المتَوَكل عَن بهية عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَو شِئْت لأسمعتك تضاغيهم فِي النَّار ". قَالَ الْأَثْرَم: وَحَدِيث خَدِيجَة لَيْسَ بِالْقَوِيّ، لِأَنَّهُ مُرْسل، لِأَن خَدِيجَة توفيت فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَلم يلقها أحد من التَّابِعين، وَحَدِيث بهية إِسْنَاده واه. [15] وَالثَّالِث: أَنهم يمْتَحنُونَ فِي الْقِيَامَة بِنَار تأجج لَهُم. روى عَليّ بن زيد عَن أبي رَافع عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يُؤْتى بالمعتوه والهالك فِي الفترة والمولود، فتؤجج لَهُم نَار، وَيبْعَث إِلَيْهِم رَسُول فَيَقُول: ردوهَا، فيردها من كَانَ فِي علم الله سعيدا، فَتكون عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، وتحبس عَنْهَا من كَانَ فِي علم الله شقيا، وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ بِشَيْء، فَإِن عَليّ بن زيد لَا يحْتَج بِهِ. قَالَ أَحْمد وَيحيى: لَيْسَ بِشَيْء. [15] وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنهم خدم أهل الْجنَّة لحَدِيث نقل وَلَا يثبت. [15] وَالْخَامِس: أَنهم بَين الْجنَّة وَالنَّار، إِذا لَا طَاعَة لَهُم وَلَا مَعْصِيّة. وَكَانَ ابْن عقيل ينصر أَنهم لَا يُعَذبُونَ، ويحتج بقوله: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} [الْأَنْعَام: 164] وَقَوله: {لَا ظلم الْيَوْم} [غَافِر: 17] قَالَ: وَهَذَا يُعْطي أَن الظُّلم الْمُؤَاخَذَة بِغَيْر كسب، وَلَا صنع للطفل وَلَا كسب، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله لقالوا رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك} [طه: 134] وَبِقَوْلِهِ: {أَو تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ أفتهلكنا بِمَا فعل المبطلون} [الْأَعْرَاف: 173] وَبِقَوْلِهِ: {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} [النِّسَاء: 165] قَالَ: فَكَمَا أَنه لَا يعذب(2/367)
بَالغا لم تأته الرسَالَة، لَا يعذب مَجْنُونا وطفلا لم تأته الرسَالَة، وَهَذَا يخبر أَنه لَا يعذب إِلَّا بعد الْإِرْسَال، فللأطفال أَن يحتجوا ويقولوا: مَا جَاءَنَا من رَسُول. فَإِن قَالَ قَائِل: أَنا أعذبكم بِمُطلق الْمَشِيئَة، أفْضى إِلَى أَن يكون الاعتلال بالرسل لَيْسَ باعتلال وَلَا احتجاج، لِأَنَّهُ قد أبْطلهُ بتعذيب من لم يُرْسل إِلَيْهِ، وَلَا فعل مَا يسْتَحق بِهِ الْجَزَاء. وَمن يُقيم الْحجَّة للعدل بِتِلْكَ الْإِقَامَة لَا يعود بتعذيب بِغَيْر حجَّة، وحوشي من الِاخْتِلَاف فِي أَقْوَاله، والتحريف فِي أَفعاله.
874 - / 1044 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: كَانَ يَصُوم حَتَّى يَقُول الْقَائِل: لَا يفْطر، وَيفْطر حَتَّى يَقُول الْقَائِل: لَا يَصُوم. [15] إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ عدل عَمَّا شهد أَنه أفضل الصّيام، وَهُوَ صِيَام دَاوُد؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الظَّاهِر من هَذَا الْفِعْل أَنه قد كَانَ يَصُوم بِقدر مَا يفْطر، فَهَذَا مثل صَوْم دَاوُد. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ فِي مقَام هُوَ أَعلَى المقامات، وَهُوَ الرِّضَا بالأقدار، فَكَانَ يتقلب فِيمَا يقلبه الْحق عز وَجل فِيهِ من غير اخْتِيَار لنَفسِهِ، فَإِذا ألهمه الصَّوْم أَو لم يقدر لَهُ مَا يَأْكُل قَالَ: " إِنِّي إِذن صَائِم ".
875 - / 1045 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: مَا قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْجِنّ وَمَا رَآهُمْ. [15] هَذَا كُله يضاد مَا سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: أَتَانِي دَاعِي الْجِنّ فَذَهَبت مَعَه، فقرات عَلَيْهِم الْقُرْآن. وَرفع هَذَا(2/368)
الْإِشْكَال من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يقدم حَدِيث ابْن مَسْعُود لِأَنَّهُ مُثبت وَابْن عَبَّاس يَنْفِي، وَقَول الْمُثبت مقدم. وَالثَّانِي: أَن يكون حَدِيث ابْن عَبَّاس مُتَقَدم، بِدَلِيل أَنه وصف فِيهِ تحير الشَّيَاطِين لوُقُوع الشهب، وَإِنَّمَا وَقعت عِنْد المبعث، وَحَدِيث ابْن مَسْعُود فِي حَال أُخْرَى بعد ذَلِك. وَيدل على أَنَّهُمَا حالتان أَن فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: جَاءُوا وَهُوَ لَا يعلم، فَأُوحي إِلَيْهِ {أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ} . وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود: استدعوه فحضرهم. [15] قَوْله: وَقد حيل بَين الشَّيَاطِين وَبَين خبر السَّمَاء، وَأرْسلت عَلَيْهِم الشهب. اخْتلف الْعلمَاء: هَل كَانَت الشَّيَاطِين ترمى بالنجوم قبل مبعث نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم لَا؟ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا لم ترم حَتَّى بعث، وَظَاهر هَذَا الحَدِيث يدل على ذَلِك، ويقويه قَوْله تَعَالَى: {فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا} [الْجِنّ: 19] وَقد اسْتدلَّ الزّجاج على صِحَّته: أَن قَالَ: لم يُوجد فِي شعر شعراء الْعَرَب الَّذين يمثلون بالبرق والأشياء المسرعة ذكر الْكَوَاكِب المنقضة، فَلَمَّا حدثت بعد مولد نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتعْملت الشُّعَرَاء ذكرهَا، فَقَالَ ذُو الرمة.
(كَأَنَّهُ كَوْكَب فِي إِثْر عفرية ... مُسَوَّم فِي سَواد اللَّيْل منقضب)
[15] وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه قد كَانَ قبل نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدَلِيل مَا سَيَأْتِي فِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: بَينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالس فِي نفر من أَصْحَابه إِذْ رمي بِنَجْم فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: " مَا كُنْتُم تَقولُونَ إِذا كَانَ مثل هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة؟ " قَالَ: كُنَّا نقُول: يَمُوت عَظِيم أَو(2/369)
[15] يُولد عَظِيم. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: إِن الشَّيَاطِين كَانَت لَا تحجب عَن السَّمَوَات، فَلَمَّا ولد عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام منعت من ثَلَاث سماوات، فَلَمَّا ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منعت من السَّمَاوَات كلهَا. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: قد كَانَ يرْمى بالنجوم قبل مبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنهَا غلظت حِين بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا مَذْهَب ابْن قُتَيْبَة. قَالَ: وعَلى هَذَا وجدنَا الشّعْر الْقَدِيم، قَالَ بشر بن أبي خازم:
(وَالْعير يرهقها الْغُبَار وجحشها ... ينْقض خلفهمَا انقضاض الْكَوْكَب)
[15] وَقَالَ أَوْس بن حجر، وَهُوَ جاهلي:
(فانقض كالدري يتبعهُ ... نقع يثور تخاله طنبا)
[15] قلت: وَقد ذكر فِي شعره انقضاض الْكَوْكَب الأفوه الأودي، وَأُميَّة ابْن أبي الصَّلْت، وعَوْف بن الخرع وَغَيرهم، إِلَّا أَن الَّذِي أميل إِلَيْهِ أَنه لم ترم بِالشُّهُبِ إِلَّا قبيل مولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ اسْتمرّ ذَلِك وَكثر حَتَّى بعث، وَكَانَ ذَلِك من التأسيس لأَمره والتفخيم لشأنه كَمَا جرى على أَصْحَاب الْفِيل، وكما انْبَعَثَ المَاء من تَحت خف رَاحِلَة عبد الْمطلب حِين خرج هُوَ وَجَمَاعَة إِلَى الكاهن ليشير إِلَى أحدهم بالتخصيص بزمزم. وعَلى هَذَا يحمل شعر بشر بن أبي خازم، فَإِنَّهُ قد أدْرك الْفجار وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أدْرك الْفجار، وَأُميَّة أدْرك النُّبُوَّة وَكَذَلِكَ أشعار البَاقِينَ، فَإِنَّهَا قيلت قبل مولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا حجَّة فِي أشعار(2/370)
المخضرمين لما بَينا من أَن ذَلِك كالتأسيس لأمر للنبوة، وَمَا يُمكن أحدا أَن يَأْتِي بِبَيْت شعر من أشعار الْجَاهِلِيَّة القدماء فِي انقضاض الْكَوْكَب مَعَ كَونهم قد شبهوا السرعة بِكُل شَيْء وَلم يذكرُوا الْكَوْكَب فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي هَذَا، وَقد ذكر نَحْو مَا ذكرته أَبُو عُثْمَان الْبَصْرِيّ. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: أيزول الْكَوْكَب إِذا رجم بِهِ؟ قُلْنَا: قد يُحَرك الْإِنْسَان يَده أَو حَاجِبه فتضاف تِلْكَ الْحَرَكَة إِلَى جَمِيعه، فَرُبمَا فضل شُعَاع من الْكَوْكَب فَأحرق، وَيجوز أَن يكون ذَلِك الْكَوْكَب يفنى ويتلاشى، وَالله أعلم. [15] وَقَوله: أخذُوا نَحْو تهَامَة. سميت تهَامَة لشدَّة حرهَا. وَقيل لشدَّة رِيحهَا.
876 - / 1047 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: قلت لِابْنِ عَبَّاس: سُورَة التَّوْبَة. فَقَالَ: هِيَ الفاضحة. [15] اعْلَم أَن هَذِه السُّورَة لَهَا تِسْعَة أَسمَاء: أَحدهَا سُورَة التَّوْبَة، وَالثَّانِي بَرَاءَة، وَهَذَانِ مشهوران. وَالثَّالِث: سُورَة الْعَذَاب، قَالَه حُذَيْفَة. الرَّابِع: المقشقشة، قَالَه ابْن عمر. وَالْخَامِس: سُورَة البحوث، لِأَنَّهَا بحثت عَن سرائر الْمُنَافِقين، قَالَه الْمِقْدَاد بن الْأسود.(2/371)
وَالسَّادِس: الفاضحة، لِأَنَّهَا فضحت الْمُنَافِقين، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالسَّابِع: المثيرة، لِأَنَّهَا أثارت مخازي الْمُنَافِقين ومثالبهم، قَالَه قَتَادَة. وَالثَّامِن: المبعثرة، لِأَنَّهَا بعثرت أَخْبَار النَّاس وكشفت عَن سرائرهم، قَالَه ابْن إِسْحَق. وَالتَّاسِع: الحافرة، لِأَنَّهَا حفرت عَن قُلُوب الْمُنَافِقين، قَالَه الزّجاج.
877 - / 1048 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: إِذا حرم الرجل امْرَأَته فَهُوَ يَمِين يكفرهَا. وَفِي لفظ: لَيْسَ بِشَيْء. [15] اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن قَالَ لزوجته: أَنْت عَليّ حرَام، فَذهب أَبُو بكر وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة إِلَى أَنه يَمِين، وَعَن أَحْمد مثله، وَذهب عُثْمَان بن عَفَّان إِلَى أَنه ظِهَار، وَهُوَ الْمَنْصُور من مَذْهَب أَحْمد. فَإِن قَالَ: نَوَيْت بِهِ الْيَمين أَو الطَّلَاق لم يقبل فِي رِوَايَة، وَيقبل فِي الْأُخْرَى. وَعَن أَحْمد رِوَايَة ثَالِثَة أَنه طَلَاق. وَقَالَ مَالك: هُوَ طَلَاق ثَلَاث فِي حق الْمَدْخُول بهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يرجع إِلَى نِيَّته، فَإِن لم ينْو فَهُوَ يَمِين وَيكون موليا. وَقَالَ الشَّافِعِي: يرجع إِلَى نِيَّته إِلَّا أَن يَنْوِي الْيَمين فَإِنَّهُ يكون يَمِينا، وَيجب كَفَّارَة يَمِين، وَالثَّانِي: لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَعَلِيهِ يحمل قَول ابْن عَبَّاس: لَيْسَ بِشَيْء. وَيحْتَمل لَيْسَ بِشَيْء يثبت التَّحْرِيم.(2/372)
878 - / 1050 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: قَالَ ابْن عَبَّاس: سقيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من زَمْزَم فَشرب وَهُوَ قَائِم. [15] هَذَا لَا يعدو ثَلَاثَة أَحْوَال: إِمَّا أَن يكون مَنْسُوخا بنهيه عَن الشّرْب قَائِما. وَإِمَّا لتبيين الْجَوَاز، لِأَن نَهْيه عَن ذَلِك نهي كَرَاهَة. وَإِمَّا لعذر. وَفِي تَمام الحَدِيث أَن عِكْرِمَة قَالَ: كَانَ على بعيره، وَهَذَا قَاعد.
879 - / 1051 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: مر على قبر منبوذ فامهم وَصفهم خَلفه. [15] المنبوذ هَاهُنَا: الْمُفْرد عَن الْقُبُور. وَقد رَوَاهُ قوم: على قبر منبوذ، بِكَسْر الرَّاء مَعَ الْإِضَافَة، وفسروه باللقيط، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن فِي بعض الْأَلْفَاظ: أَتَى قبرا مَنْبُوذًا. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على جَوَاز إِعَادَة الصَّلَاة على الْمَيِّت لمن لم يصل، وَالصَّلَاة على الْقَبْر خلافًا لأبي حنيفَة.
880 - / 1052 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين: قَالَ ابْن عَبَّاس: أنهى عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أجل - أَنه كَانَ حمولة النَّاس فكره أَن تذْهب حمولتهم، أَو حرمت فِي يَوْم خَيْبَر - لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة؟ .(2/373)
[15] الحمولة بِفَتْح الْحَاء: الْإِبِل الَّتِي تحمل الأثقال، فَهَذَا اسْمهَا كَانَ عَلَيْهَا حمل أَو لم يكن. وكل شَيْء حمل عَلَيْهِ من الدَّوَابّ كالخيل وَالْبِغَال وَالْحمير فَإِنَّمَا سمي حمولة تَشْبِيها بِالْإِبِلِ. فَأَما الحمولة بِضَم الْحَاء فالأحمال بِعَينهَا. [15] وَقد كشف هَذَا الْإِشْكَال الَّذِي وَقع لِابْنِ عَبَّاس قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنَّهَا رِجْس ".
881 - / 1053 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: " من هم بِالْحَسَنَة فَلم يعملها كتبهَا الله لَهُ عِنْده حَسَنَة، وَلَا يهْلك على الله إِلَّا هَالك ". [15] قد بَينا فِيمَا سبق أَن مِقْدَار الْجَزَاء على الْحَسَنَة مَعْلُوم الْقدر عِنْد الله عز وَجل فَهُوَ يثيب المحسن بذلك الثَّوَاب عشر مَرَّات، فَهَذَا الرَّاتِب، ثمَّ يُزَاد الْإِنْسَان على قدر إخلاصه وَصدقه وحضوره إِلَى مَا لَا يعلم النَّاس حَده، فَإِذا هم الْإِنْسَان بِالْحَسَنَة فَلم يعملها، فاهتمامه بِالْحَسَنَة حَسَنَة، فَلذَلِك تكْتب. وَإِذا هم بِالسَّيِّئَةِ فَلم يعملها فالغالب أَنه إِنَّمَا تَركهَا خوفًا من الْعقَاب، فخوفه حَسَنَة، فَلذَلِك تكْتب، فَخرج الْكَلَام مخرج الْغَالِب. فَأَما إِذا لم يتَمَكَّن من الْمعْصِيَة فَإِنَّهُ لَا يُسمى تَارِكًا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يتْرك مَا يقدر عَلَيْهِ، غير أَنه يسامح فِي همته، إِذْ الاهتمام تردد، فَإِن صَارَت المهمة عَزِيمَة أخرجته إِلَى الْإِصْرَار فأثم. [15] وَقَوله: " لَا يهْلك على الله إِلَّا هَالك " يَعْنِي أَن حلمه عَظِيم، وفضله عَظِيم، فَمن هلك بعد ذَلِك فَهُوَ الْهَالِك من قبل تَقْصِيره ومساكن تفريطه.(2/374)
882 - / 1054 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: " اطَّلَعت فِي الْجنَّة فَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا الْفُقَرَاء ". قد شرحناه فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
883 - / 1055 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: " من رأى من أميره شَيْئا فليصبر عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَمَاتَ فميتة جَاهِلِيَّة ". [15] الْمُفَارقَة هَاهُنَا فِي قبُول الْإِمَامَة، وَذكر الشبر على سَبِيل الْمثل. [15] وَالْميتَة مَكْسُورَة الْمِيم: يَعْنِي بهَا الْحَالة الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا، فَهِيَ كالقعدة والجلسة وَالركبَة، وَإِنَّمَا يُرَاد بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الْحَال والهيئة. وَأما الْميتَة بِفَتْح الْمِيم فَهِيَ الْحَيَوَان الْمَيِّت، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " الْحل ميتَته ". [15] والجاهلية: عَادَة الْقَوْم قبل الْإِسْلَام، فَإِنَّهُم كَانُوا يعْملُونَ بواقعاتهم وَلَا يلتفتون إِلَى مشرع.
884 - / 1056 وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: " أعوذ بعزتك ". [15] قَالَ الزّجاج: الْعِزَّة: المنعة وَشدَّة الْغَلَبَة، وَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلهم: ارْض عزاز، قَالَ الْأَصْمَعِي: هِيَ الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا. فَتَأْوِيل(2/375)
الْعِزَّة الْغَلَبَة والشدة الَّتِي لَا يتَعَلَّق بهَا إذلال، قَالَت الخنساء:
(كَأَن لم يَكُونُوا حمى يتقى ... إِذْ النَّاس إِذْ ذَاك من عز بزا)
[15] أَي: من قوي وَغلب سلب. وَيُقَال: قد اسْتعزَّ على الْمَرِيض: أَي اشْتَدَّ وَجَعه.
885 - / 1058 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: " لَا يَنْبَغِي لعبد أَن يَقُول أَنا خير من يُونُس بن مَتى " وَنسبه إِلَى أَبِيه. [15] وَقد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. وَأَبوهُ اسْمه مَتى.
886 - / 1059 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: " من لم يجد إزارا فليلبس سَرَاوِيل، وَمن لم يجد نَعْلَيْنِ فليلبس خُفَّيْنِ ". [15] الْإِشَارَة إِلَى الْمحرم، فَإِذا لم يجد الْإِزَار جَازَ أَن يلبس السَّرَاوِيل وَلَا تجب عَلَيْهِ فديَة بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: إِن لبس السَّرَاوِيل وَجَبت عَلَيْهِ الْفِدْيَة. وَقد اخْتلف أَصْحَاب أبي حنيفَة هَل يجوز لَهُ لبسه. فَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لَا يجوز لبسه حَتَّى يفتقه. وَقَالَ الرَّازِيّ: يجوز ويفتدي، وَهُوَ قَول أَصْحَاب مَالك، وهم يَقُولُونَ لنا: نَحن نقُول بِجَوَاز اللّبْس، فَمَا(2/376)
الدَّلِيل على نفي الْكَفَّارَة؟ فَالْجَوَاب: إِن إِذن الشَّرْع الْمُطلق مُؤذن بِنَفْي التَّبعَات، فمدعي التبعة يفْتَقر إِلَى الدَّلِيل. فَإِن قَالُوا: يفتقه، فقد زَالَ عَنهُ اسْم السَّرَاوِيل. [15] وَأما إِذا لم يجد النَّعْلَيْنِ فَيجوز لَهُ لبس الْخُفَّيْنِ من غير فديَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يجوز لَهُ لبسهما على صفتهما، بل بقطعهما اسفل الْكَعْبَيْنِ، فَإِن لبسهما افتدى، وذهبوا إِلَى حَدِيث ابْن عمر. وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
887 - / 1060 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم. [15] قد خُولِفَ ابْن عَبَّاس فِي هَذَا. وَسَيَأْتِي فِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث يزِيد بن الْأَصَم عَن مَيْمُونَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا وَهُوَ حَلَال. وروى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث يزِيد بن الْأَصَم عَن مَيْمُونَة قَالَت: تزَوجنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن حلالان بسرف. وَمَعْلُوم أَن مَيْمُونَة أعلم بشأنها من غَيرهَا. وروى أَبُو دَاوُد أَيْضا أَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: وهم ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم. وَيحْتَمل قَوْله: وَهُوَ محرم، أَي فِي شهر حرَام، قَالَ الشَّاعِر:(2/377)
(قتلوا ابْن عَفَّان الْخَلِيفَة محرما ... ) أَي فِي شهر حرَام.
888 - / 1061 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع بَين الظّهْر وَالْعصر، وَالْمغْرب وَالْعشَاء من غير خوف وَلَا سفر. [15] وَهَذَا يحمل على أَنه قد كَانَ مطر أَو وَحل وَقد قَالَ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ: لَعَلَّه فِي لَيْلَة مطيرة. وَقَالَ أَبُو الشعْثَاء جَابر بن زيد رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس: عَسى. إِلَّا أَنه قد جَاءَ فِي بعض الْأَلْفَاظ: من غير خوف وَلَا مطر، فَهَذَا يحمل على أَنه لأجل الوحل. وَعِنْدنَا يجوز الْجمع لأَجله خلافًا للشَّافِعِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون لأجل الْمَرَض، وَعِنْدنَا يجوز خلافًا للشَّافِعِيّ أَيْضا. [15] وَفِي لفظ: صليت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمانياً جَمِيعًا، وَسبعا جَمِيعًا. يَعْنِي الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء. وَيحْتَمل أَن يكون الْجمع تَأْخِير الصَّلَاة إِلَى آخر وَقتهَا، وَتَقْدِيم الثَّانِيَة إِلَى أول وَقتهَا، وعَلى هَذَا يخرج قَول ابْن عَبَّاس: أَرَادَ أَلا يحرج أمته: أَي لَا يضيق عَلَيْهَا الْوَقْت. [15] وَفِي رِوَايَة: جمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السّفر. وَهَذَا جَائِز عندنَا وَعند الشَّافِعِي، خلافًا لأبي حنيفَة، فَإِن كَانَ السّفر قَصِيرا لم يجز(2/378)
الْجمع، خلافًا لمَالِك. [15] وَقَول الرَّاوِي: فحاك فِي صَدْرِي: أَي أثر، فَقَالَ: مَا يحيك كلامك فِي قلبِي: أَي مَا يُؤثر.
889 - / 1062 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُرِيد على ابْنة حَمْزَة، فَقَالَ: " لَا تحل لي: وَقَالَ: " يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم من الرَّحِم ". [15] الْمَعْنى: أُرِيد أَن يَتَزَوَّجهَا، وَكَانَ حَمْزَة أَخَاهُ من الرضَاعَة، أرضعتهما ثويبة. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
890 - / 1063 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومَيْمُونَة كَانَا يغتسلان من إِنَاء وَاحِد. وَفِي رِوَايَة كَانَ يغْتَسل بِفضل مَيْمُونَة. [15] أما اغتسالهما من إِنَاء وَاحِد مَعًا فَلَا خلاف فِي جَوَازه. وَأما مَا رُوِيَ من اغتساله بفضلها فَإِنَّهُ مَرْوِيّ بِالشَّكِّ والتردد، قَالَ فِيهِ عَمْرو بن دِينَار: أَكثر علمي وَالَّذِي يخْطر على بالي أَن أَبَا الشعْثَاء أَخْبرنِي عَن ابْن عَبَّاس بِهَذَا. ثمَّ هُوَ مَحْمُول على أَنه اغْتسل بِمَا أفضلته مَعَ حُضُوره وَقت اسْتِعْمَالهَا، وَاسْتِعْمَال ذَلِك جَائِز لَهُ بِالْإِجْمَاع. فَأَما إِذا خلت بِهِ فالمنصور من الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد أَنه لَا يجوز لَهُ التَّوَضُّؤ بفضلها. وَفِي(2/379)
الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَن ذَلِك مَكْرُوه، فَإِن تَوَضَّأ أَجزَأَهُ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: يجوز لَهُ التَّوَضُّؤ بِهِ. [15] وَقَول عَمْرو بن دِينَار: يخْطر على بالي. البال: الْقلب، وَقَول النَّاس: مَا أُبَالِي بِكَذَا: أَي مَا أشغل بِهِ بالي، والبال يُقَال بِمَعْنى الْحَال، يُقَال: مَا بالك؟ أَي: مَا حالك؟
891 - / 1064 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين: خَطَبنَا ابْن عَبَّاس فِي يَوْم ذِي ردغ، فَأمر الْمُؤَذّن لما بلغ: حَيّ على الصَّلَاة، قَالَ: قل: الصَّلَاة فِي الرّحال، فَنظر بَعضهم إِلَى بعض كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا، فَقَالَ: إِنَّهَا عَزمَة. [15] الردغ: المَاء والطين. وَقَالَ أَبُو عبيد: الردغة بِفَتْح الرَّاء وَالدَّال وبالهاء: هِيَ المَاء والطين والوحل، وَجَمعهَا رداغ. [15] وَقَوله: إِنَّهَا عَزمَة. يَعْنِي صَلَاة الْجُمُعَة، وَلم تذكر، وَلَكِن قَوْله خَطَبنَا، قد دلّ عَلَيْهَا. [15] وَقَوله: كرهت أَن أحرجكم. أَي أضيق عَلَيْكُم. [15] والدحض: الزلق. يُقَال: مَكَان دحض: أَي زلق.
892 - / 1065 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: عَن أبي جَمْرَة(2/380)
قَالَ: كنت أترجم بَين ابْن عَبَّاس وَبَين النَّاس. [15] أما أَبُو جَمْرَة فَهُوَ بِالْجِيم الْمُعْجَمَة وَالرَّاء الْمُهْملَة، واسْمه نصر بن عمرَان الضبعِي. ويروي عَن ابْن عَبَّاس أَبُو حَمْزَة بِالْحَاء وَالزَّاي. قد ذكرنَا ذَلِك لِئَلَّا يشْتَبه. [15] وَقَوله: كنت أترجم: أَي أخبر النَّاس بقول ابْن عَبَّاس وَأخْبرهُ بقَوْلهمْ. [15] وقلوه: غير خزايا. الخزايا: جمع خزيان يُقَال: خزي الرجل يخزى خزاية: إِذا استحيا من فعل فعله على خلاف الصَّوَاب. الندامى جمع نادم، وَكَانَ الْقيَاس أَن يَقُول: وَلَا نادمين، وَلَكِن أخرجه على وزن الْكَلَام الأول وَهُوَ قَوْله خزايا، كَمَا قَالُوا: " إِنَّه ليَأْتِينَا بالغدايا والعشايا " يُرِيدُونَ غَدَاة، وَهِي تجمع على الغدوات، لكنه لما قرنه بالعشايا أخرجه على وَزنهَا. وَإِنَّمَا مدحهم بِهَذَا لأَنهم أَتَوا مُسلمين طَوْعًا، فَلم يصبهم حَرْب تؤذيهم، وَلَا سبي يخزيهم. [15] وَقَوله: أَتَيْنَا من شقة بعيدَة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الشقة: السّفر. وَقَالَ الزّجاج: الشقة: الْغَايَة الَّتِي تقصد. [15] وَقَوله: فمرنا بِأَمْر فصل: أَي بَين وَاضح ينْفَصل بِهِ المُرَاد من غَيره ويرتفع الْإِشْكَال.(2/381)
[15] وَقَوله " وَأَن تُؤَدُّوا الْخمس من الْمغنم " اعْلَم أَن أَرْبَعَة أَخْمَاس الْغَنِيمَة لأهل الْحَرْب خَاصَّة، وَأما الْخمس الْخَامِس فينقسم على خَمْسَة أسْهم: سهم للرسول، وَسَهْم لِذَوي الْقُرْبَى، وَسَهْم لِلْيَتَامَى، وَسَهْم للْمَسَاكِين، وَسَهْم لأبناء السَّبِيل. [15] وَقَوله: ونهاهم عَن الدُّبَّاء والحنتم. أَي عَن الانتباذ فِي هَذِه الْأَشْيَاء. والدباء الْقرعَة. والحنتم الحناتم: الجرار. والمزفت: الَّذِي قد طلي بالزفت: وَهُوَ القار. والنقير: أصل النَّخْلَة ينقر فيتخذ مِنْهَا مَا ينتبذ فِيهِ. وَإِنَّمَا نَهَاهُم عَن هَذِه الْأَوَانِي لِأَن الشَّرَاب قد يغلي فِيهَا وَيصير مُسكرا وَلَا يعلم بِهِ، لَا أَنَّهَا تحرم شَيْئا. وَكَذَلِكَ خلط البلح بالزهو يُوجب تعاونهما الاشتداد، وكل هَذِه الْأَشْيَاء مَكْرُوهَة مَا لم توجب اشتداداً، فَإِذا حدثت بهَا شدَّة حرمت. [15] وَقَوله للأشج. الْأَشَج لقب، واسْمه الْمُنْذر، وَقيل: قيس. [15] والأناة: التأني والتثبت وَترك العجلة إِلَى أَن يَتَّضِح الصَّوَاب.
893 - / 1066 - وَفِي الحَدِيث التسعين: سَأَلت ابْن عَبَّاس عَن الْمُتْعَة فَأمرنِي بهَا. [15] الْمُتْعَة هَاهُنَا مُتْعَة الْحَج، وَقد بيناها فِي مُسْند سعد. [15] وَالْهَدْي: مَا أهْدى إِلَى الْبَيْت، وَفِيه لُغَتَانِ: هدي بِإِسْكَان الدَّال،(2/382)
[15] وهدي بِكَسْرِهَا وَتَشْديد الْيَاء. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَصله مشدد فَخفف وَإِنَّمَا يكون الْهَدْي من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. [15] وَقَوله: أَو شرك فِي دم. عندنَا أَنه لَا يجوز أَن يشْتَرك السَّبْعَة فِي الْبَدنَة وَالْبَقَرَة، سَوَاء كَانَ هديهم تَطَوّعا أَو وَاجِبا، وَسَوَاء اتّفقت جِهَات قربهم أَو اخْتلفت، وَكَذَلِكَ إِن كَانَ بَعضهم مُتَطَوعا وَبَعْضهمْ عَن وَاجِب، أَو كَانَ بَعضهم متقربا وَبَعْضهمْ يُرِيد اللَّحْم، نَص على هَذَا أَحْمد، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن كَانُوا متقربين صَحَّ الِاشْتِرَاك، وَإِن كَانَ بَعضهم يُرِيد اللَّحْم وَبَعْضهمْ يُرِيد الْقرْبَة لم يَصح الِاشْتِرَاك. وَقَالَ مَالك: لَا يَصح الِاشْتِرَاك فِي الْهَدْي الْوَاجِب، فَإِن كَانُوا متطوعين صَحَّ الِاشْتِرَاك.
894 - / 1067 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: كَانَت صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث عشرَة رَكْعَة. [15] الْإِشَارَة إِلَى قيام اللَّيْل. وَهَذِه الثَّلَاث عشرَة مِنْهُنَّ رَكْعَة الْوتر، وَهَذَا أَكثر مَا رُوِيَ فِي عدد الرَّكْعَات اللواتي كَانَ يصليهن بِاللَّيْلِ. وَسَيَأْتِي فِي الصَّحِيح عَن عَائِشَة أَنه كَانَ يُصَلِّي من اللَّيْل تسع رَكْعَات. وعنها: أَنه مَا كَانَ يزِيد على إِحْدَى عشرَة رَكْعَة. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَأكْثر مَا رُوِيَ عَنهُ ثَلَاث عشرَة مَعَ الْوتر. وَأَقل مَا نقل تسع رَكْعَات. قلت: وَسَيَأْتِي فِي مُسْند عَائِشَة أَنَّهَا سُئِلت عَن صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/383)
بِاللَّيْلِ، فَقَالَت: سبع، وتسع، وَإِحْدَى عشرَة. وَهَذَا غير مَا قَالَه التِّرْمِذِيّ.
895 - / 1068 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين: طرف فِي ذكر إِسْلَام أبي ذَر. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْنده.
896 - / 1069 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين: فربا الرجل ربوة شَدِيدَة. [15] الربوة: تتَابع النَّفس، وَأَصله الانتفاخ.
897 - / 1070 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين: نهى عَن بيع النّخل حَتَّى يَأْكُل مِنْهُ أَو يُؤْكَل، وَحَتَّى يُوزن. [15] الْوَزْن هَاهُنَا بِمَعْنى الحزر، وَهُوَ الْخرص، وَإِنَّمَا يخرص إِذا اشْتَدَّ وَصلح للْأَكْل، فَحِينَئِذٍ يُؤمن عَلَيْهِ العاهة غَالِبا.
898 - / 1071 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: قدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم يسلفون فِي الثِّمَار السّنة والسنتين، فَقَالَ: " من أسلف فِي تمر فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم ". [15] السّلف: السّلم، وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَنه لَا يجوز إِلَى الْأَجَل(2/384)
الْمَجْهُول، كقدوم الْحَاج، وَوقت الْحَصاد، وَهَذَا لَيْسَ بِمَعْلُوم، فَإِنَّهُ قد يتَقَدَّم ويتأخر. وَقد دلّ الحَدِيث على جَوَاز السّلم فِي الشَّيْء الْمَعْدُوم حَال السّلم، خلافًا لأبي حنيفَة.
899 - / 1072 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] لما طعن عمر جعل يألم، فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس - وَكَأَنَّهُ يجزعه: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، وَلَا كل ذَلِك. [15] يجزعه: يزِيل جزعه. وَمثله قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم} [سبأ: 23] أَي أزيل عَنْهَا الْفَزع. [15] وَقَوله: من أَجلك وَأجل أَصْحَابك. يَعْنِي الْإِمَارَة. [15] وطلاع الأَرْض: مَا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس.
900 - / 1073 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: صَلَاة الْخَوْف. [15] وَهِي تكون إِذا كَانَ الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة، وَقد ذكرنَا فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة تَقْسِيم صَلَاة الْخَوْف فأغنى عَن الْإِعَادَة.
901 - / 1074 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: وَكِتَابكُمْ تَقْرَءُونَهُ مَحْضا لم يشب. [15] الْمَحْض: الْخَالِص. والشوب: الَّذِي يخلط بِهِ غَيره. وَالْمعْنَى: لم يُبدل.(2/385)
902 - / 1075 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: كتب إِلَى قَيْصر: فَإِن توليت فَعَلَيْك إِثْم اليريسيين. [15] أما قَيْصر فقد تكلمنا على هَذَا الِاسْم فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة. [15] وَأما قَوْله: " إِثْم اليريسيين " فَكَذَا يرويهِ المحدثون: اليرسيين، بياء أولى وياءين فِي آخر الْكَلِمَة. قَالَ الْخطابِيّ: كَذَا رَوَاهُ البُخَارِيّ: اليريسيين. وَالْيَاء مبدلة فِيهِ عَن الْهمزَة، وَهُوَ فِي سَائِر الرِّوَايَات: الأريسيين. وَأما أهل اللُّغَة فَيَقُولُونَ: الأريسيين بياء وَاحِدَة غير مُشَدّدَة، وَهِي لُغَة شامية. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الأريس: الأكار، وَيجمع الأريسين بتَخْفِيف، وَقد أرس يأرس أرسا: إِذا صَار أريسا. وَقَالَ لنا ابْن الخشاب: إِنَّمَا هُوَ الأريسين بتَشْديد الرَّاء وبياء وَاحِدَة بعد السِّين. وَالْمعْنَى: إِنَّك إِن لم تسلم كَانَ عَلَيْك إِثْم الزراعين والأجراء الَّذين هم أَتبَاع لَك وخدم. [15] فَإِن قيل: فَمَا وَجه كِتَابَته عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى قَيْصر وكسرى وَأمره مَعَ قومه مَا انبرم، فضلا عَن بَقِيَّة الْعَرَب؟ فقد أجَاب عَنهُ ابْن عقيل فَقَالَ: هَذَا يدل على أَنه كَانَ مدفوعا إِلَى الْكِتَابَة من جِهَة من إِلَيْهِ حفظ الْعَاقِبَة، وَإِلَّا فَذَاك لَا يصدر عَن رَأْي من لَهُ رَأْي، لكنه اطلع على العواقب، ووثق بالمرسل، وَهَذَا من أقوى الْأَدِلَّة على صدقه عَلَيْهِ السَّلَام.(2/386)
903 - / 1076 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث بكتابه إِلَى كسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مزقه، فحسبت أَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يمزقوا كل ممزق. [15] أما كسْرَى فقد تكلمنا فِي هَذَا الِاسْم فِي مُسْند عدي بن حَاتِم. وَقَوله: أَن يمزقوا: أَي يتفرق أَمرهم وَيَنْقَطِع ملكهم.
904 - / 1077 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: تقدمين على فرط صدق، على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى أبي بكر. [15] الفرط: الْمُتَقَدّم، وَقد سبق بَيَانه فِي مَوَاضِع. وإضافته إِلَى الصدْق مدح لَهُ كَقَوْلِه: {أَن لَهُم قدم صدق} [يُونُس: 2] . [15] وَقَوله: وَهِي مغلوبة. أَي قد غلبها الْمَرَض فأضعفها عَن التَّصَرُّف. [15] وَقَوْلها: إِن اتَّقَيْت: تَعْنِي إِن خلصت لي التَّقْوَى فَمَا أُبَالِي بِالْمرضِ. [15] وللمفسرين فِي قَوْله: {نسيا منسيا} خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْمَعْنى لَيْتَني لم أكن شَيْئا، رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنه دم حَيْضَة ملقاة، قَالَه مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة، وَقَالَ الْفراء: المنسي: مَا تلقيه الْمَرْأَة من خرق اعتلالها. وَقَالَ ابْن(2/387)
الْأَنْبَارِي: هِيَ خرق الْحيض تلقيها فَلَا تذكرها وَلَا تطلبها. وَالثَّالِث: أَنه السقط، قَالَه أَبُو الْعَالِيَة وَالربيع. وَالرَّابِع: أَن الْمَعْنى: لَيْتَني لَا لَا يدرى من أَنا، قَالَه قَتَادَة. وَالْخَامِس: أَنه الشَّيْء التافه يرتحل عَنهُ الْقَوْم فيهون عَلَيْهِم، فَلَا يرجعُونَ إِلَيْهِ، قَالَه ابْن السَّائِب. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ مَا نسي من إداوة وعصي فَلَا يرجع إِلَيْهِ لاحتقار صَاحبه إِيَّاه.
905 - / 1078 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " فسبحاني أَن أَتَّخِذ صَاحبه ". [15] أَي تنزهت عَمَّا يعاب.
906 - / 1079 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " أبْغض النَّاس إِلَى الله ثَلَاثَة: ملحد فِي الْحرم، ومبتغ فِي الْإِسْلَام سنة جَاهِلِيَّة، ومطلب دم امرىء بِغَيْر حق ليهريق دَمه ". [15] الملحد: المائل عَن الاسْتقَامَة. وَفِي المُرَاد بالإلحاد فِي الْحرم خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه الظُّلم، رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ عمر بن الْخطاب: احتكار الطَّعَام بِمَكَّة إلحاد بظُلْم. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ عمل سَيِّئَة. وَالثَّانِي: أَنه الشّرك، رَوَاهُ ابْن طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ الْحسن وَقَتَادَة. وَالثَّالِث: الشّرك وَالْقَتْل، قَالَه عَطاء. وَالرَّابِع: أَنه استحلال مَحْظُورَات الْإِحْرَام، رُوِيَ عَن عَطاء(2/388)
أَيْضا. وَالْخَامِس: استحلال الْحَرَام تعمدا، قَالَه ابْن جريج. [15] وَقَوله: " ومبتغ فِي الْإِسْلَام " المبتغي: الطَّالِب. وَالْمرَاد أَنه يعْمل وَهُوَ مُسلم بعادات الْجَاهِلِيَّة. [15] وَالْمطلب: الطَّالِب. ويهريق بِمَعْنى يريق.
907 - / 1081 وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " كَأَنِّي بِهِ أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا ". يَعْنِي الْكَعْبَة الفحج: تبَاعد مَا بَين الفخذين، يُقَال: رجل أفحج، وَامْرَأَة فحجاء، وَالْجمع فحج. وَهَذَا من نعوت الْحَبَشَة، وَكَذَلِكَ قَوْله: " يخرب الْكَعْبَة ذُو السويقتين من الْحَبَشَة " فَذكره بِلَفْظ التصغير، لِأَن فِي سوق الْحَبَشَة دقة وخموشة. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: مَا السِّرّ فِي حراسة الْكَعْبَة من أَصْحَاب الْفِيل فِي الْجَاهِلِيَّة وَلم تحرس فِي الْإِسْلَام مِمَّا صنع بهَا الْحجَّاج والقرامطة حِين سلبوها ثِيَابهَا وقلعوا الْحجر، وَمِمَّا يصنع بهَا فِي آخر الزَّمَان؟ فَالْجَوَاب: أَن حبس الْفِيل كَانَ علما لنبوة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودليلا على نبوته، لِأَن أَهله كَانُوا عمار الْبَيْت وسكان الْوَادي، فصين ليعرفوا نعْمَة الَّذِي حفظه بِلَا قتال، فَلَمَّا ظهر نَبِي مِنْهُم تأكدت الْحجَّة عَلَيْهِم بالأدلة الَّتِي شوهدت بالبصر قبل الْأَدِلَّة الَّتِي ترى بالبصائر، وَكَانَ حكم الْحس غَالِبا على الْقَوْم، فأروا آيَة تدل على وجود النَّاصِر. وَلَيْسَ لقَائِل أَن يَقُول: فقد كَانُوا يقرونَ بالإله؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَار من جِهَة أَن مدعي(2/389)
الشَّرِيك مَعَ الْقوي الْقَادِر لَا يعرف الْقَادِر، فَلَمَّا ظهر الدّين وقويت حججه كَانَ مَا جرى وَيجْرِي على الْكَعْبَة ابتلاء لِلْخلقِ، كَمَا سلط الْكفَّار على الْأَنْبِيَاء لينْظر إِيمَان الْمُؤمنِينَ، هَل يثبت أَو يتزلزل.
908 - / 1082 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَن نَفرا من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مروا بِمَاء فيهم لديغ أَو سليم. [15] السَّلِيم: اللديغ. وَفِي تَسْمِيَته بذلك قَولَانِ: أَحدهمَا التفاؤل بالسلامة. وَالثَّانِي: أَنه أسلم لما بِهِ. [15] وَقَوله: فَإِن فِي المَاء. أَي فِي النازلين على المَاء. [15] وَقَوله: على شَاءَ. الْمَعْنى: أَنه لم يقْرَأ حَتَّى ضمنت لَهُ الشَّاء. وَهَذَا الحَدِيث يحْتَج بِهِ من يرى جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على الْقرب كالأذان وَالصَّلَاة وَتَعْلِيم الْقُرْآن وَغير ذَلِك، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَعند أبي حنيفَة لَا يجوز ذَلِك، وَهُوَ الْمَنْصُور من الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد. وعَلى هَذَا يكون تَأْوِيل الحَدِيث على أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يَكُونُوا لكَوْنهم نزلُوا بهم فَمَا أضافوهم، فاستجازوا أَخذ ذَلِك، لِأَن للضيف حَقًا، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مُسْند عقبَة بن عَامر. [15] وَيَأْتِي فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنهم استضافوهم فَلم يضيفوهم، وَأَنَّهُمْ استباحوا أَخذ الْأُجْرَة لكَوْنهم كفَّارًا، وَجعلُوا الرّقية حجَّة.(2/390)
909 - / 1083 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: قَالَ ابْن عَبَّاس: أَلا تعْجبُونَ لِابْنِ الزبير قَامَ فِي أمره هَذَا فَقلت: لأحاسبن نَفسِي لَهُ حسابا مَا حاسبته لأبي بكر وَعمر. [15] الْمَعْنى: لأناقشن نَفسِي فِي معونته والذب عَنهُ. [15] وَقَوله: ابْن عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَاهُنَا المُرَاد بهَا صَفِيَّة، فَإِن عبد الله بن الزبير ابْن ابْنهَا فنسبه إِلَيْهَا. وَإِنَّمَا قَالَ: ابْن أبي بكر، لِأَنَّهُ ابْن أَسمَاء بنت أبي بكر. وَإِنَّمَا قَالَ: ابْن أخي خَدِيجَة لِأَن الْعَوام وَخَدِيجَة ابْنا خويلد بن أَسد بن عبد الْعُزَّى، وَهُوَ ابْن أَخِيهَا، فأضافه إِلَى جده. [15] وَقَوله: وَأَبوهُ حوارِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي ناصره. [15] وَقَوله: ذَات النطاق، سَيَأْتِي شَرحه فِي مُسْند عَائِشَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. [15] وَقَوله: يتعالى عَليّ: أَي يترفع عَليّ. ويربيني: أَي يكون رَبًّا عَليّ وأميرا. [15] وَقَوله: بَنو عمي يُرِيد أَن عبد الْملك من بني عبد شمس، وَعبد شمس أَخُو هَاشم. [15] وَقَوله: كتب بني أُميَّة محلين. أَي محلين مَا حرم الله، يَعْنِي مستبيحين الْقِتَال فِي الْحرم.(2/391)
[15] وَقَوله: فآثر التويتات والأسامات والحميدات. يَعْنِي قوما من بني أَسد بن عبد الْعُزَّى، من قرَابَته، فَكَأَنَّهُ صغرهم وحقرهم. فتويت وَحميد وَأُسَامَة من بني عبد الْعُزَّى. [15] وَقَوله: برز يمشي القدمية. قَالَ أَبُو عبيد: يَعْنِي: المتبختر، وَإِنَّمَا هَذَا مثل، وَلم يرد بِهِ الْمَشْي بِعَيْنِه، وَلكنه أَرَادَ بِهِ: ركب معالي الْأُمُور وسعى فِيهَا وَعمل بهَا. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال: مَشى فلَان القدمية واليقدمية: أَي تقدم بهمته وأفعاله. [15] وَقَوله: لوى بِذَنبِهِ، يَعْنِي ابْن الزبير، أَي أَنه لم يبرز للمعروف ويبدي لَهُ صفحته، وَلكنه راغ عَن ذَلِك وَتَنَحَّى.
910 - / 1085 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: قَالَ ابْن عَبَّاس: {حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل وظنوا أَنهم قد كذبُوا} [يُوسُف: 110] ذهب بهَا هُنَاكَ، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاء، فَبلغ هَذَا عَائِشَة فَقَالَت: معَاذ الله، مَا وعد الله وَرَسُوله من شَيْء قطّ إِلَّا علم أَنه كَائِن قبل أَن يَمُوت، وَلَكِن لم يزل الْبلَاء بالرسل حَتَّى خَافُوا أَن يكون من مَعَهم يكذبونهم، وَكَانَت تقْرَأ: {كذبُوا} مُشَدّدَة. [15] وَأما قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل} فَمَعْنَاه: يئسوا من تَصْدِيق قَومهمْ. [15] وَأما {كذبُوا} فَقَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر بِالتَّشْدِيدِ، وعَلى هَذِه الْقِرَاءَة فِي الظَّن قَولَانِ: أَحدهَا: أَنه بِمَعْنى التَّرَدُّد فِي(2/392)
الشَّيْء، فَيكون الْمَعْنى: ظن الرُّسُل لقُوَّة الْبلَاء وَتَأْخِير النَّصْر أَن قَومهمْ الْمُؤمنِينَ قد كذبوهم بِمَا وعدوا بِهِ من النَّصْر حَتَّى استيأس الرُّسُل مِمَّن كذبهمْ من قَومهمْ، وظنوا أَن أتباعهم قد كذبوهم. وَهَذَا الَّذِي أشارت إِلَيْهِ عَائِشَة هُوَ فقه مِنْهَا وَفهم، ويبينه قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله} فَيَقُول الرَّسُول: {أَلا إِن نصر الله قريب} [الْبَقَرَة: 214] . وَالثَّانِي: أَن الظَّن بِمَعْنى الْيَقِين، كَقَوْلِه تَعَالَى: {الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا رَبهم} [الْبَقَرَة: 46] {إِنِّي ظَنَنْت أَنِّي ملاق حسابيه} [الحاقة: 20] فَيكون الْمَعْنى: تَيَقّن الرُّسُل أَن قَومهمْ الْكفَّار قد كذبوهم. وَهَذَا قَول الْحسن وَعَطَاء وَقَتَادَة. [15] وَقَرَأَ عَاصِم وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ {كذبُوا} خَفِيفَة، فَيكون الظَّن هَاهُنَا بِمَعْنى الشَّك والتردد، وَيكون فِي الْمَعْنى قَولَانِ: أَحدهمَا مَا حكيناه عَن ابْن عَبَّاس، وَقد فسره أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ فَقَالَ: يحْتَمل أَن يُقَال: إِن الرُّسُل عِنْد امتداد الْبلَاء وإبطاء النَّصْر دخلتهم الرِّيبَة حَتَّى توهموا أَن مَا جَاءَهُم من الْوَحْي كَانَ حسبانا مِنْهُم ووهما، فارتابوا بِأَنْفسِهِم وظنوا عَلَيْهَا الْغَلَط، كَقَوْلِك: كذب سَمْعِي وبصري. وَقد كَانَ نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بداية الْوَحْي يرتاب بِنَفسِهِ، ويشفق أَن يكون [الَّذِي] يتراءاه أمرا غير موثوق بِهِ، إِلَى أَن ثَبت الله عز وَجل قلبه، وَسكن كَذَلِك جأشه، ومرجع الْأَمر أَن الرِّيبَة ترجع إِلَى الوسائط الَّتِي هِيَ مُقَدمَات الْوَحْي لَا إِلَى الْوَحْي. قلت: وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه(2/393)
قَالَ يَوْمًا: " اللَّهُمَّ أَرِنِي آيَة لَا أُبَالِي من كَذبَنِي بعْدهَا " فقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يطْلب قُوَّة الدَّلِيل على مَا هُوَ فِيهِ. وَالْقَوْل الثَّانِي: ظن قَومهمْ أَن الرُّسُل قد كذبُوا فِيمَا وعدوا بِهِ من النَّصْر. [15] وَقَرَأَ أَبُو رزين وَمُجاهد وَالضَّحَّاك: {كذبُوا} بِفَتْح الذَّال وَالْكَاف، وَالْمعْنَى: ظن قَومهمْ أَيْضا أَنهم قد كذبُوا. [15] وَمَا ذهبت إِلَيْهِ عَائِشَة عَلَيْهَا السَّلَام أصح وَأقوى، لِأَن مَا ثَبت عِنْد الْأَنْبِيَاء ثَبت بالبرهان، وَحصل بِهِ الْيَقِين، وَالْيَقِين لَا يقبل التَّرَدُّد.
911 - / 1086 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فِي الْعَسَل، والحجم الشِّفَاء ". [15] وَقَالَ ابْن عَبَّاس: " الشِّفَاء فِي ثَلَاثَة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نَار، وَأَنا أنهى أمتِي عَن الكي " وَرفع الحَدِيث. [15] هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة قد تَضَمَّنت أصُول الْأَدْوِيَة، وَالَّذِي كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُشِير إِلَيْهِ فِي الطِّبّ يَنْقَسِم إِلَى مَا عرفه من طَرِيق الْوَحْي، وَإِلَى مَا عرفه من عادات الْعَرَب، وَإِلَى مَا يُرَاد مِنْهُ التَّبَرُّك، كالاستشفاء بِالْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا نهى عَن الكي لمشقته. وَقد تكلما على ذَلِك فِي مُسْند(2/394)
عمرَان بن حُصَيْن.
912 - / 1087 وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يطوف بِالْكَعْبَةِ بزمام أَو غَيره، فَقَطعه. الزِّمَام للناقة كالرسن للدابة. [15] والخزامة: حَلقَة من شعر تجْعَل فِي أحد جَانِبي المنخرين. [15] وَقد تضمن هَذَا الحَدِيث النَّهْي عَن الابتداع فِي الدّين وَإِن قصدت بِهِ الطَّاعَة.
913 - / 1088 وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: سُئِلَ ابْن عَبَّاس عَن قَوْله: {لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] قَالَ سعيد ابْن جُبَير: قربى آل مُحَمَّد. فَقَالَ ابْن عَبَّاس: عجلت. إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن بطن من قُرَيْش إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِ قرَابَة، فَقَالَ: إِلَّا أَن تصلوا مَا بيني وَبَيْنكُم من الْقَرَابَة. [15] اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْمُشْركين كَانُوا يُؤْذونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة، فَنزلت. وَالثَّانِي: أَنه لما قدم الْمَدِينَة كَانَت تنوبه نَوَائِب، وَلَيْسَ فِي يَده سَعَة، فَجمعت لَهُ الْأَنْصَار مَالا وأتوه بِهِ، فَنزلت، وَالْقَوْلَان عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَن الْمُشْركين قَالُوا بَينهم: أَتَرَوْنَ مُحَمَّدًا يسْأَل عَمَّا يتعاطاه أجرا، فَنزلت، قَالَه قَتَادَة.(2/395)
وَالْهَاء فِي (عَلَيْهِ) كِنَايَة عَمَّا جَاءَ بِهِ من الْهدى. [15] وَفِي الِاسْتِثْنَاء قَولَانِ: أَحدهمَا: من الْجِنْس، فَيكون على هَذَا سَائِلًا أجرا. وَقد أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنى ابْن عَبَّاس فِيمَا رَوَاهُ عَن الضَّحَّاك، ثمَّ قَالَ: نسخت بقوله: {قل مَا سألتكم من أجر فَهُوَ لكم إِن أجري إِلَّا على الله وَهُوَ على كل شَيْء شَهِيد} [سبأ: 47] وَهَذَا مَذْهَب مقَاتل. وَالثَّانِي: أَنه اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، لِأَن الْأَنْبِيَاء لَا يسْأَلُون عَن تبليغهم أجرا، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: لكني أذكركم الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى، رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ اخْتِيَار الْمُحَقِّقين فَلَا يتَوَجَّه النّسخ أصلا. [15] وَفِي المُرَاد بالقربى خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن معنى الْكَلَام إِلَّا أَن تودوني لقرابتي مِنْكُم. وَلم يكن بطن من قُرَيْش إِلَّا وَله فيهم قرَابَة، وَهَذَا مَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ الْأَكْثَرُونَ. وَالثَّانِي: إِن الْمَعْنى: إِلَّا أَن تودوا قَرَابَتي، قَالَه على بن الْحُسَيْن وَسَعِيد بن جُبَير وَالسُّديّ. وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى: إِلَّا أَن تودوا إِلَى الله تَعَالَى بِمَا يقربكم إِلَيْهِ من الْعَمَل، قَالَه الْحسن وَقَتَادَة. وَالرَّابِع: إِلَّا أَن تودوني كَمَا تودون قرابتكم، قَالَه ابْن زيد. وَالْخَامِس: إِلَّا أَن تودوا قرابتكم وتصلوا أَرْحَامكُم. حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ، وَالْأول أصح.
914 - / 1089 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: قَالَ ابْن عَبَّاس: ثَلَاث من خلال الْجَاهِلِيَّة: الطعْن فِي الْأَنْسَاب، والنياحة، وَنسي الرَّاوِي الثَّالِثَة. قَالَ سُفْيَان: وَيَقُولُونَ: إِنَّهَا الاسْتِسْقَاء بالأنواء.(2/396)
[15] أما الطعْن فِي الْأَنْسَاب فَهُوَ نوع (الْقَذْف، وَأما النِّيَاحَة فتجمع بَين الاستغاثة على الْقدر وَالْكذب فِي ذكر محَاسِن الْمَيِّت، وَإِظْهَار الْجزع والحث عَلَيْهِ. وَأما الاسْتِسْقَاء بالأنواء فقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند زيد ابْن خَالِد الْجُهَنِيّ.
915 - / 1090 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَيْت فَوجدَ فِيهِ صُورَة إِبْرَاهِيم وَصُورَة مَرْيَم، فَقَالَ: " أما هم فقد سمعُوا أَن الْمَلَائِكَة لَا تدخل بَيْتا فِيهِ صُورَة. هَذَا إِبْرَاهِيم مُصَور فَمَاله يستقسم ". [15] قد ذكرنَا فِي هَذَا الحَدِيث لفظين: أَحدهمَا يدل على أَنهم صوروا هَذِه الصُّور فِي حيطان الْبَيْت، وَهُوَ قَوْله: فَأمر بهَا فمحيت. وَاللَّفْظ الثَّانِي: يحْتَمل أَن يَكُونُوا صوروا لَهَا كِتَابَة كَمَا يصور الجص، وَيحْتَمل أَن يَكُونُوا جعلوها على هَيْئَة الْأَصْنَام مُفْردَة، وَهُوَ قَوْله: فأخرجوا صُورَة إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل فِي أَيْدِيهِمَا الأزلام. [15] والاستقسام: طلب علم مَا قسم للمستقسم، وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تستقسم بالأزلام. وَقد فسرنا الأزلام فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص. [15] وَفِي قَوْله: " قَاتلهم الله " ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: لعنهم الله، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: قَتلهمْ، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة. وَالثَّالِث: عاداهم الله، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي.(2/397)
[15] وَقَوله: لم يصل فِيهِ. مَحْمُول على أول دُخُوله إِلَيْهِ، وَإِلَّا فقد ثَبت أَنه صلى فِي الْبَيْت.
916 - / 1091 وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ السَّعْي بِبَطن الْوَادي بَين الصَّفَا والمروة سنة، إِنَّمَا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ: لَا نجيز الْبَطْحَاء إِلَّا شدا. [15] قَالَ الزّجاج: الصَّفَا فِي اللُّغَة: الْحِجَارَة الصلبة الصلدة الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا، وَهُوَ جمع واحده صفاة. والمرة: الْحِجَارَة اللينة وهما جبلان معروفان. [15] والبطحاء: مَكَان متسع. [15] والشد: الْعَدو. [15] وَفِي السَّعْي عَن أَحْمد ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهُنَّ: أَنه ركن فِي الْحَج، لَا يَنُوب عَنهُ الدَّم، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَالثَّانيَِة: أَنه لَيْسَ بِرُكْن، فَيجب بِتَرْكِهِ دم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَالثَّالِثَة: أَنه تطوع، نقلهَا الْمَيْمُونِيّ. وَهَذَا الحَدِيث يدل عَلَيْهَا.
917 - / 1092 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: انْطلق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمَدِينَة بَعْدَمَا ترجل وادهن.(2/398)
[15] التَّرَجُّل: تَسْرِيح الشّعْر. [15] والمزعفرة: الَّتِي تشبع بالزعفران. [15] وَقَوله: الَّتِي تردغ على الْجلد. كَذَا وَقع، وَصَوَابه: تردغ الْجلد: أَي تصبغه، وينفض صبغها عَلَيْهِ. وأصل الردغ فِي هَذَا الصَّبْغ والتأثير، وَيُقَال: ثوب رديغ: أَي مصبوغ، وردغه بالزعفران صبغه. [15] وَقَوله: أهل. الإهلال رفع الصَّوْت بالتلبيه.
918 - / 1093 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: قَالَ ابْن عَبَّاس: يطوف الرجل بِالْبَيْتِ مَا كَانَ حَلَالا حَتَّى يهل بِالْحَجِّ، فَإِذا ركب إِلَى عَرَفَة فَمن تيَسّر لَهُ هَدْيه من الْإِبِل أَو الْبَقر أَو الْغنم، فَمَا تيَسّر لَهُ من ذَلِك. [15] إِنَّمَا أَشَارَ بِهَذَا إِلَى الْمُتَمَتّع، فَإِنَّهُ إِذا قضى عمرته طَاف مَا شَاءَ، فَإِذا أهل بِالْحَجِّ فَعَلَيهِ مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي.
919 - / 1094 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث أَبَا بكر على الْحَج يخبر النَّاس بمناسكهم، ويبلغهم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أَتَوا عَرَفَة من قبل ذِي الْمجَاز، فَلم يقرب الْكَعْبَة،(2/399)
وَلَكِن شمر إِلَى ذِي الْمجَاز، وَذَلِكَ أَنهم: اسْتَمْتعُوا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج. [15] هَذَا الحَدِيث كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن أَبَا بكر ابْتِدَاء بِمَوْسِم عَرَفَة لينادي ب " بَرَاءَة " وَيَقُول: لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك. [15] 920 / 1095 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: قلت لِابْنِ عَبَّاس: اسجد فِي (ص) ؟ فَقَرَأَ: {فبهداهم اقتده} [الْأَنْعَام:] وَفِي لفظ: لَيست من عزائم السُّجُود، وَقد رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْجد فِيهَا. [15] اخْتلف الْفُقَهَاء فِي هَذِه السَّجْدَة، فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك هِيَ من سُجُود التِّلَاوَة وَقَالَ الشَّافِعِي: لَيست بِسَجْدَة، وَعَن أَحْمد كالمذهبين، والمنصور مِنْهُمَا كَقَوْل الشَّافِعِي.
921 - / 1096 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل الْقصاص، وَلم تكن فيهم الدِّيَة. [15] قد فسر هَذَا سعيد بن جُبَير فَقَالَ: كَانَ حكم الله على أهل التَّوْرَاة أَن يقتل قَاتل الْعمد وَلَا يُعْفَى عَنهُ وَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ دِيَة، فَرخص الله لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن شَاءَ الْمَقْتُول عمدا قتل، وَإِن شَاءَ عَفا، وَإِن شَاءَ أَخذ الدِّيَة.(2/400)
رنمة الشَّاة. [15] اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي العتل على سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا أَنه العاتي الشَّديد الْمُنَافِق، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: المتوفر الْجِسْم، قَالَه الْحسن. وَالثَّالِث: الشَّديد الأشر، قَالَه مُجَاهِد. وَالرَّابِع: الْقوي فِي كفره، قَالَه عِكْرِمَة. وَالْخَامِس: الأكول الشروب الْقوي الشَّديد، قَالَه عبيد بن عُمَيْر. وَالسَّادِس: الشَّديد الْخُصُومَة بِالْبَاطِلِ، قَالَه الْفراء. وَالسَّابِع: الغليظ الجافي، قَالَه ابْن قُتَيْبَة. [15] وَفِي الزنيم أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الدعي فِي قُرَيْش وَلَيْسَ مِنْهُم، رَوَاهُ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، وَهَذَا مَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الزنيم هُوَ الملصق فِي الْقَوْم وَلَيْسَ مِنْهُم، وَبِه قَالَ الْفراء وَأَبُو عُبَيْدَة وَابْن قُتَيْبَة. قَالَ حسان:
(وَأَنت زنيم نيط فِي آل هَاشم ... كَمَا نيط خلف الرَّاكِب الْقدح الْفَرد)
[15] وَالثَّانِي: أَنه الَّذِي يعرف بِالشَّرِّ كَمَا تعرف الشَّاة بزنمتها، رَوَاهُ سعيد ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَنه الَّذِي لَهُ زنمة مثل زنمة الشَّاة، قَالَه ابْن عَبَّاس، نعت فَلم يعرف حَتَّى قيل لَهُ زنيم فَعرف، وَكَانَت لَهُ زنمة فِي عُنُقه يعرف بهَا، قَالَ الزّجاج: والزنمتان المعلقتان عِنْد حلق المعزى. وَالرَّابِع: انه الظلوم، رَوَاهُ الْوَالِبِي عَن ابْن عَبَّاس. [15] وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْمَوْصُوف بِهَذِهِ الصّفة على ثَلَاثَة أَقْوَال:(2/401)
أَحدهَا: أَنه الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَمُقَاتِل وَالْجُمْهُور. قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا نعلم أَن الله تَعَالَى بلغ من ذكر عُيُوب أحد مَا بلغه من ذكر عُيُوب الْوَلِيد، لِأَنَّهُ وصف بِالْحلف والمهانة وَالْعَيْب للنَّاس وَالْمَشْي بالنميمة وَالْبخل وَالظُّلم وَالْإِثْم والجفاء والدعوة، فَألْحق بِهِ عارا لَا يُفَارِقهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَالثَّانِي: أَنه الْأَخْنَس بن شريق، قَالَه عَطاء وَالسُّديّ. وَالثَّالِث: أَنه الْأسود بن عبد يَغُوث. قَالَه مُجَاهِد.
923 - / 1099 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: {لتركبن طبقًا عَن طبق} [الانشقاق: 19] حَالا بعد حَال. قَالَ: هَذَا نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله. [15] اعْلَم أَن الْقُرَّاء اخْتلفُوا فِي قِرَاءَة {لتركبن} فَقَرَأَ ابْن كثير وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِفَتْح التَّاء وَالْبَاء، وَفِي الْمَعْنى قَولَانِ: أَحدهمَا: لتركبن سَمَاء بعد سَمَاء، قَالَه ابْن مَسْعُود وَالشعْبِيّ وَمُجاهد. وَالثَّانِي: لتركبن حَالا بعد حَال، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْإِشَارَة إِلَى السَّمَاء، وَالْمعْنَى أَنَّهَا تَتَغَيَّر ضروبا من التَّغْيِير، فَتَارَة كَالْمهْلِ، وَتارَة كالدهان، رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَيْضا. [15] وَقَرَأَ نَافِع وَعَاصِم وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر {لتركبن} بِفَتْح التَّاء وَضم الْبَاء، وَهُوَ خطاب لجَمِيع النَّاس، وَمَعْنَاهُ: لتركبن حَالا بعد حَال، ثمَّ(2/402)
فِي معنى الْكَلَام خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: الشدائد والأهوال، ثمَّ الْمَوْت، ثمَّ الْبَعْث، ثمَّ الْعرض، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنه الرخَاء بعد الشدَّة والشدة بعد الرخَاء، والغنى بعد الْفقر والفقر بعد الْغنى، وَالصِّحَّة بعد السقم والسقم بعد الصِّحَّة قَالَه الْحسن. وَالثَّالِث: أَنه كَون الْإِنْسَان رضيعا، ثمَّ فطيما، ثمَّ غُلَاما، ثمَّ شَابًّا، ثمَّ شَيخا، قَالَه عِكْرِمَة. وَالرَّابِع: أَنه تَغْيِير حَال الْإِنْسَان فِي الْآخِرَة بعد الدُّنْيَا، فيرتفع من كَانَ وضيعا، ويتضع من كَانَ رفيعا، قَالَه سعيد ابْن جُبَير. وَالْخَامِس: أَنه ركُوب سنَن من كَانَ قبلهم من الْأَوَّلين، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة. [15] وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَأَبُو الجوزاء وَأَبُو الْأَشْهب {ليركبن} بِالْيَاءِ وَنصب الْبَاء، وَقَرَأَ أَبُو المتَوَكل وَأَبُو عمرَان وَابْن يعمر {ليركبن} بِالْيَاءِ وَرفع الْبَاء. [15] فَأَما (عَن) فَهِيَ بِمَعْنى بعد فِي قَول عَامَّة الْمُفَسّرين واللغويين.
924 - / 1100 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: {إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم} [الْأَنْفَال: 22] قَالَ: هم نفر من بني عبد الدَّار. [15] الدَّوَابّ: اسْم لكل حَيَوَان يدب. [15] والصم: جمع أَصمّ، والصمم: انسداد منافذ السّمع، وَهُوَ أَشد من الطرش. والبكم جمع أبكم: وَهُوَ الْأَخْرَس. وَهَذِه الْآيَة نزلت فِي نفر من بني عبد الدَّار بن قصي، وَمَا كَانَ الْقَوْم صمًّا وَلَا بكما حَقِيقَة، وَلَكنهُمْ لما أَعرضُوا عَن سَماع مَا يهْدِيهم والتكلم بِمَا يَنْفَعهُمْ(2/403)
كَانُوا كالصم الْبكم.
925 - / 1102 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: {ألم تَرَ إِلَى الَّذين بدلُوا نعمت الله كفرا} [إِبْرَاهِيم: 28] هم قُرَيْش. [15] هَذِه النِّعْمَة أَن الله عز وَجل تفضل عَلَيْهِم بِأَن أسكنهم حرمه، وَبعث إِلَيْهِم رَسُولا من أنفسهم، فَأوجب عَلَيْهِم بذلك الشُّكْر، وَأول مقامات الشُّكْر الطَّاعَة، فبدلوا الشُّكْر كفرا، ودعوا قَومهمْ إِلَى الْكفْر، فَذَلِك قَوْله: {وَأَحلُّوا قَومهمْ دَار الْبَوَار} يَعْنِي دَار الْهَلَاك، ثمَّ فسر الدَّار بقوله: {جَهَنَّم} وَإِنَّمَا أحلوهم النَّار يَوْم بدر، لأَنهم لما قتلوا يَوْمئِذٍ على الْكفْر دخلُوا عقيب الْقَتْل النَّار.
926 - / 1103 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: أَنه كَانَت سُكْنى الْحول للمتوفى عَنْهَا زَوجهَا وَاجِبَة لقَوْله: {غير إِخْرَاج} [الْبَقر: 240] . [15] اعْلَم أَن هَذَا مِمَّا نسخ، كَقَوْلِه: كَانَ على الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا أَن تَعْتَد سنة وَالنَّفقَة عَلَيْهَا من مَاله، فنسخت السّنة بأَرْبعَة اشهر وَعشر، وَالنَّفقَة بِالْمِيرَاثِ.
927 - / 1104 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: قَرَأَ ابْن عَبَّاس {وعَلى الَّذين يطوقونه فديَة} [الْبَقَرَة: 184] قَالَ: لَيست بمنسوخة؛ هِيَ(2/404)
للشَّيْخ الْكَبِير وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة لَا يستطيعان أَن يصوما ويطعمان عَن كل يَوْم مِسْكينا. [15] معنى يطوقونه: يحملونه وَيُكَلِّفُونَهُ وَلَيْسوا مطيقين لَهُ، فَهَؤُلَاءِ يطْعمُون وَلَا يَصُومُونَ.
928 - / 1109 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: {يغلبوا مِائَتَيْنِ} [الْأَنْفَال: 65] . [15] لفظ هَذَا الْكَلَام لفظ الْخَبَر وَمَعْنَاهُ الْأَمر، وَالْمرَاد: يقاتلوا مِائَتَيْنِ، فَفرض على الرجل أَن يثبت لِرجلَيْنِ، فَإِن زادوا جَازَ لَهُ الْفِرَار.
929 - / 1110 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: {أَلا إِنَّهُم يثنون صُدُورهمْ} [هود: 5] فَسَأَلته عَنْهَا، قَالَ: كَانَ النَّاس يستحيون أَن يتخلوا فيفضوا إِلَى السَّمَاء أَبُو يجامعوا نِسَاءَهُمْ فيفضوا إِلَى السَّمَاء فَنزل ذَلِك فيهم. [15] اعْلَم أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة على خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: مَا ذَكرْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنَّهَا نزلت فِي الْأَخْنَس بن شريق كَانَ يُجَالس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيحلف أَنه يُحِبهُ، ويضمر خلاف مَا يظْهر لَهُ، رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَنَّهَا نزلت فِي بعض الْمُنَافِقين، كَانَ إِذا مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثنى صَدره وظهره وطأطأ رَأسه وغطى وَجهه كَيْلا يرَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَه عبد الله بن شَدَّاد. وَالرَّابِع: أَن طَائِفَة من الْمُشْركين قَالُوا: إِذا غلقنا(2/405)
أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عَدَاوَة مُحَمَّد، كَيفَ يعلم بِنَا، فَأخْبر الله تَعَالَى عَمَّا كتموه، ذكره الزّجاج. وَالْخَامِس: أَنَّهَا نزلت فِي قوم كَانُوا لشدَّة عداوتهم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سمعُوا مِنْهُ الْقُرْآن حنوا صُدُورهمْ ونكسوا رؤوسهم وتغشوا ثِيَابهمْ ليبعد عَنْهُم صَوت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا يدْخل أسماعهم شَيْء من الْقُرْآن، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي. [15] وَمعنى يثنون: يعطفون ويطوون. ولماذا كَانُوا يثنونها؟ فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: حَيَاء من الله، وَهُوَ يخرج على مَا فِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنهم كَانُوا يثنونها على عَدَاوَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: على الْكفْر، قَالَه مُجَاهِد. وَالرَّابِع: لِئَلَّا ليستمعوا كتاب الله، قَالَه قَتَادَة. وَالْخَامِس: إِذا ناجى بَعضهم بَعْضًا فِي أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَه ابْن زيد. [15] فَأَما قِرَاءَة ابْن عَبَّاس (يثنوني) على " يفعوعل " فَهُوَ فعل للمصدر، وَمَعْنَاهُ. [15] الْمُبَالغَة فِي تثني الصُّدُور، كَمَا تَقول الْعَرَب: احلولي الشي يحلولي: إِذا بالغوا فِي وَصفه بالحلاوة، قَالَ عنترة:
(أَلا قَاتل الله الطلول البواليا ... وَقَاتل ذكرا كالسفين الخواليا)
(وقولك للشَّيْء الَّذِي لَا تناله ... إِذا مَا هُوَ احلولي: أَلا لَيْت ذَا ليا)(2/406)
930 - / 1111 وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: قَالَ سعيد بن جُبَير: سلوني، فَإِنِّي قد أوشكت أَن أذهب. وَحدث عَن ابْن عَبَّاس: أول مَا اتخذ النِّسَاء الْمنطق من قبل أم إِسْمَاعِيل، اتَّخذت منطقا لتعفي أَثَرهَا على سارة. [15] وَقَوله: أوشكت أَن أذهب: أَي قربت من الْمَوْت. والوشيك: الْقَرِيب. [15] والمنطق: كل شَيْء شددت بِهِ وسطك، وَجمعه مناطق، وَهُوَ للنِّسَاء، ثوب يشددنه على الحقو. [15] وَمعنى: لتعفي أَثَرهَا: أَي تسحب طرف ذَلِك الثَّوْب على التُّرَاب فتمحو أثر خطواتها. وَهَذَا فعلته لما كَانَت عِنْدهَا. وَسبب ذَلِك أَن الْوَلَد كَانَ أَبْطَأَ على سارة، فَوهبت هَاجر لإِبْرَاهِيم، فَلَمَّا رزق مِنْهَا إِسْمَاعِيل غارت وَقَالَت: لَا تساكنيني فِي بلد، فَكَانَت هَاجر تقصد أَن تخفى على سارة، واتخذت الْمنطق، ثمَّ خرج بهَا إِبْرَاهِيم وبابنها وَهُوَ رَضِيع. [15] والدوحة: الشَّجَرَة الْعَظِيمَة. [15] والسقاء: إهَاب فِيهِ مَاء. [15] والشنة: الْقرْبَة الْخلقَة. [15] وقفى بِمَعْنى ولى وَذهب. [15] والبنية: مَوضِع الْبَيْت.(2/407)
[15] وَقَوله: واستقبل بِوَجْهِهِ الْبَيْت، لِأَن الْبَيْت لم يكن حِينَئِذٍ قد بني. [15] وَقَوله: يتلوى. التلوي والتلبط: التمرغ والتقلب. [15] وَقَوله: ينشغ للْمَوْت. قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس: النشغ مثل الشهيق عِنْد الشوق. والنواشغ: أعالي الْوَادي، الْوَاحِدَة ناشغة. [15] والمجهود: المشقوق عَلَيْهِ الَّذِي قد نَالَ جهدا، أَي مَا فِيهِ كلفة ومشقة. [15] وصه: أَمر بِالسُّكُوتِ. [15] والغواث والغياث والغوث: إِجَابَة المتسغيث. وَرُبمَا ضم عين الغواث بعض قرأة الحَدِيث. وَقَالَ لنا ابْن الخشاب: هُوَ بِالْفَتْح. [15] والعقب: مُؤخر الرجل. [15] وتحوضه: تجْعَل لَهُ كالحوض. [15] وتحفن: تجمع. وَقد رُوِيَ: تحفر: أَي ليجتمع المَاء فِي الحفرة. [15] والمعين: المَاء الظَّاهِر، وَهُوَ " مفعول " من الْعين؛ وَهَذَا لِأَن إِجْرَاء تِلْكَ الْعين كَانَ إنعاما مَحْضا لم يشبه كسب البشرية، فَلَمَّا دخل الْحَوْض وقف الإنعام ووكلت إِلَى تدبيرها. [15] وَقَوله: لَا تخافوا الضَّيْعَة: يَعْنِي الضّيَاع. والرابية: الْمَكَان الْمُرْتَفع.(2/408)
[15] وكداء مَوضِع بِمَكَّة مَعْرُوف، بِفَتْح الْكَاف مَعَ الْمَدّ، وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّة إِذا صعد فِيهِ الْآتِي من طَرِيق الْعمرَة، وَمَا هُنَالك انحدر بِهِ إِلَى الْمَقَابِر وَإِلَى المحصب. وَثمّ مَوضِع آخر يُقَال لَهُ كداً بِالْقصرِ وتنوين الدَّال، وَهُوَ أَسْفَل مَكَّة، يدْخل فِيهِ الدَّاخِل بعد أَن ينْفَصل من ذِي طوى، وَهُوَ بِقرب شعب الشافعيين عِنْد قيقعان، وَهُوَ المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث؛ لِأَنَّهُ قَالَ: فنزلوا أَسْفَل مَكَّة. وَهُنَاكَ مَوضِع ثَالِث يُقَال لَهُ كدي. مصغر، وَإِنَّمَا هُوَ لمن خرج من مَكَّة إِلَى الْيمن فِي طَرِيقه. وَلَيْسَ من هذَيْن المقدمين فِي شَيْء. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي: هَكَذَا كَانَ شَيخنَا أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْعَزِيز العذري يخبر بالأندلس عَن هَذِه الْمَوَاضِع عَن كل من لَقِي بِمَكَّة من أهل الْمعرفَة بمواضعها. وَكَانَ سَائِر مَشَايِخنَا هُنَالك يستفيدون ذَلِك مِنْهُ ويأخذونه عَنهُ. [15] والعائف: الَّذِي يتَرَدَّد ويحوم حول المَاء وَلَا يبرح. [15] والجري: الرَّسُول. والجري أَيْضا الْوَكِيل، سميا بذلك لِأَنَّهُمَا يجريان مجْرى الْمُرْسل وَالْمُوكل. [15] وَقَوله: وأنفسهم: أَي أعجبهم فرغبوا فِي مصاهرته. [15] وَقَوله: فَكَأَنَّهُ أنس شَيْئا: أَي وجد وَأبْصر أثر زائر. [15] والأكمة: مَا ارْتَفع من الأَرْض، وَجَمعهَا أكم، ثمَّ تجمع على الأكام والإكام. [15] وَالْقَوَاعِد: أساس الْبَيْت، واحدتها قَاعِدَة، وَأما قَوَاعِد النِّسَاء(2/409)
فواحدتها قَاعد. قَالَ عَليّ بن أبي طَالب: حفر إِبْرَاهِيم فأبدى عَن قَوَاعِد، مَا يُحَرك الْقَاعِدَة دون ثَلَاثِينَ رجلا. قَالَ ابْن عَبَّاس: رفع الْقَوَاعِد الَّتِي كَانَت قَوَاعِد قبل ذَلِك.
931 - / 1114 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: حرم من النّسَب سبع، وَمن الصهر سبع، ثمَّ قَرَأَ: {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} [النِّسَاء: 23] . هَذِه الْآيَة قد جمعت الْكل، فَمن أَولهَا إِلَى قَوْله: {وَبَنَات الْأُخْت} هن الْمُحرمَات من النّسَب، والباقيات هن الْمُحرمَات من الصهر.
932 - / 1115 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: {وَلكُل جعلنَا موَالِي} [النِّسَاء: 33] قَالَ: وَرَثَة. وَقَوله: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لما قدمُوا الْمَدِينَة يَرث الْمُهَاجِرِي الْأنْصَارِيّ دون رَحمَه، للأخوة الَّتِي آخى النَّبِي، فَلَمَّا نزلت: {وَلكُل جعلنَا موَالِي} نسختها، ثمَّ قَالَ: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} إِلَّا النَّصْر والرفادة والنصيحة، وَقد ذهب الْمِيرَاث ويوصي لَهُ. [15] قلت: كَانَ جمَاعَة من الْمُحدثين يروون من حفظهم، فتقصر عبارتهم خُصُوصا الْعَجم، فَلَا يبين للْكَلَام رونق مثل هَذِه الْأَلْفَاظ فِي(2/410)
هَذَا الحَدِيث وَتَحْقِيق هَذَا الحَدِيث وَبَيَانه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ، وَقد سمينا من أحصينا من الْكل فِي كتَابنَا الْمُسَمّى بالتلقيح. فَكَانُوا يتوارثون بِتِلْكَ الْأُخوة ويرونها دَاخِلَة فِي قَوْله: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم} فَلَمَّا نزل قَوْله تَعَالَى: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} [الْأَنْفَال: 75] نسخ الْمِيرَاث بَين الْمُتَعَاقدين وَبَقِي النَّصْر والرفادة وَجَوَاز الْوَصِيَّة لَهُم. وَفِي رِوَايَة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {عاقدت أَيْمَانكُم} قَالَ: كَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة يلْحق بِهِ الرجل فَيكون تَابعه، فَإِذا مَاتَ الرجل صَار لأقاربه الْمِيرَاث وَبَقِي تَابعه لَيْسَ لَهُ شَيْء، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَالَّذين عاقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم} فَكَانَ يعْطى من مِيرَاثه. ثمَّ أنزل الله تَعَالَى: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} [الْأَنْفَال: 75] فنسخ ذَلِك.
923 - / 1119 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: جمعت الْمُحكم فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قيل: وَمَا الْمُحكم؟ قَالَ: الْمفصل. [15] قد سبق بَيَان الْمفصل فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
934 - / 1120 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: هما واليان: وَال يَرث، ووال لَا يَرث، وَذَلِكَ الَّذِي يُقَال لَهُ الْمَعْرُوف. [15] الْإِشَارَة إِلَى قَوْله: {وَإِذا حضر الْقِسْمَة أولُوا الْقُرْبَى} [النِّسَاء: 8](2/411)
[15] وللمفسرين فِي المُرَاد بِهَذِهِ الْقِسْمَة قَولَانِ: أَحدهمَا: قسْمَة الْمِيرَاث بعد موت الْمَوْرُوث، فَيكون الْخطاب للوارثين، هَذَا قَول الْجُمْهُور. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَصِيَّة الْمَيِّت قبل مَوته، فَيكون مَأْمُورا بِأَن يعين لمن لَا يَرِثهُ شَيْئا، قَالَه ابْن زيد. وعَلى مَا ذكره ابْن عَبَّاس يكون الْمشَار بِأولى الْقُرْبَى إِلَى من يَرث وَمن لَا يَرث من الْقرَابَات، وَيكون قَوْله: {فارزقوهم} عَائِدًا على الْوَارِث. وَقَوله: {وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا} عَائِدًا إِلَى من لَا يَرث. وَالْأَكْثَرُونَ من الْمُفَسّرين قَالُوا: المُرَاد بأولي الْقُرْبَى هَاهُنَا من لَا يَرث، وفسروا قَوْله: {فارزقوهم} فَقَالَ قوم: أعطوهم من المَال. وَقَالَ آخَرُونَ: أطعموهم، وَذَلِكَ على سَبِيل الِاسْتِحْبَاب، وَذهب قوم إِلَى أَن ذَلِك وَاجِب فِي المَال، فَإِن كَانَ الْوَرَثَة كبارًا توَلّوا إعطاءهم، وَإِن كَانُوا صغَارًا تولى ذَلِك عَنْهُم ولي مَالهم. فَروِيَ عَن عبيده أَنه قسم مَال أَيْتَام فَأمر بِشَاة فاشتريت من مَالهم، وبطعام فَصنعَ، وَقَالَ: لَوْلَا هَذِه الْآيَة لأحببت أَن يكون من مَالِي. وَكَذَلِكَ فعل مُحَمَّد بن سِيرِين فِي أَيْتَام وليهم. وَقَالَ الْحسن وَالنَّخَعِيّ: يُعْطون من المَال وَيُقَال لَهُم عِنْد قسْمَة الْأَرْضين وَالرَّقِيق: بورك فِيكُم، وَهَذَا القَوْل الْمَعْرُوف. وَقد رُوِيَ عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس أَن هَذِه الْآيَة نسخت بقوله: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] وَهُوَ مَذْهَب سعيد بن الْمسيب وَعِكْرِمَة وَقَتَادَة الضَّحَّاك فِي آخَرين.
935 - / 1121 وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أَنه قَالَ فِي الْكَوْثَر: هُوَ الْخَيْر الَّذِي أعطَاهُ الله إِيَّاه.(2/412)
[15] اعْلَم أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي الْكَوْثَر على سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه نهر فِي الْجنَّة. وَسَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه فسره بنهر فِي الْجنَّة. وَالثَّانِي: الْخَيْر الْكثير الَّذِي أعْطِيه نَبينَا، وَهَذَا الْمَذْكُور فِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: الْعلم وَالْقُرْآن، قَالَه الْحسن. وَالرَّابِع: النُّبُوَّة، قَالَه عِكْرِمَة. وَالْخَامِس: أَنه حَوْض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكثر النَّاس عَلَيْهِ، قَالَه عَطاء. وَالسَّادِس: أَنه كَثْرَة اتِّبَاعه وَأمته، قَالَه أَبُو بكر بن عَيَّاش. وَلَا يَنْبَغِي أَن يعْتَمد إِلَّا على القَوْل الأول، لِأَنَّهُ إِذا صَحَّ الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبْق لقَائِل قَول.
936 - / 1123 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِلْمِقْدَادِ: " إِذا كَانَ رجل مُؤمن يخفي إيمَانه مَعَ قوم كفار فأظهر إيمَانه فَقتلته، فَكَذَلِك كنت أَنْت تخفي إيمانك بِمَكَّة ". [15] قيل: سَبَب هَذَا القَوْل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث سَرِيَّة فِيهَا الْمِقْدَاد، فَلَمَّا أَتَوا الْقَوْم وجدوهم قد تفَرقُوا وَبَقِي رجل لَهُ مَال كثير، فَقَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، فَأَهوى إِلَيْهِ الْمِقْدَاد فَقتله، فَلَمَّا قدمُوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخْبرُوهُ بذلك، فَقَالَ: " يَا مقداد، أقتلت رجلا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله؟ فَكيف بِلَا إِلَه إِلَّا الله غَدا؟ " فَنزل قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله فَتَبَيَّنُوا} [النِّسَاء: 94] رَوَاهُ سعيد بن جُبَير عَن(2/413)
ابْن عَبَّاس.
937 - / 1124 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: سُئِلَ ابْن عَبَّاس: مثل من أَنْت حِين قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: أَنا يَوْمئِذٍ مختون، وَكَانُوا لَا يختنون الرجل حَتَّى يدْرك. [15] قد بَينا أول هَذَا الْمسند أَنه ولد قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين، فَيكون حِين قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن ثَلَاث عشرَة، وَقد يبلغ الصَّبِي لَهَا ولاثنتي عشرَة سنة.
938 - / 1125 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: أَنه دفع مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم عَرَفَة، فَسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَاءه زجرا شَدِيدا وَضَربا لِلْإِبِلِ، فَقَالَ: " عَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ، فَإِن الْبر لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ ". السكينَة بِمَعْنى السّكُون. وَالْبر: الطَّاعَة. والإيضاع: الْإِسْرَاع.
939 - / 1126 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: كَانَ يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن: " أُعِيذكُمَا بِكَلِمَات الله التَّامَّة من كل شَيْطَان وَهَامة، وَمن كل عين لَامة ". [15] المُرَاد بِكَلِمَات الله قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه كَلَامه على الْإِطْلَاق، وَلَا نقص فِيهِ، إِذا كَلَام المخلوقين لَا يَخْلُو من نقص يعاب بِهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: تَمامهَا: فَضلهَا وبركتها، وَأَنه لَا تخفق مَعهَا طلبة.(2/414)
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أقضيته وعداته الَّتِي تتضمنها كَلِمَاته، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وتمت كلمت رَبك الْحسنى على بني إِسْرَائِيل} [الْأَعْرَاف: 137] فكلمته هِيَ قَوْله: {ونريد أَن نمن على الَّذين استضعفوا فِي الأَرْض} [الْقَصَص: 5] قَالَ الْخطابِيّ: وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يسْتَدلّ بقوله: " كَلِمَات الله التَّامَّة " على أَن الْقُرْآن غير مَخْلُوق، وَيَقُول: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يستعيذ بمخلوق. [15] وَفِي الهامة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا كل نسمَة تهم بِسوء، قَالَه ابْن الْأَنْبَارِي. وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَاحِدَة الْهَوَام، والهوام الْحَيَّات وكل ذِي سم يقتل. فَأَما مَاله سم إِلَّا أَنه لَا يقتل فَهِيَ السوام، كالعقرب والزنبور. وَأما مَا يُؤْذِي وَلَيْسَ بِذِي سم كالقنافذ والخنافس والفأر واليربوع فَهِيَ القوام. وَقد تقع الهامة على كل مَا يدب من الْحَيَوَان، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لكعب: " أَيُؤْذِيك هوَام رَأسك؟ " يَعْنِي الْقمل. [15] وَقَوله: " من كل عين لَامة " قَالَ أَبُو عبيد: أَصْلهَا من أَلممْت إلماما، وَلم يقل ملمة، كَأَنَّهَا أَرَادَ أَنَّهَا ذَات لمَم. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: اللامة الملمة، وَهِي الْآتِيَة فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت. قَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ لَامة وقياسها ملمة ليُوَافق لفظ هَامة فَيكون ذَلِك أخف على اللِّسَان. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: اللامة: ذَات اللمم، وَهِي كل دَاء وَآفَة تلم بالإنسان من جُنُون وخبل وَغير ذَلِك.(2/415)
940 - / 1128 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: {وَمن النَّاس من يعبد الله على حرف} [الْحَج: 11] . [15] قَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: على شكّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل شَاك فِي شَيْء فَهُوَ على حرف لِأَنَّهُ قلق فِي دينه، على غير ثبات.
941 - / 1129 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: خرج رجل من بني سهم مَعَ تَمِيم الدَّارِيّ وعدي بن بداء، فَمَاتَ السَّهْمِي بِأَرْض لَيْسَ بهَا مُسلم، فَلَمَّا قدمُوا بِتركَتِهِ فقدوا جَاما من فضَّة مخوصا بِذَهَب، فَأَحْلفهُمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ وجد الْجَام بِمَكَّة، فَقَالُوا: ابتعناه من تَمِيم وعدي بن بداء، فَقَامَ رجلَانِ من أوليائه فَحَلفا لَشَهَادَتنَا أَحَق من شَهَادَتهمَا وَأَن الْجَام لصَاحِبِهِمْ، وَفِيهِمْ نزلت هَذِه الْآيَة: {شَهَادَة بَيْنكُم} [الْمَائِدَة: 106] . [15] اسْم هَذَا السَّهْمِي بزيل بن أبي مَارِيَة، مولى الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي، هَكَذَا ذكره ابْن مَاكُولَا: بزيل بالزاي، وَقد ذكره بعض الْمُفَسّرين بِالدَّال، وَلَيْسَ هَذَا قَول من يعرف علم الحَدِيث. وَكَانَ تَمِيم وعدي حِينَئِذٍ نَصْرَانِيين، فَأسلم تَمِيم، وَمَات عدي نَصْرَانِيّا. [15] والمخوص بِالذَّهَب: أَن يَجْعَل عَلَيْهِ صَفَائِح كالخوص تزينه. [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِن الله عز وَجل أَرَادَ أَن يعرفنا كَيفَ نشْهد بِالْوَصِيَّةِ(2/416)
عِنْد حُضُور الْمَوْت، فَقَالَ: {ذَوا عدل مِنْكُم} يَعْنِي عَدْلَيْنِ من الْمُسلمين. وَعلم أَن من النَّاس من يُسَافر فيصحبه فِي سَفَره أهل الْكتاب دون الْمُسلمين، ويحضره الْمَوْت فَلَا يجد من يشهده من من الْمُسلمين، فَقَالَ: {أَو آخرَانِ من غَيْركُمْ} أَي من غير أهل ملتكم. فالذميان فِي السّفر خَاصَّة إِذا لم يُوجد غَيرهمَا تحبسونها من بعد الصَّلَاة - بعد صَلَاة الْعَصْر - إِن ارتبتم فِي شَهَادَتهمَا وخشيتم أَن يَكُونَا قد خَانا أَو بَدَلا، فَإِذا حلفا مَضَت شَهَادَتهمَا، فَإِن ظهر على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا أَي حنثا فِي الْيَمين بكذب أَو خِيَانَة فآخران، أَي قَامَ فِي الْيَمين مقامهما رجلَانِ من قرَابَة الْمَيِّت، وهما الوليان، فيحلفان لقد ظهرنا على خِيَانَة الذميين وكذبهما، وَمَا اعتدينا عَلَيْهِمَا، ولشهادتنا أصح لكفرهما وإيماننا، فَيرجع على الذميين بِمَا اختانا، وينقض مَا مضى من الحكم بِشَهَادَتِهِمَا تِلْكَ.
942 - / 1130 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: {لَهُ مَا بَين أَيْدِينَا وَمَا خلفنا} [مَرْيَم: 64] . [15] وللمفسرين فِي ذَلِك قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا بَين أَيْدِينَا الْآخِرَة، وَمَا خلفنا الدُّنْيَا، قَالَه سعيد بن الجبير. وَالثَّانِي: على عكس هَذَا، قَالَه مُجَاهِد.(2/417)
943 - / 1131 وَفِي الحَدِيث السِّتين: قَالَ ابْن عَبَّاس: قضى مُوسَى أَكثر الْأَجَليْنِ وأطيبهما، إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَالَ فعل. [15] اعْلَم أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام رأى طمع شُعَيْب [عَلَيْهِ السَّلَام] مُتَعَلقا بِالْفَضْلِ فَلم يقْض كرمه أَن يخيب الظَّن فِي كريم.
944 - / 1132 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: آخر آيَة نزلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة الرِّبَا. [15] وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وعطية وَمُقَاتِل فِي آخَرين: أَن آخر آيَة نزلت: {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله} [الْبَقَرَة: 281] قَالَ ابْن عَبَّاس: توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعْدهَا بِأحد وَثَمَانِينَ يَوْمًا. قَالَ ابْن جريج: توفّي بعْدهَا بتسع لَيَال. وَقَالَ مقَاتل: بِسبع لَيَال. وَهَذِه الْآيَة مُتَعَلقَة بآيَات الرِّبَا الَّتِي قبلهَا، فَكَأَن الْإِشَارَة إِلَى الْجَمِيع. [15] وَقد رُوِيَ عَن الْبَراء أَن آخر آيَة نزلت: {يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة} [النِّسَاء: 176] قَالَ أبي بن كَعْب: آخر آيَة نزلت: {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم} آخر الْآيَة [التَّوْبَة: 128] .
945 - / 1133 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِابْنِ صياد: " لقد خبأت لَك خبيئا ". قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الدخ.(2/418)
[15] وَقد سبق تفسر هَذَا، وَاسم ابْن صياد فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
946 - / 1134 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: كَانَ مُعَاوِيَة يسْتَلم الْأَركان، فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: إِنَّه لَا يسْتَلم هَذَانِ الركنان. فَقَالَ: لَيْسَ شَيْء من الْبَيْت مَهْجُورًا. وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: لم أر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَلم غير الرُّكْنَيْنِ اليمانيين. [15] السّنة فِي حق الطَّائِف بِالْبَيْتِ أَن يبتدىء من الْحجر الْأسود فيستلمه بِيَدِهِ ويقبله وبحاذيه بِجَمِيعِ بدنه إِن أمكنه، وَإِلَّا استلمه وَقبل يَده، ثمَّ يَجْعَل الْبَيْت عَن يسَاره وَيَطوف، فَإِذا بلغ إِلَى الرُّكْن الْيَمَانِيّ استلمه وَقبل يَده وَلم يقبله. وَظَاهر كَلَام الْخرقِيّ أَنه يقبله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ استلام الرُّكْن الْيَمَانِيّ بمسنون. وَإِنَّمَا لم يسْتَلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرُّكْنَيْنِ الآخرين لِأَن الْحجر من الْبَيْت فَلَو استلمهما كَانَ تَقْرِير الْبَيْت وَإِخْرَاج الْحجر مِنْهُ.
947 - / 1135 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: أَن ابْن عَبَّاس أبي تَحْرِيم الْحمر الْأَهْلِيَّة وَقَرَأَ: {قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما} الْآيَة [الْأَنْعَام: 145] . [15] اعْلَم أَنه لم يكن فِي الشَّرِيعَة محرم حِين نزُول هَذِه الْآيَة إِلَّا مَا ذكر فِيهَا، ثمَّ جَاءَ تَحْرِيم أَشْيَاء بعد ذَلِك، كَمَا أَنه قد كَانَ من أقرّ(2/419)
بِالشَّهَادَتَيْنِ فَحسب فِي أول الْإِسْلَام دخل الْجنَّة، ثمَّ جَاءَت الْفَرَائِض وَالْحُدُود بعد ذَلِك، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نهى عَن الْحمر الْأَهْلِيَّة وَقَالَ: " إِنَّه رِجْس " وَقَالَ طَاوس وَمُجاهد: لَا أجد محرما مِمَّا كُنْتُم تستحلون فِي الْجَاهِلِيَّة إِلَّا هَذَا.
948 - / 1136 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: " الْحمى من فيح جَهَنَّم، فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ". أَو قَالَ: " بِمَاء زَمْزَم ". [15] قد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند رَافع بن خديج. وَإِنَّمَا يذكر زَمْزَم للاستشفاء بِهِ تبركا.
949 - / 1137 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: أول جُمُعَة جمعت بعد جُمُعَة فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَسْجِد عبد الْقَيْس بجواثى من الْبَحْرين. [15] جواثى: اسْم قَرْيَة من قرى عبد الْقَيْس. وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْجُمُعَة تُقَام فِي الْقرى، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تُقَام إِلَّا فِي الْأَمْصَار.
950 - / 139 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: " اشْتَدَّ غضب الله على من قَتله نَبِي فِي سَبِيل الله. اشْتَدَّ غضب الله على قوم دموا وَجه نَبِي الله ".(2/420)
[15] اعْلَم أَن الْأَنْبِيَاء بعثوا بِالرَّحْمَةِ واللطف، فَلَا يقصدون بِالْقَتْلِ إِلَّا المبارز بالعناد، وَكَذَلِكَ لَا يبلغ أَذَى الْمُشرك إِلَى أَن يدمي وَجه نَبِي الله إِلَّا وَقد فاق فِي العناد، فصلح هَذَا أَن يُقَاتل بِشدَّة الْغَضَب عَلَيْهِ. وَقد كَانَت تدمية وَجه رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد، ويومئذ قتل أبي بن خلف. فَأَما تدمية وَجهه، فَإِنَّهُ لما فر النَّاس ثَبت صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عِصَابَة من أَصْحَابه عَددهمْ أَرْبَعَة عشر، فَجعل يَرْمِي عَن قوسه حَتَّى صَارَت شظايا، وَأُصِيبَتْ رباعيته وكلم فِي وجنته وَوَجهه، وعلاه ابْن قميئة بِالسَّيْفِ فَضَربهُ على شقَّه الْأَيْمن، فاتقاه طَلْحَة بن عبيد الله بِيَدِهِ فشلت إصبعه، وَحِينَئِذٍ قَالَ: " كَيفَ يفلح قوم دموا وَجه نَبِيّهم وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى الله عز وَجل " فَنزلت: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} الْآيَة [آل عمرَان: 128] . [15] وَأما قَتله أبي بن خلف، فقد روى مُحَمَّد بن سعد عَن سعيد بن الْمسيب أَن أبي بن خلف أسر يَوْم بدر، فَلَمَّا افتدي من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِن عِنْدِي فرسا أعلفها كل يَوْم فرق ذرة لعَلي أَقْتلك عَلَيْهَا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " بل أَنا أَقْتلك عَلَيْهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى " فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحد أقبل يرْكض فرسه تِلْكَ حَتَّى دنا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَاعْترضَ رجال من الْمُسلمين لَهُ ليقتلوه، فَقَالَ لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " استأخروا، استأخروا " وَأقَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ بِحَرْبَة فِي يَده فَرمى بهَا أبي بن خلف فَكسرت ضلعا من أضلاعه، فَرجع إِلَى أَصْحَابه ثقيلا فاحتملوه، وَطَفِقُوا يَقُولُونَ لَهُ: لَا بَأْس، فَقَالَ لَهُم أبي: ألم يقل لي: " بل أَنا أَقْتلك إِن شَاءَ الله " فَمَاتَ بِبَعْض الطَّرِيق، فدفنوه، وَفِيه أنزلت:(2/421)
{وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} [الْأَنْفَال: 17] .
951 - / 1141 وَفِي الحَدِيث السّبْعين: {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس} [الْإِسْرَاء: 60] قَالَ: هِيَ رُؤْيا عين أريها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس. [15] الْإِشَارَة بِهَذِهِ الرُّؤْيَا إِلَى مَا رَآهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ اللَّيْلَة من الْآيَات والعجائب. والفتنة: بِمَعْنى الاختبار؛ فَإِن قوما آمنُوا بِمَا قَالَ، وقوما كفرُوا. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: لَو كَانَ من رُؤْيَة الْعين لقَالَ الرُّؤْيَة، فَلَمَّا قَالَ الرُّؤْيَا دلّ على أَنه فِي النّوم. فقد أجَاب عَن هَذَا أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي قَالَ: الْمُخْتَار من هَذِه الرُّؤْيَا أَن تكون يقظة، وَلَا فرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل: رَأَيْت فلَانا رُؤْيَة، ورأيته رُؤْيا، إِلَّا أَن الرُّؤْيَة يقل اسْتِعْمَالهَا فِي الْمَنَام، والرؤيا يكثر اسْتِعْمَالهَا فِي الْمَنَام، وَيجوز كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي الْمَعْنيين.
952 - / 1142 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: عَن أبي الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: قطع على أهل الْمَدِينَة بعث فاكتتبت فِيهِ، فَلَقِيت عِكْرِمَة فنهاني أَشد النَّهْي ثمَّ قَالَ: أَخْبرنِي ابْن عَبَّاس أَن نَاسا من الْمُسلمين كَانُوا مَعَ الْمُشْركين يكثرون سَواد الْمُشْركين على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَأْتِي السهْم يَرْمِي بِهِ فَيُصِيب أحدهم فيقتله، أَو يضْرب فَيقْتل، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الَّذين تَوَفَّاهُم الْمَلَائِكَة ظالمي}(2/422)
أنفسهم} الْآيَة [النِّسَاء: 97] . [15] كَانَ ابْن الزبير قد استقصى على يزِيد، فَكَانَ يزِيد يَأْمر وُلَاة الْمَدِينَة وَغَيرهَا بِإِقَامَة الْبعُوث بقتاله.
953 - / 1143 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَرضه وَقد عصب رَأسه بعصابة دهماء، فَذكر وَصيته بالأنصار. [15] الدهماء: السَّوْدَاء. والدهمة: السوَاد. وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة أُخْرَى: بعصابة دسماء. والدسماء: السَّوْدَاء. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الْخلَافَة لَيست فِي الْأَنْصَار، لِأَنَّهُ وصّى بهم، وَلَو كَانَت فيهم لوصاهم.
954 - / 1144 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " هَذِه وَهَذِه سَوَاء " يَعْنِي الْخِنْصر والإبهام. يَعْنِي فِي الدِّيَة. [15] قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: هَذَا أصل فِي كل شَيْء من الْجِنَايَات لَا يضْبط فَيعلم قدره وَيُوقف على كميته، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ كَذَلِك وَلم يكن اعْتِبَاره من طَرِيق الْمَعْنى كَانَ الحكم مُعْتَبرا فِيهِ من طَرِيق الِاسْم كالأصابع والأسنان، وَإِن اخْتلف جمَالهَا ومنافعها، وَمَعْلُوم أَن للإبهام من الْقُوَّة وَالْمَنْفَعَة مَا لَيْسَ للخنصر، ثمَّ جعلت دِيَتهمَا سَوَاء، وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَنه لَا يضْبط وَلَا يُوقف على دقائق مَعَانِيه فَحمل الْأَمر على(2/423)
الِاسْم، وَالله أعلم بالمصالح.
955 - / 1145 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: قَالَ ابْن عَبَّاس: رَأَيْته عبدا - يَعْنِي زوج بَرِيرَة، كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يتبعهَا فِي سِكَك الْمَدِينَة يبكي عَلَيْهَا. [15] الصَّحِيح فِي زوج بَرِيرَة أَنه كَانَ عبدا كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس، وَكَذَلِكَ روى عُرْوَة وَالقَاسِم عَن عَائِشَة. وَقد روى عَنْهُمَا الْأسود بن يزِيد أَنه كَانَ حرا، وَلَا يَصح لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن البُخَارِيّ يَقُول: قَول الْأسود مُنْقَطع، وَقَول ابْن عَبَّاس أصح. وَالثَّانِي: أَن عَائِشَة خَالَة عُرْوَة وعمة الْقَاسِم، وَكَانَا يدخلَانِ عَلَيْهَا بِلَا حجاب، فقولهما مقدم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه للقرب مِنْهَا أقدر على الاستثبات. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا اثْنَان. وَالثَّالِث: أَن قَوْله: كَانَ حرا، كَلَام الْأسود وَلَيْسَ يرويهِ عَن عَائِشَة. [15] وَلَا خلاف أَن الْأمة إِذا كَانَت تَحت عبد فعتقت أَن لَهَا الْخِيَار، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا إِذا كَانَت تَحت حر، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا خِيَار لَهَا. وَقَالَ أهل الرَّأْي: لَهَا الْخِيَار. وَقَالَ الشَّافِعِي: وَالْأَصْل فِي الْمُكَافَأَة فِي النِّكَاح حَدِيث بَرِيرَة، فَإِنَّهُ لما كَانَ زَوجهَا عبدا فاستفادت الْحُرِّيَّة فضلته بهَا، فَكَانَ لَهَا الْخِيَار فِي الْمقَام والفراق.
956 - / 1146 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: قَالَ عِكْرِمَة: رَأَيْت رجلا عِنْد الْمقَام يكبر فِي كل خفض وَرفع وَإِذا وضع، فَأخْبرت(2/424)
ابْن عَبَّاس فَقَالَ: أَو لَيْسَ تِلْكَ صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا أم لَك؟ . [15] أما التَّكْبِيرَة الأولى لافتتاح الصَّلَاة فَلَا بُد مِنْهَا. فَأَما بَاقِي التَّكْبِيرَات فعندنا أَنَّهَا وَاجِبَة، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هِيَ سنة.
957 - / 1147 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين: لعن المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء، والمتشبهات من النِّسَاء بِالرِّجَالِ. [15] اعْلَم أَن الله عز وَجل كرم الرجل بِكَوْنِهِ ذكرا، فَإِذا تشبه بِالنسَاء حط نَفسه عَن مرتبته، وَرَضي بخسة الْحَال، فاستوجب اللَّعْن. وَأما الْمَرْأَة إِذا تشبهت بِالرِّجَالِ فَإِن ذَلِك يُوجب مُخَالطَة الرِّجَال لَهَا ورؤيتها وَهِي عَورَة غير مستورة.
958 - / 1148 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: قَالَ ابْن عَبَّاس: قد أحْصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فحلق وجامع نِسَاءَهُ وَنحر هَدْيه حَتَّى اعْتَمر عَاما قَابلا. [15] اعْلَم أَن الْإِحْصَار على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: إحصار بعدو، وَلَا يكون لَهُ طَرِيق إِلَى الْبَيْت، فَهَذَا يذبح الْهَدْي فِي مَكَان إحصاره ويتحلل، فَإِن لم يجد هَديا صَامَ عشرَة أَيَّام ثمَّ تحلل. وَالثَّانِي: الْإِحْصَار بِالْمرضِ، وَذَهَاب النَّفَقَة أَو ضلال الطَّرِيق أَو الْخَطَأ فِي الْعدَد، فَهَذَا لَا يتَحَلَّل بل يُقيم على إِحْرَامه، فَإِن فَاتَهُ الْحَج تحلل بِفعل عمْرَة، فَإِن كَانَ شَرط فِي ابْتِدَاء إِحْرَامه أَن يحل مَتى مرض أَو(2/425)
ضَاعَت نَفَقَته أَو أَخطَأ الطَّرِيق أَو الْعدَد، أَو حصره عَدو، أَو فَاتَهُ الْحَج، فَلهُ التَّحَلُّل إِذا وجد ذَلِك وَلَا شَيْء عَلَيْهِ.
959 - / 1149 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: أَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع عشرَة سنة يقصر الصَّلَاة، فَنحْن إِذا سافرنا وأقمنا تسع عشرَة قَصرنَا، وَإِذا زِدْنَا أتممنا. [15] اعْلَم أَن الْكَلَام لَيْسَ فِي إِقَامَة الْمُسَافِر، إِنَّمَا فِي نِيَّته، وَعِنْدنَا أَنه إِذا نوى إِقَامَة تزيد على أَرْبَعَة أَيَّام أتم، وَعَن أَحْمد أَنه إِذا نوى إِقَامَة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين صَلَاة أتم، وَلَا تخْتَلف الرِّوَايَة أَنه يحْتَسب بِيَوْم الدُّخُول وَيَوْم الْخُرُوج. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: مَتى نوى خَمْسَة عشر يَوْمًا أتم. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: أَرْبَعَة أَيَّام غير أَيَّام الدُّخُول وَالْخُرُوج. [15] فَأَما ذكر التِّسْعَة عشر فرأي لِابْنِ عَبَّاس. وَهَذِه الْإِقَامَة كَانَت بِمَكَّة عَام الْفَتْح.
960 - / 1153 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن المحاقلة والمزابنة. [15] قَالَ أَبُو عبيد: المحاقلة: بيع الزَّرْع وَهُوَ فِي سنبله بِالْبرِّ، وَهُوَ مَأْخُوذ من الحقل، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيه أهل الْعرَاق القراح. والمزابنة:(2/426)
بيع الثَّمر فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ. [15] وَإِنَّمَا جَاءَ النَّهْي فِي هَذَا لِأَنَّهُ من الْكَيْل، وَلَيْسَ يجوز شَيْء من الْكَيْل وَالْوَزْن إِذا كَانَا من جنس وَاحِد إِلَّا مثلا بِمثل ويدا بيد، وَهَذَا مَجْهُول لَا يعلم أَيهمَا أَكثر.
961 - / 1154 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: أُتِي عَليّ بزنادقة فاحرقهم. [15] قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: قَالَ ثَعْلَب: لَيْسَ زنديق من كَلَام الْعَرَب، وَإِنَّمَا تَقول الْعَرَب: رجل زندق وزندقي: إِذا كَانَ شَدِيد الْبُخْل، فَإِذا أَرَادَت الْعَرَب معنى مَا تَقول الْعَامَّة قَالُوا: ملحد، ودهري. فَإِذا أَرَادوا معنى السن قَالُوا: دهري. قَالَ ابْن دُرَيْد. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: الزنديق فَارسي مُعرب، كَأَن أَصله عِنْده: زنده كرد، زنده: الْحَيَاة، وكرد: الْعَمَل، أَي يَقُول بدوام الدَّهْر. قَالَ أَبُو بكر قَالُوا: رجل زندقي. وزندقي لَيْسَ من كَلَام الْعَرَب. قَالَ: وَسَأَلت الرياشي أَو غَيره عَن اشتقاق الزنديق فَقَالَ: يُقَال: رجل زندقي: إِذا كَانَ نظارا فِي الْأُمُور. قَالَ أَصْحَابنَا: والزنديق هُوَ الَّذِي يظْهر الْإِسْلَام ويبطن الْكفْر، وَهل تقبل تَوْبَته أم لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد.(2/427)
962 - / 1156 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: " لَو كنت متخذا خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام أفضل ". [15] قد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. [15] وَقَوله: " وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام أفضل " أَي هِيَ أَجود من اعْتِمَاد أَمر يصعب الْقيام بِهِ. [15] والخوخة: بَاب صَغِير. واختصاصه أَبَا بكر بِهَذَا تَفْضِيل عَظِيم، فَكَأَنَّهُ نبه على خِلَافَته. [15] وَفِيه: أنزلهُ أَبَا. يَعْنِي أَبَا بكر أنزل الْجد أَبَا.
963 - / 1157 وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: جَاءَت امْرَأَة ثَابت بن قيس بن شماس إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالَت: إِنِّي مَا أَعتب عَلَيْهِ فِي خلق وَلَا دين، وَلَكِنِّي أكره الْكفْر فِي الْإِسْلَام. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَتردينَ عَلَيْهِ حديقته؟ " قَالَت: نعم، فَقَالَ: " أقبل الحديقة مِنْهَا وَطَلقهَا تَطْلِيقَة ". [15] اخْتلفُوا فِي اسْم هَذِه الْمَرْأَة على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: جميلَة، قَالَه ابْن عَبَّاس وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ، ونسبها يحيى بن أبي كثير فَقَالَ: جميلَة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، وكناها مقَاتل فَقَالَ: أم حَبِيبَة بنت عبد الله. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا هِيَ جميلَة أُخْت عبد الله بن أبي. وَالثَّانِي: جميلَة بنت سهل. وَالثَّالِث: سهلة بنت حبيب، روى الْقَوْلَيْنِ(2/428)
يحيى بن سعيد عَن عمْرَة. [15] وَأول خلع كَانَ فِي الْإِسْلَام خلع هَذِه الْمَرْأَة من ثَابت. [15] والحديقة: الْبُسْتَان. [15] وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل للزَّوْج أَن يَأْخُذ من الَّتِي تطلب الْخلْع أَكثر مِمَّا أَعْطَاهَا؟ فَقَالَ قوم مِنْهُم عمر وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ وَالشَّافِعِيّ: يجوز. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم عَليّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وَطَاوُس وَابْن جُبَير وَالشعْبِيّ وَالزهْرِيّ وَأحمد بن حَنْبَل: لَا يجوز. [15] وَهل يجوز الْخلْع دون السُّلْطَان؟ قَالَ عمر وَعُثْمَان وَعلي وَجُمْهُور الْعلمَاء: يجوز. وَقَالَ الْحسن وَابْن سِيرِين وَقَتَادَة: لَا يجوز إِلَّا عِنْد السُّلْطَان.
964 - / 1158 وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد بِالنَّجْمِ وَسجد مَعَه الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنّ وَالْإِنْس. [15] وَقد سبق الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
965 - / 1159 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين: انتشل رَسُول الله(2/429)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرقا من قدر ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ. [15] وَالْمعْنَى: أَخذه قبل تَمام النضج. والعرق: الْعظم عَلَيْهِ اللَّحْم. وَكَونه لم يتَوَضَّأ نسخ لقَوْله: " توضئوا مِمَّا مست النَّار ".
966 - / 1160 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: بَينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، إِذا هُوَ بِرَجُل قَائِم، فَسَأَلَ عَنهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيل، نذر أَن يقوم فِي الشَّمْس وَلَا يقْعد، وَلَا يستظل، وَلَا يتَكَلَّم، ويصوم. فَقَالَ: " مره، فَلْيَتَكَلَّمْ وليستظل وليقعد وليتم صَوْمه ". [15] أَبُو إِسْرَائِيل اسْمه قَيْصر العامري. وَلَيْسَ فِي جَمِيع الصَّحَابَة من يُشَارِكهُ فِي اسْمه وَلَا فِي كنيته، وَلَا لَهُ ذكر إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث، وَقد ذكره المنيعي فَسَماهُ قشيرا. [15] وَمن نذر مَا لَا يجوز لَهُ لم يجز لَهُ أَن يفعل مَا نذر، وَيلْزمهُ أَن يكفر كَفَّارَة يَمِين.
967 - / 1161 وَفِي الحَدِيث التسعين: ذكر عِنْد عِكْرِمَة شَرّ الثَّلَاثَة.(2/430)
[15] يَعْنِي الثَّلَاثَهْ إِذا ركبُوا على بَهِيمَة، وَهَذَا شَيْء تَقوله الْعَامَّة لَا أصل لَهُ، فَروِيَ عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم فاستقبلته أغيملة بني عبد الْمطلب، فَحمل وَاحِدًا بَين يَدَيْهِ وَآخر خَلفه.
968 - / 1162 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: " من تحلم بحلم لم يره كلف أَن يعْقد بَين شعيرتين وَلنْ يفعل. وَمن اسْتمع إِلَى حَدِيث قوم وهم لَهُ كَارِهُون صب فِي أُذُنه الآنك يَوْم الْقِيَامَة. وَمن صور صُورَة عذب وكلف أَن ينْفخ فِيهَا الرّوح وَلَيْسَ بنافخ ". [15] قَوْله: " من تحلم بحلم " أَي من زعم أَنه رأى مناما لم يره. وَهَذَا لما ذكر رُؤْيَة مَا لم يره، كلف فعل مَا لم يفعل، وَهُوَ العقد بَين شعيرتين. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: كذب الْكَاذِب فِي مَنَامه لَا يزِيد على كذبه فِي يقظته، فَلم زَادَت عُقُوبَته فِيمَا يتَعَلَّق بِالنَّوْمِ؟ فقد أجَاب عَنهُ ابْن جرير الطَّبَرِيّ فَقَالَ: قد صَحَّ الحَدِيث أَن الرُّؤْيَا جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة، والنبوة لَا تكون إِلَّا وَحيا، والكاذب فِي الرُّؤْيَا يَدعِي أَن الله تَعَالَى أرَاهُ مَا لم يره، وَأَعْطَاهُ جُزْءا من النُّبُوَّة لم يُعْطه، والكاذب على الله أعظم فِرْيَة مِمَّن كذب على الْخلق أَو على نَفسه. [15] والآنك: الرصاص القلعي. وَالْمرَاد بِهِ سد سَمعه عُقُوبَة لَهُ. [15] وَأما المصور فَإِنَّهُ شبه أَفعَال الْخَالِق وَلم يقدر على استتمام مَا شبه(2/431)
بنفخ الرّوح، فَهُوَ يعذب لتشبهه فعل الْخَالِق، فَكيف بِمن يَدعِي تَشْبِيه ذَات الْخَالِق بذوات المخلوقين.
969 - / 1163 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين: أَن هِلَال بن أُميَّة قذف امْرَأَته عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشريك بن سَحْمَاء. . فَذكر الحَدِيث، وَأَنه شهد عَلَيْهَا، وَأَنَّهَا شهِدت، فَلَمَّا كَانَت عِنْد الْخَامِسَة وقفوها وَقَالُوا: إِنَّهَا مُوجبَة. [15] وَقَوله: " إِنَّهَا مُوجبَة " الْمَعْنى أَن هَذِه المرات توجب عَذَاب الله. [15] وَقَوله: فتلكأت. أَي تباطأت عَن إتْمَام اللّعان. وَنَكَصت. النكوص: رُجُوع فِي توقف. [15] والكحل: سَواد الْعين خلقه، يُقَال من الْكحل: عين كحيلة، وَمن الْكحل: عين كحيل. [15] وَقَوله: سابغ الأليتين: السبوغ: التَّمام. [15] والخدلج والخدل بِمَعْنى وَاحِد: وَهُوَ الممتلىء السَّاقَيْن أَو الذراعين. [15] وَقَوله: " لَوْلَا مَا مضى من كتاب الله " يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {ويدرأ عَنْهَا الْعَذَاب أَن تشهد} [النُّور: 8] " لَكَانَ لي وَلها شَأْن " يُشِير إِلَى الرَّجْم.
970 - / 1165 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يشرب من فِي السقاء. [15] إِنَّمَا نهى عَن ذَلِك لخمسة معَان: أَحدهَا: أَنه رُبمَا كَانَت فِي(2/432)
السقاء هَامة أَو قذاة فانتشرت فِي الْحلق. وَالثَّانِي: أَنه رُبمَا وَقع الشرق باندفاق المَاء. وَالثَّالِث: أَنه لَا يُمكن مص المَاء، بل يَقع العب الَّذِي يُؤْذِي الكبد. وَالرَّابِع: أَنه يُغير ريح السقاء. وَالْخَامِس: أَنه يتخايل الشَّارِب الثَّانِي رُجُوع شَيْء من فَم الأول فيستقذره.
971 - / 1166 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْم بدر: " اللَّهُمَّ أنْشدك عَهْدك وَوَعدك. اللَّهُمَّ إِن تشأ لَا تعبد بعد الْيَوْم ". [15] أنْشدك بِمَعْنى أَسأَلك. قَالَ الزّجاج: يُقَال: نشدتك الله: أَي سَأَلتك بِاللَّه. وَقد تكلمنا على هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمر.
972 - / 1168 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاف بِالْبَيْتِ وَهُوَ على بعير، كلما أَتَى الرُّكْن أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْء فِي يَده وَكبر. [15] اتّفق الْعلمَاء على أَن من طَاف رَاكِبًا من عذر جَازَ لَهُ. وَاخْتلفُوا فِيمَن طَاف رَاكِبًا من غير عذر: فَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: يجْزِيه وَلَا دم عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَالْأُخْرَى لَا يجْزِيه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يجْزِيه وَعَلِيهِ دم.(2/433)
973 - / 1169 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين: عَلَيْهِ أَدَاة الْحَرْب. أَي آلَة الْحَرْب وَمَا يصلح لَهَا من السِّلَاح.
974 - / 1170 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين: قَالَ ابْن عَبَّاس: إِذا أسلمت النَّصْرَانِيَّة قبل زَوجهَا بساعة حرمت عَلَيْهِ. [15] وَهَذَا لِأَن الْإِسْلَام فرق بَينهمَا.
975 - / 1172 وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: قَالَ ابْن عَبَّاس: حدث النَّاس كل جُمُعَة مرّة، فَإِن أَبيت فمرتين. [15] أعلم أَن كل شَيْء يكثر على النَّفس تمله، خُصُوصا المواعظ الَّتِي لاحظ للطبع فِيهَا إِلَّا أَن يكون مُجَرّد السماع. وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتخولهم بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَة السَّآمَة. [15] وَقَوله: واجتنب السجع فِي الدُّعَاء. وَهَذَا لِأَن الدُّعَاء يجب أَن يثيره صدق الْحَاجة، وَأَن يكون بذل وخشوع، واشتغال الْقلب بترتيب الْأَلْفَاظ يذهله عَن الْخُشُوع، فَإِذا وَقع الدُّعَاء مسجوعا عَن غير تكلّف يشغل فَلَا بَأْس بِهِ، كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: " أعوذ بك من عين لَا تَدْمَع، وَمن قلب لَا يخشع، وَمن دُعَاء لَا يسمع ".(2/434)
976 - / 1173 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة: ذكر فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة. وَقد سبق. [15] وَقَوله: وَأشهر الْحَج شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة: أَي وَبَعض ذِي الْحجَّة وَإِنَّمَا يذكر الشَّهْر كُله لِأَن الْحَج يكون فِيهِ.
977 - / 1174 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: " لَو خرج الَّذين يباهلون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرجعوا لَا يَجدونَ أَهلا وَلَا مَالا ". [15] وَبَيَان هَذِه الْقِصَّة أَنه لما قدم أهل نَجْرَان من النَّصَارَى على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيهِمْ السَّيِّد وَالْعَاقِب، فناظراه فِي أَمر عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَقَالا: كَيفَ تزْعم أَنه عبد الله؟ فَنزلت: {إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم خلقه من تُرَاب} [آل عمرَان: 59] وَذَلِكَ أَنهم استبعدوا خلق الْمَخْلُوق لَا من أَب، فَأَرَاهُم مخلوقا لَا من أَب وَلَا من أم، فَلَمَّا لم يلتفتوا إِلَى الدَّلِيل دعاهم إِلَى المباهلة. أخبرنَا عبد الله بن سعد قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَيُّوب قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْعَلَاء الوَاسِطِيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الْفَارِسِي قَالَ: قَالَ الزّجاج: معنى الابتهال فِي اللُّغَة الْمُبَالغَة فِي الدُّعَاء، وَأَصله الالتعان، يُقَال: بهله الله: أَي لَعنه، وَمعنى لَعنه: باعده من رَحمته. وَإِنَّمَا أَمر بالمباهلة بعد إِقَامَة الْحجَّة. قَالَ الشّعبِيّ: وعدوه الْغَد للملاعنة، فَانْطَلقُوا إِلَى رجل مِنْهُم(2/435)
عَاقل فَذكرُوا لَهُ ذَلِك فَقَالَ: إِن كَانَ نَبيا فَدَعَا عَلَيْكُم لَا يغضبه الله فِيكُم، وَإِن كَانَ ملكا فَظهر لَا يستبقيكم، فأدوا الْجِزْيَة.
978 - / 1175 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة: حَدِيث مَاعِز وَقد سبق فِي مُسْند بُرَيْدَة.
979 - / 1176 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة: خطبَته يَوْم النَّحْر، وَقَوله: " إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام " وَقد سبق فِي مُسْند أبي بكرَة.
980 - / 1177 وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن ". [15] فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: أَنه ينْزع الْإِيمَان مِنْهُ. قَالَ عِكْرِمَة: قلت لِابْنِ عَبَّاس: كَيفَ ينْزع الْإِيمَان مِنْهُ؟ قَالَ: هَكَذَا، وَشَبك بَين أَصَابِعه ثمَّ أخرجهَا، فَإِن تَابَ عَاد إِلَيْهِ هَكَذَا، وَشَبك بَين أَصَابِعه. وَوجه هَذَا أَن الْمعْصِيَة تذهله عَن مُرَاعَاة الْإِيمَان، وَهُوَ تَصْدِيق الْقلب، فَكَأَنَّهُ ينسى من صدق بِهِ. وَالثَّانِي: أَنه لَا يَزْنِي وَهُوَ كَامِل الْإِيمَان.
981 - / 1180 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَة: حَدِيث الْقسَامَة.(2/436)
وَقد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة، وَفِيه من الْغَرِيب: [15] أَشد عُرْوَة جوالقي. والجوالق كالغرارة يَجْعَل فِيهَا مَا يَجْعَل فِي الأوعية. [15] وَفِيه فَحَذفهُ بعصا: أَي رَمَاه بهَا. وَالْعرب تَقول: حذفه بالعصا، وقذفه بِالْحجرِ، ورشقه بِالنَّبلِ، ونضحه بِالْمَاءِ، ولفعه بالبعر. [15] وَفِيه: قتلني فِي عقال: أَي لأجل عقال: وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير، كالقيد للدابة. [15] وَفِيه قَول امْرَأَة: أحب أَن تجيز لي ابْني هَذَا بِرَجُل من الْخمسين. أَي تَأذن لي فِي ترك الْيَمين. وَقد رُوِيَ تجير بالراء: أَي تجيره من الْيَمين وتؤمنه مِنْهَا. [15] وَقَول: وَلَا تصبر يَمِينه حَيْثُ تصبر الْأَيْمَان. يَمِين الصَّبْر: هِيَ الَّتِي يلْزمهَا الْمَأْمُور بهَا وَيكرهُ عَلَيْهَا وَيقْضى عَلَيْهِ بِهِ. [15] وَفِيه: قَالَ ابْن عَبَّاس: فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ مَا حَال الْحول وَمن البَاقِينَ عين تطرف. هَذِه كَانَت عَادَة الله عز وَجل عِنْد الْقَوْم قبل الشَّرِيعَة: أَن يهْلك من حلف بِهِ كَاذِبًا ليمتنعوا من الظُّلم.
982 - / 1182 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الْمِائَة: " نعمتان مغبون فيهمَا كثير من النَّاس: الصِّحَّة والفراغ ". [15] اعْلَم أَنه قد يكون الْإِنْسَان صَحِيحا وَلَا يكون متفرغا لِلْعِبَادَةِ لاشتغاله بِأَسْبَاب المعاش، وَقد يكون متفرغا من الأشغال وَلَا يكون صَحِيحا،(2/437)
فَإِذا اجْتمعَا للْعَبد ثمَّ غلب عَلَيْهِ الكسل عَن نيل الْفَضَائِل فَذَاك الْغبن كَيفَ وَالدُّنْيَا سوق الرباح، والعمر أقصر، والعوائق أَكثر.
983 - / 1184 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة: عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: اللات والعزى. كَانَ اللات رجلا يلت سويق الْحَاج. [15] اعْلَم أَن هَذَا التَّفْسِير لَا يَقع على قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَأَن الْجُمْهُور يقرءُون: (اللات) خَفِيفَة، وَهُوَ اسْم صنم كَانَ لثقيف. وَكَانَت الْعَرَب تشتق لأصنامها من أَسمَاء الله تَعَالَى: فَقَالُوا من الله: اللات، وَمن الْعَزِيز: الْعُزَّى، وَمن المنان: مَنَاة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: كَانَ الْمُشْركُونَ يتعاطون " الله " اسْما لبَعض أصنامهم، فَصَرفهُ الله إِلَى اللات صِيَانة لهَذَا الِاسْم وذبا عَنهُ. وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو رزين وَأَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَمُجاهد وَالضَّحَّاك وَابْن يعمر وَالْأَعْمَش ورويس عَن يَعْقُوب: (اللات) بتَشْديد التَّاء، وَتَفْسِيره على مَا قَالَ ابْن عَبَّاس. وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ يلت بتَشْديد التَّاء، وَتَفْسِيره على مَا قَالَ ابْن عَبَّاس. وَقَالَ مُجَاهِد: كَانَ يلت السويق للْحَاج فَلَمَّا مَاتَ عكفوا على قَبره فعبدوه. وَقَالَ الزّجاج: كَانَ يلت السويق ويبيعه عِنْد ذَلِك الصَّنَم. فَسمى الصَّنَم اللات.
984 - / 1185 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر بعد الْمِائَة: " حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل ". [15] بمعى كافينا، وَمثله: حَسبك الله، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:(2/438)
( ... ... ... ... ... ... ... . ... وخسبك من غنى شبع وري)
[15] وَقَالَ غَيره:
(وَإِذ لَا ترى فِي النَّاس حسنا يفوقنا ... وفيهن حسن لَو تَأَمَّلت محسب)
[15] وَالْوَكِيل: الْكَافِي، وَقيل: الرب، وَقيل: الْكَفِيل.
985 - / 1186 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد الْمِائَة: " آلَيْت مِنْهُنَّ شهرا " يَعْنِي النِّسَاء. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمر.
986 - / 1187 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَة: مَا ترك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا مَا بَين الدفتين. [15] الْإِشَارَة إِلَى مَا بَين الدفتين إِلَى الْقُرْآن. وَيَعْنِي بالدفتين جَانِبي الْمُصحف. وَيحْتَمل هَذَا الحَدِيث شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: مَا ترك من الدُّنْيَا شَيْئا، إِنَّمَا ترك الْقُرْآن. وَالثَّانِي: مَا ترك من الْعَمَل مسطورا سوى الْقُرْآن.
987 - / 1188 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَة: {إِنَّهَا ترمي بشرر كالقصر} [المرسلات: 32] قَالَ ابْن عَبَّاس: كُنَّا نرفع الْخشب ثَلَاثَة أَذْرع أَو أقل للشتاء فنسميه الْقصر. {كَأَنَّهَا جمالات صفر} [المرسلات: 33] حبال السفن تجمع حَتَّى تكون كأوساط الرِّجَال.(2/439)
[15] اعْلَم أَن قِرَاءَة الْجُمْهُور (كالقصر) بِإِسْكَان الصَّاد. وَفِي المُرَاد بذلك قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه أحد الْقُصُور المبنية. وَالثَّانِي: أَنه أصُول النّخل وَالشَّجر، قَالَ الْحسن: بل هُوَ الجزل من الْخشب، واحده قصرة وَقصر، مثل وجمرة وجمر، وَتَمْرَة وتمر. وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس وَأَبُو رزين وَأَبُو الجوزاء وَمُجاهد: (كالقصر) بِفَتْح الصَّاد، وَفِي مَعْنَاهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا ذكرنَا عَن ابْن عَبَّاس. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: من فتح الصَّاد أَرَادَ أصُول النّخل المقطوعة المقلوعة. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَعْنَاق الْإِبِل، قَالَه الزّجاج. وَقَرَأَ سعد بن أبي وَقاص وَعَائِشَة وَعِكْرِمَة وَابْن يعمر بِفَتْح الْقَاف وَكسر الصَّاد. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَأَبُو هُرَيْرَة وَالنَّخَعِيّ بِضَم الْقَاف وَالصَّاد. وَقَرَأَ أَبُو الدَّرْدَاء بِكَسْر الْقَاف وَفتح الصَّاد. وَقَالَ ابْن مقسم: كلهَا لُغَات بِمَعْنى وَاحِد. [15] وَأما (الجمالات) فَقَرَأَ ابْن كثير وَنَافِع وَأَبُو عَمْرو وَابْن عَامر: (جمالات) بِالْألف وَكسر الْجِيم. وَقَرَأَ رويس عَن يَعْقُوب: (جمالات) بِضَم الْجِيم. وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ على التَّوْحِيد بِكَسْر الْجِيم. وَقَرَأَ أَبُو رزين وَحميد مثلهمَا، لكنهما ضما الْجِيم. قَالَ الزّجاج: من قَرَأَ (جمالات) بِالْكَسْرِ فَهُوَ جمع جمال، كَمَا تَقول: بيُوت وبيوتات، فَهُوَ جمع الْجمع، فَالْمَعْنى: كَأَن الشرارات كالجمال، وَمن قَرَأَ (جمالات) فَهُوَ جمع جمالة: وَهِي الْفلس من فلوس سفن الْبَحْر،(2/440)
وَيجوز أَن يكون جمع جمل وجمال وجمالات. وَكَذَلِكَ تَفْسِير قِرَاءَة (جمالة) بِضَم الْجِيم. وَمن قَرَأَ (جمالة) فَهُوَ جمل وجماله كَمَا قيل حجر وحجارة، وَذكر وذكارة. [15] وَأما الصفر فَهِيَ هَاهُنَا السود، قَالَ الْفراء: الصفر: سود الْإِبِل، لَا ترى الْأسود من الْإِبِل إِلَّا وَهُوَ مشوب بصفرة، فَلذَلِك سمت الْعَرَب سود الْإِبِل صفرا، كَمَا سموا الظباء أدما لما يعلوها من الظلمَة فِي بياضها.
988 - / 1190 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة: سبق مُحَمَّد الباذق. [15] والباذق بِفَتْح الذَّال: وَهُوَ نوع من الشَّرَاب كَانَ عِنْدهم، وَالْمعْنَى: سبق حكم مُحَمَّد فِي أَن مَا أسكر فَهُوَ حرَام.
989 - / 1191 وَفِي الحَدِيث الْعشْرين [بعد الْمِائَة] : قَالَ ابْن عَبَّاس: من طَاف بِالْبَيْتِ فليطف من وَرَاء الْحجر، وَلَا تَقولُوا: الْحطيم، فَإِن الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَ يحلف فيلقي سَوْطه أَو نَعله أَو قوسه. [15] وَقد سبق معنى الْحجر والحطيم فِي مُسْند مَالك بن صعصعة، وَذكرنَا أَنه هُوَ الْحطيم، وَبينا أَنه سمي حطيما لِأَنَّهُ محطوم الْحِجَارَة،(2/441)
فكره ابْن عَبَّاس لَهُ هَذَا الِاسْم. [15] وَقَوله: فيلقي سَوْطه أَو نَعله. هَذَا شَيْء من مَذَاهِب الْجَاهِلِيَّة، فَكَأَنَّهُ قد كَانَ يحلف أَن يطوف فيلقي نَعله أَو سَوْطه كالنيابة عَن طَوَافه، فَكَأَنَّهُ أَمرهم بِالطّوافِ ونهاهم عَن مَذَاهِب الْجَاهِلِيَّة. [15] وَفِي رِوَايَة البرقاني: " فأيما صبي حج بِهِ أَهله فقد قَضَت حجَّته عَنهُ، وَإِذا بلغ فَعَلَيهِ حجَّة " أما حج الصَّبِي وَالْعَبْد فَإِنَّهُ حج صَحِيح، إِلَّا أَنَّهَا يعيدان بعد الْبلُوغ وَالْعِتْق.
990 - / 1192 وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: [15] عَن أبي الطُّفَيْل: قلت لِابْنِ عَبَّاس: أَرَأَيْت هَذَا الرمل بِالْبَيْتِ ثَلَاثَة أطواف ومشي أَرْبَعَة أطواف، أسنة هُوَ؟ [15] أما الرمل فقد فسرناه فِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ من هَذَا الْمسند. وَقَوله: لَيْسَ بِسنة. جُمْهُور الْعلمَاء على خِلَافه. وَسُئِلَ عمر بن الْخطاب: فيمَ الرمل الْيَوْم؟ قَالَ: لَا نَدع شَيْئا كُنَّا نفعله على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقد كَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ يرى على من ترك الرمل دَمًا.(2/442)
[15] وَأما الطّواف بِالْبَيْتِ رَاكِبًا من غير عذر أَو من عذر فقد سبق بَيَان حكمه فِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين من أَفْرَاد البُخَارِيّ من هَذَا الْمسند. [15] وَأما السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة فَإِنَّهُ ركن فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، فعلى هَذَا حكمه حكم الطّواف. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنه سنة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ وَاجِب يَنُوب عَنهُ الدَّم. وَأما أَبُو الطُّفَيْل فَسَيَأْتِي ذكره فِي مُسْنده إِن شَاءَ الله. [15] وَيدعونَ بِمَعْنى يدْفَعُونَ. ويكرهون: يضطرون إِلَى التنحي عَن الْمَكَان الَّذِي هم فِيهِ.
991 - / 1193 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: آخر سُورَة نزلت من الْقُرْآن جمعيا {إِذا جَاءَ نصر الله وَالْفَتْح} [15] قد روينَا فِي حَدِيث الْبَراء أَن آخر سُورَة نزلت (بَرَاءَة) وَالَّذِي يَقُوله ابْن عَبَّاس أليق؛ لِأَن (بَرَاءَة) نزلت فِي سنة تسع، وَقد نزل بعْدهَا أَشْيَاء.
992 - / 1194 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " الأيم أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَالْبكْر تستأذن فِي نَفسهَا ". [15] الأيم: الَّتِي لَا زوج لَهَا. وَالْمرَاد بهَا هَاهُنَا من فقدت زَوجهَا،(2/443)
إِمَّا بِطَلَاق أَو بِمَوْت. [15] قَوْله: " وَالْبكْر تستأذن فِي نَفسهَا ". وَجعل صمتها إِذْنا لموْضِع حيائها.
993 - / 1195 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن أَبَا الصَّهْبَاء قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: هَات من هناتك، ألم يكن طَلَاق الثَّلَاث على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَاحِدَة؟ فَقَالَ: قد كَانَ ذَلِك، فَلَمَّا كَانَ فِي عهد عمر تتايع النَّاس فِي الطَّلَاق فَأَجَازَهُ عَلَيْهِم. وَفِي لفظ، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ الطَّلَاق على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وسنتين من خلَافَة عمر، طَلَاق الثَّلَاث وَاحِدَة، فَقَالَ عمر: إِن النَّاس قد استعجلوا فِي أَمر كَانَت لَهُم فِيهِ أَنَاة، فَلَو أمضيناه عَلَيْهِم فأمضاه عَلَيْهِم. [15] الهنات: خِصَال سوء مَكْرُوهَة، قَالَ ابْن فَارس: وَلَا يُقَال فِي الْخَيْر. وَلَعَلَّ أَبَا الصَّهْبَاء قد سمع من ابْن عَبَّاس أَن الطَّلَاق فِي الْحيض لَا يكره، أَو أَن جمع الثَّلَاث جَائِز، فَأَرَادَ الرَّد عَلَيْهِ. وَالَّذِي يظْهر من معنى الحَدِيث أَن قَوْله: كَانَ طَلَاق الثَّلَاث وَاحِدَة أَن يُوقع وَاحِدَة بعد وَاحِدَة، وَهَذَا طَلَاق السّنة: أَن يُوقع فِي كل طهر طَلْقَة، فَلَمَّا كَانَ فِي عهد عمر تتايع النَّاس فِي الطَّلَاق - أَي أَسْرعُوا فِيهِ وَلم ينتظروا الطُّهْر لإيقاعه، أَو جمعُوا الثَّلَاث بِكَلِمَة وَاحِدَة، فَأَجَازَهُ - أَي حكم بِوُقُوعِهِ. [15] والتتايع - بِالْيَاءِ قبل الْعين - لَا يكون إِلَّا فِي الشَّرّ(2/444)
[15] وَقَوله: قد استعجلوا فِي أَمر كَانَت لَهُم فِيهِ أَنَاة. أَي رفق. وَهُوَ إِيقَاع الطقلة الْوَاحِدَة فِي الطُّهْر ثمَّ ينْتَظر الطُّهْر الثَّانِي لإيقاع ثَانِيَة. [15] فَلَو أمضيناه عَلَيْهِم، أَي تركنَا الْإِنْكَار عَلَيْهِم فِي هَذَا لِأَنَّهُ مُبَاح. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث: لَا ينفر أحد حَتَّى يكون آخر عَهده بِالْبَيْتِ. النَّفر من الْحَج: الدّفع والانطلاق. وَالْإِشَارَة بِالْحَدِيثِ إِلَى طواف الْوَدَاع. ووهو عندنَا وَاجِب يلْزم بِتَرْكِهِ دم خلافًا لمَالِك وَأحد قولي الشَّافِعِي أَنه لَيْسَ بِوَاجِب. فَإِن طَاف وَلم يعقبه بِالْخرُوجِ لَزِمته الْإِعَادَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تلْزمهُ.
994 - / 1197 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " الْعين حق، وَلَو كَانَ شَيْء سَابق الْقدر سبقته الْعين، وَإِذا استغسلتم فَاغْسِلُوا ". [15] الْعين: نظر باستحسان يشوبه شَيْء من الْحَسَد، وَيكون النَّاظر خَبِيث الطَّبْع كذوات السمُوم فيؤثر فِي المنظور إِلَيْهِ، وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ كل عاشق يُصِيب معشوقه بِالْعينِ. يُقَال: عنت الرجل: إِذا أصبته بِعَيْنِك، فَهُوَ معِين ومعيون، وَالْفَاعِل عائن. وَمعنى قَوْله: " الْعين حق " أَنَّهَا تصيب بِلَا شكّ عَاجلا، كَأَنَّهَا تسابق الْقدر. [15] وَقد أشكل إِصَابَة الْعين على قوم فاعترضوا على هَذَا الحَدِيث فَقَالُوا: كَيفَ تعْمل الْعين من بعد حَتَّى تمرض؟ وَالْجَوَاب: أَن طبائع النَّاس تخْتَلف كَمَا تخْتَلف طبائع الْهَوَام، وَقد بَينا فِيمَا تقدم من شرح قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الأبتر وَذي الطفيتين: " أَنَّهُمَا يطمسان الْبَصَر ويسقطان الْحَبل " أَن ذَلِك يكون بِسم فصل من أعينهما فِي الْهَوَاء حَتَّى(2/445)
أصَاب من رأينه، فَكَذَلِك الْآدَمِيّ. قَالَ ابْن السَّائِب: كَانَ فِي الْمُشْركين رجل يمْكث الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة لَا يَأْكُل، يرفع جَانب خبائه فتمر بِهِ النعم فَيَقُول: لم أر كَالْيَوْمِ إبِلا وَلَا غنما أحسن من هَذِه، فَمَا تذْهب إِلَّا قَرِيبا حَتَّى تسْقط مِنْهَا عدَّة , وَقَالَ الْأَصْمَعِي: رَأَيْت رجلا عيُونا كَانَ يَقُول: إِذا رَأَيْت الشَّيْء يُعجبنِي وجدت حرارة تخرج من عَيْني. [15] وَقد عرف أَن النَّاس من تلسعه الْعَقْرَب فتموت الْعَقْرَب. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: كَانَ المتَوَكل قد جِيءَ بأسود من بعض الْبَوَادِي يَأْكُل الأفاعي وَهِي أَحيَاء، ويتلقاها بالنهش من جِهَة رؤوسها، وَيَأْكُل ابْن عرس وَهُوَ حَيّ، ويتلقاه بِالْأَكْلِ من جِهَة رَأسه. وَأتي بآخر يَأْكُل الْجَمْر كَمَا يَأْكُلهُ الظليم. وفقراء الْأَعْرَاب الَّذين يبعدون عَن الرِّيف يَأْكُلُون الْحَيَّات وكل مادب ودرج من الحشرات. فَلَا يُنكر أَن يكون من النَّاس ذُو طبيعة ذَات سم وضرر، فَإِذا نظر إِلَى الشَّيْء يُعجبهُ فصل من عينه فِي الْهَوَاء شَيْء من السم فيصل إِلَى المرئي فيعله. وَمِمَّا يشبه هَذَا أَن الْمَرْأَة الطامث تَدْنُو من إِنَاء اللَّبن تسوطه فَيفْسد اللَّبن، وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا لشَيْء فصل عَنْهَا فوصل إِلَى اللَّبن، وَقد تدخل الْبُسْتَان فتضر بِكَثِير من الغروس من غير أَن تمسها، وَيفْسد الْعَجِين إِذا وضع فِي الْبَيْت الَّذِي(2/446)
فِيهِ الْبِطِّيخ. وناقف الحنظل تَدْمَع عَيناهُ، وَكَذَلِكَ قَاطع البصل، والناظر إِلَى الْعين المحمرة، وَقد يتثاءب الرجل فيثاءب غَيره. [15] وَجَاء فِي الحَدِيث: أَن عَامر بن ربيعَة رأى سهل بن حنيف يغْتَسل فعانه وَقَالَ: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ، وَلَا جلد مخبأة، فلبط بِهِ - أَي صرع - حَتَّى مَا يعقل من شدَّة الوجع، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أتتهمون أحدا؟ " قَالُوا: نعم، عَامر بن ربيعَة. فأخبروه بقوله، فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يغْتَسل لَهُ فَفعل، فراح مَعَ الركب. [15] وَقد وصف الزُّهْرِيّ الْغسْل. فَقَالَ: يُؤْتى العائن بقدح، فَيدْخل كَفه فِيهِ فيمضمض ثمَّ يمجه فِي الْقدح، ثمَّ يغسل وَجهه فِي الْقدح، ثمَّ يدْخل يَده الْيُسْرَى فَيصب على مرفقه الْأَيْمن، ثمَّ يدْخل يَده الْيُمْنَى فَيصب على مرفقه الْأَيْسَر، ثمَّ يغسل دَاخل إزَاره، وَلَا يوضع الْقدح بِالْأَرْضِ، ثمَّ يصب على رَأس الرجل الَّذِي أُصِيب بِالْعينِ من خَلفه صبة وَاحِدَة. وَقد اخْتلفُوا فِي المُرَاد بداخلة إزارة: فَقَالَ أَبُو عبيد: كَانَ بَعضهم يذهب وهمه إِلَى المذاكير، وَبَعْضهمْ إِلَى الأفخاذ والورك، وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا أَرَادَ بداخله إزَاره طرف إزَاره الدَّاخِل الَّذِي يَلِي جسده، وَهُوَ يَلِي الْجَانِب الْأَيْمن من الرجل، لِأَن المؤتزر إِنَّمَا يبْدَأ إِذا ائتزر بجانبه الْأَيْمن، فَذَلِك الطّرف يُبَاشر جسده، فَهَذَا الَّذِي يغسل.(2/447)
995 - / 1198 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: صفة التَّشَهُّد. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
996 - / 1199 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَن ضباعة أَتَت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: إِنِّي امْرَأَة ثَقيلَة، وَإِنِّي أُرِيد الْحَج، فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: " أَهلِي بِالْحَجِّ واشترطي أَن محلى حَيْثُ تحبسني ". [15] الإهلال بِالْحَجِّ: التَّلْبِيَة. وَمعنى هَذَا الِاشْتِرَاط أَنِّي أحل إِذا حَبَسَنِي الْمَرَض. وَلَا خلاف أَن الْمحصر بالعدو يتَحَلَّل، فَأَما الْمحصر بِالْمرضِ فَعِنْدَ أبي حنيفَة أَنه كالمحصر بالعدو، وَعند الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد لَا يُبَاح لَهُ التَّحَلُّل، إِلَّا عِنْد الشَّافِعِي وَأحمد أَنه إِذا شَرط فِي ابْتِدَاء إِحْرَامه أَنه إِذا مرض تحلل جَازَ لَهُ التَّحَلُّل عِنْد وجود الشَّرْط. وَعند أبي حنيفَة وَمَالك أَن اشْتِرَاطه لَا تَأْثِير لَهُ. فَأَبُو حنيفَة يَقُول: لَا يحل لَهُ إِلَّا بِالْهَدْي، وَمَالك يَقُول: لَا يَسْتَفِيد التَّحَلُّل أصلا. والْحَدِيث حجَّة جلية؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْمَرَض يُبِيح لَهَا التَّحَلُّل لم يكن لاشتراطها معنى. فَإِن قَالُوا: فَائِدَة هَذَا الشَّرْط أَن لَا يلْزمهَا الْهَدْي، فلنا الحكم الْمُعَلق على الشَّرْط التَّحَلُّل، وَلم يجر للهدي ذكر، ثمَّ عنْدكُمْ إِن وجود هَذَا الشَّرْط كَعَدَمِهِ، وَإنَّهُ يجوز لَهَا التَّحَلُّل قبل الْهَدْي فَمَا قُلْتُمْ بِهِ.
977 - / 1200 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ ابْن عَبَّاس فِي الإقعاء(2/448)
على الْقَدَمَيْنِ: هُوَ سنة. [15] قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الإقعاء: أَن يضع أليته على عَقِبَيْهِ وَيقْعد مستوفزا غير مطمئن إِلَى الأَرْض، وَكَذَلِكَ إقعاء السبَاع وَالْكلاب إِنَّمَا هُوَ أَن تقعد على مآخيرها وتنصب أفخاذها. قَالَ طَاوُوس: رَأَيْت العبادلة ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير يَفْعَلُونَ ذَلِك. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أهل مَكَّة يستعملون الإقعاء. وَقد رُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه قَالَ لِبَنِيهِ: لَا تقتدوا بِي فِي الإقعاء، فَإِنِّي فعلته حِين كَبرت. وَيُشبه أَن يكون حَدِيث ابْن عَبَّاس مَنْسُوخا، لِأَنَّهُ قد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طرق أَنه قعد بَين السَّجْدَتَيْنِ مفترشا قدمه الْيُسْرَى.
988 - / 1203 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: أَن امْرَأَة رفعت صَبيا لَهَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أَلِهَذَا حج؟ قَالَ: " نعم، وَلَك أجر. [15] هَذَا الحَدِيث صَرِيح فِي صِحَة حج الصَّبِي. وَعِنْدنَا أَن إِحْرَامه صَحِيح، فَإِن كَانَ مُمَيّزا صَحَّ إِحْرَامه بِإِذن وليه، وَإِن كَانَ غير مُمَيّز أحرم عَنهُ الْوَلِيّ وَصَارَ محرما بِإِحْرَام الْوَلِيّ، وَفعل عَنهُ مَا لَا يَتَأَتَّى فعله مِنْهُ، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. فَأَما نَفَقَة حجه وَمَا يلْزمه من كَفَّارَة إِذا ارْتكب مَحْظُورًا فَهَل هِيَ فِي مَاله أَو فِي مَال وليه؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَاخْتلف أَصْحَاب أبي حنيفَة: فَمنهمْ من قَالَ: لَا يَصح إِحْرَامه وَلَا حجه بِحَال. وَمِنْهُم من قَالَ: يَصح، وَلَكِن لَا يلْزم.(2/449)
وَفَائِدَته أَنه ارْتكب مَحْظُورًا لم تلْزمهُ الْكَفَّارَة. وَلَا خلاف فِي وجوب الْإِعَادَة عِنْد الْبلُوغ.
999 - / 1204 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى خَاتمًا من ذهب فِي يَد رجل، فَنَزَعَهُ فطرحه، وَقَالَ: " يعمد أحدكُم إِلَى جَمْرَة من نَار فيجعلها فِي يَده " فَقيل للرجل بَعْدَمَا ذهب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خُذ خاتمك انْتفع بِهِ. قَالَ: لَا وَالله، لَا آخذه أبدا وَقد طَرحه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] إِنَّمَا جعل الْخَاتم جَمْرَة لِأَنَّهُ محرم اللّبْس، وَالْحرَام يَئُول بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّار، فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُون فِي بطونهم نَارا} [النِّسَاء: 10] وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " من شرب فِي آنِية الْفضة إِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم ". [15] وَرُبمَا نسب هَذَا الرجل بعض الْجُهَّال إِلَى التَّفْرِيط فِي ترك انتفاعه بالخاتم، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ لَا يخفى أَن الْمحرم لبسه لَا الِانْتِفَاع بِهِ، غير أَنه قد يتَعَلَّق الإبعاد بِعَين الشَّيْء، فخاف الرجل أَن يكون هَذَا من ذَاك الْجِنْس، مثل مَا تقدم من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: أَن امْرَأَة لعنت ناقتها، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " خُذُوا مَا عَلَيْهَا ودعوها، فَإِنَّهَا ملعونة " وَكَذَلِكَ لما ورد أَرض ثَمُود فعجنوا من بئارها أَمرهم بإلقاء الْعَجِين. فَلَمَّا جَازَ أَن يكون للشَّرْع فِي صُورَة الْأَمر سر، كَانَ الأولى(2/450)
التَّمَسُّك بِظَاهِر اللَّفْظ. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على منع إِخْرَاج الْقيم فِي الزَّكَاة؛ لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ مُرَاده نفس مَا نَص عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إِزَالَة النَّجَاسَة بِالْمَاءِ.
1000 - / 1206 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: قَالَ كريب: رَأَيْت الْهلَال بِالشَّام لَيْلَة الْجُمُعَة، ثمَّ قدمت الْمَدِينَة فَأخْبرت ابْن عَبَّاس فَقَالَ: لَكنا رَأَيْنَاهُ لَيْلَة السبت. قلت: افلا تكتفي بِرُؤْيَة مُعَاوِيَة؟ قَالَ: لَا، هَكَذَا أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] اخْتلف الْفُقَهَاء فِيمَا إِذا رأى الْهلَال أهل بلد، فَهَل يلْزم جَمِيع الْبِلَاد الصَّوْم؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يلْزم، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يلْزم إِلَّا مَا قَارب ذَلِك الْبَلَد.
1001 - / 1207 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: فرض الله الصَّلَاة على نَبِيكُم فِي الْحَضَر أَرْبعا، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي الْخَوْف رَكْعَة. [15] هَذَا يحْتَج بِهِ أَبُو حنيفَة، لِأَن عِنْده يتَعَيَّن الْقصر على الْمُسَافِر وَلَا يجوز لَهُ الْإِتْمَام. وَنحن نجيب عَن هَذَا الحَدِيث من وَجْهَيْن: أَنه رَأْي ابْن عَبَّاس واجتهاده لَا رِوَايَته. وَالثَّانِي: أَن الصَّلَاة فِي السّفر رَكْعَتَيْنِ فرض من يخْتَار الْقصر، وَعِنْدنَا أَن الْمُسَافِر مُخَيّر بَين الْقصر والإتمام، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وللخصم على هَذَا اعْتِرَاض، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ: أجمعنا على أَن مَا زَاد على الرَّكْعَتَيْنِ لَا يجب على الْمُسَافِر،(2/451)
بِدَلِيل أَنه يجوز لَهُ تَركه، وَلَا يجوز أَن يُقَال: الْوُجُوب مَوْقُوف على إِرَادَة العَبْد، فَإِن اخْتَار الْإِتْمَام وَجب، وَإِن لم يختره لم يجب؛ لِأَن هَذَا يُوجب تَفْوِيض الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِلَى اخْتِيَار العَبْد. وَالْجَوَاب: إِنَّمَا لم يجب مَا زَاد على الرَّكْعَتَيْنِ لِأَن الله تَعَالَى تصدق على الْمُسَافِر. فَإِن قيل: الصَّدَقَة تسْقط عَنهُ، وَإِن لم يقبل وأتى بِهِ أَتَى بِالْوَاجِبِ، وَصَارَ كمن عَلَيْهِ أَرْبَعَة دَرَاهِم فَقَالَ صَاحب الدّين: قد تَصَدَّقت عَلَيْك بِدِرْهَمَيْنِ، فَإِن قبل وَأدّى دِرْهَمَيْنِ كَانَت هِيَ الْوَاجِب، وَإِن لم يقبل وَأدّى الْأَرْبَعَة كَانَت الْوَاجِب. وَقَوْلهمْ: الْوُجُوب لَا يقف على اخْتِيَار العَبْد. قُلْنَا: إِنَّمَا خير فِي تعْيين قدر دون قدر كَمَا خير فِي كَفَّارَة الْيَمين. وَيدل على أَن الِاخْتِيَار إِلَى العَبْد قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " فاقبلوا صدقته " وَالنَّدْب إِلَى الْقبُول دَلِيل على ارتباطه بِاخْتِيَار الْمُكَلف. وَمثل هَذَا إِيجَاب الشَّرْع على الْمُصَلِّي أَن يقف فِي الصَّلَاة بِقدر الْقِرَاءَة، ثمَّ لَو مد الْقيام وَقع الْكل وَاجِبا. [15] وَأما قَوْله: صَلَاة الْخَوْف رَكْعَة، فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا يَقْتَدِي فِيهِ الْمَأْمُوم؛ لِأَنَّهُ يَقْتَدِي فِي رَكْعَة، وَيتم أُخْرَى، وَلَوْلَا هَذَا الْحمل كَانَ مُخَالفا للْإِجْمَاع.
1002 - / 1208 وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى} [النَّجْم: 11] قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِه وَفِي لفظ: رَآهُ بفؤاده مرَّتَيْنِ. [15] اعْلَم أَن الْمُفَسّرين اخْتلفُوا فِي هَاء الْكِنَايَة فِي قَوْله: {وَلَقَد رَآهُ}(2/452)
على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا ترجع إِلَى الله عز وَجل، وعَلى هَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس. وَقَوله: بِقَلْبِه وفؤاده، رَأْي من ابْن عَبَّاس حمل فِيهِ الْحَقِيقَة على الْمجَاز، لِأَن الرُّؤْيَة إِذا أطلقت فحقيقتها بالبصر. وَقد روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " رَأَيْت رَبِّي ". وَالثَّانِي: أَنَّهَا ترجع إِلَى جِبْرِيل، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود، فَلَا يحْتَاج على هَذَا القَوْل أَن يُقَال: رَآهُ بِقَلْبِه وَلَا بفؤاده.
1003 - / 1209 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " لَك الْحَمد ملْء السَّمَوَات وملء الأَرْض ". [15] فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه أُرِيد تَكْثِير الْحَمد فَضرب لَهُ مثل يَقْتَضِي الْكَثْرَة، كَقَوْلِه: " من لَقِيَنِي بقراب الأَرْض خَطَايَا لَقيته بقرابها مغْفرَة ". وَالثَّانِي: أَن يكون الْحَمد كَمَا قيل: كتب فَمَلَأ بالصحف السَّمَوَات وَالْأَرْض. [15] وَقَوله: " أهل الثَّنَاء وَالْمجد " الْمجد: الشّرف. [15] وَقَوله: " وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد " قَالَ أَبُو عبيد: لَا ينفع ذَا الْغنى مِنْك غناهُ، وَإِنَّمَا يَنْفَعهُ طَاعَتك وَالْعَمَل بِمَا يقربهُ مِنْك.
1004 - / 1210 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِيَمِين وَشَاهد.(2/453)
[15] هَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر وَعلي وَابْن عَبَّاس وَزيد بن ثَابت وَابْن عمر وَابْن عَمْرو وَسعد بن عبَادَة وَجَابِر بن عبد الله وَأَبُو سعيد وَأَبُو هُرَيْرَة وَسَهل بن سعد وعامر بن ربيعَة والمغيرة وَأنس ابْن مَالك وَتَمِيم الدَّارِيّ وَعمارَة بن حَازِم وَعَمْرو بن حزم وَسَلَمَة بن قيس وبلال بن الْحَارِث وسرق وَزَيْنَب بنت ثَعْلَبَة العذري. وَهُوَ مَذْهَب أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَمُعَاوِيَة وَشُرَيْح وَسَعِيد بن الْمسيب وَعُرْوَة وَالشعْبِيّ وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن وخارجة بن زيد وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود وَسليمَان بن يسَار وَأبي سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن وَالزهْرِيّ وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعبد الحميد بن عبد الرَّحْمَن وَيحيى بن يعمر وَسليمَان بن حبيب وَمَكْحُول. وَمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَنه يجوز الحكم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين فِي المَال وَمَا يقْصد بِهِ المَال خلافًا لأبي حنيفَة. وَهل يقْضى بذلك فِي الْعتاق؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَلَا يقْضى بامرأتين وَيَمِين خلافًا لمَالِك. وَإِذا حكم الْحَاكِم بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين فَرجع الشَّاهِد عَن شَهَادَته غرم جَمِيع المَال. وَقَالَ الشَّافِعِي: يغرم النّصْف. [15] 1005 / 1211 وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: أهْدى الصعب بن جثامة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمَار وَحش. وَفِي لفظ: رجل وَحش، فَرده وَقَالَ: " لَوْلَا أَنا محرمون لقبلناه مِنْك ... ". [15] الرجل من أصل الْفَخْذ. والْحَدِيث مَحْمُول على أَنه صَاده لأَجله، خلافًا لأبي حنيفَة. وَفِيه وَجه آخر: وَهُوَ أَنه رد الصَّيْد لِأَنَّهُ لَا يجوز(2/454)
للْمحرمِ تملك الصَّيْد، لَا بالهدية وَلَا بِالشِّرَاءِ.
1006 - / 1213 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: " من سمع سمع الله بِهِ وَمن راءى راءى الله بِهِ ". [15] سمع: عمد ليسمع النَّاس عَنهُ فعله الْحسن. سمع الله بِهِ: أَي أظهر عَنهُ مَا ينطوي عَلَيْهِ من قبح السريرة. تَقول: سَمِعت بالشَّيْء: إِذا أشعته فَفَشَا فِي الأسماع، وَسمعت بِالرجلِ: إِذا أشهرته وأفشيت الْقَبِيح عَنهُ. وعَلى نَحْو هَذَا: " من راءى راءى الله بِهِ ".
1007 - / 1215 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: " لَا تَتَّخِذُوا شَيْئا فِيهِ الرّوح غَرضا ". [15] الْغَرَض: المرمى.
1008 - / 1216 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: بَينا جِبْرِيل قَاعد عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع نقيضا من فَوْقه، فَرفع رَأسه فَقَالَ: " هَذَا بَاب من السَّمَاء فتح الْيَوْم لم يفتح قطّ، فَنزل مِنْهُ ملك، فَقَالَ: هَذَا ملك نزل إِلَى الأَرْض لم ينزل قطّ، فَسلم وَقَالَ: أبشر بنورين أُوتِيتهُمَا لم يؤتهما نَبِي قبلك: فَاتِحَة الْكتاب وخواتيم سُورَة الْبَقَرَة، لن تقْرَأ بِحرف مِنْهُمَا إِلَّا أَعْطيته ".(2/455)
[15] النقيض: الصَّوْت. [15] قد يشكل هَذَا الحَدِيث فَيُقَال: كَأَن سُورَة " الْبَقَرَة " أوتيها نَبِي قبله، أَو " آل عمرَان " أَو غير ذَلِك من الْقُرْآن، فَكيف خص " الْفَاتِحَة " وخواتيم " الْبَقَرَة "؟ وَالْجَوَاب: أَن الْمَقْصُود مَا فيهمَا؛ فَإِن الْفَاتِحَة قد علمنَا فِيهَا سُؤال الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، وَقد وهب لِأُمَّتِنَا فِيهَا مَا لم يُوهب لمتقدمي الْأُمَم، وسلمت من أَوْصَاف المغضوب عَلَيْهِم وهم الْيَهُود، والضالين، وهم النَّصَارَى. وَآمَنت بِجَمِيعِ كتب الله وَرَسُوله، وَلم تفرق بَين رَسُول وَرَسُول كَمَا فرقت الْأُمَم قبلهَا فِي الْإِيمَان بالرسل، وَقَالَت: سمعنَا وأطعنا، وَقد قَالَ من قبلهَا: وعصينا، وعفي لَهَا عَن الْخَطَأ وَالنِّسْيَان، وَلم يحمل عَلَيْهَا إصرا - وَهُوَ الثّقل - كَمَا حمل على من قبلهَا، وَلَا مَالا طَاقَة لَهَا بِهِ. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: فقد قَالَ: " افْتَرَقت أمة مُوسَى وَعِيسَى، وَسَتَفْتَرِقُ أمتِي " فَالْجَوَاب: أَن الْفرْقَة النَّاجِية من هَذِه الْأمة أَكثر من الْفرق الضَّالة من غَيرهَا، فَهَذِهِ الْأمة إِلَى السَّلامَة أقرب. وَإِذا أردْت اعْتِبَار الْأَحْوَال فَانْظُر إِلَى قوم مُوسَى، كَيفَ عرضت لَهُم غزَاة فِي الْعُمر فَقَالُوا: {اذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} وَكَانَ أَصْحَاب نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام يستجيبون لَهُ مَعَ الْجراح والقرح. وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ لمُوسَى: {اجْعَل لنا إِلَهًا} وَهَؤُلَاء يَتْلُو أطفالهم {قل هُوَ الله أحد} وَقد سبق فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، إِنِّي(2/456)
أَرْجُو أَن تَكُونُوا نصف أهل الْجنَّة ". وَقد روينَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " أهل الْجنَّة مائَة وَعِشْرُونَ صفا، أمتِي مِنْهُم ثَمَانُون ".
1009 - / 1217 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: لما نزلت: {وَإِن تبدو مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} [الْبَقَرَة: 284] دخل قُلُوبهم مِنْهَا شَيْء لم يدْخل قُلُوبهم من شَيْء، فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} الْآيَة [الْبَقَرَة: 286] . [15] اعْلَم أَن ابْن عَبَّاس يُشِير إِلَى النّسخ، وَقد صرح بِهِ فِي حَدِيث آخر. وَقد ذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لم ينْسَخ، ثمَّ انقسموا قسمَيْنِ: مِنْهُم من قَالَ: هُوَ عَام فِي جَمِيع المخفيات. ثمَّ انقسم هَؤُلَاءِ ثَلَاث فرق: ففرقة قَالَت: يُؤَاخذ بِهِ من يَشَاء ويغفره لمن يَشَاء، وَهُوَ مَذْهَب ابْن عمر وَالْحسن. وَفرْقَة قَالَت: معنى الْمُؤَاخَذَة بِهِ اطلَاع العَبْد على فعله السيء، وَقد روى هَذَا الْمَعْنى عَليّ بن أبي طَالب عَن ابْن عَبَّاس. وَفرْقَة قَالَت: الْمُؤَاخَذَة بِهِ هُوَ مَا يُصِيب العَبْد فِي الدُّنْيَا من غم وحزن وأذى، وَهَذَا قَول عَائِشَة. وَأما الْقسم الثَّانِي فَإِنَّهُم قَالُوا: بل هُوَ خَاص فِي نوع من المخفيات، وَلَهُم فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه فِي الشَّهَادَة، قَالَ: معنى إِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم من كتمان الشَّهَادَة أَو تُخْفُوهُ، وَهَذَا الْمَعْنى فِي رِوَايَة مقسم عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنه الشَّك وَالْيَقِين، قَالَه مُجَاهِد.(2/457)
1010 - / 1218 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: أَن ضمادا سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلَاما فَقَالَ: لقد بلغ قَامُوس الْبَحْر. [15] قَالَ أَبُو عبيد: قاموسه: وَسطه، ولي فِي الْبَحْر مَوضِع أبعد غورا مِنْهُ، وَلَا المَاء أَشد انغماسا مِنْهُ فِي وَسطه. وأصل القمس الغوص. وَقد رَوَاهُ قوم: ناعوس الْبَحْر، وَهُوَ تَصْحِيف.
1011 - / 1219 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: قَالَ أَبُو البخْترِي: تراءينا الْهلَال، فَقَالَ بعض الْقَوْم: هُوَ ابْن ثَلَاث. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ ابْن لَيْلَتَيْنِ. فَقَالَ: أَي لَيْلَة رَأَيْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: لَيْلَة كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِن الله مده للرؤية ". [15] معنى الحَدِيث: لَا تنظروا إِلَى كبر الْهلَال وصغره، فَإِن تَعْلِيق الحكم على رُؤْيَته. " فَإِن أُغمي " يَعْنِي لَيْلَة رَمَضَان " فأكلموا الْعدة " أَي عدَّة شعْبَان. هَذَا الظَّاهِر، لقَولهم فِي أول الحَدِيث: أَهْلَلْنَا رَمَضَان. وَيحْتَمل: فَإِن أُغمي فِي آخِره فأكملوا عدَّة رَمَضَان.
1012 - / 1220 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: حَدِيث الرَّمْي بالنجوم. وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ من هَذَا الْمسند.(2/458)
[15] وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب: يقرفون فِيهِ: أَي يزِيدُونَ ويضيفون إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ. [15] وَمِنْه: " حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم " قَالَ ابْن قُتَيْبَة: خفف عَنْهَا الْفَزع. وَالْإِشَارَة إِلَى الْمَلَائِكَة يفزعون خوفًا من أَمر يطْرَأ عَلَيْهِم من أَمر الله عز وَجل.
1013 - / 1222 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: أَن نجدة الحروري كتب إِلَى ابْن عَبَّاس: هَل كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْزُو بِالنسَاء؟ وَهل كَانَ يضْرب لَهُنَّ بِسَهْم؟ وَهل كَانَ يقتل الصّبيان؟ وَمَتى يَنْقَضِي يتم الْيَتِيم؟ وَعَن الْخمس: لمن هُوَ؟ فَكتب إِلَيْهِ: قد كَانَ يَغْزُو بِالنسَاء فيداوين الْجَرْحى، ويحذين من الْغَنِيمَة، وَأما سهم فَلَا يضْرب لَهُنَّ: وَلم يكن يقتل الصّبيان. وَأما يتم الْيَتِيم، فلعمري إِن الرجل لتنبت لحيته وَإنَّهُ لضعيف الْأَخْذ ضَعِيف الْعَطاء، فَإِذا أَخذ لنَفسِهِ من صَالح مَا يَأْخُذ النَّاس فقد ذهب عَنهُ الْيُتْم. وَأما الْخمس فَإنَّا نقُول: هُوَ لنا، فَأبى علينا قَومنَا ذَلِك. وَقَالَ: لَوْلَا أَن يَقع فِي أحموقة مَا كتبت إِلَيْهِ. [15] يحذين: يُعْطين. [15] وَأما الْيُتْم فَإِنَّهُ يرْتَفع بِالْبُلُوغِ، وَإِنَّمَا يقف تَسْلِيم مَاله على إيناس الرشد. [15] وَأما الْخمس فَاعْلَم أَن الْغَنِيمَة إِذا حصلت عَن الْقِتَال بَدَأَ الإِمَام(2/459)
بالأسلاب، فَأَعْطَاهَا للمقاتلين، ثمَّ أخرج مُؤنَة الْغَنِيمَة: وَهِي أُجْرَة الَّذين حملوها وجمعوها وحفظوها، ثمَّ أخرج خمسها فَقَسمهُ على خَمْسَة أسْهم: سهم لله تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ، يصرف فِي الْمصَالح وسد الثغور وأزراق الْجند وَغَيرهَا. وَسَهْم لِذَوي الْقُرْبَى، وهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْن عَبَّاس: فَأبى علينا قَومنَا، كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ لبني هَاشم، فَقَالَ بَنو الْمطلب: وَلنَا. وَسَهْم لِلْيَتَامَى الْفُقَرَاء، وَسَهْم للْمَسَاكِين، وَسَهْم لأبناء السَّبِيل. ثمَّ يعْطى النَّفْل بعد ذَلِك ويرضخ لمن لاسهم لَهُ من العبيد وَالنِّسَاء وَالصبيان، ثمَّ يقسم بَاقِي الْغَنِيمَة بَين من شهد الْوَقْعَة. [15] والأحموقة من الحماقة، فَكَأَنَّهُ خَافَ أَن يفعل شَيْئا بِجَهْل، فَعرفهُ الصَّوَاب.
1014 - / 1223 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: " فَأَما السُّجُود فاجتهدوا فِي الدُّعَاء، فقمن أَن يُسْتَجَاب لكم ". [15] قمن مَفْتُوحَة الْمِيم، وَالْمعْنَى: جدير وحقيق وحري. قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال قمن، وَلَا يثنى وَلَا يجمع وَلَا يؤنث، لِأَنَّهُ مصدر سمي بِهِ، فَإِذا قلت قمن بِكَسْر الْمِيم ثنيت وجمعت وأنثت، لِأَنَّهُ اسْم. وَيُقَال قمين أَيْضا بِمَعْنى قمن. قَالَ قيس بن الخطيم:
(إِذا جَاوز الِاثْنَيْنِ سر فَأَنَّهُ ... بنث وتكثير الوشاة قمين)(2/460)
1051 - / 1234 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَئِن بقيت إِلَى قَابل لأصومن التَّاسِع "، فَلم يَأْتِ الْعَام الْمقبل حَتَّى توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي رِوَايَة: قَالَ ابْن عَبَّاس: إِذا رَأَيْت هِلَال الْمحرم فاعدد وَأصْبح يَوْم التَّاسِع صَائِما. قلت: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّد يَصُومهُ؟ قَالَ: نعم. [15] اعْلَم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قدم الْمَدِينَة رأى الْيَهُود يَصُومُونَ يَوْم عَاشُورَاء، فصامه وَأمر بصيامه، فَلَمَّا نزلت فَرِيضَة رَمَضَان لم يَأْمُرهُم بِغَيْرِهِ، فَبَقيَ ذَلِك الْيَوْم يتَطَوَّع بصومه، فَأَرَادَ مُخَالفَة الْيَهُود فِي آخر عمره، فَمَاتَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] وَفِي قَوْله: " إِذا كَانَ الْعَام الْمقبل صمنا يَوْم التَّاسِع " أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون أَرَادَ صَوْم التَّاسِع عوضا عَن الْعَاشِر ليخالف الْيَهُود. وَالثَّانِي: أَن يكون أَرَادَ صَوْم التَّاسِع والعاشر ليخالفهم. وَالثَّالِث: أَن يكون كره صَوْم يَوْم مُفْرد فَأَرَادَ أَن يصله بِيَوْم آخر. وَالرَّابِع: أَن التَّاسِع هُوَ عَاشُورَاء، وَهَذَا مَذْهَب ابْن عَبَّاس كَمَا ذكرنَا، وَإِنَّمَا أَخذه ابْن عَبَّاس من أعشار أوراد الْإِبِل، وَالْعشر عِنْدهم تِسْعَة أَيَّام، وَذَلِكَ أَنهم يحسبون فِي الأظماء الْورْد، فَإِذا وردوا يَوْمًا وَأَقَامُوا فِي المرعى يَوْمَيْنِ ثمَّ أوردوا الْيَوْم الثَّالِث قَالُوا: أوردنا أَرْبعا، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم الثَّالِث، فَإِذا أَقَامُوا فِي الرَّعْي ثَلَاثًا ووردوا الْيَوْم الرَّابِع قَالُوا: أوردنا خمْسا، وعَلى هَذَا الْحساب، فعاشوراء على هَذَا الْقيَاس إِنَّمَا هُوَ الْيَوْم التَّاسِع.(2/461)
1061 - / 1235 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حمارا مَوْسُوم الْوَجْه، فَأنْكر ذَلِك وَقَالَ: وَالله لَا أُسَمِّهِ إِلَّا فِي أقْصَى شَيْء من الْوَجْه، وَأمر بحماره فكوي فِي جَاعِرَتَيْهِ، وَهُوَ أول من كوى الْجَاعِرَتَيْنِ. [15] قَالَ الزّجاج: الجاعرتان: مَوضِع الرقمتين من عجز الْحمار. وكشف هَذِه غَيره فَقَالَ: الجاعرتان: مضرب الْحَيَوَان بِذَنبِهِ على فَخذه.
1017 - / 1226 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ذكر الأنواء. [15] وَقد سبقت فِي مُسْند زيد بن خَالِد. [15] وَقَوله: {فَلَا أقسم بمواقع النُّجُوم} [الْوَاقِعَة: 75] وَفِي " لَا " قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا صلَة. وَالثَّانِي: أَنَّهَا على أَصْلهَا. ثمَّ فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا للنَّهْي. وَالتَّقْدِير: فَلَا تكذبوا وَلَا تجحدوا مَا ذكرته من النعم. وَالثَّانِي: أَنَّهَا رد لما يَقُوله الْكفَّار فِي الْقُرْآن إِنَّه سحر وَشعر، ثمَّ اسْتَأْنف الْقسم. [15] وَفِي " النُّجُوم " قَولَانِ: أَحدهمَا: نُجُوم السَّمَاء، فعلى هَذَا فِي مواقعها ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: انتشارها يَوْم الْقِيَامَة، قَالَه الْحسن. وَالثَّانِي: منازلها، قَالَه عَطاء. وَالثَّالِث: مغيبها فِي الْمغرب، قَالَه(2/462)
أَبُو عُبَيْدَة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا نُجُوم الْقُرْآن، قَالَه ابْن عَبَّاس، فعلى هَذَا سميت نجوما لنزولها مُتَفَرِّقَة. [15] وَقَوله: (مدهنون) قَالَ مُجَاهِد: ممالئون للْكفَّار على الْكفْر بِهِ. {وتجعلون رزقكم} أَي شكر رزقكم {أَنكُمْ تكذبون} وَذَلِكَ لقَولهم: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا، فقد كفرُوا بالمنعم.
1018 - / 1227 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ الْمُسلمُونَ لَا ينظرُونَ إِلَى أبي سُفْيَان وَلَا يُقَاعِدُونَهُ، فَقَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا نَبِي الله، ثَلَاثًا أعطنيهن. قَالَ: " نعم ". قَالَ: عِنْدِي أحسن الْعَرَب وأجمله، أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان، أزَوّجكَهَا، قَالَ: " نعم ". قَالَ: وَمُعَاوِيَة تَجْعَلهُ كَاتبا بَين يَديك. قَالَ: " نعم ". [15] قَالَ: وَتُؤَمِّرنِي حَتَّى أقَاتل الْكفَّار كَمَا كنت أقَاتل الْمُسلمين. قَالَ: " نعم ". وَفِي هَذَا الحَدِيث وهم من بعض الروَاة لَا شكّ فِيهِ وَلَا تردد، وَقد اتهموا بِهِ عِكْرِمَة بن عمار رَاوِي الحَدِيث، وَقد ضعف أَحَادِيثه يحيى ابْن سعيد وَقَالَ: لَيست بصحاح، وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هِيَ أَحَادِيث ضِعَاف، وَلذَلِك لم يخرج عَنهُ البُخَارِيّ، وَإِنَّمَا أخرج عَنهُ مُسلم، لِأَنَّهُ قد قَالَ يحيى بن معِين: هُوَ ثِقَة. [15] وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن هَذَا وهم لِأَن أهل التَّارِيخ أَجمعُوا على أَن أم حَبِيبَة(2/463)
كَانَت عِنْد عبد الله بن جحش، وَولدت لَهُ، وَهَاجَر بهَا وهما مسلمان إِلَى أَرض الْحَبَشَة، ثمَّ تنصر وَثبتت هِيَ على دينهَا، فَبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى النَّجَاشِيّ ليخطبها عَلَيْهَا، فَزَوجهُ إِيَّاهَا، واصدقها عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ سنة سبع من الْهِجْرَة، وَجَاء أَبُو سُفْيَان فِي زمن الْهُدْنَة فَدخل عَلَيْهَا، فتلت بِسَاط رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى لَا يجلس عَلَيْهِ. وَلَا خلاف أَن أَبَا سُفْيَان وَمُعَاوِيَة أسلما فِي فتح مَكَّة سنة ثَمَان، وَلَا نَعْرِف أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَبَا سُفْيَان. وَقد أَنبأَنَا ابْن نَاصِر عَن أبي عبد الله الْحميدِي قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن سعيد الْحَافِظ قَالَ: هَذَا حَدِيث مَوْضُوع لَا شكّ فِي وَضعه، والآفة فِيهِ من عِكْرِمَة بن عمار، وَلم يخْتَلف أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزَوجهَا قبل الْفَتْح بدهر وأبوها كَافِر. [15] وَأما كَون الْمُسلمين كَانُوا لَا ينظرُونَ إِلَيْهِ وَلَا يُقَاعِدُونَهُ فلأجل مالقوا من محاربته، ثمَّ مَا كَانُوا يثقون بِإِسْلَامِهِ، وَهُوَ مَعْدُود فِي الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم، ثمَّ إِن الله ثَبت الْإِسْلَام فِي قلبه فقاتل الْمُشْركين وَبَالغ.
1019 - / 1228 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: كَانَ الْمُشْركُونَ يَقُولُونَ: لبيْك لَا شريك لَك، فَيَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " وَيْلكُمْ، قد قد " أَي حسبكم؛ لِأَنَّهُ علم أَنهم يَقُولُونَ بعد هَذَا: إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك.
1020 - / 1230 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: " إِذْ دبغ الإهاب فقد طهر ".(2/464)
[15] يحْتَج بِهَذَا من يرى طَهَارَة جُلُود الْميتَة، وَهَذَا لَا يُمكن الْعَمَل بِإِطْلَاقِهِ إِلَّا عِنْد أبي يُوسُف وَدَاوُد، فَإِن الشَّافِعِي يَسْتَثْنِي جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير، وَأَبا حنيفَة جلد الْخِنْزِير، فَإِذا لم يكن الْعَمَل عِنْدهمَا بِعُمُومِهِ حملناه على غير الْميتَة، وَيكون معنى طَهَارَته بالدبغ أَن إِزَالَة الأوساخ عَنهُ بدبغه أَجْزَأت عَن المَاء. وَإِن قُلْنَا: هُوَ مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن عكيم فَلَا كَلَام. [15] وَقَوله: يُؤْتى بالسقاء يجْعَلُونَ فِيهِ الودك. فَنَقُول: من الْجَائِز أَن يكون من الْمَجُوس من أسلم أَو من أهل الْكتاب، فَيحْتَمل من ذبح أُولَئِكَ، فَيَنْبَغِي قَوْله: " دباغه طهوره " فَيكون مَعْنَاهُ. مَا ذكرنَا.
1021 - / 1231 وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: فِي ذكر الْخمر: " إِن الَّذِي حرم شربهَا حرم بيعهَا " فَفتح المزادتين حَتَّى ذهب مَا فِيهَا. [15] الْخمر نجسسة الْعين، فَلَا يَصح بيعهَا كالبول. [15] والمزاد: جلد مخروز على هَيْئَة مَا يحمل المَاء كالقربة والراوية.
1022 - / 1233 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: انْطلق سِنَان بن سَلمَة مُعْتَمِرًا وَانْطَلق مَعَه ببدنة يَسُوقهَا، فأزحفت عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ، فعي بشأنها إِن هِيَ أبدعت، كَيفَ يَأْتِي لَهَا. [15] أزحفت مَفْتُوح الْألف، قَالَ الزّجاج: وَيُقَال زحف الصَّبِي(2/465)
وأزحف: إِذا لم يقدر على النهوض، مهزولا كَانَ أَو سمينا. [15] وَقَوله: فعي بشأنها. يُقَال: عي فلَان بِكَذَا وعيي بِهِ: إِذا تحير فَلم يدر كَيفَ الْمخْرج فِيهِ. [15] وأبدعت النَّاقة: أَي ظلعت وكلت فَلم تنهض، والظلع لِلْإِبِلِ كالعرج للْإنْسَان. [15] وَقَوله: لأستحفين: أَي لأستقصين فِي السُّؤَال عَنهُ. والحفي بالشَّيْء: المعني بِهِ والمستقصي فِي الْبَحْث عَنهُ. [15] وَقَوله: أَصبَحت: يَعْنِي انقادت. [15] والبطحاء: الْمَكَان المتسع المنفسح، وَكَذَلِكَ الأبطح والبطيحة. [15] وَقَوله: على الْخَبِير سَقَطت: أَي على من يعلم بَاطِن هَذَا الْأَمر وَقعت. [15] وَقَوله: اصبغ نعلها فِي دَمهَا: أَي اغمسه فِيهِ والطخه بِهِ، ثمَّ اجْعَلْهُ على صفحتها ليَكُون ذَلِك عَلامَة يعرف بِهِ النَّاظر أَنَّهَا هَدِيَّة فيأكلها الْفُقَرَاء. [15] وَقَوله: وَلَا تَأْكُل مِنْهَا. عندنَا أَنه لَا يجوز الْأكل من جَمِيع الدِّمَاء الْوَاجِبَة إِلَّا من هدي التَّمَتُّع وَالْقرَان. وَعَن أَحْمد: يَأْكُل من الْجَمِيع إِلَّا النّذر وَجَزَاء الصَّيْد، وَبِه قَالَ مَالك، وَزَاد: وفدية الْأَذَى. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يَأْكُل من جَمِيع الدِّمَاء الْوَاجِبَة.(2/466)
1023 - / 123 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: سَأَلت ابْن عَبَّاس: كَيفَ أُصَلِّي إِذا كنت بِمَكَّة إِذا لم أصل مَعَ الإِمَام؟ قَالَ: رَكْعَتَيْنِ، سنة أبي الْقَاسِم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله. [15] الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى قصر الْمُسَافِر للصَّلَاة. وَقد سبق الْبَيَان أَنه إِذا نوى إِقَامَة تزيد على أَرْبَعَة أتم. وَعَن أَحْمد: إِذا نوى اثْنَتَيْنِ وَعشْرين صَلَاة أتم. وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي ذَلِك الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين من أَفْرَاد البُخَارِيّ فِي هَذَا الْمسند.
1024 - / 1235 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر بِذِي الحليفة، ثمَّ دَعَا بناقته فأشعرها فِي صفحة سنامها الْأَيْمن وسلت الدَّم عَنْهَا وقلدها نَعْلَيْنِ، ثمَّ ركب رَاحِلَته، فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ على الْبَيْدَاء أهل بِالْحَجِّ. [15] قَالَ أَبُو عبيد: إِشْعَار الْحَج أَن تطعن فِي أسنمتها فِي أحد الْجَانِبَيْنِ بمبضع أَو نَحوه بِقدر مَا يسيل الدَّم. وأصل الْإِشْعَار الْعَلامَة، وَإِنَّمَا يفعل هَذَا بِالْهَدْي ليعلم أَنه قد جعل هَديا. وإشعار الْهَدْي وتقليدها سنة عِنْد أَكثر الْعلمَاء، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يكره الْإِشْعَار، وَهَذَا الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. فَإِن قيل: هَذَا مثلَة. قُلْنَا: هَذَا اعْتِرَاض على الشَّرْع فَلَا يقبل، ثمَّ إِنَّمَا تكون الْمثلَة بِقطع عُضْو من الْحَيَوَان الْحَيّ. وسبيل الْإِشْعَار سَبِيل الكي والوسم ليعرف بذلك الْمَالِك، وَكَذَلِكَ الْإِشْعَار ليعلم أَنَّهَا بَدَنَة فتتميز وتصان.(2/467)
[15] وَفِي صفة الْإِشْعَار لنا ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهُنَّ: أَنه شقّ صفحة سنامها الْأَيْمن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَالثَّانيَِة: شقّ سنامها الْأَيْسَر، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد. وَالثَّالِثَة: أَنه مُخَيّر فِيهَا. [15] وَقَوله: وسلت عَنْهَا الدَّم بِيَدِهِ: أَي أماطه بإصبعه، وأصل السلت الْقطع، يُقَال: سلت الله أَنفه: أَي جدعه. [15] وَأما التَّقْلِيد فمسنون أَيْضا، وَعِنْدنَا أَنه يُمَيّز تَقْلِيد الْغنم أَيْضا خلافًا لأبي حنيفَة وَمَالك. [15] وَقَوله: فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ على الْبَيْدَاء أهل بِالْحَجِّ: أَي علت بِهِ فَوق الْبَيْدَاء. قَالَ الْخَلِيل: أَتَيْنَا أَبَا ربيعَة الْأَعرَابِي وَهُوَ فَوق سطح فَقَالَ: اسْتَووا واصعدوا. [15] وَاخْتلف الْعلمَاء فِي أفضل وَقت الْإِحْرَام، فَروِيَ عَن أَحْمد أَن الْأَفْضَل أَن يحرم عقيب رَكْعَتَيْنِ. وَعنهُ: أَن الْإِحْرَام عقيب الصَّلَاة وَحين تستوي بِهِ رَاحِلَته على الْبَيْدَاء سَوَاء. وَقَالَ مَالك: الْأَفْضَل حِين تستوي بِهِ رَاحِلَته على الْبَيْدَاء. وَقَالَ الشَّافِعِي قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا كَقَوْلِنَا الأول وَالثَّانِي: إِذا سَارَتْ بِهِ رَاحِلَته. [15] وَأما الإهلال فَهُوَ رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ.
1025 - / 1237 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: نهى عَن كل(2/468)
ذِي نَاب من السبَاع، وَعَن كل ذِي مخلب من الطير. [15] المخلب للصائد من الطير وللسباع أَيْضا الظفر، وَسمي مخلبا لِأَنَّهَا تخلب بِهِ. والخلب: الشق وَالْقطع.
1026 - / 1238 وَقد سبق الْكَلَام فِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّامِن.
1028 - / 1239 إِلَّا أَن فِي الثَّامِن أَنه شرب من زبيب قد جعل فِي مَاء يَوْمه وَلَيْلَته، فَلَمَّا أصبح أَمر بِمَا بَقِي مِنْهُ فأهريق. وَهَذَا لِأَنَّهُ اشْتَدَّ أَو قَارب. [15] وَفِي رِوَايَة: كَانَ ينقع لَهُ الزَّبِيب فيشربه الْيَوْم وَغدا وَبعد الْغَد إِلَى مسَاء الثَّالِثَة، ثمَّ يَأْمر بِهِ فيسقى أَو يراق. وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَا لم يشْتَد وَلم يتكامل لَهُ ثَلَاثَة أَيَّام، فَأَما إِذا تَيَقّن اشتداده فَإِنَّهُ يراق وَلَا يسقى أحدا.
1028 - / 1240 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: فحطأني حطأة. [15] الحطء: الدّفع. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْمَعْنى ضَرَبَنِي بِيَدِهِ مبسوطة، وَمثله لطخني، يُقَال: حطأني: أَي دفعني. وَقَول الرَّاوِي: وقفدني: وَهُوَ حطأني، إِلَّا أَنه بالتواء رسغ الْكَفّ إِلَى الْجَانِب الوحشي من الْإِنْسَان، والجانب الوحشي الَّذِي فِيهِ الْخِنْصر، والإنسي الَّذِي فِيهِ الْإِبْهَام. ورسغ الْكَفّ: ملتقى الْكَفّ والذراع، وَهُوَ الْموضع الَّذِي(2/469)
ينثني بَين الْكَفّ والذراع، وَكَأن القفد على هَذَا ضرب بِالْيَدِ الْيُمْنَى إِلَى جِهَة الْيَمين. [
15 -] آخر مَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس من الْمُشكل(2/470)
(76) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي عبد الرَّحْمَن، عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنْهُمَا
[15] أسلم بِمَكَّة مَعَ أَبِيه، وَلم يكن بَالغا حِينَئِذٍ، وَهَاجَر مَعَ أَبِيه إِلَى الْمَدِينَة، وَأول غَزْوَة شَهِدَهَا الخَنْدَق. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألفا حَدِيث وسِتمِائَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِائَتَا حَدِيث وَثَمَانُونَ.
1029 - / 1241 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " لَا عدوى وَلَا طيرة ". كَانَت الْعَرَب تتوهم الْفِعْل فِي الْأَسْبَاب، كَمَا كَانَت تتوهم نزُول الْمَطَر بِفعل الأنواء، فَأبْطل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك بقوله: " لَا عدوى " وَإِنَّمَا أَرَادَ إِضَافَة الْأَشْيَاء إِلَى الْقدر، وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " فَمن أعدى الأول؟ " وَنهى عَن الْوُرُود إِلَى بلد فِيهِ الطَّاعُون لِئَلَّا يقف الْإِنْسَان مَعَ السَّبَب وينسى الْمُسَبّب. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة: " لَا يُورد(2/471)
ممرض على مصح، وفر من المجذوم فرارك من الْأسد "، ثمَّ قد يسقم الْإِنْسَان لمصاحبة السقيم من جِهَة أَن الرَّائِحَة كَانَت سَببا فِي الْمَرَض، وَالله تَعَالَى قد يعْمل الْأَسْبَاب وَقد يُبْطِلهَا، وَكَذَلِكَ قَوْله: " وَلَا طيرة " والطيرة من التطير: وَهُوَ التشاؤم بالشَّيْء ترَاهُ أَو تسمعه وتتوهم وُقُوع الْمَكْرُوه بِهِ. وَقد بَينا ذَلِك فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِضَافَة الْوَاقِعَات من الضَّرَر والنفع إِلَى الله عز وَجل. [15] وَأما قَوْله: " الشؤم فِي ثَلَاث " فقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند سهل بن سعد. [15] الْإِبِل الهيم: الَّتِي يُصِيبهَا دَاء يُقَال لَهُ الهيام، يكسبها الْعَطش فَلَا تروى من المَاء، وَرُبمَا أَدَّاهَا ذَلِك إِلَى الْمَوْت، وَالْوَاحد أهيم وهيمان، وناقة هيماء، وَرُبمَا أصَاب غَيرهَا من الْإِبِل الَّتِي مَعهَا مثل ذَلِك فيظن أَنه أعدى، وَلذَلِك قَالَ: " لَا عدوى ".
1030 - / 1242 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " من جَاءَ مِنْكُم الْجُمُعَة فليغتسل ". [15] هَذَا مِمَّا كَانَ وَاجِبا فنسخ الْوُجُوب وَبَقِي مُسْتَحبا. وناسخه حَدِيث أنس وَأبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " من تَوَضَّأ فبها ونعمت، وَمن(2/472)
اغْتسل فالغسل أفضل " وَمذهب دَاوُد أَنه بَاقٍ على الْوُجُوب، وَقد حُكيَ عَن مَالك أَيْضا.
1031 - / 1243 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: صلى لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعشَاء فِي آخر حَيَاته، فَلَمَّا سلم قَامَ فَقَالَ: " أَرَأَيْتُم ليلتكم هَذِه، فَإِن رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض أحد ". [15] هَذَا علم غيب أطلعه الله عز وَجل عَلَيْهِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ قد كَانَ خلق يعمرون فِي ذَلِك الزَّمَان، كسلمان فَإِنَّهُ عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخمسين سنة، إِلَّا أَنه لم يبْق أحد بعد مائَة سنة من ذَلِك الْيَوْم تَصْدِيقًا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي هَذَا رد لقَوْل من يزْعم بَقَاء الْخضر، لِأَنَّهُ من بني آدم، وَهُوَ على ظهر الأَرْض.
1032 - / 1244 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، فَإِذا خفت الصُّبْح فأوتر بِوَاحِدَة ". [15] أَكثر أَصْحَاب ابْن عمر رووا عَنهُ: " صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى " وَهُوَ الْمَذْكُور فِي الصَّحِيح، وَقد روى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث عَليّ بن عبد الله الْبَارِقي عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " صَلَاة اللَّيْل(2/473)
وَالنَّهَار مثنى مثنى " وَهَذِه زِيَادَة من ثِقَة، وَهِي مَقْبُولَة، وَعِنْدنَا أَن الْأَفْضَل من النَّوَافِل أَن يسلم فِي كل رَكْعَتَيْنِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْأَفْضَل أَن يسلم من أَربع. وَحكى القَاضِي أَبُو يعلى عَن مَذْهَب أبي حنيفَة قَالَ: أما صَلَاة النَّهَار فَإِن شَاءَ أَرْبعا وَإِن شَاءَ رَكْعَتَيْنِ بِسَلام، وَلَا يزِيد على الْأَرْبَع بِسَلام وَاحِد. وَأما صَلَاة اللَّيْل فَإِن شَاءَ رَكْعَتَيْنِ، وَإِن شَاءَ أَرْبعا، وَإِن شَاءَ سِتا، وَإِن شَاءَ ثمانيا، لَا يزِيد على ذَلِك بِتَسْلِيمَة وَاحِدَة. [15] وَقَوله: " وأوتر بِوَاحِدَة " نَص على جَوَاز الْوتر بِوَاحِدَة، وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: أقل الْوتر ثَلَاث، إِلَّا أَن أَبَا حنيفَة يَقُول: بِسَلام وَاحِد، وَمَالك يَقُول: بِسَلام عقيب الثَّانِيَة. [15] وَقَوله: كَأَن الْأَذَان بأذنيه قَالَ حَمَّاد بن زيد: يَعْنِي يُصَلِّيهمَا مسرعا، فعلى هَذَا يكون المُرَاد بِالْأَذَانِ هَاهُنَا الْإِقَامَة، وَالْمعْنَى أَنه يخففهما كَأَنَّهُ قد سمع الْإِقَامَة، وَتسَمى الْإِقَامَة أذانا، لِأَن الْأَذَان إِعْلَام، وَيحْتَمل أَنه كَانَ يُصَلِّيهمَا عقيب الْأَذَان.
1033 - / 1245 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تسمعوا أَذَان ابْن أم مَكْتُوم ". [15] كَانَ مؤذنو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة: بِلَال: وَهُوَ أول من أذن لَهُ.(2/474)
وَابْن أم مَكْتُوم الْأَعْمَى، وَقد سبق الْخلاف فِي اسْمه فِي مُسْند زيد بن ثَابت. وَأَبُو مَحْذُورَة الجُمَحِي. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على جَوَاز الْأَذَان للفجر قبل طُلُوع الْفجْر، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي ذَلِك فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1034 - / 1246 وَفِي الحَدِيث السَّادِس: رفع الْيَدَيْنِ عِنْد الرُّكُوع وَعند الرّفْع مِنْهُ. [15] وَقد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند مَالك بن الْحُوَيْرِث.
1035 - / 1247 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " كلكُمْ رَاع، وكلكم مسئول عَن رَعيته ". [15] الرَّاعِي هَاهُنَا الْحَافِظ المؤتمن. وَهَذَا لِأَن الْولَايَة على الْمولى عَلَيْهِ أَمَانَة، لِأَنَّهُ مَأْمُور بِحِفْظ مَا استرعى، فالسؤال عَن حفظ الْأَمَانَة يَقع.
1036 - / 1248 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهل ملبدا: " لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك ". [15] قد بَينا معنى الإهلال والتلبيد فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَبينا معنى: " اللَّهُمَّ " فِي مُسْند أبي بكر الصّديق عَلَيْهِ السَّلَام، وفسرنا " لبيْك(2/475)
وَسَعْديك " فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. [15] وَقَوله: " إِن الْحَمد " كسر الْألف أَجود من فتحهَا. قَالَ ثَعْلَب: من كسر فقد عَم، وَمن فتح فقد خص. [15] وَلَا تسْتَحب عندنَا الزِّيَادَة على تَلْبِيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ قد قَالَ: " خُذُوا عني مَنَاسِككُم " وَهَذَا قَول الشَّافِعِي أَيْضا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يسْتَحبّ. والتلبية عندنَا وَعند الشَّافِعِي لَا تجب، إِنَّمَا تدخل فِي الْإِحْرَام بِمُجَرَّد النِّيَّة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة تجب فِي ابْتِدَاء الْإِحْرَام. فَإِن لم يلب وقلد الْهَدْي وَسَاقه وَنوى الْإِحْرَام صَار محرما. وَقَالَ مَالك: يجب بترك التَّلْبِيَة دم. وَإِظْهَار التَّلْبِيَة عندنَا مسنون فِي الصَّحَارِي دون الْأَمْصَار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: يسْتَحبّ إظهارها فِي الْأَمْصَار وَغَيرهَا. وَقَالَ مَالك: يكره إظهارها فِي الْمَسَاجِد. [15] وَأما الرغباء فَالَّذِي سمعناه من أشياخنا فتح الرَّاء مَعَ الْمَدّ. وَمن النَّاس من يخْتَار الْقصر مَعَ فتح الرَّاء كسكرى وشكوى. وَمِنْهُم من يقصر مَعَ ضم الرَّاء. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: فِيهَا لُغَتَانِ: الرغباء بِفَتْح الرَّاء مَمْدُود، والرغبى بِضَم الرَّاء مَقْصُورَة. وَتَفْسِير الرغباء الْمَسْأَلَة، وَالْمعْنَى: وَالرَّغْبَة إِلَيْك وَالْعَمَل لَك.(2/476)
1037 - / 1249 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين يقدم من مَكَّة اسْتَلم الرُّكْن الْأسود أول مَا يطوف يخب ثَلَاثَة أطواف من السَّبع. [15] الخبب: ضرب من الْعَدو فَوق الْمَشْي وَدون الجري، وَهُوَ الرمل. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ من مُسْند ابْن عَبَّاس، وَبينا سَببه. وَالسَّعْي: إسراع الْمَشْي حَتَّى يُقَارب الْعَدو. والأشواط جمع شوط، وَالْمرَاد بِهِ مِقْدَار الطّواف حول الْبَيْت مرّة. [15] وبطن المسيل يُرَاد بِهِ الْوَادي، وَهُوَ مَا بَين الصَّفَا والمروة. [15] والركعتان بعد الطّواف سنة عندنَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: وَاجِبَة، وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين.
1038 - / 1250 وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: لم أر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْتَلم إِلَّا الرُّكْنَيْنِ اليمانيين. [15] الإستلام: اللَّمْس بِالْيَدِ. وَقد شرحنا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1039 - / 1251 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: كَانَ ابْن عمر يقدم ضعفة أَهله فيقفون عِنْد الْمشعر الْحَرَام.(2/477)
[15] وَقد شرحنا هَذَا الحَدِيث فِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ من مُسْند ابْن عَبَّاس. والمشعر: الْمعلم لمتعبد من المتعبدات.
1040 - / 1252 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر " يهل أهل الْمَدِينَة من ذِي الحليفة " وَفِي لفظ: " مهل أهل الْمَدِينَة من ذِي الحليفة ". [15] الْمِيم فِي الْمهل مَضْمُومَة، وَإِنَّمَا يفتحها من لَا يعرف. والإهلال: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. [15] وَقد سبق ذكر الْمَوَاقِيت فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1041 - / 1253 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " لَا يلبس الْمحرم الْقَمِيص وَلَا الْعِمَامَة وَلَا الْبُرْنُس وَلَا السَّرَاوِيل ". [15] اعْلَم أَن الْمحرم مَمْنُوع من لبس الْمخيط وتغطية الرَّأْس. وَفِي تَغْطِيَة وَجهه رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد. [15] والورس: نبت يصْبغ بِهِ كالعصفر. [15] وَلَا يجوز لَهُ لبس السَّرَاوِيل إِلَّا أَن يعْدم الْإِزَار. وَلَا الْخُفَّيْنِ إِلَّا عِنْد عدم النَّعْلَيْنِ، فَيجوز لَهُ لبس السَّرَاوِيل من أَن يفتفه، وَلبس الْخُفَّيْنِ من غير أَن يقطعهما، عملا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي تقدم فِي مُسْنده. وَقد ذكرنَا هُنَاكَ عَن أَصْحَاب أبي حنيفَة أَنه لَا يجوز لَهُ لبس السَّرَاوِيل حَتَّى يفتقه، أَو يلْبسهُ ويفتدي. فَأَما الخفان فَقَالَ أَبُو حنيفَة:(2/478)
لَا يجوز لَهُ لبسهما إِلَّا أَن يقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ عملا بِهَذَا الحَدِيث. ولأصحابه أَن يَقُولُوا: إِن كَانَ حَدِيث ابْن عَبَّاس مُطلقًا فِي اللّبْس، فَحَدِيث ابْن عمر مُقَيّد الْجَوَاز بِشَرْط الْقطع. فقد أجَاب أَصْحَابنَا فَقَالُوا: قد روى حَدِيث ابْن مَالك وَعبيد الله بن عمر وَأَيوب فِي آخَرين، فوقفوه على ابْن عمر، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس أَكثر رُوَاة، وَلم يقفه أحد. وَقد أخرج مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل حَدِيث ابْن عَبَّاس من غير اشْتِرَاط قطع. ثمَّ قد أَخذ بحديثنا عمر وَعلي وَسعد وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، ثمَّ إِنَّا نحمل قَوْله: " وليقطعهما " على الْجَوَاز من غير كَرَاهَة لأجل الْإِحْرَام، وَينْهى عَن ذَلِك فِي غير الْإِحْرَام لما فِيهِ من الْفساد. فَأَما إِذا لبس الْخُف الْمَقْطُوع من أَسْفَل الكعب مَعَ وجود النَّعْل فعندنا أَنه لَا يجوز وَيجب عَلَيْهِ الْفِدَاء خلافًا لأبي حنيفَة وَأحد قولي الشَّافِعِي. [15] فَأَما النقاب فَهُوَ مَا كَانَ على الْأنف يستر مَا تَحْتَهُ. [15] وَأما القفازان فَقَالَ أَبُو عبيد: هما شَيْء يعْمل لِلْيَدَيْنِ ويحشى بِقطن وَيكون لَهُ أزرار يزر على الساعدين من الْبرد، يلْبسهُ النِّسَاء. قلت: وَقد اخْتلف الْفُقَهَاء فِي لبس القفازين: فَقَالَ أَحْمد: لَا يجوز للمحرمة لبسهما. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز، وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين وَقَالَ أَبُو عبيد: النَّاس على الرُّخْصَة فِي هَذَا؛ لِأَن الْإِحْرَام إِنَّمَا هُوَ فِي الرَّأْس وَالْوَجْه.(2/479)
1042 - / 1254 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ذكر التَّمَتُّع. وَقد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1043 - / 1255 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: ذكر صَلَاة الْخَوْف، ذَكرنَاهَا فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة.
1044 - / 1256 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسبح على ظهر رَاحِلَته حَيْثُ كَانَ وَجهه، يومىء بِرَأْسِهِ. [15] المُرَاد بالتسبيح هَاهُنَا صَلَاة النَّافِلَة. وَلَا يشْتَرط فِي ذَلِك مُوَاجهَة الْقبْلَة إِلَّا أَن يُمكنهُ افْتِتَاح الصَّلَاة إِلَى الْقبْلَة فَيلْزمهُ ذَلِك وَيتم الصَّلَاة على حسب حَاله، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك فِي سفر طَوِيل أَو قصير. وَقَالَ مَالك: لَا يجوز إِلَّا فِي السّفر الطَّوِيل. وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا كَقَوْلِنَا، وَالثَّانيَِة: يجوز أَيْضا خَارج الْمصر وَإِن لم ينْو سفرا. وَعِنْدنَا أَنه يجوز التَّنَفُّل فِي السّفر للماشي أَيْضا خلافًا لأبي حنيفَة. [15] وَقَوله: يُوتر عَلَيْهَا، دَلِيل على أَن الْوتر لَيْسَ بِوَاجِب، وَإِنَّمَا يجْرِي مجْرى السّنَن، إِذْ الْوَاجِب لَا يجوز فعله على الْبَعِير، وَهَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَعَن أَحْمد مَا يدل على وجوب الْوتر كَأبي حنيفَة، وَالْأول أصح.(2/480)
[15] وَقد قَالَ ابْن عقيل من أَصْحَابنَا: الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث مَدْخُول؛ لِأَنَّهُ قد صَحَّ أَن الْوتر كَانَ وَاجِبا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَا بُد أَن يُقَال: كَانَ ذَلِك لعذر عرض لَهُ. قلت: وَقَول ابْن عقيل هُوَ الْمَدْخُول من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهمَا: أَن ابْن عمر يَقُول: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوتر على الْبَعِير، و " كَانَ " إِخْبَار عَن دوَام الْفِعْل. وَالثَّانِي: أَن ابْن عمر أفتى بِهِ فَتْوَى عَامَّة، وَفِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عمر: أَن سعيد ابْن يسَار قَالَ: كنت أَسِير مَعَ ابْن عمر، فَنزلت فأوترت، فَقَالَ: أَلَيْسَ لَك فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُسْوَة حَسَنَة؟ قلت: بلَى. قَالَ: إِنَّه كَانَ يُوتر على الْبَعِير. وَالثَّالِث: أَنا لَا نعلم حَدِيثا صَحِيحا فِي تَخْصِيص رَسُول الله بِوُجُوب الْوتر، إِنَّمَا ثمَّ حَدِيث يرويهِ أَبُو جناب الْكَلْبِيّ، وَقد ضعفه يحيى وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَحمل عَلَيْهِ أَحْمد بن حَنْبَل حملا شَدِيدا، وَقَالَ الفلاس: هُوَ مَتْرُوك الحَدِيث.
1045 - / 1257 وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي يَوْم الْجُمُعَة رَكْعَتَيْنِ. [15] وَهَذَا أقل مَا رُوِيَ فِي سنة الْجُمُعَة، وَبِه يَقُول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة: أَربع رَكْعَات. وَقَالَ إِسْحَق بن رَاهَوَيْه: إِن صلى فِي الْمَسْجِد صلى رَابِعا، وَإِن صلى فِي بَيته صلى رَكْعَتَيْنِ،(2/481)
وَاحْتج بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بعد الْجُمُعَة رَكْعَتَيْنِ فِي بَيته. وَبقول: " من كَانَ مِنْكُم مُصَليا بعد الْجُمُعَة فَليصل أَرْبعا ". وَكَانَ ابْن مَسْعُود يُصَلِّي قبل الْجُمُعَة أَرْبعا وَبعدهَا أَرْبعا، وَإِلَى هَذَا ذهب الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك. وَقَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم: وكل هَذَا جَائِز.
1046 - / 1258 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " إِذا اسْتَأْذَنت أحدكُم امْرَأَته إِلَى الْمَسْجِد فَلَا يمْنَعهَا ". [15] اعْلَم أَن نسَاء الصَّحَابَة كن على طَريقَة الْأزْوَاج فِي التدين والتعبد، وانضم إِلَى هَذَا مَا فِي طباع الْعَرَب من تقبيح الْفَوَاحِش خُصُوصا الْحَرَائِر، كَمَا قَالَت هِنْد: وَهل تَزني الْحرَّة؟ فَاجْتمع مَا فِي الطباع من الأنفة والعفاف إِلَى مَا وهب الله لَهُنَّ من الدّين، فَأذن لَهُنَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد، وَقد كن يحضرن موعظته، ويصلين خَلفه، ويسافرن فِي الْغَزَوَات مَعَه. فَمن علم من امْرَأَته حسن الْمَقْصد فِي خُرُوجهَا إِلَى الصَّلَاة فَلَا يمْنَعهَا، ولحسن الْمَقْصد عَلَامَات: مِنْهَا ترك الزِّينَة وَالطّيب، وَالْمُبَالغَة فِي الاستتار. وَمن لم يجد ذَلِك مِنْهُنَّ جَازَ لَهُ الْمَنْع، فقد قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: لَو علم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أحدث النِّسَاء بعده لمنعهن الْمَسْجِد. وَقد(2/482)
تكون الْمَرْأَة حَسَنَة الْمَقْصد غير أَنَّهَا تكون ذَات هيكل فتؤذي من يَرَاهَا، فالاستتار لتِلْك أولى، وَقد كَانَ عمر بن الْخطاب يكره خُرُوج امْرَأَته ويغار من ذَلِك، وَلَا يَنْهَاهَا لأجل هَذَا الحَدِيث. وَكَانَ عمر يحرص على نزُول الْحجاب حَتَّى قَالَ يَوْمًا لسودة: قد عرفناك، لِئَلَّا تخرج. [15] والدغل الْفساد، وأصل الدغل الشّجر الملتف الَّذِي يسْتَتر بِهِ أهل الْفساد.
1047 - / 1259 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: لما مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحجرِ قَالَ: " لَا تدْخلُوا مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم ". [15] الْإِشَارَة إِلَى قوم ثَمُود. قَالَ قَتَادَة: الْحجر اسْم الْوَادي الَّذِي كَانُوا بِهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: اسْم مدينتهم. [15] وَقَوله: " إِلَّا أَن تَكُونُوا بَاكِينَ " إِنَّمَا ينشأ الْبكاء عَن التفكر، فَكَأَنَّهُ أَمرهم فِي التفكر فِي أَحْوَال توجب الْبكاء. والتفكر الَّذِي ينشأ عَنهُ الْبكاء فِي مثل ذَلِك الْمقَام يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا تفكر يتَعَلَّق بِأَمْر الله عز وَجل. [15] وَالثَّانِي: يتَعَلَّق بأولئك الْقَوْم. وَالثَّالِث: يتَعَلَّق بالمار عَلَيْهِم. وَفِي كل قسم من هَذِه فنون نشِير إِلَى يسير مِنْهَا يُنَبه على الْكثير. فَأَما الْمُتَعَلّق بِاللَّه عز وَجل: فَمِنْهُ قَضَاؤُهُ على أُولَئِكَ بالْكفْر، وَلِهَذَا الْمَار عَلَيْهِم بِالْإِيمَان قبل وجود الْفَرِيقَيْنِ. وَمِنْه خوف تقليبه الْقُلُوب، فَرُبمَا جعل مآل الْمُؤمن إِلَى الْكفْر. وَمِنْه إمهال الْكفَّار على كفرهم مُدَّة(2/483)
طَوِيلَة. وَمِنْه شدَّة نقمته وَقُوَّة عَذَابه. وَأما الْمُتَعَلّق بالقوم فإهمالهم إِعْمَال الْعُقُول فِي طَاعَة الْخلق، ومبارزتهم بالعناد والمخالفة، وفوات أَمرهم حَتَّى لَا وَجه للاستدراك، حَتَّى إِن لعنتهم وعقوبتهم أثرت فِي الْمَكَان وَالْمَاء، فَقَالَ: " لَا تدْخلُوا مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم " وَلما استقوا من آبارهم وعجنوا بِهِ أَمرهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يهريقوا مَا استقوا ويعلفوا الْإِبِل الْعَجِين وَأَن يَسْتَقُوا من الْبِئْر الَّتِي كَانَت تردها النَّاقة. فَأَما الْمُتَعَلّق بالمار عَلَيْهِم فتوفيقه للْإيمَان، واعتباره بِالْجِنْسِ، وتمكينه من الِاسْتِدْرَاك، وإمهاله مَعَ الْعِصْيَان، ومسامحته مَعَ الزلل، إِلَى غير ذَلِك من الْأَسْبَاب الَّتِي كلهَا توجب الْبكاء. فَمن مر على مثل أُولَئِكَ وَلم يتفكر فِيمَا يُوجب الْبكاء شابههم فِي إهمالهم التفكر، فَلم يُؤمن عَلَيْهِ نزُول الْعقَاب. [15] وَقَوله: " أَن يُصِيبكُم " فِيهِ إِضْمَار تَقْدِيره: حذار أَن يُصِيبكُم، وَهَذَا تحذير من الْغَفْلَة عَن تدبر الْآيَات، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِذا رَأَيْتُمْ مَا حل بهم وَلم تنتبهوا من رقدات الْغَفْلَة فاحذروا من الْعقُوبَة، فَإِنَّهُ إِنَّمَا حلت بهم لغفلتهم عَن التدبر.
1048 - / 1260 وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: " الْمُسلم أَخُو الْمُسلم، لَا يَظْلمه، وَلَا يُسلمهُ ". [15] هَذِه أخوة الْإِسْلَام، فَإِن كل اتِّفَاق بَين شَيْئَيْنِ يُوجب اسْم أَخُوهُ. وَقَوله: " لَا يُسلمهُ " أَي لَا يتْركهُ مَعَ مَا يُؤْذِيه، بل ينصره وَيدْفَع عَنهُ. [15] وَقَوله: " من ستر مُسلما " أَي لم يظْهر عَلَيْهِ قبيحا، وَهَذَا لَا يمْنَع الْإِنْكَار عَلَيْهِ؛ لِأَن الْإِنْكَار فِيمَا خَفِي يكون فِي خُفْيَة، وَقد نهى هَذَا(2/484)
الحَدِيث عَن الْغَيْبَة؛ لِأَن من أظهر المساوىء بالغيبة فَمَا ستر الْمُسلم.
1049 - / 1261 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: " أَن ثَلَاثَة آواهم الْمبيت إِلَى غَار ... . ". [15] أَي جعله لَهُم مأوى والمأوى: الْمَكَان الَّذِي يؤوى إِلَيْهِ. والغار: نقب فِي الْجَبَل. [15] والغبوق: شراب الْعشي، وَهُوَ اسْم للشراب الْمعد لذَلِك الْوَقْت، يُقَال: غبقت فلَانا غبوقا: إِذا سقيته حِينَئِذٍ. [15] وَالْمَال هَاهُنَا الْمَاشِيَة. [15] وَقَوله: فنأى بِي طلب شجر: أَي بعد بِي طلب الشّجر الَّتِي ترعاها الْإِبِل، فَلم أرح: من الرواح: وَهُوَ مَا بعد الزَّوَال. [15] وبرق: بِمَعْنى أَضَاء وتلألأ. [15] ويتضاغون: يصرخون ويبكون. والضغو والضغاء: صَوت الذَّلِيل والمقهور. [15] وألمت بهَا سنة: أَي أصابتها. والملمة: النَّازِلَة من نَوَازِل الدَّهْر. وَالسّنة: الْفقر والجدب. [15] والفض: تَفْرِيق الشَّيْء الْمُجْتَمع. وانفض الْقَوْم: تفَرقُوا. وَكنت بالخاتم عَن الْفرج. [15] وَقَوْلها: إِلَّا بِحقِّهِ. أَي بِمَا يحل.(2/485)
[15] وتحرجت: أَي تَأَثَّمت وَرَأَيْت الْإِثْم والحرج فِي اقتحام مَا لَا يحل. [15] وَقَوله: على فرق من أرز. قَالَ ابْن فَارس: الْفرق: مكيال من المكاييل، تفتح راؤه وتسكن. وَقَالَ القتبي: هُوَ الْفرق بِفَتْح الرَّاء. وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِي الحَدِيث: " مَا أسكر الْفرق مِنْهُ " وَهُوَ سِتَّة عشر رطلا، وَأنْشد لخداش بن زُهَيْر:
(يَأْخُذُونَ الْأَرْش فِي أخوتهم ... فرق السّمن وشَاة فِي الْغنم)
[15] فَأَما الْأرز فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الْأرز اسْم أعجمي، ووزنه " أفعل " لَا محَالة، فالهمزة فِيهِ زَائِدَة، وَفِيه لُغَات أرز، وأرز، وأرز مثل كتب، وأرز مثل كتب، ورز، ورنز، قَالَ الراجز:
(يَا خليلي كل أوزه ... وَاجعَل الجوذان رنزه)
[15] وَقَوله: فاستاقه: أَي حازه وَذهب بِهِ. وَالْأَصْل فِي ذَلِك مَا يساق من الْمَوَاشِي، فاستعير لكل مَأْخُوذ ومعطى. [15] وانفرجت: بِمَعْنى انشقت واتسعت. [15] وَقَوله: فانساحت: أَي انفسحت، وَمثله تَعَالَى: {فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر} [التَّوْبَة: 2] أَي انفسحوا. وَقد صحفه قوم فَقَالُوا: انساخت بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة.(2/486)
1050 - / 1262 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: نهى أَن يُؤْكَل لحم الْأَضَاحِي بعد ثَلَاث. [15] إِنَّمَا نهى عَن ذَلِك لأجل قوم جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَة مضطرين، فَأحب أَن يواسوا، ثمَّ أَبَاحَ ذَلِك. وَهَذَا يَأْتِي فِي مُسْند عَائِشَة.
1051 - / 1263 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: " تَجِدُونَ النَّاس كإبل مائَة، لَا يجد الرجل فِيهَا رَاحِلَة ". [15] الْعَرَب تَقول لمن لَهُ مائَة من الْإِبِل: لفُلَان إبل، وَلمن لَهُ مِائَتَان: لَهُ إبلان. [15] وَالرَّاحِلَة: اسْم يَقع على الْجمل النجيب وعَلى النَّاقة المختارة، وَالْهَاء للْمُبَالَغَة، كَمَا يُقَال: رجل داهية، وَرِوَايَة. وَيُقَال: جمل رحيل: أَي قوي على السّير. وَقيل: سميت رَاحِلَة لِأَنَّهَا ترحل: أَي تسْتَعْمل فِي الرحيل وَالسير، وَإِنَّمَا هِيَ مرحولة، كَقَوْلِه: {فَهُوَ فِي عيشة راضية} [الحاقة: 21] أَي مرضية. [15] وَالْمرَاد من الحَدِيث: أَن الْمُخْتَار من النَّاس قَلِيل، كَمَا أَن الْمُخْتَار من الْإِبِل للرحلة عَلَيْهِ وتحميله للأثقال قَلِيل، وَفِي هَذَا الْمَعْنى قَول المتنبي: [15]
(وَمَا الْخَيل إِلَّا كالصديق قَليلَة ... وَإِن كثرت فِي عين من لم يجرب)(2/487)
1052 - / 1264 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: أَن عمر حمل على فرس، ثمَّ رَآهَا تبَاع. [15] وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمر.
1053 - / 1265 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: وجد عمر حلَّة من إستبرق تبَاع، فَأَخذهَا. [15] قد فسرنا فِي مُسْند عمر الْحلَّة، والسيراء، وَفِي مُسْند حُذَيْفَة الديباج. وَفِي مُسْند الْبَراء الإستبرق. [15] وَعُطَارِد: هُوَ ابْن حَاجِب بن زُرَارَة التَّمِيمِي، وَكَانَ فِي وَفد تَمِيم الَّذين قدمُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخَطب وفخر، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَابت بن قيس بن شماس فَأَجَابَهُ، وَأسلم وَصَحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم [15] وَأما القباء فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: قيل: هُوَ فَارسي مُعرب، وَقيل: هُوَ عَرَبِيّ، وإشتقاقه من القبو: وَهُوَ الضَّم وَالْجمع. وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن التجمل بالثياب غير مُنكر فِي الشَّرِيعَة، وَأَن التهيؤ للقاء النَّاس بالتجمل الْمُبَاح لَا يُنكر، لِأَن عمر قَالَ لَهُ: تجمل بِهَذِهِ، وَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ امْتنع مِنْهَا لكَونهَا حَرِيرًا. وَهَذَا على خلاف مَذْهَب المتقشفين من جهال المتزهدين.(2/488)
وَقد روينَا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه خرج يَوْمًا وَعَلِيهِ حلَّة يمَان، وعَلى فرقد جُبَّة صوف، فَجعل فرقد يمس حلَّة الْحسن ويسبح، فَقَالَ لَهُ: يَا فرقد، ثِيَابِي ثِيَاب أهل الْجنَّة، وثيابك ثِيَاب أهل النَّار - يَعْنِي القسيسين والرهبان. وَقَالَ لَهُ: يَا فرقد، إِن التَّقْوَى لَيست فِي لبس هَذَا الكساء، وَإِنَّمَا التَّقْوَى مَا وقر فِي الصَّدْر وَصدقه الْعَمَل.
1054 - / 1266 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: " لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ " وَقد فسرناه فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1055 - / 1267 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: أَن عمر انْطلق مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رَهْط من أَصْحَابه قبل ابْن صياد حَتَّى وجدوه يلْعَب مَعَ الصّبيان عِنْد أَطَم بني مغالة. [15] الأطم: الْحصن. وَقد شرحنا هَذِه الْكَلِمَة فِي مُسْند الزبير. [15] وَقَوله: " رَسُول الْأُمِّيين " وهم جمع أُمِّي: وَهُوَ الَّذِي لَا يحسن الْكِتَابَة، وَفِي تَسْمِيَته بذلك ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: لِأَنَّهُ على خلقَة الْأمة الَّتِي لم تتعلم الْكتاب، فَهُوَ على جبلته، قَالَه الزّجاج، وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ على مَا وَلدته أمه. وَالثَّالِث: للنسبة إِلَى أمه فِي الْجَهْل بِالْكِتَابَةِ؛ لِأَن الْكِتَابَة كَانَت فِي الرِّجَال دون النِّسَاء.(2/489)
[15] وَقَوله: فرفصه: أَي أعرض عَنهُ. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا هُوَ فرصه بالصَّاد الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة، وَمِنْه: رص الْبناء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص} [الصَّفّ: 4] وَالْمعْنَى أَنه ضغطه حَتَّى ضم بعضه إِلَى بعض. [15] وَقَوله: يأتيني صَادِق وكاذب، فَقَالَ " خلط عَلَيْك الْأَمر ". وَقد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود قِطْعَة من أخباره، وَذكرنَا أَن اسْمه عبد الله. وَقد روينَا هَاهُنَا أَن اسْمه صَاف، فَلَعَلَّهُ كَانَ سمي بالاسمين. وَبينا هُنَاكَ معنى قَوْله: " اخْسَأْ، فَلَنْ تعدو قدرك ". [15] وَقَوله: طفق: أَي أَخذ فِي الْفِعْل. [15] وَقَوله: يَتَّقِي بجذوع النّخل، أَي يَتَّقِي أَن يرى، لَا ستتاره بهَا. [15] ويختل: الختل: الخديعة فِي استتار، وَطلب نيل الْغَرَض من غير علم الْمَطْلُوب مِنْهُ. [15] والقطيفة وَاحِدَة القطائف: وَهُوَ ضرب من الأكسية. [15] والزمزمة: صَوت مردد دَاخل الْفَم لَا يكَاد يفهم. [15] وَقَوله: " تعلمُوا أَنه أَعور " أَي اعلموا. وَالْمرَاد بِذكر العور النَّقْص، وَالنَّقْص لَا يجوز على الْإِلَه. قَالَ أَبُو الْوَفَاء بن عقيل: يحْسب بعض الْجُهَّال أَنه لما نفي العور عَن الله تَعَالَى أثبت من الْخطاب أَنه ذُو عينين، وَهَذَا بعيد من الْفَهم، إِنَّمَا نفي عَن الله تَعَالَى العور من حَيْثُ نفي النقائض، وَهَذَا مثل مَا نفي الْوَلَد عَنهُ، لَا يُرِيد بِهِ(2/490)
(لم يلد) لِأَنَّهُ ذكر وَلَيْسَ بأنثى، وَلَا أَنه يَتَأَتَّى مِنْهُ، لَكِن لم يلد لِأَنَّهُ مُسْتَحِيل عَلَيْهِ التجزؤ والانقسام. وَلَو كَانَت الْإِشَارَة بِالْحَدِيثِ إِلَى صُورَة كَامِلَة لم يكن فِي ذَلِك دَلِيل على الإلهية وَلَا الْقدَم؛ فَإِن الْكَامِل فِي الصُّورَة كثير، وَمَا يُشَارك فِيهِ الْمُحدث لَا يكون خصيصة الْقدَم والإلهية، وَلَو كَانَ العور دلَالَة على نفس الإلهية لَكَانَ الْكَمَال فِي الصُّورَة دلَالَة على إِثْبَاتهَا. أتراه لم يجد فِي الدَّجَّال مَا يسْتَدلّ بِهِ على نفي الإلهية إِلَّا العور، حاشاه أَن يقْصد ذَلِك، وَفِي الدَّجَّال من النقلَة والتحرك وركوب الْحمار وَأكل الطَّعَام وَغير ذَلِك مَا يدل على الْحَدث، فَلَمَّا عدل إِلَى ذكر العور دلّ على أَنه أَرَادَ أَن الْإِلَه لَا تلْحقهُ النقائض. وَأما الْمَكْتُوب بَين عَيْني الدَّجَّال فلزيادة فضيحته، وتسليط الْمُؤمن على الْقِرَاءَة لذَلِك الْمَكْتُوب وَإِن لم يكن قَارِئًا أكْرم لَهُ بكشف الشُّبُهَات عَن وَجهه.
1056 - / 1268 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: بَينا أَنا قَائِم أَطُوف بِالْبَيْتِ، فَإِذا رجل آدم. [15] هَذَا كَانَ فِي الْمَنَام، وَقد صرح بذلك فِي لفظ آخر. [15] والآدم: الأسمر. [15] وَالشعر السبط: المنبسط، على ضد الْجَعْد. [15] ويهادى بَين رجلَيْنِ: يمشي بَينهمَا فيعتمد عَلَيْهِمَا. [15] وينطف رَأسه: يقطر من شعر رَأسه المَاء. [15] والطافية من الْعِنَب: الْحبَّة الَّتِي خرجت عَن حد نبت أخواتها(2/491)
فنتأت وعلت، وَمِنْه الطافي من السّمك، سمي بذلك لِأَنَّهُ علا على ظهر المَاء. [15] وَأما تَسْمِيَة عِيسَى بالمسيح فَفِيهِ سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: لِأَنَّهُ أَمسَح الرجل لَا أَخْمص لَهَا، رَوَاهُ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ كَانَ لَا يسمح بِيَدِهِ ذَا عاهة إِلَّا برِئ، رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: أَن معنى الْمَسِيح: الصّديق، رَوَاهُ النَّخعِيّ. وَالرَّابِع: لِأَنَّهُ مسح بِالْبركَةِ، قَالَه الْحسن. وَالْخَامِس: لِأَنَّهُ كَانَ يمسح الأَرْض. أَي يقطعهَا، قَالَه ثَعْلَب. وَالسَّادِس: لِأَنَّهُ مسح عُمُوم الْكفْر الَّذِي كَانَ قبله، ذكره ابْن مقسم. وَالسَّابِع: لِأَنَّهُ خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، حَكَاهُ ابْن الْأَنْبَارِي. [15] وَأما ابْن قطن فَقَالَ الزُّهْرِيّ: هُوَ رجل من خُزَاعَة هلك فِي الْجَاهِلِيَّة. [15] وَقَوله: بَين ظهراني النَّاس، النُّون مَفْتُوحَة لَا غير. يُقَال: بَين ظهرانهم وظهريهم: أَي بَينهم وَفِي جَمَاعَتهمْ. [15] والدجال: الْكذَّاب. وَقد أشبعنا الْكَلَام فِي معنى الدَّجَّال فِي مُسْند حُذَيْفَة. وَأما تَسْمِيَته بالمسيح فَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: سمي مسيحا لِأَن إِحْدَى عَيْنَيْهِ ممسوحة عَن أَن ينظر بهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عبيد: لِأَنَّهُ مَمْسُوح إِحْدَى الْعَينَيْنِ.(2/492)
[15] واللمة: شعر الرَّأْس إِذا جَاوز الْأُذُنَيْنِ وحاذاهما، كَأَنَّهُ ألم بهما، سمي بإلمامه بهما لمة. فَإِذا بغلت اللمة الْمَنْكِبَيْنِ فَهِيَ جمه. [15] وَقَوله: رجل الشّعْر. قَالَ الزّجاج: شعر رجل وَرجل: وَهُوَ المسترسل. فَإِن كَانَ مسترسلا وَفِي أَطْرَافه شَيْء من الجعودة قيل شعر أحجن. [15] وَقد ذكرنَا مَا وصف بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام هَاهُنَا فِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ من مُسْند ابْن عَبَّاس.
1057 - / 1270 وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: " أَلا إِن الْفِتْنَة هَاهُنَا - يُشِير إِلَى الْمشرق - من حَيْثُ يطلع قرن الشَّيْطَان ". [15] أما تَخْصِيص الْفِتَن بالمشرق فَلِأَن الدَّجَّال يخرج من تِلْكَ النَّاحِيَة، وَكَذَلِكَ يَأْجُوج وَمَأْجُوج. وَأما ذكر قرن الشَّيْطَان فعلى سَبِيل الْمثل، كَأَن إِبْلِيس يطلع رَأسه بالفتن من تِلْكَ النواحي. [15] فَأَما الشَّام فمأخوذ من الْيَد الشؤمى: وَهِي الْيُسْرَى، وَيُقَال: أَخذ شأمه: أَي على يسَاره، فَهِيَ عَن يسَار الْكَعْبَة. واليمن مَأْخُوذ من الْيَد الْيُمْنَى لِأَنَّهَا عَن يَمِين الْكَعْبَة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: نجد نَاحيَة الْمشرق، وَمن كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ نجده بادية الْعرَاق ونواحيها، وَهِي مشرق أَهلهَا، وأصل النجد مَا ارْتَفع من الأَرْض وَقَالَ ابْن فَارس:(2/493)
الأَصْل فِي نجد الِارْتفَاع، يُقَال للْأَرْض المرتفعة نجد، وخلافه الْغَوْر. [15] والزلزلة: قُوَّة التحريك وترديده. [15] فَأَما الْعرَاق فقد سبق بَيَانه فِي مُسْند سهل بن حنيف. [15] وَقَوله: {وَفَتَنَّاك فُتُونًا} [طه: 40] فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْفُتُون: وُقُوعه فِي محنة بعد محنة، ثمَّ خلصه الله مِنْهَا، كولادته فِي وَقت ذبح الْأَطْفَال، وَمنعه الرَّضَاع، ومده لحية فِرْعَوْن وتناوله الْجَمْرَة، وَقَتله القبطي. فعلى هَذَا يكون الْمَعْنى: خلصناك من تِلْكَ المحن كَمَا يفتن الذَّهَب بالنَّار فيخلص من كل خبث.
1058 - / 1271 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: فِي لَيْلَة الْقدر: " التمسوها فِي الْعشْر الغوابر ". [15] الغوابر: الْبَوَاقِي. [15] وَقَوله: " أرى رؤياكم قد تواطأت " أَي توافقت. وَأخْبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَلَاء المعري: تواطأت فِي الْعَرَبيَّة أقوى من تواطت. [15] وَقَوله: تَحَيَّنُوا. التحين طلب الشَّيْء فِي حِين مُخْتَصّ بِهِ.(2/494)
1059 - / 1272 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: " فَإِن غم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ ". [15] غم بِمَعْنى ستر بغيم أَو غَيره. [15] وللعلماء فِي معنى " فاقدروا لَهُ " قَولَانِ: أَحدهمَا: قدرُوا لَهُ شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِأَن فِي أَكثر أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث مَا يدل على هَذَا، فَمِنْهَا لفظ أخرج فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث جبلة بن سحيم عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الشَّهْر تسع وَعِشْرُونَ لَيْلَة، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تروه، فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ " وَفِي لفظ أخرجه مُسلم: " صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم عَلَيْكُم فاقدروا ثَلَاثِينَ " وَقد روى هَذَا الحَدِيث أَبُو هُرَيْرَة مُفَسرًا، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيثه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ " كَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ. وَفِي لفظ مُتَّفق عَلَيْهِ: " فعدوا ثَلَاثِينَ ". ويوضح هَذَا حَدِيث ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة كِلَاهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " فَإِن غم عَلَيْكُم فعدوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ صُومُوا ".(2/495)
[15] وَالْقَوْل الثَّانِي: ضيفوا لَهُ عددا يطلع فِي مثله، وَذَلِكَ باحتساب شعْبَان تسعا وَعشْرين، وعَلى هَذَا مَا يذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا. [15] وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا حَال دون مطلع الْهلَال غيم أَو قتر فِي لَيْلَة الثَّلَاثِينَ. وَعَن أَحْمد ثَلَاث رِوَايَات: إِحْدَاهُنَّ: يلْزم الصَّوْم، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عمر وَأنس وَعَائِشَة وَأَسْمَاء. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: لَا يجوز صَوْمه من رَمَضَان وَلَا نفلا، إِلَّا أَن يكون نفلا يُوَافق عَادَة، وَيجوز صَوْمه قَضَاء وَكَفَّارَة ونذرا، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي. وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة: أَن الْمرجع إِلَى رَأْي الإِمَام فِي الصَّوْم وَالْفطر، وَهُوَ قَول الْحسن وَابْن سِيرِين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يجوز صَوْمه من رَمَضَان، وَيجوز صِيَامه مَا سوى ذَلِك. وَالرِّوَايَة الأولى هِيَ المنصورة عِنْد أَكثر أَصْحَابنَا، ويستدلون على صِحَة تفسيرهم الحَدِيث بِفعل ابْن عمر؛ فَإِنَّهُ قد روى الجوزقي فِي كِتَابه الْمخْرج على الصَّحِيحَيْنِ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ فِيهِ: فَكَانَ ابْن عمر إِذا كَانَ تسع وَعِشْرُونَ إِن رأى فِي السَّمَاء قترة أَو غمامة اصبح صَائِما. وَمَعْلُوم أَن الصَّحَابَة أعلم بمعاني كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمرَاده، فَوَجَبَ الرُّجُوع إِلَى تَفْسِير ابْن عمر لهَذَا، كَمَا رَجعْنَا إِلَيْهِ فِي خِيَار الْمجْلس؛ فَإِنَّهُ كَانَ يمشي ليلزم البيع. وحملوا قَوْله: " فاقدروا ثَلَاثِينَ " على مَا إِذا غم هِلَال شَوَّال، فَإنَّا نقدر ثَلَاثِينَ احْتِيَاطًا للصَّوْم كَمَا قَدرنَا فِي أَوله للصَّوْم. وَسَيَأْتِي الْكَلَام على حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي مُسْنده إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(2/496)
1060 - / 1273 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر على رجل وَهُوَ يعظ أَخَاهُ فِي الْحيَاء، فَقَالَ: " دَعه؛ فَإِن الْحيَاء من الْإِيمَان ". [15] اعْلَم أَن من أَخْلَاق الْمُؤمن الْحيَاء، وَالْحيَاء انقباض، وَالْمُؤمن منقبض حَيَاء من خالقه، وإجلالا لهيبته، وحذرا من عِقَابه، فَصَارَ الانقباض خلقا لِلْمُؤمنِ، فاستحيا من أَبنَاء جنسه. [15] فَإِن قيل: كَيفَ جعل الْحيَاء - وَهُوَ غريزة - من الْإِيمَان الَّذِي هُوَ اكْتِسَاب؟ فقد أجَاب عَن هَذَا ابْن قُتَيْبَة فَقَالَ: لِأَن المستحيي يَنْقَطِع بِالْحَيَاءِ عَن الْمعاصِي وَإِن لم يكن لَهُ تقى، فَصَارَ كالإيمان الَّذِي يقطع عَنْهَا.
1061 - / 1274 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: " اقْتُلُوا الْحَيَّات، واقتلوا ذَا الطفيتين ". [15] هَذَا الحَدِيث قد تقدم هُوَ وَشَرحه فِي مُسْند أبي لبَابَة. إِلَّا أَنه فِي بعض أَلْفَاظه: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر بقتل الْكلاب. وَقد بَينا فِي مُسْند عبد الله بن مُغفل أَنه نسخ ذَلِك.
1062 - / 1275 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: " لَا تَبِيعُوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه ".(2/497)
[15] هَذَا الحَدِيث بِأَلْفَاظ قد سبق فِي مُسْند زيد بن ثَابت. وَقد شرحناه ثمَّ. وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: نهى عَن بيع النّخل حَتَّى يزهو، وَعَن السنبل حَتَّى يبيض ويأمن العاهة. [15] قَالَ أَبُو عبيد: زهو النّخل: أَن يحمر أَو يصفر. والعاهة: الآفة تصيبه. [15] وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا. وَكَانَ إِذا سُئِلَ عَن صَلَاحهَا قَالَ: حَتَّى تذْهب عاهته. وَظَاهر هَذَا أَن الْمَسْئُول عَن ذَلِك والمجيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا الْمَسْئُول والمجيب عَن ذَلِك ابْن عمر، وَقد درج كَلَامه فِي كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاشْتَبَهَ. أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أَنبأَنَا جَعْفَر بن أَحْمد بن السراح قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: الْمَسْئُول عَن صَلَاح الثَّمَرَة والمجيب بقوله: حَتَّى تذْهب عاهته، لَيْسَ هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا هُوَ عبد الله بن عمر. وَقد بَين ذَلِك مُسلم ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ وَمُحَمّد بن جَعْفَر غنْدر فِي روايتهما هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر.
1063 - / 1276 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: " من اشْترى طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه " وَكُنَّا نشتري الطَّعَام من الركْبَان جزَافا، فنهانا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نبيعه حَتَّى ننقله من مَكَانَهُ.(2/498)
[15] اسْتِيفَاء الطَّعَام إِذا كَانَ قد اشْترى صبرَة بنقله، وَإِن كَانَ بِالْكَيْلِ فَلَا يجوز بَيْعه حَتَّى يُعَاد عَلَيْهِ الْكَيْل على مَا بَيناهُ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. [15] والجزاف: مَا أَخذ على حَاله دون معرفَة قدره من الْكَيْل وَالْوَزْن. وَعِنْدنَا أَنه من بَاعَ صبرَة مجازفة وَانْفَرَدَ البَائِع بِمَعْرِِفَة قدرهَا لم يجز لَهُ ذَلِك، إِلَّا أَن البيع صَحِيح، وَللْمُشْتَرِي الْخِيَار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: البيع لَازم وَلَا خِيَار للْمُشْتَرِي.
1064 - / 1277 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: " من ابْتَاعَ نخلا بعد أَن يؤبر فثمرها للَّذي بَاعهَا إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع ". [15] هَكَذَا أخرج فِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقد أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: اتّفق إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا الخلفاني وَأَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير والهيثم بن عدي الطَّائِي على رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن عبيد الله بن عمر الْعمريّ عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَكَذَا. ووهموا فِي ذَلِك؛ لِأَن نَافِعًا إِنَّمَا كَانَ يروي الْفَصْل الَّذِي فِي بيع النّخل خَاصَّة عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ويروي الْفَصْل الْأَخير الَّذِي فِي بيع العَبْد عَن ابْن عمر عَن عمر بن الْخطاب قَوْله، بَين ذَلِك يحيى بن سعيد الْقطَّان وَبشر بن الْمفضل فِي روايتهما عَن عبيد بن عمر هَذَا الحَدِيث فِي سِيَاقَة وَاحِدَة، وميزا أحد الْفَصْلَيْنِ من الآخر، وضبطا إِسْنَاده، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سعيد بن أبي عروية عَن(2/499)
أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن نَافِع. وروى مَالك عَن نَافِع الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، إِلَّا أَنه أفرد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِإِسْنَادِهِ، وَجعل فصل النّخل عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفصل العَبْد عَن ابْن عمر عَن عمر قَوْله. وَكَذَلِكَ روى مُحَمَّد بن بشر الْعَبْدي وَمُحَمّد بن عبيد الله الطنافسي عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع الْفَصْلَيْنِ بِإِسْنَادَيْنِ مفردين. [15] فَأَما تَفْسِير الحَدِيث: فأبرت النّخل: بِمَعْنى لقحت، ونخلة مؤبرة. وتأبير النَّخْلَة أَن يتشقق طلعها فَيُوضَع فِي أَثْنَائِهِ من طلع فَحل النّخل، فَيكون ذَلِك لقاحا، فَجعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الثَّمر المستكن فِي الطّلع كَالْوَلَدِ المستجن فِي بطن الْحَامِل، فَإِنَّهَا إِذا بِيعَتْ تبعها الْحمل فِي البيع، فَإِذا ظهر تميز حكمه عَن حكم أمه، فَكَذَلِك ثَمَر النّخل إِذا تشقق وَظهر فَإِنَّهُ ينْفَرد حكمه عَن حكم أَصله. [15] وَقَوله: " فَمَاله للْبَائِع " دَلِيل على أَن العَبْد لَا يملك بِحَال جعله فِي أقوى الْحَالَات - وَهِي إِضَافَة الْملك إِلَيْهِ - غير ملك.
1065 - / 1278 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْمغرب وَالْعشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا. زَاد البُخَارِيّ: كل وَاحِدَة مِنْهُمَا بِإِقَامَة، وَلم يسبح بَينهمَا وَلَا على إِثْر وَاحِدَة مِنْهُمَا. [15] وَأما الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ هُنَا. فمجمع عَلَيْهِ. [15] والمزدلفة اسْم مَأْخُوذ من الْقرب، وَقد بَيناهُ فِيمَا مضى. [15] وَمعنى لم يسبح: لم يتَنَفَّل. وَقَوله: لَيْسَ بَينهمَا سَجْدَة: أَي رَكْعَة.(2/500)
[15] وَقَوله: وَصلى الْمغرب ثَلَاثًا، هَذَا لِأَن الْمغرب لَا يقصر. [15] وَقَوله: كل وَاحِدَة بِإِقَامَة. هَذَا هُوَ الْمَنْصُور عندنَا. وَعند أَحْمد أَنه مُخَيّر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجمع بِأَذَان وَإِقَامَة بِمُزْدَلِفَة على مَا فِي لفظ الحَدِيث الآخر.
1066 - / 1279 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: " لَا تتركوا النَّار فِي بُيُوتكُمْ حِين تنامون ". [15] هَذَا تَأْدِيب يتَضَمَّن التحذير مِمَّا يُمكن وُقُوعه، فَإِنَّهُ رُبمَا هبت الرّيح بِثَوْب أَو غَيره إِلَى النَّار، وَرُبمَا وَقع على النَّار شَيْء فاشتعل واشتعل بِهِ الْبَيْت. وَرُبمَا جرت الْفَأْرَة الفتيلة فأحرقت. ثمَّ إِنَّمَا يُرَاد الضَّوْء للمنتبه، فإيقاد النَّار بعد النّوم من غير حَاجَة تَفْرِيط.
1067 - / 1280 وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أعجله السّير فِي السّفر يُؤَخر الْمغرب حَتَّى يجمع بَينهَا وَبَين الْعشَاء. [15] قد سبق الْكَلَام فِي الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي السّفر فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. [15] وَقَوله: وَلَا يسبح: أَي لَا يتَنَفَّل. [15] واستصرخ: استغيث بِهِ ليَكُون غوثا على مَا استغيث بِهِ فِيهِ. [15] والشفق: الْحمرَة الَّتِي ترى فِي الْمغرب عِنْد غرُوب الشَّمْس.(2/501)
1068 - / 1281 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينفل بعض من يبْعَث من السَّرَايَا لأَنْفُسِهِمْ خَاصَّة سوى قسم عَامَّة الْجَيْش، وَالْخمس فِي ذَلِك كُله وَاجِب. [15] قد بَينا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس كَيفَ تقسم الْغَنِيمَة، وَذكرنَا أَن النَّفْل يَقع من الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس الَّتِي هِيَ سِهَام أهل الْوَقْعَة، وَهُوَ معنى قَوْله: وَالْخمس فِي ذَلِك كُله وَاجِب. يَعْنِي أَن الْخمس على حَاله لأربابه، وَالنَّفْل خَارج عَنهُ. وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينفل من الجيوش والسرايا ذَوي الْقُوَّة فِي الْحَرْب تحريضا لَهُم على الْقِتَال، وتعويضا عَمَّا يصيبهم من الْمَشَقَّة، فَيكون ذَلِك كالصلة، ثمَّ يجعلهم بعد ذَلِك أُسْوَة الْجَمَاعَة فِي سَهْمَان الْغَنِيمَة، هَذَا مَذْهَبنَا. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: يكون النَّفْل من خمس الْخمس الَّذِي للْمصَالح. وَإِنَّمَا سمي ذَلِك نفلا لِأَنَّهُ زِيَادَة على الأَصْل، وَسميت الْغَنَائِم بالأنفال لِأَنَّهَا مِمَّا زَاد الله عز وَجل هَذِه الْأمة فِي الْحَلَال، وَقد كَانَت مُحرمَة على من قبلهم. [15] والشارف: النَّاقة المسنة.
1069 - / 1282 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: أَن ابْن عمر طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض، فَذكر ذَلِك عمر لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فتغيظ وَقَالَ: " ليراجعها ". [15] اعْلَم أَنه إِنَّمَا أمره بالمراجعة لِأَن الطَّلَاق حَال الْحيض محرم، إِلَّا(2/502)
أَنه يَقع، وَكَذَلِكَ إِذا طَلقهَا فِي طهر قد وَطئهَا فِيهِ. وَعِنْدنَا أَنه يسْتَحبّ ارتجاعها إِن كَانَ الطَّلَاق رَجْعِيًا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ مَالك: تجب عَلَيْهِ الرّجْعَة. وَعَن أَحْمد نَحْو ذَلِك. [15] وَقَوله: " إِن عجز واستحمق " التَّاء فِي استحمق مَفْتُوحَة، كَذَا قَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ، وَقَالَ: الْمَعْنى: فعل فعلا يصير بِهِ أَحمَق، أسقط عَنهُ حكم الطَّلَاق عَجزه وحمقه، وَهَذَا من الْجَواب الْمَحْذُوف الْمَدْلُول عَلَيْهِ بفحوى الْكَلَام. [15] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابْن سِيرِين قَالَ: مكثت عشْرين سنة يحدثني من لَا أتهم: أَن ابْن عمر طلق امْرَأَته ثَلَاثًا وَهِي حَائِض فَأمر أَن يُرَاجِعهَا، فَجعلت لَا أتهمهم وَلَا أعرف الحَدِيث، حَتَّى لقِيت يُونُس بن جُبَير، وَكَانَ ذَا ثَبت فَحَدثني عَن ابْن عمر: أَنه طلق امْرَأَته تَطْلِيقَة. قلت: فَبَان بِهَذَا أَن الَّذِي يتهمه ابْن سِيرِين غلط، وَقد يكون الْإِنْسَان ثِقَة لكنه يغلط. وَقد روى هَذَا الحَدِيث أَبُو الزبير فَقَالَ فِيهِ: فَردهَا عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يره شَيْئا. أَشَارَ إِلَى هَذَا مُسلم، وأفصح أَبُو مَسْعُود فِي " التعليقة ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي " السّنَن " وَقَالَ: كل الْأَحَادِيث يُخَالف مَا رَوَاهُ أَبُو الزبير. وَقَالَ غَيره من عُلَمَاء الْمُحدثين: لم يرو أَبُو الزبير حَدِيثا أنكر من هَذَا. على أَنه يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: لم يره شَيْئا باتا تحرم مَعَه الرّجْعَة. وَالثَّانِي: لم يره شَيْئا(2/503)
جَائِزا فِي السّنة.
1070 - / 1283 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: " إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ " قد سبق فِي مُسْند عمر.
1071 - / 1284 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: " أريت كَأَنِّي أنزع بِدَلْو بكرَة على قليب ". [15] النزع بِمَعْنى الاستقاء. وَالْمعْنَى: استقي بيَدي على البكرة. [15] والقليب: الْبِئْر قبل أَن تطوى، فَإِذا طويت فَهِيَ طوي، والقليب مُذَكّر، والبئر مُؤَنّثَة. والذنُوب: الدَّلْو الْعَظِيمَة. [15] وَقَوله: " فاستحالت غربا " أَي تحولت وَرجعت إِلَى الْكبر. والغرب بِإِسْكَان الرَّاء: الدَّلْو الْعَظِيمَة. وَالْمعْنَى: أَن عمر لما أَخذ الدَّلْو عظمت فِي يَده، وَكَذَا كَانَ تَأْوِيلهَا: أَن الْفتُوح فِي أَيَّامه كَانَت أَكثر من الْفتُوح فِي أَيَّام أبي بكر. [15] وَقَوله: " فَلم أر عبقريا " العبقري: سيد الْقَوْم وَكَبِيرهمْ وقويهم، قَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي: عبقر قَرْيَة تسكنها الْجِنّ، وكل فائق جليل ينْسب إِلَيْهَا. [15] قَالَ الزّجاج: عبقر: بلد كَانَ يوشى فِيهِ الْبسط وَغَيرهَا، فنسب(2/504)
كل جيد إِلَيْهِ، قَالَ زُهَيْر:
(يخيل عَلَيْهَا جنَّة عبقرية ... جديرون يَوْمًا أَن ينالوا فيستعلموا)
[15] وَقَوله: " يفري فريه " أَي يقطع قطعه. الْمَعْنى: يعْمل عمله. وَالْعرب تَقول: تركت فلَانا يفري الفري: أَي يعْمل الْعَمَل الْجيد، وَأنْشد الْأَحْمَر:
(قد أطعمتني دقلا حوليا ... )
(مسوسا مدودا حجريا ... )
(قد كنت تفرين بِهِ الفريا ... )
[15] أَي كنت تكثرين فِيهِ القَوْل وتعظيمنه. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لقد جِئْت شَيْئا فريا} [مَرْيَم: 27] . قَالَ ابْن السّكيت: الفري: الْعَمَل الْجيد الصَّحِيح. قَالَ: وَيُقَال: هُوَ يفري الفري: إِذا جَاءَ بالعجب فِي عمل عمله. وَقَالَ اللَّيْث: يفري فريه خَفِيفَة، وَمن ثقل فقد غلط. قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَا شَيْء يفري فِي الْيَدَيْنِ كَمَا يفري ... )
[15] وَقَوله: " حَتَّى ضرب النَّاس بِعَطَن " قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: حَتَّى رووا وأرووا إبلهم وأبركوها وضربوا لَهَا عطنا، يُقَال: عطنت الْإِبِل وأعطنتها.(2/505)
1072 - / 1286 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: أَن ابْن عمر كَانَ يَحْكِي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " يَأْخُذ الله سماواته وأرضيه بِيَدِهِ وَيَقُول: أَنا الله، وَيقبض أُصْبُعه ويبسط: أَنا الْملك " حَتَّى نظرت إِلَى الْمِنْبَر يَتَحَرَّك. [15] قد ثَبت بِالدَّلِيلِ الْقَاطِع أَن يَد الْحق عز وَجل لَيست جارحة، وَأَن قَبضه للأشياء لَيست مُبَاشرَة، وَلَا لي كف، وَإِنَّمَا قرب الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الأفهام مَا يُدْرِكهُ الْحس، فَقبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصَابِعه وبسطها. فوقوع الشّبَه بَين القبضتين من حَيْثُ ملكه الْمَقْبُوض لَا من حَيْثُ التَّشْبِيه بآلات الْقَبْض، كَمَا وَقع تَشْبِيه رؤيه الْحق بِرُؤْيَة الْقَمَر فِي اتضاح الرُّؤْيَة لَا فِي تَشْبِيه المرئي. [15] وَفِي لفظ: " يَأْخُذ الْجَبَّار سماواته " وَفِي معنى الْجَبَّار أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الْعَظِيم، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: أَنه الَّذِي يقهر الْخلق ويجبرهم على مَا يُرِيد، قَالَه الْقُرْطُبِيّ وَالسُّديّ. وَالثَّالِث: الَّذِي جبر مفاقر خلقه وكفاهم أَسبَاب المعاش والرزق. وَالرَّابِع: أَنه العالي فَوق خلقه، من قَوْلهم: تجبر النَّبَات: إِذا طَال وَعلا، ذكر الْقَوْلَيْنِ الْخطابِيّ.
1073 - / 1287 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: " من أعتق عبدا بَينه وَبَين آخر قوم عَلَيْهِ من مَاله قيمَة عدل، لَا وكس وَلَا شطط، ثمَّ عتق(2/506)
عَلَيْهِ فِي مَاله إِن كَانَ مُوسِرًا ". وَفِي رِوَايَة: " من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم عَلَيْهِ العَبْد قيمَة عدل، فَأعْطى شركاؤه حصصهم وَعتق عَلَيْهِ العَبْد، وَإِلَّا فقد عتق عَلَيْهِ مَا عتق. " وَفِي رِوَايَة عَن يحيى بن سعيد وَأَيوب قَالَا: لَا نَدْرِي قَوْله: " وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق " أَشَيْء قَالَه نَافِع أَو فِي الحَدِيث. [15] وَقَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت: وَقَوله: " وَإِذا كَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد " يُقَال: إِنَّه من كَلَام الزُّهْرِيّ. [15] الوكس: النُّقْصَان. والشطط: مُجَاوزَة الْقدر. وشططت وأشططت: إِذا جرت فِي الحكم. [15] وَحكم الحَدِيث أَنه إِذا أعتق الْمُوسر شِقْصا لَهُ فِي عبد عتق كُله وَضمن قيمَة نصيب شَرِيكه، فَإِن كَانَ الْمُعْتق مُعسرا عتق نصِيبه خَاصَّة وَلم يكن لشَرِيكه تضمين الْمُعْتق نصِيبه، وَلَا استسعاء العَبْد، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِنَّمَا يعْتق حِصَّة الْمُعْتق خَاصَّة، وَالشَّرِيك مُخَيّر بَين أَن يعْتق نصِيبه أَو يضمن قيمَة نصيب الْمُعْتق، وَبَين أَن يستسعى العَبْد، سَوَاء كَانَ الْمُعْتق مُوسِرًا أَو مُعسرا، وَعَن أَحْمد نَحْو قَول أبي حنيفَة. وَالْكَلَام مَعَ أبي حنيفَة فِي فصلين: أَحدهمَا فِي سرَايَة الْعتْق إِلَى نصيب الشَّرِيك إِذا كَانَ الْمُعْتق مُوسِرًا. وَالثَّانِي: فِي إبِْطَال الْقبُول بالاستسعاء إِذا كَانَ مُعسرا. [15] وَأما الْوَقْت الَّذِي يعْتق فِيهِ نصيب شَرِيكه فَذَلِك عقيب الْإِيقَاع، وَلَا يقف عتقه على أَدَاء قِيمَته، خلافًا لإحدى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك، وَأحد(2/507)
أَقْوَال الشَّافِعِي، ولداود، فِي قَوْلهم: لَا يعْتق إِلَّا بِدفع الْقيمَة.
1074 - / 1288 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: مَا كُنَّا نَدْعُو زيد بن حَارِثَة إِلَّا زيد بن مُحَمَّد حَتَّى نزل فِي الْقُرْآن: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الْأَحْزَاب: 5] . [15] كَانَ زيد بن حَارِثَة قد خرجت بِهِ أمه سعدى بنت ثَعْلَبَة إِلَى زِيَارَة قَومهَا، فأغارت خيل لبني الْقَيْن، فَمروا بزيد فاحتملوه، فوافوا بِهِ سوق عكاظ فَعَرَضُوهُ للْبيع، فَاشْتَرَاهُ حَكِيم بن حزَام لِعَمَّتِهِ خَدِيجَة، فَلَمَّا تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهبته لَهُ، فَلَمَّا علم أَبوهُ وَعَمه قدما بفدائه إِلَى مَكَّة، فدخلا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَا: يَا ابْن هَاشم، يَا ابْن سيد قومه، أَنْتُم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني، وتطعمون الْأَسير، وَقد جئْنَاك فِي ابننا عنْدك، فَامْنُنْ علينا وَأحسن إِلَيْنَا فِي فدائه. قَالَ: " فَهَلا غير ذَلِك؟ " قَالَا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: " ادعواه فخيراه، فَإِن اختاركما فَهُوَ لَكمَا بِغَيْر فدَاء، وَإِن اختارني فوَاللَّه مَا أَنا بِالَّذِي أخْتَار على من اختارني أحدا " قَالَ: نعم هَذَا أبي، وه عمي. قَالَ: فَأَنا من قد علمت وَرَأَيْت صحبتي لَك، فاخترني أَو اخترهما. فَقَالَ زيد: مَا أَنا بِالَّذِي أخْتَار عَلَيْك أحدا، أَنْت مني بمَكَان الْأَب وَالْعم، فَقَالَا: وَيحك يَا زيد، أتختار الْعُبُودِيَّة على الْحُرِّيَّة وعَلى أَبِيك وعمك وَأهل بَيْتك! قَالَ: نعم، إِنِّي قد رَأَيْت من هَذَا الرجل شَيْئا مَا أَنا(2/508)
بِالَّذِي أخْتَار عَلَيْهِ أحدا أبدا، فَلَمَّا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك أخرجه إِلَى الْحجر فَقَالَ: " يَا من حضر، اشْهَدُوا أَن زيدا ابْني، أرثه ويرثني " فَلَمَّا رأى ذَلِك أَبوهُ وَعَمه طابت أَنفسهمَا وانصرفا، إِلَى أَن نزل قَوْله تَعَالَى: {ادعوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فَحِينَئِذٍ دعِي زيد بن حَارِثَة.
1075 - / 1289 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا وضع رجله فِي الغرز واستوت بِهِ رَاحِلَته أهل. [15] الغرز للجمل كالركاب للْفرس. [15] وَقَوله: أهل: أَي لبّى. وَقد سبق الْكَلَام فِي هَذَا، وَفِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يمس من الْأَركان سوى اليمانيين. وَبينا أَنه لَو مس الرُّكْنَيْنِ الآخرين خرج الْحجر أَن يكون من الْبَيْت. [15] قَوْله: ورأيتك تلبس النِّعَال السبتية. هِيَ منسوبة إِلَى السبت. والسبت: جُلُود الْبَقر المدبوغة بالقرظ، يتَّخذ مِنْهَا النِّعَال. وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن السبت مَا لَا شعر فِيهِ من الْجلد؛ لِأَنَّهُ قَالَ: رَأَيْته يلبس النِّعَال الَّتِي لبس فِيهَا شعر، فَكَأَنَّهَا سميت سبتية لِأَن شعرهَا قد سبت عَنْهَا: أَي حلق وأزيل. يُقَال: سبت رَأسه يسبته: إِذا حلقه. وَيُقَال: سميت سبتيه لِأَنَّهَا انسبتت بالدباغ: أَي لانت، يُقَال: رطبَة منسبتة: أَي لينَة. وَالَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عبيد أَن السبتية هِيَ المدبوغة بالقرظ، وَلم ير قَول من قَالَ: إِنَّهَا المحلوقة الشّعْر.(2/509)
[15] وَقَوله: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصْبغ بالصفرة. يَعْنِي بِهِ خضاب الشّعْر.
أخبرنَا عَليّ بن عبد الله وَأحمد بن الْحُسَيْن وَعبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد قَالُوا: حَدثنَا عبد الصَّمد بن الْمَأْمُون قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن عمر الْخُتلِي قَالَ: حَدثنَا عِيسَى بن سُلَيْمَان الْقرشِي قَالَ: حَدثنَا دَاوُد بن رشيد قَالَ حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز عَن سُلَيْمَان ابْن مُوسَى عَن عبيد بن جريج: أَنه رأى ابْن عمر يخضب بالصفرة ويخبر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخضب بهَا. وَقد رَوَاهُ زيد بن أسلم عَن عبيد قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يصفر لحيته، فَقلت لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصفر لحيته. وَقد كَانَ جمَاعَة من الصَّحَابَة يخضبون بالصفرة، مِنْهُم عُثْمَان وَابْن عمر وَمُعَاوِيَة وَابْن عَبَّاس والمقداد وَعبد الله بن بسر والمقدام بن معد يكرب وَأَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ وَعتبَة بن عبد السّلمِيّ وَالْحجاج بن علاط، وَكَانَ بعدهمْ من التَّابِعين خلق يطول ذكرهم يخضبون بالصفرة، قد ذكرتهم فِي كتاب " الشيب والخضاب ".
1076 - / 1290 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي وَهُوَ فِي معرسة من ذِي الحليفة فِي بطن الْوَادي فَقيل لَهُ: إِنَّك ببطحاء مباركة. [15] المعرس: مَوضِع نزُول الْقَوْم فِي سفرهم من آخر اللَّيْل للراحة وَالنَّوْم.(2/510)
[15] والبطحاء: كل متسع. [15] ويتحرى بِمَعْنى يتوخى ويقصد.
1077 - / 1291 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: " من اقتنى كَلْبا إِلَّا كلب صيد أَو مَاشِيَة فَإِنَّهُ ينقص من أجره كل يَوْم قيراطان " وقِي لفظ: " إِلَّا كلب ضارية " [15] يُقَال: ضري الْكَلْب يضرى ضراوة: إِذا حرص على الصَّيْد واعتاده، وَفهم الزّجر والإرسال. وأضريته أَنا: أَي عَلمته ذَلِك وعودته إِيَّاه ودربته عَلَيْهِ. [15] والحرث: الزَّرْع. [15] وَقَول سَالم: كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: " أَو كلب حرث " وَكَانَ صَاحب حرث. هَذَا مَذْكُور فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقد رُوِيَ فِي مَوضِع آخر ذكر أَنه لِابْنِ عمر أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: " إِلَّا كلب صيد أَو زرع أَو مَاشِيَة " فَقَالَ: إِن لأبي هُرَيْرَة زرعا. فتأول بعض من لم يوفق للصَّوَاب أَن ابْن عمر قد اتهمَ أَبَا هُرَيْرَة. وَهَذَا محَال، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَصْدِيق أبي هُرَيْرَة، فَجعل حَاجته إِلَى ذَلِك شَاهدا لَهُ على علمه ومعرفته، لِأَن من كثرت حَاجته إِلَى شَيْء كثرت مَسْأَلته عَنهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: جدير بِأبي هُرَيْرَة أَن يكون علم هَذَا عِنْده، وَأَن يكون قد سَأَلَ عَنهُ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ. وَقد روى عبد الله بن مُغفل وسُفْيَان بن أبي زُهَيْر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فَكيف يتهم، وَقد ذكرنَا أَن فِي(2/511)
[15] الصَّحِيح عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: " إِلَّا كلب زرع " وَهَذَا فِي رِوَايَة عمرَان بن الْحَارِث عَنهُ، فَلَعَلَّ ابْن عمر سمع ذَلِك من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونسيه ثمَّ عَاد فَذكره، وَلَعَلَّه أرسل الحَدِيث بذلك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتِمَادًا على رِوَايَة أبي هُرَيْرَة. [15] وَعَامة أَصْحَاب ابْن عمر رووا عَنهُ " قيراطين ". وروى عمرَان وَسَالم فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي بكر " قيراطا وَاحِدًا " وروى عَنهُ سعيد بن الْمسيب قيراطين. وكل هَذِه الْأَطْرَاف فِي الصَّحِيح. [15] وَإِنَّمَا نهى عَن اقتناء الْكَلْب لمعنيين: أَحدهمَا: النَّجَاسَة، وَكَانَت الْعَرَب قد ألفت اقتناءها، وَكَانَت تخالطهم فِي أوانيهم. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يروع الضَّيْف ويؤذي الطارق والسائل، فَلَمَّا كَانَ الْمَسْئُول والمطروق والمضيف لَا يَخْلُو من أجر فِي بذل مَا يبذله لهَؤُلَاء وَلَو طيب الْكَلَام، وَكَانَ الْكَلْب سَببا لمنع ذَلِك، نقص أجره لفقد مَا كَانَ الْكَلْب سَببا فِي مَنعه، وَلم يقل أَنه يَأْثَم، وَلكنه أخبر بِنَقص الْأجر من هَذِه الْوُجُوه الَّتِي منعهَا اقتناء الْكَلْب.
1078 - / 1293 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: " إِذا أنزل الله بِقوم عذَابا أصَاب الْعَذَاب من كَانَ فيهم ثمَّ بعثوا على أَعْمَالهم ". [15] قد يشكل هَذَا فَيُقَال: كَيفَ يُصِيب الْعَذَاب من لم يفعل أفعالهم؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون فيهم رَاضِيا بأفعالهم، أَو غير مُنكر لَهَا، فيعذب بِرِضَاهُ الْمعْصِيَة، وسكوته عَن الْإِنْكَار، فَإِن(2/512)
الصَّالِحين من بني إِسْرَائِيل لما أَنْكَرُوا على المفسدين ثمَّ واكلوهم وصافوهم عَم الْعَذَاب الْكل. وَالثَّانِي: أَن يكون إِصَابَة الْعَذَاب لَهُم لَا على وَجه التعذيب، وَلَكِن يكون إماتة لَهُم عِنْد انْتِهَاء آجالهم، كَمَا هَلَكت الْبَهَائِم والمواشي فِي الطوفان بآجالها لَا بالتعذيب.
1079 - / 1294 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: " لَا تزَال الْمَسْأَلَة بأحدكم حَتَّى يلقى الله وَلَيْسَ فِي وَجهه مزعة لحم ". [15] هَذِه مَسْأَلَة الْغَنِيّ عَن السُّؤَال. والمزعة: الْقطعَة من اللَّحْم. وَالْمرَاد أَنه يَقع عِقَابه بشين وَجهه لِأَنَّهُ المبذول للسؤال، كَمَا وَقع عِقَاب الْبَخِيل فِي إعراضه عَن الْفَقِير بكي الْجَبْهَة وَالْجنب وَالظّهْر، لِأَنَّهُ إِذا رأى الْفَقِير قبض وَجهه ثمَّ لوى جنبه ثمَّ أعطَاهُ ظَهره. وَقد تَأَوَّلَه قوم على أَنه يَأْتِي لَا جاه لَهُ وَلَا قدر، يُقَال: لفُلَان وَجه: أَي جاه، وَهَذَا لِأَن السُّؤَال أسقط جاهه فِي الدُّنْيَا فَأتى على ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة. [15] وَإِنَّمَا كره السُّؤَال لثَلَاثَة معَان: أَحدهَا: أَنه ذل، وذل يَنْبَغِي أَن يكون لمَالِكه فَحسب. وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ يتَضَمَّن نوع شكوى من الْقدر. وَالثَّالِث: أَن سُؤال الْغَنِيّ عَن الشَّيْء مزاحمة لمن أعد لَهُ من الْفُقَرَاء وتضييق عَلَيْهِم، وَقد كَانَ السّلف يحترزون من السُّؤَال الْجَائِز.
أخبرنَا هبة الله بن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ التَّمِيمِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر ابْن مَالك قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا(2/513)
مُوسَى بن دَاوُد قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن المؤمل عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ: رُبمَا سقط الخطام من يَد أبي بكر الصّديق فَيضْرب بِذِرَاع نَاقَته فينيخها فَيَأْخذهُ، فَقَالُوا لَهُ: أَفلا أمرتنا نناولكه. فَقَالَ: إِن حَبِيبِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمرنِي أَن لَا أسأَل النَّاس شَيْئا. قَالَ أَحْمد: وَحدثنَا وَكِيع قَالَ: حَدثنَا ابْن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن قيس عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد عَن ثَوْبَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من يتَقَبَّل لي بِوَاحِدَة وأتقبل لَهُ بِالْجنَّةِ؟ " قَالَ: قلت أَنا. قَالَ: " لَا تسْأَل النَّاس شَيْئا " فَكَانَ ثَوْبَان يَقع سَوْطه وَهُوَ رَاكب فَلَا يَقُول لأحد: ناولنيه، حَتَّى ينزل فيتناوله.
108 - / 1295 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: أَنه أطنب فِي ذكر الدَّجَّال. [15] أَي بَالغ فِي أَوْصَافه وَالْبَيَان عَنهُ وَبَاقِي الحَدِيث مُفَسّر فِيمَا تقدم.
1081 - 1297 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا، لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، ويقيموا الصَّلَاة، ويؤتوا الزَّكَاة ". [15] وَقد تقدم الْكَلَام فِي هَذَا. [15] وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْكفَّار مخاطبون بالفروع، لأَنهم يُقَاتلُون على ذَلِك. [15] فَإِن قيل: قد علق ترك الْقِتَال فِي مُسْند عمر بن الْخطاب بالْقَوْل، وعلقه هَاهُنَا بأَشْيَاء مَعَ القَوْل. فَالْجَوَاب: أَن حَدِيث عمر كَانَ فِي(2/514)
مبدأ الْإِسْلَام، وَحَدِيث ابْن عمر وَأنس متأخران بعد نزُول الْفَرَائِض.
1082 - / 1298 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: " إِذا صَار أهل الْجنَّة إِلَى الْجنَّة وَأهل النَّار إِلَى النَّار جِيءَ بِالْمَوْتِ فَيذْبَح ". [15] هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ أبسط مِنْهُ هَاهُنَا وأوضح، فسنذكر تَفْسِيره هُنَاكَ إِذا وصلنا إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1083 - / 1299 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: صَحِبت النَّبِي فَلم أره يسبح فِي السّفر. [15] قد بَينا فِيمَا تقدم أَنه المُرَاد بالتسبيح التَّنَفُّل. [15] والأسوة: الْقدْوَة.
1084 - / 1300 وَفِي الحَدِيث السِّتين: " إِن الشَّمْس وَالْقَمَر لَا يخسفان لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ ". [15] وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أبي مُوسَى. وَذكرنَا صَلَاة الْكُسُوف فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. [15]
1085 - / 1301 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: " إِذا بدا حَاجِب الشَّمْس فدعوا الصَّلَاة حَتَّى تبرز، وَلَا تَحَيَّنُوا بصلاتكم طُلُوع الشَّمْس وَلَا غُرُوبهَا ".(2/515)
[15] حَاجِب الشَّمْس: أول مَا يَبْدُو مِنْهَا كالحاجب. وَهَذَا من أَوْقَات النهى عَن التَّنَفُّل. [15] وَقد ذكرنَا معنى التحين فِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ من هَذَا الْمسند. [15] وَأما قَوْله: " بَين قَرْني الشَّيْطَان " فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن الْمَعْنى: تطلع والشيطان يقارنها. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: لم يرد مَا يتخيل كقرن الشَّاة، وَإِنَّمَا الْقرن حرف الرَّأْس، وللرأس قرنان: أَي حرفان، فالشيطان ماثل مَعَ الشَّمْس حِين تطلع، لِأَنَّهُ وَقت كَانَ عباد الشَّمْس يَسْجُدُونَ لَهَا، فإبليس حِينَئِذٍ فِي جِهَة مطْلعهَا. وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: أَن الشَّيْطَان يَتَحَرَّك عِنْد طُلُوعهَا ويتسلط، قَالَه إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ. وَالثَّالِث: أَن معنى قرن الشَّيْطَان: قوته، تَقول: أَنا مقرن لهَذَا الْأَمر: أَي مطيق، فالشيطان يقوى أمره فِي حَال طُلُوعهَا وغروبها لمَكَان تسويله لعبدتها السُّجُود لَهَا، ذكره أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ.
1086 - / 1303 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: نهى عَن أكل الثوم، وَعَن لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة. [15] اعْلَم أَن مُطلق النَّهْي عَن الشَّيْء يدل على تَحْرِيمه إِلَّا أَن يدل دَلِيل على أَنه نهي كَرَاهَة، ثمَّ اتِّفَاق الشَّيْئَيْنِ فِي النَّهْي دَلِيل على استوائهما إِلَّا أَن يدل دَلِيل على أَنه نهي كَرَاهَة أَو نهي تَحْرِيم. وَقد دلّ الدَّلِيل على أَن النَّهْي عَن أكل الثوم نهي كَرَاهَة؛ لِأَنَّهُ مُعَلل بالتأذي بِالرِّيحِ،(2/516)
ودلت قرينَة قَوْله فِي لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة: " اكفئوا الْقُدُور، فَإِنَّهَا رِجْس " على أَنه نهي تَحْرِيم. لِأَن تَضْييع المَال لَا يجوز. والرجس: النَّجس.
1087 - / 1304 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: أَنهم نزلُوا أَرض ثَمُود، فاستقوا من آبارها، وعجنوا بِهِ الْعَجِين، فَأَمرهمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يهريقوا مَا استقوا، ويعلفوا الْإِبِل الْعَجِين. [15] لما لعن قوم ثَمُود أثرت لعنتهم فِي مِيَاههمْ وأماكنهم، كَمَا تُؤثر الْبركَة فِي الْمِيَاه والأماكن. وَقد شرحنا هَذَا فِي الحَدِيث التَّاسِع عشر من هَذَا الْمسند.
1088 - / 1305 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: أعْطى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا. وَقد سبق بَيَان هَذَا فِي مُسْند عمر. [15] وَقَوله: كَانَ يُعْطي أَزوَاجه مائَة وسق، الوسق: سِتُّونَ صَاعا، والصاع خَمْسَة أَرْطَال وَثلث بالعراقي. [15] وَقَوله: نهى عَن كِرَاء الْمزَارِع. إِنَّمَا نهى ليرفق الْقَوْم بَعضهم بَعْضًا. ثمَّ قد كَانُوا يكرونها بِشَيْء مَجْهُول وَذَلِكَ أَمر مَنْهِيّ عَنهُ، وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند رَافع بن خديج. [15] وَقَوله: إِن عمر أجلى الْيَهُود وَالنَّصَارَى من أَرض الْحجاز. إجلاء الْقَوْم: إخراجهم عَن مَنَازِلهمْ وطردهم عَنْهَا. فَأَما الْحجاز فَقَالَ ابْن(2/517)
فَارس: قَالَ قوم: سمي حجازا من قَوْلهم: حجز الرجل الْبَعِير يحجزه: إِذا شده إِلَى رسغه، فَكَأَن ذَلِك قيد لَهُ، والجبل حجاز، وَقيل: سمي حجازا لِأَنَّهُ احتجز بالجبال، يُقَال: احتجزت الْمَرْأَة: إِذا شدت ثِيَابهَا على وَسطهَا وائتزرت، وَتلك هِيَ الحجزة، وَزعم نَاس أَن الحزة خطأ، والحجزة والحزة سَوَاء، وَلَكِن الحزة لُغَة لبني الْحَارِث بن كَعْب. قَالَ الْحَارِثِيّ:
(يرقون فِي النّخل حَتَّى ينزلُوا أصلا ... فِي كل حزة سيح مِنْهُم بسر)
[15] وَالْأَصْل عندنَا فِي الْحجاز أَنه حاجز بَين أَرضين. وَقِيَاس الْمَنْع على مَا قُلْنَاهُ. وكل مَوضِع يمْتَنع بِهِ الْإِنْسَان فَهُوَ حجاز، وَقَالَ النَّابِغَة فِي الحجزة، وكنى بهَا عَن الْبدن:
(رقاق النِّعَال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يَوْم السباسب)
وتيماء أَرض مَعْرُوفَة. وأريحاء: هِيَ أَرض بَيت الْمُقَدّس كَذَلِك. [15] قَالَ السّديّ: وَقَوله: وَكَانَ التَّمْر يقسم على السهْمَان من نصف. الْمَعْنى أَن الْقَوْم كَانُوا يعْملُونَ فِيهَا على وَجه الْمُسَاقَاة كَمَا ذكرنَا فِي(2/518)
مُسْند عمر، فَيَأْخُذُونَ النّصْف، ثمَّ يقسم النّصْف الْبَاقِي على السهْمَان كَمَا تقسم الْغَنِيمَة. [15] وَقَوله: فَيَأْخُذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخمس. وَيحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: يَأْخُذ الْخمس من النّصْف فيفرقه على خَمْسَة أسْهم وَالْبَاقِي لمن شهد الْوَقْعَة. وَالثَّانِي: يَأْخُذ الْخمس لنَفسِهِ، فَيكون المُرَاد خمس الْخمس. ثمَّ إِن عمر قسم خَيْبَر على من شَهِدَهَا. [15] وَقَوله: ولرسول الله شطر ثَمَرهَا. قد بَيناهُ فِي أول الْكَلَام.
1089 - / 1306 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: " انهكوا الشَّوَارِب وَاعْفُوا اللحى " وَفِي لفظ آخر: " اُحْفُوا الشَّوَارِب ". النهك: النُّقْصَان، يُقَال: نهكته الْحمى: إِذا بالغت فِي نُقْصَان قوته. وَالْمعْنَى: بالغوا فِي الْأَخْذ مِنْهَا. [15] وَقَوله: " أحفوا الشَّوَارِب " قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: أحفيت الشَّارِب إحفاء: إِذا أخذت مِنْهُ. والحفي: المستقصي فِي السُّؤَال. [15] وَأما إعفاء اللِّحْيَة فَهُوَ توفيرها وتكبيرها. قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: عَفا الشّعْر وَغَيره: إِذا كثر، يعْفُو؛ فَهُوَ عاف، وَقد عفوته وأعفيته، لُغَتَانِ. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى عفوا} [الْأَعْرَاف: 95] أَي كَثُرُوا وَكَثُرت أَمْوَالهم. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة " جزوا الشَّوَارِب وأرخوا اللحى، وخالفوا الْمَجُوس " وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ من زِيّ آل كسْرَى قصّ اللحى(2/519)
وتوفير الشَّارِب، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمته بمخالفتهم فِي الْهَيْئَة، وَفِي ذَلِك أَرْبَعَة معَان: أَحدهَا: مُخَالفَة الْكفَّار. وَفِي الثَّانِي: أَنه أجمل وَأحسن. وَالثَّالِث: أَنه أطيب وأنظف، فَإِن الْإِنْسَان إِذا أكل أَو شرب أَو قبل مَنعه طول الشَّارِب من كَمَال الالتذاذ، وَرُبمَا دخل الشّعْر فِي الْفَم مَعَ المتناول، ثمَّ يحصل فِيهِ من الزهم والوسخ، واللحية بعيدَة عَن ذَلِك. وَالرَّابِع: أَن الله تَعَالَى خلق اللِّحْيَة على صفة تقبل الطول بِخِلَاف الشَّارِب، فَإِنَّهُ لَا يطول كطولها، فَكَانَ المُرَاد مُوَافقَة الْحق عز وَجل فِيمَا رتب. [15] فَأَما الْفطْرَة فَإِنَّهَا كلمة تقال على أوجه قد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند الْبَراء. وَالْمرَاد بهَا هَاهُنَا السّنة.
1090 - / 1307 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر وَعمر يصلونَ الْعِيدَيْنِ قبل الْخطْبَة. [15] قد بَينا عِلّة تَأْخِير الْخطْبَة فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1091 - / 1308 - وَفِي الْحَادِث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم الْجُمُعَة قَائِما ثمَّ يجلس ثمَّ يقوم. [15] قد بَينا أَن الْقيام والقعدة بَين الْخطْبَتَيْنِ عندنَا سنة، وَأَن الشَّافِعِي يرى ذَلِك وَاجِبا.(2/520)
1092 - / 1309 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعرض رَاحِلَته فَيصَلي إِلَيْهَا. [15] وَالْمعْنَى: ينحيها فِي عرض الْقبْلَة، وَفِيه لُغَتَانِ: يعرض ويعرض.
1093 - / 1310 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين والعنزة بَين يَدَيْهِ. العنزة: عَصا شَبيهَة بالعكاز، وَهِي الحربة.
1094 - / 1313 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: " اجعلوا من صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ ". الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى السّنَن والنوافل.
1095 - / 1314 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: " إِذا وضع عشَاء أحدكُم وأقيمت الصَّلَاة فابدءوا بالعشاء ". [15] اعْلَم أَن هَذَا ورد فِي حق الجائع الَّذِي قد تاقت نَفسه إِلَى الطَّعَام، أَمر بذلك لِئَلَّا يشْتَغل قلبه فِي الصَّلَاة بِذكر الطَّعَام عَن الْخُشُوع والفكر. وَقد ظن قوم أَن هَذَا من بَاب تَقْدِيم حَظّ العَبْد على حق الْحق، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ صِيَانة لحق الْحق، ليدخلوا فِي الْعِبَادَة بقلوب مقبلة غير مَشْغُولَة بِذكر الطَّعَام. وَإِنَّمَا كَانَ عشَاء الْقَوْم يَسِيرا لَا يقطع عَن لحاق الْجَمَاعَة، يدل على مَا قُلْنَاهُ مَا سَيَأْتِي من حَدِيث عَمْرو بن أُميَّة(2/521)
الضمرِي قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل ذِرَاعا يحتز مِنْهَا، فدعي إِلَى الصَّلَاة، فَقَامَ وَطرح السكين، فصلى وَلم يتَوَضَّأ.
1096 - / 1315 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكَاة الْفطر صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير. [15] الصَّاع مكيال مَعْرُوف قدره خَمْسَة أَرْطَال وَثلث بالعراقي، وَهَذَا قدر صَاع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال. وَقد سبق بَيَان هَذَا. [15] وَأما ذكر التَّمْر وَالشعِير خَاصَّة فَلِأَنَّهُ كَانَ أَكثر قوت الْقَوْم. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أبي سعيد ذكر الْبر وَالزَّبِيب والأقط. [15] وَلَا يَجْزِي عندنَا أقل من صَاع من أَي الْأَجْنَاس الْمَنْصُوص عَلَيْهَا كَانَ، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَجْزِي نصف صَاع بر، وَهُوَ المُرَاد بقول ابْن عمر: فَعدل النَّاس بِهِ نصف صَاع بر. وَعِنْدنَا أَنه يجوز إِخْرَاج الصَّاع من جِنْسَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَجْزِي على وَجه الْقيمَة. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يَجْزِي بِحَال. [15] وَقَوله: على كل حر وَعبد، ذكر وَأُنْثَى من الْمُسلمين. هَذَا دَلِيل على أَن الْإِنْسَان لَا تلْزمهُ فطْرَة عَن عَبده الْكَافِر، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تلْزمهُ. وَعِنْدنَا أَن الْفطْرَة تجب على العَبْد الْمُشرك، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا(2/522)
تجب. وَاخْتلف الرِّوَايَة عَن أَحْمد: كم يخرج كل مَالك، فروى عَنهُ نصف صَاع، وَهُوَ اخْتِيَار الْخرقِيّ. [15] وَقَوله: وَأَن تُؤَدّى قبل خُرُوج النَّاس للصَّلَاة، عندنَا أَن صَدَقَة الْفطر تجب بغروب الشَّمْس من لَيْلَة الْفطر، وَهُوَ قَول مَالك فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجب بِطُلُوع الْفجْر من يَوْم الْفطر، وَهِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن مَالك، وَالْقَوْل الْقَدِيم للشَّافِعِيّ. فَأَما وَقت إخْرَاجهَا فَالْأَفْضَل أَن يُخرجهَا قبل صَلَاة الْعِيد، فَإِن قدمهَا قبل الْفطر بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ جَازَ كَمَا ذكر فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَا تجوز الزِّيَادَة على ذَلِك. وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز إخْرَاجهَا من أول رَمَضَان، وَلَا يجوز قبله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز تَقْدِيمهَا على رَمَضَان.
1097 - / 1316 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين: لَا تُسَافِر الْمَرْأَة ثَلَاثًا إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم. [15] إِنَّمَا ذكرت الثَّلَاث لِأَنَّهَا مِقْدَار السّفر الشَّرْعِيّ الَّذِي تقصر فِيهِ الصَّلَاة. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي سعيد: " لَا تُسَافِر الْمَرْأَة يَوْمَيْنِ " وَفِي مُسْند أبي هُرَيْرَة: " مسيرَة يَوْم وَلَيْلَة " وَقد ذكرنَا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: " لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إِلَّا مَعَ ذِي محرم " وَلم تذكرة مُدَّة، وَهَذَا لِأَن بعْدهَا عَن الْمنَازل غير مَأْمُون. وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.(2/523)
1098 - / 1317 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: أَن ابْن عمر أحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة، فَانْطَلق يهل بهما حَتَّى قدم مَكَّة، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة، وَلم يحلل حَتَّى كَانَ يَوْم النَّحْر فَنحر، وَرَأى أَن قد قضى طواف الْحَج وَالْعمْرَة بطوافه الأول، وَقَالَ: كَذَلِك فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] هَذَا يدل على أَن قَارن تدخل أَفعَال عمرته فِي حجه عِنْد نِيَّة الْقرَان، فيجتزي لَهما بِإِحْرَام وَاحِد وَطواف وَاحِد وسعي وَاحِد وحلاق وَاحِد، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل، وَهل تجزيه هَذِه الْعمرَة عَن عمْرَة الْإِسْلَام؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يَجْزِي الْقَارِن إِلَّا طوافان وسعيان. فَأَما الْإِحْرَام والحلاق الْوَاحِد فيجزيه، لِأَن الْإِحْرَام عِنْده شَرط، وَلَيْسَ من الْحَج، والحلاق لَيْسَ بنسك، إِنَّمَا هُوَ مُحَلل كالسلام من الصَّلَاة.
1099 - / 1319 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: أَن الْعَبَّاس اسْتَأْذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبيت بِمَكَّة ليَالِي منى من أجل سقايته، فَأذن لَهُ. [15] اعْلَم أَن الْمبيت بمنى ليَالِي منى من وَاجِبَات الْحَج، وَإِنَّمَا رخص لأجل السِّقَايَة والرعاء فَإِذا ترك غَيرهم الْمبيت فِي منى فَمَا الَّذِي يلْزمه؟ فِيهِ ثَلَاث رِوَايَات عَن أَحْمد: إِحْدَاهُنَّ: يلْزمه دم. وَالثَّانيَِة:(2/524)
تلْزمهُ صَدَقَة. وَالثَّالِثَة: لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة.
1100 - / 1320 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخرج من طَرِيق الشَّجَرَة وَيدخل من طَرِيق المعرس. وَفِي رِوَايَة: أَنه دخل مَكَّة من كداء من الثَّنية الَّتِي عِنْد الْبَطْحَاء وَخرج من الثَّنية السُّفْلى. [15] هَذِه كلهَا أَسمَاء مَوَاضِع. وكداء هَاهُنَا مَفْتُوح الْكَاف مَمْدُود، وَهُوَ الَّذِي يسْتَحبّ الدُّخُول مِنْهُ، وبمكة ثَلَاث مَوَاضِع تشتبه بِكدَاء قد بيناها فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1101 - / 1321 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: لما خلع أهل الْمَدِينَة يزِيد بن مُعَاوِيَة جمع ابْن عمر حشمه وَولده.
الحشم: خدم الرجل وَأَتْبَاعه. [15] وَقَوله: كَانَ الفيصل بيني وَبَينه. و " الفيصل " " فيعل " من الْفَصْل، وَأَرَادَ بهَا القطيعة التَّامَّة. وَهَذَا يدل على الصَّبْر على الإِمَام وَإِن جَار. [15] وَقد تكلمنا على قَوْله: " لكل غادر لِوَاء " فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1102 - / 1322 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: عرضت على النَّبِي(2/525)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد وَأَنا ابْن أَربع عشرَة فَلم يجزني، وَعرضت عَلَيْهِ عَام الْفَتْح وَأَنا ابْن خمس عشرَة فأجازني. [15] هَكَذَا ذكره الْحميدِي، وَهُوَ سَهْو، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ هَكَذَا، وَإِنَّمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ جَمِيعًا: وَعرضت عَلَيْهِ يَوْم الخَنْدَق فأجازني. وَأول من سَهَا فِي هَذَا أَبُو مَسْعُود صَاحب " التعليقة "، ثمَّ تبعه خلف صَاحب " التعليقة " الْأُخْرَى، ثمَّ تبعهما أَبُو عبد الله الْحميدِي، وَلم ينْظرُوا فِي هَذَا. وَالْعجب من صَاحب حَدِيث يتَكَرَّر هَذَا على سَمعه وَلَا يتدبره، فَإِن غزَاة أحد كَانَت فِي سنة ثَلَاث وغزاة الْفَتْح كَانَت فِي سنة ثَمَان. فَمن يكون فِي غزَاة أحد ابْن أَربع عشر كَيفَ يكون بعد خمس سِنِين ابْن خمس عشرَة؟
1103 - / 1323 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: " الْخَيل فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". [15] قد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند جرير بن عبد الله.
1104 - / 1324 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: " إِن العَبْد إِذا نصح لسَيِّده وَأحسن عبَادَة الله عز وَجل فَلهُ أجره مرَّتَيْنِ ". [15] وَإِنَّمَا ضوعف أجر العَبْد لِأَن خدمَة السَّيِّد تشغل عَن عبَادَة الله عز(2/526)
وَجل، فَإِن تحمل الْمَشَقَّة فِي الْجمع بَين الْحَقَّيْنِ ضوعف لَهُ أجره، فَلهُ أجر بِعبَادة ربه، وَأجر بِخِدْمَة سَيّده، وَكلما كثرت المشاق زَاد الْأجر.
1105 - / 1325 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: " على الْمَرْء الْمُسلم السّمع وَالطَّاعَة فِيمَا أحب أَو كره إِلَّا أَن يُؤمر بِمَعْصِيَة ". [15] الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى طَاعَة الْأُمَرَاء، فَهِيَ لَازِمَة فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَة لله عز وَجل.
1106 - / 1326 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: أجْرى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا ضمر من الْخَيل من الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع. وَأما تضمير الْخَيل فقد فسرناه فِي مُسْند سهل بن سعد. [15] والحفياء: اسْم مَوضِع. وَاخْتلفُوا كم بَينه وَبَين ثنية الْوَدَاع؟ فَقَالَ: مُوسَى بن عقبَة: سِتَّة أَمْيَال أَو سَبْعَة. وَقَالَ البُخَارِيّ: قَالَ سُفْيَان: من الحفياء إِلَى ثنية الْوَدَاع خَمْسَة أَمْيَال أَو سِتَّة. وَمن ثنية الْوَدَاع إِلَى مَسْجِد بني زُرَيْق ميل. [15] والأمد: الْغَايَة. وَالْمرَاد أَنه جعل غَايَة المضامير أبعد من غَايَة مَا لم يضمر. [15] وَقَوله: فطفف بِي الْفرس الْمَسْجِد. قَالَ أَبُو عبيد: يَعْنِي أَن الْفرس وثب حَتَّى كَاد يُسَاوِي مَسْجِد بني زُرَيْق. وَمن هَذَا قيل: إِنَاء طفان:(2/527)
وَهُوَ الَّذِي قرب أَن يمتلئ أَو يُسَاوِي الْمِكْيَال. والاقتحام: دُخُول الشَّيْء بِشدَّة. [15] فَأَما الْمُسَابقَة بِالْخَيْلِ فَإِنَّهَا تجوز بعوض وَبِغير عوض. فَإِن سَابق بعوض كَانَ العقد كالجعالة فِي إِحْدَى الْوَجْهَيْنِ لنا، يجوز فَسخه وَيجوز الزِّيَادَة فِيهِ، وَلَا يُؤْخَذ فِيهِ رهنا وَلَا ضمينا، وَلَا يلْزم إِلَّا بِوُجُود السَّبق، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة. وَفِي الْوَجْه الآخر هُوَ كالإجازة تلْزم بِمُجَرَّد العقد، وَلَا يجوز فَسخه وَلَا الِامْتِنَاع من إِتْمَامه، وَلَا الزِّيَادَة فِيهِ، ويدخله الرَّهْن والضمين. وَعَن الشَّافِعِي كالوجهين. وَلَا بُد من تعْيين الْفرس وتحديد الْمسَافَة وَالْعلم بِالْعِوَضِ. وَيجوز السَّبق بِالْإِبِلِ أَيْضا. [15] والسبق فِي الْخَيل: أَن يسْبق أَحدهمَا بِالرَّأْسِ إِذا تماثلت الْأَعْنَاق، فَإِن اخْتلفت الفرسان فِي طول الْعُنُق أَو كَانَ السَّبق فِي الْإِبِل اعْتبر السَّبق بالكتف. [15] وَلَا تجوز الْمُسَابقَة بَين جِنْسَيْنِ كَالْإِبِلِ وَالْخَيْل، وعَلى نَوْعَيْنِ كالعربي والهجين. وَقد يتَخَرَّج الْجَوَاز بِنَاء على تساويهما فِي سهم الْغَنِيمَة. وَتجوز الْمُسَابقَة على البغال وَالْحمير والفيلة، وبالطيور والرماح والمزاريق والسماريات بِغَيْر عوض، وَلَا يجوز فِي شَيْء من ذَلِك بعوض، وَكَذَلِكَ المصارعة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجوز المصارعة بعوض، وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين: فَأَما الْمُسَابقَة على الْأَقْدَام فَلَا تجوز بعوض. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تجوز. وَعَن الشَّافِعِيَّة كالمذهبين. وَإِذا شَرط فِي الْمُسَابقَة أَن من غلب أطْعم السَّبق أَصْحَابه بَطل الشَّرْط، وَهل يَصح(2/528)
العقد؟ على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: يَصح، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَالثَّانِي: يبطل، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي.
1107 - / 1327 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: " أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم فِي النَّفْل للْفرس سَهْمَيْنِ وللرجل سهم. [15] المُرَاد بالنفل الْأَنْفَال: وَهِي الْغَنَائِم، قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: فِي هَذَا بَيَان أَن الْفَارِس يَأْخُذ ثَلَاثَة أسْهم: سَهْما باسم نَفسه، وسهمين باسم فرسه، وَذَلِكَ لما يلْزمه من الْمُؤْنَة للْفرس. فَأَما مَا جَاءَ فِي الحَدِيث: " للفارس سَهْمَان " فَإِنَّهُمَا سَهْما فرسه، وسهمه لنَفسِهِ ثَابت، والمجمل يرد إِلَى الْمُفَسّر.
1108 - / 1330 - وَفِي الحَدِيث التسعين: " نهى عَن الشّغَار. وَفِي لفظ حَدِيث مَالك: نهى عَن الشّغَار، والشغار أَن يُزَوّج الرجل ابْنَته الرجل على أَن يُزَوجهُ ابْنَته وَلَيْسَ بَينهمَا صدَاق. فقد درج هَذَا فِي الحَدِيث وَلَيْسَ من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا هُوَ قَول مَالك، أَعنِي تَفْسِير الشّغَار. وَفِي رِوَايَة: أَن نَافِعًا فسره أَيْضا. [15] وَاعْلَم أَن صفة الشّغَار مَا ذكرنَا، وَهُوَ أَن يَقُول: زَوجتك ابْنَتي على أَن تزَوجنِي ابْنَتك بِغَيْر صدَاق. وَقَالَ الشَّافِعِي: هَذِه صفته، وفيهَا(2/529)
زِيَادَة: وَهُوَ أَن يَقُول: وَيَضَع كل وَاحِدَة مِنْهُمَا مهر الْأُخْرَى، وَإِن لم يقل هَذَا فَالنِّكَاح صَحِيح، وَلكُل مِنْهُمَا مهر الْمثل. وَقد فسر نَافِع وَمَالك الشّغَار فِي هَذَا الحَدِيث على مَا ذكرنَا، وَلَيْسَ فِيهِ مَا قَالَ الشَّافِعِي. [15] وَنِكَاح الشّغَار عندنَا بَاطِل؛ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَنهُ، وَبِهَذَا قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ بباطل، وَلكُل وَاحِدَة مهر مثلهَا، وَإِنَّمَا النَّهْي عِنْده أَن يسْتَحل الْفرج بِغَيْر مهر. وأصل الشّغَار الرّفْع، يُقَال: شغر الْكَلْب بِرجلِهِ: إِذا رَفعهَا عِنْد الْبَوْل، فَسُمي هَذَا النِّكَاح لِأَنَّهُمَا رفعا الْمهْر بَينهمَا. وعَلى الْحَقِيقَة إنَّهُمَا رفعا مَا يجوز أَن يكون مهْرا، وَجعلا مَا لَيْسَ بِمهْر مهْرا وَهُوَ الْبضْع، فَصَارَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ معقودا؛ لِأَن العقد للْمَرْأَة وَبهَا، فَكَأَنَّهُ زَوجهَا وَاسْتثنى بضعهَا فَجعله مهْرا لصاحبتها فَكَانَ بَاطِلا.
1109 - / 1331 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: " أَن رجلا رمى امْرَأَته وانتفى من وَلَدهَا، فَأَمرهمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَلَاعَنا، ثمَّ قضى بِالْوَلَدِ للْمَرْأَة، وَفرق بَين المتلاعنين. [15] أما قَضَاؤُهُ بِالْوَلَدِ للْمَرْأَة فَمَعْنَاه أَنه ألحقهُ بهَا لِأَنَّهُ مِنْهَا قطعا. وَأما التَّفْرِيق بَين المتلاعنين فَإِنَّهُ يحصل بلعانهما، هَذَا مَذْهَبنَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَبِه قَالَ مَالك، وَفِي الْأُخْرَى: لَا يَقع بِمُجَرَّد لعانهما إِلَّا أَن يُضَاف إِلَيْهِ حكم الْحَاكِم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة.(2/530)
[15] وَاخْتلفُوا: هَل تَحْرِيم اللّعان مؤبد أم لَا؟ فالمنصور من مَذْهَبنَا أَنه مؤبد، وَعَن أَحْمد أَنه يرْتَفع بتكذيب الرجل نَفسه، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. [15] وَقَوله: أول من سَأَلَ عَن هَذَا فلَان بن فلَان. قد بَينه فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى فَقَالَ: فرق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أخوي بني العجلان. وَهَذَا يدل على أَنَّهَا قصَّة عُوَيْمِر بن الْحَارِث الْعجْلَاني. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. وَقد مر حَدِيث اللّعان فِي مُسْند سهل بن سعد ومسند ابْن عَبَّاس.
1110 - / 1333 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين: " الْمُؤمن يَأْكُل فِي معي وَاحِد " وَقد سبق فِي مُسْند أبي مُوسَى.
1111 - / 1335 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: لما توفّي عبد الله بن أبي جَاءَ ابْنه عبد الله إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ أَن يُعْطِيهِ قَمِيصه يُكفن فِيهِ أَبَاهُ فَأعْطَاهُ. [15] عبد الله بن أبي رَأس الْمُنَافِقين، وَقد ذكرنَا حَاله فِي مُسْند عمر. وَكَانَ ابْنه عبد الله من صالحي الصَّحَابَة، شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا، وَلما قَالَ ابْن أبي فِي غزَاة الْمُريْسِيع: (لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَذَل) وَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ إِلَيْهِ عبد الله فَقَالَ: يَا رَسُول الله بَلغنِي أَنَّك تُرِيدُ قتل أبي لما بلغك عَنهُ، فَإِن كنت فَاعِلا فمرني(2/531)
فَأَنا أحمل إِلَيْك رَأسه، فَإِنِّي أخْشَى أَن يقْتله غَيْرِي فَلَا تدعني نَفسِي حَتَّى أقتل قَاتله فَأدْخل النَّار. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " بل نحسن صحبته مَا بَقِي مَعنا " فَلَمَّا أَرَادَ ابْن أبي أَن يدْخل الْمَدِينَة جَاءَ ابْنه فَقَالَ: وَرَاءَك. قَالَ: مَالك؟ وَيلك. قَالَ: لَا وَالله، لَا تدْخلهَا أبدا إِلَّا بِإِذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتعلم الْيَوْم من الْأَعَز وَمن الْأَذَل. فَلَمَّا مَاتَ طلب وَلَده قَمِيص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأعْطَاهُ. وَاخْتلفُوا لم أعطَاهُ؟ على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: لإكرام الْوَلَد. الثَّانِي: لِأَنَّهُ مَا سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا فَقَالَ لَا. وَالثَّالِث: لِأَنَّهُ كَانَ قد أعْطى الْعَبَّاس قَمِيصًا لما أسر يَوْم بدر، وَلم يكن على الْعَبَّاس ثِيَاب يَوْمئِذٍ، فَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مكافأته على ذَلِك. وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مُسْند جَابر.
1112 - / 1336 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالتسْعين: " الْحمى من فيح جَهَنَّم فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ". [15] قد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند رَافع بن خديج.
1113 - / 1337 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطع سَارِقا فِي مجن قِيمَته ثَلَاثَة دَرَاهِم. [15] الْمِجَن: الترس. قَالَ الْخطابِيّ: كَانَ الأَصْل فِي النَّقْد عِنْدهم الدَّنَانِير، وَكَانَ صرف الدِّينَار اثْنَي عشر درهما، فَثَلَاثَة دَرَاهِم ربع(2/532)
دِينَار، فَلَا فرق بَينه وَبَين حَدِيث عَائِشَة. [15] وَاعْلَم أَن النّصاب فِي السّرقَة فِي مَذْهَب أَحْمد ربع دِينَار أَو ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو قيمَة ثَلَاثَة دَرَاهِم من الْعرُوض، والأثمان أصل لَا يقوم بَعْضهَا بِبَعْض، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: النّصاب دِينَار أَو عشرَة دَرَاهِم أَو قيمَة أَحدهمَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: النّصاب ربع دِينَار أَو مَا قِيمَته ربع دِينَار. وَيجب الْقطع عندنَا بِسَرِقَة مَا يسْرع إِلَيْهِ الْفساد، وبسرقه الصيود والطيور الْمَمْلُوكَة، وبسرقة الْحَطب، خلافًا لأبي حنيفَة.
1114 - / 1338 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين: " دخلت امْرَأَة النَّار فِي هرة ربطتها، فَلم تطعمها وَلم تدعها تَأْكُل من خشَاش الأَرْض ". [15] خشَاش الأَرْض: دوابها وحشراتها وهوامها.
1115 - / 1339 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَة: " أخبروني عَن شَجَرَة كَالرّجلِ الْمُسلم لَا يتحات وَرقهَا ... وَلَا ... وَلَا ... وَلَا ... ". [15] الشّجر فِي اللُّغَة: كل مَا قَامَ على سَاق: وتحات الْوَرق: وَقع من الأغصان. [15] وَقَوله: " وَلَا ... وَلَا ... وَلَا ... " يصف فِيهِ مَا يُوجب مدحها.(2/533)
والجمار: شحمة النّخل، وَوجه تَشْبِيه الشَّجَرَة بِالرجلِ الْمُسلم من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: من حَيْثُ الذَّات، وَالثَّانِي: من حَيْثُ الْمَعْنى، فَأَما من حَدِيث الذَّات فَمن وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنَّهَا من فضلَة تربة آدم على مَا يرْوى وَإِن كَانَ لَا يثبت. وَالثَّانِي: أَنَّهَا إِذا قطع رَأسهَا يَبِسَتْ بِخِلَاف سَائِر الشّجر؛ فَإِنَّهُ يتشعب غصونه من جوانبه، والآدمي قد يبْقى عِنْد قطع أَعْضَائِهِ وَلَا يبْقى عِنْد قطع رَأسه. وَأما من حَيْثُ الْمَعْنى فَمن أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَنه لَيْسَ فِيهَا شَيْء إِلَّا وَينْتَفع بِهِ، كَمَا أَن الْمُؤمن كُله خير ونفع، وَهَذَا الْمَعْنى مَذْكُور فِي بَقِيَّة الحَدِيث؛ فَإِنَّهُ قَالَ: " لَهَا بركَة كبركة الْمُسلم ". وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَدِيدَة الثُّبُوت كثبوت الْإِيمَان فِي قلب الْمُؤمن. وَالثَّالِث: أَنَّهَا عالية الْفُرُوع كعلو ارْتِفَاع عمل الْمُؤمن. وَالرَّابِع: أَنَّهَا تؤتي أكلهَا كل حِين، وَالْمُؤمن يكْتَسب الثَّوَاب فِي كل وَقت. [15] وَالْأكل: الثَّمَرَة. [15] وللمفسرين فِي المُرَاد بالحين هَاهُنَا سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه ثَمَانِيَة أشهر، قَالَه عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. وَالثَّانِي: سِتَّة أشهر، رَوَاهُ ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ الْحسن وعكرمه. وَالثَّالِث: بكرَة وَعَشِيَّة، رَوَاهُ أَبُو ظبْيَان عَن ابْن عَبَّاس. وَالرَّابِع: سنة، قَالَه مُجَاهِد وَابْن زيد. وَالْخَامِس: شَهْرَان، قَالَه سعيد بن الْمسيب. وَالسَّادِس: كل سَاعَة، قَالَه ابْن جرير. فَمن قَالَ: ثَمَانِيَة أشهر، أَشَارَ إِلَى مُدَّة حملهَا بَاطِنا وظاهراً. وَمن قَالَ: سِتَّة أشهر، فَهِيَ مُدَّة حملهَا ظَاهرا إِلَى حِين صرامها وَمن قَالَ: بكرَة وَعَشِيَّة. أَشَارَ إِلَى الاجتناء مِنْهَا حَال الْحمل. وَمن قَالَ: سنة، أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا لَا تحمل فِي السّنة إِلَّا مرّة.(2/534)
وَمن قَالَ: شَهْرَان، فَهِيَ مُدَّة صَلَاحهَا. وَمن قَالَ: كل سَاعَة، أَشَارَ إِلَى أَن ثَمَرَتهَا تُؤْكَل دَائِما؛ فَتَارَة يُؤْكَل طلعها، وَتارَة بلحها، وَتارَة بسرها، وَتارَة رطبها، ثمَّ يُؤْكَل دَائِما تمرها.
1116 - / 1341 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: " إِن أمامكم حوضا مَا بَين جرباء وأذرح ". [15] أمامكم: أَي بَين أَيْدِيكُم. [15] وجرباء وأذرح قَرْيَتَانِ بِالشَّام , وَبَينهمَا مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام. [15] والظمأ: الْعَطش.
1117 - / 1342 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعن الْوَاصِلَة وَالْمسْتَوْصِلَة. [15] الْوَاصِلَة: اسْم يَقع على الَّتِي تصل شعرهَا بِشعر غَيره، توهم أَن ذَلِك من شعرهَا. وَيَقَع على فاعلة ذَلِك بغَيْرهَا. وَالْمسْتَوْصِلَة: الَّتِي تطلب من يفعل بهَا ذَلِك. قَالَ أَبُو عبيد: وَقد رخصت الْفُقَهَاء فِي القرامل وكل شَيْء وصل بِهِ الشّعْر مَا لم يكن الْوَصْل شعرًا. [15] وَقد فسرنا الواشمه والمستوشمة فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.(2/535)
1118 - / 1343 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: نذرت أَن أعتكف. وَقد سبق فِي مُسْند عمر.
1119 - / 1344 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَفَاضَ يَوْم النَّحْر، ثمَّ رَجَعَ فصلى الظّهْر بمنى. [15] أَفَاضَ بِمَعْنى دفع. فَكَأَنَّهُ مضى إِلَى مَكَّة وَطَاف بِالْبَيْتِ ثمَّ رَجَعَ إِلَى منى.
1120 - / 1345 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة: " البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم يفترقا، أَو يَقُول أَحدهمَا لصَاحبه: اختر ". [15] اعْلَم أَن الشَّرْع لما علم أَن الْعُقُود فِي الْغَالِب تقع بَغْتَة من غير ترو وَلَا فكر، وَأَنه رُبمَا نَدم أحد المبتاعين بعد الْفَوات، جعل الْمجْلس حد التروي وَالنَّظَر. [15] وَهَذَا الحَدِيث نَص فِي ثُبُوت خِيَار الْمجْلس، وَبِه قَالَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة مَالك: لَيْسَ خِيَار الْمجْلس بِثَابِت. وَقد اعْترضُوا على هَذَا الحَدِيث من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَنهم قَالُوا: يرويهِ مَالك ومذهبه على خِلَافه، ورأي الرَّاوِي مقدم على رِوَايَته؛ لِأَن رَأْيه يشْعر بالطعن فِيمَا روى. وَالثَّانِي: أَنه خبر وَاحِد فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى، فَلَا يقبل. وَالثَّالِث: أَنه يُخَالف قِيَاس الْأُصُول؛ لِأَن عُقُود(2/536)
الْمُعَاوَضَات لَا يثبت فِيهَا خِيَار الْمجْلس. وَالرَّابِع: أَنهم حملوه على المتساومين، وسميا متبايعين لِأَن حَالهمَا يؤول إِلَى ذَلِك. وَالْخَامِس: أَنهم حملوه على حَالَة التواجب إِذا قَالَ البَائِع: بِعْت وَلم يقل المُشْتَرِي: قبلت، فالبائع مُخَيّر بَين أَن يَفِي بِمَا قَالَ أَو يرجع، وَالْمُشْتَرِي مُخَيّر بَين أَن يقبل أَو يرد. قَالُوا: وَقد حمل الْكَلَام على حَقِيقَته؛ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثبت الْخِيَار بِسَبَب التبايع؛ والتبايع اسْم لحالة تشاغلهما بِالْبيعِ. فَأَما بعد ارتباط الْإِيجَاب بِالْقبُولِ فَلَا يسميان متبابعين، إِنَّمَا يُقَال: كَانَا متبايعين. فعلى هَذَا يكون الْمَعْنى: مَا لم يَتَفَرَّقَا بالأقوال. وَقد يَقع التَّفَرُّق بالْقَوْل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَا تفرق الَّذين أُوتُوا الْكتاب} [الْبَيِّنَة: 4] . [15] وَالْجَوَاب: أما قَوْلهم: يرويهِ مَالك، فَجَوَابه من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه مَتى صَحَّ الحَدِيث كَانَ حجَّة على رَاوِيه وَغَيره؛ لِأَن الْحجَّة مَا كَانَت من قبل الرَّاوِي، بل من نَقله، فَلَا يلْتَفت إِلَى خِلَافه، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون نسي أَو تَأَول. وَقد علمنَا سَبَب مُخَالفَة مَالك للْحَدِيث؛ فَإِنَّهُ قَالَ: رَأَيْت عمل أهل الْمَدِينَة بِخِلَافِهِ، وَعِنْده أَن عمل أهل الْمَدِينَة حجَّة. وَقد أزرى عَلَيْهِ فِي هَذَا الرَّأْي ابْن أبي ذِئْب وَغَيره. وَقَالَ الشَّافِعِي: رحم الله مَالِكًا، لست أَدْرِي من اتهمَ فِي هَذَا الحَدِيث: أتهم نَفسه أَو نَافِعًا، وَأعظم أَن أَقُول: اتهمَ ابْن عمر! [15] وَالثَّانِي: أَن الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر من غير طَرِيق مَالك، يرويهِ البُخَارِيّ وَمُسلم من طَرِيق يحيى بن سعيد، وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ كِلَاهُمَا عَن نَافِع. وَيَرْوِيه مُسلم من حَدِيث ابْن جريج(2/537)
وَالضَّحَّاك بن عُثْمَان عَن نَافِع. وَالثَّالِث: أَن هَذَا الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ من مُسْند حَكِيم بن حزَام عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] وَقَوْلهمْ: خبر وَاحِد فِيمَا يعم بِهِ الْبلوى وَيُخَالف قِيَاس الْأُصُول، هَذَا مِمَّا صنعه فِي الجدل أَبُو زيد الْحَنَفِيّ، وَهُوَ مَرْدُود عَلَيْهِ؛ لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُؤَدِّي مَا حمله من الرسَالَة إِلَى الشَّخْص الْوَاحِد وَإِلَى الْإِثْنَيْنِ وَإِلَى الْجَمَاعَة، فَإِذا بلغ عَن الثِّقَة لزم الحكم البَاقِينَ، وَكم من حكم قد انْفَرد بروايته وَاحِد فَتَبِعَهُ الْبَاقُونَ: فَإِن حكم التَّيَمُّم كَانَ عِنْد عمار وخفي على عمر، وَحكم الاسْتِئْذَان كَانَ عِنْد أبي مُوسَى وخفي على عمر، وَحكم الْمُتْعَة كَانَ عِنْد عَليّ وخفي على ابْن عَبَّاس، وَحكم الْإِقْدَام على بلد الطَّاعُون كَانَ عِنْد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وخفي على الجم الْغَفِير الَّذين سافروا مَعَ عمر إِلَى الشَّام، إِلَى غير هَذَا. وَقد ينْفَرد الصَّحَابِيّ بِرِوَايَة حَدِيث. وَقد يروي الحَدِيث جمَاعَة من الصَّحَابَة، فَإِن قَوْله: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " لَا يَصح إِلَّا من رِوَايَة عمر وَحده. وَقَوله: " من كذب عَليّ مُتَعَمدا " قد روينَاهُ عَن سِتِّينَ نفسا من الصَّحَابَة، رَوَوْهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. ثمَّ الْعجب من أَصْحَاب أبي حنيفَة، فَإِنَّهُم يبطلون الْوضُوء بالقهقهة ويوجبون الْوتر بِأَحَادِيث آحَاد لَا تثبت. وَكَيف يَقُولُونَ هَذَا! [15] وَأما حملهمْ إِيَّاه على التساوم لَا يُمكن لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن(2/538)
البيع غير المساومة. وَالثَّانِي: أَن ذَلِك يسْقط فَائِدَة التَّخْصِيص بِالْبيعِ؛ فَإِن السّوم فِي كل العقد، وَيثبت بِهِ الْخِيَار. وَحَملهمْ على حَالَة التواجب لَا يَصح؛ لِأَنَّهُمَا لَا يسميان متبايعين إِلَّا على وَجه التَّجَوُّز. وَحَملهمْ التَّفَرُّق على الْأَقْوَال غلط من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن هَذَا الحَدِيث مُفَسّر فِي رِوَايَة عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: مَا لم يفترقا عَن مكانهما، وَهَذَا الَّذِي عقله ابْن عمر رَاوِي الحَدِيث؛ فَإِنَّهُ كَانَ يمشي بعد العقد. وَالثَّانِي: أَنه أَلْفَاظ الصِّحَاح كلهَا: " مَا لم يَتَفَرَّقَا " وَقد فرق اللغويون بَين يَتَفَرَّقَا ويفترقا بالْكلَام. [15] وَقَوله: إِلَّا بيع الْخِيَار. مَعْنَاهُ أَن يخيره قبل التَّفَرُّق وهما بعد فِي الْمجْلس، فَيَقُول: اختر.
1121 - / 1346 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة: " إِذا كَانَ أحدكُم يُصَلِّي فَلَا يبصق قبل وَجهه ". [15] قبل وَجهه: مَا يُقَابله. وَمثله: حِيَال وَجهه. [15] وَقَوله: " وَلَا يتنخمن " التنخم والبصاق متقاربان؛ لِأَن البصاق من أدنى الْفَم، والتنخم من النخامة وَهِي من أقْصَى الْفَم. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ قد جعلت الْقبْلَة على هَيْئَة سدد الْمُلُوك، فلزمها احترامها لهَذَا الْمَعْنى.
1122 - / 1347 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الْمِائَة: " صَلَاة الْجَمَاعَة أفضل من صَلَاة الْفَذ بِسبع وَعشْرين دَرَجَة " وَفِي لفظ " ببضع ".(2/539)
[15] الْبضْع: مَا بَين الْوَاحِد إِلَى الْعشْرَة. وَلَفْظَة " بِسبع " تَفْسِير لَهُ. وَقد تكلّف قوم تَعْلِيل سبع وَعشْرين وَمَا وَقَعُوا بطائل، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " بِخمْس وَعشْرين جُزْءا " وَلَعَلَّ الِاخْتِلَاف لاخْتِلَاف أَحْوَال الْمُصَلِّين.
1123 - / 1348 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة: " الَّذِي تفوته صَلَاة الْعَصْر كَأَنَّمَا وتر أَهله وَمَاله ". [15] فِي معنى " وتر " قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه بِمَعْنى النَّقْص، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَلنْ يتركم أَعمالكُم} [مُحَمَّد: 35] أَي لن ينقصكم. وَتقول: وترته حَقه: أَي نقصته، فَيكون الْمَعْنى: وكأنما نقص أَو سلب، فَبَقيَ فَردا وترا. وَالثَّانِي: ذهَاب الْكل، فَيكون من الْوتر الَّذِي هُوَ الْجِنَايَة الَّتِي يذهب فِيهَا مَال الْإِنْسَان من الفجائع، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي وَغَيره. [15] وَفِي إِعْرَاب الْأَهْل وَالْمَال قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهُمَا منصوبان، وَهُوَ الَّذِي سمعناه وضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد وَغَيره. وَيكون الْمَعْنى: فَكَأَنَّمَا وتر فِي أَهله وَمَاله. فَلَمَّا حذف الْخَافِض انتصب. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا مرفوعان على مَا لم يسم فَاعله، وَالْمعْنَى: نقصا. [15] وَأما تَخْصِيص الْعَصْر فلفضلها؛ لِأَنَّهَا الصَّلَاة الْوُسْطَى، وَبهَا تختم صلوَات النَّهَار.(2/540)
1124 - / 1349 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَة: " إِن أحدكُم إِذا مَاتَ عرض عَلَيْهِ مَقْعَده بِالْغَدَاةِ والعشي، إِن كَانَ من أهل الْجنَّة وَإِن كَانَ من أهل النَّار ... ". [15] المقعد: مَوضِع الْقعُود. [15] وَهَذَا الحَدِيث يَنْبَغِي أَن يتلمح بِعَين الْفِكر؛ فَإِنَّهُ إِذا تؤمل علم أَنه السرُور الدَّائِم بعد الْمَوْت، أَو البغضة الدائمة، فَكيف بِمن يزعج غدْوَة وَعَشِيَّة! أعجب لمشتري اللَّذَّة الفانية بالحسرة الدائمة.
1125 - / 1350 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر [بعد الْمِائَة] : " الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى، وَالْيَد الْعليا هِيَ المنفقة، والسفلى هِيَ السائلة ". [15] هَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن التحذير لِذَوي الأنفة من ذل السُّؤَال. وَقد روى أَبُو دَاوُد فِي " السّنَن " فَقَالَ فِي بعض الرِّوَايَات: " وَالْيَد الْعليا المتعففة " وَله وَجه، وَهُوَ أَن الْمُتَعَفِّف قد علت يَده إِذا سفلت يَد السَّائِل. قَالَ الْخطابِيّ: وَقد توهم كثير من النَّاس أَن معنى الْعليا أَن يَد الْمُعْطى مستعلية فَوق يَد الْأَخْذ، يجعلونه من علو الشَّيْء فَوق الشَّيْء، وَلَيْسَ ذَلِك عِنْدِي بِالْوَجْهِ، إِنَّمَا هُوَ من عَلَاء الْمجد وَالْكَرم، يُرِيد بِهِ الترفع عَن الْمَسْأَلَة وَالتَّعَفُّف عَنْهَا. وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْخطابِيّ وَجه حسن، وَلَا يمْتَنع مَا أنكرهُ؛ لِأَنَّهُ إِذا حملت الْعليا على المتعففة لم يكن للمنفق ذكر، وَقد صحت لَفْظَة المنفقة، فَكَانَ المُرَاد أَن هَذِه الْيَد(2/541)
الَّتِي علت وَقت الْعَطاء على يَد السَّائِل هِيَ الْعَالِيَة فِي بَاب الْفضل. وَقد زعم قوم مالوا إِلَى الترفه: أَن الْيَد الْعليا هِيَ الآخذة، والسفلى هِيَ المعطية. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَلَا أرى هَؤُلَاءِ إِلَّا قوما استطابوا السُّؤَال، فهم يحتجون للدناءة، وَالنَّاس إِنَّمَا يعلون بِالْمَعْرُوفِ والعطايا لَا بِالْأَخْذِ وَالسُّؤَال، والمعالي للصانعين لَا للمصطنع إِلَيْهِم.
1126 - / 1352 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر [بعد الْمِائَة] : " اللَّهُمَّ ارْحَمْ المحلقين " قَالُوا: والمقصرين يَا رَسُول الله. قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمْ المحلقين " قَالُوا: والمقصرين يَا رَسُول الله. قَالَ: " والمقصرين ". [15] إِنَّمَا قدم المحلقين لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام حلق رَأسه فحلق قوم وَقصر قوم، فَقدم من وَافقه. [15] فَإِن قيل: فَمَا وَجه تَركهم الموافقه لَهُ؟ فقد أجَاب الْخطابِيّ فَقَالَ: كَانَت عَادَة أَكثر الْعَرَب اتِّخَاذ الشّعْر على الرؤوس وتوفيره وتزيينه، وَكَانَ التحليق فيهم قَلِيلا، وَكَانُوا يرَوْنَ ذَلِك نوعا من الشُّهْرَة، وَكَانَ يشق عَلَيْهِم الحلاق، فمالوا إِلَى التَّقْصِير. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن ذَلِك كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع.
1127 - / 1353 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة: كَانَ إِذا قفل من عزو أَو حج أَو عمْرَة وافى على ثنية أَو فدفد يكبر على كل شرف ثَلَاثًا.(2/542)
[15] قفل بِمَعْنى رَجَعَ، وَمِنْه سميت الْقَافِلَة. [15] والثنية: طَرِيق عَال بَين جبلين. [15] والفدفد: أَرض فِيهَا غلظ وارتفاع. والشرف من الأَرْض: العالي. [15] والإياب: الرُّجُوع من السّفر. [15] وَلما ارْتَفع على الْمَكَان العالي ناسب ذَلِك ذكر الله عز وَجل بِالتَّكْبِيرِ.
1128 - / 1354 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر [بعد الْمِائَة] : " لَا يَتَنَاجَى اثْنَان دون ثَالِث " وَقد سبق شَرحه فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1129 - / 1355 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر [بعد الْمِائَة] : " خمس من الدَّوَابّ، لَيْسَ على الْمحرم فِي قتلهن جنَاح: الْغُرَاب، والحدأة، وَالْعَقْرَب، والفأرة، وَالْكَلب الْعَقُور ". [15] نبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذكر هَذِه الْخمس على أَن مَالا يُؤْكَل لَحْمه لَا يجب الْجَزَاء بقتْله، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ، إِلَّا أَنه قد رُوِيَ عَن مَالك أَنه قَالَ: لَا يقتل الْمحرم الْغُرَاب الصَّغِير. وَفِي مَذْهَب أَحْمد أَنه يجوز أكل غراب الزَّرْع وَلَا يجوز أَن يُؤْكَل الْغُرَاب الأبقع وَلَا الْأسود الْكَبِير. وَبَيَان ذَلِك أَن مَالا يُؤْكَل لَحْمه لَا يجب الْجَزَاء بقتْله من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه جمع بَين سِبَاع ضارية وهوام قاتلة لَا تشبهها، إِلَّا أَنه مستخبث اللَّحْم، فَعلمنَا أَن تَحْرِيم الْأكل دَلِيل الحكم.(2/543)
وَالثَّانِي: أَنه لما نَص على الْكَلْب الْعَقُور نبة على السَّبع لِأَنَّهُ أَشد ضَرَرا، وَإِنَّمَا نَص على أدنى الْأَنْوَاع لينبه على أَعْلَاهَا، فنص على الحدأة فنبه على الصَّقْر والبازي وَالْعِقَاب، وَنَصّ على الْعَقْرَب فنبه على الْحَيَّة وَغَيرهَا، وَنَصّ على الْفَأْرَة فنبه على بَقِيَّة الحشرات. ثمَّ إِن السَّبع يُسمى كَلْبا، قَالَ سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة: الْكَلْب الْعَقُور كُله سبع يعقره، قَالَ أَبُو عبيد: وَلَيْسَ للْحَدِيث عِنْدِي مَذْهَب إِلَّا مَا قَالَ سُفْيَان. قَالَ: وَيجوز أَن يُقَال للسبع كلب. قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عتبَة بن أبي لَهب: " اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِ كَلْبا من كلابك " فَخرج إِلَى الشَّام فَقتله الْأسد. وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح مكلبين} [الْمَائِدَة: 4] فَهَذَا اسْم مُشْتَقّ من الْكَلْب، ثمَّ دخل فِيهِ صيد الفهد والبازي والصقور. [15] قلت: كَذَا ذكر أَبُو عبيد: أَن عتبَة الَّذِي أكله السَّبع. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي " مغازي " ابْن اسحق، وَقد نَقله كَذَلِك أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ، وَهَذَا غلط مِنْهُم؛ لِأَن أَبَا لَهب كَانَ لَهُ عتبَة وعتيبة، فَأَما عتبَة فَإِنَّهُ أسلم وَشهد غزاه حنين، وَإِنَّمَا الَّذِي أكله السَّبع عتيبة. وَقد ذكره على الصِّحَّة مُحَمَّد بن سعد فِي " الطَّبَقَات ". [15] وَقَالَ أَبُو حنيفَة: أَي صيد قَتله الْمحرم فَعَلَيهِ جَزَاؤُهُ. وَنحن لَا(2/544)
نسلم أَن اسْم الصَّيْد يَقع على غير الْمَأْكُول؛ لِأَن أَذَى الْحَيَوَان مَمْنُوع، وَإِنَّمَا أُبِيح أَن يُؤْذى بالاصطياد لحَاجَة الْأكل، وَإِنَّمَا سمى هَذِه الْأَشْيَاء فواسق لمَكَان خبثها وشرها كَمَا فِي الْفَاسِق.
1130 - / 1356 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَة: نهى عَن الْوِصَال. [15] الْوِصَال فِي الصّيام أَن تصل اللَّيْل بِالنَّهَارِ فِي ترك الْأكل، وَإِنَّمَا نهى عَنهُ لمعنيين: أَحدهمَا: مَا يتخوف على الصَّائِم من ضعف الْقُوَّة، فَرُبمَا أخرجه ذَلِك إِلَى الْمَرَض وَالْعجز عَن الصَّوْم الْمَفْرُوض، فَيرى الْعِبَادَة حِينَئِذٍ بِعَين البغضة لما لَقِي فِيهَا من الْمَشَقَّة، ويوضح هَذَا قَوْله: " لست كأحدكم، إِنِّي أطْعم وأسقى ". وَالثَّانِي: أَن العَبْد مَأْمُور بِالْوُقُوفِ على مراسم الشَّرْع، والمشرع جعل وَظِيفَة الصَّوْم مُخْتَصَّة بِالنَّهَارِ، فَإِذا وصل المتعبد بهَا اللَّيْل أنشأ صُورَة تعبد بِرَأْيهِ، وَالْمعْنَى مِنْهُ مسلوب لِأَنَّهُ لَا يكون تعبد إِلَّا بِأَمْر الشَّرْع، فَصَارَ كَمَا لَو صَامت الْحَائِض. فعلى هَذَا يكون مَا خص بِهِ الرَّسُول من الْوِصَال مَحْمُول الْمَشَقَّة لكَونه يطعم ويسقى، وَيكون تعبدا فِي حَقه لِأَنَّهُ مَأْمُور بِهِ. [15] وَقَوله: " إِنِّي أظل " يُقَال: ظلّ الرجل يفعل كَذَا: إِذا فعله نَهَارا. وَقد ذكر الْعلمَاء فِي معنى كَونه يطعم ويسقى وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه يحْتَمل أَن يخص بِطَعَام وشراب حَقِيقَة وَلَا يفْسد صَوْمه، كَمَا يغط فِي نَومه وَلَا ينْتَقض وضوءه، فَيكون هَذَا مُضَافا إِلَى خَصَائِصه الَّتِي أكْرم بهَا. وَالثَّانِي: أَنه يحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: إِنِّي أعَان وَأقوى، فَيكون(2/545)
ذَلِك بِمَنْزِلَة الطَّعَام وَالشرَاب.
1131 - / 1357 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر [بعد الْمِائَة] : " من حمل علينا السِّلَاح فَلَيْسَ منا ". [15] أَي لَيْسَ على سيرتنا ومذهبنا، وَقد شرحنا هَذَا فِي مُسْند أبي مُوسَى.
1132 - / 1358 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر [بعد الْمِائَة] : نهى عَن النجش. [15] والنجش نوع من الخديعة والغبن، وَهُوَ أَن يمدح سلْعَة يزِيد فِي ثمنهَا وَهُوَ لَا يُرِيد الشِّرَاء، وَلَكِن يقْصد أَن يسمعهُ غَيره فيغتر فيزيد وَيَشْتَرِي، وَهَذَا فعل محرم. والمنصور من مَذْهَبنَا أَنه بيع صَحِيح، وَللْمُشْتَرِي، الْخِيَار إِن كَانَ فِي البيع زِيَادَة لَا يتَغَابَن النَّاس بِمِثْلِهَا، وَكَذَلِكَ كل مسترسل غبن بِالْبيعِ، وَيدخل فِيهِ إِذا تلقى الركْبَان فَاشْترى مِنْهُم، فَإِن لَهُم الْخِيَار إِذا دخلُوا السُّوق وَعَلمُوا بِالْغبنِ. وَنقل عَن أَحْمد أَن بيع النجش وتلقي الركْبَان باطلان.
1133 - / 1359 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر [بعد الْمِائَة] : " لَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض ". [15] فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن يَشْتَرِي الرجل السّلْعَة وَيتم البيع وَلم(2/546)
يفْتَرق الْمُتَبَايعَانِ بعد، فَنهى أَن يعرض رجل آخر سلْعَة أُخْرَى على ذَلِك المُشْتَرِي تشبه السّلْعَة الَّتِي اشْتَرَاهَا، لما فِي ذَلِك من الْإِفْسَاد على الأول، فَرُبمَا مَال إِلَى هَذِه وَفسخ بِحكم الْمجْلس. وَالثَّانِي: أَنه فِي المتساومين إِذا قَارب وُقُوع العقد، فَيَجِيء آخر يُرِيد أَن يَشْتَرِي تِلْكَ السّلْعَة فيخرجها من يَد المُشْتَرِي الأول، فَهَذَا يُبَاح فِي أول الْعرض، وَينْهى عَنهُ بعد المقاربة للْبيع. وَهَذَا اخْتِيَار أبي عبيد، فَإِنَّهُ قَالَ: معنى الحَدِيث: لَا يشتر على شِرَاء أَخِيه، وَإِنَّمَا وَقع النَّهْي على المُشْتَرِي لَا على البَائِع؛ لِأَن الْعَرَب تَقول: بِعْت الشَّيْء بِمَعْنى اشْتَرَيْته، وَمثل هَذَا: " لَا يخْطب على خطْبَة أَخِيه " لِأَن الْخَاطِب طَالب كالمشتري، وَالنَّهْي وَقع على الطالبين دون الْمَطْلُوب إِلَيْهِم، وَقد جَاءَ فِي الشّعْر البَائِع بِمَعْنى المُشْتَرِي، قَالَ طرفَة:
(عذ مَا غَد مَا أقرب الْيَوْم من غَد ... سيأتيك بالأخبار من لم تزَود)
(ويأتيك بالأنباء من لم تبع لَهُ ... بتاتا وَلم تضرب لَهُ وَقت موعد)
[15] فتبع هَاهُنَا بِمَعْنى تشتري. [15] وَقَالَ مَالك بن أنس: إِنَّمَا نهى أَن يخْطب الرجل على خطْبَة أَخِيه إِذا كَانَ كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ قد رَضِي بِصَاحِبِهِ، فَأَما قبل الرِّضَا فَلَا بَأْس أَن يخطبها من يَشَاء.(2/547)
1134 - / 1360 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين [بعد الْمِائَة] : نهى أَن تتلقى السّلع حَتَّى يبلغ بهَا الْأَسْوَاق. [15] قد ذكرنَا الحكم فِي هَذَا قبل حديثين.
1135 - / 1361 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين [بعد الْمِائَة] : نهى عَن الْمُزَابَنَة. وَقد سبق الْكَلَام فِيهَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1136 - / 1362 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين [بعد الْمِائَة] : " لَا يحلبن أحد مَاشِيَة أحد إِلَّا بِإِذْنِهِ. أَيُحِبُّ أحدكُم أَن تُؤْتى مشْربَته فَينْتَقل طَعَامه ". [15] الْمشْربَة: الغرفة. [15] وينتقل " يفتعل " من نقل الشَّيْء عَن مَكَانَهُ. وينتثل بالثاء بِمَعْنى يفرق ويبدد. والنثل: نثر الشَّيْء جَمِيعه فِي مرّة وَاحِدَة. [15] والضرع لذوات الظلْف. وَهُوَ من ذَوَات الْخُف وَمن ذَوَات الْحَافِر وَالسِّبَاع الطبي. وَمن الْمَرْأَة الثدي، وَمن الرجل الثندوة.
1137 - / 1363 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين [بعد الْمِائَة] : نهى أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو " فَإِنِّي لَا آمن أَن يَنَالهُ الْعَدو " وَفِي لفظ: " فَإِنِّي أَخَاف أَن يَنَالهُ الْعَدو ".(2/548)
[15] ظَاهر هَذَا الْكَلَام أَن الْقَائِل: " لَا آمن، وأخاف " هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر: " مَخَافَة أَن يَنَالهُ الْعَدو " قَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت: إِنَّمَا هَذَا من قَول مَالك. وَقد بَين ذَلِك أَبُو مُصعب الزبيرِي عبد الله بن وهب وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم. وَإِنَّمَا الْمسند النَّهْي فَحسب. [15] وَالْإِشَارَة بِالْقُرْآنِ إِلَى الْمُصحف. وَإِنَّمَا حذر عَلَيْهِ من إهانة الْعَدو إِيَّاه بالتمزيق وَغَيره، وَفِي هَذَا بَيَان احترام الْمُصحف.
1138 - / 1364 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين [بعد الْمِائَة] : أَمر بقتل الْكلاب، حَتَّى إِنَّا لنقتل كلب المرية من أهل الْبَادِيَة يتبعهَا. [15] قد بَينا نسخ الْأَمر بقتل الْكلاب فِي مُسْند عبد الله بن مُغفل. [15] والمرية تَصْغِير الْمَرْأَة. [15] وَقَول ابْن عمر فِي هَذَا الحَدِيث: إِن لأبي هُرَيْرَة زرعا. كشفناه فِي هَذَا الْمسند.
1139 - / 1365 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين [بعد الْمِائَة] : " إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق "(2/549)
قد بَينا فِي مُسْند عمر معنى الْوَلَاء. [15] " وَإِنَّمَا " تثبت الْمشَار إِلَيْهِ وتنفي ماعداه، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا وَلَاء إِلَّا لمن أعتق. وَالْوَلَاء من الْوَلِيّ وَهُوَ الْقرب. وَيُقَال: فلَان ولي فلَان: أَي يلاصقه بالنصرة. قَالَ ابْن فَارس: الْوَلَاء من الْمُوَالَاة وَهِي المقاربة، فَسُمي وَلَاء لِأَن العَبْد الْمُعْتق موَالٍ، أَي كَأحد قرَابَته. وسنزيد هَذَا الحَدِيث شرحا فِي مُسْند عَائِشَة.
1140 - / 1366 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين [بعد الْمِائَة] : أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجم يَهُودِيَّة. وَقَالَ: فَرَأَيْت الرجل يجنأ على الْمَرْأَة يَقِيهَا الْحِجَارَة. وَفِي لفظ: يجانيء. وَفِي لفظ: فرأيته أجنأ عَلَيْهَا. [15] يجنأ: يكب. والجنأ: الأحديداب. ويجانيء: ينحني، قَالَه أَبُو عبيد: وَقد روى لنا فِي لفظ - لم يذكرهُ الْحميدِي: فَرَأَيْت الرجل يحني على الْمَرْأَة. قَالَ ابْن الأنبا ري: قَالَ اللغويون: يحني ويحنو بِالْيَاءِ وَالْوَاو. [15] وَفِي الحَدِيث فَقَالُوا: الرجل أَعور، وَهُوَ ابْن صوريا. والأحبار: الْعلمَاء.(2/550)
[15] وَالتَّحْمِيم: تسويد الْوَجْه. وَالتَّجْبِيَة: أَن يجبهُ بالسب، وَأَصله اسْتِقْبَال الْجَبْهَة بذلك. ويوضحه أَن فِي بعض الْأَلْفَاظ: نسخم وجوهما ونخزيهما.
1141 - / 1368 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين [بعد الْمِائَة] : " مثل صَاحب الْقُرْآن كَمثل صَاحب الْإِبِل الْمُعَلقَة ". [15] يَعْنِي: المشدودة بِالْعقلِ: وَهُوَ جمع عقال: وَهُوَ الْحَبل الَّذِي يشد بِهِ الْبَعِير. وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1142 - / 1369 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين [بعد الْمِائَة] : " إِذا دعِي أحدكُم إِلَى الْوَلِيمَة فليأتها ". [15] الْوَلِيمَة: الطَّعَام يصنع عِنْد الْعرس. وَإِنَّمَا تجب الْإِجَابَة إِلَى وَلِيمَة الْعرس فَقَط.
1143 - / 1370 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ [بعد الْمِائَة] : " من شرب الْخمر فِي الدُّنْيَا ثمَّ لم يتب مِنْهَا حرمهَا فِي الْآخِرَة ". [15] حكم هَذَا الحَدِيث ظَاهر. وَلقَائِل أَن يَقُول: لَا يَخْلُو هَذَا أَن يَشْتَهِي الْخمر فِي الْجنَّة أَو لَا يشتهيها، فَإِن لم يشتهها لم يُؤثر عِنْده فقدها، وَإِن اشتهاها وَلم يُعْطهَا تأسف، والأسف فِي الْجنَّة لَا يكون. فَالْجَوَاب: أَنه لَا يشتهيها وَيصرف عَن قلبه حبها وَذكرهَا، لكنه قد(2/551)
فَاتَتْهُ لَذَّة عَظِيمَة كَمَا تفوته منزلَة الشُّهَدَاء ومنازل الْأَنْبِيَاء، وكل نَاقص بِالْإِضَافَة إِلَى الكاملين قد رَضِي بِحَالهِ. وَإِنَّمَا نذْكر هَذَا لننبه الْيَوْم للاستدراك. [15] والإدمان على الشَّيْء: الدَّوَام عَلَيْهِ. وإصراره وعزمه على شريها صيره كالشارب لَيْلًا وَنَهَارًا. [15] وَقَوله: " كل مُسكر خمر " صَرِيح فِي إِثْبَات شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: الْأَسْمَاء بِالْقِيَاسِ على بَينا فِي مُسْند عمر. وَالثَّانِي: تَحْرِيم النَّبِيذ.
1144 - / 1471 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ [بعد الْمِائَة] : " لَا ينظر الله إِلَى من جر ثَوْبه خُيَلَاء ". [15] الْخُيَلَاء والمخيلة: التكبر. وَيُقَال: خَال الرجل واختال، وأنشدوا:
(بَان الشَّبَاب وَحب الْخَالَة الخلبة ... وَقد صحوت فَمَا فِي النَّفس من قلبه)
[15] وَالْخَالَة جمع خائل. يُقَال: رجل خائل من قوم خَالَة: إِذا كَانَ مختالا فِي مشيته، متكبرا. والخلبة: الشَّبَاب الَّذين يخلبون النِّسَاء بجمالهم، واحدهم خالب. [15] وَقَوله: " يتجلجل " التجلجل: حَرَكَة مَعَ صَوت. وَالْمعْنَى: أَنه يخسف بِهِ وَلَا يثبت، وَلَا يزَال منحدرا.(2/552)
1145 - / 1373 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ [بعد الْمِائَة] : أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قطع نخل بني النَّضِير وَحرق. وَلها يَقُول حسان بن ثَابت:
(وَهَان على سراة بني لؤَي ... حريق بالبويرة مستطير)
[15] وَفِي ذَلِك نزلت: {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أصلوها} الْآيَة [الْحَشْر: 5] . [15] كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أَتَى بني النَّضِير يكلمهم، فَهموا بالغدر بِهِ، فَقَالَ بَعضهم: أَنا أظهر على الْبَيْت فأطرح عَلَيْهِ صَخْرَة. فجَاء الْخَبَر، فَنَهَضَ رَاجعا إِلَى الْمَدِينَة وَبعث إِلَيْهِم: " لَا تساكنوني " فَأرْسل إِلَيْهِم ابْن أبي: لَا تخْرجُوا؛ فَإِن معي أَلفَيْنِ، وتمدكم قُرَيْظَة. فأرسلوا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّا لَا نخرج فَاصْنَعْ مَا بدا لَك، فَسَار إِلَيْهِم، فَقَامُوا على حصونهم مَعَهم النبل وَالْحِجَارَة، فاعتزلتهم قُرَيْظَة، وخذلهم ابْن أبي، فَحَاصَرَهُمْ وَقطع نَخْلهمْ، فجزعوا وَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، زعمت أَنَّك تُرِيدُ الصّلاح، أَفَمَن الصّلاح عقر الشّجر وَقطع النّخل؟ وَهل وجدت فِيمَا أنزل عَلَيْك الْفساد فِي الأَرْض؟ فشق ذَلِك على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَوجد الْمُسلمُونَ فِي أنفسهم من قَوْلهم، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا} [الْحَشْر: 5] وَهِي ألوان النّخل كلهَا إِلَّا الْعَجْوَة والبرنية. وَكَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيّ وَأَبُو عُبَيْدَة. وَقَالَ الزّجاج: أصل لينَة لَونه، فقلبت الْوَاو يَاء لانكسار مَا قبلهَا.(2/553)
[15] وَأما السراة فالأشراف. والبويرة: اسْم الْمَكَان الَّذِي فِيهِ نَخْلهمْ. والمستطير: الْمُنْتَشِر. [15] فَأجَاب أَبُو سُفْيَان حسانا فَقَالَ:
(ستعلم أَيّنَا فِيهَا بنزه ... وَتعلم أَي أرضينا تضير)
[15] والنزه: التباعد. وَالْمعْنَى: أَيّنَا أبعد مِنْهَا. [15] وَإِنَّمَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا بأولئك ليتسع المكال لِلْقِتَالِ، وَمَتى لم يقدر على الْعَدو إِلَّا بذلك جَازَ، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل رَضِي الله عَنهُ.
1146 - / 1374 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ [بعد الْمِائَة] : أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينزل فِي حجَّته تَحت سَمُرَة. [15] السمرَة: شَجَرَة الطلح. [15] والبطحاء: الْمَكَان المتسع. [15] وشفير الْوَادي: حرفه. [15] وَقد سبق معنى عرس. وَمعنى الأكمة. [15] والخليج: بعض النَّهر، كَأَنَّهُ مختلج مِنْهُ: أَي مقتطع. [15] والكثب جَمِيع كثيب: وَهُوَ مَا اجْتمع من الرمل وارتفع. [15] وَقَوله: فدحا السَّيْل فِيهِ بالبطحاء: أَي بحصا الْبَطْحَاء وترابه،(2/554)
أَي دَفعهَا إِلَيْهِ وبسطها فِيهِ حَتَّى خَفِي. [15] وَقَوله: بشرف الروحاء. الروحاء: مَا ارْتَفع من ذَلِك الْمَكَان. [15] وحافة الطَّرِيق: جَانِبه. [15] والعرق من الأَرْض: سبخَة تنْبت الطرفاء. [15] والسرحة: شَجَرَة، وَالْجمع سرحات بِفَتْح السِّين وَالرَّاء: وَهُوَ نوع من الشّجر لَهُ ثَمَر، قَالَ الشَّاعِر:
(فواعديه سرحتي مَالك ... )
[15] والرويثة: اسْم مَوضِع. [15] ووجاه الطَّرِيق: مُقَابِله. [15] والبطح: الْمَكَان الْوَاسِع. [15] والتعلة: مسيل المَاء من فَوق إِلَى أَسْفَل. [15] والهضبة: فَوق الْكَثِيب فِي الِارْتفَاع وَدون الْجَبَل. [15] والرضم بِفَتْح الرَّاء والضاء: حِجَارَة كبار، جمعهَا رضام. [15] والسلمات وَالسّلم شجر، والواحدة سَلمَة: وَهِي شَجَرَة وَرقهَا هُوَ الْقرظ الَّذِي يدبغ بِهِ الْأدم. [15] وهرشى: اسْم مَكَان. [15] وكراعها: طرفها، وكراع كل شَيْء طرفه. [15] والغلوة: قدر رمية، يُقَال: غلا الرجل بسهمه غلوا: إِذا رمى بِهِ أقْصَى الغابة.(2/555)
[15] والمسيل: مجْرى المَاء فِي منحدر من الأَرْض. [15] وَمر الظهْرَان: مَوضِع، والظاء مَفْتُوحَة. [15] وَذُو طوى: اسْم مَوضِع. [15] وفرضة الْجَبَل: مدْخل الطَّرِيق إِلَيْهِ. وأصل الفرضة من الْفَرْض: وَهُوَ الْقطع غير البليغ. وَتسَمى المشرعة من النَّهر فرضة لِأَن أرْضهَا قد انحدرت عَمَّا يَليهَا حَتَّى أمكن النُّزُول فِيهَا إِلَى المَاء.
1147 - / 1376 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ [بعد الْمِائَة] : كَانَ الْمُسلمُونَ يتحينون الصَّلَوَات. [15] أَي يطْلبُونَ حينها بِالتَّحَرِّي وَالِاجْتِهَاد.
1148 - / 1375 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ [بعد الْمِائَة] : " غفار غفر الله لَهَا، وَأسلم سَالَمَهَا الله، وعصيه عَصَتْ الله وَرَسُوله ". [15] إِنَّمَا اسْتغْفر لهاتين القبيلتين لِأَنَّهُمَا أسلمتا طَوْعًا من غير حَرْب على مَا بَيناهُ فِي مُسْند أبي ذَر. [15] وَأما عصية فهم الَّذين قتلوا الْقُرَّاء ببئر مَعُونَة. [15] وَقد بَينا أَن هَذَا الحَدِيث يدل على اخْتِيَار الْكَلَام المتجانس المتناسب، إِذْ جعل الْمَغْفِرَة لغفار، وَالْمَعْصِيَة لعصية.(2/556)
1149 - / 1378 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ [بعد الْمِائَة] : نهى عَن القزع، قَالَ: " احْلقُوا كُله أَو ذَروا كُله ". [15] قد فسر القزع فِي الحَدِيث، وَهُوَ أَن يحلق بعض الرَّأْس وَيتْرك بعضه، مَأْخُوذ من قزع السَّحَاب وَهِي قطعه. وَفِي حَدِيث أنس: وَمَا فِي السَّمَاء قزعة. [15] وَقَوله: " احْلقُوا كُله " دَلِيل على جَوَاز حلق الرَّأْس من غير كَرَاهِيَة.
1150 - / 1380 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين [بعد الْمِائَة] : رَأَيْت فِي يَدي قِطْعَة إستبرق. وَهُوَ ثخين الديباج، وَقد تقدم هَذَا.
1151 - / 1381 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ [بعد الْمِائَة] : أَن عمر قَالَ: أصبت أَرضًا بِخَيْبَر: وَقد ذكرنَا الحَدِيث فِي مُسْند عمر. غير أَن فِي هَذَا الحَدِيث: " غير متأثل مَالا " قَالَ أَبُو عبيد: المتأثل: الْجَامِع، وكل شَيْء لَهُ أصل قديم أَو جمع حَتَّى يصير لَهُ أصل فَهُوَ مؤثل ومتأثل، قَالَ لبيد:
(لله نَافِلَة الْأَجَل الْأَفْضَل ... وَله الْعلَا وأثيث كل مؤثل)(2/557)
وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وَقد يدْرك الْمجد المؤثل أمثالي)
[15] وأثلة الشَّيْء: أَصله، قَالَ الْأَعْشَى:
(أَلَسْت منتهيا عَن نحت أثلتنا ... وَلست ضائرها مَا أطت الْإِبِل)
1152 - / 1382 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: أغار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بني المصطلق وهم غَارونَ. أَي غافلون فَلم يشعروا بِهِ.
1153 - / 1384 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رَجَعَ من الْأَحْزَاب: " لَا يصلين أحد الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " فَأدْرك بَعضهم الْعَصْر فِي الطَّرِيق، فَقَالَ بَعضهم: لَا نصلي حَتَّى نأتيها. وَقَالَ بَعضهم: نصلي، لم يرد ذَلِك منا. فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يعنف وَاحِدًا مِنْهُم. [15] لما أجلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني النَّضِير خرج نفر من أَشْرَافهم إِلَى مَكَّة فالبوا قُريْشًا على الْقِتَال، وَتجمع النَّاس، وَكَانَت غزَاة الْأَحْزَاب. وَبعث أَبُو سُفْيَان إِلَى بني قُرَيْظَة يسألهم أَن ينقضوا الْعَهْد الَّذِي بَينهم(2/558)
وَبَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَجَابُوا فَلَمَّا انْقَضتْ غزَاة الخَنْدَق وَجَاء جِبْرِيل فَقَالَ: إِن الله يَأْمُرك أَن تسير إِلَى بني قُرَيْظَة فَإِنِّي عَامِد إِلَيْهِم فَمُزَلْزِل حصونهم. فَقَالَ لأَصْحَابه: " لَا يصلين أحد الْعَصْر إِلَّا فِي بني قُرَيْظَة " فَأخذ بعض أَصْحَابه بِظَاهِر اللَّفْظ وَلم يصلوا إِلَّا هُنَاكَ، وَتعلق آخَرُونَ بِالْمَعْنَى فَقَالُوا: إِنَّمَا أَرَادَ الاستعجال، فصوا وَلَحِقُوا فَلم يعنف وَاحِدًا من الْفَرِيقَيْنِ، لأخذ كل بِدَلِيل.
1154 - / 1385 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ [بعد الْمِائَة] : أَن عمر ذكر لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه تصيبه الْجَنَابَة من اللَّيْل. وَقد سبق بَيَانه فِي مُسْند عمر.
1155 - / 1386 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ [بعد الْمِائَة] : استدارة أهل قبَاء إِلَى الْقبْلَة بقول وَاحِد. [15] وَهُوَ أصل فِي قبُول خبر الْوَاحِد إِذا كَانَ ثِقَة. وَقد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند الْبَراء.
1156 - / 1387 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ [بعد الْمِائَة] : " الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة ". [15] اعْلَم أَن الظُّلم يشْتَمل على معصيتين عظيمتين: إِحْدَاهمَا: أَخذ(2/559)
مَال الْغَيْر بِغَيْر حق. وَالثَّانيَِة: مبارزة الْأَمر بِالْعَدْلِ بالمخالفة، وَهَذِه الْمعْصِيَة فِيهِ أدهى؛ لِأَنَّهُ لَا يكَاد يَقع الظُّلم إِلَّا للضعيف الَّذِي لَا يقدر على الِانْتِصَار إِلَّا بِاللَّه عز وَجل. وَإِنَّمَا ينشأ الظُّلم من ظلمَة الْقلب، وَلَو استنار بِنور الْهدى لنظر فِي العواقب، فَإِذا سعى المتقون بنورهم الَّذِي اكتسبوه فِي الدُّنْيَا من التَّقْوَى ظَهرت ظلمات الظَّالِم فاكتنفته.
1157 - / 1388 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثا وَأمر عَلَيْهِم أُسَامَة بن زيد، فطعن النَّاس فِي إمارته. [15] اعْلَم أَن النّظر إِلَى صُورَة الْأَشْيَاء غلب على أَكثر النَّاس. وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتلمح الْمعَانِي، فالقوم نظرُوا إِلَى أَن أُسَامَة حدث السن، وَأَنه ابْن مولى، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَآهُ صَالحا للإمارة خُصُوصا فِي هَذِه السّريَّة الَّتِي بَعثه فِيهَا إِلَى مَوضِع مقتل أَبِيه. وَكَذَلِكَ أَمر عَمْرو بن الْعَاصِ على جَيش فيهم أَبُو بكر وَعمر لَا لفضله عَلَيْهِم، وَلكنه كَانَ أبْصر بِالْحَرْبِ. وَهَذِه السّريَّة الَّتِي أَمر فِيهَا أُسَامَة كَانَت إِلَى أهل أبنى، فَقَالَ لَهُ: " سر إِلَى مَوضِع مقتل أَبِيك فأوطهم الْخَيل، وأغر صباحا، وَحرق عَلَيْهِم " فَانْتدبَ مَعَه وُجُوه الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَفِيهِمْ أَبُو بكر وَعمر وَسعد وَسَعِيد وَأَبُو عبيد ة، فَتكلم حِينَئِذٍ أَقوام فَقَالُوا: يسْتَعْمل هَذَا الْغُلَام على الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين. فَغَضب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَضبا شَدِيدا، وَكَانَ قد ابْتَدَأَ بِهِ مَرضه، فَخرج معصوب الرَّأْس، فَصَعدَ الْمِنْبَر وَقَالَ: " إِن تطعنوا فِي إمرته فقد كُنْتُم تطعنوه فِي إمرة أَبِيه.(2/560)
وَايْم الله، إِن كَانَ لخليقا للإمرة أَي مِمَّن يصلح لَهَا، يَعْنِي زيدا - وَإِن كَانَ لمن أحب النَّاس إِلَيّ، وَإِن هَذَا من أحب النَّاس إِلَيّ بعده ". فَلَمَّا أَمر أُسَامَة عسكره بالرحيل، جَاءَهُ رَسُول أمه أم أَيمن فَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمُوت، فَأقبل إِلَى الْمَدِينَة، فَلَمَّا مَاتَ عَلَيْهِ السَّلَام وبويع لأبي بكر أذن لَهُ فَخرج، وكلم أَبُو بكر أُسَامَة فِي عمر أَن يَأْذَن لَهُ فِي التَّخَلُّف فَفعل، فَلَمَّا ذهب إِلَى أهل أبنى شن عَلَيْهِم الْغَارة وَقتل وسبى، وَقتل قَاتل أَبِيه. فَكَأَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تلمح مِنْهُ الشجَاعَة، وَحب الْجِهَاد، وَطلب ثأر أَبِيه، فَلَمَّا رَجَعَ خرج أَبُو بكر فِي الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار يتلقونهم فَرحا بسلامتهم.
1158 - / 1389 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ذكر رجل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يخدع فِي الْبيُوع، فَقَالَ: " من بَايَعت فَقل: لَا خلابة ". [15] الخلابة: الخداع. [15] قَالَ أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت: هَذَا الرجل حبَان بن منقذ بن عَمْرو، أَو وَالِده منقذ. وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَنه من غبن غبنا فَاحِشا فَلهُ الرَّد، وَهُوَ قَول أَحْمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَيْسَ لَهُ. وَقَالَ دَاوُد: العقد بَاطِل من أَصله. وَاعْلَم أَنه إِنَّمَا يكون هَذَا فِي الْغبن الَّذِي لَا يتَغَابَن(2/561)
النَّاس بِمثلِهِ فِي الْعَادة. وَحده أَبُو بكر من أَصْحَابنَا بِالثُّلثِ. [15] وَرُبمَا احْتج بِهَذَا الحَدِيث من لَا يرى الْحجر على الْكَبِير، فَيَقُول: لَو كَانَ يحْجر على الْكَبِير لحجر الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام على هَذَا الرجل. وَلَا حجَّة فِي هَذَا؛ لِأَن هَذَا الرجل لم يذكر عَنهُ سفه وَلَا إِتْلَاف مَال، إِنَّمَا كَانَ يخدع فِي الْبيُوع، وَقد يكون الْإِنْسَان قَلِيل الْخِبْرَة فِي الْبيُوع.
1159 - / 1390 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين [بعد الْمِائَة] : نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْوَلَاء وَعَن هِبته. [15] اعْلَم أَن الْوَلَاء كالنسب، فَلَا يزَال بالإزالة.
1160 - / 1391 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين [بعد الْمِائَة] : ارتقيت فَوق بَيت حَفْصَة، فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْضِي حَاجته مُسْتَقْبل الشَّام مستدبر الْقبْلَة. [15] وَفِي لفظ ابْن عمر قَالَ: إِن نَاسا يَقُولُونَ: إِذا قعدت على حَاجَتك فَلَا تسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا بَيت الْمُقَدّس. لقد ارتقيت على ظهر بَيت لنا، فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسْتَقْبل بَيت الْمُقَدّس لِحَاجَتِهِ. [15] وَرُبمَا ظن ظان أَن ابْن عمر قد أجَاز بِهَذَا اسْتِقْبَال الْقبْلَة عِنْد الْحَاجة، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أنكر قَول من يزْعم أَن استقبالها فِي الْأَبْنِيَة غير جَائِز، فَأَما فِي الصَّحَارِي فَلَا يجوز استدبار الْقبْلَة وَلَا(2/562)
استقبالها على مَا بَينا مُسْند أبي أَيُّوب.
1161 - / 1393 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين [بعد الْمِائَة] : قَالَ ابْن عمر: وَأما عَليّ فَابْن عَم رَسُول الله، وَخَتنه. [15] الختن: زوج الْبِنْت. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كل شَيْء من قبل الزَّوْج مثل الْأَب وَالْأَخ فهم الأحماء، واحدهم حما مثل قفا، وحمو مثل " أَبُو "، وحمؤ مَهْمُوز سَاكن الْمِيم، وحم مثل أَب. وحماة الْمَرْأَة: أم زَوجهَا، لَا لُغَة فِيهَا غير هَذِه. وكل شَيْء من قبل الْمَرْأَة فهم الْأخْتَان، والصهر يجمع ذَلِك كُله. [15] وَقَوله: وَهَذَا بَيته. يُرِيد بِهِ الْقرب إِلَى بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
1162 - / 1395 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين [بعد الْمِائَة] : أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاد سعد بن عبَادَة فَبكى، وَقَالَ: " إِن الله لَا يعذب بدمع الْعين وَلَا بحزن الْقلب، وَلَكِن يعذب بِهَذَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِسَانه أَو يرحم ". [15] إِنَّمَا لم يَقع الْعَذَاب على الْبكاء والحزن لثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: أَنه لَا عيب، إِذْ لَا يخالفان الْمَشْرُوع. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا أثر رقة الْقلب وتلهفه على فِرَاق المألوف، وَهَذَا أَمر مركوز فِي الطَّبْع. وَالثَّالِث: أَنَّهُمَا لَا يملكَانِ وَلَا يُمكن ردهما، فَلم تقع بهما مُؤَاخذَة.(2/563)
[15] فَأَما اللِّسَان فَقل أَن يتَكَلَّم فِي المصائب بِمَا يُرْضِي الشَّرْع، ثمَّ إِنَّه يُمكن إِمْسَاكه، فَوَقع الْعَذَاب بِمَا يصدر عَنهُ مِمَّا لَا يجوز.
1163 - / 1197 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين [بعد الْمِائَة] : نهى أَن تصبر بهمية أَو غَيرهَا. للْقَتْل. [15] صَبر الْبَهَائِم: أَن تحبس للنبل، فَتبقى كالغرض، وَهُوَ الهدف الَّذِي يَرْمِي إِلَيْهِ. وَالصَّبْر فِي اللُّغَة: حبس النَّفس على مَا تنَازع، وَسمي رَمَضَان شهر الصَّبْر لذَلِك.
1164 - / 1398 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين [بعد الْمِائَة] : أكل لحم الضَّب. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1165 - / 1399 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين [بعد الْمِائَة] : نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقرن الرجل التمرتين حَتَّى يسْتَأْذن أَصْحَابه. [15] أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر بن أَحْمد السراج قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: ذكر الاسْتِئْذَان فِي الْقرَان من قَول ابْن عمر وَلَيْسَ من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بَين ذَلِك آدم بن أبي إِيَاس فِي رِوَايَته عَن شُعْبَة، وجوده شَبابَة بن سوار عَن شُعْبَة عَن جبلة بن سحيم قَالَ: قَالَ ابْن عمر: لَا تقارنوا؛ فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْقرَان. قَالَ ابْن عمر: إِلَّا أَن يسْتَأْذن الرجل مِنْكُم أَخَاهُ.(2/564)
[15] قلت: فَأَما حكم الحَدِيث فَإِن هَذَا إِنَّمَا يكون فِي الْجَمَاعَة، وَالْعَادَة تنَاول تَمْرَة وَاحِدَة، فَإِذا قرن الْإِنْسَان زَاد على الْجَمَاعَة واستأثر عَلَيْهِم، فافتقر إِلَى الْإِذْن.
1166 - / 1400 - وَفِي الحَدِيث السِّتين [بعد الْمِائَة] : نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن النّذر وَقَالَ: " لَا يرد شَيْئا، وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل ". [15] النّذر: الْتِزَام مَا لَا يلْزم، فَرُبمَا ثقل على النَّفس أَدَاؤُهُ، وَرُبمَا عجزت عَنهُ، وَرُبمَا كرهت فعل ذَلِك، فَيكون فَاعله للطاعة مَعَ الْكَرَاهَة لَهَا. [15] وَقَوله: " لَا يرد شَيْئا " أَي لَا يجتلب مَا لم يقدر. وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل؛ لِأَنَّهُ يَقُول: إِن رد الله عَليّ مَا ضَاعَ مني تَصَدَّقت بِدِينَار، فَهُوَ لَا يتَصَدَّق لبلخه إِلَّا أَن يرد عَلَيْهِ مَا ضَاعَ مِنْهُ، فالنذر يسْتَخْرج مِنْهُ الصَّدَقَة لِأَنَّهُ يرَاهُ لَازِما. وَقد قَالَ ابْن الْمُبَارك: النّذر مَكْرُوه فِي الطَّاعَة وَفِي الْمعْصِيَة، فَإِن نذر الرجل الطَّاعَة فوفى فَلهُ أجر هـ، وَيكرهُ لَهُ النّذر.
1167 - / 1401 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ [بعد الْمِائَة] : عرض رجل لِابْنِ عمر فَقَالَ: كَيفَ سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي النَّجْوَى. [15] والنجوى: المحادثة فِي السِّرّ. وَالْمرَاد بهَا هَاهُنَا مُخَاطبَة الرب عز وَجل لعَبْدِهِ يَوْم الْقِيَامَة.(2/565)
[15] والكنف: السّتْر. [15] الأشهاد جمع شَاهد، مثل أنصار وناصر. وللمفسرين فِي المُرَاد بهم خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم الرُّسُل، قَالَه أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: الْمَلَائِكَة، قَالَه مُجَاهِد وَقَتَادَة. وَالثَّالِث: النَّبِيُّونَ وَالْمَلَائِكَة وَأمة مُحَمَّد والجوارح، قَالَه ابْن زيد. وَالرَّابِع: النَّاس، قَالَه مقَاتل. وَالْخَامِس: الْأَنْبِيَاء والمؤمنون، قَالَه الزّجاج.
1168 - / 1402 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ [بعد الْمِائَة] : أَن رجلا سَأَلَ ابْن عمر قَالَ: نذرت أَن أَصوم كل ثلاثاء أَو أربعاء، فَوَافَقت هَذَا الْيَوْم يَوْم النَّحْر. فَقَالَ: أَمر الله بوفاء النّذر، ونهانا أَن نَصُوم يَوْم النَّحْر. فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ مثله لَا يزِيد عَلَيْهِ. [15] اعْلَم أَن ابْن عمر لما تَعَارَضَت عِنْده الْآيَة وَالْخَبَر تورع عَن الْفتيا فَلم يجب بِشَيْء. وَالْجَوَاب: أَنه يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَيكفر كَفَّارَة يَمِين. وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِيمَا إِذا نذر يَوْم الْعِيد، فعندنا أَنه لَا يَصُوم، بل يقْضِي وَيكفر. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: إِن صَامَهُ أَجزَأَهُ، وَعنهُ: أَنه يكفر من غير قَضَاء. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يفْطر وَيَقْضِي، فَإِن صَامَ أَجزَأَهُ. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا ينْعَقد هَذَا النّذر.
1169 - / 1403 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ [بعد الْمِائَة] : أَن ابْن عمر أَتَى على رجل قد أَنَاخَ بدنته لينحرها، فَقَالَ: ابعثها قيَاما(2/566)
مُقَيّدَة، سنة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] السّنة نحر الْإِبِل قَائِمَة، وتعقل الْيَد الْيُسْرَى، وتضرب بالحربة فِي الوهدة الَّتِي بَين أصل الْعُنُق والصدر. فَأَما الْبَقر وَالْغنم فَالسنة ذَبحهَا.
1170 - / 1404 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ [بعد الْمِائَة] : كَانَ ابْن عمر يُصَلِّي بالمحصب الظّهْر، وَكَانَ يرى التحصيب سنة. [15] التحصيب: الْمَكَان الَّذِي فِيهِ الْحَصْبَاء: وَهِي الْحَصَى الصغار، وَهَذَا هُوَ الشّعب الَّذِي مخرجه إِلَى الأبطح الْقَرِيب من مَكَّة. والتحصيب: النُّزُول فِيهِ، وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي نزل فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقد ذكرنَا عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: لَيْسَ التحصيب بِشَيْء، إِنَّمَا كَانَ أسمح لخُرُوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] والأبطح: الْمَكَان الْوَاسِع.
1171 - / 1405 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ [بعد الْمِائَة] : " من مقَال لِأَخِيهِ: يَا كَافِر، فقد بَاء بهَا أَحدهمَا ". [15] بَاء بِمَعْنى رَجَعَ. قَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم: وَجهه عندى أَنه إِذا كَانَ كَافِرًا كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِن كَانَ مُسلما فقد كفر من يعْتَقد الْمُسلم كَافِرًا. قَالَ: وَيُمكن أَن يكون الْمَعْنى: بَاء بإثمها.(2/567)
1172 - / 1406 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ [بعد الْمِائَة] : " إِن الْيَهُود إِذا سلمُوا إِنَّمَا يَقُول أحدهم: سَام عَلَيْك، فَقل: عَلَيْك ". [15] السام: الْمَوْت. وَسَيَأْتِي هَذَا مشروحا فِي مُسْند عَائِشَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1173 - / 1407 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ [بعد الْمِائَة] : كُنَّا إِذا بَايعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على السّمع وَالطَّاعَة يَقُول: " فِيمَا اسْتَطَعْت ". [15] هَذَا التَّلْقِين للمبايع من لطف الشَّرْع ورفقه، وَفِيه دَلِيل على جَوَاز تَكْلِيف مَالا يُطَاق؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَت الْمُبَايعَة لَا تقع إِلَّا على المستطاع كَانَ التَّلْقِين لهَذِهِ الْكَلِمَة لَغوا.
1174 - / 1408 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ [بعد الْمِائَة] : " مَا حق امرىء مُسلم لَهُ شَيْء يُوصي فِيهِ يبيت لَيْلَتَيْنِ إِلَّا ووصيته مَكْتُوبَة عِنْده ". [15] هَذَا أَمر بالتأهب للْمَوْت والاحتراز قبل الْفَوْت. فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلم قَالَ " لَيْلَتَيْنِ " وَثَلَاث لَيَال " وهلا قَالَ لَيْلَة؟ فَالْجَوَاب: أَنه قد حكى أَبُو مَسْعُود صَاحب " التعليقة " أَن مُسلما رَوَاهُ فَقَالَ فِيهِ " لَيْلَة "، غير أَن هَذَا لم نجده فِي كتاب(2/568)
مُسلم. فَتَقول: لما كَانَت الْوَصِيَّة تحْتَاج إِلَى تَأمل وتدبر، وَكَانَ السَّامع لهَذَا الحَدِيث رُبمَا لَا يَتَأَتَّى لَهُ النّظر فِيمَا يُرِيد أَن يُوصي بِهِ فِي لَيْلَة، وَأَرَادَ الشَّرْع التَّعْجِيل قَالَ لَيْلَتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَلما فهم ابْن عمر أَن المُرَاد التَّعْجِيل قَالَ: مَا مرت عَليّ لَيْلَة مُنْذُ سَمِعت هَذَا إِلَّا وَعِنْدِي وصيتي.
1175 - / 1409 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ [بعد الْمِائَة] : " إِن هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش " يَعْنِي الْإِمَارَة.
1176 - / 1410 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين [بعد الْمِائَة] : نهى عَن قتل النِّسَاء وَالصبيان. [15] لَا يحسن قتل النِّسَاء لمعنيين: أَحدهمَا: أَنَّهُنَّ لَا يقاتلن فِي الْأَغْلَب، وَفِي قتل من لَا يُقَاتل نوع جور. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ عِنْد الْغَلَبَة يصرن غنيمَة للْمُسلمين، وَكَذَلِكَ الصّبيان، فَقَتلهُمْ تَفْرِيط فِي المَال. فَأَما إِن قَاتَلت الْمَرْأَة فَإِنَّهَا تقتل حِينَئِذٍ. [15] وَأما الشَّيْخ الفاني والراهب وَالْأَعْمَى والزمن فَإِنَّهُم لَا يقتلُون أَيْضا، إِلَّا أَن يكون لَهُم رَأْي وتدبير يخَاف مِنْهُ النكاية فِي الْمُسلمين، أَو يحاربوا، فَيجوز حِينَئِذٍ قَتلهمْ.(2/569)
1177 - / 1411 وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: " فِيمَا سقت السَّمَاء والعيون أَو كَانَ عثريا الْعشْر ". [15] السَّمَاء هَاهُنَا: الْمَطَر. وَالْمرَاد بالعيون مَا سقِِي من غير ترقية المَاء مِنْهُ بكلفة. فَأَما العثري فَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ العذي، والعذي مَا شقته السَّمَاء، فَأَما مَا يشرب بعروقه من الأَرْض من غير سقِِي سَمَاء وَلَا غَيرهَا فَهُوَ بعل. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْكسَائِيّ: البعل: العذي، وَمَا سقته السَّمَاء. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: لم أرهم يَخْتَلِفُونَ أَن البعل العذي بِعَيْنِه، والعذي نَوْعَانِ: أَحدهمَا: العثري، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتى بِمَاء الْمَطَر إِلَيْهِ حَتَّى يسْقِيه. وَإِنَّا سمي عثريا لأَنهم يجْعَلُونَ فِي مجْرى السَّيْل عاثورا، فَإِذا صدمه الماد ترَاد فَدخل فِي تِلْكَ المجاري حَتَّى يبلغ النَّحْل ويسقيه، وَلَا يخْتَلف النَّاس فِي العثري أَنه العذي. وَالنَّوْع الآخر من العذي البعل، فَمن البعل مَا يفتح إِلَيْهِ المَاء عَن مجاري السُّيُول بِغَيْر عواثير، وَمِنْه مَا لَا يبلغهُ المَاء، فالسماء تسقيه بالمطر. [15] وَقَوله: " مَا سقِِي بالنضح " أَي بِالْإِبِلِ وَالْبَقر. وأصل النَّضْح رش المَاء على الشَّيْء. وَالْمرَاد من هَذَا الحَدِيث بَيَان قدر الْحق الْوَاجِب، وَأَنه يخْتَلف بالكلف وَعدمهَا. وَقد بَين مِقْدَار مَا تجب فِيهِ الزَّكَاة فِي أَحَادِيث أخر، سَيَأْتِي فِي مُسْند جَابر وَأبي سعيد وَغَيرهمَا، مثل قَوْله: " لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أَو سُقْ صَدَقَة " وَهَذَا قَول جُمْهُور الْعلمَاء. وَأما أَبُو حنيفَة(2/570)
فَإِنَّهُ لَا يعْتَبر النّصاب فِي المعشرات أخذا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث.
1178 - / 1412 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " إِنَّمَا بقاؤكم فِيمَا سلف قبلكُمْ من الْأُمَم كَمَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس ". [15] قَوْله: " إِنَّمَا بقاؤكم " إِشَارَة إِلَى قرب الْقِيَامَة وَقلة مَا بَقِي من الدُّنْيَا. فَأَما " التَّوْرَاة " فَكَانَ الْفراء يَجْعَلهَا من روى الزند يري: إِذا خرجت ناره، وأوريته، يُرِيد أَنَّهَا ضِيَاء. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَفِيه لُغَة أُخْرَى: وري يري، وَيُقَال: وريت لَك زنادي. [15] قَالَ الْفراء: " وَالْإِنْجِيل " من نجلت الشَّيْء: إِذا أخرجته، وَولد الرجل نجله، كَأَنَّهُ هُوَ استخرجه. وَيُقَال: قبح الله ناجليه: أَي وَالِديهِ، وَقيل للْمَاء يظْهر من النز: نجل، يُقَال: قد استنجل الْوَادي. وإنجيل " إفعيل " من ذَلِك، كَأَن الله أظهر بِهِ عافيا من الْحق دارسا. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الْإِنْجِيل أعجمي مُعرب، قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: إِن كَانَ عَرَبيا فاشتقاقه من النجل: وَهُوَ ظُهُور المَاء على وَجه الأَرْض واتساعه. ونجلت الشَّيْء: إِذا استخرجته وأظهرته. فالإنجيل مستخرج بِهِ عُلُوم وَحكم. قَالَ: وَقيل: هُوَ " إفعيل " من النجل، وَهُوَ الأَصْل، فالإنجيل أصل لعلوم وَحكم. [15] فَأَما " الْقُرْآن " فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ من قَوْلك: مَا قَرَأت النَّاقة(2/571)
سلى قطّ: أَي مَا ضمت فِي رَحمهَا ولدا، وَأنْشد أَبُو عُبَيْدَة:
( ... ... ... هجان اللَّوْن لم تقْرَأ جَنِينا)
[15] وَإِنَّمَا سمي قُرْآنًا لِأَنَّهُ جمع السُّور وَضمّهَا. [15] ومقصود الحَدِيث تَفْضِيل هَذِه الْأمة وتوفير أجرهَا مَعَ قلَّة عَملهَا، وَإِنَّمَا فضلت لقُوَّة يقينها ومراعاة اصل دينهَا، فَإِن زلت فَأكْثر زللها من الْفُرُوع جَريا بِمُقْتَضى الطباع لَا قصدا للمخالفة، ثمَّ تتداركه بالاعتراف الماحي للاقتراف. وَعُمُوم زلل من قبلهم كَانَ فِي الْأُصُول والمعاندة للشرائع، كَقَوْلِهِم: {اجْعَل لنا إِلَهًا} [الْأَعْرَاف: 138] وكامتناعهم من أَخذ الْكتاب حَتَّى نتق الْجَبَل فَوْقهم. وَلَقَد عرضت لَهُم غزَاة فِي مُدَّة دهرهم فَقَالُوا: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} [الْمَائِدَة: 24] وَقد علم مَا كَانَت الصَّحَابَة تؤثره وتزدحم عَلَيْهِ من حب الشَّهَادَة.
1179 - / 1413 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث خَالِد بن الْوَلِيد إِلَى بني جذيمة فَلم يحسنوا أَن يَقُولُوا أسلمنَا، فَقَالُوا: صبأنا صبأنا، فَقَتلهُمْ وأسرهم، فَذكر ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأ إِلَيْك مِمَّا صنع خَالِد ". [15] صبأنا: أَي خرجنَا من ديننَا. يُقَال: صَبأ الْبَعِير: إِذا خرج.(2/572)
وَأَرَادُوا أَنا قد خرجنَا من ديننَا إِلَى دينك، فَلم يفهم مُرَادهم، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يستثبت.
1180 - / 1414 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا رفع رَأسه من الرَّكْعَة الْآخِرَة من الْفجْر يَقُول: " اللَّهُمَّ الْعَن فلَانا وَفُلَانًا " فَأنْزل الله تَعَالَى: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} [آل عمرَان: 128] . [15] معنى الْآيَة: لَيْسَ لَك من استصلاحهم وَلَا من عَذَابهمْ شَيْء، وَإِنَّمَا عَلَيْك أَن تبلغ.
1181 - / 1415 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " مَفَاتِيح الْغَيْب خمس ". [15] قَالَ ابْن جرير: المفاتيح جمع مِفْتَاح. والمفاتح جمع مفتح. [15] وَأما الْغَيْب فَهُوَ مَا غَابَ عَن الْخلق، وَلَا غيب عِنْد الله عز وَجل. [15] وَقَوله: {وَمَا تغيض الْأَرْحَام} [الرَّعْد: 8] أَي تنقص. وللمفسرين فِي معنى الْكَلَام أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: تغيض بِالْوَضْعِ لأَقل من تِسْعَة أشهر وتزداد بِالْوَضْعِ لأكْثر من تِسْعَة أشهر، رَوَاهُ الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: تغيض بِالسقطِ النَّاقِص وتزداد بِالْوَلَدِ التَّام، رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: تغيض بإراقة الدَّم فِي الْحمل حَتَّى يتضاءل الْوَلَد، وتزداد إِذا أسكت الدَّم فيعظم الْوَلَد، قَالَه مُجَاهِد. وَالرَّابِع: تغيض من وَلدته من قبل وتزداد من تلده من بعد، قَالَه قَتَادَة.
1182 - / 1416 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن ابْن عمر كَانَ يَرْمِي(2/573)
الْجَمْرَة الدُّنْيَا بِسبع حَصَيَات، ثمَّ يتَقَدَّم فيسهل. [15] أما الْجَمْرَة الدُّنْيَا فَهِيَ الأولى، وَهِي الَّتِي تلِي مَسْجِد الْخيف، وَهِي الْأَقْرَب إِلَى عَرَفَات. وَالسّنة أَن يَجْعَلهَا عَن يسَاره وَيسْتَقْبل الْقبْلَة ويرميها، ثمَّ يتَقَدَّم عَنْهَا إِلَى مَوضِع لَا تصيبه الْحَصَى، وَيقف بِقدر قِرَاءَة سُورَة الْبَقَرَة يَدْعُو الله تَعَالَى. وَمعنى يسهل: يطْلب سهل الأَرْض، وَهُوَ المنخفض. ثمَّ يَرْمِي الْجَمْرَة الْوُسْطَى ويجعلها عَن يَمِينه، وَيسْتَقْبل الْقبْلَة، وَيفْعل فِي الْوُقُوف وَالدُّعَاء كَمَا فعل فِي الأولى، ثمَّ يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة ويجعلها عَن يَمِينه، ويستبطن الْوَادي، وَيسْتَقْبل الْقبْلَة وَلَا يقف عِنْدهَا.
1183 - / 1417 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: جَاءَ ابْن عمر يَوْم عَرَفَة حِين زَالَت الشَّمْس فصاح عِنْد سرادق الْحجَّاج فَقَالَ: الرواح إِن كنت تُرِيدُ السّنة. [15] السرادق: كل مَا أحَاط بِشَيْء نَحْو المضرب والخباء. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: السرادق فَارسي مُعرب، وَأَصله بِالْفَارِسِيَّةِ سرادار: وَهُوَ الدهليز، قَالَ الفرزدق:
(تمنيتهم حَتَّى إِذا مَا لقيتهم ... تركت لَهُم قبل الضراب السرادقا)
[15] وَقَوله: أقصر الْخطْبَة. من السّنة أَنه إِذا زَالَت الشَّمْس خطب الإِمَام خطْبَة يعلم النَّاس فِيهَا مناسكهم، من مَوضِع الْوُقُوف وَوَقته، وَدفعه من عَرَفَات، وَمَوْضِع صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء بِمُزْدَلِفَة، وَالْمَبِيت بهَا، والعدو(2/574)
إِلَى منى للرمي، وَالطّواف والنحر، وَالْمَبِيت بمنى لرمي الْجمار، ثمَّ يَأْمر بِالْأَذَانِ، وَينزل فَيصَلي بِالنَّاسِ الظّهْر وَالْعصر، يجمع بَينهمَا بِإِقَامَة لكل صَلَاة.
1184 - / 1418 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: دخلت على حَفْصَة ونوساتها تنطف، قلت: قد كَانَ من أَمر النَّاس مَا تَرين، فَلم يَجْعَل لي من الْأَمر شَيْء. فَقَالَت: الْحق فَإِنَّهُم ينتظرونك، وأخشى أَن يكون فِي احتباسك عَنْهُم فرقة. فَلم تَدعه حَتَّى ذهب. فَلَمَّا تفرق النَّاس خطب مُعَاوِيَة فَقَالَ: من كَانَ يُرِيد أَن يتَكَلَّم فِي هَذَا الْأَمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أَحَق بِهِ مِنْهُ وَمن أَبِيه. فحللت حبوتي، فهممت أَن أَقُول: أَحَق بِهَذَا الْأَمر مِنْك من قَاتلك على الْإِسْلَام. فَخَشِيت أَن أَقُول كلمة تفرق بَين الْجمع وتسفك الدَّم، فَذكرت مَا أعد الله فِي الْجنان. فَقيل لَهُ: عصمت. [15] قَوْله: ونوساتها تنطف، قد فسرناه فِي مُسْند عمر. [15] قَوْله: قد كَانَ من أَمر النَّاس مَا كَانَ، وَلم يَجْعَل لي من الْأَمر شَيْء. أَشَارَ إِلَى جعل عمر الْخلَافَة شُورَى فِي سِتَّة وَلم يَجْعَل لَهُ من الْأَمر شَيْء. فَقَالَت لَهُ: الْحق، فَإِنَّهُم ينتظرونك. هَذَا لِأَن عمر قَالَ: يشهدكم عبد الله وَلَيْسَ لَهُ من الْأَمر شَيْء. وَهَذِه حِكَايَة الْحَال الَّتِي جرت فِي زمن عمر.(2/575)
[15] وَقَوله: فَلَمَّا تفرق النَّاس خطب مُعَاوِيَة. كَانَ هَذَا فِي زمن مُعَاوِيَة، وإرادته أَن يَجْعَل ابْنه يزِيد ولي عَهده. [15] وَقَوله: من أَرَادَ أَن يتَكَلَّم فِي هَذَا الْأَمر. يَعْنِي الْخلَافَة. فليطلع لنا قرنه: أَي فليرنا وَجهه. [15] وَقَوله: فحللت حبوتي: إِذا جمع الرجل ظَهره وساقيه سَوَاء فَهِيَ الحبوة وَقد احتبى. وَإِنَّمَا حل حبوته ليَتَكَلَّم وَيرد على مُعَاوِيَة، فخاف أَن يكون قَوْله سَببا لتفريق الْجَمَاعَة، فَذكر ثَوَاب الله تَعَالَى فَسكت. [15] وَقَوله: عصمت. يُقَال: عصم فلَان: إِذا منع بِالْقدرِ من شَيْء لَو فعله لم تحمد عاقبته.
1185 - / 1419 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ ابْن عمر: الصّيام لمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج إِلَى يَوْم عَرَفَة، فَإِن لم يجد هَديا وَلم يصم صَامَ أَيَّام منى. [15] صفة التَّمَتُّع: أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج ويفرغ مِنْهَا، ثمَّ يحرم بِالْحَجِّ من مَكَّة فِي عَامه. فَهَذَا يجب عَلَيْهِ دم، فَإِن لم يجد صَامَ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج آخرهَا يَوْم عَرَفَة. كَذَلِك قَالَ عَليّ وَالْحسن وَطَاوُس وَسَعِيد بن جُبَير. وَقَالَ عَطاء: لَا يَصُوم الثَّلَاثَة الْأَيَّام إِلَّا فِي الْعشْرَة. وَقَالَ الثَّوْريّ: إِن شَاءَ صامهن متفرقات والوصال أحب إِلَيّ. فَإِن لم يصم الثَّلَاثَة الْأَيَّام قبل يَوْم النَّحْر فَاخْتَلَفُوا فِيمَا يصنع: فقد ذكرنَا عَن ابْن عمر أَنه يَصُوم أَيَّام منى، وَنَقله الْمَيْمُونِيّ عَن أَحْمد بن(2/576)
حَنْبَل. وَقَالَ آخَرُونَ: يَصُوم بعد أَيَّام التَّشْرِيق، قَالَه عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. وَرَوَاهُ الْمروزِي عَن أَحْمد، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
1186 - / 1420 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: قَول جِبْرِيل: إِنَّا لَا ندخل بَيْتا فِيهِ صُورَة وَلَا كلب. قد سبق بَيَانه فِي مُسْند أبي طَلْحَة
1187 - / 1421 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: قَالَ ابْن عمر: رُبمَا ذكرت قَول الشَّاعِر وَأَنا أنظر إِلَى وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي، وَمَا ينزل حَتَّى يَجِيش كل ميزاب:
(وأبيض يستسقى الْغَمَام بِوَجْهِهِ ... ثمال الْيَتَامَى عصمَة للأرامل)
[15] قَوْله: يَجِيش، من قَوْلهم: جَاشَتْ الْقدر: إِذا غلت. وَقَوله: ثمال الْيَتَامَى: أَي معتمدهم وملجأهم. وَقَوله: عصمَة للأرامل: أَي يمتنعون بِهِ من الْحَاجة والشدة. والأرامل يَقع على الرِّجَال وَالنِّسَاء، قَالَ الشَّاعِر:
(هذي الأرامل قد قضيت حَاجَتهَا ... فَمن لحَاجَة هَذَا الأرمل الذّكر)
1188 - / 1422 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " رَأَيْت امْرَأَة ثائرة الرَّأْس خرجت من الْمَدِينَة حَتَّى نزلت مهيعة، فتأولتها: أَن وباء الْمَدِينَة(2/577)
نقل إِلَى مهيعة " وَهِي الحجفة. [15] قَوْله: " ثائرة الرَّأْس " يَعْنِي أَن شعرهَا منتشر غير مرجل. [15] والحجفة من قَوْلك: سيل جحاف: إِذا جرف كل شَيْء. وَيُقَال: اجتحف مَا فِي الْقَصعَة: إِذا أكله، وأنشدوا:
(وجحفتم جحف الخريز ونمتم ... وَبَنُو صَفِيَّة ليلهم لَا يهجع)
[15] وَكَانَت الْجحْفَة حِينَئِذٍ مسكن الْيَهُود.
1189 - / 1423 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " من أَخذ شبْرًا من الأَرْض بِغَيْر حَقه خسف بِهِ يَوْم الْقِيَامَة إِلَى سبع أَرضين " قد فسرنا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند سعيد بن زيد.
1190 - / 1424 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَقِي زيد بن عَمْرو بن نفَيْل قبل أَن ينزل الْوَحْي، فَقدم إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سفرة فِيهَا لحم، فَقَالَ زيد: إِنِّي لَا آكل مِمَّا تذبحون على أنصابكم، وَلَا آكل إِلَّا مَا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ. [15] كَانَ زيد بن عَمْرو بن نفَيْل يطْلب الدّين، وَخرج إِلَى الشَّام فِي طلبه، وَلَقي عُلَمَاء الْيَهُود وسألهم، فَدَعوهُ إِلَى دينهم فَأبى، وَقَالَ: أَنا على دين إِبْرَاهِيم، وَكَانَ إِنْكَاره على قُرَيْش مَا هم فِيهِ من قُوَّة يقظته وجودة فهمه، وَمن اسْتعْمل عقله وفهمه دله على الْخَالِق سُبْحَانَهُ،(2/578)
وَمنعه من إِضَافَة شريك وند. [15] وَقَوله: لَا آكل مِمَّا تذبحون على أنصابكم. الأنصاب: الْأَصْنَام. وَقَالَ ابْن جريج: هِيَ حِجَارَة كَانُوا يذبحون عَلَيْهَا ويعظمونها. [15] وَرُبمَا ظن ظان أَن رَسُول الله كَانَ يَأْكُل مِمَّا يذبح على النصب، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الله سُبْحَانَهُ عصمه عَن ذَلِك وَعَن أكل لحم الْميتَة، وَكَانَ يتبع شَرِيعَة إِبْرَاهِيم. بلَى، إِن الظَّاهِر أَنه كَانَ يَأْكُل مِمَّا يذبحونه لنفسهم، وَيرى أَن الذكاء قد وَقعت بفعلهم، وَلَا يَتَّسِع لَهُ أَن يذبح لنَفسِهِ فِي كل وَقت، وَإِنَّمَا ظن زيد فِيهِ أَنه يَأْكُل من ذَلِك.
1191 - / 1426 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا ". [15] وَقد شرحناه فِي مُسْند سعد.
1192 - / 1427 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أَن ابْن عمر كره أَن تعلم الصُّورَة. [15] أَي أَن يَجْعَل فِيهَا عَلامَة، وَهِي السمة فِي الْوَجْه.
1193 - / 1430 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: " إِن النَّاس يصيرون جثا، كل أمة تتبع نبيها تَقول: اشفع يَا فلَان، اشفع، حَتَّى تَنْتَهِي الشَّفَاعَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذَلِك يَوْم يَبْعَثهُ الله الْمقَام الْمَحْمُود ".(2/579)
[15] قَوْله " جثا " أَي جماعات مجتمعة، الْوَاحِدَة جثوَة بِضَم الْجِيم، وكل شَيْء مَجْمُوع فَهُوَ جثوَة. وَأما الجثى فَهُوَ جمع جاث على رُكْبَتَيْهِ. وَسمعت أَبَا مُحَمَّد بن الخشاب يَقُول: إِنَّمَا هُوَ جثى بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ جمع جاث، كغاز وغزى. قَالَ: وَجَثَا مُخَفّفَة جمع جثوَة، وَلَا معنى لَهَا هَاهُنَا. [15] وَالْمقَام الْمَحْمُود: الشَّفَاعَة.
1194 - / 1432 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: " لَو يعلم النَّاس مَا فِي الْوحدَة مَا سَار رَاكب وَحده بلَيْل أبدا ". [15] قد جَاءَ فِي الحَدِيث: أَن لله تَعَالَى خلقا يبثهم بِاللَّيْلِ. وَقد أَمر بالاحتراز من أُولَئِكَ. فَأخْبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي عدي قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْحَق عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن عَطاء بن يسَار عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا سَمِعْتُمْ نباح الْكلاب ونهاق الْحمير فتعوذوا بِاللَّه، فَإِنَّهَا ترى مَالا ترَوْنَ، وأقلوا الْخُرُوج إِذا هدأت الرجل، فَإِن الله عز وَجل يبث فِي ليله من خلقه مَا شَاءَ. وأجيفوا الْأَبْوَاب، واذْكُرُوا اسْم الله عَلَيْهَا، فَإِن الشَّيْطَان لَا يفتح بَابا أجيف وَذكر اسْم الله عَلَيْهَا " وَفِي الحَدِيث تَنْبِيه على خطأ جهلة المتزهدين فِي سياحاتهم(2/580)
بِاللَّيْلِ ومشيهم فِي الظُّلُمَات على الْوحدَة.
1195 - / 1433 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: إِن نَاسا قَالُوا لَهُ: إِنَّا ندخل على سلطاننا فَنَقُول لَهُم بِخِلَاف مَا نتكلم بِهِ إِذا خرجنَا من عِنْدهم. قَالَ: كُنَّا نعد هَذَا نفَاقًا فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] النِّفَاق: مُخَالفَة الْبَاطِن للظَّاهِر، وَمَا كَانَ هَذَا مِمَّا يحْتَاج إِلَى اسْتِعْمَاله فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا حدثت وُلَاة جورة، فَمن اضْطر إِلَى اسْتِعْمَال المعاريض فِي لقائهم لم يكن ذَلِك نفَاقًا.
1196 - / 1434 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: أَنه ذكر الحرورية، وَأَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَام. [15] وَقد سبق فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1197 - / 1435 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: شَبكَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصَابِعه وَقَالَ: " كَيفَ أَنْت يَا عبد الله بن عَمْرو إِذا بقيت فِي حثالة من النَّاس ". [15] حثالة كل شَيْء: رديئه وثفله. [15] ومرجت بِكَسْر الرَّاء، وَمَعْنَاهُ اخْتلطت عهودهم وَلم يفوا بهَا. وَإِنَّمَا شَبكَ أَصَابِعه ليمثل اختلاطهم. [15] وقدوله: " تقبل على خاصتك " أَي مَا يخصك ويلزمك النّظر فِيهِ.(2/581)
وَيحْتَمل أَن يُرِيد بالخاصة الْخَواص الَّذين يفهمون عَنهُ، وَلذَلِك قَالَ: " ودعهم وعوامهم " أَي: وَمن لَا يفهم عَنْك.
1198 - / 1437 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: أَن ابْن عمر كَانَ ينَام وَهُوَ عزب فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] قَالَ ابْن فَارس: العزب: الَّذِي لَا أهل لَهُ. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث جَوَاز بيتوتة الرجل فِي الْمَسْجِد، وَلَا يُقَال: قد اتَّخذهُ دَارا، وَلَا إِنَّه رُبمَا أجنب.
1199 - / 1439 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: إِن فرسا لعبد الله عَار. [15] أَي ند وَذهب.
1200 - / 1440 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: عَن ابْن عمر: {فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم} [الْبَقَرَة: 223] يَأْتِيهَا فِيهِ. [15] قد ظن أَقوام جَوَاز إتْيَان الْمَرْأَة فِي الدبر، وَاحْتَجُّوا بِهَذِهِ الْآيَة وَتَفْسِير ابْن عمر لَهَا. وَلَيْسَ فِي الْآيَة دَلِيل، وَلَا فِي تَفْسِير ابْن عمر لفظ صَرِيح. وَظَاهر قَوْله: يَأْتِيهَا فِيهِ: أَنه يَعْنِي الْحَرْث أَو الْفرج. وَفِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح: يَأْتِيهَا فِي. قَالَ الرَّاوِي: يَعْنِي: فِي الْفرج. وَقد حُكيَ عَن مَالك جَوَاز ذَلِك، وَعَامة أَصْحَابه يُنكرُونَ ثُبُوته عَنهُ.(2/582)
وَالدَّلِيل على أَنه لَا يجوز من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَنه سَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث جَابر: كَانَت الْيَهُود تَقول: إِذا جَامعهَا من وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَد أَحول، فَنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم} فقد بَان الْمَقْصُود من (أَنى) . [15] وَالثَّانِي: أَن لَفْظَة (أَنى) يخْتَلف مَعْنَاهَا على ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن تكون بِمَعْنى كَيفَ. وَالثَّانِي: بِمَعْنى مَتى. وَالثَّالِث: بِمَعْنى من أَيْن. فَإِن قُلْنَا: هِيَ بِمَعْنى كَيفَ فسبب الْآيَة يؤكده، وَالْمعْنَى: كَيفَ شِئْتُم مقبلة أَو مُدبرَة وعَلى كل حَال، إِلَّا أَن الْإِتْيَان يكون فِي الْفرج، وَهَذَا تَفْسِير ابْن عَبَّاس وَمُجاهد فِي خلق كثير. وَإِن قُلْنَا: إِنَّهَا بِمَعْنى مَتى، فَالْمَعْنى: أَي وَقت شِئْتُم، وَهَذَا تَفْسِير ابْن الْحَنَفِيَّة وَالضَّحَّاك. وَإِن قُلْنَا: إِنَّهَا بِمَعْنى من أَيْن، فَالْمَعْنى: إِن شِئْتُم من بَين يَديهَا، وَإِن شِئْتُم من وَرَائِهَا، وَهَذَا يرجع إِلَى القَوْل الأول. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَنى يكون بِمَعْنى كَيفَ، وَيكون بِمَعْنى من أَيْن، والمعنيان متقاربان،
وَيجوز أَن يتَأَوَّل فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا الآخر، قَالَ الْكُمَيْت:
(أَنى وَمن أَيْن آبك الطَّرب ... من حَيْثُ لَا صبوة وَلَا ريب)
[15] وَالثَّالِث: أَن الْآيَة دلّت على مَوضِع الْإِتْيَان بقوله: {فَأتوا حَرْثكُمْ} وَمَوْضِع الزَّرْع إِنَّمَا هُوَ مَكَان الْوَلَد لِأَن الْوَلَد مشبه بالنبات، فمل يجز أَن يَقع الْوَطْء فِي مَحل لَا يكون مِنْهُ ولد. [15] وَالرَّابِع: أَنه قد رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّهْي عَن هَذَا: عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَجَابِر وَعبد الله بن عمر وَابْن عَبَّاس والبراء بن(2/583)
عَازِب وَعقبَة بن عَامر وَخُزَيْمَة ابْن ثَابت وَأَبُو هُرَيْرَة، وَفِي لفظ حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " مَلْعُون من أَتَى النِّسَاء فِي أدبارهن ". وَقد ذكرت هَذِه الْأَحَادِيث بأسانيدها فِي كتاب " تَحْرِيم الْمحل الْمَكْرُوه " وَذكرت هُنَاكَ نهي جمَاعَة من الصَّحَابَة عَنهُ، مِنْهُم ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَأَبُو الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة، وَمن التَّابِعين الْحسن وَمُجاهد وَعِكْرِمَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَلَا يَصح عَن مَالك. وَالْخَامِس: أَن تَحْرِيم إتْيَان الْحَائِض كَانَ لعِلَّة الْأَذَى، والأذى ملازم لهَذَا الْمحل لَا يُفَارِقهُ.
1201 - / 1441 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: عَن ابْن عمر: {فديَة طَعَام مِسْكين} [الْبَقَرَة: 184] قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَة. [15] كَانَ الْإِنْسَان يُخَيّر بَين أَن يَصُوم رَمَضَان وَبَين أَن يفتدي، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} [الْبَقَرَة: 185] فنسخت تِلْكَ الْآيَة.
1202 - / 1445 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: أَن ابْن عمر ذكر لَهُ أَن سعيد بن زيد مَرِيض، فَركب إِلَيْهِ وَترك الْجُمُعَة. [15] سعيد هُوَ ابْن ابْن عَم ابْن عمر بن الْخطاب؛ لِأَن عمر هُوَ ابْن(2/584)
الْخطاب بن نفَيْل، وَسَعِيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل، وَهُوَ زوج فَاطِمَة بنت الْخطاب أُخْت عمر. [15] وَمن الْأَعْذَار الَّتِي يجوز لَهَا ترك الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة أَن يكون للْإنْسَان قرَابَة يخَاف مَوته وَيُرِيد أَن يحضرهُ.
1203 - / 1446 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ ابْن عمر: إِذا مَضَت أَرْبَعَة أشهر يُوقف حَتَّى يُطلق، وَلَا يَقع عَلَيْهِ الطَّلَاق حَتَّى يُطلق. يَعْنِي المؤلي. [15] اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا مَضَت على المؤلي أَرْبَعَة أشهر، فَقَالَ قوم: إِذا لم يفء قبل مضيها ثمَّ تمت أَرْبَعَة أشهر لحقت الْمَرْأَة تطليقه وَاحِدَة. ثمَّ اخْتلفُوا، فَقَالَ: بَعضهم: رَجْعِيَّة، وَقَالَ بَعضهم: بَائِنَة. وَقد رُوِيَ عَن عمر أَنه قَالَ: إِذا مَضَت أَرْبَعَة أشهر فَهِيَ تَطْلِيقَة، وَكَذَلِكَ عَن عُثْمَان وَعلي قَالَا: هِيَ تَطْلِيقَة بَائِنَة. وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ: إِذا انْقَضتْ الْأَرْبَعَة الْأَشْهر خطبهَا وَأَمْهَرهَا مهْرا جَدِيدا. وَقَالَ قوم: إِذا مَضَت الْأَرْبَعَة الْأَشْهر اسْتحق عَلَيْهِ أَن يفِيء أَو يطق. رُوِيَ عَن عمر أَيْضا وَعُثْمَان وَعلي وَسَهل بن سعد. وَقد ذَكرْنَاهُ وَعَن ابْن عمر. وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد.
1204 - / 1449 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: وَعمر يستلئم لِلْقِتَالِ.(2/585)
[15] استلأم الرجل يستلئم: إِذا لبس اللأمة، بِالْهَمْز: وَهِي الدرْع، وَجمع لؤم على غير قِيَاس.
1205 - / 1450 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: أَن الْمَسْجِد كَانَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُبينًا بِاللَّبنِ، وسقفه بِالْجَرِيدِ. [15] الجريد: سعف النّخل، الْوَاحِدَة جَرِيدَة، وَسميت بذلك لِأَنَّهُ قد جرد عَنْهَا الخوص. [15] والعمد: مَا يكون تَحت السَّطْح يدعمه. وَالْمرَاد بخشب النّخل: الْجُذُوع. [15] والقصة: الجص. يُقَال: قصصت الْبيُوت: إِذا جصصتها. والتقصيص: التجصيص. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْقِصَّة: شَيْء يشبه الجص وَلَيْسَ بِهِ.
1206 - / 1451 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ ابْن عمر إِذا سُئِلَ عَن نِكَاح النَّصْرَانِيَّة أَو الْيَهُودِيَّة قَالَ: إِن الله تَعَالَى حرم المشركات. [15] هَذَا مَذْهَب لَا يلْتَفت إِلَيْهِ؛ لِأَن الْآيَة ترده، وَهِي قَول الله عز وَجل: (وَالْمُحصنَات من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ [الْمَائِدَة: 5] وَالْإِجْمَاع على خلَافَة.(2/586)
1207 - / 1453 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: كُنَّا نصيب الْعَسَل وَالْعِنَب فنأكله وَلَا نرفعه. [15] أَي لَا نرفعه إِلَى الْقَبْض المخمس.
1208 - / 1454 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ ابْن عمر يمر بِالشعبِ الَّذِي أَخذه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيدْخل فينتفض. [15] الشّعب كالزقاق بن الجبلين، أَو كالدرب بَين الدّور، إِلَّا أَنه لَا ينفذ. [15] وَقَوله فينتفض: كنى بِهِ عَن الْحَرَكَة لقَضَاء الْحَاجة، وَالْأَصْل فِي النفض التحريك وإثارة السَّاكِن.
1209 - / 1457 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: رَأَيْت سترا موشيا. [15] الموشي: المخطط بألوان شَتَّى، وكل منسوج على لونين فَصَاعِدا موشي، تَقول: وشيت الثَّوْب أَو شيه وشيا، فَهِيَ موشي وموشى.
1210 - / 1460 وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة مُؤْتَة زيد بن حَارِثَة. [15] مُؤْتَة بِالْهَمْز: أَرض تقرب من دمشق، وَبهَا كَانَت الْوَقْعَة. وموتة(2/587)
بِغَيْر همز: شبه الْجُنُون يعتري الْإِنْسَان، وَالْمِيم مَضْمُومَة فِي الْكَلِمَتَيْنِ. وموتة بِفَتْح الْمِيم: الْوَاحِدَة من الْمَوْت. [15] وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بعث رَسُولا إِلَى ملك بصرى بِكِتَاب، فَقتل الرَّسُول، فندب النَّاس، فَعَسْكَرَ وَخرج مشيعا، وَقَالَ: " أَمِير النَّاس زيد، فَإِن قتل فجعفر، فَإِن قتل فَابْن رَوَاحَة، فَإِن قتل فليرتص الْمُسلمُونَ بَينهم رجلا " فَلَمَّا قتل الثَّلَاثَة اصْطلحَ النَّاس على خَالِد بن الْوَلِيد.
1211 - / 1461 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عسب الْفَحْل. [15] قَالَ أَبُو عبيد: العسب: الْكِرَاء الَّذِي يُؤْخَذ على ضراب الْفَحْل، يُقَال: عسبت الرجل أعسبه عسبا: إِذا أَعْطيته الْكِرَاء على ذَلِك. قَالَ: وَقيل: هُوَ الضراب، وَالْأول هُوَ الْوَجْه. [15] وَإِنَّمَا وَقع النَّهْي عَن هَذَا لشيئين: أَحدهمَا: أَنه إِنَّمَا يطْلب مِنْهُ الإلقاح وَقد لَا يلقح، فَيبقى الْمَأْخُوذ بِلَا عوض. وَالثَّانِي: أَن مثل هَذَا يَنْبَغِي للْمُسلمين أَن يتباذلوه بَينهم لِأَنَّهُ من جنس الماعون. وَعَامة الْفُقَهَاء على تَحْرِيم أَخذ الْأُجْرَة على ضراب الْفَحْل. وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس أَن يسْتَأْجر الْفَحْل لينزيه مُدَّة مَعْلُومَة، وَإِنَّمَا يبطل إِذا اشْترط أَن ينزيه إِلَى أَن تعلق الرمكة. وَعلل أَصْحَابه بِأَنا لَو منعنَا من هَذَا لَا نقطع النَّسْل؛ لِأَن الْإِنْسَان لَا يسهل عَلَيْهِ إِيعَاب فَحله وإنفاد قواه بِغَيْر عوض،(2/588)
وَهَذَا تَعْلِيل يُعَارض النَّص فَلَا يقبل.
1212 - / 1464 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: " إِن من الْبَيَان سحرًا ". [15] الْبَيَان على ضَرْبَيْنِ: بَيَان للشَّيْء بِلَفْظ آخر لَا يزِيد على كشف مَعْنَاهُ، وَبَيَان لَهُ بِزِيَادَة أَلْفَاظ رائقة تستميل الْقُلُوب وتحزنها وتطربها، كَمَا أَن السحر يخرج عَن حد الِاعْتِدَال. وَهَذَا إِذا كَانَ اللَّفْظ فِيهِ صدقا وجائزا، وَالْمَقْصُود بِهِ نصر الْحق، كَانَ ممدوحا، فقد كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خطيب يلقى بِهِ الوافدين، وَهُوَ ثَابت بن قيس بن شماس، وشاعر وَهُوَ حسان بن ثَابت. وَإِذا كَانَ الْبَيَان على ضد ذَلِك كَانَ الذَّم لذَلِك لَا للفظ، كالشعر فَإِنَّهُ يذم مَا يتضمنه ويمدح، لَا النّظم.
1213 - / 1468 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَبِيع حَاضر لباد. [15] وَقد تقدم هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1214 - / 1471 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: " أفرى الفرى أَن يري الرجل عَيْنَيْهِ مَا لم تريا ". [15] الفرى جمع فِرْيَة، والفرية: الْكَذِب. وَأَشد الْكَذِب إِخْبَار الرجل(2/589)
بِأَنَّهُ رأى فِي الْمَنَام مَا لم يره. وَهَاهُنَا لم يذكر الْمَنَام، وَقد ذكر فِي مُسْند وَاثِلَة بن الْأَسْقَع. [15] وَقد رَوَاهُ أَحْمد فِي " الْمسند " مُفَسرًا، وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَنه إِنَّمَا اشْتَدَّ الْأَمر فِي كذب من يكذب فِي مَنَامه؛ لِأَن الْمَنَام جُزْء من الْوَحْي، فَكَأَنَّهُ يخبر أَن الله تَعَالَى ألْقى إِلَيْهِ مَا لم يلقه.
1215 - / 1473 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: " لن يزَال الْمَرْء فِي فسحة من دينه مَا لم يصب دَمًا حَرَامًا ". [15] الْمَعْنى أَنه فِي أَي ذَنْب وَقع كَانَ لَهُ فِي الدّين وَالشَّرْع مخرج إِلَّا الْقَتْل، فَإِن أمره صَعب، ويوضح هَذَا مَا فِي تَمام الحَدِيث عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: إِن من ورطات الْأُمُور الَّتِي لَا مخرج لمن أوقع نَفسه فِيهَا سفك الدَّم الْحَرَام بِغَيْر حلَّة. والورطات جمع ورطة: وَهِي كل بلَاء لَا يكَاد صَاحبه يتَخَلَّص مِنْهُ. يُقَال: تورط واستورط.
1216 - / 1475 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: أصَاب ابْن عمر سِنَان الرمْح فِي أَخْمص قدمه، فلزقت بالركاب. [15] أَخْمص الْقدَم: مَا نبا عَن الأَرْض من أَسْفَلهَا. والركاب: مَا يضع الرَّاكِب فِيهِ رجله. أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز قَالَ: أخبرنَا أَبُو إِسْحَق بن عمر الْبَرْمَكِي قَالَ: أخبرنَا ابْن حيويه قَالَ:(2/590)
أخبرنَا ابْن مَعْرُوف قَالَ: حَدثنَا ابْن الْفَهم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أخبرنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ: حَدثنِي عبد الله بن نَافِع عَن أَبِيه قَالَ: كَانَ زج رمح رجل من أَصْحَاب الْحجَّاج قد أصَاب رجل ابْن عمر، فاندمل الْجرْح، فَلَمَّا صدر النَّاس انتفض على ابْن عمر. قَالَ ابْن سعد: وَأخْبرنَا سُلَيْمَان بن حَرْب قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب قَالَ: قلت لنافع: مَا كَانَ بَدْء موت ابْن عمر؟ قَالَ: أَصَابَته عارضة محمل بَين إِصْبَعَيْنِ من أَصَابِعه عِنْد الْجَمْرَة فِي الزحام فَمَرض.
1217 - / 1480 وَفِي الحَدِيث السّبْعين: كنت على بكر صَعب. الْبكر من الْإِبِل بِمَنْزِلَة الفتي. والجمل بِمَنْزِلَة الرجل. والصعب خلاف الذلول.
1218 - / 1481 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: لما أسلم عمر قَالُوا: صَبأ عمر، وَأَنا غُلَام فَوق ظهر بَيْتِي. [15] صَبأ بِمَعْنى خرج من دينه إِلَى دين آخر. [15] وَقَوله: وَأَنا غُلَام، قد كَانَ يَوْمئِذٍ ابْن ثَلَاث سِنِين أَو أَربع؛ لِأَن عمر أسلم فِي سنة خمس من النُّبُوَّة، وَقيل: سنة سِتّ، وَأقَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة من النُّبُوَّة ثَلَاث عشرَة، وَعرض عَلَيْهِ ابْن عمر فِي غزَاة أحد وَكَانَت سنة ثَلَاث وَهُوَ ابْن أَربع عشرَة سنة. [15] قَوْله: فجَاء رجل عَلَيْهِ قبَاء ديباج. قد سبق ذكر القباء والديباج.(2/591)
[15] وتصدعوا: تفَرقُوا. وَهَذَا الرجل هُوَ أَبُو عَمْرو بن الْعَاصِ. وَقد بَين هَذَا فِي مُسْند عمر، وَأَنَّهُمْ كَانُوا حلفاء فِي الْجَاهِلِيَّة.
1219 - / 1483 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: فأرغم الله بأنفك. أَي ألزقه بالرغام وَهُوَ التُّرَاب. [15] وَفِيه: فَإِنَّهُ كَانَت تَحْتَهُ بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَعْنِي رقية.
1220 - / 1484 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: كُنَّا نتحين أَي نطلب حِين الزَّوَال للرمي، وَهَذَا وَقت رمي الجمرات الثَّلَاث فِي أَيَّام التَّشْرِيق.
1221 - / 1485 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: أَن الْحجَّاج بن أَيمن، ابْن أم أَيمن، كَانَ أَخا أُسَامَة لأمة، من الْأَنْصَار، رَآهُ ابْن عمر لَا يتم رُكُوعه، فَقَالَ: أعد. [15] كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد ورث من أَبِيه أم أَيمن وَاسْمهَا بركَة، فَكَانَت تحضنه وتربيه، فَأعْتقهَا حِين تزوج خَدِيجَة، فَتَزَوجهَا عبيد بن زيد من بني الْحَارِث، فَولدت لَهُ أَيمن فصحب الني صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقتل يَوْم حنين وَهَذَا الْحجَّاج الْمَذْكُور فِي الحَدِيث وَلَده. ثمَّ زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم أَيمن بعد النُّبُوَّة زيد بن حَارِثَة فَولدت لَهُ أُسَامَة. [15] وَقَوله: من الْأَنْصَار، أَي أَن الْحجَّاج من الْأَنْصَار.(2/592)
[15] وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على بطلَان الصَّلَاة بترك إتْمَام الرُّكُوع.
1222 - / 1487 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: أَن رجلا سَأَلَ ابْن عمر عَن دم البعوض. [15] الْبَعُوضَة صَغِيرَة البق. [15] وَأما الْعرَاق فقد ذَكرنَاهَا فِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ من هَذَا الْمسند. [15] وَالريحَان: الرزق، وَيُسمى الْوَلَد ريحانا. [15] وَأما قتل الْمحرم للذباب فمباح للْمحرمِ قتل كل مَا فِيهِ مضرَّة كالحية وَالْعَقْرَب والزنبور والبرغوث والبق والذباب والحشرات كلهَا، وَفِي الْقمل والصئبان رِوَايَتَانِ.
1223 - / 1489 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: {وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ} [الْبَقَرَة: 284] قَالَ: قد نسخت. وَقد ذكرنَا هَذِه الْآيَة فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1224 - / 1490 وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: قلت لِابْنِ عمر: تصلي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا. قلت: فعمر؟ قَالَ: لَا. قلت: فَأَبُو بكر؟ قَالَ: لَا. قلت: فالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: لَا إخَاله أَي لَا أَظُنهُ وَالْألف فِي إخَاله مَكْسُورَة.(2/593)
[15] وَقد اخْتلف النَّاس: هَل صلى الني صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضُّحَى أم لَا؟ وَالصَّحِيح أَنه صلى، فَمن روى أَنه صلاهَا فقد رَآهُ، وَمن روى أَنه لم يصلها فَإِنَّهُ لم يره، وَالْإِثْبَات مقدم على النَّفْي. وَسَنذكر حَدِيث الضُّحَى فِي مُسْند أم هانىء؛ فَإِنَّهُ أصح الْأَحَادِيث فِيهَا.
1225 - / 1491 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: سَأَلَ رجل ابْن عمر عَن استلام الْحجر، فَقَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستلمه ويقبله. قَالَ: أَرَأَيْت إِن زحمت؟ أَرَأَيْت إِن غلبت؟ قَالَ: اجْعَل " أَرَأَيْت " بِالْيَمِينِ. [15] استلام الْحجر: لمسه بِالْيَدِ، وَهُوَ من مسنونات الْحَج، وَكَذَلِكَ تقبيله. [15] وَقَوله: اجْعَل " أَرَأَيْت " بِالْيمن. أَي ببلدك، وَالْمعْنَى: احرص على استعمالك السّنة وَلَا تتعلل.
1226 - / 1492 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم. " وَمَا جَاءَك من هَذَا المَال وَأَنت غير مشرف " وَقد سبق تَفْسِيره فِي مُسْند عمر.
1227 - / 1493 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لَا يأكلن أحد مِنْكُم بِشمَالِهِ.(2/594)
[15] لما جعلت الشمَال للاستنجاء ومباشرة الأنجاس، واليمنى لتناول الْغذَاء، لم يصلح اسْتِعْمَال أَحدهمَا فِي شغل الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ حط لرتبة ذِي الرُّتْبَة، وَرفع للمحطوط. فَمن خَالف مَا اقتضته الْحِكْمَة وَافق الشَّيْطَان. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الشَّيْطَان يَأْكُل وَيشْرب. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود أَن الْجِنّ سَأَلُوا رَسُول الله الزَّاد فَقَالَ: " لكم كل عظم ذكر اسْم الله عَلَيْهِ يَقع فِيهِ أَيْدِيكُم أوفر مَا يكون لَحْمًا ".
1228 - / 1494 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: بَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي الحليفة مبدأه. أَي: لما خرج إِلَى الْبَادِيَة لِلْحَجِّ.
1229 - / 1495 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: غدونا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من منى إِلَى عَرَفَات، فمنا الملبي، وَمنا المكبر، وَمنا المهلل. [15] الملبي: هُوَ الْقَائِل: لبيْك. والتلبية لَا تقطع إِلَّا مَعَ أول حَصَاة ترمى. والمكبر: هُوَ الْقَائِل: الله أكبر، وَيسن التَّكْبِير مَعَ كل حَصَاة. والمهلل: هُوَ الْقَائِل لَا إِلَه إِلَّا الله. وَمُرَاد الحَدِيث أَنهم انصرفوا متشاغلين بِالذكر.
1230 - / 1496 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " إِن الْإِسْلَام بَدَأَ غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يأرز بَين المسجدين كَمَا تأرز الْحَيَّة إِلَى جحرها ".(2/595)
[15] الْمَعْنى: أَنه ظهر بَين جهل بِهِ واستنفار مِنْهُ، وَكَانَت الْعَادَات قد غلبت، فَإِذا رُؤِيَ مَا يُخَالِفهَا أنكر. وَهَكَذَا فِي آخر الزَّمَان، وَهَا نَحن فِي وسط الشّرْب، فَإِن الْعَادَات قد غلبت حَتَّى صَارَت الصَّلَوَات والمعاملات عادات يعْمل بمقتضاها سَوَاء وَافَقت الْمَشْرُوع أوخالفت، وَصَارَ قَول الْعلمَاء غَرِيبا، والمشروع مستنكرا، وَالله الْمُسْتَعَان. [15] وَقَوله: " يأرز " قَالَ أبوعبيد: أَي يَنْضَم ويجتمع بعضه إِلَى بعض، قَالَ رؤبة.
(فَذَاك بخال أروز الْأرز ... )
[15] أَي لَا ينبسط للمعروف، وَلَكِن يَنْضَم بعضه إِلَى بعض. [15] والمسجدان مَكَّة وَالْمَدينَة. وَقد ضمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يدخلهما الدَّجَّال.
1231 - / 1498 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: جَاءَ ابْن عمر إِلَى عبد الله ابْن مُطِيع حِين كَانَ من أَمر الْحرَّة مَا كَانَ، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " من خلع يدا من طَاعَة لَقِي الله يَوْم الْقِيَامَة وَلَا حجَّة لَهُ ". [15] كَانَ أهل الْمَدِينَة قد خلعوا يزِيد وَجعلُوا عبد الله بن حَنْظَلَة أَمِيرا على الْأَنْصَار، وَعبد الله بن مُطِيع أَمِيرا على قُرَيْش، وَمَعْقِل بن سِنَان أَمِيرا على الْمُهَاجِرين، فَلم ير ابْن عمر خلع يزِيد بعد أَن بُويِعَ لَهُ.(2/596)
وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند عبد الله بن زيد. [15] وَقَوله: " ميتَة جَاهِلِيَّة " قَالَ الْخطابِيّ: الْميتَة مَكْسُورَة الْمِيم يَعْنِي الْحَالة الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا، فَهِيَ كالقعدة والجلسة وَالركبَة، يُرَاد بهَا الْحَال والهيئة. وَالْميتَة بِالْفَتْح: اسْم للحيوان إِذا مَاتَ. [15] والجاهلية يعبر بهَا عَن التناهي فِي الْجَهْل. [15] وَقد سبق بَيَان مَا بعد هَذَا إِلَى:
1232 - / 1503 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: وَفِيه: " مثل الْمُنَافِق كَمثل الشَّاة العائرة بَين الْغَنَمَيْنِ ". [15] يَعْنِي الذاهبة إِلَى هَذِه مرّة وَإِلَى هَذِه مرّة، لَا تَسْتَقِر فِي إِحْدَاهمَا. وَكَذَلِكَ الْمُنَافِق يصير إِلَى الْمُسلمين بِاللَّفْظِ وَيعود إِلَى الْمُشْركين بِالْعقدِ.
1233 - / 1506 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: كَانَ ابْن عمر يستجمر بالألوة غير مطراة، وبكافور يطرحه مَعَ الألوة. [15] يستجمر " يستفعل " من المجمر. وَالْمعْنَى: يتبخر. قَالَ الْأَصْمَعِي: الألوة: الْعود الَّذِي يتبخر بِهِ. قَالَ الْأَصْمَعِي: وأظنها فارسية عربت. وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ معربة، وفيهَا لُغَتَانِ: ألوة وألوة، بِفَتْح الْهمزَة وَضمّهَا.(2/597)
[15] وَقَوله: غير مطراة: أَي غير معالجة بِنَوْع آخر من الطّيب؛ لِأَنَّهَا مستغنية بطيبها.
1234 - / 1507 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " من صَبر على لأوائها " يَعْنِي الْمَدِينَة. [15] واللأواء: الشدَّة. [15] وَقَوله لِلْجَارِيَةِ لكاع، هَذَا يُقَال للْأُنْثَى وللرجل: يالكع. وَيُقَال: لكع الرجل: إِذا لؤم، لكاعة. وَقَالَ أَبُو عبيد: اللكع عِنْد الْعَرَب: العَبْد. وَقَالَ اللَّيْث: هُوَ وصف بالحمق. وَقَالَ غَيره: هُوَ الصَّغِير. وَفِي الحَدِيث: " أَثم لكع " يُرِيد الصَّغِير فِي السن. فَإِذا قيل للكبير أُرِيد الصَّغِير فِي الْعلم والمعرفة.
1235 - / 1509 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " لَا يحل لمُؤْمِن أَن يهجر أَخَاهُ " قد سبق فِي مُسْند أبي أَيُّوب.
1236 - / 1510 و - فِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: " أعوذ بك من فَجْأَة نقمتك ". [15] المفاجأة: المباغتة على غَفلَة. وَيُقَال: مَاتَ فلَان فَجْأَة: أَي بَغت من غير إنذار بِمَرَض.(2/598)
1237 - / 1511 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: قَالَت امْرَأَة جزلة: مالنا أَكثر أهل النَّار؟ [15] يُقَال: رجل جزل، وامراة جزلة: إِذا كَانَت لَهَا قُوَّة فِي الْخطاب والرأي. [15] وَقَوله: " تكثرن اللَّعْن " هَذِه عَادَة كَانَت لَهُنَّ. [15] وَقَوله: " وتكفرن العشير " مُفَسّر فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. [15] وَأما تَفْسِيره لنُقْصَان الْعقل وَالدّين فقد اعْترض عَلَيْهِ قوم فَقَالُوا: هَذَا أَمر لَيْسَ إِلَيْهَا، فَمَا وَجه ذمها بِهِ؟ فَالْجَوَاب: أَنَّهَا وضعت على صفة النَّقْص، فَهِيَ نَاقِصَة وضعا لَا من حَيْثُ الْكسْب.
1238 - / 1513 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: " كل شَيْء بِقدر حَتَّى الْعَجز والكيس ". [15] الْكيس خلاف الْحمق. يُقَال: رجل كيس، وَالْجمع أكياس. وَالْعجز إِنَّمَا يَقع من سوء التَّدْبِير وَقلة الْعقل، وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت، وَالْعَاجِز من أتبع نَفسه هَواهَا، وَتمنى على الله الْأَمَانِي ".
1239 - / 1514 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: انْشِقَاق(2/599)
الْقَمَر. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1240 - / 1515 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: أَن رجلا قَالَ لِابْنِ عمر: أيصلح لي أَن أَطُوف بِالْبَيْتِ قبل أَن آتِي الْموقف؟ فَقَالَ: نعم. فَقَالَ: فَإِن ابْن عَبَّاس يَقُول: لَا تطف بِالْبَيْتِ حَتَّى تَأتي الْموقف. فَقَالَ ابْن عمر: فقد حج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ قبل أَن يَأْتِي الْموقف، فبقول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحَق أَن تَأْخُذ أَو بقول ابْن عَبَّاس إِن كنت صَادِقا؟ . [15] هَذَا الْمَسْأَلَة فِيمَن أحرم بِالْحَجِّ من مَكَّة، هَل يطوف طواف الْقدوم قبل أَن يخرج؟ فَذهب أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ أَنه يطوف حِين يحرم كَمَا قَالَ ابْن عمر. والمنصور من مَذْهَب أَحْمد أَنه لَا يطوف حَتَّى يخرج إِلَى منى وعرفات ثمَّ يرجع فيطوف كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس. وَعَن أَحْمد رِوَايَة كمذهب ابْن عمر. [15] وَقَوله: إِن كنت صَادِقا، ورع مِنْهُ لِئَلَّا يذكر ابْن عَبَّاس بِشَيْء مَا ثَبت عَنهُ
1241 - / 1516 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: " لَا تغلبنكم(2/600)
الْأَعْرَاب على اسْم صَلَاتكُمْ. أَلا إِنَّهَا الْعشَاء فِي كتاب الله. وهم يعتمون بحلاب الْإِبِل ". [15] الْعشَاء: أول ظلام اللَّيْل، وَذَلِكَ يكون من حِين غيبوبة الشَّفق. قَالَ الْخَلِيل: الْعَتَمَة من اللَّيْل بعد غيبوبة الشَّفق، وعتم الْقَوْم: سَارُوا فِي ذَلِك الْوَقْت. فعلى هَذَا يكون الْمَكْرُوه تَغْيِير الإسم، وَلذَلِك قَالَ: " إِنَّهَا الْعشَاء فِي كتاب الله تَعَالَى " يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى: " وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء} [النُّور: 58] وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يعتمون. من عتم اللَّيْل وعتمته: ظلامه. يُقَال: قد عتم اللَّيْل يعتم، وأعتم النَّاس: دخلُوا فِي ظلمَة اللَّيْل، وَإِنَّمَا سميت عتمة باسم عتمة اللَّيْل وَهِي ظلامه، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا يَقع هَذَا الِاسْم على حلاب الْإِبِل لَا على الصَّلَاة. قَالَ الْأَزْهَرِي: معنى الحَدِيث لَا يَغُرنكُمْ فعلهم هَذَا عَن صَلَاتكُمْ فتؤخروها، وَلَكِن صلوها إِذا كَانَ وَقتهَا. وَقد سبق فِي مُسْند عبد الله ابْن مُغفل: " لَا يغلبنكم الْأَعْرَاب على اسْم صَلَاتكُمْ الْمغرب ". فَيجمع الحديثان الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا.
1242 - / 1517 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: دخل ابْن عمر على ابْن عَامر يعودهُ فَقَالَ: أَلا تَدْعُو لي، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور، وَلَا صَدَقَة من غلُول "(2/601)
وَكنت على الْبَصْرَة. [15] ابْن عَامر اسْمه عبد الله، وَهُوَ مَذْكُور فِي الصَّحَابَة، وَقد ذكر فِي الصَّحَابَة رجلَانِ اسْم كل وَاحِد مِنْهُمَا عبد الله بن عَامر، فَلَا بُد من بَيَان هَذَا من هَذَا: [15] أَحدهمَا: عبد الله بن عَامر بن ربيعَة بن مَالك الْعَدوي، ولد على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبلغ خمس سِنِين أَو سِتّ سِنِين، وَتُوفِّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد رُوِيَ أَنه سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وروى عَنهُ، وَلَا يَصح. قَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: ولد فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسمع مِنْهُ. [15] وَالثَّانِي: عبد الله بن عَامر بن كريز بن ربيعَة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد منَاف، ولد بِمَكَّة بعد الْهِجْرَة بِأَرْبَع سِنِين، فَلَمَّا قدم سَوَّلَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة فِي عمْرَة الْقَضَاء سنة سبع حمل إِلَيْهِ وَهُوَ ابْن ثَلَاث سِنِين، فحنكه، فتلمظ وتئاءب، وتفل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فِيهِ، فَلهُ رُؤْيَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَلَمَّا ولي عُثْمَان الْخلَافَة ولاه الْبَصْرَة؛ لِأَنَّهُ كَانَ ابْن خَال عُثْمَان؛ لِأَن أم عُثْمَان أروى بنت كريز، فَكَانَ يَوْم ولاه ابْن خمس وَعشْرين سنة. ثمَّ ولاه مُعَاوِيَة بعد عُثْمَان الْبَصْرَة أَيْضا، وَهُوَ الَّذِي جرت لَهُ هَذِه الْقِصَّة مَعَ ابْن عمر.(2/602)
[15] وَالطهُور هُوَ الطَّاهِر فِي نَفسه المطهر لغيره، فَهُوَ من الْأَسْمَاء المتعدية كضروب وشتوم، هَذَا مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ الْحَنَفِيَّة وَدَاوُد: هُوَ من الْأَسْمَاء اللَّازِمَة بِمَعْنى الطَّاهِر. [15] وأصل الْغلُول أَخذ شَيْء من الْمغنم فِي خُفْيَة، يخان فِيهِ من لَهُ فِيهِ حق. وَلما كَانَ الْوَالِي قد يستأثر بِشَيْء خَافَ أَن يكون فعل ذَلِك، فخوفه الْحَال، فَكَأَنَّهُ يَقُول لَهُ: إِن كنت ظلمت فَمَا ينفعك دعائي.
1243 - / 1518 وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: فَإِن مَعَه القرين. يَعْنِي الشَّيْطَان.
1244 - / 1520 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَوَى على بعيره خَارِجا إِلَى سفر كبر ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ: " سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين ". [15] سخر بِمَعْنى ذلل لنا هَذَا المركوب نجري بِهِ حَيْثُ نشَاء. [15] والمقرن: المطيق، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال: أَنا مقرن لَك: أَي مطيق لَك. قَالَ: وَيُقَال: هُوَ من قَوْلهم: أَنا قرن لفُلَان: إِذا كنت مثله فِي الشدَّة، فَإِذا قلت: أَنا قرن لفُلَان بِفَتْح الْقَاف فَمَعْنَاه أَن يكون مثله فِي السن.(2/603)
[15] قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مُقرنين: أَي ضابطين، يُقَال: فلَان مقرن لفُلَان: أَي ضَابِط لَهُ. [15] وَقَوله: اطو لنا الْبعيد وَذَلِكَ يكون بتقصير الْمسَافَة. [15] وَأما الوعثاء فَقَالَ أَبُو عبيد: الوعثاء: شدَّة النصب وَالْمَشَقَّة. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي المآثم. وَاصل الوعثاء من الوعث: وَهُوَ الدهس، يَعْنِي الرمل الْكثير، وَالْمَشْي يصعب فِيهِ على صَاحبه، فَصَارَ مثلا لكل مَا يشق على فَاعله. [15] وَقَوله: " كآبة المنظر " هُوَ سوء الْحَال والانكسار من الْحزن " والمنقلب ": الرُّجُوع.
1245 - / 1521 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: " لَك مماتها ومحياها " الْمَعْنى لَا يملك حَيَاتهَا وموتها إِلَّا أَنْت.
1246 - / 1522 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: " من ضرب غُلَاما لَهُ حدا لم يَأْته أَو لطمه فَإِن كَفَّارَته أَن يعتقهُ ". [15] إِذا ضرب الْإِنْسَان مَمْلُوكه على هَذَا الْوَصْف كَانَ ظلما، فَلَمَّا بسط يَده إِلَيْهِ ظلما جعلت كَفَّارَة لطمه رفع يَده.
1247 - / ... وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: " إِن الْفِتْنَة من(2/604)
حَيْثُ يطلع قرنا الشَّيْطَان " وَقد فسرنا هَذَا فِي هَذَا الْمسند.(2/605)
(77) كشف الْمُشكل من مُسْند جَابر بن عبد الله بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ
شهد الْعقبَة مَعَ السّبْعين، وَأَرَادَ شُهُود بدر فخلفه أَبوهُ على حفظ أخواته، وَكن تسعا، وَخَلفه أَيْضا يَوْم أحد، ثمَّ شهد مَا بعد ذَلِك.
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف حَدِيث وخمسائة وَأَرْبَعُونَ.
أخرج لَهُ مِنْهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِائَتَان وَعشرَة.
1248 - / 1543 - فِي الحَدِيث الأول: ((فَجلى الله لي بَيت الْمُقَدّس)) أَي كشفه وأظهره.
1249 - / 1524 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي.
أصل الفترة: السّكُون. يُقَال: فتر الشَّيْء يفتر فتورا: إِذا سكنت حِدته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا. وطرف فاتر: لَيْسَ بحديد. وَكَانَ الْوَحْي قد جَاءَ ثمَّ انْقَطع.
وحراء قد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
والكرسي فِي اللُّغَة: كل شَيْء تراكب، وَمِنْه الكراسة، لتراكب(3/5)
بعض وَرقهَا على بعض، قَالَ العجاج:
(يَا صَاح هَل تعرف رسما مكرسا ... )
أَي تكارس عَلَيْهِ التُّرَاب فغطاه. فَسُمي الْكُرْسِيّ كرسيا لتركيب بعضه على بعض. وَفِيه لُغَتَانِ: ضم الْكَاف، قَالَ الْفراء: وَهِي لُغَة عَامَّة الْعَرَب. وتكسر الْكَاف، وَالرَّفْع أَجود.
وَأما الْعَرْش فَهُوَ السرير.
والهواء مَمْدُود، فَإِذا قصرته فَهُوَ هوى النَّفس.
وَقَوله: فجئثت، الْيَاء الْمُعْجَمَة بِاثْنَتَيْنِ قبل الثَّاء، وَالْمعْنَى: فرقت. وجثثت بثاءين مثله. وَرجل مجؤوث ومجثوث ومزؤود: وَهُوَ المرعوب، وَقد جئث وجث وزئد. وَقد صحفه بَعضهم فَقَالَ: جبنت، من الْجُبْن، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.
والرعب: الْفَزع.
وهويت: وَقعت.
وَقَوله: ((زَمِّلُونِي)) كل ملتف بِثَوْبِهِ متزمل. والدثار: مَا يدثر بِهِ الْإِنْسَان فَوق الشعار.
وأصل المدثر المتدثر، فأدغمت التَّاء فِي الدَّال فَثقلَتْ.
وَقَوله: ((وَصبُّوا عَليّ مَاء)) كَأَنَّهُ خرج عَن الْبرد والقشعريرة الَّتِي(3/6)
تفْتَقر إِلَى الدثار، إِلَى الْحمى الَّتِي تحْتَاج إِلَى المَاء.
وَقَوله: {قُم فَأَنْذر} [المدثر: 2] الْإِنْذَار ك إِعْلَام مَعَ تخويف، وَالْمرَاد: خوف كفار مَكَّة نزُول الْعَذَاب بهم إِن لم يُؤمنُوا.
وَقَوله: {وَرَبك فَكبر} [المدثر: 3] أَي عظمه عَمَّا يَقُول عَبدة الْأَوْثَان.
وَقَوله: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي المُرَاد بالثياب على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الثِّيَاب الْحَقِيقِيَّة. ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ بتطهيرها على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْمَعْنى: لَا تلبسها على مَعْصِيّة وَلَا على غدرة، قَالَ غيلَان بن سَلمَة الثَّقَفِيّ:
(وَإِنِّي - بِحَمْد الله - لَا ثوب فَاجر ... لبست، وَلَا من غدرة أتقنع)
رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: لَا تكن ثِيَابك من كسب غير طَاهِر، رَوَاهُ عَطِيَّة عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: وثيابك فقصر وشمر، قَالَه طَاوس. وَالرَّابِع: اغسلها بِالْمَاءِ ونقها، قَالَه ابْن سِيرِين.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه كنى بالثياب عَن غَيرهَا، وَفِي المكني عَنهُ أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه النَّفس، فَالْمَعْنى: طهر نَفسك من الذَّنب، قَالَه مُجَاهِد وَقَتَادَة، وَيشْهد لَهُ قَول عنترة:
(فشككت بِالرُّمْحِ الْأَصَم ثِيَابه ... لَيْسَ الْكَرِيم على القنا بِمحرم)
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَإِنَّمَا كنى بالثياب عَن الْجِسْم لِأَنَّهَا تشْتَمل عَلَيْهِ،(3/7)
قَالَت ليلى الأخيلية:
(رَمَوْهَا بأثواب خفاف فَلَا ترى ... لَهَا شبها إِلَّا النعام المنفرا)
أَي رَكبُوهَا فرموها، وَالْعرب تَقول للعفاف إِزَار، لِأَن الْعَفِيف كَأَنَّهُ استتر لما عف. وَالثَّانِي: أَنه الْقلب، فَالْمَعْنى: وقلبك فطهر، قَالَه سعيد بن جُبَير، وَيشْهد لَهُ قَول امْرِئ الْقَيْس:
(فَإِن تَكُ قد ساءتك مني خَلِيقَة ... فسلي ثِيَابِي من ثِيَابك تنسل)
أَي قلبِي من قَلْبك. وَالثَّالِث: أَنه الْخلق، وَالْمعْنَى: وخلقك فَحسن، قَالَه الْحسن، وَالرَّابِع: أَنه الْعَمَل، فَالْمَعْنى: وعملك فَأصْلح، قَالَه الضَّحَّاك.
وَفِي (الرجز) سِتَّة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الْأَصْنَام. وَالثَّانِي: الْإِثْم، رويا عَن ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِث: الشّرك، قَالَه ابْن جُبَير. وَالرَّابِع: الذَّنب، قَالَه الْحسن. وَالْخَامِس: الْعَذَاب، قَالَه ابْن السَّائِب، قَالَ الزّجاج: وَالْمعْنَى: اهجر مَا يُؤَدِّي إِلَى عَذَاب الله. وَالسَّادِس: الشَّيْطَان، قَالَه ابْن كيسَان.
وَقَوله: ثمَّ حمي الْوَحْي: أَي كثر وتتابع.(3/8)
وَقَول جَابر: أول مَا نزل من الْقُرْآن: {يَا أَيهَا المدثر} سَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند عَائِشَة: أَن أول مَا سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جِبْرِيل {اقْرَأ باسم رَبك} فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: ((زَمِّلُونِي)) فَيحْتَمل أَن جَابِرا لم يسمع أول الْقِصَّة.
والمجاورة: الْإِقَامَة.
وَقَوله: ((فَأَخَذَتْنِي رَجْفَة)) وَهِي الإضطراب، وَقد رَوَاهُ قوم: وجفة بِالْوَاو، من قَوْله تَعَالَى: {قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة} [النازعات: 8] فالواجف: المضطرب. غير أَن الَّذِي سمعناه بالراء.
1250 - / 1525 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نجني الكباث، فَقَالَ: ((عَلَيْكُم بالأسود مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ أطيب)) فَقلت: أَكنت ترعى الْغنم؟ قَالَ: ((نعم، وَهل من نَبِي إِلَّا رعاها)) .
قَالَ الْأَصْمَعِي: البرير: ثَمَر الْأَرَاك، فالغض مِنْهُ المرد، والنضيج الكباث وأسوده أشده نضجا.
وَأما رعي الْغنم فَكَأَنَّهُ تمهيد لمداراة النَّاس، فَلذَلِك قدر للأنبياء.
أَو كَأَنَّهُ يُشِير بِهَذَا إِلَى أَن الْأَنْبِيَاء لم يَكُونُوا ملوكا، وَإِنَّمَا كَانَت النُّبُوَّة عِنْد المتواضعين من أَصْحَاب الْحَرْف.
1251 - / 1526 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَنه غزا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/9)
قبل نجد، فَلَمَّا قفل أدركتهم القائلة فِي وَاد كثير العضاه.
قد سبق معنى نجد، والعضاه، وَأَنه شجر من شجر الشوك كالطلح.
والسمرة: شَجَرَة الطلح.
وَاخْتَرَطَ السَّيْف: استله من غمده.
والصلت: الْوَاضِح. يُقَال: جبين صلت: إِذا كَانَ وَاضحا.
وَذَات الرّقاع: غزَاة. وَقد بَينا سَبَب تَسْمِيَتهَا بذلك فِي مُسْند أبي مُوسَى وَغَيره.
والغرة: الْغَفْلَة.
وَقَوله: أتخافني؟ فَقَالَ: ((لَا)) . يُشِير بذلك إِلَى أَنِّي إِنَّمَا أَخَاف الله وَحده. وَلَو انزعج الطَّبْع كَانَ انزعاجا من قدر الله وتسليطه لَا من الشَّخْص. وَسُقُوط السَّيْف من يَده بَيَان أثر التَّوَكُّل.
وَقد سمي هَذَا الرجل فِي الحَدِيث، وَهُوَ غورث بن الْحَارِث.
وَقد سبق ذكر صَلَاة الْخَوْف فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة.
1252 - / 1527 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: فقمنا إِلَى بطحان.
قد بَينا فِيمَا تقدم أَن كل مَكَان متسع يُقَال لَهُ بطحاء وأبطح وبطحان وبطيحة.(3/10)
1253 - / 1528 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعمرى لمن وهبت لَهُ.
الْعُمْرَى فِي العطايا: أَن يَقُول الرجل لصَاحبه: قد أَعطيتك هَذِه الدَّار عمرك أَو عمري.
وعقب الرجل: وَلَده وَولد وَلَده.
والبتلة: المنقطعة. يُقَال: بتلت الشَّيْء: إِذا أبنته عَن غَيره، وَمِنْه: طَلْقَة بتلة.
قَالَ أَبُو عبيد: كَانَ الرجل يُرِيد أَن يتفضل على صَاحبه بالشَّيْء فيستمتع بِهِ مَا دَامَ حَيا، فَإِذا مَاتَ الْمَوْهُوب لَهُ لم يصل إِلَى ورثته مِنْهُ شَيْء، فَجَاءَت سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِنَقْض ذَلِك، وَحكم بِأَن من ملك شَيْئا حَيَاته فَهُوَ لوَرثَته من بعده.
وَقد اخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْعُمْرَى: فعندنا أَنَّهَا تمْلِيك للرقبة، فَإِذا قَالَ: أعمرتك دَاري هَذِه، أَو جَعلتهَا لَك عمري أَو عمرك فقد ملكهَا المعمر، فَإِذا مَاتَ انْتَقَلت إِلَى ورثته، وَسَوَاء قَالَ لَهُ: ولعقبك أَو أطلق، وَإِن لم يكن لَهُ وَارِث كَانَت لبيت المَال، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ مَالك: الْعُمْرَى تمْلِيك للمنافع، فَإِذا مَاتَ المعمر رجعت إِلَى المعمر، فَإِذا قَالَ فِيهَا: ولعقبك، فانقرض عقبه عَادَتْ إِلَى المعمر.(3/11)
1254 - / 1530 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أذن فِي لُحُوم الْخَيل.
هَذَا صَرِيح فِي جَوَاز أكل لحومها، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يحل، ويروى عَن مَالك كراهيته.
1255 - / 1531 - فِي الحَدِيث التَّاسِع: فَحَثَا لي حثية.
الحثية: مَا أَخذ بالكف مبسوطة.
1256 - / 1532 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَ يُصَلِّي الظّهْر بالهاجرة.
الهاجرة والهجير: نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر.
وَقَوله: وَالشَّمْس نقية. أَي لم يتَغَيَّر لَوْنهَا، فَإِنَّهُ كلما قرب الْمسَاء ضعف نورها وَتغَير.
وَوَجَبَت: سَقَطت للغروب.
والغلس: ظلام آخر اللَّيْل.
1257 - / 1533 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر، فَرَأى رجلا قد اجْتمع النَّاس عَلَيْهِ وَقد ظلل عَلَيْهِ، فَقَالَ: ((مَاله؟)) قَالُوا: رجل صَائِم. فَقَالَ: ((لَيْسَ من الْبر أَن تَصُومُوا فِي السّفر)) .(3/12)
اعْلَم أَن السّفر مَظَنَّة الْمَشَقَّة، فَإِذا ضم إِلَيْهِ الصَّوْم زَادَت الْمَشَقَّة، وَمَا زَالَ الشَّرْع يتلطف. وَمن لَقِي فِي صَوْمه فِي السّفر مَا لَقِي هَذَا الرجل فَلَيْسَ من الْبر صَوْمه. فَأَما المطيق الصَّوْم فَلَا يكره صَوْمه، وَهل فطره أفضل من الصَّوْم؟ قد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند أبي الدَّرْدَاء.
1258 - / 1534 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ((من أكل ثوما أَو بصلا فليعتزلنا أَو ليعتزل مَسْجِدنَا)) ، وَفِي رِوَايَة: أُتِي بِقدر فِيهِ خضرات من بقول.
قد سبق الْكَلَام فِي الثوم والبصل فِي مُسْند ابْن عمر وَفِي مُسْند أبي أَيُّوب.
وَقَوله: أُتِي بِقدر. كَذَا وَقع فِي الحَدِيث. وَالصَّوَاب ببدر بِالْبَاء، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي ((السّنَن)) عَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب، قَالَ ابْن وهب: وَهُوَ الطَّبَق. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: سمي الطَّبَق بَدْرًا لاستدارته وَحسن اتساقه تَشْبِيها بالقمر إِذا امْتَلَأَ نورا.
وَأما تأذي الْمَلَائِكَة فَإِنَّهُ قد رُوِيَ أَنهم يَجدونَ الرّيح دون الطّعْم.
وَقد روينَا عَن سلمَان الْفَارِسِي: أَنه أَمر زَوجته أَن تنضح حوله عِنْد مَوته الْمسك، وَقَالَ يأتيني زوار يَجدونَ الرّيح وَلَا يَأْكُلُون الطَّعَام.
1259 - / 1535 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ذكر صَلَاة النَّافِلَة إِلَى(3/13)
غير الْقبْلَة. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
1260 - / 1536 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: نهى عَن المخابرة والمحاقلة والمزابنة.
هَذِه الْأَشْيَاء قد فسرت فِي الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو عبيد فِي المخابرة مَا كتبناه فِي مُسْند رَافع بن خديج. وَقد فسرنا المحاقلة والمزابنة فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: عَن بيع الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه. قد سبق تَفْسِيره فِي مُسْند زيد بن ثَابت. وفسرنا هُنَاكَ الْعَرَايَا.
وَقَوله: حَتَّى يشْتَد ويشقح، تَفْسِيره فِي الحَدِيث: حَتَّى يحمار أَو يصفار. قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا يُقَال يحمار ويصفار لِأَنَّهُ لم يرد بِهِ اللَّوْن الْخَالِص، وَإِنَّمَا يسْتَعْمل ذَلِك فِي اللَّوْن المتميل، يُقَال: مَا زَالَ وَجهه يحمار ويصفار: إِذا كَانَ مرّة يضْرب إِلَى حمرَة وَمرَّة يضْرب إِلَى صفرَة. فَإِذا أَرَادَ أَنه قد اسْتَقر على حَالَة قَالُوا: يحمر ويصفر.
وَأما المعاومة فَهِيَ بيع السنين، وَذَلِكَ أَن يَبِيع الرجل مَا تثمره النَّخْلَة أَو النخلات سنتَيْن وَثَلَاثًا وأربعا، وَهَذَا غرر؛ لِأَنَّهُ يَبِيع شَيْئا(3/14)
غير مَوْجُود وَلَا مَخْلُوق، فَلَا يدرى أَيكُون أم لَا؟
والثنيا: أَن يَبِيع ثَمَر بستانه ويستثني مِنْهُ جُزْءا غير مَعْلُوم، فَإِن اسْتثْنى آصعا مَعْلُومَة من ثَمَر الْبُسْتَان، وأرطالا من نَخْلَة، فَهَل يَصح؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ.
1261 - / 1537 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: الصَّلَاة على النَّجَاشِيّ. وَقد تقدم هَذَا فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
1262 - / 1538 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((من كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها أَو ليمنحها أَخَاهُ)) .
أصل المنحة الْعَطِيَّة: ثمَّ قد يكون عَطِيَّة للْأَصْل وعطية للمنفعة.
وَقَوله: نهى عَن كِرَاء الأَرْض. إِنَّمَا حث بذلك على إرفاق الْقَوْم بَعضهم بِبَعْض.
وَقد سبق ذكر هَذَا وَذكر المخابرة فِي مُسْند رَافع بن خديج، وَبينا هُنَاكَ أَن الحقل: المزرعة، وَالْمعْنَى: نهى عَن الحقول أَن تكرى.
والقصري على وزن: ((الْفعْلِيّ)) لُغَة أهل الشَّام، وَبَعْضهمْ يَقُول: قصرى على وزن: ((فعلى)) ، وَقوم يَقُولُونَ: القصارة: وَهُوَ مَا يبْقى(3/15)
فِي السنبل من الْحبّ بَعْدَمَا يداس.
وَالْأَرْض الْبَيْضَاء: مَا لَا شجر فِيهِ وَلَا زرع.
والمزابنة سبقت فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَبيع السنين فِي الحَدِيث الَّذِي قبل هَذَا.
1263 - / 1539 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: كُنَّا نعزل على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الْعَزْل: عزل المَاء عَن الْفرج بالإنزال خَارِجا مِنْهُ عِنْد الْجِمَاع. وَهُوَ جَائِز، إِلَّا أَنه إِن كَانَت الْمَوْطُوءَة حرَّة لم يجز الْعَزْل إِلَّا بِإِذْنِهَا، وَإِن كَانَت أمة لم يجز إِلَّا بِإِذن سَيِّدهَا.
والساقية: الَّتِي تَسْقِي المَاء.
1264 - / 1540 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: كُنَّا نَأْكُل من لُحُوم بدننا فَوق ثَلَاث، فأرخص لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((كلوا وتزودوا)) .
إِنَّمَا امْتَنعُوا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام نَهَاهُم عَن الإدخار مِنْهَا فَوق ثَلَاث، وَكَانَ سَبَب ذَلِك قوم من الْفُقَرَاء قدمُوا الْمَدِينَة، فأرادوا أَن يواسوهم،(3/16)
ثمَّ أباحهم بعد ذَلِك، وَقد بَين الْعلَّة فِي الْمَنْع فِي مُسْند عَائِشَة.
1265 - / 1541 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((إِن الله وَرَسُوله حرم بيع الْخمر وَالْميتَة وَالْخِنْزِير)) .
أما بيع الْخمر فَبَاطِل بِالْإِجْمَاع، وَثمنهَا حرَام، وَكَذَلِكَ الْميتَة وَثمنهَا وَبيع جلدهَا قبل أَن يدبغ، فَأَما إِذا دبغ فَإِنَّهُ يطهر عِنْد كثير من الْعلمَاء. وَقد بَينا مَا يطهر من الْجُلُود فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَبيع الْخِنْزِير حرَام.
وَأما الْأَصْنَام فَمَا دَامَت صورا فبيعها بَاطِل، فَإِذا محيت صورها وبيعت أُصُولهَا المعمولة مِنْهَا جَازَ. وَكَذَلِكَ كل الصُّور بيعهَا بَاطِل، إِلَّا أَن تكون الصُّورَة تَابِعَة لما هِيَ عَلَيْهِ كالصورة فِي الثَّوْب.
قَوْله: ((فأجملوها)) قد سبق فِي مُسْند عمر أَنه يُقَال: جملت وأجملت: إِذا أذبت الشَّحْم.
1266 - / 1542 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: ((إِذا استجنح اللَّيْل - أَو كَانَ جنح اللَّيْل - فكفوا صِبْيَانكُمْ، فَإِن الشَّيَاطِين تَنْتَشِر حِينَئِذٍ)) .
جنح اللَّيْل وجنحه بِالضَّمِّ وَالْكَسْر: طَائِفَة مِنْهُ، واستجنح من ذَلِك، وَالْمعْنَى: اشتدت ظلمته.
وَقَوله: ((فكفوا صِبْيَانكُمْ)) وَقد جَاءَ فِي لفظ آخر: ((فاكفتوا(3/17)
صِبْيَانكُمْ)) وَالْمعْنَى: ضموهم إِلَيْكُم فِي الْبيُوت، وَإِنَّمَا خيف على الصّبيان خَاصَّة لشيئين: أَحدهمَا: أَن النَّجَاسَة الَّتِي تلوذ بهَا الشَّيَاطِين مَوْجُودَة مَعَهم. وَالثَّانِي: أَن الذّكر الَّذِي يستعصم بِهِ مَعْدُوم عِنْدهم. وَالشَّيَاطِين عِنْد انتشارهم يتعلقون بِمَا يُمكنهُم التَّعَلُّق بِهِ، فَإِذا ذهبت سَاعَة اشْتغل كل مِنْهُم بِمَا اكْتسب، وَمضى إِلَى مَا قدر لَهُ التشاغل بِهِ.
قَوْله: ((وأوك سقاءك)) الإيكاء: الشد، والوكاء: اسْم لما يشد بِهِ فَم الْقرْبَة.
((وخمر إناءك)) أَي غطه. وَإِنَّمَا أَمر بِذكر الله تَعَالَى لِأَنَّهُ كالحرز والحافظ يدْفع الشَّيْطَان عَمَّا ذكر عَلَيْهِ.
وَقَوله: ((وَلَو تعرض عَلَيْهِ)) أَي: وَلَو أَن تعرض. وَتعرض بِضَم الرَّاء وَكسرهَا لُغَتَانِ، يُقَال: عرضت الشَّيْء أعرضه، بِكَسْر الرَّاء فِي قَول الْأَكْثَرين، والأصمعي يَقُوله بِالضَّمِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن السّكيت: عرضت الْعود على الْإِنَاء، أعرضه، وَعرضت السَّيْف على فَخذي أعرضه، كِلَاهُمَا بِضَم الرَّاء.
والفويسقة: الْفَأْرَة، وَسميت بذلك إِمَّا لخروجها، أَو لفعلها فعل الْفُسَّاق من الْفساد. وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند ابْن عمر عِنْد قَوْله: ((خمس فواسق)) .
وَقَوله: ((فَإِن الشَّيْطَان لَا يحل سقاء وَلَا يفتح وكاء)) وَهَذَا يدل على أَنه إِنَّمَا يتسلط على المفرط لَا على المتحرز، فللمفرط فِيهِ نصِيبه(3/18)
عَلَيْهِ تسلطه.
وَأما الفواشي فَكل شَيْء منتشر من المَال مثل الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم السَّائِمَة، وأصل قَوْلك: فَشَا الشَّيْء: ظهر وانتشر.
وَفَحْمَة الْعشَاء بِفَتْح الْحَاء وسكونها: شدَّة سَواد اللَّيْل وظلمته، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِي أول اللَّيْل.
والوباء: كَثْرَة الْمَوْت فِي النَّاس. يُقَال: أَرض وبئة وموبوءة.
وَإِذا خالط الْهَوَاء أبخرة رَدِيئَة حدث الوباء.
وَقَوله: ((أجيفوا الْأَبْوَاب)) . أَي أغلقوها.
1267 - / 1543 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: أَن رجلا أعتق غُلَاما عَن دبر، فَاحْتَاجَ، فَأَخذه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((من يَشْتَرِيهِ؟)) فَاشْتَرَاهُ نعيم بن عبد الله بِكَذَا وَكَذَا.
أما الرجل الْمُعْتق فيكنى أَبَا مَذْكُور، والغلام يكنى أَبَا يَعْقُوب.
ونعيم يُقَال لَهُ: النحام. وَمِقْدَار الثّمن الَّذِي بَاعه بِهِ كَانَ ثَمَانمِائَة دِرْهَم.
وتدبير العَبْد: عتقه عَن دبر من الْمُعْتق: أَي بعد إدبار عَن الدُّنْيَا بِالْمَوْتِ. وَاخْتلفت الرِّوَايَة [عَن أَحْمد] فِي بيع الْمُدبر: فَروِيَ عَنهُ: يجوز على الْإِطْلَاق، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَعنهُ: يجوز بِشَرْط أَن يكون على السَّيِّد دين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز بَيْعه إِذا كَانَ التَّدْبِير(3/19)
مُطلقًا، قَالَ مَالك: لَا يجوز بَيْعه حَال الْحَيَاة وَيجوز بعد الْمَوْت إِذا كَانَ على السَّيِّد دين.
وَقد تضمن الحَدِيث جَوَاز بيع مَال الْمُفلس عَلَيْهِ.
1268 - / 1544 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: نهى عَن الزَّبِيب وَالتَّمْر، والبسر وَالرّطب.
وَالْمعْنَى: أَن ينبذا جَمِيعًا، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا يتعاونان على الإشتداد.
وَذَلِكَ عندنَا مَكْرُوه، فَإِن وجد الإشتداد حرم. وَقد رُوِيَ عَن عَطاء وَطَاوُس التَّحْرِيم لظَاهِر الحَدِيث وَإِن لم يُوجد شدَّة.
1269 - / 1545 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج يَوْم الْفطر، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة.
قد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس سَبَب الْبِدَايَة بِالصَّلَاةِ قبل الْخطْبَة.
وَذكرنَا السَّبَب فِي أَنه لَا أَذَان لَهَا وَلَا إِقَامَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث حث على تذكير النِّسَاء.
وَقَوله: من سطة النِّسَاء: أَي من وسطهن.
وَقَوله: سفعاء الْخَدين. السفعاء: الَّتِي قد تغير لَوْنهَا إِلَى الكمودة والسواد من طول الأيمة، كَأَنَّهُ مَأْخُوذ من سفع النَّار، وَمِنْه(3/20)
الحَدِيث الآخر: ((أَنا وَامْرَأَة سفعاء الْخَدين كهاتين يَوْم الْقِيَامَة)) .
يَعْنِي أَن تِلْكَ الْمَرْأَة حبست نَفسهَا على أَوْلَادهَا تربيهم، وَتركت التزين والتصنع والتعرض للأزواج.
والأقرطة جمع قرط، والقرط: مَا علق فِي شحمة الْأذن.
1270 - / 1546 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: كنت على جمل ثفال.
الثفال: البطيء السّير والثقيل الْحَرَكَة.
وَقَوله: قد خلا مِنْهَا. أَي قد مضى من عمرها. وَالْمعْنَى: قد كَبرت وَخرجت عَن حد الشَّبَاب.
وَقَوله: ((فَهَلا جَارِيَة تلاعبها وتلاعبك)) أَرَادَ بالجارية الْبكر، وَقد جَاءَ فِي لفظ آخر. وَفِي الْبكر معَان: مِنْهَا: حَدَاثَة السن، وللنفس فِي ذَلِك حَظّ وافر. وَمِنْهَا: قُوَّة الْحَرَارَة الَّتِي تحرّك الْبَاءَة. وَمِنْهَا: أَن الْمَرْأَة يتَعَلَّق قَلبهَا بِأول زوج، إِذْ لم تعرف سواهُ، فَيكون ودها منصرفا إِلَيْهِ. وَمِنْهَا: أَن كثيرا من الطباع تنبو عَمَّن كَانَ لَهَا زوج.
وَمِنْهَا: التهيؤ للْوَلَد. وَمِنْهَا: أَن المداعبة تلِيق بالجواري دون غَيْرهنَّ، والمداعبة تبْعَث على اجْتِمَاع المَاء وكثرته، إِلَى غير ذَلِك من الْفَوَائِد.
وَقَوله: وَزَادَنِي قيراطا، هَذَا كَانَ هبة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ(3/21)
خَارِجا عَن ععقد البيع، فَلذَلِك تبرك بِهِ.
والناضج: مَا استقي عَلَيْهِ، وَالْجمع نواضح.
والعروس قد بَيناهُ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: أَعْطَانِي ثمنه ورده عَليّ. هَذَا من أحسن الْكَرم، وَهُوَ أَن من بَاعَ شَيْئا فَالظَّاهِر أَنما يَبِيعهُ للْحَاجة إِلَى ثمنه، ولولاها مَا أخرجه عَن يَده، فَإِذا تعوض عَنهُ بِالثّمن بَقِي فِي قلبه أَسف فِرَاقه، فَإِذا جبر برد الثّمن أَتَاهُ مَا لم يكن فِي حسبانه، فَزَاد فرحه.
وَقَوله: أفقرني ظَهره: أَي أعارني فقاره لأركبه. والفقار: الظّهْر
وَقَوله: فَبِعْته على أَن لي ظَهره إِلَى الْمَدِينَة. فِيهِ دَلِيل على جَوَاز اشْتِرَاط مَنْفَعَة الْمَبِيع مُدَّة مَعْلُومَة. وَمثله أَن يَبِيع دَارا وَيشْتَرط سكناهَا شهرا، أَو عبدا وَيشْتَرط خدمته سنة، أَو يَشْتَرِي فلعة فَيشْتَرط على البَائِع حذوها نعلا، أَو جرزة حطب فَيشْتَرط عَلَيْهِ حملهَا. هَذَا مَذْهَبنَا خلافًا لأكثرهم فِي أَن هَذَا لَا يجوز، إِلَّا أَن أَبَا حنيفَة قد وَافق فِي الفلعة والجرزة، وَمَالك فِي الزَّمَان الْيَسِير دون الْكثير.
وَقَوله: فَبِعْته بأوقية. وَفِي لفظ: بِخمْس أواقي. قَالَ الْخطابِيّ: الأواقي مَفْتُوحَة الْألف مُشَدّدَة الْيَاء غير مصروفة، جمع أُوقِيَّة مثل(3/22)
أضْحِية وأضاحي، وَبُخْتِيَّة وبخاتي، وَرُبمَا خفف فَقيل: أَوَاقٍ وأضاح. وَالْأُوقِية أَرْبَعُونَ درهما، والعامة تَقول: خمس آواق ممدودة الْألف بِغَيْر يَاء وَإِنَّمَا الآواق جمع أوق. قلت: والأوق: الثّقل، يُقَال: ألْقى عَلَيْهِ أوقه.
وَقَوله: فزادني أُوقِيَّة. هَذَا من جنس مَا ذكرنَا من هِبته للبعير، فَإِن الْكَرِيم يُعْطي مَا يتَعَلَّق بِهِ الأمل وَيزِيد.
والقطوف: البطىء الْمَشْي.
وَقَوله: فَنَخَسَ بَعِيري: أَي دَفعه ضربا بِطرف العنزة: وَهِي فَوق الْعَصَا وَدون الرمْح، كالحربة. والمحجن: عَصا فِي طرفها انعقاف.
وَقَوله: ((حَتَّى تمتشط الشعثة)) الشعث: تلبد الشّعْر وتوسخه لبعد الدّهن عَنهُ.
قَوْله: ((وتستحد المغيبة)) الإستحداد: اسْتِعْمَال الْحَدِيد فِي الْحلق، ثمَّ اسْتعْمل فِي حلق الْعَانَة. قَالَ أَبُو عبيد: الإستحداد: استحلاق بالحديد، وَكَانُوا لَا يعْرفُونَ النورة. قلت: وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى: تفعل مَا يفعل المستحد. والمغيبة: الَّتِي غَابَ عَنْهَا زَوجهَا. يُقَال: أغابت الْمَرْأَة فَهِيَ مغيبة: إِذا غَابَ عَنْهَا الزَّوْج.
وَقَوله: ((فَلَا يطْرق أَهله لَيْلًا)) الطروق: إتْيَان الْمنَازل بِاللَّيْلِ خَاصَّة.(3/23)
وَقَوله: ((لِئَلَّا يتخونهم) أَي يتتبع خيانتهم ونقصانهم. وأصل التخون التنقص، يُقَال. فلَان يتخونني حَقي: أَي ينقصني.
وَقَوله: ((فَإِذا قدمت فالكيس الْكيس)) الْكيس: الْعقل، وَكَأَنَّهُ أمره بِاسْتِعْمَال الْحلم والمداراة للأهل، وَذَلِكَ مُقْتَضى الْعقل. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الْكيس: الْجِمَاع، والكيس: الْعقل. فَكَأَنَّهُ جعل طلب الْوَلَد بِالْجِمَاعِ عقلا، وكنى بِهِ عَن الْجِمَاع. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عبيد: ذهب بِهَذَا إِلَى طلب الْوَلَد وَالنِّكَاح. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَيحْتَمل أَن يكون أمره بالتوقي والحذر من إِصَابَة أَهله إِذا كَانَت حَائِضًا لطول غيبته.
والجمل الأرمك: الَّذِي لَونه يضْرب إِلَى الكدرة.
وَقَوله: لَيْسَ فِيهِ شية: أَي لَا لون فِيهِ يُخَالف كدرته، بل كُله لون وَاحِد، قَالَ الزّجاج: الوشي فِي اللُّغَة: خلط لون بلون، يُقَال: وشيت الثَّوْب أشيه شية ووشيا.
والبلاط: كل شَيْء فرشت بِهِ الْمَكَان من حجر أَو غَيره، ثمَّ يُسمى الْمَكَان بلاطا لما فِيهِ من ذَلِك، على الْمجَاز، وَالْأَصْل ذَلِك.
وَقَوله: ((مَالك والعذارى؟)) يَقُول: لم تركت العذارى؟ والعذارى جمع عذراء: وَهِي الْبكر لم تفتض. والعذرة: مَا يهتك بالإفتضاض. واللعاب: اللّعب.(3/24)
وصرار: اسْم مَوضِع.
وَقَوله: ((عَلَيْك بِذَات الدّين)) هَذِه كلمة مَعْنَاهَا الْحَث والتحريض.
وَقَوله: ((تربت يداك)) يُقَال: ترب الرجل: إِذا افْتقر، وأترب: إِذا اسْتغنى. وَقد ذكر أَبُو عبيد فِي قَوْله: ((تربت يداك)) ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن تربت بِمَعْنى افْتَقَرت، وَأَنَّهَا كلمة تَقُولهَا الْعَرَب وَلَا تقصد الدُّعَاء على الشَّخْص، كَقَوْلِهِم: عقرى حلقى. وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: نزل بك الْفقر عُقُوبَة أَن تعديت ذَات الدّين إِلَى ذَات الْجمال وَالْمَال، وَالثَّالِث: أَن تربت بِمَعْنى استغنت، وَمن الْغنى، وَاخْتَارَ القَوْل الأول وَخطأ الْأَخير. وَالَّذِي اخْتَارَهُ هُوَ الصَّحِيح، وَالَّذِي خطأه كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ لَا يعرف ترب بِمَعْنى اسْتغنى، إِنَّمَا يُقَال: أترب: إِذا اسْتغنى.
1271 - / 1547 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: ذكر التَّمَتُّع فِي الْحَج، فَقَالَ سراقَة: ألنا هَذِه خَاصَّة أم لِلْأَبَد؟ فَقَالَ: ((بل لِلْأَبَد)) .
قد ذكرنَا فِيمَا تقدم الْكَلَام فِي مُتْعَة الْحَج. وَذكرنَا قَول سراقَة: ألنا خَاصَّة؟ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَذكرنَا فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة أَيْضا.(3/25)
وعركت بِمَعْنى: حَاضَت.
وَلَيْلَة الحصبة: هِيَ اللَّيْلَة الَّتِي ينزل النَّاس المحصب عِنْد انصرافهم من منى إِلَى مَكَّة.
وَقَوله: ((أبتوا نِكَاح هَذِه النِّسَاء. قد سبق فِي مُسْند عمر.
وَقَول جَابر: تَمَتعنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر. تَأَوَّلَه مُسلم بن الْحجَّاج على مُتْعَة النِّسَاء وَيدل على تَأَوَّلَه حَدِيث سَيَأْتِي بعد خمس وَسِتِّينَ حَدِيثا من أَفْرَاد ((مُسلم)) فِي هَذَا الْمسند وَهَذَا مَحْمُول من فعله على أَنه من لم يبلغهُ النَّهْي عَنهُ، وَإِلَّا فَهَذَا مَنْسُوخ، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمر.
1272 - / 1548 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: ((إِنَّمَا الْمَدِينَة كالكير تَنْفِي خبثها وينصع طيبها)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: قد قيل: إِن الْكِير: الزق الَّذِي ينْفخ فِيهِ الْحداد على الْحَدِيد. والكور مَا كَانَ مَبْنِيا من طين.
وينصع: يخلص. وناصع كل شَيْء: خالصه.
1273 - / 1550 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ندب النَّاس يَوْم الخَنْدَق. وَفِي رِوَايَة: يَوْم الْأَحْزَاب. وَفِي رِوَايَة: يَوْم(3/26)
قُرَيْظَة، فَانْتدبَ الزبير.
اعْلَم أَن يَوْم الخَنْدَق هُوَ يَوْم الْأَحْزَاب، وَهُوَ يَوْم بني قُرَيْظَة. وَلَيْسَ الْإِشَارَة إِلَى يَوْم بِعَيْنِه، فَإِن ذَلِك كَانَ فِي أَيَّام، وَالْعرب تَقول: يَوْم بُعَاث، وَيَوْم كَذَا، تُشِير إِلَى أَيَّام. وَلما انقشع عَسْكَر الْمُشْركين يَوْم الخَنْدَق قَالَ: ((لأصلين الْعَصْر فِي بني قُرَيْظَة)) .
وَقد بَينا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود معنى الْحوَاري.
1274 - / 1551 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: ((هَل لكم من أنماط)) .
الأنماط جمع نمط: وَهُوَ ضرب من الْبسط والفرش.
1275 - / 1552 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: كَانَت الْيَهُود تَقول: إِذا جَامعهَا من وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَد أَحول، فَنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم} [الْبَقَرَة: 223] .
الْإِشَارَة إِلَى الرَّد على الْيَهُود. وَمعنى الْآيَة: فَأتوا حَرْثكُمْ كَيفَ شِئْتُم، من بَين يَديهَا وَمن خلفهَا - وَالْمَقْصُود أَن زعم الْيَهُود محَال، وَبِهَذَا القَوْل ينْدَفع قَول من فسر ((أَنى)) بِغَيْر هَذَا.(3/27)
1276 - / 1553 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: رَأَيْت عمر يحلف بِاللَّه عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ابْن صائد الدَّجَّال فَلم يُنكره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
هَذَا لِأَن عمر حلف على غَالب ظَنّه، وَلم يكن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَيَقَّن خلاف ذَلِك، فَلذَلِك سكت عَن الْإِنْكَار.
1277 - / 1554 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: ((رَأَيْتنِي دخلت الْجنَّة فَإِذا أَنا بالرميصاء)) .
الرميصاء هِيَ أم أنس بن مَالك، وَسَيَأْتِي ذكرهَا فِي مسندها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَوله: ((وَسمعت خشفة)) قَالَ أَبُو عبيد: الخشفة: الصَّوْت لَيْسَ بالشديد، يُقَال خشف يخشف خشفا: إِذا سَمِعت لَهُ صَوتا وحركة.
وفناء الْبَيْت: مَا امْتَدَّ مَعَ الْبَيْت من جوانبه.
1278 - / 1555 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: جِيءَ بِأبي مسجى.
المسجى: المغطى المستور.
والمجدع: الْمَقْطُوع الْأنف وَالْأُذن. والتمثيل: قطع بعض(3/28)
الْأَعْضَاء وتشويه الْخلق.
1279 - / 1556 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ولد لرجل منا غُلَام فَسَماهُ الْقَاسِم، فَقُلْنَا: لَا نكنيك أَبَا الْقَاسِم وَلَا ننعمك عينا. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((تسموا باسمي وَلَا تكتنوا بكنيتي)) .
قَوْله: لاننعمك عينا: أَي لَا نقر عَيْنك بذلك، وَلَا نساعدك عَلَيْهِ.
وَقَوله: ((تسموا باسمي وَلَا تكتنوا بكنيتي)) بعض الْعلمَاء يرى أَن هَذَا كَانَ فِي زَمَانه. وَقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد: فَروِيَ أَنه يكره الْجمع بَين اسْمه وكنيته، فَإِن أفرد الكنية عَن الإسم لم يكره، وَرُوِيَ عَنهُ الْكَرَاهَة للْجمع والإفراد، وَرُوِيَ عَنهُ نفي الْكَرَاهَة فِي الْجُمْلَة.
1280 - / 1557 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فدققت الْبَاب، فَقَالَ: ((من ذَا؟)) فَقلت: أَنا: فَقَالَ: ((أَنا، أَنا)) كَأَنَّهُ كرهها.
اعْلَم أَن كَرَاهِيَة هَذِه الْكَلِمَة لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا لَيست بِجَوَاب قَوْله: ((من ذَا؟)) فَبَقيَ سُؤال الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي انْتظر جَوَابه بِلَا جَوَاب. ودق الْبَاب يَوْمًا على بعض الْعلمَاء فَقَالَ: من؟ فَقَالَ الداق: أَنا، فَقَالَ: هَذَا دق ثَان. وَالثَّانِي: أَن لَفْظَة أَنا من غير أَن يُضَاف إِلَيْهَا فلَان تَتَضَمَّن نوع كبر، كَأَنَّهُ يَقُول: أَنا الَّذِي لَا أحتاج(3/29)
أَن أسمي نَفسِي، أَو: أتكبر على تَسْمِيَتهَا، فَيكْرَه لهَذَا أَيْضا.
1281 - / 1558 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: لَا يَرِثنِي إِلَّا كَلَالَة، فَكيف الْمِيرَاث؟ فَنزلت آيَة الْفَرَائِض.
أما الْكَلَالَة فقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند عمر.
وَأما آيَة الْفَرَائِض فَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} [النِّسَاء: 11] .
وَقَوله: لَيْسَ بِرَاكِب بغل. يَعْنِي أَنه كَانَ مَاشِيا. والبرذون: نوع من الدَّوَابّ مَعْرُوف.
1282 - / 1559 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((اهتز الْعَرْش لمَوْت سعد بن معَاذ)) .
المُرَاد بالعرش هَا هُنَا عرش الله عز وَجل الَّذِي قَالَ فِيهِ: {ذُو الْعَرْش} [غَافِر: 15] . وَالْعرش فِي اللُّغَة: السرير، وَقد روى إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد عَن سعد الطَّائِي أَنه قَالَ: الْعَرْش: ياقوتة حَمْرَاء.
وَفِي معنى اهتزازه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه تحركه كاهتزاز الْفَرح، وَهَذَا الظَّاهِر. وَالثَّانِي: أَن معنى الإهتزاز: الاستبشار وَالسُّرُور، يُقَال: فلَان يَهْتَز للمعروف: أَي يستبشر وَيسر، وَإِن فلَانا لتأخذه للثناء(3/30)
هزة: أَي ارتياح وطلاقه، قَالَه ابْن قُتَيْبَة. وَقد أنكر قوم أَن يكون المُرَاد عرش الله عز وَجل، وَقَالُوا: هُوَ السرير الَّذِي حمل عَلَيْهِ، فروى ((البُخَارِيّ)) فِي هَذَا الحَدِيث أَن رجلا قَالَ لجَابِر: إِن الْبَراء يَقُول: اهتز السرير، فَقَالَ: إِنَّه كَانَ بَين هذَيْن الْحَيَّيْنِ ضغائن، سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((اهتز عرش الرَّحْمَن لمَوْت سعد بن معَاذ)) ويقصد بالحيين الْأَوْس والخزرج، والضغائن كَانَت بَينهم قبل الْإِسْلَام، وَكَانَ سعد من الْأَوْس والبراء من الْخَزْرَج، وكل مِنْهُم لَا يقر بِفضل صَاحبه عَلَيْهِ. والضغائن: الأحقاد والعداوة. ويروى عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: إِن الْعَرْش لَا يَهْتَز لمَوْت أحد، وَلكنه سَرِيره حمل عَلَيْهِ. فهذان الشخصان - أَعنِي الْبَراء وَابْن عمر - لاحظا تَعْظِيم الْعَرْش؛ فَإِن الله عز وَجل نسبه إِلَيْهِ نِسْبَة الصِّفَات فَقَالَ: {ذُو الْعَرْش} كَمَا قَالَ: {ذُو الرَّحْمَة} [الْأَنْعَام: 133] وَلَا شكّ فِي تَعْظِيمه، غير أَن الْمُؤمن أعظم، وَإِنَّمَا تَأَول مَا لَيْسَ بِصَرِيح، وعرش الرَّحْمَن لفظ صَرِيح لَا يحْتَمل التَّأْوِيل، وَلَو بلغهما هَذَا اللَّفْظ مَا تأولا. ثمَّ أَي فَخر فِي اهتزاز سَرِير؟ وكل سَرِير لمَيت يَهْتَز عِنْد تجاذب الرِّجَال إِيَّاه.
فَإِن قيل: مَا فَائِدَة اهتزاز الْعَرْش لمثل هَذِه الْأَشْيَاء؟ فَالْجَوَاب: أَن الله سُبْحَانَهُ لما كَانَ يفعل وَلَا ينفعل، إِذْ لَيْسَ بجسم وَلَا ذِي مزاج وطبع، أَرَادَ إِعْلَام خلقه وَمَلَائِكَته مقادير عظم الْحَوَادِث عِنْده، طَاعَة كَانَت أَو مَعْصِيّة، فيسلط الإنفعال على ذَوَات من خلقه تقبل الإنفعال، كزلزلة الأَرْض ودك الْجبَال واهتزاز الْعَرْش، ليعلم الْعَالم مِقْدَار ذَلِك عِنْده، والخالق سُبْحَانَهُ أبدا يُقيم الْمَخْلُوقَات للمخلوقين معالم(3/31)
ومناسك ومرابط، كالكعبة وَالْحجر، وَإِنَّمَا منع من التوسل بالأصنام، لِأَنَّهَا من وضع الْخلق لأَنْفُسِهِمْ.
1283 - / 1560 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: لما بنيت الْكَعْبَة ذهب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْعَبَّاس ينقلان الْحِجَارَة، فَقَالَ الْعَبَّاس للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَل إزارك على رقبتك، فَخر إِلَى الأَرْض، فطمحت عَيناهُ إِلَى السَّمَاء فَقَالَ: ((أَرِنِي إزَارِي)) فَمَا رئي بعد ذَلِك عُريَانا.
اعْلَم أَن الْكَعْبَة بقيت على بِنَاء الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام مُدَّة، ثمَّ انْهَدَمت فبنتها العمالقة ثمَّ مر عَلَيْهَا الدَّهْر فبنتها قُرَيْش، وَكَانَ بناؤها إِيَّاهَا وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُلَام، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لما بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحلم أجمرت امْرَأَة الْكَعْبَة فطارت شرارة فأحرقت ثِيَاب الْكَعْبَة، فوهى الْبَيْت، فنقضته قُرَيْش وبنته. فَلَمَّا أَرَادَ وضع الرُّكْن اخْتلفُوا فِيمَن يرفعهُ من الْقَبَائِل، فَاجْتمع رَأْيهمْ أَن يتحاكموا إِلَى أول دَاخل إِلَى الْمَسْجِد، فَدخل نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ غُلَام فحكموه، فَقَالَ: ((هاتوا ثوبا)) فَأخذ الرُّكْن فَوَضعه فِيهِ بِيَدِهِ، ثمَّ أَمر سيد كل قَبيلَة أَن يَأْخُذ بِنَاحِيَة من الثَّوْب، ثمَّ قَالَ: ((ارفعوه جَمِيعًا)) فَلَمَّا رَفَعُوهُ وَضعه بِيَدِهِ.
وَقَوله: فطمحت عَيناهُ. يُقَال: طمح بَصَره: أَي علا وارتفع، وكل مُرْتَفع طامح. وَالظَّاهِر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جزع لانكشاف جسده وَلَيْسَ فِي الحَدِيث دَلِيل على أَنه انْكَشَفَ شَيْء من عَوْرَته.
1284 - / 1562 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: غزونا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/32)
وَقد ثاب مَعَه نَاس من الْمُهَاجِرين حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَ من الْمُهَاجِرين رجل لعاب، فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا.
هَذِه الْغُزَاة هِيَ غزَاة الْمُريْسِيع: وَهُوَ مَاء لبني المصطلق، وَإِنَّمَا خرج مَعَه المُنَافِقُونَ لِأَن السّفر كَانَ قَرِيبا، فطعموا فِي الْغَنِيمَة.
وثاب بِمَعْنى رَجَعَ.
وكسع بِمَعْنى ضرب دبره بِيَدِهِ أَو بِرجلِهِ.
وتداعوا بِمَعْنى اسْتَغَاثُوا بالقبائل يستنصرون بهم فِي ذَلِك.
وَالدَّعْوَى: الإنتماء. وَكَانَت الْجَاهِلِيَّة تنتمي فِي الإستغاثة إِلَى الْآبَاء فَتَقول: يَا آل فلَان، وَذَلِكَ من العصبية، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن تكون الإستغاثة بِالْإِسْلَامِ وَحكمه، فَإِذا وَقعت بِغَيْرِهِ فقد اعْترض عَن حكمه والإستنصار بِهِ.
وَقَوله: ((فَإِنَّهَا خبيثة)) يَعْنِي دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة.
وَقَوله: ((لَا يتحدث النَّاس أَنه يقتل أَصْحَابه)) سياسة عَظِيمَة وحزم وافر، لِأَن النَّاس يرَوْنَ الظَّاهِر، وَالظَّاهِر أَن عبد الله بن أبي كَانَ من الْمُسلمين وَمن أَصْحَاب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَو عُوقِبَ من يظنّ خلاف مَا يظْهر لم يعلم النَّاس ذَلِك الْبَاطِن، فينفرون عَمَّن يفعل هَذَا بِأَصْحَابِهِ.
1285 - / 1563 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: ((الْحَرْب خدعة)) وَقد فسرناه فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.(3/33)
1286 - / 1563 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: دخل رجل يَوْم الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب، فَقَالَ: ((أصليت؟)) قَالَ: لَا: قَالَ: ((فصل رَكْعَتَيْنِ وَتجوز فيهمَا)) .
هَذَا الحَدِيث يشْتَمل على حكمين: أَحدهمَا: أَن الْكَلَام فِي حَال الْخطْبَة لَا يحرم على الْخَطِيب، وَهل يحرم على المستمع؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَإِذا قُلْنَا: يحرم، فَإِنَّمَا يحرم عَلَيْهِ إِذا كَانَ بِحَيْثُ يسمع، فَأَما إِذا كَانَ بِحَيْثُ لَا يسمع لم يحرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: الْكَلَام مَحْظُور على الْخَطِيب والمستمع، سَوَاء كَانَ بِحَيْثُ يسمع أَو لَا يسمع. وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: أَحدهمَا مثل هَذَا، وَالثَّانِي: لَا يحرم ذَلِك.
وَالْحكم الثَّانِي: اسْتِحْبَاب تَحِيَّة الْمَسْجِد وَإِن كَانَ الْخَطِيب فِي الْخطْبَة، وَهَذَا قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يسْتَحبّ.
وَتجوز فيهمَا: أَي خففهما وَلَا تطل.
وَهَذَا الرجل اسْمه سليك الْغَطَفَانِي، وَقد سمي فِي الحَدِيث.
1287 - / 1565 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن أبي بَعْدَمَا أَدخل حفرته، فَأمر بِهِ فَأخْرج، فَوَضعه على رُكْبَتَيْهِ، وَنَفث فِيهِ من رِيقه، وَألبسهُ قَمِيصه،(3/34)
وَكَانَ كسا عباسا قَمِيصًا.
وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر أَن ولد عبد الله بن أبي طلب من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَمِيصه ليكفن فِيهِ أَبَاهُ، فَيجوز أَن يكون جَابر شَاهد من ذَلِك مَا لم يُشَاهِدهُ ابْن عمر، وَيجوز أَن يكون أعطَاهُ قميصين: قَمِيصًا للكفن، ثمَّ أخرجه فألبسه آخر، وَقد بَين فِي هَذَا الحَدِيث سَبَب إِعْطَائِهِ الْقَمِيص.
وَقَوله: فوجدوا قَمِيص ابْن أبي يقدر عَلَيْهِ: أَي يكون بِقَدرِهِ فِي الطول وَيصْلح للباسه، وَهَذَا لِأَن الْعَبَّاس كَانَ جسيما طَويلا، وَكَذَلِكَ ابْن أبي.
1288 - / 1566 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: بعثنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأميرنا أَبُو عُبَيْدَة. فَذكر الحَدِيث الْمُتَقَدّم فِي مُسْند أبي عُبَيْدَة، إِلَّا أَن فِي هَذَا الحَدِيث كَلِمَات لم نذكرها ثمَّ، مِنْهَا: وادهنا من الودك. والودك: الدّهن الْخَارِج من الشَّحْم الْمُذَاب.
وَقَوله: ثَابت أجسامنا: أَي رجعت قوتها.
وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث - وَلم يذكرهُ الْحميدِي: فَإِذا حوت فأكلنا مِنْهُ مَا أحببنا - بِالْبَاء. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ لنا أشياخنا. وَقَالَ اللغويون مِنْهُم: الصَّوَاب: مَا أحيينا، بياءين: أَي قوينا وَرجعت إِلَيْنَا نفوسنا.
وَقَوله: وَجلسَ فِي حجاج عينه نفر. الْحجَّاج: الْعظم المشرف(3/35)
على الْعين، وهما حجاجان، لكل عين حجاج.
والقلة: الجرة، قَالَ ابْن فَارس: الْقلَّة مَا أَقَله الْإِنْسَان من جرة أَو حب، وَلَيْسَ فِي ذَلِك عِنْد أهل اللُّغَة حد مَحْدُود.
وَقَوله: نحر ثَلَاث جزائر. الجزائر جمع جزور: وَهُوَ مَا قصد بِهِ الذّبْح.
1289 - / 1568 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: مر رجل بسهام فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أمسك بنصالها)) .
نصال السهْم ونصولها: حديديها.
وَفِي لفظ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا كَانَ ينْصَرف بِالنَّبلِ. كَذَا كتب الْحميدِي بِخَطِّهِ: ينْصَرف، وَهُوَ سَهْو، وَإِنَّمَا هُوَ يتَصَدَّق بِالنَّبلِ. كَذَا ذكره أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي وَغَيره.
1290 - / 1569 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((يخرج من النَّار قوم كَأَنَّهُمْ الثعارير)) قيل: مَا الثعارير؟ قَالَ: ((الضغابيس)) .
قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الثعارير والضغابيس: صغَار القثاء.
1291 - / 1570 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ معَاذ يُصَلِّي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يَأْتِي فيؤم قومه.(3/36)
قد احْتج بِهَذَا الحَدِيث من يرى جَوَاز اقْتِدَاء المفترض بالمتنفل، وَمن يُصَلِّي الظّهْر بِمن يُصَلِّي الْعَصْر، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي، والمنصور من الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد أَنه لَا يجوز ذَلِك، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك، وَالْجَوَاب عَن احتجاجهم أَن حَدِيث معَاذ قَضِيَّة فِي عين، فَيحْتَمل أَن معَاذًا كَانَ يُصَلِّي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نفلا ثمَّ يُصَلِّي بقَوْمه الْفَرِيضَة. فَإِن قَالُوا: فقد رُوِيَ عَن جَابر أَنه قَالَ: فَيكون لَهُ تَطَوّعا. قُلْنَا: لَا يَصح، وَلَو صَحَّ كَانَ ظنا من جَابر. وَإِن قَالُوا: فَكيف يتْرك معَاذ فَضِيلَة الْفَرِيضَة خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قُلْنَا: يحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره أَن يُصَلِّي بقَوْمه الْفَرَائِض فامتثل أمره.
وَالرجل الَّذِي انحرف وَصلى وَحده اسْمه حرَام بن ملْحَان، خَال أنس بن مَالك.
والنواضح: مَا يسْتَعْمل من الْإِبِل فِي سقِِي الزَّرْع وَالنَّخْل.
وَقَوله: ((أفتان أَنْت؟)) اسْتِفْهَام إِنْكَار. وَالْمعْنَى: أَتُرِيدُ أَن تصرف النَّاس عَن صَلَاة الْجَمَاعَة؟ وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: أَتُرِيدُ صرف النَّاس عَن الدّين.
وجنح اللَّيْل: أظلم.
1292 - / 1571 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ: نزلت هَذِه الْآيَة فِينَا: {إِذْ هَمت طَائِفَتَانِ مِنْكُم أَن تَفْشَلَا} [آل عمرَان: 122] بني سَلمَة(3/37)
وَبني حَارِثَة.
الطَّائِفَة: الْجَمَاعَة.
والفشل: الْجُبْن والخور.
وَهَذَا كَانَ فِي غَزْوَة أحد. وَقيل: لما رَجَعَ عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه يَوْم أحد هَمت الطائفتان بذلك، فعصمهما الله عز وَجل.
1293 - / 1572 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من لكعب بن الْأَشْرَف؟)) .
كَانَ كَعْب من رُؤَسَاء الْيَهُود، وَكَانَ يهجو النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه، وَبكى على قَتْلَى قُرَيْش يَوْم بدر، وحرضهم بالشعر، فَمضى إِلَيْهِ مُحَمَّد بن مسلمة وَأَبُو نائلة - واسْمه سلكان بن سَلامَة بن وقش الأشْهَلِي، وَكَانَ أَبُو نائلة أَخا كَعْب من الرضَاعَة، فَاسْتَأْذَنا، فَقَالَت امْرَأَته: أسمع صَوتا كَأَنَّهُ صَوت دم. فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّد ورضيعه أَبُو نائلة. كَذَا قَالَ الرَّاوِي: ورضيعه، إِنَّمَا قَالَ: ورضيعي، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي لفظ آخر.
واللأمة: السِّلَاح.
فَإِن قيل: كَيفَ أذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قتل كَعْب فتكا وَقد قَالَ: ((الْإِيمَان قيد الفتك)) فَالْجَوَاب: أَنه نقض الْعَهْد، فَجَاز قَتله على أَي صفة كَانَت، كَمَا يجوز تبييت الْكفَّار على غرَّة، وَإِنَّمَا الفتك بِمن(3/38)
لَا يحل قَتله. قَالَ جَابر بن عبد الله: كَانَ كَعْب بن الْأَشْرَف عَاهَدَ رَسُول الله أَلا يعين عَلَيْهِ وَلَا يقاتله، وَلحق بِمَكَّة. ثمَّ قدم الْمَدِينَة مُعْلنا بمعاداة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ أبياتا يهجوه بهَا، فَعِنْدَ ذَلِك ندب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قَتله.
1294 - / 1573 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن صِيَام يَوْم الْجُمُعَة وَالْمرَاد إِفْرَاده بِالصَّوْمِ، وسنشرح هَذَا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1295 - / 1574 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: ((إِن كَانَ فِي شَيْء من أدويتكم شِفَاء فَفِي شرطة محجم، أَو لذعة بِنَار. وَمَا أحب أَن أكتوي)) .
وَقد تكلمنا فِي الكي فِي مُسْند عمرَان بن الْحصين، وَبينا مراتبه.
وَقَوله: رقي سعد فِي أكحله. الأكحل: عرق مَعْرُوف فِي ذِرَاع الْإِنْسَان.
وَقَوله: فحسمه. قَالَ أَبُو عبيد: أصل الحسم الْقطع، وَإِنَّمَا أَرَادَ بالحسم أَنه قطع الدَّم عَنهُ.
والمشقص: نصل السهْم إِذا كَانَ طَويلا وَلَيْسَ بالعريض، فَإِذا كَانَ(3/39)
عريضا وَلَيْسَ بالطويل فَهُوَ معبلة.
1296 - / 1575 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: مرت جَنَازَة فَقَامَ لَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بَينا أَن الْقيام للجنازة مَنْسُوخ، فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1297 - / 1576 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: بَينا نَحن نصلي إِذْ أَقبلت عير تحمل طَعَاما، فالتفتوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِي مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا اثْنَا عشر رجلا، فَنزلت: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِما} [الْجُمُعَة: 11] .
قَوْله: بَيْنَمَا نَحن نصلي: أَي حَضَرنَا للصَّلَاة. وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَئِذٍ يخْطب قَائِما. وَقد بَين فِي هَذَا الحَدِيث، وَكَانَ الْقَوْم قد أَصَابَهُم جوع وَغَلَاء سعر، فَقدم دحْيَة بن خَليفَة - قبل أَن يسلم - بِتِلْكَ العير - وَالْعير: الْإِبِل تحمل الْميرَة - وَضرب لَهُ طبل يُؤذن النَّاس، وَهُوَ اللَّهْو، وَهَذِه كَانَت عَادَتهم إِذا قدمت عير.
وانفضوا: تفَرقُوا.
فَإِن قيل: لماذا قَالَ: {إِلَيْهَا} وَلم يقل ((إِلَيْهِمَا)) ؟ فَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن التِّجَارَة كَانَت أهم إِلَيْهِم فَرد الضَّمِير إِلَيْهَا، هَذَا قَول الْفراء والمبرد. وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة انْفَضُّوا إِلَيْهَا أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهِ، فَحذف خبر أَحدهمَا لِأَن الْخَبَر الثَّانِي يدل على الْمَحْذُوف، قَالَه الزّجاج.(3/40)
1298 - / 1577 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: جهش النَّاس إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْحُدَيْبِيَة. أَي فزعوا إِلَيْهِ وأسرعوا نَحوه واستغاثوا بِهِ. وَيُقَال: جهش فلَان: إِذا تهَيَّأ للبكاء.
قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا سميت الْحُدَيْبِيَة لشَجَرَة كَانَت بذلك الْموضع.
1299 - / 1578 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: ((نصرت بِالرُّعْبِ من مسيرَة شهر)) .
الرعب: الْفَزع. وَالْمعْنَى أَنه يَقع فِي قُلُوب الْأَعْدَاء من مسيرَة شهر.
وَقَوله: ((وَجعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا)) قد فسرناه فِي مُسْند حُذَيْفَة.
وَقَوله: ((وَأحلت لي الْغَنَائِم)) كَانَ من سلف من الْأُمَم إِذا غزوا فغنموا جَمَعُوهُ، فَأَقْبَلت نَار فأكلته، فَإِن كَانُوا قد غلوا شَيْئا من الْغَنِيمَة امْتنعت. وَكَذَلِكَ كَانُوا إِذا قربوا قربانا من ذبح وَغَيره، فَإِن نزُول النَّار كَانَ عَلامَة الْقبُول.
وَقَوله: ((وَبعثت إِلَى النَّاس عَامَّة)) كَانَ النَّبِي إِذا بعث فِي الزَّمَان الأول إِلَى قوم بعث غَيره إِلَى آخَرين، وَكَانَ يجْتَمع فِي الزَّمن الْوَاحِد جمَاعَة من الرُّسُل. فَأَما نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ انْفَرد بِالْبَعْثِ فَصَارَ نذيرا للْكُلّ من غير أَن يزاحمه أحد. وقرأت بِخَط ابْن عقيل قَالَ: جَاءَت فَتْوَى من دمشق: مَا تَقولُونَ فِي هَذَا الحَدِيث: ((بعثت إِلَى الْخلق كَافَّة))(3/41)
وَالنَّظَر والتأمل يمْنَع صِحَة هَذَا، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ النَّبِي مَبْعُوثًا إِلَى قوم يبلغ من تعدته إِلَى غَيرهم، لِأَن صفة التخصص فِي الْإِرْسَال لَا تَقْتَضِي الْعُمُوم، كَمَا لَو قَالَ الْقَائِل لرَسُوله: اذْهَبْ إِلَى بني تَمِيم، فَإِنَّهُ إِذا تعدى إِلَى بني عدي كَانَ مُخَالفا. فَلَو كَانَ مُوسَى مَخْصُوصًا ببني إِسْرَائِيل ثمَّ جَاءَهُ غَيرهم من الْأُمَم يسألونه عَمَّا جَاءَ بِهِ لم يجز لَهُ كِتْمَانه عَنْهُم، وَلَا أَن يَقُول إِنِّي غير مَبْعُوث إِلَيْكُم، بل كَانَ الْوَاجِب عَلَيْهِ إِجَابَة التّرْك وَالْفرس وَالْعرب وكل من سَأَلَهُ عَن الْأَحْكَام الَّتِي جَاءَ بهَا بِمَا بعث بِهِ إِلَى بني إِسْرَائِيل، بل كَانَ لَا يجوز لَهُ أَن يُجيب أحدا من هَؤُلَاءِ إِذا كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى بني إِسْرَائِيل خَاصَّة. قَالَ السَّائِل: وَأَيْضًا إِذا قَالَ لَهُ: مر بني إِسْرَائِيل بِالصَّلَاةِ، وَمن زنى من بني إِسْرَائِيل فعاقبه على زِنَاهُ، لم يجز أَن يُعَاقب غَيرهم على الزِّنَا، وَهَذَا كَالْحكمِ إِذا علق على غَايَة لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيرهَا. فَإِن قُلْنَا: إِنَّه منع من إرشاد من جَاءَ إِلَيْهِ للإسترشاد من أَنْوَاع الْخلق لم يجز ذَلِك، وَإِذا بَطل هَذَانِ القسمان ثَبت أَن كل رَسُول إِنَّمَا بعث إِلَى جَمِيع الْخلق. وَلَيْسَ لقَائِل أَن يَقُول: أَنه أرسل إِلَى بني إِسْرَائِيل خَاصَّة، وَالنَّاس بِالْخِيَارِ بَين اتِّبَاعه وَتَركه. قَالَ السَّائِل: وَطَرِيقَة أُخْرَى: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى رفع الْعَذَاب عَن الْخلق مَعَ عدم الرُّسُل بقوله: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} [الْإِسْرَاء: 15] وَأثبت الْحجَّة على الْخلق ببعثه الرُّسُل. وَقد ثَبت أَن الله تَعَالَى أهلك جَمِيع أهل الأَرْض بالطوفان، وَمَا ذَلِك إِلَّا لمُخَالفَة نوح، فَلَو لم يكن مُرْسلا إِلَى جَمَاعَتهمْ لما أهلكهم بمخالفته ودعا عَلَيْهِم. وَلَيْسَ لقَائِل أَن يَقُول: فقد قَالَ فِي حق نوح: {إِنَّا أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه} [نوح: 1] {وَإِلَى مَدين أَخَاهُم شعيبا} [الْأَعْرَاف: 85] فقد خصص مثل ذَلِك نَبينَا بقوله: {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم} [التَّوْبَة: 128] فامتن على قُرَيْش بذلك.(3/42)
فَأجَاب حنبلي مُحَقّق فِي الْأُصُول - يَعْنِي ابْن عقيل نَفسه - فَقَالَ: إِن خصيصة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَاصِلَة من جِهَة خُفْيَة عَن كثير من الْعلمَاء؛ وَذَلِكَ أَن شَرِيعَة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَت ناسخة لكل شَرِيعَة قبلهَا، فَلم يبْق يَهُودِيَّة وَلَا نَصْرَانِيَّة وَلَا دين من سَائِر الْأَدْيَان الَّتِي جَاءَت بهَا النبوات إِلَّا أَمر بِتَرْكِهَا ودعا إِلَى شَرِيعَته، وَمعنى قَوْله: ((كل نَبِي بعث إِلَى قومه)) المُرَاد أَنه قد كَانَ يجْتَمع فِي الْعَصْر الْوَاحِد نبيان يَدْعُو كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى شَرِيعَة تختصه وَلَا يَدْعُو الْأمة الَّتِي بعث فِيهَا غَيره إِلَى دينه وَلَا يصرف عَنهُ، وَلَا ينْسَخ مَا جَاءَ بِهِ الآخر، فَهَذِهِ خصيصة لم تكن لأحد قبله، حَتَّى إِن نوحًا لم ينْقل أَنه كَانَ مَعَه نَبِي، فَدَعَا إِلَى مِلَّته مِلَّة ذَلِك النَّبِي وَلَا نسخهَا، وَهَذَا يدْفع مَا قَالُوا وقدروه من الأسئلة وعقبوه بالأجوبة، ويوضح هَذَا أَنه لما وجد ورقة من التَّوْرَاة بيد عمر قَالَ: ((ألم آتكم بهَا بيضًا نقية؟ وَالله لَو أدركني مُوسَى لما وَسعه إِلَّا اتباعي)) . لِأَنَّهُ لَا يقدر عِيسَى أَن يَقُول فِي التَّوْرَاة وَلَا فِي حق مُوسَى هَذِه الْمقَالة، فَعلم أَن هَذِه الخصيصة الَّتِي امتاز بهَا عَن جَمِيع الْأَنْبِيَاء دون مَا توهمه السَّائِل من الْبعْثَة الْعَامَّة إِلَى جَمِيع النَّاس وَدون أَرْبَاب الشَّرَائِع، وَالله أعلم.
1300 - / 1579 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: رَأَيْت بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خمصا، فَانْكَفَأت إِلَى امْرَأَتي، وَلنَا بَهِيمَة دَاجِن فذبحتها وقطعتها فِي برمتها.
الخمص: الْجُوع. والمخمصة: المجاعة.(3/43)
وانكفأت: رجعت.
والداجن: مَا يحبس فِي الْبَيْت من الْغنم.
والبرمة: الْقدر.
وَقَوله: ((صنع لكم سورا)) هَذِه كلمة فارسية، قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: قَالَ ثَعْلَب: إِنَّمَا يُرَاد من هَذَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكلم بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَالَ: ((صنع لكم سورا)) أَي طَعَاما دَعَا إِلَيْهِ النَّاس.
وَقَوله: ((فحي هلا بكم)) . كلمة حث واستعجال، قَالَ لبيد:
( ... . ... وَلَقَد تسمع قولي حيهل)
قَوْله: فَقَالَت: بك وَبِك، وَهَذَا كِنَايَة عَن اللوم والسب.
وَقَوله: فبسق: أَي بزق. يُقَال: بزق وبسق وبصق. قَالَ شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: مرض النَّضر بن شُمَيْل فَدخل عَلَيْهِ النَّاس يعودونه، فَقَالَ لَهُ رجل: مسح الله مَا بك. فَقَالَ النَّضر: لَا تقل: مسح، وَقل: مصح، ألم تسمع قَول الْأَعْشَى:
(وَإِذا الْخمْرَة فِيهَا أزبدت ... أفل الإزباد فِيهَا ومصح)
فَقَالَ الرجل: لَا بَأْس، السِّين قد تعاقب الصَّاد فتقوم مقَامهَا.
فَقَالَ النَّضر: فَيَنْبَغِي أَن تَقول لمن اسْمه سُلَيْمَان: يَا صليمان، وَتقول: قَالَ رصول الله، ثمَّ قَالَ النَّضر: لَا يكون الصَّاد مَعَ السِّين(3/44)
إِلَّا فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع: إِذا كَانَت مَعَ الطَّاء وَالْخَاء وَالْقَاف والغين، تَقول فِي الطَّاء: سطر وصطر، وَفِي الْخَاء صَخْر وسخر، وَفِي الْقَاف صقب وسقب، وَفِي الْغَيْن صدغ وسدغ. فَإِذا تقدّمت هَذِه الأحرف الْأَرْبَعَة السِّين لم يجز ذَلِك، وَلَا يجوز أَن تَقول خصر وخسر، وَلَا قصب وقسب، وَلَا طرس وطرص، وَلَا غسل وغصل.
وَقَوله: ((اقدحي من برمتكم)) أَي اغرفي مَا فِيهَا، والمقدحة: المغرفة. المقدح: الحديدة الَّتِي يقْدَح بهَا النَّار، أَي يسْتَخْرج، والقداح من الإستخراج أَيْضا.
وَقَوله: وَإِن برمتنا لتغط: أَي تغلي بِمَا فِيهَا. يُقَال: غطت الْقدر تغط، وغطيطها: صَوت غليانها.
وَقَوله: فعرضت كدية. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الكدية قِطْعَة من الأَرْض غَلِيظَة صلبة. يُقَال: حفرت حَتَّى أكديت. وَقد رَوَاهُ بَعضهم: فعرضت كبدة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَهِي الْقطعَة الصلبة، وَمثله قَوس كبداء: شَدِيدَة.
وَقَوله: وبطنه معصوب: أَي مشدود بِالْعِصَابَةِ من الْجُوع.
وَقَوله: فَعَاد كثيبا أهيل. الأهيل: المنهار الَّذِي لَا يتماسك.
يُقَال: كثيب أهيل وأهيم: وَهُوَ الرمل الْيَابِس الَّذِي لم يمر بِهِ الْمَطَر، فَهُوَ إِلَى السيلان أسْرع.
والأثافي: حِجَارَة تُوضَع تَحت الْقدر، وَيُقَال فِيهَا أفافي، كَمَا يُقَال جدث وجدف.(3/45)
وَقَوله: ((لَا تضاغطوا)) أَي لَا تزدحموا.
وَقَوله: ويخمر البرمة: أَي يغطيها حَتَّى لَا يرى نقصانها وَلَا زيادتها.
1301 - / 1580 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: ((مثلي وَمثل الْأَنْبِيَاء كَرجل بنى دَارا فأكملها وأحسنها إِلَّا مَوضِع لبنة، وَجعل النَّاس يعْجبُونَ وَيَقُولُونَ: لَوْلَا مَوضِع اللبنة)) وَفِي لفظ: ((فَأَنا مَوضِع اللبنة)) .
اعْلَم أَن بَدْء الشَّرَائِع كَانَ على التَّخْفِيف، فَلَا يعرف فِي شرع نوح وَهود وَصَالح وَإِبْرَاهِيم تثقيل، ثمَّ جَاءَ مُوسَى بِالتَّشْدِيدِ والإثقال، وَجَاء عِيسَى بِنَحْوِ من ذَلِك، وَجَاءَت شَرِيعَة نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تنسخ تَشْدِيد أهل الْكتاب، وَلَا تطلق فِي تسهيل من كَانَ قبلهم، فَهِيَ على غَايَة من الإعتدال مَعَ مَا تحوي من محَاسِن الْآدَاب وتلقيح الْعُقُول وَتَعْلِيم الفطنة، وتدل على استنباط خَفِي الْمعَانِي، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لم يكن فِيمَا تقدم.
1302 - / 1581 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: صلى جَابر فِي إِزَار وثيابه على المشجب.
المشجب: أَعْوَاد متداخلة يَجْعَل عَلَيْهَا الثِّيَاب.
وَقَوله: ((مَا السرى؟)) السرى: سير اللَّيْل، وَالْمعْنَى: لأي شَيْء كَانَ مسراك اللَّيْلَة؟
وَقَوله: ((مَا هَذَا الإشتمال؟)) الإشتمال: الالتفاف بِالثَّوْبِ حَتَّى يَشْمَل الملتف وَلَا يخرج يَده مِنْهُ، فَلهَذَا أنكرهُ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: ((إِن كَانَ(3/46)
وَاسِعًا فالتحف بِهِ، وَإِن كَانَ ضيقا فاتزر بِهِ)) .
وَقَوله: ((أَلا تشرع؟)) الْمَعْنى: أَلا تورد الْإِبِل المشرعة.
والشريعة: مورد الْإِبِل الشاربة المَاء. قَالَ الزّجاج: يُقَال: شرعت فِي المَاء: إِذا دَخلته، وشرعت بَابا إِلَى الطَّرِيق، وشرعت فِي الدّين شَرِيعَة، وأشرعت الرمْح نَحْو الْعَدو: إِذا صوبته إِلَيْهِ وَقَالَ أَبُو عمر الزَّاهِد: أشرعت بَابا إِلَى الطَّرِيق، لَا غير.
وَقَوله: متوشحا بِهِ. يُقَال: توشح الرجل بِالثَّوْبِ: إِذا تجلله وَبسطه على جسده.
1303 - / 1582 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: بَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقسم غنيمَة إِذْ قَالَ لَهُ رجل: اعْدِلْ. فَقَالَ ((لقد شقيت إِن لم أعدل)) .
هَذَا الرجل يُقَال لَهُ ذُو الْخوَيْصِرَة، كَذَلِك ذكره أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ فِي مُسْنده.
وَالتَّاء فِي ((شقيت)) مَفْتُوحَة، كَذَلِك سمعناها من أشياخنا، وَالْمعْنَى أَنَّك إِذا تبِعت من لَا يعدل فقد شقيت، وَقد روى بَعضهم بِضَم التَّاء، وَالْأول أصح.
وَقَوله: ((معَاذ الله أَن يتحدث النَّاس أَنِّي أقتل أَصْحَابِي)) قد بَينا فِي الحَدِيث الْأَرْبَعين من هَذَا الْمسند وَجه هَذَا.
وَقَوله: ((لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ)) الْمَعْنى أَنهم لَا يفهمون مَا فِيهِ وَلَا(3/47)
يعْرفُونَ مضمونه، فَإِن هَذَا الشَّخْص لَو عرف وجوب طَاعَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْقُرْآن وَأَنه على الْحق فِي جَمِيع أَحْوَاله مَا قَالَ هَذَا، وَلكنه اقْتصر على الْقِرَاءَة من غير تدبر لما يقْرَأ.
وَقَوله: ((كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية)) قد سبق فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1304 - / 1583 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشُّفْعَة فِي كل مَال لم يقسم، فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق فَلَا شُفْعَة.
هَذَا الحَدِيث دَلِيل على إِثْبَات الشُّفْعَة فِي الْمشَاع ونفيها عَمَّا قد قسم. وَمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل أَن الشُّفْعَة لَا تسْتَحقّ بالجوار. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تسْتَحقّ بالجوار.
1305 - / 1584 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن إهلال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذِي الحليفة حِين اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قد سبق بَيَان هَذَا فِي مُسْند ابْن عمر.
1306 - / 1585 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ جَابر: لما حضر أحد(3/48)
دَعَاني أبي من اللَّيْل فَقَالَ: مَا أَرَانِي إِلَّا مقتولا فِي أول من يقتل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
اسْم أبي جَابر عبد الله بن عَمْرو. وَكَانَ من النُّقَبَاء الإثني عشر، وَشهد بَدْرًا.
وَقَوله: مَا أَرَانِي إِلَّا مقتولا. دَلِيل على أَن الرجل علم من نَفسه قُوَّة الْجد فِي الْجِهَاد والإقدام فِي الأول، فَلذَلِك قَالَ: فِي أول من يقتل. وَكَانَ لَهُ تسع بَنَات، فَلذَلِك قَالَ: واستوص بأخواتك.
قَوْله: ودفنت مَعَه آخر. وَالرجل الَّذِي دفن مَعَه عَمْرو بن الجموح، فَإِنَّهُمَا دفنا فِي قبر وَاحِد لِكَثْرَة الْقَتْلَى يَوْمئِذٍ، فَأخْرجهُ جَابر بعد سِتَّة أشهر فدفنه فِي قبر على حِدة، ثمَّ نقل عَن ذَلِك الْقَبْر بعد سِنِين لأجل إِجْرَاء عين من المَاء. أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْقَزاز قَالَ: أخبرنَا عبد الْعَزِيز بن عَليّ الْحَرْبِيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص، قَالَ: حَدثنَا الْبَغَوِيّ قَالَ: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد قَالَ: حَدثنَا عبد الْجَبَّار بن الْورْد قَالَ: سَمِعت أَبَا الزبير قَالَ: سَمِعت جَابر بن عبد الله يَقُول: كتب مُعَاوِيَة إِلَى عَامله بِالْمَدِينَةِ أَن يجْرِي عينا إِلَى أحد، فَكتب لَهُ عَامله: إِنَّهَا لَا تجْرِي إِلَّا على قُبُور الشُّهَدَاء، فَكتب إِلَيْهِ أَن أنفذها. قَالَ فَسمِعت جَابِرا يَقُول: فرأيتهم يخرجُون على رِقَاب الرِّجَال كَأَنَّهُمْ نوم، حَتَّى أَصَابَت المسحاة قدم حَمْزَة فانبعثت دَمًا. أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ:
أخبرنَا ابْن حيويه قَالَ: حَدثنَا ابْن الْفَهم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أخبرنَا عَمْرو بن الْهَيْثَم قَالَ: حَدثنَا(3/49)
هِشَام الدستوَائي عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: صرخَ بِنَا إِلَى قَتْلَانَا يَوْم أحد حِين أجْرى مُعَاوِيَة الْعين فأخرجناهم بعد أَرْبَعِينَ سنة لينَة أَجْسَادهم تتثنى أَطْرَافهم.
1307 - / 1586 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: سُئِلَ عَمَّن حلف قبل أَن يذبح. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1308 - / 1587 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((عمْرَة فِي رَمَضَان تقضي حجَّة معي)) قد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1309 - / 1588 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: ((كل مَعْرُوف صَدَقَة)) .
الْمَعْرُوف: فعل شَيْء من الْخَيْر يتَطَوَّع بِهِ الْفَاعِل، فَيجْرِي لذَلِك مجْرى الصَّدَقَة، وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند حُذَيْفَة.
1310 - / 1589 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: ((رحم الله رجلا سَمحا)) أَي سهلا.
1311 - / 1590 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ((من قَالَ حِين يسمع النداء: اللَّهُمَّ رب هَذِه الدعْوَة التَّامَّة)) .(3/50)
النداء يَعْنِي بِهِ الْأَذَان. وَقد سبق فِي أول الْكتاب معنى اللَّهُمَّ.
والدعوة التَّامَّة: التَّوْحِيد. قَالَ عز وَجل: {لَهُ دَعْوَة الْحق} [الرَّعْد: 14] ، وَإِنَّمَا قيل لَهَا التَّامَّة لِأَنَّهُ لَا نقص فِيهَا وَلَا عيب، إِذْ لَو كَانَ للموحد شريك كَانَ ذكر التَّوْحِيد نَاقِصا.
والوسيلة: الْقرْبَة. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يُقَال: توسلت إِلَيْهِ: أَي تقربت، وَأنْشد:
(إِذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وَعَاد التصافي بَيْننَا والوسائل)
وَالْمقَام الْمَحْمُود: الَّذِي يحمده لأَجله جَمِيع أهل الْموقف، وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الشَّفَاعَة للنَّاس يَوْم الْقِيَامَة، قَالَه ابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة وَابْن عمر وسلمان وَجَابِر فِي خلق كثير. وَالثَّانِي: يجلسه على الْعَرْش، رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجاهد. وَقَالَ عبد الله بن سَلام: يقعده على الْكُرْسِيّ. 1312 / 1591 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: كَانَ يعلمنَا الاستخارة. والاستخارة: أَن يسْأَل عز وَجل خير الْأَمريْنِ.
1313 - / 1592 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: اصطبح الْخمر يَوْم أحد نَاس، قتلوا شُهَدَاء.(3/51)
الإصطباح: شرب أول النَّهَار. وَكَانَت يَوْمئِذٍ حَلَالا، وَإِنَّمَا حرمت بعد وقْعَة أحد.
1314 - / 1593 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: لما نزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم} [الْأَنْعَام: 65] قَالَ: ((أعوذ بِوَجْهِك)) .
الْعَذَاب: الْأَلَم المستمر. والفوق من ظروف الْمَكَان، ويقابله التحت.
وَفِي هَذَا الْعَذَاب قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الَّذِي فَوْقهم مَا ينزل من السَّمَاء، كَمَا حصب قوم لوط. وَالَّذِي من تَحت أَرجُلهم: كَمَا خسف بقارون، قَالَه ابْن عَبَّاس وَالسُّديّ.
وَالثَّانِي: أَن الَّذِي من فَوْقهم من قبل أمرائهم، وَالَّذِي من تَحْتهم من سفلتهم، رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: الَّذِي من فَوْقهم أَئِمَّة السوء، وَالَّذِي من تَحت أَرجُلهم عبيد السوء.
وَقَوله: {أَو يلْبِسكُمْ شيعًا} قَالَ ابْن عَبَّاس: يبث فِيكُم الْأَهْوَاء الْمُخْتَلفَة فتصيرون فرقا. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يلْبِسكُمْ من الإلتباس عَلَيْهِم، فَالْمَعْنى: حَتَّى يَكُونُوا شيعًا: أَي فرقا مُخْتَلفين، ثمَّ يُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض بِالْقِتَالِ وَالْحَرب.
وأصل الْبَأْس: الشدَّة فِي الْحَرْب.(3/52)
1315 - / 1594 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: الَّذِي قتل خبيبا هُوَ أَبُو سروعة.
وَكَانَ خبيب قد قتل يَوْم بدر الْحَارِث بن عَامر، فَلَمَّا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبيبا فِي بعض السَّرَايَا، أَخذ فَبيع بِمَكَّة، فَاشْتَرَاهُ بَنو الْحَارِث، فَقتله مِنْهُم أَبُو سروعة بن الْحَارِث، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة مشروحا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1316 - / 1596 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: إِن أَبَاهُ توفّي وَترك عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ وسْقا لرجل من الْيَهُود.
الوسق: سِتُّونَ صَاعا.
وَقَوله: ((إِذا جددته)) جددت بِمَعْنى قطعت الثَّمر. وجداد النّخل: قطع ثَمَرهَا.
والمربد: البيدر، وَهُوَ الجرين أَيْضا حَيْثُ يوضع التَّمْر قبل أَن يوضع فِي الأوعية وينقل إِلَى الْبيُوت. وَيُقَال لموقف الْإِبِل مربد أَيْضا، واشتقاقه من ربد: إِذا أَقَامَ. والمربد والجرين لأهل الْحجاز. والأندر لأهل الشَّام. والبيدر لأهل الْعرَاق، ويسميه أهل الْبَصْرَة الجوخان.
والعجوة نوع من التَّمْر، وَهِي من أَجود تمور الْمَدِينَة.
وعذق زند: نوع مَعْرُوف.(3/53)
وتمزعوه: أَي اقتسموه.
والناضح من الْإِبِل: مَا يسقى عَلَيْهِ المَاء.
وأزحف الْبَعِير وزحف وأزحفه السّير: إِذا قَامَ من الإعياء وَلم يقدر على النهوض.
1317 - / 1597 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: نهى أَن تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وخالتها.
وَهَذَا مِمَّا ثَبت تَحْرِيمه بِالسنةِ، وعلته خوف التقاطع.
1318 - / 1598 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الظروف، فَقَالَت الْأَنْصَار: إِنَّه لَا بُد لنا مِنْهَا، قَالَ: ((فَلَا إِذن)) .
كَانَ النَّهْي عَن الظروف خوف اشتداد مَا ينْبذ فِيهَا، فَلَمَّا أخبروا بحاجتهم إِلَيْهَا عِنْد نَهْيه قَالَ: ((فَلَا إِذن)) أَي: لَا أنهى عَنْهَا، وَيكون الإعتبار على هَذَا بالإشتداد، فَإِذا اشْتَدَّ أريق، أَو أَن يحترزوا من تَركه مُدَّة يشْتَد فِيهَا.
1319 - / 1599 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: كُنَّا إِذا صعدنا كبرنا، وَإِذا نزلنَا سبحنا.
لما كَانَ الصعُود ارتفاعا ناسبه التَّكْبِير. أَي أَن الله سُبْحَانَهُ أكبر من كل كَبِير وَأَعْلَى من كل رفيع، وَلما كَانَ النُّزُول انهباطا ناسبه التَّنْزِيه(3/54)
لمن لَا يُوصف بِمَا يُنَافِي الْعُلُوّ.
1320 - / 1600 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: جَاءَت مَلَائِكَة إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ بَعضهم: الْعين نَائِمَة وَالْقلب يقظان وَمُحَمّد فرق بَين النَّاس.
كَانَ من صِفَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تنام عَيناهُ وَلَا ينَام قلبه. قَالَ ابْن عقيل: النّوم يتَضَمَّن أَمريْن معطلين: أَحدهمَا رَاحَة الْجَسَد، فَهَذَا أَمر يشْتَرك فِيهِ هُوَ وَأمته. وَالثَّانِي: غَفلَة الْقلب عَمَّا وضع لَهُ الْقلب من النّظر والإعتبار والتأمل والآراء الصائبة، وَزيد فِي حَقه تلقي الْوَحْي، فَكل الْقُلُوب عِنْد النّوم عاطلة عَمَّا ينْتَفع بِهِ من الآراء والفكر سوى قلبه. وَقد كَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي استطرح وَغشيَ عَلَيْهِ، وَمثل تِلْكَ الغشية لَو أَصَابَت بعض أمته لانتقض وضوءه، وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال حَافظ مَحْفُوظ من غليان الطباع واسترخاء مخارج الْأَحْدَاث، لِأَنَّهُ فِي سرائر الرب؛ فَبَان من هَذَا أَن النّوم يتَضَمَّن أَمريْن: رَاحَة وغفلة، فالراحة دَاخِلَة على أدواته من تَعب الْأَعْمَال، والغفلة غير دَاخِلَة على قلبه؛ إِذْ كَانَ قلبه على صفة أَعمال أهل الْيَقَظَة من سَلامَة الأفكار، وصيانة المحفوظات عَن الذّهاب، وَقَلبه غير عاطل عَمَّا وضع لَهُ من تلقي الْوَحْي واستمداده من أوَامِر الرب ونواهيه. قَالَ فَإِن قيل: فقد نَام عَن الصَّلَاة. قيل: إِنَّمَا فعل ذَلِك ليشرع بِفِعْلِهِ مَا يتعبد بِهِ أهل النسْيَان، وللأعمال أَحْكَام أوضح من الْأَقْوَال، كَمَا أمه جِبْرِيل فِي الصَّلَوَات، وَقد كَانَ يَنْتَظِم ذَلِك القَوْل، قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون نسيانه ونومه لعوارض كشف من عُلُوم تخصه ومعارف عطلته عَن الْقيام(3/55)
بِحُقُوق الظَّاهِر للُزُوم الْبَاطِن آدَاب التلقي، وَكَانَ كمن قَالَ من شغله ذكر محبوبه:
(فوَاللَّه مَا أَدْرِي إِذا مَا ذكرتها ... أثنتين صليت الضُّحَى أم ثمانيا)
وَمن هَذَا نسيانه عدد الرَّكْعَات حَتَّى قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ، فَلَمَّا عَاد الْقلب إِلَى حكم الظَّاهِر قَالَ: ((أحقا مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟)) .
وَقَوله: وَمُحَمّد فرق بَين النَّاس: أَي فَارق بَين الْمُؤمن وَالْكَافِر، فَمن آمن بِهِ فَهُوَ مُؤمن، وَمن كفر بِهِ فَهُوَ كَافِر.
1321 - / 1601 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجمع بَين الرجلَيْن من قَتْلَى أحد فِي ثوب وَاحِد، ثمَّ يَقُول: ((أَيهمْ اكثر أخذا لِلْقُرْآنِ؟)) فَيقدمهُ فِي اللَّحْد.
إِنَّمَا كَانَ يجمع بَينهم لِكَثْرَة الْقَتْلَى وَقلة الأكفان. وَإِنَّمَا قدم أَكْثَرهم قُرْآنًا لفضله على غَيره.
وَقَوله: ((أَنا شَهِيد على هَؤُلَاءِ)) أَي أشهد بإخلاصهم وَصدقهمْ.
وَأما كَونهم لم يغسلوا فقد اتّفق جَمَاهِير الْعلمَاء على أَن الشَّهِيد لَا يغسل بِحَال، وَقَالَ أَحْمد: إِلَّا أَن يكون جنبا وَاخْتلفُوا: هَل يصلى عَلَيْهِ؟ فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يصلى عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي(3/56)
وَدَاوُد: لَا يصلى عَلَيْهِ. وَعَن أَحْمد كالمذهبين فَإِن قُلْنَا بِمذهب الشَّافِعِي فَهَذَا الحَدِيث دَلِيل عَلَيْهِ، وَإِن قُلْنَا بِمذهب أبي حنيفَة فقد رويت أَحَادِيث فِي أَنه صلى على قَتْلَى أحد، وَقَول جَابر: لم يصل، شَهَادَة على نفي، وَالْإِثْبَات مقدم.
1322 - / 1602 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: كَانَ لجَابِر أَرض فخنست، فَخَلا عَاما، فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((أَيْن عريشك يَا جَابر؟)) .
قَوْله: خنست - يَعْنِي النّخل: تَأَخَّرت عَن قبُول الإبار وَلم يُؤثر فِيهَا التَّأْثِير الْكَامِل، فَلم تستكمل حملهَا.
والعريش مثل الْخَيْمَة يعْمل من خشب وحشيش وَنَحْو ذَلِك يستظل بِهِ فِي الْبُسْتَان من الشَّمْس.
1323 - / 1603 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: لما وضع الْمِنْبَر سمعنَا للجذع مثل أصوات العشار.
العشار: النوق الْحَوَامِل الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا عشرَة أشهر من يَوْم ضرب الْفَحْل لَهَا وَكَانَ فِي أصواتها نوع حنين إِلَى الْوَلَد.
1324 - / 1604 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل على رجل وَهُوَ يحول المَاء فِي حَائِط لَهُ فِي سَاعَة حارة، فَقَالَ: ((إِن كَانَ عنْدك مَاء فِي شنة وَإِلَّا كرعنا)) .(3/57)
الْحَائِط: الْبُسْتَان.
والشنة: الْقرْبَة البالية، وَهِي أَشد تبريدا للْمَاء.
وَقَوله: ((كرعنا)) قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: كرع فِي المَاء: إِذا تنَاوله بِفِيهِ من مَوْضِعه.
قَوْله: ثمَّ حلب عَلَيْهِ من دَاجِن. والداجن: الشَّاة تكون فِي الْبَيْت.
وَقد نبه هَذَا الحَدِيث على حفظ النَّفس وإعطائها حَقّهَا مِمَّا يصلحها؛ فَإِن المَاء الْحَار يوهن الأمعاء، ويولد رهلا، وَيفْسد الهضم ويذبل الْبدن، وَالْمَاء الْبَارِد يُقَوي الشَّهْوَة، ويشد الْمعدة، وَيحسن اللَّوْن، وَيمْنَع عفن الدَّم وصعود الأبخرة إِلَى الدِّمَاغ، ويحفظ الصِّحَّة، إِلَّا أَنه يَنْبَغِي أَن يكون معتدلا، فَإِن المثلوج والشديد الْبُرُودَة يُؤْذِي. وَفِي هَذَا رد على جهلة المتزهدين الَّذين حرمُوا أنفسهم حظوظها الْمصلحَة لَهَا، وحملوا عَلَيْهَا مَا تعجز عَنهُ، وهم إِلَى أَن يذموا بظُلْم النُّفُوس أقرب من أَن يمدحوا بترك الْمصَالح.
1325 - / 1605 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ يَوْم عيد خَالف الطَّرِيق.
هَذَا يحْتَمل عشرَة أوجه: أَحدهَا: أَنه قد رُوِيَ أَن الْمَلَائِكَة تقف يَوْم الْعِيد على أَفْوَاه الطّرق، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَن يمر على من لم يمر عَلَيْهِ مِنْهُم. وَالثَّانِي: أَن يكون أَرَادَ بِجَوَازِهِ فِي مَكَان لم يجز فِيهِ إِظْهَار الدّين، لِأَنَّهُ أَدَاء يري ذكر الدّين. وَالثَّالِث: أَن يغِيظ الْمُنَافِقين(3/58)
وَالْكفَّار بمشيه مَعَ أَصْحَابه. وَالرَّابِع: أَن يكون ذَلِك فِي بَدو أمره عِنْد قلَّة عدد الْمُسلمين. وَالْخَامِس: رُؤْيَة من لم يره من الْمُسلمين وَتَسْلِيم من لم يسلم عَلَيْهِ، لِأَن لقاءه أوفي البركات. وَالسَّادِس: أَن يسر بذلك من يرَاهُ من الْمُسلمين وَالْمُسلمَات. وَالسَّابِع: أَن تشهد الأَرْض بِالْمَشْيِ عَلَيْهَا فِي الْخَيْر. وَالثَّامِن: أَن يكون ذَلِك من سنَن الْعِيد، كالتكبير فِي زمَان الْمُضِيّ إِلَى الْمصلى وَفِي أَيَّام التَّشْرِيق. وَالتَّاسِع: لعلمه بحاجة النَّاس إِلَى مَسْأَلته ورؤيته. والعاشر: التفاؤل بإلقاء الذُّنُوب فِي طَرِيق الْمُضِيّ وَالرُّجُوع متنظفا.
1326 - / 1607 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْجُمُعَة، ثمَّ نَذْهَب إِلَى جمالنا فنريحها حِين تَزُول الشَّمْس.
هَذَا دَلِيل لمن يرى جَوَاز صَلَاة الْجُمُعَة قبل الزَّوَال، وَقد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند سهل بن سعد.
1327 - / 1608 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ((من ترك مَالا فلأهله، وَمن ترك دينا أَو ضيَاعًا فَإِلَيَّ وَعلي)) .
الضّيَاع هَاهُنَا: حَاجَة الْعِيَال بعد الْمَيِّت، وفقرهم. وَقد كَانَ(3/59)
يشدد فِي أَمر الدّين حَتَّى إِنَّه يمْتَنع عَن الصَّلَاة على صَاحب الدّين كَمَا ذكرنَا فِي مُسْند أبي قَتَادَة وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع. وَقد بَينا هُنَاكَ أَنه مَنْسُوخ بِمَا سَيَأْتِي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة وَهَذَا الحَدِيث.
1328 - / 1609 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج عَام الْفَتْح فِي رَمَضَان، فصَام حَتَّى بلغ كرَاع الغميم، ثمَّ دَعَا بقدح من مَاء فرفعه حَتَّى نظر النَّاس إِلَيْهِ ثمَّ شرب.
قد سبق بَيَان هَذَا.
وكراع الغميم مَوضِع.
وَإِنَّمَا رفع الْإِنَاء ليراه النَّاس فيقتدوا بِفِعْلِهِ.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْفطر فِي السّفر أفضل. وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي هَذَا فِي مُسْند أبي الدَّرْدَاء. وَلما كَانَ مَقْصُوده بإفطاره إفطار النَّاس لم يكن لأحد أَن يُخَالِفهُ، فَلَمَّا صَامَ قوم أطلق عَلَيْهِم اسْم ((العصاة)) .
1329 - / 1610 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن أَسمَاء بنت عُمَيْس نفست بِذِي الحليفة، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر أَن تَغْتَسِل وتهل.
هَذِه أَسمَاء زوج أبي بكر الصّديق، كَانَت حَامِلا: فنفست بِمُحَمد ابْن أبي بكر. وَإِنَّمَا أمرهَا أَن تَغْتَسِل - وَإِن كَانَ غسل النُّفَسَاء لَا يَصح -(3/60)
لفائدتين: إِحْدَاهمَا: أَن تتشبه بالطاهرات، كَمَا أَمر من أكل يَوْم عَاشُورَاء بإمساك بَقِيَّة النَّهَار. وَالثَّانيَِة: التَّنْبِيه على أَن من سنة الْإِحْرَام الْغسْل.
1330 - / 1611 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن: دَخَلنَا على جَابر بن عبد الله فَقَامَ فِي نساجة ملتحفا بهَا.
النساجة: ضرب من الملاحف المنسوجة. وَقد رَوَاهُ قوم: ساجة: وَهِي الطيلسان.
وَقد فسرنا المشجب قبل أَحَادِيث يسيرَة، وَأَنه أَعْوَاد مركبة يوضع عَلَيْهَا الرحل وَالثيَاب.
وَإِنَّمَا صلى جَابر فِي ثوب وثيابه مَوْضُوعَة ليعلمهم جَوَاز ذَلِك.
وَقَوله: مكث تسع سِنِين لم يحجّ. يحْتَج بِهِ من لَا يرى وجوب الْحَج على الْفَوْر وَيَقُول: قد ثَبت وجوب الْحَج قبل حج الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسنين، ويستدلون بِحَدِيث ضمام الْوَافِد، وَأَنه قدم فِي سنة خمس، وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر لَهُ فَرَائض الْإِسْلَام وَمِنْهَا الْحَج، قَالُوا: فَإِذا كَانَ الْحَج قد فرض فِي سنة خمس ثمَّ أَخّرهُ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى سنة تسع دلّ على أَنه لَا يجب على الْفَوْر.
وَالْجَوَاب: أَن قد ثَبت بالأدلة الجلية أَن الْأَمر الْمُطلق يَقْتَضِي الْفَوْر، فَمن أَدِلَّة الْقُرْآن قَوْله تَعَالَى: {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} [الْأَعْرَاف: 12] وَلَو كَانَ الْأَمر على التَّرَاخِي لما حسن العتب. وَمن أَدِلَّة(3/61)
الحَدِيث قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي سعيد بن الْمُعَلَّى حِين دَعَاهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَلم يجبهُ: ((مَا مَنعك إِذْ دعوتك أَن تُجِيبنِي. ألم يقل الله عز وَجل: {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ} ؟ [الْأَنْفَال: 24] وَلم يفسح لَهُ بِالتَّأْخِيرِ إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة.
وَمن أَدِلَّة اللُّغَة أَن الْأَلْفَاظ الْمُطلقَة يُفِيد مقتضاها عقيب وجودهَا؛ وَلِهَذَا وَقع حكم اللَّفْظ عقيب اللَّفْظ، كَالْبيع وَالطَّلَاق، وَلِهَذَا أجمع اللغويون على أَن السَّيِّد إِذا قَالَ لعَبْدِهِ: قُم، فتوقف من غير عذر أَنه يحسن لومه وعقابه.
فَإِذا ثَبت هَذَا الأَصْل قُلْنَا: قد اخْتلف أَولا فِي قدوم ضمام، فَروِيَ أَنه كَانَ فِي سنة تسع، فَيكون معنى قَول جَابر: مكث تسعا لم يحجّ: أَي لم يُخَاطب بذلك. وَرُوِيَ أَنه كَانَ فِي سنة خمس، فعلى هَذَا نقُول: مَا قعد عَن الْحَج تسعا. وَإِنَّمَا هَذَا ذكر الزَّمَان الَّذِي لم يَقع فِيهِ الْحَج وَإِن سلم أَن الْحَج تقدم فَرْضه فتأخير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ قَضِيَّة فِي عين، فَهِيَ تحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون الله عز وَجل أعلم نبيه أَنه لَا يَمُوت حَتَّى يحجّ فَأَخَّرَهُ ثِقَة بالإدراك، وَهَذَا جَوَاب أبي زيد الْحَنَفِيّ.
وَالثَّانِي: أَن يكون أَخّرهُ لعذر، بِدَلِيل اتفاقنا على أَن تَقْدِيمه أفضل وَلم يكن ليترك الْأَفْضَل إِلَّا لعذر. وَقد ذكرُوا لَهُ خَمْسَة أعذار: أَحدهَا: الْفقر. وَالثَّانِي: الْخَوْف على نَفسه، وَلِهَذَا كَانَ يحرس إِلَى أَن نزل عَلَيْهِ {وَالله يَعْصِمك من النَّاس} [الْمَائِدَة: 67] وَالثَّالِث: الْخَوْف على الْمَدِينَة من الْمُشْركين. وَالرَّابِع: أَن يكون رأى تَقْدِيم الْجِهَاد(3/62)
وتدبير الجيوش أولى من تَقْدِيم الْحَج، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر. وَالْخَامِس: غَلَبَة الْمُشْركين على مَكَّة وَظُهُور شركهم فِي زمَان الْحَج، وَلم يُمكنهُ الْإِنْكَار، فَلَمَّا بعث أَبَا بكر ونادى أَلا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك حج لزوَال الْعذر.
وَقَوله لأسماء: ((اغْتَسِلِي)) قد تكلمنا عَلَيْهِ فِي الحَدِيث الَّذِي قبله.
وَقَوله: ((استثفري)) الإستثفار: شدّ الثَّوْب على مَحل الدَّم ليمنع الجريان، وَهُوَ مشبه بثفر الدَّابَّة.
وَقَوله: ثمَّ ركب الْقَصْوَاء. قد بَينا فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن سَبَب تَسْمِيَتهَا بذلك.
وَقَوله: فَأهل بِالتَّوْحِيدِ: أَي بِالْحَجِّ وَحده. وَيحْتَمل: أهل بِهَذِهِ الْكَلِمَات الْمَذْكُورَة: ((لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك)) التَّلْبِيَة الْمُشْتَملَة على التَّوْحِيد، وَهِي الَّتِي سبقت فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأهل النَّاس بِهَذَا الَّذِي يهلون بِهِ. أَي أَنهم يزِيدُونَ فِيهَا وينقصون وَلم يُنكر عَلَيْهِم.
واستلم الرُّكْن: أَي لمسه.
والرمل قد فسرناه فِي مَوَاضِع.
والصفا: الْحِجَارَة الصلبة. والمروة: الْحِجَارَة اللينة.(3/63)
وشعائر الله: متعبداته.
وَقَوله: ((أبدأ بِمَا بَدَأَ الله بِهِ)) هَذَا يدل على اعْتِبَار الْبِدَايَة فِي اللَّفْظ وَإِن كَانَ الْكَلَام مجموعا بِالْوَاو، فَإِن قَوْله تَعَالَى: {إِن الصَّفَا والمروة} [الْبَقَرَة: 158] مثل قَوْله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} [الْمَائِدَة: 6] وَفِي هَذَا دَلِيل على أبي حنيفَة فِي وجوب التَّرْتِيب فِي الْوضُوء.
وَقَوله: فرقي عَلَيْهِ. الْقَاف مَكْسُورَة، وَالْمعْنَى: صعد وارتفع.
فَإِذا فتحت الْقَاف كَانَ من الرّقية. وعوام الْمُحدثين يفتحونها جهلا باللغة.
وَقَوله: ((لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لم أسق الْهَدْي)) قد تقدم الْكَلَام فِي سَبَب تأسفه فِي مُسْند ابْن عَبَّاس، وَتقدم قَول سراقَة وَالْكَلَام فِيهِ هُنَالك أَيْضا.
وَقَوله: ثيابًا صبيغا: أَي مصبوغة.
والتحريش: وصف مَا يُوجب عتاب المغرى وتوبيخه للمحرش عَلَيْهِ.
ونمرة: مَوضِع قريب من عَرَفَة.
وَقَوله: ((إِن أول دم أَضَعهُ من دمائنا دم ابْن ربيعَة بن الْحَارِث)) ربيعَة هُوَ ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب، وَكَانَ أسن من الْعَبَّاس بِسنتَيْنِ، وَلما خرج الْمُشْركُونَ إِلَى بدر كَانَ ربيعَة غَائِبا بِالشَّام فَلم يشهدها مَعَهم، فَلَمَّا خرج الْعَبَّاس وَنَوْفَل مُهَاجِرين إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيَّام الخَنْدَق شيعهما ربيعَة، فَلَمَّا أَرَادَ الرُّجُوع قَالَا:(3/64)
أَيْن نرْجِع وَقد عز رَسُول الله وَكثر أَصْحَابه؟ فَأقبل مَعَهم حَتَّى قدمُوا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسلمين مُهَاجِرين، وَشهد ربيعَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتح مَكَّة والطائف، وَثَبت مَعَه يَوْم حنين.
وَأما ابْن ربيعَة الَّذِي وضع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَمه فَفِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: إِيَاس. وَالثَّانِي: تَمام. وَالثَّالِث: آدم، ذكرهَا ابْن سعد وَقَالَ: نرى من قَالَ آدم رأى فِي الْكتاب: دم ابْن ربيعَة، فَزَاد ألفا.
وَكَانَ قد استرضع لهَذَا الْوَلَد فِي هُذَيْل، فَقتله بَنو لَيْث بن بكر فِي حَرْب كَانَت بَينهم، كَانَ يحبو أَمَام الْبيُوت فَرَمَوْهُ بِحجر فرضخوا رَأسه.
وَقد روى هَذَا الحَدِيث أَبُو عبيد وَقَالَ فِيهِ: ((أول دم أَضَع دم ربيعَة ابْن الْحَارِث)) . ثمَّ فسره وَقَالَ: أضَاف الدَّم إِلَى ربيعَة لِأَنَّهُ ولي الدَّم.
وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي بعض الطّرق كَذَلِك، وَحكى أَبُو سُلَيْمَان أَن أَبَا دَاوُد رَوَاهُ دم الْحَارِث بن عبد الْمطلب، فَتكون الْإِشَارَة إِلَى الْجد.
وَقد غلط بعض الْمُحدثين فَرَوَاهُ: دم أبي ربيعَة، وَلَيْسَ بِشَيْء، وَالصَّحِيح الأول.
وَإِنَّمَا خص الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن عَمه بِالذكر ليعلم أَنه لَا رخصَة لأحد فِي هَذَا.
وَقَوله: ((بِأَمَان الله)) الْأمان: الْعَهْد. ويروى: بأمانة الله.(3/65)
وَقَوله: ((بِكَلِمَة الله)) يُشِير إِلَى عقد النِّكَاح. وَقَالَ الْخطابِيّ: هِيَ قَوْله: {فإمساك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان} [الْبَقَرَة: 229] .
وَقَوله: ((أَن لَا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه)) هَذَا محو لعادة الْعَرَب فِي كَون الْمَرْأَة تَأذن للرِّجَال الْأَجَانِب فِي مجالستها ومحادثتها، فَمن ظن أَنه يُشِير بذلك إِلَى الزِّنَا فقد أَخطَأ.
والمبرح: الشَّديد.
وَقَوله: ينكبها إِلَى النَّاس: أَي يميلها إِلَيْهِم مشهدا الله عَلَيْهِم.
يُقَال نكب الرجل كِنَانَته: إِذا أمالها وكبها.
وَأما الْحَبل فَهُوَ مَا استطال من الرمل. وَقيل: هُوَ مَا كَانَ دون الْجبَال فِي الإرتفاع.
وَقَوله: وَقد شنق للقصواء الزِّمَام. يُقَال: شنق الرجل زِمَام نَاقَته: إِذا ضمه إِلَيْهِ كفا لَهَا عَن الْإِسْرَاع.
ومورك الرحل: مَا يكون بَين يَدي الرحل يضع الرَّاكِب رجله عَلَيْهِ.
وَقَوله: فصلى بِأَذَان وَإِقَامَتَيْنِ. قد سبق بَيَان الْجمع بِمُزْدَلِفَة فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: وَلم يسبح بَينهمَا: أَي لم يتَنَفَّل.
وَقَوله: فَدفع قبل أَن تطلع الشَّمْس. هَذَا بِخِلَاف عَادَة الْجَاهِلِيَّة.(3/66)
وَقَوله: فمرت ظعن، وَهِي جمع ظَعِينَة، والظعينة: الْمَرْأَة فِي الهودج.
وَقَوله: يجرين: أَي يحركن الْإِبِل للسير.
وطفق: أَخذ فِي الْفِعْل.
وإنكار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتغطية وَجهه لطف فِي الْإِنْكَار وَتَعْلِيم الْخلق. وَأما نَحره ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَة، فقد قيل: إِنَّمَا نحر هَذَا الْعدَد لِأَنَّهُ كَانَ مبلغ سنه لتَكون كل بَدَنَة لعام.
وَقد دلّ ذبحه بِيَدِهِ على أَن ذبح الرجل نسيكته بِيَدِهِ مُسْتَحبّ.
وَقَوله: مَا غبر: أَي مَا بَقِي.
والبضعة: الْقطعَة من اللَّحْم. وَإِنَّمَا أكل من الْكل وَشرب لقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الْحَج: 28] .
وَأما أَبُو سيارة فَإِنَّهُ كَانَ يدْفع بِقُرَيْش من مَكَّة وَلَا يخرج إِلَى عَرَفَات، وَكَانُوا يَقُولُونَ: نَحن أهل الْحرم فَلَا نعدوه، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} [الْبَقَرَة: 199] فخالفهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخرج إِلَى عَرَفَات.
وَأَجَازَ بِمَعْنى قطع الْوَادي. قَالَ الزّجاج: يُقَال: جَازَ الرجل الْوَادي وَأَجَازَهُ: إِذا قطعه ونفذه.
1331 - / 1612 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِالسوقِ وَالنَّاس كنفتيه، فَمر بجدي أصك ميت.(3/67)
قَوْله: كنفتيه: أَي عَن جانبيه.
والصكك: اصطكاك الرُّكْبَتَيْنِ عِنْد الْعَدو حَتَّى تصيب إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، كَأَنَّهُ قد نقصت ركبتاه.
1332 - / 1613 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نشترك فِي الْإِبِل وَالْبَقر، كل سَبْعَة منا فِي بَدَنَة.
هَذَا حجَّة أَحْمد وَالشَّافِعِيّ فِي جَوَاز الإشتراك. وَقد شرحنا هَذَا فِي الحَدِيث التسعين من مُسْند ابْن عَبَّاس.
1333 - / 1615 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: صَلَاة الْكُسُوف، وَأَنه صلى بِالنَّاسِ سِتّ رَكْعَات بِأَرْبَع سَجدَات، وَانْصَرف وَقد آضت الشَّمْس.
وَقَوله: سِتّ رَكْعَات: يَعْنِي بالركعات الرُّكُوع. وَقَوله: بِأَرْبَع سَجدَات: يَعْنِي رَكْعَتَيْنِ، لِأَن فِي كل رَكْعَة سَجْدَتَيْنِ، فعلى هَذَا يكون فِي كل رَكْعَة ثَلَاث ركوعات، وَلَا أعرفهُ مذهبا لأحد. وَقد رُوِيَ بِلَفْظ آخر: أَربع رَكْعَات وَأَرْبع سَجدَات، وَهَذَا مَعْرُوف، وَقد ذكرنَا صَلَاة الْكُسُوف فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: آضت الشَّمْس: أَي رجعت إِلَى حَالَة الإستقامة.
وَقَوله: ((وَرَأَيْت صَاحب المحجن)) المحجن: الْعَصَا المعوجة العقفاء.
والقصب: المعى، وَجَمعهَا أقصاب.(3/68)
وخشاش الأَرْض: هوامها وَمَا يدب من حشراتها.
والقطف: العنقود.
1334 - / 1616 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: ذكر صَلَاة الْخَوْف وَقد سبقت فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة.
1335 - / 1618 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ((إِذا وَقعت لقْمَة أحدكُم فليأخذها، فليمط مَا كَانَ بهَا من أَذَى وليأكلها وَلَا يَدعهَا للشَّيْطَان)) .
الإماطة: الْإِزَالَة وَالدَّفْع. يُقَال: أماط الرجل عني الْأَذَى، وماط: إِذا نحاه عَنْك.
وَفِي قَوْله: ((وَلَا تدعها للشَّيْطَان)) وَجْهَان: أَحدهمَا: لَا تتركها لَهُ فيتناولها الشَّيْطَان. وَالثَّانِي: لَا تتركها لقَوْل الشَّيْطَان.
وَقَوله: ((حَتَّى يلعقها)) قد شرحناه فِي مُسْند كَعْب بن مَالك.
1336 - / 1619 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((الظُّلم ظلمات يَوْم الْقِيَامَة)) قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر
وَقَوله: ((وَاتَّقوا الشُّح)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الشُّح أبلغ من الْبُخْل، وَإِنَّمَا الشُّح بِمَنْزِلَة الْجِنْس، وَالْبخل بِمَنْزِلَة النَّوْع. وَأكْثر مَا يُقَال فِي الْبُخْل إِنَّه من أَفْرَاد الْأُمُور وخواص الْأَشْيَاء، وَالشح عَام،(3/69)
فَهُوَ كالوصف اللَّازِم للْإنْسَان من قبل الطَّبْع والجبلة. قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: الْبُخْل: أَن يضن بِمَالِه، وَالشح: أَن يبخل بِمَالِه ومعروفه.
وَقَوله: ((أهلك من كَانَ قبلكُمْ)) وَذَلِكَ لأَنهم تشاحوا على الْملك وَالْمَال والرئاسة، واقتتلوا فهلكوا.
1337 - / 1620 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ((مَا من نفس منفوسة تبلغ مائَة سنة)) .
قد يشكل هَذَا على من لَا يعلم فَيَقُول: قد عَاشَ خلق أَكثر من هَذَا قبل الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعده، فَمَا وَجه هَذَا؟ فَالْجَوَاب: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنى بذلك الْمَوْجُودين حِينَئِذٍ من يَوْم قَوْله هَذَا، وَهَذَا قَالَه قبل أَن يَمُوت بِشَهْر كَمَا رُوِيَ فِي الحَدِيث: فَمَا بلغ أحد مِمَّن كَانَ مَوْجُودا من يَوْمئِذٍ مائَة سنة. وَهَذَا مُبين وَاضح فِي مُسْند ابْن عمر، وَقد سبق شَرحه. وَكثير من الروَاة يقتصرون على بعض الحَدِيث ويتركون المهم، وَرُبمَا عبروا بِالْمَعْنَى وَلم يفهموا الْمَقْصُود، فَيَقَع الْإِشْكَال، وَالله سُبْحَانَهُ لَا يخلي كل زمَان مِمَّن يكْشف الْإِشْكَال وَيدْفَع الشّبَه، فَمَتَى سَمِعت حَدِيثا فِيهِ نوع خلل فانسب ذَلِك إِلَى الروَاة؛ فَإِن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منزه عَن ذَلِك.
1338 - / 1621 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: عَن يزِيد الْفَقِير قَالَ: كنت قد شغفني رَأْي من رَأْي الْخَوَارِج.(3/70)
أما تَسْمِيَته بالفقير فَإِنَّهُ لم يكن فَقِيرا، وَإِنَّمَا كَانَ يشكو فقار صلبه، فَقيل لَهُ الْفَقِير. وَمثل هَذَا فَيْرُوز الْحِمْيَرِي، فَإِنَّهُ كَانَ من الديلم لَا من حمير، وَلَكِن نزل فِي حمير فَقيل لَهُ الْحِمْيَرِي. وَكَذَلِكَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، نزل فِي تيم فنسب إِلَيْهِم، وَإِلَّا فَهُوَ مولى بني مرّة بن عباد.
وَكَذَلِكَ أَبُو سعيد المَقْبُري، نزل الْمَقَابِر فَقيل المَقْبُري. وَكَذَلِكَ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد الْمَكِّيّ، كَانَ بصريا، وَإِنَّمَا نزل مَكَّة فَقيل الْمَكِّيّ.
وَكَذَلِكَ خَالِد الْحذاء، كَانَ يُجَالس الحذائين وَلم يكن حذاء. وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيم بن يزِيد الخوزي، نزل شعب الخوز بِمَكَّة فَقيل الخوزي.
وَكَذَلِكَ سُلَيْمَان الْعَرْزَمِي، نزل جبانة عَرْزَم بِالْكُوفَةِ فنسب إِلَيْهَا.
وَقَوله: شغفني: أَي أصَاب شغَاف قلبِي، وَأَرَادَ أَنِّي اعتقدت ذَلِك.
وَقَوله: يخرجُون من النَّار كَأَنَّهُمْ عيدَان السماسم. يُشِير إِلَى سوادهم.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((إِلَّا دارات وُجُوههم)) . وَذَلِكَ لاحترام مَوضِع السُّجُود.
1339 - / 1622 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((مثلي ومثلكم كَمثل رجل أوقد نَارا، فَجعل الجنادب والفراش يقعن)) .
الجنادب جمع جُنْدُب: وَهِي الْجَرَاد. والفراش: صغَار البق(3/71)
والبعوض يتهافت فِي النَّار.
والحجز جمع حجزة: وَهِي معقد الْإِزَار، والعامة تَقول حزة، وَهِي لُغَة لبني الْحَارِث بن كَعْب، وَأنْشد ابْن فَارس للنجاشي الْحَارِثِيّ:
(يرقون فِي النّخل حَتَّى ينزلُوا أصلا ... فِي كل حزة سيح مِنْهُم بسر)
أَرَادَ الْبُسْر.
وَمُرَاد الحَدِيث أَنكُمْ كلما وَقَعْتُمْ فِي زلَّة خلصتكم الشَّرِيعَة ودلتكم على النجَاة. وَأَنْتُم تعودُونَ إِلَى التهافت.
1340 - / 1623 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِوَضْع الجوائح.
الجوائح: الْآفَات الَّتِي تصيب الثِّمَار فتهلكها. يُقَال: جاحهم الدَّهْر واجتاحهم: إِذا أَصَابَهُم بمكروه عَظِيم.
وَقد اخْتلف النَّاس فِي حكم هَذَا الحَدِيث: فعندنا أَنه على الْوُجُوب، وَأَن مَا تهلكه الجوائح من ضَمَان البَائِع، والْحَدِيث نَص فِي ذَلِك. وَفِي بعض أَلْفَاظه الصَّحِيحَة: ((إِن بِعْت من أَخِيك ثمرا فأصابته جَائِحَة فَلَا يحل أَن تَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا، بِمَ تَأْخُذ مَال أَخِيك بِغَيْر حق؟)) وَهَذَا لِأَن الثَّمَرَة فِي رُؤُوس النّخل تستوفى حَالا فحالا، فَهِيَ كالمنافع. ثمَّ إِن الْمَنَافِع إِذا تلفت كَانَت من ضَمَان الْمُؤَجّر، فالثمرة تشبهها من هَذَا الْوَجْه. وَعَن أَحْمد: إِن كَانَ مَا أهلكته الجوائح قدر الثُّلُث فَصَاعِدا كَانَ من ضَمَان البَائِع، وَإِن كَانَ دون الثُّلُث(3/72)
فَهُوَ من ضَمَان المُشْتَرِي، وَهَذَا قَول مَالك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: جَمِيع ذَلِك من ضَمَان المُشْتَرِي، وَعِنْدَهُمَا أَن هَذَا الْأَمر أَمر ندب واستحباب، وَيرد عَلَيْهِمَا قَوْله: ((بِمَ تَأْخُذ مَال أَخِيك بِغَيْر حق؟)) .
1341 - / 1624 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: أَرَادَ بَنو سَلمَة أَن يَنْتَقِلُوا قرب الْمَسْجِد، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((دِيَاركُمْ تكْتب آثَاركُم)) .
الْمَعْنى: الزموا دِيَاركُمْ. والْآثَار الخطوات. وَقد قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: ((لكم بِكُل خطْوَة دَرَجَة)) قَالَ الْحسن وَمُجاهد فِي قَوْله تَعَالَى: {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} [يس: 12] خطاهم. وَقَالَ عمر ابْن عبد الْعَزِيز: لَو كَانَ الله مغفلا شَيْئا لأغفل مَا تعفي الرِّيَاح من أثر قدم ابْن آدم.
1342 - / 1625 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: قَالَ جَابر: يُوشك أهل الْعرَاق أَلا يجبى إِلَيْهِم قفيز وَلَا دِرْهَم. قُلْنَا: من أَيْن ذَاك؟ قَالَ: من قبل الْعَجم، يمْنَعُونَ ذَلِك. ثمَّ قَالَ: يُوشك أهل الشَّام أَلا يجبى إِلَيْهِم دِينَار وَلَا مدي. قُلْنَا: من أَيْن ذَلِك؟ قَالَ: من قبل الرّوم.
الْإِشَارَة بِمَا ذكر جَابر إِلَى الْخراج. قَالَ الْخطابِيّ. والمدي:(3/73)
مكيال لأهل الشَّام، يُقَال: إِنَّه يسع خَمْسَة عشر مكوكا.
1343 - / 1626 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: حَدِيث ابْن صياد.
وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَغَيرهمَا.
1344 - / 1629 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: نهى أَن يَأْكُل الرجل بِشمَالِهِ أَو يمشي فِي نعل وَاحِدَة.
أما النَّهْي عَن الْمَشْي فِي نعل وَاحِدَة فَإِنَّهُ حث عَن إكرام الْقدَم الْأُخْرَى، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيث آخر: ((ليحفهما جَمِيعًا أَو لينعلهما جَمِيعًا)) ثمَّ إِن الْمَشْي فِي نعل وَاحِدَة يتَضَمَّن نوع شهرة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث النَّهْي عَن اشْتِمَال الصماء. قَالَ اللغويون: هُوَ أَن تجلل جسدك كُله بِثَوْب وَلَا ترفع شَيْئا من جوانبه. وَإِنَّمَا قيل لَهَا صماء لِأَنَّهُ إِذا اشْتَمَل كَذَلِك شدّ على يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ المنافذ كلهَا كالصخرة الصماء الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خرق وَلَا صدع، وَرُبمَا احْتَاجَ أَن يقي نَفسه الْأَذَى فَلَا يقدر، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى ذهب أَبُو عبيد وَابْن قُتَيْبَة.
وَقَالَ الْفُقَهَاء: هُوَ أَن يشْتَمل بِثَوْب لَيْسَ عَلَيْهِ غَيره ثمَّ يرفعهُ من أحد جانبيه فيضعه على مَنْكِبَيْه، فيبدو مِنْهُ فرجه، فتفسير الْفُقَهَاء بخوف(3/74)
كشف الْعَوْرَة، وَتَفْسِير اللغويين بخوف أَن يدْفع إِلَى حَالَة تفجأه فَيُؤَدِّي إِلَى أَذَى أَو هَلَاك.
قَوْله: وَأَن يحتبي فِي ثوب وَاحِد كاشفا عَن فرجه. الإحتباء: لي الثَّوْب الْوَاحِد على الظّهْر والركبتين، فَإِن كشف فرجه وَاقع النَّهْي.
وَأما رفع المستلقي إِحْدَى رجلَيْهِ فَلِأَن الْغَالِب على الْعَرَب أَن يكون على أحدهم الثَّوْب الْوَاحِد، فَإِذا فعل هَذَا بَدَت عَوْرَته. فَإِن أَمن هَذَا فَلَا كَرَاهِيَة. وَفِي الصَّحِيح من حَدِيث عباد بن تَمِيم عَن عَمه: أَنه رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُسْتَلْقِيا، وَاضِعا إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى.
1345 - / 1630 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((فِيمَا سقت الْأَنْهَار والعيون العشور، وَفِيمَا سقِِي بالسانية نصف العشور)) .
قد تكلمنا على هَذَا فِي أَفْرَاد البُخَارِيّ من مُسْند ابْن عمر وَقد بَينا آنِفا أَن السانية: الْإِبِل الَّتِي تَسْقِي الزَّرْع.
1346 - / 1631 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: ((لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ من الْوَرق صَدَقَة. وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق من التَّمْر صَدَقَة.
الْوَرق: الْفضة. وَقد تقدم الْكَلَام فِي الْأُوقِيَّة فِي هَذَا الْمسند.(3/75)
والذود من الْإِبِل: مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَلَا تكون الذود إِلَّا إِنَاثًا، فَإِذا بلغت الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعين فَهِيَ صبة، فَإِذا بلغت الْخمسين إِلَى السِّتين فَهِيَ هجمة، فَإِذا بلغت السّبْعين إِلَى الثَّمَانِينَ فَهِيَ عكرة، فَإِذا بلغت مائَة فَهِيَ هنيدة، فَإِذا بلغت ثَلَاثمِائَة فَهِيَ العرج، فَإِذا بلغت السبعمائة إِلَى الْألف فَهِيَ خطر.
وَقد سبق أَن الوسق سِتُّونَ صَاعا، والصاع أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَالْمدّ: رَطْل وَثلث.
هَذَا الحَدِيث يدل على أَن النّصاب مُعْتَبر فِي المعشرات خلافًا لأبي حنيفَة وَفِيه دَلِيل على أَنه لَيْسَ فِي الخضروات صَدَقَة لِأَنَّهَا لَا توسق.
1347 - / 1632 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: ((أفضل الصَّلَاة طول الْقُنُوت)) .
أصل الْقُنُوت الطَّاعَة. وَالْمرَاد بِهِ هَاهُنَا الْقيام. وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل الْأَفْضَل كَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُود أَو طول الْقيام؟ فَأَما الإِمَام أَحْمد فَإِنَّهُ قَالَ: قد رُوِيَ فِي هَذَا حديثان، وَلم يقْض فِيهِ بِشَيْء. يُشِير إِلَى حَدِيث جَابر فِي طول الْقيام، وَإِلَى مَا سَيَأْتِي من حَدِيث ربيعَة عَن كَعْب أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرافقته فِي الْجنَّة، فَقَالَ لَهُ: ((أَعنِي على(3/76)
نَفسك بِكَثْرَة السُّجُود)) وَقَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: أما بِالنَّهَارِ فكثرة الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَأما بِاللَّيْلِ فطول الْقيام، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح؛ لِأَنَّهُ لم ينْقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَلَاة اللَّيْل إِلَّا طول الْقيام، وَلم ينْقل عَنهُ فِي صَلَاة النَّهَار طول قيام، والسر فِي ذَلِك أَن الْقيام إِنَّمَا يُرَاد للْقِرَاءَة، وَالْقِرَاءَة ترَاد للتفكر، وَالْقلب يَخْلُو فِي اللَّيْل عَن الشواغل فَيحصل الْمَقْصُود من التِّلَاوَة بِخِلَاف النَّهَار.
1348 - / 1633 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: ((الْمُسلم من سلم الْمُسلمُونَ من يَده وَلسَانه)) .
وَالْمعْنَى: هَذَا هُوَ الْمُسلم الَّذِي صدق قَوْله بِفِعْلِهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم} [الْأَنْفَال: 2] . أَي هَذِه صِفَات من صدق إيمَانه وَتمّ.
1349 - / 1634 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: ((بَين الرجل وَبَين الشّرك ترك الصَّلَاة)) .
اتّفق الْعلمَاء على أَن من ترك الصَّلَاة جاحدا لوُجُوبهَا فَهُوَ كَافِر، وَاخْتلفُوا فِيمَن تَركهَا تكاسلا، فَقَالَ أَحْمد: يدعى إِلَى فعلهَا، فَإِن لم يَفْعَلهَا حَتَّى تضايق وَقت الَّذِي بعْدهَا وَجب قَتله. وَعنهُ: أَنه لَا يجب قَتله حَتَّى يتْرك ثَلَاث صلوَات ويتضايق وَقت الرَّابِعَة، فَإِذا وَجب قَتله لم(3/77)
يقتل حَتَّى يُسْتَتَاب ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل بِالسَّيْفِ. وَهل وَجب قَتله حدا. أَو لكفره؟ على رِوَايَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا: لكفره، وَدَلِيله هَذَا الحَدِيث، وَالثَّانِي: يقتل حدا. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يكفر، بل يُسْتَتَاب، فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يُسْتَتَاب وَيحبس وَلَا يقتل.
1350 - / 1635 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: طَاف رَسُول الله بِالْبَيْتِ فِي حجَّة الْوَدَاع على رَاحِلَته يسْتَلم الْحجر بِمِحْجَنِهِ.
الإستلام: اللَّمْس. والمحجن: قد بَيناهُ فِي الحَدِيث التَّاسِع من أَفْرَاد مُسلم. وَقد بَين فِي هَذَا الحَدِيث أَنه إِنَّمَا طَاف رَاكِبًا ليراه النَّاس وليسألوه: وَقد تكلمنا فِي طوف الرَّاكِب فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1351 - / 1638 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: أُتِي بضب فَأبى أَن يَأْكُل مِنْهُ وَقَالَ: ((لَا أَدْرِي، لَعَلَّه من الْقُرُون الَّتِي مسخت)) .
قد تكلمنا على أكل الضَّب فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
فَإِن قيل: كَيفَ الْجمع بَين هَذَا وَبَين حَدِيث أم حَبِيبَة: ((إِن الله لم يمسخ أحدا فَيجْعَل لَهُ نَسْلًا وَلَا عَاقِبَة)) ؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون وَقت قَوْله: ((لَا أَدْرِي)) لم يعلم، ثمَّ أعلم فَقَالَ مَا روته أم حَبِيبَة، وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: لَعَلَّه قد مسخ قوم على(3/78)
هَيئته وَصورته، فكره أكله للمشابهة، وَتَركه استقذارا، وَهَذَا اخْتِيَار ابْن جرير.
1352 - / 1639 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: رمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَمْرَة يَوْم النَّحْر ضحى، فَأَما بعد فَإِذا زَالَت الشَّمْس.
أما الْجَمْرَة الَّتِي ترمى يَوْم النَّحْر فوقتها بعد طُلُوع الشَّمْس، فَإِن رمى بعد نصف اللَّيْل أَجزَأَهُ خلافًا لأبي حنيفَة وَمَالك. وَأما الْجمار الَّتِي ترمى فِي أَيَّام التَّشْرِيق فوقتها بعد الزَّوَال، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز أَن يَرْمِي فِي الْيَوْم الْأَخير قبل الزَّوَال. وَعَن أَحْمد مثله.
1353 - / 1641 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْمِي الْجَمْرَة بِمثل حَصى الْخذف.
الْعَادة جَارِيَة بِأَن الْإِنْسَان لَا يخذف بالحصى الْكِبَار، وَالسّنة أَن يكون هَذَا الْحَصَى أكبر من الحمص وأصغر من البندق.
1354 - / 1642 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: ((لكل نَبِي دَعْوَة دَعَا بهَا فِي أمته وخبأت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة)) .
قَوْله: ((دَعَا بهَا فِي أمته)) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: دَعَا بهَا لنَفسِهِ وَهُوَ فِي أمته. وَالثَّانِي: دَعَا بهَا فيهم: إِمَّا لصلاحهم وَإِمَّا لهلاكهم.(3/79)
1355 - / 1643 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ينْهَى أَن يُسمى بيعلى وببركة وبأفلح وبيسار وبنافع وَنَحْو ذَلِك، ثمَّ سكت وَلم يقل شَيْئا.
إِنَّمَا كره ذَلِك لشيئين: أَحدهمَا: أَن هَذِه الْأَسْمَاء تَتَضَمَّن تَزْكِيَة المسمين ومدحهم. وَالثَّانِي: أَنه قد يُقَال: أَفِي الْبَيْت بركَة؟ أها هُنَا نَافِع؟ فَيُقَال: لَا فكره ذَلِك.
1356 - / 1644 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: فِي قتل الْكلاب: ((عَلَيْكُم بالأسود البهيم ذِي الطفيتين؛ فَإِنَّهُ شَيْطَان)) .
البهيم: الَّذِي لَا يخالط سوَاده لون غير السوَاد.
وَقد سبق بَيَان الطفيتين فِي الْحَيَّات فِي مُسْند أبي لبَابَة، وَهُوَ فِي الْكلاب على ذَلِك الْمَعْنى.
1357 - / 1645 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((طَعَام الْوَاحِد يَكْفِي الْإِثْنَيْنِ، وَطَعَام الْإِثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَة)) .
وَهَذَا يتَضَمَّن الْحَث على الإيثار، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ عِنْد الْإِنْسَان مَا يَكْفِيهِ فَأكل شطره لم يُؤثر ذَلِك عِنْده فِي إِقَامَة أوده.
1358 - / 1646 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: أَنه قَالَ لأسماء بنت عُمَيْس: ((مَالِي أرى أجسام بني أخي ضارعة، تصيبهم الْحَاجة؟))(3/80)
قَالَت: لَا، وَلَكِن الْعين تسرع إِلَيْهِم. قَالَ: ((ارقيهم)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الضارع: الضاوي النحيف.
وَقد تكلمنا على الرقى فِي مُسْند ابْن عَبَّاس، وَذكرنَا مَا فعل فِي إِصَابَة الْعين هُنَاكَ أَيْضا.
وَالْمرَاد ببني أَخِيه أَوْلَاد جَعْفَر بن أبي طَالب، وَأَسْمَاء كَانَت زَوجته.
1359 - / 1647 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر أَن يقبر الرجل بِاللَّيْلِ حَتَّى يصلى عَلَيْهِ إِلَّا أَن يضْطَر إِنْسَان إِلَى ذَلِك، وَقَالَ: ((إِذا كفن أحدكُم أَخَاهُ فليحسن كَفنه)) .
أما نَهْيه عَن الإقبار بِاللَّيْلِ فلتكثر الصَّلَاة على الْمَيِّت، وتحسين الْكَفَن احترام للْمَيت، وَلِأَنَّهُ قد رُوِيَ أَنهم يحشرون فِي أكفانهم.
وَلَيْسَ تَحْسِين الْكَفَن كَمَا يفعل الْجُهَّال من التنوق فِي الأكفان الرفيعة.
1360 - / 1650 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: نهى عَن بيع الصُّبْرَة من التَّمْر لَا يعلم مكيلتها بالمكيل الْمُسَمّى من التَّمْر.
الصُّبْرَة: الْجزَاف بِلَا كيل وَلَا وزن. وَهَذَا النَّهْي لأجل الرِّبَا.
فَأَما إِذا بَاعَ صبرَة مجازفة وَانْفَرَدَ البَائِع بِمَعْرِِفَة قدرهَا: فعندنا لَا يجوز لَهُ وَالْبيع صَحِيح وَللْمُشْتَرِي الْخِيَار، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: البيع(3/81)
لَازم وَلَا خِيَار للْمُشْتَرِي
1361 - / 1651 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((إِذا ابتعت طَعَاما فَلَا تبعه حَتَّى تستوفيه)) .
قد سبق الْكَلَام فِي هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1362 - / 1652 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشُّفْعَة فِي كل شركَة لم تقسم: ربعَة - وَفِي لفظ: ربع - أَو حَائِط، لَا يحل أَن يَبِيع حَتَّى يُؤذن شَرِيكه، فَإِن شَاءَ أَخذ وَإِن شَاءَ ترك، فَإِذا بَاعَ وَلم يُؤذنهُ فَهُوَ أَحَق بِهِ.
الرّبع: الْمنزل. والحائط: الْبُسْتَان.
وَقَوله: لَا يحل: نهي لمن يحتال فِي إِسْقَاط الشُّفْعَة. وَهَذِه شُفْعَة الْمشَاع، فَأَما غير الْمشَاع فقد ذَكرْنَاهُ فِي أول أَفْرَاد البُخَارِيّ من هَذَا الْمسند.
1363 - / 1653 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: أُتِي بِأبي قُحَافَة يَوْم فتح مَكَّة وَرَأسه ولحيته كالثغامة بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((غيروا هَذَا بِشَيْء وَاجْتَنبُوا السوَاد)) .
أَبُو قُحَافَة اسْمه عُثْمَان بن عَامر. وَالَّذِي جَاءَ بِهِ يَوْم الْفَتْح ابْنه أَبُو بكر الصّديق. أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد(3/82)
الْجَوْهَرِي قَالَ: أخبرنَا ابْن حيويه قَالَ: أخبرنَا ابْن مَعْرُوف قَالَ:
حَدثنَا ابْن الْفَهم قَالَ: أخبرنَا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عَن أَبِيه عَن أَسمَاء بنت أبي بكر قَالَت: لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة وَاطْمَأَنَّ وَجلسَ فِي الْمَسْجِد، أَتَاهُ أَبُو بكر الصّديق بِأبي قُحَافَة، فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((يَا أَبَا بكر، أَلا تركت الشَّيْخ حَتَّى أكون أَنا الَّذِي أَمْشِي إِلَيْهِ)) قَالَ: يَا رَسُول الله، هُوَ أَحَق أَن يمشي إِلَيْك من أَن تمشي إِلَيْهِ. فأجلسه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين يَدَيْهِ، وَوضع يَده على قلبه ثمَّ قَالَ: ((يَا أَبَا قُحَافَة، أسلم تسلم)) .
فَأَما الثغامة فَقَالَ أَبُو عبيد: الثغام: نبت أَبيض الثَّمر أَو الزهر، فَشبه بَيَاض الشيب بِهِ، قَالَ حسان بن ثَابت:
(إِمَّا تري رَأْسِي تجلل لَونه ... شُمْطًا فَأصْبح كالثغام الممحل)
الممحل: الَّذِي أَصَابَهُ الْمحل: وَهِي الجدوبة. وَقَالَ الزّجاج: أثغم رَأس الرجل: إِذا صَار كالثغامة، وأثغم الْوَادي: إِذا صَار فِيهِ الثغام، وَهُوَ شجر أَبيض النُّور يشبه بِهِ الشيب.
1364 - / 1654 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: ((غلظ الْقُلُوب والجفاء فِي الْمشرق، وَالْإِيمَان فِي الْحجاز)) .
قد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عمر أَن الْفِتَن تَأتي من الْمشرق مثل الدَّجَّال(3/83)
ويأجوج وَمَأْجُوج وَغير ذَلِك، والأغلب عَلَيْهِم الْأَعَاجِم، وَفِيهِمْ غلظ الْقُلُوب والجفاء. وَأما الْحجاز فمسكن الْعَرَب. قَالَ ابْن فَارس: سمي الْحجاز لِأَنَّهُ احتجز بالجبال، يُقَال: احتجزت الْمَرْأَة: إِذا شدت ثِيَابهَا على وَسطهَا واتزرت، قَالَ: وَالْأَصْل عندنَا فِي الْحجاز أَنه حاجز بَين أَرضين.
1365 - / 1656 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: نهى أَن يقتل شَيْء من الدَّوَابّ صبرا.
أَي أَن يحبس للْقَتْل، وَقد كَانُوا يتخذونها كالغرض ويرمونها.
1366 - / 1656 -
1366 - / 1658 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: قَالَ جَابر: نجيء نَحن يَوْم الْقِيَامَة عَن كَذَا وَكَذَا، ثمَّ يأتينا رَبنَا.
قَوْله: عَن كَذَا وَكَذَا، كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى كَثْرَة الْعدَد.
وَقَوله: ثمَّ يأتينا رَبنَا. قد قَالَ أَحْمد فِي قَوْله: يَأْتِيهم الله: يَأْتِي أمره.
وَقَوله: فتجلى لَهُم يضْحك. قد يسْبق إِلَى الخيال والحس التَّمْثِيل بالخلق. وَفِي قَوْله: فَينْطَلق بهم فيتبعونه، أَنه يقطع مَسَافَة. وَهَذَا كُله حرَام الإعتقاد، وَالنَّاس فِي هَذَا وَأَمْثَاله رجلَانِ: أَحدهمَا سكت عَن(3/84)
التَّفْسِير مَعَ نفي الخيال، وَهَذَا مَذْهَب جُمْهُور السّلف. وَالْآخر: حمله على سَعَة اللُّغَة. فَأَما الثَّالِث فَهُوَ الْمُشبه.
وَقَوله: تذْهب حراقه: أَي أثر مَا احْتَرَقَ مِنْهُ.
1367 - / 1659 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: قَالَ جَابر: طلقت خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَن تَجِد نخلها، فزجرها رجل أَن تخرج، فَأَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((بلَى، جدي نخلك)) .
جدَاد النّخل: صرامها.
وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّة من الطَّلَاق الثَّلَاث، فَإِنَّهَا تخرج فِي النَّهَار إِلَى الْمَكَان الْقَرِيب للْحَاجة، ونخل الْأَنْصَار قريب من دُورهمْ. فَأَما الرَّجْعِيَّة فَلَا تخرج لَيْلًا وَلَا نَهَارا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تخرج المبتوتة أصلا كالرجعية. وَقَالَ الشَّافِعِي: تخرج نَهَارا لَا لَيْلًا.
1368 - / 1660 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: نهى عَن بيع ضراب الْجمل، وَعَن بيع المَاء وَالْأَرْض لتحرث.
أما ضراب الْفَحْل فَهُوَ عسب الْفَحْل، وَقد تقدم ذكره فِي أَفْرَاد البُخَارِيّ من مُسْند ابْن عمر.
وَأما بيع المَاء فَلِأَن النَّاس شُرَكَاء فِيهِ.
1369 - / 1661 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: نهى عَن الوسم(3/85)
فِي الْوَجْه.
الوسم: الْعَلامَة بِنَار أَو غَيرهَا، وَهِي فِي الْوَجْه كالمثلة.
1370 - / 1662 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: نهى أَن يجصص الْقَبْر وَأَن يقْعد عَلَيْهِ. وَفِي لفظ: أَن يُقَصَّص.
التجصيص من الجص، والتقصيص من الْقِصَّة، وَهُوَ الجص أَيْضا، وَقد ذكرنَا عَن أبي سُلَيْمَان أَنه قَالَ: يشبه الجص وَلَيْسَ بِهِ.
وَأما الْقعُود على الْقَبْر فَظَاهره الْجُلُوس، وَقد أَوله قوم فَقَالُوا: هُوَ الْقعُود عَلَيْهِ للتخلي وَالْحَاجة، وَالْأول اصح.
1371 - / 1663 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: نهى عَن الشّغَار. وَقد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1372 - / 1664 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: ((مَا من صَاحب إبل لَا يفعل فِيهَا حَقّهَا إِلَّا قعد لَهَا بقاع قرقر)) .
أما القاع فَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ الْمَكَان المستوي لَيْسَ فِيهِ ارْتِفَاع وَلَا انخفاض، وَهُوَ القيعة أَيْضا. وَيُقَال: القيعة جمع قاع. والقرقر أَيْضا: الْمَكَان المستوي.(3/86)
وَقَالَ: وَقد جَاءَ فِي بعض الحَدِيث: ((بقاع قرق)) وَهُوَ مثل القرقر، وَأنْشد:
(كَأَن أَيْدِيهنَّ بالقاع القرق ... أَيدي جوَار يتعاطين الْوَرق)
فَشبه بَيَاض أَيدي الْإِبِل ببياض أَيدي الْجَوَارِي. كَذَا قَالَ أَبُو عبيد.
وَأخْبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا قَالَ: قَالَ لي أَبُو الْعَلَاء المعري: يجب أَن يكون شبه حمرَة أَيدي الْإِبِل بحمرة أَيدي الْجَوَارِي، لِأَن أخفافها قد اختضبت بِالدَّمِ، فَهِيَ كأيدي جوَار قد اختضبن، وَهن بَنَات أَغْنِيَاء يلعبن بِالدَّرَاهِمِ.
وَقَوله: يستن: أَي يعدو. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: والإستنان: أَن يحضر الْفرس وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْفَارِس. يُقَال: فرس سِنِين، وَذَلِكَ من النشاط. وَأَرَادَ هَا هُنَا أَنه يمرح فِي الطول.
والأخفاف جمع خف. والخف للبعير كالظفر للْإنْسَان، والظلف للبقر وَالْغنم كَذَلِك.
والجماء: الَّتِي لَا قرن لَهَا.
وَقَوله: ((شجاعا أَقرع)) قَالَ أَبُو عبيد: الشجاع: الْحَيَّة، وَإِنَّمَا سمي أَقرع لِأَنَّهُ يقري السم ويجمعه فِي رَأسه حَتَّى يتمعط مِنْهُ شعره، قَالَ الشَّاعِر يذكر حَيَّة ذكرا:(3/87)
(قرى السم حَتَّى انماز فَرْوَة رَأسه ... عَن الْعظم صل فاتك اللسع مارده)
وَقَوله: ((فيقضمان)) القضم: العض وَالْكَسْر. وَقَالَ أَبُو عبيد: القضم بِأَدْنَى الْأَسْنَان والخضم بأقصاها.
والفحل: الذّكر.
وَأما قَوْله وَقد سُئِلَ عَن حق الْإِبِل فَقَالَ: ((حلبها على المَاء)) أَي عِنْد المَاء، وَذَلِكَ لأَنهم يَجْتَمعُونَ عِنْده، فَأَرَادَ سقِِي أهل المَاء.
وَقَوله: ((ومنيحتها)) أَي يُعْطي النَّاقة وَالشَّاة لمن يحلبها وَيشْرب من لَبنهَا من الْفُقَرَاء وقتا مَعْلُوما. ومنحة لَبنهَا يَوْم وُرُودهَا: أَن تَسْقِي من حضر من المحتاجين، وَهَذَا - مِمَّا نرَاهُ - كَانَ لَازِما قبل الزَّكَاة، لِأَن التواعد لَا يكون إِلَّا على وَاجِب.
1373 - / 1665 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: ((فَينزل عِيسَى فَيَقُول أَمِيرهمْ: صل لنا، فَيَقُول: لَا، إِن بَعْضكُم على بعض أُمَرَاء)) .
اعْلَم أَنه لَو تقدم عِيسَى لوقع فِي النُّفُوس إِشْكَال، ولقيل: أتراه تقدم على وَجه النِّيَابَة أم ابْتَدَأَ شرعا؟ ، فَيصَلي مَأْمُوما لِئَلَّا يتدنس بغبار الشُّبْهَة، وَجه قَوْله: ((لَا نَبِي بعدِي)) .(3/88)
1374 - / 1666 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: كتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كل بطن عقوله، ثمَّ كتب بِأَنَّهُ لَا يحل أَن يتوالى مولى رجل مُسلم بِغَيْر إِذْنه.
الْبَطن من الْقَبِيلَة. وَيُرِيد بالعقول أَنَّهَا تعقل عَن صَاحبهَا، وَالْمرَاد أَن الدِّيَة على الْعَاقِلَة، فَكتب على كل بطن مَا يلْزمهُم من الدِّيَة، وَمنع أَن يتَوَلَّى رجل قوما بِغَيْر إِذن موَالِيه، وَهُوَ أَن ينتسب إِلَى ولايتهم ومواليه فَمَا يأذنون فِي هَذَا.
1375 - / 1667 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: ((إِن كَانَ فِي شَيْء فَفِي الرّبع وَالْخَادِم وَالْفرس)) يَعْنِي الشؤم وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند سهل بن سعد.
1376 - / 1668 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: ((إِذا استجمر أحدكُم فليوتر)) .
أصل الإستجمار من الْجمار: وَهِي الْحَصَا الصغار. وَيسْتَحب أَن يكون وترا. وَفِي حَدِيث آخر: ((فليذهب مَعَه بِثَلَاثَة أَحْجَار)) .
1377 - / 1669 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: قَالَ جَابر: مهل أهل الْمَدِينَة من ذِي الحليفة.
الْمهل مضموم الْمِيم: وَهُوَ الْموضع الَّذِي يهلون مِنْهُ. والإهلال:(3/89)
رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. وَقد سبق هَذَا.
1378 - / 1671 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: ((اركبها بِالْمَعْرُوفِ إِذا ألجئت إِلَيْهَا حَتَّى تَجِد ظهرا)) يَعْنِي الْهَدْي.
الْمَعْرُوف هَا هُنَا مَا لَا يجْهد المركوب. والإلجاء: الإضطرار.
وَالظّهْر: المركوب.
وَعِنْدنَا أَن لصَاحب الْهَدْي أَن يركب وَأَن يشرب اللَّبن. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن اضْطر إِلَى الرّكُوب جَازَ. وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي: لَا يركبهَا، وَإِن فعل ذَلِك لضَرُورَة فنقصها الرّكُوب شَيْئا ضمن مَا نَقصهَا وَتصدق بِهِ.
1379 - / 1672 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: كُنَّا نستمتع بالقبضة من التَّمْر والدقيق الْأَيَّام على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر حَتَّى نهى عَنهُ عمر فِي شَأْن عَمْرو بن حُرَيْث.
عَمْرو بن حُرَيْث من الصَّحَابَة، وَكَانَ قد استمتع من امْرَأَة فَحملت، فَبلغ ذَلِك عمر، فحد فِي النَّهْي عَن ذَلِك. المُرَاد أَنه بَين تَحْرِيم ذَلِك الْفِعْل، وَإِنَّمَا فعل هَذَا فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ أذن فِيهِ ثمَّ إِنَّه نهى عَنهُ، فَلم يعلم بِالنَّهْي أَقوام فَفَعَلُوا ذَلِك فِي زَمَنه وَفِي زمن أبي بكر، فَلَمَّا شاع فعلهم فِي زمن عمر حد فِي تَبْيِين النَّهْي،(3/90)
وَبَيَان هَذَا أَنه لَا يجوز أَن يكون النَّهْي بَلغهُمْ ثمَّ يَفْعَلُونَهُ، لِأَن الصَّحَابَة قد نزهوا عَن مثل هَذَا، وَلَا يجوز أَن يكون مَأْذُونا فِيهِ بِالشَّرْعِ مُطلقًا، وَقد فعل فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر ويبتدئ عمر بِالنَّهْي عَنهُ؛ إِذْ لَيْسَ إِلَيْهِ أَن يُغير شَيْئا من الشَّرِيعَة، وَإِنَّمَا الْوَجْه مَا ذكرنَا. وَقد ذكرنَا مثل هَذَا فِي أَوَائِل هَذَا الْمسند.
1380 - / 1673 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((إِذا دعِي أحدكُم إِلَى طَعَام فليجب)) .
إِذا كَانَ الطَّعَام الْمَدْعُو إِلَيْهِ وَلِيمَة عرس وَجَبت الْإِجَابَة على مَا بَينا فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب، وَإِن لم تكن وَلِيمَة عرس اسْتحبَّ للمدعو أَن يطيب قلب الدَّاعِي بِحُضُورِهِ إِذا لم يكن فِي الْحُضُور مَا يكره.
1381 - / 1674 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم النَّحْر بِالْمَدِينَةِ، فَتقدم رجال فنحروا وظنوا أَن رَسُول الله قد نحر، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَانَ نحر قبله أَن يُعِيد بنحر آخر، وَلَا ينحروا حَتَّى ينْحَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قد تكلمنا على هَذَا فِيمَا تقدم، وَبينا أَن مَذْهَبنَا يخْتَلف، فالمنصور عندنَا أَنه لَا يجوز ذبح الْأُضْحِية قبل صَلَاة الإِمَام وَيجوز بعْدهَا وَإِن لم يكن قد ذبح، وَيكون معنى قَوْله: وَلَا تنحروا حَتَّى ينْحَر، على الْغَالِب فِي حَال الإِمَام، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي ثمَّ ينْحَر. وَقَالَ أَبُو(3/91)
حنيفَة فِي أهل الْأَمْصَار كمذهبنا، وَفِي أهل الْقرى: يجوز أَن يذبحوا بعد طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر. وَقَالَ مَالك: وَقت الذّبْح إِذا صلى الإِمَام وَذبح، أخذا بِظَاهِر هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ الشَّافِعِي: وَقت الذّبْح أَن يمْضِي بعد دُخُول وَقت الصَّلَاة زمَان يُمكن فِي صَلَاة رَكْعَتَيْنِ وخطبتين، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْخرقِيّ.
1382 - / 1675 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: زجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تصل الْمَرْأَة برأسها شَيْئا.
وَقد تكلمنا فِي حكم وصل الشّعْر فِي مُسْند ابْن عمر. وَمعنى الحَدِيث: أَن تصل بشعرها. وَقد ذكرنَا أَن الْعلمَاء أباحوا القرامل، فَيكون قَوْله: ((شَيْئا)) إِشَارَة إِلَى الشّعْر.
1383 - / 1676 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: إِن الْيَهُود إِذا سلمُوا قَالُوا: السام عَلَيْك.
والسام: الْمَوْت، وَقد سبق هَذَا.
1384 - / 1677 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: ((لَا عدوى وَلَا طيرة وَلَا صفر وَلَا غول)) .(3/92)
قد تكلمنا فِي الْعَدْوى والطيرة فِي مُسْند ابْن عمر.
فَأَما قَوْله: ((لَا صفر)) فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا حَيَّة تكون فِي الْبَطن، وَفِي هَذَا الحَدِيث قَالَ جَابر: كَانَ يُقَال دَوَاب الْبَطن. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: سَمِعت يُونُس يسْأَل رؤبة عَن الصفر فَقَالَ: حَيَّة تكون فِي الْبَطن تصيب الْمَاشِيَة وَالنَّاس، وَهِي أعدى من الجرب عِنْد الْعَرَب، فَأبْطل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا تعدِي. وَيُقَال: إِنَّهَا تشتد على الْإِنْسَان إِذا جَاع وتؤذيه، قَالَ أعشى باهلة:
(لَا يتأرى لما فِي الْقدر يرقبه ... وَلَا يعَض على شرسوفه الصفر)
وَالثَّانِي: أَنه تأخيرهم الْمحرم إِلَى صفر، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة. قَالَ أَبُو عبيد: وَلم يقل هَذَا غير أبي عُبَيْدَة.
وَقَوله: ((وَلَا غول)) كَانَت الْعَرَب تَقول: إِن الغيلان فِي الفلوات تتراءى للنَّاس وتتغول: أَي تتلون لَهُم فتضلهم عَن الطَّرِيق وتفزعهم وتهلكهم، فَأبْطل الشَّرْع صِحَة ذَلِك.
1385 - / 1679 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: ((النَّاس تبع لقريش فِي الْخَيْر وَالشَّر)) .
كَانَت قُرَيْش مُتَقَدّمَة على سَائِر الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة، ثمَّ تقدمتهم بالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْإِسْلَام.(3/93)
1386 - / 1681 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: بَايَعْنَاهُ تَحت الشَّجَرَة غير جد بن قيس، فَإِنَّهُ اختفى تَحت بطن بعيره.
هَذَا الرجل مَعْدُود فِي الْمُنَافِقين، وَهُوَ الْقَائِل: {ائْذَنْ لي وَلَا تفتني} [التَّوْبَة: 49] .
1387 - / 1682 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين: ((لَا يبع حَاضر لباد)) .
البادي: الَّذِي يطْرَأ عَلَيْك، وَالَّذِي يسكن الْبَادِيَة. وَقد سبق شرح هَذَا الحَدِيث وَحكمه فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1388 - / 1683 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: نهى أَن يبال فِي المَاء الراكد.
الراكد الْمُقِيم الَّذِي لَا يجْرِي، وَلَا يَخْلُو من حَالين: إِمَّا أَن يكون قَلِيلا فينجس بالبول، أَو كثيرا لَا يُنجسهُ الْبَوْل، فاستدامة الْبَوْل فِيهِ تغير رِيحه وتقذره إِلَى المستعملين مِنْهُ.
1389 - / 1684 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: ((فَإِذا مُوسَى ضرب من الرِّجَال كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة)) .
الضَّرْب من الرِّجَال: الْخَفِيف، وأنشدوا:(3/94)
(أَنا الرجل الضَّرْب الَّذِي تعرفونه ... خشَاش كرأس الْحَيَّة المتوقد)
وَأما تشبيهه عِيسَى بِعُرْوَة، وَجِبْرِيل بِدِحْيَةَ، فَإِن عُرْوَة هُوَ ابْن مَسْعُود بن معتب، أَبُو يَعْفُور الثَّقَفِيّ، أسلم وَصَحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ودحية هُوَ ابْن خَليفَة بن فَرْوَة، أسلم قَدِيما، وَشهد الْمشَاهد بعد بدر. وَجَمَاعَة الْمُحدثين واللغويين يَقُولُونَ دحْيَة بِكَسْر الدَّال، وَحكى ابْن قُتَيْبَة عَن الْأَصْمَعِي فتحهَا. وَكَانَ جِبْرِيل يَأْتِي فِي صورته. قَالَ لنا شَيخنَا ابْن نَاصِر: إِنَّمَا كَانَ جِبْرِيل يتشبه بِدِحْيَةَ لِأَن دحْيَة كَانَ يدْخل على الْمُلُوك.
1390 - / 1685 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: اشْتَكَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلينا وَرَاءه وَهُوَ قَاعد، فَالْتَفت فرآنا قيَاما، فَأَشَارَ إِلَيْنَا، فَقَعَدْنَا فصلينا بِصَلَاتِهِ قعُودا، فَلَمَّا سلم قَالَ: ((ائتموا بأئمتكم. إِن صلى قَائِما فصلوا قيَاما، وَإِن صلى قَاعِدا فصلوا قعُودا)) .
مَذْهَب أَصْحَابنَا أَنه إِذا مرض إِمَام الْحَيّ مَرضا يرجي بُرْؤُهُ جَازَ أَن يُصَلِّي بهم قَاعِدا وَيصلونَ خَلفه قعُودا لهَذَا الحَدِيث، فَإِن صلوا قيَاما جَازَ خلافًا للأكثرين فِي قَوْلهم: إِنَّه مَتى قدرُوا على الْقيام فصلوا جُلُوسًا بطلت صلَاتهم وَقد حكى البُخَارِيّ عَن عبد الله بن الزبير الْحميدِي أَنه قَالَ: هَذَا مَنْسُوخ، لِأَن هَذَا كَانَ فِي مَرضه الْقَدِيم، وَقد صلى فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَالنَّاس خَلفه قيام فَلم يَأْمُرهُم بِالْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ بِالْآخرِ فالآخر من أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي(3/95)
مُسْند أنس وَأبي هُرَيْرَة وَعَائِشَة، وَهَذَا كَلَام على الْكل.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: أَن فَارس وَالروم يقومُونَ على مُلُوكهمْ: أَي على رُؤُوس مُلُوكهمْ.
1391 - / 1686 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: جَاءَ عبد فَبَايع على الْهِجْرَة وَلم يشْعر أَنه عبد، فجَاء سَيّده يُريدهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((بعنيه)) فَاشْتَرَاهُ بعبدين.
لما كَانَت الْهِجْرَة وَاجِبَة على من يقدر، كَالْجُمُعَةِ مثلا، كَانَ العَبْد كالمعذور لموْضِع حبس السَّيِّد لَهُ.
1392 - / 1687 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: النَّهْي عَن الْأكل بالشمال وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
1393 - / 1688 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: أَن أم سَلمَة اسْتَأْذَنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحجامَة، فَأمر أَبَا طيبَة أَن يحجمها، حسبت أَنه قَالَ: كَانَ أخاها من الرضَاعَة، أَو غُلَاما لم يَحْتَلِم.
قلت: مَتى اضطرت الْمَرْأَة إِلَى هَذَا وَلم تَجِد محرما يحجمها وَلَا امْرَأَة، جَازَ أَن يحجمها أَجْنَبِي.
1394 - / 1689 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين ((إِذا رأى أحدكُم(3/96)
الرُّؤْيَا يكرهها فليبصق عَن يسَاره)) وَقد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة.
1395 - / 1690 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: ((من رَآنِي فِي النّوم فقد رَآنِي)) .
وَقد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة، وتكلمنا هُنَالك عَن أَقسَام الرُّؤْيَا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن رجلا قَالَ: رَأَيْت كَأَن رَأْسِي ضرب فتدحرج، واشتددت فِي إثره. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا تحدث النَّاس بتلعب الشَّيْطَان بك)) وَهَذَا تَنْبِيه على أَن كل رُؤْيا كَانَت من هَذَا الْجِنْس فَلَا يَنْبَغِي أَن يتحدث بهَا، فَإِنَّهَا من الشَّيْطَان.
1396 - / 1691 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: أَن عبدا لحاطب قَالَ: ليدخلن حَاطِب النَّار. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((كذبت، لَا يدخلهَا، فَإِنَّهُ شهد بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَة)) .
هَذَا حَاطِب بن أبي بلتعة. وَفِي هَذَا الحَدِيث بِشَارَة لمن شهد بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَة، وَقد قَالَ فِي أهل بدر: ((لَعَلَّ الله اطلع على أهل بدر فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم؛ فَإِنِّي قد غفرت لكم)) . وَقَالَ الله تَعَالَى فِي أهل الْحُدَيْبِيَة: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة} [الْفَتْح: 18] .(3/97)
1397 - / 1692 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: ((أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله} فَذكر الحَدِيث وَقَرَأَ: {لست عَلَيْهِم بمسيطر} [الغاشية: 22] أما الحَدِيث فقد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأما المسيطر فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الْمُسَلط. قَالَ اللغويون: يُقَال: تسيطر وتصيطر بِالسِّين وَالصَّاد، وَالْأَصْل السِّين، وكل سين بعْدهَا طاء يجوز أَن تقلب صادا، كَمَا تَقول سطر وصطر، وسطا علينا وصطا.
وَلم يَأْتِ فِي كَلَام الْعَرَب اسْم على ((مفيعل)) إِلَّا خَمْسَة أَسمَاء: مسيطر وَهُوَ الْمُسَلط، ومهيمن وَهُوَ الشَّاهِد، ومجيمر وَهُوَ اسْم جبل، ومبيطر أَي بيطار، ومبيقر وَهُوَ الَّذِي خرج من أَرض إِلَى أَرض، يُقَال: بيقر الرجل: إِذا خرج من بلد إِلَى بلد، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس.
(أَلا هَل أَتَاهَا والحوادث جمة ... بِأَن امْرأ الْقَيْس بن تملك بيقرا) .
1398 - / 1693 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/98)
دخل مَكَّة يَوْم فتح مَكَّة وَعَلِيهِ عِمَامَة سَوْدَاء.
المُرَاد من هَذَا الحَدِيث أَنه دخل غير محرم. وَاعْلَم أَن من أَرَادَ دُخُول مَكَّة لَا للنسك بل لحَاجَة، فَلَا تَخْلُو هَذِه الْحَاجة من أَمريْن: إِمَّا أَن تكون متكررة كالإحتطاب والإحتشاش فَهَذَا لَا يلْزمه الْإِحْرَام.
وَإِمَّا أَن تكون غير متكررة كالتجارة، فَهَل يلْزمه الْإِحْرَام أم لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد، وقولان للشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من كَانَ من أهل الْمِيقَات إِلَى مَكَّة لَا يلْزمه، وَمن كَانَ خَارج الْمِيقَات لزمَه الْإِحْرَام. فَإِذا قُلْنَا: لَا يلْزم الدَّاخِل لحَاجَة غير متكررة الْإِحْرَام فَلَا كَلَام، وَإِن قُلْنَا: يلْزم، كَانَ دُخُول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى مَكَّة غير محرم خَاصّا لَهُ، بِدَلِيل قَوْله: ((وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من نَهَار)) .
1399 - / 1695 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: فِيهِ شَيْء يتَعَلَّق بِالْقدرِ. وَقد سبق بَيَانه فِي مُسْند عمر وَعلي وَعمْرَان بن حُصَيْن وَغَيرهم.
وَفِيه: أَرَأَيْت عُمْرَتنَا، لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد؟ وَفِيه: ((من لم يكن مَعَه هدي فليحلل)) وَقد سبق تَفْسِير ذَلِك فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَغَيره.
1400 - / 1696 - وَفِي الحَدِيث التسعين: ((لَا تذبحوا إِلَّا مُسِنَّة إِلَّا أَن يعسر عَلَيْكُم فتذبحوا جَذَعَة من الضَّأْن)) .(3/99)
المسنة: مَا لَهَا سنتَانِ وَأكْثر. والجذعة من الضَّأْن: مَا كمل لَهُ سِتَّة أشهر وَدخل فِي السَّابِع، فَأَما من الْمعز فَمَا لَهُ سنة وَقد دخل فِي الثَّانِيَة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: ولد الضَّأْن أول سنة حمل، ثمَّ يكون جذعا فِي الثَّانِيَة، ثمَّ ثنيا، ثمَّ رباعيا. وَولد المعزى أول سنة جدي، ثمَّ تنقله فِي الْأَسْنَان مثل تنقل الْحمل. وَقَالَ ابْن فَارس: يُقَال لأَوْلَاد الْغنم سَاعَة تضعه أمه من الضَّأْن والمعز جَمِيعًا، ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى: سخلة، ثمَّ هُوَ الْبَهِيمَة. فَإِذا أَتَى عَلَيْهَا الْحول وَدخلت فِي الثَّانِيَة فَهِيَ جَذَعَة. فَإِذا أَتَت عَلَيْهَا سنتَانِ وَدخلت فِي الثَّالِثَة فَهِيَ ثنية. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الْجذع يخْتَلف فِي أَسْنَان الْإِبِل وَالْخَيْل وَالْبَقر والشاه، وَيَنْبَغِي أَن يُفَسر قَول الْعَرَب فِيهِ تَفْسِيرا مشبعا لحَاجَة النَّاس إِلَى مَعْرفَته فِي أضاحيهم وصدقاتهم: فَأَما الْبَعِير فَإِنَّهُ يجذع لاستكماله أَرْبَعَة أَعْوَام ودخوله فِي الْخَامِسَة، وَأما الْجذع من الْخَيل فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: إِذا استتم الْفرس سنتَيْن وَدخل فِي الثَّالِثَة فَهُوَ جذع، وَإِذا استتم الثَّالِثَة وَدخل فِي الرَّابِعَة فَهُوَ ثني. وَأما الْجذع من الْبَقر فَقَالَ الْأَصْمَعِي: إِذا طلع قرن الْعجل وَقبض عَلَيْهِ فَهُوَ عضب، ثمَّ هُوَ بعد ذَلِك جذع، وَبعده ثني. وَقَالَ عتبَة بن أبي حَكِيم: لَا يكون الْجذع من الْبَقر حَتَّى يكون لَهُ سنتَانِ وَأول يَوْم من الثَّالِثَة. وَاخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْجذع من الضَّأْن والمعز، فَقَالَ أَبُو زيد فِي المعزى خَاصَّة: يكون جذعا فِي السّنة الثَّانِيَة، ثمَّ ثنيا فِي الثَّالِثَة، ثمَّ رباعيا فِي الرَّابِعَة، وَلم يذكر الضَّأْن. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الإجذاع وَقت وَلَيْسَ بسن. وَقَالَ:(3/100)
والعناق تجذع لسنة، وَرُبمَا أجذعت العناق قبل تَمام السّنة للخصب فتسمن فيسرع إجذاعها، فَهِيَ جَذَعَة لسنة، وثنية لتَمام سنتَيْن. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: فرق ابْن الْأَعرَابِي بَين المعزى والضأن، فَجعل الضَّأْن أسْرع إجذاعا، وَهَذَا الَّذِي قَالَ إِنَّمَا يكون مَعَ خصب السّنة وَكَثْرَة اللَّبن والعشب. وَقَالَ يحيى بن آدم: إِنَّمَا يَجْزِي الْجذع من الضَّأْن فِي الْأَضَاحِي لِأَنَّهُ ينزو ويلقح، وَإِذا كَانَ من المعزى لم يلقح حَتَّى يثني. وَقَالَ اللَّيْث: الْجذع من الدَّوَابّ والأنعام أول مَا يُسْتَطَاع ركُوبه.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الْخرقِيّ: سَمِعت أبي يَقُول: سَأَلت بعض أهل الْبَادِيَة: كَيفَ تعرفُون الضَّأْن إِذا أجذع؟ فَقَالُوا: لَا تزَال الصوفة قَائِمَة على ظَهره مَا دَامَ حملا، فَإِذا نَامَتْ الصوفة على ظَهره علم أَنه قد أجذع.
1401 - / 1697 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: كَانَ ينْبذ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سقاء فَإِن لم يَجدوا سقاء نبذوا لَهُ فِي تور من حِجَارَة. فَقيل لأبي الزبير: من برام؟ قَالَ: من برام.
السقاء: الْقرْبَة. قَالَ أَبُو زيد: يُقَال لمسك السخلة مَا دَامَت ترْضع الشكوة، فَإِذا فطم فمسكة البدرة. قَالَ فَإِذا أجذع فمسكة السقاء.(3/101)
والتور كلمة فارسية: وَهُوَ اسْم آنِية من حِجَارَة، مَعْرُوف. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ عَن أبي عبيد عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: وَمِمَّا دخل فِي كَلَام الْعَرَب الطست، والتور. وَهِي فارسية. قَالَ شَيخنَا: وَقَالَ ابْن دُرَيْد: فَأَما التور: الرَّسُول فعربي صَحِيح، وَأنْشد:
(والتور فِيمَا بَيْننَا معمل ... يرضى بِهِ المأتي والمرسل)
المأتي: الَّذِي يُؤْتى فِي الرسَالَة، من قَول: أَتَيْته. قَالَ: وَقَالَ ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي. التورة: الْجَارِيَة الَّتِي ترسل بَين العشاق.
والبرام: نوع من الْحِجَارَة يعْمل مِنْهُ الْقُدُور. وَكَانَ ينْبذ لَهُ فِي تِلْكَ الْأَوَانِي مَا يطْلب نقيعه كالتمر وَالزَّبِيب وَغير ذَلِك.
1402 - / 1698 - وَقد سبق بَيَان الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين: عَن مُسْند ابْن عَبَّاس، والْحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين فِي مُسْند النُّعْمَان بن بشير.
1403 - / 1700 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين: ((لايموتن أحدكُم إِلَّا وَهُوَ يحسن الظَّن بِاللَّه عز وَجل)) .(3/102)
اعْلَم أَن الْخَوْف كالسوط يَسُوق النَّفس لتسعى فِي الْعَمَل، فَإِذا نزل الْمَوْت كَانَ ككلال الْبَعِير، فَيكون الرَّجَاء أولى، لِأَن المسوق قد كل فَلَا فَائِدَة فِي ضربه بِسَوْط الْخَوْف. قَالَ سُلَيْمَان التَّيْمِيّ لِابْنِهِ عِنْد الْمَوْت: اقْرَأ عَليّ أَحَادِيث الرُّخص لألقى الله وَأَنا أحسن الظَّن بِهِ.
1404 - / 1701 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى امْرَأَة، فَأتى امْرَأَته زَيْنَب وَهِي تمعس منيئة لَهَا، فَقضى حَاجته ثمَّ خرج فَقَالَ: ((إِن الْمَرْأَة تقبل فِي صُورَة شَيْطَان وتدبر فِي صُورَة شَيْطَان، فَإِذا أبْصر أحدكُم امْرَأَة فليأت أَهله، فَإِن ذَلِك يرد مَا فِي نَفسه)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تمعس: تدبغ، وأصل المعس الدَّلْك. والمنيئة: الْجلد مَا كَانَ فِي الدّباغ.
وَقَوله: ((فِي صُورَة شَيْطَان)) أَي إِن الشَّيْطَان يزين أمرهَا ويحث عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يقوى ميل النَّاظر إِلَيْهَا على قدر قُوَّة شبقه، فَإِذا جَامع أَهله قل المحرك وَحصل الْبَدَل.
1405 - / 1702 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالتسْعين: أَوله قد تقدم فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَآخره فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس.
1406 - / 1703 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من يصعد الثَّنية ثنية المرار - وَفِي لفظ - أَو المرار - فَإِنَّهُ يحط عَنهُ مَا حط عَن بني إِسْرَائِيل)) وَكَانَ أول من صعد خَيْلنَا خيل بني(3/103)
الْخَزْرَج، ثمَّ تتام النَّاس، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((وكلكم مغْفُور لَهُ إِلَّا صَاحب الْجمل الْأَحْمَر)) فأتيناه، فَقُلْنَا: تعال يسْتَغْفر لَك رَسُول الله. فَقَالَ: وَالله لِأَن أجد ضالتي أحب إِلَيّ من أَن يسْتَغْفر لي صَاحبكُم - وَكَانَ رجلا ينشد ضَالَّة لَهُ.
هَذَا كَانَ فِي غزَاة. وصعود هَذِه الثَّنية إِنَّمَا كَانَ للإقدام على الْأَعْدَاء، وَصَاحب الْجمل الْأَحْمَر كَانَ منافقا.
1407 - / 1704 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين: أَن الطُّفَيْل بن عَمْرو الدوسي قَالَ: يَا رَسُول الله، هَل لَك فِي حصن حُصَيْن ومنعة. حصن كَانَ لدوس فِي الْجَاهِلِيَّة. فَأبى ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للَّذي ذخر الله للْأَنْصَار، فَلَمَّا هَاجر إِلَى الْمَدِينَة هَاجر إِلَيْهِ الطُّفَيْل، وَهَاجَر مَعَه رجل من قومه، فاجتووا الْمَدِينَة، فَمَرض فجزع، فَأخذ مشاقص لَهُ فَقطع بهَا براجمه، فشخبت يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْل فِي مَنَامه وهيئته حَسَنَة، وَرَآهُ مغطيا يَدَيْهِ، فَقَالَ: مَا صنع بك رَبك؟ . قَالَ: غفر لي لهجرتي إِلَى نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالَ: مَا لي أَرَاك مغطيا يَديك؟ قَالَ: قيل لي: لن نصلح مِنْك مَا أفسدت. فَقَصَّهَا الطُّفَيْل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ وليديه فَاغْفِر)) .
أما امْتنَاع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحصن فَإِن التحصن بالجدران فعل الجبان، وَإِنَّمَا التحصن بِالسُّيُوفِ والمبارزة فعل الشجاع. وَسمي الْحصن حصنا من الإمتناع. والمنعة: مَا تمنع. وَهَذَا إِنَّمَا عرضه(3/104)
عَلَيْهِ لما كَانَ بِمَكَّة.
واجتووا الْمَدِينَة: كرهوها وَلم توافقهم.
والمشاقص جمع مشقص: وَهُوَ نصل السهْم إِذا كَانَ طَويلا وَلم يكن عريضا.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: والبراجم عِنْد الْعَرَب: الفصوص الَّتِي فِي فضول ظُهُور الْأَصَابِع تبدو إِذا جمعت، وَتغمضُ إِذا بسطت.
والرواجب: مَا بَين البراجم، بَين كل برجمتين راجبة.
وَقَوله: فشخبت يَدَاهُ. والشخب: مَا امْتَدَّ من اللَّبن حَتَّى يسيل.
وَيُقَال: شخبت أوداج الْقَتِيل دَمًا، تَشْبِيها بذلك.
وَإِنَّمَا تركت يَدَاهُ على حَالهَا وَقد كَانَ يُمكن أَن تعمها الْمَغْفِرَة فتصلح ليعلم قدر هَذَا الذَّنب، محذرا السَّامع للْحَال من مثله.
1408 - / 1705 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين: أَنه قَالَ لامْرَأَة: ((مَالك تزفزفين؟)) قَالَت: الْحمى، لَا بَارك الله فِيهَا.
تزفزفين من الزفزفة وَهِي تَحْرِيك الرِّيَاح الْحَشِيش حَتَّى يصوت، وَيُقَال للريح إِذا اشْتَدَّ هبوبها زفزافة، لصوت حركتها. وَقد رَوَاهُ بَعضهم: ((ترفرفين)) بالراء واجتح بِأَن الرفرفة تَحْرِيك الطَّائِر جناحيه، فَشبه رعدتها للحمى وانزعاجها بتحريك الطَّائِر جناحيه، وَالْأول أصح.
وَقَوله: فِي الْحمى: ((إِنَّهَا تذْهب الْخَطَايَا كَمَا يذهب الْكِير(3/105)
خبث الْحَدِيد)) قد سبق معنى الْكِير والخبث. وَإِنَّمَا فعلت الْحمى فِي الْخَطَايَا هَذَا لِأَن الإلتذاذ بِالْمَعَاصِي يكون بِالْقَلْبِ والجوارح، والحمى حرارة تنشأ من الْقلب وتعم الْجَوَارِح، فَلَا يبْقى فِي الْبدن - الَّذِي التذ - شَيْء إِلَّا تألم، فَلذَلِك تصفيه من الْخَطَايَا.
1409 - / 1706 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1410 - / 1707 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: دخل عمر فَوجدَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واجما.
الواجم: السَّاكِت لأمر يكرههُ كالمهتم بِهِ، يُقَال: وجم يجم وجوما. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: وجم بِمَعْنى حزن.
قَوْله: لأقولن شَيْئا أضْحك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. دَلِيل على جَوَاز التحديث بِحَدِيث يضْحك.
قَوْله: فوجأ عُنُقهَا. يُقَال: وجأ عُنُقه يجأها: إِذا دقها.
وَبَاقِي الحَدِيث قد تقدم فِي مُسْند عمر.
1411 - / 1709 - والْحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.(3/106)
1412 - / 1710 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة: ((أَلا لَا يبيتن رجل عِنْد امْرَأَة ثيب إِلَّا أَن يكون ناكحا أَو ذَا محرم)) .
إِنَّمَا خص الثّيّب بِالذكر وَإِن كَانَت الْبكر فِي حكمهَا أَيْضا؛ لِأَن الْبكر كالشيء الْمَخْتُوم عَلَيْهِ، وَلها زواجر من نَفسهَا: مِنْهَا كَونهَا لم تعرف هَذَا الْفَنّ وَلم تذق لذته، وَمِنْهَا شدَّة الْحيَاء لبعدها عَن الرِّجَال، وَمِنْهَا حذرها من الْأَلَم، وَمِنْهَا خوف الفضيحة، وكل هَذِه الْأَشْيَاء تقاوم مَا تؤثره فَتَردهُ أَو تقفه، وللرجل من جملَة زواجره خَوفه الفضيحة بافتضاضها، وَالثَّيِّب قد ارْتَفَعت هَذِه الْمَوَانِع فِي حَقّهَا، فَلذَلِك خصت بِالذكر.
1413 - / 1711 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة: ((فَإِن قِرَاءَة آخر اللَّيْل محضورة)) .
أَي تحضرها الْمَلَائِكَة.
1414 - / 1712 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة: إِن من اللَّيْل سَاعَة لَا يُوَافِقهَا مُسلم يسْأَل الله خيرا إِلَّا أعطَاهُ.
إِنَّمَا سترت هَذِه السَّاعَة وَلم تعين ليقوى الْحِرْص فِي طلبَهَا فيكثر التَّعَبُّد، كَمَا أخفيت سَاعَة الْجُمُعَة وَلَيْلَة الْقدر، وَلَو عينت لخصها النَّاس بِالطَّلَبِ وَترك مَا سواهَا.
1415 - / 1713 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الْمِائَة: ((الإستجمار تو)) .
قد فسر هَذَا الحَدِيث، وَأَنه كالوتر، كالثلاثة والخمسة والسبعة(3/107)
وَمَا كَانَ فَردا.
1416 - / 1714 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة: ((لَا يحل حمل السِّلَاح بِمَكَّة)) .
الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى تَحْرِيم الْقِتَال بِمَكَّة. وَإِنَّمَا أحلّت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَاعَة من نَهَار.
1417 - / 1715 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَة: سَأَلت جَابِرا عَن ثمن الْكَلْب والسنور فَقَالَ: زجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك.
أما الْكَلَام فِي ثمن الْكَلْب فقد سبق فِي مُسْند أبي جُحَيْفَة.
وَأما بيع السنور فقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي جَوَاز بيع السنور. فَروِيَ عَنهُ: يجوز، وَهِي اخْتِيَار الْخرقِيّ وَمذهب الشَّافِعِي.
وَعَن أَحْمد: لَا يجوز، وَهِي اخْتِيَار أبي بكر عبد الْعَزِيز بن جَعْفَر، وَهِي أصح لهَذَا الحَدِيث، وَلِأَن السنور كالوحشي الَّذِي لَا يملك قياده، وَلَا يكَاد يَصح التَّسْلِيم فِيهِ؛ لِأَنَّهُ قد يألف بعض الْأَمَاكِن مُدَّة ثمَّ ينْتَقل عَنْهَا إِلَى غَيرهَا، وَلَيْسَ كالدواب الَّتِي ترْبط وتحبس، وَلَو ربطه المُشْتَرِي وحبسه لم ينْتَفع بِهِ. وَيحْتَمل أَن يكون نهى عَن بيع هَذِه الْأَشْيَاء ليرتفق بهَا النَّاس وَلَا يَأْخُذُوا لَهَا ثمنا.
1418 - / 1716 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر بعد الْمِائَة: أَن امْرَأَة سرقت،(3/108)
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((وَالله، لَو أَن فَاطِمَة سرقت لَقطعت يَدهَا)) .
وَإِنَّمَا قَالَ: لَو كَانَت فَاطِمَة، لِأَن تِلْكَ الْمَرْأَة اسْمهَا فَاطِمَة، فَقَالَ: لَو كَانَت فَاطِمَة ابْنَتي. وَسَتَأْتِي قصَّة هَذَا الْمَرْأَة مشروحة فِي مُسْند عَائِشَة.
1419 - / 1719 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة: أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير. فَمَا زَالَ الرجل يَأْكُل مِنْهُ وضيفهما حَتَّى كاله، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((لَو لم تكله لأكلتم مِنْهُ ولقام لكم)) .
الشّطْر: النّصْف. والوسق: سِتُّونَ صَاعا. وَقَوله: ((لقام لكم)) أَي بَقِي، وَكَانَت الْبركَة تنزل فِي ذَلِك الطَّعَام فاستطال الرجل مدَّته فكاله، ينظر مَا بَقِي، فَلَمَّا وقف مَعَ الْعَادَات وكل إِلَيْهَا كَمَا وقف المَاء حِين زمته هَاجر.
1420 - / 1720 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر بعد الْمِائَة: أَن أم مَالك كَانَت تهدي للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عكة لَهَا سمنا، فيأتيها بنوها فَيسْأَلُونَ الْأدم، فتعمد إِلَى الَّتِي كَانَت تهدي فِيهَا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتجد فِيهَا سمنا، فَمَا زَالَ يُقيم لَهَا أَدَم بَيتهَا حَتَّى عصرته.
أم مَالك هِيَ بنت أبي بن مَالك بن عيد، من بني الْخَزْرَج، أسلمت، وبايعت. وَهَذَا الحَدِيث من جنس الحَدِيث الَّذِي قبله.(3/109)
والعكة: كل مَا يوضع فِيهِ السّمن من ظروف الْأدم.
1421 - / 1722 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَة: ((لَا يدْخل أحدكُم الْجنَّة عمله وَلَا يجيره من النَّار وَلَا أَنا إِلَّا برحمة الله)) وَفِي لفظ: ((قاربوا وسددوا)) وَقَالَ: ((إِلَّا أَن يتغمدني برحمة مِنْهُ)) .
السداد: الإستقامة وَلُزُوم الصَّوَاب.
وَقَوله: ((يتغمدني)) قَالَ أَبُو عبيد: أَي يلبسني ويغشيني. قَالَ: وَلَا أَحْسبهُ مأخوذا إِلَّا من غمد السَّيْف، لِأَنَّك إِذا أغمدته فقد ألبسته الغمد.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: ((لَا يدْخل أحد مِنْكُم الْجنَّة عمله)) وَقد قَالَ: {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [النَّحْل: 32] ؟ فَالْجَوَاب: من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَنه لَوْلَا رَحْمَة الله السَّابِقَة الَّتِي كتب بهَا الْإِيمَان فِي الْقُلُوب ووفق للطاعات مَا نجا أحد وَلَا وَقع عمل تحصل بِهِ النجَاة، فالتوفيق للْعَمَل من رَحمته أَيْضا. وَالثَّانِي: أَن مَنَافِع العَبْد لسَيِّده، فعمله مُسْتَحقّ لمَوْلَاهُ، فَإِن أنعم عَلَيْهِ بالجزاء فَذَلِك بفضله، كَالْمكَاتبِ مَعَ الْمولى. وَالثَّالِث: أَنه قد رُوِيَ فِي بعض الْأَحَادِيث أَن نفس دُخُول الْجنَّة بِالرَّحْمَةِ، واقتسام الدَّرَجَات بِالْأَعْمَالِ. وَالرَّابِع: أَن أَعمال الطَّاعَات كَانَت فِي زمن يسير، وثوابها لَا يبيد أبدا، فالمقام الَّذِي لَا ينْفد فِي جَزَاء مَا نفد بِفضل الله لَا بِمُقَابلَة الْأَعْمَال.
1422 - / 1723 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَة: كَانَ عبد الله ابْن أبي ابْن سلول يَقُول لجارية لَهُ: اذهبي فابغينا شَيْئا. فَأنْزل الله عز(3/110)
وَجل: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء} الْآيَة [النُّور: 33] .
كَانَ الْقَوْم فِي الْجَاهِلِيَّة يكْرهُونَ فتياتهم على الزِّنَا وَيَأْخُذُونَ أُجُورهنَّ: فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام كَانَ ابْن أبي يكره جواريه. وَفِي هَذَا الحَدِيث اسْم جاريتين لَهُ: أُمَيْمَة ومسيكة، وأنهما شكتا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك فَنزلت الْآيَة. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: معَاذَة ومسيكه، وَأَن معَاذَة قَالَت لمسيكة: إِن هَذَا الْأَمر الَّذِي نَحن فِيهِ إِن كَانَ خيرا فقد استكثرنا مِنْهُ، وَإِن كَانَ شرا فقد آن لنا أَن ندعه، فَنزلت الْآيَة. وَزعم مقَاتل أَنَّهَا نزلت فِي سِتّ جوَار كن لعبد الله بن أبي: معَاذَة ومسيكة وَأُمَيْمَة وَقتيلَة وَعمرَة وأروى.
والبغاء: الزِّنَا. والتحصن: التعفف.
والإشكال فِي هَذِه الْآيَة أَن يُقَال: كَيفَ قَالَ: {إِن أردن تَحَصُّنًا} فَيجوز إكراههن إِن لم يردن التحصن. فَالْجَوَاب من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن الْكَلَام ورد على السَّبَب الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَخرج النَّهْي على صفة السَّبَب وَإِن لم يكن شرطا فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنه إِنَّمَا شَرط إِرَادَة التحصن لِأَن الْإِكْرَاه لَا يتَصَوَّر إِلَّا عِنْد إِرَادَة التحصن، فَأَما إِذا لم ترد الْمَرْأَة التحصن فَإِنَّهَا تبغي بالطبع. وَالثَّالِث: أَن (إِن) بِمَعْنى إِذْ، وَمثله: {وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} [الْبَقَرَة: 278] . وَالرَّابِع: أَن فِي الْكَلَام تَقْدِيمًا وتأخيرا، تَقْدِيره: وَأنْكحُوا الْأَيَامَى مِنْكُم. . إِلَى قَوْله: وَإِمَائِكُمْ إِن أردن تَحَصُّنًا، وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء لتبتغوا(3/111)
عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَمن يكرههن فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور للمكرهات رَحِيم.
1423 - / 1724 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الْمِائَة: ((يبْعَث كل عبد على مَاتَ عَلَيْهِ)) .
اعْلَم أَن الْإِنْسَان قد يبْقى زَمَانا على الْكفْر ثمَّ ينْتَقل إِلَى الْإِيمَان، أَو على الْمعاصِي ثمَّ ينْتَقل إِلَى الطَّاعَة. وَقد يكون على الْإِيمَان وَالطَّاعَة فَينْتَقل إِلَى الْكفْر والمعاصي، فالأحوال تَتَغَيَّر وتتقلب فِي الدُّنْيَا، وَالْعَمَل على الخواتيم، فَإِذا مَاتَ الْإِنْسَان على حَالَة فقد ختم لَهُ بهَا، فعلَيْهَا يبْعَث.
1424 - / 1726 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين بعد الْمِائَة: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غزَاة فَقَالَ: ((إِن بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مسيرًا وَلَا قطعْتُمْ وَاديا إِلَّا كَانُوا مَعكُمْ، حَبسهم الْمَرَض)) .
هَؤُلَاءِ قوم صدقت نياتهم فِي الْخُرُوج إِلَى تِلْكَ الْغُزَاة، فحبسهم الْقدر بِالْمرضِ، فَكَانُوا كَأَنَّهُمْ غزوا، وعَلى هَذَا جَمِيع أَفعَال الْخَيْر مَتى نَوَاهَا الْإِنْسَان فَمَنعه الْقدر، كتب لَهُ ثَوَاب الْفِعْل. وَمن جنس هَذَا: {قد صدقت الرءيا} [الصافات: 105] وَرُبمَا زَادَت النِّيَّة الصادقة(3/112)
على الْفِعْل، لِأَن الْفَاعِل قد يُلَاحظ عمله، والممنوع بالعذر لَا يرى إِلَّا عَجزه.
1425 - / 1727 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: (مثل الصَّلَوَات كَمثل نهر جَار غمر، فَمَا يبقي من الدَّرن؟)) .
الْغمر: المَاء الْكثير. والدرن: الْوَسخ.
1426 - / 1728 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((إِن الشَّيْطَان قد يئس أَن يعبده المصلون فِي جَزِيرَة الْعَرَب، وَلَكِن فِي التحريش بنيهم)) .
قد سبق اشتقاق اسْم الشَّيْطَان. وَقد ذكرنَا حد جَزِيرَة الْعَرَب فِي مُسْند عمر.
والتحريش: الإغراء. وَالْمعْنَى أَنه يجْتَهد فِي إِفْسَاد مَا بَينهم من التواصل ليَقَع التباغض.
1427 - / 1729 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ذكر التَّنَفُّل فِي الْبَيْت. وَقد سبق بَيَانه فِي مُسْند زيد بن ثَابت وَابْن عمر.
وَسبق تَفْسِير مَا بعده.
1428 - / 1730 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/113)
قدم من سفر، فَلَمَّا كَانَ قرب الْمَدِينَة هَاجَتْ ريح تكَاد تدفن الرَّاكِب، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((بعثت هَذِه الرّيح لمَوْت مُنَافِق)) فَلَمَّا قدمُوا الْمَدِينَة إِذا مُنَافِق عَظِيم من الْمُنَافِقين قد مَاتَ.
قَالَ الْوَاقِدِيّ: هَذَا القفول كَانَ فِي غَزْوَة الْمُريْسِيع، وَكَانَ بَين عُيَيْنَة ابْن حصن الْفَزارِيّ وَبَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُدَّة، فخاف أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون عُيَيْنَة قد أغار على الْمَدِينَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَيْسَ عَلَيْكُم بَأْس، مَا بِالْمَدِينَةِ من نقب إِلَّا عَلَيْهِ ملك، وَمَا كَانَ ليدخلها عَدو حَتَّى تأتوها، وَلكنه مَاتَ الْيَوْم رجل من الْمُنَافِقين عَظِيم، وَلذَلِك عصفت هَذِه الرّيح)) وَهُوَ زيد بن رِفَاعَة بن التابوت.
1429 - / 1732 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: أَخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَدي إِلَى منزله، فَأخْرج إِلَيْهِ فلقا من خبز فَقَالَ: ((مَا من أَدَم؟)) فَقَالُوا: لَا، إِلَّا شَيْء من خل، قَالَ: ((فَإِن الْخلّ نعم الْأدم)) - وَفِي لفظ -: فَأتي بِثَلَاثَة قرصة فوضعن على نَبِي.
الفلق: الْقطع، وَالْمرَاد بهَا الأرغفة.
وَقَوله: ((نعم الإدام الْخلّ)) يشْتَمل على مَعْنيين وَحكم: فَالْمَعْنى الأول: مدح الْخلّ فِي نَفسه، وَله فَوَائِد مِنْهَا: أَنه ينفع الْمعدة، ويقمع الصَّفْرَاء، وَيقطع البلغم، ويشهي الطَّعَام، إِلَى غير ذَلِك من الْفَوَائِد. وَالثَّانِي: أَنه نبه بذلك، على مدح الإقتصاد فِي المأكل، وَمنع النَّفس من ملاذ الطَّعَام، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ائتدموا بِمَا خفت مُؤْنَته(3/114)
وَسَهل وجوده، فَإِن من تعود التأنف فِي الْمطعم لم يصبر عَنهُ، وَطيب الطَّعَام يحمل على الشِّبَع، وَقل أَن يسلم تَحْصِيله من شُبْهَة. وَأما الحكم فَإِنَّهُ سَمَّاهُ أدما، لِأَنَّهُ يصطبغ بِهِ، وكل شَيْء يصطبغ بِهِ يلْزمه اسْم الإدام، كَذَلِك قَالَ أهل اللُّغَة، مِنْهُم أَبُو عبيد. وَفَائِدَة هَذَا أَنه لَو حلف حَالف: لَا أكلت أدما، فَأكل الْخلّ أَو بعض مَا يصطبغ بِهِ حنث.
وَقَوله: فَأتي بِثَلَاثَة قرصة. القرصة جمع قرص.
وَالنَّبِيّ غير مَهْمُوز: الشَّيْء الْمُرْتَفع، مَأْخُوذ من النباوة وَهِي الإرتفاع، فَإِذا همز فَهُوَ من النبأ، وَهُوَ الْخَبَر.(3/115)
(78) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي سعيد بن مَالك الْخُدْرِيّ
وَإِنَّمَا قيل لَهُ الْخُدْرِيّ لِأَن فِي آبَائِهِ الأبجر بن عَوْف، وَكَانَ يُقَال للأبجر: خدرة. وَقَالَ قوم: خدرة هِيَ أم الأبجر.
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف حَدِيث وَمِائَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا.
أخرج لَهُ مِنْهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مائَة وَأحد عشر حَدِيثا.
1430 - / 1733 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: ((فيغزو فِئَام من النَّاس)) .
الفئام بِالْهَمْز. الْجَمَاعَة.
والبعث: قوم يبعثون فِي الْغَزْو.
1431 - / 1734 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ((يَأْتِي الدَّجَّال وَهُوَ محرم عَلَيْهِ أَن يدْخل نقاب الْمَدِينَة)) .
النقاب جمع نقب: وَهُوَ الطَّرِيق فِي الْجَبَل.(3/116)
المسالح: الْجراحَة فِي الجبين.
والشج: الْجراحَة فِي الجبين.
والميشار فِيهِ ثَلَاث لُغَات: ميشار بِإِسْكَان الْيَاء. ومئشار بِالْهَمْز. ومنشار بالنُّون. وَالْجمع مياشير، ومآشير، ومناشير. وَقد وشرت الْخَشَبَة وأشرتها ونشرتها بِمَعْنى.
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن الدَّجَّال يقتل رجلا ثمَّ يحييه. وَقد أشكل هَذَا على قوم فَقَالُوا: قد كَانَ إحْيَاء الْمَوْتَى أكبر معجزات عِيسَى، فَكيف قدر عَلَيْهِ هَذَا الْكذَّاب؟ وَالْجَوَاب: أَن ذَلِك وَقع امتحانا ليَكُون الْعَمَل على الدَّلِيل الدَّافِع للشُّبْهَة، وَقد ثَبت أَن الدَّجَّال كَاذِب فِي دَعْوَاهُ، وَكَونه جسما يَكْفِي، ثمَّ قد شين بِالْعَيْبِ والعور، فَلَو كَانَ رَبًّا لدفع عَن نَفسه النَّقْص، فَهَذِهِ حجج تدحض شبهه، بِخِلَاف آيَات الْأَنْبِيَاء، إِذْ لَيْسَ لَهَا داحض. ثمَّ لم تتْرك هَذِه الشُّبْهَة حَتَّى دفعت فِي الْحَال؛ فَإِن فِي هَذَا الحَدِيث أَنه يهم بقتْله مرّة أُخْرَى فَلَا يقدر، وَيَأْمُر بقتْله فَلَا يَصح لَهُ، وَيَأْخُذهُ ليذبحه فَيضْرب على رقبته نُحَاس فَلَا يُمكنهُ، فَمَا نَفعه الْفِعْل الأول حِين افتضح فِي الثَّانِي، فَعلم أَن الأول كَانَ من الله عز وَجل ليقيم الشُّبْهَة بِإِزَاءِ الْحجَّة، ويفرض على الْعقل دحضها.
1432 - / 1735 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: نهى عَن اختناث الأسقية.
قَالَ أَبُو عبيد: الاختناث: أَن يثني أفواهها ثمَّ يشرب مِنْهَا، وأصل الإختناث التكسر والتثني، وَمن هَذَا سمي المخنث لتكسره.(3/117)
وَقد ذكرنَا وَجه الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَن ذَلِك فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1433 - / 1736 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((يَمْرُقُونَ من الدّين مروق السهْم من الرَّمية، فَينْظر الرَّامِي إِلَى سَهْمه، إِلَى نصله، إِلَى رصافه. فيتمارى فِي الفوقة: هَل علق بهَا من الدَّم شَيْء؟)) .
قَوْله: ((يَمْرُقُونَ من الدّين مروق السهْم من الرَّمية)) قد فسرناه فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
قَوْله: ((ينظر الرَّامِي إِلَى سَهْمه)) السهْم: هُوَ الَّذِي يرْمى بِهِ. والنصل: حَدِيدَة السهْم. قَالَ أَبُو عبيد: والرصاف: الْعقب الَّذِي فَوق الرعظ: وَهُوَ مدْخل سنخ النصل فِي السهْم. وَوَاحِد الرصاف رصفة ورصفة. والفوق والفوقة: مَوضِع الْوتر. والقدح. السهْم. وَفِي لفظ: ((ينظر إِلَى نضيه، ثمَّ ينظر إِلَى قذذه)) النضي مُخْتَلف فِيهِ:
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: قَالَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: هُوَ نصل السهْم. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ الْقدح قبل أَن ينحت، فَإِذا نحت فَهُوَ مخشوب، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: والقذذ: ريش السهْم، كل وَاحِدَة مِنْهُ قُذَّة.
وَقَوله: ((سبق الفرث)) وَهُوَ مَا فِي الكرش. وَالْمعْنَى: إِن هَذَا السهْم مر مرا سَرِيعا فِي الرَّمية وَخرج فَلم يعلق بِهِ من الفرث وَالدَّم شَيْء، فَشبه خُرُوجهمْ من الدّين لم يعلقوا مِنْهُ بِشَيْء بِخُرُوج ذَلِك السهْم.(3/118)
وَأما قَول ذِي الْخوَيْصِرَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((اعْدِلْ)) فَإِن أصل هَذَا الضلال أَن يرتضي الْإِنْسَان رَأْي نَفسه، فَلَو أَن هَذَا الرجل وفْق لعلم أَنه لَا رَأْي فَوق رَأْي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه وَأَصْحَابه ردوا على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله، وحاربوا عليا عَلَيْهِ السَّلَام، يَزْعمُونَ أَنه أَخطَأ فِي تحكيمه، وَإِذا ظن الْإِنْسَان من هَؤُلَاءِ أَنه أتقى من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأعلم من عَليّ ابْن أبي طَالب لم يبْق مَعَه حَدِيث. وعَلى هَذَا كثير من الْعَوام، يَعْتَقِدُونَ الشَّيْء الْخَطَأ من الْعلم الَّذِي لم يتشاغلوا بِهِ، فَلَا يقدر الْعَالم أَن يردهم عَنهُ، وَسَببه اقتناعهم بآرائهم وإعجابهم بهَا. فَيَنْبَغِي أَلا ينزعج الْعَالم إِذا ردوا عَلَيْهِ، فقد جرى لهَذَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يسلي.
وَالتَّاء فِي ((خبت وخسرت)) مَفْتُوحَة، وَبَعْضهمْ يضمها، وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند جَابر.
وَقَوله: ((إِن لَهُ أصحابا يحقر أحدكُم صلَاته مَعَ صلَاتهم)) يُمكن أَن يُقَال: إِنَّه نهى عَن قَتله لِئَلَّا يُقَال: قتل الْمُصَلِّين الْعباد.
وَفِي هَذِه الْقِصَّة تَنْبِيه على شرف الْعلم؛ لِأَن هَؤُلَاءِ اشتغلوا بالتعبد عَن الْعلم، فضيعوا الْأُصُول. وَكم من متزهد شغله الصَّلَاة وَالصَّوْم وَهُوَ مفرط فِي أصُول كَثِيرَة، والشيطان يلْعَب بِهِ لقلَّة علمه، وَأَقل مَا يصنع بِهِ أَنه يرِيه أَنه خير من غَيره.
وَأما الْبضْعَة فَهِيَ الْقطعَة من اللَّحْم.
وَقَوله: ((تدَرْدر)) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تذْهب وتجىء، وَمثله تدلدل وتذبذب.(3/119)
وَقَوله: ((يخرجُون على حِين فرقة من النَّاس)) وَهَذَا من إِخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الغائبات، فَكَانَت كَمَا قَالَ؛ لِأَن الْخَوَارِج خَرجُوا على عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد افْتِرَاق من النَّاس، وَذَلِكَ بعد تحكيمه الْحكمَيْنِ وَمَا جرى لَهُ مَعَ مُعَاوِيَة.
وَقَوله: ((بذهيبة)) تَصْغِير ذهب. فِي تربَتهَا. أَي قد أخرجت من الْمَعْدن وَلم تخلص من ترابها. ويجىء فِي رِوَايَة أُخْرَى: فِي أَدِيم مقروظ. أَي مدبوغ بالقرظ: وَهُوَ ورق السّلم.
وَقَوله: ((غائر الْعَينَيْنِ)) يُقَال: غارت الْعين: إِذا دخلت إِلَى دَاخل الحدقة.
وَقَوله: ((ناتئ الْجَبْهَة)) . يُقَال: نتأ الشَّيْء: إِذا خرج عَن مَوْضِعه وارتفع عَن مَكَانَهُ من غير أَن يبين.
وَقَوله: ((كث اللِّحْيَة)) ، واللحية الكثة: المجتمعة.
وَقَوله: ((مشرف)) بِالْفَاءِ يَعْنِي أَنَّهُمَا ناتئتان.
وقفى بِمَعْنى ولى.
والضئضىء هَا هُنَا بِمَعْنى النَّسْل والعقب.
وَقَوله: ((يقتلُون أهل الْإِسْلَام وَيدعونَ أهل الْأَوْثَان)) هَذَا من تسويل الشَّيْطَان للْقَوْم وتزيينه لَهُم، فَإِنَّهُ لما أحس بقلة عُقُولهمْ ملكهَا.
وَقَوله: ((لأقتلنهم قتل عَاد)) . أَي أستأصلهم، فَإِن عادا استؤصلوا.(3/120)
فَإِن قيل: فقد قَالَ لَهُ عمر، وَفِي رِوَايَة: خَالِد: أقتل هَذَا؟ فَقَالَ: ((لَا)) . فَالْجَوَاب أَنه أَرَادَ إِدْرَاك خُرُوجهمْ بِالسِّلَاحِ على الْأَئِمَّة. وَحِينَئِذٍ يسْتَحقُّونَ الْقَتْل.
والتسبيد مثل التحليق. يُقَال: سبد رَأسه: إِذا حلقه. وَإِنَّمَا حَلقُوا شُعُورهمْ رفضا لزينة الدُّنْيَا. وَكثير من جهال المتزهدين لَا يعْرفُونَ مَا يصلح تَركه من الدُّنْيَا وَمَا لَا يصلح.
والبصيرة: الْقطعَة من الدَّم إِذا وَقعت على الأَرْض استدارت.
وَقَوله: ((يقرأون كتاب الله رطبا)) فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الحذق بالتلاوة، وَالْمعْنَى أَنهم يأْتونَ بِهِ على أحسن أَحْوَاله: وَالثَّانِي: يواظبون على التِّلَاوَة فَلَا تزَال ألسنتهم رطبَة بِهِ. وَالثَّالِث: أَن يكون من حسن الصَّوْت بِالْقِرَاءَةِ.
وَقَوله: ((تقتلهم أدنى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحق)) . أَي أقربهما. وَأَرَادَ بالطائفتين هم ومخاصمهم.
1434 - / 1737 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: كُنَّا نرْزق تمر الْجمع على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَهُوَ الْخَلْط من التَّمْر، فَكُنَّا نبيع صَاعَيْنِ بِصَاع، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((لَا صَاعَيْنِ تَمرا بِصَاع، وَلَا صَاعَيْنِ حِنْطَة بِصَاع، وَلَا دِرْهَم بِدِرْهَمَيْنِ)) .
أما تمر الْجمع فَهُوَ التَّمْر الْمُخْتَلط من كل جنس، وَيُقَال: مَا أَكثر الْجمع فِي أَرض فلَان، لنخل خرج من النَّوَى لَا ينْسب إِلَى شَيْء من أَصْنَاف التَّمْر الْمَعْرُوفَة.(3/121)
وَقَوله: ((أوه، عين الرِّبَا)) أَي هَذَا عين الرِّبَا. وَذكر التأوه دَلِيل التألم من هَذَا الْفِعْل أَو من سوء الْفَهم.
وَقَول بِلَال: بِعْت صَاعَيْنِ بِصَاع لمطعم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. هَذَا دَلِيل على تخير الأجود للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمن هَذَا مَا تقدم فِي حَدِيث أبي بكر: أَنه برد اللَّبن وَطلب لَهُ الظل وَقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يتَخَيَّر لنَفسِهِ الأجود، كَقَوْلِه: ((إِن كَانَ عنْدكُمْ مَاء بَات فِي شن وَإِلَّا كرعنا)) وكل هَذِه الْأَشْيَاء من الرِّفْق بِالنَّفسِ لِأَن لَهَا حَقًا. وجهال المتزهدين يحملون على النُّفُوس مَا لَا تطِيق، جهلا مِنْهُم بالحكمة.
وَقَوله: ((لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب إِلَّا مثلا بِمثل)) قد ذكرنَا الْأَعْيَان السِّتَّة الَّتِي يجْرِي فِيهَا الرِّبَا فِي مُسْند عبَادَة.
وَقَوله: ((لَا تشفوا بَعْضهَا على بعض)) أَي لَا تفضلوا وَلَا تَزِيدُوا.
والشفوف: الزِّيَادَة، يُقَال: شف يشف: إِذا زَاد. وَقد يُقَال: شف: إِذا نقص، فَهُوَ من الأضداد.
وَقَوله: ((فقد أربى)) أَي دخل فِي الرِّبَا.
وَقَوله: ((وَلَا تَبِيعُوا غَائِبا مِنْهَا بناجز)) هَذَا نهي عَن رَبًّا النَّسِيئَة.
وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمر.
1435 - / 1738 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: ((إِذا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَة فَقومُوا،(3/122)
فَمن تبعها فَلَا يقْعد حَتَّى تُوضَع)) .
أما الْقيام للجنازة فقد سبق أَنه مَنْسُوخ، فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَأما قَوْله: ((حَتَّى تُوضَع)) فَإنَّا كُنَّا نقُول: تُوضَع عَن أَعْنَاق الرِّجَال، حَتَّى رَأينَا فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((حَتَّى تُوضَع فِي اللَّحْد)) . وَفِي لفظ أخرجه مُسلم: ((حَتَّى تُوضَع فِي الْقَبْر)) وَوجه ذَلِك أَن التَّابِع للشَّيْء يكون بِحكمِهِ، فَمن قعد قبل وَضعهَا فَمَا تأدب لَهَا، وَلَا كَأَنَّهُ تبعها، ووضعها على الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَبْر، فَلَا اعْتِبَار بحطها عَن الرؤوس. ثمَّ رَأينَا أَبَا بكر الْأَثْرَم وَكَانَ من كبار الْعلمَاء - يَقُول: إِنَّمَا المُرَاد بِهِ: حَتَّى تُوضَع عَن مناكب الرِّجَال، وَاحْتج بِحَدِيث الْبَراء: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنَازَة، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْر وَلما يلْحد، فَجَلَسَ وَجَلَسْنَا حوله. قَالَ: وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة غلط من أبي مُعَاوِيَة، فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَن سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة. وَإِنَّمَا رَوَاهُ سُهَيْل عَن أَبِيه عَن أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((من تبع جَنَازَة فَلَا يقْعد حَتَّى تُوضَع)) فغلط أَبُو مُعَاوِيَة فِي إِسْنَاده وَفِي كَلَامه. قلت: وَيُمكن أَن يُقَال: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا جلس هُنَاكَ لِأَنَّهُ لم يكمل حفر الْقَبْر فَرَأى الْأَمر يطول، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ محفورا.(3/123)
1436 - / 1739 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: اعتكفنا الْعشْر الْأَوْسَط، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَة عشْرين نقلنا متاعنا، وهاجت السَّمَاء، وَكَانَ الْمَسْجِد على عَرِيش، فَرَأَيْت على أرنبته - وَفِي لفظ: رَوْثَة أَنفه - الطين وَالْمَاء.
الِاعْتِكَاف: اللّّبْث بِالْمَكَانِ.
وَالْمَتَاع: مَا كَانُوا يستعملونه فِي مُدَّة الإعتكاف من الْآلَات وَغَيرهَا.
وهاجت السَّمَاء: أَي ثارت بالغيم وعلامات الْمَطَر.
والعريش: مَا يستظل بِهِ، وَإِذا جمع قيل عرش.
والأرنبة: مقدم الْأنف. والروثة: طرف الأرنبة.
والقبة التركية: الَّتِي لَهَا بَاب وَاحِد.
والسدة: الْبَاب.
والجريد: سقف النّخل إِذا يبس وجرد مَا عَلَيْهِ من الخوص.
ورطبه يُسمى الشطب، واحدتها شطبة. وَقد يُقَال لَهُ سعف، على معنى أَنه يؤول إِلَى تِلْكَ الْحَال.
والقزعة وَاحِد القزع: وَهِي قطع السَّحَاب.
وتقويض الْبناء: نقضه من غير هدم.
وأثبتت لَهُ من الْإِثْبَات، هَكَذَا ضَبطه الْمُحَقِّقُونَ بالثاء. وَبَعض قرأة الحَدِيث يَقُول: أبينت من الْبَيَان.
ويحتقان: يختصمان، أَي يَدعِي كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن الْحق مَعَه.(3/124)
يُقَال: حاق فلَان فلَانا: إِذا خاصمه وَادّعى كل وَاحِد مِنْهُمَا الْحق، فَإِذا غَلبه قيل: حَقه وأحقه.
1437 - / 1741 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: نهى عَن الْمُلَامسَة، والمنابذة، واشتمال الصماء، وَأَن يحتبي الرجل بِثَوْب لَيْسَ على فرجه مِنْهُ شَيْء.
قد ذكر أَبُو عبيد فِي الْمُلَامسَة قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يَقُول أَحدهمَا لصَاحبه: إِذا لمست ثوبي أَو لمست ثَوْبك فقد وَجب البيع بِكَذَا وَكَذَا.
وَالثَّانِي: أَن يلمس الْمَتَاع من وَرَاء الثَّوْب وَلَا ينظر إِلَيْهِ، فَيَقَع البيع على ذَلِك.
وَذكر فِي الْمُنَابذَة قَوْلَيْنِ أَيْضا: أَحدهمَا: أَن يَقُول لَهُ: انبذ إِلَيّ الثَّوْب، أَو أنبذه إِلَيْك وَقد وَجب البيع بِكَذَا وَكَذَا. وَالثَّانِي: أَن يَقُول إِذا نبذت الْحَصَاة فقد وَجب البيع، وَهُوَ معنى نَهْيه عَن بيع الْحَصَا.
وَأما اشْتِمَال الصماء فقد فسر فِي الحَدِيث، وَقد زدناه شرحا فِي مُسْند جَابر، وَذكرنَا هُنَاكَ الإحتباء بِالثَّوْبِ لَيْسَ على الْفرج مِنْهُ شَيْء.
1438 - / 1743 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَن أهل قُرَيْظَة نزلُوا على حكم سعد بن معَاذ، فَلَمَّا حكم فيهم قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لقد حكمت بِمَا حكم بِهِ الْملك)) .
لما حاصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بني قُرَيْظَة قيل لَهُم: انزلوا على حكم(3/125)
رَسُول الله، فَأَبَوا واختاروا أَن ينزلُوا على حكم سعد بن معَاذ.
وَسبب اختيارهم إِيَّاه أَنهم كَانُوا موَالِيه وحلفاءه فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا حضر سعد جعلُوا يَقُولُونَ لَهُ: حلفاؤك ومواليك. فَمَا حاباهم، وَلَا بالى بهم، وَحكم بِأَن تقتل مُقَاتلَتهمْ، وتسبى ذَرَارِيهمْ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لقد حكمت بِمَا حكم بِهِ الْملك)) يَعْنِي الله عز وَجل. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَفِيه وَجه آخر: ((الْملك)) بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ الَّذِي نزل بِالْوَحْي فِي أَمرهم. قلت: وَهَذَا تَأْوِيل مَرْدُود من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه مَا نقل أَن ملكا نزل فِي شَأْنهمْ بِشَيْء، وَلَو نزل بِشَيْء تبع الْوَحْي لَا اجْتِهَاد سعد. وَالثَّانِي: أَن فِي بعض أَلْفَاظ ((الصَّحِيح)) : ((قضيت بِحكم الله عز وَجل)) .
1439 - / 1744 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأعرابي: ((هَل تمنح من إبلك؟)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((هَل تحلبها يَوْم وردهَا)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((فاعمل من وَرَاء الْبحار، فَإِن الله لن يتْرك من عَمَلك شَيْئا)) .
قد سبق بَيَان المنحة فِي مُسْند جَابر. وَبينا هُنَاكَ فَائِدَة حلبها يَوْم وردهَا.
قَوْله: ((لن يتْرك)) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي لن ينْقصك وَلنْ يظلمك يُقَال: وترتني حَقي: أَي بخستنيه.(3/126)
1440 - / 1745 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((وَمن يستعفف يعفه الله، وَمن يسْتَغْن يغنه الله)) .
الْمَعْنى أَن من يتَكَلَّف فعل مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَاده ينعم الله عز وَجل عَلَيْهِ بِمَا لَا يدْخل تَحت وَسعه.
وَاعْلَم أَن مُسْتَعْمل العفاف دَاخل فِي زمرة المعاملين لله عز وَجل، فَإِن التعفف يُوجب ستر الْحَال عَن الْخلق وَإِظْهَار الْغنى لَهُم، فَيصير معاملا فِي الْبَاطِن، وَيَقَع لَهُ من الرِّبْح على قدر صبره وَصدقه. وَإِنَّمَا جعل الصَّبْر خير الْعَطاء لِأَنَّهُ حبس للنَّفس عَمَّا تحب مِمَّا يؤذيها، وعَلى مَا تكره مِمَّا يقْصد بِهِ صَلَاحهَا، وَذَلِكَ خير مَا أَعْطَيْت النَّفس.
1441 - / 1746 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ((رجل معتزل فِي شعب)) .
الشّعب: مَا انخفض بَين الجبلين وَصَارَ كالدرب، وَالْمَقْصُود الإنفراد.
1442 - / 1747 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: ((إِذا سَمِعْتُمْ النداء فَقولُوا مثل مَا يَقُول الْمُؤَذّن)) .
النداء هَا هُنَا الْأَذَان. وَإِنَّمَا تسن إِجَابَة الْمُؤَذّن بِمثل قَوْله ليعلم الْمُجيب أَنِّي مقرّ بِمَا تَدعُونِي إِلَيْهِ، مستجيب لَهُ.
1443 - / 1748 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: سَمِعت أَبَا سعيد(3/127)
الْخُدْرِيّ يحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَرْبَع فأعجبنني وآنقتني.
المونق: المعجب، تَقول: آنقني الشَّيْء يونقني: إِذا أعْجبك.
وَالَّذِي ذكره الْحميدِي: وأينقتني. وَقَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: لَا يجوز هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ وآنقتني.
وَقَوله: ((لَا تُسَافِر الْمَرْأَة إِلَّا وَمَعَهَا زَوجهَا)) وَأما سفر الْمَرْأَة، وَالصَّلَاة بعد الصُّبْح وَبعد الْعَصْر فقد تقدم كُله فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأما صَوْم الْعِيد فاتفق الْعلمَاء أَنه لَا يجوز لأحد أَن يتَطَوَّع بِالصَّوْمِ فِي يومي الْعِيد، وَاخْتلفُوا فِيمَن نذر صَوْم الْعِيد على مَا ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن عمر أَيْضا وَفِي مُسْند جَابر.
فَأَما شدّ الرّحال إِلَى هَذِه الْمَسَاجِد فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هَذَا لَفظه لفظ الْخَبَر وَمَعْنَاهُ الْإِيجَاب فِيمَا ينذره الْإِنْسَان من الصَّلَاة فِي الْبِقَاع الَّتِي يتبرك بهَا، يُرِيد أَنه لَا يلْزم الْوَفَاء بِشَيْء من ذَلِك غير هَذِه الْمَسَاجِد.
قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا إِذا نذر أَن يُصَلِّي فِي هَذِه الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة: فمذهب أَحْمد أَنه يلْزمه، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يلْزمه، بل يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ. وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين.
1444 - / 1750 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((غسل الْجُمُعَة وَاجِب(3/128)
على كل محتلم)) قَالَ أَبُو سعيد: وَأَن يستن، وَأَن يمس طيبا إِن وجد.
الْوَاجِب: اللَّازِم، فَيكون هَذَا مَنْسُوخا. وَقد ذكر الْعلمَاء أَن ناسخه حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((من تَوَضَّأ فبها ونعمت، وَمن اغْتسل فالغسل أفضل)) وَكثير من قرأة الحَدِيث يَقُول: ونعمت، بِفَتْح النُّون وَكسر الْعين، وَالصَّوَاب كسر النُّون وَإِسْكَان الْعين. قَالَ الْأَصْمَعِي: قَوْله: ((فبها)) أَي فبالسنة أَخذ ((ونعمت)) يُرِيد بِهِ: نعمت الْخصْلَة، وَإِنَّمَا ظَهرت التَّاء الَّتِي هِيَ عَلامَة التَّأْنِيث لإضمار السّنة أَو الْخصْلَة، هَذَا اخْتِيَار الْخطابِيّ. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: ((فبها ونعمت)) بِفَتْح النُّون وَالتَّاء وتسكن الْمِيم، على معنى: ونعمك الله، وَالْوَجْه الأول.
ويستن: يستاك.
وَقد بَينا فِي أول مُسْند عمر أَن عُثْمَان أخبرهُ أَنه لم يغْتَسل للْجُمُعَة فَلم يُنكر عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِمحضر من الصَّحَابَة، فَدلَّ على أَنهم علمُوا بنسخه.
وَالظَّاهِر من عطف الإستنان وَالطّيب عَلَيْهِ الْوُجُوب أَيْضا، فَيكون هَذَا مَنْسُوخا، وَقد يجوز أَن يَكُونَا على سَبِيل الإستحباب وَإِن قرنا(3/129)
بِوَاجِب، كَقَوْلِه: ((حتيه ثمَّ اقرصيه ثمَّ اغسليه بِالْمَاءِ)) وَالْغسْل وَاجِب، والحت والقرص لَا يجب. هَذَا إِن لم يكن الرَّاوِي لذَلِك خلط كَلَام أبي سعيد بِكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإنَّا قد ذكرنَا فِي الرِّوَايَة الأولى أَنه من كَلَام أبي سعيد، وَهُوَ فِي رِوَايَة مُسلم من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: كَانَ النَّاس مهنة أنفسهم، فَقيل لَهُم: ((لَو اغتسلتم يَوْم الْجُمُعَة)) وَهَذَا يدل على أَنهم لم يؤمروا أَمر إِيجَاب. وعَلى هَذَا تكون لَفْظَة الْوُجُوب مُغيرَة من بعض الروَاة، وَيحْتَمل أَن تكون صَحِيحَة وَقد نسخت كَمَا بَينا، وَلم يبلغ ذَلِك عَائِشَة. وَقد حمل الْخطابِيّ الحَدِيث على معنى آخر فَقَالَ: معنى قَوْله ((وَاجِب)) أَي لَازم فِي بَاب الإستحباب، كَمَا تَقول: حَقك عَليّ وَاجِب.
1445 - / 1751 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: ((تكون الأَرْض يَوْم الْقِيَامَة خبْزَة وَاحِدَة يتكفأها الْجَبَّار بِيَدِهِ كَمَا يَتَكَفَّأ أحدكُم خبزته فِي السّفر، نزلا لأهل الْجنَّة)) فَأتى رجل من الْيَهُود فَقَالَ: أَلا أخْبرك بِإِدَامِهِمْ؟ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((بلَى)) قَالَ: إدَامهمْ بَالَام وَنون. قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: ثَوْر وَنون يَأْكُل من زَائِدَة كبدهما سَبْعُونَ ألفا. فَضَحِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه.(3/130)
قَوْله: ((يتكفأها)) أَي يقلبها ويميلها، من قَوْلك: كفأت الْإِنَاء: إِذا قلبته أَو أملته.
والنزل: مَا يهيأ للنزيل، والنزيل: الضَّيْف.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن اللَّام اسْم للثور. وَقَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون الْيَهُودِيّ أَرَادَ أَن يعمي الإسم، وَإِنَّمَا هُوَ لأى على وزن لعا: أَي ثَوْر. والثور الوحشي اللأى. وَقد صحف فِيهِ الروَاة فأشكل، إِلَّا أَن يكون ذَلِك بالعبرانية. وَسَنذكر وَجه الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص أكل أهل الْجنَّة من كبد ثَوْر وحوت فِي مُسْند أنس، لِأَنَّهُ هَا هُنَا من كَلَام الْيَهُودِيّ، وَهُوَ هُنَاكَ من قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والنواجذ مفسرة فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1446 - / 1754 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: ((هَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة الشَّمْس وَالْقَمَر)) .
قد سبق فِي مُسْند جرير معنى تضَارونَ، وتضامون.
قَوْله: ((وغبر أهل الْكتاب)) الغابر يكون بِمَعْنى الْبَاقِي وَبِمَعْنى الْمَاضِي، فَهُوَ من الأضداد. وَالْإِشَارَة إِلَى من لم يُبدل.(3/131)
وعزير اسْم عبراني وَإِن وَافق لَفظه لفظ الْعَرَبيَّة.
وتخيل لَهُم جَهَنَّم كالسراب فيظنونه مَاء كَمَا ظنُّوا جَوَاز وجود الْوَلَد فِي حق من لَا بعض لَهُ.
وَأما الْمَسِيح عِيسَى بن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام، فَاخْتَلَفُوا لم سمي الْمَسِيح؟ على أَقْوَال ذكرتها فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: ((فيأتيهم الله فِي أدنى صُورَة من الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا، فَيَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه مِنْك)) وَقَوله بعد هَذَا: ((فيرفعون رؤوسهم وَقد تحول فِي صُورَة)) وَفِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((فيأتيهم فِي غير الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُول: أَنا ربكُم، فَيَقُولُونَ: نَعُوذ بِاللَّه مِنْك، فيأتيهم فِي الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُول: أَنا ربكُم، فَيَقُولُونَ: أَنْت رَبنَا)) وَهَذَا شَيْء قد تخبط فِيهِ جمَاعَة، فالمتقدمون من السّلف قرأوه وعبروا وَلم ينطقوا بِشَيْء، مَعَ علمهمْ واعتقادهم أَن الصُّورَة الَّتِي هِيَ تخاطيط لَا تجوز على الله عز وَجل، وَلَا التَّغَيُّر. وَهَذَا أصلان لَا بُد من اعتقادهما: التخاطيط لَا تكون إِلَّا فِي الْأَجْسَام، والتغير لَا يصلح أَن يطْرَأ على الْإِلَه، فَإِن الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام عَابَ النَّجْم بالأفول فَقَالَ: {لَا أحب الآفلين} [الْأَنْعَام: 76] لِأَنَّهُ علم أَن مَا يطرقه التَّغَيُّر لَا يصلح أَن يكون معبودا، فَإِذا وَقع اعْتِقَاد هذَيْن الْأَصْلَيْنِ ثمَّ سكت السَّاكِت عَن تَفْسِير هَذِه الْكَلِمَات فقد سلك مَذْهَب القدماء. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: معنى إتْيَان الله عز وَجل كشف الْحجاب لَهُم حَتَّى رَأَوْهُ فأثبتوه عيَانًا كَمَا اعْتَرَفُوا بوحدانيته فِي الدُّنْيَا اسْتِدْلَالا، فرؤيته بعد أَن لم(3/132)
يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَنْزِلَة إتْيَان الْآتِي لم يكن شوهد قبل. قَالَ: وَأما الصُّورَة فتتأول على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنَّهَا بِمَعْنى الصّفة، كَقَوْل الْقَائِل: صُورَة هَذَا الْأَمر كَذَا. وَالثَّانِي: أَن الْمَذْكُور من المعبودات فِي أول الحَدِيث صور، فَخرج الْكَلَام على نوع من الْمُطَابقَة. قَالَ: وَقَوله: ((فِي أدني صُورَة رَأَوْهُ فِيهَا)) دَلِيل على أَن المُرَاد بالصورة الصّفة، لأَنهم مَا رَأَوْهُ قبلهَا، فَعلمت أَن المُرَاد الصّفة الَّتِي عرفوه بهَا. وَقَالَ غَيره من الْعلمَاء: يَأْتِيهم بأهوال الْقِيَامَة وصور الْمَلَائِكَة، وَمَا لم يعهدوا مثله فِي الدُّنْيَا، فيستعيذون من تِلْكَ الْحَال وَيَقُولُونَ: إِذا جَاءَ رَبنَا - أَي إِذا أَتَانَا بِمَا نعرفه من لطفه وَهِي الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ، فَيكْشف عَن سَاق: أَي عَن شدَّة، كَأَنَّهُ يرفع تِلْكَ الشدائد، فيسجدون شكرا.
وَقد أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد الْحَاكِم وَيحيى بن عَليّ المدير قَالَا: أخبرنَا ابْن النقور قَالَ: أخبرنَا ابْن حبابة قَالَ: أَنبأَنَا الْبَغَوِيّ قَالَ: حَدثنَا هدبة قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد يَعْنِي ابْن سَلمَة، عَن عَليّ بن زيد عَن عمَارَة الْقرشِي عَن أبي بردة قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة مثل لكل قوم مَا كَانُوا يعْبدُونَ فِي الدُّنْيَا، وَيبقى أهل التَّوْحِيد، فَيُقَال لَهُم: مَا تنتظرون وَقد ذهب النَّاس؟(3/133)
فَيَقُولُونَ: إِن لنا رَبًّا كُنَّا نعبده فِي الدُّنْيَا لم نره. قَالَ: وتعرفونه إِذا رَأَيْتُمُوهُ؟ فَيَقُولُونَ: نعم، فَيُقَال لَهُم: وَكَيف تعرفونه وَلم تروه؟ قَالُوا: إِنَّه لَا شبه لَهُ، فَيكْشف لَهُم الْحجاب، فَيَنْظُرُونَ إِلَى الله تبَارك وَتَعَالَى فَيَخِرُّونَ لَهُ سجدا، وَيبقى أَقوام فِي ظُهُورهمْ مثل صياصي الْبَقر، فيريدون السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ، فَذَلِك قَول الله عز وَجل: {يَوْم يكْشف عَن سَاق وَيدعونَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [الْقَلَم: 42] فَيَقُول الله عز وَجل: عبَادي، ارْفَعُوا رؤوسكم، فقد جعلت بدل كل رجل مِنْكُم رجلا من الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي النَّار)) .
وَكَانَ ابْن عقيل يَقُول: الصُّورَة على الْحَقِيقَة تقع على التخاطيط والأشكال، وَذَلِكَ من صِفَات الْأَجْسَام، وَالَّذِي صرفنَا عَن كَونه جسما من الْأَدِلَّة النطقية قَوْله: {لَيْسَ كمثله شَيْء} [الشورى: 11] وَمن أَدِلَّة الْعُقُول أَنه لَو كَانَ جسما لكَانَتْ صورته عرضا، وَلَو كَانَ جسما حَامِلا للأعراض لجَاز عَلَيْهِ مَا يجوز على الْأَجْسَام، وَاحْتَاجَ إِلَى مَا احْتَاجَت إِلَيْهِ من الصَّانِع وَلَو جَازَ قدمه مَعَ كَونه جسما لما امْتنع قدم أَحَدنَا، فَلَيْسَ لله سُبْحَانَهُ عِنْدهَا، وَلَا الْقَوْم الَّذِي أَنْكَرُوا فِي الْقِيَامَة صُورَة من صور الذوات يُنْكِرُونَهَا ويأنسون بِمَا سواهَا، فأحوجتنا لذَلِك الْأَدِلَّة إِلَى تَأْوِيل صُورَة تلِيق إضافتها إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَيصِح عَلَيْهَا التَّغَيُّر والتعريف والتنكير، وَمَا ذَلِك إِلَّا الْحَال الَّتِي يُوقع عَلَيْهَا أهل اللُّغَة اسْم صُورَة، فَيَقُولُونَ: كَيفَ صُورَتك مَعَ فلَان، وَفُلَان على صُورَة من الْفقر.(3/134)
وَالْحَال الَّتِي أنكروها العسف، وَالَّتِي يعرفونه بهَا هِيَ اللطف وَمَا وعد بِهِ من حسن الْجَزَاء، وَلذَلِك قَالَ: ((فتجلى لَهُم كاشفا عَن سَاقه)) يَعْنِي عَن شدَّة الْقيمَة الَّتِي صدرت عَنهُ، والتغيرات أليق بِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ إحالات الْأَعْيَان وتغييرات الزَّمَان. وَأما ذَاته وَوَصفه فتعالى عَن ذَلِك. فَيكْشف لَهُم عَمَّا وعدهم بِهِ، فَيَخِرُّونَ سجدا لنعمته، شاكرين لَهُ على إنجاز وعده، فَيَقَع الْخَبَر مَقْبُولًا. وَلَو حمل - ونعوذ بِاللَّه - على مَا قَالَت المجسمة من صُورَة ترجع إِلَى ذَاته لَكَانَ ذَلِك تجويزا لتغيير صِفَاته وَخُرُوجه فِي صُورَة. فَإِن كَانَت حَقِيقَة فَهُوَ اسْتِحَالَة، وَإِن كَانَت تخيلا فَلَيْسَ ذَاك هُوَ، وَإِنَّمَا يُرِيهم غَيره، فَمَا أشنع مقَالَة من يصدر قَوْله عَن الْجَهَالَة، وَيتَعَلَّق بالظواهر كَمَا تعلّقت النَّصَارَى فِي الْمَسِيح وَقَالُوا: هُوَ روحه حَقِيقَة.
وَقَوله: ((حَتَّى كَاد بَعضهم أَن يَنْقَلِب)) . أَي عَن اعْتِقَاده الصَّحِيح لموْضِع الامتحان الَّذِي وَقع. وَلَفْظَة ((أَن)) من زيادات بعض الروَاة، لِأَن كَاد لَا يَقع بعْدهَا ((أَن)) وَإِنَّمَا هُوَ: كَاد يَنْقَلِب.
وَقَوله: ((ثمَّ يضْرب الجسر)) يَعْنِي الصِّرَاط.
وَقَوله: ((دحض مزلة)) أَي زلق لَا تثبت الْأَقْدَام فِيهِ.
والخطاطيف وَاحِدهَا خطَّاف: وَهِي كالمحجن متعقفة.
والخطف: أَخذ الشَّيْء بِسُرْعَة.(3/135)
والكلاليب جمع كلاب وكلوب، وَهِي من جنس الخطاطيف.
والحسك جمع حسكة: وَهِي شَوْكَة حَدِيدَة صلبة.
والركاب: الْإِبِل.
والمخدوش: الَّذِي يخدش جلده بِمَا لَهُ حد. وَالْمعْنَى: قد نجا بعد خدشه.
وَقَوله: ((مكدوس فِي النَّار)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: أَي مَدْفُوع فِي جَهَنَّم، يُقَال: تكدس الْإِنْسَان على رَأسه: إِذا دفع من وَرَائه فَقَط.
والتكدس فِي سير الدَّوَابّ: أَن يركب بَعْضهَا بَعْضًا. وَقَالَ غَيره: هَذَا تَصْحِيف من الروَاة، وَإِنَّمَا هُوَ مكردس، وَهُوَ الَّذِي قد جمعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ فِي وُقُوعه.
وَقَوله: ((فِي اسْتِيفَاء الْحق)) أَي فِي استضاءته واتضاحه. وَمعنى الْكَلَام: أَن الْمُؤمنِينَ يبالغون فِي سُؤال الله سُبْحَانَهُ فِي إخْوَانهمْ الْمُؤمنِينَ شَفَاعَة لَهُم. وَقد روينَاهُ من طَرِيق آخر بِلَفْظ آخر: ((فَمَا أحدهم فِي حق يعلم أَنه لَهُ بأشد مناشدة مِنْهُم فِي إخْوَانهمْ الَّذين سقطوا فِي النَّار، يَقُولُونَ: أَي رب، كُنَّا نغزو جَمِيعًا، ونحج جَمِيعًا، ونعتمر جَمِيعًا، فَبِمَ نجونا الْيَوْم وهلكوا؟ فَيَقُول الله تَعَالَى: انْظُرُوا من فِي قلبه زنة دِينَار من إِيمَان فأخرجوه)) .
وَقَوله: ((مِثْقَال ذرة)) أَي وَزنه، والذرة: نملة حَمْرَاء صَغِيرَة.(3/136)
وَقد دلّ هَذَا على تفاضل النَّاس فِي الْإِيمَان، وَذكر المثقال تقريب إِلَى الْفَهم، لَا أَن الْخَيْر وَالْإِيمَان يحضرهما الْوَزْن، غير أَن مَا يشكل يرد إِلَى الْحس ليفهم. وَمن هَذَا قَوْله: ((من تقرب مني شبْرًا تقربت مِنْهُ ذِرَاعا)) .
والحمم: الفحم.
والحبة بِكَسْر الْحَاء: بزر النَّبَات. وَبِفَتْحِهَا: الْحبّ الْمَأْكُول.
قَالَ النَّضر بن شُمَيْل: الْحبَّة اسْم جَامع لحبوب الْبُقُول الَّتِي تنتثر إِذا هَاجَتْ، ثمَّ إِذا مطرَت من قَابل نَبتَت. وَقَالَ الْكسَائي: الْحبَّة من حب الرياحين. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: هُوَ نبت ينْبت فِي الْحَشِيش صغَار.
وَقَالَ أَبُو عبيد: كل شَيْء لَهُ حب فاسم الْحبّ مِنْهُ حَبَّة. فَأَما الْحِنْطَة وَالشعِير فحبة لَا غير.
وحميل السَّيْل: كل مَا حمله. وكل مَحْمُول حميل، قَالَه الْأَصْمَعِي. وَقَالَ أَبُو سعيد الضَّرِير: حميل السَّيْل: مَا جَاءَ بِهِ من طين أَو غثاء، فَإِذا اتّفق فِيهِ الْحبَّة واستقرت على شط مجْرى السَّيْل فَإِنَّهَا تنْبت فِي يَوْم وَلَيْلَة، وَهِي أسْرع شَيْء نباتا. وَإِنَّمَا المُرَاد من الحَدِيث سرعَة نجاتهم.
وَقَوله: فِي رقابهم الخواتيم. وَكَأَنَّهَا بقايا من آثَار النَّار.(3/137)
وَقَوْلهمْ: أَعطيتنَا مَا لم تعط أحدا من الْعَالمين. لقَائِل أَن يَقُول: كَيفَ يَقُولُونَ هَذَا وهم يعلمُونَ أَن من لم يدْخل النَّار فقد أعطي خيرا من عطائهم؟ فقد ذكرنَا فِي هَذَا جوابين فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَقَوله: ((امتحشوا)) قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يَعْنِي احترقوا.
والحيا: الْمَطَر.
وَقَوله: فأماتتهم إماتة. رُبمَا قَالَ قَائِل: كَيفَ يموتون فِي النَّار وَقد قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيى} [الْأَعْلَى: 13] فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن هَذِه صفة الْمُوَحِّدين وَتلك صفة الْكَافرين، فَجَائِز أَن تلفح النَّار الْمُؤمن فَيَمُوت فَلَا يَدُوم عَذَابه إِلَى أَن يحيى فَيخرج. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: أَنهم يغشى عَلَيْهِم ويغيب إحساسهم، فيعبر بِالْمَوْتِ عَن ذَلِك.
والضبائر: جماعات فِي تَفْرِقَة.
فبثوا: أَي فرقوا.
والحسك قد بَيناهُ آنِفا.
والمفلطحة فِيهَا سَعَة وتدوير.
والعقيفة من التعقف. والمتعقف: المعوج الطّرف.
1447 - / 1755 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: ((كَمَا تتراءون الْكَوْكَب الدُّرِّي الغابر)) .(3/138)
قد سبق تَفْسِير هَذَا فِي مُسْند سهل بن سعد والغابر: الْبَاقِي.
1448 - / 1756 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((إِن مِمَّا أَخَاف عَلَيْكُم بعدِي مَا يفتح عَلَيْكُم من زهرَة الدُّنْيَا)) .
زهرَة الدُّنْيَا: حسنها وَنَعِيمهَا.
والرحضاء: الْعرق الْكثير. يُقَال: رحضت الثَّوْب: إِذا غسلته بِالْمَاءِ.
والحبط: أَن تكْثر الدَّابَّة من أكل المرعى حَتَّى ينتفخ لذَلِك بَطنهَا، وتمرض عَنهُ، فَلَا تثلط وَلَا تبول، واحتباس ذَلِك رُبمَا قَتلهَا ((أَو ألم)) بذلك أَي قَارب ذَلِك. هَذَا مثل لمن يستكثر من جمع الدُّنْيَا من غير وَجههَا، لِأَن الرّبيع ينْبت جيد المرعى، فتستطيبه الْمَاشِيَة فتستكثر مِنْهُ فتهلك، فَكَذَلِك جَامع الدُّنْيَا من غير وَجههَا يستكثر مِنْهَا محبا لذَلِك بالطبع، فَيهْلك دينه.
وَقَوله: ((إِلَّا آكِلَة الْخضر)) وَالْمعْنَى أَنَّهَا تنجو إِذا قتل غَيرهَا الحبط. فَهَذَا مثل للمقتصد فِي طلب الدُّنْيَا، الَّذِي لَا يحملهُ حرصه على أَخذ مَا لَا يحل لَهُ، فَهُوَ ينجو من وبال الْحساب كَمَا نجت آكِلَة الْخضر، لِأَن الْخضر لَيْسَ من جيد الْبُقُول، بل هُوَ نوع من أدناها، يبْقى بعد يبس المرعى، فترعاه الْمَوَاشِي ضَرُورَة لعدم غَيره، فَإِذا امْتَلَأت خاصرتاها اسْتقْبلت عين الشَّمْس تستمرئ بذلك مَا أكلت، فتجتر وتثلط، فيزول عَنْهَا الحبط. وَإِنَّمَا تحبط الْمَاشِيَة إِذا لم تثلط(3/139)
وَلم تبل. وَمعنى ثَلَطَتْ: أَلْقَت رجيعها سهلا رَقِيقا. وَذكر الثلط وَالْبَوْل للتشبيه بِمَا يُخرجهُ المقتصد فِي جمع المَال فِي الْحُقُوق.
قَوْله: ((إِن هَذَا المَال خضر)) قَالَ أَبُو عبيد: الخضرة: الْحسن الغض، وكل شَيْء غض طري فَهُوَ خضر، وَأَصله من خضرَة الشّجر.
وَقَوله: ((وَنعم صَاحب الْمَرْء الْمُسلم هُوَ لمن أعْطى مِنْهُ الْمِسْكِين واليتيم)) . رُبمَا رَأَيْت فِي الْأَحَادِيث ذمّ المَال ومدحه، فاسمع فصل الْخطاب: المَال لَا يُرَاد لذاته، وَإِنَّمَا هُوَ سَبَب للتوصل إِلَى الْآخِرَة، كَمَا أَن النَّاقة سَبَب للوصول إِلَى الْكَعْبَة، فَمن لم يحسن إِلَى رَاحِلَته عطبت فافتقر إِلَى النَّاس أَو تلف، وَمن تشاغل بتسمينها وتزيينها سبقه الْحَاج. فَكَذَلِك المَال إِنَّمَا يُرَاد للبلاغ إِلَى الْآخِرَة، فَإِذا تشاغل الْإِنْسَان بجمعه عَمَّا وضع لَهُ توجه الذَّم إِلَى قبح هَذَا الْفِعْل، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(وَمن ينْفق الْأَيَّام فِي حفظ مَاله ... مَخَافَة فقر، فَالَّذِي فعل الْفقر)
وَلما قصد السّلف المَال للمعنى الممدوح جمعُوا مِنْهُ مَا يَكفهمْ عَن الطمع، وَيجمع هممهم عَن التشتت، فَكَانَ أَبُو بكر الصّديق يخرج للتِّجَارَة يقدمهَا على صُحْبَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ عمر: لِأَن أَمُوت بَين(3/140)
شُعْبَتَيْ رجْلي أطلب كفاف وَجْهي أحب إِلَى من أَن أَمُوت غازيا فِي سَبِيل الله. وَقد قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ: يَا بني، مَا افْتقر أحد إِلَّا أصَاب ثَلَاث خلال مَكْرُوهَة: آفَة فِي دينه، وضعفا فِي عقله، وَذَهَاب مروءته. وَأعظم من هَذِه الْخلال استخفاف النَّاس بِهِ. يَا بني، قد ذقت المرارة كلهَا فَلم أر شَيْئا أَمر من الْفقر. وَقَالَ قيس بن عَاصِم عِنْد الْمَوْت: يَا بني، عَلَيْكُم باصطناع المَال، فَإِنَّهُ منبهة للكريم، ويستغنى بِهِ عَن اللَّئِيم. وَكَانَ أحيحة بن الجلاح سيدا فِي قومه، وَكَانَ يصلح مَاله، وَيُقِيم بذلك مَا ينوبه من الْحق، وَيَقُول:
(استغن أَو مت وَلَا يغررك ذُو نشب ... من ابْن عَم وَلَا عَم وَلَا خَال)
(إِنِّي أكب على الزَّوْرَاء أعمرها ... إِن الحبيب إِلَى الإخوان ذُو المَال)
وَمَا جمعه ابْن عَوْف، وَخَلفه طَلْحَة وَالزُّبَيْر من المَال مَعْلُوم.
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: لَا خير فِيمَن لَا يجمع المَال ليؤدي عَن أَمَانَته، ويكف وَجهه، ويصل رَحمَه. وَكَانَ يتجر فِي الزَّيْت وَيَقُول لأَصْحَابه: هُوَ خير من الْحَاجة إِلَى هَؤُلَاءِ الْمُلُوك. وَترك عِنْد مَوته أَرْبَعمِائَة دِينَار وَقَالَ: وَالله مَا تركتهَا إِلَّا لأصون بهَا عرضي ووجهي.
وَسَأَلَ رجل رجلا: من سيد الْبَصْرَة؟ فَقَالَ: الْحسن، قَالَ: وَبِمَ سادهم؟ قَالَ: اسْتغنى عَن دنياهم وافتقروا إِلَى علمه. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: من كَانَ مَعَه شَيْء فَقدر أَن يَجعله فِي قرن ثَوْر فَلْيفْعَل، فَإِن(3/141)
هَذَا زمَان إِذا احْتَاجَ الرجل كَانَ أول مَا يبْذل دينه، وَلَوْلَا بضيعتنا تلاعب بِنَا هَؤُلَاءِ. وَقَالَ رجل للسري بن يحيى، وَكَانَ يتجر فِي الْبَحْر: تركب الْبَحْر فِي طلب الدُّنْيَا؟ قَالَ: أحب أَن أستغني عَن ضربك من النَّاس. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: تثمير المَال إِلَه المكارم.
وَقَالَ آخر: مقاساة الْفقر الْمَوْت الْأَحْمَر، وسؤال النَّاس الْعَار الْأَكْبَر، وَكَانَ يُقَال: من حفظ مَاله فقد حفظ الأكرمين: الدّين وَالْعرض.
1449 - / 1757 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: ذكر الْعَزْل، وَقَول الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام: ((لَا عَلَيْكُم أَلا تَفعلُوا، مَا من نسمَة كائنة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا وَهِي كائنة)) .
النَّسمَة: النَّفس.
وَهَذَا الحَدِيث تضمن كَرَاهِيَة الْعَزْل، وَهَذَا لِأَنَّهُ إِخْرَاج للنِّكَاح عَن وَضعه الْأَصْلِيّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا وضع للتناسل، وَالْمرَاد تَكْثِير الْخلق، وَالَّذِي يعْزل يصرفهُ إِلَى أدون الْأَمريْنِ وَهُوَ قَضَاء الشَّهْوَة، عَن أَعلَى الْحَالين وَهُوَ التناسل. وَمثل الْآدَمِيّ كَمثل عبد سلم إِلَيْهِ سَيّده بذرا وأرضا وَأمره بالزرع، ووكل بِهِ مستحثا، فبذر فِي الْبذر وَلم يزرع، فالبذر المَاء، وَالْأَرْض الْمَرْأَة، وَالْمُسْتَحب الشَّهْوَة. وَمَعَ هَذَا فقد ترك الشَّرْع مُرَاده لمراد العَبْد، فأباحه الْعَزْل، وَقد ذكرنَا حكمه فِي مُسْند جَابر.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ ردهم إِلَى الْقدر فِي هَذَا دون غَيره؟ فَإِن(3/142)
الْمقَاتل لَا يُصِيبهُ إِلَّا مَا قدر لَهُ، وَقد أَمر بِأخذ الْعدة. وَكَذَلِكَ الرزق لَا يتَعَدَّى صَاحبه، وَقد أَمر بِالطَّلَبِ، وأبيحت لَهُ الْأَسْفَار.
فَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا ذكر لَهُم الْقدر لَا أَنه كرهه لَهُم.
1450 - / 1758 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: ((لَا تخيروني من بَين الْأَنْبِيَاء؛ فَإِن النَّاس يصعقون يَوْم الْقِيَامَة؛ فَأَكُون أول من يفِيق، فَإِذا أَنا بمُوسَى أَخذ بقائمة من قَوَائِم الْعَرْش؛ فَلَا أَدْرِي: أَفَاق قبلي أَو جوزي بصعقة الطّور)) .
الصَّعق يكون بِمَعْنى الْمَوْت، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَصعِقَ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض} [الزمر: 68] . وَيكون بِمَعْنى الغشي، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وخر مُوسَى صعقا} [الْأَعْرَاف: 143] . والصعق فِي هَذَا الحَدِيث بِالْمَوْتِ أشبه. وَإِنَّمَا أَرَادَ تَفْضِيل مُوسَى وَذكر شرفه.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إشْكَالَانِ: الأول: أَنه قَالَ: ((لَا تخيروني)) وَقد قَالَ: ((أَنا سيد ولد آدم)) وَالثَّانِي: أَنه قَالَ: ((أكون أول من يفِيق)) ثمَّ قَالَ: ((لَا أَدْرِي أَفَاق قبلي)) .
فَالْجَوَاب عَن الأول من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا أَن يكون قَالَه قبل علمه بِأَنَّهُ أفضل الْأَنْبِيَاء، فَلَمَّا أعلم قَالَ: ((أَنا سيد ولد آدم)) .
وَالثَّانِي: أَن يكون نَهَاهُم عَن التَّخْيِير، لأَنهم كَانُوا يخيرون بواقعاتهم وظنونهم، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يسند التَّخْيِير إِلَى دَلِيل. وَالثَّالِث: أَن الْغَالِب فِي الْمُخَير الإزراء بالأنقص رُتْبَة، وَلَا يجوز الإستنقاص بِأحد(3/143)
من الْأَنْبِيَاء. وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَلْفَاظ: ((لَا تخيروني بَين الْأَنْبِيَاء)) وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ ترك التَّخْيِير بَينهم على وَجه الإزراء ببعضهم، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى فَسَاد الإعتقاد فيهم، والإخلال بِوَاجِب حَقهم، وَلَيْسَ المُرَاد أَن يعْتَقد التَّسْوِيَة بَينهم، وفقد أخبرنَا الله تَعَالَى بِأَنَّهُ قد فضل بَعضهم على بعض.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَنه لما رأى نَفسه عَلَيْهِ السَّلَام قد أَفَاق وَبَاقِي الْخلق لم يفيقوا علم أَنه أول مُفِيق: فَلَمَّا رأى مُوسَى عَاد يشك: هَل أَفَاق قبله أَو لم يصعق؟ ، وَالْمرَاد الْقرب بَين الإفاقتين.
1451 - / 1759 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: ((لَيْسَ فِيمَا دون خمس أَوَاقٍ صَدَقَة)) .
وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند جَابر.
1452 - / 1760 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: كنت فِي مجْلِس من مجَالِس الْأَنْصَار؛ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مذعور، فَقَالَ: اسْتَأْذَنت على عمر ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لي، فَرَجَعت، فَقَالَ: مَا مَنعك؟ قلت: اسْتَأْذَنت ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لي فَرَجَعت، وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((إِذا اسْتَأْذن أحدكُم ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ فَليرْجع)) فَقَالَ: وَالله لتقيمن عَلَيْهِ بَيِّنَة أَو لأجعلنك عظة. أمنكم أحد سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟(3/144)
فَقَالَ أبي بن كَعْب: فوَاللَّه لَا يقوم مَعَك إِلَّا أَصْغَر الْقَوْم، فَكنت أَصْغَر فَقُمْت مَعَه، فَقَالَ عمر: خَفِي عَليّ هَذَا من أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ألهاني عَنهُ الصفق بالأسواق.
المذعور: الْخَائِف.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن السّنة الإستئذان ثَلَاث مَرَّات، وَلَا يُزَاد على ذَلِك، لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يسمع صَاحب الْمنزل فِي الْمرة الأولى وَلَا فِي الثَّانِيَة، فَإِذا لم يجب فِي الثَّالِثَة فالغالب أَنه قد سمع وَلَكِن لَهُ عذره.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ عمر يخَاف من مثل أبي مُوسَى، فبمن يوثق؟ فَالْجَوَاب أَنه مَا اتهمه، وَإِنَّمَا خَافَ أَن ينْطَلق فِي التحديث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لَيْسَ من أَهله، فتوعد الثِّقَة ليحذر غَيره. وَقد قَالَ لَهُ أبي بن كَعْب: يَا ابْن الْخطاب، أَنا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ذَلِك، فَلَا تكونن عذَابا على أَصْحَاب رَسُول الله. فَقَالَ: سُبْحَانَ الله! إِنَّمَا سَمِعت شَيْئا فَأَحْبَبْت أَن أتثبت.
وَأما الصفق فِي الْأَسْوَاق فيريد بِهِ عقد الصفقات، وَكَانُوا يضْربُونَ بِالْيَدِ على الْيَد عِنْد العقد عَلامَة لتَمام البيع، وَالْمعْنَى فِي ذَلِك: أَنه لما كَانَت الْأَمْلَاك مُضَافَة إِلَى الْأَيْدِي جعلُوا ضرب يَد البَائِع على يَد المُشْتَرِي أَمارَة ناقلة، كَأَنَّهُ يَقُول: قد نقلت مَا فِي يَدي إِلَى مَا فِي يدك، ثمَّ استمرت التَّسْمِيَة بالصفقة وَإِن لم يَقع صفق.
1453 - / 1761 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((إِن الله عز وَجل خير عبدا بَين الدُّنْيَا وَبَين مَا عِنْده، فَاخْتَارَ(3/145)
ذَلِك العَبْد مَا عِنْد الله)) فَبكى أَبُو بكر.
هَذَا الحَدِيث هَذَا قد دلّ على فطنة أبي بكر، إِذْ علم أَن الْمُخَير هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَبَاقِي الحَدِيث قد بَيناهُ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1454 - / 1762 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: قَالَ النِّسَاء للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: غلبنا عَلَيْك الرِّجَال، فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا. فوعدهن يَوْمًا لقيهن فِيهِ، فوعظهن وأمرهن.
كَانَ النِّسَاء فِي ذَلِك الزَّمن يطلبن الْخَيْر ويقصدن الْأجر، ويصلين مَعَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة، وَكَانَ مثل الرَّسُول واعظهن، فصلح أَن يَجْعَل لَهُنَّ يَوْمًا.
فَأَما مَا أحدث الْقصاص من جمع النِّسَاء وَالرِّجَال فَإِنَّهُ من الْبدع الَّتِي تجْرِي فِيهَا الْعَجَائِب، من اخْتِلَاط النِّسَاء بِالرِّجَالِ، وَرفع النِّسَاء أصواتهن بالصياح والنواح إِلَى غير ذَلِك. فَأَما إِذا حضرت امْرَأَة مجْلِس خير فِي خُفْيَة، غير متزينة، وَخرجت بِإِذن زَوجهَا، وَتَبَاعَدَتْ عَن الرِّجَال، وقصدت الْعَمَل بِمَا يُقَال لَا التَّنَزُّه، كَانَ الْأَمر قَرِيبا مَعَ الْخطر، وَإِنَّمَا أجزنا مثل هَذَا لِأَن الْبعد عَن سَماع التَّذْكِير يُقَوي الْغَفْلَة، فينسي الْآخِرَة بِمرَّة. وَيَنْبَغِي للمذكر أَن يحث على الْوَاجِبَات، وَينْهى عَن الْمَحْظُورَات، وَيذكر مَا ينفع الْعَوام وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْجُهَّال فِي دينهم، وهيهات، مَا أقل هَذَا الْيَوْم، إِنَّمَا شغل الْقصاص الْيَوْم(3/146)
ذكر إزليخا ويوسف، ومُوسَى والجبل، وإنشاد الْغَزل، فَيكون الضَّرَر بذلك أقوى من النَّفْع.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((مَا مِنْكُن امْرَأَة تقدم ثَلَاثَة لم يبلغُوا الْحِنْث)) يُرِيد بُلُوغ الْحلم، وَكَأَنَّهُ بلغ إِلَى زمَان إِذا حلف فِيهِ حنث. وَإِنَّمَا اشْترط الصغر لِأَن الرَّحْمَة للصغار أَكثر، والمحبة لَهُم أوفر، وشفقة الْأُم أوفى من شَفَقَة الْأَب، فَذكر للنِّسَاء مَا هُوَ أخص بِهن من فِرَاق المحبوب.
1455 - / 1763 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا كَانَ أحدكُم يُصَلِّي فَلَا يدع أحدا يمر بَين يَدَيْهِ، وليدرأه مَا اسْتَطَاعَ، فَإِن أَبى فليقاتله، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان)) .
الدرء: الدّفع، وَهَذَا يسْتَعْمل فِي أول الْمَنْع. فَإِن أَبى المجتاز كَانَ للْمُصَلِّي دَفعه بالعنف.
وَقَوله: ((فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الْمَعْنى أَن الشَّيْطَان يحملهُ على ذَلِك. وَهَذَا إِذا كَانَ الْمُصَلِّي يُصَلِّي إِلَى ستْرَة.
وَفِي اللَّفْظ الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ: ((إِذا صلى أحدكُم إِلَى شَيْء يستره)) فَأَما إِذا لم يكن ستْرَة فَلَيْسَ لَهُ دفع الْجَائِز بَين يَدَيْهِ، مَعَ أَن الْجَائِز مَنْهِيّ عَن الْجَوَاز.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْعَمَل الْقَلِيل لَا يقطع الصَّلَاة.(3/147)
1456 - / 1764 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا أعجلت أَو قحطت فَلَا غسل عَلَيْك، عَلَيْك الْوضُوء)) وَفِي لفظ: ((إِنَّمَا المَاء من المَاء)) .
أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: أَو قحطت بِفَتْح الْقَاف، وَقَالَ لنا أَبُو مُحَمَّد الخشاب: الصَّوَاب ضم الْقَاف، وَالْمعْنَى: لم ينزل. قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: أقحط الرجل: إِذا خالط أَهله وَلم ينزل.
والقحط: احتباس الْمَطَر. وَهَذَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام، ثمَّ نسخ على مَا بَيناهُ فِي مُسْند عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ.
1457 - / 1765 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: ((يُؤْتى بِالْمَوْتِ كَهَيئَةِ كَبْش أَمْلَح فينادي مُنَاد: يَا أهل الْجنَّة، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيذْبَح)) .
الْمَوْت حَادث تَزُول مَعَه الْحَيَاة، وَيدل على أَنه شَيْء قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة} [الْملك: 2] وَذَلِكَ الْحَادِث يصور فِي هَيْئَة كَبْش، وَإِنَّمَا صور لَهُم ليعلموا عدم الْمَوْت فِيمَا بعد.
وَقد فسرنا الأملح فِي مُسْند أبي بكرَة.
ويشرئبون: أَي يرفعون رؤوسهم لرُؤْيَته، يُقَال: اشرأب يشرئب: إِذا ارْتَفع وَعلا.(3/148)
1458 - / 1766 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((يَقُول الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة: يَا آدم، فَيَقُول: لبيْك وَسَعْديك، فينادي: إِن الله أَمرك أَن تخرج بعثا إِلَى النَّار ... فَحِينَئِذٍ تضع الْحَامِل حملهَا، ويشيب الْوَلِيد)) .
قَوْله: ((لبيْك وَسَعْديك)) قد تقدم تَفْسِيره فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
والبعث: الَّذين يبعثون.
وَالْحَامِل: الحبلى. وَقد فرقوا بَين حملهَا فِي الْبَطن، وَحملهَا على الرَّأْس وَالظّهْر، فَقَالُوا هَا هُنَا: حَامِل، وَهُنَاكَ: حاملة.
فَإِن قيل: فَهَل يبْقى حَامِل يَوْم الْقِيَامَة؟ فَالْجَوَاب: أَنه لَو حضرت حَامِل حِينَئِذٍ لوضعت، وَلَو حضر مَوْلُود يعقل أهوال الْقِيَامَة لشاب.
وَأما (يَأْجُوج وَمَأْجُوج) فهما اسمان أعجميان. وَقد قَرَأَ عَاصِم بهمزهما. قَالَ اللَّيْث: الْهَمْز لُغَة رَدِيئَة. قَالَ ابْن عَبَّاس: يَأْجُوج رجل، وَمَأْجُوج رجل، وهما ابْنا يافث بن نوح، فيأجوج وَمَأْجُوج عشرَة أَجزَاء وَولد آدم كلهم جُزْء، وهم شبر وشبران وَثَلَاثَة أشبار. وَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: مِنْهُم من طوله شبر، وَمِنْهُم من هُوَ مفرط فِي الطول. وَقَالَ السّديّ: التّرْك سَرِيَّة من يَأْجُوج وَمَأْجُوج،(3/149)
خرجت تغير، فجَاء ذُو القرنين فَضرب السد فَبَقيت خَارجه. وَفِي حَدِيث حُذَيْفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((لَا يَمُوت الرجل مِنْهُم حَتَّى ينظر إِلَى ألف ذكر بَين يَدَيْهِ من صلبه، كل قد حمل السِّلَاح)) .
وَقَوله: ((كرقمة فِي ذِرَاع الْحمار)) الرَّقْمَة خطوط مخططة فِي ذراعه.
1459 - / 1767 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ((لَا تسبوا أَصْحَابِي، فَإِن أحدكُم لَو أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا نصيفه)) .
الْمَدّ: ربع الصَّاع. والنصيف: نصفه. قَالَ أَبُو عبيد: وَالْعرب تسمي النّصْف النصيف كَمَا قَالُوا فِي الْعشْر عشير، وَفِي الْخمس خَمِيس، وَفِي الثّمن ثمين، وَفِي التسع تسيع. وَاخْتلفُوا فِي الرّبع وَالسُّدُس والسبع، فَمنهمْ من قَالَ: ربيع وسديس وسبيع، وَمِنْهُم من لَا يَقُول بذلك، وَلم أسمع أحدا مِنْهُم يَقُول فِي الثُّلُث شَيْئا من ذَلِك، وأنشدوا:
(لم يغذها مد وَلَا نصيف ... وَلَا تُمَيْرَات وَلَا تعجيف)
أَرَادَ: أَنَّهَا منعمة، لم تغذ بِمد تمر وَلَا نصيفه، لَكِن بِاللَّبنِ.(3/150)
والنصيف فِي غير هَذَا: الْخمار، كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْحور الْعين: ((ولنصيف إِحْدَاهُنَّ على رَأسهَا خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)) .
فَإِن قَالَ قَائِل: لمن خَاطب؟ إِن كَانَ خَاطب أَصْحَابه فَكيف يَقُول: ((يَا أَصْحَابِي)) ، ((وَلَا تسبوا أَصْحَابِي)) وَإِن كَانَ خَاطب التَّابِعين فَمَا وجدوا بعد. فَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل الْأَمريْنِ، فَإِن كَانَ خَاطب أَصْحَابه فالخطاب للمتأخرين مِنْهُم، فأعلمهم أَنهم لن يبلغُوا مرتبَة الْمُتَقَدِّمين، كَمَا قَالَ فِي حق أبي بكر: ((قُلْتُمْ: كذبت، وَقَالَ: صدقت، فَهَل أَنْتُم تاركو صَاحِبي)) . ويكشف هَذَا قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح} [الْحَدِيد: 10] وَإِن كَانَ قَالَ لمن سَيَأْتِي فعلى معنى: بلغُوا من يَأْتِي، ويوضحه قَوْله تَعَالَى: {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} [الْأَنْعَام: 19] .
1460 - / 1768 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: كُنَّا نخرج زَكَاة الْفطر صَاعا من طَعَام، أَو صَاعا من شعير، أَو صَاعا من تمر، أَو صَاعا من أقط، أَو صَاعا من زبيب، فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَة وَجَاءَت السمراء قَالَ: أرى مدا من هَذَا يعدل مَدين.
وَقد ذكرنَا قدر الصَّاع فِي مُسْند ابْن عمر، وَذكرنَا هُنَاكَ أَنه لَا يُجزئ أقل من صَاع من أَي الْأَجْنَاس المخرجة كَانَ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يُجزئ نصف صَاع بر، وَهُوَ المُرَاد بقول أبي سعيد: فَلَمَّا جَاءَ مُعَاوِيَة وَجَاءَت السمراء، يَعْنِي الْحِنْطَة، قَالَ: أرى مدا من هَذَا - يَعْنِي الْحِنْطَة -(3/151)
يعدل مَدين - يَعْنِي من التَّمْر.
والأقط: شَيْء يعْمل من اللَّبن ويجفف، وَيجوز إِخْرَاجه على أَنه أصل. هَذَا قَول أَحْمد وَمَالك، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يخرج على وَجه الْقيمَة، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ.
1461 - / 1769 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ذكر خطْبَة الْعِيد بعد الصَّلَاة، قَالَ أَبُو سعيد: فَخرجت مخاصرا مَرْوَان، فَإِذا بِهِ يُرِيد أَن يَبْتَدِئ بِالْخطْبَةِ، فجبذته فَقَالَ: ذهب مَا تعلم.
أما تَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة فقد بَينا سَببه فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
والمخاصرة: أَن يَأْخُذ الرجل بيد آخر يتماشيان، فيد كل وَاحِد مِنْهُمَا عِنْد خصر صَاحبه، وأنشدوا:
(ثمَّ خَاصرتهَا إِلَى الْقبَّة الخضراء ... نمشي فِي مرمر مسنون)
وجبذته بِمَعْنى جذبته. وَمثله كبكبت الشَّيْء وبكبكته: إِذا طرحت بعضه على بعض، وهجهجت بالسبع وجهجهت بِهِ، وفثأت الْقدر وثفأتها: إِذا سكنت غليانها.
وَقَول مَرْوَان: ذهب مَا تعلم: أَي ترك اتِّبَاع السّنة.
وَقَوله: ((يكثرن اللَّعْن ويكفرن العشير)) قد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.(3/152)
وَذكر نُقْصَان عقلهن ودينهن قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأما امْرَأَة ابْن مَسْعُود فاسمها زَيْنَب بنت أبي مُعَاوِيَة الثقفية. وَقد دلّ حَدِيثهَا على أَن الصَّدَقَة على الْأَقَارِب أولى من الصَّدَقَة على الْأَجَانِب.
1462 - / 1770 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: فِي ذكر أبي طَالب: ((لَعَلَّه تَنْفَعهُ شَفَاعَتِي فَيجْعَل فِي ضحضاح من النَّار يبلغ كعبيه)) .
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الضحضاح: الْقَلِيل من الْعَذَاب، وَالْعرب تسمى المَاء الْقَلِيل ضحضاحا. قيل لأعرابي: إِن فلَانا يَدعِي الْفضل عَلَيْك، فَقَالَ: لَو وَقع فِي ضحضاح مني لغرق: أَي فِي الْقَلِيل من مياهي. وَقَالَ غَيره: الضحضاح مَا يبلغ الْكَعْبَيْنِ، وكل مَا رق من المَاء على وَجه الأَرْض فَهُوَ ضحضاح.
1463 - / 1771 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((من صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيل الله بعد الله وَجهه عَن النَّار سبعين خَرِيفًا)) .
إِذا أطلق ذكر سَبِيل الله كَانَ الْمشَار بِهِ إِلَى الْجِهَاد.
والخريف زمَان مَعْلُوم من السّنة تخترف فِيهِ الثِّمَار. المُرَاد بِهِ هَا هُنَا السّنة كلهَا، وَالْمعْنَى: مسيرَة سبعين سنة.
1464 - / 1772 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: الْجواد الْمُضمر. وَقد(3/153)
سبق بَيَانه فِي مُسْند سهل بن سعد.
1465 - / 1773 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: نهى عَن المزانبة والمحاقلة وَقد فسرناه فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1466 - / 1774 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: كُنَّا فِي مسير لنا، فنزلنا منزلا، فَجَاءَت جَارِيَة فَقَالَت: إِن سيد الْحَيّ سليم، وَإِن نفرنا غيب، فَهَل مِنْكُم راق؟ فَقَامَ مَعهَا رجل مَا كُنَّا نأبنه برقية، فرقاه.
قد سبق ذكر النَّفر فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن وَغَيره.
والغيب: الغائبون.
وَالرجل الَّذِي رقى هُوَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَاوِي الحَدِيث.
ونأبنه بِضَم الْبَاء، كَذَلِك قَالَه لنا عبد الله بن أَحْمد النجوي، وَقَالَ: أبنت بِمَعْنى عبت، كَأَنَّهُمْ مَا علمُوا أَنه يرقى فَكَانَ يعاب بالرقية.
وَقَوله: وشفوا لَهُ بِكُل شَيْء: أَي عالجوه بِكُل شَيْء طلبا للشفاء، يُقَال: شفى الطَّبِيب للْمَرِيض: إِذا عالجه بِمَا يشفيه.
والجعل: مَا يعطاه الْإِنْسَان على الْأَمر يَفْعَله، وَكَذَلِكَ الْجعَالَة والجعيلة.(3/154)
والقطيع: مَا اقتطع من الْغنم.
وَقَوله: يتفل: التفل: نفخ بِلَا ريق.
وَقَوله: نشط من عقال: هَكَذَا وَقع فِي الرِّوَايَة، وَأكْثر اللُّغَة على أَن نشط بِمَعْنى عقل، وَأنْشط بِمَعْنى حل، وَقد جَاءَ فِي بعض اللُّغَات: نشط بِمَعْنى حل، وَهُوَ المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث.
ويستدل بِهَذَا الحَدِيث من يرى جَوَاز الْأُجْرَة على تَعْلِيم الْقُرْآن وَجَمِيع الْقرب، وَقد بَينا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس أَن فِيهِ رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، واعتذرنا على الْمَنْصُور عندنَا عَن هَذَا الحَدِيث.
1467 - / 1775 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رجلا كَانَ قبلكُمْ رغسه الله مَالا، فَقَالَ لِبَنِيهِ: إِذا مت فأحرقوني.
قَوْله: رغسه الله مَالا، قَالَ أَبُو عبيد: أَكثر لَهُ مِنْهُ وَبَارك لَهُ فِيهِ.
يُقَال: رغسه الله يرغسه رغسا، وَكَذَلِكَ فِي الْحبّ وَغَيره.
قَالَ العجاج:
(خَليفَة سَاس بِغَيْر تعس ... أَمَام رغس فِي نِصَاب رغس)(3/155)
وَقَوله: ((فِي يَوْم عاصف)) أَي عاصف الرّيح.
وَقَوله: لم يبتئر. قَالَ أَبُو عبيد: أَي لم يقدم خيرا، وَهُوَ من الشَّيْء يخبأ، كَأَنَّهُ لم يقدم لنَفسِهِ شَيْئا خبأه لَهَا، يُقَال: بأرت الشَّيْء وابتأرته: إِذا خبأته، وَمِنْه سميت الحفرة البؤرة. وَفِي الابتئار لُغَتَانِ: ابتأرت الشَّيْء وائتبرته ابتئارا وائتبارا، قَالَ الْقطَامِي:
(فَإِن لم تأتبر رشدا قُرَيْش ... فَلَيْسَ لسَائِر النَّاس ائتبار)
وَقَالَ آخر:
(فَإنَّك إِن تبأر لنَفسك بؤرة ... تجدها إِذا مَا غَيْبَتِك الْمَقَابِر)
ويخلط ابْن جني فِي ((غَرِيب الحَدِيث)) : ابتأرت الشَّيْء وابترته ابتئارا وابتيارا. وَأما امتار بِالْمِيم فَإِنَّمَا رويت لنا مَهْمُوزَة، فعلى هَذَا تكون الْمِيم نائبة عَن الْبَاء، كَقَوْلِهِم: سمد رَأسه وسبد. وَإِن كَانَت غير مَهْمُوزَة بالإمتيار طلب الْميرَة، فَيكون الْمَعْنى: مَا حصل خيرا.
وَقد اعْترض على هَذَا الحَدِيث فَقيل: هَذَا رجل كَافِر، لقَوْله: إِن يقدر الله عَلَيْهِ. وَمن ظن أَن الله تَعَالَى لَا يقدر عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِر، فَكيف يُقَال: غفر الله لَهُ، وتلقاه برحمته؟ فَالْجَوَاب من سِتَّة أوجه: أَحدهَا: أَن هَذَا الرجل مُؤمن، غير أَنه جهل صفة من صِفَات الله عز وَجل، وَقد يغلط فِي صِفَات الله قوم من الْمُسلمين وَلَا يحكم لَهُ(3/156)
بالْكفْر، قَالَه ابْن قُتَيْبَة. قَالَ ابْن عقيل: والجهالة من جِهَة الْقُصُور عذر، وَكَذَلِكَ إِذا لم يُؤْت قوم صِحَة الْعُقُول وسلامتها لم يكلفوا مَا كلفه أَصْحَاب النّظر الصَّحِيح، وَإِنَّمَا يكفر من يسْتَدلّ وَينظر دون من قصر. وَالثَّانِي: أَنه جهل صفة من صِفَات الله عز وَجل فَكفر بذلك، إِلَّا أَن الْكفْر قد كَانَ يغْفر فِي ذَلِك الزَّمَان إِلَى أَن نزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} [النِّسَاء: 48] . وَالثَّالِث: أَن هَذَا رجل غلب عَلَيْهِ الْخَوْف والجزع، فَقَالَ هَذَا الْكَلَام وَهُوَ لَا يدْرِي مَا يَقُول، كَمَا قَالَ ذَلِك الرجل: ((أَنْت عَبدِي وَأَنا رَبك)) . ذكرهمَا ابْن جرير الطَّبَرِيّ فِي كتاب ((تَهْذِيب الْآثَار)) . وَالرَّابِع: أَن يكون بِمَعْنى التَّضْيِيق، من قَوْله تَعَالَى: {وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} [الطَّلَاق: 7] أَي ضيق، فَالْمَعْنى: أَن يضيق عَليّ ويبالغ فِي محاسبتي. وَالْخَامِس: أَن يقدر خَفِيفَة بِمَعْنى يقدر مُشَدّدَة، يُقَال: قدرت وقدرت بِمَعْنى، وَالْمرَاد: إِن قدر وَسبق قَضَاؤُهُ أَن يعذب كل ذِي جرم ليعذبني عذَابا لَا يعذبه أحدا. ذكرهَا أَبُو عمر بن عبد الْبر الْحَافِظ. وَالسَّادِس: أَن هَذَا الرجل كَانَ يثبت الصَّانِع وَلَكِن لم تخاطبه النبوات، وَمن لم تصله دَعْوَة لَا يُؤَاخذ - عِنْد أهل السّنة - بِمَا يُخَالف الْعُقُول؛ لِأَن الْمُؤَاخَذَة ببلوغ الدعْوَة فَقَط، وَمَا لم يسمع الدعْوَة فَلَا مُؤَاخذَة، وعَلى قَول من يرى أَن الْعقل مُوجب يحمل ذَلِك على أَنه كَانَ فِي مهلة النّظر لم يتكامل لَهُ النّظر، ذكره ابْن عقيل.(3/157)
فَإِن قيل: وَكَيف جمعه قبل الْقِيَامَة؟ إِن قُلْتُمْ: خَاطب روحه فَلَيْسَ ذَلِك بِجمع، وَإِن قُلْتُمْ: جمع أجزاءه فَهُوَ عين الْبَعْث، ثمَّ لَو بَعثه لم يخاطبه لِأَنَّهُ لَا يكلمهُ فِي الدُّنْيَا. فَالْجَوَاب أَنه إِخْبَار عَمَّا سيجري، وَأَن الله تَعَالَى يجمعه فِي الْقِيَامَة فَيَقُول لَهُ هَذَا.
1468 - / 1776 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد حَيَاء من الْعَذْرَاء فِي خدرها.
الْحيَاء: الإنقباض والإحتشام. وَقد بَينا فضل الْحيَاء فِي مُسْند ابْن عمر عِنْد قَوْله: ((الْحيَاء من الْإِيمَان)) .
الْعَذْرَاء اسْم مَأْخُوذ من الْعذرَة، وَهُوَ مَا يهتكه الإفتضاض.
والخدر: مَا تستتر فِيهِ الْمَرْأَة، وَالْأَصْل فِي الخدر الإستتار، وَلذَلِك قيل: أَسد خادر، كَأَن الأجمة لَهُ خدر يسْتَتر فِيهَا.
والخداري: اللَّيْل المظلم، لِأَنَّهُ يستر مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ.
وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كره شَيْئا أثر فِيهِ، وَيزِيد التَّأْثِير بكتمانه إِيَّاه عَن صاحيه.
1469 - / 1777 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: قصَّة الَّذِي قتل تِسْعَة وَتِسْعين نفسا ثمَّ طلب التَّوْبَة وَخرج فأدركه الْمَوْت، فنَاء بصدره نَحْو الْقرْيَة الصَّالِحَة.(3/158)
نأى بِمَعْنى: مَال.
وَالْمرَاد من الحَدِيث أَنه لما صدق فِي التَّوْبَة اجْتهد فِي الْقرب إِلَى أهل الْخَيْر فأعين على اجْتِهَاده بِالْوَحْي إِلَى الأَرْض الصَّالِحَة: أَن تقربي، وَإِلَى الخبيثة: أَن تباعدي، وَهَذَا من جنس قَوْله تَعَالَى: {كَذَلِك كدنا ليوسف} [يُوسُف: 76] .
1470 - / 1778 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن أخي اسْتطْلقَ بَطْنه، فَقَالَ: ((اسْقِهِ عسلا)) .
قد يشكل هَذَا على قوم: فَيَقُولُونَ: كَيفَ أَمر صَاحب الإسهال بالعسل؟ وَالْجَوَاب من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَأَول الْآيَة، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاء للنَّاس} [النَّحْل: 69] وَلم يلْتَفت إِلَى اخْتِلَاف الْأَمْرَاض. وَالثَّانِي: أَن مَا كَانَ يذكرهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الطِّبّ على مَذَاهِب الْعَرَب وعاداتهم كَمَا بَينا فِي مُسْند رَافع بن خديج فِي إبراد الْحمى بِالْمَاءِ. وَالثَّالِث: أَن الْعَسَل كَانَ يُوَافق ذَلِك الرجل، فَقَالَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: كَانَ استطلاقه من الإمتلاء وَسُوء الهضم، وَسَائِر الْأَطِبَّاء يأمرون صَاحب الهيضة بألا يمسك الطبيعة ليستفرغ الفضول. وَالرَّابِع: أَن يكون أمره بطبخ الْعَسَل قبل سقيه، والمطبوخ قد يعقل المبلغمين.(3/159)
وَقَوله: ((صدق الله وَكذب بطن أَخِيك)) ذكر فِيهِ الْخطابِيّ احْتِمَالَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون إِخْبَارًا عَن غيب أطلعه الله عَلَيْهِ، وأعلمه بِالْوَحْي أَن شِفَاء ذَلِك من الْعَسَل، فكرر عَلَيْهِ الْأَمر بسقي الْعَسَل ليظْهر مَا وعد بِهِ. وَالثَّانِي: أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاء للنَّاس} وَيكون قد علم أَن ذَلِك النَّوْع من الْمَرَض يشفيه الْعَسَل.
وَقَوله: عرب بَطْنه: أَي فسد.
1471 - / 1779، 1780 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: مشروح فِي مُسْند أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ.
والْحَدِيث الثَّانِي: قد سبق مُسْند أبي ذَر.
1472 - / 1781 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: ((يَجِيء نوح وَأمته فَيُقَال: من يشْهد لَك؟ فَيَقُول: مُحَمَّد وَأمته)) .
اعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن الشَّهَادَة على الشَّهَادَة، وَهِي مَقْبُولَة عِنْد عَامَّة الْعلمَاء، وَأمة مُحَمَّد شهدُوا على شَهَادَة الله عز وَجل عِنْدهم بالتبليغ.
1473 - / 1782 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: مُبين فِي مُسْند ابْن عمر.(3/160)
وَالسَّادِس وَالثَّامِن فِي مُسْند أبي قَتَادَة. وَالسَّابِع فِي مُسْند عبَادَة.
1474 - / 1790 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ((لَا يسمع مدى صَوت الْمُؤَذّن جن وَلَا إنس وَلَا شَيْء إِلَّا شهد لَهُ يَوْم الْقِيَامَة)) .
المدى: الْغَايَة.
1475 - / 1791 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((يُوشك أَن يكون خير مَال الْمُسلم غنم يتبع بهَا شعف الْجبَال)) .
يُوشك: أَي يقرب ويشرع. وَقد بَينا هَذِه الْكَلِمَة فِي مُسْند كَعْب ابْن مَالك.
والشعفة: رَأس الْجَبَل، وَجَمعهَا شعف وشعفات.
1476 - / 1794 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((وَيْح عمار)) .
وَيْح كلمة رَحْمَة، قَالَ الْخَلِيل: وَلم يسمع على بنائها إِلَّا وَيس، وويه، وويك، وويب، وويل. قَالَ الْأَصْمَعِي: وَيْح ترحم، وويس تصغر ذَلِك.
وَقَوله: ((تقتله الفئة الباغية)) الفئة: الْجَمَاعَة. والباغية:(3/161)
الظالمة. وَالْبَغي: الظُّلم.
وَقَوله: ((يَدعُوهُم إِلَى الْجنَّة)) أَي إِلَى مَا يحمل إِلَى الْجنَّة.
1477 - / 1797 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث من أَفْرَاد مُسلم: ((إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته، فليطرح الشَّك وليبن على مَا استيقن، ثمَّ يسْجد سَجْدَتَيْنِ قبل أَن يسلم)) .
أما سُجُود السَّهْو فَإِنَّهُ عندنَا وَاجِب، ووافقنا مَالك فِيمَا إِذا كَانَ عَن نُقْصَان. وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ مسنون. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي مَحل سُجُود السَّهْو، فَروِيَ عَنهُ إِن كَانَ من نُقْصَان فَقبل السَّلَام، وَإِن كَانَ من زِيَادَة فَبعد السَّلَام، وَهَذَا قَول مَالك. وَرُوِيَ عَنهُ أَن الْكل قبل السَّلَام، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَرُوِيَ عَنهُ أَن الْكل قبل السَّلَام إِلَّا فِي موضِعين: أَحدهمَا: أَن يسلم من نُقْصَان. وَالثَّانِي: إِذا شكّ الإِمَام وَقُلْنَا يتحَرَّى على رِوَايَة فَإِنَّهُ يسْجد بعد السَّلَام اسْتِحْسَانًا لموْضِع الْأَثر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَدَاوُد: كُله بعد السَّلَام.
وَقَوله: ((كَانَت ترغيما للشَّيْطَان)) أَي دحرا لَهُ ورميا لَهُ باالرغام: وَهُوَ التُّرَاب.
1478 - / 1798 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((لَا تكْتبُوا عني)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِنَّمَا نهى فِي أول الْأَمر، فَلَمَّا علم أَن السّنَن تكْثر فَيفوت الْحِفْظ أجَاز الْكِتَابَة. قَالَ: وَيجوز أَن يكون إِنَّمَا خص بِإِجَازَة(3/162)
الْكِتَابَة عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ حِين قَالَ لَهُ: إِنِّي أسمع مِنْك أَشْيَاء، وَإِنِّي أَخَاف أَن أَنْسَاهَا، أفتأذن لي أَن أَكتبهَا؟ قَالَ: ((نعم)) لِأَن عبد الله كَانَ كَاتبا قَارِئًا للكتب الْمُتَقَدّمَة. وَكَانَ غَيره من الصَّحَابَة أُمِّيين، فخشي عَلَيْهِم فِي كتابتهم الْغَلَط، وَأمن على هَذَا لمعرفته فَأذن لَهُ.
وَقَوله: ((حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج)) فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه كَانَ قد تقدم مِنْهُ مَا يشبه النَّهْي، إِذْ جَاءَ عمر بِكَلِمَات من التَّوْرَاة فَقَالَ لَهُ: ((أمطها عَنْك)) فخاف أَن يتَوَهَّم النَّهْي عَن ذكرهم جملَة فَأجَاز الحَدِيث عَنْهُم. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: وَلَا يضيق صدر السَّامع من عجائب مَا يسمع عَنْهُم، فقد كَانَ فيهم أَعَاجِيب.
وَالثَّالِث: أَنه لما كَانَ قَوْله: ((حدثوا)) لفظ أَمر بَين أَنه لَيْسَ على أَمر الْوُجُوب بقوله: ((وَلَا حرج)) أَي: وَلَا حرج إِن لم تحدثُوا.
وَالرَّابِع: أَنه لما كَانَت أفعالهم قد يَقع فِيهَا مَا يتحرز من ذكره الْمُؤمن أَبَاحَ التحديث بذلك، كَقَوْلِه: {فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك فَقَاتلا} [الْمَائِدَة: 24] {وَاجعَل لنا إِلَهًا} [الْأَعْرَاف: 138] ((مُوسَى آدر)) . وَالْخَامِس: أَن يكون أَرَادَ ببني إِسْرَائِيل أَوْلَاد يَعْقُوب وَمَا فَعَلُوهُ بِيُوسُف.
وَقَوله: ((من كذب عَليّ)) قد سبق فِي مُسْند عَليّ وَغَيره.
1479 - / 1799 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((لقنوا مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله)) .(3/163)
فِي تلقين الْمَيِّت هَذِه الْكَلِمَة سِتَّة أوجه: أَحدهَا: أَنَّهَا أول مَا يلْزمه النُّطْق بِهِ فِي بداية التَّكْلِيف فَأَرَادَ أَن تكون خَاتِمَة الْأَقْوَال. وَالثَّانِي: أَنه إِن كَانَ قَالَهَا فِي زمن السَّلامَة شاكا فِي صِحَّتهَا أَو غافلا عَن مضمونها، فَعِنْدَ الْمَوْت يحضر قلبه فينطق بهَا بِيَقِين. وَالثَّالِث: أَن الْأَعْمَال بطلت بِقُوَّة الْمَرَض، فَلم يبْق إِلَّا الْأَقْوَال، وَهِي أفضل الْأَقْوَال. وَالرَّابِع: أَن الْأَعْمَال بخواتيمها، وَهِي أشرف مَا ختم بِهِ. وَالْخَامِس: لِيُقِر الْمُؤمن فِي زمن الشدَّة بِمَا كَانَ مقرا بِهِ فِي زمن السَّلامَة والعافية، وَمثله ابتلاء مُنكر وَنَكِير. وَالسَّادِس: أَن هَذِه الْكَلِمَة كَانَت عَاصِمَة فِي الدُّنْيَا من عَذَابهَا، فَأمر بقولِهَا عِنْد اسْتِقْبَال الْآخِرَة لينجى من عَذَابهَا. وَيسْتَحب أَن تكون آخر كَلَام الْمَرِيض، فَإِن لقنها ثمَّ تكلم بعْدهَا أُعِيدَت عَلَيْهِ لتَكون آخر كَلَامه، وَإِن ثقل عَلَيْهِ النُّطْق فكررت عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَلم يطق النُّطْق لم تكَرر عَلَيْهِ، فَكَانَ اعْتِقَاده قَائِما مقَام النُّطْق.
1480 - / 1801 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: ((مثلي وَمثل الْأَنْبِيَاء كَمثل رجل بنى دَارا فأتمها إِلَّا لبنة)) قد تقدم بَيَانه فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1481 - / 1802 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ((احتجت الْجنَّة وَالنَّار، فَقَالَت النَّار: فِي الجبارون والمتكبرون. وَقَالَت الْجنَّة: فِي ضِعَاف النَّاس ومساكينهم)) .
المتكبر: الَّذِي يحتقر النَّاس ويعظم نَفسه.(3/164)
والضعفاء جمع ضَعِيف: وَهُوَ الْقَلِيل الْحَظ من الدُّنْيَا.
وَظَاهر هَذِه المحاجة الْمُخَاصمَة فِي الْفَضِيلَة: وَالْمعْنَى: أظهرتا حجج التَّفْضِيل، فَكل وَاحِدَة تَدعِي الْفضل على الْأُخْرَى.
وَيحْتَمل مُرَاد النَّار بقولِهَا: ((فِي الجبارون والمتكبرون)) . وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الجبارين أَعلَى من الضُّعَفَاء. وَالثَّانِي: أَنِّي أنتقم لله عز وَجل من الجبارين الَّذين خالفوه، فحالتي عالية.
وَيحْتَمل قَول الْجنَّة: ((فِي الضُّعَفَاء وَالْمَسَاكِين)) وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الضُّعَفَاء كَانُوا يَتَّقُونَ الله، فهم أفضل من المتجبرين.
وَالثَّانِي: أَن الضُّعَفَاء مَوضِع الرَّحْمَة واللطف، وثواب الْمُنعم عَلَيْهِ بعد الْفقر والمسكنة أحسن من عِقَاب المتجبر. وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة، وَمِنْه: (فَقَالَت الْجنَّة: فَمَالِي لَا يدخلني إِلَّا ضعفاء النَّاس وَسَقَطهمْ وغرتهم)) فَيحْتَمل قَوْلهَا هَذَا أَمريْن: أَحدهمَا: الْمَدْح لحالها، لِأَنَّهَا ذكرت قوما لَيْسَ فيهم خب وَلَا دغل، شغلتهم التَّقْوَى عَن ذَلِك. وَالثَّانِي: أَن تكون قَالَت هَذَا كالشكوى إِلَى الله عز وَجل، فَتكون كالمغلوب فِي المجادلة.
1482 - / 1803 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: أَصَابَت النَّاس مجاعَة فِي غَزْوَة تَبُوك، فَقَالُوا: لَو أَذِنت لنا فنحرنا نواضحنا؟ فَقَالَ: ((افعلوا)) فجَاء عمر فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن فعلت قل الظّهْر، وَلَكِن ادعهم بِفضل أَزْوَادهم ثمَّ ادْع الله لَهُم فِيهَا بِالْبركَةِ، فَذكر أَنهم ملأوا أوعيتهم.
هَذَا الحَدِيث يدل على أَن إِنَّمَا أذن لَهُم بِرَأْيهِ لَا بِالْوَحْي، فَلَمَّا(3/165)
أَشَارَ عمر بِمَا رَآهُ أصلح مَال إِلَيْهِ، وَفِي هَذَا فضل كثير لعمر.
وَقد قَالَ قَائِل: مَا وَجه دُعَائِهِ بالزاد وَالْمَاء ثمَّ يَدْعُو بِالْبركَةِ فِيهِ، فَهَلا دَعَا ليخرج الله تَعَالَى لَهُم الزَّاد وَالْمَاء؟ فَالْجَوَاب: أَن مَا يَتَوَلَّاهُ الْخلق يَقع بالأسباب، فَلَا يخرج على يَد مَخْلُوق شَيْء لَا من شَيْء، كَمَا قَالَ عِيسَى: {أخلق لكم من الطين كَهَيئَةِ الطير} [آل عمرَان: 49] فَأَما ابتداع الْأَشْيَاء لَا من شَيْء فَذَاك مِمَّا انْفَرد الْحق عز وَجل بِهِ.
فَإِن قيل: فقد ركض الأَرْض فنبع المَاء. قُلْنَا: فالأرض مَحل المَاء.
1483 - / 1804 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: ((الصَّوْم لي وَأَنا أجزي بِهِ)) .
الصَّوْم فِي اللُّغَة: الْإِمْسَاك فِي الْجُمْلَة، يُقَال: صَامت الرّيح: إِذا أَمْسَكت عَن الهبوب.
وَالصَّوْم فِي الشَّرِيعَة: الْإِمْسَاك عَن الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع مَعَ انضمام النِّيَّة إِلَيْهِ.
وَلقَائِل أَن يَقُول: مَا معنى: إِضَافَة الصَّوْم إِلَيْهِ بقوله: ((الصَّوْم لي)) وَجَمِيع الْعِبَادَات لَهُ؟ فَالْجَوَاب عَنهُ من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَنه إِضَافَة تشريف كَقَوْلِه تَعَالَى: {وطهر بَيْتِي} [الْحَج: 26] وَقَوله: {نَاقَة الله} [الْأَعْرَاف: 73] . وَالثَّانِي: أَنه أَضَافَهُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أحب الْعِبَادَات إِلَيْهِ، يدل عَلَيْهِ أَن فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لي)) وَكَانَ الْمَعْنى هُوَ الْمُقدم عِنْدِي على غَيره. وَالثَّالِث: لمضاعفته جزاءه، فَالْمَعْنى: أَن جَمِيع الْأَعْمَال لَهَا جَزَاء مَعْلُوم إِلَّا الصَّوْم فَإِنِّي(3/166)
أضاعف جزاءه إِلَى مَا لَا يُعلمهُ غَيْرِي، وَيشْهد لَهُ قَوْله: ((وَأَنا أجزي بِهِ))
وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((كل عمل ابْن آدم يُضَاعف الْحَسَنَة عشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف، قَالَ الله تَعَالَى: إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّهُ لي، وَأَنا أجزي بِهِ)) وَالرَّابِع: أَن جَمِيع الْعِبَادَات تظهر، وَقل أَن يسلم الظَّاهِر من شوب، وَلِهَذَا قَالَ: ((كل عمل ابْن آدم لَهُ)) وَالْمعْنَى: لنَفسِهِ فِيهِ حَظّ لظُهُوره، وَالنَّاس يثنون عَلَيْهِ بِعِبَادَتِهِ الظَّاهِرَة، وَالصَّوْم بَاطِن فَهُوَ سليم.
وَالْخَامِس: أَن الْمَعْنى أَن الإستغناء عَن الْمطعم وَالْمشْرَب صِفَتي، فَكَأَن الصَّائِم تقرب إِلَى الله عز وَجل بِمَا يشبه صفته وَلَا شبه.
وَقَوله: ((إِذا أفطر فَرح)) هَذَا فَرح الطَّبْع، فَأَما الْعقل فَإِنَّهُ يفرح بِتمَام صَوْمه وسلامته من الْآفَات.
وَأما الخلوف فَهُوَ تغير ريح الْفَم، يُقَال: خلف فَمه يخلف خلوفا. وَكثير من أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: ولخلوف بِفَتْح الْخَاء؛ وَهُوَ غلط؛ لِأَن الخلوف هُوَ الَّذِي بعد وتخلف، قَالَ النمر بن تولب:
(جزى الله عني جَمْرَة ابْنة نَوْفَل ... جَزَاء خلوف بالأمانة كَاذِب)
وَذكر الْمسك تَشْبِيه لنا بِمَا نعقل، فَكَمَا أَن الْمسك طيب الرّيح(3/167)
عندنَا، فالخلوف عِنْد الله أطيب.
وَاعْلَم أَن الله عز وَجل ينظر إِلَى قصد الْفَاعِل، فَإِذا كَانَ صَحِيحا أحب مَا يحدث مِنْهُ وَإِن كَانَ مَكْرُوها عِنْد الْخلق كالخلوف فِي الصَّوْم، وَالنَّوْم فِي التَّهَجُّد، وَالدَّم فِي حق الشَّهِيد.
1484 - / 1805 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أُصِيب رجل فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثمار ابتاعها، فَكثر دينه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((تصدقوا عَلَيْهِ)) فَلم يبلغ ذَلِك وَفَاء دينه، فَقَالَ لغرمائه: ((خُذُوا مَا وجدْتُم، فَلَيْسَ لكم إِلَّا ذَلِك)) .
رُبمَا توهم متوهم أَن معنى قَوْله: ((لَيْسَ لكم إِلَّا ذَلِك)) أَن مَا وجدوه وَإِن لم يَفِ بِأَمْوَالِهِمْ هُوَ قدر مَا يجب لَهُم، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: لَيْسَ لكم الْآن إِلَّا مَا وجدْتُم وَيبقى من الدُّيُون فِي ذمَّته إِلَى حِين يسَاره. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي الْمُفلس إِذا بَقِي عَلَيْهِ دين وَكَانَ ذَا صناعَة، هَل يجْبرهُ الْحَاكِم على إِيجَار نَفسه؟ فَروِيَ عَنهُ: يجْبرهُ، وَرُوِيَ: لَا يجْبرهُ، كَقَوْل الْأَكْثَرين.
1485 - / 1806 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ذكر قِرَاءَة أسيد بن حضير، ونزول الْمَلَائِكَة إِلَيْهِ وَقد سبق فِي مُسْند أسيد.
والمربد: الْموضع الَّذِي يجمع فِيهِ تمر النّخل عِنْد الجداد.(3/168)
والمربد أَيْضا: موقف الْإِبِل، وَقد سبق هَذَا.
1486 - / 1807 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر وَغَيره.
1487 - / 1808 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ذكر آخر من يدْخل الْجنَّة.
وَفِيه: ((فَأَكُون تَحت نجاف الْجنَّة)) والنجاف: أَعلَى الْبَاب.
وأصل النجف الإرتفاع، والنجف شبه التل، وَجمع النجف نجاف.
وَقد سبق الحَدِيث فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1488 - / 1809 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: لقد كَانَت صَلَاة الظّهْر تُقَام فَيذْهب الذَّاهِب إِلَى البقيع فَيَقْضِي حَاجته ثمَّ يتَوَضَّأ ثمَّ يَأْتِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرَّكْعَة الأولى، مِمَّا يطولها.
الْحَاجة هَا هُنَا: الْغَائِط وَالْبَوْل. وَهَذَا يدل على اسْتِحْبَاب تَطْوِيل الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَة الأولى من كل صَلَاة. وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي هَذَا فِي مُسْند أبي قَتَادَة.
1489 - / 1810 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع قَالَ: ((اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد ملْء السَّمَوَات(3/169)
وَالْأَرْض)) .
قد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَن قَوْله: ((ملْء السَّمَاء)) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون ذكر مَا نحس بِهِ للتقريب إِلَى الْفَهم، فَالْمَعْنى: لَك الْحَمد حمدا كثيرا. وَالثَّانِي: أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى الصُّحُف الَّتِي تكْتب فِيهَا المحامد.
وَالثنَاء: الْمَدْح وَالْمجد والشرف.
وَقَوله: ((وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد)) قد فسرناه فِي مُسْند الْبَراء ابْن عَازِب.
1490 - / 1811 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أتيت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ وَهُوَ مكثور عَلَيْهِ.
أَي قد كثر النَّاس عَلَيْهِ، فَعدى الْكَثْرَة وَهِي لَازِمَة، كَمَا يُقَال: مَرْغُوب فِيهِ.
وَقَوله: فَلم يعب الصَّائِم على الْمُفطر. وَقد سبق فِي مُسْند أبي الدَّرْدَاء بَيَانه، وَذكرنَا جَوَاز الصَّوْم وَالْفطر فِي السّفر، وَاخْتِلَاف النَّاس فِي الْأَفْضَل.
1491 - / 1812 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: كُنَّا نحزر قيام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الظّهْر.
الحزر: تَقْدِير بِظَنّ.(3/170)
1492 - / 1813 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: ((إِذا أَتَى أحدكُم أَهله ثمَّ أَرَادَ أَن يعود فَليَتَوَضَّأ)) .
اعْلَم أَن الْوضُوء يجمع بَين تَخْفيف الْحَدث والنظافة، وَقد علم أَن الْإِنْسَان لَا يتَوَضَّأ بعد الْوَطْء حَتَّى يغسل ذكره، وَذَلِكَ يُقَوي الْعُضْو، ثمَّ إِن الْبدن يسكن من الإنزعاج بِتِلْكَ السَّاعَة فَيَعُود مستريحا. وَلَا يُمكن أَن يحمل قَوْله: ((فَليَتَوَضَّأ)) على غسل الذّكر فَحسب، لِأَن فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث ((وضوءه للصَّلَاة)) .
1493 - / 1814 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: نهى عَن الدُّبَّاء والحنتم والنقير والمزفت. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس، وَبينا أَنه إِنَّمَا نهى عَن هَذِه الْأَشْيَاء لِأَنَّهَا تزيد المنبوذ فِيهَا شدَّة.
1494 - / 1815 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: نَهَانَا أَن نخلط بسرا بتمرا، أَو زبيبا بِتَمْر.
قد بَينا فِيمَا سبق أَن الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى الإنتباذ، وَأَنه إِذا اجْتمع نَوْعَانِ تعاونا على إِحْدَاث الشدَّة، فكره ذَلِك لِأَنَّهُ يقرب إِلَى الْمحرم، فَإِن حدثت شدَّة حرم.
1495 - / 1816 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: ((إِذا تثاءب أحدكُم فليمسك بِيَدِهِ على فَمه)) وَفِي لفظ ((فليكظم)) .(3/171)
وأصل الكظم إمْسَاك على مَا فِي النَّفس، فَكَأَنَّهُ أَمر برده مهما أمكن، لِأَنَّهُ يُوجب فتح الْفَم خَارِجا عَن الْعَادة، وَرُبمَا ظهر مَعَه صَوت مستنكر، كَقَوْل المتثائب: هاه، هاه.
1496 - / 1817 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: ((إِنِّي حرمت مَا بَين لابتي الْمَدِينَة)) . وَكَانَ أَبُو سعيد يَأْخُذ أَحَدنَا فِي يَده الطَّائِر فيفكه من يَده ثمَّ يُرْسِلهُ.
هَذَا يدل على أَن صيد الْمَدِينَة محرم. وَقد سبق ذكر الْخلاف فِي هَذَا فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وَبينا معنى اللابة.
1497 - / 1818 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((لَا ينظر الرجل إِلَى عَورَة الرجل - وَفِي لفظ - عرية)) .
الْعَوْرَة: كل شَيْء يستحيى مِنْهُ. وَهِي الْعرية أَيْضا. وحد عَورَة الرجل وَالْأمة من السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة. وَعَن أَحْمد: أَنَّهَا الْقبل والدبر، وَبِه قَالَ دَاوُد، وركبة الرجل لَيست عَورَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هِيَ عَورَة، وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين. وعورة الْحرَّة جَمِيع بدنهَا إِلَّا الْوَجْه، وَفِي الْكَفَّيْنِ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ قدمهَا وَلَا يَدهَا عَورَة. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي عَورَة أم الْوَلَد وَالْمُعتق بَعْضهَا، فَروِيَ عَنهُ أَن عورتهما كعورة الْحرَّة، وَرُوِيَ عَنهُ كعورة الْأمة. وَاعْلَم(3/172)
أَن عَورَة الْمَرْأَة فِي حق الْمَرْأَة كعورة الرجل فِي حق الرجل.
وَأما الْعَوْرَة بِالسِّنِّ فَقَالَ شَيخنَا عَليّ بن عبد الله: كل من لم يبلغ سبع سِنِين لم يثبت فِي حَقه حكم الْعَوْرَة، فعلى هَذَا يجوز أَن يغسل الرجل الصبية وَالْمَرْأَة الصَّبِي إِذا لم يبلغَا سبع سِنِين، ويؤكد هَذَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل ربيبة الْحسن.
وَإِنَّمَا فعل هَذَا لارْتِفَاع حُرْمَة الْعَوْرَة فِي حق الصَّغِير. فَإِذا بلغ الصَّبِي سبعا دخل فِي حد التَّمْيِيز وَأدْخلهُ الشَّرْع فِي حيّز المتعبدين بقوله: ((مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لسبع)) .
وَأما إفضاء الرجل إِلَى الرجل فِي الثَّوْب الْوَاحِد فَذَاك يُوجب التقاء البشرتين، فَإِن كَانَت الْبشرَة عَورَة فَذَاك حرَام، وَإِن لم تكن عَورَة خيف من ذَلِك أَن يكون طَرِيقا إِلَى الإستمتاع، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة مَعَ الْمَرْأَة.
1498 - / 1819 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: أول من بَدَأَ بِالْخطْبَةِ يَوْم الْعِيد قبل الصَّلَاة مَرْوَان.
قد بَينا السَّبَب فِي تَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَإِنَّمَا خَافَ مَرْوَان إِن قدم الصَّلَاة أَلا يسمعوا خطبَته، فَقدم الْخطْبَة، فَقَالَ لَهُ رجل: الصَّلَاة أَولا فَقَالَ: قد ترك مَا هُنَالك.(3/173)
يَعْنِي: تركت السّنة، فَقَالَ أَبُو سعيد: هَذَا قد قضى مَا عَلَيْهِ، يَعْنِي: فرض الْإِنْكَار.
وحد الإستطاعة فِي الْإِنْكَار أَلا يخَاف الْمُنكر سَوْطًا وَلَا عَصا، فَحِينَئِذٍ يجب عَلَيْهِ التَّغْيِير بِالْيَدِ، فَإِن خَافَ السَّوْط فِي تَغْيِيره بِالْيَدِ وَلم يخفه فِي النُّطْق انْتقل الْوُجُوب إِلَى الْإِنْكَار بِاللِّسَانِ. فَإِن خَافَ انْتقل إِلَى الْإِنْكَار بِالْقَلْبِ. وَالْإِنْكَار بِالْقَلْبِ هُوَ كَرَاهِيَة ذَلِك الْفِعْل، وَتلك فَرِيضَة لَازِمَة على كل حَال.
فَإِن قيل: فَمَا وَجه ضعف الْإِيمَان هَا هُنَا وَمَا تعدى الْمُنكر بِالْقَلْبِ الشَّرْع؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْإِيمَان إِذا قوي فِي الْبَاطِن حرك الْأَعْضَاء بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، فَإِذا ضعف اقْتصر على العقيدة وَالْبَاطِن. وَالثَّانِي: أَن الإقتصار على الْإِنْكَار بِالْقَلْبِ رخصَة، وَالْإِنْكَار بِالْيَدِ عَزِيمَة، وَالْإِيمَان مُشْتَمل على الْعَزِيمَة والرخصة، والرخص أَضْعَف الْأَمريْنِ فِيهِ.
1499 - / 1820 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: ((إِن من شَرّ النَّاس عِنْد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة الرجل يُفْضِي إِلَى الْمَرْأَة وتفضي إِلَيْهِ ثمَّ ينشر سرها)) .
الْإِفْضَاء: الْمُبَاشرَة. وَالْمرَاد بالسر هَا هُنَا مَا يكون من عُيُوب الْبدن الْبَاطِنَة، وَذَاكَ كالأمانة فَلَزِمَ كِتْمَانه.(3/174)
1500 - / 1821 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: ((إِن لهَذِهِ الْبيُوت عوامر، فَإِذا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئا فحرجوا عَلَيْهَا ثَلَاثًا، فَإِن ذهبت وَإِلَّا فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ كَافِر)) .
المُرَاد بالعوامر الْجِنّ. يُقَال للجن: عوامر الْبَيْت وعمار الْبَيْت.
وَالْمرَاد أَنَّهُنَّ يطول لبثهن فِي الْبيُوت، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْعُمر: وَهُوَ طول الْبَقَاء.
وَقَوله: ((فحرجوا عَلَيْهَا)) أَي قُولُوا: أَنْت فِي حرج - أَي فِي ضيق - إِن عدت إِلَيْنَا، فَلَا تلومينا أَن نضيق عَلَيْك بالطرد والتتبع. وَقد شرحنا الحَدِيث فِي مُسْند أبي لبَابَة، وَذكرنَا الإستئذان هُنَاكَ.
1501 - / 1822 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: بَيْنَمَا نَحن نسير مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعرج إِذْ عرض شَاعِر ينشد، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((خُذُوا الشَّيْطَان)) .
العرج: اسْم مَوضِع.
وَقَوله: ((لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا)) قد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند سعد ابْن أبي وَقاص، وَبينا الممدوح والمذموم من الشّعْر. وَهَذَا الحَدِيث يُوهم أَن من أنْشد الشّعْر فَهُوَ شَيْطَان، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فقد تمثل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالشعر، وسَمعه من جمَاعَة، وتمثل بِهِ الصَّحَابَة(3/175)
وَمن بعدهمْ على مَا بَينا فِي كتَابنَا الْمُسَمّى ((الْإِشْعَار بِأَحْكَام الْأَشْعَار)) وَهَذَا الحَدِيث قَضِيَّة فِي عين، فَيحْتَمل أَن ذَاك المنشد كَانَ يطرب أَو يَقُول مَا لَا يجوز، أَو يُرِيد أَن يُقَاوم الْمُسلمين أهل الْقُرْآن بإنشاده.
1502 - / 1823 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: ذكر وَفد عبد الْقَيْس. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْغَرِيب: تقذفون فِيهِ من القطياء. فَقَالَ رجل: فَفِيمَ نشرب؟ قَالَ: ((فِي أسقية الْأدم الَّتِي يلاث على أفواهها)) وَفِي لفظ: ((عَلَيْكُم بالموكى)) فَقَالُوا: إِن أَرْضنَا كَثِيرَة الجرذان.
القطياء: ضرب من التَّمْر.
وَقَوله: ((تلاث على أفواهها)) أَي توكى وتشد. والموكى: المشدود. وأصل اللوث الطي والربط، يُقَال: لثت الْعِمَامَة ألوثها لوثا.
والجرذان جمع جرذ، بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة.
1503 - / 1825 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: ((أحقهم بِالْإِمَامَةِ أقرؤهم)) .
هَذَا يدل على مَذْهَبنَا. وَقد سبق بَيَان هَذَا فِي مُسْند أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ.(3/176)
1504 - / 1828 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((يَا أَيهَا النَّاس، إِن الله يعرض بِالْخمرِ، وَلَعَلَّ الله سينزل فِيهَا أمرا، فَمن كَانَ عِنْده مِنْهَا شَيْء فليبعه ولينتفع بِهِ)) فَمَا لبثنا إِلَّا يَسِيرا حَتَّى قَالَ: ((إِن الله حرم الْخمر)) فَاسْتَقْبلُوا بِمَا كَانَ عِنْدهم طرق الْمَدِينَة فسفكوها.
فِي هَذَا الحَدِيث بَيَان فَضِيلَة الفطنة، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لما رأى التَّعْرِيض بذمها اسْتدلَّ على قرب التَّصْرِيح. وَفِيه الْحَث على حفظ الْأَمْوَال وبدارها قبل التّلف.
والسفك: الصب والإراقة، إِلَّا أَنه فِي الْأَغْلَب يسْتَعْمل فِي الدَّم.
1505 - / 1829 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ذكر مَاعِز.
وَقد سبق فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة، وَبُرَيْدَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: فَاشْتَدَّ واشتددنا خَلفه. يَعْنِي: عدا، حَتَّى أَتَى عرض الْحرَّة: أَي جَانبهَا. فانتصب لنا: أَي وقف. فرميناه بجلاميد الْحرَّة: أَي بحجارتها، حَتَّى سكت: أَي مَاتَ.
1506 - / 1830 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: بَينا نَحن مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر، جَاءَ رجل فَجعل يصرف بَصَره يَمِينا وَشمَالًا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من كَانَ مَعَه فضل ظهر فليعد بِهِ على من لَا ظهر لَهُ، وَمن كَانَ مَعَه فضل زَاد فليعد بِهِ على من لَا زَاد لَهُ)) فَذكر(3/177)
من أَصْنَاف المَال حَتَّى رَأينَا أَنه لَا حق لأحد منا فِي فضل.
فِي هَذَا الحَدِيث مدح الفطنة، لِأَنَّهُ لما رأى الرجل ينظر يَمِينا وَشمَالًا علم أَنه مُحْتَاج.
وَالظّهْر: مَا يركب.
ورأينا: ظننا. وَإِنَّمَا ظنُّوا لأَنهم رجحوا الْوُجُوب من أمره على النّدب.
1507 - / 1831 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((لكل غادر لِوَاء)) . وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَفِي تَمام هَذَا الحَدِيث: ((وَلَا غادر أعظم غدرا من أَمِير عَامَّة)) أَي من الْغدر بالأمير، وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند ابْن عمر.
1508 - / 1832 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا بُويِعَ لخليفتين فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا)) .
إِذا اسْتَقر أَمر الْخَلِيفَة وانعقد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فبويع لآخر بِنَوْع تَأْوِيل كَانَ بَاغِيا، وَكَانَ أنصاره بغاة يُقَاتلُون قتال الْبُغَاة.
وَقَوله: ((فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا)) لَيْسَ المُرَاد بِهِ أَن يقدم فَيقْتل، وَإِنَّمَا المُرَاد قَاتلُوهُ، فَإِن آل الْأَمر إِلَى قَتله جَازَ.(3/178)
1509 - / 1833 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: أَن أَعْرَابِيًا أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي فِي غَائِط مضبة.
الْغَائِط: المطمئن من الأَرْض.
المضبة بِفَتْح الْمِيم: وَهِي الْكَثِيرَة الضباب، كَمَا يُقَال: أَرض مسبعَة.
وَقَوله: ((إِن الله غضب على سبط بني إِسْرَائِيل)) قَالَ: الزّجاج: السبط فِي اللُّغَة: الْجَمَاعَة الَّذين يرجعُونَ إِلَى أَب وَاحِد. والسبط فِي اللُّغَة: الشّجر، فالسبط الَّذين هم من شَجَرَة وَاحِدَة. وَقَالَ غَيره: الأسباط من ولد إِسْحَاق بِمَنْزِلَة الْقَبَائِل من ولد إِسْمَاعِيل.
وَإِسْرَائِيل اسْم أعجمي. قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: عبد الله.
وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: فِي إِسْرَائِيل لُغَات، قَالُوا: إسرال كَمَا قَالُوا ميكال، وَقَالَ إِسْرَائِيل، وَقَالُوا: إسرائين بالنُّون، قَالَ أُميَّة على إسرال:
(إِنَّنِي زارد الْحَدِيد على النَّاس ... دروعا سوابغ الأذيال)
(لَا أرى من يُعِيننِي فِي حَياتِي ... غير نَفسِي إِلَّا بني إسرال)
وَقَالَ أَعْرَابِي صَاد صيدا فجَاء بِهِ إِلَى أَهله:
(يَقُول أهل السُّوق لما جينا ... هَذَا - وَرب الْبَيْت - إسرائينا)(3/179)
وَقد بَينا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس الْعلَّة فِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عاف لحم الضَّب، وَذكرنَا اعتراضا وجوابا فِي قَوْله: ((لَعَلَّه مِمَّا مسخ)) فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1510 - / 1834 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: النَّهْي عَن أكل لُحُوم الْأَضَاحِي فَوق ثَلَاث. وَقد بَينا فِي مُسْند جَابر أَنه نهى لسَبَب ثمَّ أذن فِي ذَلِك بعد.
1511 - / 1837 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: ((كَانَت امْرَأَة من بني إِسْرَائِيل قَصِيرَة تمشي بَين امْرَأتَيْنِ طويلتين، فاتخذت رجلَيْنِ من خشب وخاتما من ذهب مطبق ثمَّ حشته مسكا، والمسك أطيب الطّيب)) .
المُرَاد بِالرجلَيْنِ النَّعْلَانِ، فَكَأَنَّهَا اتَّخذت نَعْلَيْنِ لَهما كَثَافَة فطالت بهما.
والمطبق: الَّذِي دَاخله فارغ.
والمسك طيب مَعْرُوف، وَمن مَنَافِعه أَنه يذهب الْحزن، ويفرح الْقلب ويقويه، وَيُقَوِّي الدِّمَاغ وَالْعين، وينشف رطوباتها، وينفع الْأَمْرَاض الْبَارِدَة السوداوية والبلغمية، وَيزِيد فِي القوى.
1512 - / 1839 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ: صَحِبت ابْن صياد إِلَى مَكَّة، فَقَالَ لي: مَا لقِيت من النَّاس، يَزْعمُونَ أَنِّي(3/180)
الدَّجَّال، أَلَسْت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((لَا يدْخل الْمَدِينَة وَلَا مَكَّة)) ؟ قلت: بلَى. قَالَ: فقد ولدت فِي الْمَدِينَة وَهَا أَنا أُرِيد مَكَّة.
ثمَّ قَالَ: إِنِّي لأعْلم مولده ومكانه وَأَيْنَ هُوَ، قَالَ: فلبسني وأخذتني مِنْهُ ذمَامَة. وَفِي لفظ: قيل لِابْنِ صياد: أَيَسُرُّك أَنَّك ذَاك الرجل؟ قَالَ: فَقَالَ: لَو عرض عَليّ مَا كرهت.
من الْجَائِز أَن يكون مُرَاد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يُولد لَهُ، فِي حَالَة خُرُوجه، وَلَا يدْخل حِينَئِذٍ الْمَدِينَة وَلَا مَكَّة. وَمن الْجَائِز أَن يكون ذَلِك على الْإِطْلَاق، فَلهَذَا قَالَ: فلبسني: أَي الْتبس عَليّ الْأَمر بِمَا قَالَ.
والذمامة: الْحيَاء. وَقد شرحنا هَذِه الْكَلِمَة فِي مُسْند أبي ابْن كَعْب.
وَقَوله: لَو عرض عَليّ مَا كرهت. دَلِيل على أَنه لَيْسَ بِصَحِيح الْإِيمَان، لِأَن الْمُؤمن لَا يرضى أَن يكون فِي مقَام الدَّجَّال.
1513 - / 1840 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ رَسُول الله لِابْنِ صائد: ((مَا تربة الْجنَّة؟)) قَالَ: درمكة بَيْضَاء مسك خَالص. قَالَ: ((صدقت)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الدَّرْمَك: الحوارى، وَيُقَال لَهُ درمق أَيْضا. وَقد سبق فِي مُسْند سهل بن سعد: ((يحْشر النَّاس على أَرض بَيْضَاء كقرصة النقي)) .(3/181)
1514 - / 1841 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: مَذْكُور فِي مُسْند جَابر.
1515 - / 1842 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رجلا أَتَى أَبَا سعيد فَقَالَ: أردْت أَن أنقل عيالي إِلَى بعض الرِّيف، فَقَالَ: لَا تفعل؛ خرجنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ النَّاس: إِن عيالنا لخلوف مَا نَأْمَن عَلَيْهِم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((إِنِّي حرمت الْمَدِينَة مَا بَين مأزميها)) .
الرِّيف: الخصب.
والخلوف: الْغَيْب.
وَقَوله: ((مَا بَين مأزميها)) أَي مَا بَين مضيقيها.
وَفِي لفظ: ((لَا يصبر أحد على لأوائها)) اللأواء: الشدَّة. وَقد بَينا حد حرم الْمَدِينَة وتحريمه فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1516 - / 1844 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث جَيْشًا فَأَصَابُوا سَبَايَا، فَكَأَن نَاسا تحرجوا من غشيانهن من أجل أَزوَاجهنَّ من الْمُشْركين، فَأنْزل الله عز وَجل: {وَالْمُحصنَات من النِّسَاء إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم} [النِّسَاء: 24] .
المُرَاد بالمحصنات هَا هُنَا ذَوَات الْأزْوَاج. إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم من السبايا فِي الحروب، فهن حل لكم إِذا انْقَضتْ عدتهن من(3/182)
أَزوَاجهنَّ. وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الزَّوْجَيْنِ إِذا سبيا مَعًا وَقعت الْفرْقَة بَينهمَا كَمَا لَو سبي أَحدهمَا دون الآخر، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَيدل عَلَيْهِ أَنه أَمر أَلا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، وَلَا حَائِل حَتَّى تحيض، وَلم يسْأَل عَن ذَات زوج وَلَا غَيرهَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا سبيا جَمِيعًا فهما على نِكَاحهمَا.
1517 - / 1846 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زجر عَن الشّرْب قَائِما.
إِن قَالَ قَائِل: فقد سبق فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه شرب قَائِما، وَقَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل كَمَا فعلت، فَكيف الْجمع بَين الْحَدِيثين؟ فَالْجَوَاب: من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: ذكره الْأَثْرَم فَقَالَ: أَحَادِيث الرُّخْصَة أثبت، قَالَ: ونرى أَنه إِن كَانَت الْكَرَاهَة بِأَصْل ثَابت أَن الرُّخْصَة جَاءَت بعْدهَا، لأَنا وجدنَا الْعلمَاء من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الرُّخْصَة: عمر وَعلي وَسعد وعامر بن ربيعَة وَابْن عمر وَأَبُو هُرَيْرَة وَعبد الله بن الزبير وَعَائِشَة، ثمَّ أجَازه التابعون: سَالم بن عبد الله وَطَاوُس وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَإِبْرَاهِيم وَغَيرهم، وَالْوَجْه الثَّانِي: ذكره ابْن قُتَيْبَة فَقَالَ: أَرَادَ بِالْقيامِ الَّذِي نهى عَن الشّرْب فِيهِ الإستعجال وَالسَّعْي، كَمَا تَقول الْعَرَب: قُم فِي حاجتنا، وَأَرَادَ بقوله: شرب قَائِما: غير ماش وَلَا ساع، بل بطمأنينة كالقاعد.
وَالْوَجْه الثَّالِث: هُوَ الَّذِي أرَاهُ: أَن النَّهْي على وَجه الْكَرَاهَة، لعدم(3/183)
تمكن الشَّارِب، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي من حَيْثُ الطِّبّ، فَإِن الْمعدة تكون فِي حَال الْقيام كالمتقلص. وَمَا رُوِيَ أَنه شرب قَائِما يدل على الْجَوَاز، وَقد كَانَ لعذر. ثمَّ إِنِّي رَأَيْت أَبَا سُلَيْمَان قد ذكر نَحْو مَا وَقع لي فَقَالَ: النَّهْي عَن الشّرْب قَائِما نهي تَأْدِيب لِأَنَّهُ أرْفق بالشارب، وَذَلِكَ الطَّعَام وَالشرَاب إِذا تناولهما الشَّارِب على حَال سُكُون وطمأنينة كَانَا أنجع فِي الْبدن وأمرأ فِي الْعُرُوق، وَإِذا تناولهما على حَال حَرَكَة اضطرابا فِي الْمعدة وتخضخضا، فَكَانَ فِيهِ الْفساد وَسُوء الهضم. وَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه شرب قَائِما فَهُوَ متأول على الضَّرُورَة الداعية، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك بِمَكَّة، شرب من مَاء زَمْزَم قَائِما، وَمَعْلُوم أَن الْقعُود هُنَاكَ والطمأنينة كالمتعذر لإزدحام النَّاس عَلَيْهِ ينظرُونَ إِلَيْهِ ويتقدون بِهِ فِي نسكهم، فَرخص فِي هَذَا للْعُذْر.(3/184)
(79) كشف الْمُشكل فِي مُسْند أبي حَمْزَة أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألفا حَدِيث وَمِائَتَا حَدِيث وَسِتَّة وَثَمَانُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ثَلَاثمِائَة حَدِيث وَثَمَانِية عشر حَدِيثا.
وَفِي الصَّحَابَة آخر اسْمه أنس بن مَالك، ويكنى أَبَا أُميَّة الكعبي، وَلم يسند عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سوى حَدِيث وَاحِد، وَقيل: أسْند ثَلَاثَة، وَلم يخرج لَهُ فِي الصَّحِيح شَيْء.
1518 - / 1847 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: ((من سره أَن يبسط عَلَيْهِ رزقه أَو ينسأ فِي أَثَره فَليصل رَحمَه)) .
النسأ: التَّأْخِير. وَالْمرَاد طول عمره.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ قد فرغ من الرزق وَالْأَجَل؟ فَالْجَوَاب من خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون المُرَاد بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُمر توسعة الرزق وَصِحَّة(3/185)
الْبدن، فَإِن الْغنى يُسمى حَيَاة والفقر يُسمى موتا.
وَالثَّانِي: أَن يكْتب أجل العَبْد مائَة سنة، وَيجْعَل تركيبه تعمير ثَمَانِينَ، فَإِذا وصل رَحمَه زَاده الله فِي تركيبه، فَعَاشَ عشْرين سنة أُخْرَى، قالهما ابْن قُتَيْبَة.
وَالثَّالِث: أَن هَذَا التَّأْخِير فِي الْأَجَل مِمَّا قد فرغ مِنْهُ، لكنه علق الإنعام بِهِ بصلَة الرَّحِم، فَكَأَنَّهُ كتب أَن فلَانا يبْقى خمسين سنة فَإِن وصل رَحمَه بَقِي سِتِّينَ.
وَالرَّابِع: أَن تكون هَذِه الزِّيَادَة فِي الْمَكْتُوب، والمكتوب غير الْمَعْلُوم، فَمَا علمه الله تَعَالَى من نِهَايَة الْعُمر لَا يتَغَيَّر، وَمَا كتبه قد يمحى وَيثبت، وَقد كَانَ عمر بن الْخطاب يَقُول: إِن كنت كتبتني شقيا فامحني. وَمَا قَالَ: إِن كنت علمتني، لِأَن مَا علم وُقُوعه لَا بُد أَن يَقع. وَيبقى على هَذَا الْجَواب إِشْكَال: وَهُوَ أَن يُقَال: إِذا كَانَ المحتوم وَاقعا، فَمَا الَّذِي أفادت زِيَادَة الْمَكْتُوب ونقصانه؟
فَالْجَوَاب: أَن الْمُعَامَلَات على الظَّاهِر، والمعلوم الْبَاطِن خَفِي لَا يعلق عَلَيْهِ حكم، فَيجوز أَن يكون الْمَكْتُوب يزِيد وَينْقص ويمحى وَيثبت ليبلغ ذَلِك على لِسَان الشَّرْع إِلَى الْآدَمِيّ، فَيعلم فَضِيلَة الْبر وَسُوء العقوق. وَيجوز أَن يكون هَذَا مِمَّا يتَعَلَّق بِالْمَلَائِكَةِ، فتؤمر بالإثبات(3/186)
والمحو، وَالْعلم الحتم لَا يطلعون عَلَيْهِ. وَمن هَذَا إرْسَال الرُّسُل إِلَى من لَا يُؤمر.
وَالْخَامِس: أَن زِيَادَة الْأَجَل تكون بِالْبركَةِ فِيهِ وتوفيق صَاحبه لفعل الْخَيْر وبلوغ الْأَغْرَاض، فينال فِي قصير الْعُمر مَا يَنَالهُ غَيره فِي طويله.
1519 - / 1848 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ((اجْعَل بِالْمَدِينَةِ ضعْفي مَا جعلت بِمَكَّة من الْبركَة)) وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ.
1520 - / 1849 - والْحَدِيث الثَّالِث: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1521 - / 1850 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((لَا تباغضوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تدابروا)) .
قَالَ أَبُو عبيد: التدابر: المصارمة والهجران، مَأْخُوذ من أَن يولي الرجل صَاحبه دبره ويعرض عَنهُ بِوَجْهِهِ، وَهُوَ التقاطع.(3/187)
فَإِن قَالَ قَائِل: التباغض والتحاسد أَمر يتَعَلَّق بِالْقَلْبِ، فَكيف يُؤمر الْإِنْسَان بإزالته؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه إِنَّمَا يُؤمر بترك مَا يَأْمر بِهِ التباغض والتحاسد من الْأَفْعَال القبيحة، والذم للمبغوض والمحسود، فَإِذا كف الْأَفْعَال والأقوال لم يضرّهُ مَا فِي بَاطِن قلبه، وَصَارَ هَذَا كمن يحب الْخمر وَالزِّنَا، فَإنَّا نأمره بهجر ذَلِك، وَلَا تضره شَهْوَة الْقلب.
وَالثَّانِي: أَن يكون هَذَا تَنْبِيها على رفع مَا يُوجب التباغض والتحاسد، فَكَأَنَّهُ قيل لهَذَا الْمُؤمن: أَنْت وَهَذَا الشَّخْص قد اتفقتما فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَالدّين، فأنتما أَخَوان، وَلَا وَجه للتباغض والتحاسد إِلَّا إِيثَار الدُّنْيَا، فتفكر تعلم أَن الدُّنْيَا الحقيرة لَا يجوز أَن تفْسد الدّين الْعَزِيز.
وَقَوله: ((لَا يحل لمُسلم أَن يهجر أَخَاهُ)) قد سبق فِي مُسْند أبي أَيُّوب.
1522 - / 1851 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة عَام الْفَتْح، وعَلى رَأسه مغفر، فَلَمَّا نَزعه جَاءَهُ رجل فَقَالَ: ابْن خطل متلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة. فَقَالَ: ((اقْتُلُوهُ)) .
هَذَا يدل على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة غير محرم. وَهَذَا يدل على ترك الْإِحْرَام للخائف على نَفسه إِذا دخل مَكَّة. وَقد تكلمنا فِي هَذَا الْمَعْنى فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.(3/188)
وَأما ابْن خطل فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه فِي وَجه من الْوُجُوه مَعَ رجل من الْأَنْصَار، فَأمر الْأنْصَارِيّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق وثب على الْأنْصَارِيّ فَقتله وَذهب بِمَالِه، فَأمر بقتْله لما جنى.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل يعْصم الْحرم من الْقَتْل الْوَاجِب وَإِقَامَة الْحَد على الْجَانِي؟ على مَا ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. فَإِن قُلْنَا: لَا يعْصم فَلَا إِشْكَال، وَإِن قُلْنَا: يعْصم، كَانَ قتل ابْن خطل خَاصّا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَقَوْلِه: ((وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من نَهَار)) .
1523 - / 1852 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَارنَا فحلبنا لَهُ من شَاة دَاجِن.
الدَّاجِن: الشَّاة المقيمة فِي الدَّار.
والشوب: الْخَلْط والمزج.
وَقد ذكرنَا أَن السّنة إِعْطَاء الْأَيْمن، فِي مُسْند سهل بن سعد.
1524 - / 1853 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ أمهاتي يواظبنني على خدمته، وَنزل الْحجاب فِي مبتنى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِزَيْنَب.
قَوْله: يواظبنني. الْمُوَاظبَة: الْمُلَازمَة، وَالْمعْنَى: يحثثنني على مُلَازمَة خدمته.(3/189)
والمبتنى من بِنَاء الرجل على أَهله، وَكَانُوا إِذا أَرَادوا إِدْخَال الرجل على أَهله بنوا بنيانا يجْتَمع فِيهِ الرجل وَالْمَرْأَة، فَقيل: بنى فلَان على أَهله، ثمَّ سمي الدُّخُول بِنَاء وَإِن لم يكن بِنَاء.
وَقد ذكرنَا أَن الْعَرُوس يَقع على الرجل كَمَا يَقع على الْمَرْأَة، فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَفِي كَونه عَلَيْهِ السَّلَام خرج ثمَّ عَاد ثمَّ خرج مَا يصف حسن أخلاقه وَشدَّة حيائه، إِذْ صَبر على مَا يُؤْذِيه وَلم يَأْمُرهُم بِالْخرُوجِ.
وَقَوله: حَتَّى تَرَكُوهُ: أَي تركُوا فَاضل الطَّعَام لكثرته.
وأصل الحيس الْخَلْط، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ السّمن وَالتَّمْر والأقط فيطبخونه.
والبرمة: الْقدر.
والتور: قد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
وتصدعوا: تفَرقُوا.
والحجرات جمع حجرَة، مثل ظلمَة وظلمات. قَالَ الْفراء: وَجه الْكَلَام ضم الْحَاء وَالْجِيم، وَبَعض الْعَرَب يفتح الْجِيم فَيَقُول: الحجرات والركبات، وَرُبمَا خففوها، وَالتَّخْفِيف فِي تَمِيم والتثقيل فِي أهل الْحجاز.
وَأما قَول نِسَائِهِ: بَارك الله لَك. فَإِنَّهُ قَول صادر عَن قُوَّة إِيمَان، وَإِن كَانَت فِي قلوبهن الْغيرَة.(3/190)
وأسكفة الْبَاب: عتبته، وَهُوَ مَوضِع الدُّخُول وَالْخُرُوج.
وَآيَة الْحجاب: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي إِلَّا أَن يُؤذن لكم} [الْأَحْزَاب: 53] .
وَقَوله: جَاءَ زيد يشكو. قَالَ مقَاتل: قَالَ زيد: يَا رَسُول الله، إِن فِيهَا كبرا، فَهِيَ تعظم عَليّ وتؤذيني بلسانها، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أمسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله)) .
وَأما الَّذِي أخفاه فِي نَفسه فَاخْتَلَفُوا فِيهِ على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: حبها؛ قَالَه ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: عهد عَهده الله إِلَيْهِ أَن زَيْنَب سَتَكُون لَهُ زَوْجَة، فَلَمَّا جَاءَ زيد يشكو قَالَ لَهُ: ((اتَّقِ الله وَأمْسك عَلَيْك زَوجك وَاتَّقِ الله)) وأخفى ذَلِك الْعَهْد فِي نَفسه، قَالَه عَليّ بن الْحُسَيْن.
وَالثَّالِث: إيثاره طَلاقهَا، قَالَه قَتَادَة وَابْن جريج. قَالَ ابْن عقيل: الَّذِي كتمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّمَنِّي لفراق زيد إِيَّاهَا وإخفاؤه فِي نَفسهَا استحسانها، وتمنيه أَن يَتَزَوَّجهَا لَيْسَ بِمَعْصِيَة.
وَالرَّابِع: أَن الَّذِي أخفاه: إِن طَلقهَا زيد تزَوجهَا، قَالَه ابْن زيد.
فَلَمَّا طَلقهَا زيد وَانْقَضَت عدتهَا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زيدا يخطبها لَهُ، فَقَالَت: مَا أَنا بِصَانِعَةٍ شَيْئا حَتَّى أؤامر رَبِّي - يَعْنِي أستخيره، فَقَامَتْ إِلَى مَسْجِدهَا، وَنزل الْقُرْآن يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَمَّا قضى زيد مِنْهَا وطرا زَوَّجْنَاكهَا} [الْأَحْزَاب: 37] وَجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدخل عَلَيْهَا بِغَيْر(3/191)
إِذن، فَلهَذَا كَانَت تَفْخَر على أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول: زَوجنِي الله من فَوق سبع سموات.
1525 - / 1854 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: سقط النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن فرسه فجحش شقَّه الْأَيْمن، فصلينا وَرَاءه قعُودا.
وَقد أجَاز أَحْمد بن حَنْبَل أَن يُصَلِّي النَّاس خلف إِمَام الْحَيّ قعُودا إِذا مرض مَرضا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1526 - / 1855 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ عبد الله بن حذافة: من أبي؟ وَكَانَ إِذا لاحى يدعى إِلَى غير أَبِيه، فَقَالَ: ((أَبوك حذافة)) .
الملاحاة: الْمُنَازعَة والمخاصمة.
والإقتراف: الإكتساب، وَالْإِشَارَة إِلَى الزِّنَا.
والخنين بِالْخَاءِ كالبكاء مَعَ مُشَاركَة فِي الصَّوْت من الْأنف. وَقد صحفه بَعضهم فقرأه بِالْحَاء. وَإِنَّمَا بَكت الصَّحَابَة لأَنهم لما أحفوه فِي الْمَسْأَلَة: أَي استقصوا عَلَيْهِ وألحوا وأسرفوا صعد الْمِنْبَر فَقَالَ: ((لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء إِلَّا بيّنت لكم)) وَإِنَّمَا قَالَه غَضبا، فبكوا لغضبه.
1527 - / 1856 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَت الْأَنْصَار أهل الأَرْض وَالْعَقار، وَكَانَت أم أنس قد أَعْطَتْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عذاقا لَهَا، فَأَعْطَاهَا أم أَيمن، فَلَمَّا فرغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتال أهل خَيْبَر رد(3/192)
الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَار منائحهم الَّتِي كَانُوا منحوهم من ثمارهم، فَرد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أُمِّي عذاقها، وَأعْطى أم أَيمن مكانهن من حَائِطه.
الْعقار: النّخل.
والعذاق بِكَسْر الْعين جمع عذق بِفَتْحِهَا: وَهِي النّخل.
والمنحة: الْعَطِيَّة. وَهِي تكون على وَجْهَيْن: تمْلِيك الأَصْل، أَو منفعَته مُدَّة.
وَإِنَّمَا رد الْمُهَاجِرُونَ المنائح لأَنهم لم يملكوهم الْأُصُول.
1528 - / 1857 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: ((إِنَّكُم سَتَجِدُونَ بعدِي أَثَرَة شَدِيدَة فَاصْبِرُوا)) .
الأثرة: الإستئثار بالشَّيْء.
وَقَوله: ((إِن قُريْشًا حدثاء عهد بجاهلية ومصيبة)) لأَنهم أصيبوا يَوْم بدر وَيَوْم فتح مَكَّة.
والشعب: طَرِيق بَين جبلين، وَهُوَ أضيق من الْوَادي، فَكَأَنَّهُ يَقُول: لَو سلك النَّاس طَرِيقا فِيهِ سَعَة وسلكت الْأَنْصَار طَرِيقا ضيقا لَسَلَكْت طَرِيق الْأَنْصَار.
فَأَما الطُّلَقَاء فهم من أطلق وَمن عَلَيْهِ من مسلمة الْفَتْح.
1529 - / 1860 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي الْعَصْر وَالشَّمْس مُرْتَفعَة حَيَّة.(3/193)
حَيَاة الشَّمْس أَن يكون حرهَا غير فاتر، ولونها غير مصفر.
والإرتقاب: الإنتظار.
وَقد سبق معنى قَوْله: ((بَين قَرْني شَيْطَان)) فِي مُسْند ابْن عمر وَغَيره.
1530 - / 1861 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1531 - / 1862 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: أَنه رأى فِي يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاتمًا من ورق.
الْوَرق: الْفضة.
والوبيص: اللمعان والبريق.
وراث: أَبْطَأَ.
ونظرنا: بِمَعْنى انتظرنا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَقُولُوا انظرنا} [الْبَقَرَة: 104] .
وَشطر اللَّيْل: نصفه.
وَقَوله: كَأَنِّي بوميض الْخَاتم أَو بصيصه. يُقَال: أومض: إِذا أَشَارَ إِشَارَة خُفْيَة، وَمِنْه وميض الْبَرْق. والبصيص كالوميض.(3/194)
1532 - / 1863 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: كشف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّتْر وَكَأن وَجهه ورقة مصحف.
إِنَّمَا شبهه بِوَرَقَة الْمُصحف لذهاب اللَّحْم ورقة الْجلد وصفاء الْجِسْم من الدَّم.
وَمعنى نكص: رَجَعَ.
1533 - / 1864 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((لَو أَن لِابْنِ آدم وَاديا من ذهب أحب أَن يكون لَهُ واديان)) . قَالَ أنس عَن أبي: كُنَّا نرى هَذَا من الْقُرْآن حَتَّى نزلت: {أَلْهَاكُم التكاثر} [التكاثر: 1] يَعْنِي: بَان بنزول هَذِه الْآيَة أَن مثل هَذَا الْمَعْنى فِي كَلَام الله عز وَجل.
1534 - / 1865 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: ذكر الْحَوْض، وَقد تقدم فِي مُسْند حَارِثَة بن وهب وَغَيره.
1535 - / 1868 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: سُئِلَ عَن الْكَبَائِر.
المُرَاد بالكبائر: مَا يكبر أمره ويعظم عِنْد الله. وَإِنَّمَا ذكر مَا يَقع فِي الْعَرَب كثيرا من الشّرك وَقتل النَّفس، وَإِلَّا فالزنا عَظِيم وَمَا ذكره.
وَرُبمَا ظن ظان أَن شَهَادَة الزُّور أعظم من الْقَتْل لِأَنَّهُ جعلهَا أكبر الْكَبَائِر، وَلَيْسَ كَذَلِك، إِلَّا أَن يُرِيد بِشَهَادَة الزُّور ادِّعَاء شريك مَعَ الله(3/195)
سُبْحَانَهُ، فَإِن لم يرد ذَلِك فشهادة الزُّور فِي بَاب معاملات الْخلق واقتطاع أَمْوَالهم أكبر كَبِير.
1536 - / 1869 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: أَن رجلا اطلع من بعض حجر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمشقص - أَو قَالَ: بمشاقص - وَكَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يخْتل الرجل ليطعنه.
المشقص: سهم عريض النصل، وَجمعه مشاقص.
ويختله: بِمَعْنى يترقب الفرصة مِنْهُ. وَقد سبق حكم هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند سهل بن سعد.
1537 - / 1870 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((إِذا سلم عَلَيْكُم أهل الْكتاب فَقولُوا: وَعَلَيْكُم)) .
وَقد رُوِيَ فِي الحَدِيث: أَن أهل الْكتاب كَانُوا يَقُولُونَ: السام عَلَيْكُم، يعنون بالسام الْمَوْت، فَلم يصلح أَن يُقَال لَهُم فِي جَوَاب هَذَا: وَعَلَيْكُم السَّلَام، وَلم يحسن فِي بَاب حسن الْخلق أَن يُقَال: وَعَلَيْكُم السام، لأَنهم كَانُوا يمجمجون الْكَلَام بِهِ فَلَا يبين لكل أحد، فَلَا يصلح أَن يُقَابل الممجمج بالمصرح، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَعَلَيْكُم، أَي مَا قُلْتُمْ.
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث: ((إِنَّه يُسْتَجَاب لنا فيهم وَلَا يُسْتَجَاب لَهُم فِينَا)) .(3/196)
1538 - / 1871 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: كَانَ يتنفس فِي الْإِنَاء ثَلَاثًا.
أما التنفس ثَلَاثًا فقد بَيناهُ فِي مُسْند أبي قَتَادَة.
وَأما كَونه أروى فَإِنَّهُ إِذا جرعت جرعة ثمَّ صَبر عَلَيْهَا ثمَّ جرعت الْأُخْرَى كَانَ أروى للكبد من جعل الجرعتين وَاحِدَة، لِأَنَّهَا تشرب الْقَلِيل الأول بلطف لقوتها على هضمه من أجل قلته، ثمَّ تشرب الثَّانِي كَذَلِك. وَكَونه أَبْرَأ لهَذَا الْمَعْنى أَيْضا. وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر: أَن العب يُورث الكباد. أَي وجع الكبد؛ وَذَلِكَ أَن المَاء إِذا تكاثر على الكبد آذاها. وَكَونه أمرأ، فالمريء: التَّام الإنهضام الْمَحْمُود الْعَاقِبَة.
1539 - / 1872 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: أنفجنا أرنبا بمر الظهْرَان.
قَوْله: أنفجنا قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي ذعرناها فعدت، وَهَذَا كَمَا تَقول: أعرق الْفرس: أَي أعده، لِأَنَّهُ إِذا عدا عرق، فيكتفى بِذكر الْعرق من ذكر الْعَدو، وَكَذَلِكَ الأرنب إِذا اثيرت انتفجت، فَاكْتفى بِذكر الإنتفاج من ذكر الْعَدو.(3/197)
وَمر الظهْرَان مَوضِع، والظاء مَفْتُوحَة.
وَقَوله: فلغبوا من اللغوب: وَهُوَ التَّعَب والإعياء.
1540 - / 1873 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تصبر الْبَهَائِم.
أَي أَن تحبس للرمي، وَكَانُوا يحبسونها ويرمونها بِالنَّبلِ كَمَا بَينا فِي مُسْند ابْن عمر.
1541 - / 1874 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: أَن يَهُودِيَّة أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَاة مَسْمُومَة فَأكل مِنْهَا.
هَذَا كَانَ فِي غزَاة خَيْبَر. وَاسم هَذِه الْيَهُودِيَّة زَيْنَب بنت الْحَارِث امْرَأَة سَلام بن مشْكم، قَالَ مُحَمَّد بن سعد: الثبت عندنَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتلهَا.
وَقَوله: مَا زلت أعرفهَا فِي لَهَوَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. اللهوات جمع لهاة: وَهِي اللحمة المتدلية من الحنك الْأَعْلَى، فَهِيَ حَمْرَاء مُتَعَلقَة.
1542 - / 1875 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: أَن يَهُودِيّا قتل جَارِيَة على أوضاح لَهَا.
وَالْمعْنَى: قَتلهَا لأجل أوضاح، والأوضاح: الْحلِيّ من الْفضة،(3/198)
وَاحِدهَا وضح. والحلي والحلي: مَا يتحلى بِهِ: أَي يتزين.
والرمق: بَاقِي النَّفس.
وَقَوله: ((أَقْتلك فلَان؟)) فَأَشَارَتْ: أَن لَا. الْمَعْنى أَنه كَانَ يذكر لَهَا وَاحِد بعد وَاحِد من المتهمين إِلَى أَن ذكر الْقَاتِل فَأَشَارَتْ: أَن نعم، وإشارتها لم توجب عَلَيْهِ الْقَتْل، وَإِنَّمَا قتل لِأَنَّهُ اعْترف، وَقد ذكر فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: فَأقر، وَإِنَّمَا يحذف ذَلِك بعض الروَاة اختصارا واعتمادا على فهم السَّامع، لِأَنَّهُ قد ثَبت فِي أصُول الشَّرِيعَة أَنه لَا يقتل أحد بِدَعْوَى أحد.
والرضخ: كسر الشَّيْء ودقه. والرض. الدق أَيْضا.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على وجوب الْقصاص فِي الْقَتْل بالمثقل خلافًا لأبي حنيفَة فِي قَوْله: لَا يجب الْقصاص إِلَّا فِيمَا لَهُ حد.
1543 - / 1876 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: أَن أم أنس حِين ولدت انْطَلقُوا بِالصَّبِيِّ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحنكه.
التحنيك قد سبق: وَهُوَ أَن يمضغ تَمرا وَغَيره فيدلك بِهِ حنك الصَّبِي. والحنك الْأَعْلَى: سقف أَعلَى الْفَم.
والمربد قد سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
فَأَما وسم الْبَهَائِم فَجَائِز، وَلَيْسَ ذَلِك من الْمثلَة والتعذيب للحيوان، وَإِنَّمَا جَازَ لموْضِع الْحَاجة إِلَى معرفَة مَال الرجل من مَال(3/199)
غَيره، وَقد نهى عَن الوسم فِي الْوَجْه.
والخميصة الْجَوْنِية: كسَاء أسود معلم، فَإِذا لم يكن معلما فَلَيْسَ بخميصة.
وَقَوله: يهنأ بَعِيرًا لَهُ. يُقَال: هنأت الْبَعِير أهنؤه، وَهَذِه نَاقَة مهنأة بالهناء: وَهُوَ ضرب من القطران تداوى بِهِ الْإِبِل من الجرب.
وَقَوْلها: قد هدأت نَفسه. وَهَذَا لِأَن النَّفس كَانَت قلقة شَدِيدَة الإنزعاج بِالْمرضِ فسكنت بِالْمَوْتِ، فَلذَلِك قَالَت: أَرْجُو أَن يكون قد استراح، وَهَذَا من المعاريض، وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلهُ أَرْبَاب الذكاء والفطنة عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ.
وَهَذَا الْمَوْلُود سَمَّاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله، وجاءه أَوْلَاد. وَقَوله: فَرَأَيْت تِسْعَة أَوْلَاد كلهم قد قَرَأَ الْقُرْآن، يَعْنِي لهَذَا الْمَوْلُود. وَاسم أَوْلَاد عبد الله: الْقَاسِم وَعُمَيْر وَزيد وَإِسْمَاعِيل وَيَعْقُوب وَإِسْحَاق وَمُحَمّد وَعبد الله وَإِبْرَاهِيم وَعمر وَمعمر وَعمارَة، وَكَانَ من هَؤُلَاءِ تِسْعَة قد قرأوا الْقُرْآن، وَكَانَ لَهُ من الْبَنَات عَبدة وكلثم ورقية وَأم أبان.
والطروق: إتْيَان الْمنَازل لَيْلًا.
والمخاض: تمخض الْوَلَد فِي بطن أمه: أَي تحركه لِلْخُرُوجِ.
والعجوة: نوع من التَّمْر.
وَقَوله: فلاكها: أَي أدارها فِي فِيهِ بالمضغ.
والتلمظ: إدارة اللِّسَان فِي ذوق مَا يُؤْكَل، كالإستطابة لَهُ.(3/200)
وفغرفاه: بِمَعْنى فَتحه. يُقَال: انفغر النُّور: إِذا تفتح.
والمج: صب المَاء من الْفَم بِقُوَّة.
1544 - / 1878 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: كنت أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَة وَأَبا طَلْحَة وَأبي بن كَعْب من فضيخ زهو وتمر.
الفضيخ: الْبُسْر يفضخ: أَي يشدخ وَيتْرك فِي وعَاء حَتَّى ينش.
والفضخ: الْكسر.
والزهو: احمرار الْبُسْر واصفراره.
والمهراس كالحوض.
وَقَوله: أهرقها: أَي أرقها.
والقلال جمع قلَّة: وَهِي الْآنِية الَّتِي كَانُوا يشربون فِيهَا.
واكفأهها: اقلبها.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على وجوب قبُول خبر الْوَاحِد إِذا كَانَ ثِقَة.
وَفِيه دَلِيل أَن الْخمر لَا يجوز استصلاحها بالعلاج لتصير خلا، إِذْ لَو جَازَ لما أضاعوها. وَفِيه دَلِيل على أَن النَّبِيذ خمر، لأَنهم أراقوا مَا لَيْسَ بِمَاء الْعِنَب.
1545 - / 1879 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: أَن جدته مليكَة دعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لطعام، قَالَ: فَقُمْت إِلَى حَصِير لنا قد اسود من طول مَا لبس - أَي اسْتعْمل.(3/201)
والنضح: الرش.
وَقد بَين هَذَا الحَدِيث جَوَاز صَلَاة التَّطَوُّع فِي جمَاعَة. وَبَين موقف الْمَرْأَة وَأَنه خلف الرِّجَال، فَإِن صلت إِلَى جنب الرجل فقد أساءت وصلاتها وَصَلَاة من يَليهَا صَحِيحَة وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل صَلَاة من عَن يَمِينهَا وَعَن يسارها وَمن يحاذيها وَمن خلفهَا. وَقَالَ دَاوُد: تبطل صلَاتهَا وَلَا تبطل صَلَاة الرجل.
وَقد نبه الحَدِيث على أَن إِمَامَة الْمَرْأَة للرِّجَال لَا تجوز، لِأَنَّهُ لما لم يجز أَن تساويهم فِي الصَّفّ كَانَت من أَن تتقدمهم أبعد.
وَفِيه دَلِيل على أَنه يَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم فِي الصَّفّ الأول الْأَفْضَل فَالْأَفْضَل.
1546 - / 1880 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: التمس النَّاس الْوضُوء، فَأتي بقدح رحراح.
الْوضُوء بِفَتْح الْوَاو: المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ.
والرحراح: الْوَاسِع.
والمخضب: شبه المركن، نَحْو الإجانة.
والزوراء: مَكَان قد بَين فِي الحَدِيث.
وَقَوله: يَنْبع من بَين أَصَابِعه. أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: يَنْبع(3/202)
بِضَم الْبَاء، وَقَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: إِنَّمَا هُوَ يَنْبع بِفَتْح الْبَاء.
والزهاء فِي الْعدَد مَمْدُود. يُقَال: قوم ذَوُو زهاء: أَي ذَوُو عدد وَكَثْرَة. وهم زهاء مائَة: أَي قدر مائَة.
1547 - / 1881 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: عَمَدت أم سليم إِلَى مد من شعير جشته وَجعلت مِنْهُ خطيفة.
الْمَدّ: ربع الصَّاع.
والجش: الدق.
والخطيفة: أَن يُؤْخَذ لبن ثمَّ يذر عَلَيْهِ الدَّقِيق يطْبخ فيلعقه النَّاس ويختطفونه بِسُرْعَة. قَالَ ابْن السّكيت: الخطيفة: الدَّقِيق يذر على اللَّبن يطْبخ فيلعقه النَّاس.
والوغيرة: اللَّبن الْمَحْض وَحده يسخن حَتَّى ينضج، وَرُبمَا جعل فِيهِ السّمن.
والبسيسة: سويق أَو دَقِيق يثرى بِزَيْت أَو سمن.
والربيكة: تمر يعجن بِسمن أَو أقط.
والفريقة: التَّمْر والحلبة تجْعَل للنفساء.
والخزيرة: أَن ينصب الْقدر بِلَحْم يقطع قطعا صغَار على مَاء(3/203)
كثير، فَإِذا نضج ذَر عَلَيْهِ الدَّقِيق، فَإِن لم يكن فِيهَا لحم فَهِيَ عصيدة.
واللهيدة: الرخوة من العصائد، لَيست بحساء فتحسى، وَلَا غَلِيظَة فتلقم، وَهِي الحريرة.
والوكيرة: طَعَام يصنع عِنْد بِنَاء الْبَيْت.
والنقعية: طَعَام القادم من سفرة.
وَطَعَام الْخِتَان الْإِعْذَار.
وَطَعَام النُّفَسَاء: الخرس.
وَالَّذِي يتَّخذ عِنْد بِنَاء الرجل على أَهله: الْوَلِيمَة.
والمأدبة تجمع هَذَا كُله.
والعكة: زق اللَّبن.
وَقَوله: فأدمته: أَي جعلت لَهُ أدما. وَلَا تمد قَوْله فأدمته؛ فَإِن بعض قرأة الحَدِيث يمده وَهُوَ غلط، كَذَلِك قَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ.
وَقَوله: هيأها: أَي سوى مَوضِع الْأَصَابِع فِيهَا.
والسؤر بِالْهَمْز: الْبَقِيَّة، يُقَال: أسأر فِي الْإِنَاء: أَي أبقى.
1548 - / 1882 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: كَانَ أَبُو طَلْحَة أحب أَمْوَاله إِلَيْهِ بيرحاء.
الَّذِي سمعناه من أشياخنا بيرحى بِفَتْح الْبَاء. وَقَالَهَا بعض الْحفاظ بِالْكَسْرِ.(3/204)
ورابح بِالْبَاء أصح من رَايِح بِالْيَاءِ.
وَقد دلّ الحَدِيث على أَن الصَّدَقَة على الْأَقَارِب أولى من الْأَجَانِب.
وَقَوله: بني حديلة. أَكثر الْمُحدثين يَرْوُونَهُ بِالْجِيم، وَالصَّوَاب بِالْحَاء المضمومة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِبَاحَة اتِّخَاذ الْبَسَاتِين، وَإِبَاحَة دُخُول الْعلمَاء والفضلاء الْبَسَاتِين طلبا للتفرج وَالنَّظَر إِلَى مَا يسلي النَّفس وَيُوجب شكر الله عز وَجل. وَفِيه إِبَاحَة استعذاب المَاء وَاخْتِيَار الأجود مِنْهُ.
1549 - / 1883 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: كنت أَمْشِي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ برد نجراني.
النجراني مَنْسُوب إِلَى نَجْرَان: وَهِي بَلْدَة بِالْيمن.
وجبذ بِمَعْنى جذب، وهما لُغَتَانِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث بَيَان حلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصفحه، وَهُوَ يعلم الْعلمَاء الصفح عَن الْجُهَّال.
1550 - / 1887 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل على أحد من النِّسَاء إِلَّا على أَزوَاجه، إِلَّا أم سليم.
أم سليم هِيَ أم أنس، وَكَانَت تقرب إِلَيْهِ من النّسَب. وَسَنذكر هَذَا فِي مُسْند أم حرَام. وَسمعت بعض الْحفاظ يَقُول: كَانَت أم سليم(3/205)
أُخْت آمِنَة من الرضَاعَة.
1551 - / 1888 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: أَصَابَت النَّاس سنة.
السّنة: الجدب.
والقزعة مَفْتُوحَة الزَّاي: الْقطعَة من السَّحَاب.
وَقَوله: رَأَيْت السَّحَاب يتحادر على لحيته، يَعْنِي الْمَطَر. وَهَذَا يدل على أَن السّقف وكف عَلَيْهِ.
وَقَوله: مثل الجوبة. يَعْنِي الْمَدِينَة انجاب السَّحَاب عَنْهَا: أَي انْقَطع وانكشف فَبَقيت كالجوبة: وَهِي الوهدة. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الجوبة هَاهُنَا: الترس.
والجود بِفَتْح الْجِيم: الْمَطَر الْكثير.
وَقَوله: أمْطرت، يُقَال: مطرَت وأمطرت.
وَقَوله: ((حوالينا)) فِيهِ إِضْمَار، تَقْدِيره: أمطر حوالينا، أَو اجْعَلْهُ حوالينا.
والآكام جمع أكمة: وَهِي مَا ارْتَفع من الأَرْض كَالتَّلِّ، وَجمعه أكم، ثمَّ يجمع على الإكام والآكام.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: والظراب دون الْجبَال، وَاحِدهَا ظرب.(3/206)
وتكشطت: أَي تكشفت.
والإكليل: الَّذِي يوضع على الرَّأْس، سمي إكليلا لإحاطته بِالرَّأْسِ، وكل شَيْء دَار بِشَيْء من جَمِيع جوانبه فَهُوَ إكليل لَهُ. فَكَأَن الْمَطَر لما أحَاط بجوانب الْمَدِينَة كَانَ كالإكليل لَهَا.
والكراع: اسْم وَاقع على جملَة الْخَيل.
والملاء جمع ملاءة: وَهِي كالرداء.
وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَلْفَاظ الصِّحَاح مِمَّا لم يذكرهُ الْحميدِي: مَا زَالَت تمطر حَتَّى كَانَت الْجُمُعَة الْأُخْرَى، فَأتى الرجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله: بشق الْمُسَافِر. قَالَ البُخَارِيّ: بشق: اشْتَدَّ أَي اشْتَدَّ السّفر عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: بشق وبشك: إِذا أسْرع. وَقَالَ الْخطابِيّ: بشق لَيْسَ بِشَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ لثق الْمُسَافِر، من اللثق وَهُوَ الْوَصْل، يُقَال: لثق الطَّرِيق، ولثق الثَّوْب: إِذا أَصَابَهُ ندى الْمَطَر ولطخ الطين. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون مشق بِالْمِيم، يُرِيد أَن الطَّرِيق صَارَت مزلة زلقا. وَمِنْه: مشق الْخط. أخبرنَا أَبُو مَنْصُور الْقَزاز قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن ثَابت قَالَ: أخبرنَا أَبُو عمر بن مهْدي قَالَ: أخبرنَا الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل الْمحَامِلِي قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدثنَا أَيُّوب بن سُلَيْمَان قَالَ: حَدثنِي أَبُو بكر عَن(3/207)
سُلَيْمَان بن بِلَال قَالَ: قَالَ يحيى بن سعيد: سَمِعت أنس بن مَالك يَقُول: أَتَى أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، هَلَكت الْمَاشِيَة، هَلَكت النَّاس، فَرفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدْعُو الله، فَمَا خرجنَا من الْمَسْجِد حَتَّى مُطِرْنَا، فَمَا زلنا نمطر حَتَّى كَانَت الْجُمُعَة الْأُخْرَى، فَأتى الرجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله، لثق الْمُسَافِر، وَمنع الطَّرِيق.
1552 - / 1889 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: جَاءَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت حدا، فأقمه عَليّ. وَلم يسْأَله، قَالَ: وَحَضَرت الصَّلَاة، فصلى مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا قضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلَاة قَامَ إِلَيْهِ الرجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي أصبت حدا فأقم فِي كتاب الله. قَالَ: ((أَلَيْسَ قد صليت مَعنا؟)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((فَإِن الله قد غفر لَك ذَنْبك، أَو حدك)) .
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن لَا يكْشف عَن الْحُدُود، بل تدرأ.
وَهَذَا الرجل لم يفصح بِأَمْر يلْزمه شَيْئا فِي الحكم، وَلَعَلَّه أصَاب صَغِيرَة فظنها حدا.
1553 - / 1890 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: فِي ذكر الْمَدِينَة ((لَيْسَ نقب من أنقابها إِلَّا عَلَيْهِ مَلَائِكَة)) .
النقب: الطَّرِيق فِي الْجَبَل، وَجمعه نقاب.(3/208)
وَقَوله: ((ثمَّ ترجف الْمَدِينَة)) أَي تضطرب. والرجفة حَرَكَة كالزلزلة.
والرواق كالفسطاط، على عماد وَاحِد فِي وَسطه، وَالْجمع أروقة.
ورواق الْبَيْت: مَا بَين يَدَيْهِ.
1554 - / 1891 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: رأى أَعْرَابِيًا يَبُول فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: ((دَعوه)) .
إِنَّمَا قَالَ: ((دَعوه)) لِأَنَّهُ قد فَاتَ الْأَمر، فَلَا ينفع قطع بَوْله عَلَيْهِ، إِذْ النَّجَاسَة قد حصلت، وَقطع الْبَوْل يُؤْذِيه.
وتزرموه: الزَّاي مُقَدّمَة على الرَّاء، وَالْمعْنَى: لَا تقطعوا عَلَيْهِ بَوْله. قَالَ أَبُو عبيد: الإزرام: الْقطع، وأزرمه غَيره: قطعه، وزرم الْبَوْل نَفسه: إِذا انْقَطع.
والذنُوب: الدَّلْو الْعَظِيمَة.
وَقَوله: فشنه عَلَيْهِ: أَي فرقه. وَلَو رُوِيَ بِالسِّين كَانَ لَهُ وَجه؛ لِأَن السن الصب فِي سهولة.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن النَّجَاسَة إِذا كَانَت على الأَرْض فغمرت بِالْمَاءِ استهلكت وطهر الْمَكَان. وَلَوْلَا أَنه يطهر لم يَأْمر بذلك، لِأَنَّهُ قد تكْثر النَّجَاسَة.
وَقد علم هَذَا الحَدِيث كَيْفيَّة الْإِنْكَار على الْجُهَّال، وَتَعْلِيم من لَا يعلم، والرفق بهم.(3/209)
1555 - / 1892 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: صليت مَعَ رَسُول الله الظّهْر بِالْمَدِينَةِ أَرْبعا، وَصليت مَه الْعَصْر بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ.
معنى هَذَا الحَدِيث أَنه صلى بِالْمَدِينَةِ مُقيما، فَلَمَّا خرج إِلَى السّفر قصر.
1556 - / 1893 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((خير دور الْأَنْصَار بَنو النجار)) .
يَعْنِي بالدور الْقَبَائِل.
1557 - / 1894 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: مَا صليت وَرَاء إِمَام قطّ أخف صَلَاة، وَلَا أتم صَلَاة من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ ليسمع بكاء الصَّبِي فيخفف مَخَافَة أَن تفتتن أمه.
وَفِي هَذَا الحَدِيث تَعْلِيم الْأَئِمَّة الرِّفْق بالمأمومين. وَقد سبق ذكر هَذَا الْمَعْنى فِي مُسْند أبي مَسْعُود وَجَابِر بن عبد الله.
1558 - / 1895 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: فِي ذكر الْمِعْرَاج.
قَالَ أنس: جَاءَهُ ثَلَاثَة نفر قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فِي الْمَسْجِد الْحَرَام، ثمَّ أَتَوْهُ لَيْلَة أُخْرَى فِيمَا يرى قلبه وتنام عَيناهُ، فَلم يكلموه(3/210)
حَتَّى احتملوه فوضعوه عِنْد بِئْر زَمْزَم، فتولاه مِنْهُم جِبْرِيل، فشق مَا بَين نَحره إِلَى لبته.
النَّحْر: أول الصَّدْر، وَهُوَ مَوضِع القلادة.
وَقد ذكرنَا اللبة فِي مُسْند مَالك بن صعصعة، وَذكرنَا الطست فِي مُسْند أبي ذَر، وَذكرنَا هُنَالك معنى حَشْو صَدره إِيمَانًا وَحِكْمَة.
وَأما اللغاديد فَهِيَ لحمات فِي اللهوات، وَاحِدهَا لغدود. وَقد ذكرنَا اللهوات فِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين من هَذَا الْمسند.
وَقَوله: عنصرهما: أَي أَصلهمَا.
وَقَول الرَّاوِي: فأوعيت مِنْهُم: أَي هَذَا الَّذِي جعلته فِي وعائي الَّذِي كتبته عَن أنس. يُقَال: وعيت الْعلم، وأوعيت الشَّيْء فِي الْوِعَاء.
والأذفر: الْحَدِيد الرَّائِحَة. يُقَال: مسك أذفر: أَي حَدِيد الرَّائِحَة. والذفر: حِدة الرَّائِحَة الطّيبَة والخبيثة.
قَوْله: فَدَنَا الْجَبَّار: أَي قرب. فَتَدَلَّى: أَي زَاد فِي الْقرب.
وَقَوله: داورت: أَي درت مَعَهم متلطفا بهم.
وَقَوله: راودت: أَي طلبت مِنْهُم مَا أريده.
وَقَوله: ((ثمَّ استيقظت)) دَلِيل على أَنه كَانَ ذَلِك فِي الْمَنَام. وَلَا يَخْلُو هَذَا الحَدِيث من شَيْئَيْنِ: إِمَّا أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد رأى فِي الْمَنَام مَا جرى لَهُ مثله فِي الْيَقَظَة بعد سِنِين؛ فَإِن الْمِعْرَاج كَانَ بعد(3/211)
اثْنَتَيْ عشرَة سنة من النُّبُوَّة. أَو أَن يكون فِي الحَدِيث تَخْلِيط من الروَاة.
وَقد انزعج لهَذَا الحَدِيث أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ وَقَالَ: هَذَا الحَدِيث مَنَام، ثمَّ هُوَ حِكَايَة يحكيها أنس ويخبر بهَا من تِلْقَاء نَفسه، لم يعزها إِلَى رَسُول الله وَلم يروها عَنهُ، وَمَا ذكر فِيهِ من التدلي إِمَّا رَأْي أنس، وَإِمَّا من شريك بن عبد الله بن أبي نمر، فَإِنَّهُ كثير التفرد بمناكير الْأَلْفَاظ.
قَالَ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَن أنس من غير طَرِيق شريك؛ فَلم يذكر فِيهِ هَذِه الْأَلْفَاظ الشنيعة، فَكَانَ ذَلِك مِمَّا يُقَوي الظَّن أَنَّهَا صادرة من شريك. قَالَ: وَفِي هَذَا الحَدِيث لَفْظَة أُخْرَى تفرد بهَا شريك وَلم يذكرهَا غَيره، وَهِي قَوْله: فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَهُ، وَالْمَكَان لَا يُضَاف إِلَى الله تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ مَكَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَكَذَلِكَ قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي ((الْمُعْتَمد)) : إِن الله لَا يُوصف بِالْمَكَانِ. وَقد قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم الأندلسي: فِي هَذَا الحَدِيث أَلْفَاظ مقحمة، والآفة فِيهَا من شريك، مِنْهَا قَوْله: قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ، فَإِن الْمِعْرَاج كَانَ بعد الْوَحْي بِنَحْوِ اثْنَتَيْ عشرَة سنة. وَمِنْهَا قَوْله: دنا الْجَبَّار. وَعَائِشَة تروي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الَّذِي دنا فَتَدَلَّى جِبْرِيل.
قلت: وَمَتى قُلْنَا إِن هَكَذَا كَانَ مناما فَحكم الْمَنَام غير حكم الْيَقَظَة، فَلَا يُنكر مَا يذكر فِيهِ.(3/212)
وَقَوله: ((اخْتَرْت الْفطْرَة)) مَذْكُور فِي مُسْند مَالك بن صعصعة.
وَقَوله فِي يُوسُف: ((قد أعطي شطر الْحسن)) . قَالَ ابْن قُتَيْبَة: معنى كَونه أعطي شطر الْحسن أَن الله تَعَالَى جعل لِلْحسنِ غَايَة وَاحِدًا، وَجعله لمن شَاءَ من خلقه، إِمَّا للْمَلَائكَة أَو للحور، فَجعل ليوسف نصف ذَلِك الْحسن، فَكَأَنَّهُ كَانَ حسنا مقاربا للوجوه الْحَسَنَة، وَلَيْسَ كَمَا يزْعم النَّاس من أَنه أعطي نصف الْحسن وَأعْطِي النَّاس كلهم نصف الْحسن.
والفيلة: جمع فيل.
والقلال: الجرار.
1559 - / 1896 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: ((فضل عَائِشَة)) وَقد سبق فِي مُسْند أبي مُوسَى.
1560 - / 1897 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: ركبت دابتها فوقصت بهَا، فَسَقَطت عَنْهَا فَمَاتَتْ.
معنى فوقصت بهَا: دقَّتْ عُنُقهَا. وَقد رَوَاهُ قوم: فرقصت بهَا، يُقَال: رقصت النَّاقة: إِذا خبت: وَهُوَ فَوق الْمَشْي. وَحجَّة من روى هَذَا قَوْله: فَسَقَطت عَنْهَا فَمَاتَتْ، فَدلَّ على أَن الرقص قبل السُّقُوط.(3/213)
1561 - / 1899 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربعَة من الْقَوْم.
الربعة: بَين الطَّوِيل والقصير.
وَقَوله: أَزْهَر اللَّوْن: أَي بَين اللَّوْن. وَفِي رِوَايَة: لَيْسَ بالأبيض الأمهق. والأمهق: الَّذِي يَحْكِي لَونه لون الجص. وَقيل: بل الَّذِي يضْرب بياضه إِلَى الزرقة.
والآدم: الأسمر.
والجعودة فِي الشّعْر: انثناؤه وانقباضه.
والقطط: الَّذِي قد زَادَت جعودته. والسبط ضد الْجَعْد: وَهُوَ السهل المسترسل.
وَالرجل مُفَسّر فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: فَلبث بِمَكَّة عشر سِنِين ينزل عَلَيْهِ. أما لبثه بِمَكَّة بعد النُّبُوَّة فَثَلَاث عشرَة سنة بِلَا خلاف. وَإِنَّمَا بَقِي مِنْهَا ثَلَاث سِنِين مستترا بأَمْره، ثمَّ حمي الْوَحْي بعد ذَلِك وتتابع، فَإلَى هَذَا يُشِير أنس.
وَأما قَوْله: توفاه الله على رَأس سِتِّينَ. قد بَينا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس أَنه توفّي ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ، وَأَن من قَالَ سِتِّينَ قصد أعشار السِّتين، كَمَا يَقُول الرجل: سني أَرْبَعُونَ، وَرُبمَا يكون قد زَاد عَلَيْهَا، إِلَّا أَن الزِّيَادَة لم تبلغ عشرا.(3/214)
وَأما قَول ربيعَة: رَأَيْت شعره أَحْمَر، فَقيل لي: احمر من الطّيب. فِي هَذَا القَوْل بعد؛ وَالظَّاهِر أَنه احمر من الخضاب؛ لِأَنَّهُ قد رُوِيَ عَنهُ أَنه كَانَ يخضب شيبته بِالْحِنَّاءِ على مَا سَيَأْتِي ذكره بعد أَحَادِيث.
وَقَوله: كَانَ ضخم الرَّأْس: أَي كَبِير الرَّأْس.
وَقَوله: سبط الْكَفَّيْنِ: أَي سهل الْكَفَّيْنِ.
والشثن: الغليظ الْأَصَابِع، وَذَلِكَ أَشد للقبض، وأصبر عِنْد المراس. والشثونة تعيب النِّسَاء وَلَا تعيب الرِّجَال.
والديباج قد تقدم ذكره فِي مُسْند حُذَيْفَة.
وَالْعرْف: الطّيب.
والعبير مُخْتَلف فِيهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هُوَ الزَّعْفَرَان وَحده. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: العبير: أخلاط تجمع بالزعفران.
1562 - / 1900 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: كنت أخدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكنت أسمعهُ يكثر أَن يَقُول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْهم والحزن)) .(3/215)
الْهم لما يتَوَقَّع، والحزن لما قد وَقع. وَالْعجز: أَن لَا يُمكنهُ الْفِعْل. والكسل: أَن يقدر عَلَيْهِ ويتوانى عَنهُ. وَالْبخل ضد الْكَرم، والجبن ضد الشجَاعَة.
وضلع الدّين: ثقله.
وأرذل الْعُمر: أردؤه، وَهُوَ آخِره.
وَقَوله: وَأَقْبل بصفية يحوي لَهَا بعباءة. أَي يُدِير الكساء وَرَاءه.
وَقَوله: فاصطفاها: أَي أَخذهَا صفيا، والصفي: سهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمغنم، كَانَ إِذا غنم الْجَيْش غنيمَة أَخذ لَهُ من رَأس المَال - قبل أَن يقسم - مَا يختاره من دَابَّة أَو جَارِيَة أَو غير ذَلِك، فيسمى ذَلِك الصفي.
ويردفها: يركبهَا خَلفه.
والحيس: أخلاط من تمر وأقط وَسمن.
وَقد سبق معنى الْبناء بِالْمَرْأَةِ فِي قصَّة زَيْنَب من هَذَا الْمسند.
وَقَوله فِي أحد: ((يحبنا ونحبه)) يَعْنِي أهل الْجَبَل، وهم أهل الْمَدِينَة.
وَقَوله: ((أحرم مَا بَين جبليها)) قد ذكرنَا تَحْرِيم الْمَدِينَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وَذكرنَا هُنَاكَ معنى الصّرْف وَالْعدْل. وَذكرنَا الْمَدّ والصاع فِي مُسْند عبد الله بن زيد.(3/216)
وَقَوله: ((من أحدث فِيهَا حَدثا)) قد سبق تَفْسِيره فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: وَجعل عتقهَا صَدَاقهَا. هَذَا نَص على جَوَاز أَن يكون عتق الْأمة صَدَاقهَا وَلَا يجب لَهَا مهر غَيره، وَهُوَ مَذْهَب الْحسن وَابْن الْمسيب وَأحمد بن حَنْبَل فِي جمَاعَة. وَقَالَ مَالك وَأهل الرَّأْي: هَذَا لَا يصلح، والْحَدِيث يرد قَوْلهم.
فَإِن قيل: مَعْلُوم ثَوَاب الْعتْق، فَكيف أفات نَفسه ثَوَابه، وَجعله فِي مُقَابلَة النِّكَاح الَّذِي يُمكن أَن يكون فِي مُقَابِله دِينَار وَاحِد؟ فَالْجَوَاب: أَن صَفِيَّة كَانَت بنت مَالك، وَمثلهَا لَا يقنع فِي الْمهْر إِلَّا بالكبير، وَلم يكن بيد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يرضيها، فَلم ير أَن يقصر بهَا فَجعل صَدَاقهَا نَفسهَا، وَذَلِكَ عِنْدهَا أشرف من الْأَمْوَال الْكَثِيرَة.
والعنوة: الْقَهْر.
والإغارة: الْإِسْرَاع بِالْخَيْلِ إِلَى الْعَدو على غَفلَة، وَأَصلهَا الْإِسْرَاع، قَالَ الْكسَائي: أغار: أسْرع. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أغار الرجل: إِذا عدا.
والمسحاة: حَدِيدَة يعْمل بهَا فِي الصَّحرَاء.
والمكتل: الزبيل.
وَالْخَمِيس: الْجَيْش. وَفِي تَسْمِيَته بذلك قَولَانِ:(3/217)
أَحدهمَا: لِأَنَّهُ مقسوم على خَمْسَة: الْمُقدمَة والساقة والميمنة والميسرة وَالْقلب.
وَالثَّانِي: لِأَن الْغَنَائِم فِيهِ تخمس.
والرجس: المستقذر، وَالْمرَاد هَا هُنَا الْمحرم، وَهَذَا يدل على تَحْرِيم لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة.
وأكفئت: قلبت وصب مَا فِيهَا.
وبزغت: طلعت.
وَقَوله: رفع صَفِيَّة إِلَى أم سليم تصنعها وتهيئها، وَذَلِكَ بِغسْل جَسدهَا، وتسريح شعرهَا، وَإِصْلَاح أحوالها.
وَقَوله: وَتعْتَد فِي بَيتهَا: أَي تنْتَظر الْحيض.
وفحصت الأَرْض: حفرت حفرا لَيْسَ ببالغ.
والأقط: شَيْء يعْمل من اللَّبن.
ودفعنا: سرنا. ورفعنا: أَسْرَعنَا.
وندر: وَقع.
وَإِنَّمَا قُلْنَ: أبعد الله الْيَهُودِيَّة، لِأَنَّهُنَّ مَا علِمْنَ بإسلامها، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا جواري أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والشمات: الْفَرح ببلية الْعَدو.
وقصة وَلِيمَة زَيْنَب قد تقدّمت فِي هَذَا الْمسند.
وصرعا: وَقعا.
واقتحم: دخل فِي الْأَمر بِشدَّة. وَكَانَ الْحيَاء وَالْخَوْف من النّظر(3/218)
إِلَى الْمَرْأَة قد منعا أَبَا طَلْحَة من الْإِقْدَام، فاقتحم الْمَانِع لضَرُورَة دفع الضَّرَر، وَلذَلِك غطى وَجهه عِنْد قربه من الْمَرْأَة.
1563 - / 1901 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: سَأَلت أنس بن مَالك وَنحن غاديان من منى إِلَى عَرَفَات عَن التَّلْبِيَة: كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي الملبي فَلَا يُنكر عَلَيْهِ، وَيكبر المكبر فَلَا يُنكر عَلَيْهِ.
اعْلَم أَن السّنة فِي هَذَا الْمقَام إِنَّمَا هِيَ التَّلْبِيَة وَألا تقطع حَتَّى ترمى أول حَصَاة من جَمْرَة الْعقبَة يَوْم النَّحْر.
وَقَول أنس يحْتَمل أَن من كبر كَانَ يدْخل التَّكْبِير من خلال التَّلْبِيَة.
1564 - / 1902 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: دَخَلنَا على الْحسن وَهُوَ مستخف فِي دَار أبي خَليفَة، فَقَالَ: حَدثنَا أنس وَهُوَ جَمِيع ... .
قَوْله: وَهُوَ مستخف. كَانَ الْحجَّاج قد طلب الْحسن لِأَنَّهُ كَانَ يُنكر عَلَيْهِ فاختفى.
وَقَوله: وَهُوَ جَمِيع: أَي مُجْتَمع الذِّهْن وَالْحِفْظ.
وَقَوله: يهتمون بذلك: أَي يَأْخُذهُمْ الْهم لما هم فِيهِ. وَقد رُوِيَ: فيلهمون ذَلِك: أَي يُلْهمُون طلب الشَّفَاعَة.(3/219)
وَقَوله: ((يخرج من النَّار من فِي قلبه من الْخَيْر مَا يزن ذرة)) الذّرة: النملة الصَّغِيرَة.
وَقَالَ شُعْبَة: ذرة بتَخْفِيف الرَّاء، وَهُوَ تَصْحِيف لَيْسَ بِشَيْء.
وَقَوله: فِي دَاره: أَي فِي الدَّار الَّتِي دورها لأوليائه وبناها لَهُم، وَهِي الْجنَّة، وأضافها إِلَيْهِ للتشريف كإضافة الْبَيْت، وَلَيْسَ كَمَا يتصوره الْحس من سُكْنى الدَّار، فَإِن ذَلِك يَسْتَحِيل فِي حَقه سُبْحَانَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُوصف بِالْمَكَانِ. وَقد ذكرنَا هَذَا آنِفا فِي حَدِيث الْمِعْرَاج.
1565 - / 1903 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: ((من كَانَ ذبح قبل الصَّلَاة فليعد)) فَقَامَ رجل فَذكر هنة من جِيرَانه - يَعْنِي فقرا وحاجة، وَأَنه ذبح قبل الصَّلَاة، وَقَالَ: عِنْدِي جَذَعَة.
قد ذكرنَا الْجَذعَة وَالْخلاف فِي وَقت الذّبْح فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب.
وَهَذَا الرجل الَّذِي سَأَلَ هُوَ أَبُو بردة بن نيار، وَأَنه ذبح قبل الصَّلَاة، فَرخص لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذِه الرُّخْصَة كَانَت لَهُ خَاصَّة لِأَنَّهُ لَا يعلم.
قَوْله: وانكفأ: أَي رَجَعَ.
وَقد ذكرنَا الأملح فِي مُسْند أبي بكرَة. والأقرن: الوافي الْقرن.(3/220)
قَوْله: فذبحهما بِيَدِهِ. قد ذكرنَا أَنه يسْتَحبّ للْإنْسَان أَن يتَوَلَّى ذبح أضحيته بِيَدِهِ.
والصفحة: جَانب الْعُنُق، وهما صفحتان، وهما اللديدان والسالفتان.
وتوزعوها: اقتسموها. وتجزعوها كَذَلِك. يُقَال: جزعت الْوَادي: إِذا قطعته.
1566 - / 1904 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ: قد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1567 - / 1905 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما حلق شعره فرقه بَين النَّاس.
هَذَا دَلِيل على أَن بَين الشّعْر لَا حَيَاة فِيهِ فَلَا ينجس بِالْمَوْتِ، لِأَن مَا أبين من حَيّ فَهُوَ ميت، فَلَو مَاتَ فِيهِ حَيَاة كَانَ ينجس بالإبانة.
1568 - / 1906 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: سَأَلت أنسا: أخضب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: لم يبلغ من الشيب إِلَّا قَلِيلا. وَفِي رِوَايَة: لم يختضب.
أما شيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ كَانَ قَلِيلا، فَفِي رِوَايَة عَن أنس أَنه قَالَ: مَا عددت فِي رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولحيته إِلَّا أَربع عشرَة شَعْرَة بَيْضَاء. وَفِي رِوَايَة عَن أنس لم ير من الشيب إِلَّا نَحوا من سبع(3/221)
عشرَة أَو عشْرين شَعْرَة فِي مقدم لحيته. وَفِي رِوَايَة عَن أنس: مَا كَانَ فِي رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولحيته يَوْم مَاتَ ثَلَاثُونَ شَعْرَة بَيْضَاء.
وَعَن ابْن عمر: كَانَ شيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحوا من عشْرين شَعْرَة.
فَأَما قَوْله: لم يخضب، فقد اخْتلف عَن أنس، فَروِيَ عَنهُ: لم يخضب، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه سُئِلَ: هَل خضب رَسُول الله؟ فَقَالَ: مَا أرى. وروى التِّرْمِذِيّ أَن أنسا قَالَ: رَأَيْت شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مخضوبا. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنهُ أَنه قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمس شعره بصفرة. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: قد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الخضاب، فَقيل لَهُ: فَقَوْل أنس؟ قَالَ: غَيره يَقُول: قد خضب، فَهَذِهِ شَهَادَة على الخضاب. وَالَّذِي شهد على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بِمَنْزِلَة من لم يشْهد. وَأخْبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَ: حَدثنَا سَلام بن أبي مُطِيع عَن عُثْمَان بن عبد الله بن موهب قَالَ: دَخَلنَا على أم سَلمَة، فأخرجت إِلَيْنَا شعرًا من شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مخضوبا بِالْحِنَّاءِ(3/222)
والكتم. قَالَ عبد الله بن أَحْمد: وَحدثنَا مُحَمَّد بن حسان الْأَزْرَق قَالَ: حَدثنَا أَبُو سُفْيَان الْحِمْيَرِي قَالَ: حَدثنَا الضَّحَّاك بن حمرَة عَن غيلَان بن جَامع عَن إياد بن لَقِيط عَن أبي رمثة قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم.
وَقد روى عبد الله بن زيد صَاحب الْأَذَان أَنه قَالَ: إِن شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عندنَا مخضوب بِالْحِنَّاءِ والكتم. وَقَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد ابْن عَليّ بن الْحُسَيْن: شمط عَارض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فخضبه بحناء وكتم. وَقَالَ عِكْرِمَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم.
وَقد أخبرنَا عَليّ بن عبيد الله قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الصريفيني قَالَ: أخبرتنا أمة السَّلَام بنت أَحْمد بن كَامِل قَالَت: أخبرنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البندار قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عبد الله بن عَليّ بن سُوَيْد بن منجوف قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن إياد بن لَقِيط عَن أبي رمثة قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورأيته قد لطخ لحيته بِالْحِنَّاءِ. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَن أبي رمثة قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَأَيْت الشيب أَحْمَر. وَسُئِلَ أَبُو هُرَيْرَة: هَل خضب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: نعم. وَقد ذكرنَا فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عمر أَنه كَانَ(3/223)
يصْبغ بالصفرة. قَالَ: وَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصْبغ بهَا، وَأَنا أحب أَن أصبغ بهَا. وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يصفر لحيته وَيَقُول: إِنِّي رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصفر لحيته.
وَأما الكتم فنبات يسود الشّعْر. قَالَ الْخطابِيّ: إِن الكتم الوسمة.
وَيُقَال بل نبت آخر.
وَقَوله: مَا شانه الله ببيضاء: أَي مَا كثر الْبيَاض فيشان بِهِ.
1569 - / 1907 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: التَّنَفُّل على الرَّاحِلَة إِلَى غير الْقبْلَة. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن عمر.
1570 - / 1911 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: أَمر بِلَال أَن يشفع الْأَذَان ويوتر الْإِقَامَة، إِلَّا الْإِقَامَة. أَي إِلَّا قَوْله: قد قَامَت الصَّلَاة.
وَهَذَا دَلِيل على أَن الْأَفْضَل فِي الْإِقَامَة الْإِفْرَاد، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: السّنة التَّثْنِيَة، وَاحْتج أَصْحَابه بِأَحَادِيث واهية، ثمَّ زعم بعض المتفقهة من الَّذين جهلوا النَّقْل أَن الْآمِر لِبلَال بذلك أَبُو بكر الصّديق، وَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لم ينْقل، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرّد زعم.
وَالثَّانِي: أَن بِلَالًا لم يُؤذن بعد دفن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ خرج إِلَى(3/224)
الشَّام، واستخلف على الْأَذَان سعد الْقرظ وَقَالَ بعض الْجُهَّال بِالنَّقْلِ والأثر: إِنَّمَا كَانَ الْآمِر لِبلَال بعض أُمَرَاء بني أُميَّة، وَهَذَا بَاطِل من سِتَّة أوجه: أَحدهَا: أَنه إِذا قَالَ الرَّاوِي: أَمر فلَان، أَو أمرنَا فقد صرح بِذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لَا أَمر لغيره فِي زَمَانه، وَصَارَ كَمَا يُقَال: تقدم إِلَى النَّاس بِكَذَا: أَي تقدم من لَهُ التَّقَدُّم، وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى: {أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا} [الْحَج: 39] .
وَالثَّانِي: أَن هَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن شرح ابْتِدَاء الْأَذَان وَالْإِقَامَة، لِأَنَّهُ قَالَ: ذكرُوا أَن ينوروا نَارا، أَو يضْربُوا ناقوسا، فَأمر بِلَال، وَالْأَمر فِي الإبتداء لَا يكون إِلَّا للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالثَّالِث: أَن بِلَالًا لم يدْرك خلَافَة بني أُميَّة وَلم يُؤذن لأحد بعده، وَإِنَّمَا أذن بعد وَفَاته قبل أَن يقبر، فانتحب النَّاس وَبكوا عِنْد قَوْله: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَلَمَّا دفن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ أَبُو بكر: أذن، فَقَالَ: إِن كنت أعتقتني لأَكُون مَعَك فسبيل ذَلِك، وَإِن كنت أعتقتني لله فخلني وَمن أعتقتني لَهُ. فَقَالَ: مَا أَعتَقتك إِلَّا لله، قَالَ: فَإِنِّي لَا أؤذن لأحد بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: فَذَاك إِلَيْك. فَأَقَامَ بِلَال حَتَّى خرجت بعوث الشَّام، فَسَار مَعَهم حَتَّى انْتهى إِلَيْهَا، فَتوفي بِدِمَشْق سنة عشْرين، كَذَلِك ذكره مُحَمَّد بن سعد. وَقَالَ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ وَقد قيل: سنة ثَمَانِي عشرَة.
وَالرَّابِع: لَو قَدرنَا أَنه أَمر بذلك فَكيف يظنّ بِهِ أَن يتْرك مَا يُعلمهُ من سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْل مُبْتَدع من بني أُميَّة؟ كَيفَ وَقد ألف ركون(3/225)
الْعَزْم من يَوْم قَوْله: أحد أحد.
وَالْخَامِس: أَنه لَو فعل ذَلِك لما أقرته الصَّحَابَة على تَغْيِير مَا كَانَ علما فِي زمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالسَّادِس: أَن الدَّارَقُطْنِيّ روى هَذَا الحَدِيث فِي ((سنَنه)) من حَدِيث أبي قلَابَة عَن أنس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِلَالًا أَن يشفع الْأَذَان ويوتر
الْإِقَامَة. فقد زَالَ بِهَذَا التَّصْرِيح كل إِشْكَال.
وَاعْلَم أَن الْأَذَان وَالْإِقَامَة من أَعْلَام الدّين، فَيَنْبَغِي أَن يتبع فِي ذَلِك مَا صَحَّ من النَّقْل وَاجْتمعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُور. وأحاديثنا أصح بِلَا خلاف، وَالْجُمْهُور مَعنا. قَالَ بكير بن عبد الله الْأَشَج: أدْركْت أهل الْمَدِينَة فِي الْأَذَان مثنى مثنى، وَفِي الْإِقَامَة مرّة مرّة. وَبُكَيْر هَذَا من كبار التَّابِعين، وَهُوَ يخبر بِهَذَا عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي دَار الْهِجْرَة. ثمَّ مَذْهَبنَا مَرْوِيّ عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، كَانَ يُقَام لَهُم مرّة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأنس وفقهاء الْمَدِينَة السَّبْعَة: سعيد بن الْمسيب وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن وَسليمَان ابْن يسَار وَعُرْوَة وَعبيد الله بن عبد الله وَالقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن وخارجة بن زيد، وَهُوَ مَذْهَب الْحسن وَسَالم وَأبي قلَابَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالزهْرِيّ والقرظي وَالْأَوْزَاعِيّ فِي خلق كثير، وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْخصم لم ينْقل إِلَّا عَن الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك، وَفِي الحَدِيث: ((عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم)) . وَهُوَ مَعنا بِحَمْد الله وَمِنْه.(3/226)
1571 - / 1912 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض أَسْفَاره، وَغُلَام أسود يُقَال لَهُ أَنْجَشَة يَحْدُو، وَكَانَ حسن الصَّوْت، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((وَيحك يَا أَنْجَشَة، رويدك سوقك بِالْقَوَارِيرِ)) قَالَ أَبُو قلَابَة: يَعْنِي النِّسَاء.
فِي تَفْسِير هَذَا الحَدِيث قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْإِبِل: كَانَت كلما سَمِعت الحداء أسرعت، وإسراع السّير يشق على الرَّاكِب خُصُوصا النِّسَاء، فشبههن بِالْقَوَارِيرِ لضعف بنيتهن.
وَالثَّانِي: أَن أَنْجَشَة كَانَ حسن الصَّوْت، وَحسن الصَّوْت بالحداء يشبه الْغناء المحرك للطبع إِلَى الْهوى، وتأثير ذَلِك فِي النِّسَاء أسْرع من تَأْثِيره فِي الرِّجَال، وَهَذَا القَوْل قد ذكره جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم ابْن قُتَيْبَة والخطابي، وَكَانَ شَيخنَا أَبُو الْفضل بن نَاصِر يُنكره وَيَقُول: أَو يُقَال هَذَا فِي حق أَزوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فأجبته أَنا فَقلت: هَذَا الَّذِي يُنكره لَيْسَ بمنكر، لِأَنَّك تتوهم أَن الَّذِي فسر بِهَذَا إِنَّمَا أَرَادَ ذكر الْفَاحِشَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أَرَادَ ميل الطباع إِلَى تذكر الْهوى وَإِن كَانَ مُبَاحا، فَإِن الْغناء يحث على حب الدُّنْيَا، وَيذكر الشَّهَوَات، ويشغل الْقلب عَن وظائفه من الْفِكر وَالذكر، وَأَزْوَاج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسن بمعصومات من وساوس الشَّيْطَان وحثه على حب الدُّنْيَا.(3/227)
1572 - / 1913 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: قَالَ أنس: من السّنة إِذا تزوج الْبكر على الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا سبعا وَقسم، وَإِذا تزوج الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا ثمَّ قسم.
إِنَّمَا كَانَ هَذَا سنة لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما تزوج أم سَلمَة أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: ((إِن شِئْت سبعت لَك، وَإِن سبعت لَك سبعت لنسائي)) وَفِي لفظ أَنه قَالَ: ((للبكر سبع وللثيب ثَلَاث)) وَسَيَأْتِي ذكر هَذَا الحَدِيث وتعليله فِي مُسْند أم سَلمَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا فضل قضى.
1573 - / 1914 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: أَن أَبَا قلَابَة أنكر أَن يُقَاد بالقسامة.
أما حَدِيث الْقسَامَة فقد بَيناهُ وَذكرنَا الْخلاف فِيهِ فِي مُسْند سهل بن أبي حثْمَة.
وَالظَّاهِر من حَدِيث أبي قلَابَة فِي هَذَا الْمَقْتُول من الْأَنْصَار أَنه عبد الله بن سهل الْمَذْكُور فِي مُسْند ابْن أبي حثْمَة، وَإِن كَانَ يحْتَمل أَن يكون غَيره، إِلَّا أَن فِي مُسْند ابْن أبي حثْمَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:(3/228)
((يقسم خَمْسُونَ مِنْكُم على رجل مِنْهُم فَيدْفَع برمتِهِ)) وَهَذَا دَلِيل على الْقصاص بالقسامة.
وَقَوله: يَتَشَحَّط فِي دَمه: أَي يضطرب فِيهِ.
وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من ترَوْنَ - أَو من تظنون؟)) دَلِيل على اعْتِبَار اللوث كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن أبي حثْمَة.
وَالنَّفْل هُنَا الْأَيْمَان بِالْبَرَاءَةِ من الْقَتْل: يُقَال: انتفل فلَان من كَذَا: أَي تَبرأ مِنْهُ، وَسميت نفلا لِأَن الْقصاص ينفى بهَا.
وَقَوله: خلعوا خليعا لَهُم: أَي انتفوا مِنْهُ.
فطرق أهل بَيت: أَي جَاءَهُم لَيْلًا.
وخذفه بِالسَّيْفِ: رَمَاه بِهِ.
واستوخموا الْمَدِينَة: أَي لم توافقهم: وَيَجِيء فِي بعض الْأَلْفَاظ: اجتووا. قَالَ أَبُو عبيد يُقَال: اجتويت الْبِلَاد: إِذا كرهتها وَإِن كَانَت مُوَافقَة لَك فِي بدنك، واستوبلتها: إِذا لم توافقك فِي بدنك وَإِن كنت محبا لَهَا.
واللقاح: الْإِبِل ذَوَات الدّرّ.
وَأمره بِشرب أبوالها دَلِيل على طَهَارَة بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه.
وَقَوله: وأطردوا الْإِبِل: الطَّرْد: الْإِخْرَاج والإزعاج، يُقَال: طرده السُّلْطَان وأطرده: إِذا أخرجه عَن مستقره.
والذود من الْإِبِل: من الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة.(3/229)
والقائف: الَّذِي يتبع الْآثَار ويعرفها.
وَقَوله: وَسمر أَعينهم فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون من المسمار، يُرِيد أَنهم كحلوا بأميال قد أحميت بالنَّار.
وَالثَّانِي: أَن يكون السمر لُغَة فِي السمل، فَيكون سمر بِمَعْنى سمل، لِأَن الرَّاء وَاللَّام قريبتا الْمخْرج، ذكرهمَا أَبُو سُلَيْمَان. وَقَالَ أَبُو عبيد: السمل: أَن تفقأ الْعين بحديدة محماة أَو بِغَيْر ذَلِك، وَقد يكون السمل بالشوك، قَالَ أَبُو ذُؤَيْب يرثي بَنِينَ لَهُ:
(فالعين بعدهمْ كَأَن حداقها ... سملت بشوك فَهِيَ عور تَدْمَع)
والكدم: العض بِأَدْنَى الْفَم.
فَأَما اسْم الرَّاعِي الَّذِي قَتَلُوهُ فيسار.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي وَجه هَذَا الْفِعْل بهؤلاء على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه اقْتصّ مِنْهُم على مِثَال فعلهم، فَقَالَ أنس: إِنَّمَا سمل أَعينهم لأَنهم سملوا أعين الرعاء. قَالَ ابْن جرير: وَقد ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن هَذَا الحكم ثَابت فِي نظرائهم لَهُ ينْسَخ.
وَالثَّانِي: أَن هَذَا الْفِعْل كَانَ قبل أَن تنزل الْحُدُود. قَالَ أَبُو الزِّنَاد: لما فعل هَذَا وعظه الله عز وَجل ونها عَن الْمثلَة وَأنزل الْحُدُود. وَقَالَ(3/230)
ابْن سِيرِين: هَذَا قبل أَن تنزل الْحُدُود. وَقَالَ قَتَادَة: بلغنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى بعد ذَلِك عَن الْمثلَة. وَقَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ: قد ذهب بَعضهم إِلَى أَن هَذَا الحكم مَنْسُوخ بِالنَّهْي عَن الْمثلَة. قَالَ: وَقَالُوا: إِنَّمَا نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} [الْمَائِدَة: 33] فِيمَا فعل بالعرنيين.
وَأما البرسام فَهُوَ مرض مَعْرُوف يخْتَص بالصدر. والسرسام يتَعَلَّق بِالرَّأْسِ.
1574 - / 1915 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: ((لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَالِده وَولده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ)) .
اعْلَم أَن المُرَاد بِهَذِهِ الْمحبَّة الْمحبَّة الشَّرْعِيَّة، فَإِنَّهُ يجب على الْمُسلمين أَن يقوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنْفسِهِم وَأَوْلَادهمْ. وَلَيْسَ المُرَاد بِهَذَا الْمحبَّة الطبيعية، فَإِنَّهُم قد فروا عَنهُ فِي الْقِتَال وتركوه، وكل ذَلِك لإيثار حب النَّفس.
1575 - / 1916 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: ((لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى يحب لِأَخِيهِ مَا يحب لنَفسِهِ)) .
إِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر هَذَا وكل أحد يقدم نَفسه فِيمَا يختاره لَهَا،(3/231)
وَيُحب أَن يسْبق غَيره فِي الْفَضَائِل، وَقد سَابق عمر أَبَا بكر؟ فَالْجَوَاب: أَن المُرَاد حُصُول الْخَيْر فِي الْجُمْلَة. واندفاع الشَّرّ فِي الْجُمْلَة، فَيَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يحب ذَلِك لِأَخِيهِ كَمَا يُحِبهُ لنَفسِهِ، فَأَما مَا هُوَ من زَوَائِد الْفَضَائِل وعلو المناقب فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يوثر سبق نَفسه لغيره فِي ذَلِك.
1576 - / 1917 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: ((إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم، وَيظْهر الْجَهْل)) .
قَالَ أَبُو عبيد: الأشراط: العلامات، وَمِنْه اشْتِرَاط النَّاس بَعضهم على بعض، إِنَّمَا هِيَ عَلامَة يجعلونها بَينهم، وَلِهَذَا سميت الشَّرْط لأَنهم جعلُوا لأَنْفُسِهِمْ عَلامَة يعْرفُونَ بهَا.
وَأما رفع الْعلم فَيكون بشيئين: أَحدهمَا: بِمَوْت الْعلمَاء كَمَا قَالَ فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو: ((وَلَكِن يقبضهُ بِقَبض الْعلمَاء)) .
وَالثَّانِي: بخساسة الهمم واقتناعها باليسير مِنْهُ، فَإِنَّهَا إِذا دنت قصرت، وكشف هَذَا أَنَّك إِذا تَأَمَّلت من سبق من الْعلمَاء رَأَيْت كل وَاحِد مِنْهُم يفتن فِي الْعُلُوم ويرتقي فِي كل فن إِلَى أقصاه، حَتَّى روينَا عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: مَا أروي أقل من الشّعْر، وَلَو شِئْت لأنشدتكم شهرا لَا أُعِيد. أخبرنَا الْقَزاز قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن عَليّ الْحَافِظ قَالَ:(3/232)
حَدثنَا الصُّورِي قَالَ: سَمِعت رَجَاء بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْمعدل يَقُول: سَأَلت الدَّارَقُطْنِيّ فَقلت لَهُ: رأى الشَّيْخ مثل نَفسه؟ فَقَالَ: إِن كَانَ فِي فن وَاحِد فقد رَأَيْت من هُوَ أفضل مني، وَأما من اجْتمع فِيهِ مَا اجْتمع فِي فَلَا. ثمَّ إِن الرغبات فترت فِي الْعلم، فَصَارَ صَاحب الحَدِيث يقْتَصر على مَا علا إِسْنَاده ويعرض عَن الْفِقْه، فَلَو وَقعت مَسْأَلَة فِي الطَّهَارَة لم يهتد لجوابها، وَصَارَ الْفَقِيه يقْتَصر على مَا كتب فِي التعليقة وَلَا يدْرِي هَل الحَدِيث الَّذِي بنى عَلَيْهِ الحكم صَحِيح أم لَا، وَصَارَ اللّغَوِيّ يشْتَغل بِحِفْظ أَلْفَاظ الْعَرَب وَلَا يلْتَفت إِلَى الْفِقْه، فَهَذَا رفع الْعلم. ثمَّ لَهُ رفع من حَيْثُ الْمَعْنى: وَهُوَ أَنا إِذا وجدنَا الْعَالم المتقن قد مَال إِلَى الدُّنْيَا وتشاغل بِخِدْمَة السلاطين، والتردد إِلَيْهِم غير آمُر بِالْمَعْرُوفِ وَلَا ناه لَهُم عَن مُنكر، وانعكف على اللَّذَّات، وَرُبمَا مزجها بِحرَام كلبس الْحَرِير، لم يبْق لعلمه نور عِنْد المقتبس، فَصَارَ كالطبيب المخلط، لَا يكَاد يقبل قَوْله فِي الحمية، فَمَاتَ الْعلم عِنْده وَهُوَ مَوْجُود، نسْأَل الله عز وَجل عزما مجدا لَا فتور فِيهِ، وَعَملا خَالِصا لَا رِيَاء مَعَه.
1577 - / 1918 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: ((إِن أحدكُم إِذا قَامَ فِي صلَاته فَإِنَّمَا يُنَاجِي ربه)) .
الْمُنَاجَاة: المحادثة، وَأَصله من النجوة: وَهُوَ مَا ارْتَفع من الأَرْض، فَكَأَن المناجي يرْتَفع هُوَ والمناجي منفردين عَن غَيرهمَا.
وَاعْلَم أَن وقُوف الْآدَمِيّ فِي الْعِبَادَة على نَحْو وقُوف الْخَادِم بَين(3/233)
يَدي مَالِكه، فَيَنْبَغِي لَهُ أَن يسْتَعْمل الْأَدَب. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند أبي سعيد، وَلِهَذَا أَمر بتسوية الصُّفُوف.
وَالْمرَاد بقوله: ((لَا يتفلن)) لَا يبصقن.
وَقَوله: ((لَا يبسط ذِرَاعَيْهِ)) أَي فِي السُّجُود، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يسْجد على كفيه وتنبو ذراعاه عَن الأَرْض.
1578 - / 1921 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: ((أقِيمُوا صفوفكم؛ فَإِنِّي أَرَاكُم من وَرَاء ظَهْري)) .
إِن قَالَ قَائِل: إِذا كَانَ يرى من وَرَاء ظَهره فَمَا الْفَائِدَة فِي أَنه أَجْلِس الشَّاب من وَفد عبد الْقَيْس وَرَاء ظَهره؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه سنّ للنَّاس، وَالسّنة إِنَّمَا هِيَ فعل ظَاهر.
وَالثَّانِي: أَن رُؤْيَته من بَين يَدَيْهِ أَمر طبعي يزاحم فِيهِ الْهوى، وَمن وَرَاء ظَهره مَحْض إنعام قد زوي فِيهِ عَن تصرفه بِمُقْتَضى الْهوى.
1579 - / 1922 - وَقد سبق بَيَان الحَدِيث السَّادِس [وَالسبْعين] قبل حديثين.
1580 - / 1923 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعَلِيهِ وضر من صفرَة فَقَالَ: ((مَهيم؟)) .
الوضر: اللطخ من خلوق أَو طيب لَهُ لون، وَكَانَ ذَلِك من فعل(3/234)
الْعَرُوس إِذا بنى بأَهْله، وَيكون الوضر من الصُّفْرَة والحمرة وَالطّيب والزهومة، وأنشدوا:
( ... ... ... أَبَارِيق لم يعلق بهَا وضر الزّبد)
وَأخْبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا اللّغَوِيّ قَالَ: قَالَ لي أَبُو الْعَلَاء المعري: أصل الوضر الْوَسخ، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل ذَلِك فِي اللَّبن وَمَا يحدث مِنْهُ، وَسمي أثر الصُّفْرَة وضرا لِأَنَّهُ يُغير لون الثَّوْب والجسد.
وَقَوله: ((مَهيم؟)) قَالَ أَبُو عبيد: هِيَ كلمة يَمَانِية مَعْنَاهَا: مَا أَمرك؟ وَمَا هَذَا الَّذِي أرى بك؟ وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عبد الرَّحْمَن، لَكنا ذَكرْنَاهُ لهَذِهِ الْأَلْفَاظ الزَّائِدَة.
1581 - / 1924 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص لعبد الرَّحْمَن وَالزُّبَيْر فِي لبس الْحَرِير لحكة بهما. وَفِي رِوَايَة: شكوا إِلَيْهِ الْقمل فَرخص لَهما فِي قمص الْحَرِير فِي غزَاة لَهما.
اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد: هَل يجوز لبس الْحَرِير لأجل الْمَرَض والحكة أم لَا؟ على رِوَايَتَيْنِ، فَإِن قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَلَا كَلَام، وَإِن قُلْنَا:(3/235)
لَا يجوز، كَانَ مَا رخص لعبد الرَّحْمَن، وَالزُّبَيْر خَاصّا لَهما.
1582 - / 1926 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبا بكر وَعمر كَانُوا يفتتحون الصَّلَاة ب {الْحَمد لله رب الْعَالمين} وَفِي رِوَايَة: صليت مَعَ أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلم أسمع أحدا مِنْهُم يقْرَأ {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} .
فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَنه لَا يسن الْجَهْر بالبسملة، وَهُوَ مَذْهَب أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وعمار وَعبد الله بن مُغفل وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَأنس، وَقَالَ بِهِ من فُقَهَاء التَّابِعين وَمن بعدهمْ الْحسن وَسَعِيد بن جُبَير وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَقَتَادَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَأَبُو إِسْحَاق السبيعِي والفزاري وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر وَالْأَعْمَش وَحَمَّاد وَلَيْث بن أبي سليم وَابْن أبي ليلى وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد بن حَنْبَل وَأَبُو عبيد وَابْن رَاهَوَيْه فِي خلق يطول إحصاؤهم، وَزَاد مَالك: لَا يسن قرَاءَتهَا فِي ابْتِدَاء الْفَاتِحَة أصلا.
وَذهب قوم مِنْهُم مُعَاوِيَة وَعَطَاء وَطَاوُس وَمُجاهد وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَن الْجَهْر بهَا مسنون. قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: وَقَول أنس: كَانُوا يفتتحون الصَّلَاة ب {الْحَمد} أَي بِهَذِهِ السُّورَة، قَالُوا: وَقَوله: لم أسمع، شَهَادَة على نفي، فَيحْتَمل أَنه لم يسمع لبعده عَن الإِمَام، وَهَذَا الظَّاهِر لِأَن أنسا كَانَ صَبيا حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا كَانَ يتَقَدَّم الْكَبِير لقَوْله: ((ليلني أولو الأحلام والنهى)) قَالُوا: ثمَّ يحْتَمل أَنهم مَا كَانُوا يجهرون بهَا كجهرهم(3/236)
بِبَقِيَّة السُّورَة، وَهَذَا ظَاهر؛ لِأَن الْقَارئ يَبْتَدِئ الْقِرَاءَة ضَعِيف الصَّوْت.
قَالُوا: وَيدل على هَذَا قَوْله: لم أسمع أحدا مِنْهُم يجْهر بهَا، وَهَذَا دَلِيل على أَنه سَمعهَا مِنْهُم.
فَالْجَوَاب: أَنه لَو قصد تَعْرِيفهَا لذكرها بِأحد الْأَسْمَاء الْمَوْضُوعَة لَهَا، كالفاتحة وَأم الْقُرْآن. ثمَّ قَوْله: لَا يذكرُونَ {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} يَكْفِي فِي رد هَذَا التَّأْوِيل، وَفِي رد قَوْلهم: مَا كَانُوا يجهرون بهَا كجهرهم بِبَقِيَّة السُّورَة. وَقَوْلهمْ: شَهَادَة على نفي. قُلْنَا: هِيَ فِي معنى الْإِثْبَات؛ لِأَن أنسا قد صلى خلف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشر سِنِين، وَمَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن عشْرين سنة، وَكَانَ يَصْحَبهُ صُحْبَة الخدم الْخَواص سفرا وحضرا، فَلَو سَمعه يَوْمًا يجْهر لم يَصح لَهُ أَن يُطلق الْإِخْبَار بِنَفْي الْجَهْر. ثمَّ قدرُوا توهم هَذَا فِي حق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف وَهُوَ رجل فِي زمن أبي بكر وَعمر، وكهل فِي زمن عُثْمَان. وَقد احْتَجُّوا لنصرة الْجَهْر بِأَحَادِيث دخلت فِيهَا العصبية من رواتها ومصنفيها، حَتَّى احْتَجُّوا بِمَا يعلمُونَ أَنه لَا يَصح الإحتجاج بِهِ.
وَقد كشف عوار أَحَادِيثهم فِي كتاب ((التَّحْقِيق فِي أَحَادِيث التَّعْلِيق)) .
1583 - / 1927 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: أَنه ركب فرسا يقطف أَو كَانَ فِيهِ قطاف، فَقَالَ: ((قد وجدنَا فرسكم هَذَا بحرا)) .(3/237)
القطاف فِي الْفرس: البطء، يُقَال: فرس قطوف: أَي بطىء.
وَالْبَحْر وصف للْفرس بِسُرْعَة الجري. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَفِي هَذَا الحَدِيث إِبَاحَة التَّوَسُّع فِي الْكَلَام من تَشْبِيه الشَّيْء بالشَّيْء الَّذِي لَهُ تعلق بِبَعْض مَعَانِيه وَإِن لم يسْتَوْف أَوْصَافه كلهَا.
1584 - / 1929 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: ((أوصيكم بالأنصار، فَإِنَّهُم كرشي وعيبتي)) .
الكرش: الْجَمَاعَة. يُقَال: على فلَان كرش من النَّاس: أَي جمَاعَة. فَكَأَنَّهُ قَالَ: هم جماعتي وصحابتي الَّذين أَثِق بهم وأعتمد عَلَيْهِم فِي أموري.
وَقَوله: ((وعيبتي)) أَي مَوضِع سري الَّذِي أَثِق بِهِ فِي حفظه وكتمانه، وَهَذَا لِأَن الْإِنْسَان يضع فِي عيبته جيد ثِيَابه وَمَا يُرِيد أَن يحوطه بحفظه.
1585 - / 1930 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: ينقلون التُّرَاب على متونهم.
الْمَتْن من الظّهْر: مَا اكتنف على الصلب من العصب وَاللَّحم، وهما متنان. وَقَالَ بَعضهم: الْمَتْن: وسط الظّهْر، يُقَال: هَذَا متن السهْم: أَي وَسطه.
وَقَالَ أَبُو عبيد: والإهالة: كل شَيْء من الأدهان مِمَّا يؤتدم بِهِ خَاصَّة، مثل الزَّيْت ودهن السمسم، والألية المذابة والشحم الْمُذَاب(3/238)
إهالة أَيْضا.
وَأما السنخة فَهِيَ المتغيرة. والبشع: الكريه الطّعْم والرائحة.
1586 - / 1931 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: جمع الْقُرْآن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة: أبي ومعاذ وَأَبُو زيد وَزيد بن ثَابت.
وَفِي لفظ انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ: أَبُو الدَّرْدَاء مَكَان أبي.
أبي هُوَ ابْن كَعْب. ومعاذ هُوَ ابْن جبل. وَأَبُو زيد اسْمه سعد بن عُمَيْر، وَقيل: ابْن عبيد. وَقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات أَن فِي الْقَوْم عُثْمَان ابْن عَفَّان وتميما الدَّارِيّ وَعبادَة بن الصَّامِت وَأَبا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ.
1587 - / 1932 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي: ((إِن الله عز وَجل أَمرنِي أَن أقرا عَلَيْك: {لم يكن الَّذين كفرُوا} [الْبَيِّنَة] )) . وَفِي لفظ: ((أَمرنِي أَن أقرئك الْقُرْآن)) قَالَ: وسماني؟ قَالَ: ((نعم)) فذرفت عَيناهُ.
أما قِرَاءَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أبي فلتعليم أبي، وَخَصه بذلك تَشْرِيفًا لَهُ. وَتَخْصِيص هَذِه السُّورَة يُمكن أَن يكون لِأَنَّهَا تحتوي على التَّوْحِيد والرسالة وَالْقُرْآن وَالصَّلَاة. وذرفت: سَالَتْ
1588 - / 1933 - وَقد سبق الحَدِيث السَّابِع [وَالثَّمَانُونَ] فِي(3/239)
مُسْند ابْن مَسْعُود.
1589 - / 1934 - وَالثَّامِن [وَالثَّمَانُونَ] : فِي مُسْند ابْن عمر.
1590 - / 1935 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا لأنس فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ أَكثر مَاله وَولده)) . وَفِي رِوَايَة: قَالَت أم سليم: إِن لي خويصة - أَي حَاجَة تخصني بهَا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن كَثْرَة المَال لَا تكره، لِأَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَا بذلك لأنس، وَهَذَا خلاف مَا يَظُنّهُ جهال المتزهدين.
1591 - / 1936 - والْحَدِيث التِّسْعُونَ قد تقدم فِي مُسْند سهل بن سعد.
1592 - / 1937 - وَالْحَادِي وَالتِّسْعُونَ: فِي مُسْند عُثْمَان بن عَفَّان.
1593 - / 1938 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين: ((يهرم ابْن آدم ويشب مَعَه اثْنَتَانِ: الْحِرْص على المَال، والحرص على الْعُمر)) .(3/240)
لما كَانَ أحب الْأَشْيَاء إِلَى ابْن آدم نَفسه أحب بقاءها، فَأحب الْعُمر، وَأحب سَبَب بَقَائِهَا وَهُوَ المَال. والهرم إِنَّمَا يعْمل فِي بدنه لَا غير، فَإِذا أحس بِقرب التّلف عِنْد الْهَرم قوي حبه للبقاء لعلمه بِقرب الرحيل وكراهيته لَهُ.
1594 - / 1939 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين: فِي ذكر الدَّجَّال وَأَنه أَعور، وَقد تكلمنا على ذَلِك فِي مُسْند ابْن عمر.
1595 - / 1941 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: كَانَ أحب الثِّيَاب إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يلبسهَا الْحبرَة.
الْحبرَة: مَا كَانَ من البرود موشيا مخططا. وَلما رأى أنس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكثر لبسهَا ظن أَنه يُحِبهَا، وَلم يرو عَنهُ لفظ يدل على محبتها، لكنه أخبر عَن ظَنّه. وَقد روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((البسوا الثِّيَاب الْبيض؛ فَإِنَّهَا أطهر وَأطيب، وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم)) قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث ابْن عَبَّاس وَسمرَة صَحِيحَانِ. قَالَ: وَهَذَا الَّذِي يستحبه أهل الْعلم. قَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: أحب الثِّيَاب إِلَيْنَا أَن نكفن فِيهَا الْبيَاض.(3/241)
1596 - / 1942 - والْحَدِيث السَّادِس وَالتِّسْعُونَ قد سبق فِي مُسْند معَاذ.
1597 - / 1944 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين: ((إِن العَبْد إِذا وضع فِي قَبره وَتَوَلَّى عَنهُ أَصْحَابه حَتَّى إِنَّه ليسمع قرع نعَالهمْ)) .
أما قرع النِّعَال وخفقها فَهُوَ ضربهَا للْأَرْض وصوتها فِي الْمَشْي.
قَالَ الْخطابِيّ: وَهَذَا يدل على جَوَاز لبس النَّعْل لزائر الْقُبُور الْمَاشِي بَين ظهرانيها. فَأَما مَا رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ ((يَا صَاحب السبتيتين، ألق سبتيتيك)) فَقَالَ الْأَصْمَعِي: السبتية من النِّعَال مَا كَانَ مدبوغا بالقرظ فَيُشبه أَن يكون إِنَّمَا حرم ذَلِك لما فِيهَا من الْخُيَلَاء؛ لِأَن السبت من لِبَاس أهل الترف والتنعم، فَأحب أَن يكون دُخُوله الْمَقَابِر على زِيّ التَّوَاضُع ولباس أهل الْخُشُوع. قلت: وَهَذَا تكلّف من الْخطابِيّ، لِأَنَّهُ قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر أَنه كَانَ يلبس النِّعَال السبتية ويتوخى التَّشَبُّه برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نعاله، إِمَّا لِأَن نعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَت سبتية أَو لِأَن السبتية تشبهها، وَمَا كَانَ ابْن عمر يقْصد التنعم بل السّنة.
وَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث سوى الْحِكَايَة عَمَّن يدْخل الْمَقَابِر بالنعل، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي إِبَاحَة وَلَا تَحْرِيمًا، وَيدل على أَنه أمره بخلعهما(3/242)
احتراما للقبور أَنه نهى عَن الإستناد إِلَى الْقَبْر وَالْقعُود عَلَيْهِ.
وَقَوله: ((كنت أَقُول مَا يَقُول النَّاس، فَيُقَال لَهُ: لَا دَريت)) فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم التَّقْلِيد فِي أصُول الدّين، وَأَنه يَنْبَغِي للعاقل أَن يكون عَارِفًا بِمَا يَعْتَقِدهُ، على يَقِين من ذَلِك لَا يُقَلّد فِيهِ أحدا؛ فَإِن الْمُقَلّد كالأعمى يتبع الْقَائِد.
وَقَوله: ((وَلَا تليت)) كَذَا رُوِيَ كَذَا رُوِيَ لنا فِي الحَدِيث: قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَهُوَ غلط، قَالَ: وَفِيه قَولَانِ: بَلغنِي عَن يُونُس الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: هُوَ: لَا دَريت [وَلَا] أتليت سَاكِنة التَّاء، يَدْعُو عَلَيْهِ بِأَن لَا تتلى إبِله: أَي لَا يكون لَهَا أَوْلَاد تتلوها: أَي تتبعها، يُقَال للناقة: قد أتلت فَهِيَ متلية، وتلاها وَلَدهَا: إِذا تبعها. قَالَ: وَقَالَ غَيره: لَا دَريت وَلَا ائتليت، على وزن: وَلَا اعتليت، إِذا وصلته، فَإِذا قطعت قلت: ائتليت، على تَقْدِير افتعلت، من قَوْلك: مَا ألوت هَذَا وَلَا استطعته.
وَيُقَال: لَا آلو كَذَا: أَي لَا أستطيعه، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا دَريت وَلَا اسْتَطَعْت، وَهَذَا أشبه بِالْمَعْنَى، وَلَفظه أشبه بِاللَّفْظِ فِي الحَدِيث، أَلا ترى أَنَّك إِذا خففت الْهمزَة وأدرجت الْكَلَام وَافَقت اللَّفْظَة لَفْظَة الْمُحدث. وَقد قَالَ ابْن السّكيت: بَعضهم يَقُول: وَلَا تليت، تزويجا للْكَلَام.
وَأما الثَّقَلَان فهما الْإِنْس وَالْجِنّ، سميا بالثقلين لِأَنَّهُمَا ثقل الأَرْض تحملهم أَحيَاء وأمواتا.
وَالْخضر: كل شَيْء ناعم غض طري.(3/243)
1598 - / 1945 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين: ((لَا تزَال جَهَنَّم يلقى فِيهَا وَتقول: هَل من مزِيد حَتَّى يضع رب الْعِزَّة فِيهَا قدمه)) .
كَانَ من تقدم من السّلف يسكتون عِنْد سَماع هَذِه الْأَشْيَاء وَلَا يفسرونها مَعَ علمهمْ أَن ذَات الله تَعَالَى لَا تتبعض، وَلَا يحويها مَكَان، وَلَا تُوصَف بالتغير وَلَا بالإنتفال. وَمن صرف عَن نَفسه مَا يُوجب التَّشْبِيه وَسكت عَن تَفْسِير مَا يُضَاف إِلَى الله عز وَجل من هَذِه الْأَشْيَاء فقد سلك طَرِيق السّلف الصَّالح وَسلم، فَأَما من ادّعى سلوك طَرِيق السّلف ثمَّ فهم من هَذَا الحَدِيث أَن الْقدَم صفة ذاتية وَأَنَّهَا تُوضَع فِي جَهَنَّم، فَمَا عرف مَا يجب لله وَلَا مَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ، وَلَا سلك منهاج السّلف فِي السُّكُوت، وَلَا مَذْهَب المتأولين، وأخسس بِهِ من مَذْهَب ثَالِث ابتدعه من غضب من الْبدع. قَالَ أَبُو الْوَفَاء بن عقيل: تَعَالَى الله أَن يكون لَهُ صفة تشغل الْأَمْكِنَة، هَذَا عين التجسيم، ثمَّ إِنَّه لَا يعْمل فِي النَّار أمره وتكوينه حَتَّى يَسْتَعِين بِشَيْء من ذَاته، وَهُوَ الْقَائِل للنار {كوني بردا وَسلَامًا} [الْأَنْبِيَاء: 69] فَمن أَمر نَارا - أججها غَيره - بانقلاب طبعها عَن الإحراق، لَا يضع فِي نَار أججها بِأَن يأمرها بالإنزواء حَتَّى يعالجها بِصفة من صِفَاته، مَا أسخف هَذَا الإعتقاد وأبعده عَن المكون للأفلاك والأملاك، وَقد نطق الْقُرْآن بتكذيبهم، فَقَالَ تَعَالَى: {لَو كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَة مَا وردوها} [الْأَنْبِيَاء: 99] فَكيف يظنّ بِاللَّه تَعَالَى أَنه وردهَا،(3/244)
تَعَالَى الله عَن تخاييل المتوهمة المجسمة.
وَقد حكى أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: الْقدَم: قوم يقدمهم من شرار خلقه.
فَإِن قيل: كَأَن من قبل هَؤُلَاءِ مَا كَانُوا شرارا. فَالْجَوَاب: أَن الَّذِي يَقع فِي هَذَا أَنه إِذا رمي فِيهَا الْكفَّار أَولا بادرت إِلَى إحراقهم عَاجلا، وَسَأَلت الْمَزِيد، فيلقي فِيهَا قوما من الْمُؤمنِينَ المذنبين، فتحس بِمَا مَعَهم من الْإِيمَان فتتوقف عَن إحراقهم وَتقول: قطّ قطّ، أَي حسبي. وَقد ورد فِي ((الصَّحِيح)) أَنَّهَا تحرق الْمُؤمنِينَ إِلَّا دارات وُجُوههم لأجل السُّجُود.
فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا التَّأْوِيل وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((يضع فِيهَا رجله؟)) فَالْجَوَاب: أَن هَذَا من تَحْرِيف بعض الروَاة، لِأَنَّهُ ظن أَن الْقدَم هِيَ الرجل، فروى بِالْمَعْنَى الَّذِي يَظُنّهُ، وَيُمكن أَن يرجع هَذَا إِلَى مَا ذكرنَا وَهُوَ أَن الرجل جمَاعَة، كَمَا يُقَال: رجل من جَراد.
قَوْله: ينزوي: أَي ينقبض، وَمِنْه: ((زويت لي الأَرْض)) . وَلَا يكون(3/245)
الإنزواء إِلَّا بانحراف مَعَ تقبض، قَالَ الْأَعْشَى:
(يزِيد، يغض الطّرف عني كَأَنَّمَا ... زوى بَين عَيْنَيْهِ عَليّ المحاجم)
(فَلَا ينبسط من بَين عَيْنَيْك مَا انزوى ... وَلَا تلقني إِلَّا وأنفك راغم)
وَأما قَوْله: ((قطّ قطّ)) فالطاء خَفِيفَة مَكْسُورَة، وَهِي بِمَعْنى حسب.
والحسب الْكِفَايَة، وَقد رُوِيَ: ((قطني)) وَالْمرَاد حسبي، وأنشدوا:
(امْتَلَأَ الْحَوْض وَقَالَ قطني ... مهلا رويدا قد مَلَأت بَطْني)
وَقد رُوِيَ: قدني، وَهِي بِمَعْنى حسبي.
وَقَوله: ((فينشئ للجنة خلقا)) إِن قيل: هَؤُلَاءِ الَّذين ينشئهم للجنة، كَيفَ أثيبوا بِلَا عمل؟ فَالْجَوَاب: أَن هَؤُلَاءِ إِنَّمَا يسكنون فِي فضول الْجنَّة كالحراس والخدم لأربابها، إِلَّا أَنهم يضاهون أهل الْجنَّة، بل هم أَتبَاع.
1599 - / 1946 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَة: ((من نسي صَلَاة أَو نَام عَنْهَا فكفارتها أَن يُصليهَا إِذا ذكرهَا)) .
قد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة أَنه قَالَ: ((لَيْسَ فِي النّوم تَفْرِيط)) فَلم ذكر هَا هُنَا كَفَّارَة؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الْإِنْسَان قد يُخطئ فَتجب الْكَفَّارَة مثل الْقَاتِل خطأ.(3/246)
وَالثَّانِي: أَنه لما توهموا فِي هَذَا الْفِعْل كَفَّارَة بَين لَهُم أَنه لَا كَفَّارَة، وَإِنَّمَا يجب الْقَضَاء فَقَط.
1600 - / 1947 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اعْتَمر أَربع عمر كلهَا فِي ذِي الْقعدَة إِلَّا الَّتِي مَعَ حجَّته: عمْرَة من الْحُدَيْبِيَة - أَو زمن الْحُدَيْبِيَة، وَعمرَة من الْعَام الْمقبل فِي ذِي الْقعدَة، وَعمرَة من جعرانة، وَعمرَة فِي حجَّته. وَحج حجَّة وَاحِدَة.
وَقد رُوِيَ مثل هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وَرُوِيَ عَن عَائِشَة قَالَت: اعْتَمر ثَلَاثًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح؛ لِأَن أنسا وَابْن عَبَّاس حسبا عمرته الَّتِي خرج لأَجلهَا ثمَّ حصر وَلم يصل إِلَى الْكَعْبَة، فَلذَلِك صَارَت أَرْبعا.
وَأما حجَّته فَإِنَّهُ مَا حج بعد الْهِجْرَة سوى حجَّة الْوَدَاع.
1601 - / 1948 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة: كَانَ يضْرب شعره مَنْكِبَيْه.
الْمنْكب: فرع الْكَتف. وَقد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي مَوَاضِع.
1602 - / 1949 - والْحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن مَسْعُود وَغَيره.(3/247)
1603 - / 1951 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة: أهْدى أكيدر دومة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جُبَّة سندس.
قد سبق فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام ذكر أكيدر دومة، وهدايا الْكفَّار.
وَأما السندس فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: السندس: رَقِيق الديباج، لم يخْتَلف فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، وَلم يخْتَلف أهل اللُّغَة فِي أَنه مُعرب، قَالَ الراجز:
(وَلَيْلَة من اللَّيَالِي حندس ... لون حواشيها كلون السندس)
وَقَوله: ((لمناديل سعد بن معَاذ)) قد تقدم فِي مُسْند الْبَراء.
1604 - / 1952، 1953 - والْحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله، وَكَذَلِكَ السَّابِع. 1605 / 1954 - والْحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى شَيخا يهادى بَين ابنيه فَقَالَ: ((مَا بَال هَذَا؟)) قَالُوا: نذر أَن يمشي.(3/248)
قَالَ: ((إِن الله عَن تَعْذِيب هَذَا نَفسه لَغَنِيّ)) وَأمره أَن يركب.
يهادى بَين ابنيه: أَي يمشي بَينهمَا مُعْتَمدًا عَلَيْهِمَا لضَعْفه، وَمن فعل ذَلِك بشخص فَهُوَ يهاديه، فَإِذا فعل ذَلِك الْإِنْسَان نَفسه قيل: تهادى، قَالَ الْأَعْشَى:
(إِذا مَا تأتى يُرِيد الْقيام ... تهادى كَمَا قد رَأَيْت البهيرا)
وَهَذَا الرجل كَأَنَّهُ نذر الْمَشْي إِلَى الْكَعْبَة فعجز، وَمن نذر طَاعَة فعجز عَنْهَا كفر كَفَّارَة يَمِين.
1606 - / 1955 - والْحَدِيث التَّاسِع [بعد الْمِائَة] قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم)) التعمق: طلب عمق الشَّيْء، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ تكلّف مَا لَا يلْزم.
1607 - / 1957 - والْحَدِيث الْحَادِي عشر [بعد الْمِائَة] قد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1608 - / 1958 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر بعد الْمِائَة: ((إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد الصدمة الأولى)) .(3/249)
الصدمة الأولى: فَجْأَة الْمُصِيبَة. والصدم: ضرب الشَّيْء الشَّديد بِمثلِهِ. وتصادم الرّجلَانِ: تدافعا بعنف. وَمعنى الحَدِيث: أَن الصَّبْر الَّذِي هُوَ صَبر حَقِيقَة الَّذِي بِهِ يعظم الْأجر عِنْد الصدمة الأولى. وَلَفْظَة ((إِنَّمَا)) قد شرحناها فِي مُسْند عمر عِنْد قَوْله: ((إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ)) .
وَهَذَا لِأَن مُرُور الزَّمَان يهون المصائب، لِأَن النسْيَان يطْرَأ، وَعمل الْقُوَّة الفكرية ينْصَرف عَمَّا تقادم عَهده إِلَى غَيره فَيَقَع الصَّبْر من غير تكلّف، وَإِنَّمَا الْقُوَّة فِي مُقَابلَة الْبلَاء عِنْد مبدأه، وَلَا يقدر على الصَّبْر حِينَئِذٍ إِلَّا أحد رجلَيْنِ: مُؤمن بِالْأَجْرِ فَهُوَ يصبر لنيل مَا يرجوه، أَو نَاظر بِعَين الْعقل إِلَى أَن الْجزع لَا فَائِدَة فِيهِ، قَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام للأشعث بن قيس: إِنَّك إِن صبرت إِيمَانًا واحتسابا، وَإِلَّا سلوت كَمَا تسلو الْبَهَائِم. وأنشدوا:
(يمثل ذُو اللب فِي نَفسه ... مصائبه قبل أَن تنزلا)
(فَإِن نزلت بَغْتَة لم ترعه ... لما كَانَ فِي نَفسه مثلا)
(رأى الْأَمر يُفْضِي إِلَى آخر ... فصير آخِره أَولا)
(وَذُو الْجَهْل يَأْمَن أَيَّامه ... وينسى مصَارِع من قد خلا)
(وَإِن بدهته صروف الزَّمَان ... بِبَعْض مصائبه أعولا)
(وَلَو قدم الحزم فِي أمره ... لعلمه الصَّبْر حسن البلا)(3/250)
وَقَالَ آخر:
(إِذا طالعك الكره ... فَكُن بِالصبرِ لِوَاذًا)
(وَإِلَّا ذهب الْأجر ... فَلَا هَذَا وَلَا هَذَا)
1609 - / 1959 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة: إِنِّي لَا آلو أَن أُصَلِّي بكم كَمَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي بِنَا. قَالَ ثَابت: فَكَانَ إِذا رفع رَأسه من الرُّكُوع انتصب قَائِما.
اعْلَم أَن الإعتدال من الرُّكُوع ركن من أَرْكَان الصَّلَاة عندنَا، وَكَذَلِكَ الطُّمَأْنِينَة فِي الْقعُود بَين السَّجْدَتَيْنِ واللبث بِمِقْدَار مَا يَقُول المنتصب من الرُّكُوع: سمع الله لمن حَمده، رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَكَذَلِكَ اللّّبْث عِنْد الرّفْع من السُّجُود بِمِقْدَار مَا يَقُول: رب اغْفِر لي، وَقَول ذَلِك وَاجِب أَيْضا، وَمَا زَاد على ذَلِك كَقَوْلِه بعد رَبنَا وَلَك الْحَمد: ملْء السَّمَوَات وَالْأَرْض وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد.
وتكرار قَوْله: رب اغْفِر لي، من المسنونات فِي الصَّلَاة.
1610 - / 1960 - والْحَدِيث الرَّابِع عشر بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1611 - / 1961 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد مائَة: بَيْنَمَا أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خارجان من الْمَسْجِد لَقينَا رجل عِنْد سدة الْمَسْجِد(3/251)
فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَتى السَّاعَة؟ قَالَ: ((مَا أَعدَدْت لَهَا؟)) فَكَأَن الرجل قد استكان.
سدة الْمَسْجِد: ظلاله الَّتِي حوله، وفناؤه.
واستكان: بِمَعْنى خضع.
وَأما قصد الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله: ((مَا أَعدَدْت لَهَا؟)) فَيحْتَمل شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن ينظر: هَل سُؤَاله سُؤال مكذب بهَا، أَو خَائِف لَهَا، أَو راج لخيرها؟
وَالثَّانِي: أَن المُرَاد تهويل أمرهَا، فَكَأَنَّهُ يَقُول: شَأْنهَا شَدِيد، فَبِمَ تلقاها؟ فَلَمَّا تكلم بِمَا يَقْتَضِي الْإِيمَان ألحقهُ بِمن يُحِبهُ لحسن نِيَّته وقصده.
وَقَول أنس: كَانَ من أقراني: أَي فِي السن، وَكَذَلِكَ: من أترابي، والأتراب: المتساوون فِي السن، واحدهم ترب.
وَقَوله: ((إِن أخر هَذَا لم يُدْرِكهُ الْهَرم حَتَّى تقوم السَّاعَة)) اعْلَم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَكَلَّم بأَشْيَاء على سَبِيل الظَّن وَالْقِيَاس، وَالظَّن وَالْقِيَاس دَلِيل مَعْمُول عَلَيْهِ، وَلَا ينْسب إِلَى الْخَطَأ من عمل على دَلِيل، فَلَمَّا قربت لَهُ السَّاعَة، وَقيل لَهُ: {أَتَى أَمر الله} [النَّحْل: 1] كَانَ يَظُنهَا بِتِلْكَ الأمارات قريبَة جدا، وَلِهَذَا قَالَ فِي الدَّجَّال: ((إِن يخرج وَأَنا فِيكُم فَأَنا حجيجه)) وَقد سبق فِي مُسْند طَلْحَة أَنه قَالَ فِي تلقيح النّخل: ((مَا أَظن ذَاك يُغني شَيْئا)) ثمَّ قَالَ: ((إِنَّمَا ظَنَنْت، فَلَا تؤاخذوني(3/252)
بِالظَّنِّ)) وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أنس أَنه قَالَ فِي تلقيح النّخل: ((لَو لم تَفعلُوا لصلح)) فَخرج شيصا، فَهَذَا يدل على أَنه قَالَه بِالظَّنِّ، وَلذَلِك اعتذر فِي حَدِيث طَلْحَة، فَكَانَ هَذَا مِمَّا ظن بدلائل الأمارات لَا مِمَّا أُوحِي إِلَيْهِ بالتصريح. وَيحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بالساعة موت الكائنين فِي ذَلِك الزَّمَان كَمَا سبق فِي مُسْند ابْن عمر: أَنه خرج عَلَيْهِم لَيْلَة فَقَالَ: ((أَرَأَيْتُم ليلتكم هَذِه، فَإِن رَأس مائَة سنة مِنْهَا لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر أحد)) وَسَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند عَائِشَة: أَن قوما سَأَلُوهُ عَن السَّاعَة، فَنظر إِلَى أَصْغَرهم فَقَالَ: ((إِن يَعش هَذَا لَا يُدْرِكهُ الْهَرم حَتَّى تقوم عَلَيْكُم سَاعَتكُمْ)) قَالَ هِشَام بن عُرْوَة: يَعْنِي مَوْتهمْ.
1612 - / 1962 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَة: خدمت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشر سِنِين، وَالله مَا قَالَ لي أُفٍّ قطّ.
فِي ((أُفٍّ)) عشر لُغَات: إِحْدَاهَا: أُفٍّ بِالْكَسْرِ من غير تَنْوِين، وَبهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرو.(3/253)
وَالثَّانيَِة: أُفٍّ بِالْفَتْح من غير تَنْوِين، وَبهَا قَرَأَ ابْن كثير.
وَالثَّالِثَة: أُفٍّ بِالْكَسْرِ والتنوين، وَبهَا قَرَأَ نَافِع.
وَالرَّابِعَة: أُفٍّ بِالرَّفْع والتنوين، وَبهَا قَرَأَ ابْن يعمر.
وَالْخَامِسَة: أُفٍّ بِالرَّفْع من غير تَنْوِين مَعَ تَشْدِيد الْفَاء، وَبهَا قَرَأَ أَبُو عمرَان الْجُوَيْنِيّ.
وَالسَّادِسَة: أفا مثل تعسا، وَبهَا قَرَأَ عَاصِم الجحدري.
وَالسَّابِعَة: أُفٍّ بِإِسْكَان الْفَاء وتخفيفها، وَبهَا قَرَأَ عِكْرِمَة.
وَالثَّامِنَة: أَفِي بتَشْديد الْفَاء وَكسرهَا وياء، وَبهَا قرا أَبُو الْعَالِيَة.
والتاسعة: إف بِكَسْر الْألف وَالْفَاء.
والعاشرة: أفة.
وَفِي معنى أُفٍّ خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه وسخ الظفر، قَالَه الْخَلِيل.
وَالثَّانِي: وسخ الْأذن، قَالَه الْأَصْمَعِي.
وَالثَّالِث: قلامة الظفر، قَالَه ثَعْلَب.
وَالرَّابِع: أَن الأف الإحتقار والإستصغار من الأفف، والأفف عِنْد الْعَرَب الْقلَّة، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي.
وَالْخَامِس: أَن الأف مَا رفعته من الأَرْض من عود أَو قَصَبَة، حَكَاهُ(3/254)
ابْن فَارس وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: معنى أُفٍّ: النتن والتضجر، وَأَصلهَا نفخك الشَّيْء يسْقط عَلَيْك من تُرَاب ورماد، وللمكان يُرِيد إمَاطَة الْأَذَى عَنهُ، فَقيل لكل مستثقل.
وَقَوله: مَا قَالَ لي: لم فعلت. اعْلَم أَنه اتّفق فِي هَذَا ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: كَون أنس صَبيا، وَالصَّبِيّ يصفح عَن خطئه.
وَالثَّانِي: أَنه كَانَ عَاقِلا، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو طَلْحَة: إِن أنسا غُلَام كيس: أَي عَاقل. وَلَقَد قَالَت لَهُ أمه: أَيْن تذْهب يَا أنس؟ قَالَ: فِي حَاجَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَت: مَا هِيَ؟ قَالَ: إِنَّهَا سر، وَلم يخبرها، وَمَتى كَانَ الْخَادِم عَاقِلا لم يلم، وَقد أنشدوا:
(إِذا كنت فِي حَاجَة مُرْسلا ... فَأرْسل حكيما وَلَا توصه)
وَالثَّالِث: حلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعفوه. فلهذه الْأَشْيَاء امْتنع لوم أنس.
1613 - / 1963 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَة: حجمه أَبُو طيبَة. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.(3/255)
وَفِيه: ((إِن أمثل مَا تداويتم بِهِ الْحجامَة والقسط البحري)) . وَقَالَ: ((لَا تعذبوا صِبْيَانكُمْ بالغمز من الْعذرَة)) . الْعذرَة: وجع الْحلق، يُقَال: عذرت الْمَرْأَة الصَّبِي؛ إِذا كَانَت بِهِ الْعذرَة: وَهِي وجع الْحلق، فغمزته. وَسَيَأْتِي هَذَا مشروحا فِي مُسْند أم قيس.
1614 - / 1964 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الْمِائَة: نهى عَن بيع الثَّمر حَتَّى يزهو. فَقُلْنَا لأنس: مَا زهوها؟ قَالَ: تحمر وَتَصْفَر، قَالَ: ((أَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة، بِمَ تستحل مَال أَخِيك؟)) وَفِي لفظ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِن لم يثمرها الله، فَبِمَ تستحل مَال أَخِيك؟)) .
وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: أَرَأَيْت إِن من الله الثَّمَرَة، بِمَ تستحل مَال أَخِيك؟)) ظَاهره أَنه من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَذَلِك رَوَاهُ مَالك، وَخَالفهُ الْأَكْثَرُونَ فجعلوه من كَلَام أنس. أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر ابْن أَحْمد قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: روى مَالك بن أنس هَذَا الحَدِيث عَن حميد عَن أنس فرفعه، وَفِيه: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أَرَأَيْت إِذا منع الله الثَّمَرَة، فَبِمَ يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه؟)) وَهَكَذَا رَوَاهُ عَن مَالك أَصْحَابه لم يَخْتَلِفُوا فِيهِ. وَوهم مَالك فِي هَذَا؛ لِأَن قَوْله: أَفَرَأَيْت إِن منع الله الثَّمَرَة ... إِلَى آخر الْمَتْن كَلَام أنس، وَقد بَين ذَلِك يزِيد بن هَارُون وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد الدَّرَاورْدِي وَأَبُو خَالِد الْأَحْمَر وَإِسْمَاعِيل بن جَعْفَر، كلهم فِي روايتهم هَذَا الحَدِيث عَن(3/256)
حميد، وفصلوا كَلَام أنس من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَوله: ((بِمَ تستحل مَال أَخِيك؟)) دَلِيل على أَن حكم الثِّمَار - إِذا لم يشْتَرط فِيهَا الْقطع - التبقية، وَأَن الْعرف فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة الشَّرْط.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن مَا تهلكه الجوائح من ضَمَان البَائِع، وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند جَابر.
1615 - / 1965 - والْحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
1616 - / 1966 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين بعد الْمِائَة: ((تسموا باسمي وَلَا تكتنوا بكنيتي)) قد سبق الْكَلَام فِي هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1617 - / 1967 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ركب حمارا وَانْطَلق إِلَى عبد الله بن أبي فَقَالَ: إِلَيْك عني، وَالله لقد آذَانِي حِمَارك.
كَانَ ابْن أبي يظْهر الْإِسْلَام ثمَّ تظهر مِنْهُ فلتات تدل على نفَاقه، ثمَّ يتَأَوَّل لما قَالَ مرّة، وينكر أُخْرَى، فَحَمله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على علاته.(3/257)
1618 - / 1968 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: انْطلق ابْن مَسْعُود فَوجدَ أَبَا جهل قد ضربه ابْنا عفراء حَتَّى برد، فَأخذ بلحيته فَقَالَ: أَنْت أَبُو جهل؟ وَفِي لفظ: أَنْت أَبَا جهل؟ وَقَالَ: لَو غير أكار قتلني.
كَذَا رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث ((ابْنا عفراء)) وَقد ذكرنَا فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن أَبَا جهل قَتله معَاذ بن عَمْرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء، وَابْن الجموح لَيْسَ من أَوْلَاد عفراء. وَقد ذكرنَا أولاء عفراء الَّذين شهدُوا بَدْرًا وهم سَبْعَة، وَذكرنَا نَسَبهَا أَيْضا فِي مُسْند ابْن عَوْف. ومعاذ بن عفراء مِمَّن بَاشر قتل أبي جهل، فَلَعَلَّ بعض إخْوَته أَعَانَهُ أَو حَضَره، أَو أَن يكون الحَدِيث ((ابْن عفراء)) فغلط الرَّاوِي فَقَالَ: ((ابْنا عفراء)) وَالله أعلم.
وَبرد بِمَعْنى ثَبت، أَي أثبتته الْجراحَة فَلم تمكنه أَن يبرح. وَفِي بعض الْأَحَادِيث: برك.
وَإِنَّمَا ذكر ابْن مَسْعُود كنيته استهزاء. فَقَالَ: أَنْت أَبُو جهل؟ كَقَوْلِه: {أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} [الدُّخان: 49] . فَأَما من روى: أَنْت أَبَا جهل؟ أَرَادَ: أَنْت هَذَا يَا أَبَا جهل.
والأكار: الزراع، سمي بذلك لحفره الأَرْض فِي الزِّرَاعَة.
والأكرة: الحفرة، وَجَمعهَا أكر.
1619 - / 1970 - والْحَدِيث الرَّابِع وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي(3/258)
مُسْند أبي مُوسَى.
1620 - / 1971 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: أَنا أول شَفِيع فِي الْجنَّة. أَي فِي دُخُول الْجنَّة.
1621 - / 1973 - والْحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْند عَليّ.
1622 - / 1975 - وَالتَّاسِع وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند عمر بن الْخطاب.
1623 - / 1976 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: انهزم النَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد وَأَبُو طَلْحَة بَين يَدَيْهِ مجوب عَلَيْهِ بحجفة.
أَي سَاتِر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَاطع بَينه وَبَين الْعَدو بحجفة: وَهِي ترس صَغِير.
والنزع: مد الْقوس.
والجعبة: خريطة النشاب من جُلُود.
والخدم جمع خدمَة: وَهِي الخلخال، وَقد تسمى الساقان خدمتين لِأَنَّهُمَا مَوضِع الخدمتين.
والمتون جمع متن، وَقد بَيناهُ فِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين من هَذَا الْمسند.(3/259)
وَأما وُقُوع السَّيْف فلأجل مَا ألقِي عَلَيْهِم يَوْم أحد من النّوم الَّذِي أُشير إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة مِنْهُ} [الْأَنْفَال: 11] .
وَقد وَقعت كَلِمَات مصحفة فِي هَذَا الحَدِيث من كتاب البُخَارِيّ إِلَّا أَنه لم يذكرهَا الْحميدِي، وَذكرهَا أَبُو سُلَيْمَان، مِنْهَا: وَكَانَ راميا شَدِيد الْقد، بِالْقَافِ، وَقَالَ: أرَاهُ الْمَدّ. قَالَ: وَيحْتَمل: شَدِيد الْقد بِكَسْر الْقَاف، يُرِيد بِهِ وتر الْقوس. وَمِنْهَا تنقزان الْقرب. وَإِنَّمَا هُوَ تزفران.
1624 - / 1977 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((ليردن عَليّ الْحَوْض رجال مِمَّن صاحبني، إِذا رَأَيْتهمْ وَرفعُوا لي اختلجوا دوني)) قد سبق هَذَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود وَغَيره.
1625 - / 1980 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((يَا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هَذَا)) .
قَوْله: ((ثامنوني)) أَي قدرُوا ثمنه لأشتريه مِنْكُم.
قَوْله: وَكَانَ فِيهِ نخل وَخرب. الرِّوَايَة الْمَعْرُوفَة خرب بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة وَالرَّاء الْمَكْسُورَة، جمع خربة، كَمَا يُقَال: كلم وَكلمَة. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: حدّثنَاهُ الْخيام بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء، وَهُوَ جمع الخراب. وَقَالَ اللَّيْث: لُغَة تَمِيم خرب، والواحدة(3/260)
خربة، إِلَّا أَن قَوْله: فَأمر بالخرب فسويت يدل على أَن الصَّوَاب فِيهِ إِمَّا الخرب بِضَم الْخَاء جمع خربة: وَهِي الخروق الَّتِي فِي الأَرْض، إِلَّا أَنهم يخصون بِهَذَا الإسم كل ثقبة مستديرة من جلد كَانَت أَو فِي أَرض أَو جِدَار. وَإِمَّا أَن تكون الرِّوَايَة الجرف وَجمع الجرفة، وَهِي جمع الجرف، كَمَا قيل: خرج وخرجة، وترس وترسة، وَأبين مِنْهَا فِي الصَّوَاب إِن ساعدته الرِّوَايَة: حدب: وَهُوَ جمع الحدبة، وَهُوَ الَّذِي يَلِيق بقوله: فسويت، وَإِنَّمَا يسوى الْمَكَان المحدودب، أَو مَوضِع من الأَرْض فِيهِ خروق، فَأَما الخرب فَإِنَّهُ تعمر وَلَا تسوى.
1626 - / 1981 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أَبَا عُمَيْر، مَا فعل النغير؟)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: النغير: طَائِر صَغِير، وَيجمع على النغران.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن صيد الْمَدِينَة مُبَاح، وَفِيه: إِبَاحَة السجع فِي الْكَلَام. وَفِيه: جَوَاز الدعابة مَا لم يكن إِثْمًا. وَفِيه: إِبَاحَة تَصْغِير الْأَسْمَاء. وَفِيه: أَنه كناه وَلم يكن لَهُ ولد، فَلم يدْخل ذَلِك فِي بَاب الْكَذِب.
1627 - / 1982 - والْحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ بعد الْمِائَة: فِي مُسْند(3/261)
عُرْوَة الْبَارِقي.
1628 - / 1983 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: أَقَمْنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرا - يَعْنِي بِمَكَّة - نقصر الصَّلَاة.
عندنَا أَنه إِذا نوى الْمُسَافِر إِقَامَة بِبَلَد يزِيد على أَرْبَعَة أَيَّام أتم، وَعَن أَحْمد: إِذا نوى إِقَامَة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين صَلَاة أتم. وَلَا تخْتَلف الرِّوَايَة أَنه يحْتَسب يَوْم الدُّخُول وَيَوْم الْخُرُوج. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِذا نوى إِقَامَة أَرْبَعَة أَيَّام غير الدُّخُول وَالْخُرُوج، فنحمل نَحن هَذَا الحَدِيث على أَنه لم ينْو إِقَامَة هَذِه الْمدَّة، بل كَانَ يَقُول: الْيَوْم أخرج، وَغدا أخرج. وَمَتى أَقَامَ لقَضَاء حَاجَة وَلم ينْو الْإِقَامَة قصر أبدا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا نوى خَمْسَة عشر يَوْمًا أتم.
1629 - / 1984 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: قيل لأنس: أَكُنْتُم تَكْرَهُونَ السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة؟ قَالَ: نعم، لِأَنَّهَا كَانَت من شَعَائِر الْجَاهِلِيَّة، حَتَّى أنزل الله عز وَجل: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} [الْبَقَرَة: 158] .
قَالَ الشّعبِيّ: كَانَ على الصَّفَا وثن يدعى إساف، وعَلى الْمَرْوَة وثن يدعى نائلة، فَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يسعون بَينهمَا ويمسحونهما، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام كفوا عَن السَّعْي بَينهمَا، فَنزلت هَذِه الْآيَة. قَالَ(3/262)
الزّجاج: الصَّفَا فِي اللُّغَة الْحِجَارَة الصلبة الصلدة الَّتِي لَا تنْبت شَيْئا، وَهُوَ جمع واحده صفاة وَصفا، مثل حَصَاة وحصا. والمروة: الْحِجَارَة اللينة. وَهَذَانِ الموضعان من شَعَائِر الله: أَي من أَعْلَام متعبداته، وَوَاحِد الشعائر شعيرَة. والشعائر كل مَا كَانَ من موقف أَو مسعى أَو ذبح. وَالْحج: الْقَصْد، وكل قَاصد شَيْئا فقد [حجه، وَكَذَلِكَ كل قَاصد شَيْئا فقد] اعْتَمر. والجناح: الْإِثْم، أَخذ من جنح: إِذا مَال وَعدل، وَأَصله من جنَاح الطَّائِر. وَإِنَّمَا اجْتنب الْمُسلمُونَ الطّواف بَينهمَا لمَكَان الْأَوْثَان، فَقيل لَهُم: إِن نصب الْأَوْثَان بَينهمَا قبل الْإِسْلَام لَا يُوجب اجتنابهما.
1630 - / 1985 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: قلت لأنس: أبلغك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((لَا حلف فِي الْإِسْلَام؟)) قَالَ: قد حَالف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين قُرَيْش وَالْأَنْصَار فِي دَاري.
الْحلف: العقد والعهد، وَكَانُوا يتحالفون فِي الْجَاهِلِيَّة على نصر بَعضهم الْبَعْض فِي كل مَا يَفْعَلُونَهُ، فهدم الْإِسْلَام ذَلِك. وَالْمرَاد بقوله: حَالف بَين قُرَيْش وَالْأَنْصَار، المؤاخاة، للإئتلاف على الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا أنس محالفة لِأَن مَعْنَاهَا معنى المحالفة. وَقد أَشَرنَا إِلَى المؤاخاة فِي مُسْند عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.(3/263)
1631 - / 1986 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين بعد الْمِائَة: قدم عَليّ من الْيمن، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((بِمَ أَهلَلْت؟)) قَالَ: بإهلال [أَو] كإهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: ((لَوْلَا أَن معي الْهَدْي لأحللت)) .
لما خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يقصدون الْحَج، ثمَّ أَمر أَصْحَابه أَن يفسخوه إِلَى الْعمرَة - كَمَا ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس - لم يُمكنهُ الْفَسْخ لِأَنَّهُ سَاق الْهَدْي. وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه فِي مُسْند جَابر بن عبد الله، وَقد بَيناهُ ثمَّ.
1632 - / 1988 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج لِحَاجَتِهِ تَبعته أَنا وَغُلَام منا، مَعنا إداوة من مَاء يستنجي بِهِ.
الْإِدَاوَة: إِنَاء من جُلُود كالركوة.
وَأما الإستنجاء فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ التمسح بالأحجار، وَأَصله من النجوة: وَهِي الإرتفاع من الأَرْض، وَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ قَضَاء الْحَاجة تستر بنجوة من الأَرْض فَقَالُوا: ذهب ينجو، كَمَا قَالُوا: ذهب يتغوط، إِذا أَتَى الْغَائِط: وَهُوَ المطمئن من الأَرْض لقَضَاء الْحَاجة، ثمَّ سمي الْحَدث نَجوا، واشتق مِنْهُ: قد استنجى: إِذا مسح مَوْضِعه أَو غسله.(3/264)
1633 - / 1989 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: قَالَ أَبُو جهل: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم، فَنزلت: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم} إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ [الْأَنْفَال: 33، 34] .
أَكثر الْمُفَسّرين على أَن الْقَائِل لهَذَا النَّضر بن الْحَارِث، غير أَن هَذِه الطَّرِيق إِلَى أنس أثبت.
وَفِي الْمشَار إِلَيْهِ بقوله: ((هَذَا)) ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الْقُرْآن.
وَالثَّانِي: كل مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالثَّالِث: إكرام مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالنُّبُوَّةِ.
وَالْكِنَايَة فِي قَوْله: {ليعذبهم} عَائِدَة إِلَى أهل مَكَّة.
وَفِي معنى {وَأَنت فيهم} قَولَانِ: أَحدهمَا: وَأَنت مُقيم بَين أظهرهم، قَالَ ابْن عَبَّاس: لم تعذب قَرْيَة حَتَّى يخرج نبيها والمؤمنون مَعَه.
وَالثَّانِي: وَأَنت حَيّ.
وَفِي قَوْله: {وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: مَا كَانَ معذب الْمُشْركين وَفِيهِمْ من قد سبق لَهُ يُؤمن، قَالَه(3/265)
ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: وَمَا كَانَ الله معذب الْمُشْركين وهم - يَعْنِي الْمُؤمنِينَ الَّذين بَينهم - يَسْتَغْفِرُونَ، قَالَه الضَّحَّاك. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وصفوا بِصفة بَعضهم لبَعض، لِأَن الْمُؤمنِينَ بَين أظهرهم، فأوقع الْعُمُوم على الْخُصُوص، كَمَا يُقَال: قتل أهل الْمَسْجِد رجلا، وَلَعَلَّه لم يفعل ذَلِك إِلَّا رجل مِنْهُم.
وَالثَّالِث: وَمَا كَانَ الله معذبهم وَفِي أصلابهم من يسْتَغْفر، قَالَه مُجَاهِد: قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: فَمَعْنَى تعذيبهم إهلاكهم، فوصفهم بِصفة ذَرَارِيهمْ كَمَا فِي الْجَواب الَّذِي قبله.
وَالرَّابِع: أَن الْمَعْنى: لَو اسْتَغْفرُوا لما عذبهم وَلَكنهُمْ لم يَسْتَغْفِرُوا فاستحقوا الْعَذَاب، وَهَذَا كَمَا تَقول الْعَرَب: مَا كنت لأهينك وَأَنت تكرمني، يُرِيدُونَ: مَا كنت لأهينك لَو أكرمتني، فَأَما إِذْ لست تكرمني فَأَنت مُسْتَحقّ لإهانتي، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى ذهب قَتَادَة وَالسُّديّ، وَهُوَ اخْتِيَار اللغويين.
وَقَوله: {وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم} هَذِه الْآيَة أجازت تعذيبهم، وَالْأولَى نفت ذَلِك، وَهل المُرَاد بِهَذَا الْعَذَاب الأول أم لَا؟ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهَا: أَن الأول امْتنع لشيئين: أَحدهمَا كَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم.
وَالثَّانِي: كَون الْمُؤمنِينَ المستغفرين بَينهم، فَلَمَّا وَقع التَّمْيِيز بِالْهِجْرَةِ وَقع الْعَذَاب بالباقين يَوْم بدر، وَقيل: بِفَتْح مَكَّة.
وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، ثمَّ فِي ذَلِك قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن(3/266)
الْعَذَاب الثَّانِي قتل بَعضهم يَوْم بدر، وَالْأول استئصال الْكل، فَلم يَقع الأول لما قد علم من إِيمَان بَعضهم وَإِسْلَام بعض ذَرَارِيهمْ، وَوَقع الثَّانِي. وَالثَّانِي: أَن الْعَذَاب الأول عَذَاب الدُّنْيَا، وَالثَّانِي عَذَاب الْآخِرَة.
1634 - / 1990 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجد تَمْرَة فَقَالَ: ((لَوْلَا أَن تكون - وَفِي لفظ: لَوْلَا أَنِّي أَخَاف أَن تكون - من الصَّدَقَة لأكلتها)) .
اللَّفْظ الثَّانِي فسر الأول، وَهُوَ أصل فِي الْوَرع، وَهُوَ أَيْضا يدل على أَن مَا لَا تتبعه النَّفس لَا يعرف وَيجوز تنَاوله، وَلَا يجب التَّصَدُّق بِهِ.
1635 - / 1993 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل بِخمْس مكاكيك، وَيتَوَضَّأ بمكوك.
المكوك: إِنَاء يسع نَحْو الْمَدّ، مَعْرُوف عِنْدهم.
1636 - / 1995 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: كَانَ أَكثر دُعَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((اللَّهُمَّ آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة، وقنا عَذَاب النَّار)) .
الْحَسَنَة: الشَّيْء الْحسن، وَقد اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي حَسَنَة الدُّنْيَا(3/267)
على سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا الْمَرْأَة الصَّالِحَة، قَالَه عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. وَالثَّانِي: الْعِبَادَة: رَوَاهُ سُفْيَان بن حُسَيْن عَن الْحسن. وَالثَّالِث: الْعلم وَالْعِبَادَة، رَوَاهُ هِشَام عَن الْحسن. وَالرَّابِع: المَال، قَالَه أَبُو وَائِل. وَالْخَامِس: الْعَافِيَة، قَالَه قَتَادَة. وَالسَّادِس: الرزق الْوَاسِع، قَالَه مقَاتل. وَالسَّابِع: النِّعْمَة، قَالَه ابْن قُتَيْبَة.
وَفِي حَسَنَة الْآخِرَة ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: الْحور الْعين، قَالَه عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. وَالثَّانِي: الْجنَّة، قَالَه الْحسن. وَالثَّالِث: الْعَفو وَالْمَغْفِرَة، قَالَه الثَّوْريّ.
1637 - / 1996 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين بعد الْمِائَة: ((لن يبرح النَّاس يسْأَلُون حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا الله خَالق كل شَيْء، فَمن خلق الله؟)) .
اعْلَم أَن الباحث عَن هَذَا إِنَّمَا هُوَ الْحس، لِأَن الْحس لم يعرف وجود شَيْء إِلَّا بِشَيْء، وَمن شَيْء، فَأَما الْعقل الَّذِي هُوَ الْحَاكِم الْمَقْطُوع بِحكمِهِ، فقد علم أَنه لابد من خَالق غير مَخْلُوق، إِذْ لَو كَانَ مخلوقا لاحتاج إِلَى خَالق، ثمَّ بتسلسل إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ، والمتسلسل بَاطِل، وَإِنَّمَا أثبت الْعقل صانعا، لِأَنَّهُ رأى المحدثات مفتقرة إِلَى مُحدث، فَلَو افْتقر الْمُحدث إِلَى مُحدث كل مُحدثا.
1638 - / 1997 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة: رأى(3/268)
رجلا يَسُوق بَدَنَة، فَقَالَ: ((اركبها)) ، وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1639 - / 1999 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين بعد الْمِائَة: إِن الرّبيع كسرت ثنية جَارِيَة.
الرّبيع من الصحابيات أَربع: الرّبيع بنت حَارِثَة، وَالربيع بنت الطُّفَيْل، وَالربيع بنت معوذ، وَالربيع بنت النَّضر عمَّة أنس، وَهِي صَاحِبَة هَذِه الْقِصَّة، وكلهن بايعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يرو عَنهُ مِنْهُنَّ غير بنت معوذ، وَقد أخرج لَهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) على مَا سَيَأْتِي ذكرهَا فِي مسندها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: لَا وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ، لَا تكسر سنّهَا. كَأَنَّهُ حلف: لَا يجْرِي الْقدر بِهَذَا، طَمَعا فِي فضل الله تَعَالَى أَن يصرف عَنْهَا ذَلِك، فأبره: أَعَانَهُ على الْبر وَلم يحنثه.
1640 - / 2002 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفْطر من الشَّهْر حَتَّى نظن أَنه لَا يَصُوم مِنْهُ، ويصوم حَتَّى نظن أَلا يفْطر مِنْهُ شَيْئا.
ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنه كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يَصُوم عدد مَا يفْطر، وَيفْطر عدد مَا يَصُوم، فَيصير مثل من يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا. وَإِنَّمَا كَانَ يجمع أَيَّام الْفطر وَأَيَّام الصَّوْم، وَقد كَانَ ينَام بِقدر مَا يقوم،(3/269)
وَيقوم بِقدر مَا ينَام.
1641 - / 2003 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((تسحرُوا؛ فَإِن فِي السّحُور بركَة)) .
السّحُور بِفَتْح السِّين: اسْم مَا يُؤْكَل فِي ذَلِك الْوَقْت، وَكَذَلِكَ الفطور والبخور والسفوف واللبوس والسنون والسعوط وَالْوُضُوء.
1642 - / 2004 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا دخل الْخَلَاء وَفِي لفظ: الكنيف - قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْخبث والخبائث)) .
الْخَلَاء: الْمَكَان الْخَالِي، وَهُوَ هَاهُنَا كِنَايَة، عَن مَوضِع الْحَدث.
والكنيف: أَصله السَّاتِر - قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَمِنْه قيل للترس كنيف: أَي سَاتِر. وَكَانُوا قبل أَن يحدث الكنيف يقضون حوائجهم فِي البراحات والصحاري، فَلَمَّا حفروا فِي الأَرْض آبارا تسترا للْحَدَث سميت كنفا.
وَالْبَاء فِي الْخبث سَاكِنة، كَذَلِك ضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد وَغَيره. ثمَّ فِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الشَّرّ، قَالَه أَبُو عبيد. وَالثَّانِي: الْكفْر، قَالَه ابْن الْأَنْبَارِي. وَزعم أَبُو سُلَيْمَان(3/270)
الْخطابِيّ أَن تسكين الْبَاء غلط، وَأَن الصَّوَاب ضمهَا، قَالَ: وَهِي جمع الْخَبيث، والخبائث جمع الخبيثة، وَالْمرَاد: ذكران الشَّيَاطِين وإناثهم. وَلَا أَدْرِي من أَيْن لَهُ هَذَا التحكم وَهُوَ يروي أَن ابْن الْأَعرَابِي كَانَ يَقُول: أصل الْخبث فِي كَلَام الْعَرَب الْمَكْرُوه، فَإِن كَانَ من الْكَلَام فَهُوَ الشتم، وَإِن كَانَ من الْملَل فَهُوَ الْكفْر، وَإِن كَانَ من الطَّعَام فَهُوَ الْحَرَام، وَإِن كَانَ من الشَّرَاب فَهُوَ الضار. فَإِن صَحَّ التَّعَوُّذ من الْمَكْرُوه فَمَا وَجه الْإِنْكَار؟ بل مَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَة أولى؛ لِأَنَّهُ يحصل فائدتين: التَّعَوُّذ من الْمَكْرُوه فَيدْخل فِي ذَلِك كل شَرّ، والتعوذ من الشَّيَاطِين وَهُوَ اسْم يعم ذكورها وإناثها، كَذَلِك قَالَ أَبُو عبيد: الْخَبَائِث: الشَّيَاطِين، وَلم يَجعله اسْما للإناث دون الذُّكُور.
1643 - / 2005 - والْحَدِيث التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند عمر.
1644 - / 2007 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: نهى أَن يتزعفر الرجل.
التزعفر: التضمخ بالزعفران واستعماله فِيمَا يظْهر على الرِّجَال.
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر: ((طيب الرِّجَال مَا خَفِي لَونه وَظهر رِيحه،(3/271)
وَطيب النِّسَاء مَا ظهر لَونه وخفي رِيحه)) .
1645 - / 2008 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: أَنهم كَانُوا يصلونَ رَكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب.
وَوجه هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((بَين كل أذانين صَلَاة لمن شَاءَ)) .
وَإِذا غربت الشَّمْس حل التَّنَفُّل.
1646 - / 2009 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} [الْفَتْح: 1] قَالَ: الْحُدَيْبِيَة.
وَقد ذكرنَا وَجه كَونه فتحا فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب.
1647 - / 2011 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: أَن أم سليم كَانَت تبسط لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نطعا فيقيل عِنْدهَا، فَإِذا قَامَ أخذت من عرقه وشعره فجمعته فِي قَارُورَة ثمَّ جعلته فِي سك.
السك: نوع من الطّيب. وَقد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَنه كَانَ ينبسط فِي بَيت أم سليم لِأَنَّهَا كَانَت ذَات قرَابَة مِنْهُ.
والعتيدة: شَيْء تخفظ فِيهِ حوائجها كالزنفليجة. والعتيد: الشَّيْء الْمعد.(3/272)
والسلت: جرف الْمَائِع بِالْيَدِ باستقصاء.
1648 - / 2012 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: دَخَلنَا على أبي سيف الْقَيْن وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيم.
الْقَيْن: الْحداد، وَجمعه قيون.
والظئر: الْمُرضعَة، وَإِنَّمَا كَانَت زَوجته ترْضع، إِلَّا أَنه لما كَانَ بلبنه سمي ظِئْرًا.
1649 - / 2013 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((من رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي، فَإِن الشَّيْطَان لَا يتخيل بِي: ورؤيا الْمُؤمن جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة)) .
أما أول الحَدِيث فقد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة وَجَابِر، وَأما آخِره فَفِي مُسْند عبَادَة بن الصَّامِت.
1650 - / 2014 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: دخل رجل فَقَالَ: أَيّكُم مُحَمَّد؟ وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متكئ بَين ظهرانيهم، فَقُلْنَا: هَذَا الْأَبْيَض المتكئ. فَقَالَ لَهُ: ابْن عبد الْمطلب. فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((قد أَجَبْتُك)) .
الظَّاهِر من الإتكاء الإعتماد على إِحْدَى الْمرْفقين. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الْعَامَّة لَا تعرف المتكئ إِلَّا من مَال فِي قعوده مُعْتَمدًا على أحد جَنْبَيْهِ،(3/273)
وكل من اسْتَوَى قَاعِدا على وطاء فَهُوَ متكئ.
وَقَوله: ابْن عبد الْمطلب: أَي: يَا ابْن عبد الْمطلب، فَرد عَلَيْهِ من جنس كَلَامه فَقَالَ: ((قد أَجَبْتُك)) .
وَأما قَوْله: أَسأَلك بِاللَّه. إِن قَالَ قَائِل: يَنْبَغِي أَن يتبعهُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالْيَمِينِ. فَالْجَوَاب أَنه عرف الدَّلِيل ثمَّ أكد ذَلِك بِأَن أحلفه. قَالَ ابْن عقيل: كَانَ الْأَعرَابِي حسن الثِّقَة بِهِ لِأَنَّهُ لم يجرب عَلَيْهِ إِلَّا الصدْق فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْت عِنْدِي الصَّادِق فأكد صدقك بِالْيَمِينِ.
وَقَوله: نهينَا فِي الْقُرْآن أَن نسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيْء. كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى: {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَة: 101] .
وَقَوله: لَا أَزِيد عَلَيْهِنَّ. رُبمَا ظن ظان أَنه يَعْنِي لَا أتنفل، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: لَا أَزِيد على المفترض وَلَا أنقص مِنْهُ كَمَا فعلت الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي فرائضهم.
1651 - / 2015 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
قَالَ الزُّهْرِيّ: دخلت على أنس بِدِمَشْق وَهُوَ يبكي، فَقلت لَهُ: مَا يبكيك؟ فَقَالَ: لَا أعرف شَيْئا مِمَّا أدْركْت إِلَّا هَذِه الصَّلَاة، وَهَذِه(3/274)
الصَّلَاة قد ضيعت.
الظَّاهِر من أنس أَنه يُشِير إِلَى مَا يصنع الْحجَّاج، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤَخر الصَّلَاة جدا يَوْم الْجُمُعَة، متشاغلا بمدح عبد الْملك وَمَا يتَعَلَّق بِهِ.
1652 - / 2016 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لم يكن أحد أشبه بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحسن بن عَليّ. وَفِي رِوَايَة عَن ابْن سِيرِين قَالَ: أُتِي عبيد الله بن زِيَاد بِرَأْس الْحُسَيْن، فَجعل فِي طست، فَجعل ينكت وَقَالَ فِي حسنه شَيْئا، فَقَالَ أنس: كَانَ أشبههم برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ مخضوبا بالوسمة.
وَقد رُوِيَ فِي الحَدِيث أَن الْحسن كَانَ يشبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الرَّأْس إِلَى الصَّدْر، وَكَانَ الْحُسَيْن يُشبههُ فِيمَا دون ذَلِك.
وَقد ذكرنَا الطست فِي مُسْند أبي ذَر.
وَقَوله: ينكت: أَي يقرعه بِشَيْء يُؤثر فِيهِ.
وَقَالَ فِي حسنه شَيْئا: أَي فِي وَصفه بالْحسنِ.
والوسمة: خضاب يسود الشّعْر، قيل: إِنَّه ورق النّيل. وَيُقَال: وسمة بِإِسْكَان السِّين ووسمة بِكَسْرِهَا. وَأول من خضب بالوسمة من(3/275)
أهل مَكَّة عبد الْمطلب. أخبرنَا سلمَان بن مَسْعُود قَالَ: أخبرنَا الْمُبَارك ابْن عبد الْجَبَّار قَالَ: أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عَليّ الْبَيْضَاوِيّ قَالَ أَبُو عمر بن حيويه قَالَ: حَدثنَا عمر بن سعد قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن أبي الدُّنْيَا قَالَ: حَدثنَا الْعَبَّاس بن هِشَام بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جده: أَن عبد الْمطلب أول من خضب بالوسمة من أهل مَكَّة، وَذَلِكَ أَنه قدم الْيمن فَنظر إِلَيْهِ بعض مُلُوكهَا فَقَالَ: يَا عبد الْمطلب هَل لَك أَن تغير هَذَا الْبيَاض فتعود شَابًّا؟ قَالَ: ذَاك إِلَيْك، فخضبه بِالْحِنَّاءِ، ثمَّ علاهُ بالوسمة، فَلَمَّا أَرَادَ الإنصراف زوده مِنْهُ شَيْئا كثيرا، وَأَقْبل عبد الْمطلب، فَلَمَّا دنا من مَكَّة اختضب ثمَّ دخل مَكَّة كَأَن رَأسه ولحيته حنك الْغُرَاب، فَقَالَت لَهُ نتيلة أم الْعَبَّاس: يَا شيبَة الْحَمد، مَا أحسن هَذَا الخضاب لَو دَامَ، فَقَالَ:
(لَو دَامَ لي هَذَا السوَاد حمدته ... وَكَانَ بديلا من شباب قد انصرم)
(تمتعت مِنْهُ والحياة قَصِيرَة ... وَلَا بُد من موت - نتيلة - أَو هرم)
(وماذا الَّذِي يجدي على الْمَرْء خفضه ... وَنعمته يَوْمًا إِذا عَرْشه انْهَدم)
قَالَ: فَخَضَّبَ بعده أهل مَكَّة.
وَكَانَ الْحسن وَالْحُسَيْن جَمِيعًا يخضبان بالوسمة. وَكَانَ عُثْمَان ابْن عَفَّان يخضب بِالسَّوَادِ فِيمَا رَوَاهُ ابْن أبي مليكَة. وَكَذَلِكَ عبد الله ابْن جَعْفَر بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص وَعقبَة بن عَامر والمغيرة ابْن شُعْبَة وَجَرِير بن عبد الله وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَهَؤُلَاء كلهم صحابة. وَمن التَّابِعين وَمن بعدهمْ عَمْرو بن عُثْمَان بن عَفَّان ومُوسَى(3/276)
ابْن طَلْحَة وَعلي بن عبد الله بن عَبَّاس السَّجَّاد أَبُو الْخُلَفَاء أَبُو سَلمَة ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعبد الرَّحْمَن بن الْأسود وَإِسْمَاعِيل بن معد يكرب وَالزهْرِيّ وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ ومحارب بن دثار وَيزِيد الرشك وَالْحجاج بن أَرْطَأَة وَابْن أبي ليلى وَابْن جريج وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وغيلان بن جَامع القَاضِي وَنَافِع بن جُبَير وَهِشَام بن عبد الْملك بن مَرْوَان وَأَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور وَعبد الله بن المعتز وَعمر بن عَليّ بن الْمقدمِي وَأَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام وَإِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَرَفَة الْمَعْرُوف بنفطويه، فِي آخَرين كلهم كَانُوا يخضون بِالسَّوَادِ، وَقد ذكرت أَخْبَار هَؤُلَاءِ بِالْأَسَانِيدِ فِي كتاب ((الشيب والخضاب)) .
1653 - / 2017 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن رجَالًا من الْأَنْصَار اسْتَأْذنُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: ائْذَنْ لنا فلنترك لِابْنِ أُخْتنَا عَبَّاس فداءه، فَقَالَ: ((لَا تدعون مِنْهُ درهما)) .
الْإِشَارَة إِلَى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، فَإِنَّهُ خرج يَوْم بدر مَعَ الْمُشْركين مكْرها، فَأسرهُ أَبُو الْيُسْر كَعْب بن عَمْرو، فَقَالَت الْأَنْصَار هَذَا، وَأَرَادُوا بذلك أَمريْن: أَحدهمَا: إكرام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالثَّانِي: لقرابة الْعَبَّاس مِنْهُم؛ فَإِن هاشما كَانَ قد تزوج امْرَأَة من بني النجار فَولدت لَهُ عبد الْمطلب، فَلذَلِك قَالُوا: ابْن أُخْتنَا، وَإِنَّمَا قَالُوا: ابْن أُخْتنَا لتَكون الْمِنَّة عَلَيْهِم فِي إِطْلَاقه، وَلَو قَالُوا: عمك، لَكَانَ منَّة عَلَيْهِ، وَهَذَا من قُوَّة الذكاء وَحسن الْأَدَب فِي الْخطاب. وَقد صحفه بعض قرأة الحَدِيث لجهله بِالنّسَبِ فَقَالَ: ابْن أخينا.(3/277)
فَلم يَأْذَن لَهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِئَلَّا يكون فِي الدّين نوع مُحَابَاة، فَأخذ الْفِدَاء من الْعَبَّاس، وكلفه أَن يفْدي ابْني أَخِيه عقيل بن أبي طَالب وَنَوْفَل بن الْحَارِث. وَكَانَ الْعَبَّاس يَئِن لَيْلَة قيد، فَبَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساهرا، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: مَالك لَا تنام؟ فَقَالَ: ((سمت أَنِين الْعَبَّاس فِي وثَاقه)) فَقَامَ رجل مِنْهُم إِلَى الْعَبَّاس فَأرْخى من وثَاقه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((مَالِي لَا أسمع أَنِين الْعَبَّاس؟)) فَقَالَ رجل من الْقَوْم: إِنِّي أرخيت من وثَاقه، قَالَ: ((فافعل ذَلِك بالأساري كلهم)) .
1654 - / 2018 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن أنسا رأى على أم كُلْثُوم بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم برد حَرِير سيراء. قد تقدم تَفْسِير هَذَا فِي مُسْند عمر.
1655 - / 2019 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((انصر أَخَاك ظَالِما أَو مَظْلُوما)) وَفسّر نَصره ظَالِما بِأَن تَمنعهُ من الظُّلم.
اعْلَم أَن من منع شخصا من الظُّلم فقد نَصره على هَوَاهُ ونفعه بِالْمَنْعِ كَمَا يَنْفَعهُ بالنصر.
1656 - / 2020 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا(3/278)
يَغْدُو يَوْم الْفطر حَتَّى يَأْكُل تمرات، ويأكلهن وترا.
وَأما التبكير بِالْأَكْلِ فللمبادرة إِلَى امْتِثَال أَمر الله تَعَالَى فِي الْإِفْطَار، كَمَا امتثل أمره فِي الصَّوْم. وَأما الْوتر فَإِنَّهُ كَانَ يحب الإيتار فِي كثير من الْأَشْيَاء.
1657 - / 2021 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ رَسُول الله إِذا تكلم بِكَلِمَة أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تفهم عَنهُ، وَإِذا أَتَى على قوم فَسلم عَلَيْهِم سلم عَلَيْهِم ثَلَاثًا.
أما إِعَادَة الْكَلِمَة لتفهم فَلَا تعدو ثَلَاثَة أَشْيَاء: إِمَّا ليفهم معنى اللَّفْظ بإعادته. أَو ليتضح اللَّفْظ فَيَنْقَطِع عَنهُ المحتملات، أَو لتحفظ فَيكون المُرَاد بالفهم الْحِفْظ.
وَأما إِعَادَة السَّلَام فَالْمُرَاد بِهِ الإستئذان إِذا لم يسمع السَّلَام الأول وَلم يجب، فَأَما إِذا مر على مجْلِس فعمهم بِالسَّلَامِ، أَو أَتَى دَارا فَسلم فَأَجَابُوا فَلَا وَجه للإعادة.
1658 - / 2023 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حج على رَحل وَكَانَ زاملته.
الرحل للبعير كالسرج للْفرس. وَأما الزاملة فَقَالَ ابْن فَارس: الزاملة: بعير يستظهر بِهِ الرجل يحمل عَلَيْهِ مَتَاعه. وَالْمرَاد أَنه لم يكن فِي هودج كَمَا يصنع المترفون، وَلَا كَانَ مَعَه غير ذَلِك الْبَعِير.(3/279)
1659 - / 2030 - وَمَا بعد هَذَا قد تقدم تَفْسِيره إِلَى الحَدِيث السَّادِس عشر: وَفِيه: نهى عَن المحاقلة والمخاضرة وَالْمُلَامَسَة والمنابذة.
قد سبقت هَذِه الْأَشْيَاء، إِلَّا أَنا نشِير إِلَيْهَا فَنَقُول: المحاقلة: بيع الزَّرْع قبل إِدْرَاكه. والمخاضرة: اشْتِرَاء الثِّمَار وَهِي مخضرة وَلم يبد صَلَاحهَا. وَالْمُلَامَسَة: أَن يَقُول: إِذا لمست ثوبي أَو لمست ثَوْبك فقد وَجب البيع. والمنابذة: أَن يَقُول: إِذا نبذت إِلَيّ الثَّوْب أَو نَبَذته إِلَيْك فقد وَجب البيع.
1660 - / 2036 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: إِبَاحَة الكي.
وَقد سبق فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
1661 - / 2039 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: ((إِذا تقرب العَبْد إِلَيّ شبْرًا تقربت إِلَيْهِ ذِرَاعا)) .
المُرَاد بتقرب العَبْد: تقربه بِالطَّاعَةِ، وبتقرب الرب تقربه بالمغفرة.
والهرولة: شدَّة السَّعْي، وَهَذَا ضرب مثل. قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: ويروى عَن الْأَعْمَش فِي تَفْسِير هَذَا الحَدِيث: ((تقربت مِنْهُ ذِرَاعا)) قَالَ: يَعْنِي بالمغفرة وَالرَّحْمَة، قَالَ: وَهَكَذَا فسر بعض أهل الْعلم هَذَا الحَدِيث. قَالُوا: مَعْنَاهُ: إِذا تقرب إِلَيّ بطاعتي سارعت إِلَيْهِ بمغفرتي ورحمتي.(3/280)
1662 - / 2040 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدُور على نِسَائِهِ فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة من النَّهَار، وَهن إِحْدَى عشرَة.
اعْلَم أَن الْعَرَب كَانَت تعد الْقُوَّة على النِّكَاح من كَمَال الْخلقَة وَقُوَّة البنية، كَمَا تعد الشجَاعَة مِنْهَا، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أتم النَّاس خلقَة، ثمَّ أعطي قُوَّة ثَلَاثِينَ، ثمَّ كَانَ فِي فعله ذَلِك رد على النَّصَارَى فِي التبتل طلبا للنسل.
1663 - / 2042 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: مشيت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخبْز شعير وإهالة سنخة، وسمعته يَقُول: ((مَا أصبح لآل مُحَمَّد إِلَّا صَاع وَلَا أَمْسَى وَإِنَّهُم لتسعة أَبْيَات)) .
الإهالة: الودك، وَهُوَ الشَّحْم الْمُذَاب. واستأهل الرجل: أكلهَا: والسنخة المتغيرة، يُقَال: سنخ الدّهن: إِذْ تغير.
والصاع: خَمْسَة أَرْطَال وَثلث بالعراقي.
والأبيات التِّسْعَة هِيَ أَبْيَات أَزوَاجه اللواتي توفّي عَنْهُن، وَهن عَائِشَة وَحَفْصَة وَسَوْدَة وَأم حَبِيبَة وَأم سَلمَة ومَيْمُونَة وَزَيْنَب بنت جحش وَجُوَيْرِية وَصفِيَّة.
وَقَوله: مَا أصبح لآل مُحَمَّد إِلَّا صَاع، شرح للْحَال لَا شكوى، وَفَائِدَة ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: تَعْلِيم الْخلق الصَّبْر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنا أكْرم الْخلق على الله تَعَالَى وَهَذِه حَالي، فَإِذا ابتليتم فَاصْبِرُوا. وَالثَّانِي: إِعْلَام النَّاس بِأَن الْبلَاء يلصق بالأخيار ليفرح الْمُبْتَلى.(3/281)
1664 - / 2043 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: ((ليصيبن أَقْوَامًا سفع من النَّار)) أَي أثر من لهيبها وعذابها.
1664 - / 2050 - وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: وَفِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَأْكُل على خوان حَتَّى مَاتَ، وَمَا أكل خبْزًا مرققا، وَلَا رأى شَاة سميطا، وَمَا علمت أَنه أكل على سكرجة.
الخوان: شَيْء ينصب كالمائدة وَيتْرك عَلَيْهِ الطَّعَام، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَالْخبْز المرقق: الْخَفِيف، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذ من المرقاق: وَهِي الْخَشَبَة الَّتِي يرقق بهَا.
والسميط: المسموط الَّذِي جلده عَلَيْهِ، وَهُوَ مآكل المترفين، وَإِنَّمَا كَانُوا يَأْخُذُونَ جلد الشَّاة يَنْتَفِعُونَ بِهِ ثمَّ يشوونها.
وَأما السكرجة، فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: هِيَ السكرجة بِضَم السِّين وَالْكَاف وَفتح الرَّاء وتشديدها، قَالَ: وَكَانَ بعض أهل اللُّغَة يَقُول: الصَّوَاب أسكرجة بِالْألف وَفتح الرَّاء. وَهِي فارسية معربة، وترجمتها: مقرب الْخلّ، وَقد تَكَلَّمت بهَا الْعَرَب، قَالَ أَبُو عَليّ: فَإِن حقرت حذفت الْجِيم وَالرَّاء فَقلت: أسيكره، وَإِن عوضت عَن(3/282)
الْمَحْذُوف قلت: أسيكيرة، وَقِيَاس مَا رَوَاهُ سِيبَوَيْهٍ فِي بريهم سكيرجة.
1665 - / 2052 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: أَن نعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ لَهَا قبالان.
القبالان: زِمَام النَّعْل.
والجرداوان: لَا شعر عَلَيْهَا.
1666 - / 2055 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: أَن أم حَارِثَة بن سراقَة أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا نَبِي الله، أَلا تُحَدِّثنِي عَن حَارِثَة - وَقد قتل يَوْم بدر، أَصَابَهُ سهم غرب. فَقَالَ: ((إِن ابْنك أصَاب الفردوس الْأَعْلَى)) .
كَذَا رُوِيَ لنا فِي الحَدِيث: سهم بِالتَّنْوِينِ، غرب بتسكين الرَّاء مَعَ الرّفْع والتنوين. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْعَامَّة تَقول هَكَذَا، والأجود سهم غرب بِفَتْح الرَّاء وَإِضَافَة الغرب إِلَى السهْم. وَقَالَ يَعْقُوب بن السكت: يُقَال: أَصَابَهُ سهم غرب: إِذا لم يدر من أَي جِهَة رمي بِهِ، قَالَ أَبُو دؤاد:
(فألحقه وَهُوَ ساط بهَا ... كَمَا يلْحق الْقوس سهم الغرب)
يصف فرسا يعدو خلف عانة من حمير الْوَحْش ألحقهُ فارسه الْعَانَة(3/283)
وَالْفرس ساط بهَا: أَي غَالب.
وَقد رُوِيَ عَن أبي زيد أَنه قَالَ: إِذا جَاءَ من حَيْثُ لَا يعرف فَهُوَ سهم غرب بِسُكُون الرَّاء، فَإِن رمي بِهِ إِنْسَان بِعَيْنِه فَأصَاب غَيره فَهُوَ سهم غرب بِفَتْح الرَّاء: وَقَالَ الْأَزْهَرِي: بِفَتْح الرَّاء لَا غير.
وَأما الفردوس فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ عَن الزّجاج قَالَ: الفردوس: أَصله رومي أعرب: وَهُوَ الْبُسْتَان، قَالَ: وَقد قيل: الفردوس مُذَكّر، وَإِنَّمَا أنث فِي قَوْله تَعَالَى: {يَرِثُونَ الفردوس هم فِيهَا خَالدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 11] لِأَنَّهُ عَنى بِهِ الْجنَّة، قَالَ: وَقَالَ الزّجاج: وَقيل: الفردوس: الأودية الَّتِي تنْبت ضروبا من النبت. وَقيل: هُوَ بالرومية، مَنْقُول إِلَى لفظ الْعَرَبيَّة. قَالَ: والفردوس أَيْضا بالسُّرْيَانيَّة كَذَا لَفظه فردوس، قَالَ: وَلم نجده فِي أشعار الْعَرَب إِلَّا فِي شعر حسان، وَحَقِيقَته أَنه الْبُسْتَان الَّذِي يجمع كل مَا يكون فِي الْبَسَاتِين، لِأَنَّهُ عِنْد أهل اللُّغَة كَذَلِك، وَبَيت حسان:
(وَإِن ثَوَاب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فِيهَا يخلد)
قَالَ: وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ بِإِسْنَادِهِ: الفردوس: الْبُسْتَان بلغَة الرّوم.
وَقَالَ فردوسا. وَقَالَ السّديّ: الفردوس أَصله بالنبطية فرداسا. وَقَالَ عبد الله بن الْحَارِث: الفردوس: الأعناب.(3/284)
1667 - / 2059 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ غُلَام يَهُودِيّ يخْدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمَرض فَأَتَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعودهُ، فَقعدَ عِنْد رَأسه فَقَالَ لَهُ: ((أسلم)) فَنظر إِلَى أَبِيه، فَقَالَ: أطع أَبَا الْقَاسِم، فَأسلم.
فِي هَذَا الحَدِيث جَوَاز اسْتِخْدَام الْيَهُودِيّ، وَجَوَاز عيادته، وتواضع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومبالغته فِي النصح.
1668 - / 2062 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: (( (إِن أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ مَا سلكنا شعبًا إِلَّا وهم مَعنا)) قد تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1669 - / 2063 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَت العضباء لَا تسبق، فجَاء أَعْرَابِي على قعُود لَهُ فسبقها، فشق ذَلِك على الْمُسلمين، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((حق على الله أَلا يرْتَفع شَيْء فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَضعه)) .
العضب: شقّ الْأذن، وَقد ذكرنَا هَذِه النَّاقة فِيمَا تقدم فِي مَوَاضِع، وحكينا أَن بَعضهم يَقُول: هُوَ لقب لَهَا لَا أَنَّهَا كَانَت مشقوقة الْأذن.
وَالْقعُود من الْإِبِل: مَا أعد للرُّكُوب خَاصَّة.
وَأما وضع كل مُرْتَفع من الدُّنْيَا فَلِأَنَّهَا لَيست بدار بُلُوغ الْأَغْرَاض،(3/285)
وَإِنَّمَا هِيَ مَحل الْبلَاء والنغص.
1670 - / 2064 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: كَانَ إِذا قدم من سفر فَنظر إِلَى جدرات الْمَدِينَة أوضع رَاحِلَته.
الْمَعْنى: سَار سيرا سهلا سَرِيعا. وَوضع الْبَعِير يضع فِي سيره وضعا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ولأوضعوا خلالكم} [التَّوْبَة: 47] وَقيل: الإيضاع سير مثل الخبب.
1671 - / 2065 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: قد تقدم فِي مَوَاضِع.
1672 - / 2068 - وَمَا بعده قد تقدم إِلَى الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: وَفِيه: كَانَت الرّيح إِذا هبت عرف ذَلِك فِي وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقد بَين سَبَب هَذَا فِي مُسْند عَائِشَة، وَأَنه كَانَ يخَاف أَن يكون عذَابا.
1673 - / 2069 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد بعض نِسَائِهِ، فَأرْسلت إِحْدَى أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ بصحفة فِيهَا طَعَام، فَضربت الَّتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيتهَا يَد الْخَادِم فَسَقَطت الصحفة فانفلقت، فَجمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلق الصحفة ثمَّ جعل يجمع فِيهَا الطَّعَام الَّذِي كَانَ فِي الصحفة وَيَقُول: ((غارت أمكُم)) ثمَّ حبس الْخَادِم حَتَّى(3/286)
أَتَى بصحفة من عِنْد الَّتِي هُوَ فِي بَيتهَا، فَدفع الصحفة الصَّحِيحَة إِلَى الَّتِي كسرت صحفتها، وَأمْسك الْمَكْسُورَة فِي بَيت الَّتِي كسرت.
الصحفة: الْقَصعَة. فَإِن قيل: الصحفة من ذَوَات الْقيم، فَكيف غرمها بِمِثْلِهَا؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: - أَحدهَا: أَن الظَّاهِر فِيمَا يحويه بَيته أَنه ملكه، فَنقل من ملكه إِلَى ملكه لَا على وَجه الغرامة بِالْقيمَةِ. وَالثَّانِي: أَنه أَخذ الْقَصعَة من بَيت الكاسرة عُقُوبَة لَهَا، والعقوبة بالأموال مَشْرُوعَة، من ذَلِك تغريم قيمَة مثلي الثَّمر الْمُعَلق على سارقه. وَأخذ الزَّكَاة وَشطر مَال الْمُمْتَنع، وتحريق رَحل الغال، وَعتق العَبْد الممثل بِهِ، وكل ذَلِك حكم بَاقٍ عندنَا، ذكره ابْن عقيل.
1674 - / 2070 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: بلغ عبد الله ابْن سَلام مقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَهُوَ فِي أَرض يخْتَرف، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَن مسَائِل، فَقَالَ: ((خبرني بِهن جِبْرِيل آنِفا)) .
يخْتَرف بِمَعْنى يجتني الثَّمَرَة.
وآنفا بِمَعْنى السَّاعَة.
وَقَوْلهمْ عَن جِبْرِيل: ذَلِك عَدو الْيَهُود. رُبمَا قَالَ قَائِل: مَا وَجه عداوتهم لملك؟ فَالْجَوَاب أَنهم كَانُوا يتعللون للتقاعد عَن الْإِيمَان بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، كَمَا قَالُوا: {قُلُوبنَا غلف} [الْبَقَرَة: 88] على أَنهم قد ذكرُوا وَجه المعاداة بِمَا يبين جهلهم، فَقَالُوا: إِنَّه ينزل بِالْحَرْبِ والشدة. أفتراهم(3/287)
لم يعلمُوا أَنه مَأْمُور؟ وَمَا ذَنْب الْمَأْمُور؟ فالمعاداة للْآمِر.
وَينْزع: يمِيل وَيرجع.
وَقَوله: ((نَار تحْشر النَّاس)) هَذَا هُوَ الْحَشْر الأول قبل قيام السَّاعَة، تسلط النَّار على النَّاس فيهربون مِنْهَا، وَذَلِكَ من عَلَامَات الْقِيَامَة، ثمَّ يموتون، ثمَّ يحشرون إِلَى الْقِيَامَة.
وَأما أكلهم زِيَادَة كبد الْحُوت فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه حوت من الْجنَّة وثور من الْجنَّة، يتحفون بهما على معنى إتحاف الضَّيْف بِمَا يصنع لَهُ. وَسَيَأْتِي من مُسْند ثَوْبَان: أَن يَهُودِيّا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: مَا تحفتهم حِين يدْخلُونَ الْجنَّة؟ قَالَ: ((زِيَادَة كبد الْحُوت)) قَالَ: فَمَا غذاؤهم فِي أَثَرهَا؟ قَالَ: ((ينْحَر لَهُم ثَوْر الْجنَّة الَّذِي يَأْكُل من أطرافها)) وَقَالَ كَعْب: يَقُول الله عز وَجل لأهل الْجنَّة: ((ادخلوها فَإِن لكل ضيف جزورا، وَإِنِّي أجزركم الْيَوْم، فَيُؤتى بثور وحوت يجزر لأهل الْجنَّة)) .
وَالثَّانِي: أَن الْحُوت الَّذِي عَلَيْهِ الأَرْض، فكأنهم أعلمُوا بِأَكْلِهِ أَن الدُّنْيَا ذهبت وَذهب مَا كَانَ يحملهَا فَلَا رُجُوع إِلَيْهَا، بل هَذِه الدَّار هِيَ منزل الْإِقَامَة. أَنبأَنَا أَبُو غَالب بن الْبناء قَالَ: أخبرنَا جَابر بن ياسين قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عُثْمَان قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو بكر النجاد قَالَ: حَدثنَا الْحسن بن عَليّ الْقطَّان قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن عِيسَى قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق بن بشر قَالَ: حَدثنَا جُوَيْبِر عَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس قَالَ:(3/288)
إِذا اجْتمع أهل الْجنَّة تَحت شَجَرَة ((طُوبَى)) أرسل الله عز وَجل إِلَيْهِم الْحُوت الَّتِي قَرَار الأَرْض عَلَيْهَا والثور الَّذِي تَحت الْأَرْضين، قَالَ: فينطح الثور الْحُوت بقرنيه فيذكيه لأهل الْجنَّة فَيَأْكُلُونَ مِنْهُ، فيجدون فِيهِ ريح كل طيب وَطعم كل ثَمَرَة، ثمَّ يَنْصَرِفُونَ إِلَى مَنَازِلهمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْفَارِسِي: الَّذِي يقرب إِلَيْهِم رَأس الثور الَّذِي كَانَت الأَرْض على قرنه وكبد الْحُوت الَّتِي كَانَت الأَرْض على ظَهره.
وَقَوله: إِن الْيَهُود قوم بهت. الْهَاء مَضْمُومَة، وَالْمعْنَى: أَنهم يبهتون بِالْكَذِبِ، فَإِن علمُوا بِإِسْلَامِي بَهَتُونِي عنْدك: أَي كذبُوا عَليّ مَعَ حضوري. والبهتان: الْكَذِب الَّذِي تتحير من بُطْلَانه وتعجب من إفراطه.
وَقَوله: حاشا لله. كلمة مُشْتَقَّة من قَوْلك: كنت فِي حَشا فلَان: أَي فِي ناحيته، وأنشدوا:
( ... ... ... بِأَيّ الحشا أَمْسَى الخليط المباين)
أَي: بِأَيّ النواحي. فَالْمَعْنى: فِي حَشا من ذَلِك، يعنون أَنه لَا يسلم.
والمسلحة: الحارس بِالسِّلَاحِ. والمسالح: قوم يَحْرُسُونَ مَكَان الْخَوْف.
1675 - / 2072 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: ((أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَإِذا شهدُوا،(3/289)
واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا، وصلوا صَلَاتنَا، حرمت علينا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا)) .
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن معاملات النَّاس إِنَّمَا تحمل على الظَّوَاهِر.
1676 - / 2073 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: عَن أنس قَالَ: لم يبْق مِمَّن صلى الْقبْلَتَيْنِ غَيْرِي.
يَعْنِي قبْلَة بَيت الْمُقَدّس والكعبة. وَأنس هُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْبَصْرَةِ، وَآخر من رأى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم موتا أَبُو الطُّفَيْل، وَسَيَأْتِي ذكره فِي مُسْنده إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1677 - / 2074 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: رَأَيْت على أنس برنسا أصفر من خَز.
الْبُرْنُس: كسَاء.
1678 - / 2075 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: كَانَ قرام لعَائِشَة سترت بِهِ جَانب بَيتهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أميطي عني، فَلَا تزَال تصاويره تعرض لي فِي صَلَاتي)) .
القرام: السّتْر الرَّقِيق.(3/290)
والإماطة: الْإِزَالَة.
وَمعنى ((يعرض لي فِي صَلَاتي)) : أَي لما رَأَيْتهَا صَارَت عِنْد غيبتها تمثل لي.
1679 - / 2076 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: ((مَذْهَب الباس، شِفَاء لَا يُغَادر سقما)) .
الباس: الشدَّة. ويغادر بِمَعْنى: يتْرك.
1680 - / 2078 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((مَا من مُسلم يَمُوت لَهُ ثَلَاثَة من الْوَلَد لم يبلغُوا الْحِنْث إِلَّا أدخلهُ الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم)) .
الْحِنْث: الْإِثْم. وَالْمرَاد أَن يبلغ إِلَى الْحَد الَّذِي يجْرِي عَلَيْهِ فِيهِ الْقَلَم بالسيئات والحسنات، وَإِنَّمَا اشْترط الصغر لِأَنَّهُ أَشد لمحبة الْآبَاء وشفقتهم. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
1681 - / 2079 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: أَنه أُتِي بِمَال من الْبَحْرين، فَقَالَ: ((انثروه فِي الْمَسْجِد)) فجَاء الْعَبَّاس فَقَالَ: أَعْطِنِي، فَقَالَ: ((خُذ)) فَحَثَا فِي ثَوْبه ثمَّ ذهب يقلهُ فَلم يسْتَطع، فَقَالَ: مر بَعضهم: يرفعهُ إِلَيّ، قَالَ: ((لَا)) . قَالَ: فارفعه أَنْت عَليّ، قَالَ: ((لَا)) .(3/291)
أما كَونه لم يلْتَفت إِلَيْهِ عِنْد خُرُوجه إِلَى الصَّلَاة فصيانة لتوجهه إِلَى الْعِبَادَة من شوب الْتِفَات إِلَى الدُّنْيَا.
ويقل بِمَعْنى يحمل. وَإِنَّمَا لم يَأْمر أحدا بإعانة الْعَبَّاس عَلَيْهِ، وَلم يعنه لينبه على أَنه هُوَ الْمَسْئُول عَنهُ، وَلَا أحد يحمل عَنهُ ثقل السُّؤَال.
والكاهل: مَا بَين الْكَتِفَيْنِ.
1682 - / 2080 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: ((اسمعوا وَأَطيعُوا وَإِن اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد حبشِي كَأَن رَأسه زبيبة)) .
اعْلَم أَن هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْعمَّال والأمراء دون الْأَئِمَّة وَالْخُلَفَاء، فَإِن الْخلَافَة لقريش لَا مدْخل فِيهَا للحبشة، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((لَا يزَال هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش)) وَإِنَّمَا للأئمة تَوْلِيَة من يرَوْنَ، فَتجب طَاعَة ولاتهم.
وَصغر الرَّأْس مَعْرُوف فِي الْحَبَشَة، فَلذَلِك قَالَ: ((كَأَن رَأسه زبيبة)) .
1683 - / 2081 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: كَانَ قدح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أنس قد انصدع، فسلسله بِفِضَّة، وَهُوَ قدح عريض من نضار.
انصدع بِمَعْنى انْشَقَّ. وسلسله بِمَعْنى ضببه.
وَاعْلَم أَن التضبيب إِذا كَانَ بِالذَّهَب فَحَرَام، سَوَاء كَانَ كَانَ كثيرا أَو(3/292)
قَلِيلا، وَقد ذكر أَبُو بكر عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا أَنه يُبَاح يسير الذَّهَب.
وَأما المضبب بِالْفِضَّةِ فَلَا يَخْلُو من أَمريْن: إِمَّا أَن يكون كثيرا فَهُوَ حرَام، وَكَذَلِكَ إِن كَانَ يَسِيرا لغير حَاجَة كالحلقة فِي الْإِنَاء. وَأما إِذا كَانَ الْيَسِير لحَاجَة كتشعيب قدح وقبيعة سيف وشعيرة سكين فَإِن ذَلِك مُبَاح، لَكِن تكره مُبَاشرَة مَوضِع الْفضة بالإستعمال، وَقد رُوِيَ عَن أَحْمد أَن الْيَسِير مُبَاح. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَدَاوُد: لَا يكره المضبب بِحَال.
وَأما النضار فَقيل: هُوَ شَجَرَة الأثل. وَقيل: النضار: أقداح حمر شبهت بِالذَّهَب. وَقيل: هُوَ النبع، وَهُوَ شجر مَعْرُوف.
والنضار: الْخَالِص من كل شَيْء.
1684 - / 2083 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: نظر أنس إِلَى النَّاس يَوْم الْجُمُعَة فَرَأى طيالسة فَقَالَ: كَأَنَّهُمْ يهود خَيْبَر.
قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الطيلسان أعجمي مُعرب، بِفَتْح اللَّام، وَالْجمع طيالسة بِالْهَاءِ، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب، وَأنْشد ثَعْلَب:
(كلهم مبتكر لشانه ... كاعم لحييْهِ بطيلسانه)(3/293)
(وَآخر يزف فِي أعوانه ... مثل زفيف الهيق فِي حفانه)
(فَإِن تلقاك بقيراونه ... أَو خفت بعض الْجور من سُلْطَانه)
(فاسجد لقرد السوء فِي زَمَانه ... )
يزف من الزفيف، من قَوْله: {يزفون} [الصافات: 94] أَي يسرعون.
والهيق: ذكر النعام. وَفِي حفانه قَولَانِ: أَحدهمَا: فِي صغاره، قَالَه ابْن الْأَعرَابِي. وَالثَّانِي: إناثه، قَالَه الْأَصْمَعِي. والقيروان: الْجَمَاعَة.
وَهَذِه الطيالسة الَّتِي أنكرها أنس لبسة مَا كَانَ يعهدها.
1685 - / 2085 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ لكل صَلَاة.
وَإِنَّمَا كَانَ يفعل ذَلِك لموْضِع الْفَضِيلَة. وَصلى يَوْم الْفَتْح صلوَات بِوضُوء وَاحِد، وَقَالَ: ((عمدا فعلته)) ليعلم أَن الْوضُوء إِنَّمَا يجب لأجل الْحَدث، وَأَن الْوضُوء من غير حدث فَضِيلَة.
1686 - / 2086 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: أَتَيْنَا أنس بن مَالك نشكو إِلَيْهِ مَا نلقى من الْحجَّاج، فَقَالَ: ((اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُم زمَان إِلَّا الَّذِي بعده شَرّ مِنْهُ حَتَّى تلقوا ربكُم)) ، سمعته من نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(3/294)
إِن قَالَ قَائِل: مَا وَجه هَذَا وَنحن نعلم أَنه جَاءَ بعد الْحجَّاج عمر ابْن عبد الْعَزِيز، فَبسط الْعدْل وَصلح الزَّمَان؟ فَالْجَوَاب: أَن الْكَلَام خرج على الْغَالِب، فَكل عَام تَمُوت سنة وتحيا بِدعَة، ويقل الْعلم، وَيكثر الْجُهَّال، ويضعف الْيَقِين، وَمَا يَأْتِي من الزَّمَان الممدوح نَادِر قَلِيل.
1687 - / 2088 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: شَهِدنَا بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي تدفن فَقَالَ: ((هَل فِيكُم من أحد لم يقارف اللَّيْلَة؟)) فَقَالَ أَبُو طَلْحَة: أَنا، فَأنْزل فِي قبرها.
هَذِه الْبِنْت هِيَ رقية، وَقد أفْصح بذلك أنس فِيمَا رُوِيَ عَنهُ، وَقد غلط الْخطابِيّ فَقَالَ: يشبه أَن تكون هَذِه الْميتَة لبَعض بَنَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فنسبت إِلَيْهِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث تَفْسِير يقارف عَن بضع الروَاة، وَهُوَ فليح، فَإِنَّهُ قَالَ: أرَاهُ يَعْنِي الذَّنب، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه قد رُوِيَ مَا يمْنَع هَذَا، فَأخْبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أَنبأَنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أَنبأَنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا عَفَّان قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد قَالَ: حَدثنَا ثَابت عَن أنس: أَن رقية لما مَاتَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا يدْخل الْقَبْر رجل قارف أَهله اللَّيْلَة)) . وَأخْبرنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي(3/295)
قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن هبة الله الطَّبَرِيّ قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحسن ابْن الْفضل قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن جَعْفَر بن درسْتوَيْه قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب بن سُفْيَان قَالَ: حَدثنِي مَحْفُوظ بن أبي تَوْبَة قَالَ: حَدثنَا عَفَّان قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن ثَابت عَن أنس قَالَ: لما مَاتَت رقية بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا يدخلن الْقَبْر أحد قارف أَهله البارحة)) قَالَ: فَتنحّى عُثْمَان بن عَفَّان.
وَالثَّانِي: أَنه لَو أَرَادَ الذَّنب كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكبار الْمُهَاجِرين أَحَق بذلك.
وَالثَّالِث: أَن يكون أَبُو طَلْحَة قد مدح نَفسه بِهَذَا وَلم يكن ذَلِك من خصالهم، وَإِنَّمَا المُرَاد الْوَطْء، يُقَال: قارف الرجل امْرَأَته: إِذا جَامعهَا. والقريب الْعَهْد بالشَّيْء يتذكره، فَلهَذَا طلب من لم يقرب عَهده بذلك.
1688 - / 2089 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: كَانَ يَقُول عِنْد المعتبة: ((مَاله، تربت يَمِينه)) .
المعتبة: العتاب.
وتربت: افْتَقَرت. قَالَ أَبُو عبيد: نرى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يتَعَمَّد الدُّعَاء بالفقر على من خاطبه، وَلكنهَا كلمة جَارِيَة على أَلْسِنَة الْعَرَب يَقُولُونَهَا، وهم لَا يُرِيدُونَ وُقُوع الْأَمر. وَقَالَ ابْن عَرَفَة: تربت يَمِينه(3/296)
إِن لم يفعل مَا أَمر بِهِ. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1689 - / 2093 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: إِنَّكُم لتعملون أعمالا هِيَ أدق فِي أعينكُم من الشّعْر، كُنَّا نعدها على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الموبقات.
الْمَعْنى: تَعْمَلُونَ أعمالا لَيْسَ لَهَا عنْدكُمْ كثير وَقع احتقارا لَهَا، وَهِي من الموبقات أَي المهلكات، وَهَذِه الْأَعْمَال مثل قَول الرجل للرجل: قلبِي إِلَيْك، وَكنت على نِيَّة قصدك، وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يكذب فِيهِ، أَو مدح الرجل الرجل بالشَّيْء الَّذِي لَيْسَ فِيهِ، وَرُبمَا كَانَ ذَلِك لسلطان جَائِر، وَقد يكون ذَلِك فِي الْمُعَامَلَات بالربا وعقوق الْوَالِدين، وَقذف المحصنة، وعيبة الْمُسلم، وَأَشْيَاء يحتقرها الْإِنْسَان وَيجْرِي فِيهَا مَعَ الْعَادَات وَهِي مهلكة.
1690 - / 2095 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اشْتَدَّ الْبرد بكر بِالصَّلَاةِ، وَإِذا اشْتَدَّ الْحر أبرد بِالصَّلَاةِ.
بكر بِمَعْنى قدم. وَقد ذكرنَا معنى الْإِبْرَاد فِي مُسْند أبي ذَر.
1691 - / 2096 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ فِي أَصْحَابه أشمط غير أبي بكر، فغلفها بِالْحِنَّاءِ والكتم.(3/297)
قَوْله قدم: يَعْنِي الْمَدِينَة حِين هَاجر إِلَيْهَا.
والشمط: اخْتِلَاط الشيب بسواد الشّعْر، وَيُسمى الصَّباح أول مَا يَبْدُو شميطا لإختلاطه بباقي ظلمَة اللَّيْل.
وَقَوله: فغلفها - يَعْنِي لحيته، أَي عَمها بذلك. وَمِنْه غلاف الشَّيْء: وَهُوَ مَا أحَاط بِهِ وغطاه.
والكتم: نَبَات يسود الشّعْر، فَإِذا خلط مَعَ الْحِنَّاء صَار الشّعْر بَين الْحمرَة والسواد. وَيَجِيء فِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح: فغلفها بِالْحِنَّاءِ والكتم حَتَّى قنأ لَوْنهَا. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: القاني من الألوان: الشَّدِيدَة الْحمرَة الَّتِي يضْرب إِلَى السوَاد. وَقد كَانَ يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم خلق كثير من الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ. وَقد ذكرتهم فِي كتاب: ((الشيب والخضاب)) .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا فَائِدَة خضاب الشيب؟ قيل لَهُ: فِيهِ ثَلَاث فَوَائِد: إِحْدَاهَا: امْتِثَال أَمر الشَّارِع، فَإِنَّهُ قَالَ: ((غيروا الشيب وَلَا تشبهوا باليهود)) أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي عمر قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن الْحُسَيْن بن أَيُّوب قَالَ: أَنبأَنَا عبد الْملك بن مُحَمَّد بن بَشرَان قَالَ: أخبرنَا حَمْزَة بن مُحَمَّد بن الْفضل قَالَ: أَنبأَنَا عَبَّاس بن مُحَمَّد الدوري قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَسدي قَالَ: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ عَن(3/298)
الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يخضبون فخالفوهم)) . وَقد روينَا من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((اختضبوا، فَإِن الْمَلَائِكَة يستبشرون بخضاب الْمُؤمن)) . قَالَ صَالح بن أَحْمد بن حَنْبَل: لما مرض أبي دخل عَلَيْهِ رجل من جيراننا قد خضب فَقَالَ: إِنِّي لأرى الرجل يحيي شَيْئا من السّنة فَأَفْرَح بِهِ. وَقَالَ الْمروزِي: دخل على أبي عبد الله شيخ مخضوب فَقَالَ: إِنِّي لأسر أَن أرى الشَّيْخ قد خضب. فَهَذِهِ فَائِدَة من جِهَة مُوَافقَة الشَّرْع.
والفائدة الثَّانِيَة: تخْتَص الْمَرْأَة، وَالنِّسَاء يُكْرهن الشيب جدا، فَإِذا غير كَانَ أقرب حَالا عِنْدهن وَأصْلح لمعاشرتهن.
والفائدة الثَّالِثَة: تخْتَص بِالرجلِ وَهُوَ أَن الشيب يُؤثر فِيهِ صُورَة وَمعنى، فَأَما الصُّورَة فيشينه، وَلِهَذَا قَالَ أنس فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا شانه الله ببيضاء. فَقيل لَهُ: أَو شين هُوَ؟ فَقَالَ: كلكُمْ يكرههُ. وَأما فِي الْمَعْنى فَإِنَّهُ يضعف الأمل، وَيقطع الْقلب، لعلم الْإِنْسَان بِقرب الْأَجَل.
وَرُبمَا قَالَ قَائِل: فَنحْن إِنَّمَا ندور على مَا يقصر الأمل وَيذكر بِالآخِرَة، فَكيف نشرع فِيمَا ينسينا؟ فَالْجَوَاب: أَن النَّاس فِي هَذَا يَخْتَلِفُونَ، فَمنهمْ الشَّديد الْغَفْلَة عَن الْآخِرَة فَيحْتَاج إِلَى الموقظات،(3/299)
وَمِنْهُم الشَّديد الْيَقَظَة فَيحْتَاج إِلَى التَّعْدِيل بالمباحات. وَمَتى نصب الْإِنْسَان ذكر الْمَوْت بَين عَيْنَيْهِ وَلم يغالط نَفسه وتبسط لَهَا فِي أملهَا لم يقدر على نشر علم، وَلم ينْتَفع بعيش، وَهَذَا لَا يفهمهُ إِلَّا الْعلمَاء.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي ينفع الْعَالم الْعَاقِل من تَغْطِيَة شَيْء يعلم بَاطِنه؟ فَالْجَوَاب: أَن النَّفس تقنع بستر الْأَحْوَال، فطبع البشرية يتشاغل بالظواهر، فَإِن الْإِنْسَان لَو تصور فِي حَال مضغ الطَّعَام كَيفَ هُوَ وَقد اخْتَلَط بريقه مَا أمكنه بلعه، وَلِهَذَا لَو أخرج اللُّقْمَة اللذيذة ثمَّ أَرَادَ إِعَادَتهَا لم يُمكن، وَلَو تصور نَفسه وَمَا بِهِ من الدِّمَاء والأنجاس مَا طَابَ عيشه، أَو لَو تصور ذَلِك فِي جَسَد امْرَأَته لم يقدره على التَّمَتُّع، فتغطية الْحَال مصلحَة العَبْد، وَالنَّفس تقنع بذلك، وَلِهَذَا اقْتَضَت الْحِكْمَة تَغْطِيَة أجل الْإِنْسَان عَنهُ لينْتَفع بعيشه، وَفهم هَذِه الْأَشْيَاء لَا تحصل إِلَّا لذِي لب.
1592 - / 2099 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث من أَفْرَاد مُسلم:
خرجت تلوث خمارها: أَي تلويه على رَأسهَا.
1693 - / 2101 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أم سليم خنجرا، فَقَالَت: إِن دنا مني أحد من الْمُشْركين بقرت بَطْنه. أَي: شققته وفتحته.
وَقَوْلها: اقْتُل من بَعدنَا من الطُّلَقَاء. والطلقاء: من أطلق وَمن(3/300)
عَلَيْهِ من مسلمة الْفَتْح.
وَقَوْلها: انْهَزمُوا بك: أَي انْهَزمُوا من بَين يَديك يَوْم هوَازن، تَعْنِي يَوْم حنين. فَقَالَ: ((إِن الله كفى)) لِأَن تِلْكَ الْهَزِيمَة تعقبها النَّصْر وَالْغنيمَة.
1694 - / 2104 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن فِي ((الْمُلَاعنَة)) : ((إِن جَاءَت بِهِ سبطا قضيء الْعَينَيْنِ فَهُوَ لهِلَال)) .
السبط: السهل الشّعْر، وَهُوَ ضد الْجَعْد.
وقضيء الْعين: فاسدهما، وَهُوَ مَقْصُور، يُقَال: فِي عين فلَان قضأة: أَي فَسَاد.
وَقَوله: ((أكحل)) الْكحل: سَواد الْعين خلقَة.
وَقَوله: ((حمش السَّاقَيْن)) أَي: دقيقهما. يُقَال: رجل حمش السَّاقَيْن، وَامْرَأَة حمشاء السَّاقَيْن. وَالْمرَاد بذلك الدقة.
1695 - / 2107 - وَقد تكلمنا على الحَدِيث الْحَادِي عشر فِي مُسْند أبي سعيد.
1696 - / 2108 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: أَنه كتب إِلَى النَّجَاشِيّ، وَلَيْسَ بالنجاشي الَّذِي صلى عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
اعْلَم أَن الْحَبَشَة كَانَ يسمون كل من يملكهم النَّجَاشِيّ، كَمَا أَن فَارس يسمون ملكهم كسْرَى.(3/301)
1697 - / 2109 - والْحَدِيث الثَّالِث عشر: قد تقدم فِي مُسْند جَابر.
1698 - / 2110 - والْحَدِيث الرَّابِع عشر: فِيهِ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاد رجلا قد خفت: أَي: ذهبت قوته.
1699 - / 2113 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على قبر.
هَذَا يدل على جَوَاز الصَّلَاة على الْقَبْر على الْإِطْلَاق. وَقد قَالَ أَكثر أَصْحَابنَا: يُصَلِّي عَلَيْهِ إِلَى شهر. قَالَ ابْن عقيل: وَالصَّحِيح عِنْدِي أَنه يصلى عَلَيْهِ بعد شهر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا دفن قبل أَن يُصَلِّي عَلَيْهِ الْوَلِيّ صلي عَلَيْهِ إِلَى ثَلَاث.
1700 - / 2114 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: شقّ صدر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ لأمه.
أَي جمع طرفِي الشق.
قَوْله: وَهُوَ منتفع اللَّوْن: أَي متغير - اللَّوْن.
والمخيط: الإبرة الَّتِي يخاط بهَا. وَمِنْه ((أدو الْخياط والمخيط)) .
فالخياط: الْخَيط، والمخيط: الإبرة.
فَإِن قيل: قد خلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مختونا مَسْرُورا، فَهَلا ولد مطهر(3/302)
الْقلب من حَظّ الشَّيْطَان. فَالْجَوَاب: أَن هَذِه الْأُمُور جعلت لامتحان الْعُقُول، كَمَا خلق القلفة وَأمر بقطعها، وحول من قبْلَة إِلَى قبْلَة.
فَمن اعْترض على تصاريف من تصرف اللَّيْل وَالنَّهَار فَهُوَ سَفِيه، وَإِنَّمَا يَقع الإعتراض لأَنهم يحملون أمره على الْمشَاهد، وَإِن من بنى ثمَّ هدم ثمَّ عَاد فَبنى كَانَ مستدركا أمرا لم يكن عمله، فَمَتَى لم يكن مستدركا كَانَ بالهدم عابثا، والأمران لَا يجوزان على الله تَعَالَى، وَأما الْمُحَقِّقُونَ فَإِنَّهُم يسلمُونَ. ثمَّ قد بَان وَجه الْحِكْمَة فِي هَذَا: أَن وِلَادَته مختونا مَسْرُورا تبين لِلْخلقِ إنعام الْحق فِي حَقه، وَلَو خلق سليم الْقلب مِمَّا أخرج فِي بَاطِنه لم يعلم بذلك، فالإعلام بِإِخْرَاج شَيْء كَانَ بَقَاؤُهُ يُؤْذِي إنعام آخر، على أَنه خلق طَاهِرا، لكنه زيد تنظيف طَرِيق الْوَحْي وتأكيد أَمر الْعِصْمَة.
1701 - / 2116 - وَفِي والْحَدِيث الْعشْرين: فَلَمَّا قفى: أَي ولى وَذهب.
1702 - / 2119 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: {فلنولينك قبْلَة ترضاها} [الْبَقَرَة: 144] أَي: تحبها.
(والشطر) : النَّحْو.
1703 - / 2120 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: جَاءَ رجل وَقد حفزه النَّفس. أَي: جهده من شدَّة السَّعْي. وأصل الحفز الدّفع العنيف.(3/303)
وأرم الْقَوْم: سكتوا.
1704 - / 2121 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: كَانَ يَقُول يَوْم أحد: ((اللَّهُمَّ إِن تشأ لَا تعبد فِي الأَرْض)) .
وَهَذَا غلط؛ إِنَّمَا هُوَ يَوْم بدر. وَقد تقدم الْكَلَام على هَذَا فِي مُسْند عمر.
1705 - / 2122 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: وَردت عَلَيْهِم روايا قُرَيْش، فَقَالَ: ((هَذَا مصرع فلَان)) فَمَا مَاطَ أحد عَن مَوضِع يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
الروايا: الْحَوَامِل للْمَاء، والواحدة راوية.
وماط بِمَعْنى زَالَ، وَمِنْه إمَاطَة الْأَذَى: وَهِي إِزَالَته.
1706 - / 2123 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: أَن قُريْشًا صَالحُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي: ((اكْتُبْ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم)) فَقَالَ سُهَيْل: مَا نَدْرِي مَا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، اكْتُبْ: بِاسْمِك اللَّهُمَّ.
كَانَ الْقَوْم يَقُولُونَ: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا رحمان الْيَمَامَة، يعنون مُسَيْلمَة، فَلَمَّا ردوا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عَلَيْهِ، لم ينفذها إِلَيْهِم(3/304)
حِين أنفذ ((بَرَاءَة)) . وَقد ذكرنَا هَذَا الصُّلْح وشرحناه فِي مُسْند سهل بن حنيف والبراء بن عَازِب.
1707 - / 2124 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرد يَوْم أحد فِي سَبْعَة من الْأَنْصَار وَرجلَيْنِ من قُرَيْش، فَلَمَّا رهقوه قَالَ: ((من يردهم عَنَّا وَله الْجنَّة)) .
رهقوه: قربوا مِنْهُ، وَمِنْه الْمُرَاهق: وَهُوَ المقارب للحلم.
وَقد اخْتلفت الرِّوَايَات فِي عدد من ثَبت مَعَه يَوْم أحد؛ فَفِي هَذِه الرِّوَايَة تِسْعَة. وَقَالَ ابْن سعد: أَرْبَعَة عشر فيهم أَبُو بكر. وَقد ذكر فِيمَن ثَبت مَعَه طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعبد الرَّحْمَن وَأَبُو عُبَيْدَة، وَكَأَنَّهَا حالات: يبعد عَنهُ فِيهَا قوم ويرجعون إِلَيْهِ. فَأَما عدد من قتل يَوْم أحد فَقَالَ ابْن إِسْحَاق: اسْتشْهد من الْمُسلمين يَوْم أحد خَمْسَة وَسِتُّونَ رجلا.
وَقَوله: ((مَا أنصفنا أَصْحَابنَا)) فَرُبمَا أشكل هَذَا على بعض النَّاس فَقَالَ: كَيفَ يَأْمُرهُم بِالْقِتَالِ ثمَّ يَقُول: ((مَا أنصفنا أَصْحَابنَا)) ، وَهل عِنْده غير الْإِنْصَاف؟ ! فَالْجَوَاب: أَنه يجب على النَّاس أَن يقوا رَسُول الله بِأَنْفسِهِم، فَلَمَّا قَالَ: ((من يردهم عَنَّا)) كَانَ يَنْبَغِي للْكُلّ أَن يُبَادر، فَتَأَخر بَعضهم لَيْسَ بإنصاف. وَيحْتَمل أَن يكون إِشَارَته بذلك إِلَى القرشيين، لِأَنَّهُمَا تركا الْأَنْصَار ينفردون بذلك.(3/305)
1708 - / 2125 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: أَنه كسر رباعيته يَوْم أحد وشج فِي وَجهه، فَجعل يَسْلت الدَّم عَنهُ.
الرباعيات: الْأَسْنَان الَّتِي بعد الثنايا، وهما رباعيتان من فَوق ورباعيتان من أَسْفَل.
والشج: الْجراحَة فِي الْوَجْه وَالرَّأْس.
والسلت: الْمسْح والإزالة.
1709 - / 2127 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: ((من طلب الشَّهَادَة صَادِقا أعطيها وَلَو لم تصبه)) .
وَهَذَا لِأَن صدق الطّلب للشَّهَادَة يدل على تَسْلِيم النَّفس لَهَا ورضى الْقلب بهَا، فَكَأَنَّهَا وَقعت فَحصل أجرهَا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {قد صدقت الرءيا} [الصافات: 105] فَإِذا لم يجر الْقدر بالمطلوب فَذَاك لَيْسَ إِلَى الطَّالِب، فَيعْطى بِطَلَبِهِ مَا طلب.
1710 - / 2128 - والْحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: سبق فِي مُسْند جَابر.
1711 - / 2130 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَعَ إِحْدَى نِسَائِهِ، فَمر بِهِ رجل، فَدَعَاهُ فجَاء، فَقَالَ: ((يَا فلَان، هَذِه زَوْجَتي)) .(3/306)
هَذِه الْمَرْأَة صَفِيَّة بنت حييّ. وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي مسندها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1712 - / 2131 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ((رَأَيْت ذَات لَيْلَة كأنا فِي دَار عقبَة بن رَافع، فأتينا برطب من رطب ابْن طَابَ، فأولت الرّفْعَة لنا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقبَة فِي الْأُخْرَى، وَأَن ديننَا قد طَابَ)) .
هَذَا الحَدِيث أصل فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا على الْأَسْمَاء وَالْأَحْوَال.
1713 - / 2133 - والْحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: قد تقدم فِي مُسْند طَلْحَة. وَفِيه: فَخرج شيصا: وَهُوَ أردأ التَّمْر.
1714 - / 2135 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((دخلت الْجنَّة فَسمِعت خشفة، قلت: من هَذَا؟ قَالُوا: هَذِه الغميصاء بنت ملْحَان)) .
الخشفة: الصَّوْت وَالْحَرَكَة.
وَهَذِه الغميصاء هِيَ أم سليم. وَسَيَأْتِي الْخلاف فِي اسْمهَا فِي مسندها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1715 - / 2136 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: فأحجم الْقَوْم أَي توقفوا.(3/307)
1716 - / 2138 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: ((جعل إِبْلِيس يطِيف بِآدَم لما خلق، فَلَمَّا رَآهُ أجوف عرف أَنه خلق لَا يَتَمَالَك)) .
الأجوف: ضَعِيف الصَّبْر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لَا يثبت ثُبُوت مَا لَيْسَ بأجوف. وَالثَّانِي: أَنه مفتقر إِلَى الْغذَاء لَا يصبر عَنهُ، فيطمع فِيهِ إِبْلِيس من الْوَجْهَيْنِ.
1717 - / 2139 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: فَأَخذهُم سلما فاستحياهم. الْمَعْنى: أَخذهم بِلَا قتال مستسلمين. واستحياهم: استبقاهم.
1718 - / 2140 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: وآوانا: أَي صير لنا مأوى نأوي إِلَيْهِ. والمأوى: مَوضِع السُّكْنَى وَالْإِقَامَة.
1719 - / 2141 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: أَن رجلا كَانَ يتهم بِأم ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي: ((اذْهَبْ فَاضْرب عُنُقه)) .
أم ولد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هِيَ مَارِيَة أم إِبْرَاهِيم، أهداها إِلَيْهِ الْمُقَوْقس صَاحب الْإسْكَنْدَريَّة فِي سنة سبع من الْهِجْرَة وَمَعَهَا أُخْتهَا سِيرِين، وَبعث مَعَهُمَا ألف دِينَار وَعشْرين ثوبا، وَبغلته الدلْدل، وَحِمَاره يَعْفُور، وَخَصِيًّا يُقَال لَهُ مَأْبُور كَانَ أَخا مَارِيَة، بعث ذَلِك مَعَ حَاطِب(3/308)
ابْن أبي بلتعة، فَعرض حَاطِب الْإِسْلَام على مَارِيَة فَأسْلمت هِيَ وَأُخْتهَا، وَأقَام الْخصي على دينه حَتَّى أسلم بِالْمَدِينَةِ بعد ذَلِك على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَنزلت فِي عالية الْمَدِينَة، وَكَانَ رجل من القبط يَأْتِيهَا بِالْمَاءِ والحطب ويتردد إِلَيْهَا، فَقَالَ النَّاس: علج يدْخل على علجة، فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا بقتْله، فَأَتَاهُ وَهُوَ فِي ركي - وَهِي الْبِئْر الَّتِي لم تطو، فَخرج فَإِذا هُوَ مجبوب، وَقيل: بل وجده على نَخْلَة، فَلَمَّا رأى السَّيْف وَقع فِي نَفسه مَا جَاءَ لأَجله فَألْقى كساءه، وَتكشف، فَإِذا هُوَ مجبوب: وَهُوَ الْمَقْطُوع الذّكر.
وعَلى هَذَا الحَدِيث اعْتِرَاض: وَهُوَ أَن يُقَال: كَيفَ أَمر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقتل رجل بالتهمة؟ فقد أجَاب عَنهُ ابْن جرير فَقَالَ: جَائِز أَن يكون قد كَانَ من أهل الْعَهْد، وَقد تقدم إِلَيْهِ بِالنَّهْي عَن الدُّخُول على مَارِيَة فَعَاد، فَأمر بقتْله لنقض الْعَهْد.
1720 - / 2142 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: ((يُؤْتى بأنعم أهل الدُّنْيَا من أهل النَّار، فيصبغ فِي النَّار صبغة، ثمَّ يُقَال لَهُ: هَل رَأَيْت خيرا قطّ؟ هَل مر بك نعيم قطّ؟ فَيَقُول: لَا وَالله. وَيُؤْتى بأشد النَّاس بؤسا فِي الدُّنْيَا من أهل الْجنَّة فَيُقَال لَهُ: هَل رَأَيْت بؤسا قطّ؟ فَيَقُول: لَا وَالله يَا رب)) .
هَذَا الحَدِيث يحث على مُرَاعَاة العواقب، فَإِن التَّعَب إِذا أعقب الرَّاحَة هان، والراحة إِذا أثمرت النصب فَلَيْسَتْ رَاحَة، فالعاقل من(3/309)
نظر فِي الْمَآل لَا فِي عَاجل الْحَال، وَقد كشف هَذَا الْمَعْنى الحَدِيث الَّذِي بعده: ((حفت الْجنَّة بالمكاره، وحفت النَّار بالشهوات)) وَقد قَالَت الْحُكَمَاء: لَا تنَال الرَّاحَة بالراحة، وَقل أَن يلمع برق لَذَّة إِلَّا وَتَقَع صَاعِقَة نَدم.
1721 - / 2145 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((من يدْخل الْجنَّة ينعم، لَا يبأس)) .
الْبُؤْس: الشَّقَاء وَسُوء الْعَيْش.
1722 - / 2146 - والْحَدِيث الْخَمْسُونَ: فِي مُسْند عمر.
1723 - / 2148 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: أَن عَائِشَة وَزَيْنَب تقاولتا حَتَّى استحثتا أَي: رمت كل وَاحِدَة صاحبتها بِالتُّرَابِ.
يُقَال: حثا التُّرَاب يحثوه.
وَقد رَوَاهُ قوم: حَتَّى استخبثتا: أَي: قَالَت كل وَاحِدَة لصاحبتها الهجر والخبيث من القَوْل. وَرَوَاهُ آخَرُونَ: حَتَّى استخبتا: أَي اصطخبتا. والصخب: رفع الصَّوْت فِي الْخُصُومَة، وَالسِّين وَالصَّاد يتعاقبان، وَاللَّفْظ الأول هُوَ الْمَحْفُوظ.
1724 - / 2149 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: بعث رَسُول الله(3/310)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسيسة عينا.
يُقَال فِي هَذَا: بسيسة وبسبس أَيْضا، وَهُوَ ابْن عَمْرو بن ثَعْلَبَة الْأنْصَارِيّ.
وَقَوله: ((قومُوا إِلَى جنَّة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض)) أَي: كعرض السَّمَوَات وَالْأَرْض. قَالَ ابْن قُتَيْبَة. لم يرد الْعرض الَّذِي هُوَ خلاف الطول، وَإِنَّمَا أَرَادَ سعتها، وَالْعرب تَقول: بِلَاد عريضة: أَي وَاسِعَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَنْتُم تروون أَن أقل أهل الْجنَّة لَهُ بِقدر الدُّنْيَا عشر مَرَّات، فَكيف تكون الْجنَّة كلهَا بِعرْض السَّمَاء وَالْأَرْض؟ فَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الدُّنْيَا بِالْإِضَافَة إِلَى السَّمَوَات كالذرة، وكل سَمَاء هِيَ أعظم من الَّتِي تَلِيهَا، فَإِذا أضيفت السَّمَوَات كلهَا كَانَت الدُّنْيَا عِنْدهَا كنطفة. وَالثَّانِي: أَن يكون المُرَاد بذلك صفة الْبُسْتَان الَّذِي يخْتَص بِكُل مُؤمن لَا صفة جَمِيع الْجنَّة.
وَقَوله: بخ بخ. هِيَ كلمة تقال عِنْد الْمَدْح: قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهَا تَعْظِيم الْأَمر وتفخيمه، وسكنت الْخَاء كَمَا سكنت اللَّام من هَل وبل، وَأَصله التَّشْدِيد فَخفف وَيُقَال: بخ بخ منونا تَشْبِيها بالأصوات كصه ومه. وَقَالَ ابْن السّكيت: بخ بخ وَبِه بِهِ بِمَعْنى وَاحِد. وَقَالَ الآخر: فِي بخ أَربع لُغَات: الْجَزْم والخفض وَالتَّشْدِيد وَالتَّخْفِيف، وَأنْشد:(3/311)
(روافده أكْرم الرافدات ... بخ لَك بخ لبحر خضم)
وَقَالَ آخر:
( ... . . ... بخ بخ لوالده وللمولود)
واخترج بِمَعْنى أخرج.
والقرن بِفَتْح الرَّاء: جعبة صَغِيرَة تضم إِلَى الجعبة الْكَبِيرَة.
1725 - / 2150 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الْغَدَاة جَاءَ خدم الْمَدِينَة بآنيتهم فِيهَا المَاء، فَمَا يأْتونَ بِإِنَاء إِلَّا غمس يَده فِيهِ.
إِنَّمَا كَانُوا يطْلبُونَ بِهَذَا بركته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَيَنْبَغِي للْعَالم إِذا طلب الْعَوام التَّبَرُّك بِهِ فِي مثل هَذَا أَلا يخيب ظنونهم، وَأَن يحملهم على مَا هم عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ فِي هَذَا نوع مخاطرة لَهُ؛ إِلَّا أَن الْعَالم يعتصم من الْخطر بِعِلْمِهِ، وَيعرف نَفسه وَلَا يُؤثر فِيهِ فعل غَيره، وَإِنَّمَا يَقع الْخطر بالمتزهد الْقَلِيل الْعلم، فَرُبمَا أفْسدهُ مثل هَذَا، كَمَا قَالَ: مَا أبقى خَفق النِّعَال وَرَاء الحمقى من عُقُولهمْ شَيْئا.(3/312)
1726 - / 2152 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: انْطلق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى أم أَيمن وَانْطَلَقت مَعَه، فناولته إِنَاء فِيهِ شراب، قَالَ: فَلَا أَدْرِي أصادقته صَائِما أَو لم يردهُ، فَجعلت تصخب عَلَيْهِ وتذمر عَلَيْهِ.
الصخب: الصَّوْت والجلبة. وَمَاء صخب الموج والجريان: إِذا كَانَ لَهُ صَوت. وَمعنى تصخب: تصيح. وتذمر: تغْضب. وَإِنَّمَا انبسطت عَلَيْهِ لِأَنَّهَا كَانَت حاضنته ومربيته.
1727 - / 2153 - والْحَدِيث السَّابِع وَالْخَمْسُونَ: فِي مُسْند عَليّ.
1728 - / 2154 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: وَقت لنا فِي قصّ الشَّارِب وتقليم الْأَظْفَار ونتف الْإِبِط وَحلق الْعَانَة أَن لَا نَتْرُك أَكثر من أَرْبَعِينَ لَيْلَة.
اعْلَم أَنه مَتى زَاد الزَّمَان على هَذَا الْمِقْدَار كثرت الأوساخ، وَرُبمَا حصل تَحت الظفر مَا يمْنَع وُصُول المَاء إِلَيْهِ. ثمَّ إِنَّهَا تعدم الزِّينَة الَّتِي خصت بالأظفار والشارب.
1729 - / 2157 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: ((وَيُقَال لِأَرْكَانِهِ: انْطِقِي)) .(3/313)
الْأَركان: الْأَعْضَاء.
وَقَوله: ((عنكن كنت أُنَاضِل)) المناضلة: الرَّمْي بِالسِّهَامِ، وَالْمرَاد بهَا هَا هُنَا المدافعة عَنْهَا والإعتذار.
1730 - / 2158 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: سُئِلَ عَن الْخمر، أتتخذ خلا؟ قَالَ: ((لَا)) .
هَذَا الحَدِيث دَلِيل على صِحَة مَذْهَبنَا؛ فَإِنَّهُ عندنَا لَا يجوز تَخْلِيل الْخمر، وَلَا تطهر إِذا خللت. وَعَن أَحْمد: أَن تخليلها يكره وتطهر.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز وتطهر. وَعَن مَالك كالروايتين.
1731 - / 2161 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله فَقَالَ: يَا خير الْبَريَّة. قَالَ: ((ذَاك إِبْرَاهِيم)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْبَريَّة: الْخلق، وَأكْثر الْعَرَب والقراء على ترك الْهمزَة لِكَثْرَة مَا جرت على الْأَلْسِنَة، وَهِي ((فعيلة)) بِمَعْنى ((مفعولة)) .
وَمن النَّاس من يزْعم أَنَّهَا مَأْخُوذَة من بريت الْعود، وَمِنْهُم من يزْعم أَنَّهَا من البرا: وَهُوَ التُّرَاب: أَي خلق من التُّرَاب، وَقَالُوا: لذَلِك لَا يهمز. وَقَالَ الزّجاج: لَو كَانَت من البرا وَهُوَ التُّرَاب لما قُرِئت بِالْهَمْز، وَإِنَّمَا اشتقاقها من: برأَ الله الْخلق.
فَإِن قيل: كَيفَ شهد لإِبْرَاهِيم أَنه خير الْبَريَّة وَهُوَ يَقُول: ((أَنا سيد(3/314)
ولد آدم)) فَالْجَوَاب: أَن هَذَا مَحْمُول على مَا قَالَه قبل أَن يعلم أَنه خير الْخلق، فَلَمَّا عرف ذَلِك قَالَ: ((أَنا سيد ولد آدم)) .
1732 - / 2163 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: أُتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِتَمْر، فَجعل يقسمهُ وَهُوَ محتفز، يَأْكُل مِنْهُ أكلا ذريعا. وَفِي لفظ: رَأَيْته مقعيا يَأْكُل تَمرا.
المحتفز: المستعجل الَّذِي لَيْسَ يتَمَكَّن. والذريع: السَّرِيع الحثيث.
قَالَ النَّضر بن شُمَيْل: والإقعاء: أَن يجلس على وركيه، وَهُوَ الإحتفاز. وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ أَن يلصق أليتيه بِالْأَرْضِ وَينصب سَاقيه وَيَضَع يَده بِالْأَرْضِ.
1733 - / 2164 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرّقية من الْعين والحمة والنملة.
أما الرّقية من الْعين فقد ذكرنَا الْعين وَمَا يتَعَلَّق بهَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَأما الْحمة فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْحمة: الْحَيَّات والعقارب وأشباهها من ذَوَات السمُوم. والنملة: قُرُوح فِي الْجنب. وَقَالَ(3/315)
أَبُو عبيد: هِيَ قُرُوح تخرج بالجنب وَغَيره. قَالَ: ويحكى عَن عمر بن عبد الْعَزِيز فِي رقية النملة: الْعَرُوس تحتفل وتقنأ وتكتحل، وكل شَيْء تفتعل، غير أَن لَا تَعْصِي الرجل. تقنأ: تتزين. فَأَما النملة بِضَم النُّون فَهِيَ النميمة. يُقَال: رجل نمل: إِذا كَانَ نماما.
1734 - / 2165 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: ((إِن لَهُ لظئرين)) .
الظِّئْر: الْمُرضعَة، وَأَصله من الْعَطف، وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث.
1735 - / 2166 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا خرج مسيرَة ثَلَاثَة أَمْيَال أَو ثَلَاثَة فراسخ صلى رَكْعَتَيْنِ.
هَذَا شَيْء لَا يَقُول بِهِ أحد من أَرْبَاب الْمذَاهب الظَّاهِرَة، وَإِن كَانَ هَذَا الحَدِيث مذهبا لجَماعَة من السّلف، فقد كَانَ أنس يقصر فِيمَا بَينه وَبَين خَمْسَة فراسخ، وَقَالَ ابْن عمر: إِنِّي لأسافر السَّاعَة من النَّهَار فأقصر. وَإِنَّمَا يحمل هَذَا الحَدِيث على أحد شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج بنية السّفر الطَّوِيل فَلَمَّا سَار ثَلَاثَة أَمْيَال(3/316)
قصر، ثمَّ عَاد من سَفَره، فَحكى أنس مَا رأى. وَالثَّانِي: أَن يكون مَنْسُوخا.
1736 - / 2167 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ: قد تقدم فِي مُسْند عمر وَغَيره.(3/317)
(80) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي هُرَيْرَة الدوسي
وَاخْتلفُوا فِي اسْمه وَاسم أَبِيه على ثَمَانِيَة عشر قولا قد ذكرتها فِي كتاب ((التلقيح)) ، وأشهرها عبد شمس. وَكَانَت لَهُ فِي قديم أمره هرة صَغِيرَة فكني بهَا. وَقدم الْمَدِينَة سنة سبع وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَيْبَر، فَسَار إِلَى خَيْبَر حَتَّى قدم مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَمَا حفظ لأحد من الصَّحَابَة أَكثر من حَدِيثه؛ فَإِنَّهُ روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة آلَاف حَدِيث وثلثمائة وَأَرْبَعَة وَسبعين، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) سِتّمائَة وَتِسْعَة أَحَادِيث.
1737 - / 2168 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا رَأَيْت شَيْئا أشبه باللمم مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِن الله كتب على ابْن آدم حَظه من الزِّنَا أدْرك ذَلِك لَا محَالة)) .(3/318)
اللمم: مقاربة الْمعْصِيَة من غير مواقعة لَهَا. وَالْمرَاد بِالْحَدِيثِ أَن النّظر والنطق وشهوة النَّفس تقَارب الزِّنَا.
وَقَوله: ((أدْرك ذَلِك)) أَي قضي عَلَيْهِ، فَلَا بُد من إِصَابَة شَيْء من ذَلِك.
وَالزِّنَا مَقْصُور وَقد يمد. وَإِنَّمَا سمي النّظر زنا لِأَنَّهُ مُقَدّمَة ذَلِك.
وَقَوله: ((والفرج يصدق ذَلِك)) دَلِيل على أَن المتلوط زَان، وَأَنه يحد حد الزَّانِي.
1738 - / 2169 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: قَالَ ابْن عَبَّاس: قدم مُسَيْلمَة الْمَدِينَة، فَجعل يَقُول: إِن جعل لي مُحَمَّد الْأَمر من بعده تَبعته.
أما مُسَيْلمَة فاسمه ثُمَامَة بن قيس، وَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ رحمان، يسمونه باسمه الَّذِي يَدعِي أَنه يَأْتِيهِ. وَكَانَ مُسَيْلمَة قد خاصمه قومه لما ادّعى النُّبُوَّة، فَقَالَ: أَنا أُؤْمِن بِمُحَمد وَلَكِنِّي قد أشركت مَعَه فِي النُّبُوَّة، فكاتبه بَنو حنيفَة وأنزلوه حجرا، فَكتب ثُمَامَة بن أَثَال يخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن مُسَيْلمَة قد دَعَا إِلَى أمره، وَغلب على حجر، وَشهد لَهُ الرِّجَال بِأَنَّهُ قد أشرك فِي النُّبُوَّة، فأضل عَامَّة من كَانَ معي. ثمَّ قدم كتاب مُسَيْلمَة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ رجلَيْنِ يُقَال لَهما: عبد الله بن النواح وَعبد الله بن حُجَيْر، وَكَانَ فِي كِتَابه: أَن الأَرْض نصفهَا لنا وَنِصْفهَا لقريش، وَلَكِن قُريْشًا قوم لَا يعدلُونَ، ويدعوه فِي كِتَابه إِلَى الْمُقَاسَمَة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَوْلَا أَن الرُّسُل لَا تقتل لقتلتكما)) ثمَّ أجَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((من مُحَمَّد إِلَى مُسَيْلمَة الْكذَّاب، أما بعد فَإِن الأَرْض لله(3/319)
يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين. وَقد أهلكت أهل حجر، أقادك الله وَمن صوب مَعَك)) وَقدم مُسَيْلمَة الْمَدِينَة وَجرى لَهُ مَا ذكر فِي هَذَا الحَدِيث، ثمَّ توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتغوفل عَنهُ، فاستفحل أمره إِلَى أَن قَتله الله عز وَجل بيد وَحشِي الَّذِي قتل حَمْزَة.
وَكَانَ من قرآنه الَّذِي يَدعِي أَنه يُوحى إِلَيْهِ: ((وَاللَّيْل الأطخم. وَالذِّئْب الأدلم. والجزع الأزلم، مَا انتهكت أسيد من محرم)) ((وَاللَّيْل الدامس. وَالذِّئْب الهامس. مَا قطت أسيد من رطب وَلَا يَابِس)) ((وَالشَّاء وألوانها. وأعجبها السود وَأَلْبَانهَا. وَالشَّاة السَّوْدَاء. وَاللَّبن الْأَبْيَض، إِنَّه لعجب مَحْض. وَقد حرم المذق فَمَا لكم لَا تمجعون)) ((ضفدع بنت ضفدعين. نقي مَا تنقين. أعلاك فِي المَاء وأسفلك فِي الطين. لَا الشَّارِب تمنعين وَلَا المَاء تكدرين)) .
((والمندبات زرعا. والحاصدات حصدا. والذاريات قمحا. والطاحنات طحنا. والخابزات خبْزًا. والثاردات ثردا. واللاقمات لقما. إهالة وَسمنًا. لقد فضلْتُمْ على أهل الْوَبر. وَمَا سبقكم أهل الْمدر)) ، ((الْفِيل وَمَا أَدْرَاك مَا الْفِيل. لَهُ ذَنْب وثيل. وخرطوم طَوِيل)) .
وتمضمض يَوْمًا مُسَيْلمَة ورماه فِي بِئْر فغارت، وَمسح على رَأس صبي فقرع، ودعا لآخر فَعميَ، ودعا لآخر فَمَاتَ من يَوْمه، وَمسح(3/320)
ضرع نَاقَة لتدر فيبست أخلافها وَانْقطع درها.
وَأما الجريد فَهُوَ سعف النّخل، الْوَاحِدَة جَرِيدَة، وَسميت بذلك لِأَنَّهُ قد جرد مِنْهَا الخوص.
وَقَوله: ((ليَعْقِرنك)) أَي ليهلكنك.
وَقَوله: ((وَهَذَا ثَابت يجيبك عني)) كَانَ ثَابت بن قيس بن شماس خطيب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَكَلَّم عَنهُ، وَهَذَا لِأَن الْقَوْم ألفوا تشقيق الْكَلَام وإنشاد الشّعْر، وَكَانَ ثَابت للخطب، وَحسان للشعر. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على جَوَاز تشقيق الْكَلَام إِذا كَانَ صدقا وصحيحا.
وَأما الْعَنسِي فَهُوَ الْأسود، واسْمه عبهلة بن كَعْب، وَكَانَ يُقَال لَهُ ذُو الْخمار، يزْعم أَن الَّذِي يَأْتِيهِ ذُو خمار. وَأول ردة كَانَت فِي الْإِسْلَام بِالْيمن، على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على يَدي الْأسود الْعَنسِي، وَكَانَ الْأسود كَاهِنًا ومشعبذا، وَكَانَ يُرِيهم الْأَعَاجِيب، وَيَسْبِي الْقُلُوب بمنطقه، فكاتبته مذْحج، وواعدوه نَجْرَان، فَوَثَبُوا بهَا فأخرجوا عَمْرو بن حزم وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ، وأنزلوه منزلهما، وَصفا لَهُ ملك الْيمن، وَلم يقر برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا طَالبه أَتْبَاعه بِهَذَا، وَلم يكْتب إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَيْرُوز الديلمي فَقتله، فَأُوحي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، فَقَالَ: ((قتل الْأسود البارحة، قَتله رجل مبارك من أهل بَيت مباركين)) قيل: وَمن؟ قَالَ:(3/321)
((فَيْرُوز، فَازَ فَيْرُوز)) .
وَكَانَ قد ادّعى النُّبُوَّة أَيْضا طليحة بن خويلد فِي بني أَسد، وَكَانَ يُقَال لَهُ ذُو النُّون، بِأَن الَّذِي يَأْتِيهِ ذُو النُّون، وَاجْتمعت عَلَيْهِ الْعَرَب، وَأَرْسلُوا وفودا فعرضوا أَن يقيموا الصَّلَاة ويعفوا عَن الزَّكَاة، فَصَعدَ أَبُو بكر الْمِنْبَر، فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِن الله توكل بِهَذَا الْأَمر، فَهُوَ نَاصِر من لزمَه، وخاذل من تَركه، وَإنَّهُ بَلغنِي أَن وفودا من وُفُود الْعَرَب قدمُوا يعرضون الصَّلَاة ويأبون الزَّكَاة. أَلا وَإِنَّهُم لَو مَنَعُونِي عقَالًا مِمَّا أَعْطوهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ فرائضهم مَا قبلته مِنْهُم. أَلا بَرِئت الذِّمَّة من رجل من هَؤُلَاءِ الْوُفُود أَخذ بعد يَوْمه وَلَيْلَته بِالْمَدِينَةِ. فتواثبوا يتخطون رِقَاب النَّاس حَتَّى مَا بَقِي فِي الْمَسْجِد مِنْهُم أحد. ثمَّ دَعَا نَفرا فَأَمرهمْ بأَمْره، فَأمر عليا بِالْقيامِ على نقب من أنقاب الْمَدِينَة، وَأمر الزبير بِالْقيامِ على نقب آخر، وَأمر طَلْحَة بِالْقيامِ على نقب آخر، وَأمر عبد الله بن مَسْعُود بعسس مَا وَرَاء ذَلِك بِاللَّيْلِ والإرتباء نَهَارا. وجد فِي أمره، وَقَامَ على سَاق، وَخرج أَبُو بكر حَتَّى انْتهى إِلَى الربذَة، فلقي بني عبس وذبيان فَقَاتلهُمْ، فَهَزَمَهُمْ الله وفلهم، ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة فَقطع فِيهَا الْجنُود، وَعقد أحد عشر لِوَاء، [لِوَاء] مِنْهَا لخَالِد ابْن الْوَلِيد، وَأمره بطليحة بن خويلد فَإِذا فرغ مِنْهُ سَار إِلَى مَالك بن نُوَيْرَة، ولعكرمة وَأمره بمسيلمة، وللمهاجر بن أبي أُميَّة فَأمره بِجُنُود(3/322)
الْعَنسِي، ولخالد بن سعيد بن العَاصِي إِلَى مَشَارِق الشَّام، فَأَما طليحة فَإِنَّهُ عَاد إِلَى الْإِسْلَام، وَأما مُسَيْلمَة فَأَقَامَ على حَاله فَقتله الله تَعَالَى.
1739 - / 2170 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: ((أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي)) .
اعْلَم أَن صدق رَجَاء الْمُؤمن لفضل الله عز وَجل وجوده يُوجب حسن الظَّن بِهِ، وَلَيْسَ حسن الظَّن بِهِ مَا يَعْتَقِدهُ الْجُهَّال من الرَّجَاء مَعَ الْإِصْرَار على الْمعاصِي، وَإِنَّمَا مثلهم فِي ذَلِك كَمثل من رجا حصادا وَمَا زرع، أَو ولدا وَمَا نكح. وَإِنَّمَا الْعَارِف بِاللَّه عز وَجل يَتُوب ويرجو الْقبُول، ويطيع ويرجو الثَّوَاب. أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أخبرنَا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أَنبأَنَا عبد الْعَزِيز بن عَليّ قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُفِيد يَقُول: حَدثنَا الْحسن بن إِسْمَاعِيل قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الفِهري عَن أَبِيه عَن الْحسن قَالَ: إِن قوما ألهتهم أماني الْمَغْفِرَة حَتَّى خَرجُوا من الدُّنْيَا وَلَيْسَت لَهُم حَسَنَة، يَقُول: إِنِّي لحسن الظَّن بربي، وَكذب، لَو أحسن الظَّن بربه لأحسن الْعَمَل.
((وَأَنا مَعَه حِين يذكرنِي)) أَي بِالْحِفْظِ والحراسة وَحسن الْجَزَاء.
وَقَوله: ((ذكرته فِي ملإ خير مِنْهُم)) الْمَلأ: الْأَشْرَاف، وَالْمرَاد بهم الْمَلَائِكَة. وَبَاقِي الحَدِيث قد سبق فِي مُسْند أنس بن مَالك.(3/323)
1740 - / 2171 - والْحَدِيث الرَّابِع: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1741 - / 2172 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تضطرب أليات نسَاء دوس على ذِي الخلصة)) .
الأليات جمع ألية: وَهِي الْعَجز.
وَذُو الخلصة: بَيت كَانَ فِيهِ صنم يُقَال لَهُ الخلصة، وَكَانَ لدوس وخثعم، وَكَانَ يُسمى الْكَعْبَة اليمانية، فَبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جرير بن عبد الله لهدمه، وَعقد لَهُ لِوَاء، فهدمه، فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن النَّاس يعودون فِي آخر الزَّمَان إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان. وَإِنَّمَا ذكر اضْطِرَاب الأليات ليصف قُوَّة الْحِرْص على السَّعْي حول ذَلِك الصَّنَم الَّذِي كَانَ يعبد حَتَّى حرص النِّسَاء إِلَى أَن تضطرب أعضاؤهن لشدَّة الْحَرَكَة.
1742 - / 2174 - والْحَدِيث السَّابِع: قد تقدم فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة.
1743 - / 2715 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ((مَا من مَوْلُود يُولد إِلَّا نخسه الشَّيْطَان، فَيَسْتَهِل صَارِخًا)) .
الإستهلال: رفع الصَّوْت.(3/324)
والنخس بالشَّيْء المحدد كرؤوس الْأَصَابِع.
والحجاب هَاهُنَا المشيمة.
وَقَوله: ((نزغة من الشَّيْطَان)) أَي قصد للْفَسَاد.
1744 - / 2176 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: ((ليوشكن أَن ينزل ابْن مَرْيَم حكما مقسطا، فيكسر الصَّلِيب، وَيقتل الْخِنْزِير، وَيَضَع الْجِزْيَة)) .
الوشيك: الْقَرِيب. وَأَرَادَ قرب ذَلِك الْأَمر.
وَالْحكم: الْحَاكِم. والمقسط: الْعَادِل. يُقَال: أقسط فَهُوَ مقسط: إِذا عدل، وقسط فَهُوَ قاسط: إِذا جَار.
وَفِي قَوْله: ((وَيَضَع الْجِزْيَة)) قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه يحمل النَّاس على دين الْإِسْلَام، وَلَا يبْقى أحد تجْرِي عَلَيْهِ الْجِزْيَة. وَالثَّانِي: أَنه لَا يبْقى فِي النَّاس فَقير يحْتَاج إِلَى المَال، وَإِنَّمَا تُؤْخَذ الْجِزْيَة فتصرف فِي الْمصَالح، فَإِذا لم يبْق للدّين خصم عدمت الْوُجُوه الَّتِي تصرف فِيهَا الْجِزْيَة فَسَقَطت. ذكر الْقَوْلَيْنِ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ. وَيحْتَمل وَجها ثَالِثا: وَهُوَ أَنه يضْرب الْجِزْيَة على من يدين بدين النَّصَارَى كَمَا هِيَ الْيَوْم، وَذَلِكَ لِأَن شَرعه نسخ، فَلَمَّا نزل اسْتعْمل شرعنا، وَمن شرعنا ضرب الْجِزْيَة وَقتل الْخِنْزِير.
وَقَوله: ((حَتَّى تكون السَّجْدَة الْوَاحِدَة خيرا من الدُّنْيَا)) كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى(3/325)
صَلَاح النَّاس، وَإِيمَانهمْ، وإقبالهم على الْخَيْر، فهم لذَلِك يؤثرون الرَّكْعَة على الدُّنْيَا، وَلذَلِك قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: اقْرَءُوا إِن شِئْتُم: {وَإِن من أهل الْكتاب إِلَّا ليُؤْمِنن بِهِ قبل مَوته وَيَوْم الْقِيَامَة يكون عَلَيْهِم شَهِيدا} [النِّسَاء: 159] وَيدل على صَلَاح النَّاس عِنْد نزُول عِيسَى قَوْله: ((وَتذهب الشحناء والتباغض)) .
وَأما قَوْله: ((وإمامكم مِنْكُم)) فقد سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله أَنه: ((إِذا نزل عِيسَى قَالَ أَمِير النَّاس: صل لنا، فَيَقُول: لَا، إِن بَعْضكُم على بعض أُمَرَاء)) . وَهَذَا معنى قَوْله: ((فأمكم مِنْكُم)) أَي وَاحِد مِنْكُم. وَفِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن أبي ذِئْب تَفْسِير آخر، فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ: أمكُم بِكِتَاب الله وَسنة نبيه. وَمَا ذكرنَا فِي حَدِيث جَابر يبطل هَذَا التَّأْوِيل.
والقلاص جمع قلُوص: وَهِي الْأُنْثَى من الْإِبِل، وَقيل: القلوص: الْبَاقِيَة على السّير من النوق.
وَقَوله: ((لَا يسْعَى عَلَيْهَا)) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: يسْتَغْنى عَن رعيها لِكَثْرَة المَال. وَالثَّانِي: لَا يسْعَى عَلَيْهَا إِلَى جِهَاد لإسلام النَّاس.
1745 - / 2187 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: ((يتقارب الزَّمَان، وَينْقص الْعلم)) .
فِي معنى تقَارب الزَّمَان أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه قرب الْقِيَامَة،(3/326)
وَالْمعْنَى: إِذا قربت الْقِيَامَة كَانَ من أشراطها الشُّح والهرج. وَالثَّانِي: قصر مُدَّة الْأَزْمِنَة كَمَا جرت بِهِ الْعَادة، وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيث آخر: ((يتقارب الزَّمَان حَتَّى تكون السّنة كالشهر، والشهر كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَة كَالْيَوْمِ)) . وَالثَّالِث: أَنه قصر الْأَعْمَار. وَالرَّابِع: أَنه تقَارب أَحْوَال النَّاس فِي غَلَبَة الْفساد عَلَيْهِم، فَيكون الْمَعْنى: يتقارب أهل الزَّمَان: أَي تتقارب صفاتهم فِي القبائح، وَلِهَذَا ذكر على إثره: الْهَرج وَالشح.
وَأما نقص الْعلم وَقَبضه فقد سبق بَيَانه فِي مُسْند أنس.
وَقَوله: ((يلقى الشُّح)) على وَجْهَيْن: أَحدهمَا يلقى من الْقُلُوب، يدل عَلَيْهِ قَوْله: ((وَيفِيض المَال)) . وَالثَّانِي: يلقى فِي الْقُلُوب فَيُوضَع فِي قلب من لَا شح عِنْده، وَيزِيد فِي قلب الشحيح. وَوجه هَذَا أَن الحَدِيث خَارج مخرج الذَّم، فوقوع الشُّح فِي الْقُلُوب مَعَ كَثْرَة المَال أبلغ فِي الذَّم. قَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي: وَقد رَأَيْت من يمِيل إِلَى أَن لفظ الحَدِيث يلقى بتَشْديد الْقَاف، وَالْمعْنَى: يتلَقَّى ويتعلم ويتواصى بِهِ. وَقد سبق تَفْسِير الشُّح فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
والهرج: الْقَتْل.
والدجال: الْكذَّاب.(3/327)
وفيض المَال: كثرته.
والأرب: الْحَاجة.
والمروج جمع مرج. قَالَ ابْن فَارس: المرج: أَرض ذَات نَبَات تمرج فِيهَا الدَّوَابّ.
1746 - / 2178 - والْحَدِيث الْحَادِي عشر: قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
1747 - / 2179 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقاتلوا قوما نعَالهمْ الشّعْر)) .
هَذَا شعار للترك، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي: هم البربر.
وَأما المجان فَجمع مجن: وَهُوَ الترس. قَالَ أَبُو عبيد: والمطرقة: الَّتِي أطرقت بالجلود والعقب: أَي ألبست، وَكَذَلِكَ النَّعْل المطرقة: هِيَ الَّتِي قد أطبقت عَلَيْهَا أُخْرَى. شبه عرض وُجُوههم ونتو جباههم بِظُهُور الترسة الَّتِي قد ألبست الأطرقة.
وَقَوله: ((ذلف الأنوف)) : الذلف: قصر الْأنف وانبطاحه. وَقَالَ الزّجاج: قصر الْأنف وصغره. يُقَال: امْرَأَة ذلفاء: إِذا كَانَت كَذَلِك. والفطس انفراش الْأنف وطمأنينة وَسطه.(3/328)
والبارز: مَوضِع.
وَقَوله: ((تَجِدُونَ خير النَّاس أَشَّدهم كَرَاهِيَة لهَذَا الْأَمر)) كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى الولايات.
وَقَوله: ((النَّاس معادن)) الْإِشَارَة إِلَى أصل الْموضع، فمعدن الذَّهَب ينْبت الذَّهَب، ومعدن القار والنفط لَا يَجِيء مِنْهُ إِلَّا ذَلِك، ويوضح هَذَا قَوْله: ((خيارهم فِي الْجَاهِلِيَّة خيارهم فِي الْإِسْلَام)) الْمَعْنى أَن الأَصْل الْجيد فِي الْجَاهِلِيَّة يزِيدهُ الْإِسْلَام جودة.
وَقَوله: ((وليأتين على أحدكُم زمَان لِأَن يراني)) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون خطابا للصحابة، يتمنون بعد عَدمه رُؤْيَته، إِمَّا للشوق إِلَيْهِ، أَو لظُهُور الْفِتَن، وَالثَّانِي: أَن يكون للتابعين وَمن بعدهمْ، فَيكون قَوْله: ((أحدكُم)) أَي أحد أمتِي. وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنه قَالَ: ((من أَشد أمتِي حبا لي نَاس يكونُونَ بعدِي، يود أحدهم لَو رَآنِي بأَهْله وَمَاله)) .
1748 - / 2180 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((لَا يلْدغ الْمُؤمن من جُحر مرَّتَيْنِ)) .
يرْوى بِضَم الْغَيْن على معنى الْخَبَر، وبكسرها على معنى الْأَمر.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هُوَ لفظ خبر وَمَعْنَاهُ الْأَمر، يَقُول: ليكن الْمُؤمن(3/329)
حازما حذرا، لَا يُؤْتى من نَاحيَة الْغَفْلَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا.
1749 - / 2181 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ((أَيّمَا مُؤمن سببته أَو جلدته فَاجْعَلْ ذَلِك لَهُ قربَة إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة)) .
فَإِن قيل: جَمِيع أَفعَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغَضَب وَالرِّضَا حق وصواب، فَلم اعتذر عَن مثل هَذِه الْأَشْيَاء؟ فَالْجَوَاب: أَن هَذَا الإعتذار من فعل شَيْء غَيره أولى مِنْهُ، فَإِن الْعَفو فِي الْغَالِب أولى من الْعقُوبَة.
1750 - / 2182 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: فَقَامَ عكاشة يجر نمرة.
النمرة: كسَاء ملون.
والْحَدِيث قد تقدم فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
1751 - / 2183 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((إِن لله مائَة رَحْمَة، أنزل مِنْهَا رَحْمَة وَاحِدَة بَين الْجِنّ وَالْإِنْس والبهائم والهوام، فبها يتعطافون، وَبهَا يتراحمون، وَبهَا تعطف الْوَحْش على أَوْلَادهَا، وَأخر تسعا وَتِسْعين رَحْمَة يرحم بهَا عباده يَوْم الْقِيَامَة)) .
اعْلَم أَن رَحْمَة الله عز وَجل صفة من صِفَات ذَاته وَلَيْسَت على معنى(3/330)
الرقة كَمَا فِي صِفَات بني آدم، وَإِنَّمَا ضرب مثلا بِمَا يعقل من ذكر الْأَجْزَاء أَو رَحْمَة المخلوقين، وَالْمرَاد أَنه أرْحم الرَّاحِمِينَ.
1752 - / 2184 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: قَالَ ابْن الْمسيب: الْبحيرَة الَّتِي يمْنَع درها للطواغيت فَلَا يحلبها أحد من النَّاس.
والسائبة: مَا يسيبونها لآلهتهم لَا يحمل عَلَيْهَا شَيْء. قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((رَأَيْت عَمْرو بن عَامر الْخُزَاعِيّ يجر قصبه فِي النَّار، كَانَ أول من سيب السوائب)) .
الْبحيرَة: هِيَ الْأُنْثَى تلدها النَّاقة بعد أَرْبَعَة أبطن. وَقيل: بعد عشرَة أبطن، كَانُوا يشقون أذنها وتخلى.
وَاخْتلفُوا فِي السائبة، فَقيل: هِيَ النَّاقة، كَانَت إِذا نتجت عشرَة أبطن كُلهنَّ إناث سيبت فَلم تركب وَلم يجز لَهَا وبر، وَلم يشرب لَبنهَا إِلَّا ضيف. وَقيل: السائبة مَا كَانُوا يخرجونه من أَمْوَالهم فَيَأْتُونَ بِهِ خَزَنَة الْآلهَة فيطعمون ابْن السَّبِيل من ألبانه ولحومه.
عَمْرو وَهَذَا هُوَ أَبُو خُزَاعَة وَفِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح: ((رَأَيْت عَمْرو بن لحي بن قمعة بن خندف أَخا بني كَعْب وَهُوَ يجر قصبه فِي النَّار)) وَقد روينَا أَنه عَمْرو بن عَامر، فأظن لحيا لقب لعامر. وقمعة(3/331)
بِفَتْح الْقَاف وَالْمِيم، كَذَلِك ضبط فِي نسب الزبير بن بكار.
والقصب: المعى.
وَقَوله: ((كَانَ أول من سيب السوائب)) أَي أول من ابتدع هَذَا وَجعله دينا.
1753 - / 2185 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((قلب الشَّيْخ شَاب على حب اثْنَتَيْنِ: طول الْحَيَاة وَحب المَال)) .
قد سبق بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أنس، وَقُلْنَا: إِن أحب الْأَشْيَاء إِلَى الْإِنْسَان نَفسه، فَمَا تزَال محبته لَهَا تقوى، خُصُوصا إِذا أَيقَن بِقرب الرحيل، ثمَّ إِنَّه يحب مَا هُوَ سَبَب قوامها وَهُوَ المَال، لموْضِع محبته إِيَّاهَا.
1754 - / 2186 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: شَهِدنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَيْبَر، فَقَالَ لرجل مِمَّن يَدعِي الْإِسْلَام: ((هَذَا من أهل النَّار)) فَذكر مثل حَدِيث سهل بن سعد الْمُتَقَدّم فِي مُسْنده، وَقَالَ فِيهِ: ((إِن الله يُؤَيّد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر)) .
قد ذكرنَا خبر ذَلِك الرجل فِي مُسْند سهل، وَبينا أَن اسْم الرجل قزمان، وَأَن ذَلِك كَانَ يَوْم أحد. وَيُمكن أَن يكون قد جرى مثل هَذَا لآخر يَوْم خَيْبَر، وَالله أعلم.(3/332)
1755 - / 2187 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: ((نعما للمملوك يحسن عبَادَة ربه وصحابة سَيّده)) .
فِي نعم أَربع لُغَات: نعم بِفَتْح النُّون وَكسر الْعين مثل علم. وَنعم بكسرهما. وَنعم بِفَتْح النُّون وتسكين الْعين. وَنعم بِكَسْر النُّون وتسكين الْعين. قَالَ الزّجاج: و ((مَا)) فِي تَأْوِيل الشَّيْء، وَالْمعْنَى: نعم الشَّيْء.
1756 - / 2188 - وَقد سبق الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ.
1757 - / 2189 - وَالثَّانِي وَالْعشْرُونَ، وَفِيه فِي صفة مُوسَى: أَنه مُضْطَرب، رجل الرَّأْس. وَقد ذكرنَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله فِي صفة مُوسَى أَنه ضرب من الرِّجَال: وَهُوَ الْخَفِيف الْجِسْم، وَكَأن هَذَا إِشَارَة إِلَى ذَاك.
وَأما الرجل فَهُوَ الَّذِي فِي شعره سهولة.
وَفِي صفة عِيسَى: كَأَنَّمَا خرج من ديماس. وَقد فسر فِي الحَدِيث أَنه الْحمام. وَقَالَ الْخطابِيّ: الديماس: السرب. يُقَال: دمست(3/333)
الرجل: إِذا قبرته، وَأَرَادَ أَنه من نَضرة وَجهه وَحسنه كَأَنَّهُ خرج من كن.
1758 - / 2190 - والْحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ قد سبق فِي مُسْند عمر.
1759 - / 2191 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((قَاتل الله الْيَهُود، اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد)) .
قَاتل بِمَعْنى لعن، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: قَتلهمْ الله.
وَهَذَا قَالَه قبل مَوته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِئَلَّا يتَّخذ قَبره مَسْجِدا. وَقد تقدم بَيَان مثل هَذَا، وَأَن الْقُبُور لَا يَنْبَغِي أَن تعظم، إِنَّمَا تحترم بكف الْأَذَى عَنْهَا.
والعوام الْيَوْم مغرون بتعظيمها وَالصَّلَاة عِنْدهَا.
1760 - / 2192 - والْحَدِيث الْخَامِس وَالْعشْرُونَ: فِيهِ ذكر ذِي السويقتين. وَقد سبق هَذَا، وَبينا أَنه إِنَّمَا صغرهما لدقتهما، وَفِي سوق الْحَبَشَة دقة.
1761 - / 2193 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: ((الْحلف منفقة(3/334)
للسلعة، ممحقة للكسب)) .
المُرَاد بِالْحلف هَا هُنَا الْيَمين الْفَاجِرَة، فَإِن السّلْعَة تنْفق بهَا: أَي تخرج. وَالْكَسْب لموْضِع الْغرُور وَالْكذب يمحق.
1762 - / 2194 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: ((إِنَّمَا يُسَافر إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد: الْكَعْبَة، ومسجدي، وَمَسْجِد إيلياء)) .
وَقد تقدم هَذَا فِي مُسْند أبي سعيد.
وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ: إيلياء: بَيت الْمُقَدّس، وَهُوَ مُعرب، قَالَ الفرزدق:
(وبيتان بَيت الله نَحن ولاته ... وَبَيت بِأَعْلَى إيلياء مشرف)
1763 - / 2195 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: ((كل عمل ابْن آدم لَهُ إِلَّا الصَّوْم)) .
وَقد شرحناه فِي مُسْند أبي سعيد. إِلَّا أَن فِي هَذَا الحَدِيث: ((الصَّوْم جنَّة)) وَفِيه وَجْهَان: أَحدهمَا: جنَّة من الْمعاصِي. وَالثَّانِي: من النَّار.
وَقَوله: ((فَلَا يرْفث)) الرَّفَث: الْكَلَام الْقَبِيح، والصخب، وَرفع الصَّوْت عِنْد الْغَضَب بالْكلَام السيء.(3/335)
وَفِي قَوْله: ((فَلْيقل إِنِّي صَائِم)) وَجْهَان: أَحدهمَا: فَلْيقل لِسَانه ليمتنع الشاتم من شَتمه إِذا علم أَنه معتصم بِالصَّوْمِ. وَالثَّانِي: فَلْيقل لنَفسِهِ أَنا صَائِم فَكيف أُجِيب من يجهل؟
1764 - / 2196 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: ((لَيْسَ الشَّديد بالصرعة)) .
الصرعة بِفَتْح الرَّاء: الَّذِي يصرع الرِّجَال. وبسكونها: الَّذِي يصرعونه، قَالَه أَبُو عبيد. فَأخْبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَيْسَ الْعجب فِي قُوَّة الْبدن، إِنَّمَا الْعجب فِي قُوَّة النَّفس، فَاعْتبر قُوَّة الْمَعْنى دون الصُّورَة، وأنشدوا فِي هَذَا الْمَعْنى:
(لَيْسَ الشجاع الَّذِي يحمي كتيبته ... يَوْم النزال ونار الْحَرْب تشتعل)
(لَكِن فَتى غض طرفا أَو ثنى بصرا ... عَن الْحَرَام، فَذَاك الْفَارِس البطل)
1765 - / 2197 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: أَن عمر قَالَ: صلى رجل فِي تبان وقباء، فِي تبان ورداء.
التبَّان: سَرَاوِيل إِلَى نصف الْفَخْذ يلبسهَا الفرسان والمصارعون.
والقباء مَمْدُود: وَهُوَ ثوب مفرج يجمع فرجه بخيط. وَقد تقدم ذكره فِي مُسْند ابْن عمر. والرداء مَعْرُوف.(3/336)
1766 - / 2198 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1767 - / 2200 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا اقْترب الزَّمَان لم تكد رُؤْيا الْمُؤمن تكذب)) .
فِي اقتراب الزَّمَان ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه قرب الْقِيَامَة.
وَالثَّانِي: أَنه تقَارب زمَان اللَّيْل وَالنَّهَار وَقت استوائهما أَيَّام الرّبيع أَو الخريف، وَذَلِكَ وَقت تعتدل فِيهِ الأمزجة، فَحِينَئِذٍ تكون الرُّؤْيَا سليمَة فِي الْغَالِب من الأخلاط. وَالثَّالِث: أَنه زمَان التكهل؛ لِأَن الكهل قد بعد عَنهُ تخايل الظنون الْفَاسِدَة، وركدت عِنْده نوازع الشَّهَوَات، فَكَانَت نَفسه أقبل لمشاهدة الْغَيْب، وَمن هَذَا الْبَاب قَوْله: ((أصدقكم رُؤْيا أصدقكم حَدِيثا)) .
وَقَوله: ((جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا)) قد تقدم فِي مُسْند عبَادَة بن الصَّامِت.
قَوْله: ((حَدِيث النَّفس)) مَعْنَاهُ أَن الْإِنْسَان يكثر حَدِيث نَفسه بِشَيْء فيراه فِي الْمَنَام، وَقد يرِيه الشَّيْطَان مَا يحزنهُ كَمَا ذكرنَا أَن رجلا رأى(3/337)
كَأَن رَأسه ضرب فَوَقع، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا يحدثن أحدكُم بتلاعب الشَّيْطَان بِهِ)) وَمثل هَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يقصه على أحد.
وَقَوله فِي هَذَا الحَدِيث: وَكَانَ يكره الغل فِي النّوم، وَيُعْجِبهُ الْقَيْد، هَذَا من كَلَام أبي هُرَيْرَة أدرج فِي الحَدِيث فيتوهم أَنه مَرْفُوع، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَقد بَينه معمر بن رَاشد فِي رِوَايَته عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين. وَبَعْضهمْ ينْسبهُ إِلَى ابْن سِيرِين.
1768 - / 2201 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((لَا فرع وَلَا عتيرة)) وَقد فسر فِي الحَدِيث.
وَقَالَ أَبُو عبيد: الْفَرْع والفرعة: أول ولد تلده النَّاقة، وَكَانُوا يذبحونه لآلهتهم فنهوا عَنهُ. وَأما العتيرة: فَإِنَّهَا الرجبية: وَهِي ذَبِيحَة كَانَت تذبح فِي رَجَب يتَقرَّب بهَا أهل الْجَاهِلِيَّة، ثمَّ جَاءَ الْإِسْلَام، وَكَانَ على ذَلِك حَتَّى نسخ بعد. وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((إِن على كل مُسلم فِي كل عَام أضحاة وعتيرة)) . يُقَال مِنْهُ: عترت أعتر عترا.(3/338)
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: سميت عتيرة لِأَنَّهَا تعتر: أَي تذبح.
وَأما الطواغيت فَجمع طاغوت، والطاغوت اسْم مَأْخُوذ من الطغيان، والطغيان مجاوز الْحَد، وَالْمرَاد بِالطَّوَاغِيتِ: آلِهَتهم.
1769 - / 2202 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ((يتركون الْمَدِينَة على خير مَا كَانَت، لَا يَغْشَاهَا إِلَّا العوافي)) وَفِي لفظ: ((ليتركنها مذللة للعوافي)) .
العوافي: عوافي الوحوش وَالطير وَالسِّبَاع، اجْتمع فِيهَا شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا طالبة لأقواتها، من قَوْلك: عَفَوْت فلَانا أعفوه فَأَنا عاف، وَالْجمع عفاة: إِذا أَتَوْهُ يطْلبُونَ معروفه. وَالثَّانِي: طلبَهَا للعفاء: وَهُوَ الْموضع الْخَالِي الَّذِي لَا أنيس بِهِ وَلَا ملك عَلَيْهِ.
وَقَوله: ((مذللة)) : أَي مُمكنَة للعوافي غير ممتنعة عَلَيْهَا لخلو الْمَكَان وَذَهَاب أَهله عَنهُ.
وَقَوله: ((راعيان ينعقان)) النعيق: زجر الْغنم، يُقَال: نعق بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعقا ونعقانا، وَكسر الْعين من ينعق مسموع من أَكثر الْعَرَب، وَمِنْهُم من يفتحها وَهُوَ كثير فِي كَلَامهم؛ لأَنهم يَقُولُونَ يَجْعَل ويرغب.
وَقَوله: ((فيجدانها وحوشا)) الْوَاو مَفْتُوحَة، وَالْمعْنَى أَنَّهَا خَالِيَة.(3/339)
1770 - / 2203 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: ((لَو رَأَيْت الظباء بِالْمَدِينَةِ ترتع مَا ذعرتها)) .
الذعر: الْفَزع. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
1771 - / 2204 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: اقْتتلَتْ امْرَأَتَانِ من هُذَيْل، فرمت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بِحجر فقتلتها وَمَا فِي بَطنهَا، فَقضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن دِيَة جَنِينهَا غرَّة: عبد أَو وليدة، وَقضى بدية الْمَرْأَة على عاقلتها. فَقَالَ حمل بن النَّابِغَة: يَا رَسُول الله، كَيفَ أغرم من لَا شرب وَلَا أكل، وَلَا نطق وَلَا اسْتهلّ، فَمثل ذَلِك يطلّ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((إِنَّمَا هَذَا من إخْوَان الْكُهَّان)) من أجل سجعه الَّذِي سجع.
قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ اسْم إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ مليكَة وَالْأُخْرَى عطيف.
وَقَالَ أَبُو عبيد: الْغرَّة: عبد أَو أمة، قَالَ مهلهل:
(كل قَتِيل فِي كُلَيْب غره ... حَتَّى ينَال الْقَتْل آل مره)
أَي كلهم لَيْسَ بكفؤ لكليب، إِنَّمَا هم بِمَنْزِلَة العبيد وَالْإِمَاء إِن(3/340)
قَتلتهمْ حَتَّى أقتل آل مرّة فَإِنَّهُم الْأَكفاء.
وَاعْلَم أَنه عَنى بالغرة الْجِسْم كُله، كَمَا يُقَال رَقَبَة. وَقد أَنبأَنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي قَالَ: أخبرنَا ابْن النقور قَالَ: أَنبأَنَا المخلص قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد السكرِي قَالَ: حَدثنَا أَبُو يعلى الْمنْقري قَالَ: حَدثنَا الْأَصْمَعِي قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء فِي قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((فِي الْجَنِين غرَّة عبد أَو أمة)) لَوْلَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بالغرة معنى لقَالَ: فِي الْجَنِين عبد أَو أمة، وَلكنه عَنى الْبيَاض، فَلَا يقبل فِي الدِّيَة إِلَّا غُلَام أَبيض. قلت: وَهَذَا الَّذِي ذهب إِلَيْهِ لَا أعرفهُ مذهبا لأحد من الْفُقَهَاء، وَإِنَّمَا قَالَ بَعضهم: هَذَا مُسْتَحبّ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: فسر الْفُقَهَاء الْغرَّة بالنسمة من الرَّقِيق عبد أَو أمة، فقوموها نصف عشر دِيَة الْجَنِين.
وَمعنى الإستهلال: رفع الصَّوْت.
ويطل: يهدر، من قَوْلك طل دم الرجل يطلّ طلا. وَقد رَوَوْهُ: بَطل بِالْبَاء، وَالْأولَى أولى.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَلم يعبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله لأجل السجع(3/341)
نَفسه، فقد يُوجد فِي تضاعيف كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَا يخفى، كَقَوْلِه للْأَنْصَار: ((إِنَّكُم تقلون عِنْد الطمع، وتكثرون عِنْد الْفَزع)) وَقَوله: ((خير المَال سكَّة مأبورة ومهرة مأمورة)) . وَقَوله: ((يَا أَبَا عُمَيْر، مَا فعل النغير)) وَقَوله: ((أعوذ بك من علم لَا ينفع، وَقَول لَا يسمع، وقلب لَا يخشع، وَنَفس لَا تشبع، أعوذ بك من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَع)) وَلكنه إِنَّمَا عَابَ مِنْهُ رده الحكم وترتيبه القَوْل فِيهِ بالسجع على مَذْهَب الْكُهَّان، فِي ترويج أباطيلهم بالأساجيع الَّتِي يولعون بهَا، فيوهمون النَّاس أَن تحتهَا طائلا.
1772 - / 2205 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا قلت لصاحبك: أنصت، يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فقد لغوت)) .
اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد: هَل يحرم الْكَلَام حَال سَماع الْخطْبَة على رِوَايَتَيْنِ، وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ، فَإِن قُلْنَا: يحرم، فلظاهر هَذَا الحَدِيث، وَإِن قُلْنَا: لَا يحرم حمل هَذَا على الْأَدَب. واللغو: مَا(3/342)
لَا فَائِدَة فِيهِ.
1773 - / 2206 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((حج مبرور)) وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر أَنه قَالَ: ((الْحَج المبرور لَيْسَ لَهُ ثَوَاب دون الْجنَّة)) قيل: مَا بره؟ فَقَالَ: ((العج والثج)) والعج: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. والثج: نحر الْإِبِل وَغَيرهَا، وَأَن يثج دَمهَا: وَهُوَ سيلان الدَّم، فعلى هَذَا يكون معنى المبرور الَّذِي قد أُقِيمَت فروضه وسننه.
وَفِي حَدِيث جَابر: قيل: يَا رَسُول الله، مَا بر الْحَج؟ قَالَ: ((إطْعَام الطَّعَام، وإفشاء السَّلَام)) فَيكون المُرَاد على هَذَا فعل الْبر فِي الْحَج.
وَقيل: المبرور: المقبول.
1774 - / 2207 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: ((لَا يَمُوت لأحد من الْمُسلمين ثَلَاثَة من الْوَلَد فَتَمَسهُ النَّار إِلَّا تَحِلَّة الْقسم)) .
تَحِلَّة الْقسم إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن مِنْكُم إِلَّا واردها} [مَرْيَم: 71] .
وَقَوله: ((فتحتسبه)) أَي يكون هَذَا فِي حِسَابهَا الَّذِي ترجوه فِي(3/343)
ثَوَابهَا، وَهَذَا لَا يكون إِلَّا من مُؤمن بالجزاء.
والحنث: الْحلم. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أنس.
والإحتظار: الإمتناع. والحظار: مَا منع من وُصُول مَكْرُوه إِلَى من فِيهِ، وَأَصله الحظيرة الَّتِي يحظر بهَا على الْغنم وَغَيرهَا.
والدعاميص جمع دعموص: وَهُوَ دويبة من دَوَاب المَاء صَغِيرَة تضرب إِلَى السوَاد، كَأَنَّهُ شبههم بهَا فِي الصغر وَسُرْعَة الْحَرَكَة. وَقَالَ المرزباني: الدعموص: دويدة صَغِيرَة تكون فِي المَاء، وَأنْشد:
(إِذا التقى البحران عَم الدعموص ... فعي أَن يسبح أَو يغوص)
وصنفة الثَّوْب: حَاشِيَته الَّتِي فِيهَا الهدب.
1775 - / 2208 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: ((هَل فِي إبلك أَوْرَق؟)) .
الأورق: المغبر الَّذِي لَيْسَ بناصع الْبيَاض كلون الرماد، وَسميت الْحَمَامَة وَرْقَاء لذَلِك.
وَقَوله: ((عَسى أَن يكون نَزعه عرق)) يُقَال: نزع إِلَيْهِ فِي الشّبَه: إِذا أشبهه. والعرق: الأَصْل، كَأَنَّهُ نزع فِي الشّبَه إِلَى أجداده من جِهَة الْأَب أَو الْأُم.
وَفِي هَذَا الحَدِيث حكم الْفراش على اعْتِبَار الشّبَه. وَفِيه زجر عَن تَحْقِيق ظن السوء.
1776 - / 2209 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: ((لَا تسموا الْعِنَب(3/344)
الْكَرم؛ فَإِن الْكَرم الْمُسلم)) .
قد علم اشتهار الْعِنَب عِنْد الْعَرَب بِهَذَا الإسم، وَقد أكثرت شعراؤهم فِي هَذَا، فَقَالَ بَعضهم:
(إِذا مت فادفني إِلَى جنب كرمة ... تروي عِظَامِي بعد موتِي عروقها)
وَإِنَّمَا كَانُوا يسمونها كرما لما يدعونَ من إحداثها فِي قُلُوب شاربيها من الْكَرم، فَنهى عَلَيْهِ السَّلَام عَن تَسْمِيَتهَا بِهَذَا الإسم الَّذِي يشيرون إِلَى فَضلهَا، تَأْكِيدًا لتحريمها، وَقَالَ: ((إِنَّمَا الْكَرم قلب الْمُؤمن)) يُشِير بذلك إِلَى مَا فِيهِ من نور الْإِيمَان وبركات التقى.
1777 - / 2210 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: مر عمر فِي الْمَسْجِد وَحسان ينشد، فلحظ إِلَيْهِ: أَي نظر إِلَيْهِ نظر الْمُنكر عَلَيْهِ.
وروح الْقُدس: جِبْرِيل. وَفِي الْقُدس ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الله عز وَجل، قَالَه كَعْب وَالربيع وَابْن زيد والمفضل بن سَلمَة، فَيكون الْمَعْنى: أَن جِبْرِيل روح الله، كَمَا سمي بذلك عِيسَى. وَالثَّانِي: أَن الْقُدس الْبركَة، قَالَه السّديّ. وَالثَّالِث: أَن الْقُدس الطَّهَارَة، فَكَأَنَّهُ روح الطَّهَارَة وخالصها، فشرف بِهَذَا الإسم وَإِن كَانَ جَمِيع الْمَلَائِكَة(3/345)
روحانيين. وَقيل: إِنَّمَا سمي روحا لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْبَيَانِ عَن الله عز وَجل فتحيا بِهِ الْأَرْوَاح.
وَقد ذكرنَا حكم الشّعْر فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص وَابْن عمر وَغَيرهمَا.
1778 - / 2211 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: بَينا الْحَبَشَة يَلْعَبُونَ عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِحِرَابِهِمْ دخل عمر فَأَهوى إِلَى الْحَصْبَاء، فحصبهم بهَا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((دعهم يَا عمر)) وَإِنَّمَا حصبهم عمر لِأَنَّهُ رأى ذَلِك عَبَثا. وَإِنَّمَا نَهَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن كل شَيْء يحْتَاج إِلَى المناضلة بِهِ فِي الْحَرْب يجوز اللّعب بِهِ فِي غير الْحَرْب ليتمرن عَلَيْهِ ويتدرج إِلَى تعلمه لأجل الْحَرْب، كالرمي بِالسِّهَامِ والحراب والمسابقة بِالْخَيْلِ.
1779 - / 2212 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: ((قَالَ الله تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْن آدم، يسب الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر)) .
كَانَت الْعَرَب إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة يسبون الدَّهْر، وَيَقُولُونَ عِنْد ذكر موتاهم. أبادهم الدَّهْر، ينسبون ذَلِك إِلَيْهِ، ويرونه الْفَاعِل لهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَلَا يرونها من قَضَاء الله عز وَجل، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا نموت ونحيا وَمَا يُهْلِكنَا إِلَّا الدَّهْر} [الجاثية: 24] .
وَقَالَ عَمْرو بن قميئة:(3/346)
(رمتني بَنَات الدَّهْر من حَيْثُ لَا أرى ... فَكيف بِمن يَرْمِي وَلَيْسَ برامي)
(فَلَو أَنَّهَا نبل إِذن لاتقيتها ... ولكنما أرمى بِغَيْر سِهَام)
(على الراحتين مرّة وعَلى الْعَصَا ... أنوء ثَلَاثًا بعدهن قيامي)
وَقَالَ آخر:
(واستأثر الدَّهْر الْغَدَاة بهم ... والدهر يرميني وَمَا أرمي)
(يَا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت فِي الْعظم)
(وسلبتنا مَا لست تعقبنا ... يَا دهر مَا أنصفت فِي الحكم)
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا تسبوا الدَّهْر؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر)) أَي هُوَ الَّذِي يُصِيبكُم بِهَذِهِ المصائب، فَإِذا سببتم فاعلها فكأنكم قصدتم الْخَالِق، وَكَانَ أَبُو بكر بن دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ يروي هَذَا الحَدِيث: ((وَأَنا الدَّهْر)) مَفْتُوحَة الرَّاء مَنْصُوبَة على الظَّرْفِيَّة: أَي أَنا طول الدَّهْر بيَدي الْأَمر، وَكَانَ يَقُول: لَو كَانَ مضموما لصار اسْما من أَسمَاء الله عز وَجل.
وَهَذَا الَّذِي ذهب إِلَيْهِ بَاطِل من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه خلاف أهل النَّقْل، فَإِن الْمُحدثين الْمُحَقِّقين لم يضبطوا هَذِه اللَّفْظَة إِلَّا بِضَم الرَّاء، وَلم يكن ابْن دَاوُد من الْحفاظ وَلَا من عُلَمَاء النقلَة. وَالثَّانِي:(3/347)
أَن هَذَا الحَدِيث قد ورد بِأَلْفَاظ صِحَاح يبطل تَأْوِيله، فَمن ذَلِك مَا أخرجه البُخَارِيّ من طَرِيق أبي سَلمَة، وَأخرجه مُسلم من طَرِيق أبي الزِّنَاد، كِلَاهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((لَا تَقولُوا يَا خيبة الدَّهْر؛ فَإِن الله هُوَ الدَّهْر)) . وَأخرج مُسلم من طَرِيق ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا تسبوا الدَّهْر، فَإِن الله هُوَ الدَّهْر)) وَالثَّالِث: أَن تَأْوِيله يَقْتَضِي أَن تكون عِلّة النَّهْي لم تذكر؛ لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: ((لَا تسبوا الدَّهْر؛ فَأَنا الدَّهْر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار)) فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تسبوا الدَّهْر فَأَنا أقلبه. وَمَعْلُوم أَنه يقلب كل خير وَشر، وتقليبه للأشياء لَا يمْنَع من ذمها، وَإِنَّمَا يتَوَجَّه الْأَذَى فِي قَوْله: ((يُؤْذِينِي ابْن آدم)) على مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ.
1780 - / 2214 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((الْفطْرَة خمس: الْخِتَان والإستحداد وقص الشَّارِب وتقليم الْأَظْفَار ونتف الْإِبِط)) .
قد ذكرنَا معنى الْفطْرَة فِي مُسْند ابْن عمر.
فَأَما الْخِتَان فعندنا أَنه وَاجِب على الرجل، وَلنَا فِي الْمَرْأَة رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِي: يجب على الْكل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَيْسَ بِوَاجِب. وَكَانَ بعض الْعلمَاء يحْتَج على وُجُوبه بِأَن كشف الْعَوْرَة(3/348)
محرم بِالْإِجْمَاع، فلولا أَنه وَاجِب لم يجز هتك الْعَوْرَة الْمحرم لفعل سنة.
وَأما الإستحداد فَهُوَ حلق الْعَانَة بالحديدة. والإستحداد: الإستحلاق بالحديدة.
وقص الشَّارِب قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وتقليم الْأَظْفَار: قصها. والقلم: الْقطع.
والآباط جمع إبط: وَهُوَ مَا تَحت الْيَد. قَالَ شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: وَبَعض المتحذلقين يَقُول الْإِبِط بِكَسْر الْبَاء، وَالصَّوَاب سكونها، وَلم يَأْتِ فِي الْكَلَام شَيْء على ((فعل)) إِلَّا إبل وإطل وَحبر: وَهِي صفرَة الْأَسْنَان. وَفِي الصِّفَات: امْرَأَة بلز: وَهِي السمينة. وأتان إبد: تَلد كل عَام، وَقيل: هِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا الدَّهْر. وَأما الإطل فَهِيَ الخاصرة.
1781 - / 2215 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: بعثت بجوامع الْكَلم، ونصرت بِالرُّعْبِ)) .
أما جَوَامِع الْكَلم فَهُوَ جمع الْمعَانِي الْكَثِيرَة فِي الْأَلْفَاظ الْيَسِيرَة.
وَفِي هَذَا حث على التفهم والإستنباط.
والرعب: الْخَوْف والفزع كَانَ يَقع فِي قُلُوب أعدائه وَبَينه وَبينهمْ(3/349)
مسيرَة شهر على مَا سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله، وَذكرنَا هُنَالك إحلال الْمَغَانِم، وَجعل الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا، وإرساله إِلَى الْخلق كَافَّة.
وَفِي مَفَاتِيح الخزائن قَولَانِ: أَحدهمَا: مَا يفتح لأمته من الْبِلَاد والممالك. وَالثَّانِي: مَا يحصل بِملكه الأَرْض من الْمَعَادِن.
وتنتثلونها بِمَعْنى تثيرونها من موَاضعهَا وتستخرجونها، يُقَال: نثلت الْبِئْر وانتثلتها: إِذا استخرجت ترابها. وتنتقلونها: من نقل الشَّيْء. وَقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: ((وَأَنْتُم ترغثونها)) أَي تستخرجون درها وترتضعونها، يُقَال: نَاقَة رغوث وشَاة رغوث: أَي كَثِيرَة اللَّبن.
1782 - / 2216 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((أحناه على طِفْل، وأرعاه على زوج)) .
أحناه من الحنو: وَهُوَ الْعَطف والشفقة. وأرعاه من الإرعاء: وَهُوَ الْإِبْقَاء.
1783 - / 2217 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: نهى أَن يَبِيع حَاضر لباد.
قد سبق هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَكَذَلِكَ التلقي. وَسبق النجش فِي مُسْند ابْن عمر.(3/350)
وَقَوله: ((لَا يبع الرجل على بيع أَخِيه)) هَذَا النَّهْي يتَعَلَّق بالحالة الَّتِي يعلم فِيهَا سُكُون البَائِع إِلَى المُشْتَرِي، وَذَلِكَ يكون قبيل التواجب، فَأَما فِي حَالَة السّوم قبل ظُهُور مُوجب الرِّضَا فَجَائِز.
وَكَذَلِكَ قَوْله: ((أَن يستام الرجل على سوم أَخِيه)) يَعْنِي بِهِ: إِذا سكن البَائِع إِلَى المُشْتَرِي. وَكَذَلِكَ الْخطْبَة إِنَّمَا ينْهَى عَنْهَا عِنْد سُكُون الْمَرْأَة إِلَى الْخَاطِب.
وَقَوله: ((لَا تسْأَل الْمَرْأَة طَلَاق أُخْتهَا)) قَالَ أَبُو عبيد: تَعْنِي بأختها ضَرَّتهَا. وَقَوله: ((لتكفأ)) مَأْخُوذ من كفأت الْقدر وَغَيرهَا: إِذا كببتها ففرغت مَا فِيهَا. وَفِي لفظ: ((لتكتفىء)) تفتعل من ذَلِك.
وَقَوله: ((فَإِذا أَتَى سَيّده)) أَي رب الْمَتَاع السُّوق فَهُوَ بِالْخِيَارِ.
وَسَيَأْتِي ذكر التصرية فِي هَذَا الْمسند إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
1784 - / 2218 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: نعي النَّجَاشِيّ، وَالصَّلَاة عَلَيْهِ. وَقد سبق فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
1785 - / 2219 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا رفع رَأسه من الرَّكْعَة الثَّانِيَة قَالَ: ((اللَّهُمَّ أَنْج الْوَلِيد بن الْوَلِيد وَسَلَمَة بن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ بِمَكَّة. اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر. اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِين كَسِنِي يُوسُف)) .(3/351)
أما الْوَلِيد فَهُوَ الْوَلِيد بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة بن عبد الله، كَانَ على دين قومه، وَخرج مَعَهم إِلَى بدر، فَأسرهُ يَوْمئِذٍ عبد الله بن جحش، وَيُقَال: سليط بن قيس، وَقدم فِي فدائه أَخَوَاهُ خَالِد وَهِشَام، فافتكاه بأَرْبعَة آلَاف، فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بلغ ذَا الحليفة، فَأَفلَت فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأسلم، فَقَالَ لَهُ خَالِد: هلا كَانَ هَذَا قبل أَن تفتدى؟ فَقَالَ: مَا كنت لأسلم حَتَّى أفتدى بِمثل مَا افتدي بِهِ قومِي، وَلَا تَقول قُرَيْش: إِنَّمَا تبع مُحَمَّدًا فِرَارًا من الْفِدَاء، ثمَّ خرجا بِهِ إِلَى مَكَّة وَقد أمنهما، فحبساه بهَا مَعَ سَلمَة بن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة، وَكَانَ سَلمَة قد أسلم بِمَكَّة قَدِيما وَهَاجَر إِلَى أَرض الْحَبَشَة ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة، فَأَخذه أَبُو جهل فحبسه وضربه وأجاعه، فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت فِي صَلَاة الْفجْر وَيَدْعُو لَهُم.
وَالْوَطْأَةُ: الْبَأْس والعقوبة، وَهِي مَا أَصَابَهُم من الْجُوع والشدة.
وَالْمرَاد بسني يُوسُف سنو المجاعة.
وَقَوله: ((على مُضر)) إِشَارَة إِلَى قُرَيْش لأَنهم من أَوْلَاد مُضر.
وَسَيَأْتِي بعد أَحَادِيث: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: وَأهل الْمشرق يَوْمئِذٍ من مُضر مخالفون لَهُ.
1786 - / 2220 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: ((إِذا أَمن الإِمَام فَأمنُوا، فَإِنَّهُ من وَافق تأمينه تَأْمِين الْمَلَائِكَة غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه)) .
قَوْله: (فَأمنُوا)) دَلِيل على أَنه سنة.(3/352)
وَفِي الحَدِيث إِضْمَار: وَهُوَ الْخَبَر عَن تَأْمِين الْمَلَائِكَة، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذا قَالَ الإِمَام: آمين، فَقولُوا: آمين كَمَا تَقول الْمَلَائِكَة، فَمن وَافق ... وَلَوْلَا ذَلِك لم يَصح تعقيبه بِالْفَاءِ. وَقد ذكرنَا معنى آمين وَمَا يتَعَلَّق بهَا فِي مُسْند أبي مُوسَى.
1787 - / 2221 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: ((إِذا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَة فامشوا إِلَى الصَّلَاة وَعَلَيْكُم السكينَة وَالْوَقار)) .
قد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي قَتَادَة، وَبينا أَن المُرَاد بالتثبت حسن الْأَدَب، وَذكرنَا هُنَاكَ الْخلاف فِيمَا يُدْرِكهُ الْمَأْمُوم. هَل هُوَ آخر صلَاته أَو أَولهَا؟
فَأَما قَوْله: ((إِذا ثوب بِالصَّلَاةِ. .)) فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: المُرَاد بِهِ هَا هُنَا الْإِقَامَة، وأصل التثويب رفع الصَّوْت بالإعلام، وأصل هَذَا أَن يلوح الرجل بِثَوْبِهِ عِنْد الْفَزع يعلم بذلك أَصْحَابه، فَسُمي رفع الصَّوْت هَا هُنَا تثويبا. قَالَ: وَقيل: التثويب مَأْخُوذ من ثاب الرجل بِمَعْنى عَاد إِلَى الشَّيْء بعد ذَهَابه، فَقيل للمؤذن إِذا قَالَ: الصَّلَاة خير من النّوم ثمَّ عَاد إِلَيْهِ مرّة أُخْرَى فَقَالَهَا: قد ثوب: أَي ردد القَوْل مرّة أُخْرَى، وَكَذَلِكَ قَوْله: قد قَامَت الصَّلَاة مرَّتَيْنِ.
1788 - / 2222 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين أنزل الله: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} [الشُّعَرَاء: 214] فَقَالَ: ((يَا(3/353)
معشر قُرَيْش، اشْتَروا أَنفسكُم، لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا)) .
الْعَشِيرَة: الرَّهْط الأدنون. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عَبَّاس، وَهُوَ ينْهَى عَن اغترار الْقَرِيب بقرابته من أهل الصّلاح، فَإِنَّهُ إِنَّمَا فضل الصَّالح بصلاحه. وَإِنَّمَا قَالَ: ((سلاني من مَالِي)) لِأَنَّهُ يملك مَاله، وَلَو ملك نجاة شخص لأنجى أمه وأباه وَعَمه.
وَقَوله: ((سَأَبلُّهَا بِبلَالِهَا)) قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: بللت رحمي أبلها بِلَا وبلالا: إِذا وصلتها ونديتها بالصلة. وَإِنَّمَا شبهت قطيعة الرَّحِم بالحرارة تطفأ بالبرد كَمَا قَالُوا: سقيته شربة بردت بهَا عطشه، قَالَ الْأَعْشَى:
(أما لطَالب نعْمَة تممتها ... ووصال رحم قد بردت بلالها)
قلت: هَكَذَا ضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد: ((بِبلَالِهَا)) بِكَسْر الْبَاء، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْبَاء مَفْتُوحَة، من بله يبله، كالملال من مله يمله.
1789 - / 2223 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: ((تفضل صَلَاة الْجَمِيع صَلَاة الرجل وَحده بِخمْس وَعشْرين جُزْءا)) .
قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر بِسبع وَعشْرين وَلَعَلَّ هَذَا التَّفَاوُت(3/354)
يرجع إِلَى أَحْوَال الْمُصَلِّين.
وَقَوله: ((تَجْتَمِع مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار فِي صَلَاة الْفجْر)) وَذَلِكَ لِأَن الْفجْر تصلى عِنْد انْفِصَال اللَّيْل، فَتكون مَلَائِكَة اللَّيْل قد هَمت بالرحيل وملائكة النَّهَار قد نزلت فَيَشْهَدُونَ صَلَاة الْفجْر، وَذَلِكَ معنى قَوْله: {كَانَ مشهودا} [الْإِسْرَاء: 78] وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْمسند بعد السّبْعين وَمِائَة أَنهم يَجْتَمعُونَ فِي صَلَاة الْعَصْر أيضاُ.
1790 - / 2224 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: ((العجماء جرحها جَبَّار)) .
قَالَ أَبُو عبيد: العجماء: الْبَهِيمَة، وَإِنَّمَا سميت عجماء لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّم، وكل من لَا يقدر على الْكَلَام فَهُوَ أعجم ومستعجم. والجبار الهدر. وَإِنَّمَا يَجْعَل جرح العجماء هدرا إِذا كَانَت منفلتة لَيْسَ لَهَا قَائِد وَلَا سائق وَلَا رَاكب، فَإِذا كَانَ مَعهَا أحد هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة فَهُوَ ضَامِن لِأَن الْجِنَايَة حِينَئِذٍ لَيست للعجماء إِنَّمَا هِيَ جِنَايَة صَاحبهَا.
وَقَوله: ((الْبِئْر جَبَّار)) هِيَ الْبِئْر يسْتَأْجر عَلَيْهَا صَاحبهَا رجلا يحفرها فِي ملكه فتنهار على الْحَافِر، فَلَيْسَ على صَاحبهَا ضَمَان، وَكَذَلِكَ الْبِئْر تكون فِي ملك الرجل فَيسْقط فِيهَا إِنْسَان أَو دَابَّة فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْبِئْر العادية الْقَدِيمَة الَّتِي لَا يعلم لَهَا حافر يَقع فِيهَا الْإِنْسَان أَو الدَّابَّة.(3/355)
قَوْله: ((والمعدن جَبَّار)) الْمَعْدن اسْم لكل مَا فِيهِ شَيْء من الخصائص المنتفع بهَا كالذهب وَالْفِضَّة والياقوت والزبرجد والصفر والزجاج والزئبق والكحل والقار والنفط وَمَا أشبه ذَلِك، فيستأجر قوما لحفره فينهار عَلَيْهِم، فدماؤهم هدر.
وَقَوله: ((فِي الرِّكَاز الْخمس)) الرِّكَاز مَا وجد من دفن الْجَاهِلِيَّة، وَيعرف ذَلِك بِأَن ترى عَلَيْهِ عَلَامَات الْجَاهِلِيَّة، وَسَوَاء كَانَ فِي موَات أَو فِي مَكَان مَمْلُوك لكنه لَا يعرف مَالِكه، فَهَذَا يجب فِيهِ الْخمس فِي الْحَال، أَي نوع كَانَ من المَال، خلافًا لأحد قولي مَالك وَللشَّافِعِيّ فِي أَنه لَا يجب الْخمس إِلَّا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة. وَعِنْدنَا أَنه لَا يعْتَبر فِيهِ النّصاب، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك خلافًا لأحد قولي الشَّافِعِي.
وَفِي مصرف هَذَا الْخمس رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد: أَنه مصرف خمس الْفَيْء، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَالثَّانيَِة: مصرف الزَّكَاة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
وَأما إِذا كَانَ الْمَكَان يعرف مَالِكه فَإنَّك تنظر: فَإِن كَانَ الْمَالِك مُسلما أَو ذِمِّيا فَهُوَ للْمَالِك، وَإِن كَانَ حَرْبِيّا نظرت: فَإِن كَانَ الْوَاجِد لَهُ قد قدر عَلَيْهِ بِنَفسِهِ فَهُوَ ركاز، وَإِن لم يقدر عَلَيْهِ إِلَّا بِجَمَاعَة الْمُسلمين فَهُوَ غنيمَة.
وَإِن لم يكن على الرِّكَاز عَلامَة الْإِسْلَام أَو لم يكن عَلامَة فَهُوَ لقطَة.
وَأما حكم الْمَعْدن فَإِنَّهُ من استخرج من مَعْدن مَا يبلغ نِصَابا أَو قيمَة نِصَاب تعلق بِهِ الْحق، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يتَعَلَّق الْحق إِلَّا(3/356)
بِالذَّهَب وَالْفِضَّة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يتَعَلَّق بِكُل مَا ينطبع، ثمَّ اخْتلفُوا فِي مِقْدَار الْحق الْمُتَعَلّق بِهِ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه ربع الْعشْر، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَالثَّانِي: الْخمس، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَعَن الشَّافِعِي كالقولين، وَله قَول ثَالِث: إِن أَصَابَهُ مُتَفَرقًا بتعب فربع الْعشْر وَإِلَّا فالخمس.
واتفقت الْجَمَاعَة على أَن ذَلِك الْحق يجب فِي الْحَال كَمَا يجب فِي الرِّكَاز إِلَّا دَاوُد، فَإِنَّهُ يعْتَبر الْحول.
وَأما مصرف ذَلِك الْحق فعندنا أَنه مصرف الزَّكَاة، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: مصرف الْفَيْء.
فَإِن وجد الْإِنْسَان فِي دَاره معدنا أَو ركازا فَإِنَّهُ يجب فِيهِ عندنَا مَا يجب فِي الْموَات. وَأما مَا يُصِيبهُ الْإِنْسَان من الْبَحْر كَاللُّؤْلُؤِ والمرجان والعنبر والسمك وَغير ذَلِك فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد: إِحْدَاهمَا: أَنه تجب الزَّكَاة إِذا بلغت قِيمَته مِائَتي دِرْهَم أَو عشْرين دِينَارا. وَالثَّانيَِة: لَا شَيْء فِي ذَلِك، وَهِي قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: فِي اللُّؤْلُؤ والعنبر الْخمس، وَلَا شَيْء فِي الْمسك والسمك.
1791 - / 2225 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: ((نَحن أَحَق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ {رب أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} [الْبَقَرَة: 260] وَيرْحَم الله لوطا، لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد. وَلَو لَبِثت فِي السجْن(3/357)
مَا لبث يُوسُف لَأَجَبْت الدَّاعِي)) .
مخرج هَذَا الحَدِيث مخرج التَّوَاضُع وَكسر النَّفس، وَلَيْسَ فِي قَوْله: ((نَحن أَحَق بِالشَّكِّ)) إِثْبَات شكّ لَهُ وَلَا لإِبْرَاهِيم، وَإِنَّمَا يتَضَمَّن نفي الشَّك عَنْهُمَا، لِأَن قوما ظنُّوا فِي قَوْله ( {أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} أَنه شكّ، فنفى ذَلِك عَنهُ، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: إِذا لم أَشك أَنا فِي قدرَة الله تَعَالَى على إحْيَاء الْمَوْتَى فإبراهيم أولى أَلا يشك، فَكَأَنَّهُ رَفعه على نَفسه. وَدلّ بِهَذَا على أَن إِبْرَاهِيم مَا سَأَلَ لأجل الشَّك وَلَكِن لزِيَادَة الْيَقِين؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمُشَاهدَة الَّتِي لَا يبْقى مَعهَا وسواس. وَقد ذكر ابْن الْأَنْبَارِي وَجها آخر فَقَالَ: لما أنكر قوم الْخَلِيل إحْيَاء الْمَوْتَى سَأَلَ ربه أَن يرِيه مَا أَيقَن بِهِ عقله من قدرَة ربه على إحْيَاء الْمَوْتَى، وَأَرَادَ أَن يعلم مَنْزِلَته عِنْد ربه بإجابة دَعوته، وَشك: هَل تقع الْإِجَابَة أم لَا؛ لِأَنَّهُ قد يكون من الْمصلحَة أَلا يُجَاب الْمُؤمن إِلَى مَا يسْأَل، فَلَمَّا شكّ إِبْرَاهِيم على هَذَا التَّأْوِيل الْحسن لَا على الْمَعْنى المذموم - قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أَنا أولى بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم)) أَي أَنا أولى أَن أسأَل مثل هَذَا الْأَمر الْعَظِيم الَّذِي يشك السَّائِل فِي إِجَابَة ربه فِيهِ، وَإِنَّمَا صَار أَحَق لما عانى من تَكْذِيب قومه لَهُ، وردهم عَلَيْهِ، وتعجبهم من ذكر الْبَعْث، فَقَالَ: أَنا أَحَق أَن أسأَل مَا سَأَلَ إِبْرَاهِيم لعَظيم مَا جرى عَليّ من قومِي، ولمعرفتي بتفضيل الله عز وَجل إيَّايَ على الْأَنْبِيَاء، وَلَكِنِّي لَا أسأَل.
فَأَما قصَّة لوط فَإِن لوطا لم يغْفل عَن الله عز وَجل، وَلم يتْرك(3/358)
التَّوَكُّل عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذكر السَّبَب، وَذكره للسبب وَحده يتخايل مِنْهُ السَّامع نسيانه لله، فَأَرَادَ مِنْهُ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام أَلا نقُول مَا يُوهم هَذَا.
وَأما مدحه يُوسُف فَبَالغ؛ لِأَن يُوسُف أَرَادَ أَن يخرج خُرُوج من لَهُ الْحجَّة لَا خُرُوج من قد عُفيَ عَنهُ.
1792 - / 2226 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: إِن إخوتي من الْمُهَاجِرين كَانَ يشغلهم الصفق بالأسواق، وَكنت من أهل الصّفة.
وَأما الصفق بالأسواق فقد بَيناهُ من الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين من مُسْند أبي سعيد. وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ أَرْبَاب تِجَارَات، وَالْأَنْصَار أَرْبَاب نخل وَزرع، فَكَانُوا يغيبون أَكثر النَّهَار، فَلذَلِك حفظ أَبُو هُرَيْرَة مَا لم يحفظوا.
وَالصّفة مَكَان مُرْتَفع من الْمَسْجِد، كَانَ يأوي إِلَيْهِ الْمَسَاكِين.
والنمرة: شملة مخططة من مآزر الْعَرَب.
وَجَاء فِي بعض الْأَلْفَاظ عَنهُ: كنت ألزم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين لَا آكل الْخَبِير، وَلَا ألبس الحبير. والخبير: الْخبز المأدوم.
والحبير: الثِّيَاب المحبرة كالبرود اليمانية.
1793 - / 2227 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: هَل نرى رَبنَا يَوْم الْقِيَامَة؟
قَالَ: ((هَل تمارون فِي رُؤْيَة الْقَمَر؟ هَل تمارون فِي الشَّمْس؟)) فَذكر نَحْو(3/359)
حَدِيث أبي سعيد الثَّانِي وَالْعِشْرين من مُسْنده، وَقد فسرناه هُنَاكَ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((فينصب الصِّرَاط بَين ظهراني جَهَنَّم)) أَي على وَسطهَا. يُقَال: نزلت بَين ظهريهم وظهرانيهم بِفَتْح النُّون: أَي فِي وَسطهمْ مُتَمَكنًا بَينهم لَا فِي أَطْرَافهم.
وَفِيه: ((وَمِنْهُم من يوبق، وَمِنْهُم من يخردل)) والموبق: المهلك، يُقَال: أوبقته ذنُوبه: أَي أهلكته، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {أَو يوبقهن بِمَا كسبوا} ) [الشورى: 34] والمخردل: المقطع، يُقَال: خَرْدَل الشَّاة: إِذا قطعهَا.
وَفِيه: ((قد قشبني رِيحهَا، وأحرقني ذكاؤها)) قشبني من القشب، والقشب: السم، كَأَنَّهُ قَالَ: قد سمني رِيحهَا، وَيُقَال لكل مَسْمُوم قشيب ومقشب. وذكاء النَّار: اشتعالها، يُقَال: ذكت النَّار تذكو.
وَفِيه: ((فَإِذا رأى بهجتها وَمَا فِيهَا من النضرة انفهقت لَهُ الْجنَّة)) الْبَهْجَة: الْحسن. والنضرة: الرونق. وانفهقت: انفتحت واتسعت.
وَمِنْه قيل: صحراء فيهق: أَي وَاسِعَة.
1794 - / 2228 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند أبي سعيد.(3/360)
وَفِيه: ((وَلَا أَقُول: إِن أحدا أفضل من يُونُس بن مَتى)) وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1795 - / 2229 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: أَتَى رجل من أسلم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن الْأُخَر قد زنى - يَعْنِي نَفسه، فَأَعْرض عَنهُ.
هَذَا الرجل الْأَسْلَمِيّ هُوَ مَاعِز بن مَالك.
والشق: الْجَانِب.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَنه لَا يجْرِي فِي الْإِقْرَار إِلَّا أَربع مَرَّات.
وَقد ذكرنَا هَذَا وَالْخلاف فِيهِ فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة، وَبينا هُنَاكَ معنى الْأُخَر.
وأذلقته الْحِجَارَة: أَي بلغت مِنْهُ فقلق وَلم يصبر.
وجمز: وثب هَارِبا. والحرة: مَوضِع فِيهِ حِجَارَة سود.
1796 - / 2230 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: ((سَتَكُون فتن الْقَاعِد فِيهَا خير من الْقَائِم)) قد تقدم هَذَا فِي مُسْند أبي بكرَة.
وَقَوله: ((من تشرف لَهَا)) أَي تطلع إِلَيْهَا، تطلعت إِلَيْهِ. يُقَال: استشرفت الشَّيْء: إِذا رفعت بَصرك لتنظر إِلَيْهِ.
والمعاذ: الملجأ. يَقُول: من قدر أَن يبعد عَنْهَا ويلجأ مِنْهَا إِلَى مَا يخلصه فَلْيفْعَل.(3/361)
وَقَوله: ((من الصَّلَاة صَلَاة من فَاتَتْهُ فَكَأَنَّمَا وتر أَهله)) يَعْنِي الْعَصْر، وَقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند ابْن عمر.
1797 - / 2231 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن)) .
قَالَ الْعلمَاء: الْمَعْنى: وَهُوَ كَامِل الْإِيمَان. كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: ((مَا آمن من لم يَأْمَن جَاره بوائقه)) أَي مَا اسْتكْمل الْإِيمَان. وَيحْتَمل وَجها آخر: وَهُوَ أَن الْهوى يُغطي الْإِيمَان، فَصَاحب الْهوى لَا يرى إِلَّا هَوَاهُ وَلَا ينظر إِلَى إيمَانه الناهي لَهُ، فَكَأَن الْإِيمَان قد عدم.
وَقَوله: ((وَلَا ينتهب نهبة ذَات شرف)) أَي ذَات قدر.
والغلول: أَخذ شَيْء من الْمغنم فِي خُفْيَة. قَالَ ابْن عَرَفَة: سمي الْغلُول غلولا لِأَن الْأَيْدِي مغلولة عَنهُ: أَي مَمْنُوعَة.
1798 - / 2232 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: ((بَيْنَمَا رَاع فِي غنمه عدا الذِّئْب فَأخذ مِنْهَا شَاة، فطلبها حَتَّى استنقذها مِنْهُ، فَقَالَ الذِّئْب: من لَهَا يَوْم السَّبع، يَوْم لَا راعي لَهَا غَيْرِي؟)) فَقَالَ النَّاس: سُبْحَانَ الله! فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((فَإِنِّي أُؤْمِن بِهَذَا وَأَبُو بكر وَعمر)) وَمَا هما ثمَّ.(3/362)
فَأَما يَوْم السَّبع فَأكْثر الْمُحدثين يرونه بِضَم الْبَاء، وعَلى هَذَا يكون الْمَعْنى: إِذا أَخذهَا السَّبع لم تقدر على استخلاصها، فَلَا يرعاها حِينَئِذٍ غَيْرِي. أَي إِنَّك تهرب وأكون أَنا قَرِيبا مِنْهَا أنظر مَا يفضل لي مِنْهَا. وَقد ذكر الْأَزْهَرِي فِي كتاب ((تَهْذِيب اللُّغَة)) عَن ابْن الْأَعرَابِي أَن السَّبع بتسكين الْبَاء: وَهُوَ الْموضع الَّذِي يكون فِيهِ الْمَحْشَر، فَكَأَنَّهُ قَالَ: من لَهَا يَوْم الْقِيَامَة؟ .
وَأما إخْبَاره بِإِيمَان أبي بكر وَعمر فَلِأَنَّهُ علم أَنَّهُمَا يؤمنان بِمَا آمن بِهِ، فَكَذَلِك عَامَّة أَصْحَابه، غير أَنه خصهما لِشَرَفِهِمَا.
1799 - / 2233 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: ((قرصت نملة نَبيا من الْأَنْبِيَاء، فَأمر بقرية النَّمْل فأحرقت)) .
قَرْيَة النَّمْل: مَوضِع اجتماعهن، وَالْعرب تفرق فِي الأوطان بَين الْأَسْمَاء. فَيَقُولُونَ: قطن الْإِنْسَان، وعطن الْإِبِل، وعرين الْأسد، وكناس الظبي، ووجار الذِّئْب والضبع، وعش الطَّائِر، وكور الزنابير، ونافقاء اليربوع، وقرية النَّمْل.
وَهَذَا النَّبِي لما آذته استجاز قتل مَا يُؤْذِي، فَأُرِيد مِنْهُ صُورَة الْعدْل فِي قتل المؤذي فَحسب، فَقيل لَهُ: ((فَهَلا نملة وَاحِدَة)) .
1800 - / 2234 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((فِي الْحبَّة السَّوْدَاء شِفَاء من كل دَاء إِلَّا السام)) وَقد فسر فِي الحَدِيث، فَقَالَ الزُّهْرِيّ: السام: الْمَوْت. والحبة السَّوْدَاء: الشونيز.(3/363)
وَظَاهر قَوْله: ((من كل دَاء)) عُمُوم الأدواء كلهَا. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: لَفْظَة كل هَا هُنَا لَفْظَة عُمُوم وَالْمرَاد بهَا الْخُصُوص كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأُوتِيت من كل شَيْء} [النَّمْل: 23] ، وَقَوله: {تدمر كل شَيْء} [الْأَحْقَاف: 25] وَقَوله: {وَأَنِّي فضلتكم على الْعَالمين} [الْبَقَرَة: 47] وَالْمرَاد بهَا شِفَاء من أدواء الرُّطُوبَة والبلغم من جِهَة أَن الشونيز حَار يَابِس، فَهُوَ يقطع البلغم، وينقي، وينفع الزُّكَام، وَيقتل الديدان، ويدر الطمث. ويسقى بِالْمَاءِ الْحَار وَالْعَسَل للحصاة فِي المثانة والكلية، وَيحل الحميات البلغمية والسوداوية، ودخانه يهرب مِنْهُ الْهَوَام، إِلَى غير ذَلِك من الْمَنَافِع. فَلَمَّا عَمت منفعَته أطلقت عَلَيْهِ لَفْظَة ((كل)) .
1801 - / 2235 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: ((لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ الْكلأ)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: هَذَا فِي الرجل يحْفر الْبِئْر فِي الأَرْض الْموَات فيملكها بِالْإِحْيَاءِ، وحول الْبِئْر أَو بقربها موَات فِيهِ كلأ، وَلَا يُمكن النَّاس أَن يرعوه إِلَّا بِأَن يبْذل لَهُم مَاءَهُ، فَأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلا يمنعهُم مَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذا فعل ذَلِك فقد مَنعهم الْكلأ. وَاخْتلف الْعلمَاء: هَل هَذَا على وَجه التَّحْرِيم أَو على وَجه الْكَرَاهَة.(3/364)
1802 - / 2236 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اسْتعْمل رجلا على خَيْبَر، فجَاء بِتَمْر جنيب، فَقَالَ: ((أكل تمر خَيْبَر هَكَذَا؟)) قَالَ: إِنَّا لنأخذ الصَّاع بالصاعين، والصاعين بِالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا تفعل، بِعْ الْجمع بِدَرَاهِم ثمَّ ابتع بِالدَّرَاهِمِ جنيبا)) وَقَالَ فِي الْمِيزَان مثل ذَلِك.
الجنيب من جيد التَّمْر. وَالْجمع من النّخل: كل لون لَا يعرف اسْمه، فَيكون تمره من أردأ التَّمْر، فَنَهَاهُ عَن المفاضلة فِي مَال الرِّبَا.
وَقَالَ فِي الْمِيزَان - أَي فِيمَا يُوزن - مثل ذَلِك، وَهَذَا لِأَن التَّمْر أَصله الْكَيْل لَا الْوَزْن.
1803 - / 2238 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: ((إِذا أدْرك أحدكُم سَجْدَة من صَلَاة الْعَصْر قبل أَن تغرب الشَّمْس فليتم صلَاته)) .
المُرَاد بِالسَّجْدَةِ: الرَّكْعَة بركوعها وسجودها. وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث بعد الثَّالِث وَالسِّتِّينَ وَالْمِائَة من هَذَا الْمسند، وَلَفظه: ((من أدْرك من الصُّبْح رَكْعَة قبل أَن تطلع الشَّمْس فقد أدْرك الصُّبْح، وَمن أدْرك من الْعَصْر رَكْعَة قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْرك)) وَهَذَا يدل(3/365)
على أَن من طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وَقد صلى رَكْعَة من الْفجْر، أَو غربت وَقد صلى رَكْعَة من الْعَصْر، أَنه يتم الصَّلَاة، وَأَنَّهَا صَحِيحَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: تبطل صلَاته.
1804 - / 2239 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين: ((لكل نَبِي دَعْوَة مستجابة، فتعجل كل نَبِي دَعوته، وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَة لأمتي)) .
هَذَا من حسن ظن نظره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اخْتَار أَن تكون دَعوته فِيمَا يبْقى.
فَإِن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: {هَب لي ملكا} [ص: 35] وَاخْتِيَار الْبَاقِي أحزم.
وَمن فضل كرمه أَنه جعلهَا لأمته، وَجعلهَا شَفَاعَة للمذنبين، فَكَأَنَّهُ هيأ النجَاة للمنقطعين ليلحقهم بالسابقين. وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند جَابر وَأنس.
1805 - / 2240 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: النَّهْي عَن الْوِصَال فِي الصَّوْم. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((فاكلفوا من الْعَمَل مَا تطيقون)) اللَّام فِي اكلفوا مَفْتُوحَة وَالْمعْنَى: تكلفوا طاقتكم. وَقد سبق بَيَان هَذَا.(3/366)
1806 - / 2241 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: التَّكْبِير فِي كل خفض وَرفع، وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَغَيره.
وَفِيه: ((سمع الله لمن حَمده)) أَي: قبل.
وَفِيه: ((اشْدُد وطأتك على مُضر)) وَقد تقدم آنِفا.
1807 - / 2242 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: ((مَا أذن الله لشَيْء مَا أذن لنَبِيّ أَن يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ)) وَفِي لفظ: ((مَا أذن الله لشَيْء كَإِذْنِهِ لنَبِيّ يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يجْهر بِهِ)) وَفِي لفظ: ((لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)) .
أما اللَّفْظ الأول فَهَكَذَا ورد: ((أَن يتَغَنَّى)) وَالَّذِي أرَاهُ أَن لَفْظَة ((أَن)) من زِيَادَة بعض الروَاة؛ لأَنهم يروون بِالْمَعْنَى فَيَقَع الْخَطَأ فِي كثير من الرِّوَايَات، وَإِذا ثبتَتْ ((أَن)) كَانَ من الْإِذْن: بِمَعْنى الْإِطْلَاق فِي الشَّيْء، وَلَيْسَ هُوَ المُرَاد بِالْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا أذن هَا هُنَا بِمَعْنى اسْتمع، يُقَال: أَذِنت للشَّيْء: أذنا: إِذا استمعت لَهُ، قَالَ عدي:
(فِي سَماع يَأْذَن الشَّيْخ لَهُ ... وَحَدِيث مثل ماذي مشار)
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي معنى ((يتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ)) على أَرْبَعَة أَقْوَال:(3/367)
أَحدهَا: أَنه تَحْسِين الصَّوْت بِهِ، روى أَبُو دَاوُد فِي ((سنَنه)) عَن ابْن أبي مليكَة أَنه سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقيل لَهُ: أَرَأَيْت إِن لم يكن حسن الصَّوْت؟ فَقَالَ: ((يُحسنهُ مَا اسْتَطَاعَ)) وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: يَسْتَغْنِي بِهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن وَكِيع وَابْن عُيَيْنَة، وَقد روى أَنهم دخلُوا على سعد وَعِنْده مَتَاع رث، فَقَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَيْسَ منا من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)) فَهَذَا دَلِيل على أَنه الإستغناء. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: من قَرَأَ آل عمرَان فَهُوَ غَنِي. قَالَ أَبُو عبيد: وَلَو كَانَ المُرَاد بِهِ تَرْجِيع الْقِرَاءَة لَكَانَ من لم يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من النَّبِي، قَالَ: وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ جَائِز فِي كَلَام الْعَرَب أَن يَقُولُوا: تَغَنَّيْت تغَنِّيا، وَتَغَانَيْت تَغَانِيًا: بِمَعْنى اسْتَغْنَيْت، قَالَ الْأَعْشَى:
(وَكنت امْرأ زَمنا بالعراق ... عفيف المناخ طَوِيل التغن)
يُرِيد الإستغناء. وَقَالَ الْمُغيرَة بن حبناء يُعَاتب أَخَاهُ:
(كِلَانَا غَنِي عَن أَخِيه حَيَاته ... وَنحن إِذا متْنا أَشد تَغَانِيًا)
فعلى هَذَا يكون الْمَعْنى: من لم يسْتَغْن بِالْقُرْآنِ عَن الْإِكْثَار من(3/368)
الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ ينبهه على ترك الفضول ويحثه على طلب الْآخِرَة.
وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى يتحزن بِهِ ويترنم، قَالَه الشَّافِعِي، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ عندنَا تحزين الْقِرَاءَة. وَالرَّابِع: أَنه التشاغل بِهِ عَن مَكَان التَّغَنِّي، قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: كَانَت الْعَرَب تتغنى بالركبان إِذا ركبت الْإِبِل، وَإِذا جَلَست فِي الأفنية، وعَلى أَكثر أحوالها، فَلَمَّا نزل الْقُرْآن أحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكون الْقُرْآن هجيراهم مَكَان التَّغَنِّي بالركبان.
ويوضح هَذَا الْوَجْه مَا أَنبأَنَا بِهِ عَليّ بن أبي عمر قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن الْحُسَيْن بن أَيُّوب قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو عَليّ بن شَاذان قَالَ: أخبرنَا أَبُو سهل أَحْمد بن مُحَمَّد الْقطَّان قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد البرتي قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن الْمليكِي عَن ابْن أبي مليكَة عَن عبد الله بن السَّائِب عَن سعد هُوَ ابْن أبي وَقاص قَالَ: سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((غنوا بِالْقُرْآنِ، لَيْسَ من لم يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)) يَعْنِي منا.
1808 - / 2243 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين: ((ننزل غَدا إِن شَاءَ الله بخيف بني كنَانَة حَيْثُ تقاسموا على الْكفْر)) يُرِيد المحصب.
قَالَ ابْن فَارس الْخيف: مَا ارْتَفع عَن الْوَادي وَانْحَدَرَ عَن الْجَبَل.
وتقاسموا بِمَعْنى تحالفوا، وَقد ذكر تَفْسِير هَذَا فِي الحَدِيث: وَهُوَ(3/369)
أَن قُريْشًا وكنانة حصروا بني هَاشم وَبني الْمطلب فِي الشّعب. وَقَالَ بعض الروَاة: أَو بني عبد الْمطلب، وَهُوَ غلط، وَإِنَّمَا هُوَ: وَبني الْمطلب - وتحالفوا أَلا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم وَلَا يؤوهم حَتَّى يسلمُوا إِلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكتب الْقَوْم بذلك كتابا وتركوه فِي الْكَعْبَة، فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى عَمه أبي طَالب فَأخْبرهُ أَن الأرضة قد لحست مَا فِي كِتَابهمْ من جور وظلم وأبقت مَا فِيهِ من ذكر الله عز وَجل، فَخرج أَبُو طَالب إِلَيْهِم فَأخْبرهُم بذلك، وَقَالَ: إِن كَانَ ابْن أخي صَادِقا فانزعوا عَمَّا أَنْتُم عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ كَاذِبًا أسلمته إِلَيْكُم. فَقَالُوا: قد أنصفت، ففتحوا الْكتاب فوجدوه كَمَا قَالَ، فنكسوا على رؤوسهم وسكتوا، فَلَمَّا خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى مَكَّة فِي حجَّته، قَالَ: ((منزلنا إِن شَاءَ الله بخيف بني كنَانَة)) فآثر النُّزُول بذلك الْمَكَان شكرا لنعمة الله سُبْحَانَهُ فِي التَّمْكِين لَهُ، ونقضا لعهدهم.
1809 - / 2244 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: ((اشتكت النَّار إِلَى رَبهَا، فَأذن لَهَا بنفسين: نفس فِي الشتَاء وَنَفس فِي الصَّيف، فَهُوَ أَشد مَا تَجِدُونَ من الْحر وَمن الزَّمْهَرِير)) .
تَشْبِيه الْحر وَالْبرد فِي ابْتِدَائه وامتداده وقوته وَضَعفه بِالنَّفسِ من أحسن التَّشْبِيه. والزمهرير: شدَّة الْبرد. وَبَاقِي الحَدِيث قد تقدم فِي مُسْند أبي ذَر.
1810 - / 2245 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: ((الْفَخر وَالْخُيَلَاء -(3/370)
وَفِي لفظ: والرياء - فِي الْفَدادِين. .)) وَفِي رِوَايَة: ((أَتَاكُم أهل الْيمن، هم أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة)) .
الْخُيَلَاء: التكبر والإعجاب بِالنَّفسِ. وَمن يقْصد الترفع عَن النَّاس يحب أَن يرى مَاله الْكثير.
والفدادون مُفَسّر فِي مُسْند أبي مَسْعُود البدري، وَكَذَلِكَ قَوْله: ((الْإِيمَان يمَان)) هُنَالك أَيْضا. وَقد بَينا ثمَّ أَنه أَشَارَ بذلك إِلَى مَكَّة وَالْمَدينَة، وَإِنَّمَا أثنى على أهل الْيمن لمبادرتهم إِلَى الْإِيمَان، وَإِذا رقت الأفئدة ولانت الْقُلُوب وصلت إِلَيْهَا المواعظ وأثرت فِيهَا.
وَالْحكمَة: الْفِقْه. والسكينة: السّكُون.
وَفِي هَذَا الحَدِيث ثَنَاء على الْأَنْصَار.
وَقَوله: ((وَرَأس الْكفْر قبل الْمشرق)) وَذَاكَ لِأَن الدَّجَّال يخرج مِنْهُ ويأجوج وَمَأْجُوج، وتغلب العجمة على ساكنيه وَقلة الْفَهم، وَلذَلِك أضَاف طُلُوع قرن الشَّيْطَان إِلَيْهِ، وَيُرِيد بِطُلُوع قرن الشَّيْطَان ظُهُور إِبْلِيس بالفتن هُنَالك.
1811 - / 2246 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين: ((التَّسْبِيح للرِّجَال والتصفيق للنِّسَاء)) وَقد تقدم هَذَا فِي مُسْند سهل بن سعد.
1812 - / 2250 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: ((إِذا نُودي بِالصَّلَاةِ(3/371)
أدبر الشَّيْطَان، فَإِذا قضى التثويب أقبل)) .
قد ذكرنَا التثويب آنِفا فِي هَذَا الْمسند. وَالْمرَاد بِهِ هَا هُنَا الْإِقَامَة، فَإِنَّهَا إِعْلَام بِقِيَام الصَّلَاة. وَالْأَذَان إِعْلَام بِوَقْت الصَّلَاة.
والحصاص يكون بمعنيين: الحصاص: الْعَدو. والحصاص: الضراط. وَقَالَ عَاصِم بن أبي النجُود: إِذا صر أُذُنَيْهِ ومصع بِذَنبِهِ: أَي حركه يَمِينا وَشمَالًا وَعدا، فَذَلِك الحصاص.
فَإِن قيل: كَيفَ يهرب من الْأَذَان وَيَدْنُو من الصَّلَاة، وَفِي الصَّلَاة الْقُرْآن ومناجاة الْحق عز وَجل؟ فَالْجَوَاب: أَنه يبعد عَن الْأَذَان لغيظه من ظُهُور الدّين وَغَلَبَة الْحق، وعَلى الْأَذَان هَيْبَة يشْتَد انزعاجه لَهَا، وَلَا يكَاد يَقع فِي الْأَذَان رِيَاء وَلَا غَفلَة عِنْد النُّطْق بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا تحضر النَّفس، فَأَما الصَّلَاة فَإِن النَّفس تحضر فِيهَا عَن إِطْلَاقهَا قبلهَا، فَيفتح لَهَا الشَّيْطَان أَبْوَاب الوساوس فترتع فِيهَا بِالْقَلْبِ.
1813 - / 2251 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: ((مَا من مَوْلُود إِلَّا يُولد على الْفطْرَة)) .(3/372)
الْفطْرَة تقال على وُجُوه، قد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب، فَأَما المُرَاد بهَا هَا هُنَا: فَاعْلَم أَن معرفَة الْحق عز وَجل مركوزة فِي النُّفُوس، ثمَّ قد نصبت لَهَا عَلَيْهَا أَدِلَّة، فَإِذا سلمت فطرتها من صَاد عَن الْهدى بَان لَهَا الْحق بدليله، يدل على هَذَا من حَيْثُ الْمَعْنى وَمن حَيْثُ الْوُقُوع: أما من حَيْثُ الْمَعْنى فَإِن الْأَدِلَّة إِنَّمَا ترد النَّفس إِلَى معلومها الأول الَّذِي قد ثَبت عِنْدهَا، فَأَنا إِذا قلت: لَا بُد من صانع، فَهَذَا مركوز فِي النُّفُوس، وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى إِقَامَة الدَّلِيل الَّذِي يَنْفِي الشوائب عَنهُ. وَأما من حَيْثُ الْوُقُوع فقد اسْتدلَّ جمَاعَة على الوحدانية كقس بن سَاعِدَة، فَإِذا وَقع الصَّاد غير الْفطْرَة ووقفت ظلمته فِي وُجُوه نورها، فَاشْتَبَهَ على النَّفس الْأَمر، فاحتاجت إِلَى قُوَّة معالجة من الدَّلِيل. وَقد ذكر ابْن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن سَلمَة أَنه قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: هَذَا حِين أَخذ الله عز وَجل الْعَهْد على الْخلق فِي أصلاب آبَائِهِم {وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} [الْأَعْرَاف: 172] فلست واجدا أحدا إِلَّا وَهُوَ مقرّ بِأَن لَهُ صانعا ومدبرا وَإِن سَمَّاهُ بِغَيْر اسْمه، وَعبد شَيْئا دونه. قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله} [الزخرف: 87] فَالْمَعْنى: كل مَوْلُود فِي الْعَالم على ذَلِك الْعَهْد وَالْإِقْرَار الأول وَهُوَ الْفطْرَة، وَمعنى الْفطْرَة: ابْتِدَاء الْخلقَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} [الْأَنْعَام: 14] أَي مبتدئها، وَهِي الحنيفية الَّتِي وَقعت لأوّل الْخلق وَجَرت فِي فطر الْعُقُول، ثمَّ يهود الْيَهُود أَبْنَاءَهُم، ويمجس الْمَجُوس أَبْنَاءَهُم: أَي يعلمونهم ذَلِك،(3/373)
وَلَيْسَ الْإِقْرَار الأول مِمَّا يَقع بِهِ حكم أَو عَلَيْهِ ثَوَاب، أَلا ترى أَن الطِّفْل من أَطْفَال الْمُشْركين مَحْكُوم عَلَيْهِ بدين أَبَوَيْهِ، فَإِن خرج عَنْهُمَا إِلَى مُسلم حكم عَلَيْهِ بدين مَالِكه، وَمن وَرَاء ذَلِك علم الله فِيهِ. فَفرق مَا بَيْننَا وَبَين الْقَدَرِيَّة فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْفطْرَة عِنْدهم الْإِسْلَام، وَعِنْدنَا الْإِقْرَار بِاللَّه والمعرفة بِهِ.
وَقَوله: ((كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة جَمْعَاء)) تنْتج: مَضْمُومَة التَّاء الأولى مَفْتُوحَة الثَّانِيَة، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: هِيَ السليمة، سميت بذلك لإجتماع السَّلامَة فِي أعضائها.
والجدعاء: المقطوعة الْأنف وَالْأُذن.
واللكز: الطعْن بِجَمِيعِ الْكَفّ.
والحضنان: الجنبان، وهما مَا دون الْإِبِط إِلَى الخصر.
وَقَوله: ((الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين)) قد سبق بَيَانه فِي مُسْند ابْن عَبَّاس، وَذكرنَا هُنَاكَ خلاف النَّاس فيهم.
1814 - / 2252 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: ((من ترك كلا فإلينا)) .
الْكل: الْعِيَال والثقل.
((فعلي قَضَاؤُهُ)) هَذَا فِيمَن ترك دينا لَا وَفَاء لَهُ فَإِنَّهُ يقْضى من الْفَيْء.(3/374)
والضياع بِفَتْح الضَّاد وَهُوَ مصدر ضَاعَ يضيع، وَالْمعْنَى: من ترك شَيْئا ضائعا كالأطفال فَليَأْتِنِي ذَلِك الضائع ((فَأَنا مَوْلَاهُ)) أَي وليه. وَرَوَاهُ بَعضهم ((ضيَاعًا)) بِكَسْر الضَّاد، وَهُوَ جمع ضائع، كَمَا تَقول: جَائِع وجياع، وَالْأول أصح.
وَفِي لفظ: ((فَأَيكُمْ ترك مَالا فَإلَى الْعصبَة)) قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: عصب الْقَوْم بفلان: أحاطوا بِهِ، وَسميت الْعصبَة وهم قرَابَة الرجل لِأَبِيهِ. وعصبت الْإِبِل بِالْمَاءِ: إِذا دارت بِهِ.
1815 - / 2253 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: ((أَنا أولى النَّاس بِابْن مَرْيَم، الْأَنْبِيَاء أَوْلَاد علات)) .
أَوْلَاد العلات: الْإِخْوَة من أَب وَاحِد وأمهاتهم شَتَّى. وَأَوْلَاد الْأَعْيَان: الْإِخْوَة من أَب وَاحِد وَأم وَاحِدَة. وَالَّذِي أَرَادَ أَن أصل دين الْأَنْبِيَاء وَاحِد وَإِن كَانَت شرائعهم مُخْتَلفَة، كَمَا أَن أَوْلَاد العلات أبوهم وَاحِد وَإِن كَانَت أمهاتهم شَتَّى.
أما قَوْله: ((لَيْسَ بَيْننَا نَبِي)) فَإِن قيل: فقد ذكر أَن بعد عِيسَى أَنْبيَاء.
فَالْجَوَاب: أَن هَذَا الحَدِيث أصح، والاعتماد عَلَيْهِ وَإِن جَوَّزنَا وجود نَبِي ذُو شرع متجدد.
1816 - / 2254 - ((من رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي)) .(3/375)
وَهَذَا قد تقدم فِي مُسْند أبي قَتَادَة وَغَيره.
وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: ((من رَآنِي فِي الْمَنَام فسيراني فِي الْيَقَظَة)) وَهَذَا كالبشارة لمن يرَاهُ بِأَنَّهُ يلقاه يَوْم الْقِيَامَة.
1817 - / 2255 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين: ((من قَامَ رَمَضَان إِيمَانًا واحتسابا غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه. .)) وَفِي وَرَايَة: ((من صَامَ. .)) .
وَقَوله: ((إِيمَانًا واحتسابا)) أَي تَصْدِيقًا بالمعبود الْآمِر لَهُ، وعلما بفضيلة الْقيام وَوُجُوب الصّيام، وخوفا من عِقَاب تَركه، ومحتسبا جزيل أجره، وَهَذِه صفة الْمُؤمن.
وَقَوله: ((فيوافقها)) يَعْنِي لَيْلَة الْقدر. وَهَذَا دَلِيل على زِيَادَة أجر الْمُجْتَهد إِذا أصَاب.
والأوزاع: جماعات من النَّاس. والرهط دون الْعشْرَة. وَيُقَال: إِلَى الْأَرْبَعين.
1818 - / 2256 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: ((لَا عدوى وَلَا صفر وَلَا هَامة)) فَقَالَ أَعْرَابِي: يَا رَسُول الله، فَمَا بَال إبل تكون فِي الرمل كَأَنَّهَا الظباء فَيَأْتِي الْبَعِير الأجرب فَيدْخل فِيهَا فيجربها؟ قَالَ: ((فَمن أعدى الأول؟)) .
قد تكلمنا فِي الْعَدْوى والطيرة. وَفِي قَوْله: ((لَا يُورد ممرض على مصح)) وَفِي قَوْله: ((فر من المجذوم)) فِي مُسْند ابْن عمر، وَبينا أَنه(3/376)
إِنَّمَا نهى عَن التَّعَرُّض بِالْمرضِ لِئَلَّا يظنّ الصَّحِيح إِذا مرض عِنْد المقاربة للْمَرِيض أَن ذَلِك من بَاب الْعَدْوى.
والممرض: الَّذِي إبِله مراض، وضده المصح.
وفسرنا قَوْله: ((لَا صفر)) فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
وَقَوله: ((وَخَيرهَا الفأل)) قَالَ ابْن عون: هَذَا مثل أَن يكون مَرِيضا فَيسمع: يَا سَالم، وباغيا فَيسمع: يَا وَاجِد. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الفأل فِيمَا يحسن ظَاهره ويرجى وُقُوعه بِالْخَيرِ. والطيرة لَا تكون إِلَّا فِيمَا يسوء.
وَاعْلَم أَنه إِنَّمَا صَار الفأل خير أَنْوَاع هَذَا الْبَاب لِأَنَّهُ يصدر عَن نطق وَبَيَان، فَكَأَنَّهُ خير جَاءَ من غيب. فَأَما سنوح الطير وبروحها فتكلف من المتطير مَا لَا أصل لَهُ فِي الْبَيَان، إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ نطق فيستدل بِهِ على معنى فِيهِ.
وَقَوله: ((لَا هَامة)) قَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: كَانَت الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة تزْعم أَن عِظَام الْمَيِّت تَجْتَمِع فَتَصِير هَامة فتطير، وَكَانُوا يسمون الطَّائِر الَّذِي يخرج مِنْهَا الصدى. وَقَالَ غَيره: كَانُوا يسمون(3/377)
الْأُنْثَى من هَذِه الطير: هَامة، وَالذكر: الصدى، فَإِذا قتل الْإِنْسَان قَالَ هَذَا الطَّائِر: اسقوني، حَتَّى يقتل قَاتله فيهدأ، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَو أَن ليلى الأخيلية سلمت ... عَليّ، ودوني تربة وصفائح)
(لسلمت تَسْلِيم البشاشة أَو زقا ... إِلَيْهَا صدى من جَانب الْقَبْر صائح)
فَأبْطل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا. وَقَالَ أَبُو عبيد: قَالَ أَبُو زيد: الهامة مُشَدّدَة الْمِيم، يذهب إِلَى وَاحِد الْهَوَام: وَهِي دَوَاب الأَرْض. قَالَ: وَلَا أرى أَبَا زيد حفظ هَذَا.
وَأما نِسْيَان أبي هُرَيْرَة الحَدِيث فقد جرى هَذَا لجَماعَة كَثِيرَة حدثوا بأَشْيَاء ثمَّ نسوا، وَفِيهِمْ من كَانَ يخبر بِمَا أخبر بِهِ فَيَقُول: حَدثنِي فلَان عني.
وَقَوله: فرطن بالحبشية: أَي تكلم بهَا، وكل كَلَام لَا تفهمه الْعَرَب من كَلَام الْعَجم تسميه رطانة.
والمماراة: الْمُرَاجَعَة على وَجه الْمُخَالفَة.
والنوء: من أنواء الْمَطَر، وَقد سبق بَيَانه فِي مُسْند زيد بن خَالِد.(3/378)
1819 - / 2257 - وَفِي الحَدِيث التسعين: ((ينزل رَبنَا كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يبْقى ثلث اللَّيْل الآخر)) وَفِي رِوَايَة: ((إِذا ذهب ثلث اللَّيْل الأول)) .
أصح الرِّوَايَات عَن أبي هُرَيْرَة: ((إِذا بَقِي ثلث اللَّيْل الآخر)) كَذَلِك قَالَ التِّرْمِذِيّ. وَحَدِيث النُّزُول قد رَوَاهُ جمَاعَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مِنْهُم أَبُو بكر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأَبُو الدَّرْدَاء وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَجبير بن مطعم وَرِفَاعَة الْجُهَنِيّ والنواس بن سمْعَان وَأَبُو ثَعْلَبَة الْخُشَنِي وَعُثْمَان بن أبي الْعَاصِ وَعَائِشَة فِي آخَرين. وَقد ذكرت فِيمَا تقدم من مُسْند ابْن عمر وَأنس وَغَيرهمَا فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء أَنه يجب علينا أَن نَعْرِف مَا يجوز على الله سُبْحَانَهُ وَمَا يَسْتَحِيل. وَمن المستحيل عَلَيْهِ الْحَرَكَة والنقلة والتغير، فَيبقى مَا ورد فِي هَذَا فَالنَّاس فِيهِ قائلان: أَحدهمَا: السَّاكِت عَن الْكَلَام فِيهِ، وَقد حكى أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ عَن مَالك بن أنس وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعبد الله بن الْمُبَارك أَنهم قَالُوا فِي هَذِه الْأَحَادِيث: أمروها بِلَا كَيفَ، فَهَذِهِ كَانَت طَريقَة عَامَّة السّلف.
وَالثَّانِي: المتأول، فَهُوَ يحملهَا على مَا توجبه سَعَة اللُّغَة، لعلمه بِأَن مَا يتضمنه النُّزُول من الْحَرَكَة مُسْتَحِيل على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد: {وَجَاء رَبك} [الْفجْر: 22] أَي جَاءَ أمره.(3/379)
وَقَوله: ((من يقْرض غير عديم)) أصل الْقَرْض الْقطع، وَكَأَنَّهُ يَقُول: من يقطع قِطْعَة من مَاله أَو عمله فيجعلها لله. والعديم بِمَعْنى العادم.
1820 - / 2258 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: ((إِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يصبغون فخالفوهم)) .
المُرَاد بِالْحَدِيثِ تَغْيِير الشيب. وَقد كَانَ السّلف يغيرونه بأنواع من الخضاب وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي كتاب ((الشيب والخضاب)) .
1821 - / 2259 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين: ((مثل المهجر كَمثل الَّذِي يهدي بَدَنَة)) .
روى النَّضر بن شُمَيْل عَن الْخَلِيل قَالَ: التهجير إِلَى الْجُمُعَة: التبكير إِلَيْهَا، فَقَوله: ((مثل المهجر)) أَرَادَ المبكر، وَهِي لُغَة حجازية.
وَقَوله: ((من رَاح)) قَالَ أَبُو عبيد الْهَرَوِيّ: مَعْنَاهُ: من خف إِلَى الْجُمُعَة، وَلم يرد رواح آخر النَّهَار. وَيُقَال: رَاح الْقَوْم: إِذا سَارُوا فِي أَي وَقت كَانَ.
وَقَوله: ((فِي السَّاعَة الأولى)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: لم يرد تَحْدِيد(3/380)
السَّاعَات، لكنه تجوز فِي الْكَلَام، كَمَا تَقول: قعدت عِنْد فلَان سَاعَة.
وَأما طي الْمَلَائِكَة الصُّحُف فَالْمُرَاد بِهِ صحف الْفضل لَا صحف الْفَرْض، لِأَن الْفَرْض يسْقط بالإتيان بعد ذَلِك، وَإِنَّمَا المُرَاد أَنه قد ذهب وَقت الْفَضِيلَة وَلزِمَ السَّعْي.
1822 - / 2261 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين: ((لقد كَانَ فِيمَا قبلكُمْ من الْأُمَم محدثون، فَإِن يَك فِي أمتِي أحد فَإِنَّهُ عمر)) قَالَ ابْن وهب: محدثون: ملهمون. وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة: مفهمون.
وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُرِيد قوما يصيبون إِذا ظنُّوا وحدسوا، فكأنهم حدثوا بِشَيْء فقالوه، قَالَ أَوْس:
(الألمعي الَّذِي يظنّ لَك الظَّن كَأَن قد رأى وَقد سمعا ... )
وَيُقَال فِي بعض الْأَمْثَال: ((من لم ينفعك ظَنّه لم ينفعك يقينه)) .
1823 - / 2262 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين: ((تحاج آدم ومُوسَى)) .
الإحتجاج: انتزاع الْحجَّة لغَلَبَة الْخصم. وَاعْلَم أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد(3/381)
حكم بِالْحجَّةِ لآدَم، وَذَاكَ فِي معنى خَاص، لِأَنَّهُ لَو كَانَت لَهُ الْحجَّة عَلَيْهِ لما ليم بقوله تَعَالَى: {ألم أنهكما} [الْأَعْرَاف: 22] وَلما عُوقِبَ بقوله: {اهبطا} [طه: 123] فَلَمَّا أَخذ مُوسَى فِي لومه وتوبيخه بقوله: ((أَنْت الَّذِي اصطفاك الله ... وَأَنت ... وَأَنت)) أَخذ آدم يُعَارضهُ بِذكر الْقدر وَيَقُول: " أَنْت اصطفاك الله برسالته وبكلامه)) وَالْمعْنَى: كَيفَ تكون بِهَذِهِ الْمنزلَة وَيخْفى عَنْك أَنه لَا محيص من الْقدر؟ وَكِلَاهُمَا حق لَا يبطل صَاحبه. وَمَتى قضي للقدر على الْكسْب أخرج إِلَى مَذْهَب الْقَدَرِيَّة أَو للكسب على الْقدر أخرج إِلَى مَذْهَب الجبرية. وَرُبمَا وَقعت الْغَلَبَة لآدَم لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه لَيْسَ لمخلوق أَن يلوم مخلوقا فِيمَا قضي عَلَيْهِ، إِلَّا أَن يَأْذَن الشَّرْع بلومه، فَيكون هُوَ اللائم، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ((إِذا زنت أمة أحدكُم فليجلدها الْحَد وَلَا يثرب)) فَلَمَّا أَخذ مُوسَى يلومه وَلم يُؤذن لَهُ عَارضه بِالْقدرِ فَسكت. وَالثَّانِي: أَن الْمعْصِيَة قد اجْتمع فِيهَا الْقدر وَالْكَسْب، فالتوبة تمحو أثر الْكسْب، وَقد تَابَ الله عَلَيْهِ فَلم يبْق إِلَّا الْقدر، وَالْقدر لَا يتَوَجَّه إِلَيْهِ لوم.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ اجْتمعَا وَمَتى اجْتمعَا؟ فَالْجَوَاب: أَنه يجب الْإِيمَان بِكُل مَا نخبر بِهِ عَن الصَّادِق المصدوق وَإِن لم نطلع على كيفيته، فَمن الْجَائِز اجْتِمَاع الْأَرْوَاح، وَمن الْجَائِز خصومتهما فِي الْقِيَامَة بعد الْحَشْر، وَمن الْجَائِز أَن يكون المُرَاد شرح حَال بِضَرْب مثل: أَي لَو اجْتمعَا قَالَا، وَيكون تَخْصِيص مُوسَى بِالذكر دون غَيره من الْأَنْبِيَاء لِأَنَّهُ أول نَبِي جَاءَ بالتكاليف الشَّدِيدَة. وَهَذَا وَإِن احْتمل فَالْأول(3/382)
أولى لكَونه حَقِيقَة، وَالله وَرَسُوله أعلم بالمراد.
وَلَيْسَ هَذَا بِأول خبر يجب علينا الْإِيمَان بِهِ وَإِن جهلنا مَعْنَاهُ، فَإِن عَذَاب الْقَبْر ونعيمه. وسؤال مُنكر وَنَكِير فِيهِ حق، وَلَا يطلع على حَقِيقَة ذَلِك، وَمَتى ضَاقَتْ الْحِيَل فِي كشف المشكلات للإحساس لم يبْق إِلَّا فرض التَّسْلِيم.
فَإِن قيل: مَا معنى تَحْدِيد أَرْبَعِينَ سنة فِي الْمَكْتُوب؛ وَفِي الحَدِيث: ((إِن الله قدر الْمَقَادِير قبل أَن يخلق السَّمَوَات وَالْأَرضين بِخَمْسِينَ ألف سنة)) . فَالْجَوَاب: أَن المعلومات كلهَا قد أحَاط بهَا الْعلم الْقَدِيم قبل وجود مَخْلُوق، وَلكنه كتبهَا فِي زمَان، فَجَائِز أَن يكون كتب خَطِيئَة آدم قبل أَن يخلقه بِأَرْبَعِينَ عَاما، وَجَائِز أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى مُدَّة لبثه طينا، فَإِنَّهُ بَقِي أَرْبَعِينَ سنة طينا، فَكَأَنَّهُ يَقُول: كتب عَليّ قبل أَن أعصي مُنْذُ سواني طينا قبل أَن ينْفخ فِي الرّوح.
1824 - / 2263 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالتسْعين: ((إِن الله حبس عَن مَكَّة الْفِيل، وسلط عَلَيْهَا رَسُوله وَالْمُسْلِمين، وَإِنَّهَا لَا تحل لأحد قبلي، وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من نَهَار)) .
كَانَ أَبْرَهَة بن الأشرم قد بنى بيعَة وَقَالَ: لأضيفن إِلَيْهَا حج الْعَرَب، فَسمع بذلك رجل من بني كنَانَة فَدَخلَهَا لَيْلًا فأحدث فِيهَا، فَبلغ ذَلِك أَبْرَهَة، فَحلف ليسيرن إِلَى الْكَعْبَة وليهدمنها، فَسَار بجُنُوده(3/383)
واستصحب الْفِيل، فَلَمَّا دنا من مَكَّة أَمر أَصْحَابه بالغارة على نعم النَّاس، فَأَصَابُوا إبِلا لعبد الْمطلب، وَبعث أَبْرَهَة بعض جُنُوده فَقَالَ: سل عَن شرِيف مَكَّة وَأخْبرهُ أَنِّي لم آتٍ لقِتَال إِنَّمَا جِئْت لأهدم هَذَا الْبَيْت. فَانْطَلق فلقي عبد الْمطلب، فَقَالَ: إِن الْملك أَرْسلنِي إِلَيْك لأخبرك أَنه لم يَأْتِ لقِتَال إِلَّا أَن تقاتلوه، إِنَّمَا جَاءَ لهدم هَذَا الْبَيْت ثمَّ ينْصَرف عَنْكُم، فَقَالَ عبد الْمطلب: مَاله عندنَا قتال، وَمَا لنا بِهِ يدان، سنخلي بَينه وَبَين مَا جَاءَ لَهُ، فَإِن هَذَا بَيت الله الْحَرَام وَبَيت خَلِيله إِبْرَاهِيم، فَإِن يمنعهُ فَهُوَ بَيته، وَإِن يخل بَينه وَبَين ذَلِك فوَاللَّه مَا لنا بِهِ قُوَّة. قَالَ: فَانْطَلق معي إِلَى الْملك، فَانْطَلق، فَلَمَّا دخل على أَبْرَهَة أكْرمه وأجله، وَقَالَ لِترْجُمَانِهِ: قل: مَا حَاجَتك؟ فَقَالَ لَهُ الترجمان، فَقَالَ: حَاجَتي أَن يرد عَليّ مِائَتي بعير أَصَابَهَا. فَقَالَ أَبْرَهَة لِترْجُمَانِهِ: قل لَهُ، لقد كنت أعجبتني حِين رَأَيْتُك، وَلَقَد زهدت الْآن فِيك؛ جِئْت إِلَى بَيت هُوَ دينك وَدين آبَائِك لأهدمه فَلم تكلمني فِيهِ وكلمتني فِي إبل أصبتها. فَقَالَ عبد الْمطلب: أَنا رب هَذِه الْإِبِل، وَلِهَذَا الْبَيْت رب سيمنعه. فَأمر بإبله فَردَّتْ عَلَيْهِ، فَخرج فَأخْبر قُريْشًا، وَأمرهمْ أَن يتفرقوا فِي الشعاب ورؤوس الْجبَال تخوفا عَلَيْهِم من معرة الْجَيْش إِذا دخل، فَفَعَلُوا، وأتى عبد الْمطلب الْكَعْبَة فَأخذ بِحَلقَة الْبَاب وَجعل يَقُول:
(يَا رب لَا أَرْجُو لَهُم سواكا ... يَا رب فامنع مِنْهُم حماكا)
(إِن عَدو الْبَيْت من عاداكا ... امنعهم أَن يخربوا قراكا)(3/384)
وَقَالَ أَيْضا:
(لَا هم إِن الْمَرْء يمْنَع ... رَحْله فامنع حلالك)
(لَا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك)
(جروا جموع بِلَادهمْ ... والفيل كي يسبوا عِيَالك)
(عَمدُوا حماك بكيدهم ... جهلا وَمَا رقبوا جلالك)
(إِن كنت تاركهم وكعبتنا ... - فَأمر مَا بدا لَك)
ثمَّ إِن أَبْرَهَة أصبح متهيأ للدخول، فبرك الْفِيل فبعثوه فَأبى، فضربوه فَأبى، فوجهوه إِلَى الْيمن رَاجعا فهرول، ووجهوه إِلَى الشَّام فهرول، وَإِلَى الْمشرق فَكَذَلِك، فوجهوه إِلَى الْحرم فَأبى، وَأرْسل الله تَعَالَى عَلَيْهِم طيرا من الْبَحْر، وَاخْتلفُوا فِي صفتهَا: فَقَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَت لَهَا خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الْكلاب. وَقَالَ عِكْرِمَة: كَانَت لَهَا رُؤُوس كرؤوس السبَاع. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق: كَانَت كالخطاطيف. وَاخْتلفُوا فِي ألوانها على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا كَانَت خضرًا، قَالَه عِكْرِمَة. وَالثَّانِي: سُودًا، قَالَه عبيد بن عُمَيْر: وَالثَّالِث: بيضًا، قَالَه قَتَادَة. قَالَ: وَكَانَ مَعَ كل طَائِر ثَلَاثَة أَحْجَار: حجران فِي رجلَيْهِ وَحجر فِي منقاره. وَاخْتلفُوا فِي صفة الْحِجَارَة: فَقَالَ بَعضهم: كَانَت كأمثال الحمص والعدس، وَقَالَ عبيد بن عُمَيْر: بل كَانَ الْحجر كرأس الرجل وكالجمل، فَلَمَّا غشيت الْقَوْم أرسلها عَلَيْهِم، فَكَانَ الْحجر يَقع على رَأس الرجل فَيخرج من دبره، وَبعث الله على أَبْرَهَة دَاء فِي جسده، فتساقطت أنامله وانصدع صَدره قطعتين عَن قلبه فَهَلَك، وَرَأى أهل مَكَّة الطير قد أَقبلت من نَاحيَة الْبَحْر فَقَالَ(3/385)
عبد الْمطلب: إِن هَذِه الطير غَرِيبَة، ثمَّ بعث ابْنه عبد الله على فرس لينْظر، فَرجع يرْكض وَيَقُول: هلك الْقَوْم جَمِيعًا، فَخرج عبد الْمطلب وَأَصْحَابه فغنموا أَمْوَالهم، وَقيل: لم ينج مِنْهُم إِلَّا أَبُو يكسوم، فَسَار وطائر يطير من فَوْقه وَلَا يشْعر بِهِ حَتَّى دخل على النَّجَاشِيّ فَأخْبرهُ بِمَا أصَاب الْقَوْم، فَلَمَّا أتم كَلَامه رَمَاه الطير فَمَاتَ.
وَقد اعْترض بعض الْمُلْحِدِينَ فَقَالَ: لم حبس الْفِيل فِي زمَان الْجَاهِلِيَّة عَن الْكَعْبَة، وَلم يمْنَع الْحجَّاج وَقد نصب المنجنيق على الْكَعْبَة وَقتل ابْن الزبير وَسَفك بهَا الدَّم الْحَرَام، وَلم يحبس عَنْهَا القرامطة وَقد سلبوا الْكَعْبَة ومرقوا حطيمها وقلعوا الْحجر وَقتلُوا الْحَاج عِنْد الْكَعْبَة؟ فَأجَاب بعض الْعلمَاء بِأَن حبس الْفِيل كَانَ علما لنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ كَانَ آباؤه عمارها، فَكَانَ ذَلِك حجَّة عَلَيْهِم فِي إِثْبَات نبوته، فَأَما إِذْ أقرّ الله الدّين وأعز أنصاره، فَلم يكن مَا جرى عَلَيْهَا مضرا بِالدّينِ وَلَا قادحا فِي بصائر الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله: ((وسلط عَلَيْهَا رَسُوله وَالْمُؤمنِينَ)) دَلِيل على أَنَّهَا فتحت عنْوَة.
وَقَوله: ((وَمن قتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَير النظرين: إِمَّا أَن يفدى، أَو يقتل)) فِيهِ بَيَان أَن ولي الْقَتِيل بِالْخِيَارِ بَين أحد أَمريْن أَيهمَا شَاءَ أعْطِيه.(3/386)
وَإِلَى هَذَا ذهب فُقَهَاء الْحجاز، وَقَالَ أهل الْعرَاق: لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْقصاص، فَإِن ترك حَقه مِنْهُ لم يكن لَهُ أَن يَأْخُذ الدِّيَة.
وَأما أَبُو شاه فَإِنَّهُ رجل من الْيمن، وَأَرَادَ: اكتبوا لي هَذِه الْخطْبَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((اكتبوا لأبي شاه)) وَفِي هَذَا دَلِيل على جَوَاز كِتَابَة الْعلم، وَأَن النَّهْي عَن كِتَابَة غير الْقُرْآن مَنْسُوخ.
وَقد سبق بَيَان بَاقِي الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1825 - / 2264 - وَقد سبق الْكَلَام فِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين: فِي مُسْند ابْن عمر.
1826 - / 2265 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين: ((من كَانَت لَهُ أَرض فليزرعها أَو ليمنحها أَخَاهُ)) قد بَينا هَذَا فِيمَا تقدم. وَذكرنَا فِي مُسْند رَافع بن خديج أَنهم كَانُوا يكرون الأَرْض بِمَا يخرج من بَعْضهَا، فنهوا عَن ذَلِك.
1827 - / 2266 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين: ((لَا تنْكح الأيم حَتَّى تستأمر، وَلَا تنْكح الْبكر حَتَّى تستأذن)) قَالُوا: كَيفَ إِذْنهَا؟ قَالَ ((أَن تسكت)) .(3/387)
الأيم هَا هُنَا هِيَ الْمَرْأَة الَّتِي يطلقهَا زَوجهَا أَو يَمُوت عَنْهَا.
فَإِن قيل: مَا الْفرق بَين الإستئمار والإستئذان؟ فقد فرق الْخطابِيّ فَقَالَ: الإستئمار: طلب الْأَمر من قبلهَا، وأمرها لَا يكون إِلَّا بنطق.
فَأَما الإستئذان فَهُوَ طلب الْإِذْن، وإذنها قد يعلم بسكوتها، لِأَنَّهَا إِذا سكتت اسْتدلَّ بِهِ على رِضَاهَا.
وَقد اتّفق الْعلمَاء على أَن الثّيّب الْبَالِغ لَا يجوز لأَبِيهَا إجبارها على النِّكَاح، لِأَنَّهَا قد عرفت وجربت. وَاخْتلفُوا فِي الثّيّب الصَّغِيرَة: فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يجوز لَهُ إجبارها، وَلنَا وَجْهَان. وَلَا فرق عندنَا بَين حُصُول الثيوبة بِوَطْء مُبَاح أَو محرم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: إِذا حصلت الثيوبة بِوَطْء محرم كَانَ حكمهَا حكم الْبكر.
فَأَما الْبكر فَإِن كَانَت بَالغا فَهَل يملك الْأَب إجبارها على النِّكَاح؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: يملك، وَحمل الحَدِيث على غير الْأَب. وَالثَّانيَِة: لَا يملك، كَقَوْل أبي حنيفَة. وَإِن لم تكن بَالغا فَلَا يَخْلُو من أَمريْن: إِمَّا أَن تكون قد بلغت تسع سِنِين فَلَا إِذن لَهَا، وَلَا يجوز لغير الْأَب - عندنَا - تَزْوِيجهَا، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز لكل وَارِث. وَعَن أبي حنيفَة أَيْضا: يجوز لكل عصبَة، وَيكون لَهَا الْخِيَار بعد الْبلُوغ، وَعند أَحْمد مثله. وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز للْجدّ.
وَأما إِذن الثّيّب فَهُوَ النُّطْق، وَإِذن الْبكر الصمات.(3/388)
1828 - / 2267 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَة: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات)) .
أما فتن الْمحيا فَأكْثر من أَن تحصر. وَأما فتْنَة الْمَمَات فتحتمل شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: حَالَة الْمَوْت؛ فَإِن الشَّيْطَان يفتن الْآدَمِيّ حِينَئِذٍ، تَارَة بتشكيكه فِي خالقه وَفِي معاده، وَتارَة بالتسخط على الأقدار، وَتارَة بإعراضه عَن التهيؤ للقدوم إِلَى ربه بتوبة من زلَّة، واستدراك لهفوة، إِلَى غير ذَلِك. وَالثَّانِي: أَنَّهَا فتْنَة الْقَبْر بعد الْمَوْت.
أما الْمَسِيح الدَّجَّال فقد سبق ذكره فِي مُسْند ابْن عمر.
1829 - / 2268 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: ((إِن الله يغار)) وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1830 - / 2269 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة: سجد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي: {إِذا السَّمَاء انشقت} و {اقْرَأ باسم رَبك} .
هَذَا دَلِيل على صِحَة مَذْهَبنَا، خلافًا لإحدى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك فِي قَوْله: لَا سُجُود فِي الْمفصل.
1830 - / 2270 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: ((لَا يتقدمن أحدكُم رَمَضَان بِصَوْم يَوْم أَو يَوْمَيْنِ إِلَّا أَن يكون رجل كَانَ يَصُوم صوما فليصمه)) .(3/389)
فِي هَذَا إِشَارَة إِلَى مَا فعل النَّصَارَى فِي صومهم، فَإِنَّهُم زادوا فِيهِ، وتحذير من مثل ذَلِك، وَأمر بِالْوُقُوفِ على حُدُود الشَّرْع، وإفراد الْفَرْض من غَيره ليتميز التَّطَوُّع من الْفَرْض.
1831 - / 2271 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة: ((من أنْفق زَوْجَيْنِ فِي سَبِيل الله دَعَاهُ خَزَنَة الْجنَّة: أَي فل، هَلُمَّ)) .
الزَّوْج فِي اللُّغَة: كل شَيْء كَانَ لَهُ قرين من جنسه، فَهُوَ اسْم يَقع على كل وَاحِد من المقترنين، يُقَال: لفُلَان زوجان من حمام، أَي ذكر وَأُنْثَى، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث أبي ذَر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((من أنْفق زَوْجَيْنِ من مَاله ابتدرته حجبة الْجنَّة)) فَقيل: مَا هَذَانِ الزَّوْجَانِ؟ قَالَ: ((إِن كَانَ خيلا ففرسان، وَإِن كَانَت إبِلا فبعيران)) حَتَّى عد أَصْنَاف المَال كُله.
وَقَوله: ((أَي فل)) ترخيم فلَان.
وَقَوله: ((هَلُمَّ)) قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَلُمَّ ((هَا)) ضمت إِلَيْهَا لم وجعلتا كالكلمة الْوَاحِدَة. وَأكْثر اللُّغَات أَن يُقَال: هَلُمَّ للْوَاحِد والاثنين وَالْجَمَاعَة، بذلك جَاءَ الْقُرْآن. وَمن الْعَرَب من يثني وَيجمع وَيُؤَنث، فَيَقُول للذّكر: هَلُمَّ، وللمرأة: هَلُمِّي، وللإثنين: هلما، وللجماعة: هلموا، وللنسوة: هلممن. وَقَالَ الْخَلِيل: أَصْلهَا لم(3/390)
وزيدت الْهَاء فِي أَولهَا. وَقَالَ الْفراء: بل أَصْلهَا: هَل، ضمت إِلَيْهَا أم، والرفعة الَّتِي فِي اللَّام من همزَة أم لما تركت انْتَقَلت إِلَى مَا قبلهَا. وَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: معنى هَلُمَّ: أقبل، وَأَصله أم يَا رجل: أَي اقصد، فضموا هَل إِلَى أم وجعلوها حرفا وَاحِدًا، وأزالوا أم عَن التَّصَرُّف، وحولوا ضمة همزَة أم إِلَى اللَّام، وأسقطوا الْهمزَة فاتصلت الْمِيم بِاللَّامِ. وَإِذا قَالَ الرجل للرجل: هَلُمَّ، فَأَرَادَ أَن يَقُول لَا أفعل، قَالَ: لَا أهلم.
والتوى مَقْصُور: وَهُوَ الْهَلَاك. يُقَال: توى مَاله توى شَدِيدا، قَالَه الْأَصْمَعِي:
فَإِن قيل: إِذا كَانَت الْمنَازل تَتَفَاوَت، فَكيف يَقُول كل خَازِن من خَزَنَة الْجنَّة عَن بَابه: هَذَا خير؟ فَالْجَوَاب: أَنه لاطلاعه على مَا هُوَ خازنه وَنَظره فِي عجائبه يظنّ أَنه لَا يكون شَيْء خيرا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لم يطلع على غَيره.
وَأما تَسْمِيَته بَاب الصَّوْم بِبَاب الريان فَإِنَّهُ لَائِق بِالْحَال؛ لِأَن جَزَاء الصَّائِم والعطشان أَن يرْوى، فَسُمي باسم الْجَزَاء، وَلم يحسن أَن يُقَال:(3/391)
بَاب الصَّوْم، لما يتضمنه من الْمَشَقَّة.
1832 - / 2275 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة: جَاءَ رجل فَقَالَ: يَا رَسُول الله، هَلَكت. قَالَ: ((مَالك؟)) قَالَ: وَقعت على امْرَأَتي وَأَنا صَائِم ... فَذكر الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: فَأتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعرق فِيهِ تمر، قَالَ: ((خُذ هَذَا فَتصدق بِهِ)) فَقَالَ الرجل: أَعلَى أفقر مني؟ فوَاللَّه مَا بَين لابتيها أهل بَيت أفقر مني. وَفِي رِوَايَة: أَن رجلا أفطر فِي رَمَضَان، فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يكفر بِعِتْق رَقَبَة.
أما الْعرق فَفِي الحَدِيث أَنه المكتل الضخم. وَقَالَ أَبُو عبيد: الْعرق: السفيفة المنسوجة وَمن الخوص قبل أَن يَجْعَل مِنْهَا زبيل، فَسُمي الزبيل عرقا لذَلِك، وَيُقَال: العرقة أَيْضا، وكل شَيْء مصطف مثل الطير إِذا صفت فِي السَّمَاء فَهِيَ عرقة، قَالَ أَبُو كَبِير:
(نغدو فنترك فِي المزاحف من ثوى ... ونمر فِي العرقات من لم يقتل)
والعرقات: النسوع، وَالْمعْنَى نأسرهم ونشدهم.
واللابة: الْحِجَارَة السود. وَقد سبقت فِي مَوَاضِع. وأصل ذَلِك فِي أطناب الْبيُوت، فَشبه الْمَدِينَة ببساط، واللابتين بطنبين.
وَاعْلَم أَن هَذِه الْكَفَّارَة إِنَّمَا تجب بِالْوَطْءِ فَحسب، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، إِلَّا أَن بعض الروَاة روى هَذَا الحَدِيث بِالْمَعْنَى فَقَالَ: إِن رجلا أفطر فِي رَمَضَان فَأمره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعِتْق رَقَبَة، فَبنى عَلَيْهِ(3/392)
قوم من الْفُقَهَاء، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا أفطر بِالْأَكْلِ وَالشرب وَجَبت الْكَفَّارَة، إِلَّا أَن يفْطر ببلع الْحَصَاة وَمَا فِي مَعْنَاهَا وبالقيء وبالسعوط.
وَقَالَ مَالك: تجب الْكَفَّارَة بِجَمِيعِ ذَلِك. فَإِن قَالَ الْخصم: فقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بلفظين آخَرين: أَحدهَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الَّذِي أفطر يَوْمًا من رَمَضَان بكفارة الظِّهَار. وَالثَّانِي: أَن رجلا أكل فِي رَمَضَان، فَأمره بِالْكَفَّارَةِ. وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص قَالَ: جَاءَ رجل فَقَالَ: أفطرت يَوْمًا من رَمَضَان مُتَعَمدا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أعتق رَقَبَة)) وروت عَائِشَة أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، احترقت، أفطرت فِي رَمَضَان، فَأمره بالتكفير.
وَالْجَوَاب: أَن هَذِه الْأَحَادِيث كلهَا هِيَ حَدِيث الْأَعرَابِي الَّذِي وَقع على أَهله وَإِنَّمَا عبر بعض الروَاة عَن الْجِمَاع بِالْفطرِ، والْحَدِيث مُبين فِي الصِّحَاح وَالْمَسَانِيد. قَالَ الدراقطني: أَكثر الروَاة بينوا أَن إفطار ذَلِك الرجل بِالْجِمَاعِ، وَأما اللَّفْظ الَّذِي فِيهِ أَنه أمره بكفارة الظِّهَار فيرويه يحيى الْحمانِي، وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: كَانَ يكذب جهارا، وَقَالَ الدراقطني: إِنَّه مُرْسل. وَأما اللَّفْظ الَّذِي فِيهِ أَن رجلا أكل فِي(3/393)
رَمَضَان، فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: يرويهِ أَبُو معشر نجيح، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
وَقَالَ يحيى بن معِين: يبْقى من حَدِيثه الْمسند. وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِشَيْء. وأصل هَذَا الحَدِيث أَن رجلا أفطر، كَذَلِك رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، فَعدل بِهِ الرَّاوِي إِلَى: أكل، لِأَن المجامع مفطر. وَلَفظ حَدِيث عَائِشَة الَّذِي فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) : احترقت، أصبت أَهلِي فِي رَمَضَان.
وَقَوله فَضَحِك حَتَّى بَدَت أنيابه. قد بَينا الأنياب والنواجذ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَقَوله: ((أطْعمهُ أهلك)) اعْلَم أَن كَفَّارَة الْجِمَاع على رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد: إِحْدَاهمَا: أَنَّهَا على التَّخْيِير بَين الْعتْق وَالصِّيَام وَالْإِطْعَام، فبأيها كفر أَجزَأَهُ. وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى: على التَّرْتِيب، فقد كَانَ يجب على هَذَا الرجل عتق رَقَبَة، فَإِن لم يجد وَجب عَلَيْهِ صِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين، فَإِن لم يسْتَطع وَجب عَلَيْهِ إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا، فَإِن لم يجد سَقَطت. فَأعْطَاهُ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أعطَاهُ وَقَالَ: ((تصدق بِهِ)) ظنا مِنْهُ أَنه يُعينهُ على الْكَفَّارَة، وَأَنه قد يجد بَعْضهَا، فَلَمَّا أخبرهُ بِشدَّة فقره أسقط الْوُجُوب عَنهُ، وَقَالَ: ((أطْعمهُ أهلك)) . وَقَالَ الْخطابِيّ: هَذَا خَاص لذَلِك الرجل. قَالَ: وَقَالَ قوم: هَذَا مَنْسُوخ وَلم يذكر مَا نسخه.
قَالَ: وَأحسن مَا سَمِعت فِيهِ قَول الْبُوَيْطِيّ: إِنَّه لما أخبرهُ بحاجته لم ير أَن يتَصَدَّق على غَيره، وَأمره بِأَكْلِهِ، وَبقيت الْكَفَّارَة فِي ذمَّته إِلَى أَن يجد وَفَاء. قلت: فدعوى الْخُصُوص والنسخ وَبَقَاء الْكَفَّارَة فِي(3/394)
ذمَّته لَا دَلِيل على شَيْء مِنْهُ، وَالَّذِي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أصح.
1833 - / 2276 - والْحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَة: حَدِيث الَّذِي قَالَ لِبَنِيهِ: إِذا مت فأحرقوني.
وَقد سبق فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَحُذَيْفَة.
1834 - / 2277 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر بعد الْمِائَة: ((من حلف مِنْكُم فَقَالَ فِي حلفه: وَاللات والعزى، فَلْيقل: لَا إِلَه إِلَّا الله. وَمن قَالَ لصَاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: إِنَّمَا أوجب قَول لَا إِلَه إِلَّا الله على من حلف بِاللات شَفَقَة عَلَيْهِ من الْكفْر أَن يكون قد لزمَه، لِأَن الْيَمين إِنَّمَا تكون بالمعبود الْمُعظم، فَإِذا حلف فقد ضاهى الْكفَّار فِي ذَلِك، فَأمر أَن يتداركه بِكَلِمَة التَّوْحِيد المبرئة من الشّرك.
قلت: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: من سبق لِسَانه إِلَى الْحلف بِاللات لموْضِع الْعَادة قبل الْإِسْلَام فَلْيقل لَا إِلَه إِلَّا الله مستدركا بهَا ذَلِك الْغَلَط.
وَهَذَا أبين من قَول الْخطابِيّ، لِأَن الْمُسلم لَا يقْصد الْيَمين بِاللات.
وَكَذَلِكَ قَوْله: تعال أقامرك، جري على الْعَادة قبل الْإِسْلَام.
وَفِي قَوْله: ((فليتصدق)) قَولَانِ: أَحدهمَا: فليتصدق بِالْمَالِ الَّذِي يُرِيد أَن يقامر عَلَيْهِ، قَالَه الْأَوْزَاعِيّ. وَالثَّانِي: فليتصدق بِصَدقَة تكون(3/395)
كَفَّارَة لما جرى على لِسَانه من ذَلِك.
1835 - / 2278 - والْحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ، إِلَّا أَن فِي هَذَا: ((إِذا تنخع أحدكُم)) والنخامة والنخاعة والبصاق بِمَعْنى وَاحِد، إِلَّا أَن البصاق من أدنى الْفَم، والنخاعة من أقْصَى الْفَم، كَأَنَّهُ مَأْخُوذ من النخاع: وَهُوَ الْخَيط الْأَبْيَض المستبطن فقار الْعُنُق الْمُتَّصِل بالدماغ.
1836 - / 2279 - والْحَدِيث الثَّانِي عشر بعد الْمِائَة: فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
1837 - / 2280 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة: ((يَأْتِي الشَّيْطَان أحدكُم فَيَقُول: من خلق كَذَا؟ حَتَّى يَقُول: من خلق رَبك؟ فَإِذا بلغه فليستعذ بِاللَّه ولينته)) .
الْمَعْنى: فليعرض عَن مساكنة الْفِكر بعد هَذَا؛ فَإِن كل خصم رُبمَا انْتهى جدله، ووسوسة الشَّيْطَان لَا تَنْتَهِي، فَلَيْسَ إِلَّا التَّعَوُّذ وَقطع المساكنة لَهَا، وَإِنَّمَا يَسْتَعِين إِبْلِيس على هَذِه الوسوسة بالحس لَا بِالْعقلِ، والحس لم يعرف وجود شَيْء إِلَّا من شَيْء وبشيء، فَأَما الْعقل فَيقطع على وجود خَالق لَيْسَ بمخلوق، على مَا بَينا فِي مُسْند أنس بن مَالك، فَإِن هَذَا الحَدِيث هُنَاكَ.(3/396)
1838 - / 2282 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد الْمِائَة: ((من أدْرك مَاله بِعَيْنِه عِنْد رجل قد أفلس فَهُوَ أَحَق بِهِ من غَيره)) .
أصل أفلس أَنه بِمَعْنى صَار ذَا فلوس بعد أَن كَانَ ذَا دَرَاهِم.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: فَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: إِذا أفلس المُشْتَرِي بِالثّمن فَوجدَ البَائِع عين مَاله عِنْده والمفلس حَيّ وَلم يقبض البَائِع من ثمنه شَيْئا فَهُوَ أَحَق بِهِ من سَائِر الْغُرَمَاء، فَإِن قبض من الثّمن شَيْئا كَانَ أُسْوَة الْغُرَمَاء. وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ أَحَق بِهِ فِي الْمَوْت والحياة، فَإِن قبض مِنْهُ شَيْئا كَانَ أَحَق بِمَا بَقِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ أُسْوَة الْغُرَمَاء بِكُل حَال.
1839 - / 2283 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَة: ((كل أمتِي معافى إِلَّا المجاهرين، وَمن المجاهرة أَن يعْمل الرجل بِاللَّيْلِ عملا ثمَّ يصبح وَقد ستره الله عَلَيْهِ فَيَقُول: يَا فلَان، عملت البارحة كَذَا وَكَذَا، وَقد بَات يستره ربه)) .
المجاهرون: الَّذين يجاهرون بالفواحش وَيَتَحَدَّثُونَ بِمَا قد فَعَلُوهُ مِنْهَا سرا، وَالنَّاس فِي عَافِيَة من جِهَة الْهم مستورون، وَهَؤُلَاء مفتضحون.
1840 - / 2284 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَة: ((مَا بَين بَيْتِي(3/397)
ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة، ومنبري على حَوْضِي)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: معنى الحَدِيث تَفْضِيل الْمَدِينَة وخصوصا الْبقْعَة الَّتِي بَين الْبَيْت والمنبر، يَقُول: من لزم طَاعَة الله فِي هَذِه الْبقْعَة آلت بِهِ الطَّاعَة إِلَى رَوْضَة من رياض الْجنَّة، وَمن لزم عبَادَة الله عِنْد الْمِنْبَر سقِِي فِي الْقِيَامَة من الْحَوْض.
1841 - / 2285 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الْمِائَة: ((سَبْعَة يظلهم الله فِي ظله)) فَذكر فيهم: رجلا قد تصدق بِصَدقَة فأخفاها حَتَّى لَا تعلم شِمَاله مَا تنْفق يَمِينه.
قد ذكر النَّاس فِي هَذَا أقوالا: فَقَالَ بَعضهم: لَا يعلم جليسه عَن شِمَاله. وَقَالَ قوم: لَا يرائي بِنَفَقَتِهِ فَلَا يَكْتُبهَا صَاحب الشمَال.
وَالصَّوَاب أَنه للْمُبَالَغَة، وَأَنه بَالغ فِي الكتم، فَلَو تصور أَن لَا تعلم شِمَاله مَا علمت.
1842 - / 2286 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة: ((إِن الْإِيمَان ليأرز إِلَى الْمَدِينَة)) أَي يجْتَمع إِلَيْهَا بِهِجْرَة الْمُهَاجِرين.
1843 - / 2287 - والْحَدِيث الْعشْرُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند أبي سعيد وَغَيره.(3/398)
1844 - / 2288 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((يُوشك الْفُرَات أَن يحسر عَن كنز من ذهب)) وَفِي رِوَايَة ((عَن جبل)) .
يُوشك: أَي يقرب، يُقَال: أوشك الشَّيْء، وَأمر وشيك: أَي قريب. ويحسر: يكْشف.
1845 - / 2289 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((إِن العَبْد ليَتَكَلَّم بِالْكَلِمَةِ مَا يتَبَيَّن فِيهَا، يزل بهَا فِي النَّار أبعد من الْمشرق وَالْمغْرب)) .
يتَبَيَّن من الْبَيَان: أَي إِنَّه مَا بَينهَا بِعِبَارَة تَامَّة.
والبال: الْقلب. ويلقي بِالْقَافِ من الْإِلْقَاء، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَو ألْقى السّمع} [ق: 37] أَي أحضرهُ. وَالْمعْنَى: لَا يحضر لَهَا قلبه كل الْحُضُور. وَمن قَرَأَهُ بِالْفَاءِ فغلط؛ لِأَنَّهُ لَا معنى لَهُ هَا هُنَا.
وَهَذِه الْكَلِمَات لَيست مِمَّا تعلم عَنهُ، بل لَو قَالَ للوالي الجائر: النَّاس فِي زَمَانك فِي عَيْش. أَو قَالَ عِنْد غيبَة الْمُسلم: يسْأَل الله الْعَافِيَة، خفت أَن تكون هَذِه من كَلِمَات الشَّرّ الَّتِي تووعد عَلَيْهَا. وَلَو قَالَ للجائر: إِنَّك مسئول عَن رعيتك، رَجَوْت أَن تكون من الْكَلِمَات الَّتِي يرفع بهَا.(3/399)
1846 - / 2290 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه فليستنثر ثَلَاث مَرَّات، فَإِن الشَّيْطَان يبيت على خياشيمه)) .
النثرة: الْأنف. والخياشيم: الأنوف. فَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الإستنشاق، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الإمتخاط.
1847 - / 2291 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: نهى أَن تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا، وَالْمَرْأَة على خَالَتهَا.
إِنَّمَا نهى عَن الْجمع بَين هَاتين لِأَن التنافس يَقع بَين الضرائر فَيحصل بَين هَاتين التقاطع.
وَقَوله: ((طَلَاق أُخْتهَا)) ينْهَى ضَرَّتهَا، فَهِيَ أُخْتهَا فِي الْإِسْلَام ومماثلتها فِي الزَّوْج. وتكتفىء ((تفتعل)) : من كفأت الْقدر: إِذا كببتها لتفرغ مَا فِيهَا. والصحفة: الْقَصعَة.
وَقد بَينا فِي الحَدِيث الْخمسين من هَذَا الْمسند أَن النَّهْي عَن خطْبَة الرجل على خطْبَة أَخِيه إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذا كَانَت الْمَرْأَة قد سكنت إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِي السّوم.
1848 - / 2292 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((يُسْتَجَاب لأحدكم مَا لم يعجل، يَقُول: قد دَعَوْت فَلم يستجب لي،(3/400)
فيستحسر عِنْد ذَلِك ويدع الدُّعَاء)) .
اعْلَم أَن الله عز وَجل لَا يرد دُعَاء الْمُؤمن، غير أَنه قد تكون الْمصلحَة فِي تَأْخِير الْإِجَابَة، وَقد لَا يكون مَا سَأَلَهُ مصلحَة فِي الْجُمْلَة فيعوضه عَنهُ مَا يصلحه. وَرُبمَا أخر تعويضه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. فَيَنْبَغِي لِلْمُؤمنِ أَلا يقطع الْمَسْأَلَة لِامْتِنَاع الْإِجَابَة؛ فَإِنَّهُ بِالدُّعَاءِ متعبد، وبالتسليم إِلَى مَا يرَاهُ الْحق لَهُ مصلحَة مفوض.
ويستحسر بِمَعْنى يَنْقَطِع، من قَوْله عز وَجل: {وَلَا يستحسرون} [الْأَنْبِيَاء: 19] .
1849 - / 2293 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((لِأَن يحتطب أحدكُم حزمة على ظَهره خير من أَن يسْأَل)) وَهَذَا سبق فِي مُسْند الزبير.
وَفِيه ((ذَلِك بِأَن الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى)) وَهَذَا قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
1850 - / 2294 - والْحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.(3/401)
1851 - / 2295 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((من قذف مَمْلُوكه وَهُوَ بَرِيء مِمَّا قَالَ جلد يَوْم الْقِيَامَة)) .
اعْلَم أَن الْمَمْلُوك عبد لله كَمَا أَن الْمَالِك عبد لَهُ، وَالْحق عز وَجل عَادل، فَإِذا لم يجلد لموْضِع قذفه لَهُ فِي الدُّنْيَا من جِهَة استعلائه عَلَيْهِ بالملكة جلد لَهُ فِي الْقِيَامَة. أخبرنَا الْمُبَارك بن أَحْمد الْأنْصَارِيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عَليّ ابْن الْفَتْح قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن الْحُسَيْن بن سكينَة قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد ابْن الْقَاسِم بن مهْدي قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد بن أبي قيس قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو بكر الْقرشِي قَالَ: حَدثنِي هَارُون بن سُفْيَان قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عمر عَن إِسْمَاعِيل بن أبي سعيد عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: من النَّاس من يقتل يَوْم الْقِيَامَة وَيقطع، يقْتَصّ مِنْهُ. وَعَن إِسْمَاعِيل بن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: إِن من النَّاس من يقتل يَوْم الْقِيَامَة ألف قتلة، يَعْنِي: يقْتَصّ مِنْهُ.
1852 - / 2296 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((من غَدا إِلَى الْمَسْجِد أَو رَاح أعد الله لَهُ نزلا)) .
النزل: مَا يهيأ للنزيل، والنزيل: الضَّيْف.
1853 - / 2297 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((لَيْسَ الْمِسْكِين بِالَّذِي ترده التمرة وَالتَّمْرَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِين الَّذِي يتعفف)) .(3/402)
الْمِسْكِين اسْم مَأْخُوذ من المسكنة، والمسكنة ((مفعلة)) من السّكُون، كَأَن الْحَاجة أسكنته ومنعته التَّصَرُّف.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي صفة الْفَقِير والمسكين على سِتَّة أَقْوَال قد ذَكرنَاهَا فِي التَّفْسِير. والمنصور مِنْهَا عندنَا أَن الْمِسْكِين أحسن حَالا من الْفَقِير؛ لِأَن الْفَقِير أَصله فِي اللُّغَة المفقور الَّذِي نزعت فقرة من فقر ظَهره، فَكَأَنَّهُ انْقَطع ظَهره من شدَّة الْفقر، فصرف عَن مفقور إِلَى فَقير، كَمَا قيل: جريح وطريح وطبيخ، حَكَاهُ ابْن الْأَنْبَارِي وَغَيره.
إِلَّا أَن هَذَا الحَدِيث قد جعل من لَا يسْأَل لسكوته أعظم حَاجَة من السَّائِل، وَقد نبه على تحري المتعففين بِالصَّدَقَةِ دون الملحفين؛ فَإِن الْمُلْحِف غَنِي بسؤاله، والإلحاف كَثْرَة السُّؤَال.
1854 - / 2298 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((مَا يُصِيب الْمُؤمن من وصب وَلَا نصب حَتَّى الْهم إِلَّا كفر بِهِ من سيئاته)) .
الوصب: الْمَرَض والألم. وَالنّصب: الإعياء والتعب. والهم: مرض يخْتَص بِهِ الْبَاطِن، فَلذَلِك يكفر بِهِ عَن السَّيِّئَات.
1855 - / 2299 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أمرت بقرية تَأْكُل الْقرى يَقُولُونَ يثرب، وَهِي الْمَدِينَة)) .
الْقرْيَة: اسْم لما يجمع جمَاعَة من النَّاس، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْجمع، وَمِنْه: قريت المَاء فِي الْحَوْض.(3/403)
وَفِي معنى تَأْكُل الْقرى قَولَانِ: أَحدهمَا: يَأْكُل أَهلهَا الْقرى: أَي يفتحون الْقرى فيأكلونها. أخبرنَا عبد الْحق بن عبد الْخَالِق قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد لن مَرْزُوق قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد بن عمر الْمُقْرِئ قَالَ: أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن عَليّ الخطبي قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أمرت بقرية تَأْكُل الْقرى)) قَالَ: تَفْسِيره - وَالله أعلم - تفتح الْقرى، فتحت مَكَّة بِالْمَدِينَةِ، وَمَا حول الْمَدِينَة بهَا. وَالثَّانِي: تفرغ الْقرى بِوُجُوب الْهِجْرَة إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهَا أكلتها.
وَأما يثرب فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يثرب اسْم أَرض، ومدينة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَاحيَة مِنْهَا. وَالْمَدينَة إِذا أطلقت أُرِيد بهَا دَار الْهِجْرَة الَّتِي فِيهَا بَيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومنبره وقبره. وَقد سبق بَيَان اشتقاق الْمَدِينَة فِي أول الْكتاب.
وَقَوله: ((تَنْفِي النَّاس)) أَي تخرج من لَا يصلح ((كَمَا يَنْفِي الْكِير)) وَهُوَ الْمَبْنِيّ للنار الَّتِي يدْخل فِيهَا الْحَدِيد. وخبث الْحَدِيد: رَدِيئَة.
1856 - / 2300 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((إِن الرَّحِم شجنة من الرَّحْمَن)) .(3/404)
أَي وَصله. وأصل ذَلِك الْغُصْن من أَغْصَان الشّجر إِذا التف بِالْآخرِ، قَالَ أَبُو عبيد: شجنة: أَي قرَابَة مشتبكة كاشتباك الْعُرُوق، وَكَأن قَوْلهم: ((الحَدِيث ذُو شجون)) مِنْهُ، إِنَّمَا هُوَ تمسك بعضه بِبَعْض وَقَالَ: هَذَا شجر متشجن: إِذا التف بعضه بِبَعْض. والشجنة والشجنة كالغصن يكون من الشّجر.
وَهَذَا الحَدِيث لَا يَخْلُو مَعْنَاهُ من أحد شَيْئَيْنِ: إِمَّا أَن يُرَاد أَن الْحق عز وَجل يُرَاعِي الرَّحِم بوصل من وَصلهَا وَقطع من قطعهَا وَالْأَخْذ لَهَا بِحَقِّهَا، كَمَا يُرَاعِي الْقَرِيب قرَابَته، فَإِنَّهُ يزِيدهُ فِي المراعاة على الْأَجَانِب. أَو أَن يُرَاد أَن الرَّحِم بعض حُرُوف الرَّحْمَن، فَكَأَنَّهُ عظم قدره بِهَذَا الِاسْم.
1857 - / 2302 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((مَا تصدق أحد بِصَدقَة من طيب - وَلَا يتَقَبَّل الله إِلَّا الطّيب - إِلَّا أَخذهَا الرَّحْمَن بِيَمِينِهِ)) .
الطّيب: الْحَلَال.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَإِنَّمَا جرى ذكر الْيَمين ليدل بِهِ على حسن الْقبُول، لِأَن فِي عرف النَّاس أَن أَيْمَانهم مرصدة لما عز من الْأُمُور.
وَمعنى التربية المضاعفة.(3/405)
وَأما الفلو فَهُوَ المفطوم، يُقَال: فلوته عَن أمه: أَي فَطَمته، وَهُوَ حِينَئِذٍ مُحْتَاج إِلَى تربية غير الْأُم.
والفصيل: ولد النَّاقة إِذا فصل عَن أمه، وَأَصله من الْقطع، يُقَال: فصلت الشَّيْء من الشَّيْء.
والقلوص: الصَّغِير من الْإِبِل، وَقد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَن القلوص النَّاقة القوية على السّير من الْإِبِل، فَيكون الْمَعْنى: كَمَا تربى هَذِه النَّاقة إِلَى أَن تصير قلوصا.
1858 - / 2303 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أَيّمَا رجل أعتق امْرأ مُسلما استنقذ الله بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا مِنْهُ حَتَّى فرجه بفرجه)) .
الإستنقاذ: الإستخلاص. والإرب: الْعُضْو. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على فضل عتق الذّكر على الْأُنْثَى.
1859 - / 2304 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أذْنب عبد فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر لي)) فَذكر الحَدِيث، وَأَنه عاود مرَارًا، فَقَالَ الله: ((قد غفرت لعبدي، فَلْيفْعَل مَا شَاءَ)) .
وَجه هَذَا الحَدِيث أَن التَّوْبَة لَا تعجز عَن أحد وَإِن عاود الذُّنُوب،(3/406)
فَمن صدق فِي تَوْبَته ثمَّ قدر لَهُ أَن يعود من غير عزم عِنْد التَّوْبَة على الْعود، فتوبته مَقْبُولَة.
1860 - / 2305 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: حَدِيث الأبرص والأقرع وَالْأَعْمَى، وَأَن أحدهم أعطي نَاقَة عشراء.
العشراء: وَاحِدَة العشار: وَهِي النوق الْحَوَامِل الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا عشرَة أشهر.
قَوْله: ((فأنتج هَذَانِ)) الناتج للنوق كالقابلة للنِّسَاء، وَالْمعْنَى: افْتقدَ مَا تَلد عِنْد وِلَادَته. ((وَولد هَذَا)) أَي فعل كَفعل الناتج.
والمولدة: الْقَابِلَة.
والحبال: العهود والوسائل وكل مَا يُرْجَى بِهِ الْفرج، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قد انْقَطَعت بِي الْأَسْبَاب الَّتِي كنت أَرْجُو التَّوَصُّل فِي سَفَرِي. فَلَا بَلَاغ. الْبَلَاغ وَالْبُلُوغ: الْوُصُول إِلَى الْغَرَض الْمَقْصُود.
وَقَوله: ((ورثته كَابِرًا عَن كَابر)) أَي كَبِيرا عَن كَبِير فِي الشّرف والعز.
وَقَوله: ((لَا أجهدك)) أَي لَا أشق عَلَيْك بِالرَّدِّ والإمتنان.
وَقد جَاءَ فِي بعض أَلْفَاظ الصَّحِيح وَلم يذكرهُ الْحميدِي: ((أَن ثَلَاثَة بَدَأَ الله أَن يبتليهم)) كَذَلِك رَوَاهُ الْخطابِيّ وَقَالَ: مَعْنَاهُ: قضى الله، وَهُوَ معنى البدء، لِأَن الْقَضَاء سَابق. قَالَ: وَقد رَوَاهُ بَعضهم: ((بدا لله أَن يبتليهم)) وَهُوَ غلط؛ لِأَن البداء على الله غير جَائِز.(3/407)
1861 - / 2306 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث: إِذا حدث كذب، وَإِذا وعد أخلف، وَإِذا اؤتمن خَان)) .
الْآيَة: الْعَلامَة.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: النِّفَاق لفظ إسلامي لم تكن الْعَرَب تعرفه قبل الْإِسْلَام، وَهُوَ مَأْخُوذ من نافقاء اليربوع: وَهُوَ جُحر من جحرته يخرج مِنْهُ إِذا أَخذ عَلَيْهِ الْجُحر الَّذِي دخل فِيهِ، قَالَ: وَقَالَ الزيَادي عَن الْأَصْمَعِي: ولليربوع أَرْبَعَة حجرَة: النافقاء وَهُوَ الَّذِي يخرج مِنْهُ كثيرا وَيدخل مِنْهُ كثيرا. والقاصعاء سمي بذلك لِأَنَّهُ يخرج تُرَاب الْجُحر ثمَّ يقصع بِبَعْضِه، كَأَنَّهُ يسد بِهِ فَم الْجُحر، وَمِنْه يُقَال: جرح فلَان قد قصع بِالدَّمِ: إِذا امْتَلَأَ وَلم يسل. والداماء سمي بذلك لِأَنَّهُ يخرج التُّرَاب من فَم الْجُحر، كَأَنَّهُ يطليه بِهِ، وَمِنْه يُقَال: ادمم قدرك بشحم: أَي اطلها بِهِ. والراهطاء، وَلم يذكر اشتقاقه. وَإِنَّمَا يتَّخذ هَذِه الْحُجْرَة عددا لَهُ، فَإِذا أَخذ عَلَيْهِ بَعْضهَا خرج من بعض. قلت: فَيخرج من هَذَا فِي تَسْمِيَة الْمُنَافِق منافقا ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه يدْخل فِي الْإِسْلَام بِاللَّفْظِ وَيخرج مِنْهُ بِالْعقدِ، كَمَا يدْخل اليربوع من بَاب وَيخرج من بَاب، قَالَه أَبُو زيد النَّحْوِيّ. وَالثَّانِي: أَنه يستر كفره كَمَا يسْتَتر اليربوع. وَالثَّالِث: أَنه يظْهر غير مَا يضمر، كَمَا أَن ظَاهر جُحر(3/408)
اليربوع تُرَاب كالأرض وَمَا تَحْتَهُ حفر.
وَقَوله: ((وَإِذا وعد أخلف)) خلف الْوَعْد: الرُّجُوع عَنهُ، وَهَذَا مَحْمُول على من وعد وَهُوَ على عزم الْخلف، أَو ترك الْوَفَاء من غير عذر، فَأَما من عزم على الْوَفَاء فَعرض لَهُ عذر مَنعه من الْوَفَاء فَلَيْسَ بمنافق، إِلَّا أَنه يَنْبَغِي أَن يحتزر من صُورَة النِّفَاق كَمَا يحْتَرز من حَقِيقَته.
وأصل الْخِيَانَة النَّقْص، يُقَال: فلَان يتخونني حَقي: أَي يتنقصني.
1862 - / 2307 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين بعد الْمِائَة: ((إِذا دخل رَمَضَان سلسلت الشَّيَاطِين)) . أَي: جعلت فِي السلَاسِل.
فَإِن قيل: إِذا سلسلت الشَّيَاطِين فَكيف تقع الْمعاصِي؟ فَالْجَوَاب: أَن الْمعاصِي تقع بميل الطَّبْع إِلَى الشَّهَوَات الْمُحرمَة، وَلَيْسَ للشَّيْطَان إِلَّا التزيين والتحريض، وَإِذا بعد المحرض عَن الْمِقْدَام لم يبطل إقدامه.
1863 - / 2308 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: انطلقنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَهُ عبد لَهُ، فَجَاءَهُ سهم عائر.
العائر من السِّهَام وَالْحِجَارَة: الَّذِي لَا يدرى من أَيْن أَتَى.
وَهَذَا العَبْد اسْمه مدعم، وَقد ذكر فِي الحَدِيث. وَكَانَ لرَسُول الله(3/409)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر من أَرْبَعِينَ مولى قد حصرت أَسْمَاءَهُم فِي كتاب ((التلقيح)) .
1864 - / 2310 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((اجتنبوا السَّبع الموبقات)) يَعْنِي المهلكات.
1865 - / 2311 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يقوم رجل من قحطان يَسُوق النَّاس بعصاه)) .
إِنَّمَا ضرب الْعَصَا مثلا، وَالْمعْنَى أَن النَّاس ينقادون وَله ويطيعونه كَمَا ينقاد المسوق بالعصا، وَمثل هَذَا: وَلَا ترفع عصاك عَن أهلك.
أَي: لَا تتْرك حملهمْ على الإنقياد والتزام الطَّاعَة، وَلم يرد الْعَصَا الَّتِي يضْرب بهَا.
1866 - / 2312 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((يعرق النَّاس حَتَّى يذهب عرقهم فِي الأَرْض سبعين باعا)) .
الباع والبوع: مَا بَين طرفِي الذراعين إِذا مدتا يَمِينا وَشمَالًا. وَذكر الإلجام اسْتِعَارَة، وَالْمعْنَى أَنه يبلغ إِلَى آذانهم، وَهُوَ مَوضِع اللجام من الدَّابَّة.
1867 - / 2313 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: {وَآخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم} [الْجُمُعَة: 3] . فَوضع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَده(3/410)
على سلمَان ثمَّ قَالَ: ((لَو كَانَ الْإِيمَان عِنْد الثريا لَنَالَهُ رجال من هَؤُلَاءِ)) أَو قَالَ: ((من أَبنَاء فَارس)) .
قَوْله: (وَآخَرين) مَعْطُوف على مَا قبله. وَالْمعْنَى: هُوَ الَّذِي بعث فِي الْأُمِّيين - وهم الْعَرَب. وَسموا أُمِّيين لأَنهم لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يقرأون، نِسْبَة إِلَى الْأُمَّهَات، إِذْ الْخط فِي الرِّجَال لَا فِي النِّسَاء غَالِبا.
(رَسُولا) يَعْنِي مُحَمَّدًا. (مِنْهُم) أَي من جنسهم ونسبهم ليكونوا أفهم عَنهُ من غَيره. (وَآخَرين) أَي وَبعث مُحَمَّدًا فِي آخَرين: وَفِيهِمْ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم الْعَجم، قَالَه ابْن عمر وَسَعِيد بن جُبَير، فعلى هَذَا إِنَّمَا قَالَ: (مِنْهُم) لأَنهم إِذا أَسْلمُوا صَارُوا مِنْهُم، إِذْ الْمُسلمُونَ يَد وَاحِدَة. وَالثَّانِي: أَنهم التابعون، قَالَه مُجَاهِد. وَالثَّالِث: جَمِيع من دخل فِي الْإِسْلَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، قَالَه مُجَاهِد.
وَقَوله: {لما يلْحقُوا بهم} أَي لم يلْحقُوا بهم.
فَأَما فَارس فَهُوَ ابْن سَام بن نوح. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: فَارس اسْم أبي هَذَا الجيل من النَّاس، أعجمي مُعرب.
1868 - / 2314 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شَاة)) .(3/411)
قَالَ ابْن دُرَيْد: الفرسن: ظَاهر الْخُف، وَالْجمع فراسن.
1869 - / 2315 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((مَا من الْأَنْبِيَاء نَبِي إِلَّا أعطي من الْآيَات مَا مثله آمن عَلَيْهِ الْبشر، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتيت وَحيا أوحاه الله إِلَيّ)) .
الْإِشَارَة بِالْآيَاتِ إِلَى الحسيات كناقة صَالح وعصا مُوسَى وإحياء الْمَوْتَى، فَهَذِهِ معجزات ترى بِعَين الْحس، ومعجزة نَبينَا الْكُبْرَى هِيَ الْقُرْآن الفصيح، فَهِيَ تشاهد بِعَين الْعقل. وَقد كَانَ فِي جُمْهُور الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة بلادة حَتَّى قَالَ قَائِلهمْ: {اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة} والبليد لَا يصلح إِلَّا بآيَات الْحس. وَالَّذين بعث إِلَيْهِم نَبينَا كَانُوا أَرْبَاب ذكاء وفطنة فكفاهم الْقُرْآن معْجزَة؛ غير أَن الْقَضَاء قضى على قوم من أذكيائهم بالشقاء مَعَ وجود الْفَهم، كَمَا قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ: تِلْكَ عقول كادها بارئها فأنفوا لكبرهم من ذل الإتباع، وغاروا على سلفهم من تخطئتهم فِي عبَادَة الْأَصْنَام، وحسدوا الرَّسُول لما ميز عَنْهُم، {إِن فِي صُدُورهمْ إِلَّا كبر مَا هم ببالغيه} [غَافِر: 56] على أَنه لم يكن للأنبياء معْجزَة إِلَّا ولنبينا من جِنْسهَا، فَإِن الرعب الَّذِي أيد بِهِ كَانَ يُوقع فِي قُلُوب أعدائه مَا لم توقعه عَصا مُوسَى فِي قلب فِرْعَوْن، ونبع المَاء من بَين أَصَابِعه أحسن من ظُهُوره من حجر مُوسَى، إِذْ الْعَادة قد جرت(3/412)
بجريانه من حجر، وخطاب الذِّرَاع المسموم لَهُ أعجب من تكليم الْمَوْتَى لعيسى.
1870 - / 2317 - والْحَدِيث الْخَمْسُونَ بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأبي سعيد.
1871 - / 2319 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة: قيل: يَا رَسُول الله، من أكْرم النَّاس؟ قَالَ: ((أَتْقَاهُم)) .
هَذَا مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى: {إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم} [الحجرات: 13] وَالْكَرم بِمَعْنى الشّرف. وَمن اتَّقى الله عز وَجل عز وَشرف؛ لِأَن التَّقْوَى تحمله على أَسبَاب الْعِزّ؛ فَإِنَّهَا تبعده عَن الطمع فِي كثير من الْمُبَاح فضلا عَن المأثم. وَمَا ذل إِلَّا من أسره هَوَاهُ.
وَأما ذكره ليوسف فَيحْتَمل أَمريْن: أَحدهمَا: أَن يكون خصّه بِالذكر لِاجْتِمَاع شرف نبوته مَعَ شرف آبَائِهِ. وَالثَّانِي: لِصَبْرِهِ عَن الْهوى؛ فَإِنَّهُ شرف الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
ومعادن الْعَرَب: أصولهم الَّتِي ينتسبون إِلَيْهَا ويتفاخرون بهَا، والمعدن مَرْكَز كل شَيْء وَأَصله الَّذِي يعرف بِهِ وَيُؤْخَذ مِنْهُ، فَإِذا ركز الشّرف فِي الطَّبْع فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ جَاءَ الْإِسْلَام صَارَت المآثر دينية، فَأَما من هُوَ خسيس الهمة فِي كفره، فَقل أَن تعلو همته؛ لِأَن الطَّبْع غَالب.(3/413)
1872 - / 2320 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((فاظفر بِذَات الدّين تربت يداك)) .
قد شرحناه فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1873 - / 2321 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة: دخل رجل فصلى وَسلم على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَرد فَقَالَ: ((ارْجع فصل، فَإنَّك لم تصل)) ثمَّ علمه الصَّلَاة، وَذكر لَهُ الطُّمَأْنِينَة.
وَهَذَا يدل على وجوب الطُّمَأْنِينَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالرَّفْع مِنْهُمَا، وَتلك أَرْكَان عندنَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَدَاوُد خلافًا لأبي حنيفَة وَمَالك.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((ثمَّ اقْرَأ مَا تيَسّر)) وَقد احْتج بِهِ الحنفيون وَقَالُوا: هَذَا يدل على أَنه لَا يتَعَيَّن الْفَاتِحَة. وجوابهم أَنه يحْتَمل أَن يكون ذَلِك قبل نزُول الْفَاتِحَة وتعيينها، وَأَن يكون وَقت الصَّلَاة قد ضَاقَ وَهُوَ يحفظ غَيرهَا، فَيجوز لَهُ قِرَاءَة مَا يحفظ، وَأَن يكون المُرَاد بِمَا تيَسّر مَا بعد الْفَاتِحَة، وَلم يذكرهَا اتكالا على الْعلم بِوُجُوبِهَا.
وَإِذا جَازَت على الحَدِيث هَذِه المحتملات لم يجز ترك الصَّرِيح، وَهُوَ قَوْله: ((لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب)) .(3/414)
فَإِن قيل: كَيفَ جَازَ للرسول عَلَيْهِ السَّلَام أَن يُؤَخر الْبَيَان وَقت الْحَاجة ويردد هَذَا الرجل إِلَى صَلَاة لَيست صَحِيحَة؟ فَالْجَوَاب: من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون ترديده لتفخيم الْأَمر وتعظيمه عِنْده، وَرَأى أَن الْوَقْت لم يفت، فَأَرَادَ بالترداد إيقاظ الفطنة للمتروك. وَالثَّانِي: أَن يكون الرجل قد أدّى قدر الْوَاجِب فَأَرَادَ مِنْهُ فعل الْمسنون وَالْمُسْتَحب، فَيكون قَوْله: ((لم تصل)) يَعْنِي بِهِ الصَّلَاة الْكَامِلَة.
1874 - / 2322 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ بعد الْمِائَة: ((إِذا زنت الْأمة فليجلدها الْحَد وَلَا يثرب عَلَيْهَا)) .
أَي لَا يعيرها بعد إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لسِتَّة أَشْيَاء: أَحدهَا: لِأَن الْمَقْدُور كَائِن. وَالثَّانِي: لِأَن الْهوى غَالب. وَالثَّالِث: لِأَن الْحَد حد عقوبتها الشَّرْعِيَّة، فَلَا يُزَاد عَلَيْهَا مَا لم يشرع. وَالرَّابِع: أَنَّهَا رُبمَا تكون قد نَدِمت وتابت. وَالْخَامِس: أَنه رُبمَا سمع تعييره لَهَا من لم يكن يعلم حَالهَا. وَالسَّادِس: أَنه من يَأْمَن الْمُعير أَن يبتلى.
1875 - / 2323 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((إِذا أَوَى أحدكُم إِلَى فرَاشه فلينفضه بداخلة إزَاره، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي مَا خلف عَلَيْهِ)) .
أَوَى مَقْصُور، يُقَال: أَوَى يأوي أويا: أَي صَار إِلَى مَأْوَاه،(3/415)
والمأوى: الْمَكَان الَّذِي يؤوى إِلَيْهِ.
وداخلة الْإِزَار: طرفه الَّذِي يَلِي الْجَسَد.
وَقَوله: ((لَا يدْرِي مَا خلف عَلَيْهِ)) أَي مَا صَار بعده خلفا وبدلا مِنْهُ إِذا غَابَ عَنهُ من الْهَوَام وَغَيرهَا.
وَأما الإضطجاع على الشق الْأَيْمن فقد ذكرنَا فَائِدَته فِي مُسْند الْبَراء ابْن عَازِب.
1876 - / 2324 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة: حَدِيث ثُمَامَة بن أَثَال، وَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أسره ربطه بِسَارِيَة، فَذكر الحَدِيث وَفِيه: ((أطْلقُوا ثُمَامَة)) فَانْطَلق إِلَى نخل قريب من الْمَسْجِد فاغتسل.
فِي هَذَا الحَدِيث أَن هَذَا الرجل لم يسلم من تَحت الْأسر لعزة نَفسه، وَكَأن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحس مِنْهُ بذلك فَقَالَ: ((أَطْلقُوهُ)) فَلَمَّا أطلق أسلم.
وَقَوله: انْطلق إِلَى نخل. هَكَذَا ضبطناه عَن أشياخنا نخل بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من فَوْقهَا، وَذَلِكَ أَن المَاء يكون فِي الْبَسَاتِين عِنْد النّخل. وَقد ذهب بعض الْمُحدثين إِلَى أَنه نجل بِالْجِيم الْمُعْجَمَة من تحتهَا وَقَالَ: النجل: النز. وَوجه هَذَا حَدِيث عَائِشَة الَّذِي يَأْتِي فِي مسندها: كَانَ بطحان - وَهُوَ وَاد بِالْمَدِينَةِ - يجْرِي نجلا - أَي نزا -(3/416)
فَيمكن أَن يكون مضى إِلَى ذَلِك الْمَكَان، وَالْأول أظهر لما أخبرنَا بِهِ عَليّ بن عبد الله الزَّاغُونِيّ قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن النقور قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن مردك قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن حَمَّاد الطهراني قَالَ: أخبرنَا عبد الرَّزَّاق قَالَ: أخبرنَا عبيد الله وَعبد الله ابْنا عمر عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة: أَن ثُمَامَة الْحَنَفِيّ أسر فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْدُو إِلَيْهِ فَيَقُول: ((مَا عنْدك يَا ثُمَامَة؟)) فَيَقُول: إِن تقتل تقتل ذَا ذَنْب، وَإِن تمن تمن على شَاكر، وَإِن ترد المَال تعط مِنْهُ مَا شِئْت. وَكَانَ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحبونَ الْفِدَاء وَيَقُولُونَ: مَا نصْنَع بقتل هَذَا؟ فَمن عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا، فَأسلم، فَحله وَبعث بِهِ إِلَى حَائِط أبي طَلْحَة، فَأمره أَن يغْتَسل، فاغتسل وَصلى رَكْعَتَيْنِ.
1877 - / 2325 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((لَا يمْنَع جَار جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره)) .
عندنَا أَنه يجوز للْجَار أَن يضع خَشَبَة فِي جِدَار جَاره عِنْد الْحَاجة إِلَى ذَلِك بِشَرْط أَلا يضير بِالْحَائِطِ، فَإِن امْتنع الْجَار أجْبرهُ الْحَاكِم على ذَلِك، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم، إِلَّا أَنه قَالَ: لَا يحكم عَلَيْهِ الْحَاكِم بذلك. وَقَالَ أَكثر الْعلمَاء: لَا يجوز إِلَّا بِإِذن الْمَالِك. وَفِي الحَدِيث حجَّة لنا.(3/417)
وَأما النَّهْي عَن الشّرْب من السقاء فقد سبق فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
1878 - / 2326 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((شَرّ الطَّعَام طَعَام الْوَلِيمَة)) .
الْوَلِيمَة: طَعَام الْعرس، قَالَ أَبُو عبيد: الطَّعَام الَّذِي يصنع عِنْد الْعرس الْوَلِيمَة، وَالَّذِي عِنْد الإملاك النقيعة، وَطَعَام الْبناء الوكيرة، وَمَا يصنع عِنْد الْولادَة فَهُوَ الخرس، وَمَا يصنع عِنْد الْخِتَان فَهُوَ الْإِعْذَار. وكل طَعَام صنع بعد الدعْوَة فَهُوَ مأدبة ومأدبة. والنقيعة: مَا صنعه الرجل عِنْد قدومه من سَفَره.
فَإِن قيل: فَلم قَالَ: ((شَرّ الطَّعَام)) ؟ فَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا ذكر حَالهَا على الْأَغْلَب، والأغلب منع الْفُقَرَاء المحتاجين وَجمع الْأَغْنِيَاء عَلَيْهَا. والإجابة إِلَيْهِ وَاجِبَة على مَا ذكرنَا فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب.
1879 - / 2327 - وَفِي الحَدِيث السِّتين بعد الْمِائَة: ((من شهد الْجِنَازَة حَتَّى يصلى عَلَيْهَا فَلهُ قِيرَاط)) .
ذكر القيراط تَمْثِيل وتقريب إِلَى الْفَهم، وَلما كَانَ الْإِنْسَان يعرف القيراط ويرغب فِيهِ وَيعْمل الْعَمَل فِي مُقَابلَته وعد من جنس مَا يعرف،(3/418)
وَضرب لَهُ الْمثل بِمَا يعلم. وَكَانَ ابْن عقيل يَقُول: القيراط نصف سدس أَو نصف عشر دِينَار.
وَالْإِشَارَة بِهَذَا الْمِقْدَار إِلَى الْأجر الْمُتَعَلّق بِالْمَيتِ، من تَجْهِيزه وغسله وَدَفنه والتعزية بِهِ، وَحمل الطَّعَام إِلَى أَهله وتسليتهم، وَالصَّبْر على الْمُصَاب فِيهِ، فَكَانَ للْمُصَلِّي عَلَيْهِ قِيرَاط، وللذي يُصَلِّي ويلبث حَتَّى يدْفن قيراطان.
وَأما قَوْله: ((حَتَّى يوضع فِي اللَّحْد)) فقد سبق الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْند أبي سعيد.
1880 - / 2329 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((قُرَيْش وَالْأَنْصَار وجهينة وَمُزَيْنَة وَأسلم وَأَشْجَع وغفار موَالِي، لَيْسَ لَهُم مولى دون الله وَرَسُوله)) .
الْمولى بِمَعْنى الْوَلِيّ. وَهَؤُلَاء أَسْلمُوا، فَلهَذَا تولاهم، وَقَالَ فِي بعض الحَدِيث: ((هَؤُلَاءِ خير عِنْد الله من أَسد وطي وغَطَفَان)) لِأَن أُولَئِكَ كَانُوا على العناد.
1881 - / 2330 - والْحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتُّونَ بعد الْمِائَة: قد تقدم عِنْد الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين من هَذَا الْمسند.
1882 - / 2331 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((إِذا(3/419)
سَمِعْتُمْ نهاق الْحمير فتعوذوا بِاللَّه من الشَّيْطَان)) .
نهاق الْحمير: صَوتهَا عِنْد الصياح. وَالْعرب تَقول: نهق الْحمار وشهق، وزقا الديك وسقع: إِذا صاحا.
والديكة بِكَسْر الدَّال وَفتح الْيَاء جمع ديك.
وَالْملك فِي الْأَغْلَب لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَير، فَلذَلِك قَالَ: ((وسلوا الله من فَضله)) .
1883 - / 2332 - وَفِي اللحديث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ". . إِنَّهَا بَدَنَة، قَالَ: " اركبها، وَيلك " الْبَدنَة: هِيَ الَّتِي تهدى إِلَى بَيت الله عز وَجل، سميت بَدَنَة لأَنهم يستسمنونها. يُقَال: رجل بادن وبدين: إِذا عظم جِسْمه، وبدن: إِذا سمن، فَأَما بدن بتَشْديد الدَّال فمعناها: أسن.
وَالْوَيْل كلمة تقال لمن وَقع فِي هلكة، ويقولها هُوَ أَيْضا لنَفسِهِ.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَيُقَال: أَصله وي لفُلَان: أَي حزن لفُلَان، فَكثر الإستعمال للحرفين فوصلت اللَّام بوي وَجعلت حرفا وَاحِدًا، ثمَّ جبر عَن ويل بلام أُخْرَى.
وَقد ذكرنَا ركُوب الْبَدنَة فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.(3/420)
1884 - / 2233 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((لَا يمش أحدكُم فِي نعل وَاحِدَة)) .
وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
وَأما الْبِدَايَة فِي اللّبْس بِالْيَمِينِ فلشرفها وتقديمها على الْيُسْرَى.
والبداية بِالْخلْعِ بالشمال ليزِيد مكث الْيُمْنَى إِكْرَاما لَهَا.
1885 - / 2334 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى يمر الرجل بِقَبْر الرجل فَيَقُول: يَا لَيْتَني مَكَانَهُ)) .
هَذَا إِنَّمَا يكون لظُهُور الْفِتَن وَتغَير الْأَدْيَان، فيخاف الْمُؤمن على نَفسه فيتمنى الْمَوْت.
1886 - / 2335 - والْحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتُّونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند عبد الله بن مُغفل.
1887 - / 2336 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((لَا تتلقى الركْبَان للْبيع)) .
وَأما تلقي الركْبَان وَالنَّهْي عَن أَن يَبِيع حَاضر لباد فقد سبقا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.(3/421)
وَأما قَوْله: ((لَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض)) وَالنَّهْي عَن النجش، فقد سبقا فِي مُسْند ابْن عمر.
وَأما التصرية فأصلها الْحَبْس والإمساك. والمصراة: النَّاقة أَو الْبَقَرَة أَو الشَّاة الَّتِي قد صري اللَّبن فِي ضرْعهَا: أَي حقن، وَيُقَال: صريت المَاء وصريته، وَهَذَا مَاء صرى مَقْصُور، وَمِنْه سميت الصراة، كَأَنَّهَا مياه اجْتمعت. فالمصراة لَا تحلب أَيَّامًا ليعظم ضرْعهَا فيظن المُشْتَرِي أَن ذَلِك مِنْهَا كل يَوْم فيغتر بذلك فيشتري. وَهَذَا سَبَب لإِثْبَات خِيَار الرَّد، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل خلافًا لأبي حنيفَة، والْحَدِيث نَص لَا يُمكنهُم تَأْوِيله، غير أَن الْقَوْم تحيروا فِيهِ فَفرُّوا من الزَّحْف لَا إِلَى فِئَة. ثمَّ انقسموا: فَمنهمْ من اجترأ فَقَالَ: هَذَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَزعم أَن السّلف توقفوا فِي قبُول حَدِيثه، وَهَذَا كَلَام لَا يحل سَمَاعه إِلَّا لمنكر؛ لِأَنَّهُ مُخَالف للْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع: أما الْكتاب فَإِن الله تَعَالَى أثنى على جَمِيع الصَّحَابَة، فَقَالَ تَعَالَى: {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار} [الْفَتْح: 29] وَقَالَ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا} [الْبَقَرَة: 143] وَأما السّنة فَقَوله: ((إِن الله اختارني وَاخْتَارَ لي أصحابا)) . وَأما الْإِجْمَاع فمنعقد على عَدَالَة(3/422)
أبي هُرَيْرَة، وَقد روى عَنهُ طَلْحَة بن عبيد الله وَأَبُو أَيُّوب وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأنس وَغَيرهم من الصَّحَابَة، وَقَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب: كَانَ فِي الصَّحَابَة من يخْتَار التحديث بِمَا سَمعه من أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التحديث بِمَا سَمعه هُوَ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لجودة حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَضَبطه. وَقَالَ البُخَارِيّ: روى عَن أبي هُرَيْرَة من أَبنَاء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار سَبْعمِائة، وَمَا شكّ فِيهِ أحد قطّ. فَلَمَّا عجبوا من إكثاره قَالَ: كنت أحضر إِذا غَابُوا. وَقد ذكرنَا أَنه أَكثر الصَّحَابَة حَدِيثا، وَأَنه أخرج لَهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مَا لم يخرج لغيره، ومعظم الشَّرْع يَدُور على حَدِيثه، قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: حصرنا أَخْبَار الْأَحْكَام فَكَانَت ثَلَاثَة آلَاف، روى مِنْهَا أَبُو هُرَيْرَة ألفا وَسَبْعمائة.
وَقد روى بعض الْخُصُوم عَن هَذَا فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث يُخَالف الْأُصُول، وَلَا يقبل مَا يُخَالف الْأُصُول إِلَّا إِذا كَانَ رَاوِيه فَقِيها، وَلم يكن أَبُو هُرَيْرَة فَقِيها. فَالْجَوَاب: من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن الحَدِيث أصل فِي نَفسه، لِأَن الْأُصُول هِيَ الْقُرْآن وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس. فَإِن تعلقتم بِأَنَّهُ يُخَالف الْقيَاس فَالْقِيَاس فرع، فَكيف يقْدَح فِي الأَصْل. ويوضح هَذَا أَن الْقيَاس مستنبط يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ، والْحَدِيث الصَّحِيح قَول مَعْصُوم، فَوَجَبَ تَقْدِيمه. ثمَّ قد بَان لنا وَجه(3/423)
الْحِكْمَة فِي ذكر الصَّاع، فصلح الْأَمر بِمَا بَان لنا أَن يكون مُوَافقا لِلْأُصُولِ لَا مُخَالفا لَهَا، وَذَلِكَ أَن اللَّبن لَا يدّخر فَيرد، وَلَا يعلم مِقْدَاره، والنزاع يَقع فِي إِيجَاب مثله أَو قِيمَته، وَهُوَ من أَمْوَال الرِّبَا، فَرُبمَا أَخذ فِي مُقَابلَته أَكثر مِنْهُ، فَجعل الشَّرْع مِقْدَارًا من غير الْجِنْس يقطع بِهِ التشاجر. وَالثَّانِي: أَن أَبَا حنيفَة قد ارْتكب مثل هَذَا، فَأجَاز الْوضُوء بالنبيد بِحَدِيث ضَعِيف يُخَالف الْقيَاس. وَالثَّالِث: أَن أَبَا حنيفَة يقدم قَول الصَّحَابِيّ على الْقيَاس، فَكيف لَا يقدم قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالرَّابِع: أَنا لَو رددنا من قضايا الشَّرْع مَا يُخَالف المطرد مِنْهَا لردت قضايا كَثِيرَة؛ فَإِن الشَّرْع قد قوم النَّفس بِمِائَة من الْإِبِل، ثمَّ جعل الْغرَّة فِي مُقَابلَة الْجَنِين، وَسوى فِي الدِّيَة بَين دِيَة اللِّسَان والعينين وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ، وَأوجب أهل الرَّأْي فِي الحاجبين وأهداب الْعَينَيْنِ وَفِي اللِّحْيَة الدِّيَة كَامِلَة، وَأَيْنَ مَنَافِع الحاجبين من اللِّسَان وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ؟ ثمَّ قد رَأينَا أَن الشَّرْع جبر نقص السن فِي الزَّكَاة بشاتين أَو عشْرين درهما، وَقد لَا يعتدل هَذَا فِي كل زمَان، فَوَجَبَ علينا أَن نعطي كل دَلِيل حكمه.
وَأما قَوْلهم: لَا يقبل إِلَّا إِذا كَانَ رَاوِيه فَقِيها. فَالْجَوَاب: أَن اشْتِرَاط الْفِقْه فِي الرَّاوِي تحكم لَا وَجه لَهُ، وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذ عَلَيْهِ الْعَدَالَة والضبط، وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ((رب حَامِل فقه غير فَقِيه)) ثمَّ إِن الشَّهَادَة أَكثر شُرُوطًا. وَأما قَوْلهم: لم يكن أَبُو هُرَيْرَة فَقِيها. فَجَوَابه(3/424)
من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه كَانَ من سَادَات الْفُقَهَاء الْمُفْتِينَ مَعَ كبار الصَّحَابَة، وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد مِنْهُم. وَالثَّانِي: أَن أَبَا حنيفَة قد قبل خَبره فِيمَن أكل نَاسِيا لصومه، وَفِي غير ذَلِك مِمَّا يُخَالف الْقيَاس.
وَالثَّالِث: أَنه لم يفرق أحد من الصَّحَابَة وَغَيرهم فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة بَين مَا يُوَافق الْقيَاس وَمَا يُخَالِفهُ، وَلَا يلْتَفت إِلَى رَأْيكُمْ.
وَقَوله: لَا سمراء. أَي لَا حِنْطَة. وَفِي لفظ: ورد مَعهَا صَاعا من طَعَام لَا سمراء. وَيَعْنِي بِالطَّعَامِ هَا هُنَا التَّمْر، فَعبر عَنهُ الرَّاوِي؛ لِأَن الْحِنْطَة لَا تجوز فِي مُقَابلَة هَذَا. وَأما مَا روى أَبُو دَاوُد: ((وَمَعَهَا صَاع من قَمح)) فيرويه جَمِيع بن عُمَيْر التَّمِيمِي، قَالَ ابْن نمير: هُوَ من أكذب النَّاس. وَقَالَ ابْن حبَان: كَانَ يضع الحَدِيث. والقمح: الْبر.
وَحَدِيث الْمُصراة أصل فِي كل من بَاعَ سلْعَة وَقد زينها بِالْبَاطِلِ، فَإِذا رأى المُشْتَرِي الْغِشّ كَانَ لَهُ الرَّد.
1888 - / 2337 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين بعد الْمِائَة: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر يَوْم الْجُمُعَة فَقَالَ: ((فِيهِ سَاعَة لَا يُوَافِقهَا عبد مُسلم وَهُوَ قَائِم(3/425)
يُصَلِّي يسْأَل الله شَيْئا إِلَّا أعطَاهُ إِيَّاه)) - وَأَشَارَ بِيَدِهِ يقللها - يزهدها.
أما هَذِه السَّاعَة فقد اخْتلفت فِيهَا الْأَحَادِيث، وَقد ذكرنَا ذَلِك فِي مُسْند أبي مُوسَى.
والإشكال فِي هَذَا الحَدِيث أَن يُقَال: كَيفَ يسْأَل وَهُوَ يُصَلِّي؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون السُّؤَال فِي الصَّلَاة، وَذَلِكَ على ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون فِي التِّلَاوَة، فَإِنَّهُ إِذا قَرَأَ: {رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا} ) [الْبَقَرَة: 286] فقد سَأَلَ. وَالثَّانِي: أَن يسْأَل بعد الْقِرَاءَة، كَمَا سبق فِي مُسْند حُذَيْفَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه كَانَ إِذا مر بِآيَة رَحْمَة سَأَلَ، وَإِذا مر بِآيَة عَذَاب استعاذ. وَقد تكلمنا هُنَاكَ على هَذَا الحَدِيث، وَبينا هَل يجوز هَذَا فِي الْفَرْض أَو فِي النَّفْل.
وَالثَّالِث: أَن يسْأَل عِنْد انْقِضَاء التَّشَهُّد، فَإِنَّهُ يسن عندنَا أَن يَدْعُو عقب الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِمَّا بآيَات من الْقُرْآن، أَو بِمَا صَحَّ فِي الحَدِيث، وَعند الشَّافِعِي: يَدْعُو بِمَا شَاءَ.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن يسلم وَيسْأل والساعة لم تنقض، فَيكون معنى سُؤَاله فِي الصَّلَاة: عِنْد فراغها.
ويزهدها فِي معنى يقللها.(3/426)
1889 - / 2338 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند أنس بن مَالك.
1890 - / 2339 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((يتعاقبون فِيكُم مَلَائِكَة بِاللَّيْلِ وملائكة بِالنَّهَارِ)) .
يتعاقبون: يَأْتِي بَعضهم فِي عقب بعض.
قَوْله: ((ويجتمعون فِي صَلَاة الْعَصْر وَصَلَاة الْفجْر)) وَذَاكَ أَن مَلَائِكَة اللَّيْل تهبط عِنْد صَلَاة الْعَصْر، وملائكة النَّهَار تهبط قبل صَلَاة الْفجْر. وَإِنَّمَا فعل الْحق سُبْحَانَهُ ذَلِك ليظْهر للْمَلَائكَة فَضِيلَة هَذِه الْأمة، وَلِهَذَا فِي تَمام الحَدِيث: ((فَيَقُول لَهُم: كَيفَ تركْتُم عبَادي؟ فَيَقُولُونَ: تركناهم وهم يصلونَ، وأتيناهم وَهُوَ يصلونَ)) .
1891 - / 2340 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((مطل الْغَنِيّ ظلم)) .
قَالَ ابْن فَارس: يُقَال: مطلت الحديدة أمطلها مطلا: إِذا مددتها لتطول، واشتقاق المطل فِي الْحَاجة مِنْهُ. وَدَلِيل قَوْله: ((مطل الْغَنِيّ ظلم)) أَنه إِذا لم يقدر على الْأَدَاء لم يكن بالمطل ظَالِما.
وَقَوله: ((وَإِن أتبع أحدكُم على مَلِيء فَليتبعْ)) قَالَ الْخطابِيّ:(3/427)
أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: إِذا اتبع بتَشْديد التَّاء، وَهُوَ غلط، وَالصَّوَاب اتبع على وزن أفعل، وَالْمعْنَى: إِذا أُحِيل على مَلِيء فَليَحْتَلْ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث إِثْبَات الْحِوَالَة، وَأَن الْحق يتَحَوَّل بهَا إِلَى الْمحَال عَلَيْهِ وَيسْقط عَن الْمُحِيل، فَلَو توى المَال على الْمحَال عَلَيْهِ لم يرجع الْمحَال على الْمُحِيل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يرجع فِي موضِعين أَحدهمَا: أَن يجْحَد الْمحَال عَلَيْهِ الدّين وَيحلف عَلَيْهِ وَيَمُوت مُفلسًا، فَأَما إِن أفلس وَهُوَ حَيّ لم يرجع عَلَيْهِ. وَقَالَ مَالك: إِن أَحَالهُ على مُفلس والمحتال لَا يعلم فَلهُ الرُّجُوع.
وَاخْتلف الْعلمَاء: هَل يعْتَبر رضى الْمُحْتَال؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يعْتَبر، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَفِي الْأُخْرَى: لَا يعْتَبر، فعلى هَذِه الرِّوَايَة يكون قَوْله ((فَليتبعْ)) على الْوُجُوب وعَلى غَيرهَا يكون ندبا. وَاخْتلفُوا فِي رضى الْمحَال عَلَيْهِ، فعندنا لَا يعْتَبر، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يعْتَبر. وَقَالَ مَالك: إِن كَانَ بَينهمَا عَدَاوَة اعْتبر رِضَاهُ، وَإِلَّا لزمَه.
1892 - / 2341 - والْحَدِيث الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ بعد الْمِائَة قد سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.(3/428)
1893 - / 2342 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((لَا يقتسم ورثتي دِينَارا)) وَهَذَا الحَدِيث قد تقدم فِي مُسْند أبي بكر.
1894 - / 2343 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((اختتن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بالقدوم)) .
قَالَ أَبُو الزِّنَاد: الْقدوم مُخَفّفَة، وَهُوَ اسْم مَوضِع. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَكَذَلِكَ الْقدوم الَّذِي يعتمل بِهِ، خَفِيف أَيْضا.
1895 - / 2344 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدو، فَإِذا لقيتموهم فَاصْبِرُوا)) .
اعْلَم أَن تمني لِقَاء الْعَدو يتَضَمَّن أَمريْن: أَحدهمَا: استدعاء الْبلَاء. وَالثَّانِي: ادِّعَاء الصَّبْر، وَمَا يدْرِي الْإِنْسَان كَيفَ يكون صبره على الْبلَاء. وَالْمُدَّعِي متوكل على قوته، معرض بِدَعْوَاهُ عَن مُلَاحظَة الأقدار وتصرفها، وَمن كَانَ كَذَلِك وكل إِلَى دَعْوَاهُ، كَمَا تمنى الَّذِي فَاتَتْهُمْ غزَاة بدر فَلم يثبتوا يَوْم أحد، وكما أعجبتهم كثرتهم يَوْم حنين فهزموا.
وَقد نبه هَذَا الحَدِيث على أَنه لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يتَمَنَّى الْبلَاء بِحَال، وَقد قَالَ بعض السّلف: كنت أسأَل الله الْغَزْو، فَهَتَفَ بِي هَاتِف: إِنَّك(3/429)
إِن غزوت أسرت، وَإِن أسرت تنصرت.
1896 - / 2345 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((إِنَّه ليَأْتِي الرجل الْعَظِيم السمين يَوْم الْقِيَامَة لَا يزن عِنْد الله جنَاح بعوضة)) .
الْبَعُوضَة: صَغِيرَة البق. وَالْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى أَن الْقدر إِنَّمَا يكون بِالْإِيمَان وَالتَّقوى، وَكم من عَظِيم الجثة لَا وَقع لَهُ، لِأَن الوقع إِنَّمَا يكون بالمعاني لَا بالصور. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا} [الْكَهْف: 105] مَا لفُلَان عندنَا وزن: أَي قدر، لخسته. وَالْمعْنَى: لَا يعْتد بهم وَلَا يكون لَهُم عِنْد الله قدر وَلَا منزلَة.
1897 - / 2346 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((لما خلق الله الْخلق كتب فِي كِتَابه، فَهُوَ عِنْده فَوق الْعَرْش: إِن رَحْمَتي تغلب غَضَبي)) وَفِي لفظ: ((سبقت غَضَبي)) .
رُبمَا وَقع فِي وهم الْقَلِيل الْعلم أَن بعض صِفَاته قد سبق بَعْضًا، أَو غلب، أَو أَن ((عِنْده)) تَقْتَضِي مَكَانا يُوجب الْقرب إِلَى الذَّات وَلَيْسَ كَمَا يَقع لَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا الْخطاب على سَبِيل التَّقْرِيب إِلَى الأفهام مَا تعرفه من سبق الشَّيْء وغلبته، فَإِنَّهُ لما بَدَأَ سُبْحَانَهُ بالإنذار قبل التعذيب(3/430)
وَحكم وأمهل وَعَفا، كَانَ معنى هَذَا سبق رَحمته وغلبتها، وَتَحْلِيل العندية على مَا نفهمه محَال فِي حَقه، وَقد قَالَ فِي حِجَارَة قوم لوط: {مسومة عِنْد رَبك} [هود: 83] أَي فِي قَبضته وَقدرته.
1898 - / 2347 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ بعد الْمِائَة: ((النَّاس تبع لقريش فِي هَذَا الشَّأْن، مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم)) .
وَفِي هَذَا الحَدِيث تَفْضِيل قُرَيْش على سَائِر الْعَرَب، وتقديمهم فِي الْإِمَامَة والإمارة. وَقَوله: ((فِي هَذَا الشَّأْن)) يَعْنِي الْإِمَارَة. وَقَوله: ((مسلمهم تبع لمسلمهم)) هَذَا أَمر للْمُسلمِ بطاعتهم ومتابعتهم. وَقَوله: ((وكافرهم تبع لكافرهم)) حِكَايَة للْحَال الَّتِي كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة، وَالْمعْنَى: أَنهم مَا زَالُوا متبوعين، وَقد خصوا بالسدانة والسقاية إِلَى غير ذَلِك.
وَقَوله: ((النَّاس معادن)) قد سبق فِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين من هَذَا الْمسند.
وَقَوله: ((تَجِدُونَ من خير النَّاس أَشَّدهم كَرَاهِيَة لهَذَا الشَّأْن حَتَّى يَقع فِيهِ)) يَعْنِي الْإِمَارَة، فَإِن المتقي لله عز وَجل يكرهها من حَيْثُ الحذر على دينه، فَإِذا وَقع فِيهَا لم يشته الْعَزْل كَذَلِك، قَالَ بعض الصَّحَابَة لعمر وَقد عَزله: مَا سرتني الْولَايَة، وَلَا سَاءَنِي الْعَزْل.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: معنى الْكَلَام: إِذا وَقَعُوا فِيهَا لم يجز أَن يكرهوها لأَنهم إِن كَانَ قيامهم بهَا عَن كره ضيعوا حُقُوقهَا، فليقبلوا عَلَيْهَا(3/431)
وليجتهدوا فِيهَا.
وَقَوله: ((تَجِدُونَ شَرّ النَّاس ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْه وَهَؤُلَاء بِوَجْه)) وَهَذَا مثل أَن يمدح رجلا فِي وَجهه ثمَّ يَأْتِي إِلَى عدوه.
1899 - / 2348 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين بعد الْمِائَة: ((لَو أَن رجلا اطلع عَلَيْك بِغَيْر إِذن فخذفته بعصاة ففقأت عينه مَا كَانَ عَلَيْك جنَاح)) قد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند سهل بن سعد.
1900 - / 2349 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين بعد الْمِائَة: ((إِن أخنع الْأَسْمَاء عِنْد الله رجل تسمى ملك الْأَمْلَاك)) قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: سَأَلت أَبَا عَمْرو عَن أخنع فَقَالَ: أوضع.
وَقَالَ أَبُو عبيد: الْمَعْنى: أَشد الْأَسْمَاء ذلا وأوضعها. والخانع: الذَّلِيل الخاضع. وَكَانَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة يَقُول: هُوَ مثل شاهان شاه.
قَالَ: وَقَالَ غَيره: هُوَ أَن يتسمى الْإِنْسَان بأسماء الله تَعَالَى مثل الْعَزِيز والجبار. وَقد روى فِي بعض الْأَلْفَاظ: أنخع، ذكره أَبُو عبيد وَقَالَ: الْمَعْنى أقتل الْأَسْمَاء وأهلكها. والنخع هُوَ الْقَتْل الشَّديد، وَمِنْه النخع فِي الذَّبِيحَة: وَهُوَ أَن يجوز بِالذبْحِ إِلَى النخاع.(3/432)
وَأما أخنى فَفِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون من الْخَنَا فِي الْكَلَام: وَهُوَ الْفَاحِش، فَيكون الْمَعْنى: أفحش الْأَسْمَاء وأقبحها.
وَالثَّانِي: بِمَعْنى الْهَلَاك، يُقَال: أخنى عَلَيْهِم الدَّهْر، وَالثَّالِث: أَنه بِمَعْنى الْفساد، يُقَال: أخنيت عَلَيْهِ: أَي أفسدت.
1901 - / 2350 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين بعد الْمِائَة: ((قَالَ الله عز وَجل: ((أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعت)) .
اعْلَم أَن الله عز وَجل وعد الصَّالِحين من جنس مَا يعرفونه من مطعم ومشرب وملبس ومنكح وَغير ذَلِك، ثمَّ زادهم من فَضله مَا لَا يعرفونه فَقَالَ: ((مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت)) وَلَا يخْطر على الْقلب تَصْوِير مَا لم ير وَلم يسمع، فَقَالَ: ((وَلَا خطر على قلب بشر)) .
وَقَوله: ((بله مَا أطْلعكُم عَلَيْهِ)) أَي سوى مَا أطْلعكُم. وَقَالَ أَبُو عبيد: دع مَا أطلعهم عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو زبيد الطَّائِي:
(حمال أثقال أهل الود آونة ... أعطيهم الْجهد مني بله مَا أسع))
فَإِن قيل: مَا معنى: دع مَا أطلعهم عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَاب: أَن الْمَعْنى: إِن مَا أطلعهم عَلَيْهِ محتقر بِالْإِضَافَة إِلَى مَا لم يطلعوا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذكر مَا يعرفونه أَولا لسببين: أَحدهمَا: لأنسهم بِمَا يعْرفُونَ. وَالثَّانِي: أَنه لَو وعدهم بِمَا لَا يعْرفُونَ لم يشتاقوا إِلَى مَا لم يعرفوا، ولطلبوا مَا(3/433)
يعْرفُونَ، فَوَعَدَهُمْ مَا يعْرفُونَ وَزَادَهُمْ مَا لم يعرفوا.
1902 - / 2351 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين بعد الْمِائَة: ((إِن لله تِسْعَة وَتسْعُونَ اسْما، من حفظهَا دخل الْجنَّة)) وَفِي لفظ: ((من أحصاها)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: فِي هَذَا الحَدِيث إِثْبَات هَذِه الْأَسْمَاء، وَلَيْسَ فِيهِ نفي مَا عَداهَا من الزِّيَادَة عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا وَقع التَّخْصِيص لهَذِهِ الْأَسْمَاء لِأَنَّهَا أشهر الْأَسْمَاء وأبينها مَعَاني، فجملة هَذَا الحَدِيث قَضِيَّة وَاحِدَة لَا قضيتان. فتمام الْفَائِدَة فِي خبر ((إِن)) فِي قَوْله: ((من أحصاها دخل الْجنَّة)) لَا فِي قَوْله: ((إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما)) . وَهَذَا بِمَنْزِلَة قَوْلك: إِن لزيد مائَة دِرْهَم أعدهَا للصدقة، فَلَا يدل ذَلِك على أَنه لَيْسَ عِنْده من الدَّرَاهِم أَكثر من ذَلِك، وَإِنَّمَا يدل على أَن الَّذِي أعده للصدقة هَذَا. وَيدل على هَذَا التَّأْوِيل حَدِيث ابْن مَسْعُود: ((أَسأَلك بِكُل اسْم هُوَ لَك، سميت بِهِ نَفسك، أَو أنزلته فِي كتابك، أَو عَلمته أحدا من خلقك، أَو استأثرت بِهِ فِي علم الْغَيْب عنْدك)) فَهَذَا يدل على أَن لله(3/434)
أَسمَاء لم ينزلها فِي كِتَابه حجبها عَن خلقه.
وَفِي قَوْله: ((إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما)) دَلِيل على أَن أشهر الاسماء وأعلاها فِي الذّكر ((الله)) وَلذَلِك أضيفت الْأَسْمَاء إِلَيْهِ.
فَأَما قَوْله: ((من أحصاها)) فَفِي مَعْنَاهُ أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن معنى الإحصاء الْعد، يُرِيد أَنه يعدها ليستوفيها حفظا، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: ((من حفظهَا)) . وَالثَّانِي: أَن يكون الإحصاء بِمَعْنى الطَّاقَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {علم أَن لن تحصوه} [المزمل: 20] أَي لن تُطِيقُوا قيام اللَّيْل، فَمَعْنَاه: من أطَاق الْعَمَل بهَا. وَبَيَان الْعَمَل بهَا أَن من أَسْمَائِهِ الْحَكِيم، فَالْعَمَل بذلك التَّحْكِيم لحكمته حَتَّى لَا يُوجد من العَبْد اعْتِرَاض على أَفعاله. وَمِنْهَا السَّمِيع، فَالْعَمَل بذلك الْحيَاء مِنْهُ وكف اللِّسَان عَن الْقَبِيح لِأَنَّهُ يسمع، وعَلى هَذَا سَائِر الْأَسْمَاء. وَهَذَا الْوَجْه اخْتِيَار ابْن عقيل. وَالثَّالِث: أَن يكون الإحصاء بِمَعْنى الْعقل والمعرفة، فَيكون مَعْنَاهُ: من عرفهَا وعقل مَعْنَاهَا وآمن بهَا دخل الْجنَّة، مَأْخُوذ من الْحَصَاة وَهُوَ الْعقل، قَالَ طرفَة:
(وَإِن لِسَان الْمَرْء مَا لم يكن لَهُ ... حَصَاة على عوراته لدَلِيل)
وَالْعرب تَقول: فلَان ذُو حَصَاة: أَي عقل. قَالَ الْخطابِيّ: وَالرَّابِع: أَن يكون المُرَاد بِالْحَدِيثِ: من قَرَأَ الْقُرْآن حَتَّى يختمه(3/435)
فيستوفي هَذِه الْأَسْمَاء فِي الْقُرْآن، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَان عَن أبي عبد الله الزبيرِي.
فَلَمَّا رَأينَا فِي بعض طرق الصَّحِيح أَن معنى الإحصاء الْحِفْظ اخترنا ذَلِك الْوَجْه وَآثرنَا ذكر هَذِه الْأَسْمَاء لتحفظ. وَقد اخْتلفت أَلْفَاظ الروَاة فِي عدهَا، وَهَذَا سِيَاق مَا ذكره مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة من طَرِيق أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة: الله، الرَّحْمَن، الرَّحِيم، الْملك، القدوس، السَّلَام، الْمُؤمن، الْمُهَيْمِن، الْعَزِيز، الْجَبَّار، المتكبر، الْخَالِق، البارئ، المصور، الْغفار، القهار، الْوَهَّاب، الرَّزَّاق، الفتاح، الْعَلِيم، الْقَابِض، الباسط، الْخَافِض، الرافع، الْمعز، المذل، السَّمِيع، الْبَصِير، الحكم، الْعدْل، اللَّطِيف، الْخَبِير، الْحَلِيم، الْعَظِيم، الغفور، الشكُور، الْعلي، الْكَبِير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الْجَلِيل، الْكَرِيم، الرَّقِيب، الْمُجيب، الْوَاسِع، الْحَكِيم، الْوَدُود، الْمجِيد، الْبَاعِث، الشَّهِيد، الْحق، الْوَكِيل، الْقوي، المتين، الْوَلِيّ، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الْحَيّ، القيوم، الْوَاجِد، الْمَاجِد، الْوَاحِد، الْأَحَد، الصَّمد، الْقَادِر، المقتدر، الْمُقدم، الْمُؤخر، الأول، الآخر، الظَّاهِر، الْبَاطِن، الْوَالِي، المتعالي، الْبر، التواب، المنتقم، الْعَفو، الرءوف، مَالك الْملك، ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام، المقسط، الْجَامِع، الْغَنِيّ، الْمُغنِي، الْمَانِع، الضار، النافع، النُّور، الْهَادِي، البديع، الْبَاقِي، الْوَارِث، الرشيد، الصبور.(3/436)
وَقد رُوِيَ عَن عبد الْعَزِيز بن الْحصين عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما)) فَذكرهَا، وعد مِنْهَا: الرب، المنان، الْكَافِي، البادئ، الدَّائِم، الْمولى، النصير، الْجَمِيل، الصَّادِق، الْمُحِيط، الْمُبين، الْقَرِيب، الفاطر، العلام، المليك، الأكرم، الْمُدبر، الْوتر، ذُو المعارج، ذُو الطول، ذُو الْفضل. غير أَن عبد الْعَزِيز هَذَا لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي النَّقْل.
فصل: ونشير إِلَى تَفْسِير الْمُشكل من هَذِه الْأَسْمَاء: فَأَما الله فَروِيَ عَن الْخَلِيل رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَنه لَيْسَ بمشتق، وَالثَّانيَِة: أَنه مُشْتَقّ. وَقَالَ بعض من رَآهُ مشتقا: إِنَّه من الوله؛ لِأَن الْقُلُوب توله نَحوه. وَقَالَ قوم: أَله يأله بِمَعْنى عبد يعبد.
والقدوس: الطَّاهِر من الْعُيُوب.(3/437)
وَالسَّلَام: الَّذِي سلم من كل عيب وَنقص.
وَالْمُؤمن: الَّذِي آمن الْمُؤمنِينَ من عَذَابه.
والمهيمن: الشَّهِيد.
والفتاح: الْحَاكِم.
وَالْحكم: الْحَاكِم أَيْضا.
وَالْعدْل: الَّذِي لَا يجور.
واللطيف: الْبر بعباده الَّذِي يلطف بهم من حَيْثُ لَا يعلمُونَ، ويسبب لَهُم مصالحهم.
والشكور: الَّذِي يشْكر الْيَسِير من الطَّاعَة فيثيب عَلَيْهِ.
والحفيظ: الْحَافِظ.
والمقيت: المقتدر.
والحسيب: الْكَافِي.
والجليل: الْعَظِيم.
والرقيب: الْحَافِظ.
وَفِي الْوَدُود وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون ((فعولًا)) فِي مَحل ((مفعول)) ، كَمَا يُقَال هيوب بِمَعْنى مهيب، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مودود فِي قُلُوب أوليائه. وَالثَّانِي: أَن يكون بِمَعْنى الواد، أَي أَنه يود عباده الصَّالِحين، بِمَعْنى أَنه يُحِبهُمْ ويرضى عَنْهُم.
والمجيد: الْوَاسِع الْكَرم.(3/438)
قَالَ الْفراء: وَالْوَكِيل: الْكَافِي.
والمتين: الشَّديد الْقُوَّة.
وَالْوَلِيّ: النَّاصِر.
والحميد: الْمَحْمُود.
والقيوم: الْقَائِم الدَّائِم بِلَا زَوَال.
والواجد: الْغَنِيّ.
والماجد بِمَعْنى الْمجِيد.
والأحد: الْمُنْفَرد بالمعني الَّذِي لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد.
وَالْوَاحد: الْمُنْفَرد بِالذَّاتِ.
والصمد: السَّيِّد.
وَالظَّاهِر: بالحجج.
وَالْبَاطِن: المحتجب عَن الْأَبْصَار.
والوالي: الْمُتَوَلِي للأشياء.
والرءوف: الرَّحِيم.
وَمعنى ((ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام)) أَنه أهل أَن يجل وَيكرم.
والمقسط: الْعَادِل.
وَالْمَانِع: النَّاصِر.
وَمعنى النُّور: أَنه بنوره يبصر ذُو العماية.(3/439)
والبديع: المبتدع.
وَالْوَارِث: الْبَاقِي بعد فنَاء الْخلق.
والرشيد: ((فعيل)) بِمَعْنى ((مفعل)) فَمَعْنَاه الَّذِي أرشد الْخلق إِلَى مصالحهم.
والصبور: الَّذِي لَا يعاجل العصاة.
والمنان: الْكثير الْعَطاء.
والبادئ بِمَعْنى المبدئ.
والجميل: الْمُجْمل.
والمبين: الْبَين أمره فِي الوحدانية.
والأكرم: الَّذِي لَا يوازيه كريم، وَقد يكون بِمَعْنى الْكَرِيم، كالأعز بِمَعْنى الْعَزِيز.
والمعارج: الدرج، فَهُوَ الَّذِي يصعد إِلَيْهِ بأعمال الْعباد.
والطول: الْفضل.
وَفِي بعض الرِّوَايَات: الْوَاسِع: وَهُوَ الْغَنِيّ.
1903 - / 2352 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين بعد الْمِائَة: جلس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِفنَاء بَيت فَاطِمَة فَقَالَ: ((أَثم لكع؟)) .
الفناء: مَا حول الدَّار.(3/440)
واللكع: الصَّغِير، إِمَّا فِي السن أَو فِي الْعلم أَو فِي الْقدر أَو فِي الْعقل. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هَذَا يُقَال على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: الإستصغار. وَالثَّانِي: الذَّم. وَالَّذِي أَرَادَهُ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الإستصغار.
وَأما الَّذِي طلبه فَهُوَ الْحسن بن عَليّ.
والسخاب: القلادة. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ خيط ينظم فِيهِ خرز ويلبسه الصّبيان والجواري، وَالْجمع سخب. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هُوَ قلادة يتَّخذ خرزها من الطّيب من غير ذهب وَلَا فضَّة.
وَقَوله: فجَاء يشْتَد: أَي يعدو.
1904 - / 2353 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين بعد الْمِائَة: ((نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ يَوْم الْقِيَامَة)) .
الْمَعْنى: نَحن الْآخرُونَ فِي الزَّمَان، السَّابِقُونَ فِي دُخُول الْجنَّة.
وَقيل: إِنَّه لما تخيرت الْيَهُود السبت وَالنَّصَارَى الْأَحَد، وهدانا الله ليَوْم الْجُمُعَة - وَهِي سَابِقَة لليومين، سبقناهم فِي الدُّنْيَا ونسبقهم فِي الْآخِرَة. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث وَالْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْند حُذَيْفَة، وَبينا معنى قَوْله: ((هَذَا يومهم الَّذِي فرض عَلَيْهِم)) وَأَنَّهُمْ أمروا بِالْجمعَةِ فَاخْتَارُوا السبت.
فَأَما قَوْله: ((بيد أَنهم)) فَقَالَ أَبُو عبيد: غير أَنهم، وعَلى أَنهم.(3/441)
قَالَ: وَيُقَال: ميد بِالْمِيم. وَالْمِيم تدخل على الْبَاء نَحْو أغبطت عَلَيْهِ الْحمى وأغمطت. وسبد رَأسه وسمده.
وَقَوله: ((حق على كل مُسلم أَن يغْتَسل)) ظَاهره الْوُجُوب، فَيكون مَنْسُوخا، وَيحْتَمل أَن يكون الْحق بِمَعْنى اللَّازِم فِي بَاب الإستحباب.
وَقد شرحناه هَذَا فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
1905 - / 2354 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين بعد الْمِائَة: ضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل الْبَخِيل والمتصدق كَمثل رجلَيْنِ عَلَيْهِمَا جنتان من حَدِيد.
الْجنَّة: مَا استتر بِهِ من سلَاح أَو غَيره. وَالْجنَّة: الترس، وَفِي رِوَايَة: ((جبتان)) بِالْبَاء، والتراقي جمع ترقوة، وللإنسان ترقوتان: وهما العظمان المشرفان فِي أَعلَى الصَّدْر، وَهَذَا مثل ضربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للبخيل والجواد، فشبههما برجلَيْن أَرَادَ كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يلبس درعا يستجن بهَا، فصبها على رَأسه ليلبسها.
والدروع: أول مَا يَقع على الصَّدْر والثديين إِلَى أَن يدْخل اللابس يَدَيْهِ فِي كميها. فَجعل مثل الْمُنفق مثل من لبس درعا سابغة فاسترسلت عَلَيْهِ حَتَّى سترت جَمِيع بدنه، وَهُوَ معنى قَوْله: ((حَتَّى يعْفُو أَثَره)) أَي يستر جَمِيع بدنه. وَجعل الْبَخِيل كَرجل قد غلت يَدَاهُ إِلَى عُنُقه، فَكلما أَرَادَ لبسهَا اجْتمعت فِي عُنُقه فلزمت ترقوته، وَهُوَ معنى: قلصت: أَي تضامت وَاجْتمعت. وَالْمرَاد أَن الْجواد إِذا هم بِالصَّدَقَةِ،(3/442)
اِنْفَسَحَ بهَا صَدره، والبخيل، إِذا حدث نَفسه بِالصَّدَقَةِ ضَاقَ صَدره وانقبضت يَده.
1906 - / 2355 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين بعد الْمِائَة: ((يحْشر النَّاس على ثَلَاثَة طرائق: راغبين، وراهبين، وَاثْنَانِ على بعير وَثَلَاثَة على بعير وَأَرْبَعَة على بعير)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: هَذَا الْحَشْر إِنَّمَا يكون قبل قيام السَّاعَة، يحْشر النَّاس أَحيَاء إِلَى الشَّام. فَأَما الْحَشْر الَّذِي يكون بعد الْبَعْث من الْقُبُور فَإِنَّهُ على خلاف هَذِه الصُّورَة من ركُوب الْإِبِل والمعاقبة عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ على مَا ورد فِي الْخَبَر أَنهم يبعثون حُفَاة عُرَاة غرلًا.
1907 - / 2356 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين بعد الْمِائَة: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أرسل ملك الْمَوْت إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكه ففقأ عينه.
الصَّك: ضرب الْوَجْه برؤوس الْأَصَابِع. وفقأ عينه: قلعهَا.
والكثيب من الرمل: مَا اجْتمع مِنْهُ وارتفع.
وَقد اعْترض بعض الْمُلْحِدِينَ على هَذَا الحَدِيث بأَرْبعَة أَشْيَاء:(3/443)
أَحدهَا: كَيفَ يقدر الْآدَمِيّ أَن يفقأ عين ملك الْمَوْت، فَلَيْسَ الْملك بجسم كثيف؟ وَالثَّانِي: كَيفَ جَازَ لمُوسَى أَن يفعل ذَلِك برَسُول ربه وَفِي طي هَذَا مراغمة الْمُرْسل؟ وَالثَّالِث: أَيْن شوق مُوسَى إِلَى لِقَاء الله تَعَالَى؟ وَالرَّابِع: كَيفَ خَالف الْملك مرسله فَعَاد وَلم يقبض نَفسه؟
فَالْجَوَاب: لما أكْرم الله عز وَجل مُوسَى بِكَلَامِهِ ومحبته إِيَّاه بعث إِلَيْهِ الْملك فِي صُورَة رجل ليتلطف فِي قبض روحه، فصادفه بشرا يكره الْمَوْت طبعا لما يعلم من ملاقاة مشاقه، فَدفعهُ عَن نَفسه وَهُوَ لَا يعلم أَنه ملك الْمَوْت، وَقد يخفى الْملك على النَّبِي إِذا جَاءَ فِي صُورَة الْبشر كَمَا خفيت الْمَلَائِكَة على إِبْرَاهِيم وَلُوط، وخفي جِبْرِيل على نَبينَا لما جَاءَهُ فِي صُورَة رجل فَسَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان. فروى الحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ من وُجُوه، فَفِي بَعْضهَا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((مَا خَفِي عَليّ جِبْرِيل قطّ مثل الْيَوْم)) وَفِي لفظ: ((مَا عَرفته حَتَّى ولى)) وَفِي لفظ: ((مَا أَتَانِي قطّ فَلم أعرفهُ قبل مرتي هَذِه)) وَفِي لفظ: ((مَا أَتَانِي فِي صُورَة قطّ إِلَّا عَرفته غير هَذِه الصُّورَة)) . فعلى هَذَا نقُول: دَفعه مُوسَى وَلم يعرفهُ، فصادفت تِلْكَ الدفعة عينة المركبة فِي الصُّورَة البشرية لَا الْعين الملكية، فَلَمَّا ذهب ملك الْمَوْت عَاد وَقد ردَّتْ عينه، فَتبين مُوسَى أَنه الْملك فاستسلم لقَضَاء الله سُبْحَانَهُ. وَقَالَ ابْن عقيل: يجوز أَن يكون مُوسَى قد أذن لَهُ فِي ذَلِك الْفِعْل بِملك الْمَوْت وابتلي ملك الْمَوْت بِالصبرِ عَلَيْهِ، كقصة الْخضر مَعَ مُوسَى.
فَأَما الشوق إِلَى لِقَاء الله سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ لَا يُنَاقض كَرَاهِيَة الْمَوْت على(3/444)
مَا سَيَأْتِي فِي مُسْند عَائِشَة عِنْد قَوْله: ((من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه)) .
وَأما عود الْملك فَإِنَّهُ أَمر بالتلطف فِي الْقَبْض، وَلم يجْزم لَهُ الْأَمر بِالْقَبْضِ فِي وَقت مَعْرُوف.
وَأما سُؤال مُوسَى أَن يدنى من الأَرْض المقدسة فَلِأَنَّهُ مَاتَ فِي أَرض التيه.
1908 - / 2357 - وَفِي الحَدِيث التسعين بعد الْمِائَة: ((قَالَ سُلَيْمَان: لأطوفن اللَّيْلَة بِمِائَة امْرَأَة تَلد كل امْرَأَة مِنْهُنَّ غُلَاما يُقَاتل فِي سَبِيل الله عز وَجل)) .
فِي عدد النِّسَاء أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: مائَة. وَالثَّانِي: تسعون.
وَالثَّالِث: سَبْعُونَ. وَالرَّابِع: سِتُّونَ. وَكلهَا فِي الصَّحِيح.
وَالْمرَاد بالإستثناء قَول: إِن شَاءَ الله. وَتَعْلِيق الْأَمر بِالْمَشِيئَةِ تَسْلِيم للقدر. وَإِنَّمَا ترك سُلَيْمَان الإستثناء نِسْيَانا فَلم يسامح بِتَرْكِهِ وَهُوَ نَبِي كريم، حَتَّى أثر التّرْك فقد الْغَرَض ونفع قَول إِن شَاءَ الله قوما كَافِرين، فَإِنَّهُ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: إِن يَأْجُوج وَمَأْجُوج يحفرون السد كل يَوْم وَيَقُولُونَ: غَدا نتمه، فيجيئون وَقد عَاد كَمَا كَانَ، فَإِذا أذن فِي خُرُوجهمْ قَالَ قَائِلهمْ: إِن شَاءَ الله، فيجيئون وَهُوَ على حَاله(3/445)
فيفتحونه. فَبَان لهَذَا مرتبَة الْمَشِيئَة وأدب نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا يتَعَلَّق بهَا، فَقيل لَهُ: {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا (23) إِلَّا أَن يَشَاء الله} [الْكَهْف: 23، 24] أَي: إِلَّا أَن تَقول: إِن شَاءَ الله، فَكَانَ يَقُولهَا فِي الْمُتَيَقن كَمَا يَقُولهَا فِي المظنون، فَإِذا مر على الْقُبُور قَالَ: ((وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون)) .
فَإِن قَالَ قَائِل: من أَيْن لِسُلَيْمَان أَن يخلق من مَائه فِي تِلْكَ اللَّيْلَة مائَة غُلَام، لَا يجوز أَن يكون بِوَحْي لِأَنَّهُ مَا وَقع، وَلَا يجوز أَن يكون الْأَمر فِي ذَلِك إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يكون إِلَّا مَا يُريدهُ الله؟ فَالْجَوَاب: إِنَّه من جنس التَّمَنِّي على الله، وَالسُّؤَال لَهُ أَن يفعل، وَالْقسم عَلَيْهِ، كَقَوْل أنس بن النَّضر: وَالله لَا تكسر سنّ الرّبيع. غير أَنه لما خلا لَفظه من اسْتثِْنَاء لم يسامح مثله بِتَرْكِهِ، ذَلِك لِأَنَّهُ نَبِي يقْتَدى بِهِ.
1909 - / 2358 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((يفتح الْيَوْم من ردم يَأْجُوج وَمَأْجُوج مثل هَذِه)) وَعقد تسعين.
الرَّدْم: الْحَائِط الْمَبْنِيّ فِي وُجُوههم. وَقد سبق ذكر يَأْجُوج وَمَأْجُوج فِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ.
1910 - / 2359 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((إِن أمتِي(3/446)
يدعونَ يَوْم الْقِيَامَة غرا محجلين من آثَار الْوضُوء)) .
الْغرَّة: بَيَاض فِي الْوَجْه وغرة كل شَيْء أكْرمه. والتحجيل: بَيَاض فِي الرجلَيْن.
وَقَوله: ((أَسْبغ الْوضُوء)) أَي أتمه.
وأشرع فِي الْعَضُد: بِمَعْنى أدخلهُ فِي الْغسْل، وَمِنْه إشراع الْبَاب والجناح. وَقَالَ الزّجاج: يُقَال: أشرعت الرمْح نَحْو الْعَدو: إِذا صوبته إِلَيْهِ وحددته نَحوه.
والعضد: مَا بَين الْمرْفق إِلَى الْكَتف. والمنكب: مُجْتَمع رَأس الْعَضُد فِي الْكَتف. والإبط: مَا تَحت الْيَد. وَقد تقدما.
والحلية المُرَاد بهَا النُّور الَّذِي يزين بِهِ الْمُتَوَضِّئ.
وَبَاقِي الحَدِيث مِمَّا يتَعَلَّق بالحوض قد سبق فِي مُسْند سهل بن سعد وَغَيره.
وَقَوله: ((السَّلَام عَلَيْكُم دَار قوم مُؤمنين)) قد سبق فِي مُسْند بُرَيْدَة.
فَإِن قيل: كَيفَ سمى من لم يره إخْوَانًا واشتاق إِلَيْهِم والإخوان أفضل من الْأَصْحَاب، وَقد ثَبت فضل أَصْحَابه على غَيرهم؟ فَالْجَوَاب: أَن الْأُخوة تَقْتَضِي المشابهة والمشاكلة، كَمَا يُقَال: هَذِه الْحبَّة من اللُّؤْلُؤ أُخْت هَذِه، قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا نريهم من آيَة إِلَّا هِيَ أكبر من أُخْتهَا} [الزخرف: 48] وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((شيبتني هود وَأَخَوَاتهَا)) . يُرِيد(3/447)
أشكالها من السُّور المتضمنة قصَص الْأُمَم السالفة. وَكَانَ يَقُول: ((رحم الله أخي مُوسَى)) ، ((رحم الله أخي عِيسَى)) وَذَلِكَ لموْضِع الْمُشَاركَة لَهُ فِي الدعاية، فَأَرَادَ بإخوانه فِي آخر الزَّمَان: القائمين بشرعه عِنْد فَسَاد الْأمة، فقد شابهوه فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: أَنه جَاءَ على فَتْرَة من الرُّسُل وَقد تشبث حب الْأَصْنَام بالقلوب، وَخيَار أمته يظْهر كل مِنْهُم فِي زمن قد يتشبث الْهوى فِيهِ بالنفوس فيسلكون سنَن الإستقامة وَيدعونَ النَّاس إِلَى الصّلاح. وَالثَّانِي: أَنه ظهر غَرِيبا وَأظْهر دينه، فَكَانَ غَرِيبا، وَكَذَلِكَ صالحو الْمُتَأَخِّرين يكونُونَ غرباء ويظهرون مَا قد صَار غَرِيبا، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ((بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، فطوبى للغرباء)) قيل: من الغرباء؟ قَالَ: ((الَّذين يصلحون إِذا فسد النَّاس)) وَالثَّالِث: أَنهم يظهرون فِي زمَان خَال عَن نَذِير، فينفرد الْوَاحِد مِنْهُم عَن معِين، كَمَا ظهر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ هَذَا حَال صحابته مَعَ وجوده، فَإِن النَّاس استغنوا بِهِ عَنْهُم، فَلم يصلحوا إخْوَانًا لهَذَا الْمَعْنى وَإِن كَانَت مرتبتهم لَا توازى.
فَإِن قيل: فَهَلا كَانَت هَذِه مرتبَة الصَّحَابَة بعد مَوته؟ قُلْنَا: لَا يَصح؛ لِأَن الْعَهْد قريب، والبدع نادرة، والمدافع عَن الشَّرّ من أهل الْعلم كثير.
وَإِنَّمَا اشْتَدَّ شوقه إِلَيْهِم لمَكَان اجتهادهم فِي إِثْبَات الدَّلِيل على نبوته، فَإِن الصَّحَابَة رَأَوْا مِنْهُ مَا لم ير هَؤُلَاءِ من الْآيَات الخارقة والمعجزات العجيبة، كنبع المَاء من بَين أَصَابِعه، وحنين الْجذع إِلَيْهِ،(3/448)
وإخباره بالغائبات، فَكَانَت كَمَا قَالَ؛ والمتأخرون لم يشاهدوا مثل هَذَا، وَإِنَّمَا نقل إِلَيْهِم.
والدهم: السود: والبهم: من قَوْلك: أسود بهيم، وَهُوَ الَّذِي لَا يخالط لَونه لون سواهُ.
1911 - / 2360 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((على أنقاب الْمَدِينَة مَلَائِكَة، لَا يدخلهَا الطَّاعُون وَلَا الدَّجَّال)) .
الأنقاب جمع نقب: وَهُوَ الطَّرِيق بَين الجبلين.
وَقد ذكرنَا الدَّجَّال وتسميته بالمسيح فِي مُسْند ابْن عمر.
ودبر أحد: ظهر الْجَبَل.
1912 - / 2361 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((من تَوَضَّأ فليستنثر، وَمن استجمر فليوتر)) .
الإستنثار: نفض مَا فِي الْأنف بعد استنشاق المَاء. وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: من تَوَضَّأ فليستنشق؛ لِأَن النثرة الْأنف.
والإستجمار: الإستنجاء بِالْحِجَارَةِ.
وَقَوله: ((فليوتر)) دَلِيل على وجوب اسْتِيفَاء عدد الثَّلَاث فِي الإستنجاء؛ إِذا كَانَ معقولا أَنه لم يرد بِهِ الْوتر الَّذِي هُوَ الْوَاحِد، لِأَنَّهُ(3/449)
زِيَادَة وصف على اسْم، والإسم لَا يحصل بِأَقَلّ من وَاحِد، فَعلم أَنه قصد بِهِ مَا زَاد على الْوَاحِد، وَأَدْنَاهُ الثَّلَاث. وَمن أنقى وَأحب الزِّيَادَة اسْتحبَّ لَهُ أَن تكون زِيَادَته وترا لهَذَا الحَدِيث.
وَقَوله: ((وَإِذا اسْتَيْقَظَ فليغسل يَده)) أما غسل الْيَد عِنْد الانتباه من نوم اللَّيْل فَإِن بعض أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة ذكر غسل الْيَد مُطلقًا، وَبَعْضهمْ ذكر الْغسْل ثَلَاثًا، فَمن الَّذين ضبطوا الثَّلَاث جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ عَن أبي هُرَيْرَة، وَعبد الله بن شَقِيق وَأَبُو رزين وَأَبُو صَالح كلهم عَن أبي هُرَيْرَة بِذكر الثَّلَاث. وَمذهب أَحْمد أَن ذَلِك على الْوُجُوب خلافًا للأكثرين.
1913 - / 2362 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((لَيْسَ على الْمُسلم صَدَقَة فِي عَبده وَلَا فرسه)) .
وَالصَّدَََقَة هَا هُنَا الزَّكَاة، وَالْمرَاد العَبْد وَالْفرس اللَّذَان للْخدمَة دون مَا يتَّخذ من ذَلِك للتِّجَارَة.
1914 - / 2363 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((من رغب عَن أَبِيه فَهُوَ كفر)) .
الْكفْر أَصله التغطية. وَهَذَا يحْتَمل مَعْنيين: أَحدهمَا: أَنه تَغْطِيَة(3/450)
للصحيح. وَالثَّانِي: أَنه فعل الْكفَّار لَا فعل الْمُسلمين.
1915 - / 2364 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين بعد الْمِائَة: رخص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بيع الْعَرَايَا بِخرْصِهَا من التَّمْر، مَا دون خَمْسَة أوسق أَو فِي خَمْسَة أوسق. شكّ الرَّاوِي.
قد سبق الْكَلَام فِي الْعَرَايَا أَنه إِنَّمَا جَازَ لأجل الْحَاجة، فِي مُسْند زيد بن ثَابت، وَلَا يجوز إِلَّا فِيمَا دون خَمْسَة أوسق، لِأَن الرَّاوِي شكّ فأسقطنا الْمَشْكُوك فِيهِ.
1916 - / 2365 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((يسلم الرَّاكِب على الْمَاشِي)) .
الرَّاكِب بِالْإِضَافَة إِلَى الْمَاشِي كَأَنَّهُ مار على قَاعد لمَكَان إسراعه، وَكَذَلِكَ الْمَاشِي مَعَ الْقَاعِد. وَالْمرَاد من السَّلَام الْأمان. والماشي يخَاف الرَّاكِب، والقاعد يخَاف الْمَاشِي، فَأمر بِالسَّلَامِ ليَقَع الْأَمْن.
فَأَما الْعدَد الْكثير فَلهُ زِيَادَة مرتبَة بِالْكَثْرَةِ، فشرع تَسْلِيم النَّاقِص على الْكَامِل، وَكَذَلِكَ الصَّغِير على الْكَبِير.
1917 - / 2366 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين بعد الْمِائَة: ((لَا يزَال أحدكُم فِي صَلَاة مَا دَامَت الصَّلَاة تحبسه)) .
إِذا قعد الْمُتَوَضِّئ ينْتَظر الصَّلَاة أعطي حكم الْمُصَلِّي، فَإِذا أحدث(3/451)
خرج عَن تِلْكَ الْحَالة.
1918 - / 2367 - وَفِي الحَدِيث الْمِائَتَيْنِ: ((لعن الله السَّارِق يسرق الْبَيْضَة فتقطع يَده، وَيسْرق الْحَبل فتقطع يَده)) . فِي هَذَا الحَدِيث ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه عَنى بالبيضة بيض الْحَدِيد، وبالحبل: الْعَظِيم من حَبل السفن، وكل من هذَيْن يبلغ دَرَاهِم كَثِيرَة، وَهَذَا مَذْكُور فِي الحَدِيث عَن الْأَعْمَش يحكيه عَن الْعلمَاء. وَكَانَ يحيى بن أَكْثَم يذهب إِلَى هَذَا التَّفْسِير ويعجب بِهِ. وَالثَّانِي: أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما نزل عَلَيْهِ: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} [الْمَائِدَة: 38] قَالَ هَذَا الحَدِيث أخذا بِظَاهِر الْآيَة، ثمَّ أعلم بِالْوَحْي بعد أَن الْقطع لَا يكون إِلَّا فِي ربع دِينَار فَمَا فَوْقه: وَهَذَا اخْتِيَار ابْن قُتَيْبَة، وَأنكر القَوْل الأول وَقَالَ: لَا يَقُوله إِلَّا من لَا معرفَة لَهُ باللغة ومخارج الْكَلَام، فَإِن هَذَا لَيْسَ بِموضع تَكْثِير لما يَأْخُذهُ السَّارِق، وَلَيْسَ من عَادَة النَّاس أَن يَقُولُوا: قبح الله فلَانا، عرض نَفسه للضرب فِي عقد جَوْهَر وجراب مسك، وَإِنَّمَا الْعَادة أَن يُقَال: تعرض لقطع الْيَد فِي حَبل رث، وَكلما كَانَ أَحْقَر كَانَ أبلغ. وَالثَّالِث: أَن المُرَاد أَنه يقطع فِي السّرقَة حَتَّى فِي الشَّيْء المحتقر إِذا بلغ نِصَابا، فَذكر الْبَيْضَة وَالْحَبل لبَيَان جنس المحتقرات، لِئَلَّا يظنّ أَن الْقطع يخْتَص بنفائس الْأَمْوَال.
1919 - / 2368 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: ((من تردى من(3/452)
جبل فَقتل نَفسه فَهُوَ فِي نَار جَهَنَّم يتردى فِيهَا خَالِدا مخلدا فِيهَا أبدا)) .
تردى بِمَعْنى سقط.
ويتوجأ بهَا: أَي يضْرب بهَا.
فَإِن قيل: غَايَة هَذِه الْأَشْيَاء أَنَّهَا مَعْصِيّة لَا كفر فِيهَا، فَمَا وَجه الخلود؟ فَالْجَوَاب: أَن ذكر الخلود إِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، وَقد رَوَاهُ سعيد المَقْبُري والأعرج عَن أبي هُرَيْرَة وَلم يذكرَا فِيهِ ((خَالِدا مخلدا أبدا)) قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا أصح.
وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: هَذَا مَحْمُول على من فعل ذَلِك مستحلا لقَتله ومكذبا بِتَحْرِيم ذَلِك، بِدَلِيل الْأَحَادِيث المروية فِي أَن الْمُسلمين لَا يخلدُونَ.
1920 - / 2369 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَتَيْنِ: ((ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله: رجل على فضل مَاء بالفلاة يمنعهُ من ابْن السَّبِيل، فَيَقُول الله لَهُ يَوْم الْقِيَامَة: الْيَوْم أمنعك كَمَا منعت فضل مَا لم تعْمل يداك)) .
يُرِيد بِهَذَا أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي خلق المَاء وأنزله من السَّمَاء وأجراه من الْعُيُون، وَأما تَخْصِيص مَا بعد الْعَصْر بِالْحِنْثِ فَلِأَنَّهُ وَقت يعظمه أهل الْأَدْيَان، وَهُوَ وَقت اجْتِمَاع النَّاس فِيهِ.
وَقَوله فِي الْمُبَايعَة للْإِمَام: ((إِن أعطَاهُ وفى)) أعلم أَن الْمُبَايعَة يَنْبَغِي(3/453)
أَن تكون للدّين لَا للدنيا، فَإِذا عكس الْأَمر وَقعت الْعقُوبَة.
1921 - / 2370 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَتَيْنِ: ((مَا بَين النفختين أَرْبَعُونَ)) .
النفخة الأولى فِي الصُّور هِيَ الَّتِي تَمُوت الْخَلَائق عِنْدهَا. والنفخة الثَّانِيَة هِيَ الَّتِي يحيون عِنْدهَا.
وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أَبيت، لِأَنَّهُ إِنَّمَا سمع ((أَرْبَعِينَ)) وَلم يعين لَهُ.
قَوْله: ((ويبلى كل شَيْء من الْإِنْسَان إِلَّا عجب الذَّنب)) وَهُوَ العصعص، وَهُوَ الْعظم الَّذِي يجد اللامس مَسّه فِي وسط الْوَرِكَيْنِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا فَائِدَة إبْقَاء هَذَا الْعظم دون سَائِر الْجَسَد؟ فقد أجَاب ابْن عقيل فَقَالَ: لله سُبْحَانَهُ فِي هَذَا سر لَا نعلمهُ، لِأَن من ينحت الْوُجُود من الْعَدَم لَا يحْتَاج أَن يكون لفعله شَيْء يبْنى عَلَيْهِ، فَإِن علل هَذَا، فَيجوز أَن يكون الْبَارِي سُبْحَانَهُ جعل ذَلِك للْمَلَائكَة عَلامَة على أَنه يحيي كل إِنْسَان بجواهره بِأَعْيَانِهَا، وَلَا يحصل الْعلم للْمَلَائكَة بذلك إِلَّا بإبقاء عظم من كل شخص ليعلم أَنه إِنَّمَا أَرَادَ بذلك إِعَادَة الْأَرْوَاح إِلَى تِلْكَ الْأَعْيَان الَّتِي هَذَا جُزْء مِنْهَا، كَمَا أَنه لما أمات عُزَيْرًا وَحِمَاره، أبقى عِظَام الْحمار وَكَسَاهَا ليعلم أَن هَذَا المنشأ ذَلِك الْحمار لَا غَيره، وَلَوْلَا إبْقَاء شَيْء لجوزت الْمَلَائِكَة أَن تكون الْإِعَادَة للأرواح إِلَى أَمْثَال الأجساد لَا إِلَى أعيانها.(3/454)
1922 - / 2371 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَتَيْنِ: ((أثقل صَلَاة على الْمُنَافِقين صَلَاة الْعشَاء وَصَلَاة الْفجْر)) .
إِنَّمَا ثقلت هَاتَانِ الصَّلَاتَان على الْمُنَافِقين لإيثارهم النّوم وكراهتهم التعسف فِي الْخُرُوج وَالْمَشْي فِي الظلمَة.
والحبو: زحف الصَّغِير.
والعرق: الْعظم الَّذِي تقشر عَنهُ مُعظم اللحوم وَبقيت عَلَيْهِ مِنْهُ بَقِيَّة.
والمرماة يُقَال بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا، قَالَ أَبُو عبيد: وَهِي مَا بَين ظلفي الشَّاة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَقَالَ غير أبي عبيد: المرماة: سهم يتَعَلَّم عَلَيْهِ الرَّمْي. وَقَالَ الْحميدِي: هِيَ السهْم الَّذِي يرْمى بِهِ.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على وجوب صَلَاة الْجَمَاعَة.
1923 - / 2372 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا يصومن أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا أَن يَصُوم قبله أَو بعده)) .
إِفْرَاد يَوْم الْجُمُعَة بالصيام مَكْرُوه عِنْد أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يكره، والْحَدِيث نَص. وَأما تَخْصِيص لَيْلَة(3/455)
الْجُمُعَة بِالْقيامِ فمكروه؛ لِأَن السهر يُؤثر فِي وظائف يَوْم الْجُمُعَة وَيمْنَع النشاط لَهَا.
1924 - / 2373 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خير من أَن يمتلئ شعرًا)) .
قد سبق الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص، إِلَّا أَن حَدِيث سعد فِيهِ: ((حَتَّى يرِيه)) وَلَيْسَ هَا هُنَا ((حَتَّى)) فنرى جمَاعَة من المبتدئين ينصبون ((يرِيه)) هَا هُنَا جَريا على الْعَادة فِي قِرَاءَة الحَدِيث الَّذِي فِيهِ ((حَتَّى)) ، وَلَيْسَ هَا هُنَا مَا ينصب، سمعته من عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ.
1925 - / 2374 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الْمِائَتَيْنِ: ((الْإِيمَان بضع وَسِتُّونَ شُعْبَة)) .
الْبضْع من الشَّيْء: الْقطعَة مِنْهُ، وَيُقَال: هُوَ من الْوَاحِد إِلَى الْعشْرَة، وَقيل: مَا بَين الثَّلَاث إِلَى التسع.
والشعبة: قِطْعَة من الشَّيْء، وَالْمرَاد بِهَذِهِ الْخِصَال أصُول الْخَيْر من الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال. وَالْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ تَصْدِيق الْقلب، وَهَذِه الْخِصَال تنبعث عَنهُ فسميت إِيمَانًا. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر تَفْسِير قَوْله: ((الْحيَاء شُعْبَة من الْإِيمَان)) .(3/456)
1926 - / 2375 - والْحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَتَيْنِ: قد تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1927 - / 2376 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع بعد الْمِائَتَيْنِ: ((السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب)) .
السّفر مُشْتَقّ من السّفر وَهُوَ الْكَشْف، يُقَال: سفرت الْمَرْأَة عَن وَجههَا، وأسفر الصُّبْح: إِذا أَضَاء، فَسُمي الْخُرُوج إِلَى الْموضع الْبعيد سفرا لِأَنَّهُ يكْشف عَن أَخْلَاق الْمُسَافِر وأحواله.
وَالْعَذَاب: الْأَلَم المستمر. وَالْمُسَافر يتَأَذَّى بِالْمَشْيِ وَالرُّكُوب والسهر وَغير ذَلِك.
والنهمة: الْحَاجة والإرادة من الشَّيْء، وَالْمرَاد بِالْوَجْهِ الْمَقْصد الَّذِي قَصده فِي السّفر.
1928 - / 2377 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((تعوذوا بِاللَّه من جهد الْبلَاء)) .
تعوذوا: بِمَعْنى الجأوا إِلَيْهِ ولوذوا بِهِ.
والجهد: الْمَشَقَّة.
والدرك: الْإِدْرَاك.(3/457)
والشقاء: الْهَلَاك. وَقد يذكر وَيُرَاد بِهِ الْأَسْبَاب الَّتِي تُؤدِّي إِلَى الْهَلَاك، كالنصب وَغَيره.
والشماتة: الْفَرح ببلية الْعَدو.
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن الْكَلَام المسجوع إِذا لم يكن عَن تكلّف لم يكره.
فَإِن قيل: هَل تَنْفَع الإستعاذة مِمَّا قضي؟ فَالْجَوَاب: أَنَّهَا مِمَّا قضي أَيْضا، فقد يقْضى على الْإِنْسَان بلَاء ويسبق فِي الْقَضَاء أَنه يَدْعُو فَيدْفَع عَنهُ، فَيكون فِي الْقَضَاء الدَّافِع والمدفوع. وَفَائِدَة الدُّعَاء التَّعَبُّد بِهِ وَإِظْهَار الْفَاقَة من العَبْد.
1929 - / 2378 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((الْعمرَة إِلَى الْعمرَة كَفَّارَة لما بَينهمَا)) .
الْعمرَة مَعْرُوفَة، وَأَصلهَا فِي اللُّغَة الزِّيَارَة. وَالْحج: الْقَصْد.
والمبرور: المقبول، وَقَالَ بعض الْعلمَاء: المبرور: الَّذِي لَا يخالطه شَيْء من المآثم، وَكَذَلِكَ البيع المبرور: الَّذِي لَا شُبْهَة فِيهِ وَلَا خِيَانَة، وَقد سبق بَيَان هَذَا.
وَقَوله: ((من حج لله)) إِشَارَة إِلَى الْإِخْلَاص.
والرفث: الْكَلَام المستقبح. وَالْفِسْق: الْخُرُوج عَن طَاعَة الله عز وَجل.
وَقَوله: ((كَيَوْم وَلدته أمه)) أَي رَجَعَ بِغَيْر ذَنْب.(3/458)
1930 - / 2379 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((بَيْنَمَا رجل يمشي فَإِذا كلب يَلْهَث يَأْكُل الثرى من الْعَطش)) .
اللهث: صَوت النَّفس من شدَّة الإعياء.
وَالثَّرَى هَا هُنَا الأَرْض.
ورقي بِكَسْر الْقَاف: أَي صعد.
وَالْبَغي: الْفَاجِرَة.
ويطيف: يَدُور حولهَا.
وأدلع: أخرج لِسَانه من الْعَطش.
والموق: الْخُف، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الموق: الْخُف، فَارسي مُعرب. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الموق: نوع من الْخفاف مَعْرُوف وَسَاقه إِلَى الْقصر. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الموق فَارسي مُعرب، وَيجمع على الأمواق. وَفِي حَدِيث عمر أَنه لما قدم الشَّام عرضت لَهُ مخاضة فَنزل عَن بعيره وَنزع موقيه. وَقَالَ النمر بن تولب:
(فترى النعاج بِهِ تمشي خلفة ... مشي العباديين فِي الأمواق)
العباديون: قوم تزهدوا وَقَالُوا: نَحن عباد الله.(3/459)
1931 - / 2380 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَو يعلم النَّاس مَا فِي النداء والصف الأول ثمَّ لم يَجدوا إِلَّا أَن يستهموا عَلَيْهِ لاستهموا)) .
النداء: الْأَذَان. والاستهام: الْقرعَة. وَإِنَّمَا قيل فِي الإقراع استهام لِأَنَّهَا سِهَام يكْتب عَلَيْهَا الْأَسْمَاء، فَمن وَقع لَهُ مِنْهَا سهم حَاز الْحَظ الموسوم.
والتهجير: التبكير بِصَلَاة الظّهْر. والهاجرة: نصف النَّهَار.
وَالشُّهَدَاء جمع شَهِيد. وَفِي تَسْمِيَة الشَّهِيد شَهِيدا سَبْعَة أَقْوَال قد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند عمر بن الْخطاب.
وَأما المطعون فَهُوَ صَاحب الطَّاعُون، وَهُوَ مرض مَعْرُوف.
والمبطون: صَاحب الْبَطن، وَهُوَ ذُو الإسهال.
وَالْهدم بِفَتْح الدَّال: هُوَ اسْم مَا يَقع، قَالَه لنا ابْن الخشاب.
وَأما بتسكينها فَهُوَ الْفِعْل. وَالَّذِي يَقع هُوَ الَّذِي يقتل، وَيجوز أَن ينْسب الْقَتْل إِلَى الْفِعْل، إِلَّا أَن الأول أظهر.
وَقَوله: ((خير صُفُوف الرِّجَال أَولهَا)) لأَنهم قد أمروا بالتقدم، فَخَيرهمْ من بَادر الْفَضِيلَة، على عكس حَال النِّسَاء فَإِنَّهُنَّ قد أمرن بالتأخر خوف الإفتتان بِهن.(3/460)
1932 - / 2383 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ)) وَقد سبق فِي مُسْند أبي ذَر.
1933 - / 2384 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر بعد الْمِائَتَيْنِ ((لَا أجد حمولة)) .
الحمولة: مَا يحمل الزَّاد وَالْمَتَاع من الْإِبِل.
وَقَوله: ((انتدب الله)) أَي أَجَابَهُ إِلَى غفرانه، يُقَال: ندبته للْجِهَاد فَانْتدبَ، أَي أجَاب.
وَقَوله: ((قتلت ثمَّ أَحييت)) دَلِيل على فضل الشَّهَادَة، وحث على مبادرة الْفَضَائِل وَحمل المشاق فِي تكلفها نظرا إِلَى مآلها.
1934 - / 2385 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: فِي ذكر الْخَيل: ((رجل ربطها فَأطَال لَهَا فِي مرج أَو رَوْضَة)) .
قَوْله: ((أَطَالَ لَهَا)) أَي أرْخى لَهَا الْحَبل. والطول: الْحَبل الَّذِي يشد بِهِ الدَّابَّة، قَالَ طرفَة:
(لعمرك إِن الْمَوْت مَا أَخطَأ الْفَتى ... لكالطول المرخى وثنياه بِالْيَدِ)
والطيل لُغَة فِي الطول.
والمرج: أَرض ذَات نَبَات تمرج فِيهَا الدَّوَابّ: أَي ترسل للرعي.
وَالرَّوْضَة: الْمَكَان المخضر.(3/461)
والإستنان: الْعَدو، وَقد شرحناه فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
والشرق: الْموضع الْمشرق: ومشارق الأَرْض: أعاليها.
والتغني: الإستغناء.
وَقَوله: ((ثمَّ لم ينس حق الله فِي رقابها وظهورها)) عِنْد أبي حنيفَة أَن الزَّكَاة وَاجِبَة فِي الْخَيل، وَعِنْدنَا لَا تجب، وَلنَا فِي هَذَا الحَدِيث وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يدعى نسخه بِمَا قد سبق قبل أوراق من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((لَيْسَ على الْمُسلم صَدَقَة فِي فرسه وَعَبده)) وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَام: ((عَفَوْت لكم عَن صَدَقَة الْخَيل وَالرَّقِيق)) وَفِي حَدِيث آخر: ((لَيْسَ فِي الْجَبْهَة وَلَا النخة صَدَقَة)) .
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْجَبْهَة: الْخَيل. والنخة الرَّقِيق. وَالثَّانِي: أَن يكون الْحق بِمَعْنى الْمَعْرُوف، كَمَا سبق فِي حَدِيث جَابر أَنه سُئِلَ عَن حق الْإِبِل فَقَالَ: حلبها على المَاء، ومنيحتها وإعارة دلوها. وَمَعْلُوم أَنه لم يجب فِيهَا سوى الزَّكَاة، وَأَن الْحَلب على المَاء والمنحة مَنْدُوب إِلَيْهِمَا.(3/462)
وَأما قَوْله: ((فخرا ورياء)) أَي يفاخر بهَا ويري النَّاس كَثْرَة مَاله.
وَقيل: بل يُرِيهم أَنه يُرِيد الْجِهَاد ويضمر غير ذَلِك.
وَقَوله: ((ونواء لأهل الْإِسْلَام)) أَي معاداة لَهُم، يُقَال: ناوأت الرجل نواء ومناوأة: إِذا عاديته، وَأَصله من ناء إِلَيْك ونؤت إِلَيْهِ: أَي نهضت إِلَيْهِ نهوض المغالبة.
والأشر: التكبر والمرح وَالْعجب. والبطر: الطغيان فِي النِّعْمَة.
وَقَالَ الزّجاج: البطر. أَن يطغى فيتكبر عِنْد الْحق فَلَا يقبله.
يَعْنِي المفردة الَّتِي جمعت على انفرادها حكم الْحَسَنَات والسيئات، وَهِي وَقَوله: ((هَذِه الْآيَة الجامعة الفاذة)) يَعْنِي المفردة الَّتِي جمعت على انفرادها حكم الْحَسَنَات والسيئات، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره} [الزلزلة: 7] ومثقال الشَّيْء: زنته. والذرة: أَصْغَر النَّمْل.
والصفائح وَاحِدهَا صفيحة. وَالْإِشَارَة بذلك إِلَى اتساع صفائحها وانبساط أقطارها. فأحمي عَلَيْهَا: أَي أوقد عَلَيْهَا حَتَّى تحمى.
والجبين: مَا عَن يَمِين الْجَبْهَة وشمالها، وهما جبينان. والجبهة: مَوضِع السُّجُود.
وَقَوله: ((وَمن حَقّهَا حلبها يَوْم وردهَا)) قد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند جَابر، وَبينا أَنه إِنَّمَا يكون قد كَانَ وَاجِبا قبل الزَّكَاة أَو أَن يشار بِالْحَقِّ إِلَى فعل الْمَعْرُوف، وفسرنا هُنَاكَ القاع والقرقر والأخفاف.
والشجاع: الْحَيَّة. والأقرع: الَّذِي لِكَثْرَة مَا فِي رَأسه من السم كَأَنَّهُ قد قرع.(3/463)
والعقصاء: الملتوية القرنين. والجلحاء: هِيَ الْجَمَّاء الَّتِي لَا قرن لَهَا، والعضباء: الْمَكْسُورَة الْقرن. والعضب فِي الْأذن: قطعهَا.
والأظلاف قد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند أبي ذَر.
واليعار: صَوت الشَّاء. والرغاء: صَوت الْبَعِير.
وَقَوله: ((لَهُ زَبِيبَتَانِ)) قَالَ أَبُو عبيد: هما النكتتان السوداوان فَوق عَيْنَيْهِ، وَهُوَ أوحش مَا يكون من الْحَيَّات وأخبثه. قَالَ: وَيُقَال فِي الزبيبتين إنَّهُمَا الزبدتان اللَّتَان تَكُونَانِ فِي الشدقين إِذا غضب الْإِنْسَان أَو أَكثر الْكَلَام حَتَّى يُزْبِد، قَالَت أم غيلَان بنت جرير الخطفي: رُبمَا أنشدت أبي حَتَّى يتزبب شدقاي. قَالَ الراجز:
(إِنِّي إِذا مَا زبب الأشداق ... وَكثر الضجاج واللقلاق)
(ثَبت الْجنان مرجم وداق ... )
اللقلاق: الصَّوْت. والمرجم: الَّذِي يرْجم الْكَلَام.
وَقَوله: ((بِلِهْزِمَتَيْهِ)) يَعْنِي شدقيه. واللهزمتان: الشدقان.
وَقَوله: ((الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر)) قد سبق فِي مُسْند عُرْوَة الْبَارِقي.
1935 - / 2386 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَتَيْنِ: ((تسموا(3/464)
باسمي)) قد سبق فِي مُسْند جَابر، وَبينا حكمه.
وَقَوله: ((من رَآنِي فِي الْمَنَام)) قد سبق فِي مُسْند أبي قَتَادَة.
وَقَوله: ((من كذب عَليّ)) قد تقدم فِي مُسْند عَليّ.
1936 - / 2387 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال: ((سَمِعت اللَّيْلَة خشف نعليك)) وَفِي رِوَايَة: ((دف نعليك فِي الْجنَّة)) .
الخشف: الْحَرَكَة وَالصَّوْت الَّذِي لَيْسَ بِالْقَوِيّ. والدف: الْحَرَكَة الْخَفِيفَة أَيْضا.
وَقد حث هَذَا الحَدِيث على إتباع الْوضُوء بِالصَّلَاةِ لِئَلَّا يبْقى الْوضُوء خَالِيا عَن مَقْصُوده.
1937 - / 2388 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي دَعْوَة، فَرفع إِلَيْهِ الذِّرَاع وَكَانَت تعجبه، فنهس مِنْهَا نهسة.
قَالَ ابْن فَارس: الدعْوَة إِلَى الطَّعَام بِالْفَتْح. والدعوة فِي النّسَب بِالْكَسْرِ. وَحكي عَن أبي عُبَيْدَة أَنه قَالَ: هَذَا أَكثر كَلَام الْعَرَب إِلَّا(3/465)
عدي الربَاب، فَإِنَّهُم ينصبون الدَّال فِي النّسَب ويكسرونها فِي الطَّعَام.
وَأما الذِّرَاع فَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: هِيَ مُؤَنّثَة، وَجَمعهَا أَذْرع لَا غير.
وَقَالَ ابْن قتبية: الذِّرَاع تذكر وتؤنث، وَمثلهَا الموس والسكين والسبيل وَالطَّرِيق والسوق والدلو وَاللِّسَان، من ذكره قَالَ أَلْسِنَة، وَمن أنثه قَالَ: ألسن، والعنق والعاتق والمتن وَالسِّلَاح والكراع والصاع وَالْحَال والفهر وَالْخمر وَالْعَسَل وَالسُّلْطَان وَالسّلم - وَهُوَ الصُّلْح - والقليب.
وَمِمَّا يكون للذكور وَالْإِنَاث وَفِيه عَلامَة التَّأْنِيث: السخلة تكون للذّكر وَالْأُنْثَى، والبهمة كَذَلِك، والرشأ: ولد الغزال، والعسبارة: ولد الضبع من الذِّئْب، والحية وَالشَّاة، وبطة وحمامة ونعامة، لَا تَقول هَذِه نعَامَة ذكر حَتَّى تَقول: ظليم. وكل هَذِه تجمع بطرح الْهَاء إِلَّا حَيَّة فَإِنَّهُ لَا يُقَال فِي جمعهَا حَيّ. وَمن الْأَسْمَاء المؤنثة الَّتِي لَا أَعْلَام فِيهَا للتأنيث: السَّمَاء وَالشَّمْس والنعل والعصى والرحى وَالدَّار وَالضُّحَى وَدرع الْحَدِيد، وَأما درع الْمَرْأَة وَهُوَ قميصها فمذكر.
والنهس: أَخذ مَا على الْعظم بأطراف الْأَسْنَان.
وَقَوله: ((أَنا سيد ولد آدم)) أَي: أَنا الْمُقدم عَلَيْهِم. إِن قيل: كَيفَ الْجمع بَين هَذَا وَبَين ((لَا تفضلُونِي على يُونُس)) ؟
فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون نَهْيه عَن تفضيله قبل(3/466)
إِعْلَامه بِأَنَّهُ سيد ولد آدم. وَالثَّانِي: أَن يكون علم، غير أَنه نهى عَن تفضيله على يُونُس لثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: أَن فِي تَفْضِيل شخص على شخص نوع نقص للْآخر، وَالْمعْنَى: قُولُوا مَا قيل لكم وَلَا تخَيرُوا برأيكم، وَلَيْسَ المُرَاد أَن لَا تعتقدوا تَفْضِيل قوم على قوم، فقد قَالَ الله تَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُل فضلنَا بَعضهم على بعض} [الْبَقَرَة: 253] وَالثَّانِي: أَن يفضل عَلَيْهِ فِي صبره ومعاناة قومه، فَإِن نَبينَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يفضل الْأَنْبِيَاء بمعاناة قومه بل بموهبة الله عز وَجل لَهُ الْفضل.
وَالثَّالِث: أَن يكون دلّ النَّاس على التَّوَاضُع، لِأَنَّهُ إِذا تواضع هُوَ مَعَ شرفه فَغَيره أولى بذلك.
وَالْوَجْه الثَّالِث من الْجَواب: أَن السِّيَادَة التَّقَدُّم، فَأَشَارَ بتقدمه فِي الْقِيَامَة فِي الشَّفَاعَة على الْخلق وَلم يتَعَرَّض بِذكر فضل.
وَأما الصَّعِيد فالأرض المستوية.
وَأما قَول إِبْرَاهِيم: إِنِّي كذب، فَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ قلت قولا يشبه الْكَذِب فِي ظَاهر القَوْل وَهُوَ صدق عِنْد الْبَحْث والتفتيش. وسنوضح هَذَا بعد سَبْعَة وَعشْرين حَدِيثا.
والمصراع: أحد شقي الْبَاب. والصرعان فِي اللُّغَة: المثلان، يُقَال: هَذَا صرع هَذَا: أَي مثله، وَيُشبه أَن يكون اشتقاق المصراعين من هَذَا.
وأعضاد كل شَيْء: مَا يشد حوله.(3/467)
وَأما مَكَّة فَقَالَ ابْن فَارس: قَالَ قوم: سميت مَكَّة لِأَنَّهَا مثابة يؤمها النَّاس من كل فج، وَكَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تجذبهم إِلَيْهَا، من قَول الْعَرَب: امتك الفصيل مَا فِي ضرع النَّاقة: إِذا استقصى. وَقَالَ آخَرُونَ: سميت مَكَّة من قَوْلك: مككت الرجل: إِذا رددت نخوته، قَالَ الشَّاعِر:
(يَا مَكَّة الْفَاجِر مكي مكا ... وَلَا تمكي مذحجا وعكا)
قَالَ: وَيُقَال: سميت مَكَّة لجهد أَهلهَا.
وَأما مَا بَينهَا وَبَين هجر فمسافة بعيدَة تقطع فِي نَحْو عشْرين يَوْمًا.
وتزلف: تقرب.
وَقَوله: ((وَترسل الْأَمَانَة وَالرحم فتقومان جنبتي الصِّرَاط)) المُرَاد: أَنه من أدّى الْأَمَانَة وَوصل الرَّحِم نجا، وَمن لم يفعل لم يسلم.
والمكردس: الَّذِي جمعت يَدَاهُ وَرجلَاهُ فِي وُقُوعه.
والخريف يُرَاد بِهِ هَا هُنَا السّنة.
1938 - / 2389 - والْحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَتَيْنِ: قد تقدم فِي مُسْند عمر.
1939 - / 2390 - وَسبق الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَتَيْنِ:(3/468)
فِي مُسْند طَلْحَة.
1940 - / 2391 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: قَامَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر الْغلُول.
الْغلُول: أَخذ الشَّيْء من الْمغنم فِي سر قبل أَن يقسم.
وَقَوله: ((لَا أَلفَيْنِ)) أَي: لَا أجدن، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [الْبَقَرَة: 170] .
والرغاء: صَوت الْبَعِير. والثغاء: صَوت الشَّاة. أخبرنَا مُحَمَّد ابْن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا ثَابت بن بنْدَار قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد بن رزمة قَالَ: أخبرنَا أَبُو سعيد السيرافي قَالَ: حَدثنِي ابْن أبي الْأَزْهَر النَّحْوِيّ قَالَ: قَالَ لنا الزبير بن بكار: سَمِعت الْعَرَب تَقول فِي مثل صَوت الْإِنْسَان من ذِي الْحَافِر صَهل الْفرس يصهل صهيلا، وحمحم حَمْحَمَة، وشهق الْحمار، ونهق ينهق نهيقا، وشحج الْبَغْل يشحج ويشحج شحيجا وشحاجا، ورغا الْبَعِير يرغو رُغَاء، وجرجر وهدر وقبقب، وثغت الشَّاة تغثو ثُغَاء، ويعرت تَيْعر يعارا، وثأجت النعجة تثأج، وبغم الظبي يبغم بغاما، ونزب ينزب، وزأر الْأسد يزأر زئيرا، ونأم نئيما، ونهت ونأت، ووعوع الذِّئْب وعوعة، ونهم الْفِيل ينهم نهما، ورقح القرد يرقح رقحا، وضبح الثَّعْلَب يضبح ضباحا، وعوى الْكَلْب يعوي عواء، ونبح أَيْضا، ومأت السنور تموء، وصأت(3/469)
الْفَأْرَة تصئوا صئيا. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَيُقَال فِي الْحمار يسحل ويسحل، والجمل يرغو ويهدر، والناقة تئط وتحن، واليعار للمعز، والثؤاج للضأن، والتيس ينب ويهب: إِذا أَرَادَ السفاد، وَالذِّئْب يعوي ويتضور: إِذا جَاع، والأفعى تفح بفيها، وتكش بجلدها، قَالَ الشَّاعِر:
(كشيش أَفْعَى أَجمعت لعض ... فَهِيَ تحك بَعْضهَا بِبَعْض)
والحية تنضنض، وَيُقَال: النضنضة: تحريكها لسانها. وَابْن آوى يعوي. والغراب ينغق بالغين مُعْجمَة، وينعب، والديك يزقو ويسقع، والدجاجة تنق وتنقض: إِذا أَرَادَت الْبيض، والنسر يصفر، وَالْحمام يهدر ويهدل، والمكاء يزقو ويغرد، والقرد يضْحك، والنعام يعار عرارا، يُقَال ذَلِك فِي الظليم، وَالْأُنْثَى تزمر زمارا، وَالْخِنْزِير يقبع، والأرنب تضغب، وَالْعَقْرَب تنق وتصأى، وَيُقَال: صأى الفرخ وَالْخِنْزِير والفيل والفأرة واليربوع يصأى صئيا وصئيا، والضفادع تنقض وتنق، وَكَذَلِكَ الفراريج، وَالْجِنّ تعزف. والشخير من الْفَم، والنخير من المنخرين، والكرير من الصَّدْر، والخرير صَوت المَاء، والغرغرة صَوت الْقدر، والوسواس صَوت الْحلِيّ، والجرس(3/470)
والجرس صَوت حَرَكَة الْإِنْسَان، والركز الصَّوْت الْخَفي، وَكَذَلِكَ الهمس. وَيُقَال: هجهجت بالسبع: إِذا صحت بِهِ، وَلَا يُقَال ذَلِك لغير السَّبع. وشايعت بِالْإِبِلِ، ونعقت بالغنم، ودجدجت بالدجاجة، وسأسأت بالحمار، وجأجأت بِالْإِبِلِ: دعوتها للشُّرْب، وهأهأت بهَا للعلف. وأشليت الْكَلْب: دَعوته.
وَقَوله: ((نفس لَهَا صياح)) وَهِي الَّتِي تغل من الْمغنم.
وَقَوله: ((رقاع تخفق)) وَهُوَ مَا يغل من الثِّيَاب. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي: المُرَاد بالرقاع مَا عَلَيْهِم من الْحُقُوق الْمَكْتُوبَة فِي الرّقاع.
قلت: وَفِي هَذَا بعد، لِأَن الحَدِيث سيق لذكر الْغلُول.
وَأما الصَّامِت فَهُوَ الذَّهَب وَالْفِضَّة.
1941 - / 2392 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((هَلَاك أمتِي على يَد أغيلمة من قُرَيْش)) .
الأغيامة جمع غُلَام. وَقد بَينا معنى الْغُلَام فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: ((لَو أَن النَّاس اعتزلوهم)) قد أَمر أَحْمد بن حَنْبَل بترك هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ الْخلال: قَالَ عبد الله: قَالَ أبي فِي مَرضه: اضْرِب(3/471)
على هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ خلاف الْأَحَادِيث. قَالَ الْخلال: وَحدثنَا الْمَرْوذِيّ قَالَ: بَلغنِي أَن أَبَا عبد الله قَالَ فِي مَرضه: اضربوا من حَدِيثي على حَدِيث أبي هُرَيْرَة: ((لَو أَن النَّاس اعتزلوهم)) . قَالَ الْمَرْوذِيّ: كنت أسمعهُ يَقُول: هُوَ حَدِيث رَدِيء يحْتَج بِهِ فِي ترك الْجُمُعَة. قَالَ الْخلال: وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمد فِي حَدِيث ثَوْبَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((اسْتَقِيمُوا لقريش مَا استقاموا لكم، فَإِن لم يستقيموا لكم فاحملوا سُيُوفكُمْ على أَعْنَاقكُم فأبيدوا خضراءهم)) قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: الْأَحَادِيث خلاف هَذَا، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: ((اسْمَع وأطع)) قلت: فَهَذَا دَلِيل على أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة لم يثبت عِنْد أَحْمد وَإِن كَانَ قد أخرج فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) ، فَيحمل على أَنه وهم من الروَاة. وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: ((لَو أَن النَّاس اعتزلوهم)) أَي تركُوا الْإِنْكَار عَلَيْهِم ظَاهرا وصبروا على أفعالهم لِئَلَّا تقع فتْنَة، فَهَذَا تَأْوِيل حسن.
1942 - / 2393 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((أول زمرة يدْخلُونَ الْجنَّة على صُورَة الْقَمَر)) .
الزمرة: الْجَمَاعَة. وَالْإِشَارَة إِلَى نور الْقَمَر لَا إِلَى صورته،(3/472)
ويوضح هَذَا مَا بعده. وَقد ذكرنَا معنى لَيْلَة الْبَدْر فِي مُسْند سهل بن سعد.
وَقَوله: ((لَا يَتَغَوَّطُونَ)) أَي لَا يأْتونَ الْغَائِط: وَهُوَ الْمَكَان المطمئن من الأَرْض لقَضَاء الْحَاجة.
وَقَوله: ((لَا يَتْفلُونَ)) أَي لَا يبصقون. وَقد سبق أَن التفل لَا يكون إِلَّا وَمَعَهُ شَيْء من الرِّيق.
وَقَوله: ((مجامرهم الألوة)) قَالَ أَبُو عبيد: الألوة: الْعود الَّذِي يتبخر بِهِ، فارسية معربة، وَفِيه لُغَتَانِ: ألوة وألوة.
فَأَما الألنجوج فَقَالَ ابْن السّكيت: اليلنجوج: الْعود، وَيُقَال ألنجوج وألنجج وأنجوج.
وَأما الْحور فَقَالَ مُجَاهِد: هن النقيات الْبيَاض. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْحور: الشَّدِيدَة بَيَاض الْعين، الشَّدِيدَة سَواد سوادها. قَالَ الزّجاج: وَالْعين: كبار الْعُيُون حسانها، واحدتهن عيناء.
وَقَوله: ((على خلق رجل)) أَرَادَ بِهِ الطول فِي الْبدن.(3/473)
1943 - / 2395 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((انتدب الله لمن خرج فِي سَبيله)) .
قد تقدم آنِفا معنى انتدب، وَأَنه بِمَعْنى أجَاب وَضمن. وَقد جَاءَ بِأَلْفَاظ مِنْهَا: تكفل، وتوكل، وتضمن.
وَقَوله: ((فَهُوَ عَليّ ضَامِن)) أَي مَضْمُون.
1944 - / 2396 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((مَا من مكلوم يكلم فِي سَبِيل الله)) .
الكلوم وَالْكَلَام: الْجِرَاحَات، وَاحِدهَا كلم.
وَقَوله: ((فِي سَبِيل الله)) إِشَارَة إِلَى الْإِخْلَاص وَصِحَّة الْقَصْد، وَإِنَّمَا تَأتي الْجِرَاحَات على حَالهَا ليبين بهَا فضل الشَّهِيد وفخره، فليجتهد الْمُجَاهِد أَن تكون الكلوم فِيمَا أقبل مِنْهُ لَا فِيمَا أدبر، لِأَنَّهَا إِذا كَانَت فِيمَا أدبر مِنْهُ دلّت على الْهَزِيمَة، فَهُوَ يفتخر بِتِلْكَ ويستحيي من هَذِه، كَمَا قَالَ الْقَائِل:
(ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... وَلَكِن على أقدامنا تقطر الدما)
1945 - / 2398 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: أَي الصَّدَقَة أعظم أجرا؟ قَالَ: ((أَن تصدق وَأَنت صَحِيح شحيح)) .(3/474)
اعْلَم أَن الْمُتَصَدّق مخرج لمحبوبه عَن يَده، وَهَذَا المحبوب معد للإنفاق فِي الْأَغْرَاض، ومعظم الْأَغْرَاض تكون فِي الصِّحَّة، فَإِذا كَانَ أخرجه فِي الْمَرَض فقد بَدَت أَمَارَات الإستغناء عَن المَال فَلَا يلْحق بِدَرَجَة الْمُعْطِي فِي الصِّحَّة. أخبرنَا مُحَمَّد بن عمر الأرموي قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عَليّ الْمهْدي قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن الصَّباح قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن معن قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن حَيَّان قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي حَبِيبَة الطَّائِي عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((مثل الَّذِي يعْتق عِنْد الْمَوْت كَمثل الَّذِي يهدي إِذا شبع)) .
1946 - / 2399 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين)) فَقَالُوا: وللمقصرين. فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين)) حَتَّى أَعَادَهَا ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: (وللمقصرين)) .
وَهَذَا لِأَنَّهُ حلق رَأسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكرر الدُّعَاء لمن وَافقه فِي فعله وَقصر بِمن قصر، وَقد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن عمر سَبَب توقفهم عَن الحلاق.
1947 - / 2401 - والْحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ بعد الْمِائَتَيْنِ: قد تقدم فِي مُسْند عبد الله بن أبي أوفى.(3/475)
1948 - / 2402 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا)) .
طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا آيَة تعم الْكل، وتدل على الصَّانِع المقلب للأشياء، وَقد سبق الْوَعْد بذلك فِي الْقُرْآن، فَإِذا اضطرهم ذَلِك إِلَى التَّصْدِيق لم يقبل إِيمَان من يُؤمن حِينَئِذٍ، وَلَقَد زعم الْمُلْحِدُونَ وَأهل النُّجُوم أَن ذَلِك لَا يكون، فيبين كذبهمْ، وَيظْهر الْقُدْرَة على مَا طلبه الْخَلِيل من نمْرُود بقوله: {فأت بهَا من الْمغرب} [الْبَقَرَة: 258] والدجال قد سبقت الْأَخْبَار عَنهُ. وَالدُّخَان مَذْكُور فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. وَالدَّابَّة هِيَ الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا وَقع القَوْل عَلَيْهِم أخرجنَا لَهُم دَابَّة من الأَرْض تكلمهم} [النَّمْل: 82] وَهِي دَابَّة تخرج فِي آخر الزَّمَان تكلم الْإِنْس وتنكت فِي وَجه الْكَافِر نُكْتَة سَوْدَاء فيسود وَجهه، وتنكت فِي وَجه الْمُؤمن نُكْتَة بَيْضَاء فيبيض وَجهه، فَيعرف الْمُؤمن من الْكَافِر. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي صفتهَا وَمَكَان خُرُوجهَا على مَا ذَكرْنَاهُ فِي ((التَّفْسِير)) ، وَإِنَّمَا تخرج هَذِه الدَّابَّة لعقوبة الْكفَّار وفضيحتهم؛ فَإِنَّهُم رَأَوْا من الْآيَات مَا يشفي وَيَكْفِي فَلم ينتفعوا بِمَا رَأَوْا، فَخَرجُوا بالأغراض عَن فهم الدَّلِيل عَن حيّز الْآدَمِيَّة إِلَى حيّز الْحَيَوَان البهيم، فأخرجت لعقوبتهم دَابَّة.(3/476)
وَقَوله: ((أَو خَاصَّة أحدكُم)) أَي مَا يَخُصُّهُ من الْمَوْت الَّذِي يمنعهُ من الْعَمَل. ((أَو أَمر الْعَامَّة)) يَعْنِي الْقِيَامَة، لِأَنَّهَا تعم النَّاس جَمِيعًا بِالْمَوْتِ، يَقُول: فبادروا الْمَوْت وَالْقِيَامَة بِالْأَعْمَالِ.
1949 - / 2404 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ)) .
الْوَاو عاطفة لكَلَام مُقَدّر تَقْدِيره: وَبِحَمْدِهِ سبحته.
1950 - / 2405 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((اللَّهُمَّ اجْعَل رزق آل مُحَمَّد قوتا)) .
الْقُوت: مَا مَا يمسك الرمق. يُقَال: مَا عِنْده قوت لَيْلَة وقيت لَيْلَة، فَكَأَنَّهُ طلب مِقْدَار الْكِفَايَة من الرزق؛ لِأَن فضول الدُّنْيَا تشغل الْقلب وَتخرج إِلَى حب الدُّنْيَا.
1951 - / 2407 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((اسْتَوْصُوا بِالنسَاء)) .
يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أوصوهن، وَقد جَاءَ استفعل بِمَعْنى أفعل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فليستجيبوا لي} [الْبَقَرَة: 186] وَقَوله: {ويستجيب الَّذين آمنُوا} [الشورى: 26] وَكَذَلِكَ قَول الشَّاعِر:
( ... ... ... فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب)
وَالثَّانِي: أَن يكون استفعل على أَصله وَهُوَ طلب الْفِعْل، فَيكون(3/477)
مَعْنَاهُ: اطْلُبُوا الْوَصِيَّة. وَإِنَّمَا خص النِّسَاء بِالذكر لضعفهن واحتياجهن إِلَى من يقوم بأمورهن.
وَقَوله: ((فَإِن الْمَرْأَة خلقت من ضلع)) فروى السّديّ عَن أشياخه: أَن آدم نَام نومَة فِي الْجنَّة فَاسْتَيْقَظَ فَإِذا عِنْد رَأسه امْرَأَة قَاعِدَة خلقهَا الله تَعَالَى من ضلعه، فَسَأَلَهَا: من أَنْت؟ قَالَت: امْرَأَة. قَالَ: وَلم خلقت. قَالَت: تسكن إِلَيّ. وَقَالَ عبد الله بن عمر: خلقت حَوَّاء من ضلع آدم الْأَيْسَر.
وَقَوله: ((وفيهَا عوج)) قَالَ ثَعْلَب: العوج عِنْد الْعَرَب بِكَسْر الْعين فِي كل مَا لَا يحاط بِهِ. والعوج بِفَتْح الْعين فِي كل مَا يتَحَصَّل، فَيُقَال: فِي الأَرْض عوج وَفِي الدّين عوج؛ لِأَن هذَيْن يتسعان وَلَا يدركان.
وَفِي الْعَصَا عوج وَفِي السن عوج؛ لِأَنَّهُمَا يحاط بهما ويبلغ كنههما.
1952 - / 2409 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لقد عجب الله من صنيعكما)) .
قَالَ ابْن عقيل: الْعجب فِي الأَصْل استغراب الشَّيْء، والإستغراب حَقِيقَة علم مَا لم يعلم، وَإِلَّا فَكل شَيْء أنس بِهِ لَا يتَصَوَّر الْعجب مِنْهُ، كَمَا لَو رأى إِنْسَان حجر المغناطيس يجذب الْحَدِيد وَلم يكن رَآهُ قبلهَا فَإِنَّهُ يعجب، أَو رأى النعام تزدرد الْجَمْر. وَإِذا كَانَ البارئ سُبْحَانَهُ لَا يعزب عَن علمه شَيْء، وَلَا يصدر شَيْء إِلَّا عَن فعله وخلقه، فَأَيْنَ(3/478)
الْعجب مِنْهُ؟ فَلم يبْق للْحَدِيث معنى إِلَّا أَن يكون فعل فِي حق هَذَا من الثَّوَاب وَالْجَزَاء فعل من أعجبه فعله. وَكَذَلِكَ قَوْله: ((ضحك الله)) لِأَن الضحك لَا يصدر إِلَّا عَن رَاض غير ساخط، فَيكون الْمَعْنى: يصدر عَنهُ فعل الراضي الضاحك وإثابته.
1953 - / 2410 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: مَا عَابَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما قطّ.
اعْلَم أَنه قد يكره الْإِنْسَان شَيْئا وَلَا يكرههُ غَيره، فَإِذا عابه نفر عَنهُ من لم يكرههُ، فَيتْرك فيضيع.
1954 - / 2412 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْصَرف من اثْنَتَيْنِ وَخرج سرعَان النَّاس.
السِّين وَالرَّاء مفتوحتان، وَهَكَذَا ضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب ابْن قُتَيْبَة وَغَيره. وَقَالَهُ أَبُو عمر الزَّاهِد بتسكين الرَّاء. قَالَ الْخطابِيّ: الصَّوَاب فتحهما. فَأَما قَوْلهم: سرعَان مَا فعلت، فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات: سرعَان وسرعان وسرعان، وَالرَّاء فِيهِ سَاكِنة وَالنُّون نصب أبدا.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن من تكلم فِي الصَّلَاة نَاسِيا أَو جَاهِلا بِتَحْرِيم الْكَلَام لم تبطل صلَاته، وَقد ذكرنَا هَذَا وَبينا الْخلاف فِيهِ فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن. وَقد اعْترض الْخصم علينا بسؤالين:(3/479)
أَحدهمَا: الطعْن، وَذَلِكَ من جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا: أَن رَاوِيه أَبُو هُرَيْرَة، وَإِنَّمَا أسلم فِي سنة سبع، قَالُوا: وَذُو الْيَدَيْنِ قتل ببدر، فَكيف يَحْكِي أَبُو هُرَيْرَة حَالَة مَا شَاهدهَا؟ قَالُوا: وَكَذَلِكَ عمرَان بن حُصَيْن هجرته مُتَأَخِّرَة.
وَالثَّانِي: أَن أَلْفَاظه تخْتَلف، وَذَلِكَ يدل على وهاه. فَتَارَة يرْوى: فَسلم من رَكْعَتَيْنِ، وَتارَة: من ثَلَاث.
وَالسُّؤَال الثَّانِي: أَنهم قَالُوا: هَذَا كَانَ فِي حَال كَون الْكَلَام مُبَاحا فِي الصَّلَاة، وَلِهَذَا تكلم أَبُو بكر وَعمر عَامِدين.
فَالْجَوَاب: أما الطعْن فَلَا وَجه لَهُ؛ لِاتِّفَاق الْأَئِمَّة على الصِّحَّة.
وَأما ذُو الْيَدَيْنِ فاسمه الْخِرْبَاق كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن، وعاش الْخِرْبَاق بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا الْمَقْتُول يَوْم بدر ذُو الشمالين، واسْمه عُمَيْر. وَإِنَّمَا أَخذ الْخصم فِي هَذَا الحَدِيث الزُّهْرِيّ، وَالزهْرِيّ يَقُول فِي هَذِه الْقِصَّة: فَقَامَ ذُو الشمالين. قَالَ أَبُو دَاوُد السجسْتانِي: وهم فِي هَذَا الزُّهْرِيّ لِأَنَّهُ ظن أَن ذَا الشمالين وَذَا الْيَدَيْنِ وَاحِد. وَأما عمرَان فَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: أسلم قَدِيما، وغزا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غزوات. وَأما اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فَإِنَّمَا يروي الثَّلَاث عمرَان بن حُصَيْن لَا أَبُو هُرَيْرَة. ثمَّ الشَّك فِي الْعدَد لَا يقْدَح فِي حفظ أصل الحَدِيث وَثُبُوت الْكَلَام نَاسِيا، وَلَعَلَّه من الروَاة لَا من الصَّحَابَة. ثمَّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة أقوى للإتفاق عَلَيْهِ، وَحَدِيث عمرَان انْفَرد بِإِخْرَاجِهِ مُسلم.(3/480)
وَأما تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة فقد بَيناهُ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَأما كَلَام أبي بكر وَعمر وَالنَّاس فِي ذَلِك الْيَوْم فقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند عمرَان.
فَإِن قيل: لما قضى مَا فَاتَهُ وَقد خرج سرعَان النَّاس، لم لم يقل: يَا بِلَال، نَاد فِي النَّاس ليتموا صلَاتهم؟ فقد أجَاب عَنهُ ابْن عقيل بجوابين، أَحدهمَا: أَنه لم يتَعَرَّض لأمر لَا يلْزمهُم، بل تَركهم كَمَا ترك السَّائِلين عَن مَاء الغدير. وَالثَّانِي: أَن يكون وكل ذَلِك إِلَى عَادَة النَّاس فِي تَبْلِيغ ذَلِك بَعضهم إِلَى بعض، وَلَوْلَا ذَلِك لطال عَلَيْهِ تلبيغ كل مَا يحدث بِهِ.
1955 - / 2413 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: نهى أَن يُصَلِّي الرجل مُخْتَصرا.
وَهُوَ وضع الْيَد على الخصر، وَهَذَا يُنَافِي الْخُشُوع والتعبد. قَالَ أَبُو عبيد: وَجَاء فِي حَدِيث: إِنَّه رَاحَة أهل النَّار.
1956 - / 2414 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((أسلم سَالَمَهَا الله)) وَفِي سبق فِي مُسْند أبي ذَر.
1957 - / 2414 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لم(3/481)
يكذب إِبْرَاهِيم قطّ إِلَّا ثَلَاث كذبات: قَوْله إِنِّي سقيم، وَقَوله: بل فعله كَبِيرهمْ هَذَا. وَقَوله عَن سارة: أُخْتِي)) .
اعْلَم أَن الْكَذِب لَا يجوز على الْأَنْبِيَاء بِحَال، فَهَذَا أصل يَنْبَغِي أَن يعْتَقد وَلَا يُنَاقض بأخبار الْآحَاد، فَإِنَّهُ ثَابت بِدَلِيل أقوى مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: أَن إِبْرَاهِيم قَالَ قولا يشبه الْكَذِب. قَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: كَلَام إِبْرَاهِيم كَانَ صدقا عِنْد الْبَحْث، وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ قولا يشبه الْكَذِب فِي الظَّاهِر وَلَيْسَ بكذب. قَالَ ابْن عقيل: دلَالَة الْعقل تصرف ظَاهر هَذَا اللَّفْظ، وَذَاكَ أَن الْعقل قطع بِأَن الرَّسُول يَنْبَغِي أَن يكون موثوقا بِهِ ليعلم صدق مَا جَاءَ بِهِ عَن الله، وَلَا ثِقَة مَعَ تَجْوِيز الْكَذِب عَلَيْهِ، فَكيف مَعَ وجود الْكَذِب مِنْهُ، وَإِنَّمَا استعير ذكر الْكَذِب لِأَنَّهُ بِصُورَة الْكَذِب فَسَماهُ كذبا مجَازًا، وَلَا يجوز سوى هَذَا.
قلت: وَاعْلَم أَن تِلْكَ الْكَلِمَات إِنَّمَا كَانَت من إِبْرَاهِيم على جِهَة المعاريض، غير أَن الْأَنْبِيَاء يحذرون من كلمة تشبه الْكَذِب، وَلذَلِك يَقُول الْخَلِيل إِذا قيل لَهُ فِي الْقِيَامَة: اشفع لنا: إِنِّي كذبت. وَبَيَان أَنَّهَا كَانَت من جِهَة المعاريض أَنه رُوِيَ عَن الْكسَائي أَنه كَانَ يقف عِنْد قَوْله: {بل فعله} [الْأَنْبِيَاء: 63] وَيَقُول: فعله من فعله وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ: إِن كَانُوا ينطقون فقد فعله كَبِيرهمْ هَذَا. وَكَذَلِكَ: {إِنِّي سقيم} [الصافات: 89](3/482)
أَي سأسقم، فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِنَّك ميت} [الزمر: 30] أَي سَتَمُوتُ.
وَقَوله: {لَا تؤاخذني بِمَا نسيت} [الْكَهْف: 73] قَالَ ابْن عَبَّاس: لم ينس، وَلكنه من معاريض الْكَلَام.
وَكَذَلِكَ قَوْله هِيَ أُخْتِي: فقد بَين أَنه أَرَادَ أخوة الْإِسْلَام.
وعَلى هَذَا إِشْكَال مَا زَالَ يختلج فِي نَفسِي وَهُوَ أَن يُقَال: مَا معنى توريته عَن الزَّوْجَة بالأخت؟ وَمَعْلُوم أَن ذكرهَا بِالزَّوْجِيَّةِ أسلم لَهَا؛ لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: هَذِه أُخْتِي، قَالَ: زوجنيها. وَإِذا قَالَ: امْرَأَتي، سكت، هَذَا إِذا كَانَ الْملك يعْمل بِالشَّرْعِ، فَأَما إِذا كَانَ كَمَا وصف من جوره وَمد يَده إِلَيْهَا ظلما، فَمَا يُبَالِي أَكَانَت زَوْجَة أَو أُخْتا. وَمَا زلت أبحث عَن هَذَا وأسأل فَلم أجد أحدا يشفي بِجَوَاب، إِلَى أَن وَقع لي أَن الْقَوْم كَانُوا على دين الْمَجُوس، وَفِي دينهم أَن الْأُخْت إِذا كَانَت زَوْجَة كَانَ أَخُوهَا الَّذِي هُوَ زَوجهَا أَحَق بهَا من غَيره، فَكَأَن الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَرَادَ أَن يستعصم من الْجَبَّار بِذكر الشَّرْع الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ الْجَبَّار، فَإِذا الْجَبَّار لَا يُرَاعِي جَانب دين، فَنظر الله عز وَجل إِلَى خَلِيله بِلُطْفِهِ وكف كف الْفَاجِر.
وَقد اعْترض على هَذَا فَقيل: إِنَّمَا جَاءَ بِمذهب الْمَجُوس زاردشت وَهُوَ مُتَأَخّر عَن زمَان الْخَلِيل. وَالْجَوَاب: أَن لمَذْهَب الْقَوْم أصلا قَدِيما فَادَّعَاهُ زرادشت وَزَاد عَلَيْهِ، وَقد كَانَ نِكَاح الْأَخَوَات جَائِزا فِي زمن آدم، وَقيل: إِنَّمَا حرمه مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، وَيدل على أَن دين(3/483)
الْمَجُوس لَهُ أصل مَا روى أَبُو دَاوُد فِي ((سنَنه)) أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَخذ الْجِزْيَة من مجوس هجر. وَمَعْلُوم أَن الْجِزْيَة لَا تُؤْخَذ إِلَّا مِمَّن لَهُ كتاب أَو شبه كتاب. ثمَّ سَأَلت عَن هَذَا بعض عُلَمَاء أهل الْكتاب فَقَالَ: كَانَ من مَذْهَب الْقَوْم أَنه من كَانَ لَهُ زَوْجَة لَا يجوز أَن يتَزَوَّج بهَا إِلَّا أَن يقتل الزَّوْج، فَعلم إِبْرَاهِيم هَذَا فَقَالَ عَن سارة: أُخْتِي، وَكَأَنَّهُ يَقُول: إِن كَانَ الْملك عادلا فَخَطَبَهَا مني أمكن مَنعه، وَإِن كَانَ ظَالِما فَأَخذهَا تخلصت من الْقَتْل.
وَقَوله: مَهيم؟ سُؤال عَن الْحَال والقصة، وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أنس.
وَقَول أبي هُرَيْرَة: فَتلك أمكُم يَا بني مَاء السَّمَاء. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: يَعْنِي الْعَرَب، وَذَلِكَ أَنهم يعيشون بِمَاء السَّمَاء ويتبعون مَوَاضِع الْقطر فِي بواديهم. قَالَ: وَيُقَال: إِنَّمَا أَرَادَ زَمْزَم أنبطها لهاجر فعاشوا بهَا فصاروا كَأَنَّهُمْ أَوْلَادهَا.
وَقَوله: ((كبت الْفَاجِر)) : أَي صرفه وأذله.
1959 - / 2416 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: حَدِيث جريج، وَفِيه أَنه قَالَ: ((أُمِّي وصلاتي)) .
اعْلَم أَن قلَّة الْعلم أوقع جريجا فِيمَا أوقعه فِيهِ، فَإِن طَاعَة الوالدة(3/484)
وإجابتها لَازِمَة وَصلَاته كَانَت تَطَوّعا، فَلَمَّا قل علمه قدم التَّطَوُّع على الْوَاجِب.
والمومسة: الْفَاجِرَة، وَجَمعهَا مومسات وميامس. وَأَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ مياميس بِزِيَادَة يَاء، قَالَ لنا ابْن الخشاب: لَيْسَ قَوْلهم صَحِيحا.
وَقَوله: يَا بابوس. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: البابوس: الصَّبِي الرَّضِيع، قَالَ ابْن أَحْمَر:
(حنت قلوصي إِلَى بابوسها جزعا ... وَمَا حنينك أم مَا أَنْت وَالذكر)
وَلما ترك جريج مَا يجب عَلَيْهِ من إِجَابَة أمه سمع دعاؤها فِيهِ لِأَنَّهَا مظلومة بِمَنْع حَقّهَا، وَلما كَانَ أصل إيثاره لطاعة الله عز وَجل نظر إِلَى ذَلِك فأنطق الطِّفْل.
وَالدَّابَّة الفارهة: النشيطة. والشارة الْحَسَنَة: الْجمال الظَّاهِر فِي الْهَيْئَة واللباس. وَأما حِكَايَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ارتضاع الصَّبِي فلزيادة التفهيم للقصة.
1960 - / 2417 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((من نسي وَهُوَ صَائِم فَأكل وَشرب فليتم صَوْمه؛ فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه)) .
هَذَا صَرِيح فِي الرَّد على مَالك فَإِنَّهُ يَقُول: إِن النَّاسِي إِذا أكل بَطل صَوْمه.(3/485)
1961 - / 2418 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((فقدت أمة من بني إِسْرَائِيل لَا يدرى مَا فعلت، وَإِنِّي لَا أَرَاهَا إِلَّا الفأر)) .
أَي لَا أظنها، وَالظَّاهِر أَنه قَالَ هَذَا بظنه ثمَّ أعلم بعد ذَلِك فَقَالَ مَا سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود: ((إِن الله لم يمسخ مسخا فَيجْعَل لَهُ نَسْلًا وَلَا عَاقِبَة)) .
1962 - / 2419 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَو آمن بِي عشرَة من الْيَهُود لم يبْق على ظهرهَا يَهُودِيّ إِلَّا أسلم)) .
كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَشَارَ إِلَى أَن الْقَوْم يقلدون أَحْبَارهم لَا بِالدَّلِيلِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني} [الْبَقَرَة: 78]
فَإِن قيل: فقد أسلم أَكثر من عشرَة. فَالْجَوَاب: أَن بعض الْعلمَاء يَقُول: مَا أسلم مِنْهُم عشرَة، بل أقل، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَا إِشْكَال، وَإِلَّا فَالْحَدِيث على أَمريْن: أَحدهمَا: أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى الرؤساء الْكِبَار. وَالثَّانِي: إِلَى اجْتِمَاع عشرَة فِي الْإِسْلَام فِي وَقت وَاحِد.
1963 - / 2421 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: أَن امْرَأَة كَانَت تقم الْمَسْجِد فَمَاتَتْ، فَقَالَ: ((دلوني على قبرها))(3/486)
فصلى عَلَيْهَا.
تقم: أَي تكنسه وتنظفه. وَالْقُمَامَة: الكناسة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على جَوَاز الصَّلَاة على الْقَبْر وإعادتها فِي حق من لم يصل.
1964 - / 2423 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع ثمَّ جهدها فقد وَجب الْغسْل)) .
فِي الشّعب الْأَرْبَع قَولَانِ: أَحدهمَا: اليدان وَالرجلَانِ. وَالثَّانِي: الفخذان والاسكتان: وهما حرفا الْفرج.
وَقَوله جهدها: أَي اجْتهد فِي الْوُصُول إِلَيْهَا، وَالْإِشَارَة إِلَى التقاء الختانين، فَإِنَّهُ مُبين فِي حَدِيث آخر.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن قَوْله: ((المَاء من المَاء)) مَنْسُوخ.
1965 - / 2425 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((من أعتق شقيصا من مَمْلُوك فَعَلَيهِ خلاصه من مَاله)) .
الشّقص والشقيص: الشّرك والنصيب، وَالْأَصْل فِي الشقيص الطَّائِفَة فِي الشَّيْء، وَأهل الْحجاز يَقُولُونَ: هُوَ شقيصي: أَي شَرِيكي.
وَقَوله: ((فَإِن لم يكن لَهُ مَال فقوم الْمَمْلُوك ثمَّ استسعى)) الْمَعْنى:(3/487)
إِذا أعتق الْمُعسر نصِيبه سعى العَبْد فِي فكاك مَا قد بَقِي مِنْهُ رَقِيقا حَتَّى يُؤَدِّي إِلَى الَّذِي لم يعْتق قيمَة نصِيبه، فَسُمي تَكْلِيفه للإكتساب استسعاء، وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة، وَعَن أَحْمد نَحوه، وَقد أوضحنا هَذَا فِي مُسْند ابْن عمر.
1966 - / 2426 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((الْعُمْرَى مِيرَاث لأَهْلهَا)) وَقد شرحناه فِي مُسْند جَابر.
1967 - / 2428 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِن الله عز وَجل تجَاوز لأمتي عَمَّا حدثت بِهِ أَنْفسهَا مَا لم تعْمل أَو تكلم)) .
تحديث النَّفس بالشَّيْء والوسواس بِهِ حَرَكَة فِي الْبَاطِن بتخييله وتمثيله، وَالنَّظَر فِي تَحْصِيله، وَمنع ذَلِك من جولانه فِي الْبَاطِن لَا يدْخل تَحت طوق العَبْد، وَإِنَّمَا غَايَة قدرته أَن يعرض عَن مساكنة ذَلِك، وَلَو أَنه حدث نَفسه بِمَعْصِيَة لم يُؤَاخذ، فَأَما إِذا عزم على الْمعْصِيَة فَإِنَّهُ يخرج عَن تحديث النَّفس وَيصير من أَعمال الْقلب، فَإِن عقد النِّيَّة على الْفِعْل من عمل الْقلب، فَحِينَئِذٍ يَأْثَم بنية السِّرّ. وَبَيَان الْفرق بَين الهمة والعزم أَنه لَو حدث نَفسه وَهُوَ فِي الصَّلَاة بقطعها لم تَنْقَطِع، فَإِذا عزم حكمنَا بقطعها، وَكَذَلِكَ إِذا نوى الْإِفْطَار فقد أفطر. وَقد سُئِلَ سُفْيَان الثَّوْريّ: أيؤاخذ العَبْد بالهمة؟ فَقَالَ: إِذا كَانَت عزما. أخبرنَا مُحَمَّد ابْن أبي الْقَاسِم قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن(3/488)
عبد الله الْحَافِظ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْفضل قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الْخَالِق قَالَ: حَدثنَا أَبُو همام قَالَ: حَدثنَا مطرف بن مَازِن قَالَ: سَمِعت سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول: الْملكَانِ يجدان ريح الْحَسَنَات والسيئات إِذا عقد الْقلب.
1968 - / 2429 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِن عفريتا من الْجِنّ تفلت عَليّ)) .
العفريت: المارد الْخَبيث من الْجِنّ. يُقَال: عفريت نفريت وعفر: إِذا كَانَ قَوِيا خبيثا مُنْكرا.
وَقَوله: ((تفلت عَليّ)) أَي تعرض لي فلتة: أَي فَجْأَة ليغلبني على صَلَاتي.
وَقَوله: ((فَذكرت دَعْوَة أخي)) وَالْمعْنَى أَن سُلَيْمَان أعطي ملكة الْجِنّ فَلم أرد أَن أزاحمه فِيمَا أعطي.
وَقَوله: ((فرددته خاسئا)) الخاسئ. المبعد الصاغر، يُقَال: خسأته فخسأ وخسئ وانخسأ: أَي أبعدته فَبعد.
1969 - / 2430 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((أما يخْشَى أحدكُم إِذا رفع رَأسه قبل الإِمَام أَن يحول الله رَأسه رَأس حمَار، أَو يَجْعَل صورته صُورَة حمَار)) .
هَذِه اللَّفْظَة الْأَخِيرَة تَأْوِيل من قَالَ: رَأس حمَار فِي البلادة،(3/489)
وَإِنَّمَا الْمَعْنى أَنه لَو عقل أمره لعرف عَظمَة المعبود، فَأوجب التَّعَبُّد عَلَيْهِ الْخُشُوع، فَإِذا لم يعرف كَانَ كالبهيمة، فَلم يَأْمَن أَن يمسخ بَهِيمَة.
1970 - / 2431 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أَسْبغُوا الْوضُوء؛ فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((ويل لِلْعَرَاقِيبِ من النَّار)) .
إسباغ الْوضُوء: إِتْمَامه، يُقَال: ثوب سابغ، وَدرع سابغ.
والعراقيب جمع عرقوب، قَالَ الزّجاج: العرقوب: هُوَ الْعصبَة الْوَاصِلَة بَين السَّاق والعقب من وَرَاء الْقدَم، والأعقاب جمع عقب: وَهُوَ مَا أصَاب الأَرْض من مُؤخر الرجل إِلَى مَوضِع الشرَاك، وَالْمعْنَى: ويل لَهَا إِذا عوقبت بالنَّار يَوْم الْقِيَامَة.
1971 - / 2432 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: أَخذ الْحسن تَمْرَة من تمر الصَّدَقَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((كخ كخ)) .
هَذَا زجر للصَّبِيّ وردع لَهُ؛ لِأَن الصَّدَقَة لم تكن تحل لَهُ.
1972 - / 2433 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَتَيْنِ: ((صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غمي عَلَيْكُم فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ)) كَذَا فِي رِوَايَة البُخَارِيّ عَن آدم. وَفِي لفظ لمُسلم: ((فعدوا ثَلَاثِينَ)) وَفِي لفظ لَهُ: ((فصوموا ثَلَاثِينَ)) .(3/490)
الأول حجَّة لمن لم ير صَوْم يَوْم الْغَيْم، وهم يدعونَ أَنه حجَّة قَاطِعَة، وَإِذا شِئْنَا أَن نتكلم عَلَيْهِ نصرا لرِوَايَة وجوب الصَّوْم إِذا غم الْهلَال قُلْنَا: هَذَا اللَّفْظ إِنَّمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن آدم عَن شُعْبَة. وَقد رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذكره البُخَارِيّ وَقَالَ فِيهِ: ((فَإِن غم عَلَيْكُم الشَّهْر فعدوا ثَلَاثِينَ)) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَقد روينَا هَذَا الحَدِيث عَن غنْدر وَابْن مهْدي وَابْن علية وَعِيسَى بن يُونُس وشبابة وَعَاصِم بن عَليّ وَالنضْر بن شُمَيْل وَيزِيد بن هَارُون وَأَبُو دَاوُد كلهم عَن شُعْبَة وَلم يذكر أحد مِنْهُم: ((فأكملوا عدَّة شعْبَان ثَلَاثِينَ)) فَيجوز أَن يكون آدم قَالَ ذَلِك من عِنْده على وَجه التَّفْسِير للْخَبَر، وَإِلَّا فَلَيْسَ لانفراد البُخَارِيّ عَنهُ بِهَذَا من بَين من رَوَاهُ عَنهُ وَجه. وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَقَالَ فِيهِ: ((فعدوا ثَلَاثِينَ)) يَعْنِي عدوا شعْبَان ثَلَاثِينَ. وَقَالَ: أخرجه البُخَارِيّ عَن آدم فَقَالَ فِيهِ: ((فعدوا شعْبَان)) وَلم يقل: يَعْنِي. وَهَذَا يدل على أَن قَوْله يَعْنِي من بعض الروَاة، وَالظَّاهِر أَنه آدم وَأَنه قَوْله. وَقد روى هَذَا الحَدِيث ابْن عَبَّاس مثل حَدِيث أبي هُرَيْرَة. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَلم يقل فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: ((فأكملوا عدَّة شعْبَان)) غير آدم أَيْضا، وَهَذَا يدل على أَن الْكل تَفْسِير مِنْهُ.
وَمَا ذكرنَا من اللَّفْظ الْأَخير، وَهُوَ قَوْله: ((فصوموا ثَلَاثِينَ)) يدل على أَن المُرَاد بقوله: ((فعدوا)) عد رَمَضَان لَا شعْبَان، وَقد رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: ((صُومُوا(3/491)
لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته، فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ، ثمَّ أفطروا)) وَكَذَلِكَ رُوِيَ من حَدِيث رَافع بن خديج. وعَلى هَذَا لَا يبْقى لَهُم حجَّة فِي الحَدِيث.
1973 - / 2434 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لأذودن رجَالًا عَن حَوْضِي)) .
أَي لأطردن، يُقَال: ذدته أذوده ذودا: إِذا طردته، وَإِذا وَردت الْإِبِل المَاء فَدخلت فِيهَا غَرِيبَة من غَيرهَا طردت وَضربت حَتَّى تخرج.
وَقَوله: ((فيحلئون عَنهُ)) أَي يمْنَعُونَ، يُقَال: حلأت الرجل عَن المَاء: إِذا منعته أَن يرد، قَالَ الشَّاعِر:
( ... . . ... محلأ عَن سَبِيل الود مصدود)
وَمن روى ((يجلون)) بِالْجِيم أَرَادَ يطردون، يُقَال: جلا الْقَوْم عَن مَنَازِلهمْ وأجليتهم أَنا: إِذا أخرجتهم.
والقهقرى: الرُّجُوع إِلَى الْخلف.(3/492)
والهمل: الْمُهْملَة الَّتِي لَيْسَ مَعهَا رَاع وَلَا حَافظ وَلَا يكَاد يسلم مِنْهَا من السبَاع وَغَيرهَا إِلَّا الْقَلِيل. وَقيل: الهمل: مَا يهمل فَلَا يرْعَى وَلَا يسْتَعْمل، بل يتْرك مهملا فيضيع وَيهْلك.
1974 - / 2435 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((بَينا رجل يتبختر)) .
التَّبَخْتُر: مشْيَة فِيهَا تمايل.
والحلة: ثَوْبَان من جنس وَاحِد، وَقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند عمر.
والجمة من الْإِنْسَان: مجمع شعر ناصيته، وَهِي جمة إِذا بلغت الْمَنْكِبَيْنِ، فَإِذا كَانَت إِلَى شحمة الْأُذُنَيْنِ فَهِيَ وفرة.
والخسف: غموض ظَاهر الأَرْض وسؤوخها بِمَا عَلَيْهَا.
وَقَوله: ((فَهُوَ يتجلجل فِيهَا)) الجلجلة: الْحَرَكَة المزعجة، وكل شَيْء حرك وخلط بعضه بِبَعْض فقد جلجل. وَالْمعْنَى أَنه يهوى بِهِ ويزعج فِي الْخَسْف بالحركة العنيفة.
1975 - / 2437 - والْحَدِيث السبعون بعد الْمِائَتَيْنِ: قد تقدم فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِيه: ((هلك كسْرَى ثمَّ لَا يكون كسْرَى بعده، وَقَيْصَر ليهلكن ثمَّ لَا يكون قَيْصر بعده)) وَقد سبق الْكَلَام فِي اسْم كسْرَى فِي مُسْند عدي بن حَاتِم، وَفِي اسْم قَيْصر فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة،(3/493)
وفسرنا معنى الحَدِيث هُنَالك.
1976 - / 2438 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((غزا نَبِي فَقَالَ: لَا يَتبعني رجل ملك بضع امْرَأَة وَهُوَ يُرِيد أَن يَبْنِي بهَا وَلم يبن)) .
الْبضْع: الْفرج، والمباضعة: المجامعة.
وَالْبناء بِالْمَرْأَةِ: الدُّخُول بهَا، وأصل ذَلِك أَنهم كَانُوا يبنون بِنَاء لمن أَرَادَ أَن يدْخل بِزَوْجَتِهِ.
والخلفات جمع خلفة: وَهِي النَّاقة الْحَامِل، وَأَرَادَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة جمع الْهم، فَإِن الْهم إِذا تفرق ضعف فعل الْجَوَارِح، وَإِذا اجْتمع قوي، وَكَانَ من عَادَة الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة أَنهم إِذا غزوا فغنموا نزلت نَار فَأكلت الْغَنَائِم، وَكَأَنَّهُم كَانُوا يحملون بِهَذَا على خلوص النِّيَّة فِي الْغَزَوَات لِئَلَّا يَقع قِتَالهمْ لأجل الْغَنِيمَة، فأبيحت الْغَنَائِم لهَذِهِ الْأمة لطفا بهَا، وَكَأَنَّهَا لما غلب الْإِخْلَاص عَلَيْهَا لم تحتج إِلَى باعث عَلَيْهِ، فَكَانَ الْإِخْلَاص فِي الْجِهَاد أصل قَصدهَا، فَصَارَت الْغَنِيمَة تبعا.
1977 - / 2439 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((قيل لبني إِسْرَائِيل: ادخُلُوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة، فبدلوا فَدَخَلُوا يزحفون على أستاههم، وَقَالُوا: حَبَّة فِي شَعْرَة)) .(3/494)
من تَأمل هَذَا الحَدِيث علم فرق مَا بَين أمتنَا وَبني إِسْرَائِيل، فَإِن أُولَئِكَ لما أذنبوا دلوا على طَرِيق التَّوْبَة وأتوها متلاعبين بِالدّينِ، وَهَذَا يدل على أَن الذُّنُوب مَا آلمتهم، وَلَا دخل خوف الْجَزَاء عَلَيْهَا فِي قُلُوبهم، وَلَا اكترثوا بالتحذير من عواقبها، وَلَا سروا بِالدّلَالَةِ على طَرِيق النجَاة من شَرها. وَمن كَانَ تلاعبه فِي أصل دينه وَمَعَ نبيه وَفِي بَاب تَوْبَته فَهُوَ فِي غَايَة الْبعد. وَهَذِه الْأمة إِذا أذْنب مذنبهم انْكَسَرَ وَبكى وَاعْتذر، ثمَّ لَا يزَال ينصب ذَنبه بَين عَيْنَيْهِ وَيَوَد أَن لَو مُحي بِكُل مَا يقدر عَلَيْهِ، فَالْحَمْد لله الَّذِي جعلنَا من هَذِه الْأمة.
1978 - / 2440 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((كَانَ مُوسَى يغْتَسل وَحده، فَقَالُوا: مَا يمنعهُ أَن يغْتَسل مَعنا إِلَّا أَنه آدر)) .
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الآدر: عَظِيم الخصيتين، يُقَال: رجل آدر بَين الأدرة والأدرة. والشرج: أَن تعظم وَاحِدَة وتصغر الْأُخْرَى.
والمويه تَصْغِير المَاء.
وجمح: أسْرع إسراعا لَا يردهُ شَيْء.
وَالْمَلَأ: الْأَشْرَاف.
وطفق: أَخذ فِي الْفِعْل.(3/495)
وَالنَّدْب: الْأَثر، قَالَ ذُو الرمة:
( ... ... ... ملساء، لَيْسَ بِهِ خَال وَلَا ندب)
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ جَازَ لمُوسَى أَن يمشي بَين بني إِسْرَائِيل مَكْشُوف الْعَوْرَة؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مُوسَى كَانَ فِي خلْوَة كَمَا بَين فِي الحَدِيث، فَلَمَّا تبع الْحجر لم يكن عِنْده أحد، فاتفق أَنه جَازَ على قوم فرأوه، وجوانب الْأَنْهَار وَإِن خلت لَا يُؤمن وجود قريب مِنْهَا، فَبنى مُوسَى الْأَمر وَأَنه لَا يرَاهُ أحد على مَا رَآهُ من خلاء الْمَكَان، فاتفق من رَآهُ. وَالثَّانِي: أَن مُوسَى إِنَّمَا نزل إِلَى المَاء مؤتزرا، فَلَمَّا خرج يتبع الْحجر وَهُوَ مبتل بِالْمَاءِ تبين أَنه لَيْسَ بآدر، لِأَن الأدرة تبين تَحت الثَّوْب المبتل بِالْمَاءِ، سمعته من الْحسن عَن أبي بكر النَّيْسَابُورِي الْفَقِيه.
وَقَوله: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين آذوا مُوسَى} [الْأَحْزَاب: 69] أَي لَا تُؤْذُوا مُحَمَّد كَمَا آذَى بَنو إِسْرَائِيل مُوسَى. وَقد اخْتلف الْعلمَاء بِمَاذَا آذوا مُوسَى على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم قَالُوا: آدر، كَمَا ذكرنَا. وَالثَّانِي: أَنه صعد الْجَبَل وَمَعَهُ هَارُون فَمَاتَ هَارُون فَقَالُوا: أَنْت قتلته، قَالَه عَليّ بن أبي طَالب. وَالثَّالِث: أَن قَارون اسْتَأْجر بغية لتقذف مُوسَى بِنَفسِهَا على مَلأ من بني إِسْرَائِيل فعصمها الله وبرأ مُوسَى من ذَلِك، قَالَه أَبُو الْعَالِيَة. وَالرَّابِع: أَنهم رَمَوْهُ بِالسحرِ وَالْجُنُون،(3/496)
حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ.
وَقَوله: {وَكَانَ عِنْد الله وجيها} قَالَ ابْن عَبَّاس: حظيا، لَا يسْأَله شَيْئا إِلَّا أعطَاهُ.
1979 - / 2441 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ)) وَسبق بَيَان الحَدِيث فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
1980 - / 2442 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِذا أنفقت الْمَرْأَة من كسب زَوجهَا من غير أمره فَلهُ نصف أجره)) .
وَأما إنفاقها من كَسبه عَن غير أمره فَالْمُرَاد بِهِ مَا جعله بحكمها كالملك لَهَا وَلم يأمرها بالتصدق مِنْهُ، فلهَا أجر الصَّدَقَة وَله أجر الْكسْب.
وَالْمرَاد بِالصَّوْمِ النَّافِلَة، فَإِنَّهُ لَا يجوز لَهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، لِأَنَّهُ رُبمَا أرادها. وَلَا يجوز لَهَا أَن تَأذن فِي بَيته إِلَّا بِإِذْنِهِ.
1981 - / 2443 - والْحَدِيث السَّادِس وَالسَّبْعُونَ بعد الْمِائَتَيْنِ: قد تقدم فِي مُسْند أبي ذَر.
1982 - / 2444 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ:(3/497)
((خلق الله آدم وَطوله سِتُّونَ ذِرَاعا)) وَفِي بعض الرِّوَايَات: ((خلق الله آدم على صورته، ثمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَسلم على أُولَئِكَ الْمَلَائِكَة فاستمع مَا يحيونك بِهِ. فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم، فَقَالُوا: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله، فزادوه: وَرَحْمَة الله)) .
أما قَوْله: ((خلق الله آدم على صورته)) فللناس فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب: أَحدهَا: مَذْهَب جُمْهُور السّلف وَهُوَ السُّكُوت عَن تَفْسِير هَذَا وَأَمْثَاله. وَالثَّانِي: أَن الْهَاء رَاجِعَة إِلَى آدم، فَيكون الْمَعْنى: أَنه خلقه على تِلْكَ الْحَال وَلم يَنْقُلهُ من نُطْفَة إِلَى علقَة، وَهَذَا مَذْهَب أبي سُلَيْمَان الْخطابِيّ. وَالثَّالِث: أَنَّهَا ترجع إِلَى الله سُبْحَانَهُ، فَهِيَ مُضَافَة إِضَافَة ملك لَا إِضَافَة ذَات، كَمَا أضَاف الرّوح الَّتِي نفخت فِي آدم إِلَيْهِ فَقَالَ: {ونفخت فِيهِ من روحي} [ص: 72] وَهَذَا مَذْهَب ابْن عقيل. قَالَ: وَإِنَّمَا خص آدم بِإِضَافَة الصُّورَة إِلَيْهِ لخصيصة فِيهِ، وَهِي السلطنة الَّتِي تشاكل الإلهية استعبادا وسجودا واستخداما وأمرا نَافِذا وسياسات يعمر بهَا الْبِلَاد وَيصْلح بهَا من أَمر الْعباد، وَلَيْسَ فِي الْجِنّ وَالْمَلَائِكَة من يجْتَمع على طَاعَته نَوعه وقبيله سوى الْآدَمِيّ، وَهَذِه الصُّورَة هِيَ حَال، وَالصُّورَة قد تقع على الْحَال، فَهَذَا مَوضِع حمل الصُّورَة على الصُّورَة، وَهِي حمل حَال الْخلَافَة والمملكة والسلطنة على حَال الإلهية.
وَأما التَّحِيَّة هَا هُنَا فَهِيَ السَّلَام. وَقَوله: السَّلَام عَلَيْك قد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.(3/498)
فَأَما الزِّيَادَة على الْمُسلم فَهُوَ أَنه إِذا قَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم، قيل لَهُ: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله، فَإِذا قَالَ هَذَا كُله قيل لَهُ مثله وَزيد: وَبَرَكَاته، أَو يُقَال لَهُ: وَعَلَيْكُم السَّلَام، فَيكون ذَلِك رد الْكل، وَإِلَى هَذَا يَنْتَهِي السَّلَام.
1983 - / 2445 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((رأى عِيسَى بن مَرْيَم رجلا يسرق، فَقَالَ لَهُ: أسرقت؟ قَالَ: كلا، وَالَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ. فَقَالَ عِيسَى: آمَنت بِاللَّه وكذبت عَيْني)) .
فَإِن قَالَ قَائِل: أَعلَى الْيَقِين الْمُشَاهدَة، فَكيف يكذب وَيقدم قَول زاعم؟ فَالْجَوَاب: من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن النَّاظر إِلَى الشَّيْء قد لَا يتثبت فِي نظره فَلَا يحصل لَهُ الْيَقِين. وَالثَّانِي: أَن يكون هَذَا من المعاريض، وَيكون تَقْدِيره: كذبت عَيْني فِي غير هَذَا.
1984 - / 2446 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((اشْترى رجل عقارا)) .
وَالْعَقار: الضَّيْعَة وَالنَّخْل.
1985 - / 2447 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا تقوم السَّاعَة حَتَّى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما وَاحِدَة. .))
الفئة: الْجَمَاعَة.(3/499)
وَالدَّعْوَى: الإنتماء، كَمَا فسرناه دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فِي مُسْند جَابر. وَمعنى ((دعواهما وَاحِدَة)) انتماؤهما إِلَى دين وَاحِد.
وَقَوله: ((حَتَّى يبْعَث دجالون)) أصل الْبَعْث الإثارة. والدجال: الْكذَّاب. وَقبض الْعلم قد سبق فِي مُسْند أنس.
وَقَوله: ((يتقارب الزَّمَان)) قد فسرناه فِي أول هَذَا الْمسند.
واللقحة وَاحِد اللقَاح: وَهِي النَّاقة ذَات اللَّبن، وَيُقَال: الملاقيح والملاقح أَيْضا للحوامل.
ولاط فلَان حَوْضه يلوطه ويليطه: إِذا طينه بالطين وسد خروقه ليحفظ لَهُ المَاء فِي سقِِي دوابه. وأصل اللوط اللصوق، يُقَال: لَا يلتاط هَذَا بصفري: أَي لَا يلتصق بقلبي.
والأكلة: اللُّقْمَة. قَالَ لنا شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: الْأكلَة بِالضَّمِّ: اللُّقْمَة، والأكلة بِالْفَتْح: الْمرة، والإكلة بِالْكَسْرِ: الْحَالة.
1986 - / 2448 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((اشْتَدَّ غضب الله على قوم فعلوا بِنَبِيِّهِ - يُشِير إِلَى رباعيته - اشْتَدَّ غضب الله على رجل يقْتله رَسُول فِي سَبِيل الله)) .
الرّبَاعِيّة مبينَة فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. وَإِنَّمَا اشْتَدَّ غضب الله على(3/500)
رجل يقْتله رَسُول الله، لِأَن الرَّسُول يُرْجَى مِنْهُ الرَّحْمَة، فَإِذا اشْتَدَّ غَضَبه وَأخرج إِلَى الْقَتْل دلّ على أَن الْمَقْتُول فِي غَايَة الشَّقَاء. وَقد قتل عَلَيْهِ السَّلَام أبي بن خلف يَوْم أحد.
1987 - / 2449 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((تَحَاجَّتْ الْجنَّة وَالنَّار)) .
وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند أبي سعيد، وفسرنا هُنَاكَ معنى المتكبرين والضعفاء.
وَقَوْلها: أُوثِرت: أَي خصصت.
والسقط: المزدرى بِهِ.
وَقَوله: ((وغرتهم)) الْغرَّة كالغفلة، والغر: الَّذِي لم يجرب الْأُمُور.
وَالْعجز جمع عَاجز، وَكَأَنَّهُم عجزوا عَن اكْتِسَاب الدُّنْيَا شغلا باكتساب الْآخِرَة.
وَقَوله: ((يضع قدمه)) قد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند أنس، وَبينا معنى قطّ قطّ، وتكلمنا هُنَاكَ فِي قَوْله: ((وينشئ للجنة خلقا)) .
وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: ((يضع رجله)) مَكَان قَوْله ((قدمه)) وَهُوَ من رِوَايَة مُحَمَّد بن رَافع، وَكَانَ رجلا صَالحا، ظن أَن الْقدَم(3/501)
بِمَعْنى الرجل. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند أنس أَيْضا. وَبينا أَن الرجل تكون بِمَعْنى الْجَمَاعَة، كَمَا يُقَال رجل من جَراد.
1988 - / 2450 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((الْعين حق)) وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: لعن الْوَاصِلَة. قد ذكرنَا الْوَاصِلَة والواشمة فِي مُسْند ابْن عمر.
1989 - / 2451 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ)) وَقد تقدم هَذَا فِي هَذَا الْمسند.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((وَالله لِأَن يلج أحدكُم بِيَمِينِهِ فِي أَهله آثم لَهُ عِنْد الله من أَن يُعْطي كَفَّارَته الَّتِي افْترض الله عَلَيْهِ)) وَفِي لفظ: ((من استلج فِي أَهله بِيَمِينِهِ فَهُوَ أعظم، لَيْسَ تغني الْكَفَّارَة)) .
لج واستلج واستلجج فِي يَمِينه، من اللجاج: وَهُوَ أَن يسْتَمر على حكم الْيَمين وَترك التَّكْفِير وَهُوَ يعلم أَن الْحِنْث أفضل، كَأَنَّهُ حلف أَلا يصل قرَابَته وَلَا يطَأ زَوجته، فإقامته على ذَلِك شَرّ لَهُ من أَن يكفر وَإِن كَانَت الْكَفَّارَة لَيست شرا.
وَقَوله: ((لَيْسَ تغني الْكَفَّارَة)) كَأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى إثمه فِي قَصده أَلا يبر(3/502)
وَلَا يفعل الْخَيْر، فَلَو كفر لم تدفع الْكَفَّارَة سوء ذَلِك الْقَصْد.
وَبَعْضهمْ يفتح نون تغني، من قَول عُثْمَان: أغنها عَنَّا: أَي اصرفها عَنَّا واتركها، فَيكون الْمَعْنى أَن الْكَفَّارَة لَا يَنْبَغِي أَن تتْرك.
1990 - / 2452 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا يشر أحدكُم إِلَى أَخِيه بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَان ينزغ فِي يَده فَيَقَع فِي حُفْرَة من النَّار)) .
قد فسره أَبُو عبد الله الْحميدِي على أَن نيزع بالغين الْمُعْجَمَة وَقَالَ: النزغ: الْفساد، وَمِنْه: {نَزغ الشَّيْطَان بيني وَبَين إخوتي} [يُوسُف: 100] أَي أفسد، قَالَ: فَنهى عَن الْإِشَارَة بالحديد خوفًا من أَن يتَّفق الْفساد فِي ذَلِك فيأثم، وَيحْتَمل أَن يكون ينْزع بِالْعينِ، من نزعت فِي الْقوس: إِذا مددتها، فَيكون الْمَعْنى: لَعَلَّ الشَّيْطَان يمد يَده عِنْد الْإِشَارَة فيجرح الْمُسلم أَو يقْتله.
1991 - / 2453 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا يقل أحدكُم: أطْعم رَبك، وَليقل: سَيِّدي، مولَايَ. وَلَا يقل أحدكُم: عَبدِي وَأمتِي، وَليقل: فَتَاي وَفَتَاتِي وَغُلَامِي)) .
المُرَاد بهَا نفي الْمُشَاركَة فِيمَا هُوَ اسْم علم لله عز وَجل، فَإِن(3/503)
الرب من أَسمَاء الْحق - سُبْحَانَهُ - الْأَعْلَام، وَكَذَلِكَ العَبْد إِنَّمَا يُضَاف غَالِبا إِلَى الله عز وَجل.
1992 - / 2454 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَوْلَا بَنو إِسْرَائِيل لم يخنز اللَّحْم، وَلَوْلَا حَوَّاء لم تخن أُنْثَى زَوجهَا)) .
قَوْله: ((لم يخنز اللَّحْم)) لم يتَغَيَّر وينتن. قَالَ أَبُو عبيد: خنز يخنز، وخنز يخنز، وخزن يخزن، وَقَالَ طرفَة:
(ثمَّ لَا يخزن فِينَا لَحمهَا ... إِنَّمَا يخزن لحم المدخر)
وَيُقَال: صل اللَّحْم وأصل، وخم وأخم، وثنت ونثت: إِذا أروح وَتغَير.
وَأما خِيَانَة حَوَّاء زَوجهَا فَإِنَّهَا كَانَت فِي ترك النَّصِيحَة فِي أَمر الشَّجَرَة لَا فِي غير ذَلِك. وَالْمرَاد أَن بني إِسْرَائِيل لما نهوا أَن يدخروا فخالفوا فسد اللَّحْم، واطردت الْحَال فِيهِ عِنْد كل مدخر. وَلما خانت حَوَّاء زَوجهَا اطردت الْحَال فِي بناتها.
1993 - / 2455 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا ينظر الله إِلَى من جر إزَاره بطرا)) .(3/504)
البطر: الطغيان عِنْد النِّعْمَة. وَالْمعْنَى أَن الله معرض عَنهُ غير مقبل عَلَيْهِ.
1994 - / 2456 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت، إِمَّا محسنا فَلَعَلَّهُ يزْدَاد، أَو مسيئا فَلَعَلَّهُ يستعتب)) .
اعْلَم أَن تمني الْمَوْت اخْتِيَار من العَبْد لنَفسِهِ مَا يظنّ فِيهِ الْخيرَة، والخيرة غَائِبَة عَن الْآدَمِيّ لَا يعلمهَا، وَالْمُؤمن إِذا بَقِي ازْدَادَ خيرا أَو تَابَ من شَرّ.
والإستعتاب: الرُّجُوع عَن الْإِسَاءَة إِلَى الْإِحْسَان.
1995 - / 2457 - وَفِي الحَدِيث التسعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((وَلَقَاب قَوس أحدكُم فِي الْجنَّة خير مِمَّا تطلع عَلَيْهِ الشَّمْس أَو تغرب)) .
القاب: الْقدر. وَقيل: القاب من الْقوس: مَا بَين المقبض إِلَى السية، وَلكُل قَوس قابان. وسية الْقوس: طرفها.
والغدو: أول النَّهَار، والغدوة: الفعلة الْوَاحِدَة. والرواح: من زَوَال الشَّمْس إِلَى اللَّيْل. والروحة: الفعلة الْوَاحِدَة.
1996 - / 2458 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((إِذا قَاتل أحدكُم أَخَاهُ فليجتنب الْوَجْه، فَإِن الله خلق آدم على صورته)) .
قد أوسعنا الْكَلَام فِي هَذَا قبل عشرَة أَحَادِيث، وَبينا أَن كثيرا من(3/505)
السّلف كَانَ يسكت عَن الْكَلَام فِي هَذَا. وَقد قَالَ قوم: المُرَاد بِهَذَا الحَدِيث أَن الله تَعَالَى خلق آدم على صُورَة هَذَا الْمَضْرُوب، فَيَنْبَغِي أَن يحترم لأجل آدم.
1997 - / 2460 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((يضْحك الله إِلَى رجلَيْنِ)) .
قد ذكرنَا أَن أَكثر السّلف كَانُوا يمتنعون من تَفْسِير مثل هَذَا ويمرونه كَمَا جَاءَ، وَيَنْبَغِي أَن تراعى قَاعِدَة فِي هَذَا قبل الإمرار: وَهِي أَنه لَا يجوز أَن يحدث لله صفة، وَلَا تشبه صِفَاته صِفَات الْخلق، فَيكون معنى إمرار الحَدِيث الْجَهْل بتفسيره. وَقَالَ الْخطابِيّ: الضحك الَّذِي يعتري الْبشر عِنْدَمَا يستخفهم الْفَرح أَو يستفزهم الطَّرب غير جَائِز على الله سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا مثل مَضْرُوب لهَذَا الصَّنِيع الَّذِي يحل مَحل الْعجب عِنْد الْبشر، فَإِذا رَأَوْهُ أضحكهم. وَمعنى يضْحك فِي صفة الله عز وَجل الْإِخْبَار عَن الرِّضَا بِفعل أحد هذَيْن وَالْقَبُول للْآخر ومجازاتهما على صنيعهما الْجنَّة مَعَ تبَاين مقاصدهما.
1998 - / 2461 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((الْمُؤمن يَأْكُل فِي معى وَاحِد)) قد سبق الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْند أبي مُوسَى.(3/506)
1999 - / 2465 - وَمَا بعد هَذَا قد تقدم إِلَى الحَدِيث الثَّامِن وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ،، فِيهِ: ((لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ مَعَ كل صَلَاة)) .
وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب: لِأَنَّهُ أعلمهم أَنه لَو أَمر لوَجَبَ. وَلَا يحسن أَن يُقَال: يجوز أَن يَأْمُرهُم وَيكون أَمر ندب، لِأَنَّهُ لَا يصرف أمره إِلَى النّدب إِلَّا بِقَرِينَة، وَهُوَ بِهَذَا القَوْل قد ندب.
2000 - / 2466 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: ((حجبت النَّار بالشهوات صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحجبت الْجنَّة بالمكاره)) وَفِي لفظ: ((حفت)) .
حجبت بِمَعْنى سترت. وَالشَّيْء لَا يُوصل إِلَيْهِ إِلَّا بعد كشف ستره ومجاوزه مَا حف بِهِ، وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند أنس.
2001 - / 2467 - وَفِي الحَدِيث الثلاثمائة: ((لَيْسَ الْغنى عَن كَثْرَة الْعرض، وَلَكِن الْغنى غنى النَّفس)) .
الْعرض: جَمِيع الْأَمْوَال. وَالْمرَاد بِهِ أَنه من افْتَقَرت نَفسه لم يغنه شَيْء، وافتقارها يكون بالشره فَلَا يغنيها مَا يكفيها، وأنشدوا فِي هَذَا الْمَعْنى:(3/507)
(غنى النَّفس لمن يعقل ... خير من غنى المَال)
(وَفضل النَّاس فِي الْأَنْفس ... لَيْسَ الْفضل فِي الْحَال)
2002 - / 2468 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الثلاثمائة: ((لَا يصل أحدكُم فِي الثَّوْب الْوَاحِد لَيْسَ على عَاتِقه مِنْهُ شَيْء)) .
قَالَ الزّجاج: صفحة الْعُنُق من مَوضِع الرِّدَاء من الْجَانِبَيْنِ يُقَال لَهَا العاتق.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على مَذْهَبنَا، فَإِن عندنَا أَن ستر الْمَنْكِبَيْنِ وَاجِب فِي صَلَاة الْفَرْض دون النَّفْل. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا يجب فيهمَا وَإِنَّمَا يسْتَحبّ.
2003 - / 2469 - والْحَدِيث الثَّانِي بعد الثلاثمائة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2004 - / 2470 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الثلاثمائة: ((دَعونِي مَا تركتكم؛ إِنَّمَا أهلك من كَانَ قبلكُمْ سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ)) .
قد بَين فِي الحَدِيث سَبَب قَوْله هَذَا، وَهُوَ أَنه لما قَالَ: ((أَيهَا(3/508)
النَّاس، قد فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا)) . قَالَ رجل: كل عَام؟ فَسكت، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ وَلما اسْتَطَعْتُم)) ثمَّ قَالَ: ((ذروني مَا تركتكم)) فَأَرَادَ مِنْهُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقومُوا بظواهر الْأَوَامِر من غير تعمق وتكلف، فَإِن قَوْله: ((قد فرض عَلَيْكُم الْحَج)) يَكْفِي فِي امْتِثَال هَذَا حجَّة وَاحِدَة، فالسؤال: هَل هُوَ كل عَام؟ تكلّف وتعمق. وَمثل هَذَا جرى لبني إِسْرَائِيل حِين قَالَ لَهُم: (اذبحوا بقرة) فَلَو اعْترضُوا بقرة فذبحوها كَانُوا قد عمِلُوا بِمُقْتَضى الْخطاب، وَلَكنهُمْ شَدَّدُوا فَشدد عَلَيْهِم.
وَقَوله: ((إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم)) قد دلّ على وجوب الْمَقْدُور عَلَيْهِ من جَمِيع المأمورات، فَإِن من لم يُمكنهُ الصَّلَاة قَاعِدا صلى على جنب، وَكَذَلِكَ إِذا وجد من المَاء بعض مَا يَكْفِي فِي الطَّهَارَة فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلهُ ثمَّ يتَيَمَّم لما بَقِي، إِن كَانَت جَنَابَة فَلَا خلاف فِي الْمَذْهَب، وَإِن كَانَ وضُوءًا فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَان، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ، الْمَنْصُور عندنَا وَعِنْدهم اسْتِعْمَاله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يلْزم اسْتِعْمَاله فِي الطهارتين.
2005 - / 2471 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الثلاثمائة: ((لَا يَأْتِي ابْن آدم النّذر بِشَيْء لم أكن قدرته)) . وَقد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند ابْن عمر.
2006 - / 2472 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الثلاثمائة: أَن رجلا(3/509)
خرج بِصَدقَة فَوَقَعت فِي يَد سَارِق، ثمَّ خرج بِصَدقَة فَوَقَعت فِي يَد زَانِيَة ... .
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن الثَّوَاب يكون بنية الْمُتَصَدّق وَإِن لم يُصَادف أَهلا.
2007 - / 2473 - والْحَدِيث السَّادِس بعد الثلاثمائة: قد سبق فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
2008 - / 2474 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الثلاثمائة: ((كَانَت امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابناهما، فجَاء الذِّئْب فَذهب بِابْن إِحْدَاهمَا، فَقَالَت لصاحبتها: إِنَّمَا ذهب بابنك، فتحاكمتا إِلَى دَاوُد، فَقضى بِهِ للكبرى، فَقَالَ سُلَيْمَان: ائْتُونِي بالسكين أشقه بَينهمَا، فَقَالَت الصُّغْرَى: لَا تفعل، هُوَ ابْنهَا، فَقضى بِهِ للصغرى)) .
أما دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَرَأى استواءهما فِي الْيَد فَقدم الْكُبْرَى لأجل السن، وَأما سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَرَأى الْأَمر مُحْتملا، فاستنبط فَأحْسن، فَكَانَ أحد فطنة من دَاوُد، وَكِلَاهُمَا حكم بالإجتهاد، لِأَنَّهُ لَو كَانَ دَاوُد حكم بِالنَّصِّ لم يسع سُلَيْمَان أَن يحكم بِخِلَافِهِ، وَلَو كَانَ مَا حكم بِهِ نصا لم يخف على دَاوُد.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن الفطنة والفهم موهبة لَا بِمِقْدَار السن،(3/510)
قَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب: وَفِيه دَلِيل على أَن الْحق فِي جِهَة وَاحِدَة، لِأَن سُلَيْمَان لَو وجد مساغا أَلا ينْقض على دَاوُد حكمه لفعل.
2009 - / 2475 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الثلاثمائة: ((يَد الله ملأى، لَا يغيضها نَفَقَة، سحاء اللَّيْل وَالنَّهَار)) .
يغيض: ينقص.
والسحاء: الدائمة الصب. يُقَال: سَحَابَة سحوح: أَي كَثِيرَة الصب. وَفرس مسح: أَي سريعة شَدِيدَة الْعَدو، تشبه بانصباب الْمَطَر.
وَقَوله: ((بِيَدِهِ الْمِيزَان)) قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: ذكر الْمِيزَان مثل، وَإِنَّمَا هُوَ قسمه بِالْعَدْلِ بَين الْخلق، يخْفض من يَشَاء وَيرْفَع من يَشَاء، ويوسع على من يَشَاء، كَمَا يصنع الْوزان عِنْد الْوَزْن.
قَوْله: ((وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْفَيْض وَالْقَبْض)) الْفَيْض من فاض الشَّيْء، فيشار بِهَذَا إِلَى سَعَة الْعَطاء. وَالْقَبْض ضد الْبسط، فيشار بِهَذَا إِلَى الْمَنْع، وَهُوَ أليق لمقابلته الْإِعْطَاء.
2010 - / 2478 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الثلاثمائة: ((إِن لله مَلَائِكَة سيارة فضلا)) . أَي يزِيدُونَ على كتاب النَّاس ويفضلون عَنْهُم.
2011 - / 2479 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر بعد الثلاثمائة: ((الْوَلَد(3/511)
للْفراش، وللعاهر الْحجر)) .
الْمَعْنى: الْوَلَد لصَاحب الْفراش وَهُوَ الزَّوْج؛ لِأَن الزَّانِي لَا فرَاش لَهُ. وَقَالَ قوم: الْفراش: الزَّوْج، وَاحْتَجُّوا بقول جرير:
(باتت تعارضه وَبَات فراشها ... ... . .)
قَالَ ابْن فَارس: وعَلى هَذَا يجوز أَن يكون الزَّوْج قد استعير لَهُ اسْم الْمَرْأَة كَمَا اشْتَركَا فِي اللبَاس وَالزَّوْج.
والعهر: الزِّنَا. وَمعنى قَوْله: ((للعاهر الْحجر)) أَي: لَا حَظّ لَهُ فِي نسب الْوَلَد، كَمَا تَقول: لَهُ التُّرَاب، أَي لَا شَيْء لَهُ.
2012 - / 2480 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر بعد الثلاثمائة: قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تشاجروا فِي الطَّرِيق بسبعة أَذْرع.
تشاجروا واشتجروا بِمَعْنى تنازعوا وَاخْتلفُوا. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَوجه هَذَا الحَدِيث أَن يكون هَذَا فِي الطَّرِيق الشارعة الَّتِي هِيَ معبر النَّاس، وَقد يكون ذَلِك فِي الطَّرِيق الْوَاسِع من شوارع الْمُسلمين يقْعد فِي حافتيه قوم من الباعة يرتفقون بهَا، فَإِن كَانَ الشَّارِع الْمَتْرُوك فِيهِ للمارة سَبْعَة أَذْرع لم يمنعوا من الْقعُود فِيهِ والإرتفاق بِهِ، وَإِن كَانَ ذَلِك(3/512)
أقل منعُوا لِئَلَّا تضيق الطَّرِيق على أَهلهَا.
2013 - / 2481 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر بعد الثلاثمائة: ((يعْقد الشَّيْطَان على قافية رَأس أحدكُم إِذا هُوَ نَام ثَلَاث عقد، يضْرب على كل عقدَة مَكَانهَا: عَلَيْك ليل طَوِيل فارقد)) .
قافية الرَّأْس: مؤخره، وَقفا كل شَيْء وقافيته: آخِره، وَمِنْه سمي آخر بَيت الشّعْر قافية. قَالَ أَبُو عبيد: فَكَأَن معنى الحَدِيث: على قفا أحدكُم ثَلَاث عقد للشَّيْطَان.
وَقَوله: ((عَلَيْك ليل طَوِيل)) أَي يَقُول لَهُ ذَلِك. وَمَتى مَا انتبه الْإِنْسَان وَقد أَخذ حظا من نَومه يَكْفِيهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يتعلل عَن الْقيام، فَإِنَّهُ رُبمَا أَخذه النّوم إِلَى الْفجْر، وَقد كَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول: إِذا انْتَبَهت لم أقل نَفسِي. وَكَانَ آخر من الْعباد يَقُول: إِذا انْتَبَهت ثمَّ عدت أَنَام فَلَا أَنَام الله عَيْني.
2014 - / 2482 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر بعد الثلاثمائة: ((إِذا نظر أحدكُم إِلَى من فضل عَلَيْهِ فِي المَال والخلق فَلْينْظر إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْهُ)) .
هَذَا من أحسن الْأَدَب، وَبِه يطيب الْعَيْش، فَإِن النَّفس تحب أَلا يفوقها أحد فِي شَيْء، فَإِذا نظرت إِلَى من قد فاقها انْكَسَرت، وَرُبمَا(3/513)
تسخطت مَا هِيَ فِيهِ، فَإِذا نظرت إِلَى من دونهَا عرفت قدر النِّعْمَة فَشَكَرت.
وأجدر بِمَعْنى أَحَق.
والازدراء: الاحتقار.
وَمَا أحسن مَا قَالَ بعض الْعَرَب:
(إِذا شِئْت أَن تحيا غَنِيا فَلَا تكن ... على حَالَة إِلَّا رضيت بِدُونِهَا)
2015 - / 2484 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الثلاثمائة: ((إيَّاكُمْ وَالظَّن؛ فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث)) .
المُرَاد بِهَذَا الظَّن القَوْل بِمُقْتَضى الظَّن، فَإِنَّهُ حكم على مَا لم يتَيَقَّن فَلذَلِك كَانَ أكذب الحَدِيث، فَأَما خواطر الْقلب فَإِنَّهَا لَا تملك فَلَا ينْهَى عَنْهَا. قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: الظَّن ظنان: فَظن هُوَ إِثْم: وَهُوَ أَن يظنّ وَيتَكَلَّم بِهِ، وَظن لَيْسَ بإثم: وَهُوَ أَن يظنّ وَلَا يتَكَلَّم بِهِ.
وَمَا بعد هَذَا من الحَدِيث قد سبق إِلَى قَوْله: ((وَلَا تجسسوا)) والتجسس: التبحث وَالِاسْتِقْصَاء والفحص عَن بواطن الْأُمُور، وَأكْثر مَا يُقَال ذَلِك فِي الشَّرّ، والجاسوس: صَاحب سر الشَّرّ، والناموس: صَاحب سر الْخَيْر.
وَأما قَوْله: ((وَلَا تحسسوا)) بِالْحَاء فَقَالَ قوم - مِنْهُم أَبُو عُبَيْدَة: الْجِيم والحاء بِمَعْنى، فعلى هَذَا إِنَّمَا ذكره تَأْكِيدًا، فَخَالف بَين اللفظتين، كَقَوْل الشَّاعِر:(3/514)
( ... . . ... وألفى قَوْلهَا كذبا ومينا)
قَالَ قوم - مِنْهُم يحيى بن أبي كثير: التَّجَسُّس بِالْجِيم: الْبَحْث عَن عورات النَّاس، وَبِالْحَاءِ: الِاسْتِمَاع لحَدِيث الْقَوْم. وَكَانَ أَبُو بكر ابْن مقسم يذهب بِالْجِيم إِلَى الإجتهاد فِي الطّلب، وَيَقَع على جَمِيع الْجَوَارِح، وَيذْهب بِالْحَاء إِلَى التسمع وَمد الْعين، من قَوْلك: أحسست الشَّيْء: إِذا سَمِعت حسه.
والمنافسة: الْحِرْص على الشَّيْء بِطَلَب طَالبه الإنفراد بِهِ، وَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي طلب الدُّنْيَا أوجب التباغض، وَأما احتقار الْمُسلمين فَإِنَّمَا ينشأ من الْكبر.
2016 - / 2485 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الثلاثمائة: ((لَا يُؤمن أحدكُم الَّذِي لَا يَأْمَن جَاره بوائقه)) وَفِي لفظ: ((لَا يدْخل الْجنَّة. .)) .
قَالَ أَبُو عبيد: البوائق: الغوائل وَالشَّر، يُقَال: أَصَابَتْهُم بائقة: أَي داهية، وباقتهم تبوقهم بوقا، وَكَذَلِكَ فقرتهم الفاقرة، وصلتهم الصالة، والصالة: الداهية.
فَإِن قيل: فَهَل يخرج بِهَذَا من الْإِيمَان؟ فَالْجَوَاب: يخرج من كَمَال الْإِيمَان وَيُمكن أَن يُقَال إِن هَذِه الصّفة لَيست من صِفَات الْمُؤمن.(3/515)
فَإِن قيل: فَهَل يمْنَع هَذَا دُخُول الْجنَّة؟ فقد سبق مثل هَذَا مشروحا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2017 - / 2486 - والْحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الثلاثمائة: قد سبق فِي مُسْند أبي مُوسَى.
2018 - / 2487 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين بعد الثلاثمائة: ((نعم المنيحة اللقحة منيحة، وَالشَّاة الصفي تَغْدُو بِإِزَاءِ وَتَروح بِإِنَاء)) .
المنيحة: الْعَطِيَّة، وَهِي هَا هُنَا عَارِية يمنح قوم لَبنهَا ثمَّ يردونها.
واللقحة بِكَسْر اللَّام: الشَّاة الَّتِي لَهَا لبن. وَبِفَتْحِهَا: الْمرة الْوَاحِدَة من الْحَلب. وَقيل: فِيهِ لُغَتَانِ: كسر اللَّام وَفتحهَا.
وَالشَّاة الصفي والناقة الصفي: الْكَثِيرَة اللَّبن. وصفايا الْإِبِل: الغزار مِنْهَا.
والصبوح: الشّرْب فِي وَقت الْغَدَاة. والغبوق: شرب الْعشي.
وَفِي هَذَا الحَدِيث كَلِمَات أخر كلهَا قد سبق شرحها.
2019 - / 2488 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين بعد الثلاثمائة: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر على الصَّدَقَة، فَقيل: منع ابْن جميل وخَالِد ابْن الْوَلِيد وعباس بن عبد الْمطلب، فَقَالَ: ((مَا ينقم ابْن جميل إِلَّا أَن(3/516)
كَانَ فَقِيرا فأغناه الله وَرَسُوله، وَأما خَالِد فَإِنَّكُم تظْلمُونَ خَالِدا، قد احْتبسَ أدراعه وأعبده)) - وَفِي لفظ: ((وأعتاده - فِي سَبِيل الله. وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَهِيَ عَلَيْهِ صَدَقَة وَمثلهَا مَعهَا)) - وَفِي رِوَايَة: ((فَهِيَ عَليّ وَمثلهَا مَعهَا)) .
قَوْله: ((مَا ينقم)) أَي مَا يكره، يُقَال: نقم ينقم، ونقم ينقم، وَالْمعْنَى: أَنه لَا ينقم شَيْئا، قَالَ الله عز وَجل: {وَمَا نقموا مِنْهُم إِلَّا أَن يُؤمنُوا بِاللَّه} [البروج: 8] وأنشدوا:
(مَا نقم النَّاس من أُميَّة إِلَّا ... أَنهم يحلمون إِن غضبوا)
(وَأَنَّهُمْ سادة الْمُلُوك وَلَا ... يصلح إِلَّا عَلَيْهِم الْعَرَب)
وَالْمعْنَى: مَا ينقمون مِنْهُم شَيْئا، وَهَذَا من جنس قَول الشَّاعِر:
(وَلَا عيب فيهم غير أَن سيوفهم ... بِهن فلول من قراع الْكَتَائِب)
أَي لَا عيب فيهم أصلا.
وَقَوله: ((تظْلمُونَ خَالِدا)) فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه اعتذر لخَالِد، فَكَأَنَّهُ يَقُول: من تبرع بِمَا لَا يجب من الْوَقْف كَيفَ يبخل بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَن يكون خَالِد طُولِبَ بِالزَّكَاةِ عَن أَثمَان الدروع والأعبد لكَونهَا من مَال التِّجَارَة فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا زَكَاة عَلَيْهِ، لِأَن المزكى قد خرج عَن يَده. وَالثَّالِث: أَن يكون خَالِد قد(3/517)
تصدق بِتِلْكَ الدروع والأعبد على الْمُجَاهدين على وَجه الْقيمَة فِي الزَّكَاة فحسبها لَهُ. وَالرَّابِع: أَن لفظ هَذَا الحَدِيث الأول: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَدقَة، وَظَاهر هَذَا يدل على أَنَّهَا تطوع فَلذَلِك عذره.
وَأما الأعتاد فَقَالَ الْخطابِيّ: أعتاد: كل مَا أعده الرجل من سلَاح ومركوب وَآلَة الْجِهَاد. وَيُقَال: أعتدت الشَّيْء للرجل: إِذا هيأته لَهُ.
وَأما قَوْله فِي صَدَقَة الْعَبَّاس: ((فَهِيَ عَلَيْهِ وَمثلهَا مَعهَا)) فَقَالَ أَبُو عبيد: نرى أَنه كَانَ أخر الصَّدَقَة عَاميْنِ وَلَيْسَ وَجه ذَلِك إِلَّا حَاجَة الْعَبَّاس إِلَيْهَا. قَالَ: وَيجوز للْإِمَام أَن يؤخرها إِذا كَانَ على وَجه النّظر ثمَّ يَأْخُذهَا بعد. قَالَ لنا ابْن نَاصِر: وَيجوز أَن يكون قد قَالَ: هِيَ عَلَيْهِ بتَشْديد الْيَاء وَلم يبين ذَلِك الرَّاوِي. وَأما من روى ((فَهِيَ عَلَيْهِ)) فقد روى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث مُوسَى بن طَلْحَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِنَّا كُنَّا احتجنا فتعجلنا من الْعَبَّاس صَدَقَة مَاله سنتَيْن)) وَبِهَذَا الحَدِيث قُلْنَا نَحن وَأَبُو حنيفَة: يجوز تَعْجِيل زَكَاة سنتَيْن. وَيحْتَمل(3/518)
أَن يكون الْمَعْنى: هِيَ عَليّ: أَي أَنا أؤديها عَنهُ لما لَهُ عَليّ من الْحق، وَلِهَذَا قَالَ: ((عَم الرجل صنو أَبِيه)) والصنو: الْمثل. قَالَ الْخطابِيّ: وَفِي حَدِيث مُوسَى بن عقبَة: ((فَهِيَ لَهُ وَمثلهَا مَعهَا)) أَي فَهِيَ عَلَيْهِ، وَله بِمَعْنى عَلَيْهِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَهُم اللَّعْنَة} [الرَّعْد: 25]
2020 - / 2490 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الثلاثمائة: ((الْغَرْقَد من شجر الْيَهُود)) .
الْغَرْقَد: شجر لَهُ شوك. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
2021 - / 2491 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين بعد الثلاثمائة: ((إِن فرس الْمُجَاهِد ليستن فِي طوله)) .
أَي ليعدو فِي حبله الَّذِي قد شدّ بِهِ. وَقد سبق هَذَا فِي هَذَا الْمسند. وَالَّذِي بعده أَيْضا.
2022 - / 2494 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى فِيمَن زنا وَلم يحصن بِنَفْي عَام وبإقامة(3/519)
الْحَد عَلَيْهِ.
إِذا زنى الْمُكَلف وَجب عَلَيْهِ الْحَد، فَإِن كَانَ مُحصنا فحده الرَّجْم حَتَّى يَمُوت، وَهل يجلد قبل الرَّجْم أم لَا؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد.
والمحصن من كَانَ بَالغا قد جَامع فِي نِكَاح صَحِيح من هُوَ على مثل حَاله، فَإِن اخْتَلَّ شَرط من ذَلِك فِي أَحدهمَا فَلَا إِحْصَان لَهما. فَإِن زنا مُحصن بِغَيْر مُحصن رجم الْمُحصن وَجلد الآخر وَغرب. وَإِن كَانَ الزَّانِي غير مُحصن وَهُوَ حر فحده مائَة جلدَة وتغريب عَام، وَهُوَ المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث بِنَفْي عَام. وَهَذَا النَّفْي عندنَا وَاجِب، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجب، والْحَدِيث نَص.
وَقَوله: بِإِقَامَة الْحَد: أَي مَعَ إِقَامَة الْحَد: وَهُوَ الْجلد.
2023 - / 2496 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: ((خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى، وابدأ بِمن تعول)) .
وَاعْلَم أَن الصَّدَقَة نَافِلَة، وإغناء النَّفس والأهل وَاجِب، فَإِذا أغنوا حسنت الصَّدَقَة بعد ذَلِك، فَهَذَا معنى قَوْله: ((وابدأ بِمن تعول)) .
فَإِن قيل: فَكيف الْجمع بَين هَذَا وَبَين قَوْله: ((أفضل الصَّدَقَة جهد مقل)) ؟ .
فَالْجَوَاب: من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون جهد الْمقل بعد إغناء من يلْزم إغناؤه، فَكَأَنَّهُ يستسل من فواضل الْغنى شَيْئا فَيتَصَدَّق بِهِ.(3/520)
وَالثَّانِي: أَن الْمقل إِذا آثر وصبر فَهُوَ غَنِي بِالصبرِ.
وَقَوله: ((وَالْيَد الْعليا)) قد سبق تَفْسِيرهَا فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: ((وَمن يستعفف يعفه الله)) قد فسرناه فِي مُسْند أبي سعيد.
2024 - / 2497 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي شَاب، وَإِنِّي أَخَاف على نَفسِي الْعَنَت، وَلَا أجد مَا أَتزوّج بِهِ، كَأَنَّهُ يسْتَأْذن فِي الإختصاء، قَالَ: فَسكت عني، ثمَّ قلت مثل ذَلِك مرَارًا، فَقَالَ: ((جف الْقَلَم بِمَا أَنْت لَاق، فاختص على ذَلِك أَو ذَر)) .
الْعَنَت: الزِّنَا، وأصل الْعَنَت الْحمل على مشقة لَا تطاق، وَإِنَّمَا ذكر الْقدر ليمنعه من ذَلِك الْفِعْل. وَالْمعْنَى: مَا تقدر أَن تخرج على الْمَقْدُور.
وَقَوله: ((فاختص)) لَيْسَ بِأَمْر، وَإِنَّمَا الْمَعْنى: إِن فعلت أَو لم تفعل فلابد من نُفُوذ الْقدر. وَقد رَأينَا بعض جهال الْأَحْدَاث تزهد فِي صباه، فَلَمَّا اشتدت عَلَيْهِ الْعُزُوبَة جب نَفسه. وَكُنَّا قد سمعنَا عَن بعض القدماء أَنه جب نَفسه حَيَاء من الله عز وَجل. فَانْظُر إِلَى مَا يصنع الْجَهْل بأَهْله، فَأول مَا يُقَال لهَذَا: لَيْسَ لَك أَن تتصرف إِلَّا بِإِذن الله عز وَجل، وَهَذَا أَمر لَا يُقَال: مَا أذن فِيهِ، بل قد حرمه. ثمَّ يَنْبَغِي أَن يعلم أَن الله تَعَالَى وضع هَذَا الْأَمر لحكمة هِيَ إِيجَاد النَّسْل، فَمن(3/521)
تسبب فِي قطع النَّسْل فقد ضاد الْحِكْمَة. ثمَّ من النِّعْمَة على الرجل خلقه رجلا وَلم يَجْعَل امْرَأَة، فَإِذا جب نَفسه اخْتَار النَّقْص على التَّمام، ثمَّ إِنَّه يفعل مَا نهي عَنهُ، فَلَو مَاتَ فِي ذَلِك اسْتحق النَّار، ثمَّ يكابد شدَّة لَا تُوصَف، ثمَّ يمْنَع نَفسه لَذَّة عاجلة وَوُجُود ولد يذكر بِهِ أَو يُثَاب عَلَيْهِ، ثمَّ قد كَانَ نسبه مُتَّصِلا من آدم إِلَيْهِ فتسبب لقطع ذَلِك الْمُتَّصِل، ثمَّ قد شوه نَفسه، ثمَّ هُوَ أبعد مِمَّا رجاه؛ فَإِن قطع الْآلَة لَا تزيل مَا فِي الْقلب من الشَّهْوَة، فالشهوة فِي الْقلب على حَالهَا والفكر فِي ذَلِك لَا يَنْقَطِع، وَالْعجب من ذَلِك المتزهد الأحمق الَّذِي استحيا من الله عز وَجل مِمَّا وَضعه الله تَعَالَى، فَلَو شَاءَ الله تَعَالَى لم يضع هَذَا فِي النَّفس، فنعوذ بِاللَّه من الْجَهْل، فَإِنَّهُ ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض.
2025 - / 2498 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: ((إِنِّي لأستغفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ فِي الْيَوْم أَكثر من سبعين مرّة)) .
اعْلَم أَن هفوات الطباع لَا يسلم مِنْهَا أحد، فالأنبياء وَإِن عصموا من الْكَبَائِر لم يعصموا من الصَّغَائِر، ثمَّ يَتَجَدَّد للطبع غفلات يفْتَقر إِلَى الاسْتِغْفَار.
2026 - / 2500 - والْحَدِيث الثَّامِن: قد سبق فِي مُسْند أبي أَيُّوب.
2027 - / 2501 - وَالتَّاسِع فِي مُسْند ابْن عمر.(3/522)
2028 - / 2502 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: أُتِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشارب فَقَالَ: ((اضْرِبُوهُ)) فمنا الضَّارِب بِيَدِهِ، والضارب بنعله، والضارب بِثَوْبِهِ.
كَانَت إِقَامَة الْحَد فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَارَة بِالْأَيْدِي، وَتارَة بِالْجَرِيدِ، وَتارَة بالثياب، وَكَانَ الْمَقْصُود الإيلام بِالضَّرْبِ. وَقد ذكرنَا فِي مُسْند عَليّ الْكَلَام على الْحَد.
قَوْله: فَقَالَ بعض الْقَوْم: أخزاك الله. قَالَ ابْن فَارس: الْمَعْنى: أبعده ومقته.
وَقَوله: ((وَلَا تعينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَان)) وَذَاكَ لِأَن مُرَاد الشَّيْطَان إذلال الْمُسلم، وَالْحَد يَكْفِي طهره، فَلَا يجوز أَن يُضَاف إِلَيْهِ مَا لم يشرع فَيكون ذَلِك تعاطيا على الشَّرْع، ثمَّ من أَيْن يَأْمَن الْمُعير أَن يلقى مَا لَقِي.
2029 - / 2504 - وَقد سبق الحَدِيث الثَّانِي عشر فِي مُسْند ابْن عمر.
2030 - / 2505 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((الشَّمْس وَالْقَمَر يكوران يَوْم الْقِيَامَة)) .(3/523)
اخْتلف الْعلمَاء فِي معنى هَذَا التكوير، فروى عَطِيَّة عَن ابْن عَبَّاس: أَنه الذّهاب والتعطيل. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ الاضمحلال. وَقَالَ قَتَادَة: يذهب ضوءهما. وَقَالَ غَيره: تجمع الشَّمْس وَالْقَمَر ويرمى بهما فِي الْبَحْر، وَقيل: فِي النَّار.
2031 - / 2506 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ذكر الَّذِي اسْتقْرض ألف دِينَار ثمَّ اتخذ خَشَبَة فنقرها وَوضع فِيهِ ألف دِينَار، ثمَّ زجج موضعهَا.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: معنى قَوْله زجج: سوى مَوضِع النقر وَأَصْلحهُ، وَأَحْسبهُ مأخوذا من تزجيج الحواجب: وَهُوَ حذف زَوَائِد الشّعْر، فَشبه مَا يكون من تَسْوِيَة النقر بذلك، وَإِن كَانَ النقر قد وَقع فِي طرف الْخَشَبَة فَشد عَلَيْهَا زجا لم يُنكر ذَلِك.
2032 - / 2507 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: ((أريقوا على بَوْل الْأَعرَابِي سجلا من مَاء)) .
السّجل: الدَّلْو الْكَبِير. وَقد ذكرنَا حكم الحَدِيث فِي مُسْند أنس.
2033 - / 2508 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((إِن الله تَعَالَى قَالَ:(3/524)
من عادى لي وليا فقد آذنته بِالْحَرْبِ)) .
فِي هَذَا الحَدِيث إشكالات سَبْعَة: أَحدهَا: أَن يُقَال: كَيفَ يعادي الْإِنْسَان الْأَوْلِيَاء والأولياء قد تركُوا الدُّنْيَا وانفردوا عَن الْخلق، فَإِن جهل عَلَيْهِم جَاهِل حلموا، والعداوة إِنَّمَا تكون عَن خُصُومَة؟ والإشكال الثَّانِي: قَوْله: ((فقد آذنته بِالْحَرْبِ)) وَكَيف يتَصَوَّر الْحَرْب بَين الْخَالِق والمخلوق؟ والمحارب مناظر وَهَذَا الْمَخْلُوق فِي أسر قَبْضَة الْخَالِق. والإشكال الثَّالِث: ((وَمَا تقرب إِلَيّ عَبدِي بِشَيْء أحب إِلَيّ مِمَّا افترضت عَلَيْهِ)) وَالْعَادَة قد جرت بِأَن التَّقَرُّب يكون بِمَا لَا يجب كالهدايا إِلَى الْمُلُوك دون أَدَاء الْخراج، فَإِن مؤدي اللَّازِم لَا يكَاد يحمد، وَإِنَّمَا يشْكر من فعل مَا لَا يجب. وَالرَّابِع: أَن يُقَال: فَإِذا كَانَت الْفَرَائِض أفضل القربات، فَكيف أثمرت النَّوَافِل الْمحبَّة وَلم تثمرها الْفَرَائِض؟ وَالْخَامِس: قَوْله: ((كنت سَمعه وبصره وَيَده)) فَمَا صُورَة هَذَا؟ وَالسَّادِس: قَوْله: ((وَلَئِن سَأَلَني لأعطينه)) وَكم قد رَأينَا من عَابِد وَصَالح يَدْعُو ويبالغ وَلَا يرى إِجَابَة. وَالسَّابِع: قَوْله: ((وَمَا ترددت عَن شَيْء)) والتردد إِنَّمَا يَقع إِذا أشكلت الْمصلحَة فِي العواقب، وَذَلِكَ ينشأ عَن ضعف التَّدْبِير، وَالْحق عز وَجل منزه عَن ذَلِك.
وَالْجَوَاب: أما الْإِشْكَال الأول: فَإِن معاداة الْأَوْلِيَاء يَقع من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: أَن يعاديهم الْإِنْسَان عصبية لغَيرهم، كَمَا يعادي الرافضي أَبَا بكر وَعمر. وَالثَّانِي: مُخَالفَة لمذهبهم كَمَا يعادي أهل الْبدع أَحْمد ابْن حَنْبَل. وَالثَّالِث: احتقارا لَهُم، فَيكون الْفِعْل بهم فعل الْأَعْدَاء،(3/525)
كَمَا كَانَ بعض الْجُهَّال يحصب أويسا الْقَرنِي. وَالرَّابِع: أَنه قد يكون بَين الْوَلِيّ وَبَين النَّاس معاملات وخصومات وَلَيْسَ كل الْأَوْلِيَاء ينفردون فِي الزوايا، فَرب ولي فِي السُّوق.
وَأما الْإِشْكَال الثَّانِي: فَإِن الْإِنْسَان إِنَّمَا خُوطِبَ بِمَا يعقل، وَنِهَايَة الْعَدَاوَة الْحَرْب، ومحاربة الله عز وَجل للْإنْسَان أَن يهلكه، وَتَقْدِير الْكَلَام: فقد تعرض لإهلاكي إِيَّاه.
وَأما الْإِشْكَال الثَّالِث: فَإِن فِي أَدَاء الْوَاجِبَات احتراما لِلْأَمْرِ وتعظيما لِلْأَمْرِ، وَبِذَلِك الإنقياد تظهر عَظمَة الربوبية، وَيبين ذل الْعُبُودِيَّة.
وَأما الرَّابِع: فَإِنَّهُ لما أدّى الْمُؤمن جَمِيع الْوَاجِبَات ثمَّ زَاد بالتنفل وَقعت الْمحبَّة لقصد التَّقَرُّب، لِأَن مؤدي الْفَرْض رُبمَا فعله خوفًا من الْعقَاب، والمتقرب بالنفل لَا يَفْعَله إِلَّا إيثارا للْخدمَة والقرب، فيثمر لَهُ ذَلِك مَقْصُوده.
وَأما الْخَامِس: فَإِن قَوْله: ((كنت سَمعه وبصره)) مثل، وَله أَرْبَعَة أوجه: أَحدهمَا: كنت كسمعه وبصره فِي إيثاره أَمْرِي، فَهُوَ يحب طَاعَتي ويؤثر خدمتي كَمَا يحب هَذِه الْجَوَارِح. وَالثَّانِي: أَن كليته مَشْغُولَة، فَلَا يصغي بسمعه إِلَّا إِلَى مَا يرضيني، وَلَا يبصر إِلَّا عَن أَمْرِي. وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى أَنِّي أحصل لَهُ مقاصده كَمَا يَنَالهُ بسمعه وبصره. وَالرَّابِع: كنت لَهُ فِي العون والنصرة كبصره وَيَده اللَّذين يعاونانه على عدوه.(3/526)
وَأما السَّادِس: فَإِنَّهُ مَا سُئِلَ ولي قطّ إِلَّا وَأجِيب، وَإِلَّا أَنه قد تُؤخر الْإِجَابَة لمصْلحَة، وَقد يسْأَل مَا يظنّ فِيهِ مصلحَة وَلَا يكون فِيهِ مصلحَة فيعوض سواهُ.
وَأما السَّابِع فَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون التَّرَدُّد للْمَلَائكَة الَّذين يقبضون الْأَرْوَاح، فأضافه الْحق عز وَجل إِلَى نَفسه لِأَن ترددهم عَن أمره، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نَتَنَزَّل إِلَّا بِأَمْر رَبك} [مَرْيَم: 64] وَتردد الْمَلَائِكَة إِنَّمَا يكون لإِظْهَار كَرَامَة الْآدَمِيّ كَمَا تردد ملك الْمَوْت إِلَى آدم وَإِبْرَاهِيم ومُوسَى وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَما أَن يكون التَّرَدُّد لله فمحال فِي حَقه، وَهَذَا مَذْهَب الْخطابِيّ. فَإِن اعْترض على هَذَا فَقيل: مَتى أَمر الْملك بِقَبض الرّوح لم يجز لَهُ التَّرَدُّد فَكيف يتَرَدَّد؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون إِنَّمَا تردد فِيمَا لم يجْزم لَهُ فِيهِ على وَقت، كَمَا رُوِيَ: ((أَنه لما بعث ملك الْمَوْت إِلَى الْخَلِيل قيل لَهُ: تلطف بعبدي)) . وَالثَّانِي: أَن يكون تردد رقة ولطف بِالْمُؤمنِ، لَا أَنه يُؤَخر الْقَبْض، فَإِنَّهُ إِذا نظر إِلَى قدر الْمُؤمن من احترمه فَلم تنبسط يَده لقبض روحه، وَإِذا ذكر أَمر الْإِلَه لم يكن لَهُ يَد فِي امتثاله.
وَالثَّانِي: أَنه خطاب لنا بِمَا نعقل، وَقد تنزه الرب عز وَجل عَن حَقِيقَته كَمَا قَالَ: ((من أَتَانِي يمشي أَتَيْته هرولة)) فَكَمَا أَن أَحَدنَا يتَرَدَّد فِي ضرب وَلَده فيأمره التَّأْدِيب بضربه وتمنعه الْمحبَّة، فَإِذا أخبر بالتردد فهمنا قُوَّة محبته لَهُ بِخِلَاف عَبده فَإِنَّهُ لَا يتَرَدَّد فِي ضربه، فَأُرِيد تفهيمنا تَحْقِيق الْمحبَّة للْوَلِيّ بِذكر التَّرَدُّد. وَمن الْجَائِز أَن يكون تركيب الْوَلِيّ يحْتَمل خمسين سنة، فيدعو عِنْد الْمَرَض فيعافى ويقوى تركيبه فيعيش عشْرين أُخْرَى، فتغيير التَّرْكِيب والمكتوب من الْأَجَل كالتردد، وَذَلِكَ(3/527)
ثَمَرَة الْمحبَّة.
2034 - / 2509 - والْحَدِيث السَّابِع عشر: قد تقدم فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2035 - / 2510 - وَالثَّامِن عشر قد تقدم فِي مُسْند كَعْب بن مَالك.
2036 - / 2511 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: ((إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله فانتظر السَّاعَة)) .
أَي أسندت الْولَايَة والإمارة.
2037 - / 2515 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: ((إِن أَيُّوب خر عَلَيْهِ رجل جَراد من ذهب)) .
أَي جمَاعَة من جَراد، وَهَذَا من أَسمَاء الْجَمَاعَات الَّتِي لَا وَاحِد لَهَا من لَفظهَا، يُقَال: رجل من جَراد، وسرب من ظباء، وخيط من نعام، وعانة من حمير.
2038 - / 2516 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ((خفف على دَاوُد الْقُرْآن)) .(3/528)
يَعْنِي الْقِرَاءَة لكتابه الزبُور.
2039 - / 2517 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: ((من يرد الله بِهِ خيرا يصب مِنْهُ)) .
عَامَّة الْمُحدثين يقرءونه بِكَسْر الصَّاد يجْعَلُونَ الْفِعْل لله عز وَجل، وَسمعت أَبَا مُحَمَّد، ابْن الخشاب يفتح الصَّاد، وَهُوَ أحسن وأليق.
وَاعْلَم أَن سَلامَة الْبدن وَالْمَال توجب غَفلَة وإعراضا، فَإِن وجد الشُّكْر فَلَا عَن حرقة. وَالْبَلَاء يكسر النَّفس عَن أشرها وشرها وشرهها، ويثمر صدق اللجأ إِلَى الله سُبْحَانَهُ، وَيحصل ثَوَاب الْآخِرَة.
2040 - / 2524 - وَمَا بعد هَذَا قد تقدم إِلَى الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ، وَفِيه: ((يلقى إِبْرَاهِيم آزر وعَلى وَجه آزر قترة وغبرة، فَينْظر فَإِذا هُوَ بذيخ ملتطخ)) .
آزر اسْم أَبِيه.
والقترة: الظلمَة. وَقَالَ الزّجاج: سَواد كالدخان. والغبرة: الْغُبَار، وَقَالَ مقَاتل: سَواد وكآبة.
والذيخ: ذكر الضباع.
وملتطخ: أَي بعذرة ونجاسة. وَالْمعْنَى: أَنه يمسخ آزر ويغير حَاله.(3/529)
2041 - / 2525 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: ((إِن الله يحب العطاس وَيكرهُ التثاؤب)) .
إِن قَالَ قَائِل: لَيْسَ العطاس دَاخِلا تَحت الْكسْب وَلَا التثاؤب، فَمَا حِيلَة العَبْد فِي تَحْصِيل المحبوب وَنفي الْمَكْرُوه؟ فَالْجَوَاب: أَن العطاس إِنَّمَا يكون مَعَ انفتاح المسام وخفة الْبدن وتيسير الحركات، وَسبب هَذِه الْأَشْيَاء تَخْفيف الْغذَاء والتقلل من الْمطعم، فَأَما التثاؤب فَإِنَّهُ يكون مَعَ ثقل الْبدن وامتلائه واسترخائه للنوم، فَحَمدَ العطاس لِأَنَّهُ يعين على الطَّاعَة، وذم التثاؤب لِأَنَّهُ يثبط عَن الْخَيْر.
وَإِنَّمَا يضْحك الشَّيْطَان من قَول المتثائب ((هَا)) لمعنيين: أَحدهمَا: أَنه يرى ثَمَرَة تحريضه على الشِّبَع فيضحك فَرحا بِأَن أثمرت شجرات غرسه. وَالثَّانِي: أَن الْمسنون للمتثائب أَن يَكْظِم وَيحبس مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذا ترك الْأَدَب وَقَالَ: ((هَا)) ضحك الشَّيْطَان لقلَّة أدبه.
وَأما التشميت فقد سبق تَفْسِيره فِي مُسْند أبي مُوسَى.
والبال: الْحَال.
وَلما أبان العطاس عَن صَلَاح - على مَا بَينا - ناسب ذَلِك أَن يَقُول الْعَاطِس: الْحَمد لله، وَلما كَانَ ذَلِك الصّلاح برحمة الله ناسب ذَلِك أَن يُقَال للعاطس: يَرْحَمك الله: أَي يزيدك رَحْمَة، وَلما قَامَ الرَّاد بِحَق الْمُسلم ناسب ذَلِك أَن يَقُول: وَيصْلح بالكم، أَي يصلح حالك بالسلامة وَالنعْمَة كَمَا أصلح حَالي بالعطاس.(3/530)
2042 - / 2526 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((إِن هَذَا الدّين يسر)) .
يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن الشَّرِيعَة سهلة فَلَا يَنْبَغِي التَّشْدِيد على النَّفس. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: إِنَّمَا ينَال الدّين بالتلطف، وَيدل على هَذَا الْوَجْه قَوْله: ((وَلنْ يشاد الدّين أحد إِلَّا غَلبه)) .
وَقَوله: ((فسددوا)) أَي استعملوا السداد وَالصَّوَاب وقاربوا ذَلِك إِذا عجزتم عَنهُ.
والدلجة: سير اللَّيْل. وَذكر الغدوة والروحة والدلجة مثل للتلطف؛ فَإِن الْمُسَافِر لَو قطع اللَّيْل وَالنَّهَار بالسير انْقَطع، وَإِنَّمَا يسير الغدوة والروحة وشيئا من اللَّيْل ليجمع بَين قطع الطَّرِيق والتلطف بالرواحل.
وَقَوله: ((الْقَصْد الْقَصْد)) الْمَعْنى: اقتصدوا فِي الْعِبَادَة وَلَا تحملوا مِنْهَا مَا لَا تطيقونه.
وَقَوله: ((لن يُنجي أحدا مِنْكُم عمله)) قد تقدم فِي مُسْند جَابر بن عبد الله.
2043 - / 2527 - والْحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ: قد تقدم فِي مُسْند أنس.
2044 - / 2528 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: ((أعذر الله إِلَى(3/531)
امْرِئ أخر أَجله حَتَّى بلغ سِتِّينَ سنة)) .
أعذر: أَي أَقَامَ الْعذر فِي تَطْوِيل التَّعْمِير.
وَاعْلَم أَن الْأَسْنَان أَرْبَعَة: سنّ الصَّبِي، وَسن الشَّبَاب، وَسن الكهولة، وَسن الشيخوخة. فسن الصَّبِي هُوَ الَّذِي يكون فِيهِ الْبدن دَائِم النشوء والنمو، وَهُوَ إِلَى خمس عشرَة سنة. وَسن الشَّبَاب هُوَ الَّذِي يتكامل فِيهِ النمو ويبتدئ عَقِيبه بالإنحطاط، ومنتهاه فِي غَالب الْأَحْوَال خمس وَثَلَاثُونَ سنة، وَقد يبلغ أَرْبَعِينَ. وَبَعْضهمْ يُسمى مَا بَين الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعين سنّ الْوُقُوف، كَأَن الْقُوَّة وقفت فِيهِ. ثمَّ من الْأَرْبَعين يَأْخُذ فِي النَّقْص، قَالَ الشَّاعِر:
(كَأَن الْفَتى يرقى من الْعُمر سلما ... إِلَى أَن يجوز الْأَرْبَعين وينحط)
وَسن الكهول الَّذِي قد تبين فِيهِ الإنحطاط وَالنُّقْصَان مَعَ بَقَاء من الْقُوَّة، ومنتهاه فِي أَكثر الْأَحْوَال سِتُّونَ سنة، فَمن بلغ السِّتين فقد انْتهى وَأثر فِيهِ ضعف الْقُوَّة وجاءته نذر الْمَوْت وَدخل فِي سنّ الْمَشَايِخ، وَفِي ذَلِك الزَّمَان يزِيد انحطاط الْقُوَّة ويقوى ظُهُور الضعْف إِلَى آخر الْعُمر.
وَقد أخبرنَا مُحَمَّد بن الْقَاسِم قَالَ: أخبرنَا حمد بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عبد الله الْحَافِظ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَكِيم قَالَ: حَدثنَا أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ قَالَ: حدثونا(3/532)
عَن يحيى بن يمَان قَالَ: سَمِعت سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول: من بلغ سنّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فليرتد لنَفسِهِ كفنا.
2045 - / 2531 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((يَقُول الله تَعَالَى: مَا لعبدي الْمُؤمن عِنْدِي جَزَاء إِذا قبضت صَفيه من أهل الدُّنْيَا ثمَّ احتسبه إِلَّا الْجنَّة)) .
الصفي: الْمُصْطَفى كَالْوَلَدِ وَالْأَخ وكل مَحْبُوب مُؤثر.
2046 - / 2532 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: ((قَالَ الله تَعَالَى: ثَلَاثَة أَنا خصمهم يَوْم الْقِيَامَة: رجل أعْطى بِي ثمَّ غدر. وَرجل بَاعَ حرا فَأكل ثمنه. وَرجل اسْتَأْجر أَجِيرا فاستوفى مِنْهُ وَلم يُعْطه أجره)) .
قَوْله: ((أعْطى بِي)) أَي حلف بِي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اجترأ على ربه عز وَجل. وَأما الَّذِي بَاعَ حرا فَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يضْرب الرّقّ على الْكَافِر، فَأَما الْمُؤمن فَإِنَّهُ عبد لله خَالص، فَمن بَاعه بَاعَ عبدا لله خَالِصا، وَمن جنى على عَبده فخصمه سَيّده. وَأما الَّذِي اسْتَأْجر أَجِيرا، فَإِن الْأَجِير وثق بأمانة الْمُسْتَأْجر، فَإِن خَان الْأَمَانَة تولى الله جزاءه.
2047 - / 2533 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: ((مَا أَسْفَل الْكَعْبَيْنِ من الْإِزَار فَفِي النَّار)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هَذَا يتَأَوَّل على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن مَا دون(3/533)
الْكَعْبَيْنِ من قدم صَاحبه فِي النَّار عُقُوبَة على فعله. وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: أَن فعل ذَلِك مَعْدُود فِي أَفعَال أهل النَّار)) .
2048 - / 2534 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: حفظت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعاءين، فَأَما أَحدهمَا فبثثته، وَأما الآخر فَلَو بثثته قطع هَذَا البلعوم)) .
الْوِعَاء: مَا يوضع فِيهِ الشَّيْء.
وبثثته بِمَعْنى نشرته وفرقته. وَالْمرَاد بِهِ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ.
والبلعوم: مجْرى الطَّعَام.
وَلقَائِل أَن يَقُول: كَيفَ استجاز كتم الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ: ((بلغُوا عني)) وَكَيف يَقُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا إِذا ذكر قتل رَاوِيه؟ وَكَيف يستجيز الْمُسلمُونَ من الصَّحَابَة الأخيار وَالتَّابِعِينَ قتل من يروي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَالْجَوَاب: أَن هَذَا الَّذِي كتمه لَيْسَ من أَمر الشَّرِيعَة؛ فَإِنَّهُ لَا يجوز كتمانها، وَقد كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: لَوْلَا آيَة فِي كتاب الله مَا حدثتكم، وَهِي قَوْله: {إِن الَّذين يكتمون مَا أنزلنَا من الْبَينَات وَالْهدى} [الْبَقَرَة: 159] فَكيف يظنّ بِهِ أَن يكتم شَيْئا من الشَّرِيعَة بعد هَذِه الْآيَة، وَبعد أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يبلغ عَنهُ، وَقد كَانَ يَقُول لَهُم: ((ليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب)) . وَإِنَّمَا هَذَا المكتوم مثل أَن يَقُول:(3/534)
فلَان مُنَافِق، وستقتلون عُثْمَان، و ((هَلَاك أمتِي على يَدي أغيلمة من قُرَيْش)) بَنو فلَان، فَلَو صرح بِأَسْمَائِهِمْ لكذبوه وقتلوه.
2049 - / 2536 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: كنت ألزم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشبع بَطْني حِين لَا آكل الخمير وَلَا ألبس الْحَرِير.
وَالْمرَاد بالخمير: خبز الخمير.
وَقَوله: وَلَا ألبس الْحَرِير. كَذَا وَقع بِخَط الْحميدِي، وَإِنَّمَا هُوَ الحبير: وَهُوَ الثِّيَاب الْحبرَة.
والعكة: ظرف الْعَسَل.
2050 - / 2537 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: فِي الْإِمَارَة: ((فَنعم الْمُرضعَة وبئست الفاطمة)) .
يَعْنِي أَن الْأَمر وَالنَّهْي فِي الْإِمَارَة لذيد، والمؤاخذة بِحَق الْإِمَارَة فِي الْقِيَامَة صَعب كالفطام على الصَّبِي.
2051 - / 2542 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أهديت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاة فِيهَا سم، وَقَالُوا: أردنَا أَن نعلم إِن كنت نَبيا لم يَضرك.
وَقد سبق بَيَان هَذَا، وَبينا أَن الْمَرْأَة الَّتِي سمته اسْمهَا زَيْنَب، وَأَنه قَتلهَا. وَهَذَا كَانَ فِي غزَاة خَيْبَر.(3/535)
وَقَوْلهمْ: إِن كنت نَبيا لم يَضرك. جهل مَحْض؛ لِأَن الْأَنْبِيَاء بشر، فَمَا يُؤْذِي الْبشر يؤذيهم.
2052 - / 2543 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: ((حرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة على لساني)) .
اللابة: الْحِجَارَة السود. وَقد ذكرنَا حُدُود حرم الْمَدِينَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
2053 - / 2547 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: قَالَت الْأَنْصَار: اقْسمْ بَيْننَا وَبينهمْ النّخل. قَالَ: ((لَا، يكفونا الْعَمَل ويشركونا فِي الثَّمَرَة)) .
هَذَا كَانَ حِين قدم الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَة، فَإِنَّهُم دخلوها فُقَرَاء فمنحهم الْأَنْصَار من أَمْوَالهم الْكثير، فَلَمَّا افتتحت خَيْبَر أعادوا منائحهم عَلَيْهِم على مَا بَينا فِي مُسْند أنس.
2054 - / 2549 - والْحَدِيث السَّابِع وَالْخَمْسُونَ: قد تقدم فِي مُسْند أنس أَيْضا.
2055 - / 2550 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: ((الَّذِي يخنق(3/536)
نَفسه يخنقها فِي النَّار)) .
يَعْنِي أَنه يفعل ذَلِك بِنَفسِهِ، كَأَنَّهُ يضْطَر إِلَى ذَلِك الْفِعْل عُقُوبَة لما فعل بِنَفسِهِ.
2056 - / 2553 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: إِن كنت لأشد الْحجر على بَطْني من الْجُوع.
أما شدّ الْحجر فعادة كَانَت الْعَرَب إِذا اشْتَدَّ بهم الْجُوع وخوى الْبَطن فَإِنَّهُ لَا يُمكن مَعَ ذَلِك انتصاب الْقَامَة، فَيَأْخُذ أحدهم الْحجر الَّذِي يكون بطول الْكَفّ إِلَّا أَنه خَفِيف فيشده على الْبَطن فَيرد الْقَامَة بعض الرَّد.
والقدح: السهْم.
وَالنعَم: الْإِبِل، وحمرها: أفضلهَا.
2057 - / 2554 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: لجأوا إِلَى فدفد.
الفدفد: الأَرْض المستوية.
وَقَوله: ((اقتلهم بددا)) ذكره ابْن السّكيت فِي كتاب ((الْأَلْفَاظ)) بِفَتْح الْبَاء، وَقَالَ: الْعَرَب تَقول: اقتلهم بددا، والبدد: التَّفَرُّق، وَيُقَال: بُد رجلَيْهِ فِي المقطرة: أَي فرقهما.(3/537)
والدبر: النَّحْل.
وَفِيه: فَقَامَ أَبُو سروعة إِلَى خبيب فَقتله. أَبُو سروعة اسْمه عقبَة بن الْحَارِث، كَانَ خبيب قد قتل أَبَاهُ يَوْم بدر، فَلَمَّا أسر خبيب اشْتَرَاهُ مِنْهُ الْحَارِث فَقتله عقبَة، ثمَّ أسلم وروى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخرج لَهُ فِي الصَّحِيح مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
2058 - / 2555 - والْحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
2059 - / 2556 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((تعس عبد الدِّينَار وَالدِّرْهَم)) .
فِي تعس لُغَتَانِ: فتح الْعين وَكسرهَا، وَمعنى تعس: عثر فَسقط لوجهه.
والقطيفة: نوع من الأكسية.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الخميصة عِنْد الْعَرَب كسَاء مربح أسود لَهُ علمَان.
وَقَوله: ((إِن أعطي رَضِي)) يَعْنِي أَنه يعْمل للدنيا.
وانتكس قَالَ ابْن السّكيت: سقط على رَأسه، تَقول: نكست(3/538)
الشَّيْء: إِذا قلبته.
وَقَوله: ((شيك)) أَي أصَاب الشوك جسده.
فَلَا انتقش: أَي فَلَا قدر على إِخْرَاجه من بدنه وَلَا اسْتَطَاعَ، يُقَال: نقشت الشوك: إِذا استخرجته.
وطوبى ((فعلى)) من الطّيب، وأصل طُوبَى: طيبي، فقلبت الْيَاء للضمة قبلهَا واوا، كَذَلِك قرأته على شَيخنَا أبي مَنْصُور.
وَقَوله: ((إِن كَانَ فِي الحراسة، وَإِن كَانَ فِي السَّاقَة)) الْمَعْنى أَنه خامل الذّكر لَا يقْصد السمو، فَأَيْنَ اتّفق لَهُ كَانَ فِيهِ.
2060 - / 2557 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: قَالَ: يَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أوصني، قَالَ: ((لَا تغْضب)) .
فَإِن قيل: الْغَضَب جبلة فِي الْآدَمِيّ فَكيف يُؤمر بصرفها؟ فَالْجَوَاب: أَن الْغَضَب لَهُ جوالبه وثمرات، فَمن جوالبه الْكبر، فَإِذا رَاض الْإِنْسَان نَفسه بِاسْتِعْمَال التَّوَاضُع ذلت. وَمن ثَمَرَات الْغَضَب السب وَالضَّرْب وَمَا يعود بثلب دين الغضبان وبدنه قبل أَذَى المغضوب عَلَيْهِ، فَإِن بعض النَّاس استشاط يَوْمًا من الْغَضَب فصاح، فنفث الدَّم وَأَدَّاهُ ذَلِك إِلَى السل. وَضرب رجل رجلا على فَمه فَانْكَسَرت أَصَابِع الضَّارِب وَلم يكبر أَذَى الْمَضْرُوب. وَقد أثر غضب خلق كثير فِي بطشهم بأولادهم وأهاليهم وتطليق زوجاتهم، ثمَّ طَالَتْ ندامتهم وَفَاتَ الإستدراك، فقد روينَا فِي الحَدِيث: ((أَن الله تَعَالَى يَقُول: يَا ابْن(3/539)
آدم، اذْكُرْنِي حِين تغْضب أذكرك حِين أغضب، فَلَا أمحقك فِيمَن أمحق)) فَكَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَاهُ عَن جوالب الْغَضَب وثمراته ومساكنته، وَقد أَمر بمداواته إِذا عرض، فَقَالَ فِي حَدِيث أبي ذَر: ((إِذا غضب أحدكُم وَهُوَ قَائِم فليجلس، فَإِذا ذهب عَنهُ الْغَضَب وَإِلَّا فليضطجع)) وَهَذَا لِأَن الْقَائِم متهيء للحركة والبطش، والقاعد دونه فِي هَذَا الْمَعْنى، والمضطجع مَمْنُوع مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا أمره بذلك لِئَلَّا يبدر مِنْهُ فِي حَال قِيَامه وقعوده مَا ينْدَم عَلَيْهِ فِيمَا بعد، وَقد قَالَ الْأَحْنَف بن قيس: مَا اعْترض التثبت فِي الْغَضَب إِلَّا قهر سُلْطَان العجلة. وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء: أول الْغَضَب جُنُون وَآخره نَدم.
2061 - / 2558 - والْحَدِيث السَّادِس وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند سهل بن سعد.
2062 - / 2560 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: نهى رَسُول الله عَن كسب الْإِمَاء.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: كَانَ لأهل مَكَّة وَلأَهل الْمَدِينَة إِمَاء عَلَيْهِنَّ ضَرَائِب، تخدمن النَّاس: يخبزن ويسقين المَاء، إِلَى غير ذَلِك من الصناعات، ويؤدين الضرائب إِلَى ساداتهن. وَالْإِمَاء إِذا دخلن تِلْكَ المداخل وتبذلن ذَلِك التبذل لم يُؤمن أَن يكون مِنْهُنَّ الْفُجُور وَأَن(3/540)
يكسبن بالسفاح، فَنهى عَن كَسْبهنَّ تَنْزِيها، وَمَتى لم يكن لعملهن وَجه مَعْلُوم يكتسبن بِهِ فَهُوَ أبلغ فِي النَّهْي وَأَشد فِي الْكَرَاهَة. وَقد روى أَبُو دَاوُد السجسْتانِي من حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه نهى عَن كسب الْأمة إِلَّا مَا عملت بِيَدَيْهَا، وَقَالَ بأصابعه هَكَذَا نَحْو الْخبز والغزل والنفش، يَعْنِي نفش الصُّوف.
2063 - / 2561 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتِّينَ: ((لَو دعيت إِلَى كرَاع أَو ذِرَاع لَأَجَبْت)) .
والكراع: كرَاع الشَّاة، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الكراع من الْإِنْسَان إِلَى مَا دون الرّكْبَة، وَمن الدَّوَابّ مَا دون الكعب. قلت: وَقد غلط من فسره بكراع الغميم؛ لِأَن الذِّرَاع يُنَاسب الكراع لَا الْمَكَان.
2064 - / 2562 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: ((عجب الله من قوم يدْخلُونَ الْجنَّة فِي السلَاسِل)) .
الْمَعْنى أَنهم يحملون على الْإِسْلَام بالكره، وعَلى هَذَا يحْتَمل ذكر الْجنَّة وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون المُرَاد بِالْجنَّةِ الْإِسْلَام، لِأَن مآل الدَّاخِل فِيهِ إِلَى الْجنَّة، فَسُمي بهَا. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى أَنهم أكْرهُوا على الْإِسْلَام، فَلَو بقوا على كراهتم لِلْإِسْلَامِ لم يدخلُوا الْجنَّة، وَكَانَ السَّبَب الْإِكْرَاه فِي الأول.(3/541)
وَقد ذكرنَا معنى الْعجب الْمُضَاف إِلَى الله عز وَجل فِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَتَيْنِ من هَذَا الْمسند.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2065 - / 2566 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: ((الرَّهْن يركب بِنَفَقَتِهِ، وَيشْرب لبن الدّرّ إِذا كَانَ مَرْهُونا، وعَلى الَّذِي يركب وَيشْرب النَّفَقَة)) .
عِنْد أَحْمد - رَحمَه الله - يجوز أَن يركب الرَّهْن ويحلب ويستخدم بِمِقْدَار النَّفَقَة عَلَيْهِ على شَرط أَن يجْرِي الْعدْل فِي ذَلِك بِمُقْتَضى هَذَا الحَدِيث، وَلَيْسَ لَهُ أَن ينْتَفع بِهِ فِي غير هَذَا، وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي - رَحمَه الله -: يجوز اسْتِخْدَام العَبْد الْمَرْهُون وَالْجَارِيَة، وركوب الدَّابَّة وَأخذ أجرتهَا، وجز الصُّوف، وحلب اللَّبن.
2066 - / 2567 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسبْعين: كُنَّا عِنْد أبي هُرَيْرَة وَعَلِيهِ ثَوْبَان ممشقان من كتَّان، فَقَالَ: بخ بخ.
الممشق: الْمَصْبُوغ بالمشق: وَهُوَ الْمغرَة بِفَتْح الْغَيْن.
وَقَوله: بخ بخ، قد سبقت فِي مُسْند أنس.(3/542)
2067 - / 2569 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين: أَعْطَانِي سبع تمرات إِحْدَاهُنَّ حَشَفَة شدت من مضاغي.
الحشف: أردأ التَّمْر.
والمضاغ: الطَّعَام يمضغ. وَكَأَنَّهُ يَقُول: قويت فِي مضغي فطال زمَان التَّمَتُّع بهَا.
2068 - / 2573 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرض على قوم الْيَمين فَأَسْرعُوا، فَأمر أَن يُسهم بَينهم فِي الْيَمين: أَيهمْ يحلف.
ويسهم بِمَعْنى يقرع. وَإِنَّمَا فعل هَذَا فِي حق الَّذين تَسَاوَت درجاتهم فِي أَسبَاب الإستحقاق، مثل أَن يكون الشَّيْء فِي يَدي اثْنَيْنِ، كل وَاحِد مِنْهُم يَدعِيهِ وَيُرِيد أَن يحلف ويستحقه.
2069 - / 2574 - والْحَدِيث الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ: قد سبق فِي مُسْند أبي ابْن كَعْب.
2070 - / 2575 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: مَا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد أَكثر حَدِيثا عَنهُ مني إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو؛ فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب.(3/543)
اعْلَم أَن الله تَعَالَى بَارك لأبي هُرَيْرَة، فقد ذكرنَا أَنه روى أَكثر من خَمْسَة آلَاف حَدِيث، وَأَن عبد الله بن عَمْرو لم يضْبط عَنهُ أَكثر من سَبْعمِائة حَدِيث، مَعَ أَنه قَالَ: حفظت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف مثل، وَقد عَاشَ بعد أبي هُرَيْرَة سِتّ سِنِين، وَقيل: سبع سِنِين.
2071 - / 2576 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين: أَتَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بِخَيْبَر، فَقلت لَهُ: أسْهم لي، فَقَالَ بعض بني سعيد بن الْعَاصِ: لَا تسهم لَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: هَذَا قَاتل ابْن قوقل. فَقَالَ ابْن سعيد ابْن الْعَاصِ: وَاعجَبا لوبر تدلى علينا من قدوم شَاة.
اسْم هَذَا الْقَائِل أبان بن سعيد بن الْعَاصِ، وَلَا أَدْرِي من يَعْنِي بِابْن قوقل، إِلَّا أَن النُّعْمَان بن مَالك بن ثَعْلَبَة الْأنْصَارِيّ، وثعلبة هُوَ قوقل، كَانَ يَقُول للخائف قوقل حَيْثُ شِئْت، فَإنَّك آمن. وَقتل النُّعْمَان يَوْم أحد شَهِيدا، وَالَّذِي قَتله صَفْوَان بن أُميَّة، وَقتل من القواقلة يَوْمئِذٍ الْعَبَّاس بن عبَادَة، قَتله صَفْوَان أَيْضا.
والتدلي: تعلق من علو إِلَى سفل، وَقد بَين فِي اللَّفْظ الآخر من الحَدِيث: يَا وَبرا تحدر من رَأس ضَأْن. والوبر بتسكين الْبَاء: دويبة طحلاء، وَمعنى طحلاء أَنَّهَا تشبه الطحال، فَمَعْنَى تدلى: وَقع أَو تعلق.
والقدوم: مَا يقدم من الشَّاة: وَهُوَ رَأسهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ احتقاره وَأَنه(3/544)
لَا قدر لَهُ عِنْده، فشبهه بالوبر الَّذِي يتدلى من رَأس الضَّأْن فِي قلَّة الْمَنْفَعَة والمبالاة، كَذَا فسره بعض الْعلمَاء، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَقَالَ: تدلى علينا من قدوم ضال، بِاللَّامِ، قَالَ الْخطابِيّ: الْوَبر: دويبة يُقَال إِنَّهَا تشبه السنور، وأحسب أَنَّهَا تُؤْكَل، لِأَنِّي وجدت بعض السّلف يُوجب فِيهَا الْفِدْيَة. قَالَ: وقدوم ضان، بالنُّون: اسْم مَوضِع: جبل أَو ثنية، وَهُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات ضال، بِاللَّامِ.
وَقَوله: ينعى عَليّ: أَي يعيب عَليّ. وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث على وَجه آخر: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَانَا على سَرِيَّة من الْمَدِينَة قبل نجد، فَقدم أبان وَأَصْحَابه على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَيْبَر بَعْدَمَا افتتحها، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَقلت: يَا رَسُول الله، لَا تقسم لَهُم، فَقَالَ أبان: وَأَنت بِهَذَا يَا وبر تحدر من رَأس ضَأْن. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((يَا أبان، اجْلِسْ)) وَلم يقسم لَهُم.
وَقَوله: أَنْت بِهَذَا الْكَلَام، ويروى: أَنْت بهَا. أَي: أَنْت بِهَذِهِ الْكَلِمَة، فَهَذَا على مَذْهَب الْعَرَب فِي الإختصار والحذف. وَكَانَ ابْن عمر إِذا أصَاب فِي رميه الهدف قَالَ: أَنا بهَا، أَي: أَنا الفائز بالإصابة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة دون من لحقهم بعد إحرازها. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: من لحق الْجَيْش بعد أَخذ(3/545)
الْغَنِيمَة وَقبل قسمتهَا فَهُوَ شريك الْغَانِمين.
2072 - / 2577 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: ((مَا بعث الله عز وَجل نَبيا إِلَّا رعى الْغنم)) فَقَالَ أَصْحَابه: وَأَنت؟ فَقَالَ: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مَكَّة)) .
وَقد سبق وَجه الْحِكْمَة فِي رعي الْغنم فِي مُسْند جَابر. وَقد روى هَذَا الحَدِيث سُوَيْد بن سعيد عَن عَمْرو بن يحيى بِإِسْنَادِهِ فَقَالَ: ((كنت أرعاها بالقراريط)) قَالَ سُوَيْد: يَعْنِي كل شَاة بقيراط. قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: قراريط مَوضِع، وَلم يرد بذلك القراريط من الْفضة.
وَهَذَا أصح؛ لِأَن سويدا لَا يعْتَمد على قَوْله.
2073 - / 2578 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: اتبعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((ابغني أحجارا أستنفض بهَا)) .
ابغني بِمَعْنى ابغ لي، تَقول: بغيت لَك كَذَا وَكَذَا، وبغيتك كَذَا: أَي طلبته لَك، قَالَ الله عز وَجل: {يبغونكم الْفِتْنَة} [التَّوْبَة: 47] أَي يَبْغُونَ لكم.
وأستنفض بهَا: أَي أزيل عني الْأَذَى. وَالْإِشَارَة إِلَى الإستجمار؛ لِأَن المستجمر ينفض عَن نَفسه أَذَى الْحَدث بالأحجار.(3/546)
2074 - / 2579 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين: ((تنتهك ذمَّة الله)) .
أَي يستباح مَالا يحل. وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا الحَدِيث فِي أَفْرَاد مُسلم من هَذَا الْمسند إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
2075 - / 2580 - والْحَدِيث الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ: قد سبق فِي مُسْند جَابر.
2076 - / 2581 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: ((إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم فليغمسه ثمَّ لينزعه؛ فَإِن فِي أحد جناحيه دَاء وَالْآخر شِفَاء)) .
قد تعجب قوم من اجْتِمَاع الدَّاء والدواء فِي شَيْء وَاحِد وَلَيْسَ بعجيب، فَإِن النحلة تعسل من أَعْلَاهَا وتلقي السم من أَسْفَلهَا، والحية الْقَاتِل سمها يدْخلُونَ لَحمهَا فِي الدرياق، ويدخلون الذُّبَاب فِي أدوية الْعين ويسحقونه مَعَ الإثمد ليقوى الْبَصَر، ويأمرون بستر وَجه الَّذِي يعضه الْكَلْب من الذُّبَاب، وَيَقُولُونَ: إِن وَقع عَلَيْهِ تعجل هَلَاكه.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَنه إِذا مَاتَ فِي المَاء الْيَسِير مَا لَيست لَهُ نفس سَائِلَة لم ينجس، خلافًا لأحد قولي الشَّافِعِي.(3/547)
2077 - / 2582 - وَفِي الحَدِيث التسعين: ((إِذا قضى الله الْأَمر فِي السَّمَاء ضربت الْمَلَائِكَة أَجْنِحَتهَا خضعانا لقَوْله كَأَنَّهُ سلسلة على صَفْوَان، فَإِذا فزع عَن قُلُوبهم قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم)) .
الخضعان والخضوع: التطامن.
والصفوان: الْحجر الأملس، وَإِذا جرت السلَاسِل عَلَيْهِ أزعجت الْقُلُوب بِالرُّعْبِ.
وفزع عَن قُلُوبهم: أزيل عَنْهَا الْفَزع.
2078 - / 2581 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: ((من صلى فِي ثوب فليخالف بَين طَرفَيْهِ)) .
وَالْمرَاد يكمل السّتْر والإستيثاق مِنْهُ.
2079 - / 2582 - والْحَدِيث الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَغَيره.
2080 - / 2586 - والْحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: قد تقدم فِي هَذَا الْمسند، فِي الرَّابِع وَالتسْعين بعد الْمِائَة.
2081 - / 2587 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قفل(3/548)
من غَزْوَة خَيْبَر سَار لَيْلَة حَتَّى إِذا أدْركهُ الْكرَى عرس وَقَالَ لِبلَال: ((اكلأ لنا اللَّيْل)) .
قفل: بِمَعْنى رَجَعَ.
والكرى: النّوم.
وعرس: نزل فِي سَفَره فِي آخر اللَّيْل.
واكلأ: بِمَعْنى احفظ، يُقَال: كلأك الله، وَأَصله الْهَمْز وَقد يُخَفف.
وَقَوله: فاقتادوا رواحلهم. إِن قيل: كَيفَ اشْتغل بالرحل عَن تَعْجِيل الْقَضَاء؟ وَكَيف خَفِي الْوَقْت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ لَا ينَام قلبه؟ فقد أجبنا عَن ذَلِك فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
2082 - / 2588 - وَقد سبق الحَدِيث الثَّالِث فِي مُسْند ابْن عمر.
2083 - / 2589 - وَالرَّابِع: فِي مُسْند زيد بن ثابث.
2084 - / 2591 - وَالسَّادِس: فِي مُسْند ابْن عَبَّاس. وَفِيه المزادة المجبوبة: يَعْنِي المقطوعة.
والجب: الْقطع.(3/549)
2085 - / 2592 - وَالسَّابِع: فِي مُسْند أبي حميد السَّاعِدِيّ.
2086 - / 2593 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ((يدْخل الْجنَّة أَقوام أفئدتهم مثل أَفْئِدَة الطير)) .
هَؤُلَاءِ قوم رقت قُلُوبهم فَاشْتَدَّ خوفهم من الْآخِرَة وَزَاد على الْمِقْدَار، فشبههم بالطير الَّتِي تفزع من كل شَيْء وتخافه.
2087 - / 2594 - وَقد سبق الحَدِيث التَّاسِع.
2088 - / 2595 - وَفِي الْعَاشِر: ((وَلَا هِيَ أرسلتها تَأْكُل من خشَاش الأَرْض، ترمرم)) .
يَقُولُونَ: الْبَقر ترمرم من كل الشّجر.
وخشاش الأَرْض: هوامها.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2089 - / 2598 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: ((كفى بِالْمَرْءِ كذبا أَن يحدث بِكُل مَا سمع)) .
كذبا أَي تَكْذِيبًا. وَذَلِكَ لِأَن من حدث بِكُل مَا سمع من غير أَن يُمَيّز بَين مَا تقبله الْعُقُول مِمَّا لَا تقبله، أَو من يصلح أَن يسمع مَا(3/550)
يحدث بِهِ مِمَّن لَا، نسب إِلَى الْكَذِب
2090 - / 2599 - والْحَدِيث الرَّابِع عشر: قد سبق فِي مُسْند عبَادَة. وَفِيه: ((إِلَّا مَا اخْتلفت ألوانه)) يَعْنِي أجناسه.
2091 - / 2601 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: ((إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا صَلَاة إِلَّا الْمَكْتُوبَة)) .
وَهَذَا لِأَنَّهُ قد صَار الحكم لَهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَن يتشاغل بالأنقص مَعَ حُضُور الْأَكْمَل، وَقد قَالَ أَبُو حنيفَة: من كَانَ خَارج الْمَسْجِد وَلم يخْش فَوَات الرُّكُوع فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة من الْفجْر صلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ دخل، والْحَدِيث يرد هَذَا.
2092 - / 2602 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: ((أَيْن المتحابون بجلالي)) .
أَي أَنهم اجْتمعت قُلُوبهم فِي الْمحبَّة لتعظيمي.
2093 - / 2603 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: ((من اشْترى طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يكتاله)) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ لمروان: أحللت بيع الرِّبَا، أحللت بيع الصكاك وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الطَّعَام حَتَّى يسْتَوْفى.(3/551)
الصكاك: رقاع كَانَت تكْتب لَهُم فِي أَرْزَاقهم بأطعمة، وَكَانُوا يبيعون مَا فِي الصكاك قبل اسْتِيفَائه. وَقد سبق هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عَبَّاس وَابْن عمر.
2094 - / 2605 - وَقد سبق الحَدِيث الْعشْرُونَ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2095 - / 2606 - وَالْحَادِي وَالْعشْرُونَ فِي مُسْند سهل بن سعد.
2096 - / 2607 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((سَمِعْتُمْ بِمَدِينَة جَانب مِنْهَا فِي الْبر وجانب فِي الْبَحْر؟)) .
وَهَذِه قسطنطينة، وَقد بيّنت فِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين الَّذِي يَأْتِي.
2097 - / 2612 - وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين وَفِيه: ((الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف)) .
الْإِشَارَة بِالْقُوَّةِ هَا هُنَا إِلَى الْعَزْم والحزم والإحتياط لَا إِلَى قُوَّة الْبدن.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.(3/552)
2098 - / 2615 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: ((من عرض عَلَيْهِ ريحَان فَلَا يردهُ، فَإِنَّهُ خَفِيف الْمحمل طيب الرّيح)) .
كَأَن الْإِشَارَة بالريحان إِلَى مَا لَهُ من ريح طيبَة.
2099 - / 2616 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
2100 - / 2617 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: نهى عَن بيع الْحَصَاة، وَعَن بيع الْغرَر.
وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَنهم كَانُوا يجْعَلُونَ عَلامَة إِيجَاب البيع رمي حَصَاة، فَنهى عَن هَذَا، وَجعل الْإِيجَاب وَالْقَبُول عَلامَة شَرْعِيَّة.
وَبيع الْغرَر مثل بيع اللَّبن فِي الضَّرع، فَإِنَّهُ رُبمَا لَا يكون فِيهِ لبن، أَو يكون قَلِيلا وَهُوَ يَظُنّهُ كثيرا.
2101 - / 2618 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: ((إِذا دعِي أحدكُم إِلَى طَعَام وَهُوَ صَائِم فَلْيقل: إِنِّي صَائِم)) .
قد بَينا أَنه إِنَّمَا تجب الْإِجَابَة إِلَى طَعَام الْعرس.
وَقَوله: ((فَلْيقل إِنِّي صَائِم)) أَي فليعرفهم عذره فِي ترك الْأكل لِئَلَّا يستوحشوا لانقباضه.
وَقَوله: ((فَليصل)) قَالَ أَبُو عبيد: أَي فَليدع لَهُم بِالْبركَةِ وَالْخَيْر،(3/553)
وكل دَاع مصل، قَالَ الْأَعْشَى:
(عَلَيْك مثل الَّذِي صليت فاغتمضي ... يَوْمًا، فَإِن لجنب الْمَرْء مُضْطَجعا)
أَي: ليكن لَك مثل الَّذِي دَعَوْت لي بِهِ.
2102 - / 2619 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((إِن الله تَعَالَى يبْعَث ريحًا من الْيمن، فَلَا تدع أحدا فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من إِيمَان إِلَّا قَبضته)) .
هَذَا يكون عِنْد قيام السَّاعَة.
2103 - / 2620 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: ((لَا يقْعد قوم يذكرُونَ الله إِلَّا حفتهم الْمَلَائِكَة)) .
حفتهم: أحاطت بهم.
والسكينة ((فعيلة)) من السّكُون.
وَنَفس: فرج. والتنفيس: التَّخْفِيف.
2104 - / 2621 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: ((الْعِزّ إزَارِي، والكبرياء رِدَائي)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: معنى الْكَلَام: أَن الْكِبْرِيَاء وَالْعَظَمَة(3/554)
صفتان لله اخْتصَّ بهما لَا يشركهُ فيهمَا أحد، وَلَا يَنْبَغِي لمخلوق أَن يتعاطاهما؛ لِأَن صفة الْمَخْلُوق التَّوَاضُع والتذلل. وَضرب الرِّدَاء والإزار مثلا، يَقُول - وَالله أعلم: كَمَا لَا يُشْرك الْإِنْسَان فِي رِدَائه وَإِزَاره أحد، فَكَذَلِك لَا يشركني فِي الْكِبْرِيَاء وَالْعَظَمَة مَخْلُوق.
2105 - / 2622 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ((إِن لكم أَن تنعموا وَلَا تبتئسوا)) .
المبتئس: الحزين الذَّلِيل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تبتئس بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36] أَي لَا تحزن وَلَا تضعف وَلَا يضيق صدرك.
وَأما يبأس فَفِيهِ لُغَتَانِ: يبأس ويبئس، وَالْمعْنَى: لَا يرى الْبُؤْس: وَهُوَ شدَّة الْحَاجة.
2106 - / 2624 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: ((دِينَار أنفقته فِي سَبِيل الله، ودينار أنفقته فِي رَقَبَة، ... أعظمها أجرا الَّذِي أنفقته على أهلك)) .
وَجه هَذَا أَن النَّفَقَة على الْأَهْل وَاجِبَة، وَلَيْسَ الْوَاجِب كالنفل.
2107 - / 2625 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: هم النَّاس بنحر بعض حمائلهم.(3/555)
الحمائل والحمالات جمع حمل. وَقد سبق الحَدِيث فِي مُسْند أبي سعيد.
2108 - / 2629 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((وَمن مس الْحَصَا فقد لغى)) .
وَهَذَا لِأَن مس الْحَصَى يظْهر مِنْهُ صَوت كَمَا يظْهر من الْمُتَكَلّم صَوت.
2109 - / 2630 - والْحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعُونَ: قد كشفناه فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2110 - / 2631 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: ((اثْنَتَانِ فِي النَّاس هما بهم كفر: الطعْن فِي النّسَب، والنياحة على الْمَيِّت)) .
فِي المُرَاد بالْكفْر وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون كفر النِّعْمَة، فَإِن من طعن فِي نسب غَيره فقد كفر بِنِعْمَة الله عَلَيْهِ بسلامته من ذَلِك الطعْن، وَمن ناح على ميت فقد كفر نعْمَة الله عَلَيْهِ إِذْ لم يكن هُوَ الْمَيِّت.
وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: أَنَّهُمَا من أَفعَال الْكفَّار لَا من خلال الْمُسلمين.
2111 - / 2632 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: ((أَيُحِبُّ أحدكُم أَن يجد ثَلَاث خلفات)) .
الخلفة: النَّاقة الْحَامِل، وَجَمعهَا خلفات.(3/556)
2112 - / 2633 - والْحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ: قد تقدم فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقد سبق مَا بعده.
2113 - / 2636 - والْحَدِيث الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: قد تقدم فِي مُسْند أبي سعيد.
2114 - / 2637 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: ((أقرب مَا يكون العَبْد من ربه وَهُوَ ساجد، فَأَكْثرُوا الدُّعَاء)) .
إِنَّمَا كَانَ السُّجُود موطن قرب لِأَنَّهُ غَايَة ذل الْآدَمِيّ، فَلذَلِك تقرب من مَوْلَاهُ.
2115 - / 2638 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي سُجُوده: ((اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذَنبي كُله، دقه وجله)) .
أَي قَلِيله وَكَثِيره، قَالَ الشَّاعِر:
(بَكت وأدقت فِي البكا وأجلت ... )
أَي أَتَت بِقَلِيل الْبكاء وَكَثِيره. والجلة: الْإِبِل المسان.
2116 - / 2640 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: ((تعرض أَعمال النَّاس فِي كل جُمُعَة مرَّتَيْنِ، فَيغْفر فِي ذَلِك الْيَوْم لكل امْرِئ لَا يُشْرك بِاللَّه(3/557)
شَيْئا، إِلَّا امْرأ كَانَت بَينه وَبَين أَخِيه شَحْنَاء، فَيُقَال: اتْرُكُوا - أَو اركوا، وَفِي لفظ: أنظروا هذَيْن حَتَّى يفيئا)) .
الشحناء: الْعَدَاوَة.
واركوا هذَيْن: أخروهما حَتَّى يرجعا عَن التقاطع. يُقَال: ركاه يركوه: إِذا أَخّرهُ. وأنظروا: أخروا. وَقد ذكرنَا حكم هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي أَيُّوب.
2117 - / 2642 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: ((أعوذ بِكَلِمَات الله التامات)) .
قد شرحنا هَذَا فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2118 - / 2644 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: ((اللَّهُمَّ أصلح لي ديني الَّذِي هُوَ عصمَة أَمْرِي)) .
أَي بِهِ أستمسك، وَعَلِيهِ فِي نجاتي أعول.
2119 - / 2645 - والْحَدِيث السِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند سعد بن أبي وَقاص.(3/558)
2120 - / 2646 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: ((يَمِينك على مَا يصدقك بِهِ صَاحبك)) وَفِي لفظ: ((الْيَمين على نِيَّة المستحلف)) .
وَمعنى الحَدِيث أَنَّك إِذا تأولت فِي يَمِينك لم ينفعك تأويلك.
2121 - / 2647 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ على جبل حراء، فَتحَرك.
وَقد تقدم فِي مُسْند أنس أَنه صعد أحدا. وَكَذَلِكَ روى سهل بن سعد: أحدا. وَأحد بِالْمَدِينَةِ وحراء بِمَكَّة، فقد اتّفق صُعُوده مَعَ أَصْحَابه على الجبلين، وتزلزل الجبلان تَحْتهم. وَقد ذكرنَا فِي مُسْند أنس عِلّة تحرّك الْجَبَل. وَذكرنَا حراء فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2122 - / 2648 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: أَن سعد بن عبَادَة قَالَ: أَرَأَيْت الرجل يجد مَعَ امْرَأَته رجلا، أَيَقْتُلُهُ؟ قَالَ: ((لَا)) . قَالَ: بلَى وَالَّذِي أكرمك بِالْحَقِّ. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((اسمعوا إِلَى مَا يَقُول سيدكم. إِنَّه لغيور، وَأَنا أغير مِنْهُ، وَالله أغير مني)) .
قَوْله: ((اسمعوا)) إِشَارَة إِلَى الْخَزْرَج لِأَنَّهُ نقيبهم، فَقَالَ: ((اسمعوا إِلَى مَا يَقُول سيدكم)) لِأَنَّهُ قَالَ: بلَى، فِي مُقَابلَة قَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((لَا)) . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لشدَّة غيرته لَا لقصد الْمُخَالفَة. وَأما غيرَة(3/559)
الْحق عز وَجل فقد تكلمنا عَلَيْهَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
2123 - / 2649 - والْحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند عدي ابْن حَاتِم.
2124 - / 2650 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: ثمَّ يَدْعُو أَصْغَر وليد.
الْوَلِيد: الصَّبِي الصَّغِير، وَجمعه ولدان، وَجمع وليدة ولائد.
2125 - / 2652 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((إِذا قَالَ الرجل: هلك النَّاس، فَهُوَ أهلكهم)) . ((أهلكهم)) على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: بِضَم الْكَاف، وَالْمعْنَى: هُوَ أَشَّدهم هَلَاكًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لأحد مَعْنيين: إِمَّا للإزراء عَلَيْهِم والإحتقار لَهُم وتفضيل نَفسه، أَو للْقطع عَلَيْهِم بِاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة، فَكَأَنَّهُ يقنطهم من رَحْمَة الله. وَالْوَجْه الثَّانِي: بِفَتْح الْكَاف، على معنى: هُوَ الَّذِي يحكم عَلَيْهِم بِالْهَلَاكِ بِرَأْيهِ لَا بِدَلِيل من أَدِلَّة الشَّرْع.
وَالْأول أظهر وَأشهر.
2126 - / 2653 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(3/560)
إِذا كَانَ فِي سفر وأسحر. أَي دخل فِي وَقت السحر، يَقُول: ((سمع سامع بِحَمْد الله)) أَي انْتَشَر ذَلِك وَأظْهر فَسَمعهُ السامعون.
وَقَوله: ((وَحسن بلائه علينا)) الْبلَاء: النعم.
وَمعنى: صاحبنا: احفظنا، وَمن صَحبه الله فقد حفظه.
2127 - / 2654 - والْحَدِيث التَّاسِع وَالسِّتُّونَ: قد تقدم فِي مُسْند أبي طَلْحَة.
2128 - / 2655 - وَفِي الحَدِيث السّبْعين: ((رغم أنف عبد)) .
أَي الْتَصق بالرغام وَهُوَ التُّرَاب.
2129 - / 2656 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين: أَرَادَت عَائِشَة أَن تشتري جَارِيَة فتعتقها. وَهُوَ حَدِيث بَرِيرَة. وَسَيَأْتِي مشروحا فِي مُسْند عَائِشَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَفِيه ((إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق)) وَقد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
2130 - / 2657 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ: قد أُشير إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمسند آنِفا.(3/561)
2131 - / 2658 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسبْعين: ((من حمل علينا السِّلَاح فَلَيْسَ منا)) .
أَي لَيْسَ على أَخْلَاقنَا.
والغش خلاف النصح، وَإِظْهَار مَا لَيْسَ فِي الْبَاطِن.
2132 - / 2659 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسبْعين: ((فَيلقى العَبْد فَيَقُول: أَي فل، ألم أكرمك)) .
فل ترخيم فلَان.
وَقَوله: ((ألم أسودك)) أَي أجعلك سيدا. وَالسَّيِّد: الَّذِي يفوق قومه فينقادون لَهُ.
وترأس: تصير رَئِيسا.
وترتع. قَالَ الْحميدِي: كَأَن الأَصْل ترتع بِالتَّاءِ، وَأما أَصْحَاب الْعَرَبيَّة وَأهل اللُّغَة فَقَالُوا: تربع بِالْبَاء: تَأْخُذ المرباع. والمرباع: مَا كَانَ يَأْخُذهُ الرئيس من الْغَنِيمَة. قَالَ: وترتع أَيْضا مُمكن، أَي تتنعم وتنبسط فِيمَا شِئْت.
قَوْله: ((فَإِنِّي أنساك)) أَي أتركك من الرَّحْمَة.
وَقَوله لِلْمُؤمنِ: ((هَا هُنَا إِذا)) أَي أَنه يرفعهُ ويكرمه.(3/562)
وَقد سبق مَا بعد هَذَا.
2133 - / 2663 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسبْعين: فتساورت لَهَا: أَي ثرت وانزعجت وتطلعت.
وَقَوله: فَوقف وَلم يلْتَفت فَصَرَخَ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: على مَاذَا أقَاتل النَّاس؟
هَذَا من حسن الْأَدَب؛ لِئَلَّا يرجع عَن حَاجَة قد توجه إِلَيْهَا وَمَا قَضَاهَا.
2134 - / 2667 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي والثمانين: ((إِذا سافرتم فِي الخصب فأعطوا الْإِبِل حظها من الأَرْض)) .
أَي مكنوها من المرعى، وارفقوا بهَا فِي السّير.
((وَإِذا سافرتم فِي السّنة)) يَعْنِي الجدب والشدة وَعدم المرعى ((فبادروا بهَا نقيها)) والنقي: السّمن، وَقد عبروا بالنقي عَن مخ الْعِظَام وشحم الْعين اسْتِدْلَالا على الْقُوَّة وَالسمن، وَالْمعْنَى: بَادرُوا بهَا الْخُرُوج من تِلْكَ الشدَّة مَا دَامَ بهَا نقي وفيهَا قُوَّة.
والتعريس: نزُول آخر اللَّيْل.
وَقَوله: ((فَاجْتَنبُوا الطّرق)) أَي لَا تنزلوا على الْجواد.
2135 - / 2668 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث والثمانين: ((لَا تصْحَب(3/563)
الْمَلَائِكَة رفْقَة فِيهَا كلب أَو جرس)) .
أما الْكَلْب فلنجاسته. وَأما الجرس فَلِأَن صَوته يشغل الْقلب فيذهله عَن الْفِكر فِي الْخَبَر، وَرُبمَا أطرب، وَلذَلِك سَمَّاهَا: ((مَزَامِير الشَّيْطَان)) .
2136 - / 2670 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين: ((الْأَرْوَاح جنود مجندة، فَمَا تعارف مِنْهَا ائتلف، وَمَا تناكر مِنْهَا اخْتلف)) .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: معنى الحَدِيث الْإِخْبَار عَن مُبْتَدأ كَون الْأَرْوَاح وتقدمها الأجساد الَّتِي هِيَ ملابستها على مَا رُوِيَ فِي الحَدِيث: ((إِن الله خلق الْأَرْوَاح قبل الأجساد بِكَذَا وَكَذَا)) فَأعْلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا خلقت أول مَا خلقت على قسمَيْنِ من ائتلاف وَاخْتِلَاف، كالجنود المجندة إِذا تقابلت وتواجهت. وَمعنى تقَابل الْأَرْوَاح مَا جعلهَا الله عَلَيْهِ من السَّعَادَة والشقاوة من مبدأ الْكَوْن، الأجساد الَّتِي فِيهَا الْأَرْوَاح تلتقي فِي الدُّنْيَا فتأتلف وتختلف على حسب مَا جعلت عَلَيْهِ من التشاكل والتنافر فِي بَدْء الْخلقَة، فترى الْبر الْخَيْر يحب شكله وينفر عَن ضِدّه، وَكَذَلِكَ الْفَاجِر. وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْأَرْوَاح لَيست بأعراض؛ فَإِنَّهَا قد كَانَت مَوْجُودَة قبل الأجساد، وَأَنَّهَا تبقى بعد فنَاء الأجساد. وَيُؤَيّد هَذَا قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: ((أَرْوَاح الشُّهَدَاء فِي حواصل طير خضر تعلق من(3/564)
شجر الْجنَّة)) .
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ((النَّاس معادن)) وَقد سبق تَفْسِيره.
2137 - / 2671 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين: ((إِذا قَامَ أحدكُم من مَجْلِسه ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَق بِهِ)) .
وَهَذَا لِأَن الْمجْلس لمن جلس فِيهِ، ولابد أَن يعرض للْإنْسَان حوائج لَازِمَة، فَجعل عِنْد الذّهاب فِيهَا كَأَنَّهُ لم يرح.
2138 - / 2672 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّمَانُونَ: قد سبق فِي مُسْند سعد.
2139 - / 2673 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ: قد تكلمنا عَلَيْهِ فِي مُسْند ابْن عمر.
2140 - / 2674 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع والثمانين: ((من قتل وزغة فِي أول ضَرْبَة فَلهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَة، وَمن قَتلهَا فِي الضَّرْبَة الثَّانِيَة فَلهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَة)) لدوّنَ الأولى.
كَأَن الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى توقير ثَوَاب الْإِقْدَام والشجاعة على الضعْف والجبن.(3/565)
2141 - / 2675 - وَفِي الحَدِيث التسعين: ((لَا يَجْزِي ولد عَن وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه)) .
اعْلَم أَن من اشْترى أَبَاهُ عتق عَلَيْهِ بِنَفس الشرى من غير أَن يتَلَفَّظ بِالْعِتْقِ، وَإِنَّمَا ذكر الْعتْق بعد الشرى لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ تسبب إِلَى الْعتْق، وَهَذَا مَذْهَب الْجُمْهُور، إِلَّا أَن دَاوُد أَخذ بِظَاهِر الحَدِيث وَقَالَ: لَا يعْتق عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ حَتَّى يعتقهُ. وَكَانَ ابْن عقيل يستحسن مَذْهَب دَاوُد فِي هَذَا وَيَقُول: مَا أحسن مَا قَالَ؛ لِأَن لفظ الحَدِيث مَعَه، وَالْمعْنَى أَيْضا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجزى إِذا أعتق. قَالَ: وَنحن نقُول: إِذا تسبب فِي الْعتْق كَانَ حرا.
2142 - / 2676 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالتسْعين: ((منعت الْعرَاق درهمها وقفيزها)) .
الْمَعْنى: ستمنع، فَلَمَّا كَانَ إِخْبَارًا عَن متحتم الْوُقُوع حسن الْإِخْبَار عَنهُ بِلَفْظ الْمَاضِي تَحْقِيقا لكَونه، يدل عَلَيْهِ أَنه فِي بعض الْأَلْفَاظ: ((كَيفَ أَنْتُم إِذا لم تجتبوا دِينَارا وَلَا درهما)) ، وَقد كَانَ بعض الْعلمَاء يَقُول: إِنَّمَا منعُوا هَذَا لأَنهم أَسْلمُوا. قَالَ: وَهَذَا إِخْبَار عَن إِجْمَاع الْكل على الْإِسْلَام. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَنَّهُ قد سبق صَرِيحًا فِي هَذَا الْمسند فِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين من أَفْرَاد البُخَارِيّ: قَالَ(3/566)
أَبُو هُرَيْرَة: كَيفَ أَنْتُم إِذا لم تجتبوا دِينَارا وَلَا درهما. قيل: وَكَيف؟ قَالَ: تنهتك ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله، فيشد الله قُلُوب أهل الذِّمَّة فيمنعون مَا فِي أَيْديهم. وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى الحَدِيث أَن هَذِه الْبِلَاد ستفتح للْمُسلمين وَيُوضَع عَلَيْهَا الْخراج شَيْئا مُقَدرا بالمكاييل والأوزان، وسيمنع ذَلِك فِي آخر الزَّمَان.
والمدي: مكيال لأهل الشَّام، يُقَال: إِنَّه يسع خَمْسَة عشر مكوكا.
والإردب: مكيال لأهل مصر، يُقَال: إِنَّه يسع أَرْبَعَة وَعشْرين صَاعا.
2143 - / 2682 - وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى الحَدِيث السَّابِع وَالتسْعين، وَفِيه: ((صنفان من أهل النَّار لم أرهما: قوم مَعَهم سياط كأذناب الْبَقر يضْربُونَ بهَا النَّاس، وَنسَاء كاسيات عاريات)) .
الْإِشَارَة بأصحاب السِّيَاط يشبه أَن يكون للظلمة من أَصْحَاب الشَّرْط.
وَفِي قَوْله: ((كاسيات عاريات)) ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنَّهُنَّ يلبسن ثيابًا رقاقا تصف مَا تحتهَا، فهن كاسيات فِي الظَّاهِر، عاريات فِي الْمَعْنى. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ يكشفن بعض أجسامهن، فهن عاريات، أَي بَعضهنَّ منكشف. وَالثَّالِث: كاسيات من نعم الله عز وَجل عاريات من الشُّكْر.
وَفِي قَوْله: ((مائلات مميلات)) أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْمَعْنى(3/567)
وَاحِد، كَمَا يُقَال: جاد مجد. وَالثَّانِي: مائلات إِلَى الشَّرّ مميلات للرِّجَال إِلَى الإفتتان بِهن. وَالثَّالِث: مائلات زائغات عَن طَاعَة الله، مميلات: أَي معلمات غَيْرهنَّ الدُّخُول فِي مثل فعلهن. وَالرَّابِع: مائلات: أَي متبخترات فِي مشيتهن، مميلات أعطافهن وأكتافهن.
قَوْله: ((رؤوسهن كأسنمة البخت)) فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهُنَّ يعظمن رؤوسهن بِمَا يصلنه من الشّعْر وبالخمر عَلَيْهِنَّ فَيُشبه أسنمة البخت فِي ارتفاعها. وَالثَّانِي: أَنَّهُنَّ يطمحن إِلَى الرِّجَال وَلَا يغضضن، وَلَا ينكسن رؤوسهن.
وَقَوله: ((لم أرهما)) أَي سَيكون بعدِي.
2144 - / 2684 - وَقد سبق الحَدِيث الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ.
2145 - / 2685 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالتسْعين: ((لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّار اجتماعا يضر أَحدهمَا الآخر)) قيل: من هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: ((مُؤمن قتل كَافِرًا ثمَّ سدد)) .
الْمَعْنى أَنه إِن دخل الْمُؤمن النَّار بمعاصيه أخرج، فَلَا يتساوى مكثه وَمكث الْكَافِر، وَلَا يجْتَمع مَعَه فِيمَا هُوَ فِيهِ.
2146 - / 2686 - وَفِي الحَدِيث الأول بعد الْمِائَة: ((من سَأَلَ النَّاس(3/568)
أَمْوَالهم تكثرا)) .
والتكثر: مَا فَوق الْحَاجة.
2147 - / 2687 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي بعد الْمِائَة: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكره الشكال من الْخَيل.
الشكال فِي الْفرس: أَن يكون فِي رجله الْيُمْنَى بَيَاض، وَفِي يَده الْيُسْرَى أَو فِي يَده الْيُمْنَى وَرجله الْيُسْرَى. وَقد جَاءَ هَذَا مُبينًا فِي الحَدِيث عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ أَن يكون ثَلَاث قَوَائِم مِنْهُ محجلة وَوَاحِدَة مُطلقَة، أَخذ من الشكال الَّذِي تشكل بِهِ الْخَيل لِأَنَّهُ يكون فِي ثَلَاث قَوَائِم، أَو تكون الثَّلَاث مُطلقَة وَرجل محجلة، وَلَا يكون الشكال إِلَّا فِي الرجل، لَا يكون فِي الْيَد.
2148 - / 2688 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث بعد الْمِائَة: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا هُوَ بِأبي بكر وَعمر فَقَالَ: ((مَا أخرجكما؟)) قَالَا: الْجُوع. قَالَ: ((وَأَنا)) .
إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ أظهرُوا مَا كِتْمَانه أفضل؟ فَالْجَوَاب: أَن أَبَا بكر وَعمر لم يبدآ بِذكر ذَلِك، إِنَّمَا سَأَلَهُمَا عَن سَبَب خروجهما، والصدق وَاجِب، وكتمان الْحَال فَضِيلَة، فآثرا فعل الْوَاجِب. على أَنه إِنَّمَا(3/569)
يكتم مثل هَذَا لخوف رِيَاء وَسُمْعَة، وَأما إِذا أظهر لمثل الرَّسُول، أَو لمريد يقْصد الإتباع والإقتداء فَلَا بَأْس بِهِ. وَأما قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((وَأَنا)) فَإِنَّهُ مِمَّا قواهما بِهِ على مَا هما فِيهِ، فَجمع فِي إخبارهما بِحَالهِ شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يصبرا، فقد ابْتُلِيَ هُوَ. وَالثَّانِي: أَن يبشرهما بِأَنَّهُ قد سلك بكما فِي طريقي.
وَأما الرجل الَّذِي أَتَوْهُ فَهُوَ أَبُو الْهَيْثَم مَالك بن التيهَان، شهد الْعقبَة مَعَ السّبْعين، وَهُوَ أحد النُّقَبَاء الإثني عشر، وَشهد بَدْرًا وأحدا والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَوله: مرْحَبًا وَأهلا، الْمَعْنى: أتيت رحبا: أَي سَعَة، وَأهلا أَي: أتيت أَهلا لَا غربا، فأمن وَلَا تستوحش. وَيَقُولُونَ أَيْضا: وسهلا، أَي أتيت سهلا لَا حزنا، وَهَذَا كُله فِي مَذْهَب الدُّعَاء، كَمَا تَقول: لقِيت خيرا.
وَقَوْلها: يستعذب: أَي يطْلب المَاء العذب.
والعذق بِكَسْر الْعين: الكباسة، وَهُوَ الَّذِي تسميه الْعَامَّة العثق.
والمدية: السكين.
والحلوب: ذَات الدّرّ وَاللَّبن.
وَقَوله: ((لتسألن)) أَي عَن شكر هَذَا، فَإِن تسهيل حُصُوله وسهولة تنَاوله من النعم الَّتِي يَنْبَغِي أَن تشكر.(3/570)
2149 - / 2689 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع بعد الْمِائَة: ((تقيء الأَرْض أفلاذ كَبِدهَا أَمْثَال الأسطوان من الذَّهَب وَالْفِضَّة)) .
أَي تخرج الْكُنُوز المدفونة فِيهَا. قَالَ ابْن السّكيت: الفلذ لَا يكون إِلَّا للبعير، وَهُوَ قِطْعَة من كبده، وفلذة وَاحِدَة، وَجَمعهَا فلذ وأفلاذ: وَهِي الْقطع المقطوعة طولا. وَسمي مَا فِي بَاطِن الأَرْض كبدا تَشْبِيها بالكبد الَّذِي فِي بطن الْبَعِير، وَكَذَلِكَ قَوْله تقيء، وقيئها: إخْرَاجهَا.
والأسطوان: العمود، والأساطين: الأعمدة. وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا قبيل الْقِيَامَة وهم فِي شغل، وَيحْتَمل أَن يكون فِي الْقِيَامَة.
2150 - / 2690 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس بعد الْمِائَة: ((ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله: شيخ زَان، وَملك كَذَّاب، وعائل مستكبر)) .
هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة أبعد النَّاس مِمَّا تعاطوه، فَإِن شبق الشَّبَاب يغلب أَصْحَابه فيقصدون قَضَاء الوطر لَا الْمُخَالفَة، وَالشَّيْخ إِنَّمَا يَزْنِي على تكلّف، فالمعصية فِي حَقه أقوى من الإلتذاذ. وَأما الْملك فَلَيْسَ فَوْقه أحد يحْتَاج إِلَى مكاذبته، فقد أَتَى ذبنا لَا معنى لَهُ. والعائل: الْفَقِير، والتكبر مَعَ الْفقر لَا وَجه لَهُ. وَهَذِه الذُّنُوب قبيحة مِمَّن كَانَت، وَلكنهَا من هَؤُلَاءِ أقبح، كَمَا أَن الْمعاصِي من كل أحد قبيحة، لَكِنَّهَا من الْعلمَاء أقبح.(3/571)
2151 - / 2691 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس بعد الْمِائَة: ((إِن الله طيب لَا يقبل إِلَّا طيبا)) .
هَذَا إِخْبَار عَن كَمَال صِفَاته الَّتِي لَا يدخلهَا نقص وَلَا عيب، كَمَا أَن الله جميل.
وَقَوله: ((لَا يقبل إِلَّا طيبا)) يَعْنِي بِهِ الْحَلَال.
والأشعث: الَّذِي قد تغير شعر رَأسه وَتَلَبَّدَ لبعد عَهده بالدهن والإمتشاط.
وَقد بَين الحَدِيث أَن أكل الْحَرَام يمْنَع من إِجَابَة الدُّعَاء، وَنبهَ على أَن جَمِيع الْمعاصِي تمنع.
2152 - / 2692 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع بعد الْمِائَة: قَالَ أَبُو جهل: هَل يعفر مُحَمَّد وَجهه بَين أظْهركُم؟
تعفير الْوَجْه: إلصاقه بِالتُّرَابِ، وَيُقَال للتراب العفر.
وَقَوله: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ أَي: فَمَا بادرهم مِنْهُ إِلَّا نكوصه على عقبه. وينكص: يرجع إِلَى خَلفه.
والعقب: مُؤخر الْقدَم.
والإختطاف: الإستلاب بِسُرْعَة.(3/572)
و {كلا} بِمَعْنى حَقًا. و {الْإِنْسَان} هَا هُنَا أَبُو جهل، كَانَ إِذا أصَاب مَالا أشر وبطر فِي لِبَاسه ومراكبه وَطَعَامه. {أَن رَآهُ} أَي أَن رأى نَفسه.
و {الرجعى} الْمرجع.
{أَرَأَيْت} تعجيب للمخاطب، وَإِنَّمَا كررها لتأكيد التعجيب.
وَالْمرَاد بالناهي أَو جهل. وَكَانَ قد رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فَقَالَ: ألم أَنْهَك عَن هَذَا؟ وَالْمرَاد بِالْعَبدِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أَرَأَيْت إِن كَانَ الْمنْهِي عَن الْهدى، أَرَأَيْت إِن كذب الناهي. قَالَ الْفراء: الْمَعْنى: أَرَأَيْت الَّذِي ينْهَى عبدا إِذا صلى وَهُوَ كَاذِب مول عَن الذّكر، فَأَي شَيْء أعجب من هَذَا؟ وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: تَقْدِيره: أرأيته مصيبا؟ ألم يعلم - يَعْنِي أَبَا جهل - بِأَن الله يرى ذَلِك فيجازيه؟ {كلا} أَي لَا يعلم ذَلِك {لَئِن لم ينْتَه} عَن تَكْذِيب مُحَمَّد وَشَتمه وإيذائه {لنسفعا بالناصية} والسفع: الْأَخْذ. والناصية: مقدم الرَّأْس. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: سفعت بِيَدِهِ: أَي أخذت بهَا.
وَقَالَ الزّجاج: يُقَال: سفعت بالشَّيْء: إِذا قبضت عَلَيْهِ وجذبته جذبا شَدِيدا. وَالْمعْنَى: ليجزن ناصيته إِلَى النَّار.
قَوْله: {نَاصِيَة} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هِيَ بدل فَلذَلِك جرها. وَقَالَ الزّجاج: الْمَعْنى بناصية. صَاحبهَا كَاذِب خاطىء، كَمَا يُقَال: نَهَاره(3/573)
صَائِم وليله قَائِم، أَي هُوَ صَائِم فِي نَهَاره وقائم فِي ليله.
{فَليدع نَادِيه} أَي أهل نَادِيه، وهم أهل مَجْلِسه فليستنصر بهم.
{سَنَدع الزَّبَانِيَة} قَالَ عَطاء: هم الْمَلَائِكَة الْغِلَاظ الشداد. وَقَالَ مقَاتل: هم خَزَنَة جَهَنَّم. وَقَالَ قَتَادَة: الزَّبَانِيَة فِي كَلَام الْعَرَب: الشَّرْط. وَقَالَ الْفراء: كَانَ الْكسَائي يَقُول: لم أسمع للزبانية بِوَاحِد، ثمَّ قَالَ بِأخرَة: وَاحِد الزَّبَانِيَة زبني، فَلَا أَدْرِي أقياسا مِنْهُ أم سَمَاعا.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَاحِد الزَّبَانِيَة زبنية: وَهُوَ كل متمرد من إنس أَو جَان.
وَيُقَال: فلَان زبنية عفرية. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ مَأْخُوذ من الزَّبْن: وَهُوَ الدّفع، كَأَنَّهُمْ يدْفَعُونَ أهل النَّار إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن دُرَيْد: الزَّبْن: الدّفع، يُقَال: نَاقَة زبون، إِذا زبنت حالبها ودفعته برجلها، وتزابن الْقَوْم: تدارؤوا.
وَقَوله: {كلا} أَي لَيْسَ الْأَمر على مَا عَلَيْهِ أَبُو جهل. {لَا تطعه} فِي ترك الصَّلَاة. {واسجد} أَي صل لله {واقترب} إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ. هَذَا قَول الْجُمْهُور: أَن قَوْله: {واقترب} خطاب للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقد قيل: إِنَّه خطاب لأبي جهل، ثمَّ فِي الْمَعْنى قَولَانِ: أَحدهمَا: اسجد أَنْت يَا مُحَمَّد واقترب أَنْت يَا أَبَا جهل من النَّار، قَالَه زيد بن أسلم. وَالثَّانِي: واقترب أَنْت يَا أَبَا جهل من مُحَمَّد، تهددا لَهُ: أَي لَو اقْتَرَبت لهلكت.
2153 - / 2693 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن بعد الْمِائَة: ((ضرس الْكَافِر -(3/574)
أَو نَاب الْكَافِر - مثل أحد، وَغلظ جلده مسيرَة ثَلَاث)) .
فِي تَعْظِيم خلق أهل النَّار خمس فَوَائِد: إِحْدَاهُنَّ: زِيَادَة عَذَابهمْ، لِأَنَّهُ كلما عظم الْعُضْو كثر عَذَابه لاتساع محَال الْأَلَم. وَالثَّانيَِة: لتشويه الْخلقَة. وَالثَّالِثَة: ليزدحموا، فَإِن الإزدحام نوع عَذَاب، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مُقرنين فِي الأصفاد} [إِبْرَاهِيم: 49] وَالرَّابِعَة: ليستوحش بَعضهم من بَعضهم، فَإِن الْأَشْخَاص الهائلة المستبشعة عَذَاب أَيْضا.
وَالْخَامِسَة: أَن يكون جَمِيع أَجزَاء الْكَافِر الَّتِي انفصلت مِنْهُ فِي الدُّنْيَا حَال كفره أُعِيدَت إِلَيْهِ لتذوق جَمِيع أَجْزَائِهِ الْعَذَاب.
2154 - / 2696 - والْحَدِيث الْحَادِي عشر بعد الْمِائَة: قد سبق فِي مُسْند ابْن عمر.
2155 - / 2700 - والْحَدِيث الْخَامِس عشر بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند أبي الدَّرْدَاء.
2156 - / 2703 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر بعد الْمِائَة: تَذَاكرنَا لَيْلَة الْقدر عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: ((أَيّكُم يذكر حِين طلع الْقَمَر وَهُوَ مثل شقّ جَفْنَة)) .(3/575)
الشق: النّصْف. والجفنة: جَفْنَة الطَّعَام. شبه الْقَمَر فِيمَا بعد الْعشْرين بشق الْجَفْنَة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ لَيْلَة سبع وَعشْرين.
2157 - / 2704 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر بعد الْمِائَة: ((فَإِن فِي عُيُون الْأَنْصَار شَيْئا)) .
يَعْنِي بعض مَا لَا يسْتَحبّ من زرقة أَو صغر أَو نَحْو ذَلِك.
والأواقي جمع أُوقِيَّة، وَقد ذكرنَا وَزنهَا فِي مُسْند جَابر.
وَعرض الْجَبَل: جَانِبه.
2158 - / 2706 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ سمع وجبة.
الوجبة: السقطة من علو إِلَى أَسْفَل بِصَوْت مزعج كصوت الْهدم، يُقَال: وَجب الْحَائِط.
وَقَوله: يهوي فِي النَّار: أَي يسْقط، يُقَال: هوى الشَّيْء: كَأَنَّهُ ألقِي فِي هوة بِسُرْعَة. والمهواة: الحفرة الْبَعِيدَة القعر، والقعر: نِهَايَة عمق الشَّيْء.
2159 - / 2708 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل فليفتتح الصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ خفيفتين)) .
إِنَّمَا أَمر بِهَذَا لتدريج الْبدن إِلَى الْعِبَادَة لِئَلَّا يهجم على التَّطْوِيل فِي(3/576)
أول مرّة.
2160 - / 2710 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((أَن رجلا زار أَخا لَهُ فِي قَرْيَة أُخْرَى، فأرصد الله تَعَالَى على مدرجته ملكا فَقَالَ: هَل لَك عَلَيْهِ من نعْمَة تربها؟)) .
أرصد: أَقَامَ رصدا: أَي منتظرا لَهُ.
والمدرجة: الطَّرِيق، وَجَمعهَا مدارج.
وتربها: تراعيها لتدوم لَك.
وَفِي هَذَا الحَدِيث فضل زِيَارَة الإخوان، وَهَذَا أَمر بَقِي اسْمه وَذهب رسمه، فَإِن الإخوان فِي الله عز وَجل أعز من الكبريت الْأَحْمَر، وَكَانَ أَبُو الْحسن بن الفاعوس الزَّاهِد ينشد:
(مَا هَذِه الْألف الَّتِي قد زدتم ... فدعوتم الخوان بالإخوان)
(مَا صَحَّ لي أحد أصيره أَخا ... فِي الله حَقًا لَا وَلَا الشَّيْطَان)
(إِمَّا مول عَن ودادي مَا لَهُ ... وَجه، وَإِمَّا من لَهُ وَجْهَان)
2161 - / 2711 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((يَقُول الله عز وَجل: مَرضت فَلم تعدني)) .
لما أَقَامَ الْمُؤمن ربه عز وَجل مقَام نَفسه كَمَا أخبر عَنهُ فِي قَوْله:(3/577)
((فَكنت سَمعه الَّذِي يسمع بِهِ، وبصره الَّذِي يبصر بِهِ)) أَقَامَ الْحق عز وَجل نَفسه مقَام عَبده فَقَالَ: ((مَرضت)) أَي مرض عَبدِي، وَهَذَا من بَاب الْكَرم فِي الْجَزَاء ومقابلة الشَّيْء بِأَفْضَل مِنْهُ، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فاذكروني أذكركم} [الْبَقَرَة: 152] وَقَوله: ((من ذَكرنِي فِي نَفسه ذكرته فِي نَفسِي)) .
2162 - / 2712 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين بعد الْمِائَة: ((كَانَ زَكَرِيَّا نجارا)) .
اعْلَم أَن الْأَنْبِيَاء لما بعثوا داعين لِلْخلقِ إِلَى الْحق عز وَجل لم يطلبوا من الْخلق جَزَاء، وَلم يكن بُد من الجريان مَعَ الْأَسْبَاب، فاشتغل كل مِنْهُم بِسَبَب، فَكَانَ آدم حراثا، ونوح نجارا، وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا، وَإِدْرِيس خياطا، وَكَذَلِكَ لُقْمَان، وَدَاوُد زرادا، وَإِبْرَاهِيم زراعا، وَكَذَلِكَ لوط، وَصَالح تَاجِرًا، ومُوسَى وَشُعَيْب وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رُعَاة، وَهَذِه سيرة الْعلمَاء من بعدهمْ وَالصَّالِحِينَ، فَكَانَ أَبُو بكر الصّديق وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَطَلْحَة وَابْن سِيرِين وَمَيْمُون بن مهْرَان بزازين، وَكَانَ الزبير وَعَمْرو بن الْعَاصِ وعامر بن كريز جزارين، وَكَانَ سعد بن أبي وَقاص يبري النبل، وَعُثْمَان بن طَلْحَة الحَجبي خياطا، وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ يَبِيع السختيان - وَيُونُس ابْن عبيد جزارا، وَمَالك بن دِينَار وراقا يكْتب الْمَصَاحِف، وَكَانَ سعيد(3/578)
ابْن الْمسيب يحتكر الزَّيْت، وسُفْيَان الثَّوْريّ يباضع.
وَاعْلَم أَن الإشتغال بِالْكَسْبِ والتسبب إِلَى الْغنى عَن النَّاس يحفظ الدّين، وَيمْنَع من الرِّيَاء، وَيكون أدعى إِلَى قبُول القَوْل. وَقد سبق مدح الْكسْب وَالْمَال فِي مُسْند أبي سعيد، وَالله الْمُوفق.
2163 - / 2715 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل فاستعجم الْقُرْآن على لِسَانه فليضطجع)) .
استعجم بِمَعْنى لم يتَوَجَّه لَهُ فِيهِ وَجه الْقِرَاءَة، يُقَال: استعجم: إِذا لم يفهم.
2164 - / 2716 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((أَيّمَا قَرْيَة أتيتموها وأقمتم فِيهَا فسهمكم فِيهَا، وَأَيّمَا قَرْيَة عَصَتْ الله وَرَسُوله فَإِن خمسها لله وَلِرَسُولِهِ ثمَّ هِيَ لكم)) .
أما الْقرْيَة الَّتِي يأتونها ويقيمون فِيهِ فَهِيَ مَا فتح صلحا، وَذَلِكَ على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يصالحونا على أَن ملك الأَرْض لنا ونقرها فِي أَيْديهم بالخراج، فَهَذِهِ تصير وَقفا بَين الْمُسلمين. وَالثَّانِي: أَن نصالحهم على أَن ملكهَا لَهُم وَلنَا الْخراج عَنْهَا، فَهَذَا الْخراج فِي حكم الْجِزْيَة.
وَأما الْقرْيَة الَّتِي عَصَتْ الله فَهِيَ الَّتِي تفتح عنْوَة، فَحكمهَا حكم الْغَنِيمَة، وَالْغنيمَة تقسم خَمْسَة أَخْمَاس: فَخمس مِنْهَا لله وَلِلرَّسُولِ(3/579)
يقسم على خَمْسَة أسْهم: سهم لله وَلِلرَّسُولِ يصرف فِي الْمصَالح، وَسَهْم لِذَوي الْقُرْبَى وهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَسَهْم لِلْيَتَامَى والفقراء، وَسَهْم للْمَسَاكِين، وَسَهْم لأبناء السَّبِيل، وَأَرْبَعَة أخماسها لمن شهد الْوَقْعَة، وَهُوَ معنى قَوْله ((لكم)) .
وَقَوله: ((أتيتموها وأقمتم فِيهَا)) أَي فتحتموها صلحا.
2165 - / 2717 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((خلق الله الْبَريَّة يَوْم السبت)) .
الْبَريَّة: الأَرْض. وَذكر ابْن جرير وَغَيره من الْعلمَاء أَن كل يَوْم من هَذِه الْأَيَّام مِقْدَاره ألف سنة، وَلَا أَدْرِي لم قَالُوا هَذَا، وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ من قَوْله تَعَالَى: {ويستعجلونك بِالْعَذَابِ وَلنْ يخلف الله وعده وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة مِمَّا تَعدونَ} [الْحَج: 47] وَتلك إِشَارَة إِلَى أَيَّام الْآخِرَة. فَأَما الْأَيَّام الَّتِي هِيَ السبت والأحد. . فَهِيَ الَّتِي عرف مقدارها.
فَإِن قيل: فالقرآن يدل على أَن خلق الْأَشْيَاء فِي سِتَّة أَيَّام، وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَنَّهَا فِي سَبْعَة.
فَالْجَوَاب: أَن السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا خلق فِي سِتَّة أَيَّام، وَخلق آدم من الأَرْض، وَالْأُصُول خلقت فِي سِتَّة، وآدَم كالفرع من بَعْضهَا.
2166 - / 2718 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: قَالَ(3/580)
أَبُو هُرَيْرَة: إِنَّمَا أتوضأ فِي أثوار أقط أكلتها، لِأَنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: ((توضأوا مِمَّا مست النَّار)) .
الأثوار جمع ثَوْر. والثور: الْقطعَة من الأقط: والأقط شَيْء يعْمل من اللَّبن ويجفف. وَهَذَا الحَدِيث مَنْسُوخ، روى ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل عرقا أَو كَتفًا ثمَّ مضى إِلَى الصَّلَاة وَلم يتَوَضَّأ.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل اللَّحْم ثمَّ يقوم إِلَى الصَّلَاة وَلم يمس مَاء. وَقد أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن أَحْمد الْخياط قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن حَمْزَة قَالَ: أَنبأَنَا يزِيد بن عبد الصَّمد قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عَيَّاش قَالَ: أخبرنَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر قَالَ: كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك الْوضُوء مِمَّا مست النَّار. وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّد بن مسلمة.
2167 - / 2719 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((ليهلن ابْن مَرْيَم بفج الروحاء)) .
والإهلال: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ.(3/581)
وَقَوله: ((أَو ليثنيهما)) أَي يجمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة.
2168 - / 2720 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((بَينا رجل بفلاة)) .
الفلاة: الْمَفَازَة، وَالْجمع فلوات وفلا.
والحديقة: الأَرْض ذَات النّخل وَالشَّجر.
والسحاب: الْغَمَام، سمي سحابا لإنسحابه فِي الْهَوَاء.
والحرة: أَرض ذَات حِجَارَة سود.
والشراج: مسايل المَاء من الأَرْض المرتفعة إِلَى السهل، وَاحِدهَا شرج وشرجة.
والمسحاة مَأْخُوذَة من السحو، تَقول: سحوت الشَّيْء أسحاه وأسحوه: إِذا قشرته، سحوا وسحيا، فَأَنا أسحى وأسحي وأسحو، ثَلَاث لُغَات.
2722 - / 2169 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((من صلى صَلَاة لم يقْرَأ فِيهِ بِفَاتِحَة الْكتاب فَهِيَ خداج)) .
قَالَ أَبُو عبيد: معنى خداج نُقْصَان، مثل خداج النَّاقة إِذا ولدت ولدا نَاقص الْخلق أَو لغير تَمام، يُقَال: خدجت النَّاقة: إِذا أَلْقَت وَلَدهَا قبل أَوَان النِّتَاج وَإِن كَانَ تَامّ الْخلق، وأخدجت: إِذا ألقته نَاقص الْخلق وَإِن كَانَ لتَمام الْحمل، وَمِنْه قيل لذِي الثدية: إِنَّه مُخْدج الْيَد:(3/582)
أَي ناقصها. قَالَ الزّجاج: خدجت النَّاقة وأخدجت بِمَعْنى، وَهُوَ أَن تلقي وَلَدهَا لغير تَمام. وَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: قَوْله: ((فَهِيَ خداج)) أَي فَهِيَ ذَات خداج: أَي ذَات نُقْصَان فحذفت ذَات وأقيم الخداج مقَامهَا على مَذْهَبهم فِي الإختصار. قَالَ: وَيجوز أَن يكون خداج بِمَعْنى مخدجة: أَي نَاقِصَة، فأحل الْمصدر مَحل الْفِعْل، كَمَا قَالُوا: عبد الله إقبال وإدبار، يُرِيدُونَ: مقبل ومدبر.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على تعْيين الْفَاتِحَة، فَإِن الصَّلَاة النَّاقِصَة بَاطِلَة.
وَقَوله: ((قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي)) يُرِيد بِالصَّلَاةِ الْقِرَاءَة، وَلِهَذَا فسره بقوله: ((فَإِذا قَالَ العَبْد: الْحَمد لله)) وَبَيَان الْقِسْمَة أَن نصف الْفَاتِحَة ثَنَاء على الله عز وَجل، فَهُوَ يخْتَص بِهِ، وَنِصْفهَا دُعَاء فَهُوَ يخْتَص بِالْعَبدِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الْبَسْمَلَة لَيست من الْفَاتِحَة، من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه ابْتَدَأَ بقوله: ((الْحَمد)) وَلَو كَانَت الْبَسْمَلَة مِنْهُ لبدأ بهَا. وَالثَّانِي: أَنه قسمهَا نِصْفَيْنِ، فَجعل نصفهَا ثَنَاء وَنِصْفهَا دُعَاء، وَلَو كَانَت الْبَسْمَلَة مِنْهَا كَانَت آيَات الثَّنَاء أَرْبعا وَنصفا، وآيات الدُّعَاء اثْنَتَيْنِ وَنصفا.(3/583)
2170 - / 2723 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((لَا يغْتَسل أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم وَهُوَ جنب)) .
الدَّائِم: الْوَاقِف، وَلَا يَخْلُو أَن يكون دون الْقلَّتَيْنِ، فَإِنَّهُ يصير باغتسال الْجنب فِيهِ مُسْتَعْملا، فَيمْتَنع رفع الْأَحْدَاث بِهِ، أَو يزِيد على الْقلَّتَيْنِ فدوام اغتسال الْجنب مِنْهُ يُوجب استقذاره.
2171 - / 2724 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: ((فذلكم الرِّبَاط)) .
أَي قَائِم مقَام المرابطة فِي الْجِهَاد. وأصل الرِّبَاط أَن يرْبط هَؤُلَاءِ خيولهم وَهَؤُلَاء خيولهم.
2172 - / 2725 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين بعد الْمِائَة: ((لَا يَنْبَغِي لصديق أَن يكون لعانا)) .
الصّديق: من تكَرر مِنْهُ الصدْق. وَاللّعان: من تكَرر مِنْهُ اللَّعْن، فَلَا تصلح هَذِه الْحَال لصَاحب هَذِه الْحَال.
2173 - / 2727 - والْحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بعد الْمِائَة: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عمر.
2174 - / 2728 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((أَو(3/584)
أعْطى فاقتنى)) أَي ادخره لنَفسِهِ فِي الْآخِرَة.
2175 - / 2730 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((يَبِيع دينه بِعرْض الدُّنْيَا)) .
الْعرض: مَا يعرض من الدُّنْيَا، وَيدخل فِيهِ جَمِيع المَال.
2176 - / 2731 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ بعد الْمِائَة: ((اتَّقوا اللاعنين)) قَالُوا: وَمَا اللاعنان؟ قَالَ: ((الَّذِي يتخلى فِي طَرِيق النَّاس أَو فِي ظلهم)) .
يتخلى: يَتَّخِذهُ خلاء لقَضَاء الْحَاجة، فَإِن ذَلِك سَبَب للعن من فعله، فَسمى الْمَكَان لاعنا لِأَنَّهُ سَبَب للعن.
وَطَرِيق النَّاس: الْموضع المطروق بِالْمَشْيِ فِيهِ.
وظلهم: كل مَا يَسْتَظِلُّونَ بِهِ من حَائِط أَو شَجَرَة.
2177 - / 2735 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين بعد الْمِائَة: ((لتؤدن الْحُقُوق إِلَى أَهلهَا يَوْم الْقِيَامَة)) .
أَصْحَاب الحَدِيث يضمون التَّاء ويفتحون الدَّال على مَا لم يسم فَاعله. وَأهل اللُّغَة يمْنَعُونَ من ذَلِك، قَالَ لي أَبُو مُحَمَّد الخشاب: لَا يجوز إِلَّا بِضَم الدَّال، لِأَنَّهَا لَو كَانَت مَفْتُوحَة لَكَانَ: لتؤدين بياء.(3/585)
فَإِن قيل: فَكيف يُقَال: لتؤدن أَنْتُم حَتَّى يُقَاد للشاة؟ فَالْجَوَاب: أَن هَذَا لجنس المخلوقين، الْمَعْنى: لتؤدن أَنْتُم يَا بني آدم حَتَّى يُقَاد للشاة.
والجلحاء: الَّتِي لَا قرن لَهَا.
والقرناء: ذَات الْقرن.
2178 - / 2736 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((مَا نقصت صَدَقَة من مَال)) .
قد اعْترض معترض فَقَالَ: كَيفَ يخبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يُنَافِي الْحَقَائِق، وَنحن نعلم أَن من تصدق من دِينَار بقيراط نقص؟ فَأجَاب الْعلمَاء فَقَالُوا: إِن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقْصد هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن الْبركَة تخلف الْجُزْء الْمُنْفَصِل فَيكون كَأَنَّهُ لم يزل. وَوَقع لي فِي هَذَا جَوَاب آخر ينطبق على أصل السُّؤَال، فَقلت: للْإنْسَان داران، فَإِذا نقل بعض مَاله بِالصَّدَقَةِ إِلَى الدَّار الْأُخْرَى لم ينقص مَاله حَقِيقَة، وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث: ((فيربيها لأحدكم حَتَّى تكون كالجبل)) وَصَارَ كمن بعث بعض مَاله إِلَى إِحْدَى داريه أَو قسمه فِي صندوقين، فيراد من هَذَا أَن مَا خرج مِنْك لم يخرج عَنْك.
وَقَوله: ((وَمَا زَاد الله عبدا بِعَفْو إِلَّا عزا)) وَذَاكَ لِأَن الْعَافِي فِي مقَام الْوَاهِب والمتصدق، فيعز بذلك.
وَقَوله: ((وَمَا تواضع أحد لله إِلَّا رَفعه الله)) أَي رفع قدره فِي الْقُلُوب(3/586)
لإخلاصه فِي التَّوَاضُع.
2179 - / 2737 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((المستبان مَا قَالَا فعلى البادئ مَا لم يعْتد الْمَظْلُوم)) .
وَهَذَا لِأَن البادئ ظَالِم بابتدائه بالسب، فَجَوَابه جَزَاء، فَإِذا اعْتدى الْمَظْلُوم كَانَ عَلَيْهِ إِثْم.
2180 - / 2738 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين بعد الْمِائَة: ((أَتَدْرُونَ مَا الْغَيْبَة؟ ذكر أَخَاك بِمَا يكره)) .
الْغَيْبَة: ذكر الْغَائِب بِمَا فِيهِ مِمَّا يكرههُ، وَإِذا لم يكن ذَلِك فِيهِ كَانَ بهتانا، والبهت: الْكَذِب الَّذِي يتحير مِنْهُ ويعجب من إفراطه، وَالْعرب تَقول: ((يَا للبهيتة)) .
وَقد سبق مَا بعد هَذَا وَمِنْه ظَاهر إِلَى:
2181 - / 2745 - الحَدِيث السِّتين بعد الْمِائَة: ((قَالَ الله تَعَالَى: ((من عمل عملا أشرك فِيهِ معي غَيْرِي تركته وشركه)) .
اعْلَم أَن الْأَعْمَال ثَلَاثَة: عمل خَالص لله، وَهُوَ مَا لم يقْصد بِهِ سواهُ، فَهَذَا المقبول. وَعمل لأجل الْخلق، لولاهم مَا عمل، فَهَذَا الْمَرْدُود، وَهُوَ المُرَاد بقوله فِي الحَدِيث الآخر: ((إِنَّمَا قَرَأت ليقال:(3/587)
فلَان قَارِئ)) . وَعمل يجْتَمع فِيهِ قصد الْحق والخلق، مثل أَن يُصَلِّي قَاصِدا للثَّواب ثمَّ يدرج فِي ضمن ذَلِك قصد مِدْحَة الْخلق، وَأَن يروه بِعَين التَّعَبُّد، فَهَذَا المُرَاد بالشرك فِي هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ إِلَى الرَّد أقرب.
2182 - / 2746 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((سِيرُوا، سبق المفردون)) قَالُوا: وَمَا المفردون؟ قَالَ: ((الذاكرون الله كثيرا وَالذَّاكِرَات)) .
هَذَا الحَدِيث يرْوى بِفَتْح الرَّاء وبكسرها، وَالْكَسْر أشهر. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: المفردون: الَّذين هلك أقرانهم ولداتهم وطالت أعمارهم فانفردوا لذكر الله عز وَجل وعبادته. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: هم المنقطعون عَن النَّاس لذكر الله عز وَجل، فكأنهم أفردوا أنفسهم للذّكر. والفارد والفرد فِي اللُّغَة: الثور الوحشي لإنفراده عَن الْإِنْس بالإنس. وَقَالَ غَيره: استولى عَلَيْهِم الذّكر فأفردهم عَن كل شَيْء إِلَّا عَن الله عز وَجل، فهم يفردونه بِالذكر وَلَا يضمون إِلَيْهِ سواهُ.
2183 - / 2747 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((فَكَأَنَّمَا(3/588)
يسفهم المل)) .
المل وَالْملَّة: التُّرَاب الْحَار والرماد. وَفِي معنى يسفهم قَولَانِ: أَحدهمَا: يسفي فِي وجههم. وَالثَّانِي: يُطعمهُمْ، وَهُوَ الْأَظْهر، من قَوْلك: سففت الدَّوَاء أسفه، وَالْمعْنَى: أَنَّك مَنْصُور عَلَيْهِم، فقد انْقَطع احتجاجهم عَلَيْك بِحَق الْقَرَابَة كَمَا يَنْقَطِع كَلَام من سف الْملَّة، وَمثل هَذَا قَول الْعَرَب: بفيك الإثلب: أَي الْحجر الَّذِي يسكت النَّاطِق، وَمَعَهُ هَذَا فقد دخل عَلَيْهِم الْإِثْم فِي أديانهم بِفعل مَا لَا يجوز فِي حَقك كَمَا يدْخل على من يتَنَاوَل الرماد الْحَار من الْأَلَم والتنغيص.
والظهير: العون.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا الحَدِيث إِلَى:
2184 - / 2750 - الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة وَفِيه: ((من خير معاش النَّاس لَهُم رجل مُمْسك عنان فرسه فِي سَبِيل الله، يطير على مَتنه كلما سمع هيعة أَو فزعة طَار عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْل مظانه. أَو رجل فِي رَأس شعفة)) .
المعاش: الْعَيْش.
ويطير على مَتنه: يسْرع بركضه وَهُوَ على ظَهره.
والهيعة: الصَّوْت المفزع الْمخوف من عَدو أَو غَيره، قَالَ الطرماح:(3/589)
(أَنا ابْن حماة الْمجد من آل مَالك ... إِذا جعلت خور الرِّجَال تهيع))
أَي تجبن وتضعف. والخور جمع خوار: وَهُوَ الضَّعِيف.
وَقَوله: ((يَبْتَغِي الْقَتْل مظانه)) أَي فِي مظانه. ومظان الشَّيْء: مَكَانَهُ الَّذِي يظنّ وجوده فِيهِ، أَو وقته. ومظنة الشَّيْء: معدنه.
والشعفة: الْوَاحِدَة من شعفات الْجبَال: وَهِي أعاليها. والشعبة وَالْجمع الشعاب: وَهِي الطّرق فِي الْجبَال.
2183 - / 2751 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعمى فَقَالَ: لَيْسَ لي قَائِد قَالَ: ((هَل تسمع النداء بِالصَّلَاةِ؟)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((فأجب)) .
الْأَعْمَى هُوَ ابْن أم مَكْتُوم.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على وجوب الْجَمَاعَة.
2186 - / 2752 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: ((لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بِقوم يذنبون فيستغفرون فَيغْفر لَهُم)) .
هَذَا دَلِيل على أَن المُرَاد من العَبْد الذل؛ فَإِن المذنب منكسر لذنبه، منكس الرَّأْس لجرمه، وَبِهَذَا يبين ذل الْعُبُودِيَّة وَيظْهر عز الربوبية، وَفِيه تَقْوِيَة لرجاء المذنب فِي الْعَفو.
2187 - / 2753 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالسِّتِّينَ بعد الْمِائَة: ((يقطع(3/590)
الصَّلَاة الْكَلْب وَالْمَرْأَة وَالْحمار)) وَقد تكلمنا على هَذَا فِي مُسْند أبي ذَر.
2188 - / 2576 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((لَا يفرك مُؤمن مُؤمنَة؛ إِن كره مِنْهَا خلقا رَضِي آخر)) .
الفرك بِكَسْر الْفَاء: البغض، يُقَال: فرك يفرك فركا، وَرجل مفرك: إِذا أبغضته النِّسَاء.
وَالْمرَاد من الحَدِيث أَن المؤمنة يحملهَا الْإِيمَان على اسْتِعْمَال خِصَال محمودة يُحِبهَا الْمُؤمن، فَيحمل مَا لَا يُحِبهُ لما يُحِبهُ.
2189 - / 2761 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((لَا يشربن أحد مِنْكُم قَائِما، فَمن نسي فليستقئ)) .
أَي فليستدع الْقَيْء. وَهَذَا مِمَّا يَدعِي قوم أَنه مَنْسُوخ. وَالصَّحِيح أَن الشّرْب قَائِما مَكْرُوه، وَذكر الْقَيْء للْمُبَالَغَة. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
2190 - / 2762 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسبْعين بعد الْمِائَة: ((سَيكون فِي آخر أمتِي أنَاس يحدثونكم بِمَا لم تسمعوا أَنْتُم وَلَا آباؤكم، فإياكم وإياهم)) .(3/591)
الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى الْكَذَّابين، ويوضحه أَن فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: ((يكون فِي آخر الزَّمَان دجالون كذابون يأتونكم من الْأَحَادِيث بِمَا لم تسمعوا)) وَفِي هَذَا تحذير من أهل الْكَذِب. وَإِنَّمَا يعرف الْكذَّاب من نقلة الحَدِيث بالبحث عَنهُ وَالنَّظَر فِيمَا قيل فِيهِ من قدح. وَقد تورع جمَاعَة من جهلة المتزهدين عَن سَماع الْقدح فِي الْكَذَّابين، قَالُوا: هَذَا غيبَة، وَلم يعلمُوا أَنه قصد لتصحيح الصَّحِيح وإفساد الْفَاسِد، وَلَوْلَا جهابذة النَّقْل لأدخل فِي الشَّرِيعَة مَا يُفْسِدهَا، وَلَقَد أدخلُوا وبالغوا، غير أَن الله تَعَالَى لَا يخلي كل زمن من ناقد يَنْفِي عَن الحَدِيث كذب الْكَذَّابين وتحريف الْجَاهِلين، حفظا لشريعته، وَالله غَالب على أمره.
2191 - / 2764 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالسبْعين بعد الْمِائَة: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أتيت حَائِطا فَلم أجد لَهُ بَابا، فَإِذا ربيع يدْخل، فاحتفرت فَدخلت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والحائط: الْبُسْتَان.
وَالربيع: الْجَدْوَل.
واحتفرت: افتعلت من الْحفر، فَكَأَنَّهُ حفر ليتسع لَهُ مَوضِع الدُّخُول.
وَقَوله: فَضرب بَين ثديي. الثديان معروفان. قَالَ الزّجاج:(3/592)
ومغرز الثدي يُقَال لَهُ الثندوة.
وأجهشت بالبكاء: أَي تهيأت لَهُ.
وركبني عمر: أَي لَحِقَنِي.
وَقَوله: أخْشَى أَن يتكل عَلَيْهَا النَّاس: أَي يقتنعون بهَا ويتركون التَّعَبُّد.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول بِرَأْيهِ، إِذْ لَو كَانَ أَمر بذلك عَن وَحي لما تَركه لقَوْل عمر.
وَفِي الحَدِيث تَنْبِيه على أَنه يَنْبَغِي للمصحوب أَن يحمل انبساط الصاحب إِذا علم صِحَة قَصده وَقُوَّة محبته، وَأَن عمر لم يقْصد خلاف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا رأى الْمصلحَة للْمُسلمين فَلذَلِك حمله وَلم يُنكر عَلَيْهِ.
2192 - / 2765 - وَفِي الحَدِيث الثَّمَانِينَ بعد الْمِائَة: ((الْخمر من هَاتين الشجرتين: النَّخْلَة والعنبة)) .
الْإِشَارَة إِلَى مُعظم مَا يتَّخذ مِنْهُ الْخمر. وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند عمر.
2193 - / 2766 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي والثمانين بعد الْمِائَة: أتيت أُمِّي فصرت إِلَى الْبَاب، فَإِذا هُوَ مُجَاف.(3/593)
المجاف: المغلق.
وخشف الْقدَم: صَوته وحركته.
وخضحضة المَاء: صَوت تحريكه.
2194 - / 3768 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة: خرج رجل من الْمَسْجِد بعد مَا أذن، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: أما هَذَا فقد عصى أَبَا الْقَاسِم.
يشبه أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة سمع من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهيا عَن الْخُرُوج بعد الْأَذَان، ثمَّ إِن الْأَذَان إِنَّمَا هُوَ استدعاء للغائبين، فَإِذا خرج الْحَاضِر فقد فعل ضد المُرَاد.
2195 - / 2769 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع والثمانين بعد الْمِائَة: فِي حَدِيث فتح مَكَّة: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزبير على إِحْدَى المجنبتين.
المجنبة: قِطْعَة من الْعَسْكَر تسير فِي أحد جَانِبي الْعَسْكَر.
والحسر جمع حاسر: وَهُوَ الَّذِي لَا درع لَهُ وَلَا مغفر.
والراجل أَكثر مَا يكون حاسرا، هَكَذَا لفظ الحَدِيث وَهَذَا تَفْسِيره.
وَقد رَوَاهُ ابْن قُتَيْبَة فَقَالَ: الْحَبْس بِالْبَاء الساكنة قبل السِّين، وَقَالَ: هم الرجالة، سموا بذلك لتحبسهم عَن الركْبَان فِي السّفر وتأخرهم، قَالَ: وأحسب الْوَاحِد حَبِيسًا، ((فعيل)) بِمَعْنى ((مفعول)) .
قَالَ: وَيجوز أَن يكون: حابسا، كَأَنَّهُ يحبس من يسير من الركْبَان بمسيره.(3/594)
وَأما البياذقة فَقيل: إِنَّهُم الرجالة، سموا بياذقا لخفة حركتهم وَسُرْعَة تقلبهم إِذْ لم يتكلفوا حمل السِّلَاح.
والكتبية: قِطْعَة من الْعَسْكَر مجتمعة.
وَقَوله: ((ووبشت قُرَيْش)) أَي: جمعت جموعا من قبائل شَتَّى.
والأوباش والأوشاب: الأخلاط.
وَقَوله: وَقَالَ بِيَدِهِ على الْأُخْرَى. يُشِير إِلَى حصادهم بِالْقَتْلِ.
وَقَوله: وأحفى بِيَدِهِ. أَي أَشَارَ بحافتها وَصفا للحصد وَالْقَتْل.
وَقَوله: أبيدت خضراء قُرَيْش: أَي أهلكت واستؤصلت.
وخضراؤها: سوادها ومعظمها، وَالْعرب تعبر بِالسَّوَادِ عَن الْكَثْرَة.
وَقَوله: ((من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن)) قَالَ ثَابت الْبنانِيّ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ كَانَ إِذا أوذي بِمَكَّة دخل دَار أبي سُفْيَان فأمن، فكافأه على هَذَا بِهَذَا القَوْل.
والضن: الْبُخْل وَالشح. يُقَال: ضننت بالشَّيْء بِكَسْر النُّون، أضن بِفَتْح الضَّاد، وضننت بِفَتْح النُّون، أضن بِكَسْر الضَّاد لُغَة أُخْرَى.
وَقَوله: اسْتَلم الْحجر: أَي لمسه بِيَدِهِ.
وسية الْقوس: طرفها.
وأناموه: قَتَلُوهُ.
2196 - / 2770 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس والثمانين بعد الْمِائَة: ((من(3/595)
خرج عَن الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة)) .
الْإِشَارَة إِلَى طَاعَة الْأُمَرَاء. وَقد ذكرنَا هَذَا، وشرحنا معنى الْميتَة الْجَاهِلِيَّة فِي مُسْند ابْن عمر.
وَقَوله: ((من قَاتل تَحت راية عمية)) قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هُوَ الْأَمر الْأَعْمَى الَّذِي لَا يستبان وَجهه بالعصبية. وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه: هَذَا فِي قتال الْقَوْم فِي العصبية. والعصبية نصْرَة الْقَوْم على هواهم، وَإِن خَالف الشَّرْع.
والقتلة مَكْسُورَة الْقَاف: الْحَالة، كالقعدة والجلسة وَالركبَة. وَإِنَّمَا قَالَ: ((قتلة جَاهِلِيَّة)) لِأَن بَعضهم كَانَ يقتل بَعْضًا عصبية للآخرين.
2197 - / 2771 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس والثمانين بعد الْمِائَة: ((ثمَّ يخلف قوم يحبونَ السمانة)) .
الْمَعْنى: أَنهم يكثرون المطاعم فَيحدث عَن ذَلِك السّمن. وَقد قيل: إِن الْمَعْنى: يُرِيدُونَ الإستكثار من الْأَمْوَال، وَيدعونَ مَا لَيْسَ لَهُم من الشّرف، ويفخرون بِمَا لَيْسَ فيهم من الْخَيْر، فاستعار السّمن لهَذِهِ الْأَحْوَال.
2198 - / 2772 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع والثمانين بعد الْمِائَة: ((ينْطَلق بِهِ إِلَى ربه)) يَعْنِي الْمُؤمن، فَيَقُول: ((انْطَلقُوا بِهِ إِلَى آخر الْأَجَل)) يُشِير(3/596)
إِلَى الْبَعْث. وَذكر روح الْكَافِر، فَرد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ريطة كَانَت عَلَيْهِ على أَنفه.
الريطة: كل ملاءة لم تكن لفقين، وَجَمعهَا ريط. ورياط.
وَحكى ابْن السّكيت: أَن كل ثوب رَقِيق لين فَهُوَ ريط. وَإِنَّمَا ردهَا على أَنفه ليعلم بنتن ريح روح الْكَافِر.
2199 - / 2773 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن والثمانين بعد الْمِائَة: ((أفضل الصّيام بعد رَمَضَان شهر الله الْمحرم)) .
قَالَ أَبُو عبيد: إِنَّمَا نسبه إِلَى الله عز وَجل - والشهور كلهَا لَهُ - لتشريفه وتعظيمه، وكل مُعظم ينْسب إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا خصّه بقوله: ((الْمحرم)) دون بَاقِي الْمُحرمَات لِأَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفا بذلك الإسم.(3/597)
(81) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي الْفضل الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب
عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. كَانَ أسن من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِثَلَاث سِنِين، وَأسلم قَدِيما، وَكَانَ يكتم إِسْلَامه، وَخرج مَعَ الْمُشْركين يَوْم بدر، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من لَقِي الْعَبَّاس فَلَا يقْتله؛ فَإِنَّهُ أخرج مستكرها "، فَأسرهُ أَبُو الْيُسْر، ففادى نَفسه وَرجع إِلَى مَكَّة، ثمَّ أقبل مُهَاجرا.
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة.
2200 - / 2775 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " يَا رَسُول الله، إِن أَبَا طَالب كَانَ يحوطك وينصرك ".
الحياطة: حفظ الشَّيْء من جَمِيع جوانبه.
والغمرات: الشدائد.
والضحضاح: الشَّيْء الْخَفِيف، شبه بضحضاح المَاء: وَهُوَ مَا دون الْكَعْبَيْنِ.
وَأما الدَّرك فَقَالَ الضَّحَّاك: الدَّرك: إِذا كَانَ بَعْضهَا أَسْفَل من بعض،(4/7)
والدرج: إِذا كَانَ بَعْضهَا فَوق بعض.
2201 - / 2776 - وَفِي أَفْرَاد البُخَارِيّ: " أَتَوا مر الظهْرَان ".
وَهُوَ اسْم مَوضِع، والظاء مَفْتُوحَة.
وَقَوله: نيران بني عَمْرو، يُشِير إِلَى الْأَوْس والخزرج وهم الْأَنْصَار، لِأَن الْأَوْس والخزرج ابْنا حَارِثَة بن عَمْرو، فنسب الْأَنْصَار إِلَى جدهم الْأَعْلَى، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث سلمَان: قَاتل الله بني قيلة. يَعْنِي الْأَنْصَار، لِأَن قيلة هِيَ أم الْأَوْس والخزرج، وَهِي قيلة بنت كَاهِل بن عذرة ابْن سعد بن هزيم.
وَقَوله: من حرس رَسُول الله: أَي من طلائعه.
وخطم الْجَبَل: رَوَاهُ قوم بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وفسروه بأنف الْجَبَل النَّادِر مِنْهُ، وَرَوَاهُ آخَرُونَ بِالْحَاء، وفسروه بِأَنَّهُ مَا حطم من الْجَبَل: أَي ثلم فَبَقيَ مُنْقَطِعًا.
والكتيبة وَاحِدَة الْكَتَائِب: وَهِي العساكر الْمرتبَة.
وَإِنَّمَا قَالَ: مَا لي وَلِغفار، لاحتقاره إِيَّاهَا.
والملحمة: الْحَرْب والقتال الَّذِي يخلص مِنْهُ. يُقَال: ألحم الرجل فِي(4/8)
الْحَرْب واستلحم: إِذا نشب فِيهَا فَلم يجد مخلصا.
قَوْله: حبذا يَوْم الذمار. الذمار: مَا لزمك حفظه، يُقَال: فلَان حامي الذمار: أَي يحمي مَا يلْزمه أَن يحميه، وَكَأَنَّهُ تمنى أَن لَو قدر أَن يحمي قومه.
وكداء بِفَتْح الْكَاف وبالمد: فِي أَعلَى مَكَّة. وبضم الْكَاف وَالْقصر فِي أَسْفَل مَكَّة. وَقد بَينا هَذَا الِاسْم وحققناه فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
وَهَذَا الحَدِيث قد صرح بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة يَوْم الْفَتْح من أَسْفَل مَكَّة. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل مَكَّة من كداء الثَّنية الْعليا، فَهَذَا فِي حجَّة الْوَدَاع. وَقد روى مُحَمَّد بن سعد أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر يَوْم فتح مَكَّة سعد بن عبَادَة أَن يدْخل من كداء، وَالزُّبَيْر من كدى، وخَالِد بن الْوَلِيد من الليط، وَدخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أذاخر، وَنهى عَن الْقِتَال. قلت: فَيظْهر من هَذَا أَنه لم يدْخل يَوْم الْفَتْح من أَعْلَاهَا؛ لِأَنَّهُ لم يرد الْقِتَال، وَدخل فِي حجَّته من أَعْلَاهَا لما قد تمكن لَهُ من الْقَهْر.
2202 - / 2777 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " يَا عَبَّاس، نَاد أَصْحَاب السمرَة ".(4/9)
السمرَة وَاحِدَة السمر: وَهُوَ شجر الطلح. وَالْمرَاد شَجَرَة بيعَة الرضْوَان.
وَقَوله: " حمي الْوَطِيس " يَعْنِي اشتدت الْحَرْب وتناهى الْقِتَال. والوطيس فِي الأَصْل: التَّنور، فَشبه الْحَرْب باشتعال النَّار ولهبها.
وَقَوله: فَمَا زلت أرى حَدهمْ كليلا: أَي بأسهم وشدتهم ضَعِيفا نابيا، يُقَال: كل السَّيْف: إِذا نبا عَن الضريبة.
2203 - / 2779 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِذا سجد العَبْد سجد مَعَه سَبْعَة آرَاب ".
الْآرَاب: الْأَعْضَاء، وَاحِدهَا إرب. وَهَذَا الحَدِيث لَفظه لفظ الْخَبَر وَمَعْنَاهُ الْأَمر، وَالْمرَاد بالسبعة: اليدان وَالرُّكْبَتَانِ وأصابع الْقَدَمَيْنِ والجبهة. وَالسُّجُود على هَذِه السَّبْعَة وَاجِب عندنَا، وَفِي الْأنف رِوَايَتَانِ.(4/10)
(83) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن جَعْفَر بن أبي طَالب
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان:
2204 - / 2782 - فَفِي الحَدِيث الأول: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْكُل القثاء بالرطب.
القثاء مَمْدُود، وَفِي ضم الْقَاف وَكسرهَا لُغَتَانِ.
وَفِي هَذَا الْفِعْل مَعْنيانِ: أَحدهمَا: إِثْبَات الطِّبّ ومقابلة الشَّيْء بضده؛ فَإِن القثاء رطب بَارِد وَالرّطب حَار يَابِس، فباجتماعهما يعتدلان. وَالثَّانِي: إِبَاحَة التَّوَسُّع فِي الْأَطْعِمَة ونيل الملذوذات الْمُبَاحَة.
2205 - / 2783 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَ أحب مَا استتر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِحَاجَتِهِ هدف أَو حائش نخل.
الهدف: كل مَا كَانَ لَهُ شخص مُرْتَفع من بِنَاء وَغَيره. وَيُسمى مَا رفع للنضال هدفا.(4/11)
وحائش النّخل: مَا اجْتمع مِنْهَا والتف. قَالَ أَبُو عبيد: الحائش: جمَاعَة النّخل.
والجرجرة: صَوت يردده الْبَعِير فِي حنجرته.
والسراة: الظّهْر. وسراة كل شَيْء أَعْلَاهُ.
والذفرى من الْبَعِير: مُؤخر رَأسه وَيَديه.
وتدئبه: بِمَعْنى تكده وتتعبه.(4/12)
(84) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن الزبير
وَهُوَ أول مَوْلُود ولد للمهاجرين بعد الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة على رَأس عشْرين شهرا من الْهِجْرَة، وحنكه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأذن أَبُو بكر الصّديق فِي أُذُنه.
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ تِسْعَة.
2206 - / 2785 - فَمن الْمُشكل فِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ:
قَالَ ابْن الزبير فِي قَوْله: {خُذ الْعَفو} [الْأَعْرَاف: 199] : مَا أنزل الله هَذِه الْآيَة إِلَّا فِي أَخْلَاق النَّاس.
الْعَفو: الميسور، يُقَال: خُذ مَا عَفا لَك: أَي مَا أَتَاك سهلا بِلَا إِكْرَاه وَلَا مشقة.
وَقد اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِيمَا أَمر بِأخذ الْعَفو مِنْهُ على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَخْلَاق النَّاس، وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن الزبير، وَوَافَقَهُ الْحسن وَمُجاهد، فَيكون الْمَعْنى: اقبل الميسور من أَخْلَاق النَّاس ولاتستقص عَلَيْهِم، فتظهر مِنْهُم الْبغضَاء.(4/13)
وَالثَّانِي: أَنه المَال، ثمَّ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بِعَفْو المَال الزَّكَاة، قَالَه الضَّحَّاك. وَالثَّانِي: صَدَقَة كَانَت تُؤْخَذ قبل فرض الزَّكَاة ثمَّ نسخت بِالزَّكَاةِ، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّالِث: أَن المُرَاد بِهِ مساهلة الْمُشْركين وَالْعَفو عَنْهُم، ثمَّ نسخ بِآيَة السَّيْف، قَالَه ابْن زيد.
2207 - / 2786 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: قَالَ أَبُو بكر: أَمر الْقَعْقَاع، وَقَالَ عمر: أَمر الْأَقْرَع، فتماريا، فَنزل فِي ذَلِك: {لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} [الحجرات: 1] .
المماراة: المجادلة وَالْخُصُومَة.
وَقَوله: {لَا تقدمُوا} أَي لَا تعجلوا بقول أَو فعل قبل أَن يَقُول الرَّسُول أَو يفعل. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال: فلَان يقدم بَين يَدي الإِمَام: أَي يعجل بِالْأَمر وَالنَّهْي دونه.(4/14)
(85) كشف الْمُشكل من مُسْند أُسَامَة بن زيد
مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَثَمَانِية وَعشْرين حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ تِسْعَة عشر حَدِيثا.
2208 - / 2793 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة "، وَفِي لفظ: " لَا رَبًّا إِلَّا فِيمَا كَانَ يدا بيد ".
هَذَا الحَدِيث مَحْمُول على أَن أُسَامَة سمع بعض الحَدِيث، كَأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن بيع بعض الْأَعْيَان الربوية بِبَعْض؛ كالتمر بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَب بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضلا، فَقَالَ: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَة ". وَإِنَّمَا حملناه على هَذَا لإِجْمَاع الْأمة على خِلَافه، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى ذهب أَبُو بكر الْأَثْرَم. وَقد زعم قوم أَنه مَنْسُوخ، وَلَيْسَ بِشَيْء , قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: النّسخ إِنَّمَا يَقع فِي أَمر قد كَانَ فِي الشَّرِيعَة، فَأَما إِذا لم يكن مَشْرُوعا فَلَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم نسخ. قَالَ: وَقد يغلط قوم فَيَقُولُونَ: شرب الْخمر مَنْسُوخ، وَهَذَا مَا كَانَ فِي شَرِيعَة قطّ فَينْسَخ، وَإِنَّمَا كَانُوا يشربونها على عاداتهم فَحرمت.(4/15)
2209 - / 2794 - والْحَدِيث الثَّانِي: قد تقدم فِي مُسْند ابْن عَبَّاس.
2210 - / 2795 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " نَحن نازلون غَدا بخيف بني كنَانَة. قد فسرنا هَذَا الحَدِيث فِي الحَدِيث السَّادِس وَالسبْعين من مُسْند أبي هُرَيْرَة.
وَقد سبق مَا بعد هَذَا إِلَى:
2211 - / 2798 - الحَدِيث السَّادِس: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسير الْعُنُق، فَإِذا وجد فجوة نَص.
الْعُنُق: السّير الْوَاسِع. وَالنَّص: فَوق الْعُنُق، وَيُقَال: هُوَ أرفع السّير.
والفجوة: المتسع من الأَرْض، وَجَمعهَا الفجوات والفجا.
2212 - / 2799 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أشرف على أَطَم من آطام الْمَدِينَة فَقَالَ: " إِنِّي لأرى مواقع الْفِتَن خلال بُيُوتكُمْ كمواقع الْقطر ".
الأطم: الْحصن، وَقد سبق بَيَان هَذَا. وَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قد اطلع على مَا سيجري بعده من الْفِتَن فَأخْبر بذلك، فَكَانَ كَمَا قَالَ.(4/16)
2213 - / 2800 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: ركب على حمَار عَلَيْهِ إكاف تَحْتَهُ قطيفة فَدَكِيَّة.
الإكاف للحمار كالسرج للْفرس والرحل للناقة، وَجمعه أكف.
والقطينة: نوع من الأكسية. والفدكية منسوبة إِلَى فدك.
وَفِي هَذَا بَيَان تواضع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن المتكبرين لَا يرضون ركُوب الْحمار، وَلَا يردفون وَرَاءَهُمْ.
وَقَوله: فَمر بِمَجْلِس فِيهِ أخلاط من الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين فَسلم عَلَيْهِم. وَإِنَّمَا فعل هَذَا يَنْوِي بذلك السَّلَام على الْمُسلمين.
والعجاج: الْغُبَار.
وخمر وَجهه: غطاه.
وَقَوله: لَا أحسن مِمَّا تَقول. كثير من الْمُحدثين يضمون الْألف من أحسن، ويكسرون السِّين، وَسمعت أَبَا مُحَمَّد بن الخشاب يفتح الْألف وَالسِّين.
وَقَوله: كَادُوا يتثاورون: أَي قاربوا أَن يثور بَعضهم على بعض بِقِتَال، وَيُقَال: ثار يثور: إِذا قَامَ بِسُرْعَة وانزعاج.
ويخفضهم: يسكنهم.
والبحيرة تَصْغِير بحرة: وَهِي الْبَلدة، يُقَال: هَذِه بحرتنا: أَي بَلْدَتنَا.(4/17)
والعصابة: مَا يشد بِهِ الرَّأْس، وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ بالرئيس.
وشرق: غص. يُقَال: شَرق بِالْمَاءِ يشرق شرقا: إِذا غص، فَشبه مَا أَصَابَهُ من التأسف على فَوَات الرِّئَاسَة بالشرق.
والصناديد: الْأَشْرَاف.
2214 - / 2801 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " يُؤْتى بِالرجلِ فَيلقى فِي النَّار فتندلق أقتاب بَطْنه ".
قَالَ أَبُو عبيد: الأقتاب: الأمعاء، وَاحِدهَا قتب، وَقيل: قتبة، وَبهَا سمي الرجل قُتَيْبَة. وَقيل: القتب: مَا تحوى من الْبَطن: أَي اسْتَدَارَ، وَهِي الحوايا. وَأما الأمعاء فَهِيَ الأقضاب، وَاحِد قصب.
والاندلاق: خُرُوج الشَّيْء من مَكَانَهُ بِسُرْعَة، وكل شَيْء ندر خَارِجا فقد اندلق.
2215 - / 2802 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " وَنَفسه تتقعقع كَأَنَّهَا شن ".
القعقعة: حِكَايَة أصوات الترسة وَغَيرهَا من الأجرام الصلبة إِذا قرع بَعْضهَا بِبَعْض. والشن: الْقرْبَة البالية. وَأَرَادَ بالقعقعة صَوت الحشرجة عِنْد الْمَوْت.
2215 - م / 2803 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " وَأَصْحَاب الْجد(4/18)
محبوسون ".
الْجد: الْحَظ فِي الرزق والغنى. وَقد سبق الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمرَان بن الْحصين.
2216 - / 2804 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " مَا تركت بعدِي فتْنَة هِيَ أضرّ على الرِّجَال من النِّسَاء " اعْلَم أَن شهوات الْحس غالبة على الْآدَمِيّ، وأبلغ الشَّهَوَات الحسية الْميل إِلَى النِّسَاء، وَالْعقل كاللجام الْمَانِع عَمَّا لَا يصلح، فالمحاربة بَين الْحس وَالْعقل مَا تَنْقَطِع، إِلَّا أَن التَّوْفِيق إِذا أعَان صان.
2217 - / 2805 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: قَالَ سلمَان: لَا تكونن - إِن اسْتَطَعْت - أول من يدْخل السُّوق وَلَا آخر من يخرج مِنْهَا؛ فَإِنَّهَا معركة الشَّيْطَان، وَبهَا ينصب رايته.
إِنَّمَا سَمَّاهَا بالمعركة لِأَنَّهَا الْمَكَان الَّذِي ينتدب فِيهِ الشَّيْطَان لمغالبة النَّاس واستزلالهم، لمَكَان طمعهم فِي الأرباح.
وَقَوله: بهَا ينصب رايته؛ كِنَايَة عَن قُوَّة طمعه فِي إغوائهم؛ لِأَن الرَّايَات فِي الحروب لَا تنصب إِلَّا مَعَ قُوَّة الطمع فِي الْغَلَبَة.
2218 - / 2806 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: بعثنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى(4/19)
الحرقة، فصبحنا الحرقات.
الحرقة: اسْم قَبيلَة من جُهَيْنَة. وَقَوله: فصبحنا الحرقات إِشَارَة إِلَى بطُون تِلْكَ الْقَبِيلَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْعلم أَن الْمُشرك إِذا أقرّ بِالشَّهَادَتَيْنِ حقن دَمه. وَإِنَّمَا تَأَول أُسَامَة قَوْله تَعَالَى: {فَلم يَك يَنْفَعهُمْ إِيمَانهم لما رَأَوْا بأسنا} [غَافِر: 85] وَلم ينْقل أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألزمهُ دِيَة وَلَا غَيرهَا لمَكَان تَأْوِيله.
2219 - / 2807 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: دفع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَة، حَتَّى إِذا كَانَ بِالشعبِ نزل فَبَال.
الشّعب: مَا تفرق بَين الجبلين.
وَإِنَّمَا قَالَ: " الصَّلَاة أمامك "؛ لِأَن مَوضِع هَذِه الصَّلَاة الْمزْدَلِفَة، وَهِي بَين يَدَيْهِ.
والنقب: الطَّرِيق فِي الْجَبَل، قَالَه ابْن السّكيت، وَالْجمع نقاب ونقوب.
2220 - / 2809 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
عَن مولى أُسَامَة قَالَ: أَرْسلنِي أُسَامَة إِلَى عَليّ وَقَالَ: إِنَّه سيسألك(4/20)
فَيَقُول: مَا خلف صَاحبك؟ فَقل لَهُ: يَقُول لَك: هَذَا أَمر لم أره.
أَشَارَ إِلَى قتال عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام لمن قَاتل، فَكَأَنَّهُ يَقُول: لَا أرى هَذَا صَوَابا. وَهَذَا غلط من أُسَامَة رَضِي الله عَنهُ؛ لِأَنَّهُ مَا قَاتل عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أحدا إِلَّا كَانَ الْحق مَعَ عَليّ؛ وَإِنَّمَا تورع أُسَامَة لكَونه رأى أَنه قتال الْمُسلمين، وَكَانَ السَّبَب فِي تورعه مَا تقدم آنِفا من أَنه قتل من قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، فَعَاتَبَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك، فَامْتنعَ من قتال الْمُسلمين.
2221 - / 2811 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد مُسلم:
جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي أعزل عَن امْرَأَتي. فَقَالَ: " لم؟ " قَالَ: أشْفق على وَلَدهَا. فَقَالَ: " لَو كَانَ ذَلِك ضارا ضرّ فَارس وَالروم ". إِنَّمَا خَافَ أَن تحمل فيشرب ابْنهَا الْمُرْضع اللبأ فيؤذيه، فَقَالَ: " لَو ضرّ ذَلِك فَارس " أَي إِنَّهُم لَا يحترزون من هَذَا وأبناؤهم حسان.
وَقد سبق مَا فِي مُسْند خَالِد بن الْوَلِيد.(4/21)
(87) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة.
2222 - / 2814 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أَن أَبَا بكر جَاءَ بِثَلَاثَة من أهل الصّفة يعشيهم.
أهل الصّفة قوم كَانُوا يقدمُونَ الْمَدِينَة فيسلمون، وَلَيْسَ لَهُم مَال وَلَا أهل ينزلون عَلَيْهِم، فَكَانُوا ينزلون بِصفة الْمَسْجِد وتتفرق بهم الصَّحَابَة كل لَيْلَة فيعشونهم، وَيَأْخُذ مِنْهُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة.
وَقَوله: يَا غنثر. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الغنثر مَأْخُوذ من الغثارة وَهِي الْجَهْل، يُقَال: رجل أغثر، وَقَوله: يَا غنثر معدول عَنهُ. قَالَ: وحدثناه يَا عنتر بِالْعينِ الْمُهْملَة وبالتاء، سَأَلت أَبَا عمر عَنهُ فَقَالَ: سَمِعت أَحْمد بن يحيى يَقُول: العنتر: الذُّبَاب، وَسمي عنترا لصوته، فشبهه حِين حقره وصغره بالذباب.(4/22)
وَقَوله: فجدع أَي دَعَا بالجدع: وَهُوَ الْقطع.
وَقَالَ: كلوا لَا هَنِيئًا. كَأَنَّهُ يُشِير بذلك إِلَى أَهله؛ لِأَنَّهُ لَا يحسن أَن يواجه الأضياف بِهَذَا.
وَربا: بِمَعْنى زَاد وارتفع.
وَقَالَ: هَذِه من الشَّيْطَان، يَعْنِي الْيَمين الَّتِي أثارها الْغَضَب. ثمَّ رأى أَن الْحِنْث مصلحَة، فَأكل رَضِي الله عَنهُ.
2223 - / 2815 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: جَاءَ رجل مشعان. أَي ثَائِر الرَّأْس، منتفش الشّعْر، مُتَفَرِّقه.
وَسَوَاد الْبَطن: الكبد.(4/23)
(88) كشف الْمُشكل من مُسْند عمر بن أبي سَلمَة
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْنَا عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
2224 - / 2817 - فَفِي الحَدِيث الأول: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد مُشْتَمِلًا بِهِ.
الاشتمال: أَن يتجلل بِالثَّوْبِ فيغطي بِهِ جسده.
2225 - / 2818 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَت يَدي تطيش فِي الصحفة.
أَي تجول فِي جهاتها ونواحيها. والصحفة: الْقَصعَة.
والطعمة مَكْسُورَة الطَّاء: وَهِي الْحَالة. أَي مَا زلت على تِلْكَ الْحَال.(4/24)
(89) وَفِي مُسْند عَامر بن ربيعَة
2226 - / 2819 - الْقيام للجنازة. وَقد سبق أَنه مَنْسُوخ فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.(4/25)
(190) كشف الْمُشكل من مُسْند الْمِقْدَاد بن الْأسود
وَكَانَ قد حَالف الْأسود بن عبد يَغُوث فِي الْجَاهِلِيَّة فَتَبَنَّاهُ، وَإِنَّمَا هُوَ الْمِقْدَاد بن عَمْرو. شهد جَمِيع الْمشَاهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْنَان وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
2227 - / 2821 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: إِن لقِيت رجلا من الْكفَّار وَضرب يَدي فقطعها ثمَّ لَاذَ مني بشجرة فَقَالَ: أسلمت لله، أأقتله؟ قَالَ: " لَا، فَإِن قتلته فَإنَّك بِمَنْزِلَتِهِ قبل أَن تقتله، وَإنَّك بِمَنْزِلَتِهِ قبل أَن يَقُول كَلمته ".
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: الْخَوَارِج وَمن يذهب بمذهبهم فِي التَّكْفِير بالكبائر يتأولون هَذَا على أَنه بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْكفْر، وَهَذَا تَأْوِيل فَاسد، وَإِنَّمَا وَجهه أَنه جعله بِمَنْزِلَتِهِ فِي إِبَاحَة الدَّم؛ لإن الْكَافِر قبل أَن يسلم مُبَاح الدَّم، فَإِذا أسلم حقن دَمه، فَإِذا قَتله قَاتل صَار بِمثلِهِ مُبَاح الدَّم بِحَق الْقصاص كَمَا كَانَ هُوَ.(4/26)
2228 - / 2822 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
جعل رجل يمدح عُثْمَان، فَجعل الْمِقْدَاد يحثو فِي وَجهه الْحَصْبَاء وَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِذا رَأَيْتُمْ المداحين فاحثوا فِي وُجُوههم التُّرَاب ".
الْحَصْبَاء والحصبة: صَغِير الْحِجَارَة.
والمداح: الَّذِي يتَكَرَّر مِنْهُ الْمَدْح، وَهُوَ الَّذِي قد جعله عَادَة لَهُ، وَمثل ذَلِك لَا يسلم من الْكَذِب. وَقد ذكرنَا آفَة الْمَدْح فِي مُسْند أبي مُوسَى.
2229 - / 2823 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَقبلت أَنا وصاحبان لي وَقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الْجهد.
الْجهد: الْمَشَقَّة. وَالْمرَاد مَا لقوا من الْجُوع.
وَقَوله: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَجِيء من اللَّيْل فَيسلم فَلَا يوقظ نَائِما. هَذَا من أحسن الْأَدَب؛ لِأَنَّهُ يسمع المنتبه وَلَا يزعج النَّائِم. وَقد رَأينَا خلقا من جهلة المتزهدين يرفعون أَصْوَاتهم فِي اللَّيْل بِالْقِرَاءَةِ والتذكير إِلَى أَن ينزعج النَّائِم، وَالنَّوْم هُوَ كالقوت للبدن، فَقَطعه عَن الْإِنْسَان يُؤْذِيه.
والحفل جمع حافل: وَهِي الشَّاة الَّتِي امْتَلَأَ ضرْعهَا لَبَنًا. والمحفلة: الَّتِي حفلت: أَي جمع اللَّبن فِي ضرْعهَا وَلم يحلب. وَقد سبق هَذَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.(4/27)
والرغوة: مَا علا فَوق الْحَلب، وَفِيه ثَلَاث لُغَات: ضم الرَّاء وَفتحهَا وَكسرهَا.
وَقَوله: " إِحْدَى سوآتك " أَي مَا أضْحكك إِلَّا بعض مَا يسوء ظُهُوره.(4/28)
(91) كشف الْمُشكل من مُسْند بِلَال بن رَبَاح
وَهُوَ اسْم أَبِيه، وَهُوَ مشتهر بِالنِّسْبَةِ إِلَى أمه حمامة. أسلم قَدِيما، فَعَذَّبَهُ قومه وَجعلُوا يَقُولُونَ لَهُ: رَبك اللات والعزى، وَهُوَ يَقُول: أحد أحد، فَأتى عَلَيْهِ أَبُو بكر فَاشْتَرَاهُ بِسبع أَوَاقٍ، وَقيل: بِخمْس، فَأعْتقهُ، فَشهد جَمِيع الْمشَاهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَهُوَ أول من أذن، وَكَانَ خَازِن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على بَيت مَاله. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة.
2230 - / 2825 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: وَعند الْمَكَان الَّذِي صلى فِيهِ مرمرة حَمْرَاء.
المرمرة وَاحِد المرمر: وَهُوَ نوع من الرخام صلب.
والمجاف: المغلق.
ومليا: أَي زَمَانا طَويلا.
2231 - / 2828 - وَفِي أَفْرَاد مُسلم:(4/29)
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح على الْخُفَّيْنِ والخمار.
أما الْمسْح على الْخُفَّيْنِ فقد تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَأما الْخمار فَمَا يغطى بِهِ الرَّأْس، وَالْمسح على الْعِمَامَة عندنَا جَائِز، وَسَيَأْتِي ذكره فِي مُسْند عَمْرو بن أُميَّة، فَهُوَ أمس بِهِ.(4/30)
(92) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي رَافع
مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. كَانَ للْعَبَّاس فوهبه لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا أسلم الْعَبَّاس بشر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْلَامِهِ فَأعْتقهُ. وَكَانَ قد أسلم بِمَكَّة حِين أسلم الْعَبَّاس، وَشهد الخَنْدَق. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة وَسِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة.
2233 - / 2829 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: جَاءَ أَبُو رَافع فَقَالَ لسعد بن أبي وَقاص: ابتع مني بَيْتِي فِي دَارك، فَقَالَ: لَا أزيدك على أَرْبَعَة آلَاف منجمة.
المنجمة: الَّتِي فِي نُجُوم. والنجوم: الْأَوْقَات الْمُخْتَلفَة.
وَقَوله: " الْجَار أَحَق بسقبه " يرْوى بِالسِّين وَالصَّاد. والسقب والصقب: الْقرب. قَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد: كل صَاد أَو سين تَجِيء قبل الْقَاف فللعرب فِيهَا لُغَتَانِ: مِنْهُم من يَجْعَلهَا سينا وَمِنْهُم من يَجْعَلهَا صادا.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: أَرَادَ بالصقب الملاصقة؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِمَا يَلِيهِ وَيقرب مِنْهُ.(4/31)
وَقد يحْتَج بِهَذَا من يرى الشُّفْعَة بالجوار، وَلَا حجَّة لَهُم؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ اللَّفْظ صَرِيحًا فِي الشُّفْعَة، فَيحْتَمل أَن يكون أَحَق بِالْبرِّ والمعونة. وَيحْتَمل أَن يُرِيد بالجار هَاهُنَا الشَّرِيك، وَسَماهُ جارا لِأَنَّهُ أقرب الْجِيرَان بالمشاركة فَحِينَئِذٍ تكون لَهُ الشُّفْعَة. وَهَذَا الحَدِيث إِنَّمَا كَانَت فِيهِ الشُّفْعَة لمَكَان طَرِيق هذَيْن الْبَيْتَيْنِ، فَإِن طريقهما كَانَت شائعة فِي الْعَرَصَة، وَهِي جُزْء من الدَّار فَلذَلِك اسْتحق الشُّفْعَة. وَقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي الطّرق والعراص: هَل تجب فِيهَا الشُّفْعَة بانفرادها؟ على رِوَايَتَيْنِ.
2233 - م / 2830 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
استسلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بكرا.
الْبكر: الفتي من الْإِبِل، فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْغُلَام من الذُّكُور. والقلوص بِمَنْزِلَة الْجَارِيَة من الْإِنَاث. وَأما الرباعي فَهُوَ الَّذِي تمت لَهُ سِتّ سِنِين وَدخل فِي السَّابِعَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ استسلف لنَفسِهِ ثمَّ قضى من إبل الصَّدَقَة، وَالصَّدَََقَة لَا تحل لَهُ؟ فَالْجَوَاب: أَنه مَا استسلف لنَفسِهِ؛ إِذْ لَو كَانَ ذَلِك لما قَضَاهُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا استسلف للْفُقَرَاء من بعض الْأَغْنِيَاء فقضاه من(4/32)
الصَّدَقَة.
2234 - / 2832 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: لقد كنت أشوي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بطن الشَّاة، ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ.
المُرَاد بِبَطْنِهَا مَا فِي الْبَطن من الكبد وَغَيره.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَنه أكل مَا مسته النَّار وَلم يتَوَضَّأ مِنْهُ. وَقد سبق فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة بَيَان نسخ هَذَا، لقَوْله: " توضؤوا مِمَّا مست النَّار ".(4/33)
(93) كشف الْمُشكل من مُسْند سلمَان الْفَارِسِي
وَهُوَ من أهل أَصْبَهَان، من قَرْيَة يُقَال لَهَا جي. وَقيل: من رامهرمز سَافر يطْلب الدّين مَعَ قوم فغدروا بِهِ فباعوه من الْيَهُود، ثمَّ إِنَّه كُوتِبَ فأعانه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كِتَابَته، وَأسلم مقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَمنعه الرّقّ عَن بدر وَأحد، وَأول غزَاة غَزَاهَا الخَنْدَق، وَشهد مَا بعْدهَا، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ بِحَفر الخَنْدَق. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة.
2235 - / 2833 - فَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
أَنه تداوله بضعَة عشر من رب إِلَى رب.
قد ذكرنَا أَنه سَافر مَعَ قوم فباعوه، ثمَّ بَاعه الَّذِي اشْتَرَاهُ كَذَلِك، إِلَى بضعَة عشر. قَالَ ابْن فَارس: الْبضْع: مَا بَين الْوَاحِد إِلَى التِّسْعَة. والرب: الْمَالِك.
2236 - / 2834 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: فَتْرَة مَا بَين عِيسَى وَمُحَمّد(4/34)
سِتّمائَة سنة.
الفترة بَين الرُّسُل: الْمدَّة الَّتِي لَا رَسُول فِيهَا. وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق: بَين آدم إِلَى نوح ألف وَمِائَتَا سنة، وَبَين نوح إِلَى إِبْرَاهِيم ألف وَمِائَة وثنتان وَأَرْبَعُونَ سنة، وَبَين إِبْرَاهِيم إِلَى مُوسَى خَمْسمِائَة وَخَمْسَة وَسِتُّونَ، وَمن مُوسَى إِلَى دَاوُد خَمْسمِائَة وتسع وَسِتُّونَ، وَمن دَاوُد إِلَى عِيسَى ألف وثلاثمائة وست وَخَمْسُونَ، وَمن عِيسَى إِلَى مُحَمَّد سِتّمائَة سنة.
2237 - / 2837 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" إِن لله مائَة رَحْمَة " وَقد سبق فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: " فضها على الْمُتَّقِينَ " وأصل الفض: الْكسر والتفريق. وانفض الْقَوْم: تفَرقُوا.
2238 - / 2838 / - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " رِبَاط يَوْم وَلَيْلَة خير من صِيَام شهر وقيامه ".
الرِّبَاط: مُلَازمَة الثغر، وَأَصله أَن يرْبط هَؤُلَاءِ خيولهم وَهَؤُلَاء خيولهم، كل يعد لصَاحبه.
وَقَوله: " جرى عَلَيْهِ عمله " أَي ثَوَابه. " وَأجْرِي عَلَيْهِ رزقه " يَعْنِي من(4/35)
الْجنَّة. " وَأمن الفتان " فسره أَبُو عبد الله الْحميدِي فَقَالَ: الفتان: الشَّيْطَان؛ لِأَنَّهُ يفتن النَّاس بخدعه وتزيينه الْمعاصِي. وَلَا أرى لهَذَا التَّفْسِير وَجها؛ لِأَن الْحِكَايَة عَمَّا بعد الْمَوْت، وَلَيْسَ للشَّيْطَان فِيمَا بعد الْمَوْت عمل، وَإِنَّمَا الْمَعْنى أَمن فتْنَة الْقَبْر، وَهِي سُؤال الْملك، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِنَّكُم تفتنون فِي قبوركم ".
2239 - / 2839 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قيل لسلمان: قد علمكُم نَبِيكُم كل شَيْء حَتَّى الخراءة.
الخراءة مَكْسُورَة الْخَاء ممدودة الْألف، وَمَعْنَاهَا أدب التخلي وَالْقعُود عِنْد الْحَاجة. وَقد سبق الْكَلَام فِي اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي مُسْند أبي أَيُّوب.
وَالْغَائِط: المطمئن من الأَرْض، ثمَّ صَار اسْما لما يكون فِيهِ من الرجيع.
والاستنجاء: التمسح بالأحجار، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَأَصله من النجوة: وَهِي الِارْتفَاع من الأَرْض، وَكَانَ الرجل إِذا أَرَادَ قَضَاء الْحَاجة تستر بنجوة من الأَرْض، فاشتق من ذَلِك الِاسْتِنْجَاء، إِن مسح فِيهِ أَو غسل، وَقد سبق هَذَا.
وَقَوله: بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أَحْجَار، فِيهِ دَلِيل على أَن من عدل عَن المَاء(4/36)
إِلَى الْأَحْجَار لم يجزه أقل من ثَلَاثَة أَحْجَار، وَهَذَا قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجب الْعدَد، وَإِنَّمَا يعْتَبر الإنقاء فَحسب، فَإِنَّهُ قد يحصل بِالْحجرِ الْوَاحِد. وللشرع تعبد فِي الْمَعْقُول مَعْنَاهُ، كَمَا لَهُ تعبد فِيمَا لَا يعقل، أَلا ترى أَنه لما ورد الشَّرْع بسن مَعْلُوم فِي الْهَدْي وَالْأَضَاحِي لم يجز إِبْدَال سنّ بسن وَإِن كَانَ يعقل الْمَعْنى، وَالْعجب من أَصْحَاب الرَّأْي كَيفَ يُنكرُونَ دُخُول التَّعَبُّد فِي مثل هَذَا، وَلَهُم قَول فِي إِيجَاب ثَلَاث مَرَّات فِي غسل النَّجَاسَة وَإِن زَالَت بِأول مرّة.
وَأما الرجيع فَهُوَ الْعذرَة، وَسمي رجيعا لِأَنَّهُ رَجَعَ عَن حَالَته الأولى بعد أَن كَانَ طَعَاما.
وَعِنْدنَا أَنه لَا يجوز الِاسْتِنْجَاء بالرجيع سَوَاء كَانَ طَاهِرا كروث الْبَقر وَالْإِبِل، أَو نجسا كروث الْبَغْل وَالْحمار، وَكَذَلِكَ الْعظم، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَأما إِذا كَانَ نجسا فالنجس لَا يجوز اسْتِعْمَاله. وَأما إِذا كَانَ الْعظم طَاهِرا فقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود أَن الْجِنّ سَأَلُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الزَّاد فَقَالَ: " لكم كل عظم ذكر اسْم الله عَلَيْهِ، وكل بَعرَة علف لدوابكم " فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فَلَا تستنجوا بهما؛ فَإِنَّهُمَا طَعَام إخْوَانكُمْ ". وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَدَاوُد: يجوز الِاسْتِنْجَاء بالروث وَالْعِظَام، وَسَوَاء فِي ذَلِك النَّجس والطاهر.(4/37)
2240 - / 2840 - والْحَدِيث الرَّابِع: قد سبق فِي مُسْند أُسَامَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: " وَبهَا باض وفرخ " الْمَعْنى أَنَّهَا مَأْوَاه؛ لِأَن الطَّائِر إِنَّمَا يبيض ويفرخ فِي مستقره. وَقيل: أَرَادَ مَا يثيره من الشَّرّ بَينهم فِي الشِّرَاء وَالْبيع.(4/38)
(94) كشف الْمُشكل من مُسْند خباب بن الْأَرَت
أسلم قَدِيما، وَكَانَ يعذب فِي الله عز وَجل، وَشهد جَمِيع الْمشَاهد. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْنَان وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة.
2241 - / 2841 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: قَوْله: كنت قينا فِي الْجَاهِلِيَّة.
الْقَيْن: الْحداد، وَجمعه قيون.
وَقَوله: وَالله لَا أكفر حَتَّى يُمِيتك الله ثمَّ يَبْعَثك. إِن قَالَ قَائِل: لم لم يقل لَا أكفر أبدا، فَكيف علقه على أَمر قريب فَقَالَ: حَتَّى يُمِيتك الله ثمَّ يَبْعَثك؟ فَالْجَوَاب: أَنه لما كَانَ اعْتِقَاد هَذَا الْمُخَاطب أَنه لَا يبْعَث، خاطبه على اعْتِقَاده، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا أكفر أبدا، وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى: {خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض} [هود: 107] ، فخاطبهم بِمَا يستعملونه لِلْأَبَد، وهم يَقُولُونَ: لَا أُكَلِّمك مَا دَامَت السَّمَاء، وَمَا أطت الْإِبِل، وَمَا اخْتلفت الدرة والجرة، يُرِيدُونَ الْأَبَد.(4/39)
وَقَوله: {أفرءيت الَّذِي كفر بِآيَاتِنَا} [مَرْيَم: 77] ، يَعْنِي الْعَاصِ بن وَائِل، {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ} أَي على زعمكم. وَتَقْدِير الْكَلَام: أرأيته مصيبا.
{أطلع الْغَيْب} الْمَعْنى: أعلم مَا غَابَ عَنهُ حَتَّى يعلم أَفِي الْجنَّة هُوَ أم لَا؟ {أم اتخذ عِنْد الرَّحْمَن عهدا} أَي عهد إِلَيْهِ أَنه يدْخلهُ الْجنَّة.
{كلا} لَيْسَ الْأَمر على مَا قَالَ من أَنه يُؤْتى المَال وَالْولد {سنكتب} ؛ أَي سنأمر الْحفظَة بِإِثْبَات قَوْله عَلَيْهِ ليجازيه.
{ونرثه مَا يَقُول} أَي نرث مَا عِنْده من المَال وَالْولد بإهلاكنا إِيَّاه {ويأتينا فَردا} بِلَا مَال وَلَا ولد.
2242 - / 2843 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: وَترك نمرة.
النمرة: كسَاء ملون من صوف، وكل شملة مخططة من مآزر الْأَعْرَاب فَهِيَ نمرة وَجَمعهَا نمار. وَقَالَ القتيبي: النمرة: بردة تلبسها الْإِمَاء، وَجمعه نمرات ونمار. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: إِذا غزل الصُّوف شزرا ونسج بالحف فَهُوَ كسَاء، وَإِذا غزل يسرا ونسج بالصيصية(4/40)