهَا: من نِسَائِهِ، أَي من النِّسَاء المتعلقات بِهِ، وَهِي أم حَبِيبَة بنت جحش أُخْت زَوجته زينت، فَإِنَّهَا كَانَت مُسْتَحَاضَة، وَقد ذكرنَا هَذَا فِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين من هَذَا الْمسند.
وَحكم الْمُسْتَحَاضَة أَن تغسل فرجهَا وتشده بِالْعِصَابَةِ وتتوضأ لوقت كل صَلَاة وَتصلي مَا شَاءَت من الْفَرَائِض والنوافل.
2617 - / 3365 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ أَيمن: دخلت على عَائِشَة وَعَلَيْهَا درع قطري.
الْقطر: ضرب من البرود غليظ.
وتزهى بِمَعْنى تتكبر عَن ذَلِك، يُقَال: زهي الرجل يزهى: إِذا دخله الزهو: وَهُوَ الْكبر.
والمقينة: الَّتِي تزين العرائس.(4/394)
وأرادت أَنهم كَانُوا فِي الْفقر، فالمحتقر عِنْدهم الْيَوْم عَظِيم الْقدر حِينَئِذٍ.
2618 - / 3367 - والْحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعُونَ: قد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
2619 - / 3368 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: لم يكن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتْرك فِي بَيته شَيْئا فِيهِ تصاليب إِلَّا نقضه. وَفِي لفظ: قضبه.
التصاليب: أشكال الصَّلِيب.
والنقض: تَغْيِير الْهَيْئَة.
والقضب: الْقطع. تَقول اقتضبت الحَدِيث: أَي اقتطعته، وإياه عني ذُو الرمة فِي قَوْله:
(كَأَنَّهُ كَوْكَب فِي إِثْر عفرية ... مُسَوَّم فِي سَواد اللَّيْل منقضب)
أَي مُنْقَطع من مَكَانَهُ.
وَإِنَّمَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك؛ لِأَن النَّصَارَى يعْبدُونَ الصَّلِيب، فكره أَن يكون شَيْء من ذَلِك فِي بَيته.
2620 - / 3369، 3370 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ وَالثَّانِي وَالْخَمْسُونَ قد سبقا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.(4/395)
2621 - / 3372 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " عشر من الْفطْرَة " فَعَدهَا، إِلَّا أَنه نسي الْعَاشِرَة.
قد ذكرنَا فِي مُسْند الْبَراء معنى الْفطْرَة، وَالْمرَاد بهَا هَاهُنَا السّنة، إِلَّا أَن السّنة قد تقال وَيُرَاد بهَا الْوَاجِب، كَمَا قَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: من السّنة أَلا يقتل مُسلم بِكَافِر. وَقد تكلمنا فِي مُسْند ابْن عمر على إعفاء اللِّحْيَة وقص الشَّارِب، وَفِي مُسْند حُذَيْفَة فِي السِّوَاك.
وَأما استنشاق المَاء فعندنا أَنه وَاجِب فِي طَهَارَة الْجَنَابَة وَالْوُضُوء وَكَذَلِكَ الْمَضْمَضَة. وَعَن أَحْمد أَن الْمَضْمَضَة سنة. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: هما مسنونان. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هما واجبان فِي الْكُبْرَى، مسنونان فِي الْوضُوء. وَعَن أَحْمد مثله.
وَأما قصّ الْأَظْفَار ونتف الْإِبِط وَحلق الْعَانَة فقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
والعانة: اسْم لموْضِع نَبَات الشّعْر.
وَأما غسل البراجم فَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: البراجم عِنْد الْعَرَب(4/396)
الفصوص الَّتِي فِي فضول ظُهُور الْأَصَابِع، تبدو إِذا جمعت وَتغمضُ إِذا بسطت. والرواجب: مَا بَين البراجم، بَين كل برجمتين راجبة. وَاعْلَم أَن الْإِشَارَة إِلَى التنظف؛ لِأَن الْوَسخ يجْتَمع فِي البراجم.
وَأما انتقاص المَاء فَقَالَ وَكِيع: هُوَ الِاسْتِنْجَاء.
2622 - / 3373 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع وَمَسّ الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل ".
أصل الشعبة الطَّائِفَة من كل شَيْء والقطعة مِنْهُ. وَقد ذكرنَا المُرَاد بِالشعبِ فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
وَأما مس الْخِتَان الْخِتَان فَقَالَ ابْن عقيل: تَفْسِيره: أَن يولج الرجل من ذكره الْحَشَفَة بِحَيْثُ تحاذي جلدَة ختانه، وَهِي الَّتِي تَحت الْبشرَة كالطوق لجلدة ختان الْمَرْأَة، وَهِي جلدَة كعرف الديك فِي أَعلَى فرجهَا، فِي الْموضع الَّذِي يخرج مِنْهُ الْبَوْل، فَتكون الْمُحَاذَاة بِحَيْثُ لَو أخرج من جلدَة ختانه خطا مُسْتَقِيمًا لَا تصل بجلدة ختان الْمَرْأَة، فَهَذِهِ الملاقاة هِيَ الْمُحَاذَاة.
وَأما الِاجْتِمَاع فَلَيْسَ بَينهمَا اجْتِمَاع، وَلِأَن قلفة الْمَرْأَة فِي ختانها فِي أَعلَى الْفرج، وَلَيْسَ ذَلِك مَوضِع إيلاج المجامع، لكنه مَوضِع مخرج الْبَوْل، ومدخل الذّكر فِي ثقب أوسع من ذَلِك فِي أَسْفَل الْفرج. فَهَذَا معنى الالتقاء.
قلت: فقد بَان بِهَذَا أَن معنى مس الْخِتَان الْخِتَان محاذاته. وَهَذَا الحَدِيث نَاسخ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " المَاء من المَاء " وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند عُثْمَان بن عَفَّان.(4/397)
2623 - / 3374 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: فقدت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْفراش فالتمسته، فَوَقَعت يَدي على بطن قَدَمَيْهِ وَهُوَ يَقُول: " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عُقُوبَتك، وَأَعُوذ بك مِنْك ".
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: فِي هَذَا الْكَلَام معنى لطيف، وَهُوَ أَن الرِّضَا ضدان متقابلان، وَكَذَلِكَ المعافاة والمؤاخذة بالعقوبة، فَسَأَلَهُ أَن يجيره بِرِضَاهُ من سخطه، وبمعافاته من عُقُوبَته، فَلَمَّا صَار إِلَى ذكر مَا لَا ضد لَهُ استعاذ بِهِ مِنْهُ لَا غير.
قلت: وَهَذَا كَلَام وعظي يعجب الْعَوام، وَلَا صِحَة لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يستعاذ من الذَّات الْقَدِيمَة، وَهَذَا لَا يجوز أَن يعْتَقد أَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام قَصده، وَلكنه لما أَرَادَ أَن يستعيذ من الْأَشْيَاء بأضدادها، مثل أَن يَقُول: وبحلمك من تَعْجِيل عذابك، وبكذا من كَذَا، فَلَمَّا كَانَ التعداد يطول قَالَ: " أعوذ بك مِنْك " أَي بِمَا يصدر مِنْك من عَفْو ولطف مِمَّا يصدر مِنْك من عُقُوبَة ونقمة. وَقَالَ ابْن عقيل: معنى الْكَلَام: أعوذ بك من الصَّادِر مِنْك من الْأَفْعَال الَّتِي هِيَ الْعَذَاب وَالْبَطْشَة.
وَقَوله: " سبوح قدوس " قَالَ الْخطابِيّ: لم يَأْتِ من الْأَسْمَاء على " فعول " بِضَم الْفَاء إِلَّا قدوس وسبوح، وَقد يفتحان وَهُوَ الْقيَاس فِي الْأَسْمَاء كسفود وكلوب.
والقدوس: الطَّاهِر من الْعُيُوب. قَالَ أَبُو الْحسن الْهنائِي اللّغَوِيّ:(4/398)
وَمعنى سبوح قدوس أَنه يسبح ويقدس: أَي تعظم.
فَأَما الْمَلَائِكَة فَجمع ملك، واسْمه مُشْتَقّ من المألكة وَهِي الرسَالَة، فسموا بذلك لأَنهم رسل الله عز وَجل إِلَى أنبيائه.
وَالروح مُخْتَلف فِيهِ. وَالْأَظْهَر أَنه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2624 - / 3377 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس:: " ناوليني الْخمْرَة ".
وَهِي كالسجادة الصَّغِيرَة.
2625 - / 3378 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " إِن فِي عَجْوَة الْعَالِيَة شِفَاء، إِنَّهَا ترياق، أول البكرة ".
الترياق: مَا يسْتَعْمل لدفع السم، وَهُوَ رومي مُعرب، وَيُقَال: درياق وطرياق، قَالَ الراجز:
(ريقي ودرياقي شِفَاء السم ... )
وَهَذَا أَمر يخْتَص بِالْمَدِينَةِ لعظم بركتها، لَا أَن فِي التَّمْر تِلْكَ الخصيصة. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص، وَبينا هُنَالك الْعَجْوَة(4/399)
والعالية.
2626 - / 3379 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد على ميت فَوق ثَلَاث، إِلَّا على زَوجهَا ".
الْإِحْدَاد: امْتنَاع الْمَرْأَة من الزِّينَة. يُقَال: أحدث الْمَرْأَة على زَوجهَا فَهِيَ محد، وحدت أَيْضا تحد. 2627 / 3381 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: إِنَّك أَقْسَمت أَلا تدخل علينا شهرا، وَإنَّك دخلت من تِسْعَة وَعشْرين. قَالَ: " إِن الشَّهْر تسع وَعِشْرُونَ " وَالْمعْنَى: قد يكون كَذَلِك. وَاتفقَ الشَّهْر الَّذِي آلى فِيهِ تسعا وَعشْرين.
2628 - / 3382 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: كَانَ يدْخل على أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مخنث.
إِنَّمَا سمى المخنث مخنثا لتكسره وتثنيه فِي مشيته. وَمِنْه: نهى عَن اختناث الأسقية، وَهُوَ أَن تعطف رؤوسها وَيشْرب مِنْهَا.
وَقَوله: غير أولي الإربة: أَي الْحَاجة إِلَى النِّسَاء.
وَاسم هَذَا المخنث هيت، دخل رَسُول الله على أم سَلمَة وَهُوَ ينعَت لعبد الله بن أبي أُميَّة أخي أم سَلمَة امْرَأَة وَيَقُول: إِن فتح الله لكم الطَّائِف فَإِنِّي أدلك على ابْنة غيلَان، فَإِنَّهَا تقبل بِأَرْبَع وتدبر بثمان.(4/400)
وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مُسْند أم سَلمَة.
قَالَ أَبُو عبيد: وَقَوله: تقبل بِأَرْبَع، يَعْنِي أَربع عُكَن، فَهِيَ تقبل بِهن، وتدبر بثمان، يَعْنِي أَطْرَاف هَذِه العكن الْأَرْبَع؛ لِأَنَّهَا مُحِيطَة بالجنبين حَتَّى لحقت بالمتنين من مؤخرها، من هَذَا الْجَانِب أَرْبَعَة أَطْرَاف وَمن الْجَانِب الآخر أَرْبَعَة أَطْرَاف. وَإِنَّمَا أنث فَقَالَ: بثمان: وَلم يقل بِثمَانِيَة، وَوَاحِد الْأَطْرَاف طرف وَهُوَ مُذَكّر؛ لِأَنَّهُ لم يقل: بِثمَانِيَة أَطْرَاف. وَلَو جَاءَ بِلَفْظ الْأَطْرَاف لم يجد بدا من التَّذْكِير، وَهَذَا كَقَوْلِهِم: صمنا من الشَّهْر خمْسا، وَقد علم أَنه يُرَاد بِالصَّوْمِ الْأَيَّام، لَو ذكر الْأَيَّام لم يجد أبدا من التَّذْكِير.
2629 - / 3383 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " خلقت الْمَلَائِكَة من نور، وَخلق الجان من مارج من نَار ".
قَالَ ابْن عَبَّاس: المارج: لِسَان النَّار الَّذِي يكون فِي طرفها إِذا التهبت. وَقَالَ الزّجاج: هُوَ اللهب الْمُخْتَلط بسواد النَّار.
وَقَوله: " مِمَّا وصف لكم " يُشِير إِلَى الْمَذْكُور من صِفَات آدم فِي الْقُرْآن بِأَنَّهُ خلق من طين، وَشرح أَحْوَال الطين بِأَنَّهُ من صلصال كالفخار.
2630 - / 3387 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " بَيت لَا تمر فِيهِ جِيَاع أَهله ".(4/401)
وَهَذَا إِنَّمَا قَالَه على حكم الْمَدِينَة، فَإِن الطَّعَام كَانَ عِنْدهم قَلِيلا، إِنَّمَا كَانُوا يشبعون من التَّمْر.
2631 - / 3388 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: " المتشبع بِمَا لم يُعْط كلابس ثوبي زور ".
قَالَ أَبُو عبيد " المتشبع: هُوَ المتزين بِأَكْثَرَ مِمَّا عِنْده يتكثر بِالْبَاطِلِ ويتزين بِهِ، كَالْمَرْأَةِ يكون لَهَا ضرَّة فتشبع بِمَا تَدعِي من الخطوة عِنْد زَوجهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا عِنْده، تُرِيدُ بذلك غيظ صاحبتها وَإِدْخَال الْأَذَى عَلَيْهَا.
وَقَوله: " كلابس ثوبي زور " فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه الرجل يلبس الثِّيَاب تشبه ثِيَاب أهل الزّهْد فِي الدُّنْيَا، يُرِيد بذلك النَّاس، وَيظْهر من التخشغ والتقشف أَكثر مِمَّا فِي قلبه مِنْهُ، فَهَذِهِ ثِيَاب الزُّور والرياء. وَالثَّانِي: أَن يكون أَرَادَ بالثياب الْأَنْفس، وَالْعرب تفعل ذَلِك كثيرا، تَقول: فلَان نقي الثِّيَاب: إِذا كَانَ بَرِيئًا من الدنس والآثام، وضده: فلَان دنس الثِّيَاب، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(ثِيَاب بني عَوْف طهارى نقية ... وأوجههم بيض الْمُسَافِر غران)
يُرِيد بثيابهم أنفسهم. وَقَالَ الآخر يذم رجلا:
(لَا هم إِن عَامر بن جهم ... أوذم حجا فِي ثِيَاب دسم)
أوذم بِمَعْنى أوجب، وَأَرَادَ أَنه حج وَهُوَ متدنس بِالذنُوبِ، ذكر(4/402)
الْوَجْهَيْنِ أَبُو عبيد. وَالثَّالِث: أَنه كَانَ يكون فِي الْحَيّ الرجل لَهُ هَيْئَة وَإِشَارَة فَإِذا احْتِيجَ إِلَى شَهَادَة الزُّور شهد لَهُم، فَيقبل لنبله وَحسن ثَوْبه، فَيُقَال: قد أمضاها بثوبيه، فأضيف الزُّور إِلَى الثَّوْبَيْنِ، قَالَه نعيم بن حَمَّاد.
2632 - / 3389 - والْحَدِيث الثَّامِن عشر: قد سبق فِي مُسْند طَلْحَة وَأنس وَرَافِع بن خديج.
وَقد تقدم مَا بعد ذَلِك.
2633 - / 3392 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: طَاف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بعير.
وَقد ذكرنَا خلاف النَّاس فِي طواف الرَّاكِب، وَمذهب الشَّافِعِي، وَرِوَايَة عَن أَحْمد أَنه يَجْزِي من غير عذر.
والاستلام: اللَّمْس.
وَقَوْلها: كَرَاهِيَة أَن يصرف عَنهُ النَّاس. تَعْنِي أَنه ركب ليحيط بِهِ النَّاس وَلَا يدْفَعُونَ عَنهُ كَمَا يدْفَعُونَ عَن الْمَاشِي.(4/403)
2634 - / 3393 - وَقد سبق الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
2635 - / 3394 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: سُئِلَ عَن ستْرَة الْمُصَلِّي، فَقَالَ: " كمؤخرة الرحل ".
مؤخرة الرحل مَهْمُوزَة وآخرة الرحل ممدودة: وَهِي مَا يَلِي الرَّاكِب من خشب رَحل الْجمل.
2636 - / 3395 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: " لن أستعين بمشرك ".
هَذَا الحَدِيث نَص فِي أَنه لَا يجوز الِاسْتِعَانَة فِي الْجِهَاد بِكَافِر، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد رَضِي الله عَنهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: يستعان بهم، إِلَّا أَن الشَّافِعِي يشْتَرط أَن يكون بِالْمُسْلِمين حَاجَة إِلَيْهِم، وَأَن يكون من يستعان بِهِ مِنْهُم حسن الرَّأْي فِي الْمُسلمين.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا استعين بالكافر للضَّرُورَة: فَعَن أَحْمد فِي سَهْمه رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَنه يسْتَحق السهْم التَّام. وَالثَّانِي: يرْضخ لَهُ، وَبِه قَالَ الْأَكْثَرُونَ.
2637 - / 3396 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: " توضؤوا مِمَّا مست النَّار ".(4/404)
من حمل الْوضُوء على غسل الْيَد جعل ذَلِك مُسْتَحبا، وَمن حمله على الْوضُوء الشَّرْعِيّ جعل هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخا بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل لَحْمًا ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ. وَقد سبق هَذَا فِي مَوَاضِع.
2638 - / 3397 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بكبش أقرن يطَأ فِي سَواد ويبرك فِي سَواد وَينظر فِي سَواد، فَأتى بِهِ ليضحى بِهِ.
أما الأقرن فالتام الْقرن.
وَقَوله: يطَأ فِي سَواد. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُرِيد أَنه أسود القوائم.
ويبرك فِي سَواد. يُرِيد أَن مَا يَلِي الأَرْض مِنْهُ إِذا برك أسود.
وَينظر فِي سَواد. يُرِيد أَن حدقته سَوْدَاء، لِأَن إِنْسَان الْعين فِيهَا، وَبِه ينظر، فَإِذا هِيَ اسودت نظر فِي سَواد. قَالَ كثير وَذكر الْمَرْأَة:
(وَعَن نجلاء تَدْمَع فِي بَيَاض ... إِذا دَمَعَتْ وَتنظر فِي سَواد)
يُرِيد بقوله: تَدْمَع فِي بَيَاض: أَن دموعها تسيل على خد أَبيض، وَأَن نظرها من حدقة سَوْدَاء. قَالَ: وَأَنا أَحْسبهُ أَنه لم يرد فِي الْكَبْش الحدقة وَحدهَا، وَلكنه أَرَادَ الْعين وَالْوَجْه. يَقُول: نظره من وَجه أسود.
قَوْله: اشحذها. يُقَال: شحذت الحديدة: حددتها.(4/405)
وَهَذَا مَحْمُول عندنَا على أَنه اتّفق ذَلِك الْكَبْش الْأسود، وَإِلَّا فَالْأَفْضَل عندنَا فِي الْأَضَاحِي والهدايا الشهب، ثمَّ الصفر، ثمَّ السود.
2639 - / 3398 - وَأما الحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ: فقد تقدم فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2640 - / 3400 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: كَانَ صدَاق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأزواجه ثِنْتَيْ عشرَة أُوقِيَّة ونش. قَالَت: أَتَدْرِي مَا النش؟ نصف أُوقِيَّة، فَتلك خَمْسمِائَة دِرْهَم.
قَالَ أَبُو عبيد: الْأُوقِيَّة: أَرْبَعُونَ. والنش: عشرُون. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: النش: النّصْف من كل شَيْء.
2641 - / 3401 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: وَالله، لقد صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ابْني بَيْضَاء فِي الْمَسْجِد.
ابْنا بَيْضَاء هما سُهَيْل وَصَفوَان ابْنا وهب بن ربيعَة بن هِلَال بن مَالك بن ضبة.
وأمهما اسْمهَا دعد بنت جحدم بن عَمْرو. وَكَانَت يُقَال لَهَا: الْبَيْضَاء، فنسبا إِلَى أمهما، وَقد شَهدا بَدْرًا. وَقد ذكرنَا من كَانَ ينْسب(4/406)
إِلَى أمه من الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ فِي مُسْند زيد بن ثَابت.
وَقد تضمن هَذَا الحَدِيث جَوَاز الصَّلَاة على الْمَيِّت فِي الْمَسْجِد من غير كَرَاهَة، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: تكره، واحتجا بِحَدِيث يرويهِ صَالح مولى التَّوْأَمَة عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " من صلى على جَنَازَة فِي الْمَسْجِد فَلَا شَيْء لَهُ " قَالَ مَالك بن أنس: صَالح لَيْسَ بِثِقَة.
2642 - / 3402 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: " اللَّهُمَّ رب جِبْرِيل وميكال وإسرافيل " قد ذكرنَا معنى " اللَّهُمَّ " فِي أول مُسْند أبي بكر. وَذكرنَا جِبْرِيل فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب.
فَأَما ميكال فَفِيهِ لُغَات: فبعضهم يَقُول: مِيكَائِيل، وَبَعْضهمْ يَقُول: ميكال، وَبَعْضهمْ يَقُول: ميكئل، وَقد قرئَ بِالْكُلِّ. قَالَ الْكسَائي: لم تكن الْعَرَب تعرف هَذَا الِاسْم فَلَمَّا جَاءَ عربته.
وإسرافيل يُقَال بِالْألف، ويحذف تَارَة.
وَقَوله: " فاطر السَّمَوَات " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الفاطر: الْخَالِق. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَهُوَ الْمُبْتَدِئ.(4/407)
والسراط: الطَّرِيق.
2643 - / 3403 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: " لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ كلب وَلَا صُورَة " وَقد سبق.
2644 - / 3404 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضْطَجعا كاشفا عَن فَخذيهِ أَو سَاقيه، فَاسْتَأْذن أَبُو بكر فَأذن لَهُ وَهُوَ على تِلْكَ الْحَال ثمَّ اسْتَأْذن عمر، ثمَّ اسْتَأْذن عُثْمَان، فَجَلَسَ وَسوى ثِيَابه.
اعْلَم أَن الْحيَاء كَانَ يغلب على عُثْمَان، فَلَو رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متبذلا لم يتوطن وَلم يبلغ مُرَاده.
فَإِن قيل: فَكيف الْجمع بَين هَذَا وَبَين حَدِيث جرهد حِين مر بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " غط فخذك؛ فَإِنَّهَا عَورَة " فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن الرَّاوِي قد شكّ فَقَالَ: فَخذيهِ أَو سَاقيه. وَالظَّاهِر أَنه كشف السَّاق لَا الْفَخْذ، وَذَاكَ أليق برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالثَّانِي: أَنه يحْتَمل أَن يكون هَذَا قبل التَّحْرِيم، ثمَّ جَاءَ حَدِيث جرهد فَمنع.
وَالثَّالِث: أَن يكون سمى الْفَخْذ عَورَة لإحاطتها بالعورة وقربها مِنْهَا لَا أَنَّهَا عَورَة، إِلَّا أَنه لَا يحسن إظهارها فِي الْجمع ن فكشفها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّن يأنس بِهِ، فَلَمَّا صَارُوا ثَلَاثَة كره باجتماعهم كشفها، وَهَذَا قَول ابْن قُتَيْبَة(4/408)
وَقَوْلها: فَلم تهتش لَهُ. يُقَال: اهتش الرجل: إِذا أطلق وَجهه واستبشر.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2645 - / 3410 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: بلغ عَائِشَة أَن عبد الله بن عَمْرو يَأْمر النِّسَاء إِذا اغْتَسَلْنَ أَن يَنْقُضْنَ رؤوسهن، فَقَالَت: يَا عجبا لِابْنِ عَمْرو، أَفلا يَأْمُرهُنَّ أَن يَحْلِقن رؤوسهن؟ .
نقض الرَّأْس: هُوَ حل الشّعْر. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أم سَلمَة: إِنِّي امْرَأَة أَشد ضفر رَأْسِي، أفأنقضه لغسل الْجَنَابَة؟ فَقَالَ: " لَا " وَفِي لفظ: أفأنقضه للحيضة وللجنابة؟ فَقَالَ: " لَا ".
وَاعْلَم أَنه مَتى كَانَ الشّعْر مضفورا ضفرا قَوِيا يمْنَع وُصُول المَاء إِلَى بَاطِنه وَجب حلّه، فَكَذَلِك إِذا كَانَ على الشّعْر الزادرخت الخطمي، وَكَانَ ثخينا وَجَبت إِزَالَته عِنْد الْغسْل، فَأَما إِذا لم يكن ثمَّ مَانع وَلَا قُوَّة ضفر اسْتحبَّ لَهَا أَن تنقض شعرهَا للْحيض دون الْجَنَابَة. قَالَ ابْن عقيل: وَهَذَا على وَجه الِاسْتِحْبَاب، لِأَن الْحيض لَا يتَكَرَّر. قَالَ: وَظَاهر كَلَام الْخرقِيّ وجوب ذَلِك.
2646 - / 3411 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: أَن ابْن جدعَان(4/409)
فِي الْجَاهِلِيَّة يصل الرَّحِم، أنافعه ذَلِك؟ قَالَ: " لَا ".
إِنَّمَا سَأَلته عَن ابْن جدعَان لِأَنَّهُ من قبيلتها من بني تَمِيم.
2647 - / 3414 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {يَوْم تبدل الأَرْض غير الأَرْض وَالسَّمَاوَات} [إِبْرَاهِيم: 48] .
تَبْدِيل الأَرْض: حط الْمُرْتَفع مِنْهَا وَرفع المنخفض، وَذَلِكَ بمدها وَذَهَاب شَجَرهَا وجبالها.
وتبديل السَّمَوَات بِإِزَالَة شمسها وقمرها ونجومها، وَتغَير صفاتها.
2648 - / 3417 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: أَن سعد بن هِشَام أَرَادَ أَن يَبِيع عقارا فَيَجْعَلهُ فِي الكراع وَالسِّلَاح ويجاهد الرّوم حَتَّى يَمُوت.
الْعقار: الضَّيْعَة وَالنَّخْل.
والكراع: اسْم لأنواع النخيل.
وَمَا عزم عَلَيْهِ سعد فعل مَا يشبه الرهبنة من ترك النِّسَاء وَالْخُرُوج من الْأَمْوَال.(4/410)
وَقَول الرَّاوِي: استلحقت حَكِيم بن أَفْلح إِلَى عَائِشَة. أَفْلح هُوَ أَخُو أبي القعيس، ويكنى أَبَا الْجَعْد. وَأَبُو القعيس هُوَ أَبُو عَائِشَة من الرضَاعَة؛ لِأَن امرأتة أرضعتها، فأفلح عَمها من الرضَاعَة، وَحَكِيم ابْن عَمها.
وَقَوله: نهيتها أَن تَقول فِي هَاتين الشيعتين. الظَّاهِر أَن الْإِشَارَة إِلَى عَليّ وَعُثْمَان.
وَقَوْلها: كَانَ يُصَلِّي تسع رَكْعَات لَا يجلس إِلَّا فِي الثَّامِنَة. اعْلَم أَن أقل الْوتر عندنَا رَكْعَة، وَأَقل كَمَاله ثَلَاث يفصل بَينهُنَّ بِسَلام، وَأَكْثَره إِحْدَى عشرَة رَكْعَة يسلم بَين كل اثْنَتَيْنِ. فَإِن أَرَادَ أَن يُوتر بِثَلَاث بِسَلام وَاحِد جلس عقيب الثَّانِيَة، وَإِذا أَرَادَ بِخمْس أَو سبع لم يجلس إِلَّا فِي أخراهن، فَإِن أَرَادَ بتسع جلس فِي الثَّامِنَة على مَا فِي هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْوتر ثَلَاث رَكْعَات بِسَلام وَاحِد لَا يزِيد وَلَا ينقص. وَقَالَ مَالك: بل يسلم عقيب الثَّانِيَة.
وَقَوْلها: فَلَمَّا أَخذه اللَّحْم. قد سبق الْكَلَام على هَذَا فِي الحَدِيث السّبْعين من هَذَا الْمسند، وَبينا أَن أَكثر الروَاة يروون بِالْمَعْنَى، وَقد ظنُّوا أَن بدن بِمَعْنى سمن، فَقَالُوا: أَخذه اللَّحْم، وَلَيْسَ هَذَا من صِفَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ لَو صَحَّ كَانَ الْمَعْنى: ثقل عَلَيْهِ حمل لَحْمه.
وَقَول ابْن عَبَّاس: لَو كنت أَدخل عَلَيْهَا. كَانَ ابْن عَبَّاس لَا يدْخل(4/411)
عَلَيْهَا لتِلْك الخماشات الَّتِي جرت والحروب، ثمَّ دخل عَلَيْهَا قبل مَوتهَا، وَبَالغ فِي مدحها.
2649 - / 3418 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: وحشرج الصَّدْر.
الحشرجة: تردد النَّفس فِي الْحلق.
واقشعر الْجلد: أَي انْتقصَ وأخذته رعدة لهول مَا هُوَ فِيهِ. والتشنج: التقبض.
2650 - / 3419 - والْحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ: قد سبق فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة.
2651 - / 3420 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: ذكر بَقِيع الْغَرْقَد. وَقد سبق فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
2652 - / 3421 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: لما كَانَت لَيْلَتي اضْطجع، فَلم يلبث إِلَّا ريثما ظن أَنِّي قد رقدت.
الريث: الإبطاء. يُقَال: راث يريث: أَي أَبْطَأَ.
وَقَوْلها: رويدا: أَي على مهل وَتثبت.(4/412)
وأجاف الْبَاب: أغلقه.
وهرول: أسْرع.
وأحضر: عدا.
وَقَوله: حشيا. يُقَال: رجل حش، وَامْرَأَة حشيا بِلَا مد وَلَا همز: إِذا أصابهما البهر وضيق النَّفس.
ورابية من الربو: وَهُوَ تدارك النَّفس، من إتعاب النَّفس.
واللهز: الضَّرْب بِجمع الْكَفّ فِي الصَّدْر.
والحيف: الْميل عَن الْوَاجِب.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِشْكَال عَظِيم: وَهُوَ قَوْله: " أخفت أَن يَحِيف الله عَلَيْك وَرَسُوله؟ " فَقَالَت: نعم. وَهَذَا لَيْسَ على ظَاهره. فَإِنَّهَا أتقى لله وَأعلم من أَن تخَاف الحيف فِي الشَّرْع، وَإِنَّمَا هَذَا لَا يَخْلُو من أَمريْن:
إِمَّا أَن يكون من بعض الروَاة الَّذين يذكرُونَ الشَّيْء بِالْمَعْنَى فِيمَا يَظُنُّونَهُ فيتغير. أَو أَن يكون الْمَعْنى: أخفت ميل الشَّرْع عَلَيْك بِإِسْقَاط حَقك من ليلتك، وللشرع التحكم، فَقَالَت: نعم، أَي قد خفت أَن يكون الشَّرْع قد أجَاز استلاب لَيْلَتي من يَدي، وَهَذَا لَا يكون حيفا، لَكِن لما كَانَ الحيف بِمَعْنى الْميل أقيم مقامة.
2653 - / 3423 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: أَن عَائِشَة أملت على كاتبها: " حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى وَصَلَاة الْعَصْر وَقومُوا(4/413)
لله قَانِتِينَ وَقَالَت: سَمعتهَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
اعْلَم أَن هَذِه الْآيَة كَذَلِك نزلت، ثمَّ نسخ مِنْهَا ذكر صَلَاة الْعَصْر، وَلم تعلم عَائِشَة أَن ذَلِك نسخ، فقرأتها على الْقِرَاءَة الأولى. وَقد سبق هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب.
2654 - / 3425 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: خلقه كل إِنْسَان من بني آدم على سِتِّينَ وثلاثمائة مفصل، من كبر الله، وَحمد الله، وَهَلل وَسبح، وعزل حجرا عَن طَرِيق، عدد تِلْكَ السِّتين والثلاثمائة السلامى فَإِنَّهُ يُمْسِي يَوْمئِذٍ وَقد زحزح نَفسه عَن النَّار.
قد روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " إِن على ابْن آدم ثَلَاثمِائَة وَسِتِّينَ عظما، فَعَلَيهِ من كل عظم مِنْهَا صَدَقَة " وَاعْلَم أَن هَذِه الْعِظَام مِنْهَا مَا يظْهر للحس وَمِنْهَا مَا يخفى لصغره، فَيَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يجْتَهد كل يَوْم أَن يَأْتِي من أَفعَال الْخَيْر بِمِقْدَار ذَلِك الْعدَد، فَإِن لم يطق سبح أَو قَرَأَ هَذَا الْمِقْدَار، على أَن صَلَاة رَكْعَتَيْنِ يَنُوب عَن ذَلِك من جِهَة أَنه إِذا قَامَ وَقعد وَركع وَسجد فقد شكر بِكُل الْأَعْضَاء.
والسلامى قد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند أبي ذَر.
2655 - / 3429 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: " أعوذ بك من شَرّ مَا عملت وَمَا لم أعمل ".(4/414)
إِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه شَرّ مَا لم يعْمل؟
فَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون استعاذ من شَرّ مَا سيعمله مِمَّا قد قدر لَهُ عمله، وَذَلِكَ لَا بُد من فعله لسابق الْقَضَاء بِهِ.
وَالثَّانِي: أَن يكون استعاذ مِمَّا لم يعمله وَلَا يعمله، وَهَاهُنَا يَقع الْإِشْكَال. وَجَوَابه أَن يكون مستعيذا من شَرّ النِّيَّة لذَلِك الْفِعْل أَو الرِّضَا بِهِ من الْغَيْر أَو إِيثَار النَّفس لذَلِك الْفِعْل.
2656 - / 3431 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: كَانَ يستفتح الصَّلَاة بِالتَّكْبِيرِ.
وَهَذَا دَلِيل على أَنَّهَا لَا تَنْعَقِد إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تَنْعَقِد بِكُل لفظ يقْصد بِهِ التَّعْظِيم.
وَأما استفتاحه بِالْحَمْد فدليل على أَن الْبَسْمَلَة لَيست من الْفَاتِحَة، وَأَنه لَا يسن الْجَهْر بهَا.
وَقَوْلها: لم يشخص رَأسه: أَي لم يرفعهُ وَلم يصوبه: أَي لم ينكسه.
والتحية يُرَاد بهَا التَّحِيَّات لله.
وَقَوله: كَانَ يفرش رجله الْيُسْرَى وَينصب الْيُمْنَى. هَذَا هُوَ السّنة فِي التَّشَهُّد الأول.
وَأما عقب الشَّيْطَان، ويروى عقبَة: وَهُوَ أَن يضع أليته على عَقِبَيْهِ بَين السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه بَعضهم الإقعاء(4/415)
وَأما افتراش الذِّرَاع فَلِأَن قِيَامهَا أشق عَلَيْهَا فِي بَاب التَّعَبُّد.
وَأما ختم الصَّلَاة بِالتَّسْلِيمِ فَإِن الْخُرُوج من الصَّلَاة بِالتَّسْلِيمِ فرض عندنَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجب، بل يجوز أَن يخرج بِكُل مَا ينافيها. وَالسَّلَام عندنَا من الصَّلَاة، وَعند أبي حنيفَة لَيْسَ مِنْهَا.
وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي التسليمة الثَّانِيَة فِي الْمَكْتُوبَة، فَعَن أَحْمد رِوَايَة أَنَّهَا وَاجِبَة، وَعنهُ أَنَّهَا سنة كَقَوْل أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ.
وَعِنْدنَا أَنه يَنْوِي بِالسَّلَامِ الْخُرُوج من الصَّلَاة. وَقَالَ الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة: يَنْوِي بِالسَّلَامِ على الْمَلَائِكَة والمأمومين.
2657 - / 3432 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند ثَوْبَان.
2658 - / 3433 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: قَالَ ابْن شماسَة: قَالَت لي عَائِشَة: كَيفَ كَانَ صَاحبكُم لكم فِي غزاتكم هَذِه؟ فَقلت: مَا نقمنا شَيْئا.
نقمنا بِمَعْنى كرهنا. يُقَال: نقمت أَنْقم، ونقمت أَنْقم.
وَالْإِشَارَة إِلَى أَمِير كَانَ قد قتل أخاها مُحَمَّدًا. وَقد اخْتلفت الرِّوَايَة(4/416)
فِيمَن قَتله، فروى يَعْقُوب بن سُفْيَان الْفَسَوِي فِي " تَارِيخه " أَن مُعَاوِيَة ابْن حديج قتل مُحَمَّد بن أبي بكر، ثمَّ جعله فِي جيفة حمَار وَأحرقهُ؛ لِأَنَّهُ أعَان على عُثْمَان، وَدخل عَلَيْهِ فَلَطَمَهُ. وَكَانَت عَائِشَة إِذا عثرت تَقول: بئس ابْن حديج
وروى إِبْرَاهِيم بن ديزيل فِي كتاب " صفّين " عَن الزُّهْرِيّ: أَن عليا بعث مُحَمَّد بن أبي بكر أَمِيرا على مصر، فَسمع بذلك مُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ، فسارا بِأَهْل الشَّام حَتَّى افتتحا مصر وقتلا مُحَمَّد بن أبي بكر.
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى أَن عَمْرو بن الْعَاصِ قَتله. وَالْأول الصَّحِيح؛ فَإِن مُعَاوِيَة بن حديج كَانَ من أهل مصر، وَكَانَ يغْضب لقتل عُثْمَان، فَلَمَّا قدم عَمْرو بن الْعَاصِ لِحَرْب مصر خرج إِلَيْهِ مُحَمَّد بن أبي بكر فطرد أَصْحَاب عَمْرو، فَبعث عَمْرو إِلَيْهِ مُعَاوِيَة بن حديج، فجَاء فقاتل وتفرق عَن مُحَمَّد أَصْحَابه، فهرب، فأدركه ابْن حديج فَقتله.
2659 - / 3434 - والْحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مَوَاضِع.
2660 - / 3435 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ مرط مرحل.(4/417)
المرط: الكساء. والمرحل: الْمُوشى، سمي مرحلا لِأَن عَلَيْهِ تصاوير الرّحال.
وَقَوله: {ليذْهب عَنْكُم الرجس} [الْأَحْزَاب: 33] قَالَ الْحسن: الرجس: الشّرك. وَقَالَ السّديّ: الْإِثْم.
وَفِي المُرَاد بِأَهْل الْبَيْت هَاهُنَا ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه ابْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة. فَإِن قيل: فَكيف قَالَ: {عَنْكُم} قيل: لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِنَّ، فغلب الْمُذكر.
وَالثَّانِي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعلي وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن. قَالَه أنس وَعَائِشَة وَأم سَلمَة.
وَالثَّالِث: أَنهم أهل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأزواجه، قَالَه الضَّحَّاك. وَقَالَ الزّجاج: نساؤه وَالَّذين هم آله.
وَقَوله: {وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا} فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: من الشّرك، قَالَه مُجَاهِد.
وَالثَّانِي: من السوء: قَالَه قَتَادَة.
وَالثَّالِث: من الْإِثْم، قَالَه السّديّ.
2661 - / 3436 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم: " هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ " قلت: مَا عِنْدِي شَيْء. فَخرج، فأهديت(4/418)
لنا هَدِيَّة أَو جَاءَنَا زور.
الزُّور: الْجَمَاعَة الزائرون.
وأصل الحيس: الْخَلْط، يُقَال: حاس يحيس حَيْسًا، وَبِه سمي الحيس، فَإِنَّهُ مَجْمُوع من أخلاط وَسمن وَمَا يتَّفق.
وَقد أَفَادَ هَذَا الحَدِيث جَوَاز عقد النِّيَّة للنفل بِالنَّهَارِ، وَجَوَاز إفطار المتنفل.
2662 - / 3437 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: أَن عَائِشَة قَالَت فِي صبي مَاتَ: عُصْفُور من عصافير الْجنَّة. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَو غير ذَلِك؟ ".
إِنَّمَا نهاها أَن تقطع للأطفال بِالْجنَّةِ، لِأَن الْقطع على علم الْغَيْب لَيْسَ إِلَيْهَا.
2663 - / 3438 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَصُوم من كل شهر ثَلَاثَة أَيَّام، وَلَا يُبَالِي من أَي أَيَّام الشَّهْر كَانَت.
هَذَا الحَدِيث يَقْتَضِي أَنه كَانَ ينظر إِلَى الثَّلَاث لأجل التَّضْعِيف، فَإِن الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا، وَلَا يُبَالِي من أَيْن كَانَت. وَفِي حَدِيث أبي ذَر: " إِذا صمت فَصم ثَلَاث عشرَة وَأَرْبع عشرَة وَخمْس عشرَة ".(4/419)
(214) كشف الْمُشكل من مُسْند أم سَلمَة
وَاسْمهَا هِنْد بنت أبي أُميَّة. وَاسم أبي أُميَّة سهل، وَيُقَال لَهُ: زَاد الركب، كَانَت عِنْد أبي سَلمَة بن عبد الْأسد، فَهَاجَرَ بهَا إِلَى أَرض الْحَبَشَة الهجرتين جَمِيعًا، فَولدت لَهُ هُنَاكَ زَيْنَب، ثمَّ ولدت بعد ذَلِك سَلمَة وَعمر ودرة، وَمَات أَبُو سَلمَة فَتَزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ تِسْعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا.
2664 - / 3441 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى فِي بَيتهَا جَارِيَة فِي وَجههَا سفعة.
أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا قَالَ: قَالَ لي أَبُو الْعَلَاء: السفعة بِفَتْح السِّين أَجود، والسفعة بِضَم السِّين، من قَوْلهم: رجل أسفع: أَي لَونه أسود. وَقَالَ أَبُو عبيد: تَفْسِير قَوْلهَا: فِي وَجههَا سفعة: أَي أَن الشَّيْطَان أَصَابَهَا. وأصل السفع الْأَخْذ بالناصية، قَالَ تَعَالَى: {لنسفعا بالناصية} [العلق: 15] وَفَسرهُ غَيره فَقَالَ: السفعة: الصُّفْرَة والتغير، وَأَصله السوَاد، وكل أصفر أسفع، وَهَذَا يَأْتِي على ضم الْكَلِمَة.(4/420)
وَمعنى قَوْله: بهَا النظرة: أَن عينا أصابتها. يُقَال: رجل مَنْظُور: إِذا أَصَابَته الْعين.
2665 - / 3442 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: شَكَوْت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنِّي أشتكي، فَقَالَ: " طوفي من وَرَاء النَّاس وَأَنت راكبة " فطفت.
أما طواف الْمَعْذُور رَاكِبًا فَجَائِز عِنْد الْعلمَاء. فَأَما إِذا كَانَ من غير عذر فقد بَينا فِيمَا تقدم أَنه يُجزئهُ عِنْد الشَّافِعِي وَأحمد فِي رِوَايَة، وَعند أبي حنيفَة وَمَالك يُجزئهُ وَعَلِيهِ دم.
2666 - / 3444 - وَقد تقدم الْكَلَام فِي الحَدِيث الْخَامِس فِي مُسْند عَائِشَة.
2667 - / 3445 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: بَينا أَنا مُضْطَجِعَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الخميلة حِضْت.
الخميلة وَاحِدَة الخمائل: وَهِي أكسية فِيهَا لين، وَرُبمَا كَانَ لَهَا خمل وَهُوَ الهدب الْمُتَعَلّق بهَا.
والحيضة بِكَسْر الْحَاء: التحيض. وَهِي الْحَالة الَّتِي تلزمها الْحَائِض من توقي أَشْيَاء. والحيضة بِفَتْح الْحَاء: الْمرة.
" أنفست؟ ": أَي حِضْت. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند عَائِشَة.(4/421)
2668 - / 3446 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: سمع جلبة خصم.
الجلبة: الْأَصْوَات.
والخصم يَقع على الْوَاحِد والاثنين وَالْجَمَاعَة، قَالَ تَعَالَى {وَهل أَتَاك نبأ الْخصم إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب} [ص: 21] .
وَقَوله: " فَلَعَلَّ بَعضهم أبلغ من بعض " قَالَ الزّجاج: بلغ الرجل يبلغ بلاغة وَهُوَ بليغ: إِذا كَانَ يبلغ بِعِبَارَة كنه مَا فِي قلبه. وَقَالَ غَيره: البلاغة: إِيصَال الْمَعْنى إِلَى الْقلب فِي أحسن صُورَة من اللَّفْظ وَقيل: الإيجاز مَعَ الإفهام وَالتَّصَرُّف من غير إضجار.
وَقَوله: " أَلحن بحجته " أَي أفطن لَهَا وأجدل. واللحن بِفَتْح الْحَاء: الفطنة، يُقَال مِنْهُ: رجل لحن: أَي فطن.
وَقَوله: " فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَة من النَّار " يدل على أَنه لَا يحل للمقضي لَهُ أَن يَأْخُذ مَا لَيْسَ لَهُ وَإِن حكم لَهُ الْحَاكِم. وَفِي هَذَا دَلِيل صَرِيح على من يعْتَقد أَن حكم الْحَاكِم يُبِيح الْمَحْظُور.
2669 - / 3447 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " قد كَانَت إحداكن تمكث فِي شَرّ أحلاسها ".
الأحلاس جمع حلْس، وأصل الحلس أَنه كل مَا ولي ظهر الْبَعِير تَحت القتب، ثمَّ يستعار لشر الثِّيَاب. وَكَانَت الْمَرْأَة فِي الْجَاهِلِيَّة تَعْتَد سنة لَا تخرج من بَيتهَا، فَإِذا خرجت رَأس السّنة رمت كَلْبا ببعرة لتري النَّاس(4/422)
أَن إِقَامَتهَا حولا بعد زَوجهَا أَهْون عَلَيْهَا من بَعرَة ترمي بهَا كَلْبا، وَقد ذكرُوا هَذِه الْإِقَامَة فِي أشعارهم، قَالَ لبيد:
(وهم ربيع للمجاور فيهم ... والمرملات إِذا تطاول عامها)
وَقد نزل الْقُرْآن بذلك فِي أول الْإِسْلَام، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا وَصِيَّة لأزواجهم مَتَاعا إِلَى الْحول غير إِخْرَاج} [الْبَقَرَة: 24] ثمَّ نسخ عز وَجل هَذِه الْآيَة بقوله {يتربص بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} [الْبَقَرَة: 234] .
2670 - / 3448 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " الَّذِي يشرب فِي إِنَاء الْفضة إِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم ".
أصل الجرجرة للبعير: وَهُوَ صَوت يردده فِي حنجرته، فَشبه تردد المَاء فِي حنجرة الشَّارِب بذلك.
وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث على وَجْهَيْن: " نَار جَهَنَّم " بِنصب الرَّاء و " نَار جَهَنَّم " برفعها، وَالْأول أقوى، لِأَن فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: " يجرجر فِي بَطْنه نَارا من جَهَنَّم ".
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.(4/423)
2671 - / 3453 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
أخرجت إِلَيْنَا أم سَلمَة شعرًا من شعر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مخضوبا. وَفِي رِوَايَة: أرته شعر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحْمَر.
وَقد سبق الْكَلَام فِي خضاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مُسْند ابْن عمر وَأنس ابْن مَالك. وَقد قيل: إِنَّمَا احمر شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِكَثْرَة اسْتِعْمَال الطّيب، وَفِيه بعد.
2672 - / 3457 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد مُسلم:
" أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما تزوج أم سَلمَة أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: " إِن شِئْت سبعت لَك، وَإِن سبعت لَك سبعت لنسائي ".
وَاعْلَم أَن الثَّلَاث للثيب تكرمة لَهَا، وَإِنَّمَا فضلت الْبكر بِزِيَادَة اللَّيَالِي لِأَنَّهَا أَشد حَيَاء، فَهِيَ مفتقرة إِلَى مداراة وإيناس لتتحقق الألفة.
وَعِنْدنَا أَنه إِذا تزوج امْرَأَة وَعِنْده غَيرهَا، فَإِن كَانَت بكرا فَضلهَا بالسبع، وَإِن كَانَ ثَيِّبًا خَيرهَا، فَإِن شَاءَت أَقَامَ عِنْدهَا سبعا وَعند كل وَاحِدَة من نِسَائِهِ سبعا وَلم يَخُصهَا بِزِيَادَة، وَإِن شَاءَت أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا يفصلها بهَا ثمَّ يُسَوِّي فِيمَا بَينهُنَّ بعد ذَلِك. وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَدَاوُد: لَا يفضل الجديدة بِشَيْء بل يُسَوِّي بَين الْكل.(4/424)
2673 - / 3458 - والْحَدِيث الثَّالِث: قد تقدم فِي مُسْند عَائِشَة.
2674 - / 3459 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " إِذا رَأَيْتُمْ هِلَال ذِي الْحجَّة وَأَرَادَ أحدكُم أَن يُضحي فليمسك عَن شعره وأظفاره ".
إِنَّمَا سميت الْأُضْحِية أضْحِية لِأَنَّهَا تذبح وَقت الضُّحَى، وفيهَا لُغَات قد سبقت.
وَفِي قَوْله: " وَأَرَادَ أحدكُم أَن يُضحي " دَلِيل على أَنَّهَا لَا تجب، وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَنَّهَا مُسْتَحبَّة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ وَاجِبَة على الْغَنِيّ الْحَاضِر. وَقد رُوِيَ عَن أَحْمد أَنَّهَا وَاجِبَة على الْغَنِيّ.
وَإِنَّمَا قَالَ: " فليمسك عَن شعره وأظفاره " لِأَنَّهُ كالتشبيه بالمحرمين. وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَنه يكره لمن أَرَادَ أَن يُضحي أَن يَأْخُذ من شعره وأظفاره. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يكره ذَلِك.
وَالذّبْح بِكَسْر الذَّال: اسْم الْمَذْبُوح.
2675 - / 3461 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي سَلمَة وَقد شقّ بَصَره، فأغمضه.
قَوْله: شقّ بَصَره: أَي انْفَتح.(4/425)
وَقَوله: " لَا تدعوا على أَنفسكُم إِلَّا بِخَير " فِيهِ تحذير من الدُّعَاء على النُّفُوس حِينَئِذٍ، لقَوْله: " فَإِن الْمَلَائِكَة يُؤمنُونَ على مَا تَقولُونَ ".
2676 - / 3463 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " إِن حَمْزَة أخي من الرضَاعَة ".
كَانَت ثويبة مولاة أبي لَهب قد أرضعت حَمْزَة وأرضعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل حليمة.
2677 - / 3465 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: إِنِّي امْرَأَة أَشد ضفر رَأْسِي أفأنقضه لغسل الْجَنَابَة؟ قَالَ: " لَا ".
ضفر الرَّأْس: فتل الشّعْر وَإِدْخَال بعضه فِي بعض. وَقد تكلمنا على نقض الشّعْر وَتَركه فِي مُسْند عَائِشَة.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على صِحَة الْغسْل إِذا عَم المَاء الْبدن من غير إمرار الْيَد عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ مَالك: لَا يُجزئ حَتَّى يمر المغتسل يَده على جسده، وَكَذَلِكَ يَقُول فِي التوضئ.
2678 - / 3467 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " إِنَّه يسْتَعْمل عَلَيْكُم أُمَرَاء فتعرفون وتنكرون، فَمن كره فقد برِئ.(4/426)
الْمَعْنى أَنهم يَفْعَلُونَ الْمَعْرُوف وَالْمُنكر. وَالْكَرَاهَة نفور النَّفس عَن الشَّيْء، وعلامة النفور من أفعالهم الْبعد عَنْهُم.
2679 - / 3468 - والْحَدِيث الثَّالِث عشر: قد تقدم فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.(4/427)
(215) كشف الْمُشكل من مُسْند حَفْصَة بنت عمر بن الْخطاب
كَانَت عِنْد خُنَيْس بن حذافة السَّهْمِي، وَهَاجَرت مَعَه إِلَى الْمَدِينَة، فَمَاتَ عَنْهَا مقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بدر، فَتَزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عشرَة أَحَادِيث.
وَقد سبق شرح جُمْهُور الْأَحَادِيث.
2680 - / 3472 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " كنت شَابًّا عزبا ".
العزب: الَّذِي لَيْسَ لَهُ زَوْجَة.
وقرنا الْبِئْر: منارتان تبنيان بحجارة أَو مدر على رَأس الْبِئْر من جانبيها. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند أبي أَيُّوب.
وَالسَّرِقَة من الْحَرِير، وَقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند عَائِشَة.
والإستبرق: ثخين الديباج، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مَوَاضِع.
والمقمعة: كالمقرعة.
وشفير كل شَيْء: حرفه.(4/428)
2681 - / 3477 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس من أَفْرَاد مُسلم:
" من أَتَى عرافا فَسَأَلَهُ عَن شَيْء لم تقبل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ لَيْلَة ".
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: العراف: الَّذِي يتعاطى معرفَة الشَّيْء الْمَسْرُوق وَمَكَان الضَّالة وَنَحْو ذَلِك. والكاهن يتعاطى علم مَا يكون فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان، وَيَدعِي معرفَة الْأَسْرَار.
2682 - / - وَمِمَّا فِي الصَّحِيح وَلم يذكرهُ الْحميدِي: عَن حَفْصَة قَالَت: كَانَت أم عَطِيَّة لَا تذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا قَالَت: بيبي.
وَهَذِه لُغَة فِي قَوْلهم: بِأبي، أبدلت الْهمزَة يَاء، وَأنْشد ابْن الأبناري:
(وَقد زَعَمُوا أَنِّي جزعت عَلَيْهِمَا ... وَهل جزع إِن قلت وابيباهما)
(وَهل جزع إِن قلت شَيْئا عَلمته ... وأثنيت مَا قد أولياني كِلَاهُمَا)(4/429)
(216) كشف الْمُشكل من مُسْند أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان
وَاسْمهَا رَملَة. كَانَت عِنْد عبيد الله بن جحش، فَولدت حَبِيبَة وكنيت بهَا، وَهَاجَر عبيد الله بِأم حَبِيبَة إِلَى أَرض الْحَبَشَة فِي الْهِجْرَة الثَّانِيَة، ثمَّ تنصر وارتد وَتُوفِّي هُنَالك، وَثبتت أم حَبِيبَة على دينهَا، فَبعث رَسُول الله عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي ووكله إِلَى النَّجَاشِيّ ليخطبها عَلَيْهِ، فَتَوَلّى تَزْوِيجهَا خَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ، وَهُوَ ابْن عَم أبي سُفْيَان، لِأَن أَبَا سُفْيَان كَانَ كَافِرًا. وأصدق النَّجَاشِيّ عَن رَسُول الله أَرْبَعمِائَة دِينَار، وَبعث بهَا إِلَيْهِ سنة سبع. وَأخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
2683 - / 3479 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: لست لَك بمخلية.
الْمِيم مَضْمُومَة وَالْخَاء سَاكِنة وَاللَّام مَكْسُورَة، كَذَلِك سمعته من عبد الله ابْن أَحْمد النَّحْوِيّ، وَالْمعْنَى: لست بمنفردة لدوام الْخلْوَة بك.
وَقَوله: " هِيَ ابْنة أخي من الرضَاعَة " كَانَت ثويبة قد أرضعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة أَيَّام، وأرضعت سَلمَة.
وَقَوله: " بشر حيبة " أَي بشر حَالَة. يُقَال: بَات الرجل بحيبة سوء: أَي بِحَالَة سَيِّئَة. وَمن قَالَ: خيبة بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة فقد صحف.
2684 - / 3480 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لما جاءها نعي أَبِيهَا دعت(4/430)
بصفرة فمسحت عارضيها.
العارضان هَاهُنَا: الخدان، والعارض يَقع على مَا يُقَابل الْخَدين من الْأَسْنَان من دَاخل.
2685 - / 3481 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" من صلى ثِنْتَيْ عشرَة رَكْعَة فِي يَوْم وَلَيْلَة بني لَهُ بِهن بَيت فِي الْجنَّة ".
لم يذكر فِي الصَّحِيح مَتى تصلى هَذِه الرَّكْعَات، وَقد أخبرنَا أَبُو الْفَتْح الكروخي قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَامر الْأَزْدِيّ وَأَبُو بكر الغورجي قَالَا: أخبرنَا الجراحي قَالَ: أَنبأَنَا المحبوبي قَالَ: حَدثنَا التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان قَالَ: حَدثنَا مُؤَمل قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي إِسْحَاق عَن الْمسيب بن رَافع عَن عَنْبَسَة عَن أم حَبِيبَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من صلى فِي يَوْم وَلَيْلَة ثِنْتَيْ عشرَة رَكْعَة بني لَهُ بَيت فِي الْجنَّة: أَرْبعا قبل الظّهْر، وَرَكْعَتَيْنِ بعْدهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْمغرب، وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْعشَاء، وَرَكْعَتَيْنِ قبل صَلَاة الْغَدَاة ". قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
2686 - / 3482 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث بهَا من جمع بلَيْل. قد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَغَيره.(4/431)
(217) كشف الْمُشكل من مُسْند مَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة
كَانَ قد تزَوجهَا مَسْعُود بن عَمْرو الثَّقَفِيّ فِي الْجَاهِلِيَّة، ثمَّ فَارقهَا فخلف عَلَيْهَا أَبُو رهم بن عبد الْعُزَّى، وَتُوفِّي عَنْهَا، وَتَزَوجهَا رَسُول الله بسرف على عشرَة أَمْيَال من مَكَّة فِي سنة سبع فِي عمْرَة الْقَضِيَّة، وَهِي آخر امْرَأَة تزَوجهَا. وَقدر الله تَعَالَى أَنَّهَا مَاتَت فِي الْمَكَان الَّذِي بنى بهَا فِيهِ، ودفنت هُنَالك. أخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة عشر حَدِيثا.
2687 - / 3483 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: تَوَضَّأ رَسُول الله وضوءه للصَّلَاة غير رجلَيْهِ، وَغسل فرجه وَمَا أَصَابَهُ من الْأَذَى، ثمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ المَاء.
الْوَاو للْجمع لَا للتَّرْتِيب. وَالْمرَاد غسل فرجه ثمَّ تَوَضَّأ. وَقد بَين هَذَا فِي بعض طرق الحَدِيث.
وَأما مسح يَده على الْحَائِط أَو الأَرْض فَهُوَ إِمَّا للزَّوْجَة تكون على الْفرج، أَو لذهاب الرَّائِحَة.
وَأما رده الْخِرْقَة فلكراهة التنشف، وَهُوَ غير مُسْتَحبّ، وَهل يكره أم لَا، على رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد.(4/432)
2688 - / 3485 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: وَهُوَ يُصَلِّي على خمرته.
الْخمْرَة: سجادة يسْجد عَلَيْهَا الْمُصَلِّي تنسج من خوص وترمل بالخيوط، وَسميت خمرة لِأَنَّهَا تخمر وَجه الأَرْض: أَي تستره. وَقيل: تخمر وَجه الْمُصَلِّي عَن الأَرْض: أَي تستره.
2689 - / 3487 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَنَّهَا أعتقت وليدة، فَقَالَ رَسُول الله: " لَو أعطيتهَا أخوالك كَانَ أعظم لأجرك ".
الوليدة: الْجَارِيَة، وَجَمعهَا ولائد.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن صلَة الْأَقَارِب وإغناء الْفُقَرَاء أفضل من الْعتْق وَالصَّدَََقَة على الْأَجَانِب.
2690 - / 3488 - وَقد سبق الحَدِيث السَّادِس.
2691 - / 3489 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أَنهم شكوا فِي صِيَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم عَرَفَة، فَأرْسلت إِلَيْهِ بحلاب فَشرب.
الحلاب هَاهُنَا: اللَّبن المحلوب. وَقد يكون أَيْضا: الحلاب: الْإِنَاء الَّذِي يحلب فِيهِ. وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على اسْتِحْبَاب إفطار يَوْم عَرَفَة للْحَاج. وَإِنَّمَا اسْتحبَّ لَهُ ذَلِك ليتقوى على الدُّعَاء، بِخِلَاف الْحَاضِر.(4/433)
وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ:
2692 - / 3490 - سُئِلَ عَن فَأْرَة وَقعت فِي سمن فَقَالَ: " ألقوها وَمَا حولهَا ".
هَذَا حكم السّمن الجامد، فَأَما إِذا كَانَ مَائِعا فَإِنَّهُ ينجس الْكل
2693 - / 3491 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
أَنه أصبح يَوْمًا واجما.
الواجم: المهتم السَّاكِت لأمر قد كرهه.
والفسطاط: ضرب من الْأَبْنِيَة كالأخبية. وَقد سبق ذكره.
وَأما أمره بقتل الْكلاب فمنسوخ بِحَدِيث ابْن الْمُغَفَّل وَقد سبق.
والحائط: الْبُسْتَان.
وَقد سبق سَبَب امْتنَاع الْمَلَائِكَة عَن بَيت فِيهِ كلب وَصُورَة.
2694 - / 3492 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن امْرَأَة شكت شكوى، فَقَالَت: إِن شفاني الله لأخْرجَن فلأصلين فِي بَيت الْمُقَدّس، فبرأت، فَقَالَت مَيْمُونَة: صلي فِي مَسْجِد الرَّسُول.
هَذَا الحَدِيث مَحْمُول على أَن هَذِه الْمَرْأَة وعدت وَعدا وَلم تنذر نذرا. على أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا: فعندنا أَنه إِذا نذر الصَّلَاة فِي بَيت الْمُقَدّس أَو(4/434)
فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لزمَه ذَلِك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يلْزمه. وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين. إِلَّا أَن عندنَا أَنه إِن جعل بدل ذَلِك الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أَجزَأَهُ، وَلَا تُجزئ الصَّلَاة فِي غير هذَيْن المسجدين عَن نذر الصَّلَاة فِي غير الْمَسْجِد الْحَرَام. فَأَما إِذا نذر الصَّلَاة فِي غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة فَإِنَّهُ لَا يلْزمه الْوَفَاء، وَهُوَ مُخَيّر بَين فعل ذَلِك وَبَين تَركه وَيكفر كَفَّارَة يَمِين.
2695 - / 3493 - فِي الحَدِيث الثَّالِث: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2696 - / 3494 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: كَانَ إِذا سجد لَو شَاءَت بهمة أَن تمر بَين يَدَيْهِ لمرت.
البهمة وَاحِدَة البهم: وَهِي صغَار الْغنم. وَالْمعْنَى: لَو شَاءَت أَن تدخل تَحت يَدَيْهِ إِذا سجد لشدَّة رَفعه إِيَّاهَا فِي السُّجُود.
2697 - / 3495 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَنه تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال. وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.(4/435)
(218) كشف الْمُشكل من مُسْند جوَيْرِية بنت الْحَارِث
وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أَصَابَهَا فِي غزَاة بني المصطلق، وَكَانَت قبله عِنْد مسافع ابْن صَفْوَان فَوَقَعت فِي سهم ثَابت بن قيس بن شماس، فكاتبها، فَقضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتَابَتهَا وَتَزَوجهَا فِي شعْبَان سنة سِتّ، فَلَمَّا سمع النَّاس ذَلِك أرْسلُوا مَا فِي أَيْديهم من سَبَايَا بني المصطلق، فَأعتق بتزوجه إِيَّاهَا مائَة أهل بَيت. وَكَانَ اسْمهَا برة فسماها جوَيْرِية. وَأخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة أَحَادِيث.
2698 - / 3496 - فَفِي الحَدِيث الأول: نَهْيه إِيَّاهَا عَن إِفْرَاد يَوْم الْجُمُعَة بِالصَّوْمِ. وَقد سبق فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة وَجَابِر.
2699 - / 3497 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ ".
الْمَعْنى: وَبِحَمْدِهِ سبحته.
وَقَوله: " وزنة عَرْشه " هَذَا من الْوَزْن والمقابلة بالثقل.
فَإِن قيل: التَّسْبِيح لَيْسَ لَهُ وزانة، وَالْعرش جسم لَهُ ثقل. فَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل أَمريْن: أَحدهمَا: أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى الصُّحُف الَّتِي يكْتب(4/436)
فِيهَا التَّسْبِيح، فتجمع حَتَّى توازن الْعَرْش.
وَالثَّانِي: أَن يُرَاد بذلك الْكَثْرَة وَالْعَظَمَة، فشبهت بأعظم الْمَخْلُوقَات.
وَقَوله: " ومداد كَلِمَاته " أَي قدر مَا يوازنها فِي الْعدَد وَالْكَثْرَة. والمداد بِمَعْنى المدد، قَالَ الشَّاعِر:
(رَأَوْا بارقات بالأكف كَأَنَّهَا ... مصابيح سرج أوقدت بمداد)
أَي بمدد من الزَّيْت. فَيكون الْمَعْنى: أَنه يسبح الله على قدر كَلِمَاته عيار كيل أَو وزن. وَهَذَا تَمْثِيل يُرَاد بِهِ التَّقْرِيب؛ لِأَن الْكَلَام لَا يدْخل فِي الْوَزْن وَلَا يَقع فِي المكاييل.
وَقَوله: " لقد قلت كَلِمَات لَو وزنت بِمَا قلت وزنتهن " فِي هَذَا تَنْبِيه على فَضِيلَة الْعلم؛ فَإِن الْعَاميّ يكثر من التَّسْبِيح، فيهتدي الْعَالم بِالْعلمِ إِلَى جَمِيع مَا فعله ذَلِك فِي كَلِمَات يسيرَة، وينال فِي التَّعَبُّد الْقَلِيل بِالْعلمِ مَا لَا يَنَالهُ الْعَاميّ فِي الْكثير، فمثلهما كَمثل مسافرين أَحدهمَا جَاهِل بالجادة، فَإِن طَرِيقه تطول، وَالْآخر خَبِير بهَا، فَإِنَّهُ يقطع الطَّرِيق وينام فِي الظل إِلَى أَن يصل الْجَاهِل.
2700 - / 3498 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَوْله فِي الصَّدَقَة: " قد بلغت محلهَا ".
الْمحل بِكَسْر الْحَاء: مَوضِع الْحُلُول والاستقرار. وَالْمعْنَى: أَنه قد حصل الْمَقْصُود مِنْهَا من ثَوَاب التَّصَدُّق، ثمَّ صَارَت ملكا لمن وصلت إِلَيْهِ.(4/437)
(219) كشف الْمُشكل من مُسْند زَيْنَب بنت جحش
أمهَا أُمَيْمَة بنت عبد الْمطلب عمَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَت قبله عِنْد زيد ابْن حَارِثَة فَطلقهَا، فَتَزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سنة خمس. وَأخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
2701 - / 3499 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " فتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه " وَحلق بإصبعه الْإِبْهَام وَالَّتِي تَلِيهَا.
الرَّدْم: السد.
وَقد سبق ذكر يَأْجُوج وَمَأْجُوج فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
وَحلق: بِمَعْنى جعلهَا حَلقَة.
وَأما الْخبث فَقَالَ الْخطابِيّ: هُوَ الزِّنَا.
فَإِن قيل: فَمَا ذَنْب الصَّالِحين؟ فَالْجَوَاب: أَنهم يموتون بآجالهم لَا بالعقوبة.(4/438)
2702 - / 3500 - وَقد شرحنا الحَدِيث الثَّانِي فِي مُسْند أم سَلمَة.
وَفِيه: دخلت حفشا: وَهُوَ الْبَيْت الصَّغِير. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عَائِشَة.
وَقَوْلها: تفتض بِهِ. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ من فضضت الشَّيْء: إِذا كَسرته أَو فرقته، وَمِنْه فض خَاتم الْكتاب. وَأَرَادَ أَنَّهَا كَانَت تكون فِي عدَّة من زَوجهَا فتكسر مَا كَانَت فِيهِ وَتخرج مِنْهُ بالدابة. قَالَ: وَبَعض الْمُحدثين يرويهِ: فتفتض بِهِ، وَالصَّوَاب الأول، وَكَذَلِكَ رَأَيْت الْحِجَازِيِّينَ يَرْوُونَهُ وسألتهم عَن الافتضاض فَذكر لي بَعضهم: أَن الْمُعْتَدَّة كَانَت لَا تَغْتَسِل، وَلَا تمس مَاء، وَلَا تقلم ظفرا وَلَا تقرب شَيْئا من أُمُور التنظف، ثمَّ تخرج بعد الْحول بأقبح منظر فتفتض بطائر تمسح بِهِ قبلهَا وتنبذه، فَلَا يكَاد يعِيش.
وَقَالَ الْأَزْهَرِي: روى الشَّافِعِي هَذَا الْحَرْف: فتقبص بِالْقَافِ وَالْبَاء وَالصَّاد. والقبص: الْأَخْذ بأطراف الْأَصَابِع. فَأَما الْقَبْض بالضاد الْمُعْجَمَة فبالكف كلهَا.(4/439)
(220) كشف الْمُشكل من مُسْند صَفِيَّة بنت حييّ
تزَوجهَا سَلام بن مشْكم الْقرظِيّ، ثمَّ فَارقهَا فَتَزَوجهَا كنَانَة بن الرّبيع ابْن أبي الْحقيق فَقتل عَنْهَا يَوْم خَيْبَر، فسباها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ واصطفاها لنَفسِهِ، وَأسْلمت وأعتقها، وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا. وَقيل: وَقعت فِي سهم دحْيَة الْكَلْبِيّ فاشتراها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسبعة آرس. وَأخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
2703 - / 3501 - وَفِيه: أَن رجلَيْنِ مرا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يمشي مَعَ صَفِيَّة فِي الْمَسْجِد إِلَى بَيتهَا، فَقَالَ: " إِنَّهَا صَفِيَّة ".
هَذَا الحَدِيث يَأْمر بالتحرز من كل مَكْرُوه يخْطر بالظنون، وَينْهى عَن مقَام الريب، ويحث على حفظ الْعرض من أَلْسِنَة النَّاس. قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ: لَو ظنا بِهِ شرا لكفرا، فبادر إِلَى إعلامهما لِئَلَّا يَقع فِي ظنونهما مَا يخرجهما إِلَى الْكفْر.
قلت: وَلَو قَدرنَا امْتنَاع الظَّن مِنْهُمَا لذَلِك لِأَن إيمانهما يدْفع سوء الظَّن عَنْهُمَا، فوساوس الشَّيْطَان لَا يملكانها فِي بواطن الْقُلُوب، فَأَرَادَ تَطْهِير الْقُلُوب من درن الوساوس.(4/440)
(221) كشف الْمُشكل من مُسْند سَوْدَة بنت زَمعَة
أسلمت قَدِيما وبايعت، وَكَانَت عِنْد ابْن عَم لَهَا يُقَال لَهُ السَّكْرَان بن عَمْرو، وَأسلم أَيْضا، وَهَاجَر بهَا، فَلَمَّا كَبرت أَرَادَ طَلاقهَا فَسَأَلته أَلا يفعل، وَجعل لَيْلَتهَا لعَائِشَة. وَأخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
قَالَ الْحميدِي: هُوَ للْبُخَارِيّ وَحده. وَذكرهَا أَبُو الْفَتْح بن أبي الفوارس فِيمَن اتّفق عَلَيْهِنَّ.
2704 - / 3502 - وَفِي ذَلِك الحَدِيث: مَاتَت شَاة لنا، فدبغنا مسكها، فَمَا زلنا ننتبذ فِيهِ حَتَّى صَار شنا.
الْمسك: الإهاب.
والشن: الْجلد الْبَالِي.
وَهَذَا مَحْمُول على مَا قبل النّسخ بِحَدِيث ابْن عكيم.(4/441)
(222) كشف الْمُشكل من حَدِيث أم هَانِئ بنت أبي طَالب
وَكَانَ هِشَام بن الْكَلْبِيّ يَقُول: اسْمهَا هِنْد، وَالْأول أصح. كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد خطبهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وخطبها هُبَيْرَة بن أبي وهب المَخْزُومِي، فَزَوجهَا أَبُو طَالب من هُبَيْرَة، فَولدت لَهُ جعدة وعمرا ويوسف وهانئا، وَأسْلمت فَفرق الْإِسْلَام بَينهمَا، وخطبها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: وَالله إِن كنت لَأحبك فِي الْجَاهِلِيَّة فَكيف فِي الْإِسْلَام؟ وَلَكِنِّي امْرَأَة مصبية. فَسكت عَنْهَا. وَأخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد فِي صَلَاة الضُّحَى.
2705 - / 3503 - وَفِيه: يَا رَسُول الله! ، زعم ابْن أُمِّي عَليّ بن أبي طَالب أَنه قَاتل رجلا قد أجرته، فلَان بن هُبَيْرَة. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " قد أجرنا من أجرت ".
قد اخْتلفت الْأَحَادِيث: هَل صلى رَسُول الله الضُّحَى أم لَا؟ وَوجه الِاخْتِلَاف أَن من رَآهُ يُصليهَا روى ذَلِك، وَمن لم يره قَالَ: مَا صلاهَا.
فَأَما عدد ركعاتها: فَفِي حَدِيث أم هَانِئ أَنه صلاهَا ثَمَان رَكْعَات , وَهُوَ أصح حَدِيث فِي الْبَاب. وَفِي حَدِيث عَائِشَة أَربع رَكْعَات , وَفِي(4/442)
حَدِيث جَابر سِتّ رَكْعَات , وروى جُبَير بن مطعم أَنه صلاهَا رَكْعَتَيْنِ.
وَالْوَجْه فِي هَذِه الْأَحَادِيث أَنه من شَاءَ أقل وَمن شَاءَ أَكثر: وَفِي حَدِيث أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " إِن صليت الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ لم
تكْتب من الغافلين , فَإِن صليت أَرْبعا كتبت من العابدين , فَإِن صليت سِتا لم يتبعك فِي ذَلِك الْيَوْم ذَنْب , وَإِن صليت ثمانيا كتبت من القانتين , وَإِن صليت ثِنْتَيْ عشرَة بنى الله عز وَجل لَك بَيْتا فِي الْجنَّة ".
وَأما وَقتهَا فقد سبق فِي مُسْند زيد بن أَرقم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " صَلَاة الْأَوَّابِينَ حِين ترمض الفصال ".
وَقَوْلها: أجرته: أَي آمنته.
وَقَوْلها: فلَان بن هُبَيْرَة. قد ذكرنَا ابْن هُبَيْرَة زَوجهَا، وَذكرنَا من ولدت مِنْهُ فَإِن كَانَ من أَوْلَاده مِنْهَا فَالظَّاهِر أَنه جعدة.
وَأما الْأمان فَإِنَّهُ يجوز للْإِمَام أَن يعْقد الْأمان لجَمِيع الْمُشْركين ولآحادهم، وَيجوز للأمير أَن يعْقد للبلد الَّذِي أقيم بإزائه. وَأما آحَاد الرّعية فَيجوز لَهُم أَن يعْقد للْوَاحِد وَالْعشرَة والقافلة. وَيصِح أَمَان الْمُسلم(4/443)
الْعَاقِل سَوَاء كَانَ ذكرا أَو أُنْثَى حرا أَو مَمْلُوكا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يَصح أَمَان العَبْد إِلَّا أَن يكون مَأْذُونا لَهُ فِي الْقِتَال. وَيصِح أَمَان الصَّبِي الْمُمَيز الَّذِي يعقل، خلافًا لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ.(4/444)
(223) كشف الْمُشكل من مُسْند أم الْفضل لبَابَة بنت الْحَارِث بن حزن
وَهِي أول امْرَأَة أسلمت بعد خَدِيجَة، تزَوجهَا الْعَبَّاس فَولدت لَهُ الْفضل وَعبد الله وَعبيد الله ومعبدا وقثما وَعبد الرَّحْمَن وَأم حبيب، وفيهَا يَقُول عبد الله بن يزِيد الْهِلَالِي:
(وَمَا ولدت نحبيبة من فَحل ... )
(كستة من بطن أم الْفضل ... )
(أكْرم بهَا من كهلة وكهل ... )
وَقَالَ مُسَدّد: هن أَربع أَخَوَات: ثِنْتَانِ لأَب وَأم وثنتان لأم، فلبابة بنت الْحَارِث ومَيْمُونَة بنت الْحَارِث أختَان لأَب وَأم. وَأَسْمَاء بنت عُمَيْس وسلمى بنت عُمَيْس أختَان لأَب وَأم، وكلهن بَنَات أم وَاحِدَة اسْمهَا هِنْد بنت عَمْرو بن حماطة الجرشِي. وَأخرج لأم الْفضل فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة أَحَادِيث:
2706 - / 3504 - فَفِي الحَدِيث الأول: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الْمغرب {والمرسلات عرفا}(4/445)
فِي {المرسلات} قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الرِّيَاح يتبع بَعْضهَا بَعْضًا، قَالَه ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: الْمَلَائِكَة الَّتِي أرْسلت بِالْمَعْرُوفِ من أَمر الله تَعَالَى وَنَهْيه، قَالَه أَبُو هُرَيْرَة.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَصله من عرف الْفرس، لِأَنَّهُ سطر مستو بعضه فِي إِثْر بعض.
2707 - / 3505 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ حَدِيث قد تقدم فِي مُسْند مَيْمُونَة.
2708 - / 3506 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم:
" لَا تحرم الإملاجة والإملاجتان ".
الإملاجة: المصة. والملج: المص. يُقَال: ملج الصَّبِي أمه يملجها. وَقيل: الملج: تنَاول الصَّبِي الثدي بِأَدْنَى الْفَم.
وَقد بَينا الْخلاف فِي قدر مَا يحرم من الرَّضَاع فِي مُسْند عَائِشَة.(4/446)
(224) كشف الْمُشكل من مُسْند أَسمَاء بنت أبي بكر الصّديق
أسلمت بِمَكَّة قَدِيما وبايعت، وَتَزَوجهَا الزبير، وَمَاتَتْ بعد قتل ابْنهَا عبد الله بِليَال. وَأخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ اثْنَان وَعِشْرُونَ حَدِيثا.
2709 - / 3507 - فَفِي الحَدِيث الأول: " لَا شَيْء أغير من الله " وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2710 - / 3508 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: استفتيت رَسُول الله، قلت: قدمت عَليّ أُمِّي وَهِي راغبة، أفأصل أُمِّي؟ قَالَ: " صلي أمك " فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّين} [الممتحنة: 8] .
الاستفتاء: السُّؤَال.
وَفِي معنى راغبة قَولَانِ: أَحدهمَا: مُشركَة، فَيكون الْمَعْنى: راغبة عَن ديني.
وَالثَّانِي: راغبة فِي بري وصلتي، قَالَه الْخطابِيّ.(4/447)
وَاسم أمهَا قتيلة بنت عبد الْعُزَّى، تزَوجهَا أَبُو بكر فَجَاءَت بِعَبْد الله وَأَسْمَاء، وَطَلقهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقدمت الْمَدِينَة فِي زمن الْهُدْنَة حِين كتبُوا الْعَهْد على وضع الْحَرْب، وَجَاءَت مَعهَا بِهَدَايَا من زَيْت وَسمن وَغَيره، فَأَبت أَسمَاء أَن تدْخلهَا بَيتهَا أَو تقبل هديتها حَتَّى أذن لَهَا رَسُول الله فِي ذَلِك.
فَأَما قَوْله تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُم الله عَن الَّذين لم يُقَاتِلُوكُمْ} قَالَ ابْن الزبير نزلت فِي أَسمَاء بنت أبي بكر، قدمت عَلَيْهَا أمهَا قتيلة بنت عبد الْعُزَّى الْمَدِينَة بِهَدَايَا، فَلم تقبل هَدَايَاهَا وَلم تدْخلهَا منزلهَا، فَسَأَلت عَائِشَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنزلت هَذِه الْآيَة، فَأمرهَا رَسُول الله أَن تدْخلهَا منزلهَا وَتقبل هديتها، وتحسن إِلَيْهَا.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِه الْآيَة رخصَة فِي صلَة الَّذين لم ينصبوا الْحَرْب للْمُسلمين، وجوائزهم وَإِن كَانَت الْمُوَالَاة مُنْقَطِعَة.
وَقَوله: {وَلم يخرجوكم من دِيَاركُمْ} يَعْنِي مَكَّة {أَن تبروهم وتقسطوا إِلَيْهِم} أَي تعاملوهم بِالْعَدْلِ فِيمَا بَيْنكُم وَبينهمْ.
وَقَوله: {وظاهروا على إخراجكم} أَي عاونوا على ذَلِك {أَن تولوهم} إِنَّمَا يَنْهَاكُم عَن أَن توَلّوا هَؤُلَاءِ.
2711 - / 3509 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: تزَوجنِي الزبير وَمَاله غير نَاضِح.(4/448)
الناضح وَاحِد النَّوَاضِح: وَهِي الْإِبِل السواني الَّتِي تَسْقِي الزَّرْع وَالنَّخْل.
والغرب: الدَّلْو.
وَالْأَرْض الَّتِي أقطعه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت من أَمْوَال بني النَّضِير على ثُلثي فَرسَخ من الْمَدِينَة.
2712 - / 3510 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَنَّهَا حملت بِعَبْد الله بِمَكَّة. قَالَت: فَخرجت وَأَنا متم أَي مقاربة للولادة.
وَكَونه أول مَوْلُود - تَعْنِي للمهاجرين بعد الْهِجْرَة. وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ لما قدمُوا الْمَدِينَة أَقَامُوا لَا يُولد لَهُم مَوْلُود، فَقَالُوا: سحرنَا يهود. فولد ابْن الزبير بقباء فِي شَوَّال على رَأس عشْرين شهرا من الْهِجْرَة. وَأما الْأَنْصَار فولد لَهُم النُّعْمَان بن بشير على رَأس أَرْبَعَة عشر شهرا من الْهِجْرَة، فَكَانَ ابْن الزبير يَقُول النُّعْمَان أسن مني بِسِتَّة أشهر.
2713 - / 3511 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: فَقُمْت حَتَّى تجلاني الغشي.
أَي ظهر عَليّ. وتشير بِهَذَا إِلَى قِيَامهَا فِي صَلَاة الْكُسُوف.
وَقَوْلها: فَانْصَرف رَسُول الله؛ تَعْنِي من صَلَاة الْكُسُوف.
وَقَوْلها: تفتنون فِي الْقُبُور؛ إِشَارَة إِلَى سُؤال مُنكر وَنَكِير، وَمَا توجبه تِلْكَ الهيبة فِي مثل تِلْكَ الْحَال يصلح أَن تشبه بِهِ فتْنَة الدَّجَّال.(4/449)
والقطاف: العنقود.
وَقَوله: وَأَنا مَعَهم؟ اسْتِفْهَام. أسقطت الْألف. وَقَالَ أَبُو بكر الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَالصَّحِيح: أَو أَنا مَعَهم؟ .
2714 - / 3512 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: نحرنا على عهد رَسُول الله فرسا فأكلناه.
وَهَذَا يدل على إِبَاحَة لحم الْخَيل خلافًا لأبي حنيفَة. وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي مُسْند جَابر.
2715 - / 3513، 3514 - والْحَدِيث السَّابِع وَالثَّامِن: قد سبقا فِي مُسْند عَائِشَة.
إِلَّا أَن فِي لفظ هَذَا الثَّامِن: أَن امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول الله! ، إِن ابْنَتي أصابتها الحصبة فامرق شعرهَا. وَفِي لفظ: فتمرق.
وَهُوَ بالراء غير الْمُعْجَمَة. وَرُبمَا قَرَأَهُ عوام الْمُحدثين بالزاي، وَذَلِكَ غلط.
2716 - / 3515 - وَقد سبق الحَدِيث التَّاسِع فِي مُسْند رَافع بن خديج.(4/450)
2717 - / 3516 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: إِن إحدانا يُصِيب ثوبها من دم الْحَيْضَة، فَقَالَ: " تَحْتَهُ ثمَّ تقرصه بِالْمَاءِ ".
الحت بِمَعْنى الحك. وَذَلِكَ للمستجسد من الدَّم.
والقرص: الفرك. والنضح هَاهُنَا الْغسْل. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ: اغسليه بأطراف أصابعك. وَمِنْه قيل: قرصت فلَانا. وَإِنَّمَا أَمر بالقرص لِأَن الدَّم وَغَيره إِذا قرص فِي الْغسْل كَانَ أَحْرَى أَن يذهب أَثَره من أَن يغسل بِالْيَدِ كلهَا.
2718 - / 3517 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " لَا توكي فيوكى عَلَيْك ".
أَي: لَا تشدي. يُقَال: أوكيت الْقرْبَة: شددتها بالوكاء: وَهُوَ الْخَيط أَو السّير. وَهَذِه اسْتِعَارَة للبخل، وَالْمعْنَى: لَا تحبسي المَال بخلا.
وَقَوله: " لَا تحصي " الإحصاء: الإفراط فِي التَّقَصِّي والاستئثار.
وَقَوله: " لَا توعي " أَي لَا تجمعي فِي الْوِعَاء إمساكا وبخلا.
وَقَوله: " انفحي " النفح: الرَّمْي بالشَّيْء إِلَى الْمُعْطى، وَهَذِه كِنَايَة عَن السماحة والجود. وَكَذَلِكَ قَوْله: " انضحي " أصل النَّضْح رش المَاء.
وَقَوله: " ارضحي " الرضح: الْعَطِيَّة القليلة. وَالْمعْنَى: أعطي مَا قدرت عَلَيْهِ وَإِن قل.(4/451)
2719 - / 3518 - والْحَدِيث الثَّانِي عشر قد سبق فِي مَوَاضِع.
2720 - / 3519 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: نزلنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحجون وَنحن خفاف الحقائب.
الحقائب جمع حقيبة: وَهِي مَا احتقبه الرَّاكِب خَلفه من مهماته وقماشه فِي مَوضِع الرديف.
ومسحنا: أَي طفنا بِالْبَيْتِ؛ وَهَذَا لِأَن كل طائف بِالْبَيْتِ يمسح الرُّكْن، فَصَارَ هَذَا اسْما لَازِما للطَّواف، قَالَ عمر بن أبي ربيعَة:
(وَلما مسحنا من منى كل حَاجَة ... وَمسح بالأركان من هُوَ ماسح)
أَي طَاف من هُوَ طائف.
والإهلال: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ.
2721 - / 3520 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: يَا هنتاه، مَا أرانا إِلَّا قد غلسنا. فَقَالَت: إِن رَسُول الله أذن للظعن.
قد سبق معنى يَا هنتاه فِي مُسْند عَائِشَة(4/452)
وَسبق معنى الظعن، وأنهن النِّسَاء. وَالْمعْنَى: أذن لَهُنَّ فِي التَّقَدُّم لَيْلَة جمع. وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: قد غلسنا: أَي فِي رمي الْجَمْرَة. وَالْقَمَر يغيب ليلتئذ قبيل الْفجْر.
وَقد اتّفق الْعلمَاء على أَنه لَا يجوز رمي الْجَمْرَة قبل نصف اللَّيْل. وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز بعد نصف اللَّيْل. وَقَالَ أَكثر الْعلمَاء: لَا يجوز إِلَّا بعد الْفجْر.
2722 - / 3521 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
سميت أَسمَاء ذَات النطاقين.
فِي هَذَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا شقَّتْ نطاقها نِصْفَيْنِ، فَربطت سقاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَاحِد، وَلذَلِك سميت ذَات النطاقين. وَهَذَا مَذْكُور فِي الحَدِيث.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا كَانَت تلبس نطاقين. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عَائِشَة عَن بعض الْعلمَاء.
وَقَوله: كَانَ أهل الشَّام. يَعْنِي أَصْحَاب الْحجَّاج لما جَاءَ لقِتَال ابْن الزبير فِي الْحرم يُعَيِّرُونَهُ. التعيير: ذكر مَا يُوجب الْعَار.(4/453)
قَوْلهَا: إيها والإله. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: إيها بِمَعْنى الارتضاء للشَّيْء والتصديق لِلْقَوْلِ، وَلها مَوَاضِع أخر، وَذَلِكَ إِذا أسكت رجلا قلت: إيها عَنَّا، فَإِذا أغريته بِشَيْء قلت: ويها. وَإِذا تعجبت من طيب شَيْء قلت: واها مِنْهُ، قَالَ أَبُو النَّجْم:
(واها لريا ثمَّ واها واها ... )
وَقَوله: تِلْكَ شكاة ظَاهر عَنْك عارها.
هَذَا بعض بَيت من شعر أبي ذُؤَيْب، وأوله:
(وعيرها الواشون أَنِّي أحبها ... وَتلك شكاة ظَاهر عَنْك عارها)
(فَإِن أعْتَذر مِنْهَا فَإِنِّي مكذب ... وَإِن تعتذر يردد عَلَيْك اعتذارها)
والشكاة: الْعَيْب والذم. وَمعنى: ظَاهر عَنْك عارها: أَي لَا يعلق بك الْعَيْب، وَلكنه ينبو عَنْك، وَهُوَ من قَوْلهم: ظهر فلَان على السَّطْح: أَي علا عَلَيْهِ. قَالَ الله عز وَجل: {فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه} [الْكَهْف: 97] أَي يعلوا عَلَيْهِ. وَالْمعْنَى: تعييرهم بذلك لَا يحط مِنْك.
أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا عبد الْعَزِيز بن الْحسن الضراب قَالَ: حَدثنَا أبي قَالَ: حَدثنَا أَحْمد ابْن مَرْوَان قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْقرشِي قَالَ: حَدثنَا أبي قَالَ: حَدثنَا الْأَصْمَعِي عَن ابْن أبي الزِّنَاد قَالَ: كَانَ أهل الشَّام ينادون ابْن الزبير: يَا ابْن ذَات النطاقين. فَيَقُول: أَنا ابْنهَا حَقًا، أَنا ابْنهَا حَقًا، وَجعل(4/454)
يَقُول:
(وعيرها الواشون أَنِّي أحبها ... وَتلك شكاة ظَاهر عَنْك عارها)
2723 - / 3522 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: رَأَيْت زيد بن عَمْرو بن نفَيْل قَائِما مُسْندًا ظَهره إِلَى الْكَعْبَة يَقُول: يَا معشر قُرَيْش! وَالله مَا مِنْكُم على دين إِبْرَاهِيم غَيْرِي.
كَانَ زيد بن عَمْرو قد وهب لَهُ عقل رصين يعْمل بِمُقْتَضَاهُ، وتلاه تتبع للكتب والْآثَار، فاهتدى إِلَى دين الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَأقر بتوحيد الْإِلَه سُبْحَانَهُ.
وَمعنى: يحيي الموءودة: يمْنَع قَتلهَا.
وترعرعت: قويت على الْحَرَكَة.
2724 - / 3526 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد مُسلم:
ذكر مئثرة الأرجوان.
قد ذكرنَا المئثرة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. والديباج فِي مُسْند حُذَيْفَة.
وَأما الأرجوان فَقَالَ أَبُو عبيد: الشَّديد الْحمرَة، وَلَا يُقَال لغير الْحمرَة أرجوان.(4/455)
والبهرمان دونه بِشَيْء من الْحمرَة. والمفدم: المشبع حمرَة.
وَقَوله: وفرجيها مكفوفين بالديباج. الْفرج: الشق.
وَقد ذكرنَا مَا يُبَاح من الْحَرِير فِي الثَّوْب فِي مُسْند عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ 0
2725 - / 3527 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَنَّهَا تقدّمت إِلَى الزبير فَقَالَ: استرخي عني. أَي: ابعدي عني، لأجل الْإِحْرَام.
2726 - / 3528 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: عَن أبي نَوْفَل قَالَ: رَأَيْت عبد الله بن الزبير على عقبَة الْمَدِينَة.
أَي رَأَيْته مصلوبا عَلَيْهَا. وَكَأَنَّهَا عقبَة يذهب مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة فَإِن هَذَا كَانَ بِمَكَّة.
قَوْله: وَأُلْقِي فِي مَقَابِر الْيَهُود. كَانَ الْيَهُود قَدِيما قد سكنوا الْحجاز، فروى مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَمَّن لَا يتهم عَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: بعث مُوسَى بعثا إِلَى الْحجاز وَأمرهمْ بقتل الْكفَّار، فظفروا وَقتلُوا العمالقة حَتَّى انْتَهوا إِلَى ملكهم - الَّذِي كَانَ يُقَال لَهُ الأرقم - يَتِيما، فَقَتَلُوهُ وَأَصَابُوا ابْنا لَهُ لم ير - زَعَمُوا - أحسن مِنْهُ، فضنوا بِهِ عَن الْقَتْل، فَأَجْمعُوا على أَن(4/456)
يقدموا بِهِ على مُوسَى ليرى فِيهِ رَأْيه، فقدموا بِهِ، وَتُوفِّي مُوسَى قبل قدومه، فَتَلقاهُمْ النَّاس وأخبروهم بِفَتْح الله عَلَيْهِم، فَقَالُوا لَهُم: هَل استبقيتم أحدا؟ قَالُوا: هَذَا الْفَتى ليرى نَبِي الله فِيهِ رَأْيه. فَقَالُوا: إِن هَذِه لمعصية خالفتم فِيهَا نَبِيكُم، لَا تدْخلُوا علينا بِلَادنَا، فحالوا بَينهم وَبَين الشَّام، فَقَالُوا: مَا نرى بَلَدا إِذْ منعتم بِلَادكُمْ خيرا لكم من الْبِلَاد الَّتِي جئْتُمْ مِنْهَا يعنون الْحجاز، فَكَانَ ذَلِك أول سُكْنى الْيَهُود الْحجاز.
فَأَما الْقُرُون فعنى بهَا الشّعْر.
والسبتيان: النَّعْلَانِ. والسبت: جُلُود الْبَقر المدبوغة بالقرظ يتَّخذ مِنْهَا النِّعَال وَلَا شعر عَلَيْهَا. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: يتوذف. قَالَ أَبُو عبيد: التوذف: التَّبَخْتُر. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة يَقُول: التوذف: الْإِسْرَاع، قَالَ بشر بن أبي خازم:
(يُعْطي النجائب بالرحال كَأَنَّهَا ... بقرالصرائم والجياد توذف)
وَأما الْكذَّاب فَهُوَ الْمُخْتَار بن أبي عبيد.
والمبير: المهلك.
وَقَوْلها: لَا إخالك: لَا أَظُنك، وَألف إخال مَكْسُورَة.(4/457)
(225) كشف الْمُشكل من مُسْند أم كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي معيط
أسلمت بِمَكَّة، وبايعت رَسُول الله قبل الْهِجْرَة، وَهِي أول من هَاجر من النِّسَاء بعد هِجْرَة رَسُول الله. قَالَ مُحَمَّد بن سعد: وَلَا نعلم قرشية خرجت من بَيت أَبَوَيْهَا مسلمة مهاجرة إِلَّا هِيَ، فَإِنَّهَا خرجت وَحدهَا، وصاحبت رجلا من خُزَاعَة حَتَّى قدمت الْمَدِينَة فِي هدنة الْحُدَيْبِيَة. وَقد ذكرنَا قصَّتهَا، وَكَيف نزل فِيهَا: {فامتحنوهن} [الممتحنة: 10] فِي مُسْند الْمسور بن مخرمَة. وَلم يكن لَهَا زوج، فَتَزَوجهَا زيد بن حَارِثَة ثمَّ قتل عَنْهَا، فَتَزَوجهَا الزبير بن الْعَوام ثمَّ طَلقهَا، فَتَزَوجهَا عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَمَات عَنْهَا، فَتَزَوجهَا عَمْرو بن الْعَاصِ فَمَاتَتْ عِنْده. وَأخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
2727 - / 3529 - " لَيْسَ الْكذَّاب الَّذِي يصلح بَين النَّاس فينمي خيرا أَو يَقُول خيرا ".
أما قَوْله: " فينمي خيرا " فَكَذَلِك ذكره أَبُو عبيد بِالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ: نميت الحَدِيث، بِالتَّخْفِيفِ: إِذا نقلته على وَجه الْإِصْلَاح، ونميته بِالتَّشْدِيدِ: إِذا نقلته على جِهَة الْإِفْسَاد. قَالَ: وكل شَيْء رفعته فقد نميته، وَمِنْه قَول النَّابِغَة:(4/458)
( ... . . ... وانم القتود على عيرانة أجد)
ونمى الخضاب فِي الْيَد وَالشعر: إِنَّمَا هُوَ ارْتَفع وَعلا، فَهُوَ ينمي، وينمو لُغَة.
وَقد وَافق أَبَا عبيد فِي هَذَا جمَاعَة مِنْهُم ابْن قُتَيْبَة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: أَكثر الْمُحدثين يَقُولُونَ: ونمى خيرا بتَخْفِيف الْمِيم. قَالَ: وَهَذَا لَا يجوز فِي النَّحْو، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يلحن، وَمن خفف الْمِيم لزمَه أَن يَقُول: " خير " بِالرَّفْع.
وَأما الرُّخْصَة فِي الْكَذِب فِي هَذِه الْأَمَاكِن الثَّلَاثَة فَاعْلَم أَن الْكَذِب لَيْسَ حَرَامًا لعَينه، بل لما فِيهِ من الضَّرَر، وَالْكَلَام وَسِيلَة إِلَى الْمَقَاصِد، فَكل مَقْصُود مَحْمُود يُمكن أَن يتَوَصَّل إِلَيْهِ بِالصّدقِ وَالْكذب جَمِيعًا فالكذب فِيهِ حرَام، وَإِن أمكن التَّوَصُّل إِلَيْهِ بِالْكَذِبِ دون الصدْق فالكذب فِيهِ مُبَاح إِذا كَانَ تَحْصِيل ذَلِك الْمَقْصُود مُبَاحا، وواجب إِذا كَانَ الْمَقْصُود وَاجِبا، كَمَا لَو رأى رجلا يسْعَى وَرَاء رجل بِسيف ليضربه وَهُوَ يعلم أَنه ظَالِم، فَسَأَلَهُ، هَل رَأَيْته؟ فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يَقُول: لَا، لِئَلَّا يعين على سفك دم مُسلم.(4/459)
وَإِذا لم يتم مَقْصُود حَرْب أَو إصْلَاح ذَات بَين واستمالة قلب الْمَجْنِي عَلَيْهِ إِلَّا بكذب فَذَلِك مُبَاح، إِلَّا أَنه يَنْبَغِي أَن يحْتَرز عَنهُ، ويورى بالمعاريض مهما أمكن.
وَيتبع هَذِه الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة أَن يَأْخُذهُ ظَالِم ويسأله عَن مَاله فَلهُ أَن يُنكر، ويسأله عَن فَاحِشَة بَينه وَبَين ربه عز وَجل فَلهُ أَن يُنكر.
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَن الْمَحْذُور الَّذِي يحصل بِالصّدقِ أَشد وَقعا فِي الشَّرْع من الْكَذِب، وَإِن كَانَ الْمَقْصُود أَهْون من مَقْصُود الصدْق وَجب الصدْق، وَقد يتقابل الْأَمْرَانِ فالميل حِينَئِذٍ إِلَى الصدْق أولى؛ لِأَن الْكَذِب إِنَّمَا أُبِيح لضَرُورَة أَو حَاجَة مهمة، فَإِذا شكّ فِي كَونهَا مهمة فَالْأَصْل التَّحْرِيم.
ولغموض إِدْرَاك مَرَاتِب الْمَقَاصِد وَجب الِاحْتِرَاز من الْكَذِب مهما أمكن، فَهَذَا الْكَلَام فِي بَيَان الْمَوَاضِع الثَّلَاثَة وَمَا أشبههَا على أَنَّهَا من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَكَذَا رَوَاهَا أَكثر النَّاس، وأخرجت فِي الصَّحِيح بِلَفْظ: قَالَت - يَعْنِي أم كُلْثُوم: لم أسمعهُ - تَعْنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقد أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: قَالَ مُوسَى بن هَارُون: قد وَقع فِي هَذَا الحَدِيث وهم غليظ جدا، وَهُوَ أَن آخر حَدِيث رَسُول الله: " فينمي خيرا أَو يَقُول خيرا " وَقَوله: وَلم أسمعهُ يرخص فِي الْكَذِب إِلَّا فِي ثَلَاث من كَلَام الزُّهْرِيّ. وَقد فصل الْكَلَامَيْنِ يُونُس بن زيد وَمعمر،(4/460)
وَبينا أَن قَوْله: وَلم أسمعهُ يرخص - كَلَام ابْن شهَاب. قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: ويقوى فِي نَفسِي أَن الْحق مَعَهُمَا، وَالْقَوْل قَوْلهمَا.(4/461)
(226) كشف الْمُشكل من مُسْند أم قيس بنت مُحصن الأَسدِية
أُخْت عكاشة. أخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
2728 - / 3530 - أَحدهمَا: أَن صَبيا صَغِيرا لم يَأْكُل الطَّعَام بَال على ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنضحه وَلم يغسلهُ.
النَّضْح هَاهُنَا الرش.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على الِاكْتِفَاء بالرش لبول الْغُلَام الَّذِي لم يَأْكُل الطَّعَام. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند عَائِشَة.
2729 - / 3531 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: دخلت بِابْن لي على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أعلقت على من الْعذرَة.
أعلقت عَلَيْهِ بِمَعْنى دفعت عَنهُ بالغمز. قَالَ الْأَصْمَعِي: الإعلاق: أَن ترفع الْعذرَة بِالْيَدِ. والعذرة: قريب من اللهاة. وَكَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة يُقَال: أعلق فلَان لفُلَان إعلاقا.
وَقَالَ أَبُو عبيد: الدغر: غمز الْحلق للعذرة، وَهُوَ وجع يهيج فِي(4/462)
الْحلق من الدَّم، فَإِذا عولج مِنْهُ صَاحبه قيل: عذرته فَهُوَ مَعْذُور، قَالَ جرير:
(غمز ابْن مرّة يَا فرزدق كينها ... غمز الطَّبِيب نغانغ الْمَعْذُور)
والدغر: أَن ترفع الْمَرْأَة ذَلِك الْموضع بإصبعها. وَمن الدغر قَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: لَا قطع فِي الدغرة. والمحدثون يَقُولُونَ: الدغرة، بِفَتْح الْغَيْن: وَهِي الخلسة. وَيُقَال فِي الْمثل: " دغرا لَا صفا " يَقُول: ادغروا عَلَيْهِم وَلَا تصافوهم. وَيُقَال: " دغرى لَا صفى " مثل: حلقى عقرى.
وَيُقَال: دغرى مثل جمزى، قَالَ الراجز:
(قَالَت عمان دغرى لَا صفا ... )
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْعذرَة: وجع الْحلق، وَأكْثر مَا تعتري الصّبيان فيعلق عَلَيْهِم، والإعلاق والدغر شَيْء وَاحِد: وَهُوَ أَن يرفع اللهاة.
وَقَوله: " بِهَذَا العلاق " قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الصَّوَاب: بِهَذَا الإعلاق مصدر أعلقت عَنهُ.
وَأما اللدود فَهُوَ مَا دس فِي الْأَدْوِيَة فِي دَاخل الْفَم من جانبيه.
وَالْعود الْهِنْدِيّ: هُوَ الكست، وَهُوَ الْقسْط، يُقَال: كافور وقافور.(4/463)
(228) كشف الْمُشكل من مُسْند فَاطِمَة بنت قيس
أخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
2730 - / 3534 - فَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: قلت: يَا رَسُول الله! زَوجي طَلقنِي ثَلَاثًا، وأخاف أَن يقتحم عَليّ. فَأمرهَا فتحولت.
الاقتحام: الدُّخُول بِسُرْعَة. وَكَأَنَّهَا خَافت على نَفسهَا لوحدتها. وَقد تقدم فِي مُسْند عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: كَانَت فَاطِمَة فِي مَكَان وَحشِي فَلذَلِك أرخص لَهَا فِي الْخُرُوج، فَهَذَا تَأْوِيل عَائِشَة، وَيخرج على مَذْهَب أبي حنيفَة؛ فَإِن عِنْده يجب على المبتوتة أم تَعْتَد فِي الْمنزل الَّذِي طَلقهَا فِيهِ إِذا لم يكن عذر يمْنَع. وَفِي مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل أَنه لَا يجب على المبتوتة أَن تَعْتَد فِي منزل زَوجهَا، وَلها أَن تَعْتَد فِي غَيره. وَإِنَّمَا أمرهَا بالتحول لِأَنَّهَا لَا حق لَهَا فِي السُّكْنَى. وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي الحَدِيث الَّذِي بعده إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
2731 - / 3535 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن زَوجهَا طَلقهَا الْبَتَّةَ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا نَفَقَة لَك وَلَا سُكْنى ".(4/464)
الْمَنْصُور من مَذْهَب أَحْمد أَن الْمُطلقَة لَا نَفَقَة لَهَا وَلَا سُكْنى. وَعَن أَحْمد: لَهَا السُّكْنَى دون النَّفَقَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى جَمِيعًا.
وَقَول مَرْوَان: سنأخذ بالعصمة الَّتِي وجدنَا النَّاس عَلَيْهَا: أَي بِمَا اعتصموا بِهِ؛ أَي تمسكوا بِهِ مِمَّا يُخَالف هَذَا الحَدِيث. وَفِي كتاب مُسلم " بالقضية " مَكَان " الْعِصْمَة " وَالْمعْنَى: بِمَا يقْضِي بِهِ النَّاس.
وَأما رطب ابْن طَابَ فَقَالَ البستي: هُوَ اسْم لنَوْع من ألوان التَّمْر مَنْسُوب إِلَى ابْن طَابَ.
وَأما السلت فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ ضرب من الشّعير، رَقِيق القشر، صغَار الْحبّ.
أما قَول عمر: لَا نَتْرُك كتاب الله، وتلا: {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ} [الطَّلَاق: 1] فَإِن فَاطِمَة تأولت الْآيَة وَقَالَت: هَذِه لمن كَانَ لَهَا مُرَاجعَة، فَأَي أَمر يحدث بعد الثَّلَاث. وَكَانَ سعيد بن الْمسيب يَقُول: إِنَّمَا نقلت من بيُوت أحمائها لطول لسانها، وَهُوَ معنى قَوْله: {إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة} . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن عَبَّاس: {إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة} قَالَ: إِلَّا أَن تبذو على أَهله. وَقد رُوِيَ عَن سعيد بن الْمسيب أَيْضا أَن الْفَاحِشَة: أَن تصيب حدا فَتخرج لإِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا.(4/465)
وَقَوله فِي مُعَاوِيَة " ترب لَا مَال لَهُ " أَي فَقير. وَهَذَا على وَجه النَّصِيحَة وَشرح الْحَال لَا وَجه الْغَيْبَة.
وَقَوْلها حِين قيل لَهَا: تزوجي أُسَامَة، فَقَالَت: أُسَامَة! تحقير، لِأَنَّهَا كَانَت فِي شرف من نَسَبهَا، وَرَأَتْ أَنه مولى.
والاغتباط: الْحُصُول فِيمَا يغتبط بِهِ الْإِنْسَان: أَي: يَشْتَهِي مثله.
وَأَبُو زيد هُوَ أُسَامَة، كَانَ لَهُ ولد يُقَال لَهُ زيد فكنته بِهِ، وَإِنَّمَا كنيته الْمَشْهُورَة أَبُو مُحَمَّد. وَجُمْلَة أَوْلَاده مُحَمَّد وَحسن وحسين وَجبير وَعَائِشَة وَهِنْد.
2732 - / 3536 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " حَدثنِي تَمِيم أَنه ركب فِي سفينة ثمَّ أرفؤوا إِلَى جَزِيرَة ".
أرفؤوا: قربوا إِلَى الشط. تَقول: أرفأت السَّفِينَة: إِذا قربتها إِلَى الشط، وَذَلِكَ الْموضع مرفأ.
والجزيرة: المنقطعة عَن المَاء. وَقَالَ ابْن فَارس: والجزر: الْقطع، وَسميت الجزيرة لانقطاعها عَن مُعظم الأَرْض.
وَأقرب السَّفِينَة جمع قَارب. قَالَ الْحميدِي: القارب سفينة صَغِيرَة(4/466)
تكون مَعَ أَصْحَاب السفن البحرية يستعجلون بهَا حَوَائِجه، فَلَعَلَّ قَوْله: أقربها جمع لذَلِك. قَالَ: وَقد سَمِعت من يَقُول: إِلَّا أَن هَذَا الْجمع يبعد عِنْدِي.
والأهلب: الغليظ الشّعْر الخشن.
وَقَوله: مَا يَدْرُونَ قبله من دبره. يَعْنِي لِكَثْرَة شعره.
وَقَوْلها: أَنا الْجَسَّاسَة. هُوَ اسْم مَأْخُوذ من التَّجَسُّس: وَهُوَ الفحص عَن بواطن الْأُمُور. ومعظم مَا يذكر التَّجَسُّس فِي الشَّرّ.
وَالْفرق: الْفَزع.
واغتلم: هاج، يشبه فِي ذَلِك بالفحل.
والوشيك: الْقَرِيب.
وَقَوله: صَلتا. أَي مسلولا من غمده، تهيؤا للضرب بِهِ.
والنقب: الطَّرِيق فِي الْجَبَل. وَجمعه أنقاب.
والمخصرة: عَصا أَو قضيب كَانَت تكون مَعَ الْملك إِذا تكلم، أَو الْخَاطِب.
وطيبة: اسْم الْمَدِينَة وَهُوَ اسْم مَأْخُوذ من الطّيب، وَقد سبق بَيَان هَذَا.(4/467)
(230) كشف الْمُشكل من مُسْند أم حرَام بنت ملْحَان
خَالَة أنس بن مَالك. أسلمت وبايعت. وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقيل فِي بَيتهَا.
أخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
2733 - / 3538 - وَفِيه أَنَّهَا كَانَت تفلي رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
إِنَّمَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقيل فِي بَيتهَا، وتفلي رَأسه لقرابة بَينهمَا. وَقد روى أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي كتاب " التَّمْهِيد " عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قَالَ: قَالَ لنا ابْن وهب: أم حرَام إِحْدَى خالات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الرضَاعَة. فَلهَذَا كَانَ يقيل عِنْدهَا وينام فِي حجرها، وتفلي رَأسه.
وَعَن يحيى بن إِبْرَاهِيم قَالَ: إِنَّمَا استجاز رَسُول الله أَن تفلي رَأسه أم حرَام، لِأَنَّهَا كَانَت مِنْهُ ذَات محرم من قبل خالاته، لِأَن أم عبد الْمطلب بن هَاشم كَانَت من بني النجار.
والثبج: مَا بَين الْكَاهِل إِلَى الظّهْر. والأثبج: الناتئ الثبج: وَهُوَ الَّذِي صغر فِي الحَدِيث: الأثيبج.
وَقَوله: قد أوجبوا: أَي وَجَبت لَهُم الْجنَّة.(4/468)
(231) كشف الْمُشكل من مُسْند أم سليم بنت ملْحَان
أم أنس. وَيُقَال لَهَا الرميصاء والغميصاء. قَالَ ابْن الكسيت: الغمص: مَا سَالَ والرمص: مَا جمد. وَاخْتلفُوا فِي اسْمهَا على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: سهلة. وَالثَّانِي: رميلة. وَالثَّالِث: رميثة. وَالرَّابِع: أنيفة.
تزَوجهَا مَالك بن النَّضر فَولدت لَهُ أنسا، ثمَّ قتل عَنْهَا مُشْركًا، فَخَطَبَهَا أَبُو طَلْحَة وَهُوَ مُشْرك، فَأَبت ودعته إِلَى الْإِسْلَام فَأسلم، قَالَت: فَإِنِّي أتزوجك وَلَا آخذ مِنْك صَدَاقا غَيره، فَتَزَوجهَا. وَكَانَت قد شهِدت أحدا وحنينا.
أخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
2734 - / 3542 - فَفِي بعض الْأَحَادِيث: عرقك أدوف بِهِ طيبي.
وفيهَا: كَانَ يُصَلِّي على الْخمْرَة.(4/469)
فَأَما قَوْلهَا: أدوف، فَإِنَّهُ يُقَال: دفت الدَّوَاء أدوفه دوفا: إِذا خلطته.
وَيُقَال: مدوف ومدووف، مثل مصون ومصوون، وَلَيْسَ لَهما نَظِير.
والخمرة قد فسرناها آنِفا فِي مُسْند مَيْمُونَة.(4/470)
(232) كشف الْمُشكل من مُسْند زَيْنَب بنت أبي مُعَاوِيَة الثقفية
امْرَأَة ابْن مَسْعُود. أخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
2735 - / 3543 - فَفِي الحَدِيث الأول: أَنَّهَا قَالَت لعبد الله: إِنَّك رجل خَفِيف ذَات الْيَد. وَهَذَا كِنَايَة عَن الْفقر.
وَقد اسْتدلَّ أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث على جَوَاز دفع الْمَرْأَة زَكَاتهَا إِلَى زَوجهَا. وَفِيه عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: تجوز، كَقَوْل الشَّافِعِي. وَالْأُخْرَى: لَا تجوز كَقَوْل أبي حنيفَة. وَمن لم يجز ذَلِك حمل الحَدِيث على صَدَقَة التَّطَوُّع. وَاحْتج من أجَاز بقولِهَا: أتجزي عني؟ والإجزاء إِنَّمَا يكون فِي الْفَرْض. وَقد تَأَوَّلَه الْآخرُونَ فَقَالُوا: الْمَعْنى: أتجزي فِي تَحْصِيل أجر الصَّدَقَة؟ .
2736 - / 3544 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " إِذا شهِدت إحداكن الْعشَاء فَلَا تطيب تِلْكَ اللَّيْلَة ".
الْمَعْنى إِذا أَرَادَت شُهُود الْعشَاء. وَإِنَّمَا نهاها عَن التَّطَيُّب لِأَن الطّيب ينم على صَاحبه فَيُوجب الِالْتِفَات إِلَيْهَا.(4/471)
(234) كشف الْمُشكل من مُسْند الرّبيع بنت معوذ بن عفراء
أخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة أَحَادِيث.
2737 - / 3547 - فَفِي الحَدِيث الأول: " كُنَّا نَصُوم صبياننا يَوْم عَاشُورَاء، ونجعل لَهُم اللعبة من العهن نلهيهم.
قَالَ الزّجاج: العهن: الصُّوف. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ الصُّوف الْمَصْبُوغ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث تدريج الصّبيان بالنفل إِلَى زمَان فعل الْوَاجِب.
2738 - / 3549 - وَفِي حَدِيث للْبُخَارِيّ:
دخل عَليّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَدَاة بني عَليّ.
يُقَال: بني الرجل على زَوجته: إِذا دخل بهَا. وَأَصله أَنهم كَانُوا يضْربُونَ قبَّة لمن يدْخل بأَهْله. وَقد سبق هَذَا.(4/472)
وَالنَّدْب: ذكر الْمَوْتَى والتحزن عَلَيْهِم.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِبَاحَة الضَّرْب بالدف فِي الْعرس.(4/473)
(235) كشف الْمُشكل من مُسْند أم عَطِيَّة الْأَنْصَارِيَّة
وَاسْمهَا نسيبة - بالنُّون المضمومة مَعَ فتح السِّين - بنت كَعْب. وَفِي الصحابيات امْرَأَتَانِ يشاركانها فِي هَذَا الِاسْم: نسيبة بنت رَافع بن الْمُعَلَّى، ونسيبة بنت نيار بن الْحَارِث.
أما نسيبة بِفَتْح النُّون وَكسر السِّين فَثَلَاث: نسيبة بنت ثَابت بن عصيمة، ونسيبة بنت سماك بن النُّعْمَان، ونسيبة بنت كَعْب، وَهِي أم عمَارَة الْأَنْصَارِيَّة، وَكَذَلِكَ سَمَّاهَا الْأَكْثَرُونَ - أَعنِي أم عمَارَة. وَكَذَلِكَ ذكرهَا ابْن مَاكُولَا الْحَافِظ. وَقد ذكرهَا ابْن إِسْحَاق فِي " الْمَغَازِي " فَقَالَ: لسينة بِاللَّامِ المضمومة وبالنون، وَوَافَقَهُ الطَّبَرَانِيّ. وَقد اتّفقت أم عَطِيَّة وَأم عمَارَة فِي اسْم الْأَب.
وَأخرج لأم عَطِيَّة فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة أَحَادِيث.
2739 - / 3550 - فَفِي الحَدِيث الأول: دخل علينا رَسُول الله حِين(4/474)
توفيت ابْنَته فَقَالَ: " اغسلنها ثَلَاثًا أَو خمْسا ".
هَذِه الْبِنْت هِيَ زَيْنَب.
وَفِي الحَدِيث اسْتِحْبَاب أَن تكون الغسلات وترا. وَقد صرح بذلك فِي بعض الْأَلْفَاظ.
وَفِيه اسْتِحْبَاب الكافور فِي الغسلة الْأَخِيرَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يسْتَحبّ.
والحقو: الْإِزَار هَاهُنَا، وَالْأَصْل فِي الحقو معقد الْإِزَار. وجميعه أَحَق وأحقاء وحقي. وَقيل للإزار: حقو؛ لِأَنَّهُ يشد على الحقو.
وَقَوله: " أشعرنها إِيَّاه " أَي اجعلنه مِمَّا يَلِي جَسدهَا.
وَقَوله: ضفرنا شعرهَا ثَلَاثَة قُرُون. عندنَا أَن السّنة أَن يضفر شعر الْميتَة ثَلَاثَة قُرُون ويلقى خلفهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يكره ذَلِك، وَلَكِن ترسله الغاسلة غير مضفور من بَين يَديهَا من الْجَانِبَيْنِ، وتسدل خمارها عَلَيْهِ.
وَعِنْدنَا أَلا يسرح شعر الْمَيِّت، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، فَيحمل قَول أم عَطِيَّة: مشطناها، على ضفره. وَقد قَالَ ابْن حَامِد من أَصْحَابنَا: يسرح، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.(4/475)
وَأما قَوْلهَا: إِلَّا آل فلَان. تَعْنِي أَنَّهَا تقضي حَقهم فِي المصائب. فَقَالَ: " إِلَّا آل فلَان " فَيحْتَمل أَن يكون إِذْنا خَاصّا، وَيحْتَمل أَن يكون أذن لَهَا فِي لقائهم لَا فِي النِّيَاحَة. وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: " إِلَّا آل فلَان " إِعَادَة لكلامها على وَجه الْإِنْكَار لَهُ كَمَا قَالَ للمستأذن حِين قَالَ: أَنا، فَقَالَ هُوَ: " أَنا أَنا ".
2740 - / 3552 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أمرنَا أَن نخرج وَنخرج الْحيض والعواتق.
الْإِشَارَة بِالْخرُوجِ إِلَى صَلَاة الْعِيد.
وَالْحيض جمع حَائِض.
والعواتق جمع عاتق. والعاتق من الْجَوَارِي: المدركة حِين أدْركْت فخدرت: أَي ألزمت الخدر والستر فِيهِ.
واعتزال الْمصلى للْحيض خَاصَّة.
والجلباب: مَا تتغطى بِهِ الْمَرْأَة من ثوب وَغَيره.
2741 - / 3553 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: بعث إِلَى نسيبة بِشَاة، فَأرْسلت إِلَى عَائِشَة مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " هَات، فقد بلغت محلهَا ".(4/476)
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بعث إِلَى نسيبة بِشَاة من الصَّدَقَة، فَأَهْدَتْ مِنْهَا نسيبة إِلَى عَائِشَة، فَقَالَ رَسُول الله: " قد بلغت محلهَا " وَقد فسرنا هَذَا فِي مُسْند جوَيْرِية.
2742 - / 3554 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: نهينَا عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز وَلم يعزم علينا.
تَعْنِي أَنه فِي مقَام كَرَاهِيَة لَا فِي مقَام تَحْرِيم.
2743 - / 3555 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: فِي الْمُعْتَدَّة: " فَلَا تلبس مصبوغا إِلَّا ثوب عصب ".
العصب من البرود: هوالذي صبغ غزله قبل أَن ينسج.
والنبذة: الْيَسِير من الشَّيْء: وَالْجمع نبذ.
والكست: هُوَ الْقسْط الْهِنْدِيّ.
وَمعنى هَذَا أَن اسْتِعْمَال هَذَا عِنْد الطُّهْر من الْحيض لَا يضر الْعدة.
وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ:
2744 - / 3556 - قَالَت: كُنَّا لَا نعد الكدرة والصفرة شَيْئا.
اخْتلف الْعلمَاء فِي الكدرة والصفرة بعد الطُّهْر والنقاء، فَقَالَ عَليّ(4/477)
ابْن أبي طَالب: لَيْسَ ذَلِك بحيض، وَلَا تتْرك لأَجله الصَّلَاة، فلتتوضأ وَتصلي، وَهَذَا قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب وَأحمد بن حَنْبَل: إِذا رَأَتْ ذَلِك اغْتَسَلت وصلت. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا رَأَتْ بعد الْحيض وَبعد انْقِطَاع الدَّم الصُّفْرَة والكدرة يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ لم تجَاوز الْعشْرَة فَهُوَ من حَيْضهَا، وَلَا تطهر حَتَّى ترى الْبيَاض خَالِصا. وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي أَنَّهَا إِذا رَأَتْ الصُّفْرَة والكدرة بعد انْقِطَاع دم الْعَادة مَا لم تجَاوز خَمْسَة عشر يَوْمًا فَهُوَ حيض.(4/478)
كشف الْمُشكل من مسانيد الصحابيات اللواتي انْفَرد البُخَارِيّ بِالْإِخْرَاجِ عَنْهُن
(236) كشف الْمُشكل من مُسْند أم خَالِد بنت خَالِد بن سعيد
أخرج لَهَا البُخَارِيّ حديثين.
2745 - / 3558 - فَفِي الحَدِيث الأول: قَالَت: أُتِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِثِيَاب فِيهَا خميصة سَوْدَاء.
الخميصة: كسَاء من خَز أَو صوف أسود. وَقد سبق ذكرهَا فِي مَوَاضِع.
وَأم خَالِد اسْمهَا أمة. ولدت لخَالِد فِي أَرض الْحَبَشَة وَهُوَ هُنَاكَ مهَاجر.
قَوْله: " أبلي وأخلقي " بِالْقَافِ. وَرُبمَا صحف بعض الْمُحدثين فَقَالَ: وأخلفي بِالْفَاءِ.
وَأما قَوْله: " سنا " فَفِي الحَدِيث تَفْسِيره أَنه بِلِسَان الْحَبَشَة: الْحسن. وَقَالَ ابْن الْمُبَارك: سنه بالحبشية: حَسَنَة. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: سناه فِي كَلَام الْحَبَش: الْحسن.
وَقَول ابْن الْمُبَارك: حَتَّى دكن؛ يَعْنِي يقيت تِلْكَ الخميصة حَتَّى دكن لَوْنهَا أَي عَاد إِلَى الدكنة.(4/479)
(237) كشف الْمُشكل من مُسْند أم رُومَان بنت عَامر
كَانَت زَوْجَة الْحَارِث بن سَخْبَرَة، فَولدت الطُّفَيْل، ثمَّ مَاتَ الْحَارِث فَتَزَوجهَا أَبُو بكر فَولدت لَهُ عبد الرَّحْمَن وَعَائِشَة. وَأسْلمت قَدِيما وبايعت وَهَاجَرت، وَمَاتَتْ فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سنة سِتّ من الْهِجْرَة. وَنزل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قبرها، كَذَلِك ذكره مُحَمَّد بن سعد.
2746 - / 3560 - وَقد أخرج لَهَا البُخَارِيّ حَدِيثا من طَرِيق مَسْرُوق عَنْهَا. وَهَذَا أَمر مُشكل؛ كَيفَ يروي مَسْرُوق عَمَّن مَاتَ فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ إِلَّا أَن أَقْوَامًا أَنْكَرُوا مَوتهَا فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُم أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ. وَلَا عُمْدَة لمن أنكر إِلَّا رِوَايَة مَسْرُوق.
وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت: لم يسمع مَسْرُوق من أم رُومَان شَيْئا. قَالَ: فَحدثت عَن أبي عمر بن حيويه قَالَ: أخبرنَا دعْلج قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد قَالَ: حَدثنَا فُضَيْل عَن حُصَيْن عَن أبي وَائِل عَن مَسْرُوق قَالَ: سَأَلت أم رُومَان عَن حَدِيث الْإِفْك، فحدثتني قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: كَانَ سَأَلَهَا وَله خمس عشرَة سنة، وَمَات مَسْرُوق وَله ثَمَان وَسَبْعُونَ، وَأم رُومَان أقدم من حدث عَنهُ مَسْرُوق، وَقد صلى خلف أبي بكر، وكلم عمر وعليا وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَابْن عَبَّاس(4/480)
وَأَبا مُوسَى وخبابا وأبيا وَابْن عمر وَعَائِشَة.
قَالَ الْخَطِيب: وَالْعجب كَيفَ خَفِي على إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ اسْتِحَالَة سُؤال مَسْرُوق أم رُومَان، مَعَ علو قدره فِي الْعلم؟ وَذَلِكَ أَن أم رُومَان مَاتَت على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وأحسب الْعلَّة الَّتِي دخلت على الْحَرْبِيّ اتِّصَال السَّنَد وثقة رِجَاله، وَلم يتفكر فِيمَا وَرَاء ذَلِك وَهِي الْعلَّة الَّتِي دخلت على البُخَارِيّ حَتَّى أخرج هَذَا الحَدِيث فِي صَحِيحه. وَأما مُسلم فَلم يُخرجهُ، وَرِجَاله من شَرطه، وَأَحْسبهُ فطن باستحالته فَتَركه.
وَقَول إِبْرَاهِيم: إِن مسروقا سَأَلَهَا وَله خمس عشرَة سنة، وَكَانَ مَوتهَا فِي سنة سِتّ. فعلى هَذَا كَانَ لَهُ وَقت وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بضع عشرَة سنة، فَمَا الَّذِي يمنعهُ أَن يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ وَقد ذكر غير إِبْرَاهِيم مبلغ سنّ مَسْرُوق على خلاف مَا قَالَ، فَقَالَ ابْن سعد: توفّي مَسْرُوق بِالْكُوفَةِ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ. وَعَن الْفضل بن عمر: وَمَات مَسْرُوق وَله ثَلَاث وَسِتُّونَ سنة، وَهُوَ أشبه بِالصَّحِيحِ. فعلى هَذَا كَانَ لَهُ وَقت موت أم رُومَان سِتّ سِنِين.
قَالَ الْخَطِيب: وَلم يزل حَدِيث مَسْرُوق هَذَا يتلجلج فِي صَدْرِي وأستنكره وأجيل فكري فِيهِ سِنِين كَثِيرَة فَلَا أعرف لَهُ عِلّة، لثقة رِجَاله واتصال إِسْنَاده، حَتَّى حَدثنِي الْحسن بن عَليّ بِإِسْنَاد لَهُ عَن حُصَيْن عَن مَسْرُوق عَن أم رُومَان. قَالَ الْخَطِيب: فحزرت أَن يكون مَسْرُوق أرسل الرِّوَايَة عَن أم رُومَان. وَقد ذكر أَن حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن اخْتَلَط فِي آخر عمره، فَلَعَلَّهُ روى الحَدِيث فِي حَال اخْتِلَاطه. وَفِي رِوَايَته عَن حُصَيْن عَن مَسْرُوق قَالَ: سَأَلت أم رُومَان، وَهَذَا أشبه بِالصِّحَّةِ. وَمن(4/481)
الروَاة من يكْتب الْهمزَة ألفا فِي جَمِيع أحوالها: فِي رَفعهَا وخفضها ونصبها، وَلَعَلَّ بعض النقلَة كتب سُئِلت بِالْألف، فَرَآهُ الرَّاوِي سَأَلت، وَرَوَاهُ وَدون عَنهُ.
وَفِي الحَدِيث الَّذِي أخرجه لَهَا: أَن عَائِشَة لما رميت خرت مغشيا عَلَيْهَا. فَمَا أفاقت إِلَّا وَعَلَيْهَا حمى بنافض. الْمَعْنى: مَا أفاقت إِلَّا بنافض. والنافض من الْحمى: ذَات الرعدة.(4/482)
(238) كشف الْمُشكل من مُسْند خنساء بنت خدام الْأَنْصَارِيَّة
أخرج لَهَا البُخَارِيّ حَدِيثا وَاحِدًا.
2747 - / 3561 - أَن أَبَاهَا زَوجهَا وَهِي ثيب، فَكرِهت ذَلِك، فَأَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرد زواجه.
أما الثّيّب الْبَالِغَة فَلَا يملك الْأَب إجبارها إِجْمَاعًا. وَاخْتلفُوا فِي الثّيّب الصَّغِيرَة الَّتِي يُوطأ مثلهَا، فلنا وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه لَا يملك الْأَب تَزْوِيجهَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَالثَّانِي: يملك، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك.(4/483)
(239) كشف الْمُشكل من مُسْند أم الْعَلَاء الْأَنْصَارِيَّة
أخرج لَهَا البُخَارِيّ حَدِيثا وَاحِدًا.
2748 - / 3562 - وَفِيه اقتسم الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار قرعَة، فطار لَهَا عُثْمَان بن مَظْعُون.
لما خرج الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْمَدِينَة لم يُمكنهُم اسْتِصْحَاب أَمْوَالهم فَدَخَلُوا الْمَدِينَة فُقَرَاء فاقتسمهم الْأَنْصَار بِالْقُرْعَةِ فِي نزولهم عَلَيْهِم، ومكنوهم من أَمْوَالهم.
وَقَوْلها: فطار لنا. أَي حصل فِي نصيبنا وسهمنا.
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " وَمَا يدْريك؟ " لِأَنَّهَا شهِدت على غيب لَا يعلم مثله إِلَّا بِوَحْي.
وَأما قَوْله: " مَا أَدْرِي مَا يفعل بِي؟ " فَفِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن ذَلِك رَاجع إِلَى الدُّنْيَا، فَيكون الْمَعْنى: لَا أَدْرِي مَا يجْرِي عَليّ فِي الدُّنْيَا من قتل أَو جراح أَو غير ذَلِك. وَقد ذهب إِلَى هَذَا جمَاعَة من الْمُفَسّرين، غير أَنه لَا ينطبق على المُرَاد بِالْحَدِيثِ، إِلَّا أَن يكون ذكره من جنس المعاريض.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه رَاجع إِلَى الْآخِرَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: لما نزلت هَذِه(4/484)
الْآيَة نزل بعْدهَا: {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر} [الْفَتْح: 2] وَنزل: {ليدْخل الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات جنَّات} [الْفَتْح: 5] وَبَيَان هَذَا أَن سُورَة " الْأَحْقَاف " الَّتِي فِيهَا: {وَمَا أَدْرِي مَا يفعل بِي وَلَا بكم} [الْأَحْقَاف: 9] مَكِّيَّة، وَسورَة " الْفَتْح " مَدَنِيَّة، وَعُثْمَان بن مَظْعُون توفّي على رَأس ثَلَاثِينَ شهرا من الْهِجْرَة، وَهُوَ أول من قبر بِالبَقِيعِ.
(240) كشف الْمُشكل من مُسْند خَوْلَة بنت ثامر الْأَنْصَارِيَّة
وَهِي امْرَأَة حَمْزَة بن عبد الْمطلب. أخرج لَهَا حَدِيثا وَاحِدًا
2749 - / 3563 - أَن رجَالًا يتخوضون فِي مَال الله تَعَالَى.
أَي: يتصرفون فِيهِ ويتقحمون فِي استحلاله.(4/485)
(241) كشف الْمُشكل من مُسْند صَفِيَّة بنت شيبَة بن عُثْمَان الحَجبي
أخرج لَهَا البُخَارِيّ حَدِيثا وَاحِدًا، وَلَيْسَت بصحابية. والْحَدِيث مُرْسل، كَذَلِك قَالَ أَبُو عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ وَأَبُو بكر البرقاني.
2750 - / 3564 - والْحَدِيث: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولم على بعض نِسَائِهِ بمدين من شعير.
وَفِي هَذَا الحَدِيث توكيد سنة الْوَلِيمَة، لِأَنَّهُ لم يَتْرُكهَا مَعَ الْفقر وَقلة الشَّيْء.
وَفِيه صَبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْفقر وضيق الْعَيْش، وَأكل الشّعير(4/486)
كشف الْمُشكل من مسانيد الصحابيات اللواتي انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنْهُن مُسلم
(242) مُسْند جدامة بنت وهب الأَسدِية
أُخْت عكاشة وَهِي جدامة بِالدَّال الْمُهْملَة، كَذَلِك سَمَّاهَا الْمُحَقِّقُونَ. وروى حَدِيثهَا كَذَلِك يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَقد كَانَ يروي حَدِيثهَا خلف بن هِشَام وَيحيى بن أَيُّوب وَسَعِيد بن أبي أَيُّوب، فَيَقُول: جذامة بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَهَذَا تَصْحِيف. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: من قَالَه بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة فقد صحف.
قلت: وَلَيْسَ فِي الصحابيات جذامة بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، بلَى فِيهِنَّ وجدامة بِالدَّال الْمُهْملَة اثْنَتَانِ: هَذِه، وحدامة بنت جندل الأَسدِية وَالَّذِي أخرج مُسلم لجدامة بنت وهب حَدِيث وَاحِد.
2751 - / 3566 - " لقد هَمَمْت أَن أنهى عَن الغيلة حَتَّى ذكرت أَن الرّوم وَفَارِس يصنعون ذَلِك فَلَا يضر أَوْلَادهم ".
قَالَ أَبُو عبيد: الغيلة: الغيل؛ وَهُوَ أَن يُجَامع الرجل الْمَرْأَة وَهِي مرضع،(4/487)
يُقَال: أغيل الرجل وأغال، وَالْولد مغيل ومغال. وَالْعرب تَقول فِي الرجل تمدحه: مَا حَملته أمه وضعا، وَلَا أَرْضَعَتْه غيلا، وَلَا وَضعته يتنا، وَلَا أباتته مئقا. ويروى: على مأقة: وَهُوَ شدَّة الْبكاء. يُقَال أيتنت الْمَرْأَة: إِذا خرجت رجل الْمَوْلُود قبل يَدَيْهِ، فَهِيَ موتن، وَالْولد موتن، غير مَهْمُوز.
وَأما ذكره للروم وَفَارِس فَيحْتَمل ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: لكثرتهم.
وَالثَّانِي: لِسَلَامَةِ أَوْلَادهم فِي الْغَالِب وصحتهم.
وَالثَّالِث: أَنهم أهل طب وَحِكْمَة - فَلَو علمُوا أَن هَذَا يضر مَا فَعَلُوهُ، وَالْعرب لَا تعرف ذَلِك، وَهَذَا الْوَجْه قَالَه لنا شَيخنَا ابْن نَاصِر.
قلت: وَالصَّوَاب أَن يُقَال: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرض بِالنَّهْي عَن ذَلِك لما علم من ضَرَره، فَأخْبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا الْقطيعِي قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن مهَاجر قَالَ: حَدثنِي أبي عَن أَسمَاء بنت يزِيد بن السكن الْأنْصَارِيّ قَالَت: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لَا تقتلُوا أَوْلَادكُم سرا، فَإِن الغيل يدْرك الْفَارِس فيدعثره من فَوق فرسه ".(4/488)
وَمعنى يدعثره: يهدمه ويطحطحه بَعْدَمَا قد صَار رجلا قد ركب الْخَيل؛ وَهَذَا لِأَن الْمُرْضع إِذا جومعت فسد لَبنهَا فارتضع طفلها لَبَنًا فَاسِدا، فَإِن حملت كَانَ أَكثر فِي الضَّرَر، لِأَن الدَّم الْجيد يتَصَرَّف إِلَى غذَاء الْجَنِين وَيبقى الرَّدِيء للمرضع، إِلَّا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رأى أَن ترك ذَلِك رُبمَا آذَى الرجل بصبره مُدَّة الرَّضَاع أجَازه بِهَذَا الحَدِيث وَعلل بِذكر فَارس وَالروم.
وَقَوله فِي الْعَزْل: " ذَاك الوأد الْخَفي " الوأد مصدر وأد الرجل ابْنَته: إِذا دَفنهَا وَهِي حَيَّة، فَهِيَ موءودة، فَكَأَنَّهُ جعل الْعَزْل كَالْقَتْلِ، لِأَنَّهُ إِتْلَاف مَا هُوَ متهيئ للنماء، صاعد إِلَى مقَام الْكَمَال.
وتلاوته قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا الموءودة سُئِلت} [التكوير: 8] عِنْد ذكر الْعَزْل للتّنْبِيه على أَن هَذَا مرتق إِلَى مقَام تِلْكَ، وَهَذَا كُله للإعلام بِالْكَرَاهَةِ. وَقد تقدم فِي مُسْند جَابر أَن رجلا سَأَلَهُ عَن الْعَزْل عَن جَارِيَته، فَقَالَ: " اعزل عَنْهَا إِن شِئْت " وَقد اتّفق الْعلمَاء على جَوَاز الْعَزْل من غير إِثْم.(4/489)
(248) كشف الْمُشكل من مُسْند أم الدَّرْدَاء
2752 - / 3574 - ذكر لَهَا حَدِيثا وَاحِدًا قد سبق فِي مُسْند أبي الدَّرْدَاء.
قَالَ البرقاني: وَهَذِه أم الدَّرْدَاء الصُّغْرَى، وَلَيْسَ لَهَا صُحْبَة وَلَا سَماع من رَسُول الله، فَأَما أم الدَّرْدَاء الْكُبْرَى فلهَا صُحْبَة، وَلَيْسَ لَهَا فِي الْكِتَابَيْنِ حَدِيث.
قلت: أم الدَّرْدَاء الْكُبْرَى، اسْمهَا خيرة بنت أبي حَدْرَد زَوْجَة أبي الدَّرْدَاء لَهَا صُحْبَة وَرِوَايَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَت عَنهُ ثَلَاثَة أَحَادِيث، وَلَيْسَ لَهَا فِي الْكِتَابَيْنِ حَدِيث.
وَأم الدَّرْدَاء الصُّغْرَى اسْمهَا هجيمة.(4/490)