بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي أحسن إِلَيْنَا إِذْ أنزل علينا أحسن الحَدِيث، ووسم أَئِمَّة أمتنَا: أهل الْفِقْه والْحَدِيث، وَجعل نقاد الروَاة يعْرفُونَ وضع الغواة ويميزون الطّيب من الْخَبيث. أَحْمَده على رجولية الْفَهم، وَأَعُوذ بِهِ من التخبيث، وأشكره على وراثة الْعلم، وأسأله حفظ الْمَوَارِيث، وأستغيث بِزِيَادَة إنعامه وَإِن كنت لَا أستبطئه وَلَا أستريث. وَصلى الله على رَسُوله مُحَمَّد أفضل الْأَنْبِيَاء من لدن آدم وشيث، وَصلى على أَصْحَابه وَأَتْبَاعه مَا أُجِيب مطر أَو غيث.
أما بعد: فَإِن الله تَعَالَى حفظ كتَابنَا بِمَا لم يحفظ كتابا قبله، فَقَالَ عز وَجل فِي الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة: {بِمَا استحفظوا من كتاب الله} [الْمَائِدَة: 44] وَقَالَ فِي كتَابنَا: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الْحجر: 9] . ثمَّ أنعم علينا بِحِفْظ المنقولات عَن نَبيا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فألهم الْعلمَاء جمع ذَلِك، والطلاب الْجد فِي طلبه، حَتَّى سافروا الْبلدَانِ، وهجروا الأوطان، وأنفقوا فِي حفظ ذَلِك قوى الْأَبدَان، وَأقَام جهابذتهم يفتقدون وينتقدون، فيرفعون التحريف ويدفعون التخريف. فَمضى على ذَلِك كثير من الزَّمن، إِلَى أَن لحق ساعي الرغبات الزَّمن، وشيد فتور الهمم فِي طلب الْعلم إِلَى أَن درس، وَصَارَت صبابته الْبَاقِيَة فِي آخر نفس، فَأَما الطَّالِب لَهُ فِي زَمَاننَا فقد فُقِد، والمتصدر يَقُول وَلَا يعْتَقد.(1/5)
وَأعظم الْعُلُوم اضمحلالا علم الْأَثر. على أَن الشَّرْع عَنهُ صدر. فَإِن رَأَيْت طَالبا لَهُ فهمته فِي الْغَالِب السماع، لَا الْفَهم وَلَا الِانْتِفَاع. وَأكْثر الْفُقَهَاء عَنهُ معرضون، وَإِن كَانُوا للْحكم على الحَدِيث يبنون. فواعجبا من وَاضع أسا لم ينظر فِي أرضه، ثمَّ أَخذ يهتم بِطُولِهِ وَعرضه، أَلا يخَاف أَن تكون الأَرْض رملا فينهار، فكم من بَان على شفا جرف هار، وَكم من فَقِيه أفتى بِغَيْر الْمَشْرُوع، وَكم من متعبد تَعب بِحَدِيث مَوْضُوع.
وَلما قد أحسن بفتور الهمم الَّذِي قد صَار فِي زَمَاننَا، تلقى أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر الْحميدِي لحظ متون الصَّحِيحَيْنِ، تسهيلا لاقتباس الْفَوَائِد على المتقاعد، لِأَن اخْتِصَار اللَّفْظ صديق الْحِفْظ. فَصَارَ كِتَابه لقدره فِي نَفسه مقدما على جَمِيع جنسه، فَتعلق بِهِ من قد بَقِي عِنْده من الرَّغْبَة فِي النَّقْل رَمق. وَمَعْلُوم أَن الصَّحِيح بِالْإِضَافَة إِلَى سَائِر الْمَنْقُول كعين الْإِنْسَان، بل كإنسان الْعين. وَكَانَ قد سَأَلَني من أثر سُؤَاله أَمارَة همتي شرح مشكله، فأنعمت لَهُ وظننت الْأَمر سهلا، فَإِذا نيل سُهَيْل أسهل، لما قد حوت أَحَادِيث من فنون المشكلات ودقائق المعضلات. وَكَانَ الْحميدِي قد جمع كتابا أَشَارَ فِيهِ إِلَى تَفْسِير الْحُرُوف الغريبة فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَيْثُ اللُّغَة. وَمَعْلُوم أَن شرح الْمَعْنى أمس، وكشف الْإِشْكَال الْمَعْنَوِيّ أَجْدَر بِالْبَيَانِ وأحق. فَلَمَّا رَأَيْت طرق شَرحه شاسعة، شمرت عَن سَاق الْجد، مستعينا بِاللَّه عز وَجل رَجَاء الثَّوَاب فِي إسعاف الطَّالِب. وَإِلَى الله سُبْحَانَهُ أَرغب فِي تلقيح الْفَهم، وَتَصْحِيح الْقَصْد، وتعجيل النَّفْع، إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ.(1/6)
(مُقَدّمَة قبل الشَّرْح)
من الْمَعْلُوم أَنه قد يَأْتِي الحَدِيث وَأَكْثَره ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى شرح، وَإِنَّمَا يشْرَح مَا يشكل. وَقد يَقع على الحَدِيث اعْتِرَاض فيفتقر إِلَى جَوَاب، وَذكر ذَلِك مُتَعَيّن. وَقد يتَرَدَّد الحَدِيث فِي مسانيد، فَنحْن نفسره فِي أول مَا يَلْقَانَا ثمَّ نحيل عَلَيْهِ مَا يَأْتِي بعد ذَلِك، مثل قَوْله: نهى عَن المحاقلة.
وَقد أجرينا إِلَى الِاخْتِصَار مَعَ تَحْصِيل الْمَقْصُود. وَنحن نرجو أَن يَسْتَغْنِي النَّاظر فِي كتَابنَا هَذَا - بِحل مُشكل المشروح - عَن النّظر فِي كتاب، أَو سُؤال عَالم.
وَهَذَا حِين شروعنا فِيمَا انتدبنا لَهُ. وَالله الْمُوفق
قَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي فِي خطْبَة الْكتاب: لما خيف اخْتِلَاط الصَّحِيح بالسقيم انتدب جمَاعَة إِلَى التَّأْلِيف كمالك بن أنس وَابْن جريج وسُفْيَان. قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمُبْتَدِئ بتصانيف الْكتب على ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا: أَنه عبد الْملك بن جريج. وَالثَّانِي: سعيد ابْن أبي عرُوبَة، ذكر الْقَوْلَيْنِ أَبُو بكر الْخَطِيب. وَالثَّالِث: الرّبيع بن(1/7)
صبيح، قَالَه أَبُو مُحَمَّد الرامَهُرْمُزِي. وَمن قدماء المصنفين: سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة بِمَكَّة، وَمَالك بن أنس بِالْمَدِينَةِ، وَعبد الله بن وهب بِمصْر، وَمعمر وَعبد الرَّزَّاق بِالْيمن، وسُفْيَان الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن فُضَيْل ابْن غَزوَان بِالْكُوفَةِ، وَحَمَّاد بن سَلمَة وروح بن عبَادَة بِالْبَصْرَةِ، وهشيم بواسط، وَعبد الله بن الْمُبَارك بخراسان.(1/8)
وَأول من صنف الْمسند على تراجم الرِّجَال عبيد الله بن مُوسَى الْعَبْسِي، وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، ثمَّ بعدهمَا أَحْمد ابْن حَنْبَل، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو خَيْثَمَة، وَعبيد الله بن عمر القواريري.
ثمَّ كثر من جمع المسانيد، واتسعت التصانيف، إِلَّا أَنه لم يفصح أحد بِتَسْمِيَة كِتَابه بِالصَّحِيحِ، وَلَا شدد فِي انتقاء الحَدِيث الْمَجْمُوع فِيهِ قبل البُخَارِيّ. ثمَّ تبعه مُسلم فِي ذَلِك.
قَالَ الْحميدِي وَقد جمعت أَحَادِيث الصَّحَابَة، ورتبتهم على خمس مَرَاتِب: فبدأنا بِالْعشرَةِ، ثمَّ بالمقدمين بعد الْعشْرَة، ثمَّ بالمكثرين، ثمَّ(1/9)
بالمقلين، ثمَّ بِالنسَاء.
قلت: اعْلَم أَن هَذَا التَّرْتِيب مَا وفى فِيهِ بِالشّرطِ: فَإِنَّهُ ذكر فِي المقدمين خلقا من المؤخرين، وَبَيَانه: أَنه لما ذكر بعد الْعشْرَة ابْن مَسْعُود، وَعمَّارًا - وَكِلَاهُمَا شهد بَدْرًا - كَانَ هَذَا ترتيبا حسنا، فَلَمَّا ذكر بعدهمَا حَارِثَة بن وهب، وَأَبا ذَر، وَحُذَيْفَة، وَأَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَجَرِير بن عبد الله، لم يحسن تَقْدِيم هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهم من شهد بَدْرًا، وَجَرِير إِنَّمَا أسلم فِي سنة عشر قبل موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَمْسَة أشهر، ثمَّ ذكر بعد جرير جمَاعَة فيهم سُلَيْمَان ابْن صرد، وَهُوَ من الْمُتَأَخِّرين جدا، ثمَّ جَاءَ بعده بِجَمَاعَة، ثمَّ بمعاذ ابْن جبل وَهُوَ من أهل بدر، فِي تَخْلِيط من هَذَا الْجِنْس يعجب مِنْهُ عُلَمَاء الحَدِيث إِذا تأملوه.
ثمَّ إِنَّه ذكر فِي المقلين جمَاعَة لَهُم حَدِيث كثير مِنْهُم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَإِنَّهُ ذكره فِي المقلين، وَذكر لَهُ خَمْسَة وَأَرْبَعين حَدِيثا. وَقد ذكر فِي المقدمين جمَاعَة لكل وَاحِد مِنْهُم حَدِيث أَو حديثان، وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي مَنعه من جعلهم فِي المقلين وَلَيْسوا من المقدمين على مَا بيّنت لَك. وَقد ذكر فِي المقلين خلقا كَانَ يصلح ذكرهم فِي المقدمين: مثل بِلَال، وخباب، والمقداد، وَخلق كثير.
فالترتيب فِي نِهَايَة الْخَطَأ، غير أَنه لَا بُد من الجري على رسمه، فَإِن الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ الحَدِيث.(1/10)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله الَّذِي أحسن إِلَيْنَا إِذْ أنزل علينا أحسن الحَدِيث، ووسم أَئِمَّة أمتنَا: أهل الْفِقْه والْحَدِيث، وَجعل نقاد الروَاة يعْرفُونَ وضع الغواة ويميزون الطّيب من الْخَبيث. أَحْمَده على رجولية الْفَهم، وَأَعُوذ بِهِ من التخبيث، وأشكره على وراثة الْعلم، وأسأله حفظ الْمَوَارِيث، وأستغيث بِزِيَادَة إنعامه وَإِن كنت لَا أستبطئه وَلَا أستريث. وَصلى الله على رَسُوله مُحَمَّد أفضل الْأَنْبِيَاء من لدن آدم وشيث، وَصلى على أَصْحَابه وَأَتْبَاعه مَا أُجِيب مطر أَو غيث. أما بعد. فَإِن الله تَعَالَى حفظ كتَابنَا بِمَا لم يحفظ كتابا قبله، فَقَالَ عز وَجل فِي الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة: {بِمَا استحفظوا من كتاب الله} [الْمَائِدَة: 44] وَقَالَ فِي كتَابنَا: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الْحجر: 9] . ثمَّ أنعم علينا بِحِفْظ المنقولات عَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فألهم الْعلمَاء جمع ذَلِك، والطلاب الْجد فِي طلبه، حَتَّى سافروا الْبلدَانِ، وهجروا الأوطان، وأنفقوا فِي حفظ ذَلِك قوى الْأَبدَان، وَأقَام جهابذتهم يفتقدون وينتقدون، فيرفعون التحريف ويدفعون التخريف. فَمضى على ذَلِك كثير من الزَّمن، إِلَى أَن لحق ساعي الرغبات الزَّمن، وشيد فتور الهمم فِي طلب الْعلم إِلَى أَن درس، وَصَارَت صبابته الْبَاقِيَة فِي آخر نفس، فَأَما الطَّالِب لَهُ فِي زَمَاننَا فقد فُقد، والمتصدر يَقُول وَلَا يعْتَقد.(1/5)
وَأعظم الْعُلُوم اضمحلالا علم الْأَثر. على أَن الشَّرْع عَنهُ صدر. فَإِن رَأَيْت طَالبا لَهُ فهمته فِي الْغَالِب السماع، لَا الْفَهم وَلَا الِانْتِفَاع. وَأكْثر الْفُقَهَاء عَنهُ معرضون، وَإِن كَانُوا للْحكم على الحَدِيث يبنون. فواعجبا من وَاضع أسا لم ينظر فِي أرضه، ثمَّ أَخذ يهتم بِطُولِهِ وَعرضه، أَلا يخَاف أَن تكون الأَرْض رملا فينهار، فكم من بَان على شفا جرف هار، وَكم من فَقِيه أفتى بِغَيْر الْمَشْرُوع، وَكم من متعبد تَعب بِحَدِيث مَوْضُوع. وَلما قد أحس بفتور الهمم الَّذِي قد صَار فِي زَمَاننَا، تلقى أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر الْحميدِي لحظ متون الصَّحِيحَيْنِ، تسهيلا لاقتباس الْفَوَائِد على المتقاعد، لِأَن اخْتِصَار اللَّفْظ صديق الْحِفْظ. فَصَارَ كِتَابه لقدره فِي نَفسه مقدما على جَمِيع جنسه، فَتعلق بِهِ من قد بَقِي عِنْده من الرَّغْبَة فِي النَّقْل رَمق. وَمَعْلُوم أَن الصَّحِيح بِالْإِضَافَة إِلَى سَائِر الْمَنْقُول كعين الْإِنْسَان، بل كإنسان الْعين. وَكَانَ قد سَأَلَني من أثر سُؤَاله أَمارَة همتي شرح مشكله، فأنعمت لَهُ وظننت الْأَمر سهلا، فَإِذا نيل سُهَيْل أسهل، لما قد حوت أَحَادِيثه من فنون المشكلات ودقائق المعضلات. وَكَانَ الْحميدِي قد جمع كتابا أَشَارَ فِيهِ إِلَى تَفْسِير الْحُرُوف الغربية فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَيْثُ اللُّغَة. وَمَعْلُوم أَن شرح الْمَعْنى أمس، وكشف الْإِشْكَال الْمَعْنَوِيّ أَجْدَر بِالْبَيَانِ وأحق. فَلَمَّا رَأَيْت طرق شَرحه شاسعة، شمرت عَن سَاق الْجد، مستعينا بِاللَّه عز وَجل رَجَاء الثَّوَاب فِي إسعاف الطَّالِب. وَإِلَى الله سُبْحَانَهُ أَرغب فِي تلقيح الْفَهم، وَتَصْحِيح الْقَصْد، وتعجيل النَّفْع، إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ.(1/6)
مُقَدّمَة قبل الشَّرْح: من الْمَعْلُوم أَنه قد يَأْتِي الحَدِيث وَأَكْثَره ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى شرح، وَإِنَّمَا يشْرَح مَا يشكل. وَقد يَقع على الحَدِيث فِي مسانيد، فَنحْن نفسره فِي أول مَا يَلْقَانَا ثمَّ نحيل عَلَيْهِ مَا يَأْتِي بعد ذَلِك، مثل قَوْله: نهى عَن المحاقلة. وَقد أجرينا إِلَى الِاخْتِصَار مَعَ تَحْصِيل الْمَقْصُود. وَنحن نرجو أَن يَسْتَغْنِي النَّاظر فِي كتَابنَا هَذَا - بِحل مُشكل المشروح - عَن النّظر فِي كتاب، أَو سُؤال عَالم. وَهَذَا حِين شروعنا فِيمَا انتدبنا لَهُ. وَالله الْمُوفق. قَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي فِي خطْبَة الْكتاب: لما خيف اخْتِلَاط الصَّحِيح بالسقيم انتدب جمَاعَة إِلَى التَّأْلِيف كمالك بن أنس وَابْن جريج وسُفْيَان. قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمُبْتَدِئ بتصانيف الْكتب على ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا: أَنه عبد الْملك بن جريج. وَالثَّانِي: سعيد ابْن أبي عرُوبَة، ذكر الْقَوْلَيْنِ أَبُو بكر الْخَطِيب. وَالثَّالِث: الرّبيع بن(1/7)
صبيح، قَالَه أَبُو مُحَمَّد الرامَهُرْمُزِي. وَمن قدماء المصنفين: سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة بِمَكَّة، وَمَالك بن أنس بِالْمَدِينَةِ، وَعبد الله بن وهب بِمصْر، وَمعمر وَعبد الرَّزَّاق بِالْيمن، وسُفْيَان الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن فُضَيْل ابْن غَزوَان بِالْكُوفَةِ، وَحَمَّاد بن سَلمَة وروح بن عبَادَة بِالْبَصْرَةِ، وهشيم بواسط، وَعبد الله بن الْمُبَارك بخراسان.(1/8)
وَأول من صنف الْمسند على تراجم الرِّجَال عبيد الله بن مُوسَى الْعَبْسِي، وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، ثمَّ بعدهمَا أَحْمد ابْن حَنْبَل، وَإِسْحَق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو خَيْثَمَة، وَعبيد الله بن عمر القواريري. ثمَّ كثر من جمع المسانيد، واتسعت التصانيف، إِلَّا أَنه لم يفصح أحد بِتَسْمِيَة كِتَابه بِالصَّحِيحِ، وَلَا شدد فِي انتقاء الحَدِيث الْمَجْمُوع فِيهِ قبل البُخَارِيّ. ثمَّ تبعه مُسلم فِي ذَلِك. قَالَ الْحميدِي وَقد جمعت أَحَادِيث الصَّحَابَة، ورتبتهم على خمس مَرَاتِب: فبدأنا بِالْعشرَةِ، ثمَّ بالمقدمين بعد الْعشْرَة، ثمَّ بالمكثرين، ثمَّ(1/9)
بالمقلين، ثمَّ بِالنسَاء. قلت: اعْلَم أَن هَذَا التَّرْتِيب مَا وفى فِيهِ بِالشّرطِ: فَإِنَّهُ ذكر فِي المقديمن خلقا من المؤخرين، وَبَيَانه: أَنه لما ذكر بعد الْعشْرَة ابْن مَسْعُود، وَعمَّارًا - وَكِلَاهُمَا شهد بَدْرًا - كَانَ هَذَا ترتيبا حسنا، فَلَمَّا ذكر بعدهمَا حَارِثَة بن وهب، وَأَبا ذَر، وَحُذَيْفَة، وَأَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَجَرِير بن عبد الله، لم يحسن تَقْدِيم هَؤُلَاءِ، لأنهل يس فيهم من شهد بَدْرًا، وَجَرِير إِنَّمَا أسلم فِي سنة عشر قبل موت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَمْسَة أشهر، ثمَّ ذكر بعد جرير جمَاعَة فيهم سُلَيْمَان ابْن صرد، وَهُوَ من الْمُتَأَخِّرين جدا، ثمَّ جَاءَ بعده بِجَمَاعَة، ثمَّ بمعاذ ابْن جبل وَهُوَ من أهل بدر، فِي تَخْلِيط من هَذَا الْجِنْس يعجب مِنْهُ عُلَمَاء الحَدِيث إِذا تأملوه. ثمَّ إِنَّه ذكر فِي المقلين جمَاعَة لَهُم حَدِيث كثير مِنْهُم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَإِنَّهُ ذكره فِي المقلين، وَذكر لَهُ خَمْسَة وَأَرْبَعين حَدِيثا. وَقد ذكر فِي المقدمين جمَاعَة لكل وَاحِد مِنْهُم حَدِيث أَو حديثان، وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي مَنعه من جعلهم فِي المقلين وَلَيْسوا من المقدمين على مَا بيّنت لَك. وَقد ذكر فِي المقلين خلفا كَانَ يصلح ذكرهم فِي المقدمين: مثل بِلَال، وخباب، والمقداد، وَخلق كثير. فالترتيب فِي نِهَايَة الْخَطَأ، غير أَنه لَا بُد من الجري على رسمه، فَإِن الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ الحَدِيث.(1/10)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي بكر الصّديق
واسْمه عبد الله بن عُثْمَان. وَفِي تَسْمِيَته بعتيق ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " من أَرَادَ أَن ينظر إِلَى عَتيق من النَّار فَلْينْظر إِلَى أبي بكر " روته عَائِشَة.
وَالثَّانِي: أَنه اسْم سمته بِهِ أمه. قَالَه مُوسَى بن طَلْحَة.
وَالثَّالِث: أَنه سمي بذلك لجمال وَجهه، قَالَه اللَّيْث بن سعد. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: لقبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك لجمال وَجهه.
وَهُوَ أول رجل أسلم، وَقد أسلم على يَده من الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ خَمْسَة: عُثْمَان، وَطَلْحَة، وَالزُّبَيْر، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد بن أبي وَقاص.
وَجُمْلَة مَا حفظ لَهُ من الحَدِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة عشر.
1 - / 1 - الحَدِيث الأول: أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلمنِي دُعَاء(1/11)
أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتي. قَالَ: " قل اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا، وَلَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت، فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك ".
قَوْله " اللَّهُمَّ " قَالَ الزّجاج: قَالَ الْخَلِيل وسيبويه وَجَمِيع النَّحْوِيين الموثوق بعلمهم: اللَّهُمَّ بِمَعْنى يَا الله، وَالْمِيم الْمُشَدّدَة زيدت عوضا من " يَا " لأَنهم لم يَجدوا الْيَاء مَعَ هَذِه الْمِيم فِي كلمة وَاحِدَة، ووجدوا اسْم الله عز وَجل مُسْتَعْملا ب " يَا " إِذا لم يذكرُوا الْمِيم، فَعَلمُوا أَن الْمِيم فِي آخر الْكَلِمَة بِمَنْزِلَة " يَا " فِي أَولهَا، والضمة الَّتِي فِي الْهَاء ضمة الِاسْم المنادى الْمُفْرد.
وَقَوله: " ظلمت نَفسِي " الظُّلم: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وَقيل: التَّصَرُّف فِيمَا لَا يملك. والحدان مستمران على العَاصِي. وَالظُّلم للنَّفس مُوَافقَة الْهوى فِيمَا يُوجب عقوبتها، وَقد يكون فِيمَا ينقص أجرهَا، أَو يفوتها فَضِيلَة.
وَقَوله: " فَاغْفِر لي " الغفران: تَغْطِيَة الذَّنب بِالْعَفو عَنهُ. والغفر: السّتْر. وَغفر الْخَزّ وَالصُّوف: مَا علا فَوق الثَّوْب مِنْهَا كالزئبر، سمي غفرا لِأَنَّهُ يستر الثَّوْب. وَيُقَال: اصبغ ثَوْبك، فَهُوَ أَغفر للوسخ. وَيُقَال لجنة الرَّأْس مغفر، لِأَنَّهَا تستر الرَّأْس. وَقَالَ بعض(1/12)
اللغويين: الْمَغْفِرَة مَأْخُوذَة من الغفر، وَهُوَ نبت تداوى بِهِ الْجراح، إِذا ذَر عَلَيْهَا دملها وأبرأها.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: " مغْفرَة من عنْدك "؟ وَهل تكون الْمَغْفِرَة إِلَّا من عِنْده؟ فَالْجَوَاب أَن الْمَعْنى: هَب لي الغفران بِفَضْلِك وَإِن لم أكن أَهلا لَهُ بعملي.
وَهَذَا الحَدِيث من أحسن الْأَدْعِيَة؛ لِأَنَّهُ إِقْرَار بظُلْم النَّفس، واعتراف بالذنب والذنُوب كالمانع من الإنعام، وَالِاعْتِرَاف بهَا يمحوها، فيرتفع الحاجز.
وَهَذَا الدُّعَاء مِمَّا يسْتَحبّ أَن يدعى بِهِ فِي الصَّلَاة قبل التَّسْلِيم، لصِحَّته، وللإنسان أَن يَدْعُو فِي صلَاته بِمَا فِي الْقُرْآن من الدُّعَاء، وَبِمَا صَحَّ فِي النَّقْل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ لَهُ أَن يَدْعُو بِمَا سوى ذَلِك من كَلَام النَّاس.
2 - / 2 - الحَدِيث الثَّانِي: قَالَ أَبُو بكر: نظرت إِلَى أَقْدَام الْمُشْركين وَنحن فِي الْغَار وهم على رؤوسنا، فَقلت: يَا رَسُول الله، لَو أَن أحدهم نظر إِلَى قَدَمَيْهِ أبصرنا تَحت قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: " يَا أَبَا بكر، مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ، الله ثالثهما ".
الْغَار: النقب فِي الْجَبَل، وَكَانَ هَذَا الْغَار فِي جبل يُقَال لَهُ ثَوْر، وَهُوَ مَعْرُوف بِمَكَّة، أَقَامَا فِيهِ ثَلَاثَة أَيَّام، وَكَانَ طلب الْمُشْركين لَهما لَا(1/13)
يفتر، فَبعث الله عز وَجل حَمَامَتَيْنِ فباضتا، وألهم العنكبوت فَنسجَتْ عِنْد بَاب الْغَار، فَلَمَّا وصل الْمُشْركُونَ إِلَى قريب من الْغَار، قَالُوا: ارْجعُوا، فَلَو كَانَ هَاهُنَا أحد لم تكن هَذِه الْحَمَامَة، وَلَا العنكبوت.
وَفِي هَذَا الحَدِيث مَا يدل على جَوَاز الْهَرَب من الْخَوْف، والتمسك بالأسباب. خلافًا للجهال من المتزهدين الَّذين يَزْعمُونَ أَن التَّوَكُّل رفض الْأَسْبَاب، وَإِنَّمَا التَّوَكُّل فعل الْقلب لإنزال السَّبَب، وَقد قَالَ عز وَجل: {خُذُوا حذركُمْ} [النِّسَاء: 71] فَلَو كَانَ التَّوَكُّل ترك السَّبَب لما قَالَ: {خُذُوا حذركُمْ} .
وَقَوله: " مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما " أَي بالنصرة والإعانة، أفتظن أَن يخذلهما، فَرده من النّظر إِلَى الْأَسْبَاب إِلَى الْمُسَبّب.
وَقَالَ بعض الرافضة لبَعض أهل السّنة: من يكون أشرف من خَمْسَة تَحت عباءة سادسهم جِبْرِيل؟ فَقَالَ السّني: اثْنَان فِي الْغَار، ثالثهما الله.
3 - / 3 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ الْبَراء بن عَازِب: اشْترى أَبُو بكر من عَازِب رحلا، وَقَالَ: ابْعَثْ معي ابْنك فَحَملته. وَفِي لفظ: فَقَالَ(1/14)
عَازِب: لَا، حَتَّى تحدثنا كَيفَ فعلت لَيْلَة سريت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ أَبُو بكر: أسرينا ليلتنا ... .
الرحل للبعير كالسرج للدابة.
وَقَوله: لَا، حَتَّى تحدثنا. كَانَ بعض الْمُتَأَخِّرين من شُيُوخ الْمُحدثين الَّذين لم يَذُوقُوا طعم الْعلم، فَلم يُبَارك لَهُم فِيمَا سَمِعُوهُ لسوء مقاصدهم يحْتَج بِهَذَا فِي جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على التحديث. وَلَا يبعد من ناقل لَا يفهم مَا ينْقل أَن يكون مبلغ علمه الِاحْتِجَاج بِمثل هَذَا، فَأَما من اطلع على سير الْقَوْم بفهم، فَإِنَّهُ يعلم أَنه مَا كَانَ هَذَا بَينهم على وَجه الْأُجْرَة، فَإِن أَبَا بكر لم يكن ليبخل على عَازِب بِالْحَدِيثِ، وَلَا هُوَ مِمَّن يبخل عَلَيْهِ بِحمْل الرحل، وَإِنَّمَا هُوَ انبساط الصّديق إِلَى صديقه، فَإِنَّهُ رُبمَا قَالَ لَهُ: لَا أَقْْضِي حَاجَتك حَتَّى تَأْكُل معي. يُحَقّق هَذَا أَن عازبا من الْأَنْصَار، وهم قد آثروا الْمُهَاجِرين بِأَمْوَالِهِمْ، وأسكنوهم فِي دِيَارهمْ، طلبا لثواب الله عز وَجل فَكيف يبخل على أبي بكر بِقَضَاء حَاجَة!
والمهم من الْكَلَام فِي هَذَا أَن نقُول: قد علم أَن حرص الطّلبَة للْعلم قد فتر، لَا بل قد بَطل، فَيَنْبَغِي للْعُلَمَاء أَن يحببوا إِلَيْهِم الْعلم. فَإِذا رأى طَالب الْأَثر أَن الْأُسْتَاذ يُبَاع، وَالْغَالِب على الطّلبَة الْفقر، ترك الطّلب، فَكَانَ هَذَا سَببا لمَوْت السّنة، وَيدخل هَؤُلَاءِ فِي معنى {الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله} . وَقد رَأينَا من كَانَ على قانون السّلف فِي نشر الْعلم، فبورك لَهُ فِي حَيَاته وَبعد مماته، ورأينا من كَانَ على السِّيرَة الَّتِي(1/15)
ذممناها، فَلم يُبَارك لَهُ على غزارة علمه، فنسأل الله عز وَجل أَن يرزقنا الْإِخْلَاص فِي الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال، إِنَّه قريب مُجيب.
وَقَوله: أسرينا ليلتنا. يُقَال: سريت وأسريت، فقد جمع فِي هَذَا الحَدِيث بَين اللغتين، حِين قَالَ عَازِب لأبي بكر: كَيفَ صنعت حِين سريت؟ فَقَالَ أَبُو بكر: أسرينا. أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا ثَابت بن بنْدَار قَالَ: أخبرنَا على بن مُحَمَّد بن قشيش قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عبد الْغفار قَالَ: قرئَ على أبي إِسْحَق الزّجاج وَأَنا أسمع: قَالَ: يُقَال سريت وأسريت: إِذا سرت لَيْلًا ... كَمَا يُقَال: بشرت الرجل بِخَير وأبشرته. وبل من مَرضه وأبل. وَبَدَأَ الله الْخلق وأبدأهم. وَتمّ الله النِّعْمَة وأتمها. وتعسه الله وأتعسه. وثوى الرجل فِي الْمَكَان وأثوى. وَجَاز الرجل الْوَادي وَأَجَازَهُ. وخم اللَّحْم وأخم. وخدجت النَّاقة وأخدجت. ودجى اللَّيْل وأدجى. ودبر وَأدبر. وداد الطَّعَام وأداد. وراع الطَّعَام وأراع. ورث الشَّيْء وأرث: إِذا أخلق. ورعدت السَّمَاء وأرعدت. وزهرت الأَرْض وأزهرت: كثر زهرها. وسنفت النَّاقة وأسنفتها: إِذا كففتها بزمامها. وشكل الْأَمر عَليّ وأشكل. وشجاني الْأَمر وأشجاني. وصل اللَّحْم وأصل:(1/16)
إِذا تغير. وصفقت الْبَاب وأصفقته. وضاء الْقَمَر وأضاء. وطشت السَّمَاء وأطشت. وعرشت الْكَرم وأعرشته: إِذا جعلت لَهُ عَرِيشًا. وعصفت الرّيح وأعصفت: إِذا اشْتَدَّ هبوبها. وعتم اللَّيْل وأعتم. وغل الرجل فِي الْغَنِيمَة وأغل. وغمدت السَّيْف وأغمدته. وغبس اللَّيْل وأغبس. وغبش وأغبش. وغسق وأغسق. وغطش وأغطش. وغامت السَّمَاء وأغامت. وفتيت الرجل وأفتيته. وَقلت الرجل البيع وأقلته. متع الله بك وأمتع بك. ومطرت السَّمَاء وأمطرت. ومح الثَّوْب وأمح: إِذا خلق. ومرأني الطَّعَام وأمرأني. ومهرت الْمَرْأَة وأمهرتها ومكر الرجل وأمكر. ومذى وأمذى. وَمنى وأمنى. ومحضته الود وأمحضته. ونكرت الشَّيْء وأنكرته. ونويت الصَّوْم وأنويته. ووفيت بالعهد وأوفيت. ووتدت الوتد وأوتدته. وهديت الْمَرْأَة إِلَى زَوجهَا وأهديتها.
وَقَوله: أسرينا ليلتنا: يَعْنِي بعد خُرُوجهمْ من الْغَار.
وَقَوله: حَتَّى قَامَ قَائِم الظهيرة: يُرِيد بِهِ ظُهُور الْحر واشتداده.
وَمعنى رفعت لنا صَخْرَة: بَانَتْ وَظَهَرت.
وَقَوله: وَأَنا أنفض مَا حولك: يُرِيد أنظر: هَل أرى عدوا. والنفضة: قوم يبعثون فِي الأَرْض ينظرُونَ هَل بهَا خوف أَو عَدو، وَكَذَلِكَ النفيضة. وَالْعرب تَقول: " إِذا تَكَلَّمت لَيْلًا فاخفض، وَإِذا تَكَلَّمت نَهَارا فانفض " أَي الْتفت، هَل ترى من تكره.
وَقَوله لِلرَّاعِي: لمن أَنْت؟ فَقَالَ: لرجل من أهل الْمَدِينَة. وَرُبمَا(1/17)
ظن ظان أَن المُرَاد بِالْمَدِينَةِ دَار الْهِجْرَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا أَرَادَ بهَا مَكَّة، وكل بلد يُسمى مَدِينَة.
وَفِي اشتقاق الْمَدِينَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا من الدّين، وَالدّين: الطَّاعَة، فسميت بِمَدِينَة لِأَنَّهَا تقوم فِيهَا الطَّاعَة وَالشَّهَادَة.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا من دنت الْقَوْم: أَي ملكتهم، فسميت مَدِينَة لِأَن أَهلهَا دينوا: أَي ملكوا. يُقَال: دَان فلَان بني فلَان: أَي ملكهم، قَالَ النَّابِغَة:
(بعثت على الْمَدِينَة خير رَاع ... فَأَنت إمامها وَالنَّاس دين)
وَيُقَال للْأمة مَدِينَة، لِأَنَّهَا مَمْلُوكَة. قَالَ الأخطل:
(ربت وَربا فِي حجرها ابْن مَدِينَة ... يظل على مسحاته يتركل)
يُرِيد: ابْن أمة فَإِن قَالَ قَائِل: لم صرفت الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة، وَهَذَا الِاسْم إِذا أطلق أُرِيد بِهِ دَار الْهِجْرَة؟
فَالْجَوَاب: أَن الْقَوْم إِنَّمَا سَارُوا يَوْمًا وَلَيْلَة، ثمَّ لقوا الرَّاعِي، وَقد علم أَن راعي الْمَدِينَة لَا يرْعَى بِقرب مَكَّة لبعد الْمسَافَة. وَفِي بعض(1/18)
أَلْفَاظ الحَدِيث فَقلت: لمن أَنْت يَا غُلَام؟ فَقَالَ: لرجل من قُرَيْش. ثمَّ قد روينَاهُ من حَدِيث لوين عَن حديج بن مُعَاوِيَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْبَراء، فَقَالَ فِيهِ: فَقلت: لمن أَنْت؟ فَسمى رجلا من أهل مَكَّة.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ لم يتورع الرَّسُول وَلَا أَبُو بكر من شرب ذَلِك اللَّبن، وَقد حلبه لَهما مَمْلُوك لَا يدرى: هَل أذن لَهُ سَيّده فِي مثل ذَلِك أم لَا؟
فَالْجَوَاب: أَنه لَا يَخْلُو الْحَال من أحد خَمْسَة أَشْيَاء:
الأول: أَن يكون الْأَمر مَحْمُولا على الْعَادة، وَالْعَادَة جَارِيَة من الْعَرَب بقرى الضَّيْف، وَأَن الموَالِي لَا يمْنَعُونَ المماليك من ذَلِك.
وَالثَّانِي: أَن قَوْله: أفتحلب لي؟ يشبه أَن يكون مَعْنَاهُ: هَل أذن لَك فِي ذَلِك؟ .
وَالثَّالِث: أَنه قد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث أَحْمد فِي مُسْنده فَقَالَ فِيهِ: فَقلت: لمن أَنْت يَا غُلَام؟ فَقَالَ: لرجل من قُرَيْش، فَسَماهُ، فعرفته. فَيجوز أَن يكون لذَلِك الرجل قرَابَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لأبي بكر، أَو صديقا لَا يبخل.
وَالرَّابِع: أَن الجائع والعطشان إِذا مر بِغنم لَا يملكهَا جَازَ لَهُ أَن يَأْخُذ قدر حَاجته. هَذَا مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَالْحسن، وَالزهْرِيّ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ إِذا مر بالثمار الْمُعَلقَة وَلَا حَائِط عَلَيْهَا جَازَ لَهُ الْأكل من غير ضَمَان، سَوَاء اضْطر إِلَيْهَا أَو لم يضْطَر. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: إِنَّمَا يُبَاح ذَلِك للمحتاج. قَالَ أَحْمد فِي رِوَايَة صَالح: أَرْجُو أَلا يكون بِهِ بَأْس(1/19)
إِذا كَانَ مُسَافِرًا. وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا مر أحدكُم بِإِبِل فَأَرَادَ أَن يشرب فليناد: يَا راعي الْإِبِل، فَإِن أَجَابَهُ، وَإِلَّا فليشرب ".
وَالْخَامِس: أَن يكون اسْتحلَّ ذَلِك بِموضع كفرهم، وَأَن أَمْوَالهم كالفيء.
وَقَوله: فَحلبَ لي كثبة من اللَّبن: وَهِي الْقطعَة، سميت بذلك لاجتماعها، وَكَذَلِكَ الكثبة من التَّمْر.
والإداوة كالركوة يحمل فِيهَا المَاء.
وَقَوله: أرتوي فِيهَا: أَي أحمل فِيهَا المَاء للري.
وَقَوله: فَصَبَبْت على اللَّبن: يُرِيد على الْقدح الَّذِي فِيهِ اللَّبن. وَقد بَين هَذَا فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث. وَإِنَّمَا صب على الْقدح الَّذِي فِيهِ اللَّبن ليبرد اللَّبن سَرِيعا لشدَّة جوعهم.
وَمَا فعله أَبُو بكر من بسط الفروة تَحت رَسُول الله، وَاخْتِيَار الظل لَهُ، وَأمر الرَّاعِي بنفض الضَّرع من الْغُبَار، كُله يُنَبه على اللطف بِالنَّفسِ، وَأَنه يَنْبَغِي أَن يرفق بهَا؛ لِأَن لَهَا حَقًا، خلافًا لجهلة المتزهدين فِي الْحمل على النَّفس. وَكَذَلِكَ حمل الْإِدَاوَة فِي السّفر، خلافًا لجهلة المتوكلة.
وَقَوله: فَشرب حَتَّى رضيت: أَي طابت نَفسِي لعلمي بريه.(1/20)
وسراقة هُوَ ابْن مَالك بن جعْشم. فقد نسب هَاهُنَا إِلَى جده. وَسَتَأْتِي قصَّة إِسْلَامه فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَالْجَلد: الأَرْض الغليظة الصلبة.
وارتطمت بِمَعْنى غاصت يُقَال: ارتطم الرجل فِي الوحل: إِذا نشب فِيهِ وَلم يكد يتَخَلَّص. وارتطم على الرجل أمره: إِذا سدت عَلَيْهِ مذاهبه.
وَقَوله: هَذِه كِنَانَتِي: الكنانة: الْوِعَاء الَّذِي فِيهِ السِّهَام.
وَقَوله: فقدمنا الْمَدِينَة لَيْلًا: يَعْنِي وصلنا إِلَيْهَا، إِلَّا أَنهم أَقَامُوا خَارِجا مِنْهَا، ثمَّ دخلُوا نَهَارا، وَهَذَا مُبين فِي حَدِيث عَائِشَة.
وَقَوله: فتنازعوا: يَعْنِي قبائل الْأَنْصَار.
وَقَوله: " أنزل على بني النجار أخوال عبد الْمطلب " كَانَ هِشَام قد تزوج امْرَأَة من بني النجار، فَولدت عبد الْمطلب، فَلذَلِك كَانُوا أَخْوَاله.
أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب بن الْمُبَارك قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن بن عبد الْجَبَّار: أخبرنَا عبد الْبَاقِي بن عبد الْكَرِيم قَالَ: أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن عمر الْخلال قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر مُحَمَّد بن أَحْمد بن يَعْقُوب بن شيبَة(1/21)
قَالَ: حَدثنِي جدي يَعْقُوب قَالَ: أم عبد الْمطلب سلمى بنت زيد بن خِدَاش بن أُميَّة بن أَسد بن عَاصِم بن غنم بن عدي بن النجار. وَاسم زيد مَنَاة.
قَالَ يَعْقُوب: وَحدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن فليح عَن مُوسَى بن عقبَة عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: أم عبد الْمطلب سلمى بنت عَمْرو بن زيد بن عدي بن النجار.
4 - / 4 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: عَن أبي هُرَيْرَة: أَن أَبَا بكر بَعثه فِي الْحجَّة الَّتِي أمره عَلَيْهَا رَسُول الله قبل حجَّة الْوَدَاع فِي رَهْط يُؤذن فِي النَّاس يَوْم النَّحْر: أَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك، وَلَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان. ثمَّ أرْدف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بعلي بن أبي طَالب، وَأمره أَن يُؤذن ب " بَرَاءَة ".
اعْلَم أَن هَذِه الْحجَّة كَانَت فِي سنة تسع من الْهِجْرَة، وَإِنَّمَا أمكن هَذَا لِأَن مَكَّة فتحت فِي سنة ثَمَان، وَقد كَانَ الْمُشْركُونَ يحجون كل سنة، وَقد ظن قوم أَن فِي بَعثه عليا عَلَيْهِ السَّلَام ليقْرَأ " بَرَاءَة " نقضا لأبي بكر، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أجْرى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَرَب فِي نقض العهود على عَادَتهَا، فَكَانَ لَا يتَوَلَّى ذَلِك على الْقَبِيلَة إِلَّا سيدهم أَو رجل من رهطه دينا، كأخ، أَو عَم، أَو ابْن عَم. وَقد كَانَ للْعَرَب أَن يَقُولُوا: إِذا تَلا عَلَيْهِم نقض العهود من لَيْسَ من رَهْط رَسُول الله:(1/22)
هَذَا خلاف مَا نعرفه، فأزاح النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعلَّة بِمَا فعل، وَمِمَّا يزِيل الْإِشْكَال أَن أَبَا بكر كَانَ الإِمَام فِي تِلْكَ الْحجَّة، فَكَانَ عَليّ يأتم، وَأَبُو بكر الْخَطِيب وَعلي يسمع.
وَقَوله: {وَإِن خِفْتُمْ عيلة} [التَّوْبَة: 28] .
الْعيلَة: الْفقر وَالْحَاجة، وَإِنَّمَا خَافَ الْمُسلمُونَ الْفقر لِأَن الْمُشْركين كَانُوا يحملون التِّجَارَات إِلَيْهِم ويجيئون بِالطَّعَامِ وَغَيره، فَقيل لَهُم: إِن خِفْتُمْ فقرا بِانْقِطَاع الْمُشْركين فَسَوف يغنيكم الله من فَضله إِن شَاءَ، فأغناهم بالجزية الْمَأْخُوذَة من أهل الْكتاب، كَذَلِك قَالَ قَتَادَة. وَقَالَ مقَاتل: فأغناهم بِأَن جعل أهل نجد وجرش وَصَنْعَاء أَسْلمُوا، فحملوا الطَّعَام إِلَى مَكَّة.
فَأَما قَوْله: وَيَوْم الْحَج الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر، فَإِنَّهُ من قَول حميد بن عبد الرَّحْمَن الرَّاوِي عَن أبي هُرَيْرَة.
وَقد اخْتلف الْمُفَسِّرُونَ فِي يَوْم الْحَج الْأَكْبَر على ثَلَاثَة أَقْوَال:
فأحدها: أَنه يَوْم عَرَفَة، وَهُوَ مَذْهَب عمر، وَابْن عمر، وَابْن الزبير، وَأبي جُحَيْفَة، وطاووس، وَعَطَاء.
وَالثَّانِي: يَوْم النَّحْر، وَهُوَ مَذْهَب أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَابْن(1/23)
أبي أوفى، والمغيرة بن شُعْبَة، وَابْن الْمسيب، وَعِكْرِمَة، وَالشعْبِيّ، وَالزهْرِيّ، وَالنَّخَعِيّ، وَابْن زيد، وَالسُّديّ. وَعَن عَليّ وَابْن عَبَّاس كالقولين.
وَالثَّالِث: أَنه أَيَّام الْحَج كلهَا، فَعبر عَن الْأَيَّام بِالْيَوْمِ، كَمَا يُقَال: يَوْم الْجمل، وَيَوْم صفّين، وَهَذَا مَذْهَب سُفْيَان الثَّوْريّ. وَعَن مُجَاهِد كالأقوال الثَّلَاثَة.
فَإِن قيل: لم سَمَّاهُ الْأَكْبَر؟
فللعلماء فِي ذَلِك أَرْبَعَة أَقْوَال.
أَحدهَا: لِأَنَّهُ يحلق فِيهِ الشّعْر، ويهراق الدَّم، وَيحل فِيهِ الْحَرَام، قَالَه عبد الله بن أبي أوفى.
وَالثَّانِي: أَنه اتّفق فِي سنة حج فِيهَا الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَوَافَقَ ذَلِك عيد الْيَهُود وَالنَّصَارَى، قَالَه الْحسن.
وَالثَّالِث: أَن الْحَج الْأَكْبَر هُوَ الْحَج، فالحج الْأَصْغَر هُوَ الْعمرَة، قَالَه عَطاء وَالشعْبِيّ، وَاخْتَارَهُ ابْن جرير.
وَالرَّابِع: أَن الْحَج الْأَكْبَر الْقرَان، والأصغر الْإِفْرَاد. قَالَه مُجَاهِد.
وعَلى هَذِه الْأَقْوَال اعْتِرَاض: وَهُوَ أَن يُقَال: إِنَّمَا حج أَبُو بكر فِي ذِي الْقعدَة، وَحج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعده فِي ذِي الْحجَّة، وَقَالَ:(1/24)
" إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض " فَكيف يكون أَذَان أبي بكر يَوْم عَرَفَة، أَو يَوْم النَّحْر على مَا ذكرْتُمْ؟
وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْقَوْلَيْنِ قد رويا، وَلَيْسَ أَحدهمَا بِأولى من الآخر، أَعنِي بالقولين: أَن أَبَا بكر نَادَى يَوْم عَرَفَة أَو يَوْم النَّحْر، وَأَنه حج فِي ذِي الْقعدَة.
وَالثَّانِي: أَن يكون سمي يَوْم حج أبي بكر يَوْم الْحَج الْأَكْبَر، لأَنهم جَعَلُوهُ مَكَان يَوْم النَّحْر، فَسُمي باسم مَا حل مَحَله.
5 - / 5 - الحَدِيث الْخَامِس: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: لما توفّي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واستخلف أَبُو بكر، وَكفر من كفر من الْعَرَب، قَالَ عمر لأبي بكر: كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد قَالَ رَسُول الله: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَه إِلَّا الله، فَمن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله، عصم مني مَاله وَنَفسه إِلَّا بِحقِّهِ، وحسابه على الله " فَقَالَ أَبُو بكر: وَالله لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة؛ فَإِن الزَّكَاة حق المَال، وَالله لَو مَنَعُونِي عنَاقًا كَانُوا يؤدونها إِلَى رَسُول الله لقاتلتهم على منعهَا. وَفِي لفظ آخر: عقَالًا كَانُوا يؤدونه. فَقَالَ عمر: فو الله مَا هُوَ إِلَّا أَن شرح الله صدر أبي بكر لِلْقِتَالِ، فَعرفت أَنه الْحق.(1/25)
قد اعْترض على هَذَا الحَدِيث بعض الرافضة فَقَالَ: لَا يَخْلُو أَن يكون هَؤُلَاءِ كفَّارًا أَو مُسلمين: فَإِن كَانُوا كفَّارًا فَكيف قَالَ: لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، فَجعل عِلّة قِتَالهمْ ترك الزَّكَاة لَا الْكفْر؟ ثمَّ كَيفَ يشكل قتال الْكفَّار على عمر؟ وَإِن كَانُوا مُسلمين فَكيف اسْتحلَّ قَتلهمْ، وَسبي ذَرَارِيهمْ؟ كَيفَ قَالَ: لَو مَنَعُونِي عنَاقًا - أَو عقَالًا - والعناق والعقال لَا يؤخذان فِي الزَّكَاة؟ ثمَّ كَيفَ يَقُول عمر: رَأَيْت الله قد شرح صدر أبي بكر لِلْقِتَالِ، فَعرفت أَنه الْحق، وَظَاهر هَذَا أَنه وَافقه بِلَا دَلِيل؟
وَالْجَوَاب: أَن أهل الرِّدَّة فِي زمن أبي بكر انقسموا فرْقَتَيْن: ففرقه عَادَتْ إِلَى الْكفْر، وهم المذكورون فِي قَوْله: وَكفر من كفر من الْعَرَب. وَفرْقَة فرقت بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، فأقرت بِالصَّلَاةِ دون الزَّكَاة، فَهَؤُلَاءِ بغاة، غير أَنهم لم يسموا بذلك لدخولهم فِي فريق الْمُرْتَدين، فأضيف الِاسْم إِلَى الرِّدَّة لكَونهَا أعظم الْأَمريْنِ.
وأرخ مبدأ قتال الْبُغَاة بأيام عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، إِذْ كَانُوا فِي زَمَانه منفردين لم يختلطوا بالمشركين. وَإِنَّمَا سميناهم بغاة لقرب الْعَهْد وجهلهم بِأَمْر الشَّرْع، بِخِلَاف مَا لَو سعت الْيَوْم طَائِفَة تجحد الزَّكَاة، فَإِنَّمَا نسميها كَافِرَة لَا باغية؛ لِأَن وجوب الزَّكَاة قد استفاض. وَفِي أَحْوَال أُولَئِكَ الْبُغَاة وَقعت الشُّبْهَة لعمر، فراجع أَبَا بكر تعلقا بِظَاهِر لفظ الرَّسُول قبل أَن يتَأَمَّل الْمَعْنى. فَقَالَ أَبُو بكر: إِن الزَّكَاة حق المَال، يُفَسر لَهُ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِلَّا بِحقِّهِ " فَبَان الدَّلِيل لعمر، فَوَافَقَ لذَلِك لَا بالتقليد، وَهُوَ المُرَاد بقوله: فَمَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَيْت الله شرح صدر(1/26)
أبي بكر لِلْقِتَالِ: أَي فهمه مَا يُوجب عَلَيْهِ أَن يُقَاتل.
وَأما مَا جرى على أُولَئِكَ من السَّبي، فَأمر رَأَتْهُ الصَّحَابَة من بَاب الِاجْتِهَاد فِي ذَلِك الْوَقْت، واستولد عَليّ جَارِيَة من سبي بني حنيفَة فَولدت لَهُ مُحَمَّد بن عَليّ. ثمَّ لم ينقرض ذَلِك الْعَهْد حَتَّى تغير اجْتِهَاد الصَّحَابَة فاتفقوا على أَن الْمُرْتَد لَا يسبى.
وَأما قَوْله: لَو مَنَعُونِي عنَاقًا: فالعناق: اسْم للْأُنْثَى من الْمعز أول سنة الْوَضع، وَيُقَال للذّكر جدي، وَهَذَا يدل على أَن الزَّكَاة تجب فِي صغَار الْغنم، وَعِنْدنَا أَنَّهَا تجب فِي الصغار إِذا انْفَرَدت وَبَلغت نِصَابا، وَيخرج مِنْهَا، سَوَاء ابْتَدَأَ ملكهَا من أول الْحول، أَو نتجت عَنهُ وَهَلَكت الْأُمَّهَات قبل الْحول. وَهَذَا قَول مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأبي يُوسُف، وَزفر. إِلَّا أَن مَالِكًا وَزفر يَقُولَانِ: تجب فِي الْكَبِيرَة من جِنْسهَا. وَفِيه ثَانِيَة عَن أَحْمد: لَا تجب الزَّكَاة فِي الصغار إِذا انْفَرَدت، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَمُحَمّد، وَدَاوُد.
فَأَما قَوْله: لَو مَنَعُونِي عقَالًا. فالعقال: اسْم مُشْتَرك يَقع على الَّذِي يشد بِهِ الْبَعِير، فَإِن أَرَادَ ذَلِك فَهُوَ للْمُبَالَغَة. وَيَقَع العقال على صَدَقَة عَام. قَالَ الْأَصْمَعِي: العقال: زَكَاة عَام، وَأنْشد:
(سعى عقَالًا فَلم يتْرك لنا سبدا ... فَكيف لَو قد سعى عَمْرو عِقَالَيْنِ)(1/27)
وَالْمعْنَى: أَخذ عَمْرو صَدَقَة عَام، والسبد: الشّعْر. واللبد: الصُّوف.
قَالَ أَبُو عبيد: وَمِنْه حَدِيث ابْن أبي ذُبَاب: أَن عمر أخر الصَّدَقَة عَام الرَّمَادَة، فَلَمَّا أَحْيَا النَّاس بَعَثَنِي فَقَالَ: اعقل عَلَيْهِم عِقَالَيْنِ، فاقسم فيهم عقَالًا وائتني بِالْآخرِ. فَهَذَا يشْهد أَن العقال صَدَقَة عَام.
وَقَوله: وحسابهم على الله. أَي فِيمَا يستسرون ويخلون بِهِ، لَا فِيمَا يخلون بِهِ من الْأَحْكَام الظَّاهِرَة.
6 - / 6 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن فَاطِمَة وَالْعَبَّاس أَتَيَا أَبَا بكر يلتمسان ميراثهما من رَسُول الله، وهما حنئيذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خَيْبَر، فَقَالَ أَبُو بكر: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لَا نورث، مَا تركنَا صَدَقَة، إِنَّمَا يَأْكُل آل مُحَمَّد فِي هَذَا المَال " وَإِنِّي لَا أدع أمرا رَأَيْت رَسُول الله يصنعه فِيهِ إِلَّا صَنعته، إِنِّي أخْشَى إِن تركت شَيْئا من أمره أَن أزيغ. فَأَما صدقته بِالْمَدِينَةِ فَدَفعهَا عمر إِلَى عَليّ وعباس، فغلبه عَلَيْهَا عَليّ، وَأما خَيْبَر وفدك فَأَمْسَكَهُمَا عمر وَقَالَ: هما صَدَقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَتَا لحقوقه الَّتِي تعروه ونوائبه، وَأَمرهمَا إِلَى من ولي الْأَمر.
اعْلَم أَن الْأَمْوَال الَّتِي أفاءها الله على رَسُوله كفدك، وأموال بني النَّضِير، كَانَ يَأْخُذ مِنْهَا نَفَقَته وَنَفَقَة أَهله، وَيصرف الْبَاقِي فِي مصَالح الْمُسلمين، وَقد قَالَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: " لَا تقتسم ورثتي دِينَارا،(1/28)
وَمَا تركت بعد نَفَقَة نسَائِي وَمؤنَة عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَة ". وَكَانَ سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة يَقُول: أَزوَاج رَسُول الله فِي معنى المتعبدات لِأَنَّهُ لَا يجوز لَهُنَّ النِّكَاح أبدا، فجرت عَلَيْهِنَّ النَّفَقَة، وَتركت حجرهن لَهُنَّ يسكنهَا، وَأَرَادَ بمؤنة عَامله من يَلِي بعده، فظنت فَاطِمَة وَالْعَبَّاس أَن ذَلِك مِمَّا يقسم. قَالَ: فَلَمَّا قَالَ أَبُو بكر: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " لَا نورث، مَا تركنَا صَدَقَة " انْقَطع الْكَلَام.
ثمَّ اخْتصم عَليّ وَالْعَبَّاس فِيمَا جعل إِلَيْهِمَا من صدقته بِالْمَدِينَةِ، وَهِي أَمْوَال بني النَّضِير، فَإِنَّهَا كَانَت قَرِيبا من الْمَدِينَة. قَالَ أَبُو دَاوُد السجسْتانِي: وَإِنَّمَا اخْتَصمَا فِي قسمتهَا، وسألا عمر أَن يقسمها بَينهمَا نِصْفَيْنِ ليستبد كل وَاحِد مِنْهُمَا بولايته، فَلم ير عمر أَن يُوقع الْقِسْمَة على الصَّدَقَة، وَلم يطلبا قسمتهَا ليتملكا ذَلِك. وَهَذَا الَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد فِي غَايَة الْحسن. وَإِنَّمَا طلبا الْقِسْمَة لِأَنَّهُ كَانَ يشق على كل وَاحِد مِنْهُمَا أَلا يعْمل عملا فِي تِلْكَ الْأَمْوَال حَتَّى يسْتَأْذن صَاحبه.
وَمعنى: فغلبه عَلَيْهَا: أَي على الْولَايَة.
وَقَوله: إِنِّي أخْشَى أَن أزيغ: أَي أميل عَن الصَّوَاب.
وَقَوله: وَأما خَيْبَر وفدك فكانتا لحقوقه الَّتِي تعروه ونوائبه،(1/29)
وَأَمرهمَا إِلَى من ولي الْأَمر. وَمعنى تعروه: تغشاه وتنتابه.
وَمِمَّا عَابَ النَّاس على عُثْمَان أَنه أقطع مَرْوَان بن الحكم فدكا، قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: لَعَلَّه تَأَول قَول رَسُول الله: " إِذا أطْعم الله نَبيا طعمة فَهُوَ للَّذي يقوم من بعده " فَلَمَّا اسْتغنى عُثْمَان عَنْهَا بِمَالِه جعلهَا لأقربائه.
وَفِي هَذَا الحَدِيث أَن فَاطِمَة هجرت أَبَا بكر. وَرُبمَا أشكل هَذَا، فَقَالَ قَائِل: أتراها اتهمته فِيمَا روى؟ وَالْجَوَاب: أَنَّهَا خرجت من عِنْده غَضبى؛ لِأَنَّهَا سَمِعت قولا يُخَالف مَا عَلَيْهِ النَّاس من التَّوَارُث، فَكَأَنَّهَا ظنت فِي أبي بكر أَنه شبه عَلَيْهِ فِيمَا روى مِمَّا يُخَالف الْكتاب، وَاتفقَ مَرضهَا وامتد، فَقيل: هجرت أَبَا بكر، وَوَافَقَ ذَلِك امْتنَاع عَليّ من مبايعته ظنا مِنْهُ أَن النّسَب يُؤثر فِي الْولَايَة كَمَا أثر فِي حمله " بَرَاءَة " إِلَى أَن بَان لَهُ الصَّوَاب فَبَايع أَبَا بكر، رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام انْقَطع عَن الْبيعَة، وَوَافَقَهُ جَمِيع بني هَاشم، فَكيف يُقَال: إِن بيعَة أبي بكر ثبتَتْ بِالْإِجْمَاع؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الْقَوْم انْقَطَعُوا عَن الْبيعَة وَمَا أنكروها، وَإِذا تكلم بعض الْعلمَاء فِي مَسْأَلَة، وَسكت بَعضهم، لم يقْدَح سكُوت السَّاكِت فِيمَا أجمع عَلَيْهِ المتكلمون؛ لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون السَّاكِت سكت رَاضِيا، أَو لينْظر.
وَالثَّانِي: أَنه مَا انقرض ذَلِك الْعَصْر حَتَّى انْعَقَد الْإِجْمَاع، فَبَايعهُ من تقاعد مِنْهُ.(1/30)
وَفِي هَذَا الحَدِيث: وَكَانَ لعَلي وَجه من النَّاس، أَي جاه عِنْدهم.
وَفِيه: فضرع إِلَى مصالحة أبي بكر: أَي سَأَلَ الصُّلْح.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: فَأرْسل عَليّ إِلَى أبي بكر: أَن ائتنا، وَلَا تأتنا مَعَك بِأحد. الَّذِي يظنّ أَنه أَشَارَ بالأحد إِلَى عمر، وَقد كَانَ فِي عمر شدَّة، فَلم يَأْمَن عتابه إِيَّاه فِي التَّخَلُّف.
وَقَول عَليّ: وَلَا نفاسة عَلَيْك: النفاسة: الْحَسَد.
وَقَوله: قد كُنَّا نرى أَن لنا فِي هَذَا الْأَمر حَقًا: يجوز أَن يُرِيد بِهِ الْولَايَة، وَيجوز أَن يُرِيد بِهِ الْمُشَاورَة.
وَقَوله: موعدك العشية: أَرَادَ أَن يبايعه وَالنَّاس يسمعُونَ.
وَقد روى أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ عَن أبي عمر الزَّاهِد عَن ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: أول خطْبَة خطبهَا السفاح فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا العباسية بالأنبار، فَلَمَّا افْتتح الْكَلَام وَصَارَ إِلَى ذكر الشَّهَادَة من الْخطْبَة قَامَ رجل من آل أبي طَالب فِي عُنُقه مصحف فَقَالَ: أذكرك الله الَّذِي ذكرته إِلَّا أنصفتني من خصمي، وحكمت بيني وَبَينه بِمَا فِي هَذَا الْمُصحف. فَقَالَ لَهُ: وَمن ظالمك؟ فَقَالَ: أَبُو بكر الَّذِي منع فَاطِمَة فدك. فَقَالَ لَهُ: وَهل كَانَ بعده أحد؟ قَالَ: نعم. قَالَ: من؟ قَالَ: عمر. قَالَ: فَأَقَامَ على ظلمك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: وَهل كَانَ بعده أحد؟ قَالَ: نعم. قَالَ: من؟ قَالَ: عُثْمَان. قَالَ: فَأَقَامَ على ظلمك؟ قَالَ: نعم. قَالَ وَهل كَانَ بعده أحد؟ قَالَ: نعم. قَالَ: من؟ قَالَ: أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب. قَالَ: وَأقَام على ظلمك. قَالَ:(1/31)
فأسكت الرجل، وَجعل يلْتَفت إِلَى مَا وَرَاءه يطْلب مخلصا. فَقَالَ لَهُ: وَالله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ، لَوْلَا أَنه أول مقَام قمته، ثمَّ إِنِّي لم يكن تقدّمت إِلَيْك فِي هَذَا قبل، لأخذت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك، اقعد. وَأَقْبل على الْخطْبَة.
7 - / 7 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
تأيمت حَفْصَة من خُنَيْس بن حذافة.
أَي بقيت بِلَا زوج، يُقَال: رجل أيم، وَامْرَأَة أيم: لَا زوج لَهما، وَسَوَاء كَانَت الْمَرْأَة بكرا أَو ثَيِّبًا: كَذَلِك حَكَاهُ الْحَرْبِيّ عَن أبي نصر صَاحب الْأَصْمَعِي.
وَقَوله: من خُنَيْس: قد أشكل هَذَا الِاسْم على معمر بن رَاشد فَقَالَ: حُبَيْش بِالْحَاء الْمُهْملَة والشين الْمُعْجَمَة. وَقَالَ: ابْن حُذَيْفَة أَو حذافة. وَالصَّوَاب خُنَيْس بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَبعدهَا نون وياء مُعْجمَة بِاثْنَيْنِ وسين مُهْملَة، ابْن حذافة. وَهَذَا الرجل اسْمه خُنَيْس بن حذافة ابْن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، وَهُوَ من أهل بدر، وإسلامه قديم(1/32)
قبل دُخُول رَسُول الله دَار الأرقم الَّتِي يُقَال لَهَا دَار الخيزران، وَكَانَ قد هَاجر إِلَى أَرض الْحَبَشَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة، ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة، وَمَات على رَأس خمس وَعشْرين شهرا من الْهِجْرَة، وَدفن بِالبَقِيعِ إِلَى جَانب قبر عُثْمَان بن مَظْعُون، وَهُوَ أَخُو عبد الله بن حذافة الَّذِي قَالَ لرَسُول الله: من أبي؟ فَقَالَ: " أَبوك حذافة ".
وَأما حُبَيْش بِالْحَاء الْمُهْملَة وَبعدهَا بَاء فصحابي أَيْضا، يُقَال لَهُ حُبَيْش بن خَالِد. وَفِي الصَّحَابَة وهب بن خنيش بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَبعدهَا نون وياء.
وَقَول عمر: فَلَقِيت عُثْمَان فعرضت عَلَيْهِ حَفْصَة، يدل على أَن السَّعْي من الْأَب للأيم فِي التَّزْوِيج، وَاخْتِيَار الأكفأ جَائِز غير مَكْرُوه.
وَقَوله: فَلَقِيت أَبَا بكر فعرضتها عَلَيْهِ فَلم يرجع إِلَيّ شَيْئا، فَكنت عَلَيْهِ أوجد مني على عُثْمَان. وَذَلِكَ لشيئين: أَحدهمَا: أَنه كَانَ أقرب إِلَى صداقته ومخالطته من عُثْمَان. وَالثَّانِي: أَن عُثْمَان أفْصح لَهُ بِالرَّدِّ فأراحه، وَأَبُو بكر صمت فَتَركه على الترقب. وَلذَلِك اعتذار أبي بكر عَن الْإِمْسَاك بِأَنَّهُ سمع رَسُول الله يذكرهَا.
8 - / 8 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: ارقبوا مُحَمَّدًا فِي آل بَيته.
الْمَعْنى راقبوه وراعوه واحفظوه فيهم، وَذَلِكَ يكون بحبهم وتوقيرهم(1/33)
ومراعاة حُقُوقهم. قَالَ الزّجاج: وَأهل بَيته الرِّجَال الَّذين هم آله، ونساؤه.
9 - / 9 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ زيد بن ثَابت: أرسل أَبُو بكر مقتل أهل الْيَمَامَة ...
يَوْم الْيَمَامَة: هُوَ الْيَوْم الَّذِي قتل فِيهِ مُسَيْلمَة الْكذَّاب، وَكَانَ قد ادّعى النُّبُوَّة، وَقَالَ أَنا أُؤْمِن بِمُحَمد، لكني قد اشتركت مَعَه فِي النُّبُوَّة. وَتُوفِّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومسيلمة قد استفحل أمره، ثمَّ إِن الْمُسلمين حَارَبُوهُ، فَقتل مِنْهُم خلق كثير، وقتلوه يَوْمئِذٍ.
وَقَوله: إِن الْقَتْل قد استحر. أَي: كثر وَاشْتَدَّ، وَالْمَكْرُوه أبدا يُضَاف إِلَى الْحر، والمحبوب إِلَى الْبرد. وَمِنْه قَوْلهم: " ول حارها من تولى قارها "
وَقَول عمر لأبي بكر: إِنِّي أرى أَن تَأمر بِجمع الْقُرْآن - رَأْي حسن لَا يخفى وَجه الصَّوَاب فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِذا جمع أَمن أَن يُزَاد فِيهِ أَو ينقص.
وَقَوله: كَيفَ نَفْعل شَيْئا لم يَفْعَله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ من يُؤثر الِاتِّبَاع، ويخشى الابتداع، وَإِنَّمَا لم يجمعه رَسُول الله لِأَنَّهُ كَانَ بِعرْض أَن ينْسَخ مِنْهُ وَأَن يُزَاد فِيهِ، فَلَو جمعه لكتب، فَكَانَ الَّذِي عِنْده نُقْصَان يُنكر على من عِنْده الزِّيَادَة. فَلَمَّا أَمن هَذَا الْأَمر بِمَوْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمعه أَبُو بكر، وَكَانَ مَكْتُوبًا فِي الرّقاع والعسب، والعسب: سعف النّخل. واللخاف، واحدتها لخفة: وَهِي حِجَارَة بيض رقاق.(1/34)
وَقَوله: وجدت آخر " التَّوْبَة " مَعَ خُزَيْمَة أَو أبي خُزَيْمَة، وَالصَّوَاب خُزَيْمَة من غير شكّ، وَإِنَّمَا بعض الروَاة يشك.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يثبت الْقُرْآن بِخَبَر وَاحِد؟
فَالْجَوَاب: أَن خُزَيْمَة أذكرهم مَا نسوه، وَلِهَذَا قَالَ زيد: وَجدتهَا مَعَ خُزَيْمَة، وَلم يقل: عرفني أَنَّهَا من الْقُرْآن، وَقد صرح زيد بِهَذَا الْمَعْنى فَقَالَ فِي رِوَايَة: فقدت آيَة كنت أسمعها من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم} [التَّوْبَة: 128] فالتمستها فَوَجَدتهَا مَعَ خُزَيْمَة ابْن ثَابت. وَزيد من جملَة من حفظ الْقُرْآن قبل موت رَسُول الله، غير أَن الْحَافِظ قد يَسْتَعِين بِغَيْرِهِ، وبالمسطور.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: قدم حُذَيْفَة على عُثْمَان وَكَانَ يغازي أهل الشَّام فِي فتح أرمينية وأذربيجان، فأفزعه اخْتلَافهمْ فِي الْقِرَاءَة، فَقَالَ لعُثْمَان: أدْرك هَذِه الْأمة قبل أَن يَخْتَلِفُوا فِي الْكتاب اخْتِلَاف الْيَهُود وَالنَّصَارَى. فَأرْسل عُثْمَان إِلَى حَفْصَة: أَن أرسلي إِلَيْنَا بالصحف ننسخها فِي الْمَصَاحِف ثمَّ نردها إِلَيْك، فَلَمَّا نسخهَا أرسل إِلَى كل أفق بمصحف، وَأمر بِمَا سوى ذَلِك من الْقُرْآن أَن يحرق.
اعْلَم أَنهم لما نسخوا الْقُرْآن فِي زمن أبي بكر كَانَت تِلْكَ الصُّحُف عِنْده، فَلَمَّا مَاتَ أَخذهَا عمر، فَلَمَّا مَاتَ أَخَذتهَا حَفْصَة. وَكَانَ أَبُو بكر قد جمع الْقُرْآن وَلم يمْنَع من عِنْده مِنْهُ شَيْء من تِلَاوَة مَا عِنْده، وَكَانَ مُرَاد عُثْمَان أَن يجمع النَّاس على مصحف وَاحِد وَيمْنَع من تِلَاوَة غَيره، لِأَنَّهُ قد كَانَ الشَّيْء يُتْلَى ثمَّ ينْسَخ أَو يُزَاد فِيهِ وَينْقص مِنْهُ، حَتَّى اسْتَقر(1/35)
الْأَمر على الْعرض الْأَخير الَّذِي عرضه رَسُول الله على جِبْرِيل. وَكَانَ الَّذِي تولى جمعه فِي زمن عُثْمَان زيد بن ثَابت أَيْضا فِي آخَرين.
وَقَوله: يغازي أهل الشَّام: أَي يَغْزُو.
وإرمينية مَكْسُورَة الْألف. وَفِي قرأة الحَدِيث من يضمها، وَهُوَ غلط. وأذربيجان مَقْصُورَة الْألف مسكنة الذَّال، وهما اسمان أعجميان. كَذَلِك قرأتهما على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ وَفِي قِرَاءَة الحَدِيث من يَقُول آذربيجان بِالْمدِّ، وَهُوَ غلط. وَفِي المبتدئين من يَقُول: أذريبجان بِتَقْدِيم الْيَاء على الْبَاء، وَهُوَ جهل.
فَإِن قيل: كَيفَ حرقت الْمَصَاحِف وَهِي معظمة؟
فَالْجَوَاب: أَن ذَلِك لتعظيم الْقُرْآن وصيانته عَن التَّغْيِير، وَرب فَسَاد فِي الظَّاهِر تضمنه صَلَاح.
وَبَعض النَّاس يَقُول: خرق الْمَصَاحِف بِالْخَاءِ، وَالصَّوَاب بِالْحَاء، لِأَنَّهُ لَيْسَ كل الْمَكْتُوب كَانَ فِي رق، وَلَا كَانَ لَهُم ورق.
وَفِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: قَالَ زيد: فقدت آيَة من " الْأَحْزَاب " كنت اسْمَع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ بهَا، فالتمسناها فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَة - الَّذِي جعل رَسُول الله شَهَادَته شَهَادَة رجلَيْنِ: {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ} [الْأَحْزَاب: 23] . وَرُبمَا قَالَ قَائِل هَذَا خلاف مَا تقدم من أَنهم وجدوا مَعَ خُزَيْمَة آخر " التَّوْبَة "، فَأَيّهمَا أصح؟(1/36)
فَالْجَوَاب: أَن كليهمَا صَحِيح، والآيتان وجدتا مَعَ خُزَيْمَة، فآخر " التَّوْبَة " وجدوها مَعَه. فِي زمن أبي بكر، وَالْآيَة من " الْأَحْزَاب " وجدوها مَعَه فِي زمن عُثْمَان.
وَأما جعل شَهَادَته بِشَهَادَة رجلَيْنِ فلسبب أَنبأَنَا بِهِ هبة الله بن مُحَمَّد ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عَليّ التَّمِيمِي قَالَ أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر بن حمدَان قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ: أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: حَدثنِي عمَارَة ابْن خُزَيْمَة الْأنْصَارِيّ أَن عَمه حَدثهُ - وَهُوَ من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْتَاعَ فرسا من أَعْرَابِي فاستتبعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليقبضه ثمن فرسه، فأسرع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبْطَأ الْأَعرَابِي، فَطَفِقَ رجال يعترضون الْأَعرَابِي فيساومون بالفرس، لَا يَشْعُرُونَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابتاعه، حَتَّى زَاد بَعضهم الْأَعرَابِي فِي السّوم على ثمن الْفرس الَّذِي ابتاعه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنَادَى الْأَعرَابِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِن كنت مبتاعا هَذَا الْفرس فابتعه وَإِلَّا بِعته، فَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين سمع نِدَاء الْأَعرَابِي فَقَالَ: " أَو لَيْسَ قد ابتعته مِنْك؟ " قَالَ الْأَعرَابِي: لَا، وَالله مَا بِعْتُك. فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " بلَى، قد ابتعته مِنْك " فَطَفِقَ النَّاس يلوذون بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والأعرابي وهما يتراجعان، فَطَفِقَ الْأَعرَابِي يَقُول: هَلُمَّ شَهِيدا يشْهد أَنِّي قد بَايَعْتُك. فَمن جَاءَ من الْمُسلمين قَالَ للأعرابي: وَيلك، إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن ليقول إِلَّا حَقًا، حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَة، فاستمع لمراجعة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/37)
ومراجعة الْأَعرَابِي، فَطَفِقَ الْأَعرَابِي يَقُول: هَلُمَّ شَهِيدا يشْهد أَنِّي قد بَايَعْتُك. فَقَالَ خُزَيْمَة: أَنا أشهد أَنَّك قد بايعته. فَأقبل النَّبِي على خُزَيْمَة فَقَالَ: " بِمَ تشهد؟ " فَقَالَ: بتصديقك يَا رَسُول الله. فَجعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة خُزَيْمَة شَهَادَة رجلَيْنِ.
وَأما أَخُو خُزَيْمَة الَّذِي روى هَذَا الحَدِيث فَلم يذكر اسْمه، وَقد كَانَ لَهُ أَخَوان: وحوح، وَعبد الله.
وَوجه هَذَا الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا حكم على الْأَعرَابِي بِعِلْمِهِ، وَجَرت شَهَادَة خُزَيْمَة مجْرى التوكيد لقَوْله.
10 - / 10 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عَن أنس: أَن أَبَا بكر كتب لَهُ حِين وَجهه إِلَى الْبَحْرين: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. هَذِه فَرِيضَة الصَّدَقَة الَّتِي فَرضهَا رَسُول الله على الْمُسلمين وَالَّتِي أَمر بهَا رَسُوله.
وَمعنى الْفَرْض هَاهُنَا: بَيَان التَّقْدِير، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة} [الْبَقَرَة: 236] أَي تقدروا مبلغ كميتها.
فَأَما بنت مَخَاض: فَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا حول وَدخلت فِي السّنة الثَّانِيَة، وحملت أمهَا فَصَارَت من الْمَخَاض: وَهن الْحَوَامِل.
وَأما بنت اللَّبُون: فَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا حولان وَدخلت فِي الثَّالِث،(1/38)
فَصَارَت أمهَا لبونا بِوَضْع الْحمل.
فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: بنت لبنون أُنْثَى، وَابْن لبون ذكر وَهُوَ مَعْلُوم؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون ذَلِك توكيدا للتعريف وَزِيَادَة فِي الْبَيَان، كَقَوْلِه تَعَالَى: {تِلْكَ عشرَة كَامِلَة} [الْبَقَرَة: 196] .
وَالثَّانِي: أَن يكون تَنْبِيها لرب المَال ليطيب نفسا بِالزِّيَادَةِ الْمَأْخُوذَة مِنْهُ، وللمصدق ليعلم أَن سنّ الذُّكُورَة مَقْبُول من رب المَال فِي هَذِه الْمَوَاضِع، وَهُوَ أَمر نَادِر يخرج عَن الْعرف فِي بَاب الصَّدقَات. وَأما الحقة: فَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا ثَلَاث سِنِين وَدخلت فِي الرَّابِعَة، فَاسْتحقَّ عَلَيْهَا الْحمل والضراب.
وَقَوله: طروقة الْجمل: هِيَ الَّتِي طرقها الْفَحْل، أَو بلغت أَن يطرقها. وَهِي فعولة بِمَعْنى مفعولة، كالحلوبة.
وَأما الْجَذعَة من الْإِبِل فَهِيَ الَّتِي لَهَا أَربع سِنِين وَقد دخلت فِي الْخَامِسَة.
وَقَوله: فَإِذا زَادَت على عشْرين وَمِائَة فَفِي كل أَرْبَعِينَ ابْنة لبون. فِيهِ دَلِيل على أَن الْفَرِيضَة لَا تسْتَأْنف بعد الْعشْرين وَالْمِائَة، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي وَأحمد، خلافًا لأبي حنيفَة فِي قَوْله: إِذا زَادَت على عشْرين وَمِائَة استؤنفت الْفَرِيضَة، فَفِي خمس شَاة، وَفِي عشر شَاتَان.
وَقَوله: فِي صَدَقَة الْغنم فِي سائمتها. قد دلّ على التَّقْيِيد بالسوم،(1/39)
على أَنه لَا يجب الزَّكَاة فِي العوامل والمعلوفة، وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، خلافًا لمَالِك.
وَقَوله: لَا يجمع بَين متفرق، وَلَا يفرق بَين مُجْتَمع خشيَة الصَّدَقَة.
قَالَ الشَّافِعِي: الخشية خشيتان: خشيَة السَّاعِي أَن تقل الصَّدَقَة، وخشية رب المَال أَن تكْثر الصَّدَقَة. فَأمر كل وَاحِد مِنْهُمَا أَلا يحدث فِي المَال شَيْئا من الْجمع والتفريق. وَشرح هَذَا أَن يكون لِرجلَيْنِ ثَمَانُون شَاة، لكل وَاحِد مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ، فَيجْمَعُونَ بَينهمَا عِنْد مَجِيء السَّاعِي ليَأْخُذ شَاة. أَو يكون لرجل وَاحِد أَرْبَعُونَ، فيفرقها فِي موضِعين لتسقط الصَّدَقَة.
وَقَوله: وَمَا كَانَ من خليطين فَإِنَّهُمَا يتراجعان بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ. وَهَذَا إِذا أَخذ الْمُصدق من نصيب أَحدهمَا شَاة فَإِنَّهُ يرجع بِقِيمَة نصفهَا على خليطه. وَقد اخْتلف الْعلمَاء: هَل للخلطة تَأْثِير فِي إِيجَاب الزَّكَاة؟ فعندنا لَهَا تَأْثِير، وَأَنَّهَا تجْعَل الْمَالَيْنِ كَالْمَالِ الْوَاحِد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تَأْثِير لَهَا. والْحَدِيث صَرِيح فِي الْحجَّة عَلَيْهِ.
وَقَوله: لَا يخرج فِي الصَّدَقَة هرمة: وَهِي الْكَبِيرَة. وَلَا ذَات عوار، قَالَ لنا أَبُو مُحَمَّد بن الخشاب: الْعين مَفْتُوحَة فِي العوار: وَهُوَ الْعَيْب.(1/40)
وَقَوله: وَلَا تَيْس: وَهُوَ فَحل الْغنم، وَإِنَّمَا لم يُؤْخَذ لنقصه ورداءة لَحْمه.
وَقَوله: إِلَّا أَن يَشَاء الْمُصدق: يَعْنِي السَّاعِي؛ لِأَن لَهُ ولَايَة النّظر وَيَده كيد الْفُقَرَاء، إِذْ هُوَ وكيلهم، وَلِهَذَا يَأْخُذ أجرته من مَالهم. وَكَانَ أَبُو عبيد يرويهِ: الْمُصدق، بِفَتْح الدَّال، يُرِيد صَاحب الْمَاشِيَة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَقد خَالفه الروَاة على ذَلِك وَرَوَوْهُ بِكَسْر الدَّال. وَالْمَقْصُود بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ أَن حق الْفُقَرَاء فِي وسط المَال لَا فِي خِيَاره وَلَا فِي رذالته، فَأَما إِذا كَانَ من النّصاب كُله معيبا، فَإِن السَّاعِي يَأْخُذ من عرضه.
وَقَوله: وَفِي الرقة ربع الْعشْر. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الرقة: الْفضة، دَرَاهِم كَانَت أَو غَيرهَا.
وَقَوله: وَمن بلغت عِنْده من الْإِبِل صَدَقَة الْجَذعَة وَلَيْسَت عِنْده وَعِنْده حَقه، فَإِنَّهُ يقبل مِنْهُ الحقة وَيجْعَل مَعَه شَاتين إِن استيسرتا لَهُ، أَو عشْرين درهما. فِيهِ من الْفِقْه أَن كل وَاحِد من الشاتين أَو الدَّرَاهِم أصل فِي نَفسه وَلَيْسَ بِبَدَل، لِأَنَّهُ خير بَينهمَا بِحرف " أَو "، فَعلم أَن ذَلِك لَا يجْرِي مجْرى تَعْدِيل الْقيمَة، لاخْتِلَاف ذَلِك فِي الْأَزْمِنَة والأمكنة، وَإِنَّمَا هُوَ تعويض شَرْعِي، كالغرة فِي الْجَنِين، والصاع فِي الْمُصراة. والسر فِي هَذَا التَّقْوِيم الشَّرْعِيّ أَن الصَّدَقَة كَانَت تُؤْخَذ فِي البراري وعَلى الْمِيَاه حَيْثُ لَا يُوجد سوق وَلَا مقوم يرجع إِلَيْهِ، فَحسن فِي الشَّرْع أَن يقدر شَيْئا يقطع التشاجر.(1/41)
وَفِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: أَن عُثْمَان جلس على بِئْر أريس، فَسقط فِيهَا خَاتمه، فَنُزِحَتْ فَلم يُوجد.
بِئْر أريس بِالْمَدِينَةِ، والنزح: الِاسْتِقْصَاء فِي إِخْرَاج مَا فِي الْبِئْر من مَاء.
11 - / 11 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: خرج أَبُو بكر يمشي وَمَعَهُ عَليّ، فَرَأى الْحسن يلْعَب، فَحَمله على عَاتِقه وَقَالَ: " بِأبي، شَبيه بِالنَّبِيِّ، لَيْسَ شَبِيها بعلي " وَعلي يضْحك.
هَذَا الْكَلَام من جنس الرجز الَّذِي كَانَت الْعَرَب ترقص بِهِ أَوْلَادهَا. والترقيص للصَّغِير بالرجز وَنَحْوه من الْكَلَام الْمُرَتّب أسْرع لإيقاظ فطنته، وَقد كَانَت أم الْأَحْنَف ترقصه فَتَقول:
(وَالله لَوْلَا حنف بِرجلِهِ ... )
(ودقة فِي سَاقه من هزله ... )
(مَا كَانَ فِي فتيانكم من مثله ... )
وَكَانَ الْحسن شَدِيد الشّبَه برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ أنس: لم يكن فيهم أحد أشبه بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحسن. وَمِمَّنْ كَانَ يشبه برَسُول الله جَعْفَر بن أبي طَالب، وَقثم بن الْعَبَّاس، وَأَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث، والسائب بن عُبَيْدَة، وَكَانَ من التَّابِعين رجل يُقَال لَهُ كابس بن ربيعَة السَّامِي، من بني سامة بن لؤَي، كَانَ يُشبههُ، فَبعث إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فَقبل(1/42)
بَين عَيْنَيْهِ، وأقطعه قطيعة، وَكَانَ أنس بن مَالك إِذا رَآهُ بَكَى.
12 - / 12 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: لما اسْتخْلف أَبُو بكر قَالَ: لقد علم قومِي أَن حرفتي لم تكن تعجز عَن مُؤنَة أَهلِي، وشغلت بِأَمْر الْمُسلمين، فيأكل آل أبي بكر من هَذَا المَال، ويحترف للْمُسلمين فِيهِ.
الاحتراف: الِاكْتِسَاب، وَكَانَ أَبُو بكر تَاجِرًا، فَلَمَّا ولي الْخلَافَة رام التِّجَارَة، فَقَالَ الصَّحَابَة: افرضوا لخليفة رَسُول الله مَا يعنيه. قَالُوا: نعم، برْدَاهُ إِذا أخلقهما وضعهما وَأخذ مثلهمَا، وظهره إِذا سَافر، وَنَفَقَته على أَهله كَمَا كَانَ ينْفق قبل أَن يسْتَخْلف، فَقَالَ أَبُو بكر: رضيت.
أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ: أَخْبرنِي ابْن حيويه قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن مَعْرُوف قَالَ: حَدثنَا الْحُسَيْن بن الْفَهم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أخبرنَا مُسلم بن إِبْرَاهِيم قَالَ: حَدثنَا هِشَام الدستوَائي قَالَ: حَدثنَا عَطاء بن السَّائِب قَالَ: لما اسْتخْلف أَبُو بكر أصبح غاديا إِلَى السُّوق وعَلى رقبته أَثوَاب يتجر بهَا، فَلَقِيَهُ عمر بن الْخطاب وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، فَقَالَا لَهُ: أَيْن تُرِيدُ يَا خَليفَة رَسُول الله؟ قَالَ: السُّوق، قَالَا: تصنع مَاذَا، قد وليت أَمر الْمُسلمين؟ قَالَ: فَمن أَيْن أطْعم عيالي؟ قَالَا لَهُ: انْطلق حَتَّى نفرض لَك شَيْئا. فَانْطَلق مَعَهُمَا، ففرضوا لَهُ كل يَوْم شطر شَاة، وماكسوه فِي الرَّأْس والبطن.(1/43)
13 - / 13 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ لأبي بكر غُلَام يخرج لَهُ الْخراج، فجَاء يَوْمًا بِشَيْء فَأكل مِنْهُ أَبُو بكر. فَقَالَ: كنت تكهنت لإِنْسَان فِي الْجَاهِلِيَّة، فَهَذَا الَّذِي أكلت مِنْهُ. فَأدْخل أَبُو بكر يَده، فقاء كل شَيْء فِي بَطْنه.
الْخراج: الضريبة الَّتِي يتَّفق العَبْد مَعَ سَيّده على إخْرَاجهَا لَهُ وأدائها إِلَيْهِ فِي كل يَوْم أَو كل شهر. والتكهن: تعَاطِي علم الْغَيْب. وَأَبُو بكر أول من قاء من الشُّبُهَات تحرجا.
14 - / 14 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أقبل أَبُو بكر من مَسْكَنه بالسنح، فَدخل على عَائِشَة فَبَصر برَسُول الله مسجى بِبُرْدَةٍ، فكشف عَن وَجهه، وأكب عَلَيْهِ فَقبله، ثمَّ بَكَى وَقَالَ: بِأبي أَنْت وَأمي، لَا يجمع الله عَلَيْك موتتين.
السنح: نَاحيَة من نواحي الْمَدِينَة. والمسجى: المغطى. وأكب على الشَّيْء: مَال عَلَيْهِ يلْزمه.
وَكَانَ النَّاس قد شكوا فِي موت رَسُول الله، وَكَانَ عمر يَقُول: لم يمت، حَتَّى جَاءَ أَبُو بكر ثمَّ خرج إِلَى الْمَسْجِد فَقَالَ: من كَانَ يعبد مُحَمَّدًا فَإِن مُحَمَّدًا قد مَاتَ، وَمن كَانَ يعبد الله فَإِن الله حَيّ لَا يَمُوت.(1/44)
15 - / 15 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: لم يكن أَبُو بكر يَحْنَث فِي يَمِين حَتَّى أنزل الله كَفَّارَة الْيَمين. إِنَّمَا كَانَ يتْرك الْحِنْث لموْضِع التَّعْظِيم، فَلَمَّا نزلت كَفَّارَة الْيَمين، ثمَّ سمع النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول: " من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفر " صَار يفعل ذَلِك.
16 - / 16 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: دخل أَبُو بكر على امْرَأَة من أحمس، فرآها لَا تَتَكَلَّم، فَقَالَ: مَالهَا؟ قَالُوا: حجت مصمتة، فَقَالَ لَهَا: تكلمي؛ فَإِن هَذَا لَا يحل، فَقَالَت: مَا بقاؤنا على الْأَمر الصَّالح الَّذِي جَاءَ الله بِهِ بعد الْجَاهِلِيَّة؟ فَقَالَ: مَا استقامت بكم أئمتكم.
المصمت: السَّاكِت، يُقَال: صمت وأصمت: إِذا سكت. وَهَذِه كَانَت عَادَة لَهُم فِي الْجَاهِلِيَّة يتعبدون بهَا. وأرادت بِالْأَمر الصَّالح دين الْإِسْلَام.
وَمعنى قَوْله: مَا استقامت بكم أئمتكم: يَعْنِي أَنَّهَا إِذا حادت ملتم عَن الصَّوَاب.
17 - / 17 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: جَاءَ وَفد بزاخة من أَسد وغَطَفَان إِلَى أبي بكر يسْأَلُون الصُّلْح، فَخَيرهمْ بَين الْحَرْب المجلية وَالسّلم المخزية. فَقَالُوا: هَذِه المجلية قد عرفناها، فَمَا المخزية؟ قَالَ:(1/45)
ننزع مِنْكُم الْحلقَة والكراع، ونغنم مَا أصبْنَا مِنْكُم، وتردون علينا مَا أصبْتُم منا، وتدون لنا قَتْلَانَا، وَتَكون قَتْلَاكُمْ فِي النَّار، وتتركون أَقْوَامًا يتبعُون أَذْنَاب الْإِبِل حَتَّى يري الله خَليفَة رَسُول الله والمهاجرين أمرا يعذرونكم بِهِ. فَقَالَ عمر: نعم مَا قلت، إِلَّا أَن قَتْلَانَا قتلت على أَمر الله، أجورها على الله، لَيْسَ لَهَا ديات. فتتابع الْقَوْم على مَا قَالَ عمر.
أما الْحَرْب المجلية فَهِيَ المخرجة عَن المَال والوطن. وَالسّلم: الصُّلْح، وَيُقَال بِكَسْر السِّين وَفتحهَا، وتذكر وتؤنث. المخزية: المقرة على الذل وَالصغَار. وأصل الخزي الهوان. قَالَ الزّجاج: المخزي فِي اللُّغَة: المذل المحقور بِأَمْر قد لزمَه وبحجة. يُقَال: أخزيت فلَانا: أَي ألزمته حجَّة أذللته بهَا. وَالْحَلقَة بِسُكُون اللَّام حَلقَة الْحَدِيد، وَالْمرَاد بهَا السِّلَاح، وَقيل: هِيَ الدروع خَاصَّة. والكراع: اسْم لجَمِيع أَنْوَاع الْخَيل. وتدون قَتْلَانَا: أَي تؤدون دياتهم. وَقَوله: يتبعُون أَذْنَاب الْإِبِل: كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى نفيهم.
وَأما قَول عمر: لَيْسَ لقتلانا ديات، فغاية فِي الْحسن؛ لِأَنَّهُ لم يرض أَن يكون عرض الدُّنْيَا عوضا لنفوس الشُّهَدَاء الَّتِي ثومنت بِالْجنَّةِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} [التَّوْبَة: 111] .(1/46)
وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم من هَذَا الْمسند
18 - / 18 - قَالَ أَبُو بكر لعمر بعد وَفَاة رَسُول الله: انْطلق بِنَا إِلَى أم أَيمن نزورها كَمَا كَانَ رَسُول الله يزورها.
أم أَيمن اسْمهَا بركَة، وَهِي مولاة رَسُول الله وحاضنته، ورثهَا من أَبِيه وأعتقها حِين تزوج خَدِيجَة، فَتَزَوجهَا عبيد بن زيد، فَولدت لَهُ أَيمن، ثمَّ تزَوجهَا بعد النُّبُوَّة زيد بن حَارِثَة، فَولدت لَهُ أُسَامَة. وَكَانَت حِين هَاجَرت قد أَصَابَهَا عَطش فِي الطَّرِيق، فدلي عَلَيْهَا من السَّمَاء دلو برشا أَبيض، فَشَرِبت حَتَّى رويت، فَكَانَت تَقول: مَا أصابني عَطش بعد ذَلِك. وَقد تعرضت للعطش بِالصَّوْمِ فِي الهواجر فَمَا عطشت. وَحَضَرت أم أَيمن أحدا، فَكَانَت تَسْقِي المَاء، وتداوي الْجَرْحى. وَشهِدت خَيْبَر، وَتوفيت فِي خلَافَة عُثْمَان، وروت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة أَحَادِيث، إِلَّا أَنه لم يخرج لَهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ شَيْء، فَلذَلِك ذكرت أَخْبَارهَا هَاهُنَا.(1/47)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي حَفْص عمر بن الْخطاب
أسلم فِي سنة سِتّ من النُّبُوَّة، وَقيل: فِي سنة خمس. قَالَ هِلَال ابْن يسَاف: أسلم بعد أَرْبَعِينَ رجلا وَإِحْدَى عشرَة امْرَأَة. وَقَالَ اللَّيْث: أسلم بعد ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ رجلا. وَيُقَال: إِنَّه أتم الْأَرْبَعين، فَنزل جِبْرِيل فَقَالَ: " يَا مُحَمَّد، استبشر أهل السَّمَاء بِإِسْلَام عمر " وَسمي الْفَارُوق؛ لِأَن الْإِسْلَام ظهر يَوْم أسلم.
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسمِائَة وَسَبْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أحد وَثَمَانُونَ.
19 - / 19 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: بَينا عمر يخْطب دخل عُثْمَان بن عَفَّان، فناداه عمر: أَيَّة سَاعَة هَذِه؟ قَالَ: إِنِّي شغلت الْيَوْم، فَلم أنقلب إِلَى أَهلِي حَتَّى سَمِعت التأذين، فَلم أَزْد على أَن تَوَضَّأت. فَقَالَ عمر: وَالْوُضُوء أَيْضا، وَقد علمت أَن رَسُول الله كَانَ يَأْمر بِالْغسْلِ! .
قَوْله: أَيَّة سَاعَة هَذِه؟ لَيْسَ مُرَاده استعلام الْوَقْت، لِأَنَّهُ مَا خطب حَتَّى عرف الْوَقْت، وَإِنَّمَا هُوَ إِنْكَار على عُثْمَان، كَأَنَّهُ يَقُول: كَيفَ(1/48)
تَأَخَّرت إِلَى هَذِه السَّاعَة، وَكَذَلِكَ قَوْله: وَالْوُضُوء أَيْضا؟ أَي كَيفَ اقتصرت على الْوضُوء دون الْغسْل. وَأَرَادَ مِنْهُ اسْتِعْمَال الْفَضَائِل.
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه: أَن غسل الْجُمُعَة لَيْسَ بِوَاجِب؛ لِأَنَّهُ لَو كَانَ وَاجِبا لما تَركه عُثْمَان، ولأمره بِهِ عمر، فَلَمَّا سكت عَن أمره بذلك بِمحضر الصَّحَابَة دلّ على أَنه مسنون.
وَفِيه أَن للْإِمَام أَن يتَكَلَّم فِي الْخطْبَة.
20 - / 20 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَ رَسُول الله يعطيني الْعَطاء فَأَقُول: أعْطه من هُوَ أفقر إِلَيْهِ مني. فَقَالَ: " خُذْهُ، وَمَا جَاءَك من هَذَا المَال وَأَنت غير مشرف لَهُ وَلَا سَائل فَخذه، ومالا فَلَا تتبعه نَفسك ".
المشرف والمستشرف على الشَّيْء: المتطلع إِلَيْهِ الطامع فِيهِ، وَمَتى طمعت النَّفس فِي شَيْء فَحصل لَهَا عَادَتْ فاستعملت آلَات الْفِكر فِي الطمع، فَإِذا وَقع عِنْدهَا الْيَأْس من ذَلِك بالعزم على التّرْك، رَأَتْ أَن الاستشراف لَا يفيدها صرفت الْفِكر إِلَى غير ذَلِك، وَإِذا جَاءَ الشَّيْء لَا عَن استشراف قل فِيهِ نصيب الْهوى، وتمحض تعلق الْقلب بالمسبب. وَقَالَ عَليّ بن عقيل: معنى الحَدِيث: مَا جَاءَ بمسألتك فَإنَّك اكْتسبت فِيهِ الطّلب وَالسُّؤَال، وَلَعَلَّ الْمَسْئُول استحيا أَو خَافَ ردك فأعطاك مصانعة، وَلَا خير فِي مَال خرج لَا عَن طيب نفس، وَمَا استشرفت إِلَيْهِ نَفسك فقد انتظرته وارتقبته، فلنفسك فِيهِ نوع استدعاء، وَمَا جَاءَ من غير ذَلِك فَإِنَّمَا كَانَ المزعج فِيهِ للقلوب نَحْوك، والمستسعي للإقدام(1/49)
إِلَيْك الْخَالِق سُبْحَانَهُ، فَمَتَى رَددته رددت فِي الْحَقِيقَة على الْمُعْطِي، لِأَن الْمُعْطِي هُوَ الَّذِي أهاج نَحْوك الْقُلُوب. وحنن عَلَيْك النُّفُوس. فَلَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي تولى سوقه إِلَيْك كَانَ ردك لَهُ ردا عَلَيْهِ.
وَقَوله: أَمر لي بعمالة. العمالة: أجر الْعَامِل.
وَقد اشْتَمَل هَذَا الحَدِيث على ثَلَاث فَوَائِد:
أَحدهَا: أَنه من نوى وَجه الله بِعَمَل وَلم يرد ثَوابًا عَاجلا فأثيب، جَازَ لَهُ أَن يَأْخُذ، وَلم يُؤثر أَخذه فِي قَصده الصافي. وَمثل هَذَا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سقى لبنتي شُعَيْب [عَلَيْهِ السَّلَام] لله تَعَالَى، فَلَمَّا قَالَت لَهُ إِحْدَاهمَا: {إِن أبي يَدْعُوك ليجزيك} لم يمْتَنع، لِأَنَّهُ مَا عمل ليجازى فَجعل ذكر الْجَزَاء لَغوا.
وَالثَّانيَِة: تَعْلِيم الجري على اخْتِيَار الْحق عز وَجل، فَإِذا بعث شَيْئا قبل، وَإِذا منع رَضِي بِالْمَنْعِ.
وَالثَّالِثَة: أَن مثل هَذَا المستغنى عَنهُ الْآخِذ جعله مَالا، لقَوْله: " فتموله " وَهَذَا يدل على فضل الْغَنِيّ على الْفَقِير، أَو يتَصَدَّق بِهِ فَيكون الثَّوَاب لَهُ، وَلَو لم يَأْخُذهُ فَاتَهُ ذَلِك الْأجر.
وَرُبمَا تعلق بِهَذَا الحَدِيث جهال المتزهدين فِي قعودهم على الْفتُوح. وَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك؛ لِأَن قعُود أحدهم فِي رِبَاط مَعْرُوف تهيؤ للقبول، وَمد كف الطّلب، فَهُوَ كمن يفتح حانوتا يقْصد، ثمَّ كَونه يَنْوِي الْقبُول لما يزِيد على استشراف النَّفس؛ لِأَن الاستشراف تطلع مَا، وَهَذَا عازم على الْقبُول قطعا.(1/50)
ثمَّ لابد من النّظر فِي حَال الْآخِذ والمأخوذ مِنْهُ، فَإِن كَانَ الْمَأْخُوذ زَكَاة أَو صَدَقَة والآخذ يَسْتَحِقهَا جَازَ لَهُ، وَإِن كَانَ غير مُسْتَحقّ، مثل أَن يكون قَادِرًا على الْكسْب، أَو عِنْده مَا يَكْفِيهِ، فقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ، وَلَا لذِي مرّة سوي ". وَإِن كَانَ هَدِيَّة نظر الْآخِذ فِي حَال نَفسه: هَل يخَاف أَن يكون قبُوله إِيَّاهَا سَببا لمداهنة الْمَأْخُوذ مِنْهُ، أَو لتَعلق قلبه بِهِ، واستشراف نَفسه طَمَعا فِي تكْرَار الْعَطاء أَو لمنته عَلَيْهِ، أَو كَسبه غير طيب. فَمن خَافَ شَيْئا من هَذِه الْأَشْيَاء لم يقبل، وَقد كَانَ السّلف ينظرُونَ فِي هَذِه الدقائق، فيقل قبولهم للعطايا، ثمَّ جَاءَ أَقوام يدعونَ التزهد، وَإِنَّمَا مُرَادهم الرَّاحَة وإيثار البطالة، وَلَا يبالون أخذُوا من ظَالِم أَو مكاس.
وَيُمكن أَن تكون الْإِشَارَة بقوله: " وَمَا جَاءَك من هَذَا المَال " إِلَى بَيت المَال الَّذِي للْمُسلمِ فِيهِ حق، فَيُؤْمَر بِالْأَخْذِ مِنْهُ بِخِلَاف غَيره، وَيكون الاستشراف الْمَكْرُوه إِلَى مَا يزِيد على حق الْمُسلم فِيهِ.
21 - / 21 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِن الله يَنْهَاكُم أَن تحلفُوا بِآبَائِكُمْ " فَقَالَ عمر: فو الله مَا حَلَفت بهَا مُنْذُ سَمِعت رَسُول الله ينْهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلَا آثرا.
كَانَ من عَادَة الْعَرَب أَن يحلفوا بآبائهم. وَالْحلف بالشَّيْء تَعْظِيم لَهُ، فَنهى رَسُول الله عَن تَعْظِيم غير الله بالقسم بِهِ.(1/51)
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: لَيْسَ قَوْله ذَاكِرًا من الذّكر بعد النسْيَان، إِنَّمَا أَرَادَ: متكلما بذلك، كَقَوْلِك ذكرت لفُلَان حَدِيث كَذَا. وَقَوله: وَلَا آثرا: يُرِيد مخبرا عَن غَيْرِي أَنه حلف بِهِ. وَمِنْه: حَدِيث مأثور: أَي يخبر بِهِ النَّاس بَعضهم بَعْضًا.
فَإِن قيل: فقد روى أَبُو دَاوُد فِي " سنَنه " من حَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله أَن أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا افْترض الله عَلَيْهِ، فَلَمَّا أخبرهُ قَالَ: وَالله لَا أَزِيد على هَذَا وَلَا أنقص، فَقَالَ رَسُول الله: " أَفْلح وَأَبِيهِ إِن صدق. دخل الْجنَّة وَأَبِيهِ إِن صدق ". فَكيف ينْهَى عَن شَيْء يَسْتَعْمِلهُ؟
فَالْجَوَاب من أَرْبَعَة أوجه:
أَحدهَا: أَنه لَيْسَ فِي الْأَلْفَاظ المخرجة فِي الصَّحِيح، وَالصَّحِيح مقدم.
وَالثَّانِي: أَن أَكثر الروَاة يروون بِالْمَعْنَى على مَا يَظُنُّونَهُ، فَيحمل على أَنه من قَول بَعضهم.
وَالثَّالِث: أَنه يحمل على مَا قبل النَّهْي؛ لِأَن قَوْله: " إِن الله يَنْهَاكُم " يشْعر بإتيان وَحي فِي ذَلِك.
وَالرَّابِع: أَن يكون هَذَا مِمَّا جرى على لِسَانه على سَبِيل الْعَادة، وَلم يقْصد بِهِ قصد الْقَوْم، لأَنهم كَانُوا يعظمون الْآبَاء ويفتخرون بهم، وَكَانُوا إِذا اجْتَمعُوا بِالْمَوْسِمِ ذكرُوا فعال آبَائِهِم وأيامهم فِي الْجَاهِلِيَّة(1/52)
فافتخروا بذلك، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {فاذكروا الله كذكركم آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا} [الْبَقَرَة: 200]
22 - / 22 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: قَالَ ابْن عمر: دخلت على حَفْصَة ونوساتها تنظف، فَقَالَت: أعلمت أَن أَبَاك غير مستخلف؟ قلت: مَا كَانَ ليفعل. قَالَت: إِنَّه فَاعل ... فَذكر الحَدِيث.
وَفِيه أَن عمر قَالَ: وددت أَن حظي مِنْهَا الكفاف لَا لي وَلَا عَليّ. فَقَالُوا: جَزَاك الله خيرا، رَاغِب وراهب.
النوسات: مَا تحرّك من شعر أَو حلي متدليا. والنوس: تحرّك الشَّيْء متذبذبا. يُقَال: نَاس ينوس نوسا ونوسانا. وَكَانَ ملك يُقَال لَهُ ذُو نواس، سمي بذلك لذؤابة كَانَت تنوس على ظَهره.
وَيُقَال: نطف الشّعْر وَغَيره ينطُف وينطِف: إِذا قطر. وَلَيْلَة نطوف: دائمة الْقطر. وَكَأَنَّهُ دخل عَلَيْهَا وَقد اغْتَسَلت.
وَلما علم عمر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يسْتَخْلف، وَأَن أَبَا بكر اسْتخْلف، أَرَادَ الْجمع بَين الْحَالَتَيْنِ، فنص على سِتَّة وَلم يعين أحدا مِنْهُم.
والكفاف: مَا لَا يقصر عَن المُرَاد وَلَا يفضل عَن الْحَاجة، وَأَصله الْمُسَاوَاة لما جعل بإزائه، فَكَأَنَّهُ يَقُول: لَيْتَني أسلم ولايتي لَا أكتسب أجرا وَلَا أحتقب وزرا.
وَقَوله: رَاغِب وراهب: مَعْنَاهُ: إِنِّي أَرْجُو وأخاف.
23 - / 23 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي كنت(1/53)
نذرت فِي الْجَاهِلِيَّة أَن أعتكف لَيْلَة - وَفِي لفظ: يَوْمًا - فِي الْمَسْجِد الْحَرَام. قَالَ: " فأوف بِنَذْرِك ".
الِاعْتِكَاف: الْإِقَامَة واللبث. وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الِاعْتِكَاف يَصح بِلَا صَوْم، وَيصِح فِي اللَّيْل وَحده، وَهَذَا قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَنه لَا يَصح، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَمَالك.
فَإِن قَالَ قَائِل: نذر الْكَافِر مطرح، فَكيف أثبت لَهُ الرَّسُول حكما؟
فَالْجَوَاب: أَن أَصْحَابنَا اخْتلفُوا فِي هَذَا، فَمنهمْ من منع وَقَالَ: مَتى كَانَ نذر الْكَافِر على وفَاق حكم الْإِسْلَام فَهُوَ صَحِيح. وَمِنْهُم من تَأَول فَقَالَ: معنى قَوْله: فِي الْجَاهِلِيَّة، أَي وَنحن بِمَكَّة قبل فتحهَا وَأَهْلهَا جَاهِلِيَّة، فعلى هَذَا لَا يكون ناذرا فِي الْكفْر. ثمَّ إِن عندنَا وَعند الشَّافِعِي أَن يَمِين الْكَافِر صَحِيحَة، وَإِذا حنث وَجَبت عَلَيْهِ الْكَفَّارَة، خلافًا لأبي حنيفَة. قَالَ الْخطابِيّ: إِذا جَازَ إِيلَاء الْكَافِر وَأخذ بِحكمِهِ فِي الْإِسْلَام جَازَت يَمِينه وظهاره.
وَقد روى هَذَا الحَدِيث ابْن عمر فَقَالَ فِيهِ: إِنِّي نذرت أَن أعتكف. قَالَ: " اذْهَبْ فاعتكف " فعلى هَذَا اللَّفْظ إِنَّمَا أمره بالاعتكاف، لَا على أَن النّذر لَازم.(1/54)
24 - / 24 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " الْمَيِّت يعذب فِي قَبره بِمَا نيح عَلَيْهِ " وَفِي لفظ: " مَا نيح عَلَيْهِ " وَفِي لفظ: " ببكاء الْحَيّ عَلَيْهِ ". وَفِي لفظ: أَن عمر قَالَ ذَلِك لما عولت حَفْصَة وصهيب عَلَيْهِ.
أما قَوْله: بِمَ نيح عَلَيْهِ: فَمَعْنَاه. بالنياحة عَلَيْهِ. وَقَوله: مَا نيح عَلَيْهِ أَي مُدَّة النِّيَاحَة. وعولت بِمَعْنى أعولت. وَقَالَت الْخطابِيّ: عول لَيْسَ بجيد، وَإِنَّمَا الصَّوَاب أعول.
فَإِن قيل: كَيفَ يعذب الْمَيِّت بِفعل غَيره وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} [الْأَنْعَام: 164] ؟ ثمَّ إِن الْإِنْسَان لَا يملك رد الْبكاء، وَقد بَكَى رَسُول الله على وَلَده، وَقَالَ: " إِن الْعين لتدمع "، فَإِذا جَازَ الْبكاء فِي حق الباكي وَمَا يُؤَاخذ بِهِ، فَكيف يُؤَاخذ بِهِ غَيره؟
فَالْجَوَاب: أما الْبكاء فِي قَوْله: " يعذب ببكاء الْحَيّ " فَلَيْسَ المُرَاد بِهِ دمع الْعين فَحسب، وَإِنَّمَا المُرَاد بِهِ الْبكاء الَّذِي يتبعهُ النّدب والنياحة، فَإِذا اجْتمع ذَلِك سمي بكاء؛ لِأَن النّدب على الْمَيِّت كالبكاء عَلَيْهِ، وَهَذَا مَعْرُوف فِي اللُّغَة، سَمِعت شَيخنَا أَبَا مَنْصُور اللّغَوِيّ يَقُول: يُقَال للبكاء إِذا تبعه الصَّوْت وَالنَّدْب بكاء، وَلَا يُقَال للنَّدْب إِذا خلا عَن بكاء بكاء. فَيكون المُرَاد بِالْحَدِيثِ الْبكاء الَّذِي يتبعهُ النّدب، لَا مُجَرّد الدمع، وَلَا إِشْكَال فِي مُؤَاخذَة الْحَيّ بالندب والنياحة؛ لِأَنَّهُ أَمر مَنْهِيّ عَنهُ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَال فِي مُؤَاخذَة الْمَيِّت بذلك.
وَجَوَاب هَذَا الْإِشْكَال من خَمْسَة أوجه:(1/55)
أَحدهَا: أَن حَدِيث عمر مُجمل، وَقد فسرته عَائِشَة، فجَاء فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيثهَا: أَنه ذكر لَهَا حَدِيث ابْن عمر: " إِن الْمَيِّت ليعذب ببكاء الْحَيّ " فَقَالَت: يغْفر الله لأبي عبد الرَّحْمَن، أما إِنَّه لم يكذب، وَلكنه نسي أَو أَخطَأ، إِنَّمَا مر رَسُول الله على يَهُودِيَّة يبكى عَلَيْهَا فَقَالَ " إِنَّه ليبكى عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لتعذب فِي قبرها ".
وَفِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: إِنَّمَا قَالَ رَسُول الله: " إِن أهل الْمَيِّت يَبْكُونَ عَلَيْهِ، وَإنَّهُ ليعذب بجرمه " فعلى هَذَا يكون التعذيب لَا لأجل النوح وَيكون الرَّاوِي: " بِمَا نيح عَلَيْهِ " غالطا فِي اللَّفْظ. وَقد كَانَت عَائِشَة تحفظ أَشْيَاء ترد بهَا على جمَاعَة من الصَّحَابَة، فيرجعون إِلَى قَوْلهَا. وَمن ذَلِك مَا سَيَأْتِي فِي مُسْند ابْن عمر: أَنه سُئِلَ: هَل اعْتَمر رَسُول الله فِي رَجَب؟ فَقَالَ نعم. فَقَالَت عَائِشَة: مَا اعْتَمر قطّ فِي رَجَب، وَابْن عمر يسمع، فَلم يُنكر مَا قَالَت، وَمَا ذَاك إِلَّا أَنه علم أَنه غلط، فَرجع إِلَى قَوْلهَا.
وَهَذَا الْجَواب لَا أعْتَمد عَلَيْهِ لثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا أَن مَا روته عَائِشَة حَدِيث وَهَذَا حَدِيث، وَلَا تنَاقض بَينهمَا، بل لكل وَاحِد مِنْهُمَا حكمه. وَالثَّانِي: أَنَّهَا أنْكرت برأيها وَقَالَت بظنها، وَقَول الرَّسُول إِذا صَحَّ لَا يلْتَفت مَعَه إِلَى رَأْي، وَلَيْسَ هَذَا بِأَعْجَب من إنكارها الرُّؤْيَة لَيْلَة الْمِعْرَاج، وَإِنَّمَا يرجع إِلَى الروَاة المثبتين. وَالثَّالِث: أَن مَا ذكرته لم يحفظ إِلَّا عَنْهَا، وَذَلِكَ الحَدِيث مَحْفُوظ عَن عمر، وَابْن عمر،(1/56)
والمغيرة، وهم أولى بالضبط مِنْهَا.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه مَحْمُول على من أوصى بذلك، وَهَذَا مَشْهُور من عادات الْعَرَب: أَنهم كَانُوا يوصون بالندب والنياحة، كَمَا قَالَ عبد الْمطلب لبنَاته عِنْد وَفَاته: ابكينني وَأَنا أسمع، فبكته كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ بِشعر، فَلَمَّا سمع أُمَيْمَة وَقد أمسك لِسَانه، جعل يُحَرك رَأسه: أَي قد صدقت، وَقد كنت كَذَلِك. وَكَانَ الَّذِي قَالَت:
(أعيني جودا يدمع دُرَر ... على طيب الخيم والمعتصر)
(على ماجد الْجد وارى الزِّنَاد ... جميل الْمحيا عَظِيم الْخطر)
(على شيبَة الْحَمد ذِي المكرمات ... وَذي الْمجد والعز والمفتخر)
(وَذي الْحلم وَالْفضل فِي النائبات ... كَبِير المكارم جم الْفَخر)
(لَهُ فضل مجد على قومه ... مُبين يلوح كضوء الْقَمَر)
(أَتَتْهُ المنايا فَلم تشوه ... بِصَرْف اللَّيَالِي وريب الْقدر)
وَقَالَ لبيد يُخَاطب ابْنَتَيْهِ:
(فقوما فقولا بِالَّذِي قد علمتما ... وَلَا تخمشا وَجها وَلَا تحلقا الشّعْر)
(وقولا: هُوَ الْمَرْء الَّذِي لَا صديقه ... أضاع، وَلَا خَان الْأَمِير وَلَا غدر)
(إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبك حولا كَامِلا فقد اعتذر)
وَقَالَ آخر:
(إِذا مت فانعيني بِمَا أَنا أَهله ... وشقي عَليّ الجيب يَا ابْنة معبد)(1/57)
وَهَذَا كثير فِي أشعارهم. وعَلى هَذَا يلْزم الْمَيِّت الْعقُوبَة، لِأَنَّهُ أوصى بذلك وَأمر بِهِ.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن " الْبَاء " فِي قَوْله: ببكاء أَهله بِمَعْنى " عِنْد "، كَقَوْلِه تَعَالَى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمرَان: 17] وَالْمعْنَى أَنه يعذب عِنْد وَقت النِّيَاحَة، وغالب النِّيَاحَة يَقع عِنْد قرب الْعَهْد، ومعظم عَذَاب المعذب فِي الْقَبْر يكون عِنْد نزُول اللَّحْد، ثمَّ يَدُوم مِنْهُ مَا يَدُوم، فَيكون الْعَذَاب وَاقعا حَال النوح لَا بِسَبَب النوح. حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ عَن بعض أهل الْعلم.
وَالْوَجْه الرَّابِع: أَن النوح يتَضَمَّن الثَّنَاء على الْمَيِّت بفضائله، وَكَانَ الْغَالِب على فَضَائِل الْجَاهِلِيَّة أَنهم يسْتَحقُّونَ التعذيب بهَا، فَإِنَّهُ قل أَن يرؤس مِنْهُم إِلَّا متجبر، وَكَانُوا يُغير بَعضهم على بعض، فَيصير لَهُم الْأَمْوَال من ذَلِك. فَإِذا قَالَت النائحة: يَا رئيساه، وَيَا جبلاه، عذب لكَونه رَأس بِغَيْر حق، وَعلا على وَجه التجبر، فيعذب بِمَا يمدح بِهِ، ويضاف الْعَذَاب إِلَى النوح لِأَنَّهُ السَّبَب فِي ظُهُور الْعَذَاب. وَنَحْو هَذَا قَوْله: {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} [الدُّخان: 49] فَهَذَا مِمَّا يوبخ بِهِ أَبُو جهل فِي النَّار، لِأَنَّهُ عز بِغَيْر حق.
وَرُبمَا وَقع تَعْذِيب الْمُسلم بقوله النائحة: واعضداه، من جِهَة أَنه كَانَ يظنّ أَنه عضد لأَهله فِي بَاب الرزق، وَأَنه ركنهم فِي النَّصْر، كَمَا قَالَ بَعضهم عِنْد الْمَوْت لأَهله:
(إِلَى من ترجعون إِذا حثوتم ... بِأَيْدِيكُمْ عَليّ من التُّرَاب)
وَيُؤَيّد هَذَا مَا أخبرنَا بِهِ هبة الله بن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن(1/58)
عَليّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن مَالك قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَامر قَالَ: حَدثنَا زُهَيْر عَن أسيد بن أبي أسيد عَن مُوسَى بن أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن أَبِيه أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الْمَيِّت يعذب ببكاء الْحَيّ، إِذا قَالَت النائحة: واعضداه، واناصراه، واكاسياه، جبذ الْمَيِّت وَقيل لَهُ: أَنْت عضدها؟ أَنْت كاسيها؟ " وَسَيَأْتِي فِي مُسْند النُّعْمَان بن بشير قَالَ: أُغمي على عبد الله بن رَوَاحَة فَجعلت أُخْته عمْرَة تبْكي: واجبلاه، واكذا، واكذا، فَقَالَ حِين أَفَاق: مَا قلت شَيْئا إِلَّا قيل لي: أَنْت كَذَلِك؟ فَلَمَّا مَاتَ لم تبك عَلَيْهِ.
فعلى هَذَا الْوَجْه إِذا كَانَ الْمَيِّت كَافِرًا أَو عَاصِيا عذب، وَكَانَ النوح سَببا فِي تعذيبه بذنوبه، وَإِن كَانَ صَالحا أخبر بِمَا تَقول النائحة فيزيده ذَلِك ألما، لِأَنَّهُ يَرْجُو الاسْتِغْفَار، فَإِذا بلغه مَا يكرههُ كَانَ غمه عذَابا؛ لعلمه أَن الله تَعَالَى يكره ذَلِك.
وَقد أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي قَالَ: أخبرنَا الْجَوْهَرِي قَالَ: أخبرنَا ابْن حيويه قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن مَعْرُوف قَالَ: أخبرنَا الْحُسَيْن ابْن الْفَهم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أخبرنَا عُثْمَان بن عمر قَالَ: أخبرنَا يُونُس بن يزِيد عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: لما توفّي أَبُو بكر أَقَامَت عَائِشَة النوح، فَبلغ عمر، فجَاء فنهاهن عَن النوح على أبي بكر، فأبين أَن ينتهين، فَقَالَ لهشام بن الْوَلِيد: اخْرُج إِلَى ابْنة أبي قُحَافَة، فعلاها بِالدرةِ ضربات، فَتفرق النوائح حِين سمعن(1/59)
ذَلِك، وَقَالَ: تردن أَن يعذب أَبُو بكر ببكائكن، إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِن الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ ". قلت: ابْنة أبي قُحَافَة هِيَ أم فَرْوَة أُخْت أبي بكر، فَلَمَّا لم يُمكنهُ أَن يكلم عَائِشَة هَيْبَة لَهَا واحتراما، أدب هَذِه.
وَالْوَجْه الْخَامِس: أَنه يعذب بذنوبه، وَيذكر لَهُ النوح توبيخا، فَكَأَنَّهُ يُقَال لَهُ: أَيهَا الْمُسِيء الْمُسْتَحق للتعذيب، أمثلك ينْدب عَلَيْهِ؟ فَكلما ذكر لَهُ مَا نيح بِهِ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِك عذَابا، وَرب توبيخ زَاد على التعذيب.
25 - / 25 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: قَالَ عمر على مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نزل تَحْرِيم الْخمر، وَهِي من خَمْسَة: من الْعِنَب، وَالتَّمْر، وَالْعَسَل، وَالْحِنْطَة، وَالشعِير. وَالْخمر مَا خامر الْعقل.
إِنَّمَا ذكر عمر هَذِه الْخَمْسَة لِأَن الْغَالِب عمل الْخمر مِنْهَا، وَقد تعْمل من غَيرهَا، وَقد اتّفق عُلَمَاء الْإِسْلَام على أَن الْخمر اسْم لعصير الْعِنَب المشتد الَّذِي يحصل بِهِ السكر، وَاخْتلفُوا فِي المشتد من غَيره مثل نَقِيع التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْحِنْطَة وَنَحْو ذَلِك، فَذهب الْجُمْهُور مِنْهُم مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل إِلَى أَنه يَقع عَلَيْهِ اسْم الْخمر، ويشارك الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي التَّحْرِيم، وَخَالف فِي ذَلِك أَبُو حنيفَة. وَقَول عمر: الْخمر مَا خامر الْعقل، دَلِيل على مَا قُلْنَا.
فَأَما تَسْمِيَة الْخمر خمرًا، فَذكر مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْأَنْبَارِي فِي ذَلِك(1/60)
ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا سميت خمرًا لِأَنَّهَا تخامر الْعقل: أَي تخالطه. وَالثَّانِي: لِأَنَّهَا تخمر الْعقل: أَي تستره، من قَوْلهم: خمرت الْمَرْأَة رَأسهَا بخمار: أَي غطته. وَالثَّالِث: لِأَنَّهَا تخمر: أَي تغطى لِئَلَّا يَقع فِيهَا شَيْء.
وَجَمِيع الأنبذة قد سَاوَى عصير الْعِنَب فِي هَذَا الْمَعْنى فشملها اسْمه، وَهَذَا مَبْنِيّ على مَسْأَلَة أصولية وَهِي: هَل يجوز إِثْبَات الْأَسْمَاء بِالْقِيَاسِ أم لَا؟ فَعِنْدَ جُمْهُور الْعلمَاء يجوز ذَلِك، فيسمى النَّبِيذ خمرًا قِيَاسا على الْخمر، والنباش سَارِقا قِيَاسا على السَّارِق، واللوطي زَانيا قِيَاسا على الزَّانِي. وَيدل على هَذَا قَول عمر: الْخمر مَا خامر الْعقل. وَذهب الحنفيون وَجُمْهُور الْمُتَكَلِّمين إِلَى الْمَنْع من ذَلِك، وَقَالُوا: قد نراهم يسمون الزّجاج الَّذِي تقر فِيهِ الْمَائِعَات قَارُورَة، وَلَا يسمون الْكوز قَارُورَة، فَبَان بذلك أَن الْأَسْمَاء تثبت توقيفا.
وَأجَاب الْأَولونَ فَقَالُوا: الْأَسْمَاء على ضَرْبَيْنِ: أَعْلَام، وَهِي الألقاب الْمَحْضَة الَّتِي يقْصد مِنْهَا تَعْرِيف الْأَعْيَان وتفريق مَا بَين الذوات لَا لِمَعْنى وَلَا لإِثْبَات صفة، كَقَوْلِنَا: زيد وَعمر، فَهَذَا من الِاصْطِلَاح وَالِاخْتِيَار، وَلَا مدْخل للْقِيَاس فِي ذَلِك. وَالثَّانِي: اسْم مُقَيّد بِصفة وضع لأَجلهَا، كَقَوْلِنَا: قَاتل؛ فَإِنَّهُ سمي بذلك لوُجُود الْقَتْل مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْخمر لمَكَان مخامرتها لِلْعَقْلِ. على أَن الصَّحَابَة الَّذين سموا هَذِه الْأَشْيَاء أفْصح الْعَرَب. وَأما تَسْمِيَة القارورة خَاصَّة فَإِنَّهُم خالفوا بَين الْأَسْمَاء لاخْتِلَاف الْأَنْوَاع، وَذَلِكَ لَا يرفع أصل الْقيَاس فِيمَا بَقِي.(1/61)
وَفِي هَذَا الحَدِيث: ثَلَاث وددت أَن رَسُول الله عهد إِلَيْنَا فِيهَا: الْجد، والكلالة، وأبواب من الرِّبَا.
أما ذكر الْجد فلموضع الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَأحب عمر أَن ينص الرَّسُول على شَيْء يسْتَغْنى بِهِ عَن الِاخْتِلَاف فِي الْجد، وَفِي أَبْوَاب الرِّبَا.
وَأما الْكَلَالَة فَفِيهَا أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا مَا دون وَالْوَالِد الْوَلَد. قَالَه أَبُو بكر الصّديق، وَعمر، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، وَزيد بن ثَابت، وَابْن عَبَّاس فِي خلق.
وَالثَّانِي: أَنه من لَا ولد لَهُ. رُوِيَ عَن عمر أَيْضا، وَهُوَ قَول طَاوس.
وَالثَّالِث: أَنه مَا عدا الْوَالِد، قَالَه الحكم.
وَالرَّابِع: أَن الْكَلَالَة بَنو الْعم الأباعد، قَالَه ابْن الْأَعرَابِي.
وعَلى مَاذَا تقع الْكَلَالَة، فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: على الْحَيّ الْوَارِث. وَالثَّانِي: على الْمَيِّت الْمَوْرُوث.
وَفِيمَا أخذت مِنْهُ الْكَلَالَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه اسْم مَأْخُوذ من الْإِحَاطَة، وَمِنْه الإكليل لإحاطته بِالرَّأْسِ. وَالثَّانِي من الكلال، كَأَنَّهُ يصل الْمِيرَاث من بعد وإعياء. قَالَ الْأَعْشَى:
(فآليت لَا أرثي لَهَا من كَلَالَة ... وَلَا من حفى حَتَّى تزور مُحَمَّدًا)
26 - / 26 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: قَالَ ابْن عَبَّاس: كنت أَقْْرِئ(1/62)
رجَالًا من الْمُهَاجِرين مِنْهُم عبد الرَّحْمَن بن عَوْف.
أما إقراء ابْن عَبَّاس لمثل عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فَفِيهِ تَنْبِيه على أَخذ الْعلم من أَهله وَإِن صغرت أسنانهم أَو قلت أقدارهم. وَقد كَانَ حَكِيم ابْن حزَام يقْرَأ على معَاذ بن جبل، فَقيل لَهُ: تقْرَأ على هَذَا الْغُلَام الخزرجي؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أهلكنا التكبر.
وَفِي الحَدِيث: أَن الْمَوْسِم يجمع الرعاع والغوغاء، فأمهل حَتَّى تقدم الْمَدِينَة فتخلص بِأَهْل الْفِقْه.
الرعاع: السفلة، والغوغاء نَحْو ذَلِك، وأصل الغوغاء صغَار الْجَرَاد. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على أَلا يودع الْعلم عِنْد غير أَهله، وَلَا يحدث الْقَلِيل الْفَهم بِمَا لَا يحْتَملهُ فهمه، وَمن هَذَا الْمَعْنى قَالَ الشَّافِعِي:
(أأنثر درا بَين سارحة النعم ... أأنظم منثورا لراعية الْغنم)
(لَئِن سلم الله الْكَرِيم بفضله ... وصادفت أَهلا للعلوم وللحكم)
(بثثت مُفِيدا واستفدت ودادهم ... وَإِلَّا فمخزون لدي ومكتتم)
(وَمن منح الْجُهَّال علما أضاعه ... وَمن منع المستوجبين فقد ظلم)
قَوْله: فقدمنا الْمَدِينَة، وَذَاكَ أَن عمر قبل مشورة ابْن عَبَّاس، فَلم يتَكَلَّم بذلك حَتَّى قدم الْمَدِينَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث زِيَادَة لم تذكر فِي الصَّحِيحَيْنِ: قَالَ ابْن عَبَّاس: فعجلت الرواح صَكَّة عمي. قَالَ أَبُو هِلَال العسكري: عمي رجل(1/63)
غزا قوما فِي قَائِم الظهيرة، فصكهم صَكَّة شَدِيدَة، فَصَارَ مثلا لكل من جَاءَ فِي ذَلِك الْوَقْت، لِأَنَّهُ كَانَ خلاف الْعَادة فِي الْغَارة؛ لِأَن وَقتهَا الْغَدَاة. قَالَ: وَقيل: عمي تَصْغِير أعمى، وَهُوَ تَصْغِير التَّرْخِيم، قَالَ: وَيَعْنِي بِهِ الظبي، وَيُرَاد أَنه يسدر فِي شدَّة الْحر والهواجر، فَكل مَا يستقبله يصكه. قَالَ: وَرُوِيَ: صَكَّة عمى على فعلى، مثل حُبْلَى: وَهُوَ اسْم رجل.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: أنزل الله آيَة الرَّجْم، فأخشى أَن يَقُول قَائِل: مَا نجد الرَّجْم فِي كتاب الله، فيضلوا.
اعْلَم أَن الْمَنْسُوخ من الْقُرْآن على ثَلَاثَة أضْرب.
أَحدهَا: مَا نسخ لَفظه وَحكمه.
الثَّانِي: مَا نسخ حكمه وبقى لَفظه، وَهُوَ كثير، لأَجله وضعت كتب النَّاسِخ والمنسوخ.
وَالثَّالِث: مَا نسخ لَفظه وَبَقِي حكمه، كآية الرَّجْم.
فَمَعْنَى قَول عمر: فيضلوا: أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على بَقَاء حكم ذَلِك اللَّفْظ الْمَرْفُوع من آيَة الرَّجْم، وَترك الْإِجْمَاع ضلال.
فَإِن قيل: فَمَا فَائِدَة نسخ رسم آيَة الرَّجْم من الْمُصحف مَعَ كَون حكمهَا بَاقِيا، وَلَو كَانَت فِي الْمُصحف لاجتمع الْعَمَل بحكمها وثواب تلاوتها؟
فقد أجَاب عَنهُ ابْن عقيل فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِك ليظْهر بِهِ مِقْدَار طَاعَة(1/64)
هَذِه الْأمة فِي المسارعة إِلَى بذل النُّفُوس بطرِيق الظَّن من غير استقصاء لطلب طَرِيق مَقْطُوع بِهِ فيسرعون قنوعا بأسرع شَيْء، كَمَا سارع الْخَلِيل إِلَى ذبح وَلَده بمنام، والمنام أدنى طرق الْوَحْي وأقلها.
وَقَوله: أَو كَانَ الْحَبل. قَالَ ابْن جرير: يَعْنِي حَبل المحصنة الَّتِي لَا زوج لَهَا، وَلَا يُنكر الزَّانِي أَنه من زِنَاهُ.
وَقَوله: " لَا تطروني " الإطراء: الإفراط فِي الْمَدْح. وَالْمرَاد بِهِ هَاهُنَا الْمَدْح الْبَاطِل. وَالَّذين أطروا عِيسَى ادعوا أَنه ولد الله، تَعَالَى الله عَن ذَلِك، واتخذوه إِلَهًا، وَلذَلِك قَالَ: " وَلَكِن قُولُوا: عبد الله وَرَسُوله ".
فَإِن قَالَ قَائِل: وَمَا علمنَا أَن أحدا ادّعى فِي رَسُول الله مَا ادّعى فِي عِيسَى.
فَالْجَوَاب أَنهم بالغوا فِي تَعْظِيمه، حَتَّى قَالَ معَاذ بن جبل: يَا رَسُول الله، رَأَيْت رجَالًا بِالْيمن يسْجد بَعضهم لبَعض، أَفلا نسجد لَك؟ فَقَالَ: " لَو كنت آمرا بشرا أَن يسْجد لبشر، لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لزَوجهَا " فنهاهم عَمَّا عساه يبلغ بهم الْعِبَادَة. ثمَّ لَيْسَ من شَرط النَّهْي أَن يكون الْمنْهِي عَنهُ قد فعل، وَإِنَّمَا هُوَ منع من أَمر يجوز أَن يَقع.
وَقَوله: كَانَت بيعَة أبي بكر فلتة. الفلتة: مَا وَقع عَاجلا من غير تمكث. وَرُبمَا توهم سامع هَذَا الْكَلَام أَن عمر كالنادم على بيعَة أبي بكر، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا استعجل عمر بالبيعة مَخَافَة الْفِتْنَة،(1/65)
وَلَو وَقع توقف لم تؤمن. قَالَ أَبُو عبيد: عوجل ببيعة أبي بكر خوف انتشار الْأَمر، وَأَن يطْمع من لَيْسَ بِموضع لذَلِك، فَكَانَت تِلْكَ الفلتة هِيَ الَّتِي وقى الله بهَا الشَّرّ الْمخوف. وَقَالَ ثَعْلَب: فِي الْكَلَام إِضْمَار؛ تَقْدِيره: كَانَ فلتة من فتْنَة وقى الله شَرها. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَحدثنَا أَبُو عمر عَن ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: الفلتة: اللَّيْلَة يشك فِيهَا: هَل من رَجَب أَو شعْبَان، وَقد كَانَ الْعَرَب يعظمون الْأَشْهر الْحرم وَلَا يقتتلون فِيهَا، وَإِذا كَانَ آخر لَيْلَة من الْأَشْهر الْحرم فَرُبمَا شكّ فِيهَا قوم: هَل هِيَ من الْحرم أم من الْحَلَال؟ فيبادر الموتور الحنق فِي تِلْكَ اللَّيْلَة، فينتهز الفرصة فِي إِدْرَاك ثَأْره، فيكثر الْفساد فِي تِلْكَ اللَّيْلَة، وَسَفك الدِّمَاء، وَشن الغارات. قَالَ الشَّاعِر يذكر ذَلِك:
(سَائل لقيطا وأشياعها ... وَلَا تدعن وسل جعفرا)
(غَدَاة الْعرُوبَة من فلتة ... لمن تركُوا الدَّار والمحضرا)
فَشبه عمر أَيَّام حَيَاة رَسُول الله وَمَا كَانَ النَّاس عَلَيْهِ من الألفة وَوُقُوع الأمنة بالشهر الْحَرَام الَّذِي لَا قتال فِيهِ. وَكَانَ مَوته شبه الفلتة الَّتِي هِيَ خُرُوج من الْحرم، لما ظهر فِي ذَلِك من الْفساد، فوقى الله شَرها ببيعة أبي بكر.
قلت: وَقد روينَا عَن سيف بن عمر عَن مُبشر عَن سَالم بن عبد الله قَالَ: قَالَ عمر: كَانَت بيعَة أبي بكر فلتة. قلت: مَا الفلتة؟ قَالَ: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتحاجزون فِي الْحرم فَإِذا كَانَت اللَّيْلَة الَّتِي يشك فِيهَا(1/66)
أدغلوا فَأَغَارُوا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَوْم مَاتَ رَسُول الله أدغل النَّاس فِيهِ، من بَين مُدع إِمَارَة، أَو جَاحد زَكَاة، فولا اعْتِرَاض أبي بكر دونهَا لكَانَتْ الفضيحة.
وَقَوله: لَيْسَ فِيكُم من تقطع إِلَيْهِ الْأَعْنَاق مثل أبي بكر. وَالْمعْنَى لَيْسَ فِيكُم سَابق إِلَى الْفَضَائِل يقطع أَعْنَاق مسابقيه فَلَا يلحقون لَهُ شأوا مثل أبي بكر. يُقَال للسابق من الْخَيل: تقطعت أَعْنَاق الْخَيل فِي مسابقته فَلم تطقه، وَهَذَا لِأَن المسابق يمد عُنُقه، فَإِذا لم ينل مُرَاده مَعَ تِلْكَ الْمَشَقَّة قيل: تقطعت عُنُقه. وَإِذا كَانَت هَذِه صفة أبي بكر فَلَا وَجه للتردد فِي ولَايَته، وَإِنَّمَا يَقع التَّرَدُّد فِيمَن لَهُ نظراء ليَقَع التخير.
وَقَوله: لَقينَا رجلَانِ، وهما عويم بن سَاعِدَة، ومعن بن عدي.
وَقَوله تمالأ عَلَيْهِ الْقَوْم: أَي اجْتمع رَأْيهمْ على ذَلِك الشَّيْء.
وَقَوله: فَإِذا رجل مزمل بَين ظهرانيهم: المزمل: المغطى المدثر وَبَين ظهرانيهم: أَي فِيمَا بَينهم، يُقَال: نزلت بَين ظهرانيهم وظهريهم، وَلَا يُقَال بِكَسْر النُّون.
وَقَوله: يوعك، أصل الوعك: ألم الْمَرَض. يُقَال وعك الرجل: إِذا أَخَذته الْحمى.
والكتيبة: الْقطعَة المجتمعة من الْجَيْش. والرهط: الْعِصَابَة دون الْعشْرَة، وَيُقَال: بل إِلَى الْأَرْبَعين.
فَإِن قيل: كَيفَ يُقَال هَذَا والمهاجرون خلق كثير؟
فَعَنْهُ جوابان:(1/67)
أَحدهمَا: أَنه إِنَّمَا هَاجر إِلَيْهِم الْآحَاد بعد الْآحَاد، حَتَّى اجْتَمعُوا فنظروا إِلَى أَن نصْرَة الرَّسُول بِكَثْرَة جمع الْأَنْصَار وَقعت.
وَالثَّانِي: إِن الْإِشَارَة بذلك إِلَى من تكلم بذلك الْأَمر، وَإِنَّمَا ذهب إِلَيْهِم أَبُو بكر وَعمر، وَتكلم فِي ذَلِك عدد يسير.
وَقَوْلهمْ دفت دافة: أَي جَاءَت جمَاعَة. والدفيف: سير فِي لين.
ويختزلونا: بِمَعْنى يقطعونا عَن مرادنا. وانخزل الرجل: ضعف.
وَقَوْلهمْ: يحضنونا عَن الْأَمر: يُقَال: حضنت الرجل عَن الْأَمر حضنا وحضانة: إِذا نحيته عَنهُ وانفردت بِهِ دونه. وأصل الحضن الِانْفِرَاد بتدبير الْمَحْضُون.
وَقَوله: زورت فِي نَفسِي مقَالَة: أَي هيأتها لأقولها. قَالَ أَبُو عبيد التزوير: إصْلَاح الْكَلَام وتهيئته قَالَ: وَقَالَ أَبُو زيد: المزور من الْكَلَام والمزوق وَاحِد وَهُوَ المصلح المحسن، وَكَذَلِكَ الْخط إِذا قوم.
قَوْله: كنت أداري مِنْهُ بعض الْحَد. المداراة: الملاينه، قَالَ الزّجاج: يُقَال داريت الرجل: إِذا لاينته. ودارأته بِالْهَمْز: إِذا دَفعته. ودريته: إِذا اختلته. وَقد سوى أَبُو عبيد بَين داريت ودارأت فِي بَاب مَا يهمز وَمَا لَا يهمز.
وَالْحَد: الحدة من الْغَضَب، يُقَال: حد الرجل: إِذا غضب.
وَقَوله: على رسلك: أَي على مهلك. قَالَ ابْن السّكيت: الرُّسُل(1/68)
بِكَسْر الرَّاء: اللين وَالسير اللين. وَقَالَ الْخطابِيّ: الرُّسُل بِفَتْح الرَّاء: السّير الرفيق اللَّيْل، وبكسرها اللين.
والبديهة: مَا قيل من غير تقدم فكر فِيهِ.
وَقَوله: لن تعرف الْعَرَب هَذَا الْأَمر إِلَّا لهَذَا الْحَيّ من قُرَيْش. الْأَمر هَاهُنَا بِمَعْنى الْإِمَارَة. والحي أَصله من حَيّ الرجل: وهم رهطه الأدنون. وَأما قُرَيْش فهم ولد النَّضر بن كنَانَة، وَمن لم يلده النَّضر فَلَيْسَ بقرشي. وَقيل: هم ولد فهر بن مَالك بن النَّضر، فَمن لم يلده فَلَيْسَ بقرشي. وَإِنَّمَا سموا قُريْشًا لتجارتهم وجمعهم المَال. والقرش فِي اللُّغَة: الْكسْب، يُقَال: فلَان يقرش لِعِيَالِهِ ويقترش. أَي يكْتَسب. وَسَأَلَ مُعَاوِيَة عبد الله بن الْعَبَّاس: لم سميت قُرَيْش قُريْشًا؟ فَقَالَ: بِدَابَّة تكون فِي الْبَحْر يُقَال لَهَا القريش، لَا تمر بِشَيْء إِلَّا أَكلته، وَأنْشد:
(وقريش هِيَ الَّتِي تسكن الْبَحْر ... ، بهَا سميت قُرَيْش قُريْشًا)
وَحكى ابْن الْأَنْبَارِي أَن قوما قَالُوا: سموا قُريْشًا بالاقتراش، وَهُوَ وُقُوع الرماح بَعْضهَا على بعض، وَأنْشد:
(وَلما دنا الرَّايَات واقتراش القنا ... وطار مَعَ الْقَوْم الْقُلُوب الرواجف)
وَقَوله: هم أَوسط الْعَرَب نسبا ودارا. الْأَوْسَط وَالْوسط: الْأَفْضَل(1/69)
وَهَذَا إِن خير الْأَشْيَاء أوساطها، وَإِن الغلو وَالتَّقْصِير مذمومان. وَالْمرَاد بِالدَّار: الْقَبِيلَة. وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " أَلا أنبئكم بِخَير دور الْأَنْصَار؟ " يَعْنِي الْقَبَائِل.
وَإِنَّمَا أضَاف أَبُو بكر أَبَا عُبَيْدَة إِلَى عمر؛ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي أبي عُبَيْدَة: " هُوَ أَمِين هَذِه الْأمة " فَرَأى أَن الأمارة تفْتَقر إِلَى الْأَمَانَة، وَقد وَصفه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهَا.
وَقَوله: فَقَالَ قَائِل من الْأَنْصَار: أَنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.
وَأما الْقَائِل فقد رُوِيَ أَن الْقَائِل الْحباب بن الْمُنْذر، وَقيل: هُوَ سعد بن عبَادَة قَالَ أَبُو عبيد: الجذيل تَصْغِير جذل أَو جذل: وَهُوَ عود ينصب لِلْإِبِلِ الجربى لتحتك بِهِ من الجرب، فَأَرَادَ أَنه يستشفى بِرَأْيهِ كَمَا تستشفى الْإِبِل بالاحتكاك بذلك الْعود. وَقَالَ غَيره: بل أَرَادَ: إِنِّي أثبت فِي الشدائد ثُبُوت الْعود الَّذِي يحتك بِهِ الْإِبِل مَعَ كَثْرَة ترددها عَلَيْهِ. والعذيق تَصْغِير عذق بِفَتْح الْعين: وَهُوَ النَّخْلَة. فَأَما العذق بِكَسْر الْعين فَهُوَ الكباسة. وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّخْلَة. والترجيب أَن يدعم النَّخْلَة إِذا كثر حملهَا إِمَّا بخشبة ذَات شعبتين أَو تبني بَيْتا حولهَا؛ شَفَقَة على حملهَا، وحبا لَهَا، وَأَرَادَ: أَنِّي مُعظم فِي(1/70)
النُّفُوس، أصلح للائتمام بِي.
واللغط: ارْتِفَاع الْأَصْوَات بِمَا لَا يُفِيد.
وَقَوله: منا أَمِير ومنكم أَمِير. رُبمَا ظن ظان بالأنصار أَنهم شكوا فِي تَفْضِيل أبي بكر؛ وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا جروا فِي هَذَا على عَادَة الْعَرَب: وَهِي أَن لَا يسود الْقَبِيلَة إِلَّا رجل مِنْهَا، وَلم يعلمُوا أَن حكم الْإِسْلَام على خلاف ذَلِك، فَلَمَّا ثَبت عِنْدهم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الْخلَافَة فِي قُرَيْش " أذعنوا لَهُ وَبَايَعُوهُ.
وَقَوله: ونزونا: مَعْنَاهُ وثبنا، وَذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ للازدحام.
وَقَوله: قتل الله سَعْدا: إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن سَعْدا أَرَادَ الْولَايَة وَمَا كَانَ يصلح أَن يتَقَدَّم أَبَا بكر. وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى قَوْله: قتل الله سَعْدا: أَي احسبوه فِي عداد من مَاتَ وَهلك، أَي لَا تَعْتَدوا بِحُضُورِهِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ أَن يكون أَمِيرا، فَخَالف.
وَقَوله: تغرة أَن يقتلا: أَي حذارا، وَهُوَ مَأْخُوذ من التَّغْرِير، كالتعلة من التَّعْلِيل. وَقَالَ أَبُو عبيد: أَرَادَ أَن فِي بيعتهما تغريرا بأنفسهما للْقَتْل، وتعرضا لذَلِك.
27 - / 27 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ ابْن عَبَّاس: حججْت مَعَ عمر، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْض الطَّرِيق عدل وَعدلت مَعَه بِالْإِدَاوَةِ فَتبرز.(1/71)
أما الْإِدَاوَة فَهِيَ من جُلُود، كالركوة، يتَوَضَّأ فِيهَا.
وتبرز بِمَعْنى خرج إِلَى البرَاز وَهُوَ الْمَكَان الفسيح لقَضَاء الْحَاجة.
وَقَوله: من الْمَرْأَتَانِ اللَّتَان قَالَ الله عز وَجل: {إِن تَتُوبَا إِلَى الله} ؟ [التَّحْرِيم: 4] الْمَعْنى: إِن تَتُوبَا من التعاون على رَسُول الله بالإيذاء {فقد صغت قُلُوبكُمَا} أَي زاغت عَن الْحق وَعدلت. وَإِنَّمَا قَالَ {قُلُوبكُمَا} لِأَن كل اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: الْعَرَب تَقول: وضعا رحالهما، يُرِيدُونَ رحلي راحلتيهما.
والمرأتان: عَائِشَة وَحَفْصَة، وتعاونهما أَنَّهُمَا أحبتا مَا كرهه رَسُول الله من اجْتِنَاب جَارِيَته مَارِيَة، وَذَلِكَ أَن حَفْصَة ذهبت يَوْمًا إِلَى بَيت أَبِيهَا، فَأرْسل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى جَارِيَته مَارِيَة، فظلت عِنْده فِي بَيت حَفْصَة، وَكَانَ الْيَوْم الَّذِي يَأْتِي فِيهِ عَائِشَة، فَرَجَعت حَفْصَة فَوَجَدتهَا فِي بَيتهَا، فَجعلت تنْتَظر خُرُوجهَا، فَلَمَّا دخلت حَفْصَة قَالَت: قد رَأَيْت من كَانَ عنْدك، وَالله لقد سؤتني، فَقَالَ: " وَالله لأرضينك، وَإِنِّي أسر إِلَيْك سرا فاحفظيه: إِنِّي أشهد أَنَّهَا عَليّ حرَام، فَلَا تذكري هَذَا لأحد " فَذَكرته لعَائِشَة، فَمَا زَالَت بِهِ عَائِشَة حَتَّى حلف أَلا يقربهَا فَهَذَا هُوَ السَّبَب فِي هجره إياهن.
قَالَ ابْن حبيب الْهَاشِمِي: يُقَال إِنَّه ذبح ذبحا، فقسمته عَائِشَة بَين أَزوَاجه، فَأرْسل إِلَى زَيْنَب بنت جحش نصِيبهَا، فَردته، فَقَالَ: " زيديها "، فزادتها ثَلَاثًا وَهِي ترده. فَقَالَ: " لَا أَدخل عليكن شهرا ".
وَقَالَ غَيره: بل كن قد سألنه زِيَادَة فِي النَّفَقَة، وآذينه بالغيرة،(1/72)
فآلى مِنْهُنَّ شهرا.
وَقَوله: فَطَفِقَ نساؤنا - أَي أخذن فِي تعلم ذَلِك. وطفق مثل قَوْلك: أنشأ يَقُول، وَجعل يَقُول. وَأكْثر اللُّغَة على طفق يطفق، وَقد جَاءَ طفق بِفَتْح الْفَاء، يطفق بِكَسْرِهَا.
وَقَوله: لَا يغرنك أَن كَانَت جارتك هِيَ أوسم. أَرَادَ بالجاره عَائِشَة، وَإِنَّمَا سَمَّاهَا جَارة لِأَنَّهَا قد شاركتها فِي الزواج. وَأَرَادَ بقوله أوسم: الوسامة: وَهِي الْحسن. وَالْمعْنَى أَن عَائِشَة تدل بحسنها ومحبة الرَّسُول لَهَا، فَلَا تغتري أَنْت.
ويوشك بِمَعْنى يقرب. يُقَال: أوشك الْأَمر يُوشك فَهُوَ وشيك: إِذا قرب.
والمشربة بِضَم الرَّاء وَفتحهَا، وَجَمعهَا مشارب ومشربات: وَهِي الغرفة.
وَقَوله: على رمال حَصِير. الرمال يُقَال بِكَسْر الرَّاء وَضمّهَا، وَمَعْنَاهُ مَا نسج من حَصِير أَو غَيره. قَالَ الزّجاج: يُقَال: رملت الْحَصِير رملا، وأرملته إرمالا: إِذا نسجته، وَمعنى الحَدِيث: أَنه لم يكن فَوق الْحَصِير فرَاش وَلَا غَيره.
وَقَوله: استأنس: أَي أَجْلِس وأستقر.
والأهبة جمع إهَاب: والإهاب اسْم الْجلد، وَيُقَال فِي جمعه أهب(1/73)
وَأهب وآهبه، قَالَ النَّضر بن شُمَيْل: إِنَّمَا يُقَال إهَاب لجلد مَا يُؤْكَل لَحْمه.
وَقد جَاءَ فِي لفظ آخر: أَنه دخل عَلَيْهِ وَعِنْده أفِيق. والأفيق: الْجلد لم يتم دباغه، وَجمعه أفق. يُقَال: أفِيق وأفق، وأديم وأدم، وعمود وَعمد، وإهاب وَأهب. وَلم يجِئ " فعيل " وَلَا: " فعول " يجمع على " فعل ": إِلَّا هَذِه الأحرف، وَإِنَّمَا يجمع على فعل نَحْو صبور وصبر.
وَقَوله: " الشَّهْر تسع وَعِشْرُونَ ". يُشِير إِلَى ذَلِك الشَّهْر الَّذِي حلف فِيهِ، فَإِنَّهُ طلع الْهلَال فَكَانَ الشَّهْر تسعا وَعشْرين، وَلَيْسَ كل الشُّهُور يكون كَذَلِك.
وَقَوله: " حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك " الاستئمار: طلب أَمر المستأمر ليمتثله المستأمر.
وَقَوله: {إِن كنتن تردن الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا} وَهَذَا لِأَن عملهن بِمُقْتَضى الْغيرَة وطلبهن زِيَادَة النَّفَقَة إِرَادَة مِنْهُنَّ للدنيا.
وَقَوله: {فتعالين أمتعكن} [الْأَحْزَاب: 28] يعْنى مُتْعَة الطَّلَاق. وَالْمرَاد بالسراح: الطَّلَاق. وبالدار الْآخِرَة: الْجنَّة. والمحسنات: المؤثرات للآخرة.
فَلَمَّا أخترنه أنبأهن الله عز وَجل ثَلَاثَة أَشْيَاء:
أَحدهَا: التَّفْضِيل على سَائِر النِّسَاء بقوله: {لستن كَأحد من النِّسَاء} [الْأَحْزَاب: 32] .
وَالثَّانِي: أَن جَعلهنَّ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ.
وَالثَّالِث: أَن حظر عَلَيْهِ طلاقهن والاستبدال بِهن، لقَوْله: {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} [الْأَحْزَاب: 52] .(1/74)
وَهل أُبِيح لَهُ بعد ذَلِك التَّزَوُّج عَلَيْهِنَّ؟ فِيهِ قَولَانِ.
وَقَوله: وَلم يُرْسِلنِي مُتَعَنتًا. المتعنت: المشدد الَّذِي يُكَلف من يتعنته الْأَمر الصعب، وَرُبمَا قصد بذلك إِظْهَار عَجزه. وأصل الْعَنَت الْمَشَقَّة يُقَال: أكمة عنوت: إِذا كَانَ سلوكها شاقا. وَيُقَال: عنت الْبَعِير يعنت عنتا: إِذا حدث فِي رجله كسر لَا يُمكنهُ مَعَه تصريفها.
وَقَوله: تحسر الْغَضَب عَن وَجهه: أَي انْكَشَفَ. وكشر بِمَعْنى تَبَسم.
وَقَوله: {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف} [النِّسَاء: 83] الْإِشَارَة إِلَى الْمُنَافِقين، وَالْمعْنَى أَنهم إِذا سمعُوا خَبرا يحدث خيرا أَو يُوجب خوفًا أشاعوه من غير تثبت فِي مَعْرفَته، {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول} حَتَّى يكون هُوَ الْمخبر بِهِ {وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم} كالأكابر من الصَّحَابَة {لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} .
وَفِي هَذَا الْعلم قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن رَاجع إِلَى المذيعين، فَلَو ردُّوهُ إِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم علمُوا حَقِيقَته وفهموا مَا يستنبطونه مِنْهُ بإعلام أُولَئِكَ.
وَالثَّانِي: أَنه رَاجع إِلَى أولي الْأَمر، وَالْمعْنَى: لعلمه أولو الْأَمر عِنْد استنباطهم لَهُ. والاستنباط فِي اللُّغَة: الاستخراج. وَقَالَ الزّجاج: أَصله من النبط: وَهُوَ المَاء الَّذِي يخرج من الْبِئْر فِي أول مَا يحْفر. يُقَال من ذَلِك: قد أنبط فلَان فِي غضراء: أَي استنبط المَاء من طين حر. وَسمي النباط نباطا لاستنباطهم مَا يخرج من الأَرْض.(1/75)
وعَلى مُقْتَضى حَدِيث عمر أَن هَذَا الَّذِي أذاعوه قَوْلهم " طلق رَسُول الله نِسَاءَهُ، فَإِنَّمَا أشاعوا مَا لم يتيقنوه حَتَّى استنبط ذَلِك عمر.
وَقَوله: دخل عمر على أم سَلمَة لِقَرَابَتِهِ مِنْهَا.
أم سَلمَة بنت عَم أم عمر؛ لِأَن أم عمر حنتمة بنت هَاشم بن الْمُغيرَة ابْن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم. وَأم سَلمَة بنت أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة.
وَقَوْلها لَهُ: قد دخلت فِي كل شَيْء حَتَّى تبتغي أَن تدخل بَين رَسُول الله وأزواجه. كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ ناصحا لِلْإِسْلَامِ، فَكَانَ ينبسط على رَسُول الله، فَيَقُول: افْعَل، وَلَا تفعل، فَيعلم رَسُول الله شدَّة شفقته وَمَوْضِع نصحه فَلَا يُنكر عَلَيْهِ، وَقد قَالَ لرَسُول الله: احجب نِسَاءَك، وَقَالَ: لَا تصل على ابْن أبي، إِلَى غير ذَلِك.
28 - / 28 - الحَدِيث الْعَاشِر: قَالَ ابْن عَبَّاس: شهد عِنْدِي رجال مرضيون، وأرضاهم عِنْدِي عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الصَّلَاة بعد الصُّبْح حَتَّى تشرق الشَّمْس، وَبعد الْعَصْر حَتَّى تغرب.
قلت: شهد عِنْدِي: مَعْنَاهُ بينوا لي هَذَا وأعلموني بِهِ، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ إِقَامَة الشَّهَادَة الَّتِي تكون عِنْد الْحُكَّام. وَمثل هَذَا قَوْله تَعَالَى: {شهد الله أَنه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} [آل عمرَان: 18] قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: بَين.
قَالَ: وأشرقت الشَّمْس: إِذا أَضَاءَت وصفت، وشرقت: إِذا طلعت، هَذَا أَكثر اللُّغَة، وَقَالَ بَعضهم: هما بِمَعْنى وَاحِد.(1/76)
وَاعْلَم أَن هَذَا النَّهْي يخْتَص النَّوَافِل الَّتِي لَا سَبَب لَهَا، وَأما الَّتِي لَهَا سَبَب كتحية الْمَسْجِد، فَهَل يجوز فعلهَا؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا لَا يجوز، وَالْأُخْرَى يجوز كَقَوْل الشَّافِعِي.
وَاعْلَم أَن كَرَاهِيَة التَّنَفُّل فِي أَوْقَات النَّهْي تعم جَمِيع الْمَسَاجِد جَمِيع الْأَيَّام. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يكره التَّنَفُّل فِي هَذِه الْأَوْقَات بِمَسْجِد مَكَّة خَاصَّة، وَلَا يكره التَّنَفُّل يَوْم الْجُمُعَة عِنْد الزَّوَال. وَأما قَضَاء الْفَوَائِت وَفعل المنذورات فِي أَوْقَات النَّهْي فَيجوز عندنَا خلافًا لأبي حنيفَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فقد صَحَّ عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يتْرك رَكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر. فَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مسندها إِن شَاءَ الله.
29 - / 29 - الحَدِيث الْحَادِي عشر: بلغ عمر أَن فلَانا بَاعَ خمرًا، فَقَالَ: قَاتل الله فلَانا، ألم يعلم أَن رَسُول الله قَالَ: " لعن الله الْيَهُود؛ حرمت عَلَيْهِم الشحوم، فجملوها فَبَاعُوهَا ".
الْكِنَايَة بفلان عَن سَمُرَة بن جُنْدُب، وَكَانَ واليا على الْبَصْرَة من قبل عمر، وَفِي كَيْفيَّة بَيْعه للخمر ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه كَانَ يَأْخُذهَا من أهل الْكتاب عَن قيمَة الْجِزْيَة فيبيعها مِنْهُم ظنا مِنْهُ أَن ذَلِك جَائِز، قَالَه لنا ابْن نَاصِر. وَإِنَّمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن يوليهم بيعهَا، قَالَ ابْن عقيل فهم إِذا باعوها أخذُوا ثمنهَا وَنحن نَأْخُذ مِنْهُم ذَلِك الثّمن عشرا، وَهَذَا الْقدر الْحَائِل بَين الأخذين يخرج اسْم(1/77)
الْمَأْخُوذ مِنْهُم عَن اسْم الثمنية، كَمَا قَالَ البريرة: " هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة، وَلنَا هَدِيَّة ".
وَالثَّانِي: أَن يكون سَمُرَة بَاعَ الْعصير مِمَّن يَتَّخِذهُ خمرًا، وَذَلِكَ مَكْرُوه، وَقد يُسمى الْعصير خمرًا لِأَنَّهُ يؤول إِلَى الْخمر، كَمَا قَالَ عز وَجل: {أعصر خمرًا} [يُوسُف: 36] .
وَالثَّالِث: أَن يكون خلل الْخمر وباعها، وَإِذا خللت لم تطهر وَلم تحل عندنَا. ذكر هذَيْن الْوَجْهَيْنِ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ. وَالصَّحِيح الأول.
وَمعنى جملوها: أذابوها. والجميل: الشَّحْم الْمُذَاب. قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: جملت وأجملت واجتملت. قَالَ لبيد:
(وَغُلَام أَرْسلتهُ أمه ... بألوك فبذلنا مَا سَأَلَ)
(أَو نهته فَأَتَاهُ رزقه ... فاشتوى لَيْلَة ريح واجتمل)
30 - / 30 - الحَدِيث الثَّانِي عشر: قَالَ ابْن الزبير: لَا تلبسوا نساءكم الْحَرِير؛ فَإِنِّي سَمِعت عمر يَقُول: سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " لَا تلبسوا الْحَرِير؛ فَإِن من لبسه فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة " وَفِي لفظ: " إِنَّمَا يلبس الْحَرِير من لَا خلاق لَهُ ".(1/78)
وَأما قَول ابْن الزبير: لَا تلبسوا نساءكم الْحَرِير، فَإِنَّهُ قد حمل لفظ رَسُول الله فِي النَّهْي على الْعُمُوم فِي حق الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَهَذَا مُقْتَضى هَذَا اللَّفْظ، غير أَن هَذَا الْإِطْلَاق خص بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: " هَذَانِ حرَام على ذُكُور أمتِي، حل لإناثها ".
والخلاق: النَّصِيب
31 - / 31 - الحَدِيث الثَّالِث عشر: عَن الْمسور وَعبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي أَن عمر قَالَ: سَمِعت هِشَام بن حَكِيم بن حزَام يقْرَأ سُورَة الْفرْقَان على حُرُوف كَثِيرَة لم يقرئنيها رَسُول الله، فكدت أساوره فِي الصَّلَاة.
أما عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي، فالياء مُشَدّدَة، وَهُوَ من القارة، وَله ولدان يذكران فِي الحَدِيث بذلك النّسَب، إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد، وَرُبمَا نسبه بعض قرأة الحَدِيث إِلَى الْقِرَاءَة فَلم يشدد الْيَاء، وَذَلِكَ غلط.
وَقَوله: فكدت أساوره فِي الصَّلَاة: مَعْنَاهُ فاربت ذَلِك وَلم أفعل، وَكَاد كلمة إِذا أَثْبَتَت انْتَفَى الْفِعْل، وَإِذا نفيت ثَبت الْفِعْل. وَيشْهد للنَّفْي عِنْد الْإِثْبَات {يكَاد الْبَرْق} [الْبَقَرَة: 20] {يكَاد سنا برقه} [النُّور: 43] ، {يكَاد زيتها يضيء} [النُّور: 35] وَيشْهد للإثبات عِنْد النَّفْي: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [الْبَقَرَة: 71] ، {لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا} [النِّسَاء: 78] ، {لم يكد يَرَاهَا} [النُّور: 40] ، {وَلَا يكَاد يبين} [الزخرف: 52] هَذَا هُوَ الأَصْل فِي كَاد، وَقد جَاءَت بِمَعْنى فعل، قَالَ ذُو الرمة:(1/79)
(وَلَو أَن لُقْمَان الْحَكِيم تعرضت ... لعينيه مي سافرا كَاد يَبْرق)
أَي: لَو تعرضت لبرق: أَي دهش وتحير. وَجَاءَت المنفية بِمَعْنى الْإِثْبَات، وَقَالَ ذُو الرمة أَيْضا:
(إِذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الْهوى من حب مية يبرح)
أَرَادَ: لم يبرح.
وَمعنى أساوره: أواثبه، من سُورَة الْغَضَب.
وَقَوله: فتربصت. التَّرَبُّص: الِانْتِظَار.
وَقَوله: لببته بردائه: جررته. اللبب: مَوضِع النَّحْر. وَأَرَادَ: جررته بالرداء الْمُتَعَلّق بنحره.
وَقَوله: " إِن هَذَا الْقُرْآن أنزل على سَبْعَة أحرف ".
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي المُرَاد بِهَذَا على خَمْسَة وَثَلَاثِينَ قولا، حَكَاهَا أَبُو حَاتِم بن حبَان الْحَافِظ. غير أَن جمهورها لَا يخْتَار، وَالَّذِي نختاره أَن المُرَاد بالحرف اللُّغَة، فالقرآن أنزل على سبع لُغَات فصيحة من لُغَات الْعَرَب، فبعضه بلغَة هُذَيْل، وَبَعضه بلغَة هوَازن، وَغَيرهم من الفصحاء.
وَقد يشكل على بعض النَّاس فَيَقُول: هَل كَانَ جِبْرِيل يلفظ بِاللَّفْظِ(1/80)
الْوَاحِد سبع مَرَّات؟ فَيُقَال لَهُ: إِنَّمَا يلْزم هَذَا إِذا قُلْنَا إِن السَّبْعَة الأحرف تَجْتَمِع فِي حرف وَاحِد، وَنحن قُلْنَا: إِن السَّبْعَة الأحرف تَفَرَّقت فِي الْقُرْآن، فبعضه بلغَة قُرَيْش، وَبَعضه بلغَة غَيرهم. وَلَو قُلْنَا: إِنَّهَا اجْتمعت فِي الْحَرْف الْوَاحِد قُلْنَا: كَانَ جِبْرِيل يَأْتِي فِي كل عرضة بِحرف إِلَى أَن تمت سَبْعَة أحرف.
32 - / 32 - الحَدِيث الرَّابِع عشر: وَافَقت رَبِّي فِي ثَلَاث: قلت: يَا رَسُول الله، لَو اتخذنا مقَام إِبْرَاهِيم مصلى، فَنزلت: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} [الْبَقَرَة: 125] وَقلت: يَا رَسُول الله، يدْخل على نِسَائِك الْبر والفاجر، فَلَو أمرتهن يحتجبن فَنزلت آيَة الْحجاب. وَاجْتمعَ نسَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْغيرَة، فَقلت: {عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن} فَنزلت كَذَلِك.
معنى وَافَقت رَبِّي: أَي وَافَقت حكمه. ومقام إِبْرَاهِيم: مَوضِع قِيَامه، وَهُوَ مَفْتُوح الْمِيم، فَإِذا ضمت فَالْمُرَاد الْإِقَامَة، ثمَّ قد يسْتَعْمل كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي مَوضِع الآخر. وَالْمرَاد بمقام إِبْرَاهِيم الْحجر الْمَعْرُوف.
وَفِي سَبَب قِيَامه عَلَيْهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه جَاءَ من الشَّام إِلَى مَكَّة لزيارة ابْنه إِسْمَاعِيل فَلم يجده، فَقَالَت لَهُ زَوجته: انْزِلْ، فَأبى؛ لِأَن سارة اشْترطت عَلَيْهِ أَلا ينزل غيرَة عَلَيْهِ. فَقَالَت لَهُ: فَدَعْنِي أغسل رَأسك، فَأَتَتْهُ بِالْحجرِ فَوضع رجله عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكب، فغسلت شقَّه، ثمَّ رفعته وَقد غَابَتْ فِيهِ رجله، فَوَضَعته تَحت الشق الآخر وغسلته، فغابت فِيهِ رجله، فَجعله الله عز وَجل من الشعائر، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس.(1/81)
وَالثَّانِي: أَنه قَامَ على الْحجر لبِنَاء الْبَيْت، وَإِسْمَاعِيل يناوله الْحِجَارَة، قَالَه سعيد بن جُبَير.
فَإِن قيل: فَمَا السِّرّ فِي أَن عمر لم يقنع بِمَا فِي شريعتنا حَتَّى طلب الاستنان بِملَّة إِبْرَاهِيم، وَقد نَهَاهُ رَسُول الله عَن مثل هَذَا حِين أَتَى بأَشْيَاء من التَّوْرَاة، فَقَالَ. " أمطها عَنَّا يَا عمر "؟
فَالْجَوَاب: أَنه لما سمع قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا} [الْبَقَرَة: 124] .
ثمَّ سمع قَوْله: {أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم} [النَّحْل: 123] علم أَن الائتمام بِهِ مَشْرُوع فِي شرعنا دون الائتمام بِغَيْرِهِ من الْأَنْبِيَاء. ثمَّ رأى أَن الْبَيْت مُضَاف إِلَى إِبْرَاهِيم وَأَن أثر قدمه فِي الْمقَام كرقم اسْم الْبَانِي فِي الْبناء ليذكر بِهِ بعد مَوته، فَرَأى الصَّلَاة عِنْد الْمقَام كَقِرَاءَة الطَّائِف بِالْبَيْتِ اسْم من بناه، فَوَقَعت مُوَافَقَته فِي رَأْيه. فَأَما غير إِبْرَاهِيم من الْأَنْبِيَاء فَلَا يجرى مجْرَاه.
على أَن هَذَا الْقدر من شرع إِبْرَاهِيم مَعْلُوم قطعا، وَمَا فِي أيدى الكتابيين من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل أَمر مغير مبدل، فَنَهَاهُ عَنهُ للعلتين جَمِيعًا.
وَقد بَان هَذَا بِمَا أخبرنَا بِهِ أَبُو الْقَاسِم الْكَاتِب قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن مَالك. قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا شُرَيْح بن النُّعْمَان قَالَ: حَدثنَا هشيم قَالَ: أخبرنَا مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن جَابر بن عبد الله: أَن عمر ابْن الْخطاب أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكِتَاب أَصَابَهُ من بعض أهل الْكتاب، فقرأه(1/82)
على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَغَضب وَقَالَ: " أمتهوكون فِيهَا يَا ابْن الْخطاب؟ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لقد جِئتُكُمْ بهَا بَيْضَاء نقية. لَا تسألوهم عَن شَيْء فيخبركم بِحَق فتكذبوا بِهِ أَو بباطل فتصدقوا بِهِ. وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَو أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ حَيا مَا وَسعه إِلَّا أَن يَتبعني ".
وَأما آيَة الْحجاب فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ جَارِيا على عَادَة الْعَرَب فِي ترك الْحجاب، حَتَّى أَمر بذلك، وَالَّذِي أَشَارَ بِهِ عمر لم يكن يخفى على رَسُول الله، لكنه كَانَ ينْتَظر الْوَحْي فِي الْأَشْيَاء، وَكَانَ السَّبَب فِي نزُول الْحجاب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج زَيْنَب، وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا، فَأكل جمَاعَة من الصَّحَابَة عِنْده فِي الْبَيْت وَهِي مولية وَجههَا لحائط، فانتظر رَسُول الله خُرُوجهمْ فَلم يخرجُوا، وجلسوا يتحدثون، فَخرج رَسُول الله فَلم يخرجُوا، ثمَّ عَاد وَلم يخرجُوا، فَنزلت: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بيُوت النَّبِي إِلَّا أَن يُؤذن لكم} [الْأَحْزَاب: 53] . وَهَذَا يَأْتِي مشروحا فِي مُسْند أنس إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأما أُسَارَى بدر فَإِن رَسُول الله كَانَ قد اسْتَشَارَ فيهم أَبَا بكر وَعمر، فَأَشَارَ أَبُو بكر بِالْفِدَاءِ، وَأَشَارَ عمر بِالْقَتْلِ، على مَا سَيَأْتِي عَن قريب، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} [الْأَنْفَال: 67] فَكَانَ ذَلِك على مُوَافقَة عمر.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ خَفِي الصَّوَاب على رَسُول الله وَأبي بكر؟
فَالْجَوَاب لثَلَاثَة أوجه:(1/83)
أَحدهَا: ليظْهر النَّقْص على التَّام.
وَالثَّانِي: ليعلم أَن الْإِصَابَة بِتَوْفِيق الله عز وَجل، لَا بِرَأْي الْإِنْسَان وترويه، وَلذَلِك اطلع سُلَيْمَان على مَا خَفِي عَن دَاوُد، وَالْخضر على مَا غَابَ عَن مُوسَى [عَلَيْهِم السَّلَام] .
وَالثَّالِث: أَنه إِذا أصَاب عمر وَالرَّسُول حَيّ، لم يرتب باستحقاقه الْولَايَة بعد أبي بكر.
33 - / 33 - الحَدِيث الْخَامِس عشر: " إِذا أقبل اللَّيْل وَأدبر النَّهَار فقد أفطر الصَّائِم ".
فِي معنى " فقد أفطر " قَولَانِ: أَحدهمَا: فقد دخل وَقت الْفطر. وَجَاز لَهُ. وَالثَّانِي: فقد صَار فِي حكم الْمُفطر وَإنَّهُ لم يَأْكُل.
34 - / 34 - الحَدِيث السَّادِس عشر: " إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى، فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله، وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا أَو إِلَى امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ ".
الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث من أَرْبَعَة أوجه:
أَحدهَا: من جِهَة الرِّوَايَة: فقد رَوَاهُ عَن يحيى بن سعيد نَحْو من مِائَتَيْنِ وَخمسين رجلا. وَقد رُوِيَ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ،(1/84)
رَوَاهُ نوح بن حبيب البذشي، فرفعه عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، فَانْقَلَبَ عَلَيْهِ إِسْنَاد حَدِيث بِحَدِيث. وَرُوِيَ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَابْن عَبَّاس، وَابْن عمر، وَمُعَاوِيَة، وَغَيرهم، وَلَا يَصح مُسْندًا إِلَّا من حَدِيث عمر.
وَالثَّانِي: بَيَان سَبَب هَذَا الحَدِيث: فَإِن كثيرا من الْأَحَادِيث جَاءَت على أَسبَاب، كَمَا أَن كثيرا من الْآيَات نزلت على أَسبَاب: وَذَلِكَ أَن رجلا خطب امْرَأَة بِمَكَّة، فهاجرت إِلَى الْمَدِينَة، فتبعها الرجل رَغْبَة فِي نِكَاحهَا، فَقَالَ رَسُول الله هَذَا الحَدِيث، فَكَانَ يُقَال للرجل: مهَاجر أم قيس.
وَالثَّالِث: فضل هَذَا الحَدِيث وشرفه:
فَإِن الْعلمَاء كَانُوا يستحبون تَقْدِيمه فِي التصانيف لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ؛ إِذْ النِّيَّة أصل الْعَمَل، وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي يَقُول: يَنْبَغِي لمن صنف كتابا أَن يَبْتَدِئ بِهَذَا الحَدِيث. وَلِهَذَا افْتتح البُخَارِيّ كِتَابه بِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِي: يدْخل هَذَا الحَدِيث فِي سبعين بَابا من الْفِقْه. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أصُول الْإِسْلَام على ثَلَاثَة أَحَادِيث: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّةِ "، و " حَلَال بَين، وَحرَام بَين "، و " من أحدث فِي أمرنَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رد ". وَقَالَ أَبُو دَاوُد السجسْتانِي: الْفِقْه يَدُور على خَمْسَة أَحَادِيث: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " و " حَلَال بَين " و " مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْكُم فَاجْتَنبُوهُ، وَمَا أَمرتكُم بِهِ فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم " و: لَا ضَرَر وَلَا ضرار " و " الدّين النَّصِيحَة ".
وَفِي رِوَايَة عَن أبي دَاوُد قَالَ: كتبت عَن رَسُول الله خَمْسمِائَة ألف(1/85)
حَدِيث، انتخبت مِنْهَا مَا ضمنته كتاب " السّنَن "، فَذكرت الصَّحِيح وَمَا يُشبههُ ويقاربه، وَيَكْفِي الْإِنْسَان لدينِهِ من ذَلِك أَرْبَعَة أَحَادِيث: أَحدهمَا: " الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " وَالثَّانِي: " الْحَلَال بَين " وَالثَّالِث: " من حسن إِسْلَام الْمَرْء تَركه مَا لَا يعنيه "، وَالرَّابِع: " لَا يكون الْمُؤمن مُؤمنا حَتَّى يرضى لِأَخِيهِ مَا يرضاه لنَفسِهِ ".
وَالْوَجْه الرَّابِع: تَفْسِير الحَدِيث:
فَقَوله: " إِنَّمَا " كلمة ترَاد للحصر، تثبت الْمشَار إِلَيْهِ وتنفي مَا عداهُ، فَهِيَ تعْمل بركنيها إِثْبَاتًا ونفيا. وَمَعْلُوم أَن الرَّسُول لم يرد نفي الْأَعْمَال الحسية، لِأَنَّهَا قد تُوجد بِغَيْر نِيَّة، وَإِنَّمَا أَرَادَ صِحَة الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة، فَبين أَن النِّيَّة هِيَ الفاصلة بَين مَا يَصح وَمَا لَا يَصح.
وَمعنى النِّيَّة: قصدك الشَّيْء، وتحريك طلبه. وَقَالَ بعض اللغويين: أصل النِّيَّة الطّلب، وَيُقَال: لي عِنْد فلَان نِيَّة: أَي طلبة وحاجة. وَأنْشد لكثير:
(وَإِن الَّذِي يَنْوِي من المَال أَهلهَا ... أوارك لما تأتلف وعوادي)
يُرِيد: مَا يطلبونه من الْمهْر. والأوراك: المقيمة فِي الْأَرَاك تَأْكُله.(1/86)
يُقَال مِنْهُ: أركت تأرك أروكا: إِذا أَقَامَت فِي الْأَرَاك تَأْكُله، وَهِي إبل آركة مثل فاعلة. فَإِن اشتكت بطونها عَنهُ قيل: إبل أراكى، وَكَذَلِكَ رماثى وطلاحى، من الرمث والطلح.
وَقد أَفَادَ هَذَا الحَدِيث أَن الشَّرْع إِنَّمَا يعْتد بِالْعَمَلِ الَّذِي فِيهِ النِّيَّة، فَلَو أَن إنْسَانا اغْتسل بِقصد التبرد لم يجزه عَن الْجَنَابَة، وَهَذَا قَول مَالك، وَالشَّافِعِيّ، وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تجب النِّيَّة فِي طَهَارَة المَاء، وَتجب فِي التَّيَمُّم. وَقَالَ: الْأَوْزَاعِيّ: لَا تجب فيهمَا.
وَقَوله: " وَإِنَّمَا لامرئ مَا نوى " تَأْكِيد للْكَلَام الأول. ويحتوي على فَائِدَة تخصه: وَهِي إِيجَاب تعْيين النِّيَّة للْعَمَل الْمُبَاشر، فَإِنَّهُ لَو صلى الْإِنْسَان أَربع رَكْعَات، فَقَالَ فِي نَفسه: هَذِه قَضَاء فَرِيضَة إِن كَانَت عَليّ، وَإِلَّا فَهِيَ نَافِلَة، لم يجزه عَن فَرْضه إِذا بَان أَن عَلَيْهِ فَرِيضَة، لِأَنَّهُ لم يمحض النِّيَّة للْفَرض. وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لَيْلَة الْغَيْم: إِذا كَانَ غَدا من رَمَضَان فَهِيَ فَرضِي، وَإِن لم يكن فَهُوَ نفل، فَإِنَّهُ لَا يجْزِيه حَتَّى يقطع أَنه صَائِم غَدا من رَمَضَان، فِي الْمَنْصُور عِنْد أَصْحَابنَا.
وَقَوله: فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله: أَي فَهجرَته مَقْبُولَة عِنْد الله وَرَسُوله.
وَقَوله: " إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ " إِخْرَاج لما لم يقْصد بِالنِّيَّةِ، يُرِيد أَن حَظه من هجرته مَا قَصده من دُنْيَاهُ دون مَا لم يَقْصِدهُ من آخرته. فبعض الحَدِيث يُقَوي بَعْضًا ويؤكده.(1/87)
35 - / 35 - الحَدِيث السَّابِع عشر: من رِوَايَة مَالك بن أَوْس النصري عَن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " الذَّهَب بِالذَّهَب رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء. وَالْوَرق بالورق رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء. وَالْبر بِالْبرِّ رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء. وَالشعِير بِالشَّعِيرِ رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء. وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ رَبًّا إِلَّا هَاء وهاء ".
الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث فِي أَرْبَعَة مقامات:
الأول: فِي نسب الرواي وَهُوَ النصري بالنُّون وَالصَّاد غير الْمُعْجَمَة، وَهُوَ أحد بني نصر بن مُعَاوِيَة، وَقد ذكره قوم فِي الصَّحَابَة، وَلَا يَصح ذَلِك، وَقد كَانَ يركب الْخَيل فِي الْجَاهِلِيَّة، إِلَّا أَنه تَأَخّر إِسْلَامه، فروى عَن بعض الصَّحَابَة، وَفِي الصَّحَابَة خلق كثير يشاركونه فِي النّسَب، وَأما النضري بالضاد فقليل.
الْمقَام الثَّانِي: فِي تَصْحِيح اللَّفْظ: فالورق مَكْسُورَة الرَّاء. وهاء وهاء ممدودة، وَعَامة الْمُحدثين يقصرونها وَالصَّوَاب الْمَدّ: أخبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد السَّمرقَنْدِي قَالَ: أخبرنَا عبد الغافر بن مُحَمَّد قَالَ: حَدثنَا أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ قَالَ: قَوْله: إِلَّا هَاء وهاء ممدودان، والعامة تقصرهما. وَمعنى هَاء: خُذ، يُقَال للرجل: هَاء. وللمرأة: هائي. وللاثنين من الرِّجَال وَالنِّسَاء: هاؤما، وللرجال هاؤم، وللنساء هاؤمن. وَإِذا قلت هاك قصرت، وَإِذا حذفت الْكَاف مددت، فَكَانَت الْمدَّة بَدَلا من كَاف المخاطبة.(1/88)
الْمقَام الثَّالِث: فِي تَفْسِير اللَّفْظ: الْوَرق: الْفضة. وَالْبر: الْحِنْطَة. وهاء بِمَعْنى هاك: أَي خُذ.
الْمقَام الرَّابِع: بَيَان الحكم:
فَاعْلَم أَن الرِّبَا على ضَرْبَيْنِ: رَبًّا الْفضل، وَربا النَّسِيئَة.
فربا الْفضل يحرم بعلة كَونه مَكِيل جنس أَو مَوْزُون جنس، على مَا سَيَأْتِي فِي شَرحه فِي مُسْند عبَادَة بن الصَّامِت إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَإِن ذكره هُنَاكَ أليق.
وَأما رَبًّا النَّسِيئَة: فَاعْلَم أَن كل شَيْئَيْنِ يتحد فيهمَا عِلّة رَبًّا الْفضل لَا يجوز بيع أَحدهمَا بِالْآخرِ نَسِيئَة، وَمَتى حصل التَّفَرُّق فِي بيعهمَا قبل الْقَبْض بَطل العقد، كالذهب بِالْفِضَّةِ، وَالْحِنْطَة بِالشَّعِيرِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِنَّمَا ذَلِك فِي الصّرْف خَاصَّة.
36 - / 36 - الحَدِيث الثَّامِن عشر: قَالَ مَالك بن أَوْس: أرسل إِلَيّ عمر فَجِئْته، فَوَجَدته فِي بَيته جَالِسا على سَرِير، مفضيا إِلَى رماله ...
الْإِفْضَاء إِلَى الشَّيْء: أَلا يكون بَيْنك وَبَينه حَائِل. وَالْمعْنَى أَنه لم يكن تَحْتَهُ فرَاش. وَقد شرحنا معنى الرمال فِي الحَدِيث التَّاسِع من هَذَا الْمسند.
وَقَوله: يَا مَال: يُرِيد يَا مَالك: وَقد قَرَأَ عَليّ وَابْن مَسْعُود: (يَا مَال) ، بِغَيْر كَاف، وَالْعرب تَقول: يَا حَار: تُرِيدُ يَا حَارِث.(1/89)
وَقَوله: قد دف أهل أَبْيَات: أَي وردوا مُتَتَابعين قوما بعد قوم، وَلَهُم دفيف وَهُوَ سير لين. وَالْمرَاد أَنهم وردوا لضر أَصَابَهُم فِي بِلَادهمْ.
والرضح: عَطاء لَيْسَ بالكثير.
ويرفا: حَاجِب عمر وآذنه.
وَقَوله اتئد: أَي تثبت وَلَا تستعجل.
وَقَوله: أنْشدكُمْ الله: أَي أَسأَلكُم وَأعْلمكُمْ مَا يجب عَلَيْكُم من الصدْق لله.
وَقد كشفنا وَجه الْخُصُومَة الَّتِي كَانَت تجْرِي بَين عَليّ وَالْعَبَّاس فِي صدقَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث السَّادِس من مُسْند أبي بكر.
إِلَّا أَن فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث: فجئتما تطلب ميراثك من ابْن أَخِيك، وَيطْلب هَذَا مِيرَاث امْرَأَته من أَبِيهَا، فَقَالَ أَبُو بكر: قَالَ رَسُول الله: " لَا نورث ".
وَقد أشكل هَذَا على بعض الْمُتَأَخِّرين فَقَالَ: كَيفَ قَالَ: أنشدكما الله، هَل تعلمان أَن رَسُول الله قَالَ: " لَا نورث؟ " ثمَّ قَالَ: فجئتما تطلبان الْمِيرَاث.
وَجَوَاب هَذَا: أنكما طلبتما الْمِيرَاث فِي زمن أبي بكر، فَلَمَّا أخبركما أَن رَسُول الله قَالَ: " لَا نورث " علمتما ذَلِك. وَكَانَ عمر قد دفع صَدَقَة رَسُول الله بِالْمَدِينَةِ إِلَى عَليّ وَالْعَبَّاس، فغلبه عَلَيْهَا عَليّ، وَأما خَيْبَر وفدك فَأَمْسَكَهُمَا عمر.
والإيجاف بِالْخَيْلِ: الإيضاع، وَهُوَ الْإِسْرَاع فِي السّير. والركاب: الْإِبِل. وَكَانَ مَا لم يوجف عَلَيْهِ ملكا لرَسُول الله خَاصَّة، هَذَا اخْتِيَار(1/90)
أبي بكر من أَصْحَابنَا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَذهب بعض أَصْحَابنَا إِلَى أَن الْفَيْء لجَماعَة الْمُسلمين. وَإِنَّمَا كَانَ رَسُول الله يَأْخُذ من نصِيبه مَا يَأْخُذ وَيجْعَل الْبَاقِي فِي مصَالح الْمُسلمين.
وَقَوله: كَانَ يَأْخُذ نَفَقَة سنته. فِيهِ جَوَاز ادخار قوت سنة، وَلَا يُقَال: هَذَا من طول الأمل؛ لِأَن الإعداد للْحَاجة مستحسن شرعا وعقلا، وَقد اسْتَأْجر شُعَيْب مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام عشر سِنِين. وَفِي هَذَا رد على جهلة المتزهدين فِي إخراجهم من يفعل هَذَا عَن التَّوَكُّل. فَإِن احْتَجُّوا بِأَن رَسُول الله كَانَ لَا يدّخر شَيْئا لغد فَالْجَوَاب: انه كَانَ عِنْده خلق من الْفُقَرَاء، فَكَانَ يؤثرهم.
وَقَوله: مَا اسْتَأْثر عَلَيْكُم: أَي مَا أنفرد بذلك عَنْكُم حَتَّى يفِيء هَذَا المَال. يَعْنِي سَهْمه من أَمْوَال بني النَّضِير.
وَقَوله: ثمَّ يَجْعَل مَا بَقِي أُسْوَة المَال: أَي تَابعا لَهُ فِي حكمه.
37 - / 37 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: كتب عمر إِلَى عتبَة بن فرقد: إيَّاكُمْ والتنعم. وزي أهل الشّرك، ولبوس الْحَرِير، فَإِن رَسُول الله نهى عَن لبوس الْحَرِير، قَالَ: " إِلَّا هَكَذَا " فَرفع لنا رَسُول الله إصبعيه الْوُسْطَى والسبابة وضمهما. وَفِي لفظ: نهى نَبِي الله عَن لبس الْحَرِير إِلَّا مَوضِع إِصْبَعَيْنِ، أَو ثَلَاث، أَو أَربع.
قَوْله: إيَّاكُمْ والتنعم. اعْلَم أَن الآفة فِي التنعم من ثَلَاثَة أوجه:(1/91)
أَحدهَا: أَن الدُّنْيَا دَار تَكْلِيف لَا دَار رَاحَة، فالمشتغل بالتنعم لَا يكَاد يُوفي التَّكْلِيف حَقه. أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عَليّ التَّمِيمِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن مَالك قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا هَارُون قَالَ: أَنبأَنَا ضَمرَة عَن ابْن شَوْذَب قَالَ: سَمِعت فرقدا يَقُول: إِنَّكُم لبستم ثِيَاب الْفَرَاغ قبل الْعَمَل، ألم تروا إِلَى الْفَاعِل إِذا عمل كَيفَ يلبس أدنى ثِيَابه، فَإِذا فرغ اغْتسل وَلبس ثَوْبَيْنِ نقيين، وَأَنْتُم لبستم ثِيَاب الْفَرَاغ قبل الْعَمَل.
الآفة الثَّانِيَة: أَن التنعم من حَيْثُ الْأكل يُوجب كَثْرَة التَّنَاوُل، فَيَقَع التشبع فيورث الكسل والغفله، وَيحصل البطر والمرح. وَمن جِهَة اللبَاس يُوجب لين الْبدن فيضعف عَن الْأَعْمَال الشاقة، ويصعب عَلَيْهِ الْجِهَاد والتقلب فِي الِاكْتِسَاب، وَيضم ضمنه الْخُيَلَاء. وَمن جِهَة النِّكَاح فَإِنَّهُ يحمل على إِنْفَاق القوى فِي اللَّذَّات فيضعف عَن أَدَاء اللوازم.
والآفة الثَّالِثَة: أَن من ألف ذَلِك صَعب عَلَيْهِ مُفَارقَة مَا ألف، فيفنى زَمَانه المحسوب عَلَيْهِ فِي اكْتِسَاب ذَلِك، خُصُوصا فِي بَاب التنوق فِي النِّكَاح، فَإِن المتنعمة تحْتَاج إِلَى أَضْعَاف مَا تحْتَاج إِلَيْهَا غَيرهَا، ولهذه الْمعَانِي قَالَ عمر: " اخْشَوْشِنُوا وتحفوا ".
وَأما زِيّ أهل الشّرك وَالْإِشَارَة إِلَى مَا ينفردون بِهِ، فَنهى عَن التَّشَبُّه بهم.(1/92)
ولبوس الْحَرِير: لبسه.
وَقَوله: إِلَّا مَوضِع إِصْبَعَيْنِ أَو ثَلَاث أَو أَربع. الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى الْعلم الْحَرِير فِي الثَّوْب، وَقد أَفَادَ إِبَاحَة مَا هَذَا قدره، فَلَا يجوز أَكثر من أَربع أَصَابِع. وَقَالَ أَبُو بكر بن عبد الْعَزِيز من أَصْحَابنَا: يُبَاح ذَلِك، وَإِن كَانَ مذهبا، وَكَذَلِكَ يُبَاح الرقعة فِي الثَّوْب، ولبنة الجيب.
38 - / 38 - الحَدِيث الْعشْرُونَ: قَالَ عمر: حملت على فرس فِي سَبِيل الله، فأضاعه الَّذِي كَانَ عِنْده، فَأَرَدْت أَن أشتريه، وظننت أَنه يَبِيعهُ برخص، فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " لَا تشتره، وَلَا تعد فِي صدقتك، وَإِن أعطاكه بدرهم؛ فَإِن الْعَائِد فِي صدقته كالعائد فِي قيئه " وَفِي لفظ: " كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه ".
قَوْله: حملت على فرس: أَي وهبته لمن يركبه فِي سَبِيل الله، وَهَذَا مُبين فِي أَلْفَاظ كَثِيرَة جَاءَت لهَذَا الحَدِيث، مِنْهَا: أَن عمر تصدق بفرس لَهُ، فَوَجَدَهَا تبَاع. فَيكون النَّهْي عَن شِرَائِهِ تَنْزِيها، لِأَنَّهُ قد أخرج محبوبا لَهُ عَن قلبه، فَلَا يَنْبَغِي أَن يستعيده. وَمثل هَذَا حَدِيث ابْن عمر أَنه أعتق جَارِيَته رميثة، ثمَّ قَالَ: لَوْلَا أَن أَعُود فِي شَيْء جعلته لله لنكحتها، فَأَنْكحهَا نَافِعًا.
والقيء مَهْمُوز، والعامة تثقله وَلَا تهمزه. وَالْمعْنَى أَن الْعود فِي الْهِبَة حرَام، كتناول الْقَيْء، وَإِنَّمَا ضرب الْمثل بالكلب لِأَنَّهُ أخس مَا يضْرب بِهِ الْمثل.(1/93)
39 - / 39 - الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: قدم على رَسُول الله سبي، فَإِذا امْرَأَة من السَّبي تسْعَى إِذا وجدت صَبيا فِي السَّبي أَخَذته فَأَلْصَقته بِبَطْنِهَا فأرضعته، فَقَالَ رَسُول الله: " أَتَرَوْنَ هَذِه الْمَرْأَة طارحة وَلَدهَا فِي النَّار؟ " قُلْنَا لَا، وَالله. قَالَ: " لله أرْحم بعباده من هَذِه بِوَلَدِهَا ".
اعْلَم أَن هَذِه الْمَرْأَة سبيت دون وَلَدهَا، وَكَانَت تفعل هَذَا بالصبيان شوقا إِلَيْهِ، وَاعْلَم أَن رَحْمَة الله عز وَجل لَيست رقة، وَإِنَّمَا حَدثهمْ بِمَا يفهمون. فَمن عُمُوم رَحمته إرْسَال الرُّسُل، وإمهال المذنبين. فَإِذا جَحده الْكَافِر خرج إِلَى مقَام العناد فَلم يكن أَهلا للرحمة. وَأما خُصُوص رَحمته فلعباده الْمُؤمنِينَ، فَهُوَ يلطف بهم فِي الشدَّة والرخاء، يزِيد على لطف الوالدة بِوَلَدِهَا.
40 - / 41 - الحَدِيث الثَّالِث وَالْعشْرُونَ: من رِوَايَة سعد بن عبيد الله: أَنه شهد الْعِيد مَعَ عمر، فصلى ثمَّ خطب فَقَالَ: إِن رَسُول الله نهاكم عَن صَوْم هذَيْن الْيَوْمَيْنِ: أما أَحدهمَا فصوم فطركم من صومكم، وَأما الآخر فَيوم تَأْكُلُونَ فِيهِ من نسككم.
ثمَّ شهدته مَعَ عُثْمَان وَكَانَ يَوْم جُمُعَة، فَقَالَ لأهل العوالي: من أحب مِنْكُم أَن ينْتَظر الْجُمُعَة فَلْيفْعَل، وَمن أحب أَن يرجع إِلَى أَهله فقد أذنا لَهُ.
ثمَّ شهدته مَعَ عَليّ، فَخَطب وَقَالَ: إِن رَسُول الله قد نهاكم أَن(1/94)
تَأْكُلُوا من لُحُوم نسككم فَوق ثَلَاث.
أما النَّهْي عَن صَوْم عيد الْفطر، فَإِنَّهُ إِذا تطوع فِيهِ بِالصَّوْمِ لم يبن الْمَفْرُوض من غَيره، وَلِهَذَا يسْتَحبّ أَن يَأْكُل قبل أَن يخرج إِلَى الصَّلَاة. وَأما عيد الْأَضْحَى فَأمر فِيهِ بالإفطار ليَأْكُل المضحي من أضحيته، ثمَّ النَّاس فِيهِ تبع لوفد الله عز وَجل عِنْد بَيته، وهم كالضيف وَلَا يحسن صَوْمه عِنْد مضيفه.
فَإِن نذر إِنْسَان صَوْم يَوْم الْعِيد، فعندنا أَنه ينْعَقد نَذره، وَلَكِن لَا يَصُوم، بل يقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ وَيكفر كَفَّارَة يَمِين. وَعَن أَحْمد: يكفر من غير قَضَاء. وَنقل عَنهُ مهنا. مَا يدل على أَنه إِذا صَامَهُ صَحَّ صَوْمه. وَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: قِيَاس الْمَذْهَب أَنه لَا يَصح صَوْمه لأجل النَّهْي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَصح نَذره وَيلْزمهُ الْقَضَاء بِلَا كَفَّارَة، فَإِن صَامَهُ أَجزَأَهُ. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا ينْعَقد نَذره وَلَا يلْزمه قَضَاء وَلَا كَفَّارَة.
فَأَما النّسك فَهُوَ الذّبْح.
وَأما إِذا اتّفق الْعِيد يَوْم الْجُمُعَة فعندنا أَنه يَجْزِي حُضُوره عَن حُضُور الْجُمُعَة، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ خلافًا لأكثرهم. وَيدل على(1/95)
مَذْهَبنَا مَا روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث زيد بن أَرقم: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْعِيد ثمَّ رخص فِي الْجُمُعَة. وَإِنَّمَا خص عُثْمَان أهل العوالي بِالْإِذْنِ لبعد مَنَازِلهمْ، وَعلم أَن من قرب منزله لم يُؤثر ترك الْفَضِيلَة فِي حُضُور الْجُمُعَة.
وَأما النَّهْي عَن لُحُوم النّسك فَوق ثَلَاث فقد حمله عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام على ظَاهر لَفظه. وَكَأَنَّهُ لم يبلغهُ سَبَب النَّهْي، وَلِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي ذَلِك بعد الْمَنْع. وَإِنَّمَا كَانَ سَبَب نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن قوما من الْعَرَب أَصَابَتْهُم فاقة، فَدَخَلُوا الْمَدِينَة من الْجُوع، وَأحب أَن يواسوا، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مُسْند عَائِشَة مشروحا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
41 - / 42 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: أَن عمر قبل الْحجر وَقَالَ: إِنِّي لأعْلم أَنَّك حجر مَا تَنْفَع وَلَا تضر، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول الله يقبلك مَا قبلتك وَفِي لفظ آخر: وَلَكِن رَأَيْت رَسُول الله بك حفيا.
فِي هَذَا الحَدِيث فنان من الْعلم:
أَحدهمَا: أَن عمر لما علم إلْف الْجَاهِلِيَّة للحجارة تكلم بِهَذَا كالمعتذر من مس الْحجر، وَبَين أَنه لَوْلَا الشَّرْع لم أفعل شَيْئا من جنس مَا كُنَّا فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَن السّنَن تتبع وَإِن لم يطلع على مَعَانِيهَا، على أَنه قد علم سَبَب تَعْظِيم الْحجر، وَذَلِكَ من وَجْهَيْن منقولين فِي الحَدِيث: أَحدهمَا: أَن الله عز وَجل لما أَخذ الْمِيثَاق من ذُرِّيَّة بني آدم أودعهُ(1/96)
الْحجر. وَالثَّانِي: أَن الْحجر يَمِين الله فِي الأَرْض، وَقد جرت عَادَة من يُبَايع الْملك بتقبيل يَده، فَجعل الْحجر مَكَان الْيَد على جِهَة التَّمْثِيل، وَإِن كَانَ لَا مثل.
وَأما الحفي فَهُوَ المواظب على الشَّيْء المعني بِهِ. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الحفي فِي كَلَام الْعَرَب: المعني بالشَّيْء.
42 - / 43 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: قَالَ عدي بن حَاتِم: ثمَّ أتيت عمر من حِيَال وَجهه: أَي من قبل وَجهه.
وَقَوله: أول صَدَقَة بيضت وَجه رَسُول الله: أَي سر بهَا، فكنى بالتبيض عَن السرُور؛ لِأَن المسرور يشرق وَجهه، بِخِلَاف المغموم.
وأجحفت بهم الْفَاقَة: بِمَعْنى ذهبت بِأَمْوَالِهِمْ فافتقروا.
43 - / 44 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: قَالَ عمر: إِن عجل بِي أَمر فالخلافة شُورَى بَين هَؤُلَاءِ السِّتَّة.
أَي لَا ينْفَرد أحد مِنْهُم بالخلافة إِلَّا بعد تشَاور النَّاس واجتماعهم. والستة: عَليّ، وَعُثْمَان، وَطَلْحَة، وَالزُّبَيْر، وَعبد الرَّحْمَن، وَسعد.
وَقَوله: قد علمت أَن أَقْوَامًا يطعنون فِي هَذَا الْأَمر: أَي لَا يرضون بالذين اخترتهم، وَلَا بالذين يرضى بهم الْمُسلمُونَ، إيثارا لأهوائهم فِيمَن يريدونه.(1/97)
وَقَوله: أُولَئِكَ الْكَفَرَة. إِن قيل: وَكَيف سماهم بالكفرة؟
فَالْجَوَاب: أَنه إِن عَنى الْمُنَافِقين فهم كفار، ومرادهم الْهوى والعنت. وَإِن عَنى الْمُسلمين فَقَوله يحْتَمل وَجْهَيْن: الأول: أَن أفعالهم فِي ذَلِك أَفعَال الْكَفَرَة من الْخلاف ووفاق الْهوى. وَالثَّانِي: أَنهم قد كفرُوا نعْمَة الله بمخالفتهم الْمُسلمين.
وَقَوله: لَا أدع شَيْئا أهم من الْكَلَالَة. وَقد تكلمنا فِي الْكَلَالَة فِي الحَدِيث السَّابِع من هَذَا الْمسند.
وَقَوله: " يَكْفِيك آيَة الصَّيف " وَهِي آخر سُورَة النِّسَاء، وَإِنَّمَا نَسَبهَا إِلَى الصَّيف لِأَنَّهَا نزلت فِي الصَّيف. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون لم يفته، ووكل الْأَمر إِلَى بَيَان الْآيَة اعْتِمَادًا على علمه وفقهه ليتوصل إِلَى مَعْرفَتهَا بِالِاجْتِهَادِ، وَلَو كَانَ السَّائِل مِمَّن لَا فهم لَهُ لبين لَهُ الْبَيَان الشافي. فَإِن الله عز وَجل أنزل فِي الْكَلَالَة آيَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا فِي الشتَاء، وَهِي الَّتِي فِي أول سُورَة النِّسَاء، وفيهَا إِجْمَال وإبهام لَا يكَاد يبين الْمَعْنى من ظَاهرهَا، ثمَّ أنزل الْآيَة الَّتِي فِي آخر النِّسَاء فِي الصَّيف، وفيهَا زِيَادَة بَيَان.
وَقَوله: إِن أعش أقض فِيهَا. رُبمَا قَالَ قَائِل: فَهَلا قضى قبل مَوته؟
فَالْجَوَاب: أَن قَضَاءَهُ فِيهَا لَا يكون عَن بصر، وَإِنَّمَا يكون عَن اجْتِهَاد، وَالِاجْتِهَاد يحْتَاج إِلَى ترو لَا يحْتَملهُ مَرضه.(1/98)
وَقَوله: أوصيكم بالأنصار. وَهَذَا اسْم لأهل الْمَدِينَة الَّذين نصروا رَسُول الله وآووه حِين هَاجر إِلَيْهِم.
وَقَوله: إِنَّهُم شعب الْإِسْلَام: الشّعب: طَرِيق بَين جبلين، فشبههم بِالطَّرِيقِ الَّذِي يكتنفه الجبلان.
وَقَوله: إِنَّه مادتكم. الْمَادَّة: أصل الشَّيْء الَّذِي يستمد مِنْهُ، ويستعين بِهِ. وعنى أَنكُمْ تستمدون مِنْهُم الْمَنَافِع، كَمَا يستمد أهل الْبَلَد من أهل الْقرى.
وَقَوله: ورزق عيالكم: يَعْنِي مَا يُؤْخَذ مِنْهُم من الْجِزْيَة.
44 - / 45 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
قَالَ ابْن عمر: مَا سَمِعت عمر يَقُول لشَيْء قطّ: إِنِّي لأظنه كَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا يظنّ: بَينا عمر جَالس مر بِهِ رجل جميل، فَقَالَ: لقد أَخطَأ ظَنِّي أَو إِن هَذَا على دينه فِي الْجَاهِلِيَّة، أَو لقد كَانَ كاهنهم، عَليّ الرجل: فدعي لَهُ، فَقَالَ لَهُ ذَلِك، فَقَالَ: كنت كاهنهم.
أما صِحَة الظَّن فَهُوَ من قُوَّة الذكاء والفطنة، فَإِن الفطن يرى من السمات والأمارات مَا يسْتَدلّ بِهِ على الْخَفي، ثمَّ لَا يستبعد هَذَا من مثل عمر الْمُحدث الملهم. وَقد قَالَ بعض الْحُكَمَاء: ظن الْعَاقِل كهَانَة. وَقَالَ آخر: إِذا رَأَيْت الرجل موليا علمت حَاله. قيل: فَإِن رَأَيْت وَجهه؟ قَالَ: ذَاك حِين أَقرَأ مَا فِي قلبه كالخط.
وَقد كَانُوا يعتبرون أَحْوَال الرجل بخلقه، قَالَ الشَّافِعِي: احذر(1/99)
الْأَعْوَر، والأحول، والأعرج، والأحدب، والكوسج، وكل من بِهِ عاهة فِي بدنه، وكل نَاقص الْخلق، فَإِنَّهُم أَصْحَاب خب، وَقَالَ: مَرَرْت فِي طريقي بِفنَاء دَار رجل أَزْرَق الْعين، ناتئ الْجَبْهَة، سناط، فَقلت: هَل من منزل؟ قَالَ: نعم. قَالَ الشَّافِعِي: وَهَذَا النَّعْت أَخبث مَا يكون فِي الفراسة، فأنزلني وأكرمني، فَقلت: أغسل كتب الفراسة إِذْ رَأَيْت هَذَا، فَلَمَّا أَصبَحت قلت لَهُ: إِذا قدمت مَكَّة فسل عَن الشَّافِعِي. فَقَالَ: أمولى لأَبِيك كنت؟ فَقلت: لَا. قَالَ: أَيْن مَا تكلفت لَهُ البارحة؟ فوزنت مَا تكلّف، وَقلت: بَقِي شَيْء آخر؟ قَالَ: كِرَاء الدَّار، ضيقت عَليّ نَفسِي. فوزنت لَهُ، فَقَالَ: امْضِ، أخزاك الله، فَمَا رَأَيْت أشر مِنْك.
قَوْله: ألم تَرَ الْجِنّ وإبلاسها. قَالَ الْفراء: المبلس: الآيس الْمُنْقَطع رجاؤه، وَلذَلِك قيل للَّذي يسكت عِنْد انْقِطَاع حجَّته: قد أبلس. قَالَ العجاج:
(يَا صَاح هَل تعرف رسما مكرسا ... )
(قَالَ: نعم، أعرفهُ وأبلسا ... )
أَي: لم يحر جَوَابا. والمكرس: الَّذِي بعرت فِيهِ الْإِبِل وبولت،(1/100)
فَركب بعضه بَعْضًا.
وَقَوله: ويأسها من بعد إيناسها. أنست الشَّيْء: أبصرته وأدركته. فَكَأَن الْجِنّ يئست مِمَّا كَانَت تُدْرِكهُ ببعثة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
والقلاص جمع قلُوص: وَهِي النَّاقة الصابرة على السّير. وَقيل: هِيَ الطَّوِيلَة القوائم، والأحلاس جمع حلْس: وَهُوَ مَا يَجْعَل على ظهر الْبَعِير للتوطئة كالبرذعة. وَالْمرَاد بِهَذَا أَن الْجِنّ لما علمت بِظُهُور رَسُول الله تحيرت ويئست من نيل مرادها، فبعدت وَاسْتَوْحَشْت بعد انبساطها وأنسها.
وَقَوله: يَا جليح: اسْم شخص. أَمر نجيح: أَي سريع، من النجاح: وَهُوَ الظفر بالمراد. وَهَذَا من الهواتف المنذرة ببعثة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أخبرنَا هبة الله بن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عَليّ قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بكر قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن أبي زِيَاد قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن كثير عَن مُجَاهِد قَالَ: حَدثنَا شيخ أدْرك الْجَاهِلِيَّة يُقَال لَهُ ابْن عبس قَالَ: كنت أسوق بقرة لآل لنا، فَسمِعت من جوفها: يال ذريح، قَول فصيح، رجل يَصِيح: أَن لَا إِلَه إِلَّا الله. قَالَ: فقدمنا مَكَّة، فَوَجَدنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد خرج بِمَكَّة.
وَقَوله: فَمَا نشبنا أَن قيل: هَذَا نَبِي. أَي: مَا تَأَخّر ذَلِك. وَالْمعْنَى: مَا نشبنا فِي أَمر سوى هَذَا الْأَمر، أَي إِنَّه كَانَ عَاجلا.(1/101)
45 - / 46 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لما فدع أهل خَيْبَر عبد الله بن عمر.
الفدع: إِزَالَة المفاصل عَن أماكنها، وَذَلِكَ بِأَن تزِيغ الْيَد عَن عظم الزند، وَالرجل عَن عظم السَّاق.
وَقَوله: عَامل رَسُول الله يهود خَيْبَر على أَمْوَالهم: أَي أَعْطَاهُم الشّجر وَالنَّخْل يعْملُونَ فِيهَا.
وَقَوله: نقركم مَا أقركم الله: يُرِيد: إِن أمرنَا بحقكم بِغَيْر ذَلِك فعلنَا.
وَقَوله: هم تهمتنا: أَي الَّذين نتهمهم بذلك.
والإجلاء: الْإِخْرَاج عَن المَال والوطن على وَجه الإزعاج وَالْكَرَاهَة.
والقلوص: قد ذَكرنَاهَا فِي الحَدِيث الَّذِي قبله.
وَفِي لفظ: كَيفَ بك إِذا رقصت بك راحلتك: أَي خبت بك: وَهُوَ ضرب من الْعَدو. وأرقصها راكبها: إِذا حملهَا على ذَلِك.
والهزيلة: تَصْغِير الْهزْل، وَهُوَ ضد الْجد.
والصفراء: الذَّهَب. والبيضاء: الْفضة. وَالْحَلقَة: السِّلَاح. والمسك بِفَتْح الْمِيم وتسكين السِّين: الإهاب.
والنكث: نقض الْعَهْد.
والشطر: النّصْف.
والرشوة: إِعْطَاء شَيْء لفعل شَيْء.
والسحت: الْحَرَام، وَفِيه لُغَتَانِ سحت وسحت، كشغل وشغل،(1/102)
وَعمر وَعمر. قَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: هما جَمِيعًا اسْم للشَّيْء المسحوت وليسا بِالْمَصْدَرِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على جَوَاز الْمُسَاقَاة فِي النّخل وَالْكَرم وَالشَّجر وكل أصل لَهُ ثَمَر، وَهُوَ أَن يدْفع الرجل نخله وَكَرمه إِلَى رجل يعْمل فِيهَا بِمَا يصلحها، وَيكون لَهُ الشّطْر من ثَمَرهَا. فَهَذَا جَائِز عِنْد أَحْمد. وَقَالَ الشَّافِعِي: يجوز الْمُسَاقَاة فِي النّخل وَالْكَرم، وَله فِي بَقِيَّة الشّجر قَولَانِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز بِحَال.
وَقَالَ دَاوُد: لَا يجوز إِلَّا فِي النّخل. وَقَوله: وَكَانَ ابْن رَوَاحَة يخرصها عَلَيْهِم: أَي يحزر ثَمَرهَا.
والوسق: سِتُّونَ صَاعا، والصاع: خَمْسَة أَرْطَال وَثلث.
وَقَوله: فَقَسمهَا عمر بَين من كَانَ شهد خَيْبَر من أهل الْحُدَيْبِيَة: وَذَلِكَ لِأَن أهل الْحُدَيْبِيَة لما انصرفوا عَن الْحُدَيْبِيَة بِالصُّلْحِ وعدهم الله تَعَالَى فتح خَيْبَر. وَخص بهَا من شهد الْحُدَيْبِيَة، فَقَالَ من تخلف عَن الْحُدَيْبِيَة {ذرونا نتبعكم} إِلَى خَيْبَر، فَقَالَ الله عز وَجل: {سَيَقُولُ الْمُخَلفُونَ} الَّذين تخلفوا عَن الْحُدَيْبِيَة {إِذا انطلقتم إِلَى مَغَانِم} وَهِي خَيْبَر {ذرونا نتبعكم يُرِيدُونَ أَن يبدلوا كَلَام الله} أَي مواعيده بغنيمة خَيْبَر لأهل الْحُدَيْبِيَة خَاصَّة {كذلكم قَالَ الله من قبل} إِن غَنَائِم خَيْبَر لمن شهد الْحُدَيْبِيَة.(1/103)
46 - / 47 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن غُلَاما قتل غيلَة، فَقَالَ عمر: لَو اشْترك فِيهَا أهل صنعاء لقتلتهم.
قَالَ أَبُو عبيد: الغيلة: أَن يخدع الْإِنْسَان بالشَّيْء حَتَّى يصير إِلَى مَوضِع يخفى، فَإِذا صَار إِلَيْهِ قتل.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْجَمَاعَة يقتلُون بِالْوَاحِدِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل. وَعَن أَحْمد رِوَايَة: لَا يقتلُون، بل يجب عَلَيْهِم الدِّيَة، وَهُوَ قَول دَاوُد.
47 - / 48 - الحَدِيث الرَّابِع: قَالَ ابْن عمر: لما فتح هَذَانِ المصران أَتَوا عمر فَقَالُوا: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن رَسُول الله حد لأهل نجد قرنا، وَإنَّهُ جور عَن طريقنا، وَإِنَّا إِن أردنَا أَن نأتي قرنا شقّ علينا. قَالَ: فانظروا حذوها من طريقكم. قَالَ: فحد لَهُم ذَات عرق.
الْمصر: الْبَلَد. قَالَ ابْن فَارس: إِن الْمصر الْحَد. وَأهل هجر يَكْتُبُونَ فِي شروطهم: اشْترى فلَان الدَّار بمصورها: أَي بحدودها. قَالَ عدي:
(وجاعل الشَّمْس مصرا لاخفاء بِهِ ... بَين النَّهَار وَبَين اللَّيْل قد فصلا)
قَالَ الْمفضل الضَّبِّيّ: وَسميت مصر الْمَعْرُوفَة مصر؛ لِأَنَّهَا آخر(1/104)
حُدُود الْمشرق وَأول حُدُود الْمغرب، فَهِيَ حد بَينهمَا.
وَالْمرَاد بالمصرين: الْكُوفَة وَالْبَصْرَة. وَلما افْتتح سعد بن أبي وَقاص الْقَادِسِيَّة نزل الْكُوفَة، وخطها لقبائل الْعَرَب، وابتنى بهَا دَارا، ووليها لعمر وَعُثْمَان. وَكَانَ سلمَان الْفَارِسِي يَقُول: الْكُوفَة قبَّة الْإِسْلَام.
وَفِي تَسْمِيَتهَا بِالْكُوفَةِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا من قَوْلهم: تكوف الرمل: إِذا ركب بعضه بَعْضًا. وَالثَّانِي: استدارة النّخل بهَا. وَالثَّالِث: انها من الكوفان، يُقَال: للشر كوفان، وكوفان، ذكرهن ابْن فَارس.
فَأَما الْبَصْرَة فَقَالَ مُصعب بن مُحَمَّد: إِنَّمَا سميت بصرة لِأَنَّهَا كَانَت فِيهَا حِجَارَة سود. وَالَّذِي فتحهَا عتبَة بن غَزوَان، وَهُوَ الَّذِي اختطها.
فَلَمَّا شكا أهل هَاتين البلدتين إِلَى عمر مَا يصعب عَلَيْهِم من قصد قرن حد لَهُم ذَات عرق، وَإِنَّمَا حَدهَا لَهُم لِأَنَّهَا حَذْو قرن: أَي محاذيتها، تَقول: هَذَا حَذْو هَذَا، ووازن هَذَا.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه حد ذَات عرق، وَلَكِن الصَّحِيح مَا ذَكرْنَاهُ، وَقد تبع النَّاس رَأْي عمر فِي ذَلِك إِلَى زَمَاننَا هَذَا، وَسَيَأْتِي ذكر الْمَوَاقِيت فِي مُسْند ابْن عَبَّاس إِن شَاءَ الله تَعَالَى.(1/105)
وَأما نجد فَالْأَصْل فِيهَا الِارْتفَاع، يُقَال للْأَرْض المرتفعة نجد، وخلافها الْغَوْر، لِأَنَّهُ من الهبوط.
والجور. الْميل عَن الْقَصْد.
48 - / 49 - الحَدِيث الْخَامِس: أَن عمر قَرَأَ السَّجْدَة فَلم يسْجد، وَقَالَ: لم يفْرض علينا السُّجُود.
وَهَذَا دَلِيل على أَن سُجُود التِّلَاوَة لَا يجب، وَإِنَّمَا هُوَ سنة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ وَاجِب. فَأَما إِذا ركع بَدَلا من السُّجُود فَإِنَّهُ لَا يَجْزِي، وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ركع وَإِن شَاءَ سجد. وَأما إِذا قَرَأَ الْإِنْسَان سَجْدَة فَسجدَ ثمَّ أعَاد، فعندنا أَنه يسن أَن يُعِيد السُّجُود. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُعِيد.
وَعِنْدنَا أَنه لَا يَصح سُجُود التِّلَاوَة إِلَّا بتكبيرة الْإِحْرَام وَالسَّلَام، خلافًا لأَصْحَاب أبي حنيفَة وَبَعض الشَّافِعِيَّة.
49 - / 50 - الحَدِيث السَّادِس: قَالَ ابْن عمر: بَينا عمر فِي الدَّار خَائفًا، إِذْ جَاءَهُ الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي وَعَلِيهِ حلَّة حبر وقميص مكفوف بحرير، وَهُوَ من بني سهم، وهم حلفاؤنا فِي الْجَاهِلِيَّة،(1/106)
فَقَالَ لَهُ: مَا مَالك؟ قَالَ: زعم قَوْمك أَنهم سيقتلونني أَن أسلمت. قَالَ: لَا سَبِيل إِلَيْك، أمنت، فَخرج الْعَاصِ، فلقي النَّاس قد سَالَ بهم الْوَادي، فَقَالَ: أَيْن تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيد ابْن الْخطاب الَّذِي صَبأ قَالَ: لَا سَبِيل إِلَيْهِ. فكر النَّاس.
أما خوف عمر؛ فَلِأَنَّهُ أسلم، وَفعل يَوْم إِسْلَامه مَا كَاد بِهِ الْمُشْركين وغاظهم، فَلذَلِك تواعدوه بِالْقَتْلِ. أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن أَحْمد قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحسن قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي شيبَة قَالَ: حَدثنَا عبد الحميد بن صَالح قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبان عَن إِسْحَق بن عبد الله عَن أبان بن صَالح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: سَأَلت عمر: لأي شَيْء سميت الْفَارُوق؟ قَالَ: أسلم حَمْزَة قبلي بِثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ شرح الله صَدْرِي لِلْإِسْلَامِ، فَقلت: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحسنى} فَمَا فِي الأَرْض نسمَة أحب إِلَيّ من نسمَة رَسُول الله. فَقلت أَيْن رَسُول الله؟ قَالَت أُخْتِي: هُوَ فِي دَار الأرقم بن الأرقم عِنْد الصَّفَا، فَأتيت الدَّار وَحَمْزَة فِي أَصْحَابه جُلُوس فِي الدَّار، وَرَسُول الله فِي الْبَيْت، فَضربت الْبَاب، فَاسْتَجْمَعَ الْقَوْم، فَقَالَ لَهُم حَمْزَة: مالكم؟ قَالُوا: عمر بن الْخطاب. قَالَ فَخرج رَسُول الله، فَأخذ بِمَجَامِع ثِيَابه ثمَّ نثره نثرة، فَمَا تمالك أَن وَقع على رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: " مَا أَنْت بمنته يَا عمر " قَالَ: قلت: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله. قَالَ: فَكبر أهل الدَّار تَكْبِيرَة سَمعهَا أهل الْمَسْجِد. قَالَ: فَقلت: يَا رَسُول الله، أَلسنا على الْحق إِن متْنا وَإِن(1/107)
حيينا؟ قَالَ: " بلَى، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّكُم على الْحق إِن متم وَإِن حييتُمْ " قَالَ: فَقلت: فَفِيمَ الاختفاء وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ؟ فأخرجناه فِي صفّين، حَمْزَة فِي أَحدهمَا وَأَنا فِي الآخر، لَهُ كديد ككديد الطحين حَتَّى دَخَلنَا الْمَسْجِد، فَنَظَرت إِلَيّ قُرَيْش وَإِلَى حَمْزَة، فَأَصَابَتْهُمْ كآبة لم يصبهم مثلهَا، فسماني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ الْفَارُوق، وَفرق الله بِي بَين الْحق وَالْبَاطِل.
أما الْعَاصِ بن وَائِل فَهُوَ أَبُو عَمْرو.
والحلة: لَا تكون إِلَّا ثَوْبَيْنِ، قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الْحلَّة ثَوْبَان: إِزَار ورداء، وَلَا تسمى حلَّة حَتَّى تكون جَدِيدَة تحل عَن طيها.
فَأَما الحبر فَهُوَ نوع من البرود مخطط.
والحلفاء جَمِيع حَلِيف، وَكَانُوا يتحالفون فِي الْجَاهِلِيَّة على الْمُوَالَاة والنصرة، ويتوارثون بذلك.
وسال بهم الْوَادي: سالوا فِيهِ، وَهَذَا تجوز، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لكثرتهم وإسراعهم، فشبههم بالسيل.
وصبأ بِمَعْنى خرج من دين إِلَى دين، يُقَال: صَبأ نَاب الْبَعِير: أَي طلع، وَهُوَ مَهْمُوز.
وَقَوله: فكر النَّاس: أَي رجعُوا.
50 - / 51 - الحَدِيث السَّابِع: أَن عمر قَالَ لأبي مُوسَى: هَل يَسُرك أَن إسْلَامنَا مَعَ رَسُول الله، وهجرتنا مَعَه، وجهادنا مَعَه، وعملنا كُله(1/108)
مَعَه برد لنا، وَإِن كل عمل عَمِلْنَاهُ بعده نجونا مِنْهُ كفافا، رَأْسا بِرَأْس؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَا وَالله، قد جاهدنا بعد رَسُول الله، وصلينا وصمنا، وعملنا خيرا كثيرا، وَأسلم على أَيْدِينَا بشر كثير، وَإِنَّا لنَرْجُو ذَلِك. قَالَ عمر: لكني أَنا وددت ذَلِك.
برد: بِمَعْنى ثَبت لنا ثَوَابه وخلص.
وَقَوله: كفافا: كِنَايَة عَن الْمُسَاوَاة. يُقَال خرجت من فعلي كفافا: أَي لَا لي شَيْء وَلَا عَليّ شَيْء.
وَالَّذِي تلمحه عمر أَن جد الطَّالِب فِي بداية أمره صَاف عَن الشوائب، وَلِهَذَا أوجب فِرَاقه الْأَهْل وَالْمَال، وَالصَّبْر الشَّديد على الشدائد. وَيحْتَمل أَن يكون عمر إِنَّمَا خَافَ مَا دخل فِيهِ من الْولَايَة.
51 - / 52 - الحَدِيث الثَّامِن: قَالَ عمر: لما مَاتَ عبد الله بن أبي بن سلول دعِي لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُول الله وَثَبت إِلَيْهِ فَقلت: أَتُصَلِّي على ابْن أبي وَقد قَالَ يَوْم كَذَا: كَذَا وَكَذَا.
كَانَ عبد الله بن أبي سيد الْخَزْرَج فِي آخر جاهليتهم، فَلَمَّا ظهر النَّبِي حسده، ونافق، وَهُوَ ابْن خَالَة أبي عَامر الراهب الَّذِي ترهب فِي الْجَاهِلِيَّة، فَلَمَّا بعث رَسُول الله حسده أَبُو عَامر أَيْضا. وَكَانَ المُنَافِقُونَ خلقا كثيرا، حَتَّى إِنَّه قد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: كَانُوا ثَلَاثمِائَة رجل، وَمِائَة وَسبعين امْرَأَة. وَقد أحصينا من عرفنَا مِنْهُم فِي(1/109)
كتَابنَا الْمُسَمّى ب " التلقيح "، إِلَّا أَن ابْن أبي كَانَ رَأس الْقَوْم، وَأبي: أَبوهُ، وسلول: اسْم أم أَبِيه، فَهُوَ عبد الله بن أبي بن مَالك. وَيُقَال: ابْن سلول، فسلول أم أبي لَا أم عبد الله، فَتَارَة ينْسب أبي إِلَيْهَا، وَتارَة إِلَى أَبِيه مَالك. هَكَذَا ذكره ابْن سعد.
وَقَوله: " إِنِّي خيرت فاخترت " يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى: {اسْتغْفر لَهُم أَو لَا تستغفر لَهُم إِن تستغفر لَهُم سبعين مرّة فَلَنْ يغْفر الله لَهُم} [التَّوْبَة: 80] وَإِنَّمَا فعل هَذَا رَسُول الله لثَلَاثَة معَان: أَحدهَا: لسعة حلمه عَمَّن يُؤْذِيه. وَالثَّانِي: لرحمة الْخلق عِنْد تلمح جَرَيَان الأقدار عَلَيْهِم. وَالثَّالِث: لإكرام وَلَده، وَكَانَ وَلَده اسْمه عبد الله أَيْضا، وَقد شهد بَدْرًا.
52 - / 53 - الحَدِيث التَّاسِع: لما قدم عُيَيْنَة بن حصن نزل على ابْن أَخِيه الْحر بن قيس بن حصن، وَكَانَ من النَّفر الَّذين يدنيهم عمر، وَكَانَ الْقُرَّاء أَصْحَاب عمر ومشاورته، كهولا كَانُوا أَو شبانا.
أما عُيَيْنَة فَكَانَ اسْمه حُذَيْفَة، فأصابته لقُوَّة فجحظت عينه، فَسُمي عُيَيْنَة، وَهُوَ مَعْدُود فِي الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم.
والقراء: يُرَاد بهم قراء الْقُرْآن. وَيُرَاد بهم أهل التَّعَبُّد والزهد.(1/110)
وَقَوله: مَا تُعْطِينَا الجزل. الجزل: مَا كثر من الْعَطاء. وَأَصله مَا عظم من الْحَطب، فاستعير للكثير.
وَقَوله: خُذ الْعَفو. الْعَفو: الميسور. يُقَال: خُذ منا مَا عَفا لَك: أَي مَا أَتَاك سهلا بِلَا إِكْرَاه وَلَا مشقة.
وللمفسرين فِي المُرَاد بِهَذَا الْعَفو ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنه التجاوز عَن أَخْلَاق النَّاس. قَالَه ابْن الزبير، وَالْحسن، وَمُجاهد. فَيكون الْمَعْنى: لَا تستقص عَلَيْهِم وسامح فِي المخالطة.
الثَّانِي: أَنه المَال، ثمَّ فِي المُرَاد بِهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الزَّكَاة، قَالَه مُجَاهِد. وَالثَّانِي: صَدَقَة كَانَت تُؤْخَذ قبل فرض الزَّكَاة ثمَّ نسخت بِالزَّكَاةِ، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّالِث: أَن المُرَاد بهَا مساهلة الْمُشْركين وَالْعَفو عَنْهُم، ثمَّ نسخ بِآيَة السَّيْف قَالَه ابْن زيد.
قَوْله: {وَأمر بِالْعرْفِ} [الْأَعْرَاف: 199] الْعرف وَالْمَعْرُوف: مَا عرف من طَاعَة الله عز وَجل.
قَوْله: مَا جاوزها عمر: الْمَعْنى أَنه وقف عِنْد سماعهَا عَن إِمْضَاء مَا هم بِهِ من الْعقُوبَة.
53 - / 54 - الحَدِيث الْعَاشِر: عمل بِالْمَعَاصِي حَتَّى أغرق أَعماله.(1/111)
أَي أبطلها وأفسدها فَذهب نَفعهَا كَمَا تذْهب نفس الغريق بِالْغَرَقِ.
54 - / 55 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: سَمِعت رَسُول الله وَهُوَ بوادي العقيق بقوله: " أَتَانِي اللَّيْلَة آتٍ من رَبِّي فَقَالَ: صل فِي هَذَا الْوَادي الْمُبَارك، وَقل: عمْرَة فِي حجَّة ".
أما وَادي العقيق، فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: هُوَ مِيقَات لأهل الْعرَاق، وَكَانَ الشَّافِعِي يسْتَحبّ أَن يحرم أهل الْعرَاق من العقيق، وَإِن أَحْرمُوا من ذَات عرق أجزأهم.
وَأما الْعمرَة، فَقَالَ الزّجاج: هِيَ الْقَصْد، وكل قَاصد شَيْئا فقد اعتمره، وَكَذَلِكَ الْحَج. وَذكر ابْن الْأَنْبَارِي فِي الْعمرَة قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا أَنَّهَا الزِّيَارَة. وَالثَّانِي: الْقَصْد.
وَفِي الْحَج لُغَتَانِ: فتح الْحَاء، وَكسرهَا. وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ بِالْفَتْح مصدر، وبالكسر اسْم.
وَهَذَا الحَدِيث يحْتَج بِهِ الحنفيون، لِأَن الْقرَان عِنْدهم أفضل. وَقد أجِيبُوا أَن فِي بعض أَلْفَاظه الصَّحِيحَة: عمْرَة وَحجَّة. على أَن لَفْظَة فِي قد تكون بِمَعْنى " مَعَ ". ثمَّ هُوَ مَحْمُول على معنى تحصيلهما جَمِيعًا، لِأَن عمْرَة الْمُتَمَتّع وَاقعَة فِي أشهر الْحَج.(1/112)
55 - / 56 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: قَالَ عَمْرو بن مَيْمُون: رَأَيْت عمر قبل أَن يصاب بأيام وقف على حُذَيْفَة وَعُثْمَان بن حنيف فَقَالَ: كَيفَ فعلتما؟ أتخافان أَن تَكُونَا قد حملتما الأَرْض مَا لَا تطِيق؟ .
أما قَول عمر لِحُذَيْفَة وَعُثْمَان: أتخافان أَن تَكُونَا حملتما الأَرْض. كَانَ عمر قد بعثهما لأخذ الْخراج، فَقَالَ: أتخافان أَن تكون حملتما الأَرْض مَا لَا تطِيق؟ إِشَارَة إِلَى الْخراج.
والأرامل: جمع أرملة: وَهِي الْمَرْأَة الَّتِي لَا زوج لَهَا. وَيُقَال للرجل إِذا لم تكن لَهُ زَوْجَة أرمل أَيْضا: وَأَرَادَ عمر بغنى الأرامل مَا يفْرض لَهُنَّ فِي بَيت المَال.
والخلل: الفرجة بَين الشَّيْئَيْنِ، بِضَم الْفَاء. فَأَما الفرجة بِفَتْحِهَا فانفراج الْهم.
وَقَوله: أكلني الْكَلْب: ظن عمر أَن كَلْبا قد عضه لما جرح، وَكَانَ يَقُول لَهُم: لقد طعنني وَمَا أَظُنهُ إِلَّا كَلْبا حَتَّى طعنني الثَّالِثَة.
وَقَوله: فطار العلج: أَي أسْرع فِي مَشْيه إِلَى عمر يدْفع النَّاس، فَشبه إسراعه بإسراع الطَّائِر. والعلج: الرجل الشَّديد. وَيُقَال: إِن اشتقاقه من المعالجة: وَهِي مزاولة الشَّيْء، وَيُقَال للأعجمي علج. وَالْأَصْل فِي العلج أَنه حمَار الْوَحْش.
والبرنس: كسَاء، وَهُوَ مُبين فِي الحَدِيث: أَنه طرح عَلَيْهِ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ خميصة كَانَت عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي احتز(1/113)
رَأسه بعد أَن قتل نَفسه.
وَقَوله: آلصنع؟ يُرِيد: الَّذِي يحسن الصِّنَاعَة. يُقَال: رجل صنع، وَامْرَأَة صناع.
وَكَانَ أَبُو لؤلؤة حدادا نقاشا نجارا، واسْمه فَيْرُوز.
وَقَوله: قَاتله الله، فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: لَعنه الله، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: قَتله الله، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة. وَالثَّالِث: عَادَاهُ الله، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي.
وَقَوله: الْحَمد لله الَّذِي لم يَجْعَل ميتتي بيد رجل مُسلم، كَانَ أَبُو لؤلؤة مجوسيا.
وَقَوله: فاحملوني وَقل: يسْتَأْذن عمر. قد سبق اسْتِئْذَانه لعَائِشَة فِي حَيَاته، وَإِنَّمَا أَمرهم بِإِعَادَة الاسْتِئْذَان بعد مَوته ورعا، مَخَافَة أَن تكون أَذِنت لَهُ فِي حَيَاته حَيَاء ومحاباة.
وَقد سمينا السِّتَّة أَصْحَاب الشورى فِي حَدِيث السَّقِيفَة، وَذكرنَا هُنَالك تَفْسِير كَلِمَات فِي هَذَا الحَدِيث.
وَقَوله: يشهدكم عبد الله. طيب قلب ابْنه بِحُضُورِهِ مَعَ الْقَوْم، وَلم يستخلفه لفضل غَيره عَلَيْهِ.
وَفِي الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين قَولَانِ.
أَحدهمَا: أَنهم الَّذين صلوا الْقبْلَتَيْنِ. قَالَه أَبُو مُوسَى، وَسَعِيد بن الْمسيب.
وَالثَّانِي: أَنهم الَّذين أدركوا بيعَة الرضْوَان، قَالَه الشّعبِيّ، وَابْن سِيرِين.(1/114)
فعلى القَوْل الأول الْإِشَارَة إِلَى من هَاجر قبل تَحْويل الْقبْلَة، والقبلة حولت فِي نصف رَجَب سنة ثِنْتَيْنِ من الْهِجْرَة، وَقيل: فِي نصف شعْبَان، وعَلى الثَّانِي الْإِشَارَة إِلَى من هَاجر قبل الْحُدَيْبِيَة؛ لِأَن بيعَة الرضْوَان فِيهَا كَانَت، وغزوة الْحُدَيْبِيَة كَانَت فِي سنة سِتّ.
وَالْأَنْصَار أهل الْمَدِينَة، سموا بذلك لأَنهم نصروا رَسُول الله.
وَالْمرَاد بِالدَّار الْمَدِينَة. (وتبوءوا) بِمَعْنى نزلُوا الْمَدِينَة. وَالْمعْنَى تبوءوا الدَّار وآثروا الْإِيمَان. (من قبلهم) أَي من قبل هِجْرَة الْمُهَاجِرين.
والأمصار: الْبلدَانِ.
والردء: العون وَالْقُوَّة. يُقَال: فلَان ردء لفُلَان: أَي معينه ومقويه.
وَقد سبق فِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين شرح الْمَادَّة.
وحواشي المَال: مَا لَيْسَ من خِيَاره. وأصل الْحَوَاشِي: النواحي، وَيُشِير بذلك إِلَى الزَّكَاة.
وَأهل الذِّمَّة: أهل الْكتاب. وَإِنَّمَا أوصى بهم ليَقَع الْوَفَاء لَهُم بِمَا عقده الشَّرْع.
والرهط الَّذين ولاهم عمر هم السِّتَّة أهل الشورى.
وَقَوله: لست بِالَّذِي أنافسكم: أَي لَا أحرص على أَن أغلب على مَا تتنافسون فِيهِ.
وآلو: بِمَعْنى أقصر.(1/115)
وانثال النَّاس عَلَيْهِ: أَي تتابعوا فِي الِاجْتِمَاع إِلَيْهِ. يُقَال: نثل مَا فِي كِنَانَته: أَي صب ذَلِك، فتتابع بعضه خلف بعض.
وابهار اللَّيْل: مَعْنَاهُ انتصف، أَخذ من بهرة الشَّيْء: أَي وَسطه.
وَيُقَال: تهور اللَّيْل: أَي أدبر وانهدم كَمَا يتهور الْبناء، قَالَه أَبُو عبيد.
وَقَوله: وَكَانَ يخْشَى من عَليّ شَيْئا: أَي يحذر أَن يُخَالف،، وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله: لَك قرَابَة رَسُول الله والقدم فِي الْإِسْلَام: يَعْنِي السَّابِقَة والمنزلة. وَالْمعْنَى: لَك الْفضل الَّذِي قَدمته لتقدم عَلَيْهِ.
56 - / 57 - الحَدِيث الثَّالِث عشر: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن عبد: خرجت لَيْلَة فِي رَمَضَان إِلَى الْمَسْجِد، فَإِذا النَّاس أوزاع متفرقون.
الأوزاع: الْجَمَاعَات المتفرقة.
والرهط: مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة.
وَقَوله: نعمت الْبِدْعَة. الْبِدْعَة: فعل شَيْء لَا على مِثَال تقدم، فسماها بِدعَة لِأَنَّهَا لم تكن فِي زمن رَسُول الله على تِلْكَ الصّفة، وَلَا فِي زمن أبي بكر، وَقد تكون الْبِدْعَة فِي الْخَيْر وَالشَّر، وَإِنَّمَا المذموم من الْبدع مَا رد مَشْرُوعا أَو نافاه.
وَقَوله: الَّتِي ينامون عَنْهَا: يُرِيد صَلَاة آخر اللَّيْل.
57 - / 60 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: جلس عمر على مِنْبَر(1/116)
رَسُول الله، وَذَلِكَ الْغَد من يَوْم توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَتشهد وَأَبُو بكر صَامت. ثمَّ قَالَ عمر: أما بعد، فَإِنِّي قلت لكم أمس مقَالَة، وَإِنَّهَا لم تكن كَمَا قلت، وَكنت أَرْجُو أَن يعِيش رَسُول الله حَتَّى يدبرنا.
الْإِشَارَة بالمقالة الَّتِي قَالَهَا إِلَى قَوْله: إِن رَسُول الله لم يمت.
ويدبرنا: بِمَعْنى يبْقى بَعدنَا. قَالَ اللغويون: دابر الْقَوْم: آخِرهم؛ لِأَنَّهُ ياتي فِي أدبارهم، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّيْل إِذْ أدبر} [المدثر: 33] أَي تبع النَّهَار فَكَانَ بعد.
قَوْله: فَرَأَيْت عمر يزعج أَبَا بكر: أَي ينهضه بِسُرْعَة. وَكَانَ قد بُويِعَ يَوْم السَّقِيفَة، وَإِنَّمَا كَانَت الْبيعَة الْعَامَّة فِي الْيَوْم الثَّانِي عِنْد الْمِنْبَر.
وَالْآيَة الَّتِي تَلَاهَا أَبُو بكر فِي أول يَوْم مَاتَ الرَّسُول: {وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول} [آل عمرَان: 144] .
وعقرت بِمَعْنى دهشت.
58 - / 61 - الحَدِيث السَّابِع عشر: قَالَ عمر: نهينَا عَن التَّكَلُّف. وَفِي لفظ أَن عمر قَرَأَ: {وَفَاكِهَة وَأَبا} [عبس: 31] وَقَالَ: مَا الْأَب؟ ثمَّ قَالَ: مَا كلفنا، أَو مَا أمرنَا بِهَذَا.
وَهَذَا الحَدِيث يحْتَمل ثَلَاثَة أَشْيَاء:
أَحدهَا: أَن يكون عمر قد علم الْأَب، لِأَنَّهَا كلمة شائعة بَين(1/117)
الْعَرَب، وَأَنه الَّذِي ترعاه الْبَهَائِم، وَلكنه أَرَادَ تخويف غَيره من التَّعَرُّض للتفسير بِمَا لَا يعلم، كَمَا كَانَ يَقُول: أقلوا الرِّوَايَة عَن رَسُول الله وَأَنا شريككم، يُرِيد الِاحْتِرَاز، فَإِن من احْتَرز قلت رِوَايَته.
وَالثَّانِي: أَن يكون ذَلِك خَفِي عَنهُ كَمَا خَفِي عَن ابْن عَبَّاس معنى {فاطر السَّمَاوَات} [الْأَنْعَام: 14] .
وَالثَّالِث: أَن يكون قد ظن بِهَذِهِ الْكَلِمَة أَنَّهَا تقع على مسميين، فتورع عَن إِطْلَاق القَوْل.
وأصل التَّكَلُّف: تتبع مَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ، أَو مَا لَا يُؤمر بِهِ الْإِنْسَان، وَلَا يحصل إِلَّا بِمَشَقَّة. فَأَما إِذا كَانَ مَأْمُورا بِهِ وَفِيه مَنْفَعَة فَلَا وَجه للذم. وَقد فسر رَسُول الله آيَات، وَفسّر كثير من الصَّحَابَة كثيرا من الْقُرْآن. قَالَ الْحسن: وَالله مَا أنزل الله آيَة إِلَّا أحب أَن يعلم فيمَ أنزلت، وماذا عني بهَا.
59 - / 62 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: فحصبني رجل: أَي رماني بالحصباء: وَهِي صغَار الْحَصَا.
60 - / 64 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: أَن عمر اسْتعْمل قدامَة بن مَظْعُون على الْبَحْرين، وَهُوَ خَال ابْن عمر وَحَفْصَة، فَقدم الْجَارُود من الْبَحْرين فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِن قدامَة قد شرب مُسكرا، وَإِنِّي إِذا رَأَيْت حدا من حُدُود الله حق عَليّ أَن أرفعه إِلَيْك. فَقَالَ لَهُ عمر: من يشْهد؟ فَقَالَ: أَبُو هُرَيْرَة. فَدَعَا عمر أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ: علام تشهد؟ فَقَالَ: لم أره حِين شرب، وَقد رَأَيْته سَكرَان يقيء. فَقَالَ: لقد(1/118)
تنطعت. وَقَالَ عمر: مَاذَا ترَوْنَ فِي جلد قدامَة؟ فَقَالَ الْقَوْم: لَا نرى أَن تجلده مَا دَامَ وجعا، ثمَّ أصبح يَوْمًا وَقد عزم على جلده، فَقَالَ: ايتوني بِسَوْط، فَجَاءَهُ مَوْلَاهُ أسلم بِسَوْط دَقِيق صَغِير، فَأَخذه عمر وَقَالَ: قد أخذتك دقرارة أهلك، ايتوني بِسَوْط غير هَذَا. فَأمر بِهِ فجلد، فغاضب قدامَة عمر، فحجا، حَتَّى قَفَلُوا من حجهم، وَنزل عمر بالسقيا، فَنَامَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ. قَالَ عجلوا عَليّ بِقُدَامَةَ، إِنِّي جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ لي: سَالم قدامَة؛ فَإِنَّهُ أَخُوك.
أما قدامَة فَإِنَّهُ أسلم قَدِيما، وَهَاجَر إِلَى أَرض الْحَبَشَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة، وَشهد بَدْرًا وَجَمِيع الْمشَاهد مَعَ رَسُول الله، وَلم يذكر عَنهُ أَنه شرب الْخمر، إِنَّمَا شرب شَيْئا فأسكره، فَيحْتَمل أَن يكون شرب قَلِيلا من النَّبِيذ متأولا، فَخرج بِهِ إِلَى السكر، أَو شرب مَا لَا يَظُنّهُ يسكر فَسَكِرَ.
على أَنه قد ذكر فِي هَذَا الحَدِيث تَأْوِيل لَهُ عَجِيب، فَإِنَّهُ قَالَ لعمر: لَو شربت كَمَا يَقُولُونَ مَا كَانَ لَك أَن تجلدني. قَالَ: وَلم؟ قَالَ: لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا} [الْمَائِدَة: 93] فَقَالَ عمر: أَخْطَأت التَّأْوِيل، إِذا اتَّقَيْت اجْتنبت مَا حرم الله.
وَفِي الْجُمْلَة، لَا يَنْبَغِي أَن نظن بالصحابة أَنهم تعمدوا الْحَرَام أصلا، وَقد روى مُحَمَّد بن سعد من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: شهد أَبُو بكرَة، وشبل بن معبد، وَنَافِع بن الْحَارِث، وَزِيَاد على الْمُغيرَة بن شُعْبَة بِالْحَدَثِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ عِنْد عمر، فضربهم(1/119)
عمر الْحَد غير زِيَاد، فَإِنَّهُ لم يتم الشَّهَادَة عَلَيْهِ.
قَالَ ابْن عقيل: للفقهاء فِيمَا يَفْعَلُونَ تأويلات، وَمَعْلُوم أَن الْمُتْعَة قد كَانَت عقدا فِي الشَّرْع، وَكَانَ نِكَاح السِّرّ عِنْد قوم من أهل الْمَدِينَة زنا، فَمن عثر على ذَلِك الْفِعْل شهد بِالزِّنَا، والمغيرة سليم، وَلَا يجوز أَن ينْسب الصَّحَابَة إِلَى شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء، فَمن فعل ذَلِك جهل مِقْدَار الْمضرَّة فِي ذَلِك القَوْل، أَو هُوَ زنديق.
وَقَول عمر: لقد تنطعت: التنطع: التعمق والغلو والإفراط فِي التدقيق، يُقَال: تنطع فلَان فِي كَذَا: إِذا بَالغ فِي اجْتِهَاده. وَلم يجلده بقول أبي هُرَيْرَة وَإِنَّمَا جلده بِإِقْرَارِهِ، أَو بِإِثْبَات شَهَادَة عَلَيْهِ.
وَأما جلده وَهُوَ مَرِيض فَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة، وَأحمد بن حَنْبَل، وَعِنْدَهُمَا أَنه لَا يُؤَخر الْحَد عَن الْمَرِيض، سَوَاء كَانَ يُرْجَى بُرْؤُهُ أَو لَا يُرْجَى، فَإِن كَانَ مِمَّن يخَاف عَلَيْهِ التّلف أقيم عَلَيْهِ الْحَد بأطراف الثِّيَاب وَنَحْوهَا، قَالَ أَكثر الْعلمَاء: يُؤَخر الْحَد عَن الْمَرِيض، إِلَّا أَن مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ قَالَا: إِذا كَانَ مَرضه لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ أقيم عَلَيْهِ الْحَد فِي الْحَال، إِلَّا أَن الشَّافِعِي يرى اللطف فِي الضَّرْب على مَا نَحْو مَا ذكرنَا، وَمَالك يَقُول: يضْرب الْجلد التَّام.
الدقرارة: الْمُخَالفَة، وَأَصلهَا الشَّيْء الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَقِيم. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: أخذتك دقرارة أهلك: أَي عَادَة أهلك فِي الْخلاف.(1/120)
وَإِنَّمَا قَالَ: أهلك؛ لِأَن عمر تزوج زَيْنَب بنت مَظْعُون أُخْت قدامَة، فَجَاءَت مِنْهُ بِعَبْد الله وَعبد الرَّحْمَن وَحَفْصَة، فقدامة خالهم، وَأسلم مَوْلَاهُم.
وقفلوا بِمَعْنى رجعُوا، وَبِه سميت الْقَافِلَة.
والسقيا: مَوضِع.
61 - / 65 - الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: أَن عمر قسم مروطا، فَبَقيَ مِنْهَا مرط جيد، فَقَالَ بعض من عِنْده: أعْط هَذَا ابْنة رَسُول الله الَّتِي عنْدك، يُرِيدُونَ أم كُلْثُوم، فَقَالَ: أم سليط أَحَق بِهِ، فَإِنَّهَا مِمَّن بَايع رَسُول الله، وَكَانَ تزفر لنا الْقرب يَوْم أحد.
المروط جمع مرط: وَهُوَ كسَاء من صوف أَو خَز يؤتزر بِهِ.
وَأم كُلْثُوم بنت عَليّ بن أبي طَالب. وَإِنَّمَا أضافوها إِلَى رَسُول الله لِأَنَّهَا من فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام، وَكَانَت فَاطِمَة قد ولدت لعَلي الْحسن وَالْحُسَيْن وَزَيْنَب وَأم كُلْثُوم، فَتزَوج زَيْنَب عبد الله بن جَعْفَر، فَولدت لَهُ عبد الله وعونا، وَمَاتَتْ عِنْده، وَتزَوج أم كُلْثُوم عمر، فَولدت لَهُ زيدا، ثمَّ خلف عَلَيْهَا بعده عون بن جَعْفَر، ثمَّ مَاتَ فخلف عَلَيْهَا مُحَمَّد بن جَعْفَر، فَولدت جَارِيَة، ثمَّ خلف عَلَيْهَا بعده عبد الله بن جَعْفَر فَلم تَلد لَهُ، وَمَاتَتْ عِنْده. وَقد زَاد ابْن إِسْحَق فِي أَوْلَاد فَاطِمَة من عَليّ محسنا، قَالَ: وَمَات صَغِيرا. وَزَاد اللَّيْث بن سعد رقية، قَالَ: وَمَاتَتْ وَلم تبلغ.(1/121)
وَالسَّبَب فِي تَزْوِيج عمر أم كُلْثُوم أَنه أحب الِاتِّصَال بِنسَب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " كل حسب وَنسب مُنْقَطع يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا حسبي ونسبي " فَخَطَبَهَا من عَليّ. فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، إِنَّهَا صبية. فَقَالَ: إِنَّك وَالله مَا بك ذَلِك، وَلَكِن قد علمنَا مَا بك، فَأمر عَليّ بهَا، فصنعت، ثمَّ أَمر بِبرد فطواه، ثمَّ قَالَ: انطلقي بِهَذَا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ، فَقولِي: أَرْسلنِي أبي يُقْرِئك السَّلَام وَيَقُول: إِن رضيت الْبرد فأمسكه، وَإِن سخطته فَرده. فَلَمَّا أَتَت عمر قَالَ: بَارك الله فِيك وَفِي أَبِيك، قد رَضِينَا، فَرَجَعت إِلَى أَبِيهَا فَقَالَت: مَا نشر الْبرد، وَلَا نظر إِلَّا إِلَيّ. فَزَوجهَا إِيَّاه وَلم تكن قد بلغت، فأمهرها عمر أَرْبَعِينَ ألفا.
وَأما أم سليط فقد ذَكرنَاهَا فِي المبايعات، وأحصيناهن فِي كتَابنَا المسمي ب " التلقيح ".
وتزفر بِمَعْنى تحمل. يُقَال: زفر يزفر وازدفر: أَي حمل حملا فِيهِ ثقل، والزفر: الْقرْبَة المملوءة مَاء، وَيُقَال للإماء اللواتي يحملنها زوافر. وَكَانَ النِّسَاء يخْرجن فِي الْغَزَوَات يحملن المَاء إِلَى الْجَرْحى فيسقينهم.
62 - / 66 - الحَدِيث الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: قَالَ عمر: لَوْلَا أَن أترك آخر النَّاس ببانا لَيْسَ لَهُم شَيْء، مَا فتحت عَليّ قَرْيَة إِلَّا قسمتهَا كَمَا قسم(1/122)
رَسُول الله خَيْبَر، وَلَكِنِّي أتركها خزانَة لَهُم يقتسمونها.
قَوْله: ببانا: أَي شَيْئا وَاحِدًا، كَمَا تَقول: هم بأج وَاحِد، وَالْمعْنَى أَنهم يستوون فِي الْفقر والحرمان، إِذْ لَا شَيْء لَهُم يرجعُونَ إِلَيْهِ، وَلذَلِك قَالَ: لكني أتركها خزانَة لَهُم يقتسمونها: أَي يَنْتَفِعُونَ بفوائدها مَعَ بَقَاء أَصْلهَا لَهُم، كالعراق.
63 - / 67 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: أَن عمر سَأَلَ رَسُول الله عَن شَيْء فَلم يجبهُ، ثمَّ سَأَلَهُ فَلم يجبهُ، ثمَّ سَأَلَهُ فَلم يجبهُ. فَقَالَ عمر: ثكلتك أمك، نزرت رَسُول الله.
وَالْمعْنَى: أكثرت عَلَيْهِ السُّؤَال وألححت وأضجرته. وَيُقَال: عَطاء منزور: إِذا استخرج بعد شدَّة وإلحاح.
64 - / 68 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: لحقت عمر امْرَأَة فَقَالَت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، هلك زَوجي وَترك صبية صغَارًا، وَالله مَا ينضجون كُرَاعًا.
قَالَ ابْن فَارس: الكراع من الْإِنْسَان: مَا دون الرّكْبَة، وَمن الدَّوَابّ مَا دون الكعب. وَالْمعْنَى أَنهم لَا يحسنون لصغرهم طبخ هَذَا الْقدر، وَلَا يقدرُونَ على إصْلَاح مَا يَأْكُلُونَهُ.
قَوْلهَا: وخشيت أَن تأكلهم الضبع. والضبع اسْم يَقع على الْحَيَوَان(1/123)
الْمَعْرُوف، وَهُوَ اسْم للْأُنْثَى مِنْهُ، وَالذكر ضبعان. وَيَقَع على السّنة المجدبة، وَهُوَ المُرَاد فِي هَذَا الحَدِيث.
وَقَوله: فَانْصَرف إِلَى بعير ظهير: وَهُوَ الْقوي الَّذِي يستظهر بقوته على الْحمل.
ونستفيء سهمانهما: أَي نسترجعها، وَهُوَ الْفَيْء، وَسمي فَيْئا لِأَنَّهُ مَال استرجعه الْمُسلمُونَ من أَيدي الْكفَّار، وَالْمعْنَى: نَأْخُذ سهمانهما.
65 - / 69 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: أَن عمر اسْتعْمل مولى لَهُ على الصَّدَقَة، فَقَالَ: ضم جناحك عَن النَّاس، وَأدْخل رب الصريمة وَرب الْغَنِيمَة. وإياي وَنعم ابْن عَفَّان وَابْن عَوْف، فَإِنَّهُمَا إِن تهْلك ماشيتهما يرجعان إِلَى زرع ونخيل، وَإِن رب الصريمة وَالْغنيمَة إِن تهْلك ماشيتهما يأتيني ببنيه فَيَقُول: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أفتاركه أَنا - لَا أبالك. فالماء والكلأ أيسر من الذَّهَب وَالْفِضَّة. وَايْم الله، إِنَّهُم لَيرَوْنَ أَنا قد ظلمناهم، إِنَّهَا لبلادهم ومياههم. قَاتلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأَسْلمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَام. وَالله لَوْلَا المَال الَّذِي أحمل عَلَيْهِ فِي سَبِيل الله مَا حميت على النَّاس من بِلَادهمْ شبْرًا.
قَوْله: ضم جناحك عَن النَّاس: أَي لَا تحمل ثقلك عَلَيْهِم.
وَقَوله: وَأدْخل رب الصريمة: الصريمة تَصْغِير الصرمة: وَهُوَ القطيع من الْإِبِل نَحْو الثَّلَاثِينَ، وَالْغنيمَة: القليلة.
وَكَانَ عمر قد حمى مرعى لَا يرْعَى فِيهِ إِلَّا الْخَيل الَّتِي يعدها(1/124)
للْجِهَاد، فَأمره بِإِدْخَال الضُّعَفَاء فِي ذَلِك الْحمى دون الْأَغْنِيَاء، وَلذَلِك قَالَ: وإياي وَنعم ابْن عَفَّان وَابْن عَوْف. وَمَعْنَاهُ: لَا يدْخل نعمهما الْحمى. وحميت بِمَعْنى منعت. والحمى خلاف الْمُبَاح.
66 - / 72 - الحَدِيث الثَّامِن وَالْعشْرُونَ: قَالَ عمر: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يفيضون من جمع حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَيَقُولُونَ: أشرق ثبير. قَالَ: فخالفهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأفاض قبل طُلُوع الشَّمْس.
الْإِفَاضَة من الْمَكَان: سرعَة السّير مِنْهُ إِلَى مَكَان آخر، وَقَالَ الزّجاج: الْإِفَاضَة: الدّفع بِكَثْرَة، يُقَال: أَفَاضَ الْقَوْم فِي الحَدِيث: إِذا انْدَفَعُوا فِيهِ وَأَكْثرُوا التَّصَرُّف.
وَقَوْلهمْ: أشرق ثبير: أَي ادخل أَيهَا الْجَبَل فِي الشروق، وَهُوَ نور الشَّمْس.
وَفِي لفظ عَنْهُم: كَيْمَا نغير: أَي ندفع للنحر. يُقَال: أغار يُغير: إِذا أسْرع وَدفع فِي عدوه.
67 - / 73 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: عَن أبي الْأسود قَالَ: قدمت الْمَدِينَة وَالنَّاس يموتون موتا ذريعا.
عَامَّة الْمُحدثين يَقُولُونَ: الدؤَلِي، وَكَذَلِكَ قَالَ يُونُس النَّحْوِيّ الديل فِي عبد الْقَيْس سَاكِنة الْيَاء، والدول من حنيفَة سَاكن الْوَاو، والدئل فِي كنَانَة رَهْط أبي الْأسود مَهْمُوزَة، فَهُوَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي. وَقَالَ ابْن(1/125)
الْكَلْبِيّ: هُوَ أَبُو الْأسود الديلِي. قَالَ أَبُو عبيد: وَهُوَ الصَّوَاب عندنَا.
والذريع: السَّرِيع الْكثير.
68 - / 74 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: كَانَ عَطاء الْبَدْرِيِّينَ خَمْسَة آلَاف خَمْسَة آلَاف، وَقَالَ عمر: لأفضلنهم على من بعدهمْ.
اعْلَم أَنه لما فتحت الْفتُوح وغنموا خَزَائِن كسْرَى وَغَيرهَا، دون عمر الدَّوَاوِين، وَفرض للنَّاس الأعطية على أقدارهم وتقدمهم فِي الْإِسْلَام، فَبَدَأَ بِالْعَبَّاسِ فَفرض لَهُ خَمْسَة وَعشْرين ألفا، ثمَّ فرض لأهل بدر خَمْسَة آلَاف خَمْسَة آلَاف، ثمَّ فرض لمن بعد بدر إِلَى الْحُدَيْبِيَة أَرْبَعَة آلَاف أَرْبَعَة آلَاف، ثمَّ فرض لمن بعد الْحُدَيْبِيَة إِلَى أَن أقلع أَبُو بكر عَن أهل الرِّدَّة ثَلَاثَة آلَاف ثَلَاثَة آلَاف، وَدخل فِي ذَلِك من شهد الْفَتْح، ثمَّ فرض لأهل الْقَادِسِيَّة، وَأهل الشَّام أَصْحَاب اليرموك أَلفَيْنِ أَلفَيْنِ، وَفرض لِأَزْوَاج رَسُول الله عشرَة آلَاف عشرَة آلَاف، إِلَّا من جرى عَلَيْهِ الْملك، وَفضل عَائِشَة بِأَلفَيْنِ، وَجعل نسَاء أهل بدر على خَمْسمِائَة خَمْسمِائَة، وَنسَاء من بعد بدر إِلَى الْحُدَيْبِيَة على أَرْبَعمِائَة أَرْبَعمِائَة، وَنسَاء من بعد ذَلِك إِلَى الْأَيَّام على ثَلَاثمِائَة ثَلَاثمِائَة، ثمَّ نسَاء أهل الْقَادِسِيَّة على مِائَتَيْنِ مِائَتَيْنِ، ثمَّ سوى بَين النِّسَاء بعد ذَلِك، وَجعل الصّبيان من أهل بدر وَغَيرهم سَوَاء على مائَة مائَة.(1/126)
69 - / 76 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: أَن عمر فرض للمهاجرين الْأَوَّلين أَرْبَعَة آلَاف، وَفرض لِابْنِ عمر ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة، فَقيل لَهُ: هُوَ من الْمُهَاجِرين، فَلم نقصته من أَرْبَعَة آلَاف؟ قَالَ: إِنَّمَا هَاجر بِهِ أَبوهُ. يَقُول: لَيْسَ هُوَ كمن هَاجر بِنَفسِهِ.
فِي الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين قَولَانِ قد ذكرناهما فِي الحَدِيث الثَّانِي عشر من هَذَا الْمسند.
وَالَّذِي اعْتَمدهُ عمر فِي حق ابْنه من أحسن المعتمدات، لِأَنَّهُ هَاجر بِهِ وَهُوَ غير محتلم، فَلم ير إِلْحَاقه بالبالغين.
70 - / 77 - الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ: أَن عمر أذن لِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر حجَّة حَجهَا فِي الْحَج، وَبعث مَعَهُنَّ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعُثْمَان بن عَفَّان.
كَانَ أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتَأْذن عمر فِي الْحَج لمَكَان إِمَامَته، وَهُوَ الَّذِي يحجّ بِالنَّاسِ عامئذ، وَإِنَّمَا بعث مَعَهُنَّ عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن ليحفظا النَّاحِيَة الَّتِي يسرن فِيهَا، فَكَانَ أَحدهمَا بَين أَيْدِيهنَّ، وَالْآخر من ورائهن.
71 - / 78 - الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ: أَن عبدا من رَقِيق الْإِمَارَة وَقع على وليدة من الْخمس، فاستكرهها حَتَّى افتضها، فجلده عمر الْحَد ونفاه، وَلم يجلد الوليدة من أجل أَنه استكرهها.
حد العَبْد إِذا زنى نصف حد الْحر، خَمْسُونَ جلدَة.(1/127)
وَقَوله: ونفاه، حجَّة لمَالِك، فَإِن عِنْده أَن العَبْد يغرب، وَعِنْدنَا لَا يغرب، فَيحْتَمل قَوْله نَفَاهُ: أبعده من صحبته.
72 - / 79 - الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
أَن عمر رأى حلَّة سيراء تبَاع.
الْحلَّة لَا تكون إِلَّا من ثَوْبَيْنِ، وَقد ذكرنَا هَذَا فِي هَذَا الْمسند. والسيراء: ضرب من البرود مخطط. يُقَال: برد مسير: أَي مخطط، وَلم يحرم من أجل الخطوط، وَلكنهَا كَانَت من حَرِير. وَقَالَ الْخطابِيّ: السيراء: المضلعة بالحرير، وَسميت سيراء لما فِيهَا من الخطوط الَّتِي تشبه السيور.
وَقَوله: " من لَا خلاق ": الخلاق: النَّصِيب.
73 - / 80 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن عمر سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيَنَامُ أَحَدنَا وَهُوَ جنب؟ قَالَ: " نعم، إِذا تَوَضَّأ ".
الْجَنَابَة فِي اللُّغَة: الْبعد، وَفِي تَسْمِيَة الْجنب جنبا قَولَانِ: أَحدهمَا لمجانبة مَائه مَحَله. وَالثَّانِي: لما يلْزمه من اجْتِنَاب الصَّلَاة وَالْقُرْآن وَمَسّ الْمُصحف، وَدخُول الْمَسْجِد. وَيُقَال: رجل جنب، ورجلان جنبان، وَرِجَال جنب، كَمَا يُقَال: رجل رضى، وَقوم رضى.(1/128)
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على اسْتِحْبَاب التنظف من الأقذار عِنْد النّوم، لِأَن الْإِنْسَان لَا يكَاد يتَوَضَّأ حَتَّى يغسل مَا بِهِ من أَذَى. وَإِنَّمَا أَمر بذلك عِنْد النّوم لِأَن الْمَلَائِكَة تبعد عَن الْوَسخ وَالرِّيح الكريهة، وَالشَّيَاطِين تتعرض بالأنجاس والأقذار. وَقَالَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: إِن الْأَرْوَاح يعرج بهَا فِي منامها إِلَى السَّمَاء، فتؤمر بِالسُّجُود عِنْد الْعَرْش، فَمَا كَانَ مِنْهَا طَاهِرا سجد عِنْد الْعَرْش، وَمَا لَيْسَ بطاهر سجد بَعيدا عَن الْعَرْش. ثمَّ إِن الْوضُوء يُخَفف الْحَدث، وَلِهَذَا يجوز عندنَا للْجنب إِذا تَوَضَّأ أَن يجلس فِي الْمَسْجِد.
74 - / 81 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ عمر: يَا رَسُول الله، أصبت أَرضًا لم أصب مَالا أحب إِلَيّ وَلَا أنفس عِنْدِي مِنْهَا، فَقَالَ: " إِن شِئْت تَصَدَّقت بهَا ". فَتصدق بهَا عمر: على أَن لَا تبَاع وَلَا توهب، فِي الْفُقَرَاء وَذَوي الْقُرْبَى الرّقاب والضيف وَابْن السَّبِيل، لَا جنَاح على من وَليهَا أَن يَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ غير مُتَمَوّل مَالا، وَيطْعم.
أنفس بِمَعْنى أفضل. وَإِنَّمَا نبهه على التَّصَدُّق بهَا عِنْد قَوْله: إِنِّي لم أصب مَالا أحب إِلَيّ مِنْهَا؛ لِأَن الْفَضَائِل لَا تنَال إِلَّا ببذل الأحب، قَالَ الله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} [آل عمرَان: 92] .
وَفِي هَذَا الحَدِيث من الْعلم أَن الرجل إِذا وقف وَقفا فَأحب أَن يشْتَرط لنَفسِهِ أَو لغيره فِيهِ شرطا سوى الْوَجْه الَّذِي جعل الْوَقْف فِيهِ، كَانَ لَهُ ذَلِك، وَعِنْدنَا أَنه إِذا وقف على غَيره وَاسْتثنى أَن ينْفق على نَفسه حَيَاته صَحَّ. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَمُحَمّد: لَا يَصح. وَقد دلّ حَدِيث عمر على صِحَة مَذْهَبنَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لَا جنَاح على من وَليهَا أَن يَأْكُل. وَإِنَّمَا ولي هَذِه الأَرْض عمر.(1/129)
75 - / 82 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: قَالَ يحيى بن يعمر: كَانَ أول من قَالَ فِي الْقدر بِالْبَصْرَةِ معبد الْجُهَنِيّ، فَانْطَلَقت أَنا وَحميد بن عبد الرَّحْمَن فَقُلْنَا: لَو لَقينَا أحدا من أَصْحَاب رَسُول الله، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُول هَؤُلَاءِ، فوفق لنا عبد الله بن عمر دَاخِلا الْمَسْجِد، فاكتنفته أَنا وصاحبي.
قَوْله: فوفق لنا ابْن عمر: أَي قدر لنا لقاؤه فاكتنفته أَنا وصاحبي: أَي صرنا مِمَّا يَلِيهِ.
وَقَوله: سيكل الْكَلَام إِلَيّ: أَي سيقتنع بِقَوْلِي ويعتمد عَليّ فِيمَا أذكر.
قَوْله: يتقفرون الْعلم: أَي يطلبونه ويتبعون أَثَره. يُقَال: فلَان يتقفر الشَّيْء: إِذا طلبه واجتهد فِي الْبَحْث عَنهُ. وَرُبمَا قَرَأَ بعض طلبة الحَدِيث هَذَا فَقدم الْفَاء، وَإِنَّمَا الْقَاف الْمُقدمَة.
وَقَوله: يَزْعمُونَ أَن لَا قدر: أَي أَن الْأَشْيَاء لم يسْبق تقديرها.
وَقَوله: أَن الْأَمر أنف: أَي مُسْتَأْنف لم يتَقَدَّم فِيهِ قدر وَلَا مَشِيئَة. يُقَال: رَوْضَة أنف: إِذا كَانَت وافية الْكلأ، لم يرع مِنْهَا شَيْء، ويعنون أَن مَا نعمله لم يقدر.
وَأما فرقه بَين الْإِسْلَام وَالْإِيمَان فِي السُّؤَال عَنْهُمَا فدليل على الْفرق بَينهمَا.
وَالْمرَاد بِالْإِحْسَانِ حسن الطَّاعَات، وَالْإِشَارَة إِلَى المراقبة؛ فَإِنَّهُ من راقب نظر الله عز وَجل إِلَيْهِ حسنت عِبَادَته، فَإِن عبد كَأَنَّهُ يرى المعبود(1/130)
كَانَت عِبَادَته أحسن. وَكَانَ بعض السّلف يَقُول: إِذا تَكَلَّمت فاذكر من يسمع، وَإِذا نظرت فاذكر من يرى، وَإِذا تفكرت فاذكر من يعلم.
وَقَوله: فَأَخْبرنِي عَن أمارتها: الأمارة: الْعَلامَة، وَكَذَلِكَ الأمار. وَالْأَمر الْحِجَارَة المنضودة على الطَّرِيق للأمارة.
وَقَوله: أَن تَلد الْأمة ربتها: المُرَاد بِهَذَا أَن الْإِسْلَام يظْهر ويستولي أَهله على بِلَاد الْكفْر فيسيبونهم، فَإِذا ملك الْمُسلم الْجَارِيَة فاستولدها كَانَ الابْن بِمَنْزِلَة رَبهَا، وَالْبِنْت بِمَنْزِلَة ربتها، لِأَنَّهُ ولد سَيِّدهَا. وَفِي لفظ: " وَأَن تَلد الْأمة بَعْلهَا ". وَالْمرَاد بالبعل هَاهُنَا: الْمَالِك. وَكَانَ بعض الْعَرَب قد ضلت نَاقَته، فَجعل يُنَادي: من رأى نَاقَة أَنا بَعْلهَا، فَجعل الصّبيان يَقُولُونَ: يَا زوج النَّاقة.
وَقَوله: " وَأَن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشَّاء " - وَفِي مُسْند أنس: " رعاء البهم " والعالة: الْفُقَرَاء، والعيلة: الْفقر. والبهم: صغَار الْغنم، وَالْمعْنَى أَن الْعَرَب الَّذين كَانُوا لَا يستقرون فِي مَكَان وَإِنَّمَا كَانُوا ينتجعون مواقع الْغَيْث، يسكنون الْبلدَانِ ويتطاولون فِي الْبُنيان، كل ذَلِك لاتساع الْإِسْلَام.
وَفِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث قصَّة آدم ومُوسَى، وفيهَا: " فحج آدم مُوسَى " وَمعنى غَلبه بِالْحجَّةِ.
76 - / 83 - الحَدِيث الْخَامِس: لما كَانَ يَوْم خَيْبَر قتل نفر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا: فلَان شَهِيد، وَفُلَان شَهِيد، حَتَّى مروا على رجل فَقَالُوا: فلَان شَهِيد، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كلا، إِنِّي رَأَيْته فِي النَّار فِي بردة غلها - أَو عباءة " ثمَّ قَالَ: " يَا ابْن الْخطاب،(1/131)
اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاس أَنه لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ".
النَّفر من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة.
والشهيد: الْقَتِيل فِي سَبِيل الله. وَفِي تَسْمِيَته بالشهيد سَبْعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن الشَّهِيد هُوَ الْحَيّ، كَأَنَّهُ شَاهد: أَي حَاضر، قَالَ الله سُبْحَانَهُ: {بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} [آل عمرَان: 169] فأرواحهم قد أحضرت الْجنَّة وشهدتها، وَغَيرهم لَا يشهدونها. هَذَا قَول النَّضر بن شُمَيْل.
وَالثَّانِي: أَن الله تَعَالَى وَمَلَائِكَته شهدُوا لَهُ بِالْجنَّةِ: قَالَه ثَعْلَب وَابْن الْأَنْبَارِي.
وَالثَّالِث: لِأَن مَلَائِكَة الرَّحْمَة تشهده.
وَالرَّابِع: لسقوطه بِالْأَرْضِ، وَالْأَرْض الشاهدة بِمَا كَانَ. حكى الْقَوْلَيْنِ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس.
وَالْخَامِس: لقِيَامه بِشَهَادَة الْحق فِي أَمر الله تَعَالَى حَتَّى قتل، قَالَه أَبُو سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي.
وَالسَّادِس: لِأَنَّهُ شهد لله سُبْحَانَهُ بالوجود والإلهية بِتَسْلِيم نَفسه للْقَتْل، لما شهد لَهُ غَيره بالْقَوْل، ذكره بعض أهل الْعلم.
فَأَما الرجل الْمَذْكُور فَهُوَ مدعم مولى رَسُول الله، أهداه لَهُ رِفَاعَة ابْن زيد الجذامي، وَكَانَ أسود اللَّوْن، وَكَانَ يُسَافر مَعَ رَسُول الله(1/132)
ويرحل لَهُ، فَبينا هُوَ يحط رَحل رَسُول الله أَتَاهُ سهم عائر فَقتله، فَقَالَ النَّاس: هَنِيئًا لَهُ الْجنَّة. فَقَالَ رَسُول الله: " كلا وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، إِن الشملة الَّتِي أَخذهَا يَوْم خَيْبَر من الْغَنَائِم لم يصبهَا الْمقسم لتشتعل عَلَيْهِ نَارا ".
والغلول: أَخذ الشَّيْء من الْمغنم فِي خُفْيَة، وَمِنْه الغلالة: وَهِي ثوب يلبس تَحت الثِّيَاب. والغلل: المَاء الَّذِي يجْرِي تَحت الشّجر. والغل: الحقد الكامن فِي الصَّدْر، وأصل الْبَاب الاختفاء.
والعباء: كسَاء يلتحف بِهِ.
وَإِنَّمَا أَمر عمر فَنَادَى: " لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ "؛ لِأَن الْإِيمَان إِذا تحقق منع الْغلُول والمعاصي.
77 - / 84 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: قَالَ عمر: لما كَانَ يَوْم بدر نظر رَسُول الله إِلَى الْمُشْركين وهم ألف، وَأَصْحَابه ثَلَاثمِائَة وَتِسْعَة عشر رجلا، فَاسْتقْبل نَبِي الله الْقبْلَة، ثمَّ مد يَدَيْهِ فَجعل يَهْتِف بربه يَقُول: " اللَّهُمَّ أنْجز لي مَا وَعَدتنِي ".
أما بدر فَقَالَ الشّعبِيّ: هِيَ اسْم بِئْر لرجل يُقَال لَهُ بدر، الْتَقَوْا عِنْدهَا.(1/133)
وَقَوله: وَأَصْحَابه ثَلَاثمِائَة وَتِسْعَة عشر رجلا. هَذَا قَول مُفْرد لم أر أحدا من أَرْبَاب التواريخ قَالَ بِهِ، فَإِن جَمِيع من شهد بَدْرًا مَعَ من ضرب لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسهمه وأجره فِي عدد ابْن إِسْحَق ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعَة عشر، وَفِي عدد أبي معشر والواقدي ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر، وَفِي عدد مُوسَى بن عقبَة ثَلَاثمِائَة وَسِتَّة عشر، وَقد أحصيت أهل بدر على الْخلاف الْوَاقِع فيهم فِي كتابي الْمُسَمّى " بالتلقيح ".
وَقَوله: فَجعل يَهْتِف بربه. يُقَال: هتف يَهْتِف: إِذا رفع صَوته فِي دُعَاء أَو غَيره.
وَقَوله: " أنْجز لي مَا وَعَدتنِي " إنجاز الْوَعْد: تَعْجِيل الْمَوْعُود، وَلم يكن حد وقتا معينا فِي النَّصْر، فَسَأَلَ تَعْجِيل مَا وعد بِهِ.
قَوْله: " إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة لَا تعبد فِي الأَرْض ".
الْعِصَابَة: الْجَمَاعَة. واعصوصب الْقَوْم: صَارُوا عصائب. وَعصب الْقَوْم بفلان: أحاطوا بِهِ، وَبِه سميت الْعصبَة: وهم قرَابَة الرجل لِأَبِيهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قطع رَسُول الله على انْقِطَاع الْعِبَادَة بِهَلَاك تِلْكَ الْعِصَابَة؟ أَو لَيْسَ فِي الْقدر إنْشَاء أمثالهم؟ كَيفَ وَقد قَالَ عز وَجل: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ} [مُحَمَّد: 38] ؟ فَالْجَوَاب أَنه لَا يجوز أَن يظنّ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أَرَادَ أَن عدم هَؤُلَاءِ يمْنَع من وجود عَابِد، وَكَيف يقطع على انْقِطَاع المقدورات وَهِي(1/134)
لَا تتناهى، على أَنِّي قد قَرَأت بِخَط عَليّ بن عقيل مِمَّا أثْبته من خواطره السانحة قَالَ: أقدر معاتبة على بادرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله: " إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة لَا تعبد " فَأَقُول: يَا مُحَمَّد، أَنا لم أخرجك عَن كونك رَسُولا مُتبعا بقعودهم عَنْك يَوْم عمْرَة الْقَضَاء، أفأخرج أَنا أَن أكون معبودا بهلاكهم. فَهَذِهِ زلَّة عَالم هَذَا كَلَامه، وَهَذَا عِنْدِي فِي غَايَة الْقبْح، وَنسبَة الزلل إِلَى رَسُول الله فِي مثل هَذَا فَوق الْقَبِيح.
ثمَّ قد أسلم بِمَكَّة خلق كثير فِي ثَلَاث عشرَة سنة من النُّبُوَّة، ثمَّ فِي الْمَدِينَة سنتَيْن، وامتد الْإِسْلَام فِي الْأَطْرَاف، وَوَجَبَت الْهِجْرَة، فجَاء الْخلق، فَأخذ من جملَة الْمُسلمين ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثَة عشر، وَخرج وتخلف عَنهُ عُثْمَان وَطَلْحَة وَسَعِيد بن زيد لأسباب، فقد كَانَ فِي الْمَدِينَة وَحدهَا خلق كثير لم يخرجُوا مَعَه غير من فِي الْبِلَاد، فَلَو هلك من مَعَه لبقي أضعافهم من الْمُسلمين، فَلم تَنْقَطِع الْعِبَادَة، غير أَن من قل علمه بِالنَّقْلِ ظن الَّذين مَعَه هم جَمِيع الْمُسلمين. وَمن الْجَائِز أَن يكون أَشَارَ بِالْعِصَابَةِ إِلَى جَمِيع الْمُسلمين، وَلَو كَانَ كَذَلِك لم يجز أَن يقطع على انْقِطَاع التَّعَبُّد بهلاكهم.
فَإِن قيل: فَإِذا استقبحت هَذَا وَهُوَ الْمَفْهُوم من ظَاهر الْكَلَام، فَمَا المُرَاد بِهِ عنْدك؟
فَالْجَوَاب: أَنا نتكلم فِي لفظ الحَدِيث قبل تَفْسِيره فَنَقُول: قد اخْتلفت أَلْفَاظه، فَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي أَفْرَاده من مُسْند ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ إِن تشأ لَا تعبد بعد الْيَوْم ". وَرَوَاهُ مُسلم فِي أَفْرَاده من حَدِيث(1/135)
أنس بن مَالك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّك إِن تشأ لَا تعبد فِي الأَرْض " وَعَادَة الروَاة ذكر الْمَعْنى الَّذِي يظنون أَنه الْمَعْنى، وَقد يغلطون فِي الْعبارَات عَنهُ، فَرُبمَا كَانَ حَدِيث عمر مغيرا مِمَّن قد ظن أَنه أَتَى بِالْمَعْنَى.
وعَلى لفظ حَدِيث ابْن عَبَّاس وَأنس يسهل الْجَواب، وَيكون الْمَعْنى: إِنَّك قد جعلت الْأُمُور منوطة بالأسباب، فَإِذا قطعت هَذَا السَّبَب فكأنك قد شِئْت قطع الْعِبَادَة. ويتضمن هَذَا شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَنَّك غَنِي عَن الْعِبَادَة وَنحن فُقَرَاء إِلَيْهَا. وَالثَّانِي: أننا نَخَاف هَلَاك الصَّالِحين فَيبقى أهل الْفساد، فيشمت بِنَا من قَالَ: {أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا} [الْبَقَرَة: 30] .
وَإِن نزلنَا على الأشد وتكلمنا على لفظ حَدِيث عمر، فَإِن الْقطع على نفي الْعِبَادَة بِعَدَمِ هَؤُلَاءِ مَحْمُول على أَنه مِمَّا اطلع عَلَيْهِ من الْغَيْب، وَكَانَ مِمَّا اطلع عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى لَا يبْعَث نَبيا بعده، وَلَا يخلق لحفظ قَاعِدَة دينه ونصرته سوى هَؤُلَاءِ، فَأخْبر عَن علم الْحق عز وَجل لَا عَن ظن نَفسه، فَكَأَنَّهُ يَقُول: إِذا هلك هَؤُلَاءِ، الناقلون عني وهم جُمْهُور الْمُؤمنِينَ وخيارهم وَلَا نَبِي بعدِي بطلت الْعِبَادَة؛ لِأَن الْعِبَادَة إِنَّمَا تكون بنشر الشَّرِيعَة. ويتضمن هَذَا القَوْل مِنْهُ نوع غيرَة، تقديرها: أغار أَلا تعبد.
وَلَا يجوز أَن يظنّ برَسُول الله مَا هُوَ منزه عَنهُ من الشطح والزلل فِي القَوْل، مَعَ شَهَادَة الْحق عز وَجل لَهُ بالعصمة فِي كَلَامه بقوله تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} [النَّجْم: 3] وَقَالَ لَهُ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ: أكتب مَا أسمع مِنْك؟ قَالَ " نعم " قَالَ: فِي السخط وَالرِّضَا؟(1/136)
قَالَ: " فِي السخط وَالرِّضَا، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لي أَن أَقُول إِلَّا حَقًا ".
وَقَول أبي بكر: كَذَلِك مُنَاشَدَتك رَبك. إِشَارَة إِلَى ترك الإلحاح وَاسْتِعْمَال الرِّفْق.
فَإِن قيل: أَفَكَانَ أَبُو بكر فِي ذَلِك الْمقَام أثبت من رَسُول الله؟
قيل: كلا، غير أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى مَا بِأَصْحَابِهِ من الْهم، فناب عَنْهُم فِي الدُّعَاء، وَكَانَت أول غَزْوَة قَاتل فِيهَا بالأنصار الَّذِي آووه، فَمَا أحب أَن يكون جَزَاء الْقَوْم على إحسانهم الْقَتْل. وَعلم أَن دعاءه مستجاب، فَلذَلِك ألح.
وَقَوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم} [الْأَنْفَال: 9] إِذْ من صلَة: {وَيبْطل الْبَاطِل} [الْأَنْفَال: 8] .
وَفِي {تَسْتَغِيثُونَ} قَولَانِ: أَحدهمَا تستنصرون. وَالثَّانِي: تستجيرون. وَالْفرق بَينهمَا أَن الْمُسْتَنْصر يطْلب الظفر، والمستجير يطْلب الْخَلَاص.
وَقَوله: {فَاسْتَجَاب لكم} أَي أجابكم. يُقَال: اسْتَجَابَ وَأجَاب بِمَعْنى، وأنشدوا:
(وداع دَعَا يَا من يُجيب إِلَى الندى ... فَلم يستجبه عِنْد ذَاك مُجيب)(1/137)
والإمداد: إِعْطَاء الشَّيْء بعد الشَّيْء. والمدد: العون.
فَأَما " مُردفِينَ " فَقَرَأَ جمَاعَة مِنْهُم أَبُو عَمْرو {مُردفِينَ} بِكَسْر الدَّال. قَالَ ابْن عَبَّاس: هم المتتابعون. وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي، تحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مُردفِينَ مثلهم، يُقَال: أردفت زيدا دَابَّتي، فَيكون الْمَفْعُول الثَّانِي محذوفا. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: جَاءُوا بعدكم. تَقول الْعَرَب: بَنو فلَان مردفونا: أَي يجيئون بَعدنَا.
وَقَرَأَ قوم مِنْهُم نَافِع {مُردفِينَ} بِفَتْح الدَّال. قَالَ الْفراء: فعل ذَلِك بهم وَالْمعْنَى أَن الله أرْدف الْمُسلمين بهم.
وَقَرَأَ أَبُو المتَوَكل " مُردفِينَ " بِفَتْح الرَّاء وَالدَّال مَعَ التَّشْدِيد. وَقَرَأَ أَبُو الجوزاء " مُردفِينَ " بِضَم الرَّاء وَكسر الدَّال مَعَ التَّشْدِيد. قَالَ الزّجاج: يجوز " مُردفِينَ " بِكَسْر الرَّاء مَعَ تَشْدِيد الدَّال. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: الأَصْل مرتدفين، فأدغمت التَّاء فِي الدَّال، فَصَارَت مُردفِينَ، لِأَنَّك طرحت حَرَكَة التَّاء على الرَّاء وَكسرت الرَّاء لالتقاء الساكنين، وَضمّهَا نَافِع لضم الْمِيم.
وَقَوله: أقدم حيزوم: وَهُوَ خطاب الْملك لفرسه. وحيزوم: اسْم الْفرس.
وَقَوله: خطم أَنفه: أَي أُصِيب بضربة أثرت فِيهِ.
والصناديد: الْأَشْرَاف، واحدهم صنديد.(1/138)
وَقَوله: " أبْكِي للَّذي عرض عَليّ أَصْحَابك من أَخذهم الْفِدَاء، لقد عرض عَليّ عَذَابهمْ ".
إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ عرض عَلَيْهِ عَذَابهمْ وَلم يتَقَدَّم إِلَيْهِم فِي ذَلِك نهي؟
فَالْجَوَاب: أَنهم اخْتَارُوا الْفِدَاء وَهُوَ أَهْون الرأيين، فعوتبوا على اخْتِيَار الأوهن، قَالَه ابْن جرير.
فَإِن قيل: كَيفَ أضَاف الْأَمر إِلَى المشيرين إِلَيْهِ وَقد مَال هُوَ إِلَى ذَلِك الرَّأْي؟ وَلم اسْتحق المشير الْعَذَاب؟
فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ظهر مِنْهُ الْميل إِلَى الْفِدَاء وَلم يَأْمر بِهِ، فَاسْتحقَّ الْعَذَاب من تعجل الْأَخْذ من غير أَمر.
وَالثَّانِي: أَن الْعَذَاب لمن طلب عرض الدُّنْيَا من الْقَوْم لَا لمن أَشَارَ، وَلذَلِك جَاءَ التوبيخ بقوله تَعَالَى: {تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا وَالله يُرِيد الْآخِرَة} ثمَّ أخْبرهُم بالمانع من تعذيبهم على مَا فعلوا بقوله: {لَوْلَا كتاب من الله سبق} [الْأَنْفَال: 68] .
وَفِيه أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: لَوْلَا أَن الله كتب فِي أم الْكتاب أَنه سيحل لكم الْغَنَائِم لمسكم فِيمَا تعجلتم من الْغَنَائِم وَالْفِدَاء قبل أَن تؤمروا بذلك عَذَاب عَظِيم. رَوَاهُ ابْن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: لَوْلَا كتاب من الله سبق أَنه لَا يعذب من أَتَى ذَنبا على(1/139)
جَهَالَة لعوقبتم، رَوَاهُ عَطاء عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّالِث: لَوْلَا مَا سبق لأهل بدر أَنه لَا يعذبهم لعذبتم. قَالَه الْحسن.
وَالرَّابِع: لَوْلَا مَا سبق من أَنه يغْفر لمن عمل الْخَطَايَا، ثمَّ علم مَا عَلَيْهِ فَتَابَ. قَالَه الزّجاج.
فَتخرج على هَذِه الْأَقْوَال فِي معنى الْكتاب قَولَانِ: أَحدهمَا أَنه كتاب مَكْتُوب. وَالثَّانِي: أَنه الْقَضَاء.
فَلَمَّا نزل قَوْله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم} [الْأَنْفَال: 69] أخذُوا الْفِدَاء.
وَالْجَوَاب الثَّالِث: أَن يكون أضَاف الْعَذَاب إِلَيْهِم لعز قدره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا يُضَاف الْخَيْر إِلَى الله عز وَجل، وَالشَّر إِلَى إِبْلِيس، لَا لكَون الْقدر لم يشْتَمل الْأَمريْنِ، بل لحسن الْأَدَب بِالْإِضَافَة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} [النِّسَاء: 79] .
وَقَوله: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى} [الْأَنْفَال: 67] أصل الْأسر: الشد، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر " أُسَارَى ". قَالَ الْفراء: أهل الْحجاز يَقُولُونَ: أُسَارَى، وَأهل نجد أَكثر كَلَامهم أسرى، وَهُوَ أَجود الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَرَبيَّة؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة جريح وجرحى. قَالَ أَبُو عَمْرو: الْأُسَارَى: الَّذين شدوا، والأسرى فِي أَيدي الْعَدو، إِلَّا أَنهم لم يشدوا. وَقَالَ الزّجاج: " فعلى " جمع لكل مَا أُصِيب بِهِ النَّاس فِي أبدانهم وعقولهم،(1/140)
يُقَال: هَالك وهلكى، ومريض ومرضى، وسكران وسكرى، وَمن قَرَأَ " أُسَارَى " فَهُوَ جمع الْجمع، لِأَن جمع أَسِير أسرى، وَجمع أسرى أُسَارَى.
وَقَوله: (حَتَّى يثخن فِي الأَرْض) أَي يتَمَكَّن فِيهَا فيبالغ فِي قتل أعدائه. وَكَانَ هَذَا أول حَرْب، وَفِي الْمُسلمين ضعف وَقلة، فَلم يكن لاستبقاء الْأَعْدَاء وَجه.
78 - / 85 - الحَدِيث السَّابِع: كتب حَاطِب بن أبي بلتعة إِلَى أهل مَكَّة.
أما حَاطِب فَهُوَ من لخم وَكَانَ نازلا بِمَكَّة وَلَيْسَ من أَهلهَا، فَهَاجَرَ وَترك أَهله هُنَالك، فتقرب إِلَى الْقَوْم ليحفظوه فِي أَهله بِأَن أطلعهم على بعض أسرار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كيدهم وَقصد قِتَالهمْ، وَعلم أَن ذَلِك لَا يضر رَسُول الله لنصر الله عز وَجل إِيَّاه، وَهَذَا الَّذِي فعله أَمر يحْتَمل التَّأْوِيل، وَلذَلِك اسْتعْمل رَسُول الله حسن الظَّن. وَقَالَ فِي بعض الْأَلْفَاظ: " إِنَّه قد صدقكُم ".
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن حكم المتأول فِي اسْتِبَاحَة الْمَحْظُور خلاف حكم الْمُتَعَمد لاستحلاله من غير تَأْوِيل، وَدلّ على أَن من أَتَى مَحْظُورًا أَو ادّعى فِي ذَلِك مَا يحْتَمل التَّأْوِيل كَانَ القَوْل قَوْله فِي ذَلِك وَإِن كَانَ غَالب الظَّن بِخِلَافِهِ.(1/141)
وَقَول عمر: إِنَّه قد كفر، يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن عمر تَأَول قَوْله تَعَالَى: {لَا تَجِد قوما يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر يوادون من حاد الله وَرَسُوله} [المجادلة: 22] .
وَالثَّانِي: أَن يكون أَرَادَ كفر النِّعْمَة.
وَفِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق. وَهَذَا لِأَنَّهُ رأى صُورَة النِّفَاق. وَلما احْتمل قَول عمر وَكَانَ لتأويله مساغ لم يُنكر عَلَيْهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَنه الجاسوس الْمُسلم لَا يقتل. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يسْتَحق الْعقُوبَة المنكلة والتغريب إِلَى بعض الْآفَاق فِي وثاق. وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي: يُعَاقب ويسجن. وَقَالَ مَالك: يجْتَهد فِيهِ الإِمَام. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِذا كَانَ من ذَوي الهيئات كحاطب أَحْبَبْت أَن يتجافى عَنهُ، وَإِن لم يكن مِنْهُم كَانَ للْإِمَام أَن يعزره.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على جَوَاز النّظر إِلَى مَا هُوَ عَورَة من الْمَرْأَة بِموضع الضرورات لأَنهم فتشوا الْمَرْأَة.
وَقَوله: " اعْمَلُوا مَا شِئْتُم " لَيْسَ على الِاسْتِقْبَال، وَإِنَّمَا هُوَ للماضي، وَتَقْدِيره: أَي عمل كَانَ لكم فقد غفر. وَيدل على هَذَا شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَنه لَو كَانَ للمستقبل كَانَ جَوَابه فسأغفر. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ يكون إطلاقا فِي الذُّنُوب، وَلَا وَجه لذَلِك، ويوضح هَذَا أَن الْقَوْم خَافُوا من الْعقُوبَة فِيمَا بعد، فَقَالَ عمر: يَا حُذَيْفَة، هَل أَنا مِنْهُم؟(1/142)
79 - / 86 - الحَدِيث الثَّامِن: " من نَام عَن حزبه من اللَّيْل أَو عَن شَيْء مِنْهُ فقرأه مَا بَين صَلَاة الْفجْر وَصَلَاة الظّهْر كتب لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ من اللَّيْل ".
قد صحف بَعضهم فَقَالَ: من نَام عَن جزئه من الْجُزْء الَّذِي هُوَ الْقطعَة من الشَّيْء، وَإِنَّمَا هُوَ: عَن حزبه بِالْحَاء الْمُهْملَة الْمَكْسُورَة. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الحزب من الْقُرْآن: الْورْد، وَهُوَ شَيْء يفرضه الْإِنْسَان على نَفسه، يَقْرَؤُهُ كل يَوْم. وَيُقَال: الْقَوْم أحزاب: إِذا كَانُوا قطعا وفرقا، من كل نَاحيَة فرقة. وَقَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ: يَعْنِي بحزبه: جمَاعَة السُّور الَّتِي كَانَ يقْرؤهَا فِي صلَاتهم بِاللَّيْلِ، وكل جمَاعَة مؤتلفة أَو مُتَفَرِّقَة على شَيْء فَهِيَ حزب، وَمِنْه " الْأَحْزَاب ".
وَاعْلَم أَن مَا بَين الْفجْر إِلَى الظّهْر مُضَاف عِنْد الْعَرَب إِلَى اللَّيْل، يَقُولُونَ: كَيفَ كنت اللَّيْلَة؟ إِلَى وَقت الزَّوَال، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الْغَدَاة يَقُول فِي بعض الْأَيَّام: " هَل رأى أحد مِنْكُم اللَّيْلَة رُؤْيا " وَقد بنى أَبُو حنيفَة على هَذَا فَقَالَ: إِذا نوى صَوْم الْفَرْض قبل الزَّوَال صَحَّ، فَكَأَنَّهُ نوى من آخر اللَّيْل.
80 - / 87 - الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لأخْرجَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب ".(1/143)
قَالَ الْخَلِيل: جَزِيرَة الْعَرَب مَعْدِنهَا ومسكنها، وَإِنَّمَا قيل لَهَا جَزِيرَة؛ لِأَن بَحر الْحَبَش وبحر فَارس ودجلة والفرات قد أحَاط بهَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: جَزِيرَة الْعَرَب من أقْصَى عدن أبين إِلَى ريف الْعرَاق فِي الطول، وَأما الْعرض فَمن جدة وَمَا والاها من سَاحل الْبَحْر إِلَى أطرار الشَّام.
81 - / 88 - الحَدِيث الْعَاشِر: أَن رجلا تَوَضَّأ فَترك مَوضِع ظفر على قدمه، فَأَبْصَرَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " ارْجع فَأحْسن وضوءك " فَرجع فَتَوَضَّأ ثمَّ صلى.
قد احْتج بِهَذَا بعض أَصْحَابنَا فِي وجوب الْمُوَالَاة؛ لِأَن الْمُوَالَاة عندنَا شَرط فِي صِحَة الْوضُوء، وَهُوَ قَول مَالك، وَعَن أَحْمد لَيْسَ شرطا كَقَوْل أبي حنيفَة، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ. وَلَا خلاف فِي التَّفْرِيق الْيَسِير أَنه لَا يبطل، وَقد حد أَصْحَابنَا الْكثير: بِأَن يَأْتِي على الْعُضْو زمَان معتدل فِي الْحر وَالْبرد فينشف. وَوجه الْحجَّة فِي الحَدِيث أَن الرجل فهم من قَوْله: " أحسن وضوءك " إِعَادَة الْوضُوء، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: تعلم كَيفَ الْوضُوء، فَلَيْسَ مَا فعلت بِوضُوء.
82 - / 89 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر - قَالَ عمر فِي الضَّب: إِن رَسُول الله لم يحرمه. وَفِي لفظ: إِنَّمَا عافه رَسُول الله.(1/144)
الضَّب مَعْرُوف، وَهُوَ مُبَاح الْأكل، وعافه بِمَعْنى كرهه، ولكراهته لَهُ سببان:
أَحدهمَا: أَنه لم يتعود أكله، وَسَيَأْتِي فِي مُسْند ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي لحم الضَّب: " كلوا؛ فَإِنَّهُ حَلَال، وَلكنه لَيْسَ من طَعَامي ". وَفِي مُسْند خَالِد بن الْوَلِيد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الضَّب: أحرام هُوَ؟ قَالَ: " لَا، وَلكنه لَيْسَ فِي قومِي، فأجدني أعافه ".
وَالثَّانِي: أَنه خَافَ أَن يكون مِمَّن مسخ. وَسَيَأْتِي فِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بضب، فَأبى أَن يَأْكُل مِنْهُ وَقَالَ: " لَا أَدْرِي، لَعَلَّه من الْقُرُون الَّتِي مسخت ".
83 - / 90 - الحَدِيث الثَّانِي عشر: قَالَ أَبُو نَضرة: كَانَ ابْن عَبَّاس يَأْمر بِالْمُتْعَةِ، وَكَانَ ابْن الزبير ينْهَى عَنْهَا، فَذكرت ذَلِك لجَابِر بن عبد الله، فَقَالَ: على يَدي دَار الحَدِيث، تَمَتعنَا مَعَ رَسُول الله، فَلَمَّا قَامَ عمر قَالَ: إِن الله كَانَ يحل لرَسُوله مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَإِن الْقُرْآن قد نزل مَنَازِله، فَأتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة كَمَا أَمركُم الله، وأبتوا نِكَاح هَذِه النِّسَاء، فَلَنْ أُوتى بِرَجُل نكح امْرَأَة إِلَى أجل إِلَّا رَجَمْته بِالْحِجَارَةِ. وَفِي لفظ: فَافْصِلُوا حَجكُمْ من عُمْرَتكُمْ؛ فَإِنَّهُ أتم لحجكم، وَأتم لعمرتكم.(1/145)
أما الْمُتْعَة فَإِنَّهَا كَانَت مُبَاحَة أول الْإِسْلَام، وصفتها أَن الرجل كَانَ ينْكح الْمَرْأَة بِشَيْء مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم، لَا بِعقد عِنْد الِاتِّصَال، وَلَا بِطَلَاق عِنْد الِانْفِصَال، ثمَّ نسخ هَذَا بِمَا سَيَأْتِي فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: أَن رَسُول الله نهى عَن مُتْعَة النِّسَاء يَوْم خَيْبَر. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند سُبْرَة بن معبد مَا يدل على أَنَّهَا نسخت عِنْد فتح مَكَّة، فقد وَقع الِاتِّفَاق على النّسخ وَإِن اخْتلف فِي الْوَقْت، غير أَن حَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام مقدم لثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن حَدِيث عَليّ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَحَدِيث سُبْرَة من أَفْرَاد مُسلم.
وَالثَّانِي: أَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام أعلم بأحوال رَسُول الله من غَيره.
وَالثَّالِث: أَنه أثبت تَقْدِيمًا فِي الزَّمَان خَفِي على غَيره.
فكأنهم استعملوا عِنْد فتح مَكَّة مَا كَانُوا أبيحوه من غير علم بالناسخ أَنه قد وَقع، فنهاهم. وَأما فَتْوَى ابْن عَبَّاس فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو من أَمريْن: إِمَّا أَن يكون النَّاسِخ مَا وصل إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَن يكون تَأَول النّسخ فِي حق الْمُضْطَر إِلَى ذَلِك، وَهُوَ مَذْهَب مَتْرُوك.
وَقَول جَابر: على يَدي دَار الحَدِيث: أَي بمشاهدتي وحضوري جرى ذَلِك.
وَقَوله: فَأتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة: اخْتلف الْعلمَاء فِي المُرَاد بإتمامها على(1/146)
أَرْبَعَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن يفصل بَينهمَا، فَيَأْتِي بِالْعُمْرَةِ فِي غير أشهر الْحَج، وَهُوَ الَّذِي أَرَادَهُ عمر، وَإِلَيْهِ ذهب الْحسن وَعَطَاء.
وَالثَّانِي: أَن يحرم الرجل من دويرة أَهله، قَالَه عَليّ وَطَاوُس وَابْن جُبَير.
وَالثَّالِث: أَنه إِذا شرع فِي أَحدهمَا لم يفسخه حَتَّى يتم، قَالَه ابْن عَبَّاس.
وَالرَّابِع: أَنه فعل مَا أَمر الله فيهمَا، قَالَه مُجَاهِد.
قَوْله: أبتوا نِكَاح هَذِه النِّسَاء. الْبَتّ: الْقطع. وَالْمعْنَى: أمضوه إِمْضَاء لَا اسْتثِْنَاء فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ إِلَى أجل كَانَ غير دَائِم. قَالَ الزّجاج: يُقَال: بت الحكم وأبته: إِذا قطعه.
وَاعْلَم أَن إحكام أَمر النِّكَاح لَازم، وَلذَلِك تواعد على الْمُتْعَة بِالرَّجمِ، بِخِلَاف فصل الْحَج من الْعمرَة؛ فَإِنَّهُ الْأَفْضَل عِنْد قوم، وَجَائِز عِنْد آخَرين.
وَرُبمَا توهم من لَا علم لَهُ أَن عمر نهى عَن الْمُتْعَة لمصْلحَة رَآهَا، وَهَذَا لَا يجوز لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يُغير شرع رَسُول الله، وَلَوْلَا أَنه ثَبت عِنْده النَّاسِخ مَا قَالَ.
وَالثَّانِي: أَنه لَو كَانَ على وَجه الْمصلحَة مَا تواعد عَلَيْهِ بِالرَّجمِ.(1/147)
84 - / 91 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: قَالَ عمر: إِن رَسُول الله يرينا مصَارِع أهل بدر بالْأَمْس، يَقُول: " هَذَا مصرع فلَان غَدا إِن شَاءَ الله، وَهَذَا مصرع فلَان إِن شَاءَ الله " فو الَّذِي بَعثه بِالْحَقِّ مَا أَخطَأ الْحُدُود الَّتِي حَدهَا رَسُول الله.
المصرع: مَوضِع المصروع، وَهُوَ الْملقى على الأَرْض، يُقَال: صرعت الرجل: إِذا أَلقيته، وَرجل صريع ومصروع.
وإخبار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك من أعظم المعجزات الدَّالَّة على صدقه، لِأَنَّهُ أخبر بِمَا يكون، فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَقَوله: مَا أَنْتُم بأسمع لما أَقُول مِنْهُم. إِن قيل: كَيفَ أخبر بسماعهم وَقد قَالَ عز وَجل: {إِنَّك لَا تسمع الْمَوْتَى} [النَّمْل: 80] ؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن الله تَعَالَى أحياهم لَهُ، فَسَمِعُوا كَلَامه إِكْرَاما لَهُ وإذلالا لَهُم، هَذَا قَول قَتَادَة. وعَلى هَذَا القَوْل ردَّتْ أَرْوَاحهم وَقت خطابه، كَمَا ترد الرّوح إِلَى الْمَيِّت عِنْد سُؤال مُنكر وَنَكِير، وَلذَلِك قَالَ: " إِنَّهُم ليسمعون قرع نعالكم إِذا وليتم مُدبرين ".
وَالثَّانِي: أَن الله تَعَالَى أوصل صداه إِلَى أَرْوَاحهم، وَإِنَّمَا الْبدن آلَة، وَالله قَادر أَن يُوصل إِلَى الرّوح بِآلَة أُخْرَى، وَبِغير آلَة.(1/148)
85 - / 92 - الحَدِيث الرَّابِع عشر: لقد رَأَيْت رَسُول الله يظل الْيَوْم يلتوي مَا يجد دقلا يمْلَأ بِهِ بَطْنه.
يُقَال " ظلّ فلَان يفعل كَذَا: إِذا فعله بِالنَّهَارِ، وَبَات يفعل كَذَا إِذا فعله بِاللَّيْلِ.
ويلتوي: يتثنى من الْجُوع.
والدقل من التَّمْر: أردؤه.
وَإِنَّمَا جرى هَذَا على رَسُول الله لثَلَاثَة أَشْيَاء:
أَحدهَا: أَن الْبلَاء يلصق بالأقوياء، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " نَحن معاشر الْأَنْبِيَاء أَشد النَّاس بلَاء، ثمَّ الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه ".
وَالثَّانِي: ليتأسى بِهِ الْفُقَرَاء فيطيب عيشهم، وَلِهَذَا الْمَعْنى أَمر النَّاس بالتجرد عَن الْمخيط عِنْد الْإِحْرَام لِئَلَّا ينكسر قلب الْفَقِير.
وَالثَّالِث: ليَكُون ذَلِك أقوى دَلِيل على صدقه فِيمَا جَاءَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا الصدْق لطلب الدُّنْيَا، فصبره على الْفقر من أقوى أَدِلَّة صدقه.
86 - / 93 - الحَدِيث الْخَامِس عشر: أَن نَافِع بن الْحَارِث لَقِي عمر بعسفان، وَكَانَ عمر يَسْتَعْمِلهُ على مَكَّة، فَقَالَ: من اسْتعْملت على أهل الْوَادي؟ فَقَالَ: ابْن أَبْزَى فَقَالَ: وَمن ابْن أَبْزَى؟ فَقَالَ: مولى من موالينا. فَقَالَ: أستخلفت عَلَيْهِم مولى؟ فَقَالَ: إِنَّه قَارِئ لكتاب الله، عَالم بالفرائض. فَقَالَ عمر: أما إِن نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد قَالَ: " إِن(1/149)
الله يرفع بِهَذَا الْكتاب أَقْوَامًا وَيَضَع بِهِ آخَرين ".
أما نَافِع فَلَيْسَ كَمَا نسبه الْحميدِي، إِنَّمَا هُوَ نَافِع بن عبد الْحَارِث، كَذَلِك ذكره مُحَمَّد بن سعد فِي مَوَاضِع، وَذكره ابْن أبي خَيْثَمَة، وَالْبُخَارِيّ فِي " التَّارِيخ ".
وَأما ابْن أَبْزَى فاسمه عبد الرَّحْمَن، وَهُوَ مولى نَافِع.
وَقَوله: إِن الله يرفع بِهَذَا الْكتاب - يَعْنِي الْقُرْآن - أَقْوَامًا. أَرَادَ يرفع حافظيه والعاملين بِهِ، وَيَضَع المضيعين لحقه، المفرطين فِي أمره.
87 - / 94 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: قَالَ عقبَة بن عَامر: كَانَت علينا رِعَايَة الْإِبِل، فَجَاءَت نوبتي، فروحتها بعشي.
قَوْله: جَاءَت نوبتي: كَانُوا يتناوبون فِي رعي الْإِبِل. وَقَوله: فروحتها: الرواح: من زَوَال الشَّمْس إِلَى اللَّيْل وَكَذَلِكَ الْعشي، إِلَّا أَنه أَرَادَ بالْعَشي هَاهُنَا أَوَاخِر الْوَقْت. وَهُوَ الْمسَاء. وَيُقَال: أَرحْنَا إبلنا: أَي رددناها وَقت الرواح. والمراح: حَيْثُ تأوي الْمَاشِيَة بِاللَّيْلِ.
وَقَوله: " فَيحسن وضوءه " إِحْسَان الْوضُوء: إِتْمَامه.
وَقَوله: " يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يقبل عَلَيْهِمَا بِقَلْبِه وَوَجهه " الإقبال بِالْوَجْهِ: ترك الِالْتِفَات وَالنَّظَر إِلَى مَوضِع السُّجُود، وبالقلب: قطع الْفِكر عَنهُ(1/150)
فِيمَا سوى الْعِبَادَة.
وَقَوله: آنِفا. قَالَ الزّجاج: آنِفا: بِمَعْنى السَّاعَة، وَهُوَ من قَوْلك استأنفت الشَّيْء: إِذا ابتدأته. وروضة أنف: لم ترع، فلهَا أول مرعى. وَقَالَ أَبُو عمر غُلَام ثَعْلَب: معنى آنِفا: مذ سَاعَة.
وإسباغ الْوضُوء: إِتْمَامه.
فَإِن قيل: أَيجوزُ أَن يقطع بِالْجنَّةِ لمن صلى رَكْعَتَيْنِ أحضر فيهمَا قلبه، لقَوْله: " وَجَبت لَهُ الْجنَّة "؟
فَالْجَوَاب: أَنا لَا نقطع لأحد بِعَيْنِه؛ لِأَنَّهُ رُبمَا لم يَأْتِ بالحضور الْمَطْلُوب كَمَا يَنْبَغِي، وَرُبمَا وَجَبت الْجنَّة لشخص ثمَّ حَال بَينه وَبَينهَا عمل من أَعماله القباح، وَلَكنَّا نرجوها لَهُ.
88 - / 95 - الحَدِيث السَّابِع عشر: قَالَ يعلى بن أُميَّة: قلت: لعمر: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا} [النِّسَاء: 101] فقد أَمن النَّاس. فَقَالَ: عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ، فَسَأَلت رَسُول الله عَن ذَلِك، فَقَالَ: " صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم، فاقبلوا صدقته ".
الْجنَاح: الْإِثْم. وَالْقصر: النَّقْص. والفتنة: الْقَتْل.
وَفِي هَذَا الحَدِيث ثَلَاثَة أوجه.
أَحدهَا: أَنه قد كَانَ الحكم مُتَعَلقا بالخوف، فَلَمَّا زَالَ الْخَوْف أبقى الله حكم الْقصر على وَجه التَّخْفِيف عَن الْمُسَافِر، فَيكون هَذَا من(1/151)
الْأَحْكَام الَّتِي نطيت بِسَبَب، ثمَّ زَالَ السَّبَب وَبَقِي الحكم، كالرمل.
وَالثَّانِي: أَن الْآيَة إِنَّمَا نزلت على غَالب أسفار رَسُول الله، وأكثرها لم يخل من الْخَوْف، وَنَحْو هَذَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا} [النُّور: 33] فَخرج النَّهْي على صفة السَّبَب وَإِن لم يكن شرطا فِيهِ، لِأَنَّهُنَّ كن يردن التحصن.
وَالثَّالِث: أَن تحمل على معنى " إِن " كَقَوْلِه تَعَالَى: {وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا إِن كُنْتُم مُؤمنين} [الْبَقَرَة: 278] وَقَوله: {وَأَنْتُم الأعلون إِن كُنْتُم مُؤمنين} [آل عمرَان: 139] وَاعْلَم أَن الْمُسَافِر مُخَيّر بَين الْإِتْمَام وَالْقصر، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وَعَن أبي حنيفَة يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْقصر وَلَا يجوز لَهُ الْإِتْمَام، وَعَن أَصْحَاب مَالك كالمذهبين.
ومستند هَذَا الْخلاف أَن الْقصر رخصَة عندنَا وَعند الشَّافِعِي، إِلَّا أَنه مَعَ كَونه رخصَة فَهُوَ عندنَا أفضل من الْإِتْمَام، وَهَذَا أحد قولي الشَّافِعِي. وَعند أبي حنيفَة أَنه عَزِيمَة. وَيدل على قَوْلنَا قَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح} والجناح إِنَّمَا يرفع فِي الْمُبَاح لَا فِي الْوَاجِب. ثمَّ لَو كَانَ الأَصْل رَكْعَتَيْنِ لم يكن لقَوْله: " صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم " وَجه.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي مُدَّة السّفر الَّتِي يجوز فِيهِ الْقصر، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: أَقَله سِتَّة عشر فرسخا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: أَقَله مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام سير الْإِبِل. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: مرحلة يَوْم. وَقَالَ دَاوُد: يجوز الْقصر فِي السّفر الطَّوِيل والقصير.
فَأَما مُدَّة الْإِقَامَة الَّتِي إِذا نَوَاهَا بِبَلَدِهِ أتم الصَّلَاة، وَإِن نوى أقل مِنْهَا قصر: فَقَالَ أَصْحَابنَا: إِقَامَة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين صَلَاة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة:(1/152)
إِقَامَة خَمْسَة عشر يَوْمًا. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِقَامَة أَرْبَعَة أَيَّام.
وَعِنْدنَا أَن الْقصر إِنَّمَا يُبَاح للْمُسَافِر إِذا كَانَ سَفَره مُبَاحا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَدَاوُد: يجوز لَهُ إِن لم يكن سَفَره مُبَاحا. ووافقنا مَالك فِي أَنه لَا يجوز للعاصي بِسَفَرِهِ الْفطر وَلَا الْقصر، وَقَالَ: يجوز لَهُ أكل الْميتَة.
فَإِن قَالَ لنا قَائِل: كَيفَ تمْنَعُونَ الْمُضْطَر الْميتَة حَتَّى يَمُوت؟
قُلْنَا: نَحن نقُول لَهُ: تب وكل.
وَقَوله: " صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم " أَي أنعم بذلك كَمَا ينعم الْمُتَصَدّق، فَهُوَ كَقَوْلِه: {وَتصدق علينا} [يُوسُف: 88] . وَفِي هَذَا الحَدِيث رد على من نهى أَن يُقَال: اللَّهُمَّ تصدق علينا، فَإِنَّهُ قد روى سعيد بن مَنْصُور فِي كتاب " السّنَن " عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَن رجلا قَالَ: تصدق عَليّ تصدق الله عَلَيْك بِالْجنَّةِ. فَقَالَ: إِن الله لَا يتَصَدَّق، وَلَكِن يَجْزِي المتصدقين. وروى أَيْضا أَن مُجَاهدًا قَالَ: لَا تقل تصدق عَليّ، فَإِنَّمَا يتَصَدَّق من يَبْتَغِي الثَّوَاب. وَاعْلَم أَنَّهُمَا إِنَّمَا قَالَا هَذَا بِمُقْتَضى الْعرف وَلم يَقع إِلَيْهِمَا الحَدِيث.
89 - / 96 - الحَدِيث الثَّامِن عشر: عَن جُبَير بن نفير قَالَ: خرجت مَعَ شُرَحْبِيل بن السمط إِلَى قَرْيَة على سَبْعَة عشر أَو ثَمَانِيَة عشر ميلًا،(1/153)
فصلى رَكْعَتَيْنِ فَقلت لَهُ، فَقَالَ: رَأَيْت عمر بن الْخطاب صلى بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ، فَقلت لَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أفعل كَمَا رَأَيْت رَسُول الله يفعل. أما الْقرْيَة فاسم لما يجمع جمَاعَة من النَّاس، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْجمع.
وَأما الْميل فَقَالَ ابْن فَارس: الْميل من الأَرْض قدر مد الْبَصَر.
وَلَا يَخْلُو حَال شُرَحْبِيل من أَمريْن: إِمَّا أَن يكون هَذَا الْمِقْدَار غَايَة سَفَره، فَيكون مِمَّن يرى قصر الصَّلَاة فِي السّفر الْقصير، أَو أَن يكون خرج إِلَى سفر طَوِيل، فَلَمَّا وصل هَذِه الْقرْيَة قصر.
وَقَوله: رَأَيْت عمر صلى بِذِي الحليفة: يُرِيد أَنه قصر فِي السّفر.
90 - / 97 - الحَدِيث التَّاسِع عشر: " إِذا قَالَ الْمُؤَذّن: الله أكبر الله أكبر: فَقَالَ أحدكُم: الله أكبر الله أكبر ... " فَذكر الْأَذَان إِلَى أَن قَالَ عِنْد الحيعلة: " لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه " وَقَالَ فِي آخِره: " فَقَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، من قلبه دخل الْجنَّة ".
قَالَ ثَعْلَب: قَالَ اللغويون: وَمعنى الله أكبر: الله أكبر، وَاحْتَجُّوا بقول الفرزدق:
(إِن الَّذِي سمك السَّمَاء بنى لنا ... بَيْتا دعائمه أعز وأطول)
قَالَ: وَقَالَ النحويون كالكسائي وَالْفراء: مَعْنَاهُ الله أكبر من كل(1/154)
شَيْء، فحذفت من، كَمَا تَقول: أَبوك أفضل، أَي من غَيره وَاحْتَجُّوا بقول الشَّاعِر:
(إِذا مَا ستور الْبَيْت أرخين لم يكن ... سراج لنا إِلَّا ووجهك أنور)
وَمعنى أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله: أعلم وَأبين.
فَأَما معنى حَيّ على الصَّلَاة فَقَالَ الْفراء: هلموا إِلَى الصَّلَاة وَأَقْبلُوا عَلَيْهَا. وَفتحت الْيَاء من حَيّ لسكونها وَسُكُون الْيَاء الَّتِي قبلهَا، كليت وَلَعَلَّ.
والفلاح: الْفَوْز.
وَإِنَّمَا يُقَال عِنْد هَذَا: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَلَا يُقَال كَمَا قَالَ المؤذنون؛ لِأَن مَضْمُون هَذَا الْكَلَام دُعَاء الْمُصَلِّي، فَلَا يُجيب بِمثلِهِ.
وَمعنى لَا حول: لَا حِيلَة. يُقَال: مَا للرجل حول وَلَا حِيلَة وَلَا احتيال.
91 - / 98 - الحَدِيث الْعشْرُونَ: قَالَ عمر: قسم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسما فَقلت: يَا رَسُول الله لغير هَؤُلَاءِ أَحَق بِهِ مِنْهُم. قَالَ: " إِنَّهُم خيروني بَين أَن يَسْأَلُونِي بالفحش، أَو يبخلوني، وَلست بباخل ".
الْقسم بِفَتْح الْقَاف مصدر قسمت، وبكسرها: الْحَظ والنصيب، يُقَال: هَذَا قسمك، وَهَذَا قسمي.(1/155)
وَالْفُحْش: الزَّائِد فِي الْخُرُوج عَن حد الصَّوَاب، وكل شَيْء جَاوز قدره فَهُوَ فَاحش.
وَيُشبه أَن يكون هَؤُلَاءِ الَّذين أَعْطَاهُم من الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم.
وَقد نبه الحَدِيث على جَوَاز الْإِعْطَاء لحفظ الْعرض.
92 - / 99 - الحَدِيث الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: كَانَ عمر إِذا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَاد أهل الْيمن سَأَلَهُمْ: أفيكم أويس بن عَامر؟
أما الأمداد فقوم يجيئون بعد قوم.
واليمن سميت بذلك لِأَنَّهَا عَن يَمِين الْكَعْبَة.
وأويس تَصْغِير أَوْس، وَأَوْس اسْم للذئب، وأنشدوا:
(مَا فعل الْيَوْم أويس فِي الْغنم ... )
وَقرن مَفْتُوحَة الرَّاء: قَبيلَة. وَقرن بتسكين الرَّاء مَوضِع من مَوَاقِيت الْحَج.
وغبر النَّاس من الغابر: وَهُوَ الْمُتَأَخر عَمَّن تقدمه. والغبرات: البقايا. وَهَكَذَا سمعنَا هَذِه الْكَلِمَة وتفسيرها، وَقد ذكرهَا ابْن جرير فِي " تَهْذِيب الْآثَار " وَقَالَ: أكون فِي غثر النَّاس. قَالَ: وَهِي الْجَمَاعَة(1/156)
المختلطة من قبائل شَتَّى، يُقَال: أَقبلت غثيرة من النَّاس وغثراء مِنْهُم، ودهماء، وأوزاع، وأوباش، وأوشاب: وهم الْفرق.
وَفِي رِوَايَة أكون فِي خمار النَّاس: أَي فِي زحمتهم حَيْثُ أخْفى. وَإِنَّمَا أَرَادَ الخمول؛ لِأَن الْمُتَقَدّم مشتهر بِخِلَاف الْمُتَأَخر. والخمول إِلَى السَّلامَة أقرب.(1/157)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي عمر وَعُثْمَان بن عَفَّان
أسلم قَدِيما، وزوجه رَسُول الله ابْنَته رقية، فَلَمَّا مَاتَت زوجه أم كُلْثُوم، فَلَمَّا مَاتَت قَالَ: " لَو كَانَ عِنْدِي ثَالِثَة لزوجتها عُثْمَان ".
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله مائَة وَسِتَّة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة عشر حَدِيثا.
93 - / 100 - الحَدِيث الأول: أَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ سَأَلَ عُثْمَان فَقَالَ: أَرَأَيْت إِذا جَامع الرجل امْرَأَته وَلم يمن. قَالَ عُثْمَان: يتَوَضَّأ للصَّلَاة وَيغسل ذكره. وَقَالَ عُثْمَان: سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فِي هَذَا الحَدِيث تَقْدِيم وَتَأْخِير، تَقْدِيره: يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ للصَّلَاة، وَالْوَاو للْجمع لَا للتَّرْتِيب.
وَاعْلَم أَن هَذَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام، وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي بن كَعْب، وَفِي مُسْند أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَحْو هَذَا، إِلَّا(1/158)
أَنه نسخ بِمَا سَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع ثمَّ جهدها فقد وَجب الْغسْل ". وَبِمَا سَيَأْتِي فِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " إِذا جلس بَين شعبها الْأَرْبَع، وَمَسّ الْخِتَان الْخِتَان فقد وَجب الْغسْل ".
وروى رَافع بن خديج أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِهِ فناداه، فَخرج إِلَيْهِ وَمضى مَعَه حَتَّى أَتَى الْمَسْجِد، ثمَّ انْصَرف واغتسل، فَرَأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أثر المَاء، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَا نَبِي الله، سَمِعت نداءك وَأَنا على امْرَأَتي، فَقُمْت قبل أَن أنزل فاغتسلت، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنَّمَا المَاء من المَاء " ثمَّ قَالَ نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعْدَمَا انْصَرف: " إِذا جَاوز الْخِتَان الْخِتَان وَجب الْغسْل ".
94 - / 101 - الحَدِيث الثَّانِي: أَن عُثْمَان دَعَا بِإِنَاء فأفرغ على كفيه ثَلَاث مَرَّات فغلسهما.
أما غسل الْيَدَيْنِ ثَلَاثًا قبل إدخالهما الْإِنَاء فَسنة، فَإِن كَانَ قد قَامَ من نوم اللَّيْل فَهُوَ عندنَا وَاجِب، وَسَيَأْتِي ذكره.
وَأما الاستنثار فَتَارَة يُرَاد بِهِ الِاسْتِنْشَاق: وَهُوَ اجتذاب المَاء بِالنَّفسِ إِلَى بَاطِن الْأنف، وَتارَة يُرَاد بِهِ رمي مَا فِي الْأنف من الْأَذَى. والنثرة: الْأنف.(1/159)
وَقَوله: ثمَّ مسح بِرَأْسِهِ. احْتج بعض أَصْحَابنَا بقوله: وَمسح بِرَأْسِهِ، وَلم يقل ثَلَاثًا كَمَا قَالَ فِي المغسولات، على أَن تكْرَار الْمسْح لَا يسن، وَفِيه عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: يسن ثَلَاثًا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَالثَّانيَِة: لَا يسن، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك، وَالْأولَى أصح؛ فَإِنَّهُ قد روى مُسلم من حَدِيث عُثْمَان أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث حمْرَان وشقيق عَن عُثْمَان أَنه وصف وضوء رَسُول الله: فَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث حمْرَان وشقيق وَعبد الله بن جَعْفَر وَابْن دارة مولى عُثْمَان وَابْن الْبَيْلَمَانِي عَن أَبِيه، كلهم عَن عُثْمَان: أَنه حكى وضوء رَسُول الله: وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا.
وَالْأَخْذ بِهَذِهِ الزِّيَادَة وَهَذَا الْبَيَان أولى من الْأَخْذ بِأَمْر مُحْتَمل؛ لِأَن من لم يذكر فِي الْمسْح عددا يحْتَمل أَنه لم يحفظ الْعدَد، وَيحْتَمل أَن يكون أحَال بِهِ على الْعدَد الْمُتَقَدّم. ثمَّ لَو ثَبت أَنه مسح مرّة كَانَ ذَلِك لبَيَان الْإِجْزَاء. وَمَا رُوِيَ عَنهُ من التّكْرَار لَا يجوز أَن يُرِيد بِهِ الْإِجْزَاء لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الْإِجْزَاء يَقع بِدُونِهِ.
وَالثَّانِي: أَن الْإِجْزَاء قرين التقليل، فَثَبت أَنه للفضيلة.
وَقَوله: لم يحدث فِيهَا نَفسه: يُرِيد بِهِ حُضُور الْقلب فِي الصَّلَاة، واشتغال الْمصلى بتدبر التِّلَاوَة والخشوع.
وَقَوله: كَانَت صلَاته ومشيه إِلَى الْمَسْجِد نَافِلَة. أَي أَن الغفران قد(1/160)
حصل لَهُ بِالْوضُوءِ، فثواب صلَاته ومشيه زِيَادَة فِي الْفضل.
وَقَوله: لَا ينهزه إِلَّا الصَّلَاة: أَي لَا يحركه سواهَا.
وَأما النُّطْفَة فَهِيَ المَاء الَّذِي لَا كدر فِيهِ، وَالْجمع نطف. وَتَقَع النطف على الْقَلِيل وَالْكثير من المَاء.
وإفاضة المَاء: صبه.
وَقَوله: مَا أَدْرِي، أحدثكُم أَو أسكت. يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه استطعم هَذَا مِنْهُم أَن يسألوه ليحدثهم.
وَالثَّانِي: أَنه خَافَ أَن يتكلوا على هَذَا الثَّوَاب فيقتنعوا بِهِ عَن كَثْرَة الْأَعْمَال.
وَقَوله: مَا لم يُؤْت كَبِيرَة. يَعْنِي أَنَّهَا تكفر الصَّغَائِر. وَالْكَفَّارَة المغطية للذنوب.
95 - / 102 - الحَدِيث الثَّالِث: " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ فِي الْجنَّة مثله ".
قَوْله: " لله " يُرِيد بِهِ الْإِخْلَاص فِي الْفِعْل.
وَمن بنى مَسْجِدا فَكتب اسْمه عَلَيْهِ فَهُوَ بعيد من الْإِخْلَاص؛ لِأَن المخلص يَكْتَفِي بِرُؤْيَة الْمَعْمُول مَعَه. وَقد كَانَ حسان بن أبي سِنَان يَشْتَرِي أهل الْبَيْت فيعتقهم وَلَا يُخْبِرهُمْ من هُوَ.
وَقَوله: " بنى الله لَهُ فِي الْجنَّة مثله " لَيْسَ المُرَاد بِهِ فِي الْمِقْدَار،(1/161)
وَإِنَّمَا المُرَاد بني لَهُ بَيْتا، يدل عَلَيْهِ أَن أجر الْأَعْمَال يُضَاعف، قَالَ الله عز وَجل: {من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} [الْأَنْعَام: 160] ، وَقَول رَسُول الله: " من تصدق بِعدْل تَمْرَة من كسب طيب فَإِن الله يقبلهَا ثمَّ يُرَبِّيهَا حَتَّى تكون مثل الْجَبَل ".
96 - / 103 - الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
قَالَ ابْن الزبير: قلت لعُثْمَان: هَذِه الْآيَة الَّتِي فِي " الْبَقَرَة ": {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا} إِلَى قَوْله: {غير إِخْرَاج} [الْبَقَرَة: 240] قد نسختها الْأُخْرَى، فَلم تَكْتُبهَا؟ فَقَالَ: ندعها يَا ابْن أخي، لَا أغير شَيْئا مِنْهُ من مَكَانَهُ.
أما الْآيَة الناسخة لهَذِهِ الْآيَة فَهِيَ قَوْله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} [الْبَقَرَة: 234] وَظن ابْن الزبير أَن مَا ينْسَخ حكمه فَيَنْبَغِي أَلا يثبت، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فَإِن إثْبَاته فِي الْمُصحف يتَضَمَّن ثَلَاث فَوَائِد:
إِحْدَاهَا: أَن الله تَعَالَى لَو أَرَادَ نسخ لَفظه لرفعه، فقد رفع آيَات كَثِيرَة من الْمُصحف وصدور الحافظين.
وَالثَّانيَِة: أَن فِي تِلَاوَته ثَوابًا كَمَا فِي تِلَاوَة غَيره.
وَالثَّالِثَة: أَنه إِن كَانَ تثقيلا قد نسخ بتَخْفِيف عرف بتذكرة قدر اللطف، وَإِن كَانَ تَخْفِيفًا قد نسخ بتثقيل علم أَن المُرَاد انقياد النَّفس للأصعب أَن يظْهر مِنْهَا عِنْد ذَاك التَّسْلِيم.(1/162)
97 - / 106 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن الْمسور وَعبد الرَّحْمَن بن الْأسود قَالَا لِعبيد الله بن عدي بن الْخِيَار: مَا يمنعك أَن تكلم أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان فِي شَأْن أَخِيه الْوَلِيد بن عقبَة، فقد أَكثر النَّاس فِيهِ.
أما الْوَلِيد فَهُوَ أَخُو عُثْمَان لأمه؛ لِأَن أمه أروى بنت كريز بن ربيعَة تزَوجهَا عَفَّان بن أبي الْعَاصِ، فَولدت لَهُ عُثْمَان وَأُميَّة، ثمَّ تزَوجهَا عقبَة بن أبي معيط فَولدت لَهُ الْوَلِيد وَعمارَة وخالدا وَأم كُلْثُوم وَأم حَكِيم وهندا، وَأسْلمت أروى وَهَاجَرت وبايعت، وَمَاتَتْ فِي خلَافَة ابْنهَا عُثْمَان. وَأسلم الْوَلِيد يَوْم فتح مَكَّة.
وَأما مَا تكلم النَّاس فِي شَأْنه فَلِأَنَّهُ شرب: أخبرنَا الْمُبَارك بن عَليّ قَالَ: أخبرنَا شُجَاع بن فَارس قَالَ: أخبرنَا أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن أَحْمد الْأُشْنَانِي قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد الحمامي قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أبي قيس قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن مُحَمَّد الْقرشِي قَالَ حَدثنَا أَبُو خَيْثَمَة قَالَ: حَدثنَا وهب بن جرير قَالَ: حَدثنَا أبي قَالَ: بعث عُثْمَان على الْكُوفَة الْوَلِيد بن عقبَة - وَهُوَ أَخُوهُ لأمه - وَكَانَ الْوَلِيد يشرب الشَّرَاب، فصلى بِالنَّاسِ يَوْمًا صَلَاة الْغَدَاة وَهُوَ سَكرَان، فَلَمَّا فرغ قَالَ: أزديكم؟ فَعظم ذَلِك عِنْد النَّاس وأنكروه، فَخرج وَفد إِلَى عُثْمَان فأخبروه، وشهدوا عَلَيْهِ بالسكر، فَعَزله وَجلده الْحَد.
قلت: وَيَنْبَغِي أَن يحمل حَال الْوَلِيد على أَنه شرب من النَّبِيذ متأولا لَهُ، وظنه أَنه لَا يسكر فَسَكِرَ. وَقد أنعمنا الْكَلَام فِي وجوب تَنْزِيه(1/163)
الصَّحَابَة عَن الْإِقْدَام على الْحَرَام من غير تَأْوِيل فِي قصَّة " قدامَة " فِي مُسْند عمر.
وَقَول عبيد الله لعُثْمَان: كنت مِمَّن اسْتَجَابَ: أَي أجَاب. وَقَوله: هَاجَرت الهجرتين: أما الْهِجْرَة الأولى فَإلَى أَرض الْحَبَشَة، وَالثَّانيَِة إِلَى الْمَدِينَة. وَكَانَ السَّبَب فِي الْهِجْرَة إِلَى الْحَبَشَة أَن الْمُشْركين لما نصبوا لرَسُول الله الْعَدَاوَة وبالغوا فِي أَذَاهُ وأذى أَصْحَابه، فَمَنعه الله تَعَالَى بِعَمِّهِ أبي طَالب، أَمر أَصْحَابه بِالْخرُوجِ إِلَى أَرض الْحَبَشَة، وَقَالَ لَهُم: " إِن فِيهَا ملكا لَا يظلم النَّاس ببلاده، فتحرزوا عِنْده حَتَّى يأتيكم الله بفرج مِنْهُ " فَهَاجَرَ قوم، واستتر آخَرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا نزلت سُورَة " النَّجْم "، وسمعوا (تِلْكَ الغرانيق العلى) كفوا عَن أذاهم. وَهَذِه الْكَلِمَات أَعنِي: (تِلْكَ الغرانيق العلى. وَإِن شفاعتهن لترتجى) لَا يجوز أَن تكون جرت على لَفْظَة رَسُول الله، وَإِنَّمَا قَالَهَا بعض شياطين الْإِنْس، غير تِلَاوَة الرَّسُول، وسنوضح هَذَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَلما بلغ أهل الْحَبَشَة أَن الْمُشْركين قد كفوا عَن أَذَى الْمُسلمين أَقبلُوا إِلَى مَكَّة، فَلَقِيَهُمْ ركب، فَقَالُوا: إِنَّهُم قد عَادوا بالأذى لمُحَمد وَأَصْحَابه، فَدخل قوم مِنْهُم بجوار، وَعَاد أَكْثَرهم، فَبَالغ الْمُشْركُونَ فِي أذاهم، فَأذن لَهُم رَسُول الله فِي الْخُرُوج مرّة ثَانِيَة. وَعدد الَّذين خَرجُوا فِي الْمرة الأولى قَلِيل، وَإِنَّمَا خرج فِي الْمرة الثَّانِيَة خلق يزِيدُونَ على مائَة نفس بَين رجل وَامْرَأَة، وَقد أحصيتهم(1/164)
فِي كتابي الْمُسَمّى بالتلقيح.
وَقَوله: وَرَأَيْت هَدْيه: أَي سمته وطريقته.
وَقَوله: جلد رَسُول الله أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بكر أَرْبَعِينَ، وَعمر ثَمَانِينَ، وكل سنة.
فِي هَذَا إِشْكَال: وَهُوَ أَن يُقَال: كَيفَ يجوز أَن يَجْعَل فعل الصَّحَابِيّ سنة؟ وَكَيف سَاوَى بَين الْأَرْبَعين والثمانين؟
فَالْجَوَاب: أَنه سَيَأْتِي فِي مُسْند أنس: أَن رَسُول الله جلد بجريد النّخل نَحْو أَرْبَعِينَ، وَفعله أَبُو بكر، فَلَمَّا كَانَ عمر اسْتَشَارَ النَّاس، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن: أخف الْحُدُود ثَمَانُون، فَأمر بِهِ عمر.
وَبَيَان ذَلِك أَن رَسُول الله لم يحد فِي ذَلِك حدا يرجع إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُوده التَّأْدِيب والردع، فاتفق أَنه جلد نَحْو الْأَرْبَعين، فَلَمَّا تتايع النَّاس فِي شرب الْخمر رأى عمر الزِّيَادَة فِي الردع، وأصل الردع مسنون، فَكَذَلِك فَرعه، ثمَّ إِنَّمَا أطلقهُ بِعَدَد مَشْرُوع وَلم يقف بِرَأْيهِ على عدد، فَلذَلِك قَالَ عَليّ: وكل سنة.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: قَول عَليّ عِنْد الْأَرْبَعين: حَسبك، دَلِيل على أَن أصل الْحَد فِي الْخمر إِنَّمَا هُوَ أَرْبَعُونَ، وَمَا وَرَاءه تَعْزِير، وَللْإِمَام أَن يزِيد فِي الْعقُوبَة إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى ذَلِك. وَلَو كَانَت الثَّمَانُونَ حدا مَا كَانَ لأحد فِيهِ الْخِيَار. قَالَ: وَقَوله: وكل سنة؛ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " اقتدوا بالذين من بعدِي: أبي بكر وَعمر ".(1/165)
قلت: وَالَّذِي ذهبت إِلَيْهِ أَنا أصح مِمَّا قَالَ الْخطابِيّ، لِأَنَّهُ لَو ثَبت أَن الْأَرْبَعين هِيَ الْحَد مَا جَازَ تجاوزها، وَلَو كَانَ مَا بعْدهَا تعزيراً لم يبلغ عَددهَا؛ فَإِن التَّعْزِير لَا يرتقي عندنَا إِلَى حد الْحَد. قَالَ الْخرقِيّ من أَصْحَابنَا: لَا يُبَالغ بالتعزير أدنى الْحُدُود. على أَنه قد قَالَ مَالك: يفعل الإِمَام مَا يُؤَدِّيه اجْتِهَاده إِلَيْهِ وَإِن زَاد على الْحَد.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي عدد الضَّرْب فِي الْخمر: وَفِيه عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: ثَمَانُون، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك. وَالثَّانيَِة: أَرْبَعُونَ، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
وَقَول عَليّ: وَهَذَا أحب إِلَيّ؛ لِأَنَّهُ قد رُوِيَ عَن رَسُول الله أَنه ضرب نَحْو الْأَرْبَعين.
98 - / 107 - الحَدِيث الْخَامِس: عَن عبيد الله بن عدي أَنه دخل على عُثْمَان وَهُوَ مَحْصُور، فَقَالَ: إِنَّك إِمَام الْعَامَّة، وَقد نزل بك مَا ترى، وَهُوَ يُصَلِّي لنا إِمَام فتْنَة، وَأَنا أتحرج من الصَّلَاة مَعَه. فَقَالَ عُثْمَان: إِن الصَّلَاة أحسن مَا يعْمل النَّاس، فَإِذا أحسن النَّاس فَأحْسن مَعَهم، وَإِذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
وَقَوله: إِنَّك إِمَام الْعَامَّة. يَعْنِي الْعُمُوم.
وَقَوله: يُصَلِّي لنا إِمَام فتْنَة: أَي يؤمنا. وَكَانَ الَّذين خَرجُوا على عُثْمَان قد هجموا على الْمَدِينَة، وَعُثْمَان يخرج فَيصَلي بِالنَّاسِ وهم(1/166)
يصلونَ خَلفه شهرا، ثمَّ خرج فِي آخر جُمُعَة خرج فِيهَا فحصبوه حَتَّى وَقع عَن الْمِنْبَر وَلم يقدر أَن يُصَلِّي بهم، فصلى بهم يَوْمئِذٍ أَبُو أُمَامَة بن سهل بن حنيف. ثمَّ حصروه ومنعوه الصَّلَاة، فَكَانَ يُصَلِّي بهم ابْن عديس تَارَة، وكنانة بن بشر أُخْرَى، وهما من الْخَوَارِج على عُثْمَان، فبقوا على هَذَا عشرَة أَيَّام ثمَّ قَتَلُوهُ. وَفِي رِوَايَة أَنهم حصروه أَرْبَعِينَ لَيْلَة وَطَلْحَة يُصَلِّي بِالنَّاسِ. وَفِي رِوَايَة: أَن عَليّ بن أبي طَالب صلى بهم أَكثر تِلْكَ الْأَيَّام.
أخبرنَا الْمُبَارك بن عَليّ قَالَ: أخبرنَا شُجَاع بن فَارس قَالَ: أخبرنَا أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن الْأُشْنَانِي قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد بن عمر الحمامي قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي قيس قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر عبد الله ابْن مُحَمَّد الْقرشِي قَالَ: حَدثنَا دَاوُد بن عَمْرو قَالَ: حَدثنَا يُوسُف بن يَعْقُوب عَن عَتبه بن مُسلم قَالَ: إِن آخر خرجَة خرجها عُثْمَان يَوْم جُمُعَة، فَلَمَّا اسْتَوَى على الْمِنْبَر حصبه النَّاس، فَقَالَ رجل من غفار يُقَال لَهُ الجهجاه: وَالله لنغرينك إِلَى جبل الدُّخان، فَنزل، فحيل بَينه وَبَين الصَّلَاة، فصلى للنَّاس يَوْمئِذٍ أَبُو أُمَامَة بن سهل بن حنيف.
قَالَ الْقرشِي: وَحدثنَا أَبُو خَيْثَمَة قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن حَمَّاد بن زيد عَن يزِيد بن أبي حَازِم عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَن " جَهْجَاه " الْغِفَارِيّ أَخذ عَصا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عُثْمَان فَكَسرهَا بركبته، فَوَقَعت الْأكلَة فِي ركبته.(1/167)
قَالَ الْقرشِي: وَحدثت عَن كَامِل بن طَلْحَة قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة قَالَ: حَدثنَا يزِيد بن عَمْرو المغافري أَنه سمع أَبَا ثَوْر الفهمي قَالَ: قدمت على عُثْمَان بن عَفَّان فَإِذا بوفد أهل مصر، فَقلت: إِنِّي أرى وَفد أهل مصر قد رجعُوا جَيْشًا عَلَيْهِم ابْن عديس، فَصَعدَ ابْن عديس مِنْبَر رَسُول الله فصلى بهم الْجُمُعَة، فَقَالَ فِي خطبَته: أَلا إِن عبد الله بن مَسْعُود حَدثنِي أَنه سمع رَسُول الله يَقُول: أَلا إِن عُثْمَان أصل من عَيْبَة عَليّ قفلها، فَدخلت على عُثْمَان فَأَخْبَرته، فَقَالَ: كذب وَالله ابْن عديس، مَا سَمعهَا من ابْن مَسْعُود، وَلَا سَمعهَا ابْن مَسْعُود من رَسُوله الله قطّ.
أخبرنَا مُحَمَّد بن الْحسن وَإِسْمَاعِيل بن أَحْمد قَالَا: حَدثنَا ابْن النقور قَالَ: أخبرنَا المخلص قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عبد الله بن سيف قَالَ: حَدثنَا السّري بن يحيى قَالَ: حَدثنَا سيف بن عمر عَن مُبشر بن الفضيل عَن سَالم قَالَ: قلت لَهُ: كَيفَ صنع النَّاس بِالصَّلَاةِ خلف المصريين؟ قَالَ: كرهها كلهم إِلَّا الْأَعْلَام. فَإِنَّهُم خَافُوا على أنفسهم، فَكَانُوا يشهدونها إِذا شهدُوا، ويلوذون مِنْهَا بضياعهم إِذا تركُوا.
وَحدثنَا سيف عَن سهل بن يُوسُف عَن أَبِيه قَالَ: كره النَّاس الصَّلَاة خلف المصريين مَا خلا عُثْمَان؛ فَإِنَّهُ قَالَ: من دَعَا إِلَى الصَّلَاة فأجيبوه.
وَقَوله: وَأَنا أتحرج من الصَّلَاة مَعَه. معنى أتحرج: أتأثم: أَي أَخَاف الْإِثْم. وأصل الْحَرج الضّيق، وكل ضيق حرج وحرج. والحرجة: الشّجر الملتف.(1/168)
99 - / 108 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه ".
اخْتلف فِي هَذَا الحَدِيث إِمَامًا الْمُحدثين سُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة بن الْحجَّاج. وَرَوَاهُ شُعْبَة عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن سعد بن عُبَيْدَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن عُثْمَان. وتابع شُعْبَة قيس بن الرّبيع وَالْحكم بن ظهير وَحَفْص بن سُلَيْمَان الْأَسدي فِي آخَرين.
وَرَوَاهُ سُفْيَان عَن عَلْقَمَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن عُثْمَان، فَلم يذكر فِيهِ سعد بن عُبَيْدَة. وتابع سُفْيَان مسعر والجراح بن الضَّحَّاك، وَعَمْرو بن قيس الْملَائي، ومُوسَى الْفراء، وَمُحَمّد بن أبان، وَعُثْمَان ابْن مقسم، وَأَيوب بن جَابر، وَالربيع بن ركين فِي آخَرين.
وَصحح البُخَارِيّ كلتا الرِّوَايَتَيْنِ اعْتِمَادًا على إتقان الْإِمَامَيْنِ سُفْيَان وَشعْبَة، وحملا لِلْأَمْرِ على أَن عَلْقَمَة سَمعه من سعد بن عُبَيْدَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن، وسَمعه من أبي عبد الرَّحْمَن. فَكَانَ تَارَة يرويهِ عَن سعد عَن أبي عبد الرَّحْمَن، وَتارَة عَن أبي عبد الرَّحْمَن، فَأخْرجهُ البُخَارِيّ عَن حجاج بن الْمنْهَال عَن شُعْبَة، وَعَن أبي نعيم عَن سُفْيَان، وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا بالروايتين، وَأعْرض عَن إِخْرَاجه مُسلم لما رأى من الِاخْتِلَاف فِيهِ، ورأي البُخَارِيّ فِي ذَلِك أَسد.
وَقد روى هَذَا الحَدِيث يحيى بن سعيد الْقطَّان عَن سُفْيَان وَشعْبَة، كِلَاهُمَا عَن عَلْقَمَة عَن سعد بن أبي عبد الرَّحْمَن، فَيُقَال: إِنَّه وهم فِي هَذَا الحَدِيث على سُفْيَان.(1/169)
وَقد درج بعض الروَاة فِي هَذَا الحَدِيث كَلِمَات يظنّ من لَا يعلم أَنَّهَا مَرْفُوعَة، فَرَوَاهُ الْجراح بن الضَّحَّاك عَن عَلْقَمَة بن مرْثَد عَن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ عَن عُثْمَان قَالَ: قَالَ رَسُول الله: " خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه. وَفضل الْقُرْآن على سَائِر الْكَلَام كفضل الله على خلقه " وَذَاكَ أَنه مِنْهُ. فَهَذِهِ الزِّيَادَة يظنّ أَنَّهَا من كَلَام رَسُول الله، وَإِنَّمَا هِيَ من كَلَام أبي عبد الرَّحْمَن. وَقد بَين ذَلِك عُلَمَاء النَّقْل، وَلم تذكر فِي الصِّحَاح.
فَأَما تَفْسِير الحَدِيث: فَإِنَّهُ لما كَانَ الْقُرْآن الْعَزِيز أصل الْعُلُوم مَعَ كَونه كَلَام الله تَعَالَى، كَانَ أفضل الْعُلُوم.
فَإِن قيل: فأيما أفضل: تعلم الْقُرْآن أَو تعلم الْفِقْه؟
فَالْجَوَاب: أَن تعلم اللَّازِم مِنْهُمَا فرض على الْأَعْيَان، وَتعلم جَمِيعهَا فرض على الْكِفَايَة، فَإِذا قَامَ بِهِ قوم سقط الْفَرْض عَن البَاقِينَ، فقد اسْتَويَا فِي الْفَرِيضَة فِي الْحَالَتَيْنِ. فَإِذا فَرضنَا الْكَلَام فِي التزيد مِنْهُمَا على قدر الْوَاجِب فِي حق الْأَعْيَان، فالتشاغل بالفقه أفضل، وَذَاكَ رَاجع إِلَى حَاجَة الْإِنْسَان، لَا أَن الْفِقْه أفضل من الْقُرْآن، وَإِنَّمَا كَانَ الأقرأ فِي زمَان رَسُول الله هُوَ الأفقه، فَلذَلِك قدم الْقَارئ فِي الصَّلَاة.
100 - / 109 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أَن عُثْمَان قَالَ: أنْشدكُمْ الله،(1/170)
ألستم تعلمُونَ أَن رَسُول الله قَالَ: " من جهز جَيش الْعسرَة فَلهُ الْجنَّة " فجهزتهم؟ ألستم تعلمُونَ أَنه قَالَ: " من حفر بِئْر رومة فَلهُ الْجنَّة " فحفرتها؟ فصدقوه بِمَا قَالَ.
أما جَيش الْعسرَة فَفِي غَزْوَة تَبُوك، وَكَانَ قد بلغ رَسُول الله أَن الرّوم قد جمعت جموعا كَثِيرَة بِالشَّام، فندب رَسُول الله النَّاس وأعلمهم الْمَكَان الَّذِي يُرِيد لِيَتَأَهَّبُوا لَهُ. وَفِي هَذِه الْغُزَاة جَاءَ البكاءون، وفيهَا تخلف الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا. وَخرج النَّاس فِي حر شَدِيد، فَاشْتَدَّ بهم الْعَطش حَتَّى جعلُوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها وَيَشْرَبُونَ ماءها، وَكَانَ يركب الْبَعِير الْوَاحِد رجلَانِ أَو ثَلَاثَة. فَكَانَت الْعسرَة فِي المَاء وَالظّهْر وَالنَّفقَة، فَسُمي جَيش الْعسرَة بِمَا أَصَابَهُم. وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد حث النَّاس على تجهيز هَذَا الْجَيْش قبل خُرُوجهمْ، فَقَامَ عُثْمَان فَقَالَ: عَليّ مائَة بعير بأحلاسها وأقتابها. ثمَّ حض فَقَامَ عُثْمَان فَقَالَ: عَليّ مائَة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثمَّ حض فَقَامَ فَقَالَ كَذَلِك.
وَفِي حَدِيث أَن عُثْمَان جَاءَ يَوْمئِذٍ بِأَلف دِينَار فِي ثَوْبه، فصبها فِي حجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقلبها وَيَقُول: " مَا ضرّ عُثْمَان مَا فعل بعد هَذَا ".
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على جَوَاز نقل الحَدِيث بِالْمَعْنَى لمن يفهم(1/171)
الْمَعْنى؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " من يُجهز جَيش الْعسرَة " وَمَعْلُوم أَن هَذِه اللَّفْظَة لم يقلها رَسُول الله؛ لِأَنَّهُ فِي وَقت التَّجْهِيز لم يسم الْجَيْش بِهَذَا الِاسْم، وَإِنَّمَا لقوا فِي سفرهم شدَّة أوجبت تسميتهم بذلك، فروى عُثْمَان بِالْمَعْنَى، فَكَأَنَّهُ يَقُول: حث رَسُول الله على الْجَيْش الَّذِي سمي بِجَيْش الْعسرَة.
وَأما بِئْر رومة فبئر مَعْرُوفَة بِالْمَدِينَةِ.
101 - / 111 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لَا ينْكح الْمحرم وَلَا ينْكح وَلَا يخْطب ".
وَهَذَا دَلِيل على أَنه لَا يَصح أَن يعْقد الْمحرم عقد نِكَاح لنَفسِهِ وَلَا لغيره، فَإِن فعل فَالنِّكَاح بَاطِل، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: النِّكَاح صَحِيح.
وَأما الرّجْعَة فِي حَال الْإِحْرَام فَلَا تصح فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى تصح، وَهُوَ قَول مَالك، وَالشَّافِعِيّ.
فَأَما الْخطْبَة وَالشَّهَادَة على النِّكَاح فَيكْرَه عندنَا فِي حق الْمحرم. وَقد تَأَول الحنفيون هَذَا الحَدِيث على أَنه إِخْبَار عَن حَال الْمحرم؛ لِأَنَّهُ باشتغاله بالنسك لَا يتفرغ للنِّكَاح، وَهَذَا بَاطِل من ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن الْعلمَاء بِالْحَدِيثِ رَوَوْهُ: " لَا ينْكح الْمحرم " بِكَسْر الْحَاء على معنى النَّهْي.(1/172)
وَالثَّانِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يخبرنا بِمَا نعلم، وَقد علمنَا أَن الْمحرم مَشْغُول، وَإِنَّمَا تحمل أَلْفَاظه على الْفَوَائِد الشَّرْعِيَّة.
وَالثَّالِث: أَن أبان بن عُثْمَان رواي الحَدِيث أنكر على محرم أَرَادَ عقد النِّكَاح، وروى لَهُ هَذَا الحَدِيث. فَإِن عَارَضنَا الْخصم بِحَدِيث ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله تزوج مَيْمُونَة وَهُوَ محرم، فَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي مُسْنده إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
102 - / 112 - الحَدِيث الثَّانِي: أَن عمر بن عبيد الله اشْتَكَى عينه وَهُوَ محرم، فَأَرَادَ أَن يكحلها، فَنَهَاهُ أبان بن عُثْمَان، وَأمره أَن يضمدها بِالصبرِ، وحدثه عَن عُثْمَان عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَفْعَله.
وَفِي لفظ: خرجنَا مَعَ عُثْمَان، حَتَّى إِذا كُنَّا بِملك اشْتَكَى عمر ...
أما ملك فَهُوَ اسْم مَوضِع. وَإِنَّمَا أمره بِالصبرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطيب. وَقد رخص أَحْمد بن حَنْبَل للْمحرمِ فِي الْكحل الَّذِي لَا طيب فِيهِ، وَكره للْمحرمِ الإثمد.
وَقَالَ ابْن جرير فِي كتاب " تَهْذِيب الْآثَار ": وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على فَسَاد مَا يَقُوله أهل الغباوة من أهل التصوف من أَن التَّوَكُّل لَا يَصح لأحد عالج عِلّة فِي جسده بدواء، إِذْ ذَاك عِنْدهم طلب الْعَافِيَة من غير من بِيَدِهِ الْعَافِيَة والضر والنفع. وَفِي إِطْلَاق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْمحرمِ علاج(1/173)
عَيْنَيْهِ بِالصبرِ لدفع الْمَكْرُوه دَلِيل على أَن معنى التَّوَكُّل غير مَا قَالَه الَّذين ذكرنَا قَوْلهم، وَأَن للنَّاس أَن يعالجوا أجسامهم من الْعِلَل الْعَارِضَة لَهُم، وَأَن ذَلِك غير مخرج فَاعله من الرِّضَا بِقَضَاء الله عز وَجل. كَمَا أَن من عرض لَهُ كلب الْجُوع لم يُخرجهُ فزعه إِلَى الْغذَاء من التَّوَكُّل وَالرِّضَا بِالْقضَاءِ؛ لِأَن الله تَعَالَى لم ينزل دَاء إِلَّا أنزل لَهُ دَوَاء إِلَّا الْمَوْت. وَقد جعل أسبابا لدفع الْأَذَى، كَمَا جعل الْأكل سَببا لدفع الْجُوع، وَقد كَانَ قَادِرًا أَن يحيي خلقه بِغَيْر غذَاء، لكنه خلقهمْ ذَوي حَاجَة، لَا ينْدَفع عَنْهُم أَذَى الْجُوع إِلَّا بِالْأَكْلِ، فَكَذَلِك الدَّاء الْعَارِض.
103 - / 114 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن أَبَا بكر اسْتَأْذن على رَسُول الله وَهُوَ مُضْطَجع على فرَاشه، لابس مرط عَائِشَة.
المرط: قد سبق بَيَانه فِي مُسْند عمر.
وَقَوله: " اجمعي عَلَيْك ثِيَابك " أَي ضميها وزيدي فِي الاستتار بهَا وفزعت: بِمَعْنى تأهبت، للتحول من حَال إِلَى حَال.
104 - / 115 - الحَدِيث الْخَامِس: من صلى الْعشَاء فِي جمَاعَة فَكَأَنَّمَا قَامَ نصف اللَّيْل، وَمن صلى الصُّبْح فِي جمَاعَة فَكَأَنَّمَا صلى اللَّيْل كُله.
الْعشَاء: هِيَ الَّتِي تسميها النَّاس الْعَتَمَة. وَالْمرَاد من الحَدِيث: أَن من صلى فِي جمَاعَة كمن قَامَ اللَّيْل وَلم يصل فِي جمَاعَة.(1/174)
وَظَاهر قَوْله: " وَمن صلى الصُّبْح فِي جمَاعَة فَكَأَنَّمَا صلى اللَّيْل كُله " أَن هَذِه الصَّلَاة وَحدهَا تفي بِثَوَاب قيام اللَّيْل كُله؛ لِأَن مصليها فِي جمَاعَة يحْتَاج إِلَى الانتباه بِوَقْت يُمكنهُ فِيهِ التهيؤ للصَّلَاة وَإِدْرَاك الْجَمَاعَة، وَالنَّوْم حِينَئِذٍ مستلذ، قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَو كنت يَوْمًا كنت يَوْم وصالنا ... وَلَو كنت نوما كنت أغفية الْفجْر)
فَإِن الْعَادة لم تجر بِالنَّوْمِ قبلهَا، فَلذَلِك نَالَ مصلي الصُّبْح فِي جمَاعَة ضعف ثَوَاب من صلى الْعشَاء فِي جمَاعَة.
وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: فَكَأَنَّمَا صلى اللَّيْل من يُصَلِّي الْعشَاء وَالْفَجْر فِي جمَاعَة، فَتكون كل وَاحِدَة بِنصْف اللَّيْل.(1/175)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي الْحسن عَليّ بن أبي طَالب
أسلم وَهُوَ ابْن سبع سِنِين، وَلم يتَخَلَّف عَن مشْهد شهده رَسُول الله، إِلَّا أَنه خَلفه فِي أَهله فِي غَزْوَة تَبُوك، وَقَالَ لَهُ: " أَلا ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى " وَكَانَ كبراء الصَّحَابَة يرجعُونَ إِلَيْهِ فِي رَأْيه وَعلمه، حَتَّى كَانَ عمر يتَعَوَّذ من معضلة لَيْسَ لَهَا أَبُو حسن.
وَجُمْلَة مَا روى من الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسمِائَة وَسَبْعَة وَثَلَاثُونَ، مثل عمر، أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا.
105 - / 116 - الحَدِيث الأول: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طرقه وَفَاطِمَة لَيْلًا، فَقَالَ: " أَلا تصليان؟ ".
قَوْله: طرقه: مَعْنَاهُ آتَاهُ لَيْلًا، وكل من أَتَاك لَيْلًا فقد طرقك، وَسمي النَّجْم طَارِقًا فِي قَوْله: {وَالسَّمَاء والطارق} [فَاتِحَة الطارق] لِأَنَّهُ يطلع لَيْلًا.
وَقَوله: إِنَّمَا أَنْفُسنَا بيد الله. يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى: (وَالَّتِي لم(1/176)
تمت فِي منامها} [الزمر: 42] .
قَوْله: فَإِذا شَاءَ أَن يبعثنا. أَي يوقظنا. والبعث: إثارة الشَّيْء عَن مَكَانَهُ، فَتَارَة يذكر وَيُرَاد بِهِ الْإِحْيَاء، وَتارَة يُرَاد بِهِ الإيقاظ. وَيُقَال: بعثت النَّاقة: أَي أثرتها.
وَقَوله: وَلم يرجع إِلَيّ شَيْئا: أَي لم يجبني بِشَيْء.
وَقَوله: {وَكَانَ الْإِنْسَان أَكثر شَيْء جدلا} . قَالَ الزّجاج: الْجِدَال: الْمُبَالغَة فِي المناظرة وَالْخُصُومَة، وَهُوَ مَأْخُوذ من الجدل: وَهُوَ شدَّة الفتل. وَيُقَال للصقر أجدل لِأَنَّهُ أَشد الطير. وكل مَا يعقل من الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ يُجَادِل، وَالْإِنْسَان أَكثر هَذِه الْأَشْيَاء جدلا.
106 - / 117 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَ لي شَارف من نَصِيبي من الْمغنم يَوْم بدر.
الشارف: المسنة من النوق، وَمثلهَا الناب، وَالْجمع شرف ونيب، وَلَا يُقَال ذَلِك للذّكر.
وَقَوله: فَلَمَّا أردْت أَن أبتني فَاطِمَة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الأَصْل فِي هَذَا أَنه كَانَ من أَرَادَ الدُّخُول على أَهله ضرب عَلَيْهَا قبَّة، فَقيل لكل دَاخل بأَهْله بَان.(1/177)
والصواغ: الصَّائِغ
والوليمة: الدعْوَة. والعرس: طَعَام الْوَلِيمَة. وأعرس فلَان بأَهْله: بنى بهَا.
والأقتاب: مَا يوضع على ظُهُور الْإِبِل من أَدَاة أحمالها.
والغرائر جمع غرارة: وَهِي أكسية تجْعَل كالظروف لما يحمل فِيهَا.
وَجَبت: قطعت.
وبقرت: شقَّتْ وَفتحت.
وَالشرب بِفَتْح الشين: الْقَوْم يَجْتَمعُونَ للشراب. وبكسرها: النَّصِيب من المَاء، وَبِضَمِّهَا الْفِعْل.
والقينة: الْمُغنيَة. والغناء بِالْمدِّ: التطريب بالشعر. والغنى بِالْقصرِ، من المَال.
وَقَوْلها: يَا حمز، تُرِيدُ يَا حَمْزَة. وَقَوْلها للشرف: أَي انهض إِلَى الشّرف، تستدعيه أَن يَنْحَرهَا ليطعم أضيافه من لَحمهَا. والنواء: السمان. والني: الشَّحْم يُقَال: نَاقَة ناوية: إِذا كَانَ لَهَا شَحم.
وَقَوله: فَانْطَلَقت حَتَّى أَدخل على رَسُول الله: أَي حَتَّى دخلت، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى {افْعَل مَا تُؤمر} [الصافات: 102] أَي مَا أمرت.
وطفق: أَخذ فِي الْفِعْل.
والثمل: السَّكْرَان.
وَصعد الْبَصَر: رفع الْبَصَر.
ونكص: رَجَعَ. والقهقرى: الرُّجُوع على العقبين.(1/178)
وَقد احْتج بِهَذَا الحَدِيث بعض من يرى أَن طَلَاق السَّكْرَان لَا يَقع. وَقَالَ: لَو كَانَ لكَلَام حَمْزَة حكم لَكَانَ خُرُوجًا من الدّين.
وَأجِيب بِأَن الْخمر كَانَت حِينَئِذٍ مُبَاحَة، فَلَمَّا حرمت أوخذ شاربها بقوله.
وَعِنْدنَا فِي الصَّحِيح من الرِّوَايَتَيْنِ أَن طَلَاق السَّكْرَان يَقع، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة لَا يَقع، وَهُوَ مَذْكُور عَن الشَّافِعِي وَبَعض الْحَنَفِيَّة.
فَأَما ظِهَاره فَيَقَع فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَفِي الْأُخْرَى: لَا يَقع. وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ.
وَأما ردته وإسلامه فعندنا يَصح، وَلَا يُقَام عَلَيْهِ الْحَد حَتَّى يفِيق، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تصح ردته وَيصِح إِسْلَامه.
وَقَالَ أَصْحَابنَا: وَيتَخَرَّج فِي قتل السَّكْرَان وزناه وسرقته وقذفه وإيلائه وَمَا أشبه ذَلِك رِوَايَتَانِ.
107 - / 118 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: وضع عمر على سَرِيره.
يَعْنِي الْجِنَازَة الَّتِي يحمل عَلَيْهَا الْمَيِّت.
وتكنفه النَّاس: بِمَعْنى أحاطوا بِهِ واقتربوا مِنْهُ. وَيُقَال: اكتنفوه وتكنفوه.
وَيصلونَ: بِمَعْنى يدعونَ.(1/179)
وَالْعرب تذكر لفظتين بِمَعْنى، تُرِيدُ التَّأْكِيد كَقَوْل الشَّاعِر:
(00000000000000 ... وألفى قَوْلهَا كذبا ومينا)
قَوْله: فَلم يرعني: أَي مَا أزعجني عَن حَالي الَّتِي أَنا عَلَيْهَا إِلَّا ذَلِك.
والمنكب: مُجْتَمع رَأس الْعَضُد فِي الْكَتف.
وَقَوله: وَايْم الله. يُقَال: آيم الله بِفَتْح الْهمزَة، وَايْم الله بِكَسْرِهَا، وَأَصلهَا أَيمن الله، وأيمن الله جمع يَمِين، قَالَ أَبُو النَّجْم:
(يبري لَهَا من أَيمن وأشمل ... )
فحذفت النُّون، فَبَقيت ايم الله، وَإِنَّمَا حذفت لِأَن هَذِه الْكَلِمَة تسْتَعْمل فِي الْقسم كثيرا، فحذفت النُّون لكثرتها فِيهِ واختصاصها بِهِ.
108 - / 119 - الحَدِيث الرَّابِع: " خير نسائها مَرْيَم بنت عمرَان، وَخير نسائها خَدِيجَة " الْإِشَارَة بنسائها إِلَى أهل زمانها. ولعائشة زمَان غير زمَان خَدِيجَة؛ لِأَنَّهَا كَانَت عِنْد وَفَاة خَدِيجَة بنت خمس سِنِين، فَلَمَّا(1/180)
ارتقت إِلَى مقَام الْعلم والقرب من رَسُول الله كَانَت لَهَا مرتبَة أُخْرَى.
109 - / 120 - الحَدِيث الْخَامِس: أَن عليا قَالَ لِابْنِ عَبَّاس: إِن رَسُول الله نهى عَن مُتْعَة النِّسَاء يَوْم خَيْبَر، وَعَن أكل لُحُوم الْحمر الإنسية.
وَقد ذكرنَا الْمُتْعَة ونسخها فِي مُسْند عمر.
والحمر الإنسية: الَّتِي عِنْد الْإِنْس. وَفِي بعض الْأَلْفَاظ: " الْأَهْلِيَّة "، وَإِنَّمَا قيد وصفهَا لِأَن حمر الْوَحْش مُبَاحَة.
110 - / 121 - الحَدِيث السَّادِس: قَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: كنت رجلا مذاء، فَاسْتَحْيَيْت أَن أسَال رَسُول الله لمَكَان ابْنَته، فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: " يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ " وَفِي لفظ: " تَوَضَّأ وانضح فرجك ".
المذاء: الْكثير الْمَذْي، والمذي: مَاء رَقِيق يظْهر عِنْد اللَّمْس والسر والفكر، يُقَال: مذيت وأمذيت. وَحكمه عندنَا وجوب غسل الذّكر والأنثيين فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَإِنَّمَا ألحقنا الْأُنْثَيَيْنِ لِأَن أَبَا دَاوُد رَوَاهُ من طَرِيق آخر، وَفِيه " فليغسل ذكره وأنثييه ". وَقيل: إِنَّمَا أَمر بِغسْل الْأُنْثَيَيْنِ لِأَن المَاء الْبَارِد إِذا أصَاب الْأُنْثَيَيْنِ رد الْمَذْي وَكسر حِدته. وَكَانَ أَبُو بكر الْخلال من أَصْحَابنَا يَقُول: اسْتَقر قَول أَحْمد أَنه كالبول. وَهَذَا قَول أَكثر الْفُقَهَاء. والمنصور عندنَا أَنه نجس؛ لِأَنَّهُ أَمر فِيهِ بِالْغسْلِ.(1/181)
وَقَالَ ابْن عقيل: قد قيل إِنَّه من أَجزَاء الْمَنِيّ، فَيجب حِينَئِذٍ أَن يتَخَرَّج فِي نَجَاسَته رِوَايَتَانِ.
وَأما الودي فَهُوَ مَاء أَبيض يخرج عقيب الْبَوْل، وَحكمه حكم الْبَوْل.
والمذي والودي مخففان فِي اللَّفْظ، والمني مشدد.
وَقَوله: " وانضح فرجك " فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن المُرَاد بالنضح الْغسْل. وَالثَّانِي: رش المَاء ليدفع الوسواس.
111 - / 122 - الحَدِيث السَّابِع: اجْتمع عَليّ وَعُثْمَان بعسفان، فَكَانَ عُثْمَان ينْهَى عَن الْمُتْعَة أَو الْعمرَة، فَقَالَ لَهُ عَليّ: مَا تُرِيدُ إِلَى أَمر فعله رَسُول الله تنْهى النَّاس عَنهُ؟ فَقَالَ عُثْمَان " دَعْنَا عَنْك، قَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيع أَن أدعك. فَلَمَّا رأى ذَلِك عَليّ أهل بهما جَمِيعًا. وَفِي لفظ فَقَالَ: " لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة ".
اعْلَم أَنه لَا خلاف فِي جَوَاز التَّمَتُّع وَالْقرَان والإفراد. والتمتع: هُوَ أَن يَأْتِي الْإِنْسَان بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج ثمَّ يحجّ عَامه. وَالْقرَان: أَن يقرن بَينهمَا فِي إِحْرَامه. والإفراد: أَن يحجّ، فَإِذا أحرم بِالْعُمْرَةِ. وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الْأَفْضَل: فعندنا أَن التَّمَتُّع أفضل، وَهُوَ قَول عَليّ وَسعد وَعمْرَان بن حُصَيْن وَابْن عَبَّاس وَالْحسن وَعَطَاء وَمُجاهد(1/182)
فِي خلق كثير، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي الْقَدِيم، إِلَّا أَنهم لَا ينصرونه. وَعند أبي حنيفَة أَن الْقرَان أفضل. وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ الْإِفْرَاد.
ومنبع الْخلاف فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء:
أَحدهَا: اخْتِلَاف الرِّوَايَة عَن رَسُول الله فِي حجه: هَل تمتّع أَو قرن أَو أفرد، فَإِنَّهُ يتحَرَّى الْأَفْضَل فِي الْحجَّة الْوَاجِبَة عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَن الْقرَان عِنْد أبي حنيفَة الأَصْل، وَعند الشَّافِعِي أَن الأَصْل الْإِفْرَاد، وَالْقرَان والتمتع رخصَة.
وَالثَّالِث: الْبَحْث عَن دم التَّمَتُّع: فعندنا أَنه نسك لَا دم جبران، وَقد وَافق أَبُو حنيفَة على أَن دم الْقرَان دم نسك، إِلَّا أَنه يَقُول: الْقرَان يُوجب زِيَادَة فِي الْأَفْعَال والتعبدات؛ لِأَن من مذْهبه أَن الْقَارِن لَا يُجزئهُ طواف وَاحِد وَلَا سعي وَاحِد. وَعند الشَّافِعِي أَن الدَّم فِي التَّمَتُّع وَالْقرَان دم جبران، وَالْعِبَادَة المجبورة أنقص من الَّتِي لَا تفْتَقر إِلَى جبر.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن رَسُول الله تمتّع، وَكَذَلِكَ فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عمر وَعَائِشَة: أَنه تمتّع. فَإِن قيل: فَفِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا. وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث عَائِشَة أَنه أفرد. وَإِنَّمَا كَانَت حجَّته وَاحِدَة، فَكيف تحكمون بِصِحَّة الْأَحَادِيث وَبَعضهَا يضاد بَعْضًا؟
فَالْجَوَاب: أَن الْمَشْرُوط فِي صِحَة النَّقْل ثِقَة النَّاقِل. وكل النقلَة لهَذِهِ الْأَخْبَار ثِقَات، غير أَنه قد يحفظ بعض الروَاة مَا لَا يحفظه غَيره.
فَأَما من روى التَّمَتُّع فَإِنَّهُ يَقُول: اعْتَمر رَسُول الله وتحلل من(1/183)
الْعمرَة، ثمَّ أحرم بِالْحَجِّ، ثمَّ أَمر أَصْحَابه بِالْفَسْخِ ليفعلوا مثل فعله؛ لأَنهم لم يَكُونُوا أَحْرمُوا بِعُمْرَة. وَمنعه من فسخ الْحَج إِلَى عمْرَة ثَانِيَة عمرته الأولى وسوقه الْهَدْي. وَهَذَا ظَاهر حَدِيث ابْن عمر وَعَائِشَة؛ لِأَن فِيهِ: أهل بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أهل بِالْحَجِّ.
فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا وَقد قَالَ: " لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا سقت الْهَدْي ولجعلتها عمْرَة ". فعلل بسوق الْهَدْي لَا بِفعل عمْرَة مُتَقَدّمَة. قُلْنَا: ذكر إِحْدَى العلتين دون الْأُخْرَى، وَذَلِكَ جَائِز.
وَأما من روى أَنه أفرد فقد سمع من لَفظه: " لبيْك بِحَجّ " وخفي عَلَيْهِ قَوْله: " وَعمرَة " فَحكى عَنهُ الْإِفْرَاد، وَحفظ غَيره الزِّيَادَة فرواها. وَيحْتَمل قَول من حكى عَنهُ الْقرَان أَنه سَمعه يعلم شخصا فَيَقُول: قل: لبيْك بِحجَّة وَعمرَة.
على أَن رَاوِي التَّمَتُّع قد أثبت إِحْرَامه بِالْحَجِّ، وَأثبت إِحْرَامه بِالْعُمْرَةِ، إِلَّا أَنه أَرَادَ تبيان أَن الْأَمريْنِ وَقعا فِي حالتين.
وَقد رُوِيَ عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: لما حج أَصْحَابه بَين مُفْرد وقارن ومتمتع، وكل ذَلِك صادر عَن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَازَ أَن يُضَاف الْفِعْل إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَن أمره. وَالْعرب تضيف الْفِعْل إِلَى الْآمِر، فَتَقول: ضرب الْأَمِير فلَانا، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: رجم رَسُول الله ماعزا. فعلى هَذَا يكون معنى أفرد، وَقرن: أَمر بذلك وَعلمه النَّاس.
وَقَول عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة. أَي وَحجَّة ستأتي(1/184)
بعد الْعمرَة، فَإِن من مذْهبه التَّمَتُّع.
112 - / 123 - الحَدِيث الثَّامِن: بَعَثَنِي رَسُول الله أَنا وَالزُّبَيْر والمقداد وَقَالَ: " انْطَلقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَة خَاخ؛ فَإِن بهَا ظَعِينَة مَعهَا كتاب، فَخُذُوهُ مِنْهَا ".
رَوْضَة خَاخ: مَوضِع مَعْرُوف.
والظعين: اسْم للهودج، وَالْجمع ظعائن، سَوَاء كَانَ فِيهِنَّ النِّسَاء أَو لم يكن، فسميت الْمَرْأَة المسافرة ظَعِينَة باسم مَا نزلت فِيهِ، على وَجه الِاسْتِعَارَة، لكَونهَا تكون فِي الظعينة.
والعقاص: الْخَيط الَّذِي يعقص بِهِ أَطْرَاف الذوائب. وعقص فلَان شعره: إِذا ضفره. وأصل العقص اللي وَالْعقد.
وَهَذَا الْكتاب كتاب حَاطِب إِلَى أهل مَكَّة. وَقد سبق ذكره.
وَقَوله: كنت مُلْصقًا فِي قُرَيْش: أَي غَرِيبا فيهم.
وَقَوله: " إِنَّه شهد بَدْرًا " فِيهِ تَنْبِيه على السُّكُوت عَمَّا جرى بَين الصَّحَابَة، وَالنَّهْي عَن الطعْن فِي أحد مِنْهُم لما تقدم لَهُم فِي الصُّحْبَة، فتغفر لذَلِك هفواتهم. وَقد تكلمنا على هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمر.
113 - / 124 - الحَدِيث التَّاسِع: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يَوْم الْأَحْزَاب - وَفِي رِوَايَة: يَوْم الخَنْدَق: " مَلأ الله قُبُورهم وَبُيُوتهمْ نَارا كَمَا شغلونا(1/185)
عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس " وَفِي لفظ: " شغلونا عَن الصَّلَاة الْوُسْطَى صَلَاة الْعَصْر ". إِن يَوْم الخَنْدَق هُوَ يَوْم الْأَحْزَاب، سمي بِيَوْم الخَنْدَق لِأَن رَسُول الله حفر الخَنْدَق فِي تِلْكَ الْغُزَاة. وَسمي بِيَوْم الْأَحْزَاب لِأَن الْكفَّار تحزبوا على رَسُول الله؛ وَذَلِكَ أَنه لما أجلى بني النَّضِير خرج نفر من أَشْرَافهم إِلَى مَكَّة فحرضوا قُريْشًا على قِتَاله، ثمَّ عَادوا إِلَى غطفان وسليم فحرضوهم. فَاجْتمع الْكل على الْقِتَال، فَأُولَئِك الْأَحْزَاب، فَلَمَّا أَقبلُوا نَحْو الْمَدِينَة أَشَارَ سلمَان بالخندق فحفر.
وَفِي الصَّلَاة الْوُسْطَى خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنَّهَا الْعَصْر، وَقد صرح بذلك فِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث. وَقد رَوَاهُ ابْن مَسْعُود وَسمرَة وَعَائِشَة عَن رَسُول الله، وَبِه قَالَ هَؤُلَاءِ الروَاة، وَمَعَهُمْ أبي بن كَعْب وَأَبُو أَيُّوب وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو سعيد، وَمن التَّابِعين خلق كثير، مِنْهُم الْحسن وَابْن الْمسيب وَابْن جُبَير وَعَطَاء وَطَاوُس. وَمن الْفُقَهَاء أَبُو حنيفَة وَأحمد بن حَنْبَل.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْفجْر، رُوِيَ عَن عمر وَأبي مُوسَى ومعاذ وَجَابِر وَمَالك وَالشَّافِعِيّ.
وَالثَّالِث: الظّهْر، رُوِيَ عَن زيد بن ثَابت وَأُسَامَة بن زيد.
وَالرَّابِع: الْمغرب، رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَقبيصَة بن ذُؤَيْب.
وَالْخَامِس: الْعشَاء، ذكره عَليّ بن أَحْمد النَّيْسَابُورِي فِي " تَفْسِيره ".(1/186)
وَفِي المُرَاد بالوسطى ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنَّهَا أَوسط الصَّلَوَات مِقْدَارًا. وَالثَّانِي: أوسطها محلا. وَالثَّالِث: أَنَّهَا أفضلهَا، وأوسط الشَّيْء أفضله.
فَمن قَالَ: الْوُسْطَى: الفضلى، جَازَ لكل مَذْهَب أَن يَدعِي هَذَا. وَمن قَالَ: أوسطها مِقْدَارًا فَهِيَ الْمغرب، لِأَن أقل المفروضات رَكْعَتَانِ، وأكثرها أَربع. وَمن قَالَ: محلا فللقائلين أَنَّهَا الْعَصْر أَن يَقُولُوا: قبلهَا صلاتان فِي النَّهَار، وَبعدهَا صلاتان فِي اللَّيْل، فَهِيَ الْوُسْطَى. وَمن قَالَ: الْفجْر، قَالَ: هِيَ وسط بَين اللَّيْل وَالنَّهَار؛ لِأَن أول النَّهَار عِنْد الْعَرَب طُلُوع الشَّمْس. وَمن قَالَ: الظّهْر، قَالَ: هِيَ وسط النَّهَار. وَمن قَالَ: الْمغرب، احْتج بِأَن أول صَلَاة فرضت الظّهْر، فَصَارَت الْمغرب وسطى. وَمن قَالَ: الْعشَاء قَالَ: هِيَ بَين صَلَاتَيْنِ لَا تقصران. وَالْمُعْتَمد عَلَيْهِ أَنَّهَا الْعَصْر، للأثر الصَّحِيح.
114 - / 125 - الحَدِيث الْعَاشِر: كساني رَسُول الله حلَّة سيراء، فَخرجت فِيهَا، فَرَأَيْت الْغَضَب فِي وَجهه، فشققتها بَين نسَائِي. وَفِي لفظ أَن أكيدر دومة أهْدى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثوب حَرِير، فَأعْطَاهُ عليا وَقَالَ: " شققه خمرًا بَين الفواطم ".
وَقد فسرنا فِي مُسْند عمر معنى الْحلَّة السيراء. وَأما أكيدر فَإِنَّهُ كَانَ ملكا على دومة الجندل، وَكَانَ نَصْرَانِيّا، فَبعث رَسُول الله خَالِد بن(1/187)
الْوَلِيد فِي أَرْبَعمِائَة وَعشْرين فَارِسًا سَرِيَّة إِلَيْهِ، فَانْتهى إِلَيْهِ خَالِد وَقد خرج من حصنه فِي لَيْلَة مُقْمِرَة إِلَى بقر يطاردها هُوَ وَأَخُوهُ حسان، فشدت عَلَيْهِ خيل خَالِد، فاستأسر أكيدر، وَامْتنع أَخُوهُ حسان فقاتل حَتَّى قتل، وهرب من كَانَ مَعَهُمَا إِلَى الْحصن، وأجار خَالِد أكيدر من الْقَتْل حَتَّى أَتَى بِهِ رَسُول الله على أَن يفتح لَهُ دومة الجندل، وَصَالَحَهُ على ألفي بعير وَثَمَانمِائَة رَأس وَأَرْبَعمِائَة درع وَأَرْبَعمِائَة رمح، وَقدم بأكيدر على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأهدى لرَسُول الله هَدِيَّة، فَصَالحه على الْجِزْيَة، وحقن دَمه، وَكتب لَهُ كتابا بالأمان. وَقد حكى أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ أَن أكيدر أسلم، وَمَا حفظناه عَن غَيره، بلَى، كَانَ لأكيدر وَله اسْمه عبد الْملك، أسلم، وروى عَن رَسُول الله.
فَإِن قيل: كَيفَ قبل هَدِيَّة كَافِر وَقد روى عِيَاض بن حمَار أَنه أهْدى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَدِيَّة وَهُوَ مُشْرك، فَردهَا وَقَالَ: " إِنَّا لَا نقبل زبد الْمُشْركين "؟
فَالْجَوَاب: من ثَلَاثَة أوجه ذكرهَا أَبُو بكر الْأَثْرَم:
أَحدهَا: أَن تكون أَحَادِيث الْقبُول أثبت، وَفِي طَرِيق حَدِيث عِيَاض إرْسَال.
وَالثَّانِي: أَن حَدِيث عِيَاض مُتَقَدم كَانَ فِي أول الْأَمر، وَحَدِيث أكيدر فِي آخر الْأَمر قبل موت رَسُول الله بِيَسِير، فَيكون هَذَا من بَاب النَّاسِخ والمنسوخ.(1/188)
وَالثَّالِث: أَن يكون قبُول الْهَدِيَّة من أهل الْكتاب، وعياض لم يكن من أهل الْكتاب، والأكيدر كَانَ على دين الرّوم.
وَالْقَوْل الأول اخْتِيَار الْأَثْرَم، وَهَذَا الْأَخير اخْتِيَاري، لِأَن أَبَا دَاوُد روى حَدِيث عِيَاض مُبينًا، فَقَالَ: أهديت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاقَة فَقَالَ: " هَل أسلمت؟ " قلت: لَا، فَقَالَ: " إِنِّي نهيت عَن زبد الْمُشْركين " والزبد: الْعَطاء. وَإِنَّمَا قبل هَدِيَّة النَّجَاشِيّ لِأَنَّهُ كَانَ من أهل الْكتاب، وَقد أُبِيح لنا طعامهم ونكاحهم، فَجَاز لنا قبُول هداياهم.
يبْقى على هَذَا مَا رُوِيَ عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: أهْدى كسْرَى لرَسُول الله فَقبل مِنْهُ، وَأهْدى لَهُ قَيْصر فَقبل مِنْهُ، وأهدت لَهُ الْمُلُوك فَقبل مِنْهَا.
وَجَوَابه من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه لَا يثبت، لِأَنَّهُ يرويهِ ثُوَيْر بن أبي فَاخِتَة، وَلَيْسَ بِثِقَة.
وَالثَّانِي: أَن يكون مَنْسُوخا فِي حق من لَا كتاب لَهُ.
فَأَما دومة فَفِيهَا ثَلَاث لُغَات، دومة، ودومة، بِضَم الدَّال وَفتحهَا، ودوماء، وَهَذَا مَكَان مَعْرُوف.
وَالْخمر جمع خمار: وَهُوَ مَا تخمر بِهِ الْمَرْأَة رَأسهَا: أَي تغطيه وتستره كالوقاية.
وَقَوله: " بَين الفواطم " روى أَبُو بكر بن أبي الدُّنْيَا هَذَا الحَدِيث(1/189)
فِي كتاب " الْهَدَايَا " فَقَالَ فِيهِ: فشققت مِنْهَا أَرْبَعَة أخمرة: خمار لفاطمة بنت أَسد، وخمار لفاطمة بنت مُحَمَّد، وخمار لفاطمة بنت حَمْزَة بن عبد الْمطلب. وَنسي الرَّاوِي الرَّابِعَة.
115 - / 126 - الحَدِيث الْحَادِي عشر: مَا سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع أَبَوَيْهِ لأحد إِلَّا لسعد بن مَالك، سمعته يَقُول يَوْم أحد: " يَا سعد ارْمِ، فدَاك أبي وَأمي ".
سعد هُوَ ابْن أبي وَقاص، وأبوا رَسُول الله كَافِرَانِ، وَفِدَاء الْمُسلم بالكافر لَيْسَ بِعَيْب.
116 - / 128 - الحَدِيث الثَّالِث عشر: نهى رَسُول الله أَن ينتبذ فِي الدُّبَّاء والمزفت.
الدُّبَّاء: القرع، والمزفت: الَّذِي قد طلي بالزفت: وَهُوَ القار، وَإِنَّمَا نهى عَن هَذِه الْأَشْيَاء لِأَنَّهُ قد يغلى فِيهَا فيسكر وَلَا يدرى بِهِ.
117 - / 129 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: أَمرنِي رَسُول الله أَن أقوم على بدنه وَأَن أَتصدق بِلُحُومِهَا وجلودها وأجلتها، وَألا أعطي الجزار مِنْهَا شَيْئا، وَقَالَ: " نَحن نُعْطِيه من عندنَا ".
الْبدن: الْإِبِل. والأجلة جمع جلال: وَهُوَ مَا يُجَلل بِهِ ظهر الْبَعِير والجزار: الَّذِي يَنْحَرهَا. والجزارة مَضْمُومَة الْجِيم كالسقاطة والنشارة، وَهُوَ اسْم لما يعْطى كالعمالة. وَقَالَ قوم: هِيَ الجزارة بالكسرة كالخياطة(1/190)
والحجامة، يُرِيد بهَا عمله فِيهَا.
وَإِنَّمَا نَهَاهُ أَن يُعْطِيهِ الْأُجْرَة مِنْهَا لِأَن الْأُجْرَة مِنْهَا فِي معنى البيع، وَالْهَدْي لَا يُبَاع. وَقد أَفَادَ هَذَا الحَدِيث أَنه لَا يجوز بيع شَيْء من لحم الْهَدْي وَلَا جلوده وَلَا أجلته، بل يتَصَدَّق بذلك.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز أكل لحم لُحُوم الْهَدْي، فَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُؤْكَل إِلَّا من هدي التَّمَتُّع وَالْقرَان والتطوع إِذا بلغ مَحَله، وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: لَا يُؤْكَل من النّذر وَجَزَاء الصَّيْد، ويؤكل من الْبَاقِي. وَقَالَ مَالك يُؤْكَل من الْهَدْي كُله إِلَّا من جَزَاء الصَّيْد وفدية الْأَذَى وَمَا نَذره للْمَسَاكِين. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يُؤْكَل إِلَّا من التَّطَوُّع.
118 - / 131 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: كُنَّا فِي جَنَازَة فِي بَقِيع الْغَرْقَد.
البقيع: الْمَكَان المتسع من الأَرْض. وَقَالَ قوم: لَا يكون بقيعا إِلَّا وَفِيه شجر. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: والغرقد: من شجر الْعضَاة، والعضاة شجر لَهُ شوك مثل الطلح والسدر. قَالَ: وَبَلغنِي أَن الْغَرْقَد كبار العوسج، وَقد كَانَ فِي بَقِيع الْغَرْقَد غرقد ثمَّ ذهب الشّجر وَبَقِي الِاسْم.
قَوْله: وَمَعَهُ مخصرة: المخصرة كالعصا تكون مَعَ الْأَمِير يُشِير بهَا،(1/191)
أَو مَعَ الْخَطِيب.
وَقَوله: فَنَكس: أَي أطرق.
وَقَوله: ينكت بمخصرته: أَي يضْرب بطرفها الأَرْض.
والمقعد: مَوضِع الْقعُود، كالمسكن: مَوضِع السُّكْنَى.
وَقَوله: أَفلا نَتَّكِل على كتَابنَا؟ أَي على مَا قضى لنا، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِأَنَّهُ أخْبرهُم بِعلم الله عز وَجل فيهم، فراموا أَن يتخذوا ذَلِك حجَّة فِي ترك الْعَمَل، فنهاهم عَن ذَلِك بقوله: " كل ميسر " وَالْميسر للشَّيْء: المهيأ لَهُ، الْمصرف فِيهِ. والتيسير: التسهيل للْفِعْل. وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن يَكُونُوا فِي عَمَلهم الظَّاهِر خَائِفين مِمَّا سبق بِهِ الْقَضَاء، فَيحسن السّير بَين سَابق الْعَمَل وقائد الْخَوْف.
وَقَوله: (أعْطى وَاتَّقَى) . قَالَ مُجَاهِد: اتَّقى الْبُخْل.
(وَصدق بِالْحُسْنَى) وَهِي الْجنَّة (فسنيسره لليسرى) أَي نيسر عَلَيْهِ فعل الْخَيْر.
119 - / 132 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: بعث رَسُول الله سَرِيَّة وَاسْتعْمل عَلَيْهِم رجلا من الْأَنْصَار.
هَذَا الرجل الْمُسْتَعْمل على هَذِه السّريَّة اسْمه عبد الله بن حذافة. وَقَول الرَّاوِي عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: إِنَّه من الْأَنْصَار، غلط؛ لِأَنَّهُ عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي من بني سهم، وَهُوَ أَخُو خُنَيْس ابْن حذافة زوج حَفْصَة قبل رَسُول الله، وَقد هَاجر إِلَى الْحَبَشَة فِي قَول(1/192)
ابْن إِسْحَق والواقدي. وَذهب قوم إِلَى أَنه شهد بَدْرًا، وَلَا يَصح، وَهُوَ رَسُول رَسُول الله بكتابه إِلَى كسْرَى.
وَقَوله: فأغضبوه، فَأَمرهمْ بإيقاد نَار وَأَن يدخلوها.
فَإِن قيل: هَذَا رجل كَبِير الْقدر، فَكيف أَمرهم بِدُخُول النَّار؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه داعبهم بِهَذَا، قَالَه أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ. فعلى هَذَا لَو رأى مِنْهُم الْجد فِي الدُّخُول لمنعهم.
وَالثَّانِي: أَن أمره إيَّاهُم بِدُخُول النَّار إِشَارَة إِلَى أَن مخالفتي توجب دُخُول النَّار، فَإِذا شقّ عَلَيْكُم دُخُول هَذِه النَّار، فَكيف تصبرون على النَّار الْكُبْرَى، وَلَو رأى مِنْهُم الْجد فِي ولوج النَّار لمنعهم.
فَأَما قَول رَسُول الله: " لَو دخلوها مَا خَرجُوا مِنْهَا " فَالْمَعْنى أَنهم قد علمُوا أَن الطَّاعَة لَا تكون فِي الْمعْصِيَة، لِأَن أَمر الله عز وَجل قد سبق أَمر هَذَا الرجل، وَإِنَّمَا يطاع الْمَخْلُوق فِيمَا لَا يُنَافِي طَاعَة الْخَالِق، فَلَو دخلُوا النَّار عذبُوا بمعصيتهم لله عز وَجل.
120 - / 133 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: خطب عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: مَا عندنَا من كتاب نقرؤه إِلَّا كتاب الله وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة، فنشرها، فَإِذا فِيهَا أَسْنَان الْإِبِل وَأَشْيَاء من الْجِرَاحَات.(1/193)
أما أَسْنَان الأبل فَالْمُرَاد مَا يُؤْخَذ مِنْهَا فِي الدِّيَة.
قَوْله: وَأَشْيَاء من الْجِرَاحَات: أَي مَا يجب فِيهَا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: وَالْمَدينَة حرم مَا بَين عير إِلَى ثَوْر. قَالَ أَبُو عبيد: أهل الْمَدِينَة لَا يعْرفُونَ جبلا بهَا يُقَال لَهُ ثَوْر، وَإِنَّمَا ثَوْر بِمَكَّة، فنرى أَن الحَدِيث إِنَّمَا أَصله: مَا بَين عير إِلَى أحد.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن صيد الْمَدِينَة وشجرها محرم، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ بِمحرم. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد: هَل يضمن صيدها وشجرها بالجزاء أم لَا؟ فَروِيَ عَنهُ أَنه لَا جَزَاء فِيهِ وَهُوَ قَول مَالك، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه يضمن. وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ كالروايتين. وَإِذا قُلْنَا بضمانه فَجَزَاؤُهُ سلب الْقَاتِل، يَتَمَلَّكهُ الَّذِي يسلبه. وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ مبنيان على القَوْل الَّذِي يرى فِيهِ أَنه مَضْمُون: أَحدهمَا: كَقَوْلِنَا. وَالثَّانِي: يتَصَدَّق بِهِ على مَسَاكِين الْمَدِينَة. وَيُفَارق الْمَدِينَة حرم مَكَّة فِي أَن من أَدخل إِلَيْهَا صيدا لم يجب عَلَيْهِ رفع يَده عَنهُ، وَيجوز لَهُ ذبحه وَأكله.
وَيجوز أَن يُؤْخَذ من شَجَرهَا مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ للرحل والوسائد، وَكَذَلِكَ يُؤْخَذ من حشيشها مَا يحْتَاج إِلَيْهِ للعلف، بِخِلَاف حرم مَكَّة.(1/194)
وَقَوله: " من أحدث فِيهَا حَدثا، أَو آوى مُحدثا " قَالَ أَبُو عبيد: الْحَدث كل حد لله يجب أَن يُقَام على صَاحبه. وَمعنى آوى مُحدثا: حماه وَحفظه.
وَقَوله: " لَا يقبل الله مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة صرفا وَلَا عدلا " فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن الصّرْف: التَّوْبَة، وَالْعدْل: الْفِدْيَة، ذكره ابْن الْأَنْبَارِي عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه قَالَ مَكْحُول والأصمعي وَأَبُو عبيد.
وَالثَّانِي: أَن الصّرْف: النَّافِلَة، وَالْعدْل: الْفَرِيضَة. قَالَه الْحسن، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الْعدْل عِنْد الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة: الدِّيَة، وَالصرْف زِيَادَة على الدِّيَة، وَهُوَ فِي الْإِسْلَام الْفَرِيضَة والتطوع.
وَالثَّالِث: الصّرْف: الِاكْتِسَاب. وَالْعدْل: الْفِدْيَة. قَالَه يُونُس.
وَقَوله: " ذمَّة الْمُسلمين وَاحِدَة " الذِّمَّة: الْأمان والعهد. وَالْمعْنَى أَنه إِذا أعْطى الرجل مِنْهُم الْعَدو أَمَانًا جَازَ ذَلِك على جَمِيع الْمُسلمين.
وَقَوله: " يسْعَى بهَا أَدْنَاهُم " فِيهِ دَلِيل على صِحَة أَمَان العَبْد. وَعِنْدنَا أَنه إِذا أَمن آحَاد الْمُشْركين صَحَّ أَمَانه سَوَاء أذن لَهُ سَيّده فِي الْقِتَال أَو لم يَأْذَن، وَهُوَ قَول أَصْحَاب مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يَصح أَمَانه إِلَّا أَن يكون سَيّده قد أذن لَهُ فِي الْقِتَال.
وَقَوله: فَمن أَخْفَر مُسلما: أَي نقض عَهده. قَالَ الزّجاج:(1/195)
أخفرت الرجل: إِذا نقضت عَهده، فَهُوَ مخفر، وخفرته فَهُوَ مخفور: إِذا أجرته.
وَقَوله: وَمن والى قوما بِغَيْر إِذن موَالِيه. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: ظَاهره يُوهم أَنه شَرط فِي جَوَاز ادِّعَاء نسب أَو وَلَاء، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ معنى الشَّرْط، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنى التوكيد للتَّحْرِيم والتنبيه على الْبطلَان والإرشاد إِلَى السَّبَب. وَالْمعْنَى: لَا يجوز أَن يتَوَلَّى غَيرهم، لِأَنَّهُ لَو استأذنهم لم يأذنوا لَهُ.
وَقَوله: وَالَّذِي فلق الْحبَّة: أَي شقها لإنباتها. وبرأ: بِمَعْنى خلق. والنسمة: النَّفس، سميت بذلك لِأَنَّهَا تتنسم: أَي تتنفس.
وَقَوله: إِلَّا فهما. يَعْنِي مَا يفهم من فحوى الْكَلَام وَيدْرك من بواطن الْمعَانِي.
وَالْعقل: مَا يتحمله الْعَاقِلَة من دِيَة الْقَتِيل خطأ. وَهَذَا ثَبت من طَرِيق السّنة، وقصدت بِهِ الْمصلحَة، إِذْ لَو أَخذ قَاتل الْخَطَأ بِالدِّيَةِ لأتى ذَلِك على جَمِيع مَاله، وَلَو ترك الدَّم صَار هدرا. فَقيل لعصبة الْقَاتِل: تعاونوا، وَلم يكلفوا إِلَّا بِمَا لَا يجحف. وَلَا يدْخل الْجَانِي مَعَ الْعَاقِلَة فِي التَّحَمُّل، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: هُوَ كَأحد الْعَاقِلَة. وَعَن مَالك كالمذهبين. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يلْزمه، إِلَّا أَن يَتَّسِع بِحمْل الْعَاقِلَة فَيلْزمهُ مَا يحمل كل وَاحِد من الْعَاقِلَة غير مُقَدّر، وَإِنَّمَا هُوَ على حسب الِاجْتِهَاد فِيمَا يُمكن. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يتَقَدَّر أَكْثَره بأَرْبعَة دَرَاهِم، وَلَا(1/196)
يتَقَدَّر أَقَله. وَقَالَ الشَّافِعِي: يتَقَدَّر أَقَله بِنصْف دِينَار على الْغَنِيّ وَربع دِينَار على الْمُتَوَسّط، وَلَا يتَقَدَّر أَكْثَره. وَيعْتَبر فِي تحمل الْعقل الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَسْتَوِي الْقَرِيب والبعيد، وَيحمل الْغَنِيّ أَكثر من الْمُتَوَسّط. وَقَالَ أَبُو حنيفَة يسوى بَين الْجَمِيع، ويشترك فِي التَّحَمُّل الْغَائِب والحاضر. وَقَالَ مَالك: لَا يحمل الْغَائِب مِنْهَا شَيْئا. وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين.
وَأما فكاك الْأَسير فَهُوَ فداؤه من أَيدي الْعَدو.
وَفِي قَوْله: وَألا يقتل مُسلم بِكَافِر دَلِيل على أَنه لَا يقتل الْمُسلم بالذمي، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يقتل بِهِ. وَوَافَقَ فِي الْمُسْتَأْمن أَنه لَا يقتل بِهِ.
121 - / 134 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: قَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا حدثتكم عَن رَسُول الله فو الله لَئِن أخر من السَّمَاء أحب إِلَيّ من أَن أكذب عَلَيْهِ، وَإِذا حدثتكم فِيمَا بيني وَبَيْنكُم فَإِن الْحَرْب خدعة ".
فِي هَذِه اللَّفْظَة ثَلَاث رِوَايَات:
الأولى: خدعة بِفَتْح الْخَاء وتسكين الدَّال، وَيُقَال: هِيَ لُغَة رَسُول الله. وَالْمعْنَى يَنْقَضِي أمرهَا بخدعة وَاحِدَة.
وَالثَّانِي: خدعة بِضَم الْخَاء وَفتح الدَّال، فَكَأَن الْفِعْل قد أضيف(1/197)
إِلَى الْحَرْب، أَي أَنَّهَا تخدع الرِّجَال وتهلكهم، كَمَا يُقَال: رجل لعبة: إِذا كَانَ كثير التلعب بالأشياء، وَهَذَا اخْتِيَار الْكسَائي.
وَالثَّالِث: خدعة بِضَم الْخَاء وَسُكُون الدَّال. قَالَ الْخطابِيّ: من قَالَ هَذَا أَرَادَ الِاسْم، كَمَا يُقَال: هَذِه لعبة.
وَمعنى الْكَلَام: أنني أتوقى فِي الرِّوَايَة عَنهُ مَا لَا أتوقى فِي كَلَامي.
وَقَوله: سيخرج قوم حدثاء الْأَسْنَان. يَعْنِي بِهِ الصبوة.
وَقَوله: سُفَهَاء الأحلام. الأحلام: الْعُقُول. قَالَ الزّجاج: أصل السَّفه خفَّة الْحلم، يُقَال: ثوب: سَفِيه: إِذا كَانَ رَقِيقا بَالِيًا، وتسفهت الرّيح الشّجر: إِذا مَالَتْ بِهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(مشين كَمَا اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرِّيَاح النواسم)
وَقَوله: يَقُولُونَ من خير قَول الْبَريَّة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْبَريَّة الْخلق. وَأكْثر الْعَرَب والقراء على ترك همزها لِكَثْرَة مَا جرت على الْأَلْسِنَة، وَهِي فعيلة بِمَعْنى مفعولة، وَمن النَّاس من يزْعم أَنَّهَا مَأْخُوذَة من بريت الْعود. وَمِنْهُم من يزْعم أَنَّهَا من البرا: وَهُوَ التُّرَاب، أَي خلق من التُّرَاب، وَقَالُوا: لذَلِك لَا تهمز. وَقَالَ الزّجاج: لَو كَانَت من البرا وَهُوَ التُّرَاب، لما قُرِئت بِالْهَمْزَةِ، وَإِنَّمَا اشتقاقها من برأَ الله الْخلق.(1/198)
وَقَالَ الْخطابِيّ: أَصْلهَا الْهَمْز، إِلَّا أَنهم اصْطَلحُوا على ترك الْهَمْز فِيهَا.
والحناجر جمع حنجرة: وَهِي الْحُلْقُوم.
ويمرقون: يخرجُون. يُقَال: مرق السهْم: إِذا نفذ وَجَاوَزَ فِي رميته، قَالَ: وَظَاهر قَوْله " من الدّين " أَي من أصل الدّين. وَقَالَ الْخطابِيّ: الدّين هَاهُنَا الطَّاعَة، وَالْمعْنَى أَنهم يخرجُون من طَاعَة الْأَئِمَّة. وَفِي هَذَا بعد، لِأَنَّهُ قَالَ: مروق السهْم.
ثمَّ قَالَ: ينظر فِي نصله، فِي فَوْقه، وَالْمعْنَى أَن السهْم مر فَلم يعلق من الدَّم بِشَيْء، فَكَذَلِك هَؤُلَاءِ لم يعلقوا من الدّين بِشَيْء. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الرَّمية: الطريدة المرمية، فعيلة فِي معنى مفعولة. وَهَذَا الحَدِيث فِي صفة الْخَوَارِج.
122 - / 135 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: مَا كنت لأقيم حدا على أحد فَيَمُوت، فأجد فِي نَفسِي مِنْهُ شَيْئا إِلَّا صَاحب الْخمر، فَإِنَّهُ لَو مَاتَ وديته، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله لم يسنه.
وديت الرجل: إِذا أَعْطَيْت دِيَته.
فَإِن قيل: كَيفَ لم يسنه رَسُول الله وَقد سبق فِي مُسْند عُثْمَان أَن عليا قَالَ: جلد رَسُول الله أَرْبَعِينَ؟
فَالْجَوَاب: أَنا قد ذكرنَا هُنَالك أَن رَسُول الله إِنَّمَا أَرَادَ تَعْزِير الشَّارِب(1/199)
فَضَربهُ، وَاتفقَ الضَّرْب أَن بلغ أَرْبَعِينَ. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أنس ضرب الشَّارِب بِالْجَرِيدِ أَرْبَعِينَ، فَكَأَنَّهُ مَا سنّ عددا لَا يتَجَاوَز، وَلَا آلَة لَا تَتَغَيَّر، وَإِنَّمَا سنّ أصل الْعقُوبَة، إِذْ لَو سنّ شَيْئا من ذَلِك وتقرر لم يتَجَاوَز.
123 - / 136 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
أَن الْعَبَّاس قَالَ لعَلي فِي مرض رَسُول الله: أَنْت - وَالله - بعد ثَلَاث عبد الْعَصَا.
وَالْمعْنَى أَنه يتأمر عَلَيْك.
124 - / 137 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن عليا شرب قَائِما وَقَالَ: رَأَيْت رَسُول الله فعل كَمَا فعلت.
إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ الْجمع بَين هَذَا وَبَين نهي رَسُول الله عَن الشّرْب قَائِما؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون فعله لعذر. وَالثَّانِي: لبَيَان الْجَوَاز. وَالْأولَى أَلا يشرب قَائِما.
125 - / 138 - الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: حدثوا النَّاس بِمَا يعْرفُونَ.(1/200)
أَرَادَ: حدثوهم بِمَا تحتمله أفهامهم من الْعلم.
126 - / 139 - الحَدِيث الرَّابِع: عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ: لَو كَانَ عَليّ ذَاكِرًا عُثْمَان بِسوء ذكره يَوْم جَاءَهُ نَاس يَشكونَ إِلَيْهِ سعاة عُثْمَان، فَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا الْكتاب إِلَى عُثْمَان، وَأخْبرهُ أَن فِيهِ صَدَقَة رَسُول الله، فَمر سعاتك يعْملُونَ بهَا. فَأَتَيْته بهَا، فَقَالَ: أغنها عَنَّا. فَأتيت عليا فَقَالَ: لَا عَلَيْك، ضعها حَيْثُ وَجدتهَا.
السعاة جمع ساع: وَهُوَ الْعَامِل على الصَّدَقَة، الَّذِي يسْعَى فِي استخراجها، ويؤديها إِلَى الإِمَام.
وَقَوله: أغنها عَنَّا: أَي اصرفها عَنَّا. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أغن عني وَجهك: أَي اصرفه، وأغن عني السَّفِيه، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لكل امْرِئ مِنْهُم يَوْمئِذٍ شَأْن يُغْنِيه} [عبس: 37] أَي يصرفهُ ويصده عَن قرَابَته. وَإِنَّمَا أعرض عُثْمَان عَن تِلْكَ الصَّحِيفَة لِأَنَّهُ قد كَانَ عِنْده علم من ذَلِك يَكْتَفِي بِهِ.
127 - / 141 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: قَالَ عَليّ: اقضوا كَمَا كُنْتُم تقضون، فَإِنِّي أكره الْخلاف حَتَّى يكون النَّاس جمَاعَة أَو أَمُوت كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي. فَكَانَ ابْن سِيرِين يرى عَامَّة مَا يروون عَن عَليّ كذبا.
لما وجد عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام من يرد عَلَيْهِ قَوْله كَمَا روينَا فِي الحَدِيث الَّذِي قبل هَذَا، وكما روينَا فِي حَدِيث التَّمَتُّع، كره الْخلاف.(1/201)
128 - / 142 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أَن عليا حِين رجم الْمَرْأَة ضربهَا يَوْم الْخَمِيس، ورجمها يَوْم الْجُمُعَة. وَقَالَ: جلدتها بِكِتَاب الله، ورجمتها بِسنة رَسُول الله.
اسْم هَذِه الْمَرْأَة شراحة الهمدانية، أَتَت عليا فَقَالَت: إنى زَنَيْت، فَقَالَ: لَعَلَّك غصبت نَفسك. قَالَت: مَا غصبت. قَالَ: لَعَلَّك أتيت وَأَنت نَائِمَة. قَالَت: أتيت طَائِعَة غير مُكْرَهَة، فحبسها، فَلَمَّا ولدت وشب وَلَدهَا جلدهَا مائَة، ثمَّ أَمر فحفر لَهَا فِي الرحبة إِلَى منكبها ثمَّ أدخلت، ثمَّ رمى وَرمى أَصْحَابه.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَنه يجْتَمع الْجلد وَالرَّجم على الزَّانِي الْمُحصن، وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَبهَا قَالَ دَاوُد. وَفِي الرِّوَايَة الثَّانِيَة ترْجم وَلَا تجلد، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ.
129 - / 143 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: عَن قيس بن عباد عَن عَليّ قَالَ: أَنا أول من يجثو للخصومة بَين يَدي الرَّحْمَن يَوْم الْقِيَامَة. قَالَ قيس: فيهم نزلت: {هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم} [الْحَج: 19] وَقَالَ: هم الَّذين تبارزوا يَوْم بدر: عَليّ وَحَمْزَة وَعبيدَة، وَشَيْبَة بن ربيعَة وَعتبَة بن ربيعَة والوليد بن عتبَة.
أما قيس بن عباد، فالعين فِي عباد مَضْمُومَة وَالْبَاء مَفْتُوحَة خَفِيفَة، وَلَيْسَ لَهُ فِي أَسمَاء الْمُحدثين نَظِير.(1/202)
وَقَوله: يجثو، يُقَال جثا الرجل يجثو: إِذا اعْتمد على رُكْبَتَيْهِ فِي جُلُوسه، فَهُوَ جاث، وَالْجمع جثي. وَإِنَّمَا قَالَ: أَنا أول من يجثو، لِأَن غزَاة بدر كَانَت أول غزَاة قوتل فِيهَا الْمُشْركُونَ، وَكَانَ أول من برز إِلَى قِتَالهمْ عَليّ وَمَعَهُ حَمْزَة بن عبد الْمطلب وَعبيدَة بن الْحَارِث ابْن عبد الْمطلب. وَالسَّبَب فِي خُرُوج هَؤُلَاءِ أَن عتبَة وَشَيْبَة والوليد برزوا وَقَالُوا: من يبارز؟ فَخرج إِلَيْهِ فتية من الْأَنْصَار. وَفِي رِوَايَة: فَخرج إِلَيْهِم شببة من الْأَنْصَار، والشببة جمع شَاب، مثل كَاتب وكتبة، وَقد صحفه عبيد الله بن مُوسَى فَقَالَ: سِتَّة، وَالصَّوَاب الأول. فَقَالَ عتبَة: لَا نُرِيد هَؤُلَاءِ، وَلَكِن يبارزنا من بني عمنَا من بني عبد الْمطلب. فَقَالَ رَسُول الله: " قُم يَا عَليّ، وقم يَا حَمْزَة، وقم يَا عُبَيْدَة " فَقتل الْكفَّار الثَّلَاثَة، وَسلم عَليّ وَحَمْزَة، وَخرج عُبَيْدَة فَمَاتَ، فدفنه رَسُول الله بالصفراء.
وَمعنى قَوْله: {هَذَانِ خصمان} أَي: جمعان، وَلِهَذَا قَالَ: {اخْتَصَمُوا} . وَمعنى {فِي رَبهم} أَي: فِي دينه.
130 - / 145 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: نهاني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التَّخَتُّم بِالذَّهَب، وَعَن لِبَاس القسي، وَعَن الْقِرَاءَة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَعَن لبس المعصفر.(1/203)
القسي: ثِيَاب منسوبة إِلَى القس: وَهِي نَاحيَة من نواحي مصر، قريبَة من تنيس. قَالَ أَبُو عبيد: وَأهل مصر يَقُولُونَ: القسية بِفَتْح الْقَاف، وَأَصْحَاب الحَدِيث يكسرونها. وَقَالَ قوم: الأَصْل القز بالزاي فأبدلوا مِنْهَا سينا.
والمعصفر: المفدم المشبع.
131 - / 146 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " لعن الله من آوى مُحدثا. لعن الله من غير منار الأَرْض ".
أما الْكَلِمَة الأولى فقد فسرناها فِي الْمسند آنِفا.
أما منار الأَرْض فَهِيَ أعلامها الَّتِي تضرب على الْحُدُود ليتميز بهَا الْأَمْلَاك بَين الجارين، فَإِذا غيرت اخْتلطت الْأَمْلَاك، وَإِنَّمَا يقْصد مغيرها أَن يدْخل فِي أَرض جَاره.
132 - / 147 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة قَالَ: {وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} [الْأَنْعَام: 79] .
أَي جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي للَّذي فطر - أَي خلق.
و (حَنِيفا) نصب على الْحَال. وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه مَأْخُوذ من الْميل، والأحنف الَّذِي تميل قدماه كل(1/204)
وَاحِدَة مِنْهُمَا إِلَى أُخْتهَا بأصابعها. فالحنيف: المائل إِلَى الْعِبَادَة، هَذَا اخْتِيَار الزّجاج.
وَالثَّانِي: أَن الحنيف الْمُسْتَقيم، وَمِنْه قيل للأعرج: حنيف تطيرا إِلَى السَّلامَة، كَمَا يُقَال للديغ سليم، وَهَذَا قَول ابْن قُتَيْبَة.
والنسك جمع نسيكة. وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: النّسك هَاهُنَا الذَّبَائِح، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: هِيَ الدّين وَالْحج والذبائح. قَالَ الزّجاج: كل مَا تقرب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى فَهُوَ نسك، إِلَّا أَن الْغَالِب عَلَيْهِ أَمر الذَّبَائِح.
وَفِي قَوْله: ومحياي ومماتي قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَن الْمَعْنى: لَا يملك حَياتِي ومماتي إِلَّا الله عز وَجل.
وَالثَّانِي: حَياتِي لله فِي طَاعَته، ومماتي لَهُ فِي رجوعي إِلَى جَزَائِهِ. ومقصود الْكَلَام أَن أحوالي لله عز وَجل وَحده لَا كَمَا تشركون أَنْتُم.
والرب: الْمَالِك. والعالمون: جمع عَالم، وَهُوَ عِنْد أهل اللُّغَة اسْم مَأْخُوذ من الْعلم، فَيَقَع على من يعلم، وهم الْجِنّ وَالْإِنْس وَالْمَلَائِكَة.
وَقَوله: " واهدني لأحسن الْأَخْلَاق ". اللَّام بِمَعْنى إِلَى، كَقَوْلِه تَعَالَى: {الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا} [الْأَعْرَاف: 43] .
وَقَوله: لبيْك. فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:(1/205)
أَحدهَا: أَن أصل التَّلْبِيَة الْإِقَامَة بِالْمَكَانِ، يُقَال: ألببت بِالْمَكَانِ: إِذا أَقمت بِهِ، ولببت، لُغَتَانِ، ثمَّ قلبوا الْبَاء الثَّانِيَة إِلَى الْيَاء استثقالا، كَمَا قَالُوا: تظنيت، فَكَأَن قَوْله لبيْك: أَي أَنا عنْدك، وَأَنا مُقيم مَعَك، وَقد أَجَبْتُك، ثمَّ بنوه للتوكيد، فَكَانَ الْمَعْنى: أَقمت عنْدك إِقَامَة بعد إِقَامَة، وَإجَابَة بعد إِجَابَة، حَكَاهُ أَبُو عبيد عَن الْخَلِيل.
وَالثَّانِي: أَنه بِمَعْنى اتجاهي إِلَيْك، مَأْخُوذ من قَوْلهم: دَاري تلب دَارك: أَي تواجهها.
وَالثَّالِث: أَنه بِمَعْنى محبتي لَك، مَأْخُوذ من قَوْلهم: امْرَأَة لبة إِذا كَانَت محبَّة لولدها، عاطفة عَلَيْهِ.
وَمعنى سعديك: ساعدت طَاعَتك مساعدة بعد مساعدة. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ أسعدك الله إسعادا بعد إسعاد.
قَوْله: وَالشَّر لَيْسَ إِلَيْك: أَي لَيْسَ مُضَافا إِلَيْك.
وَقد يشكل هَذَا فَيُقَال: أَلَيْسَ كل شَيْء بِقدر؟
فَالْجَوَاب: أَن الْمَعْنى: لَا يُضَاف الشَّرّ إِلَيْك فتخاطب بِهِ تأدبا لَك، فَلَا يُقَال: يَا قَاتل الْأَنْبِيَاء، وَيَا مضيق الرزق، وَإِنَّمَا تخاطب بِمَا يَلِيق بالأدب، فَيُقَال: يَا كريم يَا رَحِيم. وَيَقُول المذنب: ظلمت نَفسِي، وَلَا يَقُول: أَنْت قضيت، لِأَنَّهُ كالمناظرة. وَالْمرَاد من الْعِبَادَة الذل للمعبود، وَلِهَذَا الْمَعْنى لما قَامَ آدم مقَام الْعُبُودِيَّة قَالَ: {رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا} [الْأَعْرَاف: 23] فَلَمَّا التقى بمُوسَى قَالَ لَهُ: " أتلومني على أَمر(1/206)
قد قدر عَليّ "؟ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن مَسْعُود: أَقُول برأيي، فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله، وَإِن كَانَ خطأ فمني. وَقَالَ الْخَلِيل: قَوْله: الشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك: أَي لَيْسَ مِمَّا يتَقرَّب بِهِ إِلَيْك.
قَوْله: تَبَارَكت: مَعْنَاهُ ارْتَفَعت.
قَوْله: خشع لَك سَمْعِي وبصري. الْخُشُوع: الخضوع والتواضع. وَالْمعْنَى أَن جوارحي ذليلة منقادة لأمرك.
وَقَوله: مَا أسرفت. الْإِسْرَاف: مُجَاوزَة الْحَد.
133 - / 148 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن الحرورية لما خرجت على عَليّ بن أبي طَالب فَقَالُوا: لَا حكم إِلَّا الله، قَالَ عَليّ: كلمة حق أُرِيد بهَا بَاطِل، إِن رَسُول الله وصف لنا نَاسا إِنِّي لأعرف صفتهمْ فِي هَؤُلَاءِ، يَقُولُونَ الْحق بألسنتهم، لَا يجوز هَذَا مِنْهُم. وَأَشَارَ إِلَى حلقه. من أبْغض خلق الله إِلَيْهِ، مِنْهُم أسود، إِحْدَى يَدَيْهِ طبي شَاة، أَو حلمة ثدي.
اعْلَم أَن الحرورية قد نسبوا إِلَى حروراء: وَهِي صحراء بِالْكُوفَةِ، خَرجُوا على عَليّ بن أبي طَالب، وأنكروا عَلَيْهِ تحكيمه أَبَا مُوسَى فِي أَمر مُعَاوِيَة، وَقَالُوا لَهُ: شَككت فِي أَمر الله، وحكمت عَدوك، فطالت خصومتهم لَهُ، ثمَّ أَصْبحُوا يَوْمًا قد خَرجُوا براية وهم ثَمَانِيَة آلَاف وأميرهم ابْن الْكواء، فَبعث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَيْهِم ابْن عَبَّاس، فناظرهم فَرجع مِنْهُم أَلفَانِ وَبَقِي سِتَّة آلَاف، فَخرج إِلَيْهِم عَليّ فَقَاتلهُمْ.(1/207)
وَإِنَّمَا لم يجز قَوْلهم حُلُوقهمْ لِأَن أَعْمَالهم لَا ترفع فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَكَانُوا يتعبدون وَلَكِن بِجَهْل، ويبنون على غير أصل.
وَقَوله: طبي شَاة: أَي كطبي شَاة، وطبيها ضرْعهَا. وحلمة الثدي: الناتئة مِنْهُ، والثدي يؤنث وَيذكر، وَجمعه ثدي. وثندوة الرجل كثدي الْمَرْأَة، وَهُوَ مَهْمُوز إِذا ضم أَوله، فَإِن فتح لم يهمز.
134 - / 149 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَنه ذكر الْخَوَارِج فَقَالَ: فيهم رجل مُخْدج الْيَد، أَو مثدون الْيَد، أَو مودن الْيَد، لَوْلَا أَن تبطروا لحدثتكم بِمَا وعد الله الَّذين يَقْتُلُونَهُمْ على لِسَان مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
المخدج الْيَد: الَّذِي خلق يَده نَاقص.
وَقَوله: أَو مثدون الْيَد، ويروى مثدن الْيَد: أَي صَغِير الْيَد مجتمعها، وَقَالَ أَبُو عبيد: إِذا كَانَ كَمَا قيل أَنه من الثندوة تَشْبِيها بهَا فِي الْقصر والاجتماع فَالْقِيَاس أَن يُقَال مثند، إِلَّا أَن يكون مقلوبا. قَالَ: وَإِنَّمَا قيل ذُو الثدية فأدخلوا الْهَاء وأصل الثدي ذكر لأَنهم أَرَادوا لحْمَة أَو قِطْعَة من ثدي، وَصغر على هَذَا الْمَعْنى وأنث. قَالَ: وَبَعْضهمْ يرويهِ اليدية بِالْيَاءِ. وَفِي رِوَايَة: مودن الْيَد: أَي قصير، يُقَال: أودنت الشَّيْء: قصرته، وودنته أَيْضا لُغَة.
وَاسم هَذَا المخدج نَافِع، وَكَانَ أسود. قَالَ أَبُو مَرْيَم الثَّقَفِيّ: كَانَ هَذَا المخدج رجلا ضاويا ضَعِيفا، وَكسوته برنسا لفقره، وَكَانَ(1/208)
يشْهد طَعَام عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد سمع عليا يذكر الْخَوَارِج، وَأَن فيهم المخدج، سَمعه مِنْهُ مرَارًا، حَتَّى كَانَ لِكَثْرَة مَا يسمع من ذَلِك يمْتَنع من حُضُور الطَّعَام.
والبطر: تجَاوز الْحَد فِي المرح.
135 - / 150 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: ذكر الْخَوَارِج أَيْضا. قَالَ سَلمَة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلا منزلا. أَي سمى لي الْمنَازل الَّتِي نزلوها منزلا بعد منزل.
وَقَوله: كَمَا ناشدوكم يَوْم حروراء. قد ذكرنَا أَن حروراء صحراء بِالْكُوفَةِ.
وَقَوله: فوحشوا برماحهم: أَي رموا بهَا متخففين.
وَمعنى شجرهم النَّاس برماحهم: طعنوهم، يُقَال: تشاجر الْقَوْم بِالرِّمَاحِ: أَي تطاعنوا.
136 - / 151 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: قَالَ عَليّ: يَا رَسُول الله، مَالك تتوق فِي قُرَيْش وَتَدعنَا؟ قَالَ: " وعندكم شَيْء " قلت: نعم، بنت حَمْزَة. فَقَالَ: " إِنَّهَا لَا تحل لي، إِنَّهَا ابْنة أخي من الرضَاعَة ".
تتوق بتاءين: من تاق إِلَى الشَّيْء: إِذا اشتهاه وأحبه، وَالْمعْنَى تشتاق وترغب فِي نكاحهم، هَكَذَا رَوَوْهُ لنا وفسروه، وَرُبمَا قَالَه بَعضهم بالنُّون مَعَ تَشْدِيد الْوَاو، وَقد ذكر أَبُو عمر غُلَام ثَعْلَب فَقَالَ: تأنق الرجل وتنوق. وَقَالَ مُحَمَّد جرير الطَّبَرِيّ فِي كتاب(1/209)
" تَهْذِيب الْآثَار ": تنوق: تفعل من التوقان إِلَى الشَّيْء: وَهُوَ التشوق إِلَيْهِ، قَالَ: وَمن قَالَ تنوق فَإِنَّهُ بِمَعْنى يستجيد، من النيقة.
وَأما بنت حَمْزَة فقد روينَا فِي هَذَا الْمسند أَنه كَانَت لَهُ بنت يُقَال لَهَا فَاطِمَة، وَالظَّاهِر أَنَّهَا درجت صَغِيرَة، وَإِنَّمَا الْبَاقِيَة بعده هِيَ الَّتِي اخْتصم عَليّ وجعفر وَزيد فِي كفالتها لما هَاجَرت على مَا سَيَأْتِي فِي مُسْند الْبَراء بن عَازِب، وَالْجَمَاعَة يسمونها أُمَامَة، وَانْفَرَدَ الْوَاقِدِيّ بتسميتها عمَارَة.
وَقَوله: " إِنَّهَا ابْنة أخي " كَانَت ثويبة مولاة أبي بكر قد أرضعت حَمْزَة، ثمَّ أرضعت بعده رَسُول الله، وَكَانَ أَبُو لَهب قد أعْتقهَا، فَلَمَّا مَاتَ رَآهُ بعض أَهله فِي الْمَنَام فَقَالَ: مَاذَا لقِيت؟ فَقَالَ: لم نذق بعدكم رخاء، غير أَنى سقيت فِي هَذِه، بعتقي ثويبة، وَأَشَارَ إِلَى النقرة الَّتِي بَين الْإِبْهَام وَالَّتِي تَلِيهَا من الْأَصَابِع.
وَكَانَ رَسُول الله يكرم ثويبة ويصلها وَهُوَ بِمَكَّة، فَلَمَّا هَاجر كَانَ يبْعَث إِلَيْهَا بالصلة، إِلَى أَن جَاءَ خَبَرهَا حِين رَجَعَ من خَيْبَر أَنَّهَا توفيت، وَلَا نعلم أحدا ذكر أَنَّهَا أسلمت إِلَّا مَا حَكَاهُ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ عَن بعض الْعلمَاء أَنه قَالَ: قد اخْتلف فِي إسْلَامهَا.
137 - / 152 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَن عليا خطب فَقَالَ: أَيهَا النَّاس، أقِيمُوا الْحُدُود على أرقائكم، من أحصن وَمن لم يحصن، فَإِن أمة(1/210)
لرَسُول الله زنت فَأمرنِي أَن أجلدها، فأتيتها فَإِذا هِيَ حَدِيثَة عهد بنفاس، فَخَشِيت إِن أَنا جلدتها أَن أقتلها، فَذكرت ذَلِك لرَسُول الله فَقَالَ: " أَحْسَنت، اتركها حَتَّى تماثل ". والأرقاء: المماليك.
والإحصان: أَصله فِي اللُّغَة الْمَنْع، وَمِنْه سميت الْحُصُون لِأَنَّهَا تمنع من الْعَدو وَقَالَ ثَعْلَب: كل امْرَأَة عفيفة فَهِيَ مُحصنَة ومحصنة، وكل امْرَأَة متزوجة فَهِيَ مُحصنَة لَا غير وَالظَّاهِر من كَلَام عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه أَرَادَ بالإحصان التَّزْوِيج، وَيجوز أَن يُرِيد بِهِ الْإِسْلَام.
وَالرَّقِيق لَا يثبت فِي حَقه الرَّجْم وَلَا الْجلد التَّام، وَإِنَّمَا يضْرب خمسين جلدَة. وَعِنْدنَا أَنه لَا يغرب خلافًا لمَالِك ولأحد قولي الشَّافِعِي، وَعند دَاوُد أَن الْمَمْلُوك فِي جَمِيع ذَلِك كَالْحرِّ، إِلَّا أَنه وَافق فِي الْأمة.
وَقد دلّ قَوْله: أقِيمُوا الْحُدُود على أرقائكم على أَنه يجوز للْمولى أَن يُقيم حد الزِّنَا على رَقِيقه، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، إِلَّا أَن أَحْمد يَسْتَثْنِي الْأمة إِذا كَانَت تَحت زوج، وَالشَّافِعِيّ يُطلق، فَأَما أَبُو حنيفَة فَلَا يُجِيزهُ بِحَال.
وَقَوله: حَدِيثَة عهد بنفاس. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: قَالَ اللغويون: سميت النُّفَسَاء نفسَاء لما يسيل مِنْهَا من الدَّم، يُقَال نفست الْمَرْأَة: إِذا(1/211)
حَاضَت، وعركت، ودرست، وَيُقَال امْرَأَة نفسَاء ونفساء ونفساء، وَفِي الْجمع نفساوات ونفاس وَنَفس ونفاس.
وَأكْثر مَا يَمْتَد إِلَيْهِ حكم النّفاس أَرْبَعُونَ يَوْمًا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة سِتُّونَ يَوْمًا، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن مَالك: لَا حد لَهُ، بل تجْلِس أقْصَى مَا يجلس النِّسَاء، وَيرجع فِي ذَلِك إِلَى أولات الْعلم والخبرة بِهِ مِنْهُنَّ.
وَقَوله: " اتركها حَتَّى تماثل " قد ذكرنَا فِي مُسْند عمر جَوَاز إِقَامَة الْحَد على الْمَرِيض، فَيحمل تَأْخِيره عَن هَذَا لأجل الْوَلَد.
138 - / 154 - الحَدِيث الْعَاشِر: جعل رَسُول الله ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن للْمُسَافِر، وَيَوْما وَلَيْلَة للمقيم.
هَذَا الحَدِيث يدل على جَوَاز الْمسْح فِي الْحَضَر وَالسّفر، وَقَالَ مَالك فِي رِوَايَة لَهُ: لَا يجوز فِي الْحَضَر. وَقَالَت الإمامية وَابْن دَاوُد: لَا يجوز الْمسْح بِحَال. وَقد دلّ الحَدِيث على التَّوْقِيت، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي " الْقَدِيم ": لَا يتوقت، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم.
139 - / 155 - الحَدِيث الْحَادِي عشر: نهاني عَن لبس القسي،(1/212)
وَعَن جُلُوس على المياثر.
قد سبق فِي هَذَا الْمسند تَفْسِير القسي.
والمياثر جمع ميثرة. وَقَالَ أَبُو عبيد: الميثرة كَانَت من مراكب الْعَجم، أحسبها من حَرِير أَو ديباج، فجَاء النَّهْي عَنْهَا لذَلِك. وَقَالَ غَيره: الميثرة: جُلُود السبَاع. فعلى هَذَا يكون النَّهْي لنجاسة الْجُلُود، وَالسِّبَاع عندنَا نَجِسَة فِي حَال حَيَاتهَا، فَإِن دبغت جلودها بعد الْمَوْت لم يتَغَيَّر حكم النَّجَاسَة، لِأَن غَايَة الدّباغ أَن يرد الْجلد إِلَى حَالَته فِي الْحَيَاة. وَعند الشَّافِعِي: يطهر بالدباغ كل جلد إِلَّا جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِلَّا جلد الْخِنْزِير، وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَدَاوُد: يطهر الْكل. فَأَما إِذا ذبح مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه فَإنَّا لَا نحكم بِطَهَارَة جلده بذَبْحه، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَعند أبي حنيفَة يحكم بِطَهَارَة جلده؛ لِأَن الذّبْح عِنْده يمْنَع النَّجَاسَة الْحَاصِلَة بِالْمَوْتِ، فَيبقى الحكم بِالطَّهَارَةِ، وَعِنْدنَا أَن هَذَا الْحَيَوَان نجس الْعين، فَلَا ينفع الذّبْح.
140 - / 156 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: قل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك الْهدى والسداد، وَاذْكُر بِالْهدى هدايتك الطَّرِيق، والسداد سداد السهْم.(1/213)
قَالَ اللغويون: أصل الْهدى فِي اللُّغَة التَّوْفِيق.
والسداد بِفَتْح السِّين: إِصَابَة الْمَقْصد، وبكسرها اسْم لكل شَيْء سددت بِهِ خللا، وَمِنْه قَوْلهم: سداد من عوز، وأنشدوا:
(أضاعوني وَأي فَتى أضاعوا ... ليَوْم كريهة وسداد ثغر)
وَقَوله: وَاذْكُر بِالْهدى هدايتك الطَّرِيق. الْمَعْنى أَن سالك الطَّرِيق إِنَّمَا يؤم سمت الطَّرِيق وَلَا يُفَارق الجادة. فَالْمُرَاد: اخطر بقلبك هِدَايَة الطَّرِيق، وسل الله الْهدى والاستقامة كَمَا تتحراه فِي هِدَايَة الطَّرِيق، وَكَذَلِكَ الرَّامِي يسدد نَحْو الْغَرَض، فاخطر هَذَا الْمَعْنى بقلبك حِين تسْأَل الله السداد ليَكُون مَا تنويه من ذَلِك على شاكلة مَا تستعمله من الرَّمْي.
141 - / 157 - الحَدِيث الثَّالِث عشر: رَأَيْت رَسُول الله قَامَ فقمنا، وَقعد فَقَعَدْنَا. يَعْنِي فِي الْجِنَازَة.
لما قعد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد الْقيام نسخ الْقيام وَبَطل حكمه.
142 - / 158 - الحَدِيث الرَّابِع عشر: عَن أبي الْهياج قَالَ: قَالَ لي عَليّ رَضِي الله عَنهُ: أَلا أَبْعَثك على مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُول الله؟ أَلا تدع تمثالا إِلَّا طمسته، وَلَا قبرا مشرفا إِلَّا سويته.
التمثال: الصُّورَة. وطمسها: محوها.(1/214)
والمشرف: العالي. وعَلى هَذَا يكره تعلية الْقَبْر: فَأَما التسنيم فَهُوَ السّنة عندنَا، وَعند الشَّافِعِي السّنة تسطيح الْقُبُور.
143 - / 159 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: عَن حضين بن الْمُنْذر قَالَ: شهِدت عُثْمَان أَتَى بالوليد، فَشهد عَلَيْهِ رجلَانِ أَحدهمَا: حمْرَان أَنه شرب الْخمر، وَشهد أَحدهمَا أَنه رَآهُ يتقيأ.
أما حضين فَهُوَ بالضاد الْمُعْجَمَة، وَلَيْسَ لاسمه أَخ.
وَقد فسرنا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عُثْمَان، وَذكرنَا أَن قَول عُثْمَان: إِنَّه لم يتقيأ حَتَّى شربهَا مَحْمُول على أَنهم تيقنوا من الْقَيْء ريح الْمُسكر. وَقد رُوِيَ عَن أَحْمد أَنه إِذا وجد مِنْهُ ريح الْمُسكر حد. قَالَ أَبُو بكر من أَصْحَابنَا: وَهَذَا مَحْمُول على أَنه إِذا تحقق أَنه مُسكر فَأَما إِذا كَانَت الرَّائِحَة تحْتَمل أَن تكون من مُسكر، وَأَن تكون من غير مُسكر فَلَا. وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى المنصورة أَنه إِذا وجد سكرانا أَو تقيأ خمرًا، أَو وجد رِيحهَا مِنْهُ فَلَا حد عَلَيْهِ إِلَّا أَن يقر أَو تقوم الْبَيِّنَة.
وَقَول الْحسن: ول حارها من تولى قارها. وَهَذَا مثل مَعْنَاهُ: ول الْعقُوبَة وَالضَّرْب من توليه الْعَمَل والنفع. والقار: الْبَارِد. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: مَعْنَاهُ: ول شديدها من تولى هينها.(1/215)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف
أسلم قَدِيما، وَهَاجَر الهجرتين، وَلم يفته مَعَ رَسُول الله مشْهد، وَثَبت مَعَ رَسُول الله يَوْم أحد، وَصلى رَسُول الله خَلفه، كَانَ قد ذهب فِي غَزْوَة تَبُوك للطَّهَارَة، فجَاء وَعبد الرَّحْمَن قد صلى بهم رَكْعَة، فصلى مَعَه وَأتم الَّذِي فَاتَهُ، وَقَالَ: " مَا قبض نَبِي حَتَّى يُصَلِّي خلف رجل صَالح من أمته ".
وروى عَن رَسُول الله خَمْسَة وَسِتِّينَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة أَحَادِيث.
144 - / 160 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أَن عمر خرج إِلَى الشَّام، حَتَّى إِذا كَانَ بسرغ لقِيه أُمَرَاء الأجناد فأخبروه أَن الوباء قد وَقع بِالشَّام.
سرغ: مَوضِع.(1/216)
وَأما أُمَرَاء الأجناد فَقَالَ أَبُو الْحسن الْهنائِي اللّغَوِيّ: الشَّام خَمْسَة أجناد؛ الْأُرْدُن، وحمص، ودمشق، وفلسطين، وقنسرين.
وَأما مُشَاورَة عمر فَإِنَّهُ لما رأى أَن الله تَعَالَى قد أَمر نبيه بالمشاورة اقْتدى بذلك، ثمَّ عمل بقول من وَافق رَأْيه. والفرار من الْمخوف مَشْرُوع، وَكَذَلِكَ الِاحْتِرَاز مِنْهُ، قَالَ عز وَجل: {خُذُوا حذركُمْ} [النِّسَاء: 71] . وَقد مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحائط مائل فأسرع، وَاسْتعْمل الدَّوَاء، وَلبس الدرْع. فَهَذِهِ الْأَشْيَاء مَوْضُوعَة على قانون الْحِكْمَة، فَلَيْسَ لقَائِل أَن يعْتَمد على الْقدر ويعرض عَن الْأَسْبَاب، فَإِن الرزق مُقَدّر، وَالْكَسْب مَشْرُوع، والوباء عِنْد المتطببين أَنه يعرض للهواء فيفسده.
وَفِي قَوْله: لَو غَيْرك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَة، قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْمَعْنى لعاقبته. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: هلا تركت هَذِه الْكَلِمَة لمن قل فقهه.
وعدوة الْوَادي: جَانِبه، وفيهَا لُغَتَانِ: ضم الْعين وَكسرهَا، وَالْجمع عدى وعدى. والجدب ضد الخصب.
وَقَوله: " إِذا سَمِعْتُمْ بِهِ " يَعْنِي الطَّاعُون.
وَفِي قَوْله: " لَا تقدمُوا عَلَيْهِ " إِثْبَات الحذر، والنهى عَن التَّعَرُّض للتلف، فَهُوَ تَأْدِيب وَتَعْلِيم.
وَفِي قَوْله: " فَلَا تخْرجُوا " إِثْبَات التَّوَكُّل وَالتَّسْلِيم لأمر الله تَعَالَى وقضائه.(1/217)
فَإِن قيل: فهذان ضدان، كَيفَ يَأْمر بالحذر ثمَّ ينْهَى عَنهُ؟
فَالْجَوَاب: أَنه لما لم يُؤمن على القادم على الطَّاعُون أَن يظنّ إِذا أَصَابَهُ أَن ذَلِك على سَبِيل الْعَدْوى الَّتِي لَا صنع للقدر فِيهَا نهى عَن ذَلِك، وَلما ظن الْخَارِج عَنهُ أَن خُرُوجه يدْفع الْقدر نهى عَن ذَلِك، فكلا الْأَمريْنِ يُرَاد لإِثْبَات الْقدر، وَترك التَّعَرُّض بِمَا يزلزل الْبَاطِن. وَقَالَ بعض الْعلمَاء: إِنَّمَا نهى إِذا وَقع الطَّاعُون فِي بلد أَن يخرج مِنْهُ لِأَنَّهُ إِذا خرج الأصحاء هلك المرضى، لِأَنَّهُ لَا يبْقى من يقوم بأمرهم، فخروجهم لَا يقطع بنجاتهم، وَهُوَ قَاطع بِهَلَاك البَاقِينَ، والمسلمون كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا.
145 - / 161 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: إِنَّنِي لواقف فِي الصَّفّ يَوْم بدر، فَنَظَرت فَإِذا أَنا بغلامين حَدِيثَة أسنانهما، فتمنيت أَن أكون بَين أضلع مِنْهُمَا.
أضلع مِنْهَا: أَي أقوى، والضلاعة: الْقُوَّة.
والسواد: الشَّخْص.
والغلامان معَاذ بن عَمْرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، وهما من بني الْخَزْرَج، وَقد شَهدا الْعقبَة، وهما ضربا أَبَا جهل.
وَقَول رَسُول الله: " كلاكما قَتله " ثمَّ قضى بسلبه لِمعَاذ، وَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام رأى على سيف معَاذ مَا يدل على أَن إِضَافَة الْقَتْل إِلَيْهِ أولى.
وَابْن عفراء مَنْسُوب إِلَى أمه، وَاسم أَبِيه الْحَارِث بن رِفَاعَة. وَهَذِه الْمَرْأَة الَّتِي اسْمهَا عفراء من بني النجار أسلمت وبايعت، وَلَيْسَ فِي(1/218)
الصحابيات من شهد لَهَا سَبْعَة بَنِينَ بَدْرًا إِلَّا هِيَ، فَإِنَّهَا كَانَت عِنْد الْحَارِث بن رِفَاعَة، فَولدت لَهُ معَاذًا ومعوذا، ثمَّ طَلقهَا فَتَزَوجهَا بكير ابْن عبد ياليل، فَولدت لَهُ خَالِدا وإياسا وعاقلا وعامرا، ثمَّ رَاجعهَا الْحَارِث فَولدت لَهُ عوفا، فَشَهِدُوا كلهم بَدْرًا، وَاسْتشْهدَ معَاذ ومعوذ وعاقل ببدر، وخَالِد يَوْم الرجيع، وعامر يَوْم بِئْر مَعُونَة، وَإيَاس يَوْم الْيَمَامَة. والبقية مِنْهُم لعوف.
146 - / 162 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
كاتبت أُميَّة بن خلف أَن يحفظني فِي صاغيتي بِمَكَّة وأحفظه فِي صاغيته بِالْمَدِينَةِ.
صاغية الرجل: أَهله وحاشيته وكل من يصغى إِلَيْهِ: أَي يمِيل، وَمِنْه قَوْلهم: أصغيت إِلَى فلَان: أَي ملت بسمعي، وَيُقَال: صغوك مَعَ فلَان: أَي ميلك مَعَه.
خرجت لأحرزه: أَي لأحوطه وأحفظه من الْقَتْل، وَسمي الْحِرْز حرْزا لحفظه.
147 - / 163 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لما قدمنَا الْمَدِينَة آخى رَسُول الله بيني وَبَين سعد بن الرّبيع.
سعد بن الرّبيع من نقباء الْأَنْصَار، شهد بَدْرًا وأحدا، وَقَالَ النَّبِي(1/219)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد: " من يأتيني بِخَبَر سعد بن الرّبيع؟ " فَقَالَ رجل: أَنا فَذهب يطوف بَين الْقَتْلَى، فَقَالَ لَهُ سعد بن الرّبيع: مَا شَأْنك؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لآتيه بخبرك. قَالَ: فَاذْهَبْ وَأقرهُ مني السَّلَام، وَأخْبرهُ أَنِّي قد طعنت اثْنَتَيْ عشرَة طعنة، وَأَنه قد أنفذت مقاتلي، وَأخْبر قَوْمك أَنهم لَا عذر لَهُم عِنْد الله إِن قتل رَسُول الله وَوَاحِد مِنْهُم حَيّ، وَمَات من جراحته تِلْكَ.
وَهَذِه المؤاخاة كَانَت فِي أول سنة من سني الْهِجْرَة، وعامتها بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَلها سببان:
أَحدهمَا: أَنه أجراهم على مَا كَانُوا ألفوا فِي الْجَاهِلِيَّة من الْحلف، فَإِنَّهُم كَانُوا يتوارثون بِالْحلف، فنفاه وَأثبت من جنسه المؤاخاة، لِأَن الْإِنْسَان إِذا فطم عَمَّا يألفه علل بِجِنْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَن الْمُهَاجِرين قدمُوا مُحْتَاجين إِلَى المَال والمنازل، فنزلوا على الْأَنْصَار، فأكد هَذِه المخالطة بالمؤاخاة، وَلم يكن بعد غزَاة بدر مؤاخاة، لِأَن الْغَنَائِم وَقعت بِالْقِتَالِ، فاستغنى الْمُهَاجِرُونَ بِمَا كسبوا.
وَقد أحصيت عدد الَّذين آخى بَينهم فِي كتابي الْمُسَمّى بالتلقيح، فَكَانُوا مائَة وَسِتَّة وَثَمَانِينَ رجلا.
وَقَوله: " فكم سقت؟ " أَي كم أَعْطَيْت؟ وَكَانَ عَادَتهم سوق الْإِبِل إِلَى الْمَرْأَة فِي الْمهْر.
والنواة فِي الموزونات خَمْسَة دَرَاهِم، هَكَذَا ذكر أَبُو عبيد. وَقَالَ(1/220)
أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: ذَهَبا كَانَ أَو فضَّة.
وَقد دلّ هَذَا على جَوَاز النِّكَاح بِدُونِ عشرَة دَرَاهِم، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُنكر عَلَيْهِ مَا صنع. وَعِنْدنَا أَنه لَيْسَ لأَقل الصَدَاق حد، وكل مَا جَازَ أَن يكون ثمنا جَازَ أَن يكون صَدَاقا، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يقدر بِمَا يقطع بِهِ السَّارِق، فَعِنْدَ أبي حنيفَة يقطع فِي عشرَة دَرَاهِم، وَعند مَالك فِي ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو ربع دِينَار.
والوليمة: الطَّعَام عِنْد الْعرس، وَهِي عندنَا مُسْتَحبَّة، وَعَن الشَّافِعِي أَنَّهَا وَاجِبَة.
148 - / 166 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: جَاءَ كتاب عمر: اقْتُلُوا كل سَاحر وساحرة، وَفرقُوا بَين كل ذِي محرم من الْمَجُوس، وانههم عَن الزمزمة.
عندنَا أَن السَّاحر كَافِر، وَأَنه يقتل وَلَا تقبل تَوْبَته. وَعَن أَحْمد تقبل تَوْبَته كالمرتد. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يكفر بذلك، فَإِن قتل بِالسحرِ قتل قصاصا. فَأَما الْمَرْأَة فَحكمهَا عندنَا حكم الرجل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يحبس وَلَا يقتل. فَأَما إِذا كَانَ الرجل ذِمِّيا فعندنا أَنه لَا يقتل، لأَنا نقْتل الْمُسلم لقَوْله واعتقاده فِي السحر مَا يخرج بِهِ عَن الْإِسْلَام، وَالذِّمِّيّ مقرّ على مثل ذَلِك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يقتل.(1/221)
وَقَوله: فرقوا بَين كل ذِي محرم من الْمَجُوس. فِي هَذَا وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن يكون هَذَا قبل أَخذه مِنْهُم الْجِزْيَة، لِأَنَّهُ لم يَأْخُذهَا مِنْهُم حَتَّى شهد عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أَن رَسُول الله أَخذهَا من مجوس هجر. وَالثَّانِي: أَن يكون المُرَاد مَنعهم من إِظْهَار هَذَا ليستتروا بِهِ كَمَا تستتر النَّصَارَى بصلبانهم.
والزمزمة: الصَّوْت، وَكَانُوا يزمزمون عِنْد الْأكل، وَإِنَّمَا نهوا عَنْهَا لِأَنَّهَا رُبمَا تَضَمَّنت الْكفْر أَو عيب ديننَا.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: وألقوا وقر بغل أَو بغلين: أَي مِمَّا اختانوه.(1/222)
كشف الْمُشكل من مُسْند طَلْحَة بن عبيد الله التَّيْمِيّ
أسلم قَدِيما، وَشهد الْمشَاهد كلهَا مَا خلا بَدْرًا؛ فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه وَسَعِيد بن زيد يتجسسان خبر عير قُرَيْش، ففاتهما بدر، فَضرب لَهما بأجرهما وسهامهما، فَكَانَا كمن شَهِدَهَا، وَسَماهُ رَسُول الله يَوْمئِذٍ: طَلْحَة الْخَيْر، وَيَوْم غَزْوَة ذَات الْعَشِيرَة: طَلْحَة الْفَيَّاض، وَيَوْم حنين: طَلْحَة الْجُود.
وروى عَن رَسُول الله ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة.
149 - / 167 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول:
جَاءَ رجل من نجد ثَائِر الرَّأْس، يسمع دوِي صَوته وَلَا يفقه مَا يَقُول.
ثَائِر الرَّأْس: يَعْنِي أَن شعره متفرق لقلَّة الرَّفَاهِيَة.
والدوي: صَوت رفيع متكدر لَا يكَاد يفهم مِنْهُ شَيْء.(1/223)
وَقَوله: لَا أَزِيد وَلَا أنقص، يحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: لَا أَزِيد فِي الْفَرَائِض وَلَا أنقص مِنْهَا كَمَا فعلت الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
وَالثَّانِي: أَن أكتفي بِمَا دون النَّوَافِل.
150 - / 170 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
رَأَيْت يَد طَلْحَة شلاء وقى بهَا رَسُول الله يَوْم أحد.
الشلل: فَسَاد يلْحق الْيَد فيرخيها. وَكَانَ رَسُول الله حِين تفرق النَّاس يَوْم أحد يَرْمِي بِالْقَوْسِ حَتَّى صَارَت شظايا، وَثَبت مَعَه عِصَابَة من الصَّحَابَة، فأصيبت يَوْمئِذٍ رباعيته، وكلم فِي وجنتيه، وعلاه ابْن قميئة بِالسَّيْفِ فاتقاه طَلْحَة بِيَدِهِ، فشلت يَده، وَقيل: إِنَّمَا شلت إصبعان من يَده.
151 - / 171 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
كُنَّا مَعَ طَلْحَة وَنحن حرم، فأهدي لنا طير وَطَلْحَة رَاقِد، فمنا من أكل وَمنا من تورع فَلم يَأْكُل، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَة وفْق من أكله وَقَالَ: أكلناه مَعَ رَسُول الله.
الْحرم: المحرمون.(1/224)
وَالطير جمع طَائِر.
وتورع: امْتنع مِمَّا يشك فِيهِ.
وَمعنى وفْق: صوب.
والْحَدِيث مَحْمُول على أَنه أهدي لَهُم مَا لم يصطد لأجلهم. وَعِنْدنَا أَنه يحرم على الْمحرم أكل مَا صيد لأَجله خلافًا لأبي حنيفَة، فَإِن أكل مِنْهُ فَعَلَيهِ الضَّمَان خلافًا لأحد قولي الشَّافِعِي.
152 - / 172 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: إِذا وضع أحدكُم بَين يَدَيْهِ مثل مؤخرة الرحل فَليصل.
مؤخرة الرحل: آخِره، وَهِي خَشَبَة لَطِيفَة قَائِمَة، وَالْمرَاد بذلك أَن يُصَلِّي إِلَى ستْرَة، وَلَا يضرّهُ من جَازَ خلفهَا.
153 - / 173 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: مَرَرْت مَعَ رَسُول الله بِقوم على رُؤُوس النّخل، فَقَالَ: " مَا يصنع هَؤُلَاءِ؟ " فَقَالُوا: يلقحونه.
التلقيح: ترك شَيْء من النَّخْلَة الذّكر فِي النَّخْلَة الْأُنْثَى.
وَقَوله: " مَا أَظن ذَلِك يُغني شَيْئا " إِعْرَاض مِنْهُ عَن الْأَسْبَاب، ثمَّ تفكر فِي تَأْثِير الْأَسْبَاب فَقَالَ: " إِن كَانَ يَنْفَعهُمْ ذَلِك فليصنعوه ".(1/225)
كشف الْمُشكل من مُسْند الزبير بن الْعَوام
وَأمه صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب عمَّة رَسُول الله. أسلم قَدِيما وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة، فَعَذَّبَهُ عَمه ليرْجع عَن دينه فَلم يفعل، وَهَاجَر الهجرتين وَلم يتَخَلَّف عَن مشْهد شهده رَسُول الله، وَهُوَ أول من سل سَيْفا فِي سَبِيل الله، وَكَانَ يَوْم بدر على الميمنة وَعَلِيهِ ريطه صفراء قد اعتجز بهَا، فَنزلت الْمَلَائِكَة على سيماه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أول حربها، فَنزلت على سِيمَا أول محَارب.
روى عَن رَسُول الله ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ حَدِيثا مثل طَلْحَة، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ تِسْعَة.
154 - / 174 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول:
أَن رجلا خَاصم الزبير عِنْد رَسُول الله فِي شراج الْحرَّة، فَقَالَ النَّبِي: " اسْقِ يَا زبير، ثمَّ أرسل المَاء إِلَى جَارك " فَغَضب الْأنْصَارِيّ ثمَّ قَالَ: يَا رَسُول الله، أَن كَانَ ابْن عَمَّتك. فَتَلَوَّنَ وَجه رَسُول الله، ثمَّ قَالَ للزبير: " اسْقِ يَا زبير، ثمَّ احْبِسْ المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر " وَفِي لفظ:(1/226)
فَلَمَّا أحفظ الْأنْصَارِيّ رَسُول الله استوعى للزبير حَقه فِي صَرِيح الحكم، فَلَا أَحسب هَذِه الْآيَة نزلت إِلَّا فِي هَذَا: {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم} [النِّسَاء: 65] .
قَالَ أَبُو عبيد: الشراج: مجاري المَاء من الْحرار إِلَى السهل، وَاحِدهَا شرج.
والحرة: الأَرْض الَّتِي قد ألبست حِجَارَة سَوْدَاء، وَكَانَ واديان من أَوديَة الْمَدِينَة يسيلان بالمطر فيتنافس أهل الحوائط فِي سيلهما، فَقضى بِهِ رَسُول الله للأعلى فالأعلى، وَالْأَقْرَب فَالْأَقْرَب.
وَقَوله: أَن كَانَ ابْن عَمَّتك، الْألف فِي أَن مَفْتُوحَة، وَالْمعْنَى: تقضي لَهُ لكَونه ابْن عَمَّتك، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {أَن كَانَ ذَا مَال وبنين} [الْقَلَم: 14] الْمَعْنى: لِأَن كَانَ ذَا مَال تُطِيعهُ.
والجدر: الْجِدَار. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَقد رَوَاهُ بَعضهم الجذر بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، يُرِيد بِهِ مبلغ تَمام الشّرْب، من جذر الْحساب، وَالْأول أصح.
وأحفظ: أغضب. وصريح الحكم: ظَاهره. واستوعى: استوفى لَهُ الْحق، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْوِعَاء، كَأَنَّهُ جمعه فِي وعائه.
وَشَجر مَا بَين الْقَوْم: اخْتلفُوا، واشتجروا: تنازعوا.(1/227)
155 - / 175 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كنت يَوْم الْأَحْزَاب مَعَ النِّسَاء فِي أَطَم حسان.
الأطم بِضَم الْألف: بِنَاء من حِجَارَة مَرْفُوع كالقصر والحصن. وَقَالَ أَبُو عبيد: الأطم: الْحصن، وَجمعه آطام، وَمثله الأجم وَجمعه آجام، وَهِي لُغَة حجازية.
156 - / 176 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
أَن الزبير قتل وَترك أَرضين من الغابة، وَأَنه خلف خمسين ألف ألف ومائتي ألف.
الغابة: اسْم مَوضِع.
وَترك هَذِه الْأَمْوَال دَلِيل على أَنه لَا يكره جمع الْأَمْوَال من حَلَال، وَأَن يخلفها الْإِنْسَان لِعِيَالِهِ، خلافًا لجهلة المتزهدين.
157 - / 177 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار ".
أصل التبوء من مباءة الْإِبِل: وَهِي أعطانها، يُقَال: تبوأ لنَفسِهِ مَكَانا: إِذا اتَّخذهُ. وَظَاهر اللَّفْظ الْأَمر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر، وَقد يكون ظَاهر اللَّفْظ الْخَبَر وَمَعْنَاهُ الْأَمر كَقَوْلِه: (والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ(1/228)
بِأَنْفُسِهِنَّ} [الْبَقَرَة: 228] {والوالدات يرضعن} [الْبَقَرَة: 233] .
وَمَعْلُوم أَن الزبير مَا خَافَ تعمد الْكَذِب، إِنَّمَا خَافَ الزلل.
158 - / 179 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: لقِيت يَوْم بدر عُبَيْدَة - وَيُقَال عَبدة - بن سعيد بن الْعَاصِ وَهُوَ مدجج لَا ترى مِنْهُ إِلَّا عَيناهُ، وَكَانَ يكنى أَبَا ذَات الكرش، فَقَالَ: أَنا أَبُو ذَات الكرش، فَحملت عَلَيْهِ بالعنزة، فطعنته فِي عينه فَمَاتَ، وَلَقَد وضعت رجْلي عَلَيْهِ، ثمَّ تمطيت فَكَانَ الْجهد أَن نزعتها وَقد انثنى طرفها.
المدجج: المغطى بِالسِّلَاحِ.
والعنزة: الحربة.
وتمطيت: أَي تمددت، وَهُوَ مَأْخُوذ من المطا وَهُوَ الظّهْر، فالمتمطي يمد ظَهره. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: أصل يتمطى يتمطط، فقلبت الطَّاء فِيهِ يَاء، كَمَا قَالُوا يتظنى وَالْأَصْل يتظنن، وَمِنْه المشية الْمُطَيْطَاء، وأصل الطَّاء فِي هَذَا كُله دَال يُقَال: مططت ومددت بِمَعْنى.
قَوْله: وَكَانَ الْجهد أَن نزعتها - يَعْنِي الحربة. والجهد بِالْفَتْح: الْمَشَقَّة. والجهد بِالضَّمِّ: الطَّاقَة، وَبَعْضهمْ يَقُول لُغَتَانِ بِمَعْنى.
159 - / 180 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قَالُوا للزبير يَوْم اليرموك: أَلا تشد فنشد مَعَك. قَالَ: إِنِّي إِن شددت كَذبْتُمْ.
اليرموك: وقْعَة كَانَت فِي خلَافَة عمر.(1/229)
وَمعنى قَوْله: كَذبْتُمْ: أَي حملتم ثمَّ عدتم. يُقَال: كذب الرجل فِي الْقِتَال، وَهَلل وعرد: إِذا حمل ثمَّ رَجَعَ.
160 - / 181 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: ضربت للمهاجرين يَوْم بدر بِمِائَة سهم.
أَي عَنْهُم.
161 - / 182 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ سيف الزبير محلى بِفِضَّة.
اعْلَم أَن الْيَسِير من الْفضة إِذا كَانَ قَائِما مقَام مَا لَا غناء لَهُ عَنهُ من الصفر والنحاس وَغَيره جَازَ، كقبيعة السَّيْف، وشعيرة السكين، وتشعيب قدح، وَإِن لم يكن إِلَى ذَلِك اليسيرحاجة كالحلقة فِي الْإِنَاء لم يجز، فَإِن كَانَ كثيرا حرم على كل حَال. وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: إِن كَانَ يَسِيرا يحْتَاج إِلَيْهِ كإصلاح مَوضِع كسر فَهُوَ مُبَاح، فَأَما إِذا لم يحْتَج إِلَيْهِ فَمنهمْ من أَبَاحَهُ وَمِنْهُم من كرهه. وَأما إِذا كَانَ كثيرا: فَإِن احْتِيجَ إِلَيْهِ فَهُوَ مَكْرُوه عِنْدهم، وَإِن لم يحْتَج إِلَيْهِ فَحَرَام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَدَاوُد: لَا يكره ذَلِك، كثيرا كَانَ أَو يَسِيرا.(1/230)
كشف الْمُشكل من مُسْند سعد بن أبي وَقاص
واسْمه مَالك بن وهيب، أسلم قَدِيما، وَقَالَ: كنت ثَالِثا فِي الْإِسْلَام وَأَنا أول من رمى بِسَهْم فِي سَبِيل الله، وَلم يفته مشْهد مَعَ رَسُول الله.
وروى عَنهُ مِائَتي حَدِيث وَسبعين حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة وَثَلَاثُونَ.
162 - / 183 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول:
قَوْله: كنت أُصَلِّي بهم صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا أخرم عَنْهَا، أُصَلِّي صَلَاتي الْعشي، فأركد فِي الأولتين، وأخف فِي الأخرتين.
قَوْله: لَا أخرم: أَي لَا أترك وَلَا أنقص.
وصلاتا الْعشي الظّهْر وَالْعصر؛ لِأَن الفدو من أول النَّهَار إِلَى وَقت الزَّوَال، والعشي من عِنْد الزَّوَال إِلَى الْمغرب.
وأركد: أثبت وأسكن. يُقَال: مَاء راكد: أَي وَاقِف.
والركعتان الأوليان هما الأَصْل فِي الصَّلَاة، فَلهَذَا تطول.(1/231)
163 - / 184 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أعْطى رَسُول الله رهطا وَأَنا جَالس، فَترك مِنْهُم رجلا هُوَ أعجبهم إِلَيّ، فَقُمْت فَقلت: مَالك عَن فلَان؟ وَالله إِنِّي لأراه مُؤمنا. فَقَالَ رَسُول الله: " أَو مُسلما " ثمَّ قَالَ: " إِنِّي لأعطي الرجل وَغَيره أحب إِلَيّ مِنْهُ خشيَة أَن يكب فِي النَّار على وَجهه ".
الرَّهْط: جمَاعَة دون الْعشْرَة.
وَقَوله: مَالك عَن فلَان؟ : أَي مَالك أَعرَضت عَنهُ فَلم تعطه.
وَهَذَا الحَدِيث صَرِيح فِي الْفرق بَين الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، وَذَلِكَ أَن الْإِسْلَام الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، وَالْإِيمَان الِاعْتِقَاد بِالْقَلْبِ.
وَقَوله: " أعطي الرجل وَغَيره أحب إِلَيّ خشيَة أَن يكب فِي النَّار " كَأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى الْمُؤَلّفَة، أَو إِلَى من إِذا منع نسب الرَّسُول إِلَى الْبُخْل، فَاسْتحقَّ بِهَذِهِ النِّسْبَة النَّار.
164 - / 185 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: جَاءَنِي رَسُول الله يعودنِي، فَقلت: أَتصدق بِثُلثي مَالِي؟ قَالَ: " لَا " قلت: فَالشَّطْر؟ قَالَ " لَا ".
الشّطْر: النّصْف.
وَقَوله: " إِنَّك أَن تذر وَرثتك " سمعناه من رُوَاة الحَدِيث بِكَسْر " إِن " وَقَالَ لنا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: إِنَّمَا هُوَ بِفَتْح الْألف وَلَا يجوز الْكسر؛ لِأَنَّهُ لَا جَوَاب لَهُ. وَمثله قَوْله تَعَالَى:(1/232)
{وَأَن تَصُومُوا خير لكم} [الْبَقَرَة: 184] .
والعالة: الْفُقَرَاء، جمع عائل وَهُوَ الْفَقِير.
وَمعنى يَتَكَفَّفُونَ: يمدون الأكف سائلين. يُقَال: تكفف واستكف: إِذا مد كَفه سَائِلًا. وَفِي هَذَا اسْتِحْبَاب تخليف المَال للْوَرَثَة.
وَقَوله: " تبتغي بهَا وَجه الله " يَعْنِي الْإِخْلَاص، فعلق الْأجر بالإخلاص.
وَقَوله: " وَلَكِن البائس سعد بن خَوْلَة " البائس: ذُو الْبُؤْس. فعده من جملَة الْمَسَاكِين والفقراء لما فَاتَهُ من الْفضل لَو مَاتَ فِي غير مَكَّة، وَذَلِكَ أَن الْمُهَاجِرين هجروا مَكَّة فِي الله عز وَجل فكرهوا أَن تكون حياتهم ومماتهم فِي مَكَان هجروه لله عز وَجل، فَيكون ذَلِك كالعود فِيمَا تركُوا.
فَأَما ابْن خَوْلَة فَإِن الْجَمَاعَة يَقُولُونَ: سعد بن خَوْلَة، سوى أبي معشر فَإِنَّهُ يَقُول: ابْن خولى. وَهُوَ مِمَّن شهد بَدْرًا. وَاتفقَ أَنه خرج إِلَى مَكَّة فَمَاتَ بهَا، وَكَانَ يكره لمن هَاجر من مَكَّة أَن يرجع إِلَى مَكَّة فيقيم بهَا أَكثر من انْقِضَاء نُسكه، ليبين أثر الْهِجْرَة.
وَقَوله: أخلف بعد أَصْحَابِي؟ أَي يرحلون عني وَأبقى بِمَكَّة.
وَفِي قَوْله: " اللَّهُمَّ اشف سَعْدا " دَلِيل على اسْتِحْبَاب الدُّعَاء للْمَرِيض بالعافية.(1/233)
وَقَوله: إِن نَفَقَتك على عِيَالك صَدَقَة يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون الْمَعْنى: يكْتب لَك بذلك أجر الصَّدَقَة. وَالثَّانِي: أَنه لما أَرَادَ أَن يتَصَدَّق بِمَالِه أخبرهُ أَن مَا يَنَالهُ من الْعِيَال فِيهِ أجر، كَمَا أَن فِي الصَّدَقَة أجرا.
165 - / 186 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أعظم الْمُسلمين فِي الْمُسلمين جرما من سَأَلَ عَن شَيْء لم يحرم على النَّاس فَحرم من أجل مَسْأَلته.
هَذَا مَحْمُول على من سَأَلَ عَن الشَّيْء عنتا أَو عَبَثا فَعُوقِبَ لسوء قَصده بِتَحْرِيم مَا سَأَلَ عَنهُ، وَالتَّحْرِيم يعم.
166 - / 187 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: مَا سَمِعت رَسُول الله قَالَ لأحد يمشي على الأَرْض إِنَّه من أهل الْجنَّة إِلَّا لعبد الله بن سَلام، وَفِيه نزلت: {وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل على مثله} [الْأَحْقَاف: 10] قَالَ الرَّاوِي: لَا أَدْرِي قَالَ مَالك الْآيَة أَو فِي الحَدِيث.
إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يَقُول سعد هَذَا وَقد علم أَن رَسُول الله قد شهد لجَماعَة من الصَّحَابَة بِالْجنَّةِ وَسعد مِنْهُم؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون سعد لم يسمع ذَلِك، فَإِن حَدِيث الْعشْرَة أَنهم فِي الْجنَّة يرويهِ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَيَرْوِيه سعيد بن زيد.
وَالثَّانِي: أَن يُشِير بذلك إِلَى غير الْعشْرَة، فَإِن أَمر الْعشْرَة مستفيض.(1/234)
وَأما قَوْله: {وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل} فأنبأنا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ الْحَافِظ قَالَ: ذكر الْآيَة من قَول أنس بن مَالك، رَوَاهُ عبد الله بن وهب عَن مَالك، وَالزِّيَادَة فِيهِ مبينَة مفصولة من الحَدِيث.
وَأما الشَّاهِد فَهُوَ عبد الله بن سَلام.
وَإِسْرَائِيل: يَعْقُوب، وَفِيه لُغَات: إِسْرَائِيل، وإسرائين، وإسرال.
وَقَوله: {على مثله} الْمثل صلَة، وَالْمعْنَى: شهد على أَن هَذَا الْقُرْآن من عِنْد الله.
167 - / 188 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " من تصبح بِسبع تمرات عَجْوَة لم يضرّهُ ذَلِك الْيَوْم سم وَلَا سحر " وَفِي لفظ: " من عَجْوَة الْعَالِيَة " وَفِي لفظ " من أكل سبع تمرات مِمَّا بَين لابتيها ".
معنى تصبح: أكلهن وَقت الصَّباح قبل أَن يَأْكُل شَيْئا. والعجوة: نوع من التَّمْر يكون بِالْمَدِينَةِ. والعالية: مَكَان قريب من الْمَدِينَة.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَكَونهَا عوذة من السم وَالسحر إِنَّمَا هُوَ من طَرِيق التَّبَرُّك لدَعْوَة من الرَّسُول سبقت فِيهَا، لَا لِأَن من طبع التَّمْر أَن يصنع شَيْئا من ذَلِك.
وَقَوله: " مَا بَين لابتيها " قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: اللابة: الْحرَّة، وَهِي(1/235)
الأَرْض الَّتِي قد ألبستها حِجَارَة سود. وَجمع اللابة لابات، مَا بَين الثَّلَاث إِلَى الْعشْر، فَإِذا كثرت فَهِيَ اللاب واللوب. وَمثله قارة وقور، وساحة وسوح.
168 - / 189 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: اسْتَأْذن عمر على النَّبِي وَعِنْده نسْوَة يسألنه ويستكثرنه.
أَي يطلبن مِنْهُ الْكثير، وَإِنَّمَا علت أصواتهن لعلمهن بصفحه وحلمه.
وَقَوله: " إيه " كلمة تقال عَن استزادة الحَدِيث. وإيها عِنْد الْأَمر بالكف.
والفج وَاحِد الفجاج، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هِيَ المسالك. وَقَالَ الزّجاج: كل منخرق بَين جبلين فَهُوَ فج.
169 - / 190 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: خلف رَسُول الله عَليّ بن أبي طَالب فِي غَزْوَة تَبُوك، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أتخلفني فِي النِّسَاء وَالصبيان! فَقَالَ: " أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى، غير أَنه لَا نَبِي بعدِي ".
لما شبهه فِي تخليفه إِيَّاه بهَارُون حِين خَلفه مُوسَى، خَافَ أَن يتَأَوَّل متأول فيدعي النُّبُوَّة لعَلي عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: " غير أَنه لَا نَبِي بعدِي "(1/236)
وَإِنَّمَا كَانَت خلَافَة هَارُون فِي وَقت خَاص فِي حَيَاة مُوسَى.
170 - / 191 - الحَدِيث التَّاسِع: عَن مُصعب بن سعد قَالَ: صليت إِلَى جنب أبي، فطبقت بَين كفي ثمَّ وَضَعتهَا بَين فَخذي، فنهاني عَن ذَلِك وَقَالَ: كُنَّا نَفْعل هَذَا فنهينا عَنهُ، وأمرنا أَن نضع أَيْدِينَا على الركب.
كَانُوا يلصقون الرَّاحَة بالراحة ويضعونهما بَين الفخذين فَوق الركب، وَكَانَ ذَلِك يُسمى التطبيق، فنهوا عَن ذَلِك وَأمرُوا بِوَضْع الْكَفَّيْنِ على الركب، وَهُوَ أمكن للْمُصَلِّي.
171 - / 193 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: رد رَسُول الله على عُثْمَان ابْن مَظْعُون التبتل، وَلَو أذن لَهُ لاختصينا. أصل التبتل الِانْقِطَاع. يُقَال: بتلت الشَّيْء أبتله: إِذا أبنته عَن غَيره وَمِنْه: طلق الرجل زَوجته بتة بتلة. والمتبتل: الْمُنْقَطع إِلَى الله عز وَجل. وَالْمرَاد بِهِ هَاهُنَا الِانْقِطَاع عَن النِّسَاء وَترك النِّكَاح، وَمِنْه قيل لِمَرْيَم الْعَذْرَاء: البتول، لانقطاعها عَن التَّزْوِيج. وَإِنَّمَا نهى نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التبتل ليكْثر الموحدون وَالْمُجَاهِدُونَ.
والاختصاء: نزع الخصى.
172 - / 194 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: نثل رَسُول الله كِنَانَته.(1/237)
أَي أخرج مَا فِيهَا من النبل.
قَوْله: وَكَانَ رجل قد أحرق الْمُسلمين: أَي بَالغ فِي أذاهم.
قَوْله: فَضَحِك حَتَّى نظرت إِلَى نَوَاجِذه. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: قَالَ أَبُو زيد للْإنْسَان أَربع ثنايا وَأَرْبع رباعيات، الْوَاحِدَة ربَاعِية مُخَفّفَة. وَأَرْبَعَة أَنْيَاب، وَأَرْبَعَة ضواحك، واثنتا عشرَة رحى، ثَلَاث فِي كل شقّ، وَأَرْبَعَة نواجذ وَهِي أقصاها. وَقَالَ الْأَصْمَعِي مثل ذَلِك كُله، إِلَّا أَنه جعل الأرحاء ثمانيا: أَرْبعا من فَوق وأربعا من أَسْفَل. والناجذ: ضرس الْحلم، يُقَال: رجل منجذ: إِذا أحكم الْأُمُور، وَذَلِكَ مَأْخُوذ من الناجذ. والنواجذ للْإنْسَان بِمَنْزِلَة القارح من الْفرس: وَهِي الأنياب من ذَوَات الْخُف. وَقَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي: النواجذ: آخر الأضراس، وَاحِدهَا نجذ، وَلَا تبدو إِلَّا عِنْد الشَّديد من الضحك، وَفِي الْفَم اثْنَان وَثَلَاثُونَ سنا: ثنيتان من فَوق، وثنيتان من تَحت، ورباعيتان من فَوق، ورباعيتان من تَحت، ونابان من فَوق، ونابان من تَحت، وضاحكان من فَوق، وضاحكان من تَحت، وَثَلَاث أرحاء من فَوق، وَثَلَاث أرحاء من تَحت فِي الْجَانِب الْأَيْمن، وَفِي الْجَانِب الْأَيْسَر. وناجذان فِي الْجَانِب الْأَيْمن، وناجذان فِي الْجَانِب الْأَيْسَر. وَيُقَال لما بَين الثَّنية والأضراس: الْعَارِض، قَالَ جرير:
(أَتَذكر يَوْم تصقل عارضيها ... 000000000)(1/238)
وَقد رتبها بعض أهل اللُّغَة فَقَالَ: الثنايا أَربع: اثْنَتَانِ من فَوق، وَاثْنَتَانِ من تَحت، ثمَّ يليهن الرباعيتان: اثْنَتَانِ من فَوق، وَاثْنَتَانِ من تَحت، ثمَّ يليهن الأنياب وَهِي أَربع، ثمَّ يليهن الأضراس وَهِي عشرُون، من كل جَانب من الْفَم خَمْسَة من أَسْفَل وَخَمْسَة من فَوق، مِنْهَا الضواحك وَهِي أَرْبَعَة أضراس تلِي الأنياب، إِلَى جنب كل نَاب من أَسْفَل الْفَم وَأَعلاهُ ضَاحِك، ثمَّ بعد الضواحك الطواحن، وَيُقَال لَهَا الأرحاء، وَهِي اثْنَا عشر طاحنا من كل جَانب ثَلَاثَة، ثمَّ يَلِي الطواحن النواجذ، وَهِي آخر الْأَسْنَان، من كل جَانب من الْفَم وَاحِد من فَوق وَوَاحِد من أَسْفَل.
173 - / 196 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: كُنَّا نغزو مَعَ رَسُول الله مالنا طَعَام إِلَّا ورق الحبلة وَهَذَا السمر، حَتَّى إِن كَانَ أَحَدنَا ليضع كَمَا تضع الشَّاة، مَاله خلط، ثمَّ أَصبَحت بَنو أَسد تعزرني على الْإِسْلَام.
الحبلة بِضَم الْحَاء وَسُكُون الْبَاء - كَذَلِك قَالَ أَبُو عبيد وَغَيره: وَهِي ثَمَر الْعضَاة، والعضاة: كل شجر من شجر الشوك كالطلح والعوسج. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: والحبلة أَيْضا: ضرب من الْحلِيّ يكون فِي القلائد، قَالَ النمر بن تولب:(1/239)
(وكل حليل عَلَيْهِ الرعاث ... والحبلات كذوب ملق)
وَإِنَّمَا قيل لَهُ حبلة لِأَنَّهُ يصاغ على مِثَال ثَمَر الْعضَاة.
والسمر: شجر الطلح.
وَقَوله: مَاله خلط: أَي من اليبس وقشف الْعَيْش.
وتعزرني: تؤدبني، وَمِنْه التَّعْزِير الَّذِي هُوَ التَّأْدِيب على التَّفْرِيط. وَالْمعْنَى: يعلمونني الصَّلَاة، ويعيرونني بِأَنِّي لَا أحْسنهَا. وَقَالَ أَبُو عمر الزَّاهِد: يعلمونني الْفِقْه.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ مدح هَذَا الرجل نَفسه وَمن شَأْن الْمُؤمن التَّوَاضُع؟
فَالْجَوَاب: أَنه إِذا اضْطر الْإِنْسَان إِلَى إِظْهَار فَضله حسن إِظْهَاره، كَمَا قَالَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنِّي حفيظ عليم} [يُوسُف: 55] فَهَذَا لما عيره الْجُهَّال اضْطر إِلَى ذكر فَضله.
وَاعْلَم أَن المدحة إِذا خلت عَن الْبَغي والاستطالة على أهل الْحق، وَكَانَ مَقْصُود قَائِلهَا إِقَامَة حق أَو إبِْطَال جور أَو إِظْهَار نعْمَة، لم يلم. فَلَو أَن قَائِلا: إِنِّي لحافظ لكتاب الله، عَالم بتفسيره وبالفقه فِي الدّين، يقْصد بِهَذَا إِظْهَار الشُّكْر، أَو تَعْرِيف المتعلم مَا عِنْده ليستفيده، إِذْ لَو لم يبين ذَلِك لم يعلم مَا عِنْده فَلم يطْلب، لم يستقبح ذَلِك. وَلِهَذَا الْمَعْنى قَالَ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنِّي حفيظ عليم} وَقَالَ نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام: " أَنا أكْرم ولد آدم على ربه ". وَقَالَ عمر حِين أعْطى السَّائِل(1/240)
قَمِيصه: وَالله لَا أملك غَيره. وَقَالَ عَليّ: سلوني عَن كتاب الله، فو الله مَا من آيَة إِلَّا وَأَنا أعلم: أبليل نزلت أم بنهار، أم فِي سهل نزلت أم فِي جبل. وَقَالَ ابْن مَسْعُود: وَالله مَا نزلت فِي الْقُرْآن سُورَة إِلَّا أَنا أعلم حَيْثُ أنزلت، وَلَو أعلم أحدا أعلم مني بِكِتَاب الله تبلغه الْإِبِل لأتيته، وَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر: أَنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب. وَقَالَ الْأَحْنَف بن قيس: مَا جلس إِلَيّ اثْنَان قطّ ثمَّ انصرفا من عِنْدِي فذكرتهما بِسوء. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: قَرَأت الْقُرْآن فِي رَكْعَة فِي الْكَعْبَة. وَقَالَ مُورق الْعجلِيّ: مَا قلت فِي الْغَضَب شَيْئا قطّ فندمت عَلَيْهِ فِي الرِّضَا. وَقَالَ ثَابت الْبنانِيّ: مَا تركت سَارِيَة فِي الْجَامِع إِلَّا صليت عِنْدهَا وبكيت عِنْدهَا.
وَقد كَانَت الْجَاهِلِيَّة تصف محاسنها لتبعث على الِاقْتِدَاء بهَا. قَالَ حَاتِم طَيء: وَالله مَا خاتلت جَارة لي قطّ، وَلَا ائتمنت على أَمَانَة إِلَّا أديتها، وَلَا أُتِي أحد قطّ من قبلي بِسوء، وَقَالَ:
(وَلَا تشتكيني جارتي، غير أنني ... إِذا غَابَ عَنْهَا بَعْلهَا لَا أزورها)
(سيبلغها خيري وَيرجع بَعْلهَا ... إِلَيْهَا، وَلم تقصر عَليّ ستورها)(1/241)
وَقَالَ الآخر:
(وَإِنَّا لقوم مَا نرى الْقَتْل سبة ... إِذا مَا رَأَتْهُ عَامر وسلول)
(يقصر حب الْمَوْت آجالنا لنا ... وتكرهها آجالهم فتطول)
(وَمَا مَاتَ منا ميت فِي فرَاشه ... وَلَا طل منا - حَيْثُ كَانَ - قَتِيل)
(تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وَلَيْسَت على غير الظبات تسيل)
(وَإِن قصرت أسيافنا كَانَ وَصلهَا ... خطانا إِلَى أَعْدَائِنَا فتطول)
(وإيامنا مَعْلُومَة فِي عدونا ... لَهَا غرر مَشْهُورَة وحجول)
(وأسيافنا فِي كل شَرق ومغرب ... بهَا من قراع الدارعين فلول)
(معودة أَلا تسل نصالها ... فتغمد حَتَّى يستباح قبيل)
وَقَالَ الآخر:
(أيا ابْنة عبد الله وَابْنَة مَالك ... وَيَا بنت ذِي البردين وَالْفرس الْورْد)
(إِذا مَا صنعت الزَّاد فالتمسي لَهُ ... أكيلا، فَإِنِّي لست آكله وحدي)
(وَكَيف يسيغ الْمَرْء زادا وجاره ... خَفِيف المعى بَادِي الْخَصَاصَة والجهد)
(وَإِنِّي لعبد الضَّيْف مَا دَامَ ثاويا ... وَمَا فِي إِلَّا تِلْكَ من شِيمَة العَبْد)(1/242)
174 - / 197 - الحَدِيث الْخَامِس عشر: " لَا يكيد أهل الْمَدِينَة أحد إِلَّا امّاع كَمَا يماع الْملح فِي المَاء ".
الكيد: الْمَكْر وَالْحِيلَة وَالِاجْتِهَاد فِي المساءة.
وَالْمَدينَة دَار الْهِجْرَة، وَقد سبق معنى هَذَا الِاسْم فِي مُسْند أبي بكر.
وَذكرنَا " اللابة " آنِفا، وَالْمَدينَة بَين لابتين.
وَقَوله: " بَارك لَهُم فِي مدهم " الْمَدّ: مكيال مَعْرُوف قدره رَطْل وَثلث بالعراقي وَقد سبق ذكر تَحْرِيم الْمَدِينَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
175 - / 198 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
لقد رَأَيْتنِي وَأَنا ثلث الْإِسْلَام: يَعْنِي ثَالِث الْمُسلمين.
176 - / 200 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " أعوذ بك من الْبُخْل والجبن، وَأَن أرد إِلَى أرذل الْعُمر، وَمن فتْنَة الدَّجَّال ".
أما الْبُخْل فَهُوَ أَن يضن الْإِنْسَان بِمَالِه أَن يبذله فِي اللوازم أَو المكارم.
والجبن ضد الشجَاعَة، وَإِنَّمَا يكون من ضعف الْقلب وخسة النَّفس. والشجاعة تنبعث من قُوَّة الْقلب وَعز النَّفس.(1/243)
وأرذل الْعُمر: أردؤه، وَهِي حَالَة الْهَرم.
والدجال: الْكذَّاب، وَالْمرَاد بِهِ الْمَسِيح الْخَارِج فِي آخر الزَّمَان.
177 - / 201 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: قَالَ سعد فِي قَوْله تَعَالَى: {قل هَل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} [الْكَهْف: 103] هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
قَالَ: والحرورية: الَّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه. إِنَّمَا خسرت الْيَهُود وَالنَّصَارَى لأَنهم تعبدوا على غير أصل صَحِيح، فخسروا الْأَعْمَال. والحرورية الَّذِي قَاتلُوا عليا عَلَيْهِ السَّلَام، وَقد سبق وَصفهم، فَلَمَّا خالفوا مَا عهد إِلَيْهِم فِي الْقُرْآن من طَاعَة أولي الْأَمر بعد إقرارهم بِهِ، كَانَ ذَلِك نقضا مِنْهُم.
178 - / 202 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن سَعْدا رأى أَن لَهُ فضلا على من دونه، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " هَل تنْصرُونَ وترزقون إِلَّا بضعفائكم ".
إِنَّمَا أَرَادَ النَّبِي كسر سورته فِي اعْتِقَاده فَضله على غَيره ليستعمل التَّوَاضُع والذل، فَأعلمهُ أَن الضُّعَفَاء فِي مقَام انكسار وذل، وَهُوَ المُرَاد من العَبْد، وَهُوَ الْمُقْتَضِي للرحمة والإنعام.
179 - / 203 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتل الوزغ، وَسَماهُ فويسقا.
أصل الْفسق: الْخُرُوج، وَقد سميت الْفَأْرَة فويسقة لخروجها من(1/244)
جحرها على النَّاس، كَذَلِك قَالَ الْفراء وَغَيره. فَلَمَّا كَانَ الوزغ يخرج من جُحْره فيؤذي النَّاس سَمَّاهُ فويسقا، وَيُمكن أَن يُقَال لما صدر مِنْهُ الْأَذَى كَمَا يصدر من الْفَاسِق سمي بذلك.
180 - / 204 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كنت أرى النَّبِي يسلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره حَتَّى أرى بَيَاض خَدّه.
ظَاهر هَذَا الْفِعْل يدل على وجوب التَّسْلِيم، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجب، بل يخرج من الصَّلَاة بِكُل مَا ينافيها، وَيدل على أَن التسليمة الثَّانِيَة وَاجِبَة، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهَا سنة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي " الْجَدِيد ". وَقَالَ مَالك: السّنة الِاقْتِصَار على وَاحِدَة.
181 - / 205 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " الحدوا لي لحدا، وانصبوا عَليّ اللَّبن نصبا كَمَا صنع برَسُول الله ".
اللَّحْد: شقّ فِي جَانب الْقَبْر، وَمِنْه الْإِلْحَاد: وَهُوَ الْميل عَن الاسْتقَامَة فِي الدّين. وَفِي حَدِيث جرير عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " اللَّحْد لنا، والشق لغيرنا " وَإِنَّمَا يكون الشق فِي وسط الْقَبْر، وَهُوَ فعل الْيَهُود، فَإِذا كَانَ لحدا كَانَ اللَّبن منتصبا.(1/245)
182 - / 206 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن سَعْدا ركب إِلَى قصره بالعقيق، فَوجدَ عبدا يقطع شَجرا أَو يخبطه، فسلبه، فَلَمَّا رَجَعَ سعد جَاءَهُ أهل العَبْد فكلموه أَن يرد عَلَيْهِم غلامهم، فَقَالَ: معَاذ الله أَن أرد شَيْئا نفلنيه رَسُول الله.
العقيق: اسْم مَوضِع، بَينه وَبَين الْمَدِينَة عشرَة أَمْيَال، وَبِه مَاتَ سعد وَحمل إِلَى الْمَدِينَة، فَصلي عَلَيْهِ وَدفن بهَا.
الْخبط بتسكين الْبَاء: ضرب الشّجر بعصا ليسقط ورقه، وَاسم الْوَرق السَّاقِط خبط بِفَتْح الْبَاء، والضارب مختبط.
وَقَوله: فسلبه: أَي أَخذ ثِيَابه.
ونفلنيه: أعطانيه. وَهَذَا كَانَ فِي حرم الْمَدِينَة. وَقد بَينا فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام أَن جَزَاء صيدها وَقطع شَجَرهَا سلب الْقَاتِل، يَتَمَلَّكهُ الَّذِي يسلبه. وَمَا كَانَ سعد شَرها إِلَى مثل تملك الثِّيَاب، وَلَكِن أَرَادَ أَن يعلم حُرْمَة الْمَكَان، وَيظْهر الْعقُوبَة على ذَلِك، فيكف النَّاس.
183 - / 208 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: مَا مَنعك أَن تسب أَبَا تُرَاب؟
إِنَّمَا كني عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام بِأبي تُرَاب، لِأَنَّهُ خرج من بَيته يَوْمًا مغاضبا لفاطمة عَلَيْهَا السَّلَام، فَنَامَ فِي الْمَسْجِد، فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهَا عَنهُ، فَأَخْبَرته، فَدخل الْمَسْجِد فَرَآهُ نَائِما وَبَعض جسده على(1/246)
التُّرَاب، فَقَالَ: " قُم أَبَا تُرَاب " وَسَيَأْتِي هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند سهل ابْن سعد.
وَقَوله: " أحب إِلَيّ من حمر النعم ". قَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي: النعم: الْإِبِل، وحمرها: كرامها وأعلاها منزلَة. وَالنعَم فِي قَول بَعضهم لَا يَقع إِلَّا على الْإِبِل، والأنعام يَقع على الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم، فَإِذا انْفَرَدت الْإِبِل قيل لَهَا نعم وأنعام، وَإِذا انْفَرَدت الْبَقر وَالْغنم لم يقل لَهَا نعم وَلَا أنعام. وَقَالَ آخَرُونَ: النعم والأنعام بِمَعْنى وَاحِد، وأنشدنا أَبُو الْعَبَّاس:
(أكل عَام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه)
وَقَالَ عز وَجل {وَإِن لكم فِي الْأَنْعَام لعبرة نسقيكم مِمَّا فِي بطونها} [الْمُؤْمِنُونَ: 21] فَذكر الْهَاء لِأَنَّهُ حمل الْأَنْعَام على معنى النعم كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(بَال سُهَيْل فِي الفضيخ ففسد ... وطاب ألبان اللقَاح وَبرد)
أَرَادَ: وطاب لبن اللقَاح.(1/247)
184 - / 209 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ سعد فِي إبِله فجَاء ابْنه عمر، فَلَمَّا رَآهُ سعد قَالَ: أعوذ بِاللَّه من شَرّ هَذَا الرَّاكِب.
قلت: لقد نظر سعد فِي ابْنه عمر بِنور الله عز وَجل، فَإِنَّهُ كَانَ لَا خير فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي تولى قتال الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: إِن الله يحب التقي الْغَنِيّ الْخَفي. اعْلَم أَن صَاحب القناعة هُوَ الْغَنِيّ وَلَيْسَ بالكثير المَال؛ فَإِن الْغنى غنى النَّفس، وَالْإِشَارَة بالخفي إِلَى خمول الذّكر، وَالْغَالِب على الخامل السَّلامَة.
185 - / 210 - الحَدِيث الثَّامِن: " إِنِّي أحرم مَا بَين لابتي الْمَدِينَة أَن يقطع عضاهها ".
قد فسرنا اللابة فِي الحَدِيث السَّادِس من هَذَا الْمسند، وَذكرنَا الْعضَاة فِي الحَدِيث الرَّابِع عشر، وتكلمنا فِي تَحْرِيم الْمَدِينَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
" وَالْمَدينَة خير لَهُم " إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن أَقْوَامًا كَانُوا يستوخمون الْمَدِينَة ويصعب عَلَيْهِم شدائدها.
وَقَوله: " لَا يَدعهَا أحد رَغْبَة " إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي حَيَاته عَلَيْهِ السَّلَام، وَكَانَ من خرج يرغب عَن جواره، فَأَما بعد وَفَاته فقد خرج خلق كثير من خِيَار أَصْحَابه.
واللأواء: شدَّة الْحَال.
والجهد: الْمَشَقَّة.(1/248)
186 - / 211 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " سَأَلت رَبِّي أَلا يهْلك أمتِي بِالسنةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلته أَلا يَجْعَل بأسهم بَينهم فَمَنَعَنِيهَا ".
السّنة: الجدب. والبأس: الشجَاعَة والشدة فِي الْحَرْب. وَالْمرَاد أَلا يقتتل الْمُسلمُونَ، وَإِنَّمَا يَقع قِتَالهمْ على الدُّنْيَا، لأَنهم قد اجْتَمعُوا فِي الدّين.
187 - / 212 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا حَتَّى يرِيه خير لَهُ من أَن يمتلئ شعرًا ".
الْقَيْح: الْمدَّة لَا يخالطها دم، يُقَال: قاح الْجرْح يقيح.
قَالَ أَبُو عبيد: يرِيه، من الوري، يُقَال مِنْهُ: رجل موري: وَهُوَ أَن يدوى جَوْفه، قَالَ العجاج:
(عَن قلب ضجم توري من سبر ... )
يصف الْجِرَاحَات، شبهها بِالْقَلْبِ: وَهِي الْآبَار، يَقُول: إِن سبرها إِنْسَان أَصَابَهُ الوري من شدتها. وَقَالَ عبد بني الحسحاس:
(وراهن رَبِّي مثل مَا قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا)
وَقَالَ الراجز:(1/249)
(قَالَت لَهُ وريا إِذا تنحنحا ... )
وَهَذَا الحَدِيث مَحْمُول على من جعل جَمِيع شغله حفظَة الشّعْر، فَلم يحفظ شَيْئا من الْقُرْآن وَلَا من الْعلم، لِأَنَّهُ إِذا امْتَلَأَ الْجوف بالشَّيْء لم يبْق فِيهِ سَعَة لغيره. قَالَ النَّضر بن شُمَيْل لم تمتلء أجوافنا من الشّعْر، فِيهَا الْقُرْآن وَغَيره. قَالَ: وَهَذَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَأما الْيَوْم فَلَا. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: أكره من الشّعْر الهجاء وَالرَّقِيق الَّذِي يشبب بِالنسَاء، فَأَما الْكَلَام الجاهلي فَمَا أنفعه.
قلت: فَأَما مَا رَوَاهُ الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا ودما خير لَهُ من أَن يمتلئ شعرًا هجيت بِهِ " فَإِنَّهُ حَدِيث بَاطِل؛ لِأَن الْكَلْبِيّ لَا يوثق بِهِ، وَحفظ بَيت من ذَلِك يَكْفِي فِي الذَّم دون تَعْلِيق ذَلِك بملء الْجوف. وَالصَّحِيح عِنْدِي مَا ذكرته أَولا، وَأَن المُرَاد بامتلاء الْجوف بالشعر حَتَّى لَا يكون لغيره مَوضِع. وَقد مدح رَسُول الله الشّعْر بقوله: " إِن من الشّعْر حِكْمَة " وَكَانَ يسمعهُ ويستنشده، وَكَانَ أَبُو بكر يَقُول الشّعْر، وَعمر وَعُثْمَان، وَكَانَ عَليّ أشعرهم. وَقَالَ حبيب بن أبي ثَابت: كَانَ ابْن(1/250)
عَبَّاس يُعجبهُ شعر زُهَيْر وَيَقْضِي لَهُ، وَكَانَ مُعَاوِيَة يُعجبهُ شعر عدي وَيَقْضِي لَهُ، وَكَانَ ابْن الزبير يُعجبهُ شعر عنترة وَيَقْضِي لَهُ. قَالَ: وَإِنَّمَا اخْتَار ابْن عَبَّاس شعر زُهَيْر لِأَنَّهُ كَانَ يخْتَار من الشّعْر أَكْثَره أَمْثَالًا وأدله على الْعلم وَالْخَيْر. وَاخْتَارَ مُعَاوِيَة شعر عدي لِأَنَّهُ كَانَ كثير الْأَخْبَار. وَاخْتَارَ ابْن الزبير شعر عنترة لشجاعته.
أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد الْمعدل قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عَمْرو الرزاز. قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد قَالَ: حَدثنَا نصر بن عَليّ قَالَ: حَدثنَا نوح بن قيس عَن يُونُس بن مُسلم عَن وادع بن الْأسود عَن الشّعبِيّ قَالَ: مَا أروي شَيْئا أقل من الشّعْر، وَلَو شِئْت لأنشدتكم شهرا لَا أُعِيد.
قلت: وَمَا زَالَ الْعلمَاء يَقُولُونَ الشّعْر ويحفظونه ويسمعونه، وَقد ذكرت من هَذَا مَا يَكْفِي فِي كتابي الْمُسَمّى ب " إحكام الْأَشْعَار فِي أَحْكَام الْأَشْعَار ".
188 - / 213 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: ضرب رَسُول الله يَده على الْأُخْرَى، وَقَالَ: " الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا " ثمَّ نقص فِي الثَّالِثَة إصبعا.
هَذَا مَحْمُول على أحد مَعْنيين: إِمَّا أَن يُشِير بِهِ إِلَى الشَّهْر بِعَيْنِه، فَإِنَّهُ آلى من نِسَائِهِ شهرا، فاتفق ذَلِك تسعا وَعشْرين، فَقَالَ: " الشَّهْر تسع وَعِشْرُونَ " أَو أَن يُرِيد بِهِ أَنه قد يكون هَكَذَا.(1/251)
189 - / 214 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " الله أكبر كَبِيرا ".
ينْتَصب " كَبِيرا " على وَجْهَيْن: أَحدهمَا على التَّعْظِيم: تَقْدِيره: أعظم كَبِيرا، وَدلّ على الْفِعْل الْمَحْذُوف قَوْله: " الله أكبر " لِأَنَّهُ تَعْظِيم. وَالْوَجْه الآخر: أَن يكون صفة لمَحْذُوف تَقْدِيره: تَكْبِيرا كَبِيرا، وَدلّ على هَذَا الْمصدر قَوْله: " الله أكبر " لِأَن الْمَعْنى أكبر الله تَكْبِيرا. وَقد كثر مَجِيء " كَبِيرا " صفة للمصدر، من ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {وعتوا عتوا كَبِيرا} [الْفرْقَان: 21] وَمِنْه: {والعنهم لعنا كَبِيرا} [الْأَحْزَاب: 68] على قِرَاءَة من قَرَأَ بِالْبَاء.
190 - / 216 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: حَلَفت أم سعد لَا تكَلمه أبدا حَتَّى يكفر بِدِينِهِ.
كَانَ سعد رَضِي الله عَنهُ برا بِأُمِّهِ، فَلَمَّا أسلم قَالَت: مَا هَذَا الدّين الَّذِي قد أحدثت، لتدعنه أَو لَا أكل وَلَا أشْرب حَتَّى أَمُوت فتعير بِي وَيُقَال: يَا قَاتل أمه. فَقَالَ لَهَا: لَا تفعلي؛ فَإِنِّي لَا أدع ديني لشَيْء، فَمَكثت ثَلَاثًا لَا تَأْكُل وَلَا تشرب حَتَّى غشي عَلَيْهَا من الْجهد، فَأَصْبَحت وَقد جهدت، فَقَالَ لَهَا سعد: وَالله يَا أُمَّاهُ لَو كَانَت لَك مائَة نفس فَخرجت نفسا نفسا مَا تركت ديني هَذَا لشَيْء، فَأكلت، فَنزل قَوْله تَعَالَى: {وَوَصينَا الْإِنْسَان بِوَالِديهِ 000} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جَاهَدَاك على أَن تشرك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم 00} [لُقْمَان: 14 - 15] أَي لتتخذ(1/252)
معي شَرِيكا لَا تعلمه لي.
وَقَوله: فَإِذا أَرَادوا أَن يطعموها شجروا فاها: أَي فتحوه بعصا ثمَّ أوجروها. والوجور: مَا أَدخل فِي الْفَم من دَوَاء أَو غذَاء تستدرك بِهِ الْقُوَّة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث نفلني: أَي أعطنيه من النَّفْل، وَهُوَ الزِّيَادَة على سهم الْغَنَائِم.
وَالْقَبْض بِفَتْح الْبَاء: اسْم لما قبض من الْمَغَانِم وَجمع.
والحش: الْبُسْتَان، وَيُقَال بِضَم الْحَاء.
وَقَوله: أَخذ رجل أحد لحيي الرَّأْس. يُرِيد عظم الفك.
والفرز: الشق.
قَوْله: فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر 000} [الْمَائِدَة: 90] قد ذكرنَا فِي مُسْند عمر معنى تَسْمِيَة الْخمر خمرًا. فَأَما الميسر فَقَالَ الزّجاج: إِنَّمَا كَانَ الميسر قمارا فِي الجزر خَاصَّة، وكل الْقمَار حرَام قِيَاسا عَلَيْهِ. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال: يسرت: إِذا ضربت بِالْقداحِ. وَيُقَال للضارب بِالْقداحِ يَاسر وياسرون وَيسر وأيسار وَكَانَ أَصْحَاب الثروة والأجواد فِي الشتَاء عِنْد شدَّة الزَّمَان وكلبه ينحرون جزورا ويجزءونها أَجزَاء، ثمَّ يضْربُونَ عَلَيْهَا بِالْقداحِ، فَإِذا قمر القامر جعل ذَلِك لِذَوي الْحَاجة، وَكَانُوا يتمادحون بذلك، ويتسابون بِتَرْكِهِ، ويعيبون من لَا ييسر.(1/253)
وَأما الأنصاب فَفِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا أصنام تنصب فتعبد، قَالَه ابْن عَبَّاس وَالْفراء والزجاج. وَالثَّانِي: حِجَارَة كَانُوا يذبحون عَلَيْهَا. ويشرحون اللَّحْم عَلَيْهَا ويعظمونها، قَالَه ابْن جريج.
وَأما الأزلام فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هِيَ القداح، وَاحِدهَا زلم وزلم، وَكَانُوا يضْربُونَ بهَا فيعملون بِمَا يخرج فِيهَا من أَمر وَنهي قَالَ مُجَاهِد: الأزلام: سِهَام الْعَرَب. وَقَالَ سعيد بن جُبَير: الأزلام: حَصى بيض كَانُوا إِذا أَرَادوا غدوا أَو رواحا كتبُوا فِي قدح: أَمرنِي رَبِّي، وَفِي آخر: نهاني رَبِّي، ثمَّ يضْربُونَ بهَا، فَأَيّهمَا خرج عمِلُوا بِهِ. وَقَالَ السّديّ: وَكَانَت الأزلام تكون عِنْد الكهنة. وَقَالَ مقَاتل: فِي بَيت الْأَصْنَام.
وَأما الرجس فَقَالَ الزّجاج: هُوَ اسْم لكل مَا استقذر من عمل. يُقَال: رِجْس الرجل يرجس، ورجس يرجس: إِذا عمل عملا قبيحا. والرجس بِفَتْح الرَّاء: شدَّة الصَّوْت، فَكَأَن الرجس الْعَمَل الَّذِي يقبح ذكره ويرتفع فِي الْقبْح، يُقَال: رعد رجاس: إِذا كَانَ شَدِيد الصَّوْت.
وَقَوله: {من عمل الشَّيْطَان} نِسْبَة ذَلِك إِلَى الشَّيْطَان تجوز، إِلَّا أَنه لما كَانَ الدَّاعِي إِلَيْهِ جَازَت النِّسْبَة.(1/254)
191 - / 217 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: فِي الطَّاعُون: " إِن هَذَا الوجع رِجْس وَعَذَاب ".
وَالرجز: الْعَذَاب المقلقل. وَقد ذكرنَا تَفْسِير الحَدِيث فِي مُسْند ابْن عَوْف.
192 - / 218 - الحَدِيث السَّادِس عشر: " لَا يزَال أهل الغرب ظَاهِرين على الْحق حَتَّى تقوم السَّاعَة ".
كَأَن الْإِشَارَة إِلَى جهادهم للْكفَّار وهم فِي ذَلِك على الْحق. وَالظَّاهِر: الْغَالِب.
193 - / 219 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: سَأَلت سَعْدا عَن الْمُتْعَة فِي الْحَج، قَالَ: فعلناها وَهَذَا يَوْمئِذٍ كَافِر بالعرش.
قد ذكرنَا الْمُتْعَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: وَهَذَا، إِشَارَة إِلَى مُعَاوِيَة، لِأَنَّهُ كَانَ ينْهَى عَن الْمُتْعَة.
وَالْعرش بِضَم الْعين وَالرَّاء: الْبيُوت، وَأَرَادَ بيُوت مَكَّة، وَهَذَا مُفَسّر فِي الحَدِيث.
وَقَالَ أَبُو عبيد: سميت بالعرش لِأَنَّهَا عيدَان تنصب ويظلل عَلَيْهَا، وَاحِدهَا عَرِيش، نَحْو قليب وقلب، وَالْمعْنَى: وَهُوَ مُقيم بِمَكَّة على(1/255)
كفره. وَقد غلط بعض قرأة الحَدِيث فَقَالَ: كَافِر بالعرش، بِفَتْح الْعين وتسكين الرَّاء.(1/256)
كشف الْمُشكل من مُسْند سعيد بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل
أسلم قَدِيما، وَلم يفته مشْهد سوى بدر للْعُذْر الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمَة طَلْحَة.
وروى عَن رَسُول الله ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة.
194 - / 221 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " الكمأة من الْمَنّ ".
الكمأة نبت مَعْرُوف.
وَفِي قَوْله: " من الْمَنّ " ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: من الَّذِي أنزل على بني إِسْرَائِيل. أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن عمر قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَيُّوب قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ بن شَاذان قَالَ: أخبرنَا أَبُو سهل أَحْمد بن مُحَمَّد بن زِيَاد قَالَ: حَدثنَا القَاضِي أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد البرتي قَالَ: حَدثنَا القواريري قَالَ حَدثنَا ابْن عُيَيْنَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر عَن عَمْرو بن سعيد يَعْنِي ابْن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الكمأة من الْمَنّ الَّذِي أنزل على بني إِسْرَائِيل ".(1/257)
أخبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا عبد الصَّمد قَالَ: حَدثنِي أبي عَن عَطاء بن السَّائِب عَن عَمْرو بن حُرَيْث قَالَ: حَدثنِي سعيد بن زيد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الكمأة من السلوى ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا مِمَّا من الله عز وَجل بِهِ من غير بذر وَلَا تَعب، كَمَا من على بني إِسْرَائِيل بالمن. قَالَ أَبُو عبيد: إِنَّمَا شبهها بالمن الَّذِي سقط على بني إِسْرَائِيل؛ لِأَن ذَلِك كَانَ ينزل عَلَيْهِم عفوا بِلَا علاج، فيصبحون وَهُوَ بأفنيتهم، فَكَذَلِك الكمأة، لَيْسَ على أحد مِنْهَا مؤونة فِي بذر وَلَا سقِِي.
وَالثَّالِث: أَنَّهَا من الْمَنّ الَّذِي يسْقط على الشّجر فِي بعض الْبِلَاد، يشبه طعمه طعم الْعَسَل فَيجمع، ذكره أَبُو عبد الله الْحميدِي.
وَقَوله: " وماؤها شِفَاء للعين " فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه مَاؤُهَا حَقِيقَة، إِلَّا أَن أَرْبَاب هَذَا القَوْل اتَّفقُوا على أَنه لَا يسْتَعْمل بحتا فِي الْعين. ثمَّ اخْتلفُوا كَيفَ يصنع بِهِ، على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه يخلط فِي الْأَدْوِيَة الَّتِي يكتحل بهَا. قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: إِنَّه لَيْسَ معنى الحَدِيث أَن يُؤْخَذ مَاؤُهَا بحتا فيقطر فِي الْعين، وَلكنه(1/258)
يخلط مَاؤُهَا فِي الْأَدْوِيَة الَّتِي تعالج بهَا الْعين. وَيصدق قَول أبي عبيد أَن الْأَطِبَّاء يَقُولُونَ: أكل الكمأة يجلو الْبَصَر. وَالثَّانِي: أَن تُؤْخَذ الكماة فتشق وتوضع على الْجَمْر حَتَّى يغلي مَاؤُهَا، ثمَّ يُؤْخَذ الْميل فَيصير فِي ذَلِك الشق وَهُوَ فاتر فيكتحل بِمَائِهَا، وَلَا يَجْعَل الْميل فِي مَائِهَا وَهِي بادرة يابسة، قَالَه إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ. قَالَ: وَقَالَ لي صَالح وَعبد الله ابْنا أَحْمد بن حَنْبَل: إنَّهُمَا اشتكت أعينهما فأخذا كماة فدقاها وعصراها فاكتحلا بِمَائِهَا، فهاجت أعينها ورمدت. وَإِنَّمَا الْوَجْه مَا ذكرنَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه إِنَّمَا أَرَادَ المَاء الَّذِي ينْبت بِهِ، وَهُوَ أول مطر ينزل إِلَى الأَرْض، فِيهِ تربى الأكحال، قَالَه لنا شَيخنَا أَبُو بكر بن عبد الله الْبَاقِي. وَقد عصر بعض النَّاس الكماة فداوى بِهِ عينه فَذَهَبت.
195 - / 222 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن سعيد بن زيد خاصمته أروى إِلَى مَرْوَان، وَادعت أَنه أَخذ شَيْئا من أرْضهَا، فَقَالَ: أَنا كنت آخذ من أرْضهَا شبْرًا بعد الَّذِي سَمِعت من رَسُول الله، سمعته يَقُول: " من أَخذ شبْرًا من الأَرْض ظلما طوقه من سبع أَرضين " فَقَالَ مَرْوَان: لَا أَسأَلك بَيِّنَة بعْدهَا.
فِي معنى طوقه ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن يخسف بِهِ الأَرْض بعد مَوته أَو فِي حشره، فَتَصِير(1/259)
الْبقْعَة الْمَغْصُوبَة مِنْهَا فِي عُنُقه كالطوق، وَيُؤَيّد هَذَا حَدِيث ابْن عمر: " خسف بِهِ إِلَى سبع أَرضين ".
وَالثَّانِي: أَن يُكَلف حمل ذَلِك، فَيكون من تطويق التَّكْلِيف لَا من تطويق التَّقْلِيد، وَلَيْسَ ذَلِك بممتنع، فَإِن قد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " لَا أَلفَيْنِ أحدكُم يَأْتِي وعَلى رقبته بعير 000، وعَلى رقبته شَاة ".
وَالثَّالِث: أَن يُرِيد بِهِ تطويق الْإِثْم، وَإِنَّمَا قَالَ: " من سبع أَرضين " لِأَن حكم أَسْفَل الأَرْض تَابع لأعلاها.
وَأما قَول مَرْوَان: لَا أَسأَلك بَيِّنَة، أَي لَا أُرِيد أبين من هَذَا الحَدِيث فِي معنى غصب الأَرْض، وَإِلَّا فَلَيْسَتْ رِوَايَته للْحَدِيث بَيِّنَة لَهُ.
196 - / 223 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ عَن سعيد بن زيد قَالَ:
لقد رَأَيْتنِي موثقي عمر على الْإِسْلَام أَنا وَأُخْته، وَمَا أسلم، وَلَو أَن أحدا انقض - وَقيل: ارْفض - للَّذي صَنَعْتُم بعثمان لَكَانَ محقوقا أَن ينْقض.
كَانَ سعيد بن زيد زوج أُخْت عمر بن الْخطاب، فجَاء عمر فَأَغْلَظ لَهما وأوثقهما ليصدهما عَن الْإِسْلَام قبل أَن يسلم.
أخبرنَا أَبُو بكر بن أبي طَاهِر قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو عمر بن حيويه قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن بن مَعْرُوف قَالَ:(1/260)
أخبرنَا الْحُسَيْن بن الْفَهم قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أخبرنَا إِسْحَق بن يُوسُف الْأَزْرَق قَالَ: أخبرنَا الْقَاسِم بن عُثْمَان الْبَصْرِيّ عَن أنس بن مَالك قَالَ: خرج عمر مُتَقَلِّدًا السَّيْف، فَلَقِيَهُ رجل من بني زهرَة فَقَالَ: أَيْن تعمد؟ فَقَالَ: أُرِيد أَن أقتل مُحَمَّدًا. قَالَ: وَكَيف تأمن فِي بني هَاشم وَبني زهرَة وَقد قتلت مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ لَهُ عمر: مَا أَرَاك إِلَّا قد صَبَأت وَتركت دينك الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ. فَقَالَ: أَفلا أدلك على الْعجب يَا عمر، إِن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك، فَمشى عمر ذامرا حَتَّى أتاهما وَعِنْدَهُمَا خباب بن الْأَرَت، فَلَمَّا سمع خباب حس عمر توارى فِي الْبَيْت، فَدخل عَلَيْهِمَا فَقَالَ: مَا هَذِه الهينمة الَّتِي سَمعتهَا عنْدكُمْ؟ قَالَ: وَكَانُوا يقرءُون (طه) . فَقَالَا: مَا عدا حَدِيثا تحدثناه. قَالَ: فلعلكما قد صبوتما. فَقَالَ لَهُ ختنه: أَرَأَيْت يَا عمر إِن كَانَ الْحق فِي غير دينك. فَوَثَبَ عمر على ختنه فوطئه وطئا شَدِيدا، فَجَاءَت أُخْته فَدَفَعته عَن زَوجهَا، فنفحها نفحة بِيَدِهِ، فدمي وَجههَا، فَقَالَت وَهِي غَضبى: يَا عمر، إِن كَانَ الْحق فِي غير دينك اشْهَدْ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، واشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله. فَلَمَّا يئس عمر قَالَ: أعطوني هَذَا الْكتاب الَّذِي عنْدكُمْ فأقرؤه، وَكَانَ عمر يقْرَأ الْكتب، فَقَالَت أُخْته: إِنَّك رِجْس، وَلَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ، فَقُمْ فاغتسل أَو تَوَضَّأ، فَقَامَ فَتَوَضَّأ، ثمَّ أَخذ الْكتاب فَقَرَأَ: {طه} حَتَّى انْتهى إِلَى قَوْله: {إِنَّنِي أَنا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدني وأقم الصَّلَاة لذكري} [طه: 14] فَقَالَ عمر: دلوني على مُحَمَّد، فَلَمَّا سمع خباب قَول عمر خرج من الْبَيْت فَقَالَ: أبشر يَا عمر، فَإِنِّي أَرْجُو أَن تكون دَعْوَة رَسُول الله لَك لَيْلَة الْخَمِيس: " اللَّهُمَّ أعز الْإِسْلَام بعمر بن(1/261)
الْخطاب أَو بعمر بن هِشَام " فَانْطَلق عمر فَأسلم.
وَأما قَوْله: وَلَو أَن أحدا انقض، فَمَعْنَاه هوى وَسقط. وَارْفض: تفرق. وَكَانَت الْمُنَاسبَة بَين ذكر مَا صَنَعُوا بعثمان وَبَين مَا فعل عمر أَن عمر رأى الْخَطَأ صَوَابا قبل أَن يسلم فِي إيثاق ختنه وَأُخْته على الْإِسْلَام، فَكَذَلِك من رأى مَا فعل بعثمان صَوَابا.(1/262)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي عُبَيْدَة بن الْجراح
واسْمه عَامر بن عبد الله، شهد الْمشَاهد كلهَا، وَثَبت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد، وَنزع يَوْمئِذٍ بِفِيهِ الحلقتين اللَّتَيْنِ دخلتا فِي وجنتي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حلق المغفر، فَوَقَعت ثنيتاه، فَكَانَ من أحسن النَّاس هتما.
وروى عَن رَسُول الله خَمْسَة عشر حَدِيثا، وَلم يخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ سوى كلمة وَهِي:
197 - / 224 - نَحن رسل رَسُول الله، فَهِيَ مندرجة فِي حَدِيث يرويهِ جَابر، وَفِيه: بعثنَا رَسُول الله وَأمر علينا أَبَا عُبَيْدَة نأتي عيرًا لقريش، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غَيره، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَة يُعْطِينَا تَمْرَة تَمْرَة، فَكُنَّا نمصها كَمَا يمص الصَّبِي ثمَّ نشرب عَلَيْهَا من المَاء، فتكفينا يَوْمنَا إِلَى اللَّيْل، وَكُنَّا نضرب بعصينا الْخبط ثمَّ نبله بِالْمَاءِ فنأكله، وَرفع لنا على سَاحل الْبَحْر كَهَيئَةِ الْكَثِيب الضخم، فأتيناه فَإِذا هِيَ دَابَّة تدعى العنبر، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ميتَة، ثمَّ قَالَ: لَا، بل نَحن رسل رَسُول الله، وَفِي سَبِيل الله، وَقد اضطررتم فَكُلُوا، قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا شهرا وَنحن ثَلَاثمِائَة حَتَّى سمنا، وَلَقَد رَأَيْتنَا نغترف من وَقب عينه(1/263)
بالقلال الدّهن، ونقطع مِنْهُ الفدر كالثور، وَلَقَد أَخذ منا أَبُو عُبَيْدَة ثَلَاثَة عشر رجلا فَأَقْعَدَهُمْ فِي وَقب عينه، وَأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثمَّ رَحل أعظم بعير مَعنا، فَمر من تحتهَا، وتزودنا من لَحْمه وشائق، فَلَمَّا قدمنَا ذكرنَا ذَلِك لرَسُول الله، فَقَالَ: " هُوَ رزق أخرجه الله لكم، فَهَل مَعكُمْ من لَحْمه شَيْء فتطعمونا؟ " فَأَرْسَلنَا إِلَى رَسُول الله مِنْهُ فَأَكله.
العير: الْإِبِل الَّتِي تحمل الْميرَة.
والخبط قد فسرناه فِيمَا مضى.
وَفِيمَا صَبر هَؤُلَاءِ الْقَوْم عَلَيْهِ دَلِيل على قُوَّة إِيمَانهم، إِذْ لَو ضعف إِيمَانهم لما صَبَرُوا على هَذِه المشاق.
وَقَول أبي عُبَيْدَة: ميتَة، دَلِيل على أَنه كَانَ لَا يرى جَوَاز أكل السّمك الطافي، وَإِنَّمَا استجازه على وَجه الِاضْطِرَار كَمَا يستجيز أكل الْميتَة، وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة، وَقد رد ذَلِك الرَّأْي قَول الرَّسُول: " هَل مَعكُمْ مِنْهُ شَيْء " فَأَعْطوهُ، فَأكل وَلَيْسَ بمضطر، فَدلَّ على جَوَاز أكل الطافي، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد، ثمَّ قد ثَبت جَوَاز أكل السّمك إِذا مَاتَ فِي الْبر، فَكَذَلِك إِذا مَاتَ فِي الْبَحْر. وَيُمكن أَن يَقُول من منع مِنْهُ: إِن الْبَحْر مَحل حَيَاة السّمك، فَإِذا مَاتَ فِي مَحل حَيَاته دلّ على مرض أوجب ذَلِك، فنزه عَن أكله.
ووقب الْعين: مَا تقعر مِنْهَا. والوقب كالنقرة فِي الشَّيْء.(1/264)
القلال مثل الجرار.
والفدر جمع فدرة: وَهِي الْقطعَة من اللَّحْم. وَمعنى رَحل أعظم بعير: جعل عَلَيْهِ رَحْله.
والوشائق: مَا قطع من اللَّحْم ليقدد، والواحدة وشيقة.(1/265)
كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن مَسْعُود
أسلم قَدِيما، وَهَاجَر إِلَى الْحَبَشَة مرَّتَيْنِ، ثمَّ إِلَى الْمَدِينَة، وَلم يفته مَعَ رَسُول الله مشْهد، وَكَانَ صَاحب سر رَسُول الله ووساده وسواكه ونعليه وَطهُوره فِي السّفر، وَكَانَ يشبه برَسُول الله فِي هَدْيه وسمته.
وروى عَن رَسُول الله ثَمَانمِائَة حَدِيث وَثَمَانِية وَأَرْبَعين، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مائَة وَعِشْرُونَ.
198 - / 225 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول قَالَ:
لما نزلت: {وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم} [الْأَنْعَام: 82] شقّ ذَلِك على أَصْحَاب رَسُول الله وَقَالُوا: أَيّنَا لم يظلم نَفسه؟ فَقَالَ: " إِنَّمَا هُوَ الشّرك ".
يلبسوا بِمَعْنى يخلطوا، يُقَال: لبست بِفَتْح الْبَاء، ألبس بِكَسْرِهَا: إِذا خلطت، ولبست بِكَسْر الْبَاء ألبس بِفَتْحِهَا من لبس الثَّوْب.(1/266)
وَالظُّلم يَقع على الشّرك وعَلى الْمعاصِي دونه، وَقد فسره الرَّسُول الله عَلَيْهِ السَّلَام هَاهُنَا بالشرك.
199 - / 226 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: بَينا أَنا مَعَ رَسُول الله وَهُوَ يتَوَكَّأ على عسيب.
العسيب من النّخل كالقضيب من سَائِر الشّجر.
وَقَوله: {قل الرّوح من أَمر رَبِّي} [الْإِسْرَاء: 85] أَي مِمَّا انْفَرد بِعِلْمِهِ فَلم يُعلمهُ غَيره. وَمَا أَكثر كَلَام النَّاس فِي الرّوح وماهيتها، مَعَ أَن الْقُرْآن لم يفصح بذلك وَالرَّسُول الْمَسْئُول عَنْهَا لم يبينها، وَلست أعجب من الفلاسفة الَّذين لَا يتدينون بديننا إِذا تكلمُوا فِيهَا، إِنَّمَا الْعجب من عُلَمَاء الْإِسْلَام كَيفَ يرَوْنَ الرَّسُول الْمَسْئُول لم يجب، وَالْقُرْآن لم يفصح بِشَيْء، ثمَّ يَقُول بَعضهم: هِيَ جسم، وَيَقُول بَعضهم: هِيَ شَيْء وَالنَّفس شَيْء، وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ من كَلَام الفلاسفة والأطباء، وَإِنَّمَا الرّوح أَمر من أَمر الله عز وَجل لَا يعرف إِلَّا بتصرفاته، كَمَا لَا يسْتَدلّ على وجود الْحق سُبْحَانَهُ إِلَّا بأفعاله، وَالشَّيْء إِذا لم يكْشف للأبصار منعت البصائر فِي وَصفه بالجمل، أَلا ترى إِلَى قَول الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام: {أَرِنِي كَيفَ تحيي الْمَوْتَى} [الْبَقَرَة: 260] فَلَمَّا لم يدْخل إِدْرَاك الْأَحْيَاء فِي قدرَة الْخَلِيل، أرَاهُ الْحق سُبْحَانَهُ الْمَوْتَى قد عاشوا.
200 - / 227 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كُنَّا نسلم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَيرد علينا، فَلَمَّا رَجعْنَا من عِنْد النَّجَاشِيّ سلمنَا عَلَيْهِ فَلم يرد علينا وَقَالَ: " إِن فِي الصَّلَاة شغلا " هَذَا لفظ(1/267)
الصَّحِيح، وَقد رَوَاهُ أَحْمد فِي " مُسْنده " فَقَالَ فِيهِ: " إِن الله يحدث فِي أمره مَا يَشَاء، وَإنَّهُ قد أحدث أَن لَا تتكلموا فِي الصَّلَاة ".
كَانَ الْكَلَام فِي الصَّلَاة مُبَاحا ثمَّ حرم، وَاخْتلفُوا مَتى حرم؟ فَقَالَ قوم: حرم وَرَسُول الله بِمَكَّة، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الحَدِيث. قَالُوا: وَإِنَّمَا رَجَعَ ابْن مَسْعُود من عِنْد النَّجَاشِيّ إِلَى مَكَّة. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا حرم بِالْمَدِينَةِ بِدَلِيل مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث زيد بن أَرقم قَالَ: كُنَّا نتكلم فِي الصَّلَاة، يكلم الرجل صَاحبه وَهُوَ إِلَى جَانِبه فِي الصَّلَاة حَتَّى نزلت: {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} [الْبَقَرَة: 238] فَأمرنَا بِالسُّكُوتِ. قَالُوا وَزيد من الْأَنْصَار، وَإِنَّمَا أسلم بِالْمَدِينَةِ. وَابْن مَسْعُود لما عَاد إِلَى مَكَّة من الْحَبَشَة رَجَعَ فِي الْهِجْرَة الثَّانِيَة إِلَى النَّجَاشِيّ، ثمَّ قدم على رَسُول الله بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يتجهز لبدر. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا نسخ الْكَلَام بعد الْهِجْرَة بِمدَّة يسيرَة، فَأجَاب الْأَولونَ بِأَن الظَّاهِر تجدّد هَذِه الْحَال فِي غيبَة ابْن مَسْعُود الأولى لِأَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا رَجعْنَا من عِنْد النَّجَاشِيّ، وَلم يقل فِي الْمرة الثَّانِيَة، وحملوا حَدِيث زيد على أَنه إِخْبَار عَن الصَّحَابَة الْمُتَقَدِّمين، كَمَا يَقُول الْقَائِل: قتلناكم وهزمناكم، يعنون الْآبَاء والأجداد. وَقَول الْخطابِيّ يحْتَاج إِلَى تَارِيخ، والتاريخ بعيد.
وَرَأَيْت أَبَا حَاتِم بن حبَان الْحَافِظ قد ذكر فِي هَذَا شَيْئا حسنا، فَإِنَّهُ قَالَ: لقد توهم من لم يحكم صناعَة الْعلم أَن نسخ الْكَلَام فِي الصَّلَاة كَانَ بِالْمَدِينَةِ لحَدِيث زيد بن أَرقم، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ لِأَن الْكَلَام فِي(1/268)
الصَّلَاة كَانَ مُبَاحا فِي أول الْإِسْلَام إِلَى أَن رَجَعَ ابْن مَسْعُود وَأَصْحَابه من عِنْد النَّجَاشِيّ، فوجدوا إِبَاحَة الْكَلَام قد نسخت، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ مُصعب بن عُمَيْر يقرئ الْمُسلمين ويفقههم فِي الدّين، وَكَانَ الْكَلَام بِالْمَدِينَةِ مُبَاحا كَمَا كَانَ بِمَكَّة، فَلَمَّا نسخ ذَلِك بِمَكَّة تَركه النَّاس بِالْمَدِينَةِ، فَحكى زيد ذَلِك الْفِعْل، لَا أَن نسخ الْكَلَام كَانَ بِالْمَدِينَةِ.
201 - / 228 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج ".
الْبَاءَة كلمة ممدودة، أَنبأَنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ ابْن الْمهْدي قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن بن رزمة إِذْنا قَالَ: أخبرنَا عمر بن مُحَمَّد بن سيف قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن الْعَبَّاس اليزيدي قَالَ: أخبرنَا عبد الرَّحْمَن بن أخي الْأَصْمَعِي قَالَ: قَرَأت على عمي الْأَصْمَعِي قَالَ: يُقَال: بَاء وباءة: وَهُوَ الغشيان، وَإِن شِئْت جمعت بِالتَّاءِ فَقلت باءات، قَالَ الراجز:
(إِن كنت تبغي صَالح الباءات ... )
(فاعمد إِلَى هاتيكم الأبيات ... )
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الْبَاءَة كِنَايَة عَن النِّكَاح، وأصل الْبَاءَة الْموضع الَّذِي يأوي إِلَيْهِ الْإِنْسَان، وَمِنْه اشتق مباءة الْغنم: وَهُوَ المراح الَّذِي تأوي إِلَيْهِ بِاللَّيْلِ. والوجاء: رض الْأُنْثَيَيْنِ، والخصاء نزعهما.(1/269)
وَقَالَ أَبُو عبيد: يُقَال للفحل إِذا رضت أنثياه: قد وجئ وَجَاء فَهُوَ موجوء، فَإِن نزعت نزعا فقد خصي، فَإِن شدت الأنثيان شدا قيل: عصبته عصبا فَهُوَ معصوب. قَالَ: وَقَالَ بعض أهل الْعلم: " فَهُوَ لَهُ وجأ " بِفَتْح الْوَاو مَقْصُورَة، يُرِيد الحفا، وَالْوَجْه الأول.
وَفِي الحَدِيث دَلِيل على جَوَاز التعالج لقطع الْبَاءَة بالأدوية، لقَوْله: " فليصم ".
وَمعنى: " أحصن لِلْفَرجِ " أعف.
202 - / 229 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: جَاءَ حبر إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِن الله يضع السَّمَاء على إِصْبَع، وَالْأَرضين على إِصْبَع، وَالْجِبَال على إِصْبَع، وَالشَّجر والأنهار على إِصْبَع، وَسَائِر الْخلق على إِصْبَع، ثمَّ يَقُول: أَنا الْملك. فَضَحِك رَسُول الله وَقَالَ: {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} [الزمر: 67] وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: ثمَّ يَهُزهُنَّ. وفيهَا: أَن رَسُول الله ضحك حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه، تَعَجبا وَتَصْدِيقًا لَهُ.
الحبر: الْعَالم.
وَمذهب عُلَمَاء السّلف السُّكُوت عَن مثل هَذَا الحَدِيث، وَأَن يمر على مَا جَاءَ من غير تَشْبِيه وَلَا تَأْوِيل.
أخبرنَا الكروخي قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَامر الْأَزْدِيّ وَأَبُو بكر الغورجي(1/270)
قَالَا: أخبرنَا الجراحي قَالَ: حَدثنَا المحبوبي قَالَ: حَدثنَا التِّرْمِذِيّ قَالَ: رُوِيَ عَن مَالك بن أنس وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعبد الله بن الْمُبَارك أَنهم قَالُوا: أمروا هَذِه الْأَحَادِيث بِلَا كَيفَ. قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَهَذَا قَول أهل الْعلم من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة.
قلت: وَقد كَانَ بعض السّلف إِذا تحدث بِهَذَا الحَدِيث يُحَرك أَصَابِعه على التَّقْرِيب إِلَى الْفَهم لَا على التَّشْبِيه، فَأخْبرنَا أَبُو الْقَاسِم هبة الله ابْن الْحُسَيْن بن الحاسب قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ بن الْبناء قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْفَتْح بن أبي الفوارس قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن جَعْفَر بن سلم قَالَ: حَدثنَا أَبُو حَفْص عمر بن مُحَمَّد بن عِيسَى الْجَوْهَرِي قَالَ: حَدثنَا صَالح بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: سَمِعت أبي يَقُول: حَدثنِي يحيى بِحَدِيث الْأَعْمَش، حَدِيث عبد الله: " إِن الله يضع السَّمَوَات على أصْبع " فَجعل يَقُول بأصابعه هَكَذَا، حَتَّى أَتَى على آخرهَا.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون ضحك رَسُول الله إنكارا، قَالَ: وَقَول من قَالَ: تَصْدِيقًا، ظن مِنْهُ، وَالظَّاهِر أَن ذَلِك من تَخْلِيط الْيَهُود وتخريفهم، وَأَن ضحك رَسُول الله إِنَّمَا كَانَ تَعَجبا وَإِنْكَارا. قَالَ: ثمَّ لَو صحت الرِّوَايَة بِإِثْبَات ذَلِك كَانَ الْمَعْنى أَن سهولة الْأَمر عَلَيْهِ كمن جمع شَيْئا فِي كَفه فاستخف حمله، فَلم يشْتَمل بِجَمِيعِ كَفه عَلَيْهِ، لكنه أَقَله بِبَعْض أَصَابِعه. يُقَال: إِن فلَانا ليفعل كَذَا بِخِنْصرِهِ.(1/271)
وَقَوله: {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} أَي مَا عظموه حق عَظمته.
وَقد ذكرنَا النواجذ فِي مُسْند سعد.
203 - / 230 وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن ابْن مَسْعُود وجد من رجل ريح الْخمر، فَضَربهُ الْحَد.
قد تكلمنا على هَذَا الحَدِيث فِي الحَدِيث الْخَامِس عشر من مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
204 - / 231 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فَزَاد أَو نقص. وَفِي لفظ: صلى خمْسا، فَلَمَّا سلم أخبر، فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ. وَفِي لفظ: " إِذا شكّ أحدكُم فِي صلَاته فليتحر الصَّوَاب فليبن عَلَيْهِ، ثمَّ ليسجد سَجْدَتَيْنِ " وَفِي لفظ: أَنه سجد بعد السَّلَام وَالْكَلَام.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على وجوب سُجُود السَّهْو لِأَنَّهُ أَمر بِهِ، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد. وَقَالَ مَالك: إِذا كَانَ عَن نُقْصَان وَجب، وَأما عَن زِيَادَة فَلَا يجب. وَقَالَ الشَّافِعِي: سُجُود السَّهْو مسنون.
وَأما من نسي سُجُود السَّهْو فلنا فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَنه يسْجد مَا لم يَتَطَاوَل الزَّمَان أَو يخرج من الْمَسْجِد - وَإِن تكلم. وَالثَّانيَِة: يسْجد وَإِن خرج وتباعد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يسْجد بعد الْكَلَام وَالْخُرُوج. وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن ذكر قَرِيبا سجد، وَإِن تبَاعد فعلى قَوْلَيْنِ.(1/272)
وَقَوله: فليتحر الصَّوَاب: أَي ليجتهد فِي الْإِصَابَة.
205 - / 232 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَن ابْن مَسْعُود قَالَ: لعن الله الْوَاشِمَات وَالْمُسْتَوْشِمَات، وَالْمُتَنَمِّصَات، وَالْمُتَفَلِّجَات لِلْحسنِ الْمُغيرَات خلق الله.
أما الوشم فَهُوَ غرز الْكَفّ أَو الذِّرَاع بالإبرة، ثمَّ يحشى بكحل أَو نَحوه فَمَا يخضره، فالفاعلة واشمة، وَالَّتِي تطلب أَن يفعل بهَا ذَلِك مستوشمة.
والنامصة: الَّتِي تنتف الشّعْر من الْوَجْه. والمتنمصة: هِيَ الَّتِي تطلب أَن يفعل بهَا ذَلِك، وَهُوَ مَأْخُوذ من المنماص، وَهُوَ المنقاش، وَبَعض قرأة الحَدِيث تَقول: المنتمصة بِتَقْدِيم النُّون. وَالَّذِي ضبطناه عَن أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد بِتَقْدِيم التَّاء مَعَ التَّشْدِيد.
وَالْمُتَفَلِّجَات: هن اللواتي يتكلفن تفريج مَا بَين الثنايا والرباعيات بصناعة. والفلج فِي الْأَسْنَان: تبَاعد مَا بَين ذَلِك. يُقَال: رجل أفلج الْأَسْنَان، وَامْرَأَة فلجاء الْأَسْنَان، وَلَا بُد من ذكر الْأَسْنَان.
وَقد جَاءَ فِي حَدِيث آخر: أَنه لعن الواشرة والمؤتشرة. قَالَ أَبُو عبيد: الواشرة الَّتِي تشر أسنانها: أَي تفلجها وتحددها حَتَّى يكون لَهَا أشر: وَهِي رقة وتحدد فِي أَطْرَاف أَسْنَان الْأَحْدَاث، فَهَذِهِ تتشبه بأولئك. وَمِنْه ثغر مؤشر.(1/273)
وَظَاهر هَذَا الحَدِيث أَن الْكَلَام مُطلق فِي حق كل من فعل هَذَا. وَقَول ابْن مَسْعُود يدل على ذَلِك. وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ المتصنعات من النِّسَاء للفجور، لِأَن مثل هَذَا التحسن دأبهن. وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهن المموهات على الرِّجَال بِمثل هَذِه الْأَفْعَال لتغر المتزوج.
206 - / 235 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَرَأَ (النَّجْم) فَسجدَ، وَسجد من كَانَ مَعَه، غير أَن شَيخا من قُرَيْش أَخذ كفا من تُرَاب فرفعه إِلَى جَبهته، فَلَقَد رَأَيْته قتل كَافِرًا.
إِنَّمَا سجد رَسُول الله فِي سُورَة " النَّجْم " عِنْد السَّجْدَة الَّتِي فِي آخرهَا، وَهَذَا دَلِيل على مَالك، لِأَنَّهُ يَقُول: لَيْسَ فِي الْمفصل سَجْدَة. وَلما سجد رَسُول الله سجد الْمُشْركُونَ مَعَه، وَإِنَّمَا سجدوا لأَنهم سمعُوا (تِلْكَ الغرانيق العلى. وَإِن شفاعتهن لترتجى) فَفَرِحُوا ووافقوه فِي السُّجُود. وَقد بيّنت فِي " التَّفْسِير " أَن شَيْطَانا تكلم بذلك فسمعوه، إِمَّا من شياطين الْجِنّ أَو من شياطين الْإِنْس، لأَنهم كَانُوا إِذا قَرَأَ الرَّسُول لَغوا كَمَا وَصفهم الله عز وَجل بقوله: {لَا تسمعوا لهَذَا الْقُرْآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] فَلَمَّا سمعُوا هَذِه السُّورَة قَالَ بعض الشَّيَاطِين هَذِه الْكَلِمَات على وَزنهَا، فظنوا أَن رَسُول الله قد قَالَهَا، وَإِنَّمَا قيلت فِي ضمن تِلَاوَته. فَأَما أَن يكون جرى على لِسَان الرَّسُول الْمَعْصُوم مثل هَذَا فمحال، فَلَا تغترر بِمَا تسمعه فِي التفاسير من أَنه(1/274)
جرى على لِسَانه، فَإِنَّهُ لَو صَحَّ هَذَا لاختلط الْحق بِالْبَاطِلِ، وَجَاز أَن يشك فِي الصَّحِيح، فَيُقَال: لَعَلَّ هَذَا مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَان أَيْضا، وَقد عصم الله نبيه من مثل هَذَا، وَبَين كَيْفيَّة حفظ الْوَحْي من الشَّيَاطِين، فَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهُ يسْلك من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه رصدا} [الْجِنّ: 27] وَالْمعْنَى أَن يحرس الْوَحْي عِنْد تِلَاوَة الْملك لَهُ على الرَّسُول من استراق الشَّيَاطِين لِئَلَّا يسبقونه إِلَى الكاهن فيتكلم بِهِ قبل الرَّسُول، وَهَذِه الْعِصْمَة تنَافِي صِحَة مَا ادعِي مِمَّا أنكرناه. وَقد ذهب إِلَى مَا قلته كبار الْعلمَاء، مِنْهُم أَبُو الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي، وَأَبُو جَعْفَر النّحاس، وَأَبُو الْوَفَاء بن عقيل، فِي خلق كثير من الْمُحَقِّقين. وَقد بالغت فِي شرح هَذَا الْمَعْنى فِي تفسيري الْكَبِير الْمُسَمّى ب " الْمُغنِي " وأشرت إِلَيْهِ فِي التَّفْسِير الْمُتَوَسّط الْمُسَمّى ب " زَاد الْمسير "، فَأخذت فِي تَجْوِيز مَنْقُول لَا يثبت يَقع بِهِ هدم أصل عَظِيم.
وَأما الشَّيْخ الْقرشِي فَإِنَّهُ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة.
207 - / 237 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: لَا يجعلن أحدكُم للشَّيْطَان شَيْئا من صلَاته، يرى أَن حَقًا عَلَيْهِ أَلا ينْصَرف إِلَّا عَن يَمِينه، قد رَأَيْت رَسُول الله كثيرا ينْصَرف عَن يسَاره.
أكد الْوَصِيَّة فِي هَذَا الحَدِيث ابْن مَسْعُود بنُون التوكيد حِين قَالَ: لَا يجعلن، وَالْمعْنَى: لَا يرين أحدكُم هَذَا حَقًا وَاجِبا أَو مسنونا فَاضلا.
208 - / 238 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد(1/275)
قَالَ: صلى بِنَا عُثْمَان بن عَفَّان بمنى أَربع رَكْعَات، فَقيل لِابْنِ مَسْعُود، فَقَالَ: صليت مَعَ رَسُول الله بمنى رَكْعَتَيْنِ.
فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَنه يجوز للْمُسَافِر إتْمَام الصَّلَاة، وَلَوْلَا ذَلِك مَا أقرُّوا عُثْمَان عَلَيْهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِنَّمَا أتم عُثْمَان لِأَنَّهُ اتخذ الْأَمْوَال بِالطَّائِف وَأَرَادَ أَن يُقيم بهَا.
209 - / 239 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى صَلَاة لغير ميقاتها إِلَّا صَلَاتَيْنِ. جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِجمع، وَصلى الْفجْر يَوْمئِذٍ قبل ميقاتها.
أما جمع فَهُوَ اسْم لموْضِع الْمزْدَلِفَة. وحد الْمزْدَلِفَة مَا بَين المأزمين ووادي محسر، وَهُوَ اسْم مَأْخُوذ من الازدلاف وَهُوَ الْقرب، سميت بذلك لاقتراب النَّاس إِلَى منى بعد الْإِفَاضَة من عَرَفَات. وَمن دفع من عَرَفَة قبل غرُوب الشَّمْس فَعَلَيهِ دم خلافًا لأحد قولي الشَّافِعِي، فَإِذا وصل إِلَى الْمزْدَلِفَة جمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء قبل حط الرّحال، فَإِن صلى الْمغرب قبل الْوُصُول إِلَى مُزْدَلِفَة صحت الصَّلَاة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تصح.
وَقَوله: صلى الْفجْر قبل ميقاتها: أَي قبل الْوَقْت الْمُعْتَاد، لَا أَنه صلى قبل طُلُوع الْفجْر، وَقد بَين هَذَا فِي تَمام الحَدِيث.
وَقَوله: حِين يبرغ الْفجْر: أَي يطلع.(1/276)
وَقَوله: حَتَّى يعتموا. يُقَال: عتم اللَّيْل: إِذا مضى مِنْهُ صدر. وَقَالَ الْخَلِيل: الْعَتَمَة من اللَّيْل بعد غيبوبة الشَّفق. وعتم الْمُسَافِر وأعتم: إِذا سَار فِي ذَلِك الْوَقْت أَو وصل إِلَى الْمنزل.
وأسفر الصُّبْح: أَضَاء وَتبين.
210 - / 240 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: أَن عبد الله رمى بجمرة الْعقبَة من بطن الْوَادي، فَقيل لَهُ: إِن نَاسا يَرْمُونَهَا من فَوْقهَا، فَقَالَ: هَذَا وَالَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مقَام الَّذِي أنزلت عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة.
وَفِي تَخْصِيصه سُورَة الْبَقَرَة دون غَيرهَا وَجْهَان: أَحدهمَا: لِأَن مُعظم الْمَنَاسِك وَمَا يتَعَلَّق بِالْحَجِّ فِيهَا. وَالثَّانِي: لطولها وَعظم قدرهَا وَكَثْرَة مَا تحوي من الْأَحْكَام. وَقد خصها رَسُول الله بعجز الفجرة عَن حفظهَا، فَقَالَ: " وَلَا تستطيعها البطلة " وَأمر الْعَبَّاس يَوْم حنين لما فر النَّاس فَقَالَ: " نَاد بأصحاب السمرَة: يَا أَصْحَاب سُورَة الْبَقَرَة " وَيُمكن أَن يكون خص الْبَقَرَة بِالذكر حِين فرارهم لِأَن فِيهَا: {كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة} [249] وفيهَا: {فهزموهم بِإِذن الله} [251] ، أَو لِأَن فِيهَا: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [40] وفيهَا: {وَمن النَّاس من يشري نَفسه} [207] .
وَفِي هَذَا الحَدِيث رد على أَقوام قَالُوا: لَا يُقَال سُورَة الْبَقَرَة، وَإِنَّمَا(1/277)
يُقَال: السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة، لِأَنَّهُ قَالَ: الَّذِي أنزلت عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة.
211 - / 241 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: جَاءَ رجل فَقَالَ لِابْنِ مَسْعُود: إِن قَاصا عِنْد أَبْوَاب كِنْدَة يقص وَيَزْعُم أَن آيَة الدُّخان تَجِيء فتأخذ بِأَنْفَاسِ الْكفَّار، وَيَأْخُذ الْمُؤمن مِنْهُ كَهَيئَةِ الزُّكَام. فَقَالَ عبد الله وَجلسَ وَهُوَ غَضْبَان: يَا أَيهَا النَّاس، اتَّقوا، من علم شَيْئا فَلْيقل بِمَا يعلم، وَمن لَا يعلم فَلْيقل الله أعلم. إِن رَسُول الله لما رأى من النَّاس إدبارا قَالَ: " اللَّهُمَّ سبع كسبع يُوسُف "، فَأَخَذتهم سنة حصت كل شَيْء حَتَّى أكلُوا الْجُلُود وَالْميتَة من الْجُوع، وَينظر إِلَى السَّمَاء أحدهم فَيرى كَهَيئَةِ الدُّخان، قَالَ الله تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} [الدُّخان: 10] .
قَوْله: " سبع كسبع يُوسُف ". يَعْنِي سبع سِنِين، يُشِير إِلَى قَوْله: {قَالَ تزرعون سبع سِنِين دأبا} [يُوسُف: 47] .
وحصت: أذهبت النَّبَات فَانْكَشَفَتْ الأَرْض، وَأَصله الظُّهُور والتبين. والأحص: الْقَلِيل الشّعْر.
وَقَوله: {فَارْتَقِبْ} أَي فانتظر.
وَقد فسر ابْن مَسْعُود فِي هَذَا الحَدِيث الدُّخان بِأَنَّهُ كَانَ من شدَّة جوع أهل مَكَّة، كَانَ أحدهم يرى مَا بَينه وَبَين السَّمَاء كَهَيئَةِ الدُّخان، وَأنكر أَن يكون دُخان يَجِيء قبل الْقِيَامَة، وَقَالَ: أفنكشف عَذَاب الْآخِرَة. يُشِير(1/278)
إِلَى قَوْله: {إِنَّا كاشفوا الْعَذَاب} [الدُّخان: 15] وَقد ذهب إِلَى مَا أنكرهُ ابْن مَسْعُود جمَاعَة وَقَالُوا: إِنَّه دُخان يَأْتِي قبل قيام السَّاعَة، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ وَابْن عمر وَأبي هُرَيْرَة وَابْن عَبَّاس وَالْحسن. وَقَالَ ابْن أبي مليكَة: غَدَوْت على ابْن عَبَّاس ذَات يَوْم فَقَالَ: مَا نمت اللَّيْلَة. قلت: وَلم؟ قَالَ: طلع الْكَوْكَب ذُو الذَّنب فَخَشِيت أَن يطْرق الدُّخان. وعَلى قَول هَؤُلَاءِ يكْشف هَذَا الْعَذَاب فِي الْقِيَامَة قَلِيلا ثمَّ يعودون إِلَى عَذَاب شَدِيد. وعَلى هَذَا تكون البطشة الْكُبْرَى فِي الْقِيَامَة. وعَلى قَول ابْن مَسْعُود كَانَت يَوْم بدر.
وَقَوله: {فَسَوف يكون لزاما} [الْفرْقَان: 77] أَي يكون تكذيبكم عذَابا لَازِما لكم.
212 - / 242 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " لَيْسَ منا من ضرب الخدود، وشق الْجُيُوب، ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة ".
قَوْله: " لَيْسَ منا " أَي لَيْسَ على طريقتنا وسنتنا، وَإِنَّمَا نهى عَمَّا يدْخل تَحت الْكسْب من ضرب الخد وشق الجيب، وَلم ينْه عَن الْبكاء والحزن.
وَأما دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَمَا كَانُوا يذكرُونَهُ عِنْد موت الْمَيِّت، تَارَة من تَعْظِيمه ومدحه، وَتارَة من النّدب عَلَيْهِ مثل قَوْلهم: واجبلاه.
213 - / 244 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: " لَيْسَ من نفس تقتل ظلما إِلَّا كَانَ على ابْن آدم الأول كفل من دَمهَا، لِأَنَّهُ سنّ الْقَتْل أَولا ".(1/279)
ابْن آدم: هُوَ قابيل، وَهُوَ أول من قتل. وللمتقدم فِي الْخَيْر وَالشَّر أثر يزِيد بِهِ على غَيره، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من سنّ فِي الْإِسْلَام سنة حَسَنَة كَانَ لَهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا بعده من غير أَن ينقص من أُجُورهم شَيْء، وَمن سنّ فِي الْإِسْلَام سنة سَيِّئَة كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بهَا بعده من غير أَن ينقص من أوزارهم شَيْء ".
214 - / 245 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: " إِن أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة المصورون " وَرَوَاهُ البرقاني فَقَالَ فِيهِ: " إِن أَشد النَّاس عذَابا رجل قَتله نَبِي، أَو مُصَور ".
أما المصورون فَإِنَّمَا اشْتَدَّ عَذَابهمْ لأَنهم ضاهوا فعل الله عز وَجل، فَفَعَلُوا كَمَا فعل من تَصْوِير الصُّور، وَسَيَأْتِي شرح هَذَا بَالغا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما من قَتله نَبِي فالغالب أَنه لَا يقْتله النَّبِي حَتَّى يروم قتل النَّبِي، فَإِذا قَتله النَّبِي الَّذِي جَاءَ بالتلطف دلّ على أَنه قد بارز بعناد لَا يتلافى، فضوعف عَذَابه.
215 - / 248 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: ذكر سلى الْجَزُور الَّذِي ألقِي على ظهر رَسُول الله.
السلى: هُوَ الْوِعَاء الَّذِي يكون فِيهِ الْوَلَد إِذا وضع الْجَزُور من الْإِبِل، سمي بذلك للجزر، وَهُوَ الْقطع.(1/280)
وَقَوله: فانبعث أشقي الْقَوْم وَهُوَ عقبَة بن أبي معيط.
والمنعة: الْعِزّ والامتناع من الْعَدو.
وَفِي هَذَا الحَدِيث ذكر الْوَلِيد بن عتبَة فِي الْجَمَاعَة الَّذين حَضَرُوا ذَلِك، وَهَذَا غلط فقد روى هَذَا الحَدِيث البرقاني فَقَالَ: السَّابِع عمَارَة ابْن الْوَلِيد، وَهُوَ الصَّحِيح. وَقد رَوَاهُ أَحْمد فِي " مُسْنده " فَقَالَ فِيهِ: ثمَّ سحبوا إِلَى القليب غير أبي بن خلف أَو أُميَّة، هَكَذَا على الشَّك، وَهُوَ من الرَّاوِي، وَإِنَّمَا هُوَ أُميَّة بِلَا شكّ، فَإِن أبي بن خلف لم يقتل يَوْم بدر، وَإِنَّمَا أسر ففدى نَفسه وَعَاد إِلَى مَكَّة، ثمَّ جَاءَ يَوْم أحد فَقتله رَسُول الله بِيَدِهِ يَوْمئِذٍ.
والقليب: الْبِئْر الَّتِي لم تطو، فَإِذا طويت فَهِيَ الطوي.
وانزعاج الْقَوْم من دُعَائِهِ عَلَيْهِم دَلِيل على علمهمْ بصدقه، وَإِنَّمَا غلبهم الْهوى والحسد.
216 - / 249 - الحَدِيث الْخَامِس وَالْعشْرُونَ: دخل النَّبِي يَوْم الْفَتْح وحول الْكَعْبَة ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ نصبا، فَجعل يطعنها بِعُود كَانَ فِي يَده وَيَقُول: " جَاءَ الْحق وزهق الْبَاطِل ".
فِي تَسْمِيَة الْكَعْبَة كعبة قَولَانِ:
أَحدهمَا: لِأَنَّهَا مربعة، يُقَال: برد مكعب: إِذا طوي مربعًا،(1/281)
وَهَذَا مَذْهَب عِكْرِمَة وَمُجاهد.
وَالثَّانِي: لعلوها ونتوءها. يُقَال: كعبت الْمَرْأَة كعابة فَهِيَ كاعب: إِذا نتأ ثديها.
وَأما النصب فَهُوَ وَاحِد الأنصاب: وَهِي الْأَصْنَام الَّتِي كَانُوا ينصبونها ويعبدونها.
وَقَوله: " جَاءَ الْحق " يَعْنِي الْإِسْلَام والتوحيد. " وزهق " أَي بَطل واضمحل " الْبَاطِل " وَهُوَ الشّرك.
فَإِن قيل: الشّرك فِي اعْتِقَاد أَهله صَحِيح مَعْمُول عَلَيْهِ عِنْدهم، فَكيف يُقَال: بَطل؟ فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه لما أزيلت الْأَصْنَام وَمنع من عبادتها بِمَكَّة بطلت.
وَالثَّانِي: أَنه لما وضح عيب الشّرك بِالدَّلِيلِ بَطل حكمه عِنْد المتدبر النَّاظر.
وَقَوله: {وَمَا يبدئ الْبَاطِل} [سبأ: 49] قَالَ قَتَادَة: الْبَاطِل: الشَّيْطَان، لَا يخلق خلقا وَلَا يَبْعَثهُ. وَقَالَ الضَّحَّاك: هِيَ الْأَصْنَام، لَا تبدئ خلقا وَلَا تحييه. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي: لَا يَبْتَدِئ الصَّنَم كلَاما وَلَا يرد.
217 - / 250 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: قَوْله: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} [الْإِسْرَاء: 57] قَالَ: كَانَ نفر من الْإِنْس يعْبدُونَ نَفرا من الْجِنّ، فَأسلم النَّفر من الْجِنّ، فَاسْتَمْسك(1/282)
الْآخرُونَ بعبادتهم، فَنزلت: {أُولَئِكَ الَّذين يدعونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبهم الْوَسِيلَة} .
الْوَسِيلَة: الْقرْبَة، يُقَال: توسلت إِلَى فلَان: أَي تقربت، وأنشدوا:
(إِذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وَعَاد التصافي بَيْننَا والوسائل)
و (يدعونَ) بِمَعْنى يعْبدُونَ، وَالْمعْنَى: أَن الَّذين يعبدهم هَؤُلَاءِ يطْلبُونَ التَّقَرُّب إِلَى الله عز وَجل.
218 - / 251 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: عَلمنِي رَسُول الله التَّشَهُّد: التَّحِيَّات لله، والصلوات والطيبات.
فِي التَّحِيَّات ثَلَاثَة أَقْوَال ذكرهَا ابْن الْقَاسِم:
أَحدهَا: أَنه السَّلَام، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا حييتُمْ بِتَحِيَّة} [النِّسَاء: 86] أَي: إِذا سلم عَلَيْكُم.
وَالثَّانِي: أَنه الْملك، وَذَلِكَ أَن الْملك كَانَ يحيا فَيُقَال لَهُ: أنعم صباحا أَيهَا الْملك، أَبيت اللَّعْن، قَالَ عَمْرو بن معد يكرب:
(أَسِيرهَا إِلَى النُّعْمَان حَتَّى ... أُنِيخ على تحيته بجند)(1/283)
أَي على ملكه. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِنَّمَا كَانَت التَّحِيَّة الْملك لِأَن الْملك كَانَ يحيا فَيُقَال لَهُ: أنعم صباحا، لَا يُقَال ذَلِك لغيره، ثمَّ سمي الْملك تَحِيَّة إِذْ كَانَت التَّحِيَّة لَا تكون إِلَّا للْملك.
وَالثَّالِث: أَن التَّحِيَّات الْبَقَاء، قَالَ زُهَيْر بن جناب:
(أبني إِن أهلك فإنني ... قد بنيت لكم بنيه)
(وتركتكم أَو لَا سَادَات ... زنادكم وريه)
(من كل مَا نَالَ الْفَتى ... قد نلته إِلَّا التحيه)
أَي: إِلَّا الْبَقَاء، فَإِنَّهُ لَا ينَال. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِنَّمَا أَرَادَ بِالْبَيْتِ الْملك، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قد نلْت كل شَيْء إِلَّا أَنِّي لم أصر ملكا.
أما الصَّلَوَات فَهِيَ الرَّحْمَة.
والطيبات أَي: والطيبات من الْكَلَام لله، أَي ذَلِك يَلِيق بمجده.
وَقَوله: " السَّلَام عَلَيْك " فِي السَّلَام قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه اسْم لله عز وَجل. وَمَعْنَاهُ ذُو السَّلامَة: أَي صَاحبهَا، وَالْمعْنَى: عَلَيْك، أَي على حفظك.
وَالثَّانِي: أَنه جمع سَلامَة.
وَتشهد ابْن مَسْعُود هَذَا هُوَ اخْتِيَار أَحْمد بن حَنْبَل وَأبي حنيفَة(1/284)
وَأَصْحَابه، وَأما مَالك فيختار تشهد عمر بن الْخطاب، وَفِيه: التَّحِيَّات لله، الزاكيات لله، الصَّلَوَات لله. وَأما الشَّافِعِي فيختار تشهد ابْن عَبَّاس: " التَّحِيَّات المباركات الصَّلَوَات لله " وَسَيَأْتِي فِي أَفْرَاد مُسلم من مُسْند ابْن عَبَّاس. ثمَّ يَقع الِاتِّفَاق فِيمَا بعد هَذِه الْأَلْفَاظ.
وَقَوله: ثمَّ يتَخَيَّر من الْمَسْأَلَة مَا شَاءَ. مَحْمُول عندنَا على التخير من الْأَدْعِيَة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن وَفِي الحَدِيث، وَمَتى دَعَا بِكَلَام من عِنْده مثل أَن يَقُول: اللَّهُمَّ ارزقني جَارِيَة، أَو طَعَاما، فَسدتْ صلَاته، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ يجوز أَن يَدْعُو بِمَا شَاءَ.
وَقد اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث من لَا يرى وجوب الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّشَهُّد، فَقَالَ: لما ذكر التَّشَهُّد قَالَ: " ثمَّ يتَخَيَّر من الْمَسْأَلَة " فَدلَّ على أَنه لَا يجب سوى مَا ذكر.
وَالْجَوَاب أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي ذَلِك: فَقَالَ الشَّافِعِي: الصَّلَاة عَلَيْهِ بعد التَّشَهُّد وَاجِبَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: سنة. وَعَن أَحْمد كالمذهبين وَوجه الْإِيجَاب أَن الله تَعَالَى أَمر بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَالَ: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا} [الْأَحْزَاب: 56] وَلَا خلاف أَن الصَّلَاة عَلَيْهِ لَا تجب فِي غير الصَّلَاة، وَقد وَقع الِاتِّفَاق على وجوب التَّسْلِيم عَلَيْهِ فِي الصَّلَاة، فَكَانَت الصَّلَاة وَاجِبَة عَلَيْهِ.(1/285)
219 - / 252 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: بَيْنَمَا نَحن مَعَ رَسُول الله بمنى انْفَلق الْقَمَر فلقَتَيْنِ.
الفلقة: الْقطعَة من الشَّيْء المنشق. قَالَ ابْن عَبَّاس: اجْتمع الْمُشْركُونَ إِلَى رَسُول الله فَقَالُوا: إِن كنت صَادِقا فشق لنا الْقَمَر فلقَتَيْنِ. فَقَالَ: " إِن فعلت ذَلِك تؤمنون؟ " قَالُوا: نعم، فَسَأَلَ ربه، فانشق الْقَمَر فرْقَتَيْن، وَرَسُول الله يُنَادي: " يَا فلَان، يَا فلَان، اشْهَدْ " وَقَالَ مُجَاهِد: ثبتَتْ فرقة وَذَهَبت فرقة من وَرَاء الْجَبَل. وَقَالَ ابْن زيد: كَانَ يرى نصفه على قعيقعان وَالنّصف الآخر على أبي قبيس. قَالَ ابْن مَسْعُود: فَقَالَ قُرَيْش: سحركم ابْن أبي كَبْشَة. فاسألوا السفار فَسَأَلُوهُمْ، فَقَالُوا: نعم، قد رَأَيْنَاهُ، فَنزلت قَوْله: {اقْتَرَبت السَّاعَة وَانْشَقَّ الْقَمَر} [فَاتِحَة الْقَمَر] .
وَاعْلَم أَن انْشِقَاق الْقَمَر من الْآيَات الَّتِي فاق بهَا على الْأَنْبِيَاء، فَلَيْسَ لَهُم مثلهَا؛ لِأَنَّهُ أَمر خَارج عَن الْأُمُور الأرضية. وَقد اعْترض قوم فَقَالُوا: كَيفَ نقل هَذَا نقل آحَاد والخلق قد رَأَوْهُ؟
فَالْجَوَاب: إِن هَذَا أَمر طلبه قوم من أهل مَكَّة فَأَرَاهُم تِلْكَ الْآيَة لَيْلًا، وَأكْثر النَّاس نيام وَفِي أسمارهم وأشغالهم، وَإِنَّمَا رَآهُ الْقَلِيل مِمَّن لم يطْلب، وَلَو ظهر لجَمِيع الْخلق ثمَّ لم يُؤمنُوا لبغتوا بِالْعَذَابِ كَمَا جرى للأمم المكذبة بِالْآيَاتِ الحسية، قَالَ عز وَجل: {وَمَا منعنَا أَن نرسل بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كذب بهَا الْأَولونَ} [الْإِسْرَاء: 59] الْمَعْنى: كذبُوا فأهلكوا، وَلَو أرسلناها فَكَذَّبْتُمْ لأهلكتكم.(1/286)
والإشارات إِلَى الْآيَات الحسية، كناقة صَالح.
وَقد روى حَدِيث انْشِقَاق الْقَمَر جمَاعَة من الصَّحَابَة، إِلَّا أَنه فِي الصِّحَاح من حَدِيث ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَأنس بن مَالك.
220 - / 254 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: إِنَّك لتوعك وعكا شَدِيدا. وَقد فسرناه فِي حَدِيث السَّقِيفَة.
وَقد دلّ الحَدِيث على أَن الْقوي يحمل، والضعيف يرفق بِهِ، إِلَّا أَنه كلما قويت الْمعرفَة بالمبتلي هان الْبلَاء الشَّديد، وَمن أهل الْبلَاء من يرى الْأجر فيهون الْبلَاء عَلَيْهِ، وَأَعْلَى مِنْهُ من يرى تصرف المبتلي فِي ملكه، وَأَرْفَع مِنْهُ من تشغله محبَّة الْحق عَن وَقع الْبلَاء، وَنِهَايَة الْمَرَاتِب التَّلَذُّذ بِضَرْب الحبيب، لِأَنَّهُ عَن اخْتِيَاره نَشأ.
221 - / 255 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ ابْن مَسْعُود: إِن الْمُؤمن يرى ذنُوبه كَأَنَّهُ قَاعد تَحت جبل يخَاف أَن يَقع عَلَيْهِ.
إِنَّمَا كَانَت هَذِه صفة الْمُؤمن لشدَّة خَوفه من الْعقُوبَة، لِأَنَّهُ على يَقِين من الذَّنب، وَلَيْسَ على يَقِين من الْمَغْفِرَة، والفاجر قَلِيل الْمعرفَة بِاللَّه، فَلذَلِك قل خَوفه فاستهان بِالْمَعَاصِي.
وَالْأَرْض الدوية منسوبة إِلَى الدو: وَهِي الْمَفَازَة القفر الَّتِي تبعد(1/287)
عَن الْعمرَان، فيخاف على سالكها الْهَلَاك.
وَمَا ضرب من الْمثل فِي هَذَا الحَدِيث لفرح الله عز وَجل بِالتَّوْبَةِ يبين أثر الْقبُول، وَلَا يجوز أَن يعْتَقد فِي الله تَعَالَى مَا يعْتَقد فِي المخلوقين من التأثر، فَإِن الله عز وَجل يُؤثر وَلَا يتأثر، وَصِفَاته قديمَة فَلَا تحدث لَهُ صفة.
222 - / 256 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: " لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رجل آتَاهُ الله مَالا فَسَلَّطَهُ على هَلَكته فِي الْحق، وَرجل آتَاهُ الله حِكْمَة فَهُوَ يقْضِي بهَا وَيعلمهَا ".
الْحَسَد: هُوَ تمني زَوَال النِّعْمَة عَن الْمَحْسُود وَإِن لم تصر للحاسد، وَسَببه أَنه قد وضع فِي الطباع كَرَاهَة الْمُمَاثلَة وَحب الرّفْعَة على الْجِنْس، فَإِذا رأى الْإِنْسَان من قد نَالَ مَا لم ينل أحب بالطبع أَن يَزُول ذَلِك ليَقَع التَّسَاوِي، أَو ليحصل لَهُ الِارْتفَاع على ذَلِك الشَّخْص. وَهَذَا أَمر مركوز فِي الطباع، وَلَا يسلم مِنْهُ أحد، وَإِنَّمَا المذموم الْعَمَل بِمُقْتَضى ذَلِك من سبّ الْمُنعم عَلَيْهِ، أَو السَّعْي فِي إِزَالَة نعْمَته. ثمَّ يَنْبَغِي للْإنْسَان إِذا وجد الْحَسَد من نَفسه أَن يكره كَون ذَلِك فِيهِ كَمَا يكره مَا وضع فِي طبعه من حب المنهيات، وَقد ذمّ الْحَسَد على الْإِطْلَاق لما ينتجه ويوجبه.
فَأَما الحَدِيث فَلهُ ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن المُرَاد بِالْحَسَدِ الْغِبْطَة، وَالْغِبْطَة: تمني مثل نعْمَة الْمَحْسُود من غير حب زَوَالهَا عَن المغبوط، وَهَذَا ممدوح. وَلما كَانَ كثير من النَّاس لَا يفرقون بَين الْحَسَد وَالْغِبْطَة سمي هَذَا باسم هَذَا تجوزا.(1/288)
وَالثَّانِي: أَن المُرَاد بِالْحَسَدِ فِي هَذَا الحَدِيث شدَّة الْحِرْص وَالرَّغْبَة، فكنى بِالْحَسَدِ عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا سَبَب الْحَسَد والداعي إِلَيْهِ، هَذَا مَذْهَب أبي سُلَيْمَان الْخطابِيّ.
وَالثَّالِث: أَن المُرَاد بِالْحَدِيثِ نفي الْحَسَد فَحسب، فَقَوله: " لَا حسد " كَلَام تَامّ، وَهُوَ نفي فِي معنى النَّهْي. وَقَوله: " إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ " اسْتثِْنَاء لَيْسَ من الْجِنْس، وَمثله: {وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} [اللَّيْل: 19، 20] .
وَأما الْحِكْمَة فَإِنَّهَا علم مُحكم، وَسميت حِكْمَة من الحكم: وَهُوَ الْمَنْع، فالحكمة تمنع الْحَكِيم من الْجَهْل. وَسميت حِكْمَة الدَّابَّة لِأَنَّهَا تمنعها الْخلاف.
وَمعنى: " يقْضِي بهَا " يعْمل وَيَقُول.
223 - / 257 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: رخص لنا أَن ننكح الْمَرْأَة بِالثَّوْبِ إِلَى أجل.
هَذِه هِيَ الْمُتْعَة، وَقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند عمر، وَبينا أَنَّهَا نسخت.
224 - / 259 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: " إِنَّهَا سَتَكُون بعدِي أَثَرَة ".(1/289)
الأثرة: الاستئثار، وَهُوَ انْفِرَاد المستأثر بِمَا يستأثر بِهِ عَمَّن لَهُ فِيهِ حق.
وَقَوله: " تؤدون الْحق الَّذِي عَلَيْكُم " أَي من طَاعَة الْأُمَرَاء، وَترك الْخُرُوج عَلَيْهِم.
225 - / 260 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: " إِن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ يكون علقَة مثل ذَلِك، ثمَّ يكون مُضْغَة مثل ذَلِك، ثمَّ يبْعَث الله ملكا بِأَرْبَع كَلِمَات: يكْتب رزقه، وأجله، وَعَمله، وشقي أَو سعيد، ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح. فو الَّذِي لَا إِلَه غَيره، إِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل الْجنَّة حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب فَيعْمل بِعَمَل أهل النَّار فيدخلها، وَإِن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل النَّار حَتَّى مَا يكون بَينه وَبَينهَا إِلَّا ذِرَاع، فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب فَيعْمل بِعَمَل أهل الْجنَّة فيدخلها ".
هَكَذَا أخرج الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَظَاهر سِيَاقه يدل على أَنه كُله من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد أَنبأَنَا عبد الْوَهَّاب الْحَافِظ قَالَ: أخبرنَا جَعْفَر بن أَحْمد قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: من أول الحَدِيث إِلَى قَوْله: " وشقي أَو سعيد " من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا بعده إِلَى آخر الحَدِيث من كَلَام ابْن مَسْعُود. وَقد رَوَاهُ بِطُولِهِ سَلمَة بن كهيل عَن زيد بن وهب ففصل كَلَام ابْن مَسْعُود من كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(1/290)
فَأَما تَفْسِيره: فالعلقة: دم عبيط جامد، وَسميت علقَة لرطوبتها وتعلقها بِمَا تمر بِهِ، والمضغة: لحْمَة صَغِيرَة، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَسميت بذلك لِأَنَّهَا بِقدر مَا يمضغ، كَمَا يُقَال غرفَة لقدر مَا يغْرف. والْحَدِيث يدل على أَن الْأُمُور مقدرَة. وَقَوله: فَيَسْبق عَلَيْهِ الْكتاب: يَعْنِي مَا قضي لَهُ.
226 - / 261 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: " خير النَّاس قَرْني، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ يَجِيء قوم تسبق شَهَادَة أحدهم يَمِينه، وَيَمِينه شَهَادَته ".
الْقرن: مِقْدَار التَّوَسُّط فِي أَعمار أهل الزَّمَان، فَهُوَ فِي كل قوم على قدر أعمارهم. واشتقاقه من الاقتران، فَهُوَ الْمِقْدَار الَّذِي يقْتَرن فِيهِ بَقَاء أهل ذَلِك الزَّمَان فِي الْأَغْلَب. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَالْمعْنَى: خير النَّاس أهل قَرْني، فَحذف الْمُضَاف. وَقَالَ غَيره: قد يُسمى أهل الْعَصْر قرنا لاقترانهم فِي الْوُجُود.
وَقَوله: " يسْبق شَهَادَة أحدهم يَمِينه " يَعْنِي أَنهم لَا يتورعون فِي أَقْوَالهم، ويستهينون بِالشَّهَادَةِ وَالْيَمِين.
227 - / 262 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ لي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " اقْرَأ عَليّ ".
هَذَا الحَدِيث يحث على اسْتِمَاع الْقَارئ الْقُرْآن من غَيره، والمذكر(1/291)
التَّذْكِير من سواهُ، لِأَنَّهُ حَالَة تِلَاوَته وتذكيره يشْتَغل بإصلاح النُّطْق، فَإِذا سمع من غَيره جمع همه فِي الْإِنْصَات.
وَقَوله: فَإِذا عَيناهُ تَذْرِفَانِ. يُقَال: ذرفت الْعين دمعها: إِذا أطلقته، وذرف الدمع يذرف ذروفا، والمذارف: المدامع. وَإِنَّمَا بَكَى عَلَيْهِ السَّلَام عِنْد هَذِه الْآيَة: {فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد وَجِئْنَا بك على هَؤُلَاءِ شَهِيدا} [النِّسَاء: 41] لِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ من الشَّهَادَة، وَالْحكم على الْمَشْهُود عَلَيْهِ إِنَّمَا يكون بقول الشَّاهِد، فَلَمَّا كَانَ هُوَ الشَّاهِد، وَهُوَ الشافع بَكَى على المفرطين مِنْهُم.
228 - / 264 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: سَأَلت رَسُول الله: أَي الذَّنب أعظم؟ فَقَالَ: " أَن تجْعَل لله ندا وَهُوَ خلقك ".
الند: الْمثل، يُقَال هَذَا ند هَذَا ونديده.
وَقَوله: ثمَّ أَي؟ مشدد منون، كَذَلِك سمعته من أبي مُحَمَّد الخشاب، وَقَالَ: لَا يجوز إِلَّا تنوينه، لِأَنَّهُ اسْم مُعرب غير مُضَاف، وَقَالَ: وَمعنى غير مُضَاف: أَن يُقَال: أَي الرجلَيْن؟
وَقَوله: " أَن تقتل ولدك " إِشَارَة إِلَى الموءودة.
وَقَوله: " أَن تُزَانِي حَلِيلَة جَارك " تُزَانِي: تفَاعل، من الزِّنَا. والحليلة وَاحِدَة الحلائل: وَهن الْأزْوَاج. وَقَالَ الزّجاج: حَلِيلَة يَعْنِي محلّة، وَهِي مُشْتَقَّة من الْحَلَال. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الحليل: الزَّوْج، والحليلة: الْمَرْأَة، وسميا ذَلِك إِمَّا لِأَنَّهُمَا يحلان فِي مَوضِع وَاحِد، أَو لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يُحَال صَاحبه:(1/292)
أَي ينازله، أَو لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مَحل إِزَار صَاحبه.
قلت: فَلَمَّا كَانَ الشّرك أعظم الذُّنُوب بَدَأَ بِهِ لِأَنَّهُ جحد للتوحيد، ثمَّ ثناه بِالْقَتْلِ لِأَنَّهُ محو للموجد، وَلم يكف كَونه قتلا، حَتَّى جمع بَين وصف الْولادَة وظلم من لَا يعقل وَعلة الْبُخْل، فَلذَلِك خصّه بِالذكر من بَين أَنْوَاع الْقَتْل، ثمَّ ثلث بِالزِّنَا لِأَنَّهُ سَبَب لاختلاط الْفرش والأنساب، وَخص حَلِيلَة الْجَار لِأَن ذَنْب الزِّنَا بهَا يَتَفَاقَم بهتك حُرْمَة الْجَار، وَقد كَانَ الْعَرَب يتشددون فِي حفظ ذمَّة الْجَار، ويتمادحون بِحِفْظ امْرَأَة الْجَار، قَالَ عنترة:
(يَا شَاة مَا قنص لمن حلت لَهُ ... حرمت عَليّ وليتها لم تحرم)
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: عرض بجارته، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَي صيد أَنْت لمن حل لَهُ أَن يصيدك، أما أَنا فَإِن حُرْمَة الْجوَار قد حرمتك عَليّ.
وَقَالَ مِسْكين الدَّارمِيّ:
(مَا ضرّ لي جَار أجاوره ... أَلا يكون لبابه ستر)
(أعمى إِذا مَا جارتي خرجت ... حَتَّى يواري جارتي الْجدر)
(وتصم عَمَّا بَينهم أُذُنِي ... حَتَّى يكون كَأَنَّهُ وقر)
وَقد اخْتلفت أَحَادِيث الصَّحِيح فِي عدد الْكَبَائِر، فَهِيَ هَاهُنَا ثَلَاث، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أبي بكرَة ثَلَاث أَيْضا إِلَّا أَنَّهَا تخْتَلف، وَتَأْتِي فِي حَدِيث أنس أَربع، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو إِلَّا أَنَّهَا(1/293)
تخْتَلف، وَيَأْتِي فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة سبع، وَوجه هَذَا الِاخْتِلَاف أَن يكون ذكر لكل قوم مَا يقرب من أفعالهم من الذُّنُوب، أَو أَن يكون ذكر الْأُصُول فِي مَوضِع وَزَاد تَفْرِيعا فِي مَوضِع.
229 - / 266 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ رجل: يَا رَسُول الله، إِنِّي عَالَجت امْرَأَة.
يُشِير بذلك إِلَى اللَّمْس والتقبيل وَنَحْو ذَلِك. وَقَوله: مَا دون أَن أَمسهَا، يَعْنِي بالمس الْوَطْء، فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ} [الْبَقَرَة: 237] .
وَاخْتلفُوا فِي اسْم هَذَا الرجل على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: عَمْرو بن غزيَّة بن عَمْرو، أَبُو حَيَّة الْأنْصَارِيّ التمار، رَوَاهُ أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: وَكَانَ يَبِيع التَّمْر، فَأَتَتْهُ امْرَأَة تبْتَاع مِنْهُ فَأَعْجَبتهُ، فَقَالَ لَهَا: إِن فِي الْبَيْت تَمرا أَجود من هَذَا فانطلقي معي حَتَّى أُعْطِيك مِنْهُ، فَنزلت فِيهِ هَذِه الْآيَة. وَالثَّانِي: أَنه أَبُو مقبل عَامر بن قيس الْأنْصَارِيّ، قَالَه مقَاتل. وَالثَّالِث: أَنه أَبُو التيسر كَعْب بن عَمْرو الْأنْصَارِيّ، ذكره أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت.
وَهَذَا الرجل لما غَلبه هَوَاهُ انتقم مِنْهُ بِتَسْلِيم نَفسه إِلَى الْعقُوبَة، فَقَالَ: أَنا هَذَا، فَاقْض فِي مَا شِئْت.
وَقَول عمر: لقد سترك الله لَو سترت نَفسك، كَلَام عَالم حَازِم،(1/294)
وَذَلِكَ أَن من أَتَى ذَنبا واستتر بِهِ وَتَابَ، كَانَ ذَلِك أولى من إِظْهَاره لإِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يفضح نَفسه بِالْإِقْرَارِ. وَقد نَص على هَذَا أَحْمد ابْن حَنْبَل وَالشَّافِعِيّ، وَيدل على هَذَا تَنْبِيه الرَّسُول ماعزا على الرُّجُوع بقوله: " ارْجع " وَقَوله: " لَعَلَّك قبلت أَو غمزت " وَلَو كَانَ الْإِقْرَار مُسْتَحبا لما لقنه الرُّجُوع عَن الْمُسْتَحبّ. وأوضح من هَذَا فِي الدَّلِيل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " من أَتَى شَيْئا من هَذِه القاذورات فليستتر بستر الله ". فَأَما إِذا كَانَت الجريمة قد شاعت فَفِيهِ وَجْهَان عَن أَصْحَابنَا: أَحدهمَا: أَنه يسْتَحبّ لَهُ أَن يَأْتِي الْحَاكِم ويقر لَهُ ليقيم عَلَيْهِ الْحَد، قَالَه القَاضِي أَبُو يعلى. وَالثَّانِي: أَنه لَا يسْتَحبّ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُسْتَحبا لما لقن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ماعزا أَن يرجع، قَالَه ابْن عقيل، وَهُوَ الصَّحِيح.
وَقَوله: {وأقم الصَّلَاة} [هود: 114] مَعْنَاهُ: أتم ركوعها وسجودها.
والطرف: الْجَانِب. قَالَ ثَعْلَب: وَأول النَّهَار عِنْد الْعَرَب طُلُوع الشَّمْس. وَقَالَ ابْن فَارس: النَّهَار ضِيَاء مَا بَين طُلُوع الْفجْر إِلَى غرُوب الشَّمْس. وللمفسرين فِي المُرَاد بِصَلَاة الطّرف الأول قَولَانِ: أَحدهمَا: الْفجْر، قَالَه الْأَكْثَرُونَ. وَالثَّانِي: الظّهْر، حَكَاهُ ابْن جرير.(1/295)
وَلَهُم فِي الطّرف الثَّانِي ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا صَلَاة الْمغرب، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: الْعَصْر: قَالَه قَتَادَة. وَالثَّالِث: الظّهْر وَالْعصر، قَالَه مُجَاهِد.
قَوْله: {وَزلفًا من اللَّيْل} قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الزلف السَّاعَات، وَاحِدهَا زلفة: أَي سَاعَة ومنزلة وقربة، وَمِنْه سميت الْمزْدَلِفَة، قَالَ العجاج.
(نَاجٍ طواه الأين مِمَّا أوجفا ... )
(طي اللَّيَالِي زلفا فزلفا ... )
(سماوة الْهلَال حَتَّى احقوقفا ... )
وللمفسرين فِي صَلَاة الزلف قَولَانِ: أَحدهمَا الْعشَاء، وَالثَّانِي الْمغرب وَالْعشَاء، وَالْقَوْلَان عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: {إِن الْحَسَنَات} يَعْنِي الصَّلَوَات الْخمس {يذْهبن السَّيِّئَات} يَعْنِي صغائر الذُّنُوب، {ذَلِك} يَعْنِي إقَام الصَّلَاة. {ذكرى} أَي تَوْبَة لِلذَّاكِرِينَ.
قَوْله: فَقَالَ رجل من الْقَوْم: هَذَا لَهُ خَاصَّة؟ اخْتلفُوا فِي هَذَا الرجل السَّائِل على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه عمر بن الْخطاب.(1/296)
وَالثَّانِي: أَبُو الْيُسْر. وَالثَّالِث: معَاذ بن جبل، ذكر هَذِه الْأَقْوَال أَحْمد ابْن عَليّ بن ثَابت.
230 - / 267 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: " لَا يمنعن أحدكُم أَذَان بِلَال من سحوره، فَإِنَّهُ يُؤذن - أَو قَالَ: يُنَادي - بلَيْل، ليرْجع قائمكم، ويوقظ نائمكم ".
هَذَا الحَدِيث يدل على جَوَاز الْأَذَان للفجر قبل طلوعه، لِأَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام لم يُنكر على بِلَال فعل ذَلِك، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز.
وَقَوله: " ليرْجع قائمكم " أَي ليعلمه بِقرب الْفجْر فيجلس للاستغفار، " ويوقظ نائمكم " ليتأهب للصَّلَاة.
وَقَوله: " لَيْسَ الْفجْر أَن تَقول هَكَذَا " كَأَنَّهُ وصف الْفجْر الأول فِي قَوْله: " وَلَيْسَ الْفجْر " وَوصف الثَّانِي فِي الْوَصْف الآخر. وَالْفَجْر: انفجار الظلمَة عَن الضَّوْء. والمستطيل: هُوَ الْفجْر الأول يصعد طولا، ثمَّ تَأتي بعده الظلمَة، ثمَّ يظْهر الْفجْر الثَّانِي مُعْتَرضًا فِي ذيل السَّمَاء، فَهُوَ المستطير، والمستطير: الْمُنْتَشِر بِسُرْعَة، يُقَال: استطار الْفجْر: إِذا انْتَشَر وَاعْترض فِي الْأُفق، وَذَلِكَ الَّذِي يمْنَع السّحُور.(1/297)
231 - / 268 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ عبد الله: من اشْترى محفلة فَردهَا فليرد مَعهَا صَاعا.
المحفلة: الْمُصراة، وَهِي الشَّاة وَالْبَقَرَة أَو النَّاقة يتْرك حلبها أَيَّامًا حَتَّى يجْتَمع اللَّبن فِي ضرْعهَا، فيغتر المُشْتَرِي بِمَا يرَاهُ ويظنه فِي كل يَوْم، فَإِذا اشْتَرَاهَا وحلبها بَان لَهُ التَّدْلِيس، وَسميت محفلة لِأَن اللَّبن حفل فِي ضرْعهَا وَاجْتمعَ، وكل شَيْء كثرته فقد حفلته. واحتفل الْقَوْم: اجْتَمعُوا، ومحفلهم: مجمعهم.
وَذكر الصَّاع هَاهُنَا مُجمل. وَفِي رِوَايَة: " من تمر " وسنكشف هَذَا ونشبع الْكَلَام فِيهِ فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، لِأَنَّهُ هَاهُنَا من قَول ابْن مَسْعُود، وَهُوَ هُنَاكَ مَرْفُوع.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: نهى رَسُول الله عَن تلقي الْبيُوع. وَهُوَ تلقي الركْبَان، فيشتري مِنْهُم وَلَا يعْرفُونَ سعر الْبَلَد، فيبيعون مغترين، وسنشرح هَذَا فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
232 - / 269 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: " إِذا كُنْتُم ثَلَاثَة فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَان دون الآخر، فَإِن ذَلِك يحزنهُ ".
التناجي: كَلَام فِي سر يكون بَين اثْنَيْنِ وَأكْثر، وَهُوَ من النجوة: وَهِي الْمَكَان الْمُرْتَفع، كَأَن المتناجيين بانفرادهما عَن الْجَمَاعَة البَاقِينَ(1/298)
ارتفعا عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا يحزنهُ هَذَا لأحد ثَلَاثَة أَشْيَاء: إِمَّا لِأَنَّهُ يرى إكرام المناجى دونه، أَو يخَاف أَن يعاب بِبَعْض فعله، أَو يحذر دسيس غائلة فِي حَقه، وَقد كَانَ بعض عُلَمَاء السّلف يَقُول: هَذَا مَخْصُوص بِالسَّفرِ، والمواضع الَّتِي لَا يَأْمَن فِيهَا الْإِنْسَان على نَفسه، وَهَذَا التَّخْصِيص لَا وَجه لَهُ لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن الْكَلَام مُطلق. وَالثَّانِي: أَنه لَو كَانَ كَمَا قَالَ لقَالَ: فَإِن ذَلِك يخوفه. فَلَمَّا قَالَ: " يحزنهُ " كَانَ مَا ذكرنَا أليق.
وَقَوله: " وَلَا تباشر الْمَرْأَة الْمَرْأَة " كَأَن الْمُبَاشرَة هَاهُنَا مستعارة من التقاء البشرتين للنَّظَر إِلَى الْبشرَة، فتقديره: تنظر إِلَى بَشرَتهَا، وَإِنَّمَا نهى عَن وصفهَا للزَّوْج لِأَن المحاسن إِذا ذكرت أمالت الْقلب إِلَى الْمَوْصُوف، وَكم مِمَّن قد عشق بِالْوَصْفِ.
233 - / 270 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: " سباب الْمُسلم فسوق، وقتاله كفر " السباب: السب والشتم، والفسوق: الْخُرُوج عَن طَاعَة الله عز وَجل.
وَهَذَا مَحْمُول على من سبّ مُسلما أَو قَاتله من غير تَأْوِيل، فقد قَالَ عمر فِي حَاطِب: دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق، فَلم يُنكر عَلَيْهِ الرَّسُول لتأويله. وَإِذا قَاتل الْمُسلم الْمُسلم من غير تَأْوِيل كَانَ ظَاهر أمره أَنه رَآهُ كَافِرًا، أَو رأى دين الْإِسْلَام بَاطِلا، أَو لَا يرى أَن(1/299)
الْإِسْلَام قد عصم دَمه، فيكفر باعتقاد ذَلِك.
وَيحْتَمل هَذَا الحَدِيث وَمَا فِي مَعْنَاهُ مثل قَوْله: " فقد بَاء بهَا أَحدهمَا "، وَقَوله: " لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض " وَقَوله: " كفر بِاللَّه " انْتِفَاء من نسب، وَإِن دق أَن يكون إِنَّمَا نسب هَذِه الْأَشْيَاء إِلَى الْكفْر لِأَنَّهَا أَفعَال الْكفَّار، وَيكون ذكر ذَلِك على جِهَة التغليط، لَا أَن ذَلِك يخرج عَن الْملَّة.
234 - / 271 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: " لَا أحد أغير من الله وَلذَلِك حرم الْفَوَاحِش ".
قَالَ الْعلمَاء: كل من غَار من شَيْء اشتدت كراهيته لَهُ، فَلَمَّا حرم الله عز وَجل الْفَوَاحِش وتواعد عَلَيْهَا وَصفه رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام بالغيرة. وَأما الْفَوَاحِش فَجمع فَاحِشَة: وَهِي مَا تفاقم قبحه. فَأَما مَا ظهر مِنْهَا: فَمَا أعلن بِهِ، وَمَا بطن: مَا استتر بِهِ.
وَقَوله: " وَلَا أحد أحب إِلَيْهِ الْمَدْح من الله " قَالَ ابْن عقيل: قَالَ بعض الْعَامَّة: إِذا كَانَ الله عز وَجل يحب الْمَدْح فَكيف لَا نحبه نَحن؟ وَهَذَا غلط: لن حب الله للمدحة لَيْسَ من جنس مَا يعْمل من حبنا للمدح، وَإِنَّمَا الله سُبْحَانَهُ أحب الطَّاعَات، وَمن جُمْلَتهَا مدحه ليثيب على ذَلِك فينتفع الْمُكَلف، وَلَا ينْتَفع هُوَ بالمدح، وَنحن نحب الْمَدْح لننتفع بِهِ ويرتفع قَدرنَا فِي قَومنَا: قَالَ: " وَلَا أحد أحب إِلَيْهِ الْعذر من الله " تَفْسِيره على نَحْو حبه للمدح، لِأَنَّهُ يثب الْمُكَلف بِهِ إِذا اعتذر من الله وَقَامَ بِشَرْط الْعُبُودِيَّة فِي خضوعه.(1/300)
235 - / 272 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: قَالَ رجل لِابْنِ مَسْعُود: كَيفَ تقْرَأ: {من مَاء غير آسن} [مُحَمَّد: 15] .
الآسن: الْمُتَغَيّر الرّيح والطعم.
قَالَ الرجل: إِنِّي لأقرأ الْمفصل فِي رَكْعَة. اسْم هَذَا الرجل نهيك ابْن سِنَان. والمفصل: قصار السُّور. وَقد قَالُوا إِنَّه من أول الحجرات، غير أَن هَذَا لَا يَقع على مصحف ابْن مَسْعُود؛ فَإِنَّهُ قد ذكر " الدُّخان " فِي الْمفصل. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: سميت مفصلا لقصرها وَكَثْرَة الْفُصُول فِيهَا بسطر (بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم) .
وَقَوله: هَذَا كهذ الشّعْر؟ الهذ: سرعَة الْقطع. يُقَال: سكين هذوذ: قطاع، شبه سرعَة التِّلَاوَة بِسُرْعَة الْقطع.
وَقَوله: لَا يُجَاوز تراقيهم. الترقوة: الْعظم المشرف فِي أَعلَى الصَّدْر. وهما ترقوتان، وَالْجمع تراق. وَالْمرَاد: أَن تلاوتهم بِاللِّسَانِ دون اسْتِقْرَار الْإِيمَان والفهم فِي الْقلب.
وَقَوله: إِن أفضل الصَّلَاة الرُّكُوع وَالسُّجُود. هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ، فَرَأى بعض الْعلمَاء هَذَا، وَرَأى بَعضهم طول الْقيام أفضل من كَثْرَة الرُّكُوع، وَالسُّجُود، لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد سُئِلَ: أَي الصَّلَاة أفضل؟ فَقَالَ: " أطولها قنوتا ". وَقَالَ بعض الْعلمَاء: طول الْقيام بِاللَّيْلِ أفضل؛ لِأَن الْقلب يَخْلُو للتلاوة، وَكَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُود بِالنَّهَارِ أفضل، وَلم ينْقل عَن رَسُول الله فِي(1/301)
اللَّيْل إِلَّا طول الْقيام.
وَقَوله: إِنِّي لأعْلم النَّظَائِر الَّتِي كَانَ رَسُول الله يقرن بَينهُنَّ. النَّظَائِر: المتماثلة فِي الْعدَد، وَأَرَادَ هَاهُنَا المتقاربة، لِأَن (حم الدُّخان) سِتُّونَ إِلَّا آيَة، و (عَم يتساءلون) أَرْبَعُونَ. والسور الَّتِي لَهَا نَظَائِر فِي الْعدَد كَثِيرَة، إِلَّا أَن فِي الْمفصل " الحجرات " ثَمَانِي عشرَة آيَة، وَمثلهَا " التغابن " " الْحَدِيد " تسع وَعِشْرُونَ، وَمثلهَا " التكوير ". " المجادلة " اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ، وَمثلهَا " البروج ". " الْجُمُعَة " إِحْدَى عشرَة آيَة، وَمثلهَا " المُنَافِقُونَ "، " وَالضُّحَى ". " وَالْعَادِيات "، و " القارعة " و " الطَّلَاق " اثْنَتَا عشرَة آيَة، وَمثلهَا التَّحْرِيم. " الْملك " ثَلَاثُونَ آيَة، وَمثلهَا " الْفجْر ". " ن " خَمْسُونَ آيَة وآيتان، وَمثلهَا " الحاقة ". " نوح " عشرُون وثمان آيَات، وَمثلهَا " الْجِنّ ". " المزمل " عشرُون، وَمثلهَا " الْبَلَد ". " الْقِيَامَة " أَرْبَعُونَ، وَمثلهَا " التساؤل ". " الانفطار " تسع عشرَة، وَمثلهَا " الْأَعْلَى " و " العلق ". " الإنشراح " ثَمَانِي آيَات، وَمثلهَا " التِّين " و " لم يكن " و " الزلزلة " و " التكاثر ". " الْقدر " خمس آيَات، وَمثلهَا " الْفِيل " و " تبت " و " الفلق ". " الْعَصْر " ثَلَاث آيَات، وَمثلهَا " الْكَوْثَر " و " النَّصْر ". " قُرَيْش " أَربع آيَات، وَمثلهَا " الْإِخْلَاص ". " الْكَافِرُونَ " سِتّ آيَات، وَمثلهَا " النَّاس ".
236 - / 273 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: لَو أعلم أَن أحدا أعلم مني لرحلت إِلَيْهِ.(1/302)
قد ذكرنَا فِي مُسْند سعد أَن الْإِنْسَان إِذا اضْطر إِظْهَار فَضله جَازَ لَهُ ذَلِك، وَلَوْلَا أَن ابْن مَسْعُود ألجئ إِلَى هَذَا بتركهم قِرَاءَته لما قَالَ ذَلِك.
237 - / 274 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: " بئْسَمَا لأَحَدهم أَن يَقُول: نسيت آيَة كَيْت وَكَيْت، بل هُوَ نسي ".
قَوْله: " بئْسَمَا لأَحَدهم أَن يَقُول نسيت " فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا أَن يكون هَذَا خَاصّا فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَتكون الْإِشَارَة إِلَى مَا رفع لَفظه فينساه الْإِنْسَان، أَي يرفع من صَدره، فنهاهم عَن ذَلِك القَوْل لِئَلَّا يتوهمون فِي مُحكم الْقُرْآن أَنه قد ضَاعَ، وَأخْبرهمْ أَن مَا يكون من رَفعه لحكمة يعلمهَا الله تَعَالَى. وَالثَّانِي: أَن يكون عَاما، وَيكون الْمَعْنى: إِنَّمَا نسي لذنب ارْتَكَبهُ، وَرُبمَا كَانَ ذَلِك الذَّنب ترك تعهده لِلْقُرْآنِ.
وَقَوله: " كَيْت وَكَيْت " هِيَ كلمة يعبر بهَا عَن الْجمل الْكَثِيرَة والْحَدِيث الطَّوِيل، وَمثلهَا ذيت وذيت. وَقَالَ ثَعْلَب: كَانَ من الْأَمر كَيْت وَكَيْت، وَكَانَ من فلَان ذيت وذيت، فكيت كِنَايَة عَن الْأَفْعَال، وذيت إِخْبَار عَن الْأَسْمَاء وكناية عَنْهَا.
وَقَوله: استذكروا الْقُرْآن تحريض على تِلَاوَته لِئَلَّا ينسى.
والتفصي: الِانْفِصَال: يُقَال: تفصي فلَان من كَذَا: إِذا انْفَصل عَنهُ.
وَالنعَم: الْإِبِل. وَقَوله: " من عقله " هَكَذَا ضَبطه لنا أشياخنا فِي كتاب أبي عبيد بِضَم الْقَاف. وَالْعقل جمع عقال.(1/303)
238 - / 275 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْخمسين: ذكر عِنْد رَسُول الله رجل نَام لَيْلَة حَتَّى أصبح، فَقَالَ: " ذَلِك رجل بَال الشَّيْطَان فِي أُذُنَيْهِ - أَو قَالَ: فِي أُذُنه ".
فِي تَأْوِيل هَذَا الحَدِيث وَجْهَان:
أَحدهمَا: أَن يحمل على ظَاهره، وَقد جَاءَ فِي الْقُرْآن أَن الشَّيْطَان ينْكح، قَالَ تَعَالَى: {لم يطمثهن إنس قبلهم وَلَا جَان} [الرَّحْمَن: 56] وَقَالَ: {أفتتخذونه وَذريته} [الْكَهْف: 50] وَجَاء فِي الحَدِيث أَنه يَأْكُل وَيشْرب، فَلَا يمْتَنع أَن يكون لَهُ بَوْل وَإِن لم يكن على مَا يظْهر للحس.
وَالثَّانِي: أَنه مثل مَضْرُوب، شبه هَذَا الغافل عَن الصَّلَاة لتثاقله فِي نَومه بِمن وَقع الْبَوْل فِي أُذُنه فثقل سَمعه وَفَسَد حسه، وَالْعرب تضرب الْمثل بِمثل هَذَا، قَالَ الراجز:
(بَال سُهَيْل فِي الفضيخ ففسد ... )
(وطاب ألبان اللقَاح وَبرد ... )
وَأَرَادَ: طلع سُهَيْل، فَجعل طلوعه فِي إِفْسَاد الفضيخ بِمَنْزِلَة الْبَوْل فِيهِ.
239 - / 276 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين -: " أَنا فَرَطكُمْ على الْحَوْض ".
الفرط والفارط: الْمُتَقَدّم فِي طلب المَاء، يُقَال: فرطت الْقَوْم(1/304)
أفرطهم: إِذا تقدمتهم لترتاد المَاء. قَالَ الشَّاعِر:
(فأثار فارطهم غطاطا جثما ... أصواته كتراطن الْفرس)
وَالْمعْنَى إِنَّه لم يجد فِي الرَّكية مَاء. وَقَالَ الْقطَامِي:
(فاستعجلونا وَكَانُوا من صحابتنا ... كَمَا تعجل فراط لوراد)
وَقَوله: " اختلجوا دوني " أَي اجتذبوا واقتطعوا، يُقَال: خلجت الشَّيْء: إِذا نَزَعته. وَالظَّاهِر أَنه حدث بهؤلاء النِّفَاق فِي زَمَانه وَالْكفْر بعده. وَقَالَ أَبُو بكر بن مقسم. هَؤُلَاءِ - وَالله أعلم - الَّذِي وفدوا عَلَيْهِ من بني حنيفَة، ورآهم وعرفهم، ثمَّ ارْتَدُّوا مَعَ مُسَيْلمَة وماتوا كفَّارًا، فَأَما أَصْحَاب رَسُول الله فَإِنَّهُ لم يمت أحد مِنْهُم كَافِرًا.
فَإِن قيل: السِّرّ فِي وجود الْحَوْض؟
فَالْجَوَاب: شدَّة الْعَطش والعرق يَوْمئِذٍ، لِأَن الشَّمْس تدنى من رُؤُوس الْخَلَائق، فيشتد الْعَطش والعرق، فَجعل لَهُ الْحَوْض على عَادَة الْعَرَب فِي جعل الأحواض للواردين عَلَيْهَا كالضيافة.
240 - / 277 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: أنؤاخذ بِمَا عَملنَا فِي الْجَاهِلِيَّة؟ فَقَالَ: " من أحسن فِي الْإِسْلَام لم يُؤَاخذ بِمَا عمل فِي الْجَاهِلِيَّة، وَمن أَسَاءَ فِي الْإِسْلَام أَخذ بِالْأولِ وَالْآخر ".(1/305)
هَذَا الحَدِيث مَحْمُول على أحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن تحمل هَذِه الْأَشْيَاء على الشّرك فَإِنَّهُ إِذا أشرك بعد إِسْلَامه عَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل الْإِسْلَام، فانخرط الحكم فِي سلك وَاحِد. وَالثَّانِي: أَنه إِذا جنى فِي الْإِسْلَام كَمَا كَانَ يجني فِي الْكفْر وبخ فِي الْإِسْلَام وعير بذلك، وَقيل لَهُ: هَذَا الَّذِي كنت تَفْعَلهُ فِي كفرك، فَهَلا مَنعك مِنْهُ الْإِسْلَام؟ فَيكون معنى الْمُؤَاخَذَة بِمَا سبق بالتعيير.
241 - / 278 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: كَانَ رَسُول الله يَتَخَوَّلنَا بِالْمَوْعِظَةِ.
قَالَ أَبُو عبيد: يَتَخَوَّلنَا: يتعهدنا، والخائل: المتعهد للشَّيْء والمصلح لَهُ والقائم بِهِ، والتخون مثل التخول. وَكَانَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء يَقُول: إِنَّمَا هُوَ يتحولهم بِالْحَاء: أَي ينظر حالاتهم الَّتِي ينشطون فِيهَا للموعظة وَالذكر فيعظم فِيهَا، وَلَا يكثر عَلَيْهِم فيملوا.
242 - / 279 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: أَنه لما كَانَ يَوْم حنين آثر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاسا فِي الْقِسْمَة، فَقَالَ رجل: وَالله إِن هَذِه لقسمة مَا عدل فِيهَا.
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد آثر جمَاعَة من الْمُؤَلّفَة يَوْم حنين، وَمَا عرفنَا أَن أحدا قَالَ عَن رَسُول الله إِنَّه مَا عدل سوى ذِي الْخوَيْصِرَة التَّمِيمِي.(1/306)
وَقَوله: فَتغير وَجهه حَتَّى كَانَ كالصرف. الصّرْف: صبغ يصْبغ بِهِ الْأَدِيم.
فَأَما قَوْله لَا جرم، فَقَالَ الْفراء: هِيَ كلمة كَانَت فِي الأَصْل بِمَنْزِلَة لابد، وَلَا محَالة، فَكثر استعمالهم لَهَا حَتَّى صَارَت بِمَنْزِلَة حَقًا، وَأَصله من: جرمت: أَي كسبت. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَمن الْعَرَب من يُغير لفظ جرم مَعَ لَا خَاصَّة، فَيَقُول بَعضهم: لَا جرم، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الرَّاء، وَيَقُول آخَرُونَ: لَا جر بِحَذْف الْمِيم، وَيُقَال: لاذا جرم ولاذا جر بِغَيْر مِيم، وَلَا أَن ذَا جرم، وَلَا عَن ذَا جرم، وَمعنى اللُّغَات كلهَا: حَقًا.
243 - / 283 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: " الْمَرْء مَعَ من أحب ".
هَذَا الحَدِيث قد رَوَاهُ أَبُو وَائِل عَن ابْن مَسْعُود وَعَن أبي مُوسَى، وَيَقُول فِي الرِّوَايَتَيْنِ: حَدثنَا عبد الله، وَلَا يدْرِي من مِنْهُمَا. وَقد رُوِيَ مشروحا من حَدِيث صَفْوَان بن عَسَّال قَالَ: بَيْنَمَا نَحن فِي مسير، إِذْ نَادَى أَعْرَابِي رَسُول الله بِصَوْت لَهُ جَهورِي: يَا مُحَمَّد، فَأَجَابَهُ نَحْو ذَلِك: " هاؤم " قُلْنَا: وَيحك، أَو وَيلك، اغضض من صَوْتك؛ فَإنَّك قد نهيت عَن ذَلِك، فَقَالَ: وَالله لَا أغضض من صوتي، قَالَ: أَرَأَيْت رجلا أحب قوما وَلما يلْحق بهم. قَالَ: " الْمَرْء(1/307)
مَعَ من أحب ".
قَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون رفع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَوته فِي جَوَاب الْأَعرَابِي، وَقَوله: " هاؤم " يمد بهَا صَوته من نَاحيَة الشَّفَقَة عَلَيْهِ لِئَلَّا يحبط عمله، لما جَاءَ من الْوَعيد فِي قَوْله: {لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} [الحجرات: 2] فعذره رَسُول الله لجهله، وَرفع صَوته حَتَّى كَانَ فَوق صَوته أَو مثله لشفقته على أمته.
وَفِي هَذَا دلَالَة على احْتِمَال دَالَّة التلامذة، وَالصَّبْر على أذاهم، لما يُرْجَى من عاقبه النَّفْع لَهُم.
فَإِن قَالَ قَائِل: فالرافضة يحبونَ عليا عَلَيْهِ السَّلَام، فَهَل هم مَعَه؟
فَالْجَوَاب: لَا، لِأَن محبَّة الصَّحَابَة شَرْعِيَّة، فَيَنْبَغِي أَن تكون على وَجه يَأْذَن الشَّرْع فِيهِ، وَمن ضروراتها اتِّبَاع المحبوب، وَعلي عَلَيْهِ السَّلَام لَا يرضى بِالْبَرَاءَةِ من أبي بكر وَعمر عَلَيْهِمَا السَّلَام.
وَالْمعْنَى: هاؤم، خُذُوا جوابي.
244 - / 285 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: " لكل غادر لِوَاء يَوْم الْقِيَامَة ".
الْغدر: نقض الْعَهْد. وَالْمرَاد من الحَدِيث: أَنه يشهر أَمر الغادر لِلْخلقِ، وينادى عَلَيْهِ بغدره، فينصب لَهُ لِوَاء للتعريف.
245 - / 287 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: " إِن الصدْق يهدي إِلَى الْبر ".(1/308)
الْبر: الطَّاعَة، والفجور: الْمعْصِيَة.
وَالصديق: الْكثير الصدْق، وَهُوَ " فعيل " من أبنية الْمُبَالغَة، كَمَا يُقَال سكيت وسكير وشريب وخمير وضليل وظليم وفسيق وعشيق: إِذا كثر ذَلِك مِنْهُ، وَفِي هَذَا الحَدِيث: " أَلا أنبئكم مَا العضه " والعضه: النميمة.
246 - / 288 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: " من حلف على مَال امْرِئ مُسلم بِغَيْر حَقه لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان " فَقَالَ الْأَشْعَث بَين قيس: كَانَ بيني وَبَين رجل خُصُومَة، فَقَالَ رَسُول الله: " من حلف على يَمِين صَبر يقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم، هُوَ فِيهَا فَاجر، لَقِي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ".
هَذَا الحَدِيث ذكره الْأَشْعَث تَصْدِيقًا لحَدِيث ابْن مَسْعُود، وَلَيْسَ للأشعث فِي الصَّحِيحَيْنِ سواهُ.
وَاسم الرجل الَّذِي خَاصم الْأَشْعَث الجفشيش، يُقَال بِالْجِيم وَبِالْحَاءِ وبالخاء.
وَقَوله: " على يَمِين صَبر " فِي مَعْنَاهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن يصبر نَفسه: أَي يحبسها على الْيَمين الكاذبة غير مبال بهَا. وَالثَّانِي: أَن يكون معنى الصَّبْر الجرأة، من قَوْله تَعَالَى: {فَمَا أصبرهم على النَّار} [الْبَقَرَة: 175] أَي يجترئ بِتِلْكَ الْيَمين على هتك دينه.(1/309)
247 - / 289 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
سَمِعت رجلا يقْرَأ آيَة سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ خلَافهَا، فَأخذت بِيَدِهِ فَانْطَلَقت بِهِ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: " كلاكما محسن، لَا تختلفوا، فَإِن من كَانَ قبلكُمْ اخْتلفُوا فهلكوا ".
قد ذكرنَا فِي مُسْند عمر نَحْو هَذَا الحَدِيث وبيناه، وَوجه الْهَلَاك فِي الِاخْتِلَاف. أَن هَذَا يكفر بِمَا يقْرَأ هَذَا وَيَزْعُم أَنه لَيْسَ من كَلَام الله. فَأَما الِاخْتِلَاف فِي حركات الْحُرُوف المنقولة عَن الْقُرَّاء فَإِنَّهُ لَا يضرّهُ.
248 - / 291 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ عبد الله: وَأحسن الْهَدْي هدي مُحَمَّد.
الْهَدْي: الطَّرِيقَة.
والمحدث والمبتدع فِي الشَّرْع إِنَّمَا يَقع ذمهما إِذا صادما مَشْرُوعا يردهُ.
وَقَوله: " وَمَا أَنْتُم بمعجزين ": أَي إِنَّكُم لَا تفوقونا إِذا أردنَا تعذيبكم.
249 - / 292 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: عَن عبد الله: {لقد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى} [النَّجْم: 18] قَالَ: رأى رفرفا أَخْضَر سد أفق السَّمَاء.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الرفرف: بِسَاط، وَيُقَال: فرَاش، وَبَعْضهمْ يَجعله جمعا، واحدته رفرفة، ويحتج بقوله: تَعَالَى: {متكئين على رَفْرَف خضر} [الرَّحْمَن: 76] . وَيُقَال: الرفرف: ضرب من الثِّيَاب، قَالَ ابْن(1/310)
مَسْعُود: رأى رَسُول الله جِبْرِيل فِي حلتي رَفْرَف.
250 - / 294 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " حَيّ على الطّهُور " أَي أَقبلُوا إِلَيْهِ.
251 - / 296 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغَائِط.
الْغَائِط فِي اللُّغَة: الْمَكَان المطمئن من الأَرْض، فكنى عَن الْحَدث بمكانه، كَمَا سموا الْحَدث عذرة، وَإِنَّمَا الْعذرَة فنَاء الْبَيْت، فسموا مَا كَانُوا يلقونه بأفنية الْبيُوت باسم الْمَكَان، وَقَالُوا للمزادة راوية، وَإِنَّمَا الراوية الْبَعِير الَّذِي يَسْتَقِي عَلَيْهِ. وَقَالُوا للنِّسَاء ظعائن، وَإِنَّمَا الظعائن الهوادج وَكن يكن فِيهَا.
وَقَوله فِي الروثة: " هَذِه ركس ": مَا كَانَ منقلبا على الْجِهَة المحمودة. والارتكاس: الانقلاب عَن الصَّوَاب، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَالله أركسهم بِمَا كسبوا} [النِّسَاء: 88] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال: ركست الشَّيْء وأركسته، لُغَتَانِ، وَالْمعْنَى نكسهم وردهم فِي كفرهم، وَكَأن الْمَعْنى: هَذِه رَاجِعَة عَن الْحَالة الأولى.
252 - / 297 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قَالَ ابْن مَسْعُود فِي " بني إِسْرَائِيل " و " الْكَهْف " و " مَرْيَم " و " طه "، و " الْأَنْبِيَاء ": إنَّهُنَّ من الْعتاق الأول، وَهن من تلادي.(1/311)
قَوْله من الْعتاق: يَعْنِي أَن نزولهن مُتَقَدم.
وَهن من تلادي: أَي مِمَّا حفظته قَدِيما. والتليد والتالد ضد الطريف، فالتليد: الْقَدِيم، والطريف: المستحدث.
253 - / 300 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: قَالَ أَبُو جهل: هَل أعمد من رجل قَتَلْتُمُوهُ.
قَالَ أَبُو عبيد: الْمَعْنى: هَل زَاد على سيد قَتله قومه، هَل كَانَ إِلَّا هَذَا؟ وَأَرَادَ أَن هَذَا لَيْسَ بِعَارٍ. فَكَأَنَّهُ يهون على نَفسه مَا جرى عَلَيْهِ. قَالَ الْخطابِيّ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد: هَل أبعد، وَهُوَ غلط، وَالصَّوَاب أعمد.
254 - / 301 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " الْجنَّة أقرب إِلَى أحدكُم من شِرَاك نَعله، وَالنَّار مثل ذَلِك ".
يَعْنِي أَن نيل الْجنَّة سهل، وَذَلِكَ بتصحيح العقد، وَتمكن الطَّاعَة، وَالنَّار قريبَة بموافقة الْهوى وعصيان الْخَالِق.
255 - / 302 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: " لَا يَقُولَن أحدكُم إِنِّي خير من يُونُس بن مَتى ".
يُونُس: اسْم أعجمي، وَفِيه سِتّ لُغَات: يُونُس من غير همز مَعَ(1/312)
كسر النُّون وَفتحهَا وَضمّهَا، ومهموز مَعَ الْكسر وَالْفَتْح وَالضَّم.
وَقَوله: " لَا يَقُولَن أحدكُم إِنِّي خير " يَعْنِي نَفسه، وَتَقْدِيره: لَا تَقولُوا عني إِنِّي خير من يُونُس.
وَقَوله: " مَا يَنْبَغِي لأحد أَن يكون خيرا " أَي مَا يَنْبَغِي لي أَن أَقُول إِنِّي خير، والخيرية هَاهُنَا الْقُوَّة فِي الصَّبْر على تَبْلِيغ الرسَالَة كَقَوْلِه: {أهم خير أم قوم تبع} [الدُّخان: 37] أَي: أقوى، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لي أَن أَقُول إِنِّي أقوى من يُونُس فِي التَّبْلِيغ، فَرُبمَا يكون قد عانى من الشدائد مَا لم أَعَانَهُ، وفضيلتي الَّتِي نلتها كَرَامَة من الله لَا من قبل نَفسِي، وَلَا بلغتهَا بقوتي، فَلَيْسَ لي أَن أفتخر بهَا، وَإِنَّمَا يجب عَليّ أَن أشكر رَبِّي عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا خص يُونُس لما ذكر عَنهُ من قلَّة الصَّبْر. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِنَّمَا قَالَ هَذَا تواضعا، كَقَوْل أبي بكر: وليتكُمْ وَلست بِخَيْرِكُمْ. قَالَ: وَالْمعْنَى لَعَلَّ يُونُس كَانَ أَكثر عملا فِي الْبلوى وَالصَّبْر مني. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: يجوز أَن يُرِيد بِهِ من سواهُ من النَّاس دون نَفسه. قلت: وَهَذَا غلط، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يُرَاد بِهِ إِلَّا الْأَنْبِيَاء، لِأَنَّهُ لَيْسَ لغير الْأَنْبِيَاء أَن يَظُنُّوا قربهم من دَرَجَات الْأَنْبِيَاء، وعَلى هَذَا يحمل لفظ حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " قَالَ - يَعْنِي الله عز وَجل: لَا يَنْبَغِي لعبد لي أَن يَقُول: أَنا خير من يُونُس بن مَتى ".
256 - / 303 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: أَنه قَرَأَ (هئت لَك)(1/313)
[يُوسُف: 27] بِكَسْر الْهَاء، وَقَرَأَ (بل عجبت) بِفَتْح التَّاء [الصافات: 12] .
أما هيت فَفِيهَا قراءات (هئت) بِكَسْر الْهَاء وَفتح التَّاء كَمَا ذكرنَا عَن ابْن مَسْعُود، وَهِي قِرَاءَة نَافِع، وَابْن عَامر و (هيت) بِفَتْح الْهَاء وتسكين الْيَاء وَضم التَّاء وَهِي قِرَاءَة ابْن كثير. (وهئت) بِكَسْر الْهَاء وَضم التَّاء من الْهَيْئَة، كَأَنَّهَا قَالَت: تهيأت لَك. و (هيت) بِفَتْح الْهَاء وَكسر التَّاء قَرَأَهَا ابْن مُحَيْصِن. و (هئت) بِكَسْر الْهَاء وَالتَّاء مَعَ الْهمزَة قَرَأَهَا أَبُو الْعَالِيَة، و (هيئت) قِرَاءَة أبي السميفع. و (هَا أَنا لَك) قَرَأَهَا أبي بن كَعْب، و (هيت) بِفَتْح الْهَاء وَالتَّاء من غير همز وَهِي قِرَاءَة الْجُمْهُور، وَهِي أَجود اللُّغَات، وَمَعْنَاهَا: هَلُمَّ لَك، أَي أقبل على مَا أَدْعُوك إِلَيْهِ. قَالَ الشَّاعِر:
(أبلغ أَمِير الْمُؤمنِينَ ... أَخا الْعرَاق إِذا أتيتا)
(إِن الْعرَاق وَأَهله ... عنق إِلَيْك فهيت هيتا)
أَي أقبل وتعال.
فَأَما قَوْله: (بل عجبت) فَقَرَأَ الْأَكْثَرُونَ كَمَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود - بِفَتْح التَّاء، وَالْمعْنَى: بل عجبت يَا مُحَمَّد مِنْهُم إِذْ كفرُوا ويسخرون هم مِنْك.(1/314)
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ بِضَم التَّاء. وأنكرها شُرَيْح القَاضِي وَقَالَ: إِن الله لَا يعجب، إِنَّمَا يعجب من لَا يعلم. قَالَ الزّجاج: إنكارها خطأ، لِأَن الْعجب من الله تَعَالَى خلاف الْعجب من الْآدَمِيّين، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {ويمكر الله} [الْأَنْفَال: 30] {سخر الله مِنْهُم} [التَّوْبَة: 79] . وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهَا: جازيتهم على عجبهم من الْحق، فَسمى الْجَزَاء على الشَّيْء باسم الشَّيْء، وَالْعرب تسمى الْفِعْل باسم الْفِعْل إِذا داناه من بعض وجوهه. قَالَ عدي:
(ثمَّ أضحوا لعب الدَّهْر بهم ... 000000000)
فَجعل إهلاك الدَّهْر لَهُم لعبا.
257 - / 304 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: لقد أَتَانِي الْيَوْم رجل فَقَالَ: أَرَأَيْت رجلا مُؤديا.
يُقَال فِي الرجل إِذا كَانَ كَامِل الأداة: هَذَا مؤد بِالْهَمْز، وَلَا بُد من الْهَمْز، إِذْ لولاه لَكَانَ من أودى: إِذا هلك.
وَقَوله: لَا نحصيها: أَي لَا نطيقها، من قَوْله تَعَالَى: {علم أَن لن تحصوه} [المزمل: 20] أَي لن تُطِيقُوا قيام اللَّيْل.
وغبر يصلح للماضي وَالْبَاقِي، وَهُوَ بالماضي هَاهُنَا أشبه،(1/315)
لقَوْله: مَا أذكر.
والثغب: المَاء المستنقع فِي الْموضع المطمئن، وَالْجمع ثغاب.
258 - / 306 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: خطّ رَسُول الله خطا مربعًا، وَخط خطا فِي الْوسط خَارِجا مِنْهُ، وَخط خططا صغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوسط من جَانِبه الَّذِي فِي الْوسط، فَقَالَ: " هَذَا الْإِنْسَان، وَهَذَا أَجله محيطا بِهِ - أَو قد أحَاط بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارج أمله، وَهَذِه الخطط الصغار الْأَعْرَاض، فَإِن أخطأه هَذَا نهشه هَذَا، وَإِن أخطأه هَذَا نهشه هَذَا "
هَذَا تَمْثِيل مَا فِي الحَدِيث على هَذِه الْهَيْئَة:
والأمثال حِكْمَة الْعَرَب، بهَا ينْكَشف الشَّيْء الْخَفي، فَأخْبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أمل الْآدَمِيّ بَين يَدَيْهِ، وعينه إِلَى الأمل، وَالْأَجَل مُحِيط بِهِ، وَقد ألهاه أمله عَن أَجله.
259 - / 307 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: أَن أَبَا مُوسَى قَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء مَا دَامَ هَذَا الحبر فِيكُم، يَعْنِي ابْن مَسْعُود.
الحبر وَاحِد الْأَحْبَار، وهم الْعلمَاء، وَفِيه لُغَتَانِ: حبر وَحبر،(1/316)
وَقَالَ الْفراء: أَكثر مَا سَمِعت الْعَرَب تَقوله بِالْكَسْرِ.
وَفِي اشتقاق هَذَا الِاسْم ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه من الحبار وَهُوَ الْأَثر الْحسن، قَالَه الْخَلِيل. وَالثَّانِي: من الحبر الَّذِي يكْتب بِهِ، قَالَه الْكسَائي. وَالثَّالِث: من الحبر الَّذِي هُوَ الْجمال والبهاء، كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: " يخرج من النَّار رجل قد ذهب حبره وسبره ". أَي جماله وبهاؤه، فالعالم بهي: بِجَمَال الْعلم، وَهَذَا قَول قطرب.
260 - / 308 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: إِن أهل الْإِسْلَام لَا يسيبون.
هَذَا مَا ذكره البُخَارِيّ من هَذَا الحَدِيث، والْحَدِيث: أَن رجلا جَاءَ إِلَى ابْن مَسْعُود فَقَالَ: إِنِّي أعتقت عبدا لي وَجَعَلته سائبه، فَمَاتَ وَترك مَالا وَلم يتْرك وَارِثا. قَالَ عبد الله: إِن أهل الْإِسْلَام لَا يسيبون، وَأَنت ولي نعْمَته فلك مِيرَاثه، فَإِن تَأَثَّمت وتحرجت فَنحْن نقبله ونجعله فِي بَيت المَال.
اعْلَم أَن الْعَرَب كَانَت تنذر فِي مرض أَو سفر: إِن شفيت، إِن قدمت فناقتي سائبة، فتسيب وَلَا تمنع من مرعى وَلَا تطرد عَن مَاء وَلَا ينْتَفع بهَا، وَكَذَلِكَ عتق العَبْد سائبة: أَي لَا ملك لي عَلَيْهِ وَلَا وَلَاء. وَأَصله من يسييب الدَّوَابّ: وَهُوَ إرسالها. وَكَانَ أول من سنّ لَهُم(1/317)
هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة ابْن لحي، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام فَأبْطل ذَلِك. فَبَان من هَذَا أَن السائبة العَبْد يعْتق وَلَا يكون وَلَاؤُه لمعتقه، وَيَضَع العَبْد مَاله حَيْثُ شَاءَ. وَمِمَّنْ أعتق سائبة أَبُو الْعَالِيَة الريَاحي، وَأوصى بِمَالِه كُله، فَقيل لَهُ: فَأَيْنَ مواليك؟ فَقَالَ: كنت مَمْلُوكا لأعرابية، فَدخلت الْمَسْجِد مَعهَا، فَوَافَقنَا الإِمَام على الْمِنْبَر فقبضت على يَدي فَقَالَت: اللَّهُمَّ اذخره عنْدك ذخيرة، اشْهَدُوا يَا أهل الْمَسْجِد أَنه سائبة لله، ثمَّ ذهبت فَمَا تراءينا بعد. وَولي النِّعْمَة الْمُعْتق.
وَقَوله: فَإِن تَأَثَّمت أَو تحرجت: أَي خفت الْإِثْم والحرج.
وَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن مَسْعُود من إبِْطَال حكم السائبة الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أهل الْجَاهِلِيَّة وَأَن الْوَلَاء لمن أعتق وَأَن الْمُعْتق سائبة يَرث مُعْتقه مَذْهَب الْأَكْثَرين، مِنْهُم، أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَيتَخَرَّج فِي مَذْهَبنَا رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَنه يَرِثهُ كَقَوْل الْجَمَاعَة، وَالثَّانيَِة: يصرف وَلَاؤُه فِي رِقَاب يشْتَرونَ فيعتقون.
261 - / 309 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: اخْتلفُوا فِي شَأْن سبيعة بنت الْحَارِث.
كَانَت سبيعة قد مَاتَ زَوجهَا وَهِي حَامِل، فَلَمَّا وضعت أَرَادَت أَن تتَزَوَّج، فَقَالَ لَهَا بعض الصَّحَابَة: امكثي أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، أخذا بقوله تَعَالَى: {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} [الْبَقَرَة: 234] فَأَتَت رَسُول الله، فَأجَاز لَهَا النِّكَاح لقَوْله تَعَالَى: {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} [الطَّلَاق: 4] فَهَذِهِ الْآيَة(1/318)
خصت الْحَامِل من بَقِيَّة الْمُتَوفَّى عَنْهُن أَزوَاجهنَّ.
262 - / 310 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" آخر من يدْخل الْجنَّة رجل، فَهُوَ يمشي مرّة ويكبو مرّة ".
يكبو بِمَعْنى يعثر.
وتسفعه: تصيبه بلفحها حَتَّى تبقي فِيهِ أثرا.
وتبارك: تَعَالَى وارتفع.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ هَذَا الرجل: لقد أَعْطَانِي الله شَيْئا مَا أعطَاهُ الْأَوَّلين والآخرين وَقد رأى نَفسه فِي النَّار، وَقد علم أَن خلقا لم يدخلُوا إِلَيْهَا، وَأَن خلقا فِي الْجنَّة وَهُوَ إِنَّمَا نجا من النَّار فَقَط؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن هَذَا الرجل تفكر فِي ذنُوبه فَرَأى أَنه يسْتَحق الخلود وَطول الْمكْث، فَشكر مُجَرّد الْكَرم لَا فِي مُقَابلَة عمل، وَرَأى أَن كل من جوزي فعلى قدر عمله. وَالثَّانِي: أَن يكون قَوْله عَائِدًا إِلَى من فِي النَّار من الْمُعَذَّبين.
وَقَوله: " مَا يصيرني مِنْك؟ " أصل التصرية الْقطع، وَمِنْه سميت الْمُصراة، لِأَنَّهُ قد قطع حلب لَبنهَا وَجمع، وكل شَيْء قطعته ومنعته فقد صريته، وأنشدوا:
(00000 ... هواهن إِن لم يصره الله قَاتله)(1/319)
وَالْمعْنَى: مَا الَّذِي يقطع مسألتك ويرضيك.
وَقَوله: " اتستهزئ مني؟ " الهزء: السخرية، فَأَما الضحك الْمُضَاف إِلَى الله سُبْحَانَهُ فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الضحك الَّذِي يعتري الْبشر غير جَائِز على الله سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا هَذَا مثل مَضْرُوب مَعْنَاهُ الْإِخْبَار عَن الرِّضَا وَحسن المجازاة.
263 - / 311 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " مَا من نَبِي بَعثه الله عز وَجل إِلَّا كَانَ لَهُ من أمته حواريون ".
الحواريون: الْخَواص الأصفياء، فكأنهم خلصوا ونقوا من كل عيب، وَسمي الدَّقِيق الحوارى لتخليصه من لباب الْبر، وَيُقَال: عين حوراء: إِذا اشْتَدَّ بياضها وخلص وَاشْتَدَّ سوادها وَقيل: الحواريون: هم الناصرون. وَقَالَ أَبُو عبيد: أصل هَذَا من الحواريين أَصْحَاب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، فَقيل لكل نَاصِر حوارِي تَشْبِيها بذلك.
والخلوف: الخالفون بعد السالفين.
والمجاهدة بِالْقَلْبِ: إِنْكَار الْمعْصِيَة وبغضها والنفور من فاعلها، وَمَتى لم يكن الْقلب على هَذِه الصّفة فالإيمان بعيد مِنْهُ.(1/320)
264 - / 312 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " هلك المتنطعون ".
التنطع: التعمق والغلو الوتكلف لما لم يُؤمر بِهِ.
265 - / 313 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " لَا يدْخل الْجنَّة من كَانَ فِي قلبه مِثْقَال ذرة من كبر ".
المثقال " مفعال " من الثّقل، ومثقال الشَّيْء: زنة الشَّيْء، يُقَال: هَذَا على مِثْقَال هَذَا: أَي على وَزنه، وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ: فَقَالَ: يظنّ النَّاس أَن المثقال وزن دِينَار لَا غير، وَلَيْسَ كَمَا يظنون، مِثْقَال كل شَيْء وَزنه، وَإِن كَانَ وزن ألف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: سَأَلت الْأَصْمَعِي عَن صنجة الْمِيزَان فَقَالَ: فَارسي مُعرب، وَلَا أَدْرِي كَيفَ أَقُول، ولكنني أَقُول: مِثْقَال.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي المُرَاد بالذرة على خَمْسَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنَّهَا رَأس نملة حَمْرَاء، رَوَاهُ عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: ذرة يسيرَة من التُّرَاب، رَوَاهُ يزِيد بن الْأَصَم عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّالِث: أَصْغَر النَّمْل، قَالَه ابْن قُتَيْبَة.
وَالرَّابِع: الخردلة.(1/321)
وَالْخَامِس: الْوَاحِدَة من الهباء الظَّاهِر فِي ضوء الشَّمْس إِذا طلعت من ثقب، ذكرهمَا أَبُو إِسْحَق الثَّعْلَبِيّ.
فَأَما الْكبر فَهُوَ العظمة، يُقَال: تكبر فلَان عَن كَذَا: إِذا تعظم عَنهُ، قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: من رأى أَنه خير من غَيره فقد استكبر.
فَإِن قيل: فالكبر لَا يُوجب الْكفْر، فَكيف يمْنَع دُخُول الْجنَّة؟
فَالْجَوَاب من سِتَّة أوجه:
أَحدهمَا: أَن يُرَاد بِالْجنَّةِ بعض الْجنان، لِأَنَّهَا جنان فِي جنَّة، فَيكون الْمَعْنى: لَا يدْخل الْجنَّة الَّتِي هِيَ أشرف الْجنان وأنبلها، وَيشْهد لهَذَا مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن عَمْرو أَنه قَالَ: لَا يدْخل حَظِيرَة الْقُدس سكير وَلَا عَاق وَلَا منان.
وَالثَّانِي: أَن تكون مَشِيئَة الله تَعَالَى مضمرة فِي هَذَا الْوَعيد، فَيكون الْمَعْنى: إِلَّا أَن يَشَاء الله، ذكر الْقَوْلَيْنِ ابْن خُزَيْمَة.
وَالثَّالِث: أَن يكون المُرَاد كبر الْكفْر، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُم كَانُوا إِذا قيل لَهُم لَا إِلَه إِلَّا الله يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] أَي يتعظمون عَن قَوْلهَا، فعلى هَذَا كبر الْكَافِر مَنعه من الْإِيمَان، فَلَا يدْخل الْجنَّة، يدل على صِحَة هَذَا الْوَجْه أَنه قَابل الْكبر بِالْإِيمَان، فَقَالَ: " وَلَا يدْخل النَّار أحد فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان ".
وَالرَّابِع: أَن يكون الْمَعْنى: حكم هَذَا أَلا يدْخل الْجنَّة، وَحكم هَذَا أَلا يدْخل النَّار، كَقَوْلِه تَعَالَى فِي قَاتل الْمُؤمن {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا} [النِّسَاء: 93] أَي: إِن جازاه فَهَذَا قدر اسْتِحْقَاقه. وَمثل هَذَا فِي الْكَلَام أَن(1/322)
ترى دَارا صَغِيرَة فَتَقول: هَذِه الدَّار لَا ينزلها أَمِير، أَي حكمهَا هَذَا وَقد ينزلها.
وَالْخَامِس: أَن النَّاس إِذا وقفُوا فِي الْعرض ميز من يدْخل الْجنَّة مِمَّن يدْخل النَّار، فالعصاة يدْخلُونَ النَّار لَا الْجنَّة، فَأَما خُرُوجهمْ بعد احتراقهم فَذَاك حكم آخر، فَكَأَن المُرَاد: لَا يدْخل الْجنَّة ابْتِدَاء وَإِنَّمَا يدْخل النَّار، وعَلى هَذَا تَفْسِير قَوْله: " لَا يدْخل الْجنَّة قَتَّات "، وَيبقى على هَذَا الْوَجْه قَوْله: " وَلَا يدْخل النَّار من فِي قلبه مِثْقَال ذرة من إِيمَان " فَيكون الْمَعْنى: لَا يدخلهَا دُخُول تخليد.
وَالسَّادِس: أَنه إِذا أذن لأهل الْجنَّة فِي الدُّخُول نزع كبر المتكبر وغل الحقود، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل} [الْأَعْرَاف: 43] وَهَذَا اخْتِيَار أبي بكر الْأَثْرَم، قَالَ ابْن عَبَّاس: أول مَا يدْخل أهل الْجنَّة الْجنَّة تعرض لَهُم عينان، فيشربون من إِحْدَى الْعَينَيْنِ فَيذْهب الله مَا فِي قُلُوبهم من غل وَغَيره مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا، ثمَّ يدْخلُونَ إِلَى الْعين الْأُخْرَى فيغتسلون فِيهَا فتشرق ألوانهم، وتصفو وُجُوههم، وتجري عَلَيْهِم نَضرة النَّعيم.
وَقَوله: " الْكبر بطر الْحق " التكبر عَن الْإِقْرَار بِهِ، والطغيان فِي دَفعه.
قَالَ أَبُو عبيد: وغمط النَّاس: الاحتقار لَهُم والإزراء بهم، وَمثله غمص النَّاس بالصَّاد.(1/323)
266 - / 314 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: جَاءَ رجل من الْأَنْصَار فَقَالَ: لَو أَن رجلا وجد مَعَ امْرَأَته رجلا فَتكلم جلدتموه، أَو قتل قَتَلْتُمُوهُ، أَو سكت سكت على غيظ، وَالله لأسألن عَنهُ رَسُول الله، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ افْتَحْ " فَنزلت آيَة اللّعان.
وَهَذَا الحَدِيث سَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث سهل بن سعد: أَن رجلا من الْأَنْصَار جَاءَ فَقَالَ: فَتَلَاعَنا، وَقد سمي هَذَا الرجل فِي الحَدِيث عُوَيْمِر بن الْحَارِث الْعجْلَاني. وَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: أَتَى رَسُول الله رجل يَرْمِي امْرَأَته، فَنزلت آيَة التلاعن. وَهَذَا الرجل الْمَذْكُور فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس اسْمه هِلَال بن أُميَّة ابْن عَامر الوَاقِفِي. وَقد ذكر فِي أَفْرَاد البُخَارِيّ من مُسْند ابْن عَبَّاس باسمه هِلَال بن أُميَّة، وَأَنه قذف امْرَأَته بِشريك بن سَحْمَاء. وَلَا يمْتَنع اتِّفَاق هَاتين الْقصَّتَيْنِ فِي زمانين متقاربين، وَأَن الْآيَة نزلت فيهمَا. وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود هَذَا فَالظَّاهِر أَن الْإِشَارَة فِيهِ إِلَى عُوَيْمِر، لِأَن فِيهِ: " لَعَلَّهَا أَن تَجِيء بِهِ أسود جَعدًا " كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيث عُوَيْمِر، وَفِي ذَلِك اتهام للمقذوف، لَا أَنه يعْمل بِهِ.
وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْمَرْأَة حِين أَرَادَت أَن تلتعن: " مَه " وَلم يقل للرجل لِأَن الظَّاهِر صدق الرجل، إِذْ الْإِنْسَان لَا يُؤثر أَن يهتك زَوجته بالمحال، وَلِهَذَا جعلت اللَّعْنَة للرجل، وَالْغَضَب على الْمَرْأَة، وَالْغَضَب أَشد؛ لِأَن اللَّعْنَة بِمَعْنى الإبعاد، وَقد يبعد من لَا يغْضب عَلَيْهِ.(1/324)
وَمعنى قَوْله: " افْتَحْ " اقْضِ، وَمِنْه سمي القَاضِي لِأَنَّهُ يفتح بَابا مغلقا.
وَالْقَذْف الْمُطلق عندنَا يُوجب اللّعان بَين الزَّوْجَيْنِ خلافًا لإحدى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك أَنه لَا يجب حَتَّى يضيف الْقَذْف إِلَى الْمُشَاهدَة. فَإِن نكل الزَّوْج عَن اللّعان حد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يحبس حَتَّى يُلَاعن أَو يقر، فَإِن نكلت الزَّوْجَة عَن اللّعان لم تحد، وَفِي حَبسهَا رِوَايَتَانِ. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: تحد. وَلَا يَصح اللّعان عندنَا لنفي الْحمل قبل وَضعه، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: يَصح.
267 - / 317 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: لم أكن لَيْلَة الْجِنّ مَعَ رَسُول الله. هَذَا الحَدِيث يرد مَا يحْتَج بِهِ الحنفيون من حَدِيث ابْن مَسْعُود: كنت مَعَه لَيْلَة الْجِنّ، فَخط لي خطا، وَهُوَ حَدِيث النَّبِيذ؛ لِأَن هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَذَاكَ مَجْهُول الرِّوَايَة.
وَقَوله: التمسناه فِي الأودية: وَهِي جمع وَاد، وَهُوَ كل منفرج بَين(1/325)
جبلين. والشعاب جمع شعب، وَقد سبق بَيَانه. واستطير: استطيل بالأذى عَلَيْهِ، وانتشر الْأَعْدَاء فِي طلبه. والاغتيال: الْوُثُوب بالمكروه على عقله.
وَقَوله: من قبل حراء: أَي من ناحيته. وحراء جبل مَعْرُوف أخبرنَا ابْن نَاصِر قَالَ: أَنبأَنَا الْحسن بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي قَالَ: أخبرنَا عبد الغافر بن مُحَمَّد الْفَارِسِي قَالَ: حَدثنَا أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ قَالَ: سَمِعت أَبَا عمر الزَّاهِد يَقُول: حراء اسْم على ثَلَاثَة أحرف، وَأَصْحَاب الحَدِيث يغلطون مِنْهُ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: يفتحون الْحَاء وَهِي مَكْسُورَة، ويكسرون الرَّاء وَهِي مَفْتُوحَة، ويقصرون الْألف وَهِي ممدودة، وَإِنَّمَا هُوَ حراء. قَالَ الشَّاعِر:
(وراق لبر من حراء ونازل ... )
وَقَوله: " ذكر اسْم الله عَلَيْهِ " أَي: على ذبح الشَّاة.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ قد جعل الْعِظَام قوتا لَهُم، فَمَا لنا نرَاهَا فِي الْمَزَابِل والتلال؟
فَالْجَوَاب: أَنه قَالَ: " يَقع فِي أَيْدِيكُم أَو فِيمَا يكون لَحْمًا "، فكأنهم إِذا تناولوا الْعظم صَار عَلَيْهِ لحم فيتزودون مِنْهُ ويلقونه. قَالَ ابْن عقيل: وَيجوز أَن يكون زادهم أَنهم يشمونها أَو يلحسون زهائمها ودسمها وَتبقى أجسامها.
268 - / 318 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: سُئِلَ عَن الوسوسة فَقَالَ: " تِلْكَ مَحْض الْإِيمَان ".(1/326)
الوسوسة حَدِيث الشَّيْطَان فِي بواطن الْقُلُوب، والمحض: الْخَالِص. وأصل هَذَا أَن اللَّبن إِذا لم يخلط بِالْمَاءِ قيل لَهُ مَحْض: أَي خَالص.
وَقد روى هَذَا الحَدِيث أَبُو هُرَيْرَة مكشوفا فَقَالَ: جَاءَ نَاس من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نجد فِي أَنْفُسنَا مَا يتعاظم أَحَدنَا أَن يتَكَلَّم بِهِ. قَالَ: " وَقد وجدتموه؟ " قَالُوا: نعم، قَالَ: " ذَاك صَرِيح الْإِيمَان " وَالْمعْنَى: عَن الَّذِي يمنعكم من قبُول مَا يلقيه الشَّيْطَان إِلَيْكُم حَتَّى يصير ذَلِك وَسْوَسَة لَا يتَمَكَّن من الْقُلُوب وَلَا تطمئِن إِلَيْهَا النُّفُوس صَرِيح الْإِيمَان، لَا أَن الوسوسة نَفسهَا صَرِيح الْإِيمَان، لِأَنَّهَا من فعل الشَّيْطَان فَكيف تكون إِيمَانًا؟
269 - / 319 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " ليلني مِنْكُم أولو الأحلام والنهى، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ - ثَلَاثًا - وَإِيَّاكُم وهيشات الْأَسْوَاق "
كثير من المبتدئين فِي قِرَاءَة الحَدِيث يقرءُون: ليليني بِإِثْبَات الْيَاء، وَهُوَ غلط، إِنَّمَا هُوَ مجزوم بِالْأَمر: " ليلني ". والأحلام: الْعُقُول. والنهى: اسْم لِلْعَقْلِ أَيْضا، لِأَنَّهُ ينْهَى عَن الْقَبِيح. وَإِنَّمَا أَمر بِهَذَا لثَلَاثَة معَان: أَحدهَا: تَفْضِيلهمْ بالتقدم. الثَّانِي: ليعقلوا عَنهُ مَا ينْقل من فعله. وَالثَّالِث: لِأَنَّهُ رُبمَا احْتَاجَ إِلَيْهِم إِمَّا بتذكيره مَا أخل بِهِ أَو فِي استنابتهم إِن نابه أَمر. وَفِي تقديمهم تَعْلِيم للناقصين التأدب بالتأخر وَقَوله: " ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ " أَي فِي الْمنزلَة وَالْقدر.
وهيشات الْأَسْوَاق: اختلاطها وَمَا يكون فِيهَا من الجلبة وارتفاع(1/327)
الْأَصْوَات والفتن، وَهُوَ مَأْخُوذ من هوشت الشَّيْء: إِذا خلطته، والعامة تَقول: شوشت، قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: يُقَال: هوشت الشَّيْء: إِذا خلطته، وَمِنْه أَخذ اسْم أبي المهوش الشَّاعِر، وَلَا تقل شوشته. وَقد أجمع أهل اللُّغَة أَن التشويش لَا أصل لَهُ فِي الْعَرَبيَّة، وَأَنه من كَلَام المولدين وخطئوا اللَّيْث فِيهِ.
وَالْمرَاد من الحَدِيث التحذير من التَّعَرُّض بالفتن، وَقد رووا فِي هَذَا الحَدِيث: " وَلَا تختلفوا " يُشِير إِلَى اخْتِلَاف الصُّفُوف.
270 - / 320 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَتَيْنَا ابْن مَسْعُود فِي دَاره فَقَالَ: أصلى هَؤُلَاءِ؟ يُشِير إِلَى الْأُمَرَاء، وَكَأَنَّهُ اقتنع بِأَذَان الْمَسْجِد وإقامته.
وَقَوله: جعل أَحَدنَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن شِمَاله، هَذَا رَأْي رَآهُ كَانَ مُسْتَنده أَن الِاثْنَيْنِ لَيْسُوا عِنْده جمَاعَة، وَلِهَذَا قَالَ: " وَإِذا كُنْتُم ثَلَاثَة فصلوا جَمِيعًا، وَإِذا كُنْتُم أَكثر من ذَلِك فليؤمكم أحدكُم "، وَرَأى أَن الْيَسَار موقف أَيْضا.
وَمَا أَمرهم بِهِ من التطبيق أَمر نسخ وَلم يثبت عِنْده ناسخه، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند سعد.(1/328)
وَأما شَرق الْمَوْتَى فَذكر أَبُو عبيد فِيهِ قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه حِين تذْهب الشَّمْس عَن الْحِيطَان وَتبقى بَين الْقُبُور، فشروقها حِينَئِذٍ للموتى لَا للأحياء. وَالثَّانِي: أَن المُرَاد يؤخرونها إِلَى أَن يبْقى من الْوَقْت بِقدر مَا يبْقى من نفس الَّذِي يشرق بريقه عِنْد الْمَوْت.
والسبحة: النَّافِلَة.
271 - / 323 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إذنك عَليّ أَن يرفع الْحجاب، وَأَن تستمع سوَادِي حَتَّى أَنهَاك ".
الْإِذْن فِي اللُّغَة: الْإِطْلَاق من غير حجز. والسواد بِكَسْر السِّين: السرَار. قَالَ أَبُو عبيد: وَيجوز ضمهَا، فَتكون مثل الحوار والحوار، قَالَ الْأَحْمَر: هُوَ من إدناء سوادك من سوَاده: أَي شخصه. والسرار لَا يكون إِلَّا بإدناء السوَاد من السوَاد، وَأنْشد:
(من يكن فِي السوَاد والدد والإعرام ... زيرا فإنني غير زير)
وسئلت ابْنة الخس: لم زَنَيْت بعبدك؟ فَقَالَت: قرب الوساد، وَطول السوَاد.
والدد: اللَّهْو، قَالَ الْأَعْشَى:(1/329)
(أترحل عَن ليلى وَلما تزَود ... وَكنت كمن قضى اللبانة من دَد)
وَقَوله: " حَتَّى أَنهَاك " أَي: حَتَّى أَقُول لَك ارْجع.
وَمعنى الحَدِيث: إِذا رفع الْحجاب وَسمعت كَلَامي الْخَفي فَادْخُلْ إِلَّا أَن تسمع الْمَنْع.
272 - / 324 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: سَمِعت الَّذِي أنزلت عَلَيْهِ سُورَة الْبَقَرَة يَقُول فِي هَذَا الْمقَام: " لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك ".
قد ذكرنَا فِي أَوَائِل هَذَا الْمسند وَجه تَخْصِيصه سُورَة الْبَقَرَة بِالذكر، وفسرنا فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام معنى " لبيْك ".
273 - / 326 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: سَأَلنَا عبد الله عَن هَذِه الْآيَة: {وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا} [آل عمرَان: 169] .
إِن قيل: كَيفَ لَا يحْسب الْقَتْلَى أَمْوَاتًا، وَحَقِيقَة الْمَوْت عِنْدهم مَوْجُودَة؟
فَالْجَوَاب: أَنه لما ثَبت فِي النُّفُوس أَن تَعْطِيل الذوات بِالْمَوْتِ مخرج عَن التَّنْعِيم أعلمهم أَن الشُّهَدَاء فِي وُصُول النَّعيم إِلَيْهِم كالأحياء على مَا فِي الحَدِيث من " أَن أَرْوَاحهم فِي حواصل طير خضر ".
فَإِن قيل: فَجَمِيع الْمُؤمنِينَ ينعمون بعد الْمَوْت، وَفِي حَدِيث كَعْب ابْن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " نسمَة الْمُؤمن طَائِر يعلق من شجر(1/330)
الْجنَّة " أَي يَأْكُل.
فَالْجَوَاب: أَن الشُّهَدَاء ميزوا على غَيرهم من الْمُؤمنِينَ بِزِيَادَة نعيم وعلو قدر ورفعة ذكر، فهم أَحيَاء يصل إِلَيْهِم نعيم الْجنَّة، ويأوون إِلَى أشرف منزل، وهم بِالذكر الْجَمِيل فِي الدُّنْيَا كالأحياء، قَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ: الشُّهَدَاء مخصوصون، يرْزقُونَ من الْجنَّة قبل بَعثهمْ دون سَائِر الْمُؤمنِينَ.
وَقَوله فِي الحَدِيث " هَل تشتهون شَيْئا؟ قَالُوا: أَن ترد أَرْوَاحنَا حَتَّى نقْتل فِي سَبِيلك ".
وَإِن قيل: مَا الْفَائِدَة من عرض التَّمَنِّي عَلَيْهِم، فَلَمَّا تمنوا شَيْئا لم يعطوه، وَالْحق عز وَجل قد علم قبل سُؤَالهمْ مَا يتمنون، وَعلم أَنه لَا يعطيهم ذَلِك، فَمَا الْفَائِدَة فِي استعراض حَاجَة لَا تقضى؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن الْقَوْم خَرجُوا من دَار التَّكْلِيف إِلَى دَار الْجَزَاء، وأحبوا الْعود لَا لِمَعْنى يرجع إِلَى أغراضهم، بل قَضَاء لشكر نعْمَة الْحق عَلَيْهِم، فَترك إجابتهم إِلَى مَا يوقعهم فِي النصب إِجَابَة، فَكَأَنَّهُ يَقُول: مرادكم من الْعود شكر النِّعْمَة أَو توفير الْأجر، وَقد رضيت شكركم، وسأنيلكم مَا تُرِيدُونَ من غير تَعب. وَمِثَال هَذَا أَن ينعم السُّلْطَان على شخص عَن خدمَة نصب فِيهَا ثمَّ يَقُول لَهُ: تمن، فَيَقُول: لَو أَن تعيدني إِلَى الْخدمَة، وَمرَاده أَن يزْدَاد عَنهُ رضى، فيمنعه النصب، ويخبره بِتمَام الرضى.
وَالثَّانِي: أَنهم لما سلمُوا إِلَى الشَّهَادَة نفوسا لَا تَخْلُو من تلويث(1/331)
تَقْصِير، فَرَأَوْا ذَلِك الْجَزَاء الباهر أَحبُّوا أَن يعادوا فيسلموا نفوسا مطهرة بِالشَّهَادَةِ من كل دنس، ليتضاعف الْجَزَاء، فمنعوا ذَلِك؛ لِأَن التَّسْلِيم الأول كَانَ على وَجه الْإِيمَان بِالْغَيْبِ، وَالثَّانِي لَو كَانَ عَن عيان، وَالْعِبَادَة بِالْغَيْبِ هِيَ الْمَطْلُوبَة لامع العيان، فَكَانَت الْفَائِدَة لَهُم فِي جَرَيَان هَذِه الْحَال أَن يسْأَلُوا غير هَذَا الْفَنّ، وَكَانَت الْفَائِدَة لمن بلغته الْحَال أَن يجد ويجتهد فِي تَزْكِيَة نَفسه ليسلم نفسا زاكية إِذْ لَا سَبِيل إِلَى الْعود.
274 - / 327 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: أَن أَمِيرا كَانَ بِمَكَّة يسلم تسليمتين، فَقَالَ عبد الله: أَنى علقها؟ إِن رَسُول الله كَانَ يَفْعَله.
أَنى تكون بِمَعْنى من أَيْن، والمعنيان يتقاربان، يجوز أَن يتَأَوَّل فِي كل وَاحِد مِنْهَا الآخر، وَقد جمع الْكُمَيْت بَين اللفظتين فَقَالَ:
(أَنى وَمن أَيْن آبك الطَّرب ... من حَيْثُ لَا صبوة وَلَا ريب)
وَمعنى علقها: علق بهَا.
وَقد دلّ ظَاهر هَذَا الحَدِيث على وجوب التسليمتين، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ من مُسْند سعد.
275 - / 328 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: " وَمَا تَعدونَ الرقوب فِيكُم؟ " قُلْنَا: الَّذِي لَا يُولد لَهُ. قَالَ: " لَيْسَ ذَاك بالرقوب، وَلكنه الرجل الَّذِي لم يقدم من وَلَده شَيْئا ". قَالَ: " فَمَا تَعدونَ الصرعة فِيكُم؟ " قُلْنَا: الَّذِي لَا تصرعه الرِّجَال. قَالَ: " لَيْسَ بذلك، وَلكنه(1/332)
الَّذِي يملك نَفسه عِنْد الْغَضَب ".
دلهم بِهَذَا الحَدِيث على النّظر إِلَى الْمعَانِي دون الصُّور، لأَنهم ألفوا فِي كَلَامهم أَن الرقوب الَّذِي يفقد أَوْلَاده، فَأخْبرهُم أَنه الَّذِي يفقد ثَوَاب أَوْلَاده فِي الْآخِرَة. وَلما عرفُوا أَن الصرعة الَّذِي لَا يصرعه الرِّجَال أخْبرهُم أَن الشدَّة فِي ملكة النَّفس، كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث الآخر: " من الْمُفلس؟ " فَقَالُوا: من لَا دِينَار لَهُ وَلَا دِرْهَم. فَبين لَهُم أَن الْمُفلس من تفرق حَسَنَاته على أهل الْمَظَالِم، وكما قَالَ جُنْدُب ابْن عبد الله: المحروب من حَرْب دينه.
276 - / 330 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: غشي السِّدْرَة فرَاش من ذهب، وَغفر لمن لَا يُشْرك من أمته الْمُقْحمَات.
السِّدْرَة: شَجَرَة النبق. والفراش: ذُبَاب يقتحم ضوء السراج وَيَقَع فِي ناره، والمقحمات: الْكَبَائِر الَّتِي تقحم صَاحبهَا فِي النَّار: أَي تلقيه فِيهَا.
277 - / 331 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: " يُؤْتى بجهنم ".
قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ عَن أبي بكر الْأَنْبَارِي قَالَ: فِي جَهَنَّم قَولَانِ: قَالَ يُونُس بن حبيب وَأكْثر النَّحْوِيين: جَهَنَّم اسْم للنار الَّتِي يعذب بهَا فِي الْآخِرَة، وَهِي أَعْجَمِيَّة لَا تجْرِي للتعريف(1/333)
والعجمة، وَقيل: إِنَّه عَرَبِيّ، وَلم تجر للتأنيث والتعريف، وَحكي عَن رؤبة أَنه قَالَ: ركية جهنام بعيدَة القعر.
وَقَالَ الْأَعْشَى:
(دَعَوْت خليلي مسحلا ودعوا لَهُ ... جهنام جدعا للهجين المذمم)
فَترك صرفه يدل على أَنه أعجمي مُعرب.
278 - / 332 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: كُنَّا مَعَ رَسُول الله فمررنا بصبيان فيهم ابْن صياد.
أما ابْن صياد فاسمه عبد الله، وَيُقَال فِيهِ ابْن صياد وَابْن صائد وَابْن الصَّائِد، وَكَانَ أَبوهُ من الْيَهُود، ولد فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ أَعور مختون مسرور، وَأَتَاهُ رَسُول الله وَهُوَ صبي فَسَأَلَهُ عَمَّا خبأ لَهُ، فَأَجَابَهُ، فَقَالُوا: هُوَ الدَّجَّال، وَكَانَ ابْن عمر وَجَابِر يحلفان بِاللَّه من غير شكّ أَنه الدَّجَّال، وَكَانَ يَقُول: أَنا مُؤمن والدجال كَافِر، وَقد ولد لي والوجال لَا يُولد لَهُ، وَكَانَ لَهُ ولد اسْمه عمَارَة من خِيَار الْمُسلمين، روى عَنهُ مَالك بن أنس. وَاخْتلف النَّاس فِي آخر أمره، فَروِيَ عَن جَابر أَنه قَالَ: فقدناه يَوْم الْحرَّة. وَرُوِيَ أَنه تَابَ عَمَّا كَانَ يَدعِيهِ،(1/334)
وَمَات بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُمْ لما أَرَادوا الصَّلَاة عَلَيْهِ كشفوا عَن وَجهه حَتَّى رَآهُ النَّاس، وَقيل لَهُم: اشْهَدُوا.
وَقَوله: تربت يداك: أَي افْتَقَرت.
وَقَوله لعمر: " إِن يكن الَّذِي ترى - أَي تظن - فَلَنْ تَسْتَطِيع قَتله " لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الدَّجَّال فَلَا بُد من ظُهُوره، فَكيف يقتل وَلم يظْهر؟
قَوْله: إِنِّي خبأت لَك خبيئا فَقَالَ: دخ. يُرِيد الدُّخان.
وَفِي بعض أَلْفَاظ حَدِيث ابْن عمر الَّذِي ذكر فِي الصِّحَاح أَن رَسُول الله خبأ لَهُ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين.
فَقَالَ: " اخْسَأْ "، أَي أبعد " فَلَنْ تعدو "، أَي لن تتجاوز " قدرك ". وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه لَا يبلغ قدرك أَن تطالع الْغَيْب من قبل الْوَحْي الَّذِي يخْتَص الْأَنْبِيَاء، وَلَا من قبل الإلهام الَّذِي يُدْرِكهُ الْأَوْلِيَاء، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي قَالَه شَيْء أَلْقَاهُ إِلَيْهِ الشَّيْطَان، إِمَّا لكَون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكلم بذلك بَينه وَبَين نَفسه فَسَمعهُ الشَّيْطَان، وَإِمَّا أَن يكون الشَّيْطَان سمع مَا سيجري بَينهمَا من السَّمَاء، لِأَنَّهُ إِذا قضى الْقَضَاء فِي السَّمَاء تَكَلَّمت بِهِ الْمَلَائِكَة فاسترق الشَّيْطَان السّمع فَأَلْقَاهُ إِلَى أذن الكاهن، وَسَيَأْتِي هَذَا مشروحا فِي مُسْند عَائِشَة. وَإِمَّا أَن يكون رَسُول الله حدث بعض أَصْحَابه بِمَا أضمر فاختلس الشَّيْطَان ذَلِك، وَيدل على هَذَا قَول ابْن عمر: وخبأ لَهُ رَسُول الله يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين. فَالظَّاهِر أَنه اعْلَم الصَّحَابَة مَا يخبأ لَهُ.(1/335)
وَالثَّانِي: أَن الْمَعْنى: لن تعدو قدر الله فِيك.
فَإِن قيل: فَمَا السِّرّ فِي أَنه أضمر لَهُ الدُّخان؟
فَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون أضمر مَا خطر لَهُ كَمَا اتّفق. وَالثَّانِي: أَن يكون اعْتمد ذَلِك، لِأَن الدُّخان يستر عَن النَّاظر عين الشَّمْس، وَكَذَلِكَ بَاطِل الدَّجَّال ثمَّ هُوَ ضَرَر لَا نفع فِيهِ.
فَإِن قيل: كَيفَ ترك الرَّسُول رجلا يَدعِي النُّبُوَّة كَاذِبًا؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن هَذِه الْقِصَّة جرت لَهُ مَعَه أَيَّام مهادنة الْيَهُود وحلفائهم، وَذَلِكَ أَنه لما قدم الْمَدِينَة كتب بَينه وَبَين الْيَهُود كتابا صَالحهمْ فِيهِ، على أَن لَا يهاجوا، وَكَانَ ابْن صياد فِي جملَة الْقَوْم، فَلَمَّا بلغ رَسُول الله مَا يَدعِيهِ من علم الْغَيْب امتحنه فَرَآهُ مُبْطلًا، وَعلم أَنه لَا يعدو الكهانة وَالسحر. وَالثَّانِي: أَنه حِين جرت لَهُ مَعَه هَذِه الْقِصَّة كَانَ صَبيا غير بَالغ، وَلَا حكم لقَوْل الصَّبِي.
279 - / 333 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: " وَلَكِن الله أعانني عَلَيْهِ فَأسلم ".
جُمْهُور الروَاة يَقُولُونَ: فَأسلم بِفَتْح الْمِيم، يُرِيدُونَ: الشَّيْطَان أسلم، وَكَانَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة يَقُول: فَأسلم بضَمهَا، وَالْمعْنَى: فَأسلم من شَره. وَكَانَ يَقُول: الشَّيْطَان لَا يسلم. وَقَول ابْن عُيَيْنَة حسن يظْهر أثر المجاهدة بمخالفة الشَّيْطَان، غير أَن قَوْله: " فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَير " دَلِيل على إِسْلَام الشَّيْطَان، لِأَن الَّذِي نفر مِنْهُ ابْن عُيَيْنَة وَقَالَ:(1/336)
لَا يسلم، يَنْبَغِي أَن يَقع النفار مِنْهُ فِي قَوْله: " فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَير " وَقد رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده بِلَفْظ آخر: " فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِحَق ".
380 - / 334 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: قَالَت أم حَبِيبَة: اللَّهُمَّ أمتعني بزوجي رَسُول الله، وبأبي أبي سُفْيَان، وبأخي مُعَاوِيَة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لقد سَأَلت الله لآجال مَضْرُوبَة، وَأَيَّام مَعْدُودَة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شَيْئا قبل حلّه، أَو يُؤَخر شَيْئا عَن حلّه، وَلَو كنت سَأَلت الله أَن يعيذك من عَذَاب النَّار أَو عَذَاب فِي الْقَبْر كَانَ خيرا ".
أم حَبِيبَة هِيَ زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاسْمهَا رَملَة بنت أبي سُفْيَان.
فَإِن قيل: كَيفَ ردهَا عَن سُؤال، وَعلل بِالْقدرِ، وأمرها بسؤال وَهُوَ دَاخل فِي بَاب الْقدر أَيْضا؟
فَالْجَوَاب: أَن سُؤال مَا يجلب نفعا فِي الْآخِرَة وَيظْهر عبودية من السَّائِل، أولى مِمَّا يجتلب بِهِ مُجَرّد النَّفْع فِي الدُّنْيَا، فَأَرَادَ مِنْهَا التشاغل بِأُمُور الْآخِرَة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: " إِن الله لم يَجْعَل لمسخ نَسْلًا وَلَا عقبا " وَفِي ذَلِك دَلِيل على أَن الَّذين مسخوا لم يبقوا وَلم ينسلوا، وَقد كَانَ ابْن قُتَيْبَة يَقُول: أَنا أَظن أَن هَذِه القردة والخنازير هِيَ المسوخ بِأَعْيَانِهَا توالدت. ثمَّ قَالَ: إِلَّا أَن يَصح حَدِيث أم حَبِيبَة. وَقد صَحَّ حَدِيثهَا،(1/337)
فَلَا يلْتَفت إِلَى ظن ابْن قُتَيْبَة.
281 - / 335 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لقوم يتخلفون عَن الْجُمُعَة: " لقد هَمَمْت أَن آمُر رجلا يُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثمَّ أحرق على رجال يتخلفون عَن الْجُمُعَة بُيُوتهم ".
إِن قَالَ قَائِل: لَو فعل هَذَا لفاتته الْجُمُعَة، فَمَا وَجه هَذَا القَوْل؟
فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن أَبَا هُرَيْرَة قد روى هَذَا الحَدِيث فِي الْجَمَاعَات لَا فِي الْجُمُعَة، فَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيثه، وَحَدِيث ابْن مَسْعُود من أَفْرَاد مُسلم، فَذَاك مقدم، وَيحْتَمل أَن يكون الرَّاوِي قد سَهَا من ذكر الْجَمَاعَة إِلَى الْجُمُعَة.
وَالثَّانِي: أَنه قَالَه على وَجه الْمُبَالغَة وَلم يَفْعَله، كَمَا قَالَ: " من قتل عَبده قَتَلْنَاهُ ".
وَالثَّالِث: أَنه يُمكن أَن يمْضِي فيأمر بتحريق بيُوت أَقوام سمعُوا التأذين، ثمَّ يعود فيدرك الصَّلَاة.
282 - / 337 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: وَلَقَد كَانَ الرجل يهادى بَين الرجلَيْن.
أَي يحمل بِرِفْق وَهُوَ يعْتَمد عَلَيْهِمَا من ضعفه وَقلة تماسكه، يُقَال:(1/338)
تهادت الْمَرْأَة فِي مشيتهَا: أَي تمايلت.
283 - / 338 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: " لَو كنت متخذا خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا ".
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الْخَلِيل " فعيل " من الْخلَّة، والخلة: الْمَوَدَّة. قَالَ: وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة: والخليل الْمُحب، والمحب الَّذِي لَيْسَ فِي محبته نقص وَلَا خلل، فإبراهيم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يحب الله وَيُحِبهُ الله محبَّة لَا نقص فِيهَا وَلَا خلل. قَالَ: وَيُقَال: الْخَلِيل: الْفَقِير، من الْخلَّة، والخلة: الْفقر، قَالَ زُهَيْر:
(فَإِن أَتَاهُ خَلِيل يَوْم مسغبة ... يَقُول لَا غَائِب مَالِي وَلَا حرم)
أَرَادَ: وَإِن أَتَاهُ فَقير. قَالَ: وَيُقَال: الْخَلِيل: الْفَقِير إِلَيْهِ، ينزل فقره وفاقته بِهِ وَلَا ينزل ذَلِك بِغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الْخَلِيل من: تخَلّل الْمَوَدَّة الْقلب وتمكنها مِنْهُ، قَالَ: وَقيل: إِنَّهَا من خلة الرَّعْي: وَهُوَ نَبَات تستحيله الْمَاشِيَة فتكثر مِنْهُ. وَالْمَقْصُود من الحَدِيث: أَن الْخلَّة تلْزم فضل مُرَاعَاة للخليل وَقيام بِحقِّهِ، واشتغال الْقلب بأَمْره، فَأخْبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَيْسَ عِنْدِي فضل - مَعَ خلة الْحق - لِلْخلقِ، لاشتغال قلبِي بمحبته سُبْحَانَهُ فَلَا يحْتَمل ميلًا إِلَى غَيره.
284 - / 342 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: " بِحَسب الْمَرْء من(1/339)
الْكَذِب أَن يحدث بِكُل مَا سمع ".
فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحدهَا: أَن يروي مَا يُعلمهُ كذبا وَلَا يُبينهُ فَهُوَ أحد الْكَاذِبين. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: بِحَسب الْمَرْء أَن يكذب، لِأَنَّهُ لَيْسَ كل مسموع يصدق بِهِ، فَيَنْبَغِي تحديث النَّاس بِمَا تحتمله عُقُولهمْ.
285 - / 343 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: هَاجَتْ ريح حَمْرَاء بِالْكُوفَةِ، فجَاء رجل لَيْسَ لَهُ هجيري إِلَّا: يَا عبد الله بن مَسْعُود، جَاءَت السَّاعَة.
قَوْله: لَيْسَ لَهُ هجيري: أَي مَاله شَأْن وَلَا شغل إِلَّا هَذَا. قَالَ أَبُو عبيد: مثل الهجيري فِي الْوَزْن الخليفي: وَهِي الْخلَافَة، وَقَول عمر بن عبد الْعَزِيز لَا رديدي فِي الصَّدَقَة: أَي لَا ترد. وَيُقَال: كَانَت بَين الْقَوْم رميا، ثمَّ حجزت بَينهم حجيزي: أَي صَارُوا إِلَى المحاجزة بعد الرَّمْي، وَكَذَلِكَ الهزيمي من الْهَزِيمَة، والمنيني من الْمِنَّة، والدليلي من الدّلَالَة. وَأكْثر كَلَامهم فِي الدّلَالَة بِالْفَتْح. والخطيبي من الْخطْبَة.
وَقَوله: فَيشْتَرط الْمُسلم شَرطه. الشرطه: قوم يقدمُونَ إِلَى الْقِتَال يشترطون الثَّبَات ويتعاقدون على الْجد وَإِن آل بهم إِلَى الْمَوْت.(1/340)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي الْيَقظَان عمار بن يَاسر
أسلم قَدِيما، وَكَانَ من الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذين يُعَذبُونَ بِمَكَّة ليرجعوا عَن دينهم، وَأحرقهُ الْمُشْركُونَ بالنَّار، فَكَانَ رَسُول الله يمر بِهِ فيمر يَده على رَأسه وَيَقُول: " يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا على عمار كَمَا كنت على إِبْرَاهِيم " وَشهد بَدْرًا، وَلم يشهدها ابْن مُؤمنين غَيره، لِأَن أَبَاهُ ياسرا أسلم، وَأمه سميَّة بنت خباط، وَكَانُوا كلهم يُعَذبُونَ ليرجعوا عَن الْإِسْلَام، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " صبرا يَا آل يَاسر، مَوْعدكُمْ الْجنَّة ". وَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطّيب المطيب.
وروى عَن رَسُول الله اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة:
286 - / 345 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أَن أَبَا مُوسَى قَالَ لِابْنِ مَسْعُود أَرَأَيْت لَو أَن رجلا أجنب فَلم يجد المَاء شهرا، كَيفَ يصنع بِالصَّلَاةِ؟ فَقَالَ عبد الله: لَا يتَيَمَّم وَإِن لم يجد المَاء شهرا.(1/341)
فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكيف بِهَذِهِ الْآيَة: {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} [الْمَائِدَة: 6] قَالَ عبد الله: لَو رخص لَهُم فِي هَذِه الْآيَة لَأَوْشَكَ إِذا برد عَلَيْهِم المَاء أَن يتيمموا بالصعيد، فَذكر لَهُ حَدِيث عمار فِي التَّيَمُّم.
وَفِي رِوَايَة: أَن رجلا أَتَى عمر فَقَالَ: أجنبت فَلم أجد مَاء. فَقَالَ: لَا تصل. فَقَالَ عمار: أَلا تذكر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِذْ أَنا وَأَنت فِي سَرِيَّة فأجنبنا فَلم نجد مَاء، فَأَما أَنْت فَلم تصل، وَأما أَنا فتمعكت فِي التُّرَاب وَصليت، فَقَالَ رَسُول الله: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تمسح بهما وَجهك وكفيك " فَقَالَ عمر: اتَّقِ الله يَا عمار. قَالَ: إِن شِئْت لَا أحدث بِهِ. فَقَالَ عمر: نوليك مَا توليت.
ظَاهر المناظرة بَين ابْن مَسْعُود وَأبي مُوسَى أَن ابْن مَسْعُود لم يلْتَفت إِلَى الْآيَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَلَكِن ابْن مَسْعُود رأى أَن الْآيَة لَا تَتَضَمَّن التَّيَمُّم إِنَّمَا تخْتَص بِالْحَدَثِ الْأَصْغَر، فَلذَلِك لم ير جَوَاز التَّيَمُّم للْجنب. وَقد اخْتلف النَّاس فِي هَذِه الْآيَة: فَمنهمْ من قَالَ: إِنَّمَا دلّت على التَّيَمُّم عَن الْحَدث الْأَصْغَر فَقَط، وهم الْقَائِلُونَ بِأَن اللَّمْس لمس الْيَد. قَالُوا: وَإِنَّمَا استفدنا جَوَاز التَّيَمُّم للْجنب من حَدِيث عمار، وَيدل عَلَيْهِ أَنه لما تمعك عمار فِي التُّرَاب وَأخْبر رَسُول الله بِفِعْلِهِ قَالَ: " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تَقول هَكَذَا " وَعلمه التَّيَمُّم وَلم يردهُ إِلَى بَيَان الْآيَة، وَلَو كَانَ فِيهَا بَيَان ذَلِك لقَالَ كَمَا قَالَ لعمر فِي شَأْن الْكَلَالَة: " يَكْفِيك آيَة الصَّيف ".
وَمِنْهُم من قَالَ: بل دلّت على التَّيَمُّم عَن الْجَنَابَة، وَاخْتلف هَؤُلَاءِ على أَي وَجه دلّت على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن المُرَاد باللمس فِيهَا(1/342)
الْوَطْء، قَالَه عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. وَالثَّانِي: أَن فِيهَا تَقْدِيمًا وتأخيرا، وتقديرها: إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة من النّوم، فَأفَاد ذَلِك النّوم وَمَا فِي مَعْنَاهُ من الْبَوْل والمذي وَالرِّيح. {أَو لامستم} أَي بِالْيَدِ {فَاغْسِلُوا} . ثمَّ قَالَ: {وَإِن كُنْتُم جنبا} فأفادت الْآيَة ذكر الطهارتين عِنْد وجود المَاء مَعَ التَّنْبِيه على الْأَحْدَاث. ثمَّ قَالَ: {وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} فَانْصَرف إِلَى الطهارتين جَمِيعًا، وَأفَاد جَوَاز التَّيَمُّم عَن الحدثين، وَهَذَا الْمَعْنى مَرْوِيّ عَن زيد بن أسلم وَابْنه. وَالثَّالِث: أَن الْآيَة لما جعلت التَّيَمُّم بَدَلا عَن الْوضُوء نبهت على أَنه بدل عَن الْغسْل لِأَن التُّرَاب لما جعل بَدَلا عَن المَاء وَجب أَن يَنُوب عَن طهارات المَاء.
وَأما التَّيَمُّم فَإِنَّهُ فِي اللُّغَة الْقَصْد، قَالَ الْأَعْشَى:
(تيممت قيسا وَكم دونه ... من الأَرْض من مهمه ذِي شزن)
وَقَوله: لَو رخص لَهُم فِي هَذَا لَأَوْشَكَ إِذا برد عَلَيْهِم المَاء أَن يتيمموا للصَّلَاة.
وَعِنْدنَا أَنه إِذا خَافَ ضَرَر الْبرد تيَمّم وَصلى وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ إِن كَانَ مُسَافِرًا، وَإِن كَانَ مُقيما فعلى رِوَايَتَيْنِ. قَالَ الشَّافِعِي: يُعِيد الْمُقِيم، وَله فِي الْمُسَافِر قَولَانِ.(1/343)
وَقَوله: فتمرغت فِي الصَّعِيد كَمَا تتمرغ الدَّابَّة. وَإِنَّمَا فعل هَذَا لِأَنَّهُ رأى التُّرَاب بَدَلا عَن المَاء فَاسْتَعْملهُ فِي جَمِيع الْبدن. فَأَما الصَّعِيد فَهُوَ التُّرَاب قَالَه عَليّ وَابْن مَسْعُود واللغويون، مِنْهُم الْفراء وَأَبُو عبيد والزجاج وَابْن قُتَيْبَة.
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يَقع اسْم الصَّعِيد إِلَّا على تُرَاب ذِي غُبَار، فعلى هَذَا لَا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ، وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يجوز بِجَمِيعِ أَجزَاء الأَرْض كالنورة والجص والزرنيخ وَغَيره. وَزَاد مَالك فَقَالَ: وَيجوز بالحشيش وَالشَّجر، فعلى هَذَا يكون الصَّعِيد عِنْدهمَا مَا تصاعد على وَجه الأَرْض سَوَاء كَانَ تُرَابا أَو غَيره، وَلَا خلاف أَنه إِذا ضرب بِيَدِهِ على الطين أَنه لَا يجْزِيه. وَقد سلم خصمنا برادة الذَّهَب وَالْفِضَّة والصفر والنحاس والدقيق وسحيق الزّجاج والجوهر والصندل ونحاتة الْخشب وَنَحْو ذَلِك، فَأَما الرمل فلأبي حنيفَة وَأحمد فِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَقد دلّ حَدِيث عمار هَذَا على أَنه يجوز الِاقْتِصَار فِي التَّيَمُّم على الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ بضربة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول مَالك وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد: لَا يجْزِيه إِلَّا أَن يمسح إِلَى الْمرْفقين. وَلَا(1/344)
يخْتَلف أَصْحَابنَا فِي جَوَاز الْأَمريْنِ، إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْمسنون: فَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: الْمسنون أَن يضْرب ضربتين، يمسح بِوَاحِدَة وَجهه وبالأخرى يَدَيْهِ إِلَى الْمرْفقين، فَإِن ضرب ضَرْبَة فَمسح بهَا وَجهه وكفيه جَازَ. وَقَالَ أَبُو الْخطاب الكلواذاني: بل الْمسنون عِنْد أَحْمد ضَرْبَة وَاحِدَة للْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ. وَقَالَ أَبُو الْوَفَاء بن عقيل: ظَاهر كَلَام أَحْمد يدل على أَن الْمسْح إِلَى الْمرْفقين جَائِز وَلَيْسَ بمستحب.
وَقَوله: ونفض يَدَيْهِ. وَفِي لفظ: " يَكْفِيك أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تنفخ " يحْتَج بِهِ من يرى جَوَاز الضَّرْب على حجر لَا غُبَار لَهُ، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك. وَعند أَحْمد وَالشَّافِعِيّ: لَا بُد من غُبَار يعلق بِالْيَدِ، لقَوْله تَعَالَى: {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} و " من " للتَّبْعِيض. وَأما نفض الْيَد ونفخها فَالْمُرَاد بِهِ تَخْفيف مَا تعلق بِالْيَدِ. فَإِنَّهُ قد تعلق بهَا الْكثير، والنفخ لَا يدْفع الْخَفِيف، وَبِه تقع الْكِفَايَة.
وَقَوله: اتَّقِ الله يَا عمار. مَعْنَاهُ: احْتَرز فِيمَا تروي، وَلَيْسَ أَنه شكّ فِيهِ، وَلكنه تثقيف لَهُ وتأديب لغيره.
وَقَوله: نوليك مَا توليت: مَعْنَاهُ نَدعك وَمَا تتقلد.(1/345)
287 - / 346 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
لما بعث عَليّ عمارا إِلَى الْكُوفَة ليستنفرهم.
الاستنفار: الدُّعَاء إِلَى النُّصْرَة. وَهَذَا كَانَ عِنْد خُرُوج عَائِشَة عَلَيْهَا السَّلَام إِلَى الْبَصْرَة.
288 - / 347 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: دخل أَبُو مُوسَى وَأَبُو مَسْعُود على عمار حَيْثُ أَتَى إِلَى الْكُوفَة ليستنفر النَّاس، فَقَالَا: مَا رَأينَا مِنْك أمرا مُنْذُ أسلمت أكره عندنَا من إسراعك فِي هَذَا الْأَمر. فَقَالَ: مَا رَأَيْت مِنْكُمَا أمرا مُنْذُ أسلمتما أكره عِنْدِي من إبطائكما عَن هَذَا الْأَمر: قَالَ ثمَّ كساهما حلَّة.
أَبُو مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيّ، وَأَبُو مَسْعُود هُوَ البدري، واسْمه عقبَة ابْن عَمْرو.
وَالْإِشَارَة بقَوْلهمْ: هَذَا الْأَمر، إِلَى الْخُرُوج مَعَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَمَعَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا. وَإِنَّمَا كرها لعمَّار الْخُرُوج فِيمَا ظَاهره الْقِتَال والفتن، وَكره لَهما عمار قعودهما عَن نصْرَة عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وَالْحق فِي ذَلِك مَعَ عمار؛ لِأَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ الإِمَام علما وَخِلَافَة، فَهُوَ أعلم بِالْحَقِّ من كل من خاصمه، وَإِنَّمَا خرجت عَائِشَة عَلَيْهَا السَّلَام لتصلح الْأَمر فانخرق.
289 - / 348 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: رَأَيْت رَسُول الله وَمَا مَعَه إِلَّا خَمْسَة أعبد وَامْرَأَتَانِ.(1/346)
أما عمار فَإِنَّهُ أسلم قَدِيما، وَقد أسلم جمَاعَة قبله، وَإِنَّمَا حكى مَا رأى.
290 - / 349 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم:
خَطَبنَا عمار فأوجز وأبلغ، فَقُلْنَا: لَو كنت تنفست، فَقَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " إِن طول صَلَاة الرجل وَقصر خطبَته مئنة من فقهه، وَإِن من الْبَيَان سحرًا ".
تنفست بِمَعْنى مددت الْكَلَام قَلِيلا، وَهُوَ مشبه بِمد النَّفس.
ومئنة بِمَعْنى عَلامَة تدل على فقه الرجل. قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ كَقَوْلِك: مخلقة، ومجدرة، ومحراة.
وَالْفِقْه: الْفَهم، قَالَ الْأَزْهَرِي: الْفِقْه أَن يعلم الرجل من بَاطِن مَا يسْأَل عَنهُ كَمَا يعلم من ظَاهره لَا يخفى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْء. فَأَما الْبَيَان فَقَالَ أَبُو عبيد: الْبَيَان من الْفَهم وذكاء الْقلب مَعَ اللسن، فصاحبه يمدح فَيصدق، ويذم فَيصدق، وَكَأَنَّهُ قد سحر السامعين بذلك. وَقَالَ مَالك ابْن دِينَار: مَا رَأَيْت أبين من الْحجَّاج، إِن كَانَ ليرقى الْمِنْبَر فيذكر إحسانه إِلَى أهل الْعرَاق وصفحه عَنْهُم وإساءتهم إِلَيْهِ حَتَّى أَقُول فِي نَفسِي: وَالله إِنِّي لأحسبه صَادِقا، وَإِنِّي لأظنهم ظالمين لَهُ.(1/347)
كشف الْمُشكل من مُسْند حَارِثَة بن وهب الْخُزَاعِيّ
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة أَحَادِيث، وَقد غلط أَبُو بكر البرقي فَقَالَ فِي " تَارِيخه ": جملَة مَا روى حديثان، وَبَيَان غلطه أَنه قد أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
291 - / 350 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: قَوْله صلى بِنَا رَسُول الله وَنحن أَكثر مَا كُنَّا قطّ وآمنه بمنى رَكْعَتَيْنِ.
يُشِير بِهَذَا إِلَى أَن قصر الصَّلَاة لم يقف على الْخَوْف. وَقد شرحنا هَذَا فِي مُسْند عمر.
292 - / 351 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " حَوْضه مَا بَين صنعاء وَالْمَدينَة ".
الْإِشَارَة إِلَى أَن طول الْحَوْض بِقدر هَذِه الْمسَافَة.
293 - / 352 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " يمشي الرجل بِصَدَقَتِهِ فَيَقُول(1/348)
الَّذِي أعطيها: لَو جئتنا بهَا بالْأَمْس قبلتها ".
وَالْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى كَثْرَة المَال فِي آخر الزَّمَان.
294 - / 353 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " أَلا أخْبركُم بِأَهْل الْجنَّة؟ كل ضَعِيف متضعف، لَو يقسم على الله لَأَبَره. أَلا أخْبركُم بِأَهْل النَّار؟ كل عتل جواظ مستكبر ".
الضَّعِيف: الْفَقِير، والمتضعف بِفَتْح الْعين - ويغلط من يقْرؤهَا من الْمُحدثين بِالْكَسْرِ؛ لِأَن المُرَاد أَن النَّاس يستضعفونه ويقهرونه.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: العتل عِنْد الْعَرَب: الشَّديد. وَقَالَ غَيره: هُوَ الْفظ الغليظ الشَّديد الْخُصُومَة الَّذِي لَا ينقاد لخير.
فَأَما الجواظ فَفِيهِ خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الجموع المنوع. وَالثَّانِي: الشَّديد الصَّوْت فِي الشَّرّ. وَالثَّالِث: الْقصير الْبَطن. وَالرَّابِع: المتكبر المختال فِي مَشْيه الفاخر. وَالْخَامِس: أَنه الْكثير اللَّحْم المختال فِي مَشْيه.(1/349)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي ذَر
وَاخْتلفُوا فِي اسْمه وَاسم أَبِيه، فَقَالَ قوم: جُنْدُب بن جُنَادَة بن كَعْب. وَقَالَ آخَرُونَ: جُنْدُب بن السكن. وَقَالَ بَعضهم: يزِيد بن جُنَادَة. وَقيل: يزِيد بن أشعر، وَيُقَال: يزِيد بن عشرقة. وَيُقَال: اسْمه جُنَادَة.
وَكَانَ يتعبد قبل مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدِيما، وَقَالَ: كنت خَامِسًا فِي الْإِسْلَام، وَرجع إِلَى بِلَاد قومه وَلم يقدم إِلَّا بعد الخَنْدَق.
روى عَن رَسُول الله مِائَتي حَدِيث، وأحدا وَثَمَانِينَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ.
295 - / 354 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أَنه تزَود وَحمل شنة فِيهَا مَاء حَتَّى قدم مَكَّة. الشنان: الأسقية الَّتِي قد أخلقت، وَاحِدهَا شن، وكل جلد بَال شن، وَيُقَال للقربة مِنْهَا شنة، وَهِي أَشد تبريدا للْمَاء من الجدد.(1/350)
وَقَوله: مَا أَنى للرجل. أَي: مَا آن.
ويقفوه بِمَعْنى يتبعهُ.
وَقَوله: لأصرخن بهَا: أَي بِكَلِمَة التَّوْحِيد بَين ظهرانيهم، يَعْنِي الْمُشْركين بِمَكَّة.
وَقَوله: فَثنى علينا الَّذِي قيل لَهُ: أَي أظهره لنا. وَإِنَّمَا يُقَال النثا بِتَقْدِيم النُّون فِي الشَّيْء الْقَبِيح، فَإِذا قدمت الثَّاء فَهُوَ الْكَلَام الْجَمِيل.
وَقَوله: لَا جماع لَك: أَي لَا نَجْتَمِع مَعَك.
والصرمة: الْقطعَة من الْإِبِل نَحْو الثَّلَاثِينَ.
وَقَوله: فنافر أنيس عَن صِرْمَتنَا وَعَن مثلهَا: أَي من قضى لَهُ بالغلبة أَخذ ذَلِك. وَقَالَ أَبُو عبيد: المنافرة: أَن يفتخر الرّجلَانِ كل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه ثمَّ يحكما رجلا بَينهمَا، والنافر: الْغَالِب، والمنفور: المغلوب. يُقَال: قد نفره ينفره وينفره نَفرا: إِذا غلب عَلَيْهِ.
وَقَوله: فَأتيَا الكاهن فَخير أنيسا عَلَيْهِ: أَي غَلبه وَقضى لَهُ.
وَقَوله: قد صليت قبل أَن ألْقى رَسُول الله. هَذَا إلهام الْقُلُوب الطاهرة، وَمُقْتَضى الْعُقُول السليمة، فَإِنَّهَا توفق للصَّوَاب وتلهم للرشد
وَقَوله: كَأَنِّي خَفَاء. قَالَ أَبُو عبيد: الخفاء مَمْدُود هُوَ الغطاء، وكل شَيْء غطيته بِشَيْء من كسَاء أَو ثوب فَذَلِك الغطاء خَفَاء، وَجمعه(1/351)
أخفية. قَالَ ابْن دُرَيْد: الخفاء كسَاء يطْرَح على السقاء.
وَقَوله: فَرَاثَ عَليّ: أَي أَبْطَا.
وَقَوله: وضعت قَوْله على أَقراء الشّعْر، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُرِيد أَنْوَاعه وطرقه، وَاحِدهَا قري، يُقَال هَذَا الشّعْر على قري هَذَا.
وَقَوله: فَتَضَعَّفْت رجلا: أَي رَأَيْته ضَعِيفا، فَعلمت أَنه لَا ينالني بمكروه وَلَا يرتاب مقصدي.
وَقَوله: كَأَنِّي نصب أَحْمَر: أَي قُمْت بعد أَن وَقعت كَأَنِّي لجَرَيَان دمي أحد الأنصاب: وَهِي حِجَارَة يذبحون عَلَيْهَا فتحمر بالدماء.
فَأَما زَمْزَم فَقَالَ ابْن فَارس: هُوَ من قَوْلك: زممت النَّاقة: إِذا جعلت لَهَا زماما تحبسها بِهِ، وَذَلِكَ أَن جِبْرِيل لما هزم الأَرْض بمقاديم جنَاحه فَفَاضَ المَاء زمتها هَاجر فسميت بذلك.
وَقَوله: فَمَا وجدت سخْفَة جوع. قَالَ الْأَصْمَعِي: السخفة: الخفة، وَلَا أَحسب قَوْلهم سخيف إِلَّا من هَذَا.
وَقَوله: فَبينا أهل مَكَّة. قَالَ الزّجاج: مَكَّة لَا تَنْصَرِف لِأَنَّهَا مُؤَنّثَة. وَهِي معرفَة، وَيصْلح أَن يكون اشتقاقها من قَوْلهم: امتك(1/352)
الفصيل مَا فِي ضرع النَّاقة: إِذا مص مصا شَدِيدا حَتَّى لَا يبقي فِيهِ شَيْئا، فَتكون قد سميت بذلك لشدَّة الازدحام فِيهَا.
وللعلماء فِي تَسْمِيَة مَكَّة أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: لِأَنَّهَا مثابة يؤمها الْخلق من كل فج، فَكَأَنَّهَا الَّتِي تجلب الْخلق إِلَيْهَا، من قَوْلهم: امتلك الفصيل مَا فِي ضرع النَّاقة.
وَالثَّانِي: من قَوْلك: مككت الرجل: إِذا رددت نخوته، فَكَأَنَّهَا تمك من ظلم فِيهَا: أَي تهلكه وتنقصه، وأنشدوا:
(يَا مَكَّة الْفَاجِر مكي مكا ... وَلَا تمكي مذحجا وعكا)
وَالثَّالِث: سميت بذلك لجهد أَهلهَا.
وَالرَّابِع: لقلَّة المَاء بهَا.
وَقَوله: فِي لَيْلَة قَمْرَاء. القمراء منسوبة إِلَى الْقَمَر، وَالْمعْنَى: فِي لَيْلَة كَثِيرَة الضَّوْء. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال: لَيْلَة إِضْحِيَان وإضحيانة وضحيانة: إِذا كَانَت مضيئة.
وَقَوله: ضرب على أصمختهم: الأصمخة جمع صماخ: وَهِي خرق الْأذن الْبَاطِن الَّذِي يُفْضِي إِلَى الرَّأْس، وَمِنْه يتَأَدَّى فهم المسموع إِلَى النَّفس، وَهَذَا كِنَايَة عَن النّوم المفرط، لِأَن الضَّرْب هَاهُنَا: الْمَنْع من الِاسْتِمَاع، يُقَال: ضرب فلَان على يَد فلَان: إِذا مَنعه من التَّصَرُّف فِي(1/353)
مَاله. وَقَالَ الزّجاج: يُقَال لهَذَا الْخرق الصماخ والسم والمسمع.
قلت: وَقد رَوَاهُ بعض الْمُحدثين بِالسِّين، وَهُوَ غلط، وَجَمِيع اللغويين ذَكرُوهُ بالصَّاد.
وإساف ونائلة صنمان: أَنبأَنَا أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْمحلي قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد: على بن ثَابت قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن بَشرَان قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن صَفْوَان قَالَ: حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي بشر عَن ابْن أبي نجيح إِن إسافا ونائلة رجل وَامْرَأَة حجا من الشَّام قبلهَا وهما يطوفان، قَالَ: فمسخا حجرين، وَلم يَزَالَا فِي الْمَسْجِد حَتَّى جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ فأخرجا.
قَوْله: فَمَا تناهتا: أَي مَا رجعتا عَن قَوْلهمَا.
فَقلت: هن مثل الْخَشَبَة - يَعْنِي الذّكر.
فانطلقتا تُوَلْوِلَانِ: أَي تدعوان بِالْوَيْلِ.
وقولهما: لَو كَانَ أحد من أَنْفَارنَا: أَي من قَومنَا، مَأْخُوذ من النَّفر، والنفر: مابين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة.
وقولهما: الصَّابِئ: يَعْنِي الْخَارِج من دين قومه.
وقولهما: قَالَ كلمة تملأ الْفَم: أَي كلمة عَظِيمَة. وَإِنَّمَا أشارتا إِلَى قَوْله: هن مثل الْخَشَبَة.(1/354)
وتحية الْإِسْلَام: السَّلَام.
وَإِنَّمَا كره انتسابه إِلَى غفار لِأَن هَذِه الْقَبِيلَة كَانَت تزن بِسَرِقَة الْحَاج.
وَقَوله: فقدعني صَاحبه: أَي كفني وَمَنَعَنِي. يُقَال: قدعت الرجل وأقدعته: إِذا كففته، وَمِنْه قَول الْحسن: اقدعوا هَذِه الْأَنْفس فَإِنَّهَا طلعة.
وَقَوله: " إِنَّهَا طَعَام طعم " أَي طَعَام يشْبع مِنْهُ ويكف الْجُوع.
وغبرت بِمَعْنى بقيت.
وَأما يثرب فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يثرب اسْم أَرض، ومدينة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَاحيَة مِنْهَا. وَقَالَ ابْن فَارس: يرْوى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى أَن تسمى الْمَدِينَة يثرب، وَذَلِكَ أَنه اسْم مَأْخُوذ من التثريب: وَهُوَ اللوم وتقبيح الْفِعْل فِي عين فَاعله، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم} [يُوسُف: 92] أَي: لَا لوم.
وَقَوله: " غفار غفر الله لَهَا، وَأسلم سَالَمَهَا الله " فِيهِ للْعُلَمَاء قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه دُعَاء لَهما واستغفار، وَإِنَّمَا اسْتغْفر لهاتين القبيلتين، لِأَنَّهُمَا أسلمتا طَوْعًا من غير حَرْب، وَكَانَ غفار تزن بِسَرِقَة الْحَاج، فَأحب أَن يمحو عَنْهُم تِلْكَ السبة السببة، وَأَن يعلم النَّاس أَن مَا سبق من(1/355)
ذَلِك مغْفُور بِإِسْلَامِهِمْ.
وَالثَّانِي: أَنه إِخْبَار عَن القبيلتين، فَالْمَعْنى أَن الله سُبْحَانَهُ منع من أذاهما وحربهما.
والمسالمة: الصُّلْح على ترك الْقِتَال والأذى، وَلما سالمت أسلم، فَجَاءَت طَوْعًا، فَدخلت فِيمَا دخلت فِيهِ غفار قَالَ: " أسلم سَالَمَهَا الله ".
وَفِي هَذَا دَلِيل على جَوَاز اخْتِيَار الْكَلَام المتناسب المتجانس، لِأَنَّهُ قد كَانَ يُمكن أَن يَقُول: غفار عَفا الله عَنْهَا، فَلَمَّا قَالَ: " غفر الله لَهَا ". وَقَالَ: " أسلم سَالَمَهَا الله " دلّ على اخْتِيَار ذَلِك. وَإِنَّمَا يخْتَار مثل هَذَا لِأَنَّهُ أحلى فِي السّمع.
وشنفوا لَهُ: أبغضوه ونفروا مِنْهُ. والشنف: الْمُبْغض.
وتجهموا: أَي تنكرت وُجُوههم فاستقبلوه بالمكروه، يُقَال: تجهم وَجه الرجل: إِذا كره وَعَبس.
296 - / 355 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: فرج سقف بَيْتِي وَأَنا بِمَكَّة فَنزل جِبْرِيل ... " أَي كشف وشق.
قَوْله: " ثمَّ جَاءَ بطست ". قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ عَن أبي عبيد عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ: وَمِمَّا دخل فِي كَلَام الْعَرَب الطست، وَهُوَ فَارسي مُعرب. وَقَالَ الْفراء: طَيء تَقول طست، وَغَيرهم يَقُول طس، وهم الَّذين يَقُولُونَ للص لصت، وجمعهما طسوت ولصوت عِنْدهم. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: الطس: الطست، لَكِن الطس بِالْعَرَبِيَّةِ، أَرَادَ أَنهم لما عربوه قَالُوا طس، وَيجمع طساسا(1/356)
وطسوسا. قَالَ الراجز:
(ضرب يَد اللعابة الطسوسا ... )
فَإِن قيل: الْإِيمَان وَالْحكمَة كَيفَ يملآن الطست وليسا بجسم؟
فَالْجَوَاب: أَن هَذَا ضرب مثل لينكشف بالمحس مَا هُوَ مَعْقُول.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَنه شرح صَدره لَيْلَة الْمِعْرَاج. وَقد رُوِيَ شرح صَدره فِي زمَان رضاعه عِنْد حليمة، وَهَذِه زِيَادَة تَطْهِير لمَكَان الزِّيَارَة.
وَقَول الخازن: " وَأرْسل إِلَيْهِ؟ " يحْتَمل هَذَا الِاسْتِفْهَام وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون إرْسَال مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام خَفِي عَن ذَلِك الْملك؛ لِأَن الْمَلَائِكَة مشغولون بِالْعبَادَة، حَتَّى إِن أحدهم لَا يعرف من إِلَى جَانِبه.
وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: وَأرْسل إِلَيْهِ للعروج إِلَى السَّمَاء، لِأَن بعثته استفاضت بَين الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: " عَن يَمِينه أَسْوِدَة " أَي أشخاص، وَهُوَ من السوَاد، والسواد: الشَّخْص، يُقَال: سَواد وأسودة كغراب وأغربة.
وَالنَّسَمُ جمع نسمَة: وَهِي النَّفس.
وَقَوله: حَتَّى ظَهرت: يَعْنِي عَلَوْت وَارْتَفَعت، لمستوى: وَهُوَ الْمَكَان المستوي المعتدل.
وصريف الأقلام: صَوت حركتها على المخطوط فِيهِ، فَكَأَن الْإِشَارَة(1/357)
بذلك إِلَى مَا تكتبه الْمَلَائِكَة من اللَّوْح من أقضية الله عز وَجل ووحيه.
فَإِن قيل: كَيفَ رأى آدم ومُوسَى والأنبياء وهم مدفونون فِي الأَرْض؟
فقد أجَاب عَنهُ ابْن عقيل فَقَالَ: شكل الله أَرْوَاحهم على صور أَجْسَادهم.
وجنابذ اللُّؤْلُؤ قبابه، وَاحِدهَا جنبذة: وَهِي الْقبَّة، وَقد وَقع فِي بعض النّسخ حنابل بِالْحَاء الْمُهْملَة وَبعدهَا بَاء. وَفِي نُسْخَة كَذَلِك إِلَّا أَنه بِالْجِيم الْمُعْجَمَة، وكل ذَلِك تَصْحِيف، وَالصَّحِيح جنابذ.
297 - / 356 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِن المكثرين هم المقلون يَوْم الْقِيَامَة، إِلَّا من أعْطى الله خيرا فَنفخ فِيهِ بِيَمِينِهِ وشماله ".
النفخ رمي الشَّيْء بِسُرْعَة.
والقاع: الْمَكَان السهل الَّذِي لَا ينْبت فِيهِ الشّجر، وَالْجمع القيعان.
والحرة: أَرض ذَات حِجَارَة سود.
وأرغم الله أنف فلَان: ألصقه بالرغام: وَهُوَ التُّرَاب. الْمَعْنى: وَإِن كره أَبُو ذَر ذَلِك.
فَإِن قيل: كَيفَ الْجمع بَين قَوْله: " من مَاتَ لَا يُشْرك بِاللَّه شَيْئا دخل الْجنَّة " وَبَين دُخُول الْمُوَحِّدين بِذُنُوبِهِمْ النَّار؟
فَالْجَوَاب: أَن مآلهم إِلَى الْجنَّة وَإِن دخلُوا النَّار.
298 - / 357 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أذن مُؤذن رَسُول الله الظّهْر،(1/358)
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " أبرد، أبرد " أَو قَالَ: " انْتظر، انْتظر " وَقَالَ: " إِن شدَّة الْحر من فيح جَهَنَّم "
الْإِبْرَاد: انكسار وهج الْحر وتوقده، وَذَلِكَ أَن فتور الْحر بِالْإِضَافَة إِلَى شدته برد. وفيح جَهَنَّم: التهابها وغليانها، وَهَذَا رفق بالماشي إِلَى الصَّلَاة، إِمَّا ليمشي فِي الْفَيْء، أَو لينتبه من قائلته، أَو لَهما. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي مُوسَى: " من صلى البردين دخل الْجنَّة " يَعْنِي الْفجْر وَالْعصر، لِأَنَّهَا يصليان فِي برد النَّهَار.
299 - / 359 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: كنت مَعَ رَسُول الله عِنْد غرُوب الشَّمْس فَقَالَ: " أَتَدْرِي أَيْن تذْهب الشَّمْس؟ " فَقلت: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: " تذْهب تسْجد تَحت الْعَرْش ".
رُبمَا أشكل الْأَمر فِي هَذَا الحَدِيث على من لم يتبحر فِي الْعلم، فَقَالَ: نَحن نرَاهَا تغيب فِي الأَرْض، وَقد أخبر الْقُرْآن أَنَّهَا تغيب فِي عين حمئة، فَإِذا دارت تَحت الأَرْض وصعدت، فَأَيْنَ هِيَ من الْعَرْش؟
فَالْجَوَاب: إِن الْأَرْضين السَّبع فِي ضرب الْمِثَال كقطب رَحا، وَالْعرش لعظم ذَاته كالرحى، فَأَيْنَ سجدت الشَّمْس سجدت تَحت الْعَرْش، وَذَلِكَ مستقرها.
300 - / 360 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: قَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: كنت أَقرَأ على أبي فِي السدة، فَإِذا قَرَأَ السَّجْدَة سجد.(1/359)
قَالَ أَبُو عبيد: السدة: الظلة تكون بِبَاب الدَّار، وَمِنْه: من يغش سدد السُّلْطَان يقم وَيقْعد. وَكَانَ عُرْوَة بن الْمُغيرَة يُصَلِّي فِي السدة، وسدة الْمَسْجِد، وَسمي إِسْمَاعِيل السّديّ لِأَنَّهُ كَانَ يَبِيع الْخمر فِي سدة الْمَسْجِد، وَمِنْهُم من يَجْعَل السدة الْبَاب.
فَأَما سُجُوده فِي السدة المضافة إِلَى الْمَسْجِد فَجَائِز لِأَنَّهُ بقارعة الطَّرِيق، وَسُجُود هَذَا الرجل مَحْمُول على أَنه قد كَانَ يَأْمر ابْنه عِنْد الْقِرَاءَة بِالسُّجُود ثمَّ يتبعهُ، لإنه إِنَّمَا يسن سُجُود السَّامع إِذا سجد الْقَارئ.
وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى: بَيت الْمُقَدّس. وَإِنَّمَا قيل الْأَقْصَى لبعد الْمسَافَة بَينه وَبَين الْكَعْبَة. وَقيل: إِنَّه لم يكن وَرَاءه مَوضِع عبَادَة.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: " بَينهمَا أَرْبَعُونَ عَاما "، وَإِنَّمَا بنى الْكَعْبَة إِبْرَاهِيم، وَبنى بَيت الْمُقَدّس سُلَيْمَان وَبَينهمَا أَكثر من ألف سنة؟
فَالْجَوَاب: أَن الْإِشَارَة إِلَى أول الْبناء وَوضع أساس المسجدين، وَلَيْسَ أول من بنى الْكَعْبَة إِبْرَاهِيم، وَلَا أول من بني بَيت الْمُقَدّس سُلَيْمَان، وَفِي الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ والبانين كَثْرَة، فَالله أعلم بِمن ابْتَدَأَ. وَقد روينَا أَن أول من بنى الْكَعْبَة آدم، ثمَّ انْتَشَر وَلَده فِي الأَرْض، فَجَائِز أَن يكون بَعضهم قد وضع بَيت الْمُقَدّس.
301 - / 361 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: قَالَ أَبُو ذَر: بشر الكانزين(1/360)
برضف يحمى عَلَيْهِ فِي نَار جَهَنَّم فَيُوضَع على حلمة ثدي أحدهم حَتَّى يخرج من نغض كَتفيهِ.
قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الرضف جمع رضفة: وَهِي حِجَارَة تحمى بالنَّار.
والناغض: قرع الْكَتف، قيل لَهُ ناغض، لِأَنَّهُ يَتَحَرَّك إِذا حرك الرجل يَده أَو عدا. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ نغض الْكَتف: الشاخص، وأصل النغض الْحَرَكَة، وَسمي ذَلِك الْموضع من الْكَتف نغضا لِأَنَّهُ يَتَحَرَّك من الْإِنْسَان فِي مَشْيه وتصرفه، ويتزلزل يَتَحَرَّك بانزعاج ومشقة.
ويعتريهم: يقصدهم ويغشاهم.
قَوْله: فَإِذا كَانَ الْعَطاء ثمنا لدينك فَدَعْهُ. الْمَعْنى: إِذا لم يعطوك إِلَّا أَن تسكت عَن إِنْكَار منكرهم كَانَ كالرشوة، فَدَعْهُ.
وَقَوله: " أرصده لدين " أَي أعده لَهُ. وَكَيف يظنّ برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يدّخر المَال وَهُوَ يعلم كَثْرَة المحتاجين إِلَيْهِ، مَعَ أَن طبعه الْكَرم وسجيته الزّهْد.
302 - / 362 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: رَأَيْت أَبَا ذَر وَعَلِيهِ حلَّة وعَلى غُلَامه مثلهَا، فَسَأَلته عَن ذَلِك، فَذكر أَنه سَاب رجلا على عهد رَسُول الله فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ.(1/361)
قد بَينا فِيمَا تقدم أَن الْحلَّة لَا تكون إِلَّا ثَوْبَيْنِ.
وَقَوله: فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، قَالَ لنا ابْن الخشاب: الفصيح: عيرت فلَانا أمه، وَقد جَاءَ فِي شعر عدي بن زيد:
(أَيهَا الشامت الْمُعير بالدهر ... ... ... )
وَاعْتَذَرُوا عَنهُ فَقَالُوا: إِنَّه كَانَ عباديا وَلم يكن فصيحا.
وَقَوله: " إِنَّك امْرُؤ " أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا أَبُو طَاهِر بن سوار قَالَ: أخبرنَا ابْن رزمة قَالَ: أخبرنَا أَبُو سعيد السيرافي قَالَ: أخبرنَا ابْن مُجَاهِد قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن الجهم قَالَ: قَالَ الْفراء: أهل الْحجاز وَأسد وَأهل الْعَالِيَة من قيس يَقُولُونَ: الْمَرْء وَالْمَرْأَة فيسكنون الرَّاء ويهمزون، فَإِذا لم يكن فِيهِ ألف وَلَام قَالُوا: امْرُؤ وَامْرَأَة. وَبَعض قيس يَقُولُونَ: الامرؤ الصَّالح، والامرأة الصَّالِحَة، وَرُبمَا قَالُوا هَذَا مرء صَالح، ومرأة صَالِحَة، وَمن الْعَرَب من يَقُول: هَذَا مرؤ صَالح، فيرفع الْمِيم فِي مَوضِع الرّفْع، ويخفضها فِي مَوضِع الْخَفْض، وينصبها فِي مَوضِع النصب.
وَقَوله: " فِيك جَاهِلِيَّة " الْمَعْنى: قد بَقِي فِيك من أَخْلَاق الْقَوْم، لِأَن من أَخْلَاقهم عُقُوبَة من لم يجن، والشريعة لَا تَقْتَضِي ذمّ شخص(1/362)
بِفعل غَيره، وَإِنَّمَا ينشأ هَذَا من الْكبر، فتواضع أَبُو ذَر بعد ذَلِك حَتَّى سَاوَى غُلَامه.
والخول: الخدم والتبع.
وَقَوله: " فَإِن كلفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ " أَي مَا يعجزون عَن الْقيام بِهِ.
303 - / 363 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: انْتَهَيْت إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَلَست، فَلم أتقار أَن قُمْت.
قَوْله: فَلم أتقار: أَي لم أتمكن من الِاسْتِقْرَار.
والأظلاف جمع ظلف، والظلف للبقر كالظفر للْإنْسَان، والحافر للْفرس.
ونفدت: فرغت وانتهت. وَالْإِشَارَة إِلَى من لم يخرج زَكَاتهَا.
304 - / 364 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " لَيْسَ من رجل ادّعى إِلَى غير أَبِيه وَهُوَ يُعلمهُ إِلَّا كفر ".
الادعاء إِلَيّ غير الْأَب مَعَ الْعلم حرَام، فَمن اعْتقد إِبَاحَة ذَلِك كفر، لمُخَالفَته الْإِجْمَاع، فَخرج عَن الْإِسْلَام، وَمن لم يفعل ذَلِك مُعْتَقدًا فَفِي معنى كفره وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه قد أشبه فعله فعل الْكفَّار. وَالثَّانِي: أَنه كَافِر للنعمة.
وَقَوله: " لَيْسَ منا " إِن اعْتقد جَوَاز ذَلِك خرج من الْإِسْلَام، وَإِن لم يعْتَقد فَالْمَعْنى: لم يتخلق بأخلاقنا.
وَقَوله: " فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " لَفظه الْأَمر وَمَعْنَاهُ الْخَبَر،(1/363)
وَالْمَقْصُود: فقد اتخذ مقْعدا من النَّار.
وَمن دَعَا رجلا بالْكفْر وَلَيْسَ كَذَلِك كَانَ هُوَ الْكَافِر، لاعْتِقَاده فِي مُسلم أَنه كَافِر.
وحار بِمَعْنى انْقَلب. وَإِذا لم تنْقَلب هَذِه الْأَشْيَاء عَلَيْهِ انْقَلب إثمها.
305 - / 365 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " أَي الرّقاب أفضل؟ " قَالَ: " أَنْفسهَا عِنْد أَهلهَا وأكثرها ثمنا ".
الْأَنْفس: الْأَفْضَل، وَلذَلِك يغلو ثمنه، فزيد الثَّوَاب لذَلِك.
وَقَوله: " تعين ضائعا " أَي ذَا ضيَاع من فقر أَو عِيَال أَو حَالَة قصر عَن الْقيام بهَا. قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا هُوَ الَّذِي فِي الحَدِيث، وَيحْتَمل: صانعا بالنُّون.
وَقَوله: " أَو تصنع لأخرق " وَهُوَ الَّذِي قد تحير ودهش، فِيمَا يرومه.
وَقَوله: " فَإِنَّهَا صَدَقَة مِنْك على نَفسك " وَذَاكَ أَنه إِذا كف عَن الشَّرّ. نجى النَّفس من الْإِثْم فَتصدق عَلَيْهَا بالسلامة.
306 - / 367 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَخذ مضجعه من اللَّيْل قَالَ: " بِاسْمِك اللَّهُمَّ أَمُوت وَأَحْيَا ".(1/364)
ذكر الِاسْم صلَة فِي الْكَلَام، فَهُوَ كَقَوْلِه: {سبح اسْم رَبك} [الْأَعْلَى: 1] وَالْمعْنَى: بل أَمُوت وَأَحْيَا بإرادتك وقدرتك.
وَقَوله: " أَحْيَانًا بَعْدَمَا أماتنا " يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون الْمشَار إِلَيْهِ بداية الْخلق وَهِي النُّطْفَة، فَإِنَّهَا كَانَت خَالِيَة عَن روح. وَالثَّانِي: أَن تكون الْإِشَارَة إِلَى النّوم، فَشبه بِالْمَوْتِ تجوزا لتعطيل أَفعَال الْحس.
والنشور: الْبَعْث.
307 - / 368 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
عَن أبي ذَر قَالَ: كَانَت الْمُتْعَة فِي الْحَج لأَصْحَاب مُحَمَّد خَاصَّة. وَفِي رِوَايَة: لَا تصلح المتعتان إِلَّا لنا خَاصَّة - يَعْنِي مُتْعَة النِّسَاء ومتعة الْحَج.
هَذَا ظن من أبي ذَر، وَلَيْسَ كَذَلِك. فَأَما مُتْعَة النِّسَاء فلولا أَنَّهَا نسخت لبقي حكمهَا، وَقد سبق ذكرهَا ونسخها. وَأما مُتْعَة الْحَج فَحكمهَا بَاقٍ، وَقد بَينا أَنه الْأَفْضَل عِنْد جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وفقهاء الْأَمْصَار.
308 - / 369 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله: المسبل، والمنان، والمنفق سلْعَته بِالْحلف الْكَاذِب ".(1/365)
المسبل: يُرِيد بِهِ إسبال الْإِزَار على وَجه الْخُيَلَاء. والمنان: يَعْنِي بِالصَّدَقَةِ وَفعل الْخَيْر. والمنفق سلْعَته بِالْحلف: وَهُوَ أَن يحلف: لقد أَعْطَيْت بهَا كَذَا، وَمَا أعطي، لتنفق.
309 - / 371 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " من تقرب مني شبْرًا تقربت مِنْهُ ذِرَاعا ".
الشبر: قدر فتح الْأَصَابِع الْخمس: والذراع: قدر طول الذِّرَاع إِلَى رُؤُوس الْأَصَابِع. والباع: قدر امتداد الْيَدَيْنِ. والهرولة: الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي. وَهَذِه كلهَا أَمْثِلَة، وَالْمعْنَى: إِنِّي أربح معاملي، وأتفضل على مطيعي.
وقراب الأَرْض: مَا يُقَارب ملؤُهَا.
310 - / 372 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " يصبح على كل سلامى من أحدكُم صَدَقَة ".
السلامى: على وزن " فعالى " وَرُبمَا شدده أَحْدَاث طلبة الحَدِيث لقلَّة علمهمْ، وَجَمعهَا سلاميات بِفَتْح الْمِيم وَتَخْفِيف الْيَاء. قَالَ أَبُو عبيد: السلامى فِي الأَصْل عظم يكون فِي فرسن الْبَعِير، وَيُقَال إِن آخر مَا يبْقى فِيهِ المخ من الْبَعِير إِذا عجف فِي السلامى وَالْعين، فَإِذا ذهب(1/366)
مِنْهُمَا لم يكن لَهُ بَقِيَّة بعد، قَالَ الراجز:
(لَا يشتكين عملا مَا أنقين ... )
(مَا دَامَ مخ فِي سلامى أَو عين ... )
فَكَأَن معنى الحَدِيث: على كل عظم من عِظَام ابْن آدم صَدَقَة، لِأَنَّهُ إِذا أصبح الْعُضْو سليما فَيَنْبَغِي أَن يشْكر، وَيكون شكره بِالصَّدَقَةِ، فالتسبيح والتحميد وَمَا ذكره يجْرِي مجْرى الصَّدَقَة عَن الشاكر.
وَقَوله: " وَيُجزئ من ذَلِك رَكْعَتَانِ يركعهما من الضُّحَى " لِأَن الضُّحَى من الصَّباح، وَإِنَّمَا قَامَت الركعتان مقَام ذَلِك لِأَن جَمِيع الْأَعْضَاء تتحرك فِيهَا بِالْقيامِ وَالْقعُود فَيكون ذَلِك شكرها.
311 - / 373 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " عرضت عَليّ أَعمال أمتِي، فَوجدت فِي محَاسِن أَعمالهَا الْأَذَى يماط عَن الطَّرِيق، وَوجدت فِي مساوئ أَعمالهَا النخاعة تكون فِي الْمَسْجِد لَا تدفن "
يماط بِمَعْنى ينحى.
والنخاعة والنخامة والبصاق بِمَعْنى، إِلَّا أَن البصاق من أدنى الْفَم، والنخاعة من أقْصَى الْفَم، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذ من النخاع.(1/367)
312 - / 374 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ ".
الدُّثُور جمع دثر: وَهُوَ المَال الْكثير.
وَهَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن شكوى الْفُقَرَاء وغبطتهم للأغنياء، كَيفَ ينالون الْأجر بِالصَّدَقَةِ، وهم لَا يقدرُونَ، فَأخْبرهُم أَنهم يثابون على تسبيحهم وتحميدهم وأفعالهم الْخَيْر كَمَا يُثَاب أُولَئِكَ على الصَّدَقَة.
وَقَوله: " وَفِي بضع أحدكُم " الْبضْع: الْفرج، فَكَأَنَّهُ يَقُول: فِي وَطْء الرجل زَوجته صَدَقَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يعفها وَنَفسه.
313 - / 375 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " كَمَا ينقص الْمخيط إِذا دخل الْبَحْر ".
الْمخيط والخياط اسْم للإبرة.
314 - / 376 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " يقرءُون الْقُرْآن لَا يُجَاوز حلاقيمهم ".
الحلاقيم جمع حلقوم: وَهُوَ مجْرى النَّفس لَا غير، ومبدؤه من أقْصَى الْفَم، فَأَما الَّذِي يجْرِي فِيهِ الطَّعَام فَهُوَ مركب خلف الْحُلْقُوم يُقَال لَهُ المريء.
والرمية: اسْم للمرمي.
وَقد فسروا قَوْله: " هم شَرّ الْخلق " فَقَالُوا: الْخلق: النَّاس: " والخليقة ": الدَّوَابّ والبهائم.(1/368)
315 - / 377 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " إِذا قَامَ أحدكُم يُصَلِّي فَإِنَّهُ يستره مثل آخِرَة الرحل، فَإِذا لم يكن بَين يَدَيْهِ مثل آخِرَة الرحل فَإِنَّهُ يقطع صلَاته الْحمار وَالْمَرْأَة وَالْكَلب الْأسود " قيل لأبي ذَر: مَا بَال الْأسود من الْأَحْمَر والأصفر؟ فَقَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " الْكَلْب الْأسود شَيْطَان ".
آخِرَة الرحل: مؤخرة، فَإِن لم يكن بَين يَدي الْمصلى ستْرَة فَخط بَين يَدَيْهِ خطا قَامَ مقَام الستْرَة، فَإِن لم يفعل ذَلِك وَمر بَين يَدَيْهِ كلب أسود بهيم، وَهُوَ الَّذِي جَمِيعه أسود، فَإِنَّهُ يقطع صلَاته، وَهَذَا مَذْهَب الْحسن وَمُجاهد وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَطَاوُس وَمَكْحُول وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يقطع. فَأَما الْحمار وَالْمَرْأَة ففيهما عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، والْحَدِيث صَرِيح فِي الْقطع، وَسَيَأْتِي فِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مثل حَدِيث أبي ذَر.
316 - / 378 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " أَوْصَانِي خليلي أَن أسمع وَأطِيع وَإِن كَانَ عبدا مجدع الْأَطْرَاف ".
أَي مَقْطُوع الْأَطْرَاف: وَأكْثر مَا يسْتَعْمل الجدع فِي الْأنف وَالْأُذن، وهما من أَطْرَاف الْإِنْسَان.(1/369)
317 - / 379 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " آنِية الْحَوْض أَكثر من عدد نُجُوم السَّمَاء وكواكبها فِي اللَّيْلَة الظلماء المصحية ".
والمصحية: الَّتِي ذهب غيمها، وَإِنَّمَا قَالَ الْمظْلمَة لِأَن ظلمتها مَعَ الصحو أبين للنجوم.
وَقَوله: " لم يظمأ " الظمأ: الْعَطش، مَهْمُوز مَقْصُور، وَالْمعْنَى لم يعطش " آخر مَا عَلَيْهِ " يَعْنِي أبدا.
وَقَوله: " يشخب " الشخب: مَا امْتَدَّ من اللَّبن حِين يحلب، وشخبت أوداج الْقَتِيل دَمًا.
وَقَوله: " عرضه مَا بَين عمان " الَّذين سمعناه وحفظناه من الْمُحدثين " عمان " بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْمِيم، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: الْمِيم خَفِيفَة.
318 - / 380 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " إِن أحب الْكَلَام إِلَى الله سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ ".
قَالَ الزّجاج: لَا اخْتِلَاف بَين أهل اللُّغَة أَن التَّسْبِيح هُوَ التَّنْزِيه لله عز وَجل عَن كل سوء. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: معنى سُبْحَانَ الله: تَنْزِيه لَهُ من الْأَوْلَاد والصاحبة والشركاء.
وَقَوله: " وَبِحَمْدِهِ " أَي وَبِحَمْدِهِ نبتدئ ونفتتح، فَحذف الْفِعْل(1/370)
لدلَالَة الْمَعْنى عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ عز وَجل: {فَأَجْمعُوا أَمركُم وشركاءكم} [يُونُس: 71] مَعْنَاهُ: وَادعوا شركاءكم. وَقَالَ الزّجاج: الْمَعْنى: وَبِحَمْدِهِ سبحته.
319 - / 381 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: أَرَأَيْت الرجل يعْمل الْخَيْر وَيَحْمَدهُ النَّاس؟ قَالَ: " تِلْكَ عَاجل بشرى الْمُؤمن ".
وَالْمعْنَى أَن الله تَعَالَى إِذا تقبل الْعَمَل أوقع فِي الْقُلُوب قبُول الْعَامِل ومدحه، فَيكون مَا أوقع فِي الْقُلُوب مبشرا بِالْقبُولِ، كَمَا أَنه إِذا أحب عبدا حببه إِلَى خلقه، وهم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض.
320 - / 383 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " لَا تحقرن من الْمَعْرُوف شَيْئا وَلَو أَن تلقى أَخَاك بِوَجْه طليق ".
أَي منطلق، وَهُوَ ضد العبوس، قَالَ جرير: مَا رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا تَبَسم وَهَذَا من الْمَعْرُوف، لِأَن الْإِنْسَان ينْتَفع بذلك كَمَا ينْتَفع بِسَائِر الْمَعْرُوف.
321 - / 384 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل رَأَيْت رَبك؟ فَقَالَ: " نور، أَنى اراه ".
ذكر أَبُو بكر الْخلال فِي كتاب " الْعِلَل " عَن أَحْمد بن حَنْبَل أَنه(1/371)
سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: مَا زلت مُنْكرا لهَذَا الحَدِيث وَمَا أَدْرِي مَا وَجهه. وَذكر أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْحَق بن خُزَيْمَة فِي هَذَا الحَدِيث تضعيفا فَقَالَ: فِي الْقلب من صِحَة سَنَد هَذَا الْخَبَر شَيْء، لم أر أحدا من عُلَمَاء الْأَثر فطن لعِلَّة فِي إِسْنَاده، فَإِن عبد الله بن شَقِيق كَأَنَّهُ لم يكن يثبت أَبَا ذَر وَلَا يعرفهُ بِعَيْنِه واسْمه وَنسبه، لِأَن أَبَا مُوسَى مُحَمَّد ابْن الْمثنى حَدثنَا قَالَ: حَدثنَا معَاذ بن هِشَام قَالَ: حَدثنِي أبي عَن قَتَادَة عَن عبد الله بن شَقِيق قَالَ: أتيت الْمَدِينَة، فَإِذا رجل قَائِم على غَرَائِر سود يَقُول: أَلا ليبشر أَصْحَاب الْكُنُوز بكي فِي الجباه والجنوب فَقَالُوا: هَذَا أَبُو ذَر، فَكَأَنَّهُ لَا يُثبتهُ وَلَا يعلم أَنه أَبُو ذَر. وَقَالَ ابْن عقيل: قد أجمعنا على أَنه لَيْسَ بِنور، وخطأنا الْمَجُوس فِي قَوْلهم: هُوَ نور. فإثباته نورا مَجُوسِيَّة مَحْضَة، والأنوار أجسام. والبارئ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ بجسم، وَالْمرَاد بِهَذَا الحَدِيث: " حجابه النُّور " وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي حَدِيث أبي مُوسَى، فَالْمَعْنى: كَيفَ أرَاهُ وحجابه النُّور، فَأَقَامَ الْمُضَاف مقَام الْمُضَاف إِلَيْهِ.
قلت: من ثَبت رُؤْيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربه عز وَجل فَإِنَّمَا ثَبت كَونهَا لَيْلَة الْمِعْرَاج، وَأَبُو ذَر أسلم بِمَكَّة قَدِيما قبل الْمِعْرَاج بِسنتَيْنِ ثمَّ رَجَعَ(1/372)
إِلَى بِلَاد قومه فَأَقَامَ بهَا حَتَّى مَضَت بدر وَأحد وَالْخَنْدَق، ثمَّ قدم الْمَدِينَة، فَيحْتَمل أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين إِسْلَامه: هَل رَأَيْت رَبك، وَمَا كَانَ قد عرج بِهِ بعد، فَقَالَ: " نور، أَنى أرَاهُ؟ " أَي أَن النُّور يمْنَع من رُؤْيَته، وَقد قَالَ بعد الْمِعْرَاج فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ ابْن عَبَّاس: " رَأَيْت رَبِّي ".
322 - / 385 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " إِنَّهَا أَمَانَة ".
يَعْنِي الْإِمَارَة وَالْولَايَة، وَلما رَآهُ ضَعِيفا حسن تحذيره، لِأَن الضعْف يعجز عَمَّا يجب عَلَيْهِ من الِاحْتِيَاط.
وَقَوله: " لَا تولين مَال يَتِيم " الْيَتِيم: من مَاتَ أَبوهُ وَهُوَ صَغِير. قَالَ الْأَصْمَعِي: الْيُتْم فِي النَّاس من قبل الْأَب، وَفِي غير النَّاس من قبل الْأُم. وَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: قَالَ ثَعْلَب: الْيُتْم مَعْنَاهُ فِي كَلَام الْعَرَب الِانْفِرَاد، فَمَعْنَى يَتِيم مُنْفَرد عَن أَبِيه. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: إِذا بلغ الصَّبِي ذهب عَنهُ اسْم الْيَتِيم، وكل مُنْفَرد عِنْد الْعَرَب تييم. قَالَ: وَقيل: أصل الْيُتْم الْغَفْلَة، وَبِه سمي الْيَتِيم لِأَن يتغافل عَن بره. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: الْيُتْم: الإبطاء، وَمِنْه أَخذ الْيُتْم لِأَن الْبر يبطأ عَنهُ.
323 - / 386 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: " ستفتحون مصر، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خيرا؛ فَإِن لَهُم ذمَّة ورحما ".(1/373)
أخبرنَا إِسْمَاعِيل بن أَحْمد السَّمرقَنْدِي قَالَ: أخبرنَا عمر بن عبيد الله الْبَقَّال قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحُسَيْن بن بَشرَان قَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن أَحْمد الدقاق قَالَ: حَدثنَا حَنْبَل قَالَ: حَدثنِي أَبُو عبد الله - يَعْنِي أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان - وَسُئِلَ عَن قَوْله: " فَإِن لَهُم ذمَّة ورحما " قَالَ: من النَّاس من يَقُول: هَاجر كَانَت قبطية وَهِي أم إِسْمَاعِيل، وَمن النَّاس من يَقُول: كَانَت مَارِيَة أم إِبْرَاهِيم قبطية.
قَوْله: " فَإِذا رَأَيْت رجلَيْنِ يختصمان فِي مَوضِع لبنة فَاخْرُج " الْإِشَارَة إِلَى كَثْرَة النَّاس فِيهَا وازدحامهم.(1/374)
كشف الْمُشكل من مُسْند حُذَيْفَة بن الْيَمَان
واليمان من أجداده فنسب إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ حُذَيْفَة بن حسيل بن جَابر ابْن ربيعَة بن عَمْرو بن جروة - وَهُوَ الْيَمَان، فَكَانَ جروة قد أصَاب دَمًا فِي قومه، فهرب إِلَى الْمَدِينَة فحالف بني عبد الْأَشْهَل، فَسَماهُ قومه الْيَمَان لِأَنَّهُ حَالف اليمانية. وَقيل: بل الْيَمَان اسْم الحسيل.
روى حُذَيْفَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيثا كثيرا، إِلَّا أَنه أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا.
324 - / 387 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " لَا تلبسوا الْحَرِير وَلَا الديباج ".
قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الديباج أعجمي مُعرب، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب، قَالَ مَالك بن نُوَيْرَة:
(وَلَا ثِيَاب من الديباج نلبسها ... هِيَ الْجِيَاد، وَمَا فِي النَّفس من دبب)(1/375)
الدبب: الْعَيْب.
وَيجمع على ديباج ودبابيج، على أَن تجْعَل أَصله مشددا. وأصل الديباج بِالْفَارِسِيَّةِ ديوباف أَي نساجة الْجِنّ.
وَقَوله: " وَلَا يَأْكُلُون فِي صحافها " الصحاف جمع صَحْفَة: وَهِي الْقَصعَة.
325 - / 389 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " قتنة الرجل فِي أَهله وَمَاله ... ".
الْفِتْنَة فِي الأَصْل الاختبار، يُقَال: فتنت الذَّهَب فِي النَّار: إِذا أدخلته إِيَّاهَا لتعلم جودته من رداءته، وَالْمرَاد بالفتنة فِي الْأَهْل وَالْمَال: مَا يَقع من الزلل والذنُوب.
وَقَوله: كموج الْبَحْر - يَعْنِي الْفِتْنَة الْعَامَّة الْعَظِيمَة.
وَقَوله: تكسر، إِشَارَة إِلَى محيي الفنتة بِشدَّة وَقتل.
وَقد بَين فِي الحَدِيث أَن المُرَاد بِالْبَابِ عمر وَقَتله.
وَأَحْرَى بِمَعْنى أَجْدَر وأخلق.
وَقَوله: لَيْسَ بالأغاليط - أَي لَيْسَ مِمَّا يغلط فِيهِ أَو يشكل.
326 - / 390 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " أحصوا لي كم يلفظ بِالْإِسْلَامِ " فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، أتخاف علينا وَنحن مَا بَين الستمائة إِلَى السبعمائة. قَالَ: " إِنَّكُم لَا تَدْرُونَ، لَعَلَّكُمْ أَن تبتلوا " فابتلينا حَتَّى جعل الرجل منا لَا يُصَلِّي إِلَّا سرا.(1/376)
ظَاهر هَذَا الحَدِيث يدل على أَن حُذَيْفَة أسلم بِمَكَّة، لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء إِنَّمَا جرت بِمَكَّة لَا بِالْمَدِينَةِ. وَإِنَّمَا يَقع الِابْتِلَاء للْمُؤْمِنين بقهر الْكَافرين لَهُم مَعَ قدرَة المعبود سُبْحَانَهُ على النَّصْر ليسلموا لأفعاله وليصبروا على قَضَائِهِ.
327 - / 391 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ من اللَّيْل يشوص فَاه بِالسِّوَاكِ.
قَالَ أَبُو عبيد: الشوص: الْغسْل، وكل شَيْء غسلته فقد شصته تشوصه شوصا، وَكَذَلِكَ مصته أموصه موصا.
والسواك مَا يستاك بِهِ، وَهُوَ مكسور السِّين، الِاسْم وَالْفِعْل.
328 - / 392 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: كنت مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَانْتهى إِلَى سباطة قوم فَبَال قَائِما.
السباطة: ملقى التُّرَاب والقمام وَنَحْو ذَلِك، تكون بأفنية الْبيُوت مرفقا للنَّاس، وَتَكون فِي الْغَالِب سهلة لَا يرْتَد مِنْهَا الرشاش على البائل.
وَقَوله: فانتبذت: أَي تنحيت.
والعقب: مُؤخر الْقدَم.
فَإِن قيل: كَيفَ بَال قَائِما وَقد نهى عَن ذَلِك؟(1/377)
فَالْجَوَاب من أوجه:
أَحدهَا: أَنه قد قيل إِنَّه مَنْسُوخ بنهيه بعد ذَلِك عَن الْبَوْل قَائِما.
وَالثَّانِي: أَنه كَانَ لمَرض مَنعه الْقعُود، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: بَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِما من جرح كَانَ بمأبضه. وَقَالَ الزّجاج: المأبض: بَاطِن الرّكْبَة.
وَالثَّالِث: أَنه استشفى بذلك من مرض كَانَ بِهِ. قَالَ الشَّافِعِي: كَانَت الْعَرَب تستشفي لوجع الصلب بالبول قَائِما.
وَالرَّابِع: أَنه يحْتَمل أَن يكون الْبَوْل أعجله وَلم يجد سوى ذَلِك الْمَكَان، وَلم يتَمَكَّن من الْقعُود لِكَثْرَة الأنجاس فِيهِ.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ لِحُذَيْفَة: " ادن " وَكَانَ إِذا أَرَادَ الْخَلَاء أبعد؟ فَالْجَوَاب أَن السباطة تكون فِي الأفنية، فَأَرَادَ أَن يسْتَتر بِهِ من النَّاس.
وَفِي رِوَايَة: كَانَ أَبُو مُوسَى يشدد فِي الْبَوْل، ويبول فِي قَارُورَة، فأورد حُذَيْفَة هَذَا الحَدِيث ليسهل الْأَمر عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا كَانَ تَشْدِيد أبي مُوسَى لِأَنَّهُ قد سمع التحذير من الأنجاس، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي القبرين: " إِنَّمَا ليعذبان، وَمَا يعذبان فِي كَبِير، كَانَ أَحدهمَا لَا يسْتَتر فِي بَوْله ". ولعمري إِن الِاحْتِرَاز حسن، لكنه يَنْبَغِي أَن يكون بِمِقْدَار. وَقد رَأينَا فِي زَمَاننَا من يشدد فِي هَذَا تشديدا يعود بضد(1/378)
الْمَقْصُود، فَرَأَيْنَا جمَاعَة إِذا بَال أحدهم يقوم وَيَمْشي، وَيَتَنَحْنَح، ويحط رجلا وَيرْفَع أُخْرَى، ويطيل ذَلِك الْفِعْل، فَيَعُود الْبَوْل الَّذِي قد تماسك قاطرا، فَكَأَنَّهُ استحلبه بذلك الْفِعْل، وَهَذَا لِأَن الْبَوْل يرشح فِي المثانة دَائِما، وعَلى فَم المثانة عضلة تشدها وتمنع جَرَيَان الْبَوْل، فَإِذا فعل مَا ذكرنَا حرك العضلة وَفتحهَا، فيجتمع فِي تِلْكَ المديدة قطرات، فتأتي، وَهَذَا يتَّصل، وَرُبمَا ضعفت العضلة بِهَذَا الْفِعْل وتجدد سَلس الْبَوْل، وَهَذَا من وساوس إِبْلِيس وَلَيْسَ من الشَّرِيعَة، بل يَنْبَغِي للْإنْسَان إِذا بَال وَانْقطع جَرَيَان الْبَوْل أَن يحتلب بَقِيَّة الْبَوْل بإصبعي يَده الْيُسْرَى من أصل الذّكر إِلَى رَأسه، ثمَّ ينثر الذّكر ثَلَاثًا وَيصب المَاء.
329 - / 393 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " ليردن حَوْضِي أَقوام ثمَّ يختلجون دوني ".
وَهَذَا ذَكرْنَاهُ، وَقد شرحناه فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
330 - / 394 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: حَدثنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حديثين، قد رَأَيْت أَحدهمَا، وَأَنا أنْتَظر الآخر. حَدثنَا أَن الْأَمَانَة نزلت فِي جذر قُلُوب الرِّجَال. ثمَّ حَدثنَا عَن رفع الْأَمَانَة، قَالَ: " ينَام الرجل نومَة فتقبض الْأَمَانَة من قلبه فيظل أَثَرهَا مثل أثر الوكت، ثمَّ ينَام النومة فتقبض الْأَمَانَة من قلبه فيظل أَثَرهَا مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْء - ثمَّ أَخذ حَصى فدحرجه على رجله - فَلَا يكَاد أحد يُؤَدِّي الْأَمَانَة حَتَّى يُقَال للرجل: مَا أجلده، مَا(1/379)
أظرفه، وَمَا فِي قلبه مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل من إِيمَان ".
الجذر: الأَصْل، وَمِنْه جذر الْحساب، كَقَوْلِك: عشرَة فِي عشرَة مائَة، فالعشرة جذر الْمِائَة أَي أَصْلهَا الَّذِي يقوم مِنْهُ هَذَا الْعدَد. وَقَالَ أَبُو عبيد: الجذر: الأَصْل من كل شَيْء - بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا.
والوكت: أثر الشَّيْء الْيَسِير، وَمِنْه: بسر موكت بِكَسْر الْكَاف: إِذا بدا فِيهِ شَيْء من الإرطاب.
والمجل: أثر الْعَمَل فِي الْكَفّ، يُقَال: مجلت يَده ومجلت، لُغَتَانِ.
وَقَوله: فتراه منتبرا: أَي منتفطاً، يَعْنِي ارْتِفَاع الْجلد وَلَا شَيْء تَحْتَهُ.
وَقَوله: " فَلَا يكَاد أحد يُؤَدِّي الْأَمَانَة " أَي يقل من يُؤَدِّيهَا. ويكاد بِمَعْنى يُقَارب.
وَقَوله: مَا أجلده: أَي مَا أقواه.
وَقَوله: مَا أظرفه. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: النَّاس يعنون بقَوْلهمْ فلَان ظريف أَنه حسن اللبَاس لبقه، ويخصونه بذلك، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا الظّرْف فِي اللِّسَان والجسم. أخْبرت عَن الْحسن بن عَليّ عَن الخزاز عَن أبي عمر عَن ثَعْلَب قَالَ: الظريف يكون حسن الْوَجْه وَحسن اللِّسَان، الظّرْف فِي الْمنطق والجسم، وَلَا يكون(1/380)
فِي اللبَاس. وَقَالَ عمر: إِذا كَانَ اللص ظريفا لم يقطع. مَعْنَاهُ: إِذا كَانَ بليغا جيد الْكَلَام احْتج عَن نَفسه بِمَا يسْقط عَنهُ الْحَد. وَالْفِعْل من هَذِه الْكَلِمَة ظرف يظرف فَهُوَ ظريف، وَالْجمع الظرفاء، وَلَا يُوصف بذلك السَّيِّد وَلَا الشَّيْخ، إِنَّمَا يُوصف بِهِ الفتيان الأزوال والفتيات الزولات، يَعْنِي الْخفاف. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الظّرْف فِي اللِّسَان، والحلاوة فِي الْعَينَيْنِ، والملاحة فِي الْفَم، وَالْجمال فِي الْأنف. وَقَالَ مُحَمَّد بن يزِيد: الظريف مُشْتَقّ من الظّرْف: وَهُوَ الْوِعَاء، كَأَنَّهُ جعل الظريف وعَاء للأدب وَمَكَارِم الْأَخْلَاق.
وَقَوله: ليردنه على ساعيه: أَي رئيسه الَّذِي يحكم عَلَيْهِ وينصفني مِنْهُ.
331 - / 395 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " لَا يدْخل الْجنَّة قَتَّات ".
وَقد فسر فِي الحَدِيث أَنه النمام، قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: فلَان يقت الْأَحَادِيث قتا: أَي ينمها. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي القَتَّات: الَّذِي ينْقل عنْدك مَا تحدثه بِهِ وتستكتمه إِيَّاه، والقساس الَّذِي يتسمع عَلَيْك مَا تحدث بِهِ غَيره ثمَّ يَنْقُلهُ عَنْك.
وَقد كشفنا إِشْكَال قَول الْقَائِل بِأَن هَذَا لَيْسَ بِكفْر، فَكيف يمْنَع دُخُول الْجنَّة، فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.(1/381)
332 - / 396 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " لَأَبْعَثَن إِلَيْكُم أَمينا حق أَمِين "؛ فاستشرف النَّاس لَهَا، فَبعث أَبَا عُبَيْدَة.
الْأمين مَأْخُوذ من الْأَمْن، فَكَأَن صَاحب الْأَمَانَة أَمن بِكَوْنِهَا مَعَ الْأمين.
وَمعنى استشرف النَّاس: رفعوا رُءُوسهم ينظرُونَ من الْمَخْصُوص بِهَذِهِ الصّفة كالمتعجبين.
333 - / 397 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " إِن مَعَ الدَّجَّال مَاء وَنَارًا، فَالَّذِي يرى النَّاس أَنه نَار فماء بَارِد، وَالَّذِي يرى النَّاس أَنه مَاء بَارِد فَنَار تحرق. وَأَنه ممسوخ الْعين، عَلَيْهَا ظفرة غَلِيظَة ".
الدَّجَّال: الْكذَّاب، وَقيل: سمي دجالًا لتمويهه على النَّاس وتلبيسه، يُقَال: دجل: إِذا موه وَلبس، وَسيف مدجل: إِذا طلي بِالذَّهَب، وبعير مدجل: إِذا كَانَ مطليا بالقطران، فَسُمي دجالًا لِأَنَّهُ غطى الْحق بباطله.
وَقَوله: فَالَّذِي يرَاهُ النَّاس نَارا مَاء، هَذَا هُوَ من جنس السحر يبتلى بِهِ الْخلق.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل معجزات الْأَنْبِيَاء إِلَّا مَا شهد بهَا الْحس؟
فَالْجَوَاب: أَن هَذَا الرجل لَو ادّعى النُّبُوَّة لاختلطت الْأَدِلَّة وتمكنت الشُّبُهَات وعسر الْفرق، وَلكنه ادّعى الإلهية، وَيَكْفِي فِي تَكْذِيبه كَونه جسما، ثمَّ هُوَ رَاكب حمارا، وَهُوَ أَعور.(1/382)
وَقَوله: عَلَيْهَا ظفرة غَلِيظَة. قَالَ الزّجاج: الظفرة: جلدَة تبتدئ فِي المأق، وَرُبمَا ألبست الحدقة.
وَفِي هَذَا الحَدِيث حَدِيث الَّذِي قَالَ لأَهله: اجْمَعُوا لي حطبا جزلا.
الْحَطب الجزل: الغليظ. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: النَّاس يَقُولُونَ: حطب زجل، وَإِنَّمَا هُوَ حطب جزل: وَهُوَ الغليظ من الْحَطب، وَقيل: الْيَابِس، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَكِن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إِذا أوقدت لَا بضرام)
والضرام والشخت ضِدّه، ثمَّ كثر الجزل فِي كَلَامهم حَتَّى صَار كل مَا كثر جزلا، فَقَالُوا: أعطَاهُ عَطاء جزلا، وأجزلت للرجل، وجزل لي من مَاله.
وَقَوله: وامتحشت: أَي أحرقت الْعِظَام. والمحش: إحراق النَّار الْجلد.
وَقَوله: انْظُرُوا يَوْمًا رَاحا: أَي كثير الرّيح. وَيُقَال للموضع الَّذِي تخترقه الرِّيَاح مروحة. ركب عمر بن الْخطاب نَاقَة فمشت بِهِ مشيا جيدا، فَقَالَ:
(كَأَن راكبها غُصْن بمروحة ... إِذا تدلت بِهِ أَو شَارِب ثمل)(1/383)
فَأَما المروحة الَّتِي يتروح بهَا فمكسورة الْمِيم.
وَقَوله: فاذروه فِي اليم. أَي انسفوه فِي الْبَحْر. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: واليم: الْبَحْر، بالسُّرْيَانيَّة.
334 - / 398 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: كَانَ النَّاس يسْأَلُون رَسُول الله عَن الْخَيْر وأسأله عَن الشَّرّ مَخَافَة أَن يدركني.
أما سُؤَاله عَن الشَّرّ فليجتنبه، قَالَ الشَّاعِر:
(عرفت الشَّرّ لَا للشر لَكِن لتوقيه ... )
(وَمن لَا يعرف الشَّرّ من النَّاس يَقع فِيهِ ... )
والدخن: الكدر وَالْمَكْرُوه. وأصل الدخن فِي الألوان كدورة إِلَى سَواد. قَالَ أَبُو عبيد: وَلَا أَحْسبهُ أَخذ إِلَّا من الدُّخان، وَهُوَ شَبيه بلون الْحَدِيد.
وَوجه الحَدِيث أَن الْقُلُوب لَا يصفو بَعْضهَا لبَعض.
وَقَوله: من جلدتنا أَي من أَنْفُسنَا وقومنا، يَعْنِي الْعَرَب.
فَأمره بالعزلة عِنْد ظُهُور الْآفَات. وَقَوله: " وَلَو أَن تعض بِأَصْل شَجَرَة " أَشَارَ إِلَى الْعُزْلَة، لِأَن الشّجر خَارج عَن المدن.
وَالشَّيَاطِين جمع شَيْطَان، قَالَ الْخَلِيل: كل متمرد عِنْد الْعَرَب شَيْطَان. وَفِي هَذَا الِاسْم قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه من شطن: أَي بعد عَن(1/384)
الْخَيْر، فعلى هَذَا تكون النُّون أَصْلِيَّة، قَالَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت فِي صفة سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام:
(أَيّمَا شاطن عَصَاهُ عكاه ... ثمَّ يلقى فِي السجْن والأغلال)
عكاه: أوثقه.
وَقَالَ النَّابِغَة:
(نأت بسعاد عَنْك نوى شطون ... فَبَانَت والفؤاد لَهَا رهين)
وَالثَّانِي: أَنه من شاط يشيط: إِذا التهب وَاحْتَرَقَ، فَتكون النُّون زَائِدَة. وأنشدوا:
( ... ... ... ... ... ... وَقد يشيط على ارماحنا البطل)
أَي يهْلك.
والجثمان: الشَّخْص.
وَالْإِنْس: النَّاس، سموا إنسا لظهورهم.(1/385)
335 - / 399 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
عَن حُذَيْفَة: {وأنفقوا فِي سَبِيل الله وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} [الْبَقَرَة: 195] قَالَ: نزلت فِي النَّفَقَة.
سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة أَن الْأَنْصَار كَانَت تنْفق وَتَتَصَدَّق، فَأَصَابَتْهُمْ سنة فأمسكوا، فَنزلت هَذِه الْآيَة؛ قَالَ الضَّحَّاك بن أبي جبيرَة: والسبيل فِي اللُّغَة: الطَّرِيق. وَإِنَّمَا اسْتعْملت هَذِه الْكَلِمَة فِي الْجِهَاد لِأَنَّهُ السَّبِيل الَّذِي يُقَاتل فِيهِ على عقد الدّين. قَالَ الْمبرد: وَأَرَادُوا بِالْأَيْدِي الْأَنْفس، فَعبر عَن الْكل. و (التَّهْلُكَة) بِمَعْنى الْهَلَاك، يُقَال: هلك االرجل يهْلك هَلَاكًا وهلكا وتهلكة، فعلى هَذَا يكون الْهَلَاك وَاقعا بالبخل، فَإِن كَانَ فِي الْوَاجِبَات فَهُوَ الْهَلَاك بالإثم، وَإِن كَانَ فِي المندوبات فَهُوَ فَوت الْفَضَائِل.
336 - / 400 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: إِنَّمَا النِّفَاق على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَما الْيَوْم فَهُوَ الْكفْر أَو الْإِيمَان.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: معنى الحَدِيث أَن الْمُنَافِقين فِي زمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَكُونُوا قد أَسْلمُوا، وَإِنَّمَا كَانُوا يظهرون الْإِسْلَام رِيَاء ونفاقا، ويسرون الْكفْر عقدا، فَأَما الْيَوْم - وَقد شاع الْإِسْلَام واستفاض - فَمن نَافق بِأَن يظْهر الْإِسْلَام ويبطن خِلَافه فَهُوَ مُرْتَد، لِأَن نفَاقه كفر أحدثه بعد قبُول الدّين، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُنَافِق فِي زمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُقيما على كفره الأول، فَلم يتشابها.(1/386)
337 - / 401 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن حُذَيْفَة رأى رجلا لم يتم رُكُوعه وَلَا سُجُوده، فَقَالَ: مَا صليت.
الرُّكُوع من أَرْكَان الصَّلَاة، وَلَا يكون إِلَّا بإتمامه، وَكَذَلِكَ السُّجُود.
وَقَوله: مَا صليت، يَعْنِي الصَّلَاة الصَّحِيحَة.
والفطرة هَاهُنَا: الدّين وَالْملَّة.
338 - / 402 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: قَالَ حُذَيْفَة: مَا بَقِي من أَصْحَاب هَذِه الْآيَة إِلَّا ثَلَاثَة، وَلَا من الْمُنَافِقين إِلَّا أَرْبَعَة. يَعْنِي بِالْآيَةِ {فَقَاتلُوا أَئِمَّة الْكفْر} [التَّوْبَة: 12] فَقَالَ أَعْرَابِي: مَا بَال هَؤُلَاءِ الَّذين يبقرون بُيُوتنَا، وَيَسْرِقُونَ أعلاقنا؟ فَقَالَ: أُولَئِكَ الْفُسَّاق.
يبقرون بِمَعْنى يفتحون. يُقَال: بقرت الشَّيْء: إِذا فَتحته. وَقد رَوَاهَا قوم: ينقبون، وَالْأول أصح.
والأعلاق: نفائس الْأَمْوَال، وكل شَيْء لَهُ قيمَة أَو قدر فِي نَفسه ومزية فَهُوَ علق.
339 - / 404 - الحَدِيث السَّادِس: قد تقدم فِي مُسْند أبي ذَر.
340 - / 405 - الحَدِيث السَّابِع: قَالَ حُذَيْفَة: لقد أنزل النِّفَاق على قوم خير مِنْكُم، ثمَّ تَابُوا فَتَابَ الله عَلَيْهِم.
مَقْصُود حُذَيْفَة أَن جمَاعَة من الْمُنَافِقين صلحوا واستقاموا وَكَانُوا خيرا من أُولَئِكَ التَّابِعين بمَكَان الصُّحْبَة وَالصَّلَاح. وَمِمَّنْ كَانَ منافقا(1/387)
فصلح أمره واستقام مجمع وَيزِيد ابْنا جَارِيَة بن عَامر، كَانَا وأبوهما منافقين، فصلحت حَال الْوَلَدَيْنِ واستقامت، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِالْحَدِيثِ إِلَى تقليب الْقُلُوب.
341 - / 406 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: مَا نعلم أقرب سمتا ودلا وهديا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ابْن أم عبد.
قَالَ أَبُو عبيد: السمت: حسن الْهَيْئَة والمنظر فِي مَذْهَب الدّين وَلَيْسَ من الزِّينَة، وَلَكِن يكون لصَاحبه هَيْئَة أهل الْخَيْر ومنظرهم. وَالْهَدْي والدل من السكينَة. وَالْوَقار فِي الْهَيْئَة والمنظر وَالشَّمَائِل.
وَقَوله: حَتَّى يتَوَارَى، احْتِرَاز من الشَّهَادَة على الْبَاطِن المستور.
وَقَوله: لقد علم المحفوظون، يَعْنِي رُءُوس الْقَوْم الَّذين حفظهم الله من تَحْرِيف أَو تخريف فِي قَول أَو فعل.
والوسيلة: الْقرْبَة.
وَرُبمَا ظن من يسمع قَوْله ابْن أم عبد أَنه نَسَبهَا إِلَى ابْنهَا عبد الله بن مَسْعُود، وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا هَذِه الْمَرْأَة يُقَال لَهَا أم عبد بنت عبد ود ابْن سوي بن قريم، أسلمت وبايعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا نعلمها رَوَت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا.(1/388)
342 - / 407 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
عَن قيس بن عباد: قَالَ: قلت لعمَّار: أَرَأَيْتُم صنيعكم هَذَا الَّذِي صَنَعْتُم فِي أَمر عَليّ، أرأيا رَأَيْتُمُوهُ، أَو شَيْئا عَهده إِلَيْكُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُشِير إِلَى قِتَالهمْ مَعَه ونصرهم إِيَّاه. فَقَالُوا: مَا عهد إِلَيْنَا شَيْئا لم يعهده إِلَى النَّاس، وَلَكِن حُذَيْفَة أَخْبرنِي ... .
مَعْنَاهُ أَنه مَا عهد إِلَيْنَا شَيْئا، إِنَّمَا عهد إِلَى حُذَيْفَة فِي أَمر الْمُنَافِقين.
والجمل: الْحَيَوَان الْمَعْرُوف. والخياط: الإبرة. وسمها: ثقبها، وَفِيه لُغَتَانِ فتح السِّين وَضمّهَا.
والدبيلة: خراج عَظِيم.
وينجم: يظْهر.
343 - / 408 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: عَن جُنْدُب قَالَ: جِئْت يَوْم الجرعة فَإِذا رجل جَالس. فَقلت: ليهراقن الْيَوْم دِمَاء. فَقَالَ ذَاك الرجل: كلا وَالله، قلت: بلَى وَالله: قَالَ فَإِذا الرجل حُذَيْفَة.
الجرعة بِفَتْح الرَّاء: التل من الرمل لَا ينْبت شَيْئا، وَهَذَا مَكَان نزلوه ليتهيئوا لِلْقِتَالِ، وَذَلِكَ أَن عُثْمَان بعث سعيد بن الْعَاصِ أَمِيرا على الْكُوفَة، فَخَرجُوا فَردُّوهُ، فَرجع إِلَى عُثْمَان، فَقَالَ عُثْمَان: مَا تُرِيدُونَ؟(1/389)
قَالُوا: الْبَدَل. قَالَ: فَمن تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: أَبَا مُوسَى. فَبَعثه إِلَيْهِم.
أخبرنَا الْمُبَارك بن عَليّ الصَّيْرَفِي قَالَ: أخبرنَا شُجَاع بن فَارس قَالَ: أخبرنَا أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن أَحْمد الْأُشْنَانِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن عَليّ ابْن أَحْمد بن عمر الحمامي قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي قيس قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر بن عبيد قَالَ: حَدثنِي يحيى بن عبد الله الْخَثْعَمِي عَن أبي عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى: أَن عُثْمَان بن عَفَّان نزع سعد بن أبي وَقاص عَن الْكُوفَة وَاسْتعْمل الْوَلِيد بن عقبَة، ثمَّ نَزعه وَبعث سعيد بن الْعَاصِ، فَلم يَدعُوهُ يدخلهَا.
وَقَالَ الْقرشِي: وَحدثنَا أَبُو خَيْثَمَة قَالَ: حَدثنَا وهب بن جرير عَن أَبِيه أَن سعيد بن الْعَاصِ توجه إِلَى الْكُوفَة أَمِيرا، فَقَالَ أهل الْكُوفَة: لَا وَالله لَا يدخلهَا علينا سعيد وَلَا يَلِي أمرنَا، وبعثوا إِلَى الأشتر فَقدم عَلَيْهِم، وَخرج أهل الْكُوفَة حَتَّى نزلُوا الجرعة وَأمرهمْ إِلَى الأشتر، فَلَمَّا قدم سعيد ركبُوا خيولهم وَأخذُوا رماحهم وَقَالُوا: ارْجع وَرَاءَك، فَلَا وَالله لَا تلِي أمرنَا، فَرجع.
وَقَالَ جرير عَن الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب: لما خرج النَّاس إِلَى الجرعة قيل لِحُذَيْفَة: أَلا تخرج؟ قَالَ: لقد علمت أَنهم لن يهريقوا بَينهم محجمة من دم.
وَعَن الْأَعْمَش عَن عَمْرو بن مرّة عَن أبي البخْترِي عَن أبي ثَوْر الحدائي قَالَ: دفعت إِلَى حُذَيْفَة وَأبي مَسْعُود يَوْم الجرعة وهما يتحدثان، وَأَبُو مَسْعُود يَقُول: وَالله مَا كنت أرى أَن ترتد على عقبيها وَلم يهريقوا(1/390)
فِيهَا محجمة من دم.
وَفِي الحَدِيث من الْفِقْه: جَوَاز أَن يحلف الرجل على مَا يظنّ كَمَا حلف جُنْدُب، ثمَّ قَالَ لنَفسِهِ: مَا هَذَا الْغَضَب؟ وَذَلِكَ أَنه بَان لَهُ أَن الصَّوَاب لَيْسَ مَعَه فَرجع إِلَى الصَّوَاب.
344 - / 410 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: مَا مَنَعَنِي أَن أشهد بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خرجت أَنا وَأبي الحسيل، فأخذنا كفار قُرَيْش، فَأخذُوا منا عهد الله وميثاقه أَلا نُقَاتِل مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأتيناه فَأَخْبَرنَاهُ، فَقَالَ: " نفي لَهُم بعهدهم ".
فِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه حفظ الْوَفَاء بالعهد وَلَو للمشرك فِيمَا يُمكن الْوَفَاء بِهِ.
345 - / 411 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: كَانَ بَين رجل من أهل الْعقبَة وَبَين حُذَيْفَة بعض مَا يكون بَين النَّاس، فَقَالَ: أنْشدك الله، كم كَانَ أَصْحَاب الْعقبَة؟ قَالَ: فَقَالَ الْقَوْم: أخبرهُ إِذْ سَأَلَك. فَقَالَ: كُنَّا نخبر أَنهم أَرْبَعَة عشر، فَإِن كنت مِنْهُم فقد كَانَ الْقَوْم خَمْسَة عشر، وَأشْهد أَن اثْنَي عشر مِنْهُم حَرْب لله وَلِرَسُولِهِ فِي الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد، وَعذر ثَلَاثَة قَالُوا: مَا سمعنَا مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا علمنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْم، وَقد كَانَ فِي حرَّة فَمشى فَقَالَ: " إِن المَاء قَلِيل، فَلَا يسبقني إِلَيْهِ أحد " فَوجدَ قوما قد سَبَقُوهُ فلعنهم.(1/391)
هَذَا الحَدِيث يشكل على المبتدئين؛ لِأَن أهل الْعقبَة إِذا أطْلقُوا فَإِنَّمَا يشار بهم إِلَى الْأَنْصَار الْمُبَايِعين لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا من ذَاك، وَإِنَّمَا هَذِه عقبَة فِي طَرِيق تَبُوك، وقف فِيهَا قوم من الْمُنَافِقين ليفتكوا بِهِ:
أخبرنَا هبة الله بن الْحصين قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَليّ بن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنَا أبي قَالَ: حَدثنَا يزِيد قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْوَلِيد - يَعْنِي ابْن عبد الله بن جَمِيع عَن أبي الطُّفَيْل قَالَ: لما أقبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَزْوَة تَبُوك أَمر مناديا فَنَادَى: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخذ الْعقبَة فَلَا يَأْخُذهَا أحد. فَبَيْنَمَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُودهُ حُذَيْفَة ويسوقه عمار إِذْ أقبل رَهْط مُتَلَثِّمُونَ على الرَّوَاحِل غشوا عمارا وَهُوَ يَسُوق برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَقْبل عمار يضْرب وُجُوه الرَّوَاحِل، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِحُذَيْفَة: " قد، قد " حَتَّى هَبَط رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا هَبَط رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نزل، وَرجع عمار، فَقَالَ: " يَا عمار، هَل عرفت الْقَوْم " فَقَالَ: قد عرفت عَامَّة الرَّوَاحِل، وَالْقَوْم مُتَلَثِّمُونَ. قَالَ: " هَل تَدْرِي مَا أَرَادوا؟ " قَالَ: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: " أَرَادوا أَن ينفروا برَسُول الله فَيَطْرَحُوهُ ".
قَالَ أَبُو الْوَلِيد: وَذكر أَبُو الطُّفَيْل فِي تِلْكَ الْغَزْوَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ للنَّاس - وَذكر لَهُ أَن فِي المَاء قلَّة - فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مناديا فَنَادَى أَن لَا يرد المَاء أحد قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فورده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ قوما قد وردوه قبله، فلعنهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(1/392)
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي الْمُفَسّر: أَصْحَاب الْعقبَة خَمْسَة عشر من الْمُنَافِقين، تَابَ ثَلَاثَة وَمضى اثْنَا عشر على النِّفَاق، مِنْهُم معتب بن قُشَيْر، ووديعة بن ثَابت، وَرِفَاعَة بن التابوت، وسُويد، وداعس، وجد بن عبد الله بن نتيل، والْحَارث بن يزِيد الطَّائِي، وَأَوْس بن قيظي، وَسعد بن زُرَارَة، وَقيس بن عَمْرو بن سهل، وَهُوَ عَم قَتَادَة بن النُّعْمَان، وَقد ذكر عَنهُ قَتَادَة أَنه رأى مِنْهُ مَا يدل على صِحَة إِسْلَامه. وَزيد بن النَّصِيب، كَذَا قَالَ أَبُو سُلَيْمَان. وَغَيره يَقُول: اللصيت وَكَانَ يَهُودِيّا منافقا، وسلالة بن الْحمام، والجلاس بن سُوَيْد، وَقيل: وَكَعب، وَأَبُو لبَابَة، وَتَابَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة.
346 - / 412 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقِيه وَهُوَ جنب، فحاد عَنهُ فاغتسل، ثمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: كنت جنبا. فَقَالَ: " إِن الْمُسلم لَا ينجس ".
وَقد سبق بَيَان تَسْمِيَة الْجَنَابَة بِهَذَا الِاسْم. وَلَا خلاف فِي طَهَارَة الْآدَمِيّ فِي حَيَاته، فَأَما إِذا مَاتَ: فَهَل ينجس بِالْمَوْتِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد وقولان عَن الشَّافِعِي، وَنَصّ أَبُو حنيفَة على نَجَاسَته.(1/393)
347 - / 413 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: فِي الدَّجَّال: " إِنَّه جفال الشّعْر ".
الْفَاء خَفِيفَة، قَالَ أَبُو عبيد: الجفال: الْكثير الشّعْر، قَالَ ذُو الرمة:
(وأسود كالأساود مسبكرا ... على المتنين منسدرا جفالا)
المسبكر: المسترسل. والمنسدر: المنتصب، وَبَعْضهمْ يرويهِ منسدلا.
348 - / 414 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَافْتتحَ الْبَقَرَة فَقلت: يرْكَع عِنْد الْمِائَة، ثمَّ مضى فَقلت: يُصَلِّي بهَا فِي رَكْعَة، فَمضى.
هَذَا حَدِيث يدل على طول قيام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاة، وَقد كَانَ رُكُوعه نَحوا من قِيَامه. وَهَذَا إِنَّمَا يرْوى عَنهُ فِي صَلَاة اللَّيْل - أَعنِي طول الْقيام.
والترسل: التثبت.
وَقَوله: إِذا مر بسؤال سَأَلَ. اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد رَحْمَة الله عَلَيْهِ: هَل يجوز للْمُصَلِّي فِي صَلَاة الْفَرْض إِذا مرت بِهِ آيَة رَحْمَة أَن يسْأَلهَا، أَو آيَة عَذَاب أَن يستعيذ مِنْهُ، فَروِيَ عَنهُ جَوَاز ذَلِك، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه جَائِز فِي التَّطَوُّع دون الْفَرِيضَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَكَانَ شَيخنَا أَبُو بكر الدينَوَرِي يتَأَوَّل الحَدِيث فَيَقُول: معنى(1/394)
يسْأَل ويستعيذ: أَنه يسْأَل بِإِعَادَة الْآيَة، مثل أَن يقْرَأ: {رَبنَا فَاغْفِر لنا} [آل عمرَان: 193] فيردد ذَلِك، لَا أَنه يتَكَلَّم بِكَلَام من عِنْده، وَهَذَا الْأَشْبَه بأصولنا، وَقد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام الْآدَمِيّين ".
349 - / 415 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " كل مَعْرُوف صَدَقَة ".
الْمَعْرُوف: فعل الْخَيْر وَالْبر، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَعْرُوف صَدَقَة لِأَنَّهُ لَا يجب.
350 - / 416 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " تعرض الْفِتَن على الْقُلُوب كالحصير عودا عودا، فَأَي قلب أشربها نكت فِيهِ نُكْتَة سَوْدَاء، وَأي قلب أنكرها نكت فِيهِ نُكْتَة بَيْضَاء حَتَّى تصير على قلبين: أَبيض مثل الصَّفَا، فَلَا تضره فتْنَة مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَالْآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا، إِلَّا مَا أشْرب من هَوَاهُ ... ".
قَوْله: كالحصير، يَعْنِي أَن الْفِتَن تحيط بالقلوب فَتَصِير الْقُلُوب كالمحصور الْمَحْبُوس. وَقَالَ اللَّيْث: حَصِير الْجنب: عرق يَمْتَد مُعْتَرضًا على الْجنب إِلَى نَاحيَة الْبَطن، فَشبه إحاطتها بِالْقَلْبِ بإحاطة هَذَا الْعرق بالبطن.(1/395)
وَقَوله: عود عود: أَي مرّة بعد مرّة.
وَمعنى: أشربها: قبلهَا وَسكن إِلَيْهَا.
وَقَوله: نكت فِيهِ: أَي ظهر فِيهِ أثر.
وَقَوله: حَتَّى تصير على قلبين. يَعْنِي الْقُلُوب.
والصفا: الْحجر الأملس.
وَقَوله: مربادا: المرباد والمربد: الَّذِي فِي لَونه ربدة: وَهِي لون بَين السوَاد والغبرة كلون النعامة، وَلِهَذَا قيل للنعام ربد.
وَقَوله كالكوز مجخيا. المجخي: المائل، وَيُقَال مِنْهُ: جخى اللَّيْل: إِذا مَال ليذْهب. وَالْمعْنَى: مائلا عَن الاسْتقَامَة منكوسا.
وَقد تقدم شرح بعض هَذَا الحَدِيث فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من هَذَا الْمسند.
351 - / 417 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " إِن حَوْضِي لأبعد من أَيْلَة من عدن، إِنِّي لأذود عَنهُ الرِّجَال كَمَا يذود الرجل الْإِبِل الغريبة عَن حَوْضه " قَالُوا: وتعرفنا؟ قَالَ: " نعم. تردون عَليّ غرا محجلين من آثَار الْوضُوء ".
أذود بِمَعْنى أطْرد، وَهَذَا يحْتَمل وَجْهَيْن: إِمَّا طرد من لَا يسْتَحق، وَإِمَّا طرد من يجب تَقْدِيم غَيره. وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث ثَوْبَان أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " إِنِّي لبعقر حَوْضِي أذود عَنهُ لأهل الْيمن ".
والغرة والتحجيل: نور يعْرفُونَ بِهِ، ثَوابًا للْوُضُوء.(1/396)
352 - / 418 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " جعلت صُفُوفنَا كَصُفُوف الْمَلَائِكَة ".
صُفُوف الْمَلَائِكَة أَن كل وَاحِد بِجَانِب الآخر.
وَقَوله: " جعلت لنا الأَرْض كلهَا مَسْجِدا " أَي موضعا للسُّجُود، وَهَذَا خَارج مخرج الامتنان على هَذِه الْأمة؛ لِأَن الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة كَانُوا لَا يصلونَ إِلَّا فِي كنائسهم وبيعهم، وَهَذَا لفظ عَام خصت مِنْهُ الْبِقَاع الْمنْهِي عَن الصَّلَاة عَنْهَا بِدَلِيل، كَمَا خص نِكَاح الذميات فِي عُمُوم قَوْله: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} [الْبَقَرَة: 221] .
قَوْله: " وَجعلت تربَتهَا لنا طهُورا " فِيهِ دَلِيل على أَنه إِذا ضرب بِيَدِهِ على حجر لَا غُبَار عَلَيْهِ لم يجزه، لِأَن التربة التُّرَاب.
353 - / 419 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " أضلّ الله عَن الْجُمُعَة من كَانَ قبلنَا ".
إِنَّمَا وَقع إضلال الْقَوْم بمخالفة نَبِيّهم. قَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ: تفرغوا لله عز وَجل فِي كل سَبْعَة أَيَّام يَوْمًا، فاعبدوه يَوْم الْجُمُعَة. فَقَالُوا: لَا، إِلَّا يَوْم السبت. وَقيل: كَانَ سَبَب اختيارهم السبت أَنهم زَعَمُوا أَن الله تَعَالَى فرغ يَوْم السبت من الْخلق، فَقَالُوا: فَنحْن نستريح فِيهِ من عمل الدُّنْيَا ونتشاغل بالتعبد وَالشُّكْر، فألزموه عُقُوبَة لَهُم. واختارت النَّصَارَى الْأَحَد وَقَالُوا: هُوَ أول يَوْم بَدَأَ الله فِيهِ الْخلق، فَهُوَ أولى بالتعظيم. فهدانا الله ليَوْم الْجُمُعَة، وَهُوَ الْيَوْم(1/397)
الَّذِي خلق فِيهِ آدم، وَهُوَ سَابق السبت والأحد، فَنحْن السَّابِقُونَ لَهُم فِي التَّعَبُّد، وأمتنا - وَإِن تَأَخّر وجودهم - فهم السَّابِقُونَ إِلَى الْفضل وَإِلَى دُخُول الْجنَّة.
وَقَوله: " الْمقْضِي لَهُم " أَي على جَمِيع الْأُمَم؛ لِأَن حجتهم توجب على من سبقهمْ أَن يتبعهُم.
354 - / 420 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: " فَيقوم الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تزلف لَهُم الْجنَّة ".
تزلف بِمَعْنى تقرب.
وَقَول إِبْرَاهِيم: " إِنِّي كنت خَلِيلًا من وَرَاء وَرَاء " أَي من خلف حجاب.
وَقَوله: " وَترسل الْأَمَانَة وَالرحم " الْمَعْنى أَنَّهُمَا تخلصان القائمين بحقوقهما.
وَشد الرِّجَال: عدوهم.
وَقَوله: " إِلَّا زحفا " أَي أَنهم يعجزون عَن الْمَشْي فيزحفون كزحف الصَّبِي الصَّغِير.
والكلاليب جمع كَلوب: وَهُوَ مَعْرُوف.
والمخدوش من الخدش: وَهُوَ الْإِصَابَة بأثر قريب، ثمَّ ينجو على مَا بِهِ.
والمكدوس فِي النَّار: الْملقى فِيهَا.
والخريف: المُرَاد بِهِ هَاهُنَا السّنة.
355 - / 421 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: من الْفِتَن: " ثَلَاثَة لَا يكدن يذرن شَيْئا ". أَي لعظمهن.(1/398)
وَقَوله: " ومنهن فتن كرياح الصَّيف ". أَي فِيهَا بعض الشدَّة، وَإِنَّمَا خص الصَّيف لِأَن ريَاح الشتَاء أقوى.
قَوْله: فَذهب أُولَئِكَ الرَّهْط كلهم غَيْرِي. يَعْنِي الَّذِي سمعُوا هَذَا. والرهط: الْعِصَابَة دون الْعشْرَة. وَيُقَال: بل إِلَى الْأَرْبَعين.
356 - / 422 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: قَالَ رجل: لَو أدْركْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَاتَلت مَعَه فأبليت. فَقَالَ حُذَيْفَة: أَنْت كنت تفعل ذَلِك؟ .
فِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَنه لَا يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يَدعِي شَيْئا لَا يدْرِي كَيفَ يكون فِيهِ، فَإِن الصَّحَابَة مَعَ جدهم فِي طلب الشَّهَادَة توقفوا عَن إجابتهم يَوْم الخَنْدَق حَتَّى قَالَ: " من يأتيني بِخَبَر الْقَوْم " حَتَّى عين على حُذَيْفَة.
وَقَوله: " لَا تذعرهم " أَي لَا تظهر لَهُم، وَليكن ذهابك فِي سر. والذعر: الْخَوْف.
وَقَوله: كَأَنِّي أَمْشِي فِي حمام، يُشِير إِلَى حرارة الْخَوْف.
وَيُصلي ظَهره: يدفئه.
وَقَوله: قررت: أَي أصابني القر.
وَالْعِبَادَة والعباية من الأكسية، كَذَلِك قَالَ ابْن فَارس.(1/399)
وَقَوله: " يَا نومان " أَي يَا كثير النّوم، لِأَن بِنَاء " فعلان " للْمُبَالَغَة كسكران.(1/400)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي مُوسَى عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ
أسلم بِمَكَّة، وَهَاجَر إِلَى أَرض الْحَبَشَة، ثمَّ قدم مَعَ أهل السفينتين وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَيْبَر. وَبَعْضهمْ يُنكر هجرته إِلَى الْحَبَشَة.
وروى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثلثمِائة وَسِتِّينَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة وَسِتُّونَ.
357 - / 425 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الثَّانِي: " من صلى البردين دخل الْجنَّة ".
البردان: الْغَدَاة وَالْعصر، سميا بالبردين لِأَنَّهُمَا يصليان فِي بردي النَّهَار: وهما طرفاه حِين تذْهب سُورَة الْحر.
358 - / 426 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " وَمَا بَين الْقَوْم وَبَين أَن ينْظرُوا إِلَى رَبهم إِلَّا رِدَاء الْكِبْرِيَاء على وَجهه فِي جنَّة عدن ".
هَذَا يرجع إِلَى الرَّائِي وَهُوَ كَونه فِي جنَّة عدن لَا إِلَى المرئي، لِأَن المرئي لَا تحيط بِهِ الْأَمْكِنَة. ورداء الْكِبْرِيَاء: مَا لَهُ من الْكبر وَالْعَظَمَة،(1/401)
وَكَأَنَّهُ يَقُول: إِن مَنعهم فلعظمته وَإِن شَاءَ كشف لَهُم بجوده وَكَرمه.
359 - / 429 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: قَالَ معَاذ: يَا أَبَا مُوسَى، كَيفَ تقْرَأ الْقُرْآن؟ قَالَ: أتفوقه تفوقا على فِرَاشِي وَفِي صَلَاتي.
أتفوقه: أَي أفرق حزبي تَخْفِيفًا على نَفسِي فَأَقْرَأهُ فِي مَرَّات لَا فِي مرّة وَاحِدَة، مَأْخُوذ من فوَاق النَّاقة، فَإِنَّهَا تحلب ثمَّ تتْرك حَتَّى تدر، ثمَّ تحلب وقتا بعد وَقت ليَكُون أدر للبنها.
وَقَول معَاذ: أحتسب فِي نومتي مَا أحتسب فِي قومتي. كَلَام فَقِيه، فَإِن الْإِنْسَان إِذا نوى بنومه إِعْطَاء بدنه حَقه والتقوي بذلك على الْعَمَل صَار النّوم كَأَنَّهُ تعبد، وأثيب عَلَيْهِ.
وَقَوله: " لَا نولي هَذَا الْعَمَل أحدا سَأَلَهُ " وَهَذَا لِأَن الْحِرْص على الْولَايَة فِيهِ تُهْمَة وَدَلِيل على حب الدُّنْيَا، فَيَنْبَغِي أَن يحذر خَاطب الْولَايَة. وَمن هَذَا الْجِنْس قَول بعض الْحُكَمَاء: إِذا هرب الزَّاهِد من النَّاس فاطلبه، وَإِذا طَلَبهمْ فاهرب مِنْهُ.
وقلصت الشّفة: ارْتَفَعت.
والمخلاف لأهل الْيمن كالرستاق، والمخاليف: الرساتيق.
360 - / 430 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " على كل مُسلم صَدَقَة ".
وَقد سبق شرح هَذَا الْمَعْنى فِي مُسْند أبي ذَر.(1/402)
361 - / 433 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: برِئ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصالقة والحالقة والشاقة.
الصلق: الصياح الشَّديد، وَكَذَلِكَ السلق، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {سلقوكم بألسنة حداد} [الْأَحْزَاب: 19] فالصالقة: الصائحة بالصوت الشَّديد. والحالقة: الَّتِي تحلق شعرهَا للمصيبة. والشاقة: الَّتِي تخرق الثِّيَاب للمصاب.
362 - / 434 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَمر لنا بِثَلَاث ذود غر الذرا.
حكى ابْن السّكيت عَن الْأَصْمَعِي أَنه قَالَ: الذود: مَا بَين الثَّلَاث إِلَى الْعشْر، وَلَا يُقَال ذود إِلَّا للنوق. وَقَالَ أَبُو زيد: بل يُقَال للذكور وَالْإِنَاث.
وَقَوله: غر الذرا. يُرِيد أَن ذرا الأسمنة مِنْهُنَّ بيض من سمنهن. والذرا جمع ذرْوَة، وذروة كل شَيْء أَعْلَاهُ.
وَقَوله: أُتِي بِنَهْب إبل. يُرِيد بالنهب الْمغنم.
وَقَوله: أَغْفَلنَا رَسُول الله يَمِينه. أَي غفل عَن يَمِينه بِسَبَب سؤالنا.
قَوْله: " وَمَا أَنا حملتكم وَلَكِن الله حملكم " فِيهِ ثَلَاثَة أوجه:(1/403)
أَحدهَا: أَن يكون نَاسِيا ليمينه لما أَمر لَهُم بِالْإِبِلِ فَيكون كَقَوْلِه للصَّائِم: " الله أطعمك وسقاك ".
وَالثَّانِي: أَن يقْصد إِفْرَاد الْحق عز وَجل بالمنن.
وَالثَّالِث: أَن الله تَعَالَى لما سَاق هَذِه الْإِبِل فِي وَقت حَاجتهم كَانَ هُوَ الْحَامِل.
363 - / 437 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: " اشفعوا تؤجروا ".
والشفاعة: سُؤال الشَّفِيع يشفع سُؤال الْمَشْفُوع فِيهِ، وَالْمرَاد من الحَدِيث أَنكُمْ تؤجرون فِي الشَّفَاعَة وَإِن لم تقض الْحَوَائِج.
364 - / 439 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " من مر وَمَعَهُ نبل فليقبض على نصالها بكفه ".
النصال جمع نصل، والنصل: حَدِيدَة السهْم.
وَقَوله: فَمَا متْنا حَتَّى سددنا بَعْضهَا فِي وُجُوه بعض. يُقَال: سددت إِلَيْهِ السهْم: أَي قصدت بِهِ قَصده. وَالْمعْنَى: اقتتلنا بهَا، وَالْإِشَارَة إِلَى الْفِتَن الَّتِي جرت بَينهم.
365 - / 440 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: " من حمل علينا السِّلَاح فَلَيْسَ منا ".
من حمل السِّلَاح على الْمُسلمين لكَوْنهم مُسلمين فَلَيْسَ بِمُسلم، فَأَما إِذا لم يحمل السِّلَاح لأجل الْإِسْلَام فقد اخْتلف الْعلمَاء فِي معنى(1/404)
قَوْله: " فَلَيْسَ منا " فَقَالَ أَبُو عبيد لَيْسَ متخلقا بأخلاقنا وأفعالنا. وَقَالَ غَيره: لَيْسَ من أهل ديننَا. وَقَالَ قوم: لَيْسَ مثلنَا.
366 - / 441 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: " إِن هَذِه النَّار عَدو لكم فَإِذا نمتم فأطفئوها ".
لما كَانَ الْأَذَى يَقع من الْعَدو وَمن النَّار حسن التَّشْبِيه، وَإِن وَقع الْفرق بِالْقَصْدِ وَعَدَمه.
467 - / 442 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: " الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا " وَشَبك بَين أَصَابِعه.
ظَاهره الْإِخْبَار وَمَعْنَاهُ الْأَمر، وَهُوَ تحريض على التعاون.
368 - / 443 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: " فَذهب وهلي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَة ".
أَي وهمي، وَالْمعْنَى: ظَنَنْت.
369 - / 445 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: أعتم بِالصَّلَاةِ: أَي أَخّرهَا.
وابهار اللَّيْل: انتصف أَو قَارب.
وَالرسل: التمهل.(1/405)
370 - / 446 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: " من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه، وَمن كره لِقَاء الله كره الله لقاءه ".
وَرُبمَا ظن ظان أَن كَرَاهِيَة الْمَوْت تُؤثر فِي لِقَاء الله، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَسَيَأْتِي مكشوفا فِي مُسْند عَائِشَة.
371 - / 447 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: خسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " افزعوا إِلَى ذكر الله ".
معنى خسفت: انكسفت.
وَيُقَال: فزعت إِلَى كَذَا: إِذا لجأت إِلَيْهِ، وفزعت من كَذَا: إِذا خفته.
وَفِي قَوْله: " لَا يكون لمَوْت أحد وَلَا لِحَيَاتِهِ " إبِْطَال لما كَانَ عَلَيْهِ أهل الْجَاهِلِيَّة، فَإِنَّهُم كَانُوا يَزْعمُونَ أَن ذَلِك يُوجب حُدُوث حوادث كَمَا يَقُول المنجمون.
فَإِن قيل: مَا فَائِدَة حُدُوث الْكُسُوف؟
فَفِيهِ سبع فَوَائِد:
أَحدهَا: ظُهُور التَّصَرُّف فِي الشَّمْس وَالْقَمَر. وَالثَّانيَِة: أَن يتَبَيَّن عِنْد شينها قبح شَأْن من يَعْبُدهَا.
وَالثَّالِثَة: أَن تنزعج الْقُلُوب المساكنة للغفلة عَن مسكن الذهول؛ فَإِن المواعظ تزعج الْقلب الغافل.
وَالرَّابِعَة: ليرى النَّاس أنموذج مَا سيجري فِي الْقِيَامَة من قَوْله تَعَالَى:(1/406)
{وَخسف الْقَمَر وَجمع الشَّمْس وَالْقَمَر} [الْقِيَامَة: 8، 9] .
وَالْخَامِسَة: أَنَّهُمَا يؤخذان على حَال التَّمام فيوكسان ثمَّ يلطف بهَا فيعادان إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ، فيشار بذلك إِلَى خوف الْمَكْر ورجاء الْعَفو.
وَالسَّادِسَة: أَن يفعل بهما صُورَة عِقَاب من لَا ذَنْب لَهُ ليحذر ذُو الذَّنب.
وَالسَّابِعَة: أَن الصَّلَوَات المفروضات عِنْد كثير من الْخلف عَادَة لَا انزعاج لَهُم فِيهَا وَلَا وجود هَيْبَة، فَأتى بِهَذِهِ الْآيَة وسنت لَهَا الصَّلَاة ليفعلوا صَلَاة على انزعاج وهيبة.
372 - / 448 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَشْيَاء كرهها، فَلَمَّا أَكثر عَلَيْهِ غضب ثمَّ قَالَ: " سلوني عَمَّا شِئْتُم " فَقَالَ رجل: من أبي؟ فَقَالَ: " أَبوك حذافة ".
إِنَّمَا قَالَ: " سلوني عَمَّا شِئْتُم " غَضبا. فَإِن قيل: فَجَوَابه حكم وَقد قَالَ: " لَا يقْضِي القَاضِي بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان " فَالْجَوَاب أَنه لما كَانَ مَعْصُوما من الزلل تساوى غَضَبه وَرضَاهُ فِي أَنه لَا يَقُول إِلَّا الْحق، وَلِهَذَا قَالَ لعبد الله بن عَمْرو وَقد سَأَلَهُ: أكتب عَنْك مَا تَقول فِي السخط وَالرِّضَا؟ قَالَ: " نعم ".
373 - / 449 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: فنقبت أقدامنا، فَكُنَّا نلف على أَرْجُلنَا الْخرق، فسميت غَزْوَة ذَات الرّقاع، ثمَّ كره أَبُو(1/407)
مُوسَى إِظْهَار هَذَا.
نقبت بِمَعْنى تقرحت وورمت. وَهَذِه الْغُزَاة كَانَت فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة.
وَإِنَّمَا نَدم على إِظْهَار عمله لِأَن عمل السِّرّ يزِيد على عمل الْعَلَانِيَة سبعين ضعفا، وَكَانَ سُفْيَان الثَّوْريّ يَقُول: إِن العَبْد ليعْمَل الْعَمَل سرا، وَلَا يزَال بِهِ الشَّيْطَان حَتَّى يتحدث بِهِ، فينقل من ديوَان السِّرّ إِلَى ديوَان الْعَلَانِيَة. إِلَّا أَن مَقْصُود أبي مُوسَى إِعْلَام النَّاس بصبر الصَّحَابَة ليقتدوا بهم، فيثاب على إِظْهَار هَذَا بِهَذِهِ النِّيَّة.
374 - / 451 - أما الحَدِيث السَّابِع وَالْعشْرُونَ: فقد فسرناه فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
375 - / 452 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: " إِمَّا أَن يحذيك ".
أَي يهب لَك الشَّيْء من ذَلِك. يُقَال: أحذيت الرجل أحذيه: إِذا أَعْطيته الشَّيْء وأتحفته بِهِ.
376 - / 453 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: " وَأَنا النذير الْعُرْيَان ".
الرِّوَايَة بالراء من العري، وَذَلِكَ أَن الربيئة للْقَوْم إِذا كَانَ على مَكَان عَال فَبَصر بالعدو نزع ثَوْبه فألاح بِهِ ينذر، فَيبقى عُريَانا. وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة: عري النذير أبلغ فِي الْإِنْذَار؛ لِأَن الْجَيْش إِذا رَأَوْهُ(1/408)
عُريَانا علمُوا أَن الْأَمر عَظِيم، وأنشدوا:
(لَيْسَ النذير الَّذِي يَأْتِيك مؤتزرا ... مثل النذير الَّذِي يَأْتِيك عُريَانا)
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: وَقد رُوِيَ لنا: " وَأَنا النذير العربان " بِالْبَاء، فَإِن كَانَ ذَلِك مَحْفُوظًا فَمَعْنَاه المفصح بالإنذار لايكني وَلَا يوري. يُقَال رجل عربان: أَي فصيح اللِّسَان، وَيُقَال: أعرب الرجل بحاجته: إِذا أفْصح بهَا.
وَقَوله: فأدلجوا، إِذا خففت الدَّال كَانَ معنى الْكَلِمَة قطع اللَّيْل كُله بالسير، وَإِذا شددت الدَّال فَهُوَ السّير من آخر اللَّيْل.
وَمعنى اجتاحهم استأصلتهم، وَمِنْه الْجَائِحَة الَّتِي تفْسد الثِّمَار وتهلكها.
377 - / 454 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: " إِن مثل مَا بَعَثَنِي الله بِهِ من الْهدى وَالْعلم كَمثل غيث أصَاب أَرضًا، فَكَانَت مِنْهَا طَائِفَة طيبَة قبلت المَاء فأنبتت الْكلأ والعشب الْكثير، وَكَانَ مِنْهَا أجادب أَمْسَكت المَاء فنفع الله بهَا النَّاس، وَأصَاب طَائِفَة إِنَّمَا هِيَ قيعان ".(1/409)
قَوْله: " فَكَانَت مِنْهَا طَائِفَة " هَذَا اللَّفْظ الَّذِي ذكره الْحميدِي، وَقد رَوَاهُ البُخَارِيّ بِلَفْظ آخر لم يذكرهُ الْحميدِي: " وَكَانَ مِنْهَا ثغبة " بالثاء والغين الْمُعْجَمَة، والثغبة مستنقع المَاء فِي الْجبَال والصخور، وَهُوَ الثغب أَيْضا. وَقد رَوَاهُ أَحْمد فِي " الْمسند ": " فَكَانَت مِنْهَا طَائِفَة نقية " بِالْقَافِ.
وَأما الأجادب فَهِيَ من الجدب واليبس، وَهَذَا الْمَحْفُوظ فِي الرِّوَايَة. والْحَدِيث يدل على أَن المُرَاد الأَرْض الصلبة الَّتِي تمسك المَاء، وَقَالَ قوم: إِنَّمَا هِيَ أجارد، وَهِي الْمَوَاضِع المتجردة من النَّبَات. وَقد رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَان البستي من طَرِيق أبي كريب فَقَالَ: أُحَارب بِالْحَاء وَالرَّاء، وَلَيْسَ بِشَيْء، قَالَ: وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا هِيَ إخاذات، سَقَطت مِنْهَا الْألف، واحدتها إخاذة: وَهِي الَّتِي تمسك المَاء، وَالرِّوَايَة هِيَ الأولى.
والقيعان جمع قاع.
وَهَذِه أَمْثَال ضربت، فَالْأول: لمن يقبل الْهدى وَيعلم غَيره فينتفع وينفع، وَالثَّانِي: لمن ينفع غَيره بِالْعلمِ وَلَا ينْتَفع. وَالثَّالِث: لمن لَا ينفع وَلَا ينْتَفع. وَيحْتَمل أَن يشار بالطائفة الأولى إِلَى الْعلمَاء بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْه، فَإِنَّهُم حفظوا الْمَنْقُول واستنبطوا، فَعم نفعهم. ويشار بالطائفة الْأُخْرَى إِلَى من نقل الحَدِيث وَلم يفهم مَعَانِيه وَلَا تفقه، فَهُوَ يحفظ الْأَلْفَاظ وينقلها إِلَى من ينْتَفع بهَا. ويشار بالقيعان إِلَى من لم يتَعَلَّق بِشَيْء من الْعلم.
378 - / 455 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: على سَرِير مرمل.(1/410)
أَي منسوج بالسعف. وَقد شرحنا هَذَا فِي مُسْند عمر.
379 - / 457 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: ولد لي غُلَام فَأتيت بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَماهُ إِبْرَاهِيم وحنكه بتمرة.
قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: حنكت الصَّبِي وحنكته بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، فَهُوَ محنوك ومحنك: إِذا مضغت التَّمْر ثمَّ دلكته بحنكه. قَالَ الزّجاج: والحنك سقف الْفَم الْأَعْلَى.
وَفِي هَذَا الحَدِيث تَسْمِيَة الْمَوْلُود قبل السَّابِع على خلاف حَدِيث سَمُرَة.
380 - / 458 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: وَافَقنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين افْتتح خَيْبَر، فَأَسْهم لنا وَمَا أسْهم لأحد غَابَ عَن خَيْبَر مِنْهَا شَيْئا إِلَّا لأَصْحَاب سَفِينَتنَا.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون أَعْطَاهُم عَن رضى مِمَّن شهد الْوَقْعَة أَو من الْخمس الَّذِي هُوَ حَقه.
381 - / 460 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: " وَمِنْهُم حَكِيم إِذا لَقِي الْخَيل قَالَ لَهُم: إِن أَصْحَابِي يأمرونكم أَن تنظروهم ".(1/411)
أَي تنتظروهم، وَالْمعْنَى: لَا تَبْرَحُوا، وَالْمَقْصُود شجاعته.
382 - / 461 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالثَّلَاثِينَ: " إِن الْأَشْعَرِيين إِذا أرملوا فِي الْغَزْو أَو قل طَعَام عِيَالهمْ بِالْمَدِينَةِ جمعُوا مَا كَانَ عِنْدهم فِي ثوب ثمَّ اقتسموه بَينهم بِالسَّوِيَّةِ، فهم مني وَأَنا مِنْهُم ".
أرملوا: قلت أَزْوَادهم، فمدحهم بالإيثار والمواساة، وأضافهم إِلَيْهِ لِأَنَّهُ غايه الْكَرم، فَقَالَ: " هم مني " يَعْنِي بأفعالهم وَإِن لم يَكُونُوا من أَقَاربه، قَالَ الشَّاعِر:
(وَقلت: أخي، قَالُوا: أَخ ذُو قرَابَة! " ... فَقلت: لَهُم: إِن الشكول أقَارِب)
(نسيبي فِي رَأْيِي وعزمي ومذهبي ... وَإِن خالفتنا فِي الْأُمُور الْمُنَاسب)
383 - / 462 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: سمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا يثني على رجل ويطريه فِي الْمَدْح، فَقَالَ: " أهلكتم - أَو قطعْتُمْ - ظهر الرجل ".
الإطراء: الإفراط فِي الْمَدْح، وَلَا يَخْلُو من الْكَذِب. وَأَشَارَ بقوله: " قطعْتُمْ ظهر الرجل " إِلَى تأذيه فِي دينه، فَجعله كَقطع ظَهره.
وَاعْلَم أَن الْمَدْح يشْتَمل على آفتين: إِحْدَاهمَا تتَعَلَّق بالمادح وَهِي الْكَذِب الَّذِي لَا يكَاد يتَخَلَّص مِنْهُ. وَالثَّانيَِة تتَعَلَّق بالممدوح وَهِي تحريكه إِلَى التكبر بفضائله، والطبع كَاف فِي جلب الْكبر وَغَيره من الشَّرّ فَيحْتَاج إِلَى مقاومة تضاده، فَإِذا جَاءَ الْمَدْح أعَان الطَّبْع فَزَاد الْفساد.(1/412)
384 - / 463 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: جلس على بِئْر أريس وتوسط قفها.
أريس: بِئْر مَعْرُوفَة بِالْمَدِينَةِ. والقف مَا يبْنى حول الْبِئْر ليجلس عَلَيْهِ الْجَالِس.
والحائط: الْبُسْتَان.
385 - / 468 - وَفِي الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: " اربعوا على أَنفسكُم " أَي ارفقوا بهَا.
وَمعنى لَا حول: لَا حِيلَة، يُقَال: مَا لَهُ حِيلَة، وَمَاله حول، وَمَاله احتيال، وَمَاله محتال، وَمَاله محَالة.
386 - / 469 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: قدمت على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ منيخ بالبطحاء فَقَالَ لي: " بِمَ أَهلَلْت؟ " قلت: أَهلَلْت بإهلال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ: " هَل سقت من هدي؟ " قلت: لَا، قَالَ: " فَطُفْ بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة ثمَّ حل ".
كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أهل بِالْحَجِّ وسَاق الْهَدْي فَمَا أمكنه أَن يحل حَتَّى يتم الْحَج، فَأمر من لم يسق الْهَدْي من أَصْحَابه أَن يفْسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة وَيحل ثمَّ يهل بعد ذَلِك بِالْحَجِّ.
وَقَوله: أَهلَلْت بإهلال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يدل على جَوَاز إرْسَال النِّيَّة من غير تعْيين النَّوْع الَّذِي يُريدهُ من أَنْوَاع الْحَج، ثمَّ لم تَعْيِينه عِنْد(1/413)
إِرَادَة الشُّرُوع فِي الْأَعْمَال. وَيحْتَمل أَن يكون أَبُو مُوسَى سَأَلَ عَن حَال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبر أَنه قَارن فَنوى الْقرَان، فَلَمَّا سَأَلَهُ قَالَ: أَهلَلْت بِمَا أَهلَلْت بِهِ.
وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن مُفردا؛ لِأَن الْهَدْي إِنَّمَا يجب على الْمُتَمَتّع والقارن.
387 - / 470 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: كَانَ يَوْم عَاشُورَاء يَوْمًا تعظمه الْيَهُود.
قَالَ شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: عَاشُورَاء مَمْدُود، وَلم يجِئ على " فاعولاء " فِي كَلَام الْعَرَب إِلَّا عَاشُورَاء، والضارواء: الضراء، والساروراء: السَّرَّاء، والدالولاء: الدَّالَّة، وخابوراء: مَوضِع. وَهِي القوباء، وكربلاء، وسلاء النّخل: شوكه، الْوَاحِدَة سلاءة، كل ذَلِك مَمْدُود.
وَقَوله: " شارتهم " الشارة: مَا يتجمل بِهِ من اللبَاس.
388 - / 471 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: " وَفضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد ".(1/414)
الْعَرَب تفضل الثَّرِيد لِأَنَّهُ أسهل فِي التَّنَاوُل، وَلِأَنَّهُ يَأْخُذ جَوْهَر المرق.
389 - / 472 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: " لَا أحد أصبرعلى أَذَى سَمعه من الله عز وَجل ".
الصَّبْر: الْحَبْس، وَالْمعْنَى لَا أحد يحبس الْعقُوبَة عَن مخالفه مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ كالحق عز وَجل، فَإِنَّهُ يُمْهل الْمُشرك والعاصي.
390 - / 473 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: " لقد أُوتيت مِزْمَارًا من مَزَامِير آل دَاوُد " وَفِي رِوَايَة: لَو علمت أَنَّك تسمع قراءتي لحبرته لَك تحبيرا.
المُرَاد بالمزمار طيب الصَّوْت، وَذكر الْآل صلَة، وَالْمعْنَى من مَزَامِير دَاوُد. ويروى أَنه كَانَ إِذا قَرَأَ دَاوُد وقف الطير.
والتحبير: التحسين والتزيين، والمحبر: الشَّيْء المزين، وَكَانَ يُقَال لطفيل المحبر، لِأَنَّهُ كَانَ يحبر الشّعْر.
وَفِي هَذَا جَوَاز تَحْسِين الصَّوْت وتجويد التِّلَاوَة لأجل انْتِفَاع السامعين، وَلَا يُقَال إِن زِيَادَة التجويد فِي ذَلِك رِيَاء لأجل الْخلق إِذا كَانَ الْمَقْصُود اجتذاب نفعهم: فَأَما الألحان الَّتِي يصنعها قراء هَذَا الزَّمَان فمكروهة عِنْد الْعلمَاء، لِأَنَّهَا مَأْخُوذَة من طرائق الْغناء.(1/415)
391 - / 475 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ: " مثل الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى كَمثل رجل اسْتَأْجر قوما يعْملُونَ لَهُ عملا إِلَى اللَّيْل على أجر مَعْلُوم، فعملوا لَهُ إِلَى نصف النَّهَار، فَقَالُوا: لَا حَاجَة لنا إِلَى أجرك الَّذِي شرطت لنا، وَمَا عَملنَا بَاطِل، واستأجر آخَرين فَقَالَ: أكملوا بَقِيَّة يومكم هَذَا وَلكم الَّذِي شرطت لَهُم من الْأجر، فعملوا حَتَّى إِذا كَانَ حِين صَلَاة الْعَصْر قَالُوا: مَا عَملنَا بَاطِل وَلَك الْأجر الَّذِي جعلت لنا، فاستأجر قوما فعملوا بَقِيَّة يومهم حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس واستكملوا أُجْرَة الْفَرِيقَيْنِ، فَذَلِك مثلهم وَمثل مَا قبلوا من هَذَا النُّور ".
هَذَا مثل مَضْرُوب لعمل الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَإِن الْيَهُود طَال زمن عَمَلهم وَزَاد على مُدَّة النَّصَارَى، وَلِأَنَّهُ كَانَ بَين مُوسَى وَعِيسَى - فِي رِوَايَة أبي صَالح ابْن عَبَّاس - ألف سنة وسِتمِائَة سنة وَاثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة، وَفِي قَول ابْن إِسْحَق ألف سنة وَتِسْعمِائَة وتسع عشرَة سنة، وَلَا يخْتَلف النَّاس أَنه كَانَ بَين عِيسَى وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِمَا سِتّمائَة سنة، فَلهَذَا جعل عمل الْيَهُود من أول النَّهَار إِلَى وَقت الظّهْر، وَجعل عمل النَّصَارَى من الظّهْر إِلَى الْعَصْر. ثمَّ قد اتّفق أَيْضا تَقْدِيم الْيَهُود على النَّصَارَى فِي الزَّمَان مَعَ طول عمل أُولَئِكَ وَقصر عمل هَؤُلَاءِ. فَأَما عمل الْمُسلمين فَإِنَّهُ جعل مَا بَين الْعَصْر إِلَى الْمغرب، وَذَاكَ أقل الْكل فِي مُدَّة الزَّمَان.
فَرُبمَا قَالَ قَائِل: فَهَذِهِ الْأمة قد قاربت سِتّمائَة سنة من بعثة(1/416)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف يكون زمانها أقل؟
فَالْجَوَاب: أَن عَملهَا أسهل، وأعمار الْمُكَلّفين أقصر، والساعة إِلَيْهِم أقرب، فَجَاز لذَلِك أَي يقلل زمَان عَمَلهم.
والنور: الْإِسْلَام وَالْقُرْآن.
392 - / 477 _ وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " وفكوا العاني ".
يَعْنِي الْأَسير، وفكاكه: السَّعْي فِي إِطْلَاقه.
393 - / 478 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" إِن أَبْوَاب الْجنَّة تَحت ظلال السيوف ".
هَذَا مثل، وَالْمرَاد بِهِ أَن دُخُول الْجنَّة يكون بِالْجِهَادِ. والظلال جمع ظلّ، فَإِذا دنا الشَّخْص من الشَّخْص صَار تَحت ظلّ سَيْفه.
وَقَوله: فَقَامَ رجل فَكسر جفن سَيْفه - يَعْنِي الغمد. وَإِنَّمَا كسر الغمد على عزم أَلا يغمد السَّيْف، وَهَذَا الرجل كَانَ صَاحب همة عالية، فَلَمَّا صحت عِنْده الْفَضِيلَة جد نَحْوهَا.
394 - / 480 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مِمَّا يرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء.
فِي هَذَا دَلِيل على اسْتِحْبَاب النّظر إِلَى السَّمَاء لمَكَان الِاعْتِبَار بهَا،(1/417)
وَقد قَالَ عز وَجل: {قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} [يُونُس: 101] {أفلم ينْظرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقهم كَيفَ بنيناها} [ق: 6] وَفِي هَذَا رد على جهلة المتعبدين الَّذين وصفوا بِأَن أحدهم بَقِي سِنِين لَا يرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء حَيَاء من الله عز وَجل، وَلَوْلَا جهل هَؤُلَاءِ لعلموا أَن إطراقهم إِلَى الأَرْض فِي بَاب الْحيَاء كرفع الْأَبْصَار إِلَى السَّمَاء، وَلَكِن الْجَهْل يتلاعب بالعباد والزهاد، فَلَا يخلص مِنْهُ إِلَّا علماؤهم.
وَقَوله: " أَنا أَمَنَة لِأَصْحَابِي " الأمنة: الْأَمْن.
وَقَوله: " أَتَى السَّمَاء مَا توعد " إِشَارَة إِلَى تشققها وذهابها.
وَقَوله: " أَتَى أَصْحَابِي مَا يوعدون " إِشَارَة إِلَى وُقُوع الْفِتَن، وَكَذَلِكَ عِنْد ذهَاب أَصْحَابه. وَالْإِشَارَة إِلَى مَجِيء الشَّرّ عِنْد ذهَاب أهل الْخَيْر، فَإِنَّهُ لما كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام بَين أظهرهم كَانَ يبين مَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَيَدْعُو إِلَى الصَّوَاب، فَلَمَّا عدم جالت الاراء وَاخْتلفت، إِلَّا أَن كل صَحَابِيّ يسند القَوْل إِلَى الرَّسُول فِي قَول أَو فعل أَو دلَالَة حَال، فَلَمَّا فقدت الصَّحَابَة قل النُّور وقويت الظُّلم.
395 - / 281 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة نَاس من الْمُسلمين بذنوب أَمْثَال الْجبَال يغفرها الله لَهُم ويضعها على الْيَهُود وَالنَّصَارَى ".
فَإِن قيل: كَيفَ يكون هَذَا وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} [فاطر: 18] 417 فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن:(1/418)
احدهما: أَن يكون الْمَعْنى يعذب بِمِثْلِهَا الْيَهُود وَالنَّصَارَى من أَفعَال الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَكَأَنَّهُ سامح الْمُسلمين فِي شَيْء لم يسامح بِهِ غَيرهم.
وَالثَّانِي: أَن يُضَاعف عِقَاب الْيَهُود وَالنَّصَارَى فَيكون بِقدر جرمهم وجرم غَيرهم، وَله أَن يُضَاعف ويخفف.
396 - / 482 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " الْمُؤمن يَأْكُل فِي معى وَاحِد، وَالْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء ".
المعى مَقْصُورَة وَجَمعهَا أمعاء ممدودة. قَالَ الْفراء: جَاءَ فِي الحَدِيث معى وَاحِدَة، وَوَاحِد أعجب إِلَيّ، وَأكْثر كَلَام الْعَرَب تذكره، وَرُبمَا أنثوه كَأَنَّهُ وَاحِد دلّ على جمع، قَالَ الْقطَامِي:
(كَأَن نسوع رحلي حِين ضمت ... حوالب غزرا ومعى جياعا)
وَلِهَذَا الحَدِيث مَعْنيانِ: أَحدهمَا أَن الْمُؤمن يُسَمِّي الله عز وَجل إِذا أكل، فَيحصل لَهُ شَيْئَانِ: الْبركَة فِي الطَّعَام، وَدفع الشَّيْطَان عَنهُ، فَيكون المتناول مِنْهُ قَلِيلا، فَكَأَن الْمُؤمن قد أكل فِي معى وَاحِد، وَالْكَافِر لَا يُبَارك لَهُ لعدم التَّسْمِيَة، ويتناول الشَّيْطَان مَعَه فَيذْهب من الطَّعَام كثير، فَكَأَنَّهُ قد أكل فِي سَبْعَة أمعاء.
وَالثَّانِي: أَن الْمُؤمن لاستشعاره الْخَوْف، وَنَظره فِي حل الْمطعم، وحذره من حِسَاب الْكسْب، يقل أكله، وَالْكَافِر لَا يهتم بِشَيْء من(1/419)
ذَلِك فيكثر أكله، وَلِهَذَا الْمَعْنى ترى من قوي خَوفه وحزنه نحيلا، بِخِلَاف أهل الغفلات.
وَقَالَ أَبُو حَامِد الطوسي: معنى هَذَا الحَدِيث أَن الْكَافِر يَأْكُل سَبْعَة أَضْعَاف مَا يَأْكُلهُ الْمُؤمن، أَو تكون شَهْوَته سَبْعَة أَضْعَاف شَهْوَته، فَيكون المعى كِنَايَة عَن الشَّهْوَة، لِأَن الشَّهْوَة هِيَ الَّتِي تقبل الطَّعَام وتأخذه كَمَا تَأْخُذهُ المعى، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ زِيَادَة عدد معى الْكَافِر على معى الْمُؤمن.
وَقد ذهب أَبُو عبيد إِلَى أَن هَذَا الحَدِيث خَاص فِي رجل بِعَيْنِه كَانَ يكثر الْأكل قبل إِسْلَامه ثمَّ أسلم فنقص ذَلِك، فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ فِيهِ هَذَا. وَأهل مصر يروون أَنه أَبُو بصرة الْغِفَارِيّ، قَالَ: وَلَا نعلم للْحَدِيث وَجها غير هَذَا، لِأَنَّك تَجِد من الْمُسلمين من يكثر أكله، وَمن الْكفَّار من يقل أكله. وَقد روى عَطاء بن يسَار عَن جَهْجَاه الْغِفَارِيّ أَنه قدم فِي نفر من قومه يُرِيدُونَ الْإِسْلَام، فَحَضَرُوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمغرب، فَلَمَّا سلم قَالَ: " ليَأْخُذ كل رجل مِنْكُم بيد جليسه " قَالَ: فَلم يبْق فِي الْمَسْجِد غير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وغيري، فَذهب بِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى منزله، فَحلبَ لي عَنْزًا فَأتيت عَلَيْهَا، حَتَّى حلب لي سَبْعَة أعنز فَأتيت عَلَيْهَا، فَلَمَّا أسلمت دَعَاني إِلَى منزله فَحلبَ لي عَنْزًا فرويت وشبعت، فَقَالَت أم أَيمن: يَا رَسُول الله، أَلَيْسَ هَذَا ضيفنا؟ قَالَ: " بلَى، وَلكنه أكل فِي معى مُؤمن اللَّيْلَة وَأكل قبل ذَلِك فِي معى كَافِر، وَالْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء " قلت: وَإِن كَانَ(1/420)
هَذَا الحَدِيث ورد على سَبَب فلفظه عَام، ثمَّ إِذا حمل على كَافِر بِعَيْنِه فِي أَنه يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء فَكيف يصنع بِالْمُؤمنِ الْكثير الْأكل، وَإِنَّمَا الْكَلَام وَاقع على الْأَغْلَب، وَالسَّبَب مَا ذكرته لَك وَلَا اعْتِبَار بالنادر.
397 - / 483 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " فَجعله لَهَا فرطا ".
الفرط والفارط: الَّذِي يتَقَدَّم إِلَى المَاء لإِصْلَاح مَا يرد عَلَيْهِ أَصْحَابه.
398 - / 484 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " إِذا عطس أحدكُم فَحَمدَ الله فشمتوه، وَإِذا لم يحمد الله فَلَا تشمتوه ".
قَالَ أَبُو عبيد: التشميت: الدُّعَاء، كَقَوْلِك: يَرْحَمك الله، وكل دَاع بِخَير فَهُوَ مشمت ومسمت، بالشين وَالسِّين، والشين أَكثر. وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: اشتقاق التشميت بالشين الْمُعْجَمَة كَأَنَّهُ الدُّعَاء بالتثبيت على طَاعَة الله، مَأْخُوذ من الشوامت وَهِي القوائم، واشتقاق التسميت بِالسِّين الْمُهْملَة من السمت وَهُوَ الْهَدْي، كَأَنَّهُ رده إِلَى سمته وهديه. وَحكى أَبُو عمر بن عبد الْبر قَالَ: قَالَ ثَعْلَب: معنى التشميت: أبعد الله عَنْك الشماته وجنبك مَا يشمت بِهِ عَلَيْك، وَمعنى التسميت: جعلك الله على سمت حسن.
399 - / 485 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَن أَبَا مُوسَى اسْتَأْذن على عمر ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ، فَذهب ثمَّ استدعاه عمر فَقَالَ: مَا ردك؟ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " الاسْتِئْذَان ثَلَاث " فَقَالَ عمر: لتَأْتِيني(1/421)
بِبَيِّنَة وَإِلَّا فعلت وَفعلت، فجَاء أبي بن كَعْب فَشهد.
اعْلَم أَن عمر لم يشك فِي خبر أبي مُوسَى، وَإِنَّمَا خَافَ أَن يتهجم غَيره مِمَّن يشك فِيهِ على الرِّوَايَة، فأدب الْغَيْر بِطَلَب الْبَيِّنَة من أبي مُوسَى ليحذر من لَا يصلح للرواية كَمَا قيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك} [الزمر: 65] {فَإِن كنت فِي شكّ} [يُونُس: 94] وكما قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَو سرقت فَاطِمَة لقطعتها ".
400 - / 486 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: فِي شَأْن سَاعَة الْجُمُعَة: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " هِيَ مَا بَين أَن يجلس الإِمَام إِلَى أَن تقضى الصَّلَاة ".
أما سَاعَة الْجُمُعَة فَسَيَأْتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " فِي الْجُمُعَة سَاعَة لَا يُوَافِقهَا مُسلم يسْأَل ربه شَيْئا إِلَّا أَتَاهُ " وَهَذَا الحَدِيث قد بَين وَقت تِلْكَ السَّاعَة. وَقد روى جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " التموسها آخر السَّاعَات بعد الْعَصْر " وَمن حَدِيث أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " التمسوها فِيمَا بَين صَلَاة الْعَصْر إِلَى غرُوب الشَّمْس " وَفِي حَدِيث كثير بن عبد الله عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: " مَا بَين فرَاغ الإِمَام من الْخطْبَة إِلَى أَن تقضى الصَّلَاة ". وَهَذَا كثير هُوَ ابْن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف بن(1/422)
زيد بن ملحة الْمُزنِيّ، ويكنى عَمْرو أَبَا عبد الله، وَله صُحْبَة، وَفِي حَدِيث فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْهَا فَقَالَ: " إِذا تدلى نصف عين الشَّمْس للغروب " قَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم: لَا تَخْلُو هَذِه الْأَحَادِيث من وَجْهَيْن: إِمَّا أَن بَعْضهَا أصح من بعض. وَإِمَّا أَن تكون هَذِه السَّاعَة تنْتَقل فِي الْأَوْقَات كانتقال لَيْلَة الْقدر فِي ليَالِي الْعشْر.
401 - / 487 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُسَمِّي لنا نَفسه أَسمَاء فَقَالَ: " أَنا مُحَمَّد، وَأحمد، والمقفي، وَنَبِي التَّوْبَة، وَنَبِي المرحمة " وَفِي رِوَايَة: " الملحمة ".
اعْلَم أَن لنبينا ثَلَاثَة وَعشْرين اسْما: مُحَمَّد، وَأحمد، والماحي، والحاشر، وَالْعَاقِب، والمقفي، وَنَبِي الرَّحْمَة، وَنَبِي التَّوْبَة، وَنَبِي الملحمة، وَالشَّاهِد، والمبشر، والنذير، والضحوك، والقتال، والمتوكل، والفاتح، والأمين، والمصطفى، وَالرَّسُول، وَالنَّبِيّ، والأمي، والقثم. فقد جعلُوا هَذِه كلهَا أَسمَاء، وَمَعْلُوم أَن بَعْضهَا صِفَات.
وَمعنى الماحي: الَّذِي يمحى بِهِ الْكفْر. والحاشر: الَّذِي يحْشر النَّاس على قَدَمَيْهِ؛ أَي يقدمهم وهم خَلفه. وَالْعَاقِب: آخر الْأَنْبِيَاء. والمقفي فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ تبع الْأَنْبِيَاء، وكل من تبع شَيْئا فقد قَفاهُ. والمرحمة بِمَعْنى الرَّحْمَة. والملاحم: الحروب. والضحوك صفته فِي التَّوْرَاة، قَالَ ابْن فَارس: وَإِنَّمَا قيل لَهُ الضحوك، لِأَنَّهُ كَانَ طيب(1/423)
النَّفس فكها، وَقَالَ: " إِنِّي لأمزح ". والقثم من مَعْنيين: أَحدهمَا: من القثم وَهُوَ الْإِعْطَاء، يُقَال: قثم لَهُ من الْعَطاء يقثم: إِذا أعطَاهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام أَجود من الرّيح الهابة. وَالثَّانِي: من القثم وَهُوَ الْجمع، يُقَال للرجل الجموع للخير قثوم وَقثم.
402 - / 488 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " إِن الله لَا ينَام، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَن ينَام ".
أَي أَن النّوم يَسْتَحِيل عَلَيْهِ.
والقسط: الْعدْل، يُقَال: أقسط يقسط فَهُوَ مقسط: إِذا عدل، وقسط يقسط فَهُوَ قاسط: إِذا جَار. وَيحْتَمل الْكَلَام مَعْنيين: أَحدهمَا: أَن يشبه الْقسْط بميزان، وَالَّذِي يزن يخْفض وَيرْفَع. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: يخْفض بِالْعَدْلِ وَيرْفَع بِالْعَدْلِ.
وَأما الْحجاب فَيَنْبَغِي أَن يعلم أَنه حجاب الْمَخْلُوق عَنهُ، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون محجوبا، لِأَن الْحجاب يكون أكبر مِمَّا يستره ويستحيل عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ أَن يكون جسما أَو جوهرا أَو متناهيا محاذيا، إِذْ جَمِيع(1/424)
ذَلِك من عَلَامَات الْحَدث.
وَقَوله " لأحرقت سبحات وَجهه " قَالَ أَبُو عبيد: وَيُقَال فِي السبحة إِنَّهَا جلال وَجهه ونوره، وَمِنْه قيل سُبْحَانَ الله، إِنَّمَا هُوَ تَعْظِيم لَهُ وتنزيه. قَالَ: وَلم نسْمع هَذَا الْحَرْف إِلَّا فِي هَذَا الحَدِيث.
403 - / 489 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " إِن الله عز وَجل يبسط يَده بِاللَّيْلِ ليتوب مسيء النَّهَار، ويبسط يَده بِالنَّهَارِ ليتوب مسيء اللَّيْل حَتَّى تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا ".
لما كَانَت التَّوْبَة كالمبايعة والمعاهدة حصل ضرب مثل هَذَا الْمثل لَهَا. فَأَما طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا فعلامة على امْتنَاع قبُول التَّوْبَة.
404 - / 492 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: قَالَ حطَّان: صليت خلف أبي مُوسَى، فَلَمَّا كَانَ عِنْد الْقعدَة قَالَ رجل من الْقَوْم: أقرَّت الصَّلَاة بِالْبرِّ وَالزَّكَاة، فَلَمَّا سلم أَبُو مُوسَى قَالَ: أَيّكُم الْقَائِل؟ فأرم الْقَوْم. فَقَالَ: لَعَلَّك قلتهَا يَا حطَّان. قلت: مَا قلتهَا، وَلَقَد رهبت أَن تبكعني بهَا.
قَوْله: عِنْد الْقعدَة يَعْنِي حَالَة الْقعُود.
وَقَوله: أقرَّت الصَّلَاة بِالْبرِّ. هَذَا الرجل تكلم بِكَلَام من عِنْده فِي الصَّلَاة، فَلذَلِك أنكر أَبُو مُوسَى.
وأرم الْقَوْم: سكتوا مطرقين، قَالَ الشَّاعِر:(1/425)
(يردن وَاللَّيْل مرم طَائِره ... )
ورهبت: خفت.
وَيُقَال: بكعت الرجل أبكعه بكعا: إِذا استقبلته بِمَا يكره.
والمغضوب عَلَيْهِم الْيَهُود. والضالون النَّصَارَى.
وَأما قَوْله آمين فَفِي مَعْنَاهَا ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَنَّهَا بِمَعْنى: كَذَلِك يكون، حَكَاهُ ابْن الْأَنْبَارِي عَن ابْن عَبَّاس.
وَالثَّانِي: أَن مَعْنَاهَا اللَّهُمَّ استجب، قَالَه الْحسن، وَاخْتَارَهُ الزّجاج.
وَالثَّالِث: أَنه اسْم من أَسمَاء الله عز وَجل، قَالَه مُجَاهِد. وَقَالَ هِشَام بن الْكَلْبِيّ: مَعْنَاهَا: يَا الله، ويضمر الدَّاعِي: استجب. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْمَعْنى: يَا أَمِين، أجب دعاءنا، فَسَقَطت " يَا " كَمَا سَقَطت فِي قَوْله تَعَالَى: {يُوسُف أعرض عَن هَذَا} [يُوسُف: 29] وَمن طول الْألف فَقَالَ آمين أَدخل ألف النداء على ألف أَمِين، كَمَا يُقَال: آزيد، أقبل، وَمَعْنَاهُ: يَا زيد. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هَذَا القَوْل خطأ عِنْد جَمِيع النَّحْوِيين؛ لِأَنَّهُ إِذا دخل " يَا " على " أَمِين " كَانَ منادى مُفردا، فَحكم آخِره الرّفْع، فَلَمَّا أَجمعت الْعَرَب على فتح نونه دلّ على أَنه غير منادى. وَإِنَّمَا فتحت نونه لسكونها وَسُكُون الْيَاء الَّتِي قبلهَا، كَمَا تَقول لَيْت وَلَعَلَّ.(1/426)
وَفِي أَمِين لُغَتَانِ: الْقصر وَالْمدّ، وَالنُّون فيهمَا مَفْتُوحَة، قَالَ: وأنشدنا أَبُو الْعَبَّاس عَن ابْن الْأَعرَابِي:
(سقى الله حَيا بَين صارة والحمى ... حمى فيد صوب المدجنات المواطر)
(أَمِين وَأدّى الله ركبا إِلَيْهِم ... بِخَير ووقاهم حمام المقادر)
وأنشدنا أَبُو الْعَبَّاس:
(تبَاعد مني فطحل إِذْ سَأَلته ... أَمِين فَزَاد الله مَا بَيْننَا بعدا)
وأنشدنا أَبُو الْعَبَّاس:
(يَا رب لَا تسلبني حبها أبدا ... وَيرْحَم الله عبدا قَالَ آمينا)
وأنشدني أبي:
(أَمِين وَمن أَعْطَاك مني هوادة ... رمى الله فِي أَطْرَافه فاقفعلت)
وأنشدني أبي:(1/427)
(فَقلت لَهُ قد هجت لي بارح الْهوى ... أصَاب حمام الْمَوْت أهوننا وجدا)
(أَمِين وأضناه الْهوى فَوق مَا بِهِ ... أَمِين ولاقى من تباريحه جهدا)
وَقَوله: " فَتلك بِتِلْكَ " فِيهِ وَجْهَان:
أَحدهمَا: فَتلك الدعْوَة مُتَعَلقَة بِتِلْكَ الْكَلِمَة. أَي أَن استجابة الدُّعَاء الْمَذْكُور فِي الْفَاتِحَة مُعَلّق بآمين، وَقَول: سمع الله لمن حَمده مُعَلّق بقوله: رَبنَا وَلَك الْحَمد.
وَالثَّانِي: أَن الْإِشَارَة إِلَى الصَّلَاة. وَالْمعْنَى أَن صَلَاتكُمْ معلقَة بِصَلَاة الإِمَام فَاتَّبعُوهُ وَلَا تخالفوه.
وَقَوله: سمع الله لمن حَمده: أَي أجَاب الله من حَمده، وَأنْشد ابْن الْأَعرَابِي:
(دَعَوْت الله حَتَّى خفت أَلا ... يكون الله يسمع مَا أَقُول)
وَقَوله: يسمع الله لكم: أَي يستجيب.
وَقد سبق تَفْسِير مَا أخللنا بِهِ من الحَدِيث.(1/428)
كشف الْمُشكل من مُسْند جرير بن عبد الله البَجلِيّ
روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة عشر حَدِيثا.
405 - / 495 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الثَّالِث: كُنَّا جُلُوسًا لَيْلَة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَنظر إِلَى الْقَمَر لَيْلَة أَربع عشرَة فَقَالَ: " إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ هَذَا، لَا تضَامون فِي رُؤْيَته ".
هَذَا تَشْبِيه بإيضاح الرُّؤْيَة لابالمرئي. وَقَوله: " لَا تضَامون " قد رويت على سِتَّة أوجه:
الرِّوَايَة الأولى: تضَامون بِضَم التَّاء وَالتَّخْفِيف الْمِيم وَعَلَيْهَا أَكثر الروَاة، وَالْمعْنَى: لَا ينالكم ضيم، والضيم: الظُّلم، وَرجل مضيم: مظلوم، وَهَذَا الضيم يلْحق الرَّائِي من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: من مزاحمة الناظرين لَهُ. وَالثَّانِي: من تَأَخره عَن مقَام النَّاظر الْمُحَقق(1/429)
فَكَأَن الْمُتَقَدِّمين ضاموه، ورؤية الْحق عز وَجل يَسْتَوِي فِيهَا الْكل وَلَا ضيم. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: الضيم: الذل وَالصغَار، فَكَأَنَّهُ يذل من سبق بِالرُّؤْيَةِ أَو حرم تحقيقها، وَالْأَصْل " يضيمون " فألقيت فَتْحة الْيَاء على الضَّاد فَصَارَت الْيَاء ألفا لانفتاح مَا قبلهَا.
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: تضَامون بِضَم التَّاء وَتَشْديد الْمِيم.
وَالثَّالِثَة: بِفَتْح التَّاء مَعَ تَشْدِيد الْمِيم. حَكَاهُمَا الزّجاج، وَقَالَ: الْمَعْنى فيهمَا: لَا تتضامون: أَي لَا يَنْضَم بَعْضكُم إِلَى بعض، فَيَقُول: هَذَا لهَذَا: أرأيته؟ كَمَا تَفْعَلُونَ عِنْد النّظر إِلَى الْهلَال.
وَالرِّوَايَة الرَّابِعَة: لَا تضَارونَ بِضَم التَّاء.
وَالْخَامِسَة: تضَارونَ بِفَتْح التَّاء وَالرَّاء مَكَان الْمِيم فِي الرِّوَايَتَيْنِ مُشَدّدَة، ذكرهمَا الزّجاج وَقَالَ: الْمَعْنى: لَا تتضارون، أَي لَا يضار بَعْضكُم بَعْضًا بالمخالفة فِي ذَلِك، يُقَال: ضاررت الرجل أضاره مضارة وضرارا: إِذا خالفته. وَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: هُوَ " يتفاعلون " من الضرار: أَي لَا يتنازعون ويختلفون، قَالَ الشَّاعِر:
(فيلتئم الصدع صدع الإخاء ... وَيتْرك أهل الضرار الضرارا)
وَالرِّوَايَة السَّادِسَة: تضَارونَ بِضَم التَّاء وَتَخْفِيف الرَّاء. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: تضَارونَ تَفْعَلُونَ من الضير، والضير والضر وَاحِد: أَي لَا يَقع لكم فِي رُؤْيَته ضرّ إِمَّا بالمخالفة والمنازعة، أَو لخفاء المرئي.
وَقَوله: " سَتَرَوْنَ ربكُم عيَانًا " ذكر العيان تَأْكِيد للرؤية وَتَحْقِيق لَهَا.
وَقَوله: " فَإِن اسْتَطَعْتُم أَلا تغلبُوا على صَلَاة قبل طُلُوع الشَّمْس " يَعْنِي الْفجْر، " وَقبل غُرُوبهَا " يَعْنِي: الْعَصْر. وَوجه الْمُنَاسبَة بَين ذكر الرُّؤْيَة والصلاتين أَنَّهُمَا من أفضل الْقرب، فَإِنَّهُ قَالَ عز وَجل فِي صَلَاة(1/430)
الْفجْر: {وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا} [الْإِسْرَاء: 78] وَقَالَ فِي صَلَاة الْعَصْر: {وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} [الْبَقَرَة: 238] فَكَأَنَّهُ يَقُول: دوموا على أفضل الْقرب لتنالوا أفضل العطايا.
406 - / 498 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَال ثمَّ تَوَضَّأ وَمسح على خفيه. قَالَ إِبْرَاهِيم - يَعْنِي النَّخعِيّ: كَانَ أَصْحَاب عبد الله يعجبهم هَذَا الحَدِيث؛ لِأَن إِسْلَام جرير كَانَ بعد نزُول " الْمَائِدَة ".
وَفَائِدَة هَذَا أَنه قد خص عُمُوم الْقُرْآن بِالْحَدِيثِ.
407 - / 499 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " استنصت لي النَّاس " ثمَّ قَالَ: " لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض ".
استنصت: أَي مرهم بالإنصات.
وَقد بَينا فِيمَا تقدم أَنه من قَاتل مُسلما بِلَا تَأْوِيل فَإِنَّمَا قَاتله لإسلامه فيكفر بذلك.
408 - / 500 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: فِي إحراق بَيت كَانَ للجاهلية يُقَال لَهُ الْكَعْبَة اليمانية، قَالَ جرير: مَا جئْتُك حَتَّى تركناها كَأَنَّهَا جمل أجرب.
وَشبه مَا بهَا من آثَار الإحراق وَالنَّقْص بِمَا بالجمل الأجرب.(1/431)
409 - / 502 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يلوي نَاصِيَة فرس بإصبعيه وَيَقُول: " الْخَيل مَعْقُود بنواصيها الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة: الْأجر وَالْغنيمَة ".
النواصي جمع نَاصِيَة، والناصية: مقدم شعر الرَّأْس من الْآدَمِيّ، وَهُوَ من الدَّابَّة شعر الْقَفَا، وَهَذَا مِمَّا ذكر مِنْهُ الْبَعْض وَالْمرَاد الْكل، وَقد يُقَال عَن العَبْد: نَاصِيَة مباركة.
وَقَوله: " الْأجر وَالْغنيمَة " جَامع لفوائد الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.
410 - / 503 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن نظرة الْفجأَة فَأمرنِي أَن أصرف بَصرِي. نظرة الْفجأَة: هِيَ وُقُوع الْبَصَر على مَا لم يقْصد بِالنّظرِ، وَتلك حَالَة قد جمعت وصفين: أَحدهمَا: أَنَّهَا لم تقصد، فَلَا إِثْم. وَالثَّانِي: أَن الطَّبْع لَيْسَ بحاضر، لِأَنَّهُ مَتى وَقع الْبَصَر على شخص فصرف فِي الْحَال كَانَ كَأَن الْإِنْسَان لم ير، فَأَما إِذا استدام أَو كرر حضر الطَّبْع فَوَقع الْفساد.
411 - / 504 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِذا أَتَاكُم الْمُصدق فليصدر عَنْكُم وَهُوَ رَاض ".
الْمُصدق هَاهُنَا هُوَ السَّاعِي لجمع الزَّكَاة. ومصدقو رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا من خِيَار مصدقيه، فَلَا غش فيهم وَلَا كدر، فَكَأَنَّهُ عرض للمعطين بأنكم أَنْتُم المقصرون فِي أَدَاء الْحق حِين قَالَ وَقد شكوا(1/432)
مصدقيه: " أرضوا مصدقيكم ".
412 - / 505 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " أَيّمَا عبد أبق فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة ".
ذمَّة الْإِسْلَام أوجبت على السَّيِّد مُرَاعَاة العَبْد وَألا يحْبسهُ وَلَا يُعَاقِبهُ فَإِذا أبق جَازَ لَهُ أَخذه وحبسه وعقوبته.
وَقَوله: " لم تقبل لَهُ صَلَاة " مَحْمُول على إِذا مَا اسْتحلَّ الْإِبَاق، وَبِذَلِك يكفر، فقد يمْتَنع قبُول الصَّلَاة بالمعصية، فَإِنَّهُ قد قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من شرب الْخمر لم تقبل لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا " وَيجوز أَن يُرَاد بالْكفْر كفر النِّعْمَة، وَالله أعلم.
413 - / 506 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: جَاءَهُ قوم عُرَاة مجتابي النمار أَو العباء، فتمعر وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
النمار جمع نمرة: وَهِي كسَاء من صوف ملون مخطط. واجتابوها: قطعوها فَلَبِسُوهَا، وأصل الجوب الْقطع، وَمِنْه: {جابوا الصخر بالواد} [الْفجْر: 9] .
والعباء جمع، واحده عباءة وعباية: وَهِي ضرب من الأكسية.
تمعر: تغير مِمَّا شقّ عَلَيْهِ من أَمرهم.
والفاقة: الْفقر.(1/433)
وأصل الكوم مَا ارْتَفع وأشرف.
وَقَوله: كَأَنَّهُ مذهبَة؛ كَانَ شَيخنَا أَبُو الْفضل بن نَاصِر يَقُول بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالْبَاء، يُشِير إِلَى لون الذَّهَب وإشراقه، كَأَن الْمَعْنى: كَأَنَّهُ مرْآة مذهبَة: أَي مطلية بِالذَّهَب. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي: كَأَنَّهُ مدهنة، بِالدَّال غير الْمُعْجَمَة وَالنُّون، قَالَ: والمدهن نقرة فِي الْجَبَل يستنقع فِيهَا مَاء الْمَطَر. والمدهن أَيْضا: مَا جعل فِيهِ الدّهن، والمدهنة من ذَلِك، شبه صفاء وَجهه بإشراق السرُور بصفاء هَذَا المَاء المستنقع فِي الْحجر أَو بصفاء الدّهن.
وَقَوله: " من سنّ فِي الْإِسْلَام سنة حَسَنَة " أَي فعل فعلا جميلا فاقتدي بِهِ وَكَذَلِكَ إِذا فعل فعلا قبيحا فاقتدي بِهِ فليجتهد الْإِنْسَان فِي فعل خير يلْحقهُ ثَوَابه بعد مَوته، وليحذر من فعل شَرّ يُدْرِكهُ إثمه بعد تلفه.
414 - / 507 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " من يحرم الرِّفْق يحرم الْخَيْر ".
وَهَذَا لِأَن عُمُوم الْأَشْيَاء لَا تتمّ إِلَّا بالرفق، فَإِذا حرمه الْإِنْسَان لم يكد غَرَضه يتم.(1/434)
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي جُحَيْفَة وهب بن عبد الله السوَائِي
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة أَحَادِيث.
415 - / 508 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأَيْت بَيَاضًا تَحت شفته السُّفْلى - العنفقة.
العنفقة: الشّعْر الَّذِي تَحت الشّفة السُّفْلى، وَقد كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَاب يَسِيرا، وَقد ذكرنَا شَيْبه وَمَا روى من خضابه فِي كتاب " الشيب ".
وَقَوله: أبري النبل. النبل: السِّهَام، وبريها إصلاحها. وأريشها: أجعَل لَهَا الريش.
416 - / 509 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة وَهُوَ بِالْأَبْطح، فَخرج بِلَال بوضوئه، فَمن نَاضِح ونائل.
الأبطح والبطحاء والبطيحة: كل مَكَان متسع من الأَرْض.(1/435)
وَالْوُضُوء بِفَتْح الْوَاو: المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ.
والناضح: الَّذِي يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا يَسِيرا. والنائل ينَال أَكثر من ذَلِك.
والبلل: نداوة الْيَد.
وأتتبع فَاه: أميل مَعَه يَمِينا وَشمَالًا.
وَحي على الصَّلَاة مَعْنَاهُ: هلموا وَأَقْبلُوا. والفلاح: الْفَوْز، وَيُقَال: الْبَقَاء.
والعنزة: الحربة. وركزها: أثبتها فِي الأَرْض.
417 - / 510 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَمر لنا بِثَلَاثَة عشر قلوصا.
القلوص: النَّاقة الطَّوِيلَة القوائم، وَقيل: القوية على السّير من النوق.
وَقَوله: كَانَ قد شمط. الشمط: اخْتِلَاط الشيب بسواد الشّعْر، وَمِنْه سمي الصَّباح شميطا لاختلاطه بباقي ظلمَة اللَّيْل.
418 - / 511 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
زار سلمَان أَبَا الدَّرْدَاء، فَرَأى أم الدَّرْدَاء متبذلة.
أَي فِي ثِيَاب البذلة: وَهِي خلاف ثِيَاب التجمل والتزين، وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاء من الزهاد، وَكَذَلِكَ كَانَ سلمَان لكنه كَانَ أفقه من أبي الدَّرْدَاء، وَلذَلِك جَاءَ فِي حَدِيث آخر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: " يَا عُوَيْمِر،(1/436)
سلمَان أفقه مِنْك ".
وَقد مضى خلق كثير من الزهاد وَقلت علومهم، فحملوا على النُّفُوس فَوق الطَّاقَة من التَّعَبُّد وهجر مَا يصلح النَّفس ويقيمها، ظنا مِنْهُم بِأَن المُرَاد من العَبْد ذَلِك، وَمَا أخوفني عَلَيْهِم من الْعقُوبَة بِمَا طلبُوا بِهِ المثوبة، فكم فيهم من سالك طَرِيق الرهبنة وَعِنْده أَنه على الشَّرْع، وَكم فيهم من تزوج وَترك الزَّوْجَة لَا أَيّمَا وَلَا ذَات بعل، وَكم فيهم من تبتل بترك النِّكَاح أصلا وَهَذِه رهبنة، وَكم فيهم من منع نَفسه مَا يصلحها حَتَّى خرج الْأَمر بِهِ إِلَى الْأَمْرَاض الشَّدِيدَة، وَإِنَّمَا الْبدن كالناقة، وَالنَّفس كالراكب، وَمَتى لم يرفق الرَّاكِب بالناقة لم تبلغه، فَعَلَيْك بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا تقتد بمعظم فِي النُّفُوس مَذْكُور بالزهد إِذا كَانَ على خلاف السّنة.
419 - / 512 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: نهى عَن ثمن الدَّم، وَثمن الْكَلْب، وَكسب الْبَغي.
أما ثمن الدَّم فَالْمُرَاد بِهِ أجر الْحجام، وَهَذَا على وَجه الْكَرَاهَة، وَإِنَّمَا كره لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه لَا يعرف قدر مَا يخرج من الدَّم فيتهيأ قطع أُجْرَة لذَلِك. وَالثَّانِي: أَن هَذَا مِمَّا يعين فِيهِ الْمُسلمُونَ بَعضهم بَعْضًا، كَغسْل الْمَيِّت وَدَفنه، فَلَا يَنْبَغِي للْمُسلمِ إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسلم فِي هَذَا أَن يَأْخُذ عَنهُ أُجْرَة.
وَأما الْكَلْب فعندنا لَا يجوز بَيْعه وَإِن كَانَ معلما. وَقَالَ أَبُو حنيفَة:(1/437)
يجوز. وَعَن الْمَالِكِيَّة كالمذهبين. والْحَدِيث دليلنا، وَقد روى النَّهْي عَن ثمن الْكَلْب أَبُو جُحَيْفَة، وَأَبُو مَسْعُود البدري، وَجَابِر بن عبد الله، وكل أَحَادِيثهم فِي الصَّحِيح. وَقد ثَبت أَن ظَاهر النَّهْي التَّحْرِيم إِلَّا أَن تظهر قرينَة أَنه نهي تَنْزِيه كَأُجْرَة الْحجام، فَإِنَّهُ لما أعْطى الْحجام أُجْرَة علمنَا أَنه نهي كَرَاهَة. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب يدل على فَسَاد العقد؛ لِأَن العقد إِذا صَحَّ كَانَ دفع الثّمن مَأْمُورا بِهِ، فَدلَّ نَهْيه على سُقُوط وُجُوبه، وَإِذا بَطل الثّمن بَطل البيع؛ لِأَن البيع إِنَّمَا هُوَ عقد على شَيْء مَعْلُوم، وَإِذا بَطل الثّمن بَطل الْمُثمن، كَقَوْلِه عَلَيْهِ السَّلَام: " فجملوها فَبَاعُوهَا وأكلوا أثمانها " فَجعل حكم الثّمن والمثمن سَوَاء.
وَأما الْبَغي فَهِيَ الزَّانِيَة، فَكَانُوا يضْربُونَ على الْإِمَاء الْخراج فيؤدين أُجْرَة أَعمال يعملنها، كالخبز وَغَيره، ويتعبن من خلال ذَلِك، فَيصير كَسْبهنَّ شُبْهَة، فَأَما إِذا لم يعلم لَهَا كسبا إِلَّا الْبَغي فَهُوَ حرَام بحت.
وَفِي هَذَا الحَدِيث: لعن الواشمة والمستوشمة. وَقد سبق فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
420 - / 513 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " لَا آكل وَأَنا متكئ ".(1/438)
الْمَشْهُور فِي معنى هَذَا الحَدِيث أَنه الاتكاء على أحد الْجَانِبَيْنِ، وَفِي ذَلِك شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَنه فعل المتجبرين والمتكبرين. وَالثَّانِي: أَنه يمْنَع من نزُول الطَّعَام كَمَا يَنْبَغِي إِلَى المعى، وَرُبمَا لم يسلم من ضغط يَنَالهُ الْأكل من مجاري طَعَامه. وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ يذهب إِلَى مَذْهَب فِيهِ بعد فَيَقُول: المتكئ هَاهُنَا هُوَ الْمُعْتَمد على الوكاء الَّذِي تَحْتَهُ، وكل من اسْتَوَى قَاعِدا على وطاء فَهُوَ متكئ، والاتكاء مَأْخُوذ من الوكاء، فالمتكئ هُوَ الَّذِي أوكأ مقعدته وشدها بالقعود على الوكاء الَّذِي تَحْتَهُ، فَالْمَعْنى: أَنِّي إِذا أكلت لم أقعد مُتكئا على الأوطئة والوسائد فعل من يُرِيد أَن يستكثر من الْأَطْعِمَة، وَلَكِنِّي آكل علقَة فَيكون قعودي مستوفزا. ويروى أَنه كَانَ يَأْكُل مقعيا وَيَقُول: " أَنا عبد آكل مِمَّا يَأْكُل العَبْد ".(1/439)
كشف الْمُشكل من حَدِيث عدي بن حَاتِم الطَّائِي
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة وَسِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة.
421 - / 514 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " إِذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وَإِن أَصَابَهُ بِعرْض فَلَا تَأْكُله ".
المعراض: نصل عريض لَهُ ثقل ورزانة، فَإِذا أصَاب بحده قطع فذكى، وَإِذا أصَاب بعرضه وقذ فَكَانَت ميتَة. والخرق: الطعْن، والخارق من السِّهَام مَا أصَاب الْغَرَض وَأثر فِيهِ.
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط فِي إِبَاحَة الصَّيْد ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَهْلِيَّة الصَّائِد، وصلاحية الْآلَة، وَكَيْفِيَّة الِاصْطِيَاد. فَأَما الْأَهْلِيَّة فَأن يكون الصَّائِد من أهل الذَّكَاة كَالْمُسلمِ والكتابي. فَأَما الْآلَة فنوعان: جوارح وَغير جوارح، فالجوارح نَوْعَانِ: حَيَوَان ومحدد، فالحيوان نَوْعَانِ: أَحدهمَا يصيد بنابه كَالْكَلْبِ والفهد والنمر، وَالثَّانِي بمخلابه كالبازي والصقر وَالْعِقَاب والشاهين. وَإِنَّمَا يُبَاح صيدهن بعد التَّعْلِيم، وَيعلم التَّعْلِيم بِأَن(1/440)
يُرْسِلهُ فيسترسل، ويدعوه فَيرجع، وَيشْتَرط فِي تَعْلِيم ذِي الناب أَلا يَأْكُل مَا أمْسكهُ وَلَو مرّة. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: حد تَعْلِيم سِبَاع الْبَهَائِم أَن تصيد وَلَا تَأْكُل ثَلَاث مَرَّات. وَأما ذَوُو المخلاب فَلَا يشْتَرط فِي تعليمهن ترك الْأكل؛ لِأَنَّهُنَّ يعلمن بِالْأَكْلِ، وذوو الناب يعلمن بترك الْأكل، فَإِن أكل ذُو الناب من صَيْده بعد تعلمه لم يحرم مَا يقدم من صيوده خلافًا لأبي حنيفَة، وَهل يحرم مَا أكل مِنْهُ؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: فَإِذا أدْرك الصَّيْد وَفِيه حَيَاة فَمَاتَ قبل أَن يذكيه، فَإِن كَانَ ذَلِك قبل الْقُدْرَة على تذكيته أُبِيح، وَإِن أمكنه فَلم يذكه لم يبح، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يُبَاح فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
فَأَما الْكَلْب الْأسود فعندنا أَنه لَا يُبَاح صَيْده وَإِن كَانَ معلما؛ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بقتْله، وَالْأَمر بِالْقَتْلِ يمْنَع ثُبُوت الند وَيبْطل حكم الْفِعْل، فَيصير وجوده كَالْعدمِ.
وَأما الْجَارِح من المحدد فَكل مَا رمي بِهِ الصَّيْد فجرحه وأنهر دَمه، إِلَّا السن وَالظفر فَإِنَّهُ لَا يُبَاح الصَّيْد بهما، فَإِن رمى الصَّيْد بمحدد فَقتله بثقله وَلم يجرحه لم يحل، وَهَذَا الْمشَار إِلَيْهِ فِي هَذَا الحَدِيث بقوله: " وَإِن أَصَابَهُ بِعرْض فَلَا تَأْكُله " لِأَنَّهُ إِذا أَصَابَهُ بعرضه فَإِنَّمَا أَصَابَته خَشَبَة السهْم لَا حديدها الَّذِي يسيل الدَّم. فَإِن نصب منجلا أَو سكينا فجرح(1/441)
الصَّيْد فَقتله حل. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يحل.
وَأما غير الْجَوَارِح كالشبكة والفخ فَإِنَّهُ إِذا حصل فِيهَا الصَّيْد لم يبح أكله حَتَّى يدْرك وَبِه حَيَاة مُسْتَقِرَّة فيذكى.
وَأما كَيْفيَّة الِاصْطِيَاد فَيشْتَرط فِيهَا ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهمَا: التَّسْمِيَة، فَإِن أَتَى بغَيْرهَا من الْأَذْكَار لم يجز. وَأما إِن ترك التَّسْمِيَة فَعَن أَحْمد أَربع رِوَايَات. إِحْدَاهُنَّ: لَا يحل الْأكل سَوَاء نسي أَو تعمد، وَهَذَا قَول الشّعبِيّ وَأبي ثَوْر وَدَاوُد. وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: إِن تَركهَا عَامِدًا لم يحل وَإِن نسي حل، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَمَالك. وَالثَّالِثَة: إِن نَسِيَهَا على السهْم حل الْأكل، فَأَما على الْكَلْب والفهد فَلَا. وَالرَّابِعَة: يحل الْأكل سَوَاء تَركهَا عَامِدًا أَو سَهوا، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي.
وَقَوله: " فَإِن خالطها كلاب " وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أكلبه الَّذِي سمى عَلَيْهِ عقر هَذَا الصَّيْد أم غَيره، وَالْأَصْل الْحَظْر.
وَقَوله: " فَإِن أَخذ الْكَلْب ذَكَاة " أَي قَائِم مقَام الذَّكَاة.
وَقَوله: " فَإِن وجدته غريقا فِي المَاء فَلَا تَأْكُل، فَإنَّك لَا تَدْرِي المَاء قَتله أم سهمك " اعْلَم أَنه إِذا كَانَت الْجراحَة غير مُوجبَة ثمَّ وجد فِي المَاء فَإِنَّهُ لَا يحل أكله قولا وَاحِدًا، فَإِن كَانَت مُوجبَة قد وَقعت فِي مقتل، فَهَل يحل أم لَا؟ على رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، فَإِن قُلْنَا بِرِوَايَة الْمَنْع فَهِيَ على وفْق الحَدِيث، وَإِن قُلْنَا بِالْجَوَازِ كَانَ الْمَنْع من الحَدِيث(1/442)
مَحْمُولا على أحد شَيْئَيْنِ: إِمَّا على مَا إِذا لم تكن الْجراحَة فِي مقتل، وَإِمَّا على الْوَرع وَإِن كَانَت فِي مقتل.
وَقد جَاءَ فِي بعض أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث: " يَرْمِي الصَّيْد فيقتفر أَثَره الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة " أَي يتبع.
422 - / 515 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا سيكلمه ربه لَيْسَ بَينه وَبَينه ترجمان ".
الترجمان: الْمعبر عَن الْإِنْسَان.
قَوْله: " فَينْظر أَيمن مِنْهُ وأشأم مِنْهُ " يَعْنِي: عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله. " وتلقاء وَجهه " بَين يَدَيْهِ وَهُوَ مَا يلاقي وَجهه.
والشق هَاهُنَا نصف الشَّيْء، وَقد يَقع على الْمَشَقَّة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِلَّا بشق الْأَنْفس} [النَّحْل: 7] .
وأشاح بِمَعْنى أعرض، وَقَالَ أَبُو عبيد: أشاح بِمَعْنى حذر من الشَّيْء وَعدل عَنهُ، وَأنْشد:
(إِذا سمعن الرز من رَبَاح ... شايحن مِنْهُ أَيّمَا شياح)
وأشاح: إِذا جد فِي قتال أَو غَيره، قَالَ عبيد:
(قطعته غدْوَة مشيحا ... وصاحبي بازل خبوب)(1/443)
وَمعنى الحَدِيث: حذر كَأَنَّهُ ينظر إِلَى النَّار حِين ذكرهَا فَأَعْرض لذَلِك، وَيجوز أَن يكون أَرَادَ الْجد فِي كَلَامه، وَالْأول أشبه بِالْمَعْنَى.
والظعينة قد فسرناها فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: فَأَيْنَ دعار طَيء. الدعار جمع داعر: وهم قطاع الطَّرِيق، وأصل الْكَلِمَة من الْفساد، لِأَن الدعارة والدعر الْفساد. قَالَ شَيخنَا أَبُو مَنْصُور اللّغَوِيّ: والعامة تَقول: هم الذعار بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة، وَإِنَّمَا هُوَ بِالدَّال، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْعود الدعر، وَهُوَ الَّذِي يُؤْذِي بِكَثْرَة دخانه، قَالَ ابْن مقبل:
(باتت حواطب ليلى يلتمسن لَهَا ... جزل الجذا غير خوار وَلَا دعر)
فَإِن ذهب بهم إِلَى معنى الْفَزع جَازَ أَن يُقَال بِالذَّالِ.
وَقَوله: الَّذين سعروا الْبِلَاد: أَي ملئوها شرا وَفَسَادًا، وَهُوَ مستعار من اسْتعَار النَّار: وَهُوَ توقدها والتهابها.
وَقَوله: " لتفتحن كنوز كسْرَى " الْكُنُوز جمع كنز، قَالَ الزّجاج: هُوَ فِي اللُّغَة المَال المدفون المدخر.
وَأما كسْرَى فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ: هُوَ اسْم أعجمي، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ خسرو، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب، قَالَ عدي:(1/444)
(أَيْن كسْرَى كسْرَى الْمُلُوك أَبُو ساسان ... أم أَيْن قبله سَابُور)
وَقَالَ عَمْرو بن حسان:
(وكسرى إِذْ تقسمه بنوه ... بأسياف كَمَا اقتسم اللحام)
وكسرى بِكَسْر الْكَاف أفْصح من كسْرَى بِفَتْحِهَا، وَالنّسب إِلَيْهِ كسروي بِفَتْح الْكَاف، وَيجمع كسورا وأكاسر وأكاسرة.
وهرمز: اسْم أعجمي.
وَأما كَثْرَة المَال فِي آخر الزَّمَان فلكثرة الْفتُوح وانتشار الْإِسْلَام.
423 - / 516 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: لما نزلت: {حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود} [الْبَقَرَة: 187] عَمَدت إِلَى عقال أسود وَإِلَى عقال أَبيض.
العقال هَاهُنَا الْحَبل الَّذِي يعقل بِهِ الْبَعِير. وَقد جَاءَ هَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة أُخْرَى وَفِيه: " إِن وِسَادك إِذن لَعَرِيض " وَظَاهر هَذَا اللَّفْظ عرض الوساد لما تَحْتَهُ. وَفِي لفظ: " إِنَّك لَعَرِيض الْقَفَا " لِأَن عرض الوساد على قدر عرض الْقَفَا، وَفِي هَذَا كِنَايَة عَن البلادة؛ فَإِن المستثقل فِي النّوم عِنْدهم بليد والمتيقظ خَفِيف النّوم. ومقصود الحَدِيث: أَنَّك مَا فهمت. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا القَوْل: إِن نومك إِذن لطويل، فكنى بالوساد عَن النّوم؛ لِأَن النَّائِم يتوسد، وَالْعرض فِي مثل هَذَا(1/445)
يُرَاد بِهِ السعَة وَالْكَثْرَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَقد يتَأَوَّل هَذَا على أَن من يَأْكُل حَتَّى يسفر يَدُوم لَهُ عرض قَفاهُ وَلحم بدنه فَلَا ينهكه الصَّوْم. وَقد قيل: إِنَّمَا أشكل على عدي لِأَنَّهُ لم يكن نزل (من الْفجْر) قَالَ سهل بن سعد: نزلت هَذِه الْآيَة وَلم ينزل (من الْفجْر) فَكَانَ رجال إِذا أَرَادوا الصَّوْم ربط أحدهم فِي رجلَيْهِ الْخَيط الْأسود وَالْخَيْط الْأَبْيَض، وَلَا يزَال يَأْكُل حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ رئيهما، فَنزل قَوْله تَعَالَى: (من الْفجْر) فَعَلمُوا إِنَّمَا يَعْنِي بذلك اللَّيْل وَالنَّهَار.
424 - / 517 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا دِرْعِي ومغفري "
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس: درع الْحَدِيد مُؤَنّثَة، وَدرع الْمَرْأَة قميصها مُذَكّر. وَأما المغفر فجنة للرأس فِي الْحَرْب من حَدِيد أَيْضا، وَسمي مغفرا لِأَنَّهُ يستر الرَّأْس.
وَقَوله فِي الْيَمين: فليكفرها وليأت الَّذِي هُوَ خير. ظَاهره يدل(1/446)
على جَوَاز التَّكْفِير قبل الْحِنْث، وَسَوَاء كفر بِالْمَالِ أَو بالصيام، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد وَمَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز تَقْدِيمهَا بالصيام وَيجوز بِغَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز أصلا، وَإِن قدمهَا لم يجزه، وَمن حجَّة أبي حنيفَة أَن الْوَاو للْجمع لَا للتَّرْتِيب، وَأَن الْكَفَّارَة إِذا وَجَبت لأجل الْحِنْث.
425 - / 518 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن رجلا خطب فَقَالَ: من يطع الله وَرَسُوله فقد رشد، وَمن يعصهما فقد غوى، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " قل: وَمن يعْص الله وَرَسُوله ".
إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِ لِأَن جمع الِاثْنَيْنِ بِلَفْظ وَاحِد يدل على التَّسَاوِي، فَأَرَادَ مِنْهُ الْفرق لتعظيم الْعَظِيم.
والغواية: الضلال.(1/447)
كشف الْمُشكل من مُسْند جَابر بن سَمُرَة
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله مائَة حَدِيث وَسِتَّة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة وَعِشْرُونَ.
426 - / 519 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " إِذا هلك كسْرَى فَلَا كسْرَى بعده، وَإِذا هلك قَيْصر فَلَا قَيْصر بعده ".
وَأما كسْرَى فقد ذَكرْنَاهُ فِي الْمسند الَّذِي قبل هَذَا. وَأما قَيْصر فَقَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: قَيْصر اسْم أعجمي، وَهُوَ اسْم لملك الرّوم، كَمَا أَن تبعا للْعَرَب، وكسرى للْفرس، وَالنَّجَاشِي للحبشة، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب قَدِيما، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس:
(بَكَى صَاحِبي لما رأى الدَّرْب دونه ... وأيقن أَنا لاحقان بقيصرا)
وَقَالَ جرير:(1/448)
(إِذا افْتَخرُوا عدوا الصبهبذ مِنْهُم ... وكسرى وَآل الهرمزان وقيصرا)
وَهَذَا الحَدِيث يشكل على من سمع أَن كسْرَى لما قتل ملك وَلَده ثمَّ ملك بعده جمَاعَة، وَكَذَلِكَ قَيْصر، وَالَّذِي يزِيل الْإِشْكَال أَن كسْرَى وَقَيْصَر كَانَا فِي ملك ثَابت، فَلَمَّا زَالا تزلزل ملكهمَا وَمَا زَالَ إِلَى انمحاق وانقراض وَمَا خلفهمَا مثلهمَا، وَهَذَا كَمَا يُقَال للْمَرِيض: هَذَا ميت، وَالْمعْنَى أَنه قريب من الْمَوْت وَأَن أَحْوَاله تحمله إِلَيْهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: قدرُوا صِحَة هَذَا فِي كسْرَى، فَكيف بقيصر ومملكة الرّوم إِلَى الْيَوْم بَاقِيَة؟ فقد أجَاب عَن هَذَا أَبُو الْوَفَاء بن عقيل فَقَالَ: كَانَت الْعَرَب بَين هذَيْن الْملكَيْنِ كالكرة يلعبان بهم، ويحملون إِلَيْهِمَا الْهَدَايَا، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام صَارَت كلمة الْعَرَب الْعليا، فَلَا كسْرَى وَلَا قَيْصر من حَيْثُ الْمَعْنى، إِنَّمَا هُوَ اسْم فارغ من الْمَعْنى.
427 - / 520 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " يكون بعدِي اثْنَا عشر أَمِيرا كلهم من قُرَيْش " وَفِي رِوَايَة: " لَا يزَال أَمر النَّاس مَاضِيا مَا وليهم اثْنَا عشر رجلا كلهم من قُرَيْش ". وَفِي رِوَايَة: " لَا يزَال الدّين قَائِما حَتَّى تقوم السَّاعَة أَو يكون عَلَيْكُم اثْنَا عشر خَليفَة كلهم من قُرَيْش " وَفِي رِوَايَة: " لَا يزَال هَذَا الدّين عَزِيزًا منيعا إِلَى اثْنَي عشر خَليفَة كلهم من قُرَيْش ".
هَذَا الحَدِيث قد أطلت الْبَحْث عَنهُ، وطلبته مظانه، وَسَأَلت عَنهُ،(1/449)
فَمَا رَأَيْت أحدا وَقع على الْمَقْصُود بِهِ، وَأَلْفَاظه مُخْتَلفَة لَا أَشك أَن التَّخْلِيط فِيهَا من الروَاة، وَبقيت مُدَّة لَا يَقع لي فِيهِ شَيْء، ثمَّ وَقع لي فِيهِ شَيْء فسطرته، ثمَّ رَأَيْت أَبَا سُلَيْمَان الْخطابِيّ قد أَشَارَ إِلَى مَا وَقع لي، ثمَّ وَقع إِلَيّ كَلَام لأبي الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي على هَذَا الحَدِيث على وَجه آخر، ثمَّ وَقع لي حَدِيث يدل على وَجه ثَالِث، وَهَاهُنَا أذكر الْوُجُوه الثَّلَاثَة:
أما الْوَجْه الأول الَّذِي وَقع لي ثمَّ رَأَيْت من كَلَام الْخطابِيّ مَا يُوَافقهُ: فَهُوَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا يكون بعده وَبعد أَصْحَابه، لِأَن حكم أَصْحَابه مُرْتَبِط بِحكمِهِ، فَأخْبر عَن الولايات الْوَاقِعَة بعد ذَلِك وَأَنَّهَا تتمّ لأربابها فِي هَذِه الْمدَّة ثمَّ تنْتَقل الْإِمَارَة، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى مُدَّة ولَايَة بني أُميَّة فَيكون مُرَاده بقوله: " لَا يزَال الدّين " يَعْنِي الْولَايَة وَالْملك إِلَى أَن يذهب اثْنَا عشر خَليفَة ثمَّ تنْتَقل الْإِمَارَة، وَهَذَا على شرح الْحَال فِي استقامة السلطنة لَا على طَرِيق الْمَدْح لولاية بني أُميَّة. فَأول الْقَوْم يزِيد بن مُعَاوِيَة، ثمَّ ابْنه مُعَاوِيَة بن يزِيد - وَلَا يذكر ابْن الزبير لكَونه معدودا فِي الصَّحَابَة، وَلَا مَرْوَان بن الحكم لكَونه بُويِعَ لَهُ بعد بيعَة ابْن الزبير، وَكَانَ ابْن الزبير أولى مِنْهُ فَكَانَ هُوَ فِي مقَام غَاصِب - ثمَّ عبد الْملك، ثمَّ الْوَلِيد، ثمَّ سُلَيْمَان، ثمَّ عمر بن عبد الْعَزِيز، ثمَّ يزِيد بن عبد الْملك، ثمَّ هِشَام بن عبد الْملك، ثمَّ الْوَلِيد ابْن يزِيد، ثمَّ يزِيد بن الْوَلِيد بن عبد الْملك، ثمَّ إِبْرَاهِيم بن الْوَلِيد، ثمَّ مَرْوَان بن مُحَمَّد، فَهَؤُلَاءِ اثْنَا عشر. ثمَّ خرجت الْخلَافَة مِنْهُم وانتقلت إِلَى بني الْعَبَّاس صلوَات الله عَلَيْهِ. وَمِمَّا يُقَوي هَذَا القَوْل مَا(1/450)
روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " تَدور رحى الْإِسْلَام لخمس وَثَلَاثِينَ، أَو سِتّ وَثَلَاثِينَ، أَو سبع وَثَلَاثِينَ، فَإِن يهْلكُوا فسبيل من هلك، وَإِن يقم لَهُم دينهم يقم لَهُم سبعين عَاما " وَرَوَاهُ الْخطابِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود أَيْضا، فَقَالَ فِيهِ: " يقم لَهُم سبعين عَاما " فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، سوى الثَّلَاث وَالثَّلَاثِينَ؟ قَالَ: " نعم ".
قلت: وَفِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ - وَقيل سِتّ وَثَلَاثِينَ - قتل عُثْمَان، فَيمكن أَن يُرِيد بدوران الرَّحَى استقامة الْأَمر، وَيُمكن أَن يُرِيد بذلك زَوَال الاسْتقَامَة بِدَلِيل أَنه فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: " إِن رحى الْإِسْلَام ستزول بعد خمس وَثَلَاثِينَ سنة، أَو سِتّ وَثَلَاثِينَ، أَو سبع وَثَلَاثِينَ " وَذكر الزَّوَال أبين، وَالْمعْنَى: تَزُول الرَّحَى عَن استقرارها. فَإِن كَانَت الرِّوَايَة سنة خمس فَفِيهَا قدم أهل مصر وحصروا عُثْمَان، وَإِن كَانَت سنة سِتّ فَفِيهَا خرج طَلْحَة وَالزُّبَيْر إِلَى الْجمل، وَإِن كَانَت سنة سبع فَفِيهَا كَانَت صفّين، فتغيرت الْأَحْوَال فِي هَذِه الْأَشْيَاء ثمَّ استقام الْملك إِلَى انْقِرَاض ملك بني أُميَّة وعادت الْفِتَن.
وَفِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث: " إِن رحى الْإِسْلَام ستزول بعد خمس وَثَلَاثِينَ سنة، فَإِن يصطلحوا فِيمَا بَينهم يَأْكُلُوا الدُّنْيَا سبعين عَاما رغدا، وَإِن يقتتلوا يركبُوا سنَن من كَانَ قبلهم " وَقَالَ الْخطابِيّ: قَوْله:(1/451)
" تَدور رحى الْإِسْلَام " كِنَايَة عَن الْحَرْب، شبهها بالرحى الَّتِي تطحن الْحبّ لما يكون فِيهَا من تلف الْأَرْوَاح. قَالَ: وَقَوله: يقم لَهُم دينهم: أَرَادَ بِالدّينِ هَاهُنَا الْملك، قَالَ زُهَيْر:
(لَئِن حللت بجو فِي بني أَسد ... فِي دين عَمْرو وحالت بَيْننَا فدك)
يُرِيد فِي ملك عَمْرو وولايته. قَالَ الْخطابِيّ: وَيُشبه أَن يكون أَرَادَ بِهَذَا ملك بني أُميَّة وانتقاله عَنْهُم إِلَى بني الْعَبَّاس، فَكَانَ مَا بَين اسْتِقْرَار الْملك بيي أُميَّة وَظُهُور الوهن فِيهِ نَحوا من سبعين سنة.
قلت: وَيدل على هَذَا مَا أخبرنَا بِهِ أَبُو مَنْصُور عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الْوَاحِد قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو سعيد الْمَالِينِي قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن عدي قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر المطيري قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن السكن قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن ذؤاد - بغدادي - قَالَ: حَدثنَا ذؤاد بن علبة عَن عبد الله بن عُثْمَان بن خثيم من أبي الطُّفَيْل عَامر بن وَاثِلَة عَن عبد الله ابْن عَمْرو قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا ملك اثْنَا عشر من بني كَعْب ابْن لؤَي كَانَ النقف والنقاف إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " قَالَ ذؤاد: قَالَ لي عبد الله بن عُثْمَان وَأَنا أَطُوف مَعَه: وَرب هَذِه البنية، لقد حدثتك كَمَا حَدثنِي أَبُو الطُّفَيْل.
وَأخْبرنَا عبد الْحق بن عبد الْخَالِق قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن مَرْزُوق(1/452)
قَالَ: حَدثنَا أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أَخْبرنِي عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن الرزاز قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان النجاد قَالَ: قرئَ على الْحسن بن مكرم وَأَنا أسمع قَالَ: قَرَأنَا على قيس بن مُحَمَّد الْبَصْرِيّ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن مَنْصُور عَن ربعي عَن الْبَراء بن نَاجِية عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " تَدور رحى الْإِسْلَام فِي خمس وَثَلَاثِينَ أَو سِتّ وَثَلَاثِينَ أَو سبع وَثَلَاثِينَ، فَإِن يهْلكُوا فسبيل من يهْلك، وَإِن يقم لَهُم دينهم يقم لَهُم سبعين عَاما " قلت: يَا رَسُول الله، مِمَّا مضى أَو مِمَّا بَقِي؟ قَالَ: مِمَّا بَقِي. قَالَ الْخَطِيب: قَوْله: " تَدور رحى الْإِسْلَام " مثل يُرِيد بِهِ أَن هَذِه الْمدَّة إِذا انْتَهَت حدث فِي الْإِسْلَام أَمر عَظِيم يخَاف لذَلِك على أَهله الْهَلَاك، يُقَال لِلْأَمْرِ إِذا تغير واستحال: قد دارت رحاه، وَهَذَا - وَالله أعلم - إِشَارَة إِلَى انْقِضَاء مُدَّة الْخلَافَة. وَقَوله: " يقم لَهُم دينهم " أَي ملكهم وسلطانهم، وَالدّين: الْملك وَالسُّلْطَان، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ ليَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك} [يُوسُف: 76] وَكَانَ بَين مبايعة الْحسن بن عَليّ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان إِلَى انْقِضَاء ملك بني أُميَّة من الْمشرق نَحْو من سبعين سنة.
وَأما الْوَجْه الثَّانِي الَّذِي ذكره أَبُو الْحُسَيْن بن الْمُنَادِي فِي هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله: " يكون بعدِي اثْنَا عشر خَليفَة " قَالَ: هَذَا إِنَّمَا يكون بعد موت الْمهْدي الَّذِي يخرج فِي أَوَاخِر الزَّمَان. قَالَ: وَقد وجدنَا فِي كتاب " دانيال ": إِذا مَاتَ الْمهْدي ملك خَمْسَة رجال وهم من ولد(1/453)
السبط الْأَكْبَر - يَعْنِي ابْن الْحسن بن عَليّ، ثمَّ يملك بعدهمْ خَمْسَة رجال من ولد السبط الْأَصْغَر، ثمَّ يُوصي آخِرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الْأَكْبَر فَيملك، ثمَّ يملك بعده وَلَده، فَيتم بذلك اثْنَا عشر ملكا كل وَاحِد مِنْهُم إِمَام مهْدي. قَالَ ابْن الْمُنَادِي: وَوجدنَا فِي رِوَايَة أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس أَنه ذكر الْمهْدي فَقَالَ: اسْمه مُحَمَّد بن عبد الله، وَهُوَ رجل ربعَة مشرب حمرَة، يفرج الله بِهِ عَن هَذِه الْأمة كل كرب، وَيصرف بعدله كل جور، ثمَّ يَلِي الْأَمر بعده اثْنَا عشر رجلا خمسين وَمِائَة، فستة من ولد الْحسن، وَوَاحِد من ولد عقيل بن أبي طَالب، وَخَمْسَة من ولد الْحُسَيْن، ثمَّ يَمُوت فَيفْسد الزَّمَان وَيعود الْمُنكر. قَالَ: وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار: يكون اثْنَا عشر مهديا، ثمَّ ينزل روح الله فَيقْتل الدَّجَّال. قَالَ: وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بقوله " لَا مهْدي إِلَّا عِيسَى " يَعْنِي لَا نَبِي يظْهر سواهُ.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَنه أَرَادَ وجود اثْنَي عشر خَليفَة فِي جَمِيع مُدَّة الْخلَافَة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة يعلمُونَ بِالصَّوَابِ وَإِن لم تتوال أيامهم، فقد يكون الرجل عادلا، وَيَأْتِي بعده من يجور، ثمَّ يَأْتِي بعد مُدَّة من يعدل، فَيتم عدل الاثْنَي عشر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وَيدل على هَذَا الْوَجْه مَا أخبرنَا بِهِ أَبُو مَنْصُور عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْقَزاز قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر أَحْمد ابْن عَليّ بن ثَابت قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد بن عمر الْمُقْرِئ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الشَّافِعِي قَالَ: حَدثنَا معَاذ بن الْمثنى قَالَ:(1/454)
حَدثنَا مُسَدّد قَالَ: حَدثنَا يحيى بن أبي يُونُس قَالَ: حَدثنَا أَبُو بَحر أَن أَبَا المجلد حَدثهُ وَحلف عَلَيْهِ: أَنه لَا تهْلك هَذِه الْأمة حَتَّى يكون فِيهَا اثْنَا عشر خَليفَة كلهم يعْمل بِالْهدى وَدين الْحق، مِنْهُم رجلَانِ من أهل بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يعِيش أحدهم أَرْبَعِينَ سنة والأخر ثَلَاثِينَ سنة.
وَأما الْأَسْلَمِيّ فَهُوَ مَاعِز.
والعصبة والعصابة: الْجَمَاعَة.
وَالْبَيْت الْأَبْيَض قصر كسْرَى، وَكَانَ مَبْنِيا بالجص، وَكَانَت فِيهِ أَمْوَال عَظِيمَة، فروينا فِي الْفتُوح أَن سعد بن أبي وَقاص خَاضَ بِأَصْحَابِهِ دفتيه وَهِي تطفح - إِلَى ولد كسْرَى، فَمَا بلغ المَاء إِلَى حزَام الْفرس، وَمَا ذهب للْمُسلمين شَيْء، إِلَّا أَن قدحا وَقع وَأَخذه رجل برمحه من المَاء، فَعرفهُ صَاحبه فَأَخذه، ووجدوا قبابا مَمْلُوءَة سلالا فِيهَا آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، ووجدوا كافورا فظنوه ملحا فعجنوا بِهِ فوجدوا مرارته فِي الْخبز، فَكَانَ فِي بيُوت أَمْوَال كسْرَى ثَلَاثَة آلَاف ألف ألف ثَلَاث مَرَّات.
428 - / 521 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" لينتهين أَقوام يرفعون أَبْصَارهم إِلَى السَّمَاء فِي الصَّلَاة أَو لَا يرجع إِلَيْهِم ".
لما كَانَ الْمَأْخُوذ على المتعبد فِي الصَّلَاة أَن يخشع، والخشوع: التذلل والتواضع، ناسب هَذَا الْوَعيد سوء الْأَدَب.(1/455)
429 - / 522 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " مَالِي أَرَاكُم رافعي أَيْدِيكُم كَأَنَّهَا أَذْنَاب خيل شمس، اسكنوا فِي الصَّلَاة " ثمَّ خرج علينا فرآنا حلقا فَقَالَ: " مَالِي أَرَاكُم عزين؟ ".
الشَّمْس جمع شموس: وَهُوَ من الدَّوَابّ الَّذِي لَا يكَاد يسْتَقرّ. وَقد احْتج بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة بِهَذَا الحَدِيث فِي مَنعهم رفع الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوع وَعند الرّفْع مِنْهُ، وَلَيْسَ لَهُم فِيهِ حجَّة؛ لِأَنَّهُ قد رُوِيَ مُفَسرًا بعد حديثين، قَالَ جَابر: صلينَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكُنَّا إِذا سلمنَا قُلْنَا بِأَيْدِينَا: السَّلَام عَلَيْكُم، السَّلَام عَلَيْكُم، فَنظر إِلَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " مَا شَأْنكُمْ تشيرون بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَاب خيل شمس؟ إِذا سلم أحدكُم فليلتفت إِلَى صَاحبه وَلَا يُومِئ بِيَدِهِ " فَبَان بِهَذَا أَنه لَيْسَ لرفع الْأَيْدِي للتكبير.
وَالْحلق جمع حَلقَة: وَهِي الْجَمَاعَة المستديرة.
قَالَ الْفراء: والعزون الْحلق، الْجَمَاعَات، وَاحِدهَا عزه، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: عزين جمع عزة، مثل ثبة وثبين، فَهِيَ جماعات فِي تَفْرِقَة. وَقيل: الأَصْل فِي الِاسْم أَن كل جمَاعَة كَانَ اعتزاؤها وَاحِدًا فَهِيَ عزة.
وَقَوله: " وتتراصون فِي الصَّفّ " أَي تتضامون فِيهِ.(1/456)
430 - / 523 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أتوضأ من لُحُوم الْإِبِل؟ قَالَ: " نعم، فَتَوَضَّأ من لُحُوم الْإِبِل " قَالَ: أُصَلِّي فِي مرابض الْغنم؟ قَالَ: " نعم ". قَالَ: أُصَلِّي فِي مبارك الْإِبِل؟ قَالَ: " لَا ".
فِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على وجوب الْوضُوء على من أكل لحم الْجَزُور، وَبِه قَالَ من الصَّحَابَة جَابر بن سَمُرَة رَاوِي هَذَا الحَدِيث، وَمن الْفُقَهَاء يحيى بن يحيى، وَابْن رَاهَوَيْه، وَدَاوُد، وَهُوَ أظهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد بن حَنْبَل، خلافًا لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. فَأَما إِذا شرب من لَبنهَا أَو أكل من كَبِدهَا أَو طحالها فَهَل ينْتَقض وضوءه؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد.
ومرابض الْغنم: مَوَاضِع ربوضها. ومبارك الْإِبِل: مَوضِع بروكها، والبرك فِي اللُّغَة الصَّدْر، وَإِنَّمَا قيل: برك الْبَعِير لوُقُوعه على صَدره، وَالْمرَاد بمباركها أَمَاكِن إِقَامَتهَا. وَظَاهر هَذَا أَن الصَّلَاة فِيهَا لَا تصح، وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة: تكره وَتَصِح، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ.
431 - / 525 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " ثمَّ يسلم على أَخِيه من على يَمِينه وشماله ".
عندنَا أَنه يَنْوِي بِالسَّلَامِ الْخُرُوج من الصَّلَاة، فَيحمل هَذَا الْكَلَام(1/457)
على معنى: ثمَّ يسلم كَمَا يسلم على أَخِيه: وَعند أَصْحَاب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: يَنْوِي السَّلَام على الْمَلَائِكَة والمأمومين. وَنحن نقُول: مَتى نوى هَذَا وَلم ينْو الْخُرُوج من الصَّلَاة كره لَهُ، إِلَّا أَن أَحْمد نَص على أَنَّهَا لَا تبطل. وَقَالَ ابْن حَامِد: تبطل، وَاخْتلف أَصْحَابنَا: هَل تجب نِيَّة الْخُرُوج من الصَّلَاة؟ على وَجْهَيْن.
432 - / 526 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " إِن الله تَعَالَى سمى الْمَدِينَة طابة ".
قَالَ ابْن فَارس: طابة وطيبة من الطّيب، وَذَلِكَ أَنَّهَا طهرت من الشّرك، وكل طَاهِر طيب، وَلذَلِك يُسمى الِاسْتِنْجَاء استطابة، لِأَن الْإِنْسَان تطيب نَفسه من الْخبث.
433 - / 527 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: رَأَيْت ماعزا حِين جِيءَ بِهِ وَهُوَ أعضل.
الأعضل: الْكثير اللَّحْم، مَأْخُوذ من العضلة: وَهِي اللحمة الصلبة فِي العصب.
والأخر: على فعل الْمُدبر المتخلف، وَهَذَا يُقَال فِي السب والشتم: أبعد الله الْأُخَر.
فرجمه: أَي ضربه بِالرَّجمِ، وَالرَّجم: الْحِجَارَة، وَفِي الحَدِيث:(1/458)
" لَا ترجموا قَبْرِي " أَي لَا تدعوا عَلَيْهِ الْحِجَارَة، دَعوه مستويا.
وَقَوله: " خلف أحدهم " أَي بَقِي بَعدنَا.
وَقَوله: " لَهُ نبيب كنبيب التيس " نبيبه صَوته عِنْد السفاد.
وَقَوله: " يمنح أحدهم " أَي يُعْطي " الكثبة " وَهِي الْقَلِيل من اللَّبن.
وَقَوله: " لأنكلنه عَنْهُن " النكال: الْعقُوبَة، وَالْمعْنَى لأعاقبنه ليرْجع عَنْهُن.
وَقَوله فَرده مرَّتَيْنِ - وروى: أَرْبعا. من روى أَرْبعا فقد زَاد، وَالزِّيَادَة من الثِّقَة مُقَدّمَة. وَعِنْدنَا أَنه لَا يجب حد الزِّنَا إِلَّا بِالْإِقْرَارِ أَربع مَرَّات. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِذا أقرّ مرّة وَاحِدَة حد. وَأَبُو حنيفَة يوافقنا فِي الْأَرْبَع إِلَّا أَنه يَقُول: يحْتَاج الْإِقْرَار أَن يكون فِي أَرْبَعَة مجَالِس مُتَفَرِّقَة، فَلَو أقرّ عَن يَمِين الْحَاكِم ويساره وأمامه ووراءه كَانَت أَرْبَعَة مجَالِس، وَعِنْدنَا أَنه يَصح الْإِقْرَار فِي مجْلِس وَاحِد. فَأَما إِذا ثَبت الزِّنَا بالشهود فعندنا أَن الْمجْلس الْوَاحِد شَرط فِي اجْتِمَاع الشُّهُود وَأَدَاء الشَّهَادَة، فَإِذا جمعهم مجْلِس وَاحِد سَمِعت شَهَادَتهم وَإِن جَاءُوا مُتَفَرّقين، ووافقنا أَبُو حنيفَة وَمَالك أَن الْمجْلس الْوَاحِد شَرط لكنهما قَالَا: هُوَ شَرط فِي مجيئهم مُجْتَمعين، فَإِن جَاءُوا مُتَفَرّقين فِي مجْلِس وَاحِد حدوا. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَيْسَ الْمجْلس الْوَاحِد شرطا فِي اجْتِمَاعهم وَلَا فِي مجيئهم، وَمَتى شهدُوا بِالزِّنَا مُتَفَرّقين وَجب الْحَد على الزَّانِي، فَإِذا لم يكمل عدد الشُّهُود فَإِنَّهُم قذفة يحدون عندنَا وَعند أبي حنيفَة وَمَالك، خلافًا لأحد(1/459)
قولي الشَّافِعِي: إِنَّهُم لَا يحدون.
434 - / 529 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: كَانَ يخْطب قَائِما ثمَّ يجلس، ثمَّ يقوم فيخطب.
أما خطْبَة الْجُمُعَة فَإِنَّهَا شَرط فِي صِحَة الْجُمُعَة عِنْد أَكثر الْفُقَهَاء خلافًا لداود، وَأما الْقيام فِي الْخطْبَتَيْنِ وَالْجُلُوس بَينهمَا فَسنة عِنْد أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد، وَعند الشَّافِعِي أَن ذَلِك شَرط فِي صِحَّتهَا فَلَا تجزي مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام، وَإِن ترك الْقعُود بَينهمَا لم تجز الْخطْبَة، فَإِن كَانَ مَرِيضا خطب جَالِسا وَفصل بَين الْخطْبَتَيْنِ بسكته.
435 - / 530 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَت صلَاته قصدا وخطبته قصدا.
الْقَصْد: بَين الطول وَالْقصر.
436 - / 533 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: كَانَ بِلَال يُؤذن إِذا دحضت الشَّمْس.
يَعْنِي زَالَت.
437 - / 535 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: كَانَ إِذا صلى الْفجْر(1/460)
جلس فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تطلع الشَّمْس حسناء.
الَّذِي قرأناه على مَشَايِخنَا حسناء على وزن فعلاء، وَإِنَّمَا تظهر حَسَنَة إِذا أخذت فِي الِارْتفَاع، فَحِينَئِذٍ يتكامل ضوءها وَيحسن. ورأيته بِخَط أبي عبد الله الْحميدِي: حسنا منونا، يُرِيد: طلوعا حسنا. وَفِي فعله هَذَا فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهمَا: الْجُلُوس للذّكر فَإِنَّهُ وَقت شرِيف، وَقد جَاءَت أَحَادِيث كَثِيرَة فِي الذّكر فِي ذَلِك الْوَقْت. وَالثَّانيَِة: أَنه لما تعبد الْإِنْسَان لله عز وَجل قبل طُلُوع الشَّمْس لَازم مَكَان التَّعَبُّد إِلَى أَن تَنْتَهِي حركات الساجدين للشمس إِذا طلعت.
438 - / 536 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعِيدَيْنِ بِغَيْر أَذَان وَلَا إِقَامَة.
إِنَّمَا كَانَ هَذَا لأحد أَمريْن: إِمَّا لتمييز مَا هُوَ فرض عَن غَيره، كَمَا أَن صَلَاة الْكُسُوف لما كَانَت سنة نُودي لَهَا: الصَّلَاة جَامِعَة، لتمييز الْفَرَائِض العينية. وَالثَّانِي: أَن الْأَذَان وَالْإِقَامَة للإعلام بِالصَّلَاةِ، والعيد إِنَّمَا يُقَام فِي الصَّحرَاء لَا عِنْد الْبيُوت، فَالَّذِينَ يقصدونها قد خَرجُوا والمتأخرون لَا يسمعُونَ الْأَذَان فِي أغلب الْمَوَاضِع، فَلم يكن فِيهِ فَائِدَة.
439 - / 537 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على ابْن الدحداح.
اسْم هَذَا الرجل ثَابت بن الدحداح، وَيُقَال الدحداحة، ويكنى(1/461)
أَبَا الدحداح، وَهُوَ من الْأَنْصَار، وَقد اخْتلف الروَاة فِي مَوته، فَقَالَ بَعضهم: قتل يَوْم أحد فِي المعركة. وَقَالَ آخَرُونَ: بل جرح وبرأ ثمَّ مَاتَ على فرَاشه مرجع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحُدَيْبِيَة، وَهَذَا أصح لهَذَا الحَدِيث.
وَقَوله: ثمَّ أُتِي بفرس عري - أَي عُرْيَان، وَكَذَلِكَ معرورى.
فعقله رجل: أَي أمْسكهُ لَهُ حَتَّى رَكبه، فَجعل يتوقص بِهِ. قَالَ أَبُو عبيد: التوقص أَن يقصر عَن الخبب ويمرح عَن الْعُنُق وينقل قوائمه نقل الخبب، غير أَنَّهَا أقرب قدرا فِي الأَرْض.
والعذق بِفَتْح الْعين: النَّخْلَة، وبكسرها: الكباسة، وَالْمرَاد هَاهُنَا الكباسة؛ لِأَنَّهُ قَالَ: " مُعَلّق أَو مدلى ".
والرداح: الثقيل بِحمْلِهِ، وَمِنْه امْرَأَة رداح: إِذا كَانَت ثَقيلَة الْأَوْرَاك.
وَكَانَ هَذَا الرجل لما نزل قَوْله تَعَالَى: {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} [الْبَقَرَة: 245] تصدق ببستان لَهُ فِيهِ سِتّمائَة نَخْلَة، وَكَانَ أَهله فِيهِ، فجَاء فَقَالَ: يَا أم الدحداح، اخْرُجِي فقد أَقْرَضته رَبِّي عز وَجل، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كم من عذق رداح فِي الْجنَّة لأبي الدحداح " فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أعَاد ذَلِك عِنْد موت هَذَا الرجل.
440 - / 538 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: أُتِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرَجُل قتل نَفسه بمشاقص فَلم يصل عَلَيْهِ.(1/462)
المشاقص جمع مشقص، وَاخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ قوم: هُوَ سهم فِيهِ نصل عريض، وَقَالَ قوم: هُوَ اسْم لنصل السهْم إِذا كَانَ طَويلا، فَإِن كَانَ عريضا فَهُوَ المعبلة.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الإِمَام لَا يُصَلِّي على من قتل نَفسه، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل خلافًا للباقين.
441 - / 540 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: " أَلا إِنِّي فرط لكم على الْحَوْض، كَأَن الأباريق فِيهِ النُّجُوم ".
وَقد سبق بَيَان الفرط وَأَنه الْمُتَقَدّم إِلَى المَاء.
والأباريق جمع إبريق، وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الإبريق فَارسي مُعرب، وترجمته من الفارسية أحد شَيْئَيْنِ: إِمَّا أَن يكون طَرِيق المَاء، أَو صب المَاء على هينة، وَقد تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب قَدِيما، قَالَ عدي بن زيد:
(ودعا بالصبوح يَوْمًا فَجَاءَت ... قينة فِي يَمِينهَا إبريق)
وَأما شبه الأباريق بالنجوم لكثرتها، وَإِنَّمَا كثرت فِيهِ لِئَلَّا يقف شَارِب لانتظار آخر
442 - / 541 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: كَأَنَّمَا أخرج يَده من(1/463)
جونة عطار.
الجونة: وعَاء يَجْعَل فِيهِ الطّيب وَغَيره وَجَمعهَا جون.
وَهَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن كَثْرَة اسْتِعْمَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للطيب.
443 - / 542 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ضليع الْفَم.
أَي وَاسع الْفَم، وَالْعرب تمدح بذلك لأجل التَّمَكُّن من الْكَلَام.
وَقَوله: أشكل الْعين، قد فسر فِي الحَدِيث أَنه طَوِيل شقّ الْعين. وَقد قيل: الشكلة فِي الْعين حمرَة فِي سوادها، وَقيل: حمرَة فِي بياضها.
وَقَوله: منهوس الْعقب، وَقد فسر فِي الحَدِيث أَنه قَلِيل لحم الْعقب، وَفِي الْعقب لُغَتَانِ: كسر الْقَاف وتسكينها. قَالَ الْأَصْمَعِي: الْعقب اسْم لما أصَاب الأَرْض من مُؤخر الرجل إِلَى مَوضِع الشرَاك.
444 - / 543 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد شمط مقدم رَأسه ولحيته، وَكَانَ إِذا ادهن لم يتَبَيَّن، وَإِذا شعث رَأسه تبين.(1/464)
قد سبق معنى الشمط، وَأَنه اخْتِلَاط الْبيَاض بِالسَّوَادِ.
والشعث: تلبد شعر الرَّأْس وتغيره إِذا بعد عَنهُ الدّهن والمشط.
قَوْله: وَرَأَيْت الْخَاتم، كَانَ الْخَاتم غُدَّة من اللَّحْم عَلَيْهَا شَعرَات. أخبرنَا عمر بن أبي الْحسن البسطامي قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن أبي مَنْصُور الخليلي قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أَحْمد الْخُزَاعِيّ قَالَ: أخبرنَا الْهَيْثَم بن كُلَيْب الشَّاشِي قَالَ: حَدثنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة قَالَ: حَدثنَا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن الْجَعْد بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: سَمِعت السَّائِب بن يزِيد يَقُول: ذهبت بِي خَالَتِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن ابْن أُخْتِي وجع، فَمسح رَأْسِي، ودعا لي بِالْبركَةِ، وَقمت وَرَاء ظَهره فَنَظَرت إِلَى الْخَاتم بَين كَتفيهِ فَإِذا هُوَ مثل زر الحجلة.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَحدثنَا سعيد بن يَعْقُوب الطَّالقَانِي قَالَ: حَدثنَا أَيُّوب بن جَابر عَن سماك بن حَرْب عَن جَابر بن سَمُرَة قَالَ: رَأَيْت الْخَاتم بَين كَتِفي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُدَّة حَمْرَاء مثل بَيْضَة الْحَمَامَة.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَحدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ: أخبرنَا أَبُو عَاصِم قَالَ: حَدثنَا عزْرَة بن ثَابت قَالَ: حَدثنِي علْبَاء بن أَحْمَر قَالَ: حَدثنِي أَبُو زيد بن أَخطب قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يَا أَبَا زيد، ادن(1/465)
مني فامسح ظَهْري " فمسحت ظَهره فَوَقَعت أصابعي على الْخَاتم، ثمَّ قلت: وَمَا الْخَاتم؟ قَالَ شَعرَات مجتمعات.
وَقَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: كَانَ الْخَاتم بضعَة نَاشِزَة.(1/466)
كشف الْمُشكل من مُسْند سُلَيْمَان بن صرد
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
445 - / 544 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: كنت جَالِسا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورجلان يستبان وَأَحَدهمَا قد احمر وَجهه وَانْتَفَخَتْ أوداجه.
الْأَوْدَاج جمع ودج، وَإِنَّمَا هما ودجان، وهما العرقان اللَّذَان يقطعهما الذَّابِح، وَأما ذكرهمَا بِلَفْظ الْجمع فَلَا يَخْلُو أَن يكون على لُغَة من يُوقع الْجمع على التَّثْنِيَة، كَقَوْلِه تَعَالَى {وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين} [الْأَنْبِيَاء: 78] أَو لِأَن كل قِطْعَة من الودج تسمى ودجا، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: " كَانَ أَزجّ الحواجب ".
قَوْله: " أعوذ بِاللَّه " معنى أعوذ: ألجأ وألوذ. وَقد سبق معنى الشَّيْطَان.(1/467)
وَفِي الرَّجِيم قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الملعون، قَالَه قَتَادَة. وَالثَّانِي: أَنه فعيل بِمَعْنى مفعول، مثل قَتِيل بِمَعْنى مقتول، فَهُوَ المرجوم، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، فَإِنَّمَا يرْجم بالنجوم.
وَقد أَفَادَ هَذَا الحَدِيث أَنه يَنْبَغِي أَن يلجأ إِلَى الله تَعَالَى من الشَّيْطَان الَّذِي يغري بالسب وَيُقَوِّي الْغَضَب للنَّفس.
446 - / 540 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَنه قَالَ حِين أجلى الْأَحْزَاب عَنهُ: " الْآن نغزوهم وَلَا يغزونا، نَحن نسير إِلَيْهِم ".
أجلى الْأَحْزَاب: انصرفوا.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على صدق نبوة نَبينَا عَلَيْهِ اسلام؛ لِأَن الْقَوْم بعد غزَاة الْأَحْزَاب لم يَأْتُوا لقِتَال، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج إِلَيْهِم، وَخرج لفتح مَكَّة فَدَخلَهَا قاهرا.(1/468)
كشف الْمُشكل من مُسْند عُرْوَة الْبَارِقي
هَذَا الرجل يُقَال لَهُ عُرْوَة بن الْجَعْد، وَيُقَال: ابْن أبي الْجَعْد. وَفِي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ خلق كثير على هَذَا الْفَنّ، فَمن الصَّحَابَة أَوْس بن أَوْس الثَّقَفِيّ، وَيُقَال: ابْن أبي أَوْس، وَبشر بن أَرْطَأَة، وَيُقَال ابْن أبي أَرْطَأَة، وَعبد الرَّحْمَن بن عميرَة، وَيُقَال: ابْن أبي عميرَة، وَعبد الرَّحْمَن بن عَلْقَمَة، وَيُقَال ابْن أبي عَلْقَمَة. وَفِي التَّابِعين من بعدهمْ خلق كثير قد أحصيتهم فِي كتابي الْمُسَمّى بالتلقيح.
وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد:
447 - / 546 - " الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر " وَقد فسرناه فِي مُسْند جرير، وَقد رَوَاهُ البرقاني فَزَاد فِيهِ: " الْإِبِل عز لأَهْلهَا، وَالْغنم بركَة " وَذَلِكَ لِأَن الْعَرَبِيّ يشرف قدره بَينهم بِكَثْرَة مَاله، وأنفس أَمْوَالهم عِنْدهم الْإِبِل، وَالْبركَة فِي الْغنم من جِهَة أَلْبَانهَا وَأَوْلَادهَا.(1/469)
كشف الْمُشكل من مُسْند عمرَان بن حُصَيْن
أسلم قَدِيما، وروى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَثَمَانِينَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أحد وَعِشْرُونَ حَدِيثا.
448 - / 547 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أسرينا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقد بَينا فِي مُسْند أبي بكر أَن سرى وَأسرى لُغَتَانِ: وَهُوَ سير اللَّيْل.
وَقَوله: وقعنا وقْعَة لَا وقْعَة عِنْد الْمُسَافِر أحلى مِنْهَا. وَذَاكَ لِأَنَّهُ يكون قد أَخذ مِنْهُ السّير والسهر فيستلذ النّوم.
وَقَوله: وَكَانَ جليدا. يُقَال للرجل إِذا كَانَ قوي الْجِسْم أَو الْقلب: إِنَّه لجليد، وَجلد.
وَقَوله: " لَا ضير " أَي مَا جرى لَا يضر.
فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: " ارتحلوا " وَأخر الصَّلَاة، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ(1/470)
من حَدِيث أنس عَنهُ أَنه قَالَ: " من نسي صَلَاة أَو نَام عَنْهَا فكفارتها أَن يُصليهَا إِذا ذكرهَا، لَا كَفَّارَة لَهَا إِلَّا ذَلِك "؟
فَالْجَوَاب: أَن يعْمل على حَدِيث أنس، وَأَنه لَا يجوز تَأْخِير الصَّلَاة عِنْد الذّكر والانتباه، وَأما ارتحاله عَن الْمَكَان فقد جَاءَ فِي الحَدِيث أَنه قَالَ: " إِن هَذَا الْوَادي بِهِ شَيْطَان فارتحلوا مِنْهُ " وَهَذَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الْأَنْبِيَاء.
فَإِن قيل: فَكيف ذهب الْوَقْت وَلم يشْعر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ: " وَلَا ينَام قلبِي "؟
فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن ذَلِك خَاص فِي أَمر الْحَدث؛ لِأَن النَّائِم يكون مِنْهُ الْحَدث وَلَا يشْعر بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالثَّانِي: أَنه أعطي ذَلِك لأجل الْوَحْي فِي الْمَنَام، فَأَما معرفَة الْوَقْت، ورؤية الشَّمْس، فَذَلِك يدْرك بالبصر لَا بِالْقَلْبِ.
وَقَوله: بَين مزادتين. قَالَ أَبُو عبيد: المزادة هِيَ الَّتِي يسميها النَّاس الراوية، وَإِنَّمَا الرِّوَايَة الْبَعِير الَّذِي يستقى عَلَيْهِ.
وَقَوله: ونفرنا خلوف. قد سبق أَن النَّفر مَا بَين الثَّلَاثَة إِلَى الْعشْرَة.(1/471)
والخلوف: الْغَيْب. وَقيل: الخلوف: الَّذين خَرجُوا يستقون المَاء، يُقَال: أخلف الرجل واستخلف: إِذا استقى المَاء، وأرادت أَنه لم يبْق فِي الْحَيّ إِلَّا النِّسَاء.
وَقَوْلها: الصَّابِئ، تَعْنِي الْخَارِج من دين قومه إِلَى غَيره. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: كل من خرج من دين إِلَى دين غَيره سمي صابئا، مهموزا، يُقَال: صَبأ الرجل: إِذا فعل ذَلِك. فَأَما الصابي بِلَا همز فَهُوَ الَّذِي يمِيل إِلَى الْهوى. يُقَال: صبا يصبو فَهُوَ صاب.
وَقَوله: وأوكأ أفواههما: أَي ربط الْعليا. والوكاء: اسْم لما يشد بِهِ من خيط وَنَحْوه. والعزالى: أَفْوَاه المزاد السُّفْلى، وَاحِدهَا عزلاء.
وأقلع عَنْهَا: تنحى عَنْهَا.
والعجوة: جنس من التَّمْر يكون بِالْمَدِينَةِ.
وَقَوله: " تعلمين " أَي اعلمي " مَا رزأنا " أَي مَا نقصنا.
وَقَوله: " أسقانا " أَي جعل لنا سقيا. قَالَ الْفراء: الْعَرَب مجتمعون على أَن يَقُولُوا: سقيت الرجل فَأَنا أسقيه: إِذا سقيته لشفته، فَإِذا أجروا للرجل نَهرا قَالُوا: أسقيته. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كل مَا كَانَ من السَّمَاء فَفِيهِ لُغَتَانِ: أسقاه الله وسقاه، قَالَ لبيد:
(سقى قومِي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هِلَال)
فجَاء باللغتين. وَتقول: سقيت الرجل مَاء وَشَرَابًا، وَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا لُغَة وَاحِدَة: إِذا كَانَ فِي الشّفة، فَإِذا جعلت لَهُ شرابًا قلت: أسقيته،(1/472)
وأسقيت أرضه وَإِبِله، فَلَا يكون غير هَذَا، وَكَذَلِكَ إِذا اسْتَسْقَيْت لَهُ، كَقَوْل ذِي الرمة:
(وقفت على رسم لمية نَاقَتي ... فَمَا زلت أبْكِي عِنْده وأخاطبه)
(وأسقيه حَتَّى كَاد مِمَّا أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه)
قَوْله: وَلَا يصيبون الصرم. قَالَ أَبُو عبيد: الصرم: الْفرْقَة من النَّاس لَيْسَ بالكثير، وَجمعه أصرام، قَالَ الطرماح:
(يَا دَار أقوت بعد أصرامها ... عَاما، وَمَا يبكيك من عامها)
وَقَوله: تكَاد تنضرج بِالْمَاءِ، يَعْنِي المزادتين، أَي تَنْشَق لِكَثْرَة امتلائها. والانضراج: الانشقاق، يُقَال: انضرج الْبَرْق وتضرج: أَي تشقق.
فَإِن قيل: كَيفَ استباحوا أَخذ المَاء الَّذِي مَعهَا؟
فَالْجَوَاب من أَرْبَعَة أوجه:
أَحدهَا: أَنَّهَا كَانَت كَافِرَة.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَو كَانَت مسلمة، ففداء نفس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأنفس أمته جَائِز.
وَالثَّالِث: أَن ضَرُورَة الْعَطش تبيح للْإنْسَان المَاء الْمَمْلُوك لغيره على عوض يُعْطِيهِ.(1/473)
وَالرَّابِع: أَنهم لما جَاءُوا بهَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أظهر معجزته فِي سقِِي أَصْحَابه من ذَلِك المَاء، ثمَّ رده وَلم ينقص شَيْئا.
449 - / 548 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أنزلت آيَة الْمُتْعَة فِي كتاب الله ففعلناها، قَالَ رجل بِرَأْيهِ مَا شَاءَ.
أما آيَة الْمُتْعَة فَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج} [الْبَقَرَة: 196] وَقد سبق شرح معنى الْمُتْعَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: قَالَ رجل بِرَأْيهِ مَا شَاءَ. قد ذكرنَا هُنَاكَ أَن عُثْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ ينْهَى عَن الْمُتْعَة.
وَقَوله: " قد كَانَ يسلم عليّ " كَانَ عمرَان بن حُصَيْن قد سقِِي بَطْنه فَبَقيَ ثَلَاثِينَ سنة على ذَلِك، وَكَانَ يعرض عَلَيْهِ أَن يكتوي فيأبى، فروى مطرف عَنهُ أَن الْمَلَائِكَة كَانَت تسلم عَلَيْهِ. وروى عَنهُ قَتَادَة أَن الْمَلَائِكَة كَانَت تصافحه، فَلَمَّا اكتوى انْقَطع ذَلِك عَنهُ. وروى عَنهُ الْحسن أَنه قَالَ: اكتوينا فَمَا أفلحنا وَلَا أنجحنا. وَكَانَ هِشَام يُنكر هَذَا اللَّفْظ وَيَقُول: إِنَّمَا هُوَ فَمَا أفلحن وَلَا أنجحن، يَعْنِي المكاوي. فَلَمَّا ترك الكي عَاد التَّسْلِيم إِلَيْهِ، ثمَّ مَاتَ قَرِيبا من ذَلِك.
450 - / 549 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: عَن مطرف: صليت أَنا وَعمْرَان خلف عَليّ بن أبي طَالب، فَكَانَ إِذا سجد كبر، وَإِذا رفع كبر، وَإِذا(1/474)
نَهَضَ من الرَّكْعَتَيْنِ كبر، فَقَالَ عمرَان: قد ذَكرنِي هَذَا صَلَاة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن التَّكْبِيرَات غير تَكْبِيرَة الْإِحْرَام وَاجِبَة، لِأَنَّهُ وصف صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد وَدَاوُد، خلافًا للباقين فِي قَوْلهم إِنَّهَا سنة.
451 - / 550 - الحَدِيث الرَّابِع: " أصمت من سرة هَذَا الشَّهْر شَيْئا؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَإِذا أفطرت فَصم يَوْمَيْنِ " وَفِي لفظ: " من سرر شعْبَان ".
سرر الشَّهْر وسراره وسراره: آخِره، وَسمي بذلك لِأَن الْهلَال يستسر، قَالَ الشَّاعِر:
(نَحن صبحنا عَامِرًا فِي دارها ... )
(جردا تعادى طرفِي نَهَارهَا ... )
(عَشِيَّة الْهلَال أَو سرارها ... )
وَأما سرته فظاهرها أَنَّهَا وسط الشَّهْر، فعلى هَذِه اللَّفْظَة تكون الْإِشَارَة إِلَى أَيَّام الْبيض، وعَلى بَاقِي الْأَلْفَاظ يشكل الْأَمر، لِأَنَّهُ قد نهى عَن اسْتِقْبَال رَمَضَان بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ، إِلَّا أَن الْعلمَاء تأولوا ذَلِك فَقَالُوا: لَعَلَّه علم من ذَلِك الرجل أَن عَلَيْهِ نذرا نَذره فِي ذَلِك الْوَقْت،(1/475)
فَلَمَّا فَاتَ أمره بِقَضَائِهِ. قَالَ أَبُو عبيد: لَا أعرف للْحَدِيث وَجها غير هَذَا. قَالَ الْخطابِيّ: يجوز أَن يكون لهَذَا الرجل عَادَة فَأمره أَن يحافظ على عَادَته. وَأما قَول بعض الروَاة: أَظُنهُ يَعْنِي رَمَضَان فخطأ؛ لِأَن رَمَضَان يتَعَيَّن صَوْمه جَمِيعه.
452 - / 551 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: عَن أبي الْأسود: قَالَ لي عمرَان: أَرَأَيْت مَا يعْمل النَّاس، أَشَيْء قضي؟ قلت: نعم. قَالَ: أَفلا يكون ظلما؟ فَفَزِعت من ذَلِك، فَقَالَ: إِنِّي لم أرد بِمَا سَأَلتك إِلَّا لأحرز عقلك.
الكدح: السَّعْي وَالِاجْتِهَاد فِي الْعَمَل. وَقد نبه هَذَا الحَدِيث على سبر عقول الطالبين للْعلم لينْظر مبلغ فهمهم، وليحدثوا بِمَا تحتمله عُقُولهمْ.
والفجور: الْخُرُوج عَن الْحق والانبعاث فِي المناهي.
453 - / 552 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: خير أمتِي قَرْني.
قد سبق ذكر الْقرن فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
وَقَوله: " يشْهدُونَ وَلَا يستشهدون " إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ الْجمع بَين هَذَا وَبَين حَدِيث زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " أَلا(1/476)
أخْبركُم بِخَير الشُّهَدَاء؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قبل أَن يسْأَلهَا ".
فَالْجَوَاب أَن أَبَا عِيسَى التِّرْمِذِيّ ذكر عَن بعض أهل الْعلم أَن المُرَاد بِالَّذِي يشْهد وَلَا يستشهد شَاهد الزُّور، وَاسْتدلَّ بِحَدِيث عمر بن الْخطاب عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " يفشو الْكَذِب حَتَّى يشْهد الرجل وَلَا يستشهد " وَالْمرَاد بِحَدِيث زيد: الشَّاهِد على الشَّيْء، فَيُؤَدِّي شَهَادَته وَلَا يمْتَنع من إِقَامَتهَا.
وَقَوله: " وَيظْهر فِيهِ السّمن " وَذَلِكَ إِنَّمَا ينشأ من كَثْرَة الْمطعم وَقُوَّة الْغَفْلَة؛ لِأَن الْعَاقِل المتيقظ يمنعهُ خَوفه أَن يشْبع وَأَن يسمن.
وَقَوله: " ويحلفون وَلَا يستحلفون " هَذَا من قلَّة احترامهم لاسم الله عز وَجل، وَقد كَانَ النَّاس يتورعون عَن الْحلف فِي الصدْق.
454 - / 554 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " الْحيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَير ".
وَهَذَا لِأَن المستحيي منقبض عَن كثير من القَوْل وَالْفِعْل، والوقاحة توجب الانبساط فَيَقَع الشَّرّ من ذَلِك.
455 - / 555 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:
" اطَّلَعت فِي الْجنَّة فَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا الْفُقَرَاء، واطلعت فِي النَّار فَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا النِّسَاء ".(1/477)
لما كَانَ الْفَقِير فاقدا لِلْمَالِ الَّذِي يتسبب بِهِ إِلَى الْمعاصِي وَيحصل بِهِ البطر والشبع وَالْجهل وَاللَّهْو، بعد عَمَّا يقرب إِلَى النَّار. وَلما كَانَ الْأَغْلَب على النِّسَاء الشِّبَع والبطر وَالْجهل وَاللَّهْو لازمهن مَا يحمل إِلَى النَّار.
فَإِن قيل: إِذا كَانَ هَذَا فضل الْفقر، فَلم استعاذ مِنْهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
فَالْجَوَاب: أَن قوما يَقُولُونَ: إِنَّمَا استعاذ من فقر النَّفس، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: الْفقر مُصِيبَة من مصائب الدُّنْيَا، والغنى نعْمَة من نعمها، فوزانهما الْمَرَض والعافية، فَيكون الْمَرَض فِيهِ ثَوَاب لَا يمْنَع سُؤال الله الْعَافِيَة.
456 - / 557 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " من صلى قَاعِدا فَلهُ نصف أجر الْقَائِم، وَمن صلى نَائِما فَلهُ نصف أجر الْقَاعِد ".
هَذَا مَحْمُول على أَن من أطَاق الْقيام فِي التَّنَفُّل فَاخْتَارَ الْقعُود، أَو أطَاق الْقعُود فَاخْتَارَ الِاضْطِجَاع. فَأَما الَّذِي يمنعهُ عَجزه فنيته تتمم.
وَأما صفة صَلَاة الْقَاعِد فَإِنَّهُ يُصَلِّي متربعا ويثني رجلَيْهِ فِي حَال سُجُوده، فَإِن عجز عَن الْقعُود صلى على جنبه الْأَيْمن مُسْتَقْبل الْقبْلَة بِوَجْهِهِ، وَإِن صلى مُسْتَلْقِيا على ظَهره وَرجلَاهُ إِلَى الْقبْلَة جَازَ وَإِن كَانَ تَارِكًا للاستحباب، وَعند أَصْحَاب الرَّأْي أَن هَذَا هُوَ الْمُسْتَحبّ. وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ يَقُول: لَا أحفظ عَن أحد من أهل الْعلم أَنه رخص فِي صَلَاة التَّطَوُّع نَائِما كَمَا رخصوا فِيهَا قَاعِدا، فَإِن صحت هَذِه اللَّفْظَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم تكن من كَلَام بعض الروَاة أدرجه فِي الحَدِيث(1/478)
وقاسه على صَلَاة الْقَاعِد، أَو اعْتَبرهُ بِصَلَاة الْمَرِيض نَائِما إِذا لم يقدر على الْقعُود، فَإِن التَّطَوُّع مُضْطَجعا للقادر على الْقعُود جَائِز كَمَا يجوز للْمُسَافِر أَن يتَطَوَّع على رَاحِلَته. فَأَما من جِهَة الْقيَاس فَلَا يجوز أَن يُصَلِّي مُضْطَجعا كَمَا يجوز أَن يُصَلِّي قَاعِدا؛ لِأَن الْقعُود شكل من أشكال الصَّلَاة وَلَيْسَ الِاضْطِجَاع فِي شَيْء من أشكال الصَّلَاة.
قَالَ الْخطابِيّ فِي كتاب " الْأَعْلَام ": قد كنت تأولت هَذَا الحَدِيث فِي كتاب " المعالم " على أَن المُرَاد بِهِ صَلَاة التَّطَوُّع، إِلَّا أَن قَوْله: " من صلى نَائِما " يفْسد هَذَا التَّأْوِيل؛ لِأَن المضطجع لَا يُصَلِّي التَّطَوُّع كَمَا يُصَلِّي الْقَاعِد، فَرَأَيْت الْآن أَن المُرَاد بِهِ الْمَرِيض المفترض الَّذِي يُمكنهُ أَن يتحامل فَيقوم مَعَ مشقة، فَجعل أجر الْقَاعِد على النّصْف من أجر الْقَائِم ترغيبا لَهُ فِي الْقيام مَعَ جَوَاز قعوده، وَكَذَلِكَ المضطجع الَّذِي لَو تحامل لأمكنه الْقعُود مَعَ شدَّة الْمَشَقَّة.
457 - / 558 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بني تَمِيم " فَقَالُوا: بشرتنا فَأَعْطِنَا، فَتغير وَجهه.
أما تغير وَجهه لقلَّة علم أُولَئِكَ، فَإِنَّهُم عَلقُوا آمالهم بعاجل الدُّنْيَا دون الْآخِرَة.
وَالذكر: اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَأما السراب فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ مَا ترَاهُ نصف النَّهَار كَأَنَّهُ مَاء.(1/479)
458 - / 560 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد مُسلم: " قد ظَنَنْت أَن بَعْضكُم خالجنيها ".
أَي نازعنيها، كَأَنَّهُ ينْزع ذَلِك من لِسَانه، ويخلط عَلَيْهِ لموْضِع جهره بهَا، وأصل الخلج الجذب والنزع.
459 - / 561 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " يدْخل الْجنَّة سَبْعُونَ ألفا بِغَيْر حِسَاب " قَالُوا: وَمن هم يَا رَسُول الله؟ قَالَ: " هم الَّذين لَا يَكْتَوُونَ ولايسترقون ".
فَإِن قَالَ قَائِل: قد أكد هَذَا الحَدِيث مَا روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الكي. فَكيف الْجمع بَين هَذَا وَبَين مَا سَيَأْتِي فِي مُسْند جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى أبي بن كَعْب طَبِيبا يقطع لَهُ عرقا وكواه. وَلما رمي سعد بن معَاذ فِي أكحله حسمه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ ورمت فحسمت ثَانِيَة. وَفِي الصَّحِيح أَنه رخص فِي الرّقية من الْعين والحمة، وَقَالَ للَّذي رقى بِفَاتِحَة الْكتاب: " وَمَا يدْريك أَنَّهَا رقية؟ ".(1/480)
فَالْجَوَاب: أما الكي فعلى خَمْسَة أضْرب: أَحدهَا: كي الصَّحِيح لِئَلَّا يسقم، كَمَا يفعل كثير من الْعَجم. وَالثَّانِي: أَن كثيرا من الْعَرَب يعظمون أَمر الكي على الْإِطْلَاق وَيَقُولُونَ إِنَّه يحسم الدَّاء وَإِذا لم يفعل عطب صَاحبه، فَيكون النَّهْي عَن الكي على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ، وَتَكون الْإِبَاحَة لمن طلب الشِّفَاء وَرَجا الْبُرْء من فضل الله عز وَجل عِنْد الكي، فَيكون الكي سَببا لَا عِلّة.
وَالْوَجْه الثَّالِث: أَن يكون نهى عَن الكي فِي عِلّة علم أَنه لَا ينجع فِيهَا، وَقد كَانَ عمرَان بِهِ عِلّة الناصور، فَيحْتَمل أَن يكون نَهَاهُ عَن الكي فِي مَوضِع من الْبدن لَا يُؤمن فِيهِ الْخطر.
وَالْوَجْه الرَّابِع: كي الْجرْح إِذا نغل والعضو إِذا قطع، فَهَذَا دَوَاء مَأْمُور بِهِ كَمَا يُؤمر باتقاء الْحر وَالْبرد.
وَالْوَجْه الْخَامِس: اسْتِعْمَال الكي على وَجه اسْتِعْمَال الدَّوَاء فِي أَمر يجوز أَن ينجح فِيهِ وَيجوز أَلا ينجح، كَمَا تسْتَعْمل أَكثر الْأَدْوِيَة، وَرُبمَا لم يفد، فَهَذَا يخرج المتَوَكل عَن التَّوَكُّل.
وَعِنْدنَا أَن ترك التَّدَاوِي بالكي فِي مثل هَذَا الْحَال أفضل.
وَأما الرّقية فعلى ضَرْبَيْنِ: رقية لَا تفهم، فَرُبمَا كَانَت كفرا فينهى عَنْهَا لذَلِك الْمَعْنى. وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " لَا بَأْس بالرقى مَا لم تكن شرك ". ورقية جَائِزَة فَهَذِهِ على ضَرْبَيْنِ: رقية يعْتَقد(1/481)
فِيهَا أَنَّهَا تدفع مَا سيعرض، فَهَذِهِ مَنْهِيّ لهَذَا الْمَعْنى. ورقية لما قد حدث، فَهَذِهِ مرخص فِيهَا. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: لَا بَأْس بالرقية من الْعين، وَسَأَلَهُ مهنا عَن الرجل تَأتيه الْمَرْأَة مسحورة فيطلق عَنْهَا السحر فَقَالَ: لَا بَأْس.
وَأما الِاسْتِشْفَاء بِالْقُرْآنِ وَالدُّعَاء فَهُوَ فِي معنى الرقيه فَلَا يكره بِحَال.
وَقَوله: " وَلَا يَتَطَيَّرُونَ " التطير: التشاؤم بالشَّيْء ترَاهُ أَو تسمعه وتتوهم وُقُوع الْمَكْرُوه بِهِ، واشتقاقه من الطير، كتطيرهم من الْغُرَاب رُؤْيَة وصوتا، ثمَّ اسْتمرّ ذَلِك فِي كل مَا يتطير بِرُؤْيَتِهِ وصوته. فالمؤمنون يضيفون الْكل إِلَى تَقْدِير الله عز وَجل وَلَا يلتفتون إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء، وَلِهَذَا وَصفهم فَقَالَ: " وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ " أَي يعتمدون عَلَيْهِ.
قَوْله: فَقَامَ عكاشة. عكاشة هُوَ ابْن مُحصن بن حرثان، وَيُقَال عكاشة بتَشْديد الْكَاف، شهد بَدْرًا.
وَقَوله: فَقَامَ رجل فَقَالَ: ادْع الله أَن يَجْعَلنِي مِنْهُم. اخْتلفُوا فِي هَذَا الرجل، فَقَالَ قوم: كَانَ منافقا؛ أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا أَبُو عبد الله أَحْمد بن أَحْمد الوَاسِطِيّ إِذْنا قَالَ: أخبرنَا أَبُو أَحْمد الفرضي قَالَ: أخبرنَا أَبُو عمر النَّحْوِيّ قَالَ: سَأَلت ثعلبا: لم قَالَ للْأولِ نعم وَللثَّانِي لَا؟ قَالَ: الأول مُؤمن وَالْآخر مُنَافِق، فَلم(1/482)
يقل لَهُ: أَنْت مُنَافِق، فَقَالَ لَهُ: " سَبَقَك بهَا عكاشة ". وَقد روى الدَّارَقُطْنِيّ عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى البرتي القَاضِي أَنه قَالَ: يُقَال إِن هَذَا الرجل كَانَ منافقا فَأَجَابَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمعاريض الْكَلَام. وَقد روى أَبُو بكر الْخَطِيب بِإِسْنَاد لَهُ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: هَذَا الرجل هُوَ سعد بن عبَادَة. فَإِن صَحَّ هَذَا فسعد بَرِيء من النِّفَاق، وَإِنَّمَا يكون الْمَنْع لأحد ثَلَاثَة أَشْيَاء: إِمَّا لكَون سعد مَا بلغ تِلْكَ الْمنزلَة، فَإِنَّهُ لم يشْهد بَدْرًا، فَمَنعه الْمقَام الْأَعْلَى بالتعريض. وَإِمَّا لِأَن طلب هَذِه الْمنزلَة يحْتَاج إِلَى حرقة قلب من الطَّالِب، فَلَعَلَّهُ لم يملك حرقة قلب عكاشة وَإِنَّمَا سَمعه يطْلب فَطلب، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَو أَجَابَهُ لقام آخر وَآخر، فَرُبمَا تعرض بِهَذِهِ الْفَضِيلَة من لَا يَسْتَحِقهَا، فاقتصر على الأول لِئَلَّا يَقع رد للْبَعْض.
460 - / 562 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن رجلا أعتق سِتَّة مملوكين لَهُ عِنْد مَوته لم يكن لَهُ مَال غَيرهم، فَدَعَاهُمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجزأهم أَثلَاثًا ثمَّ أَقرع بَينهم، فَأعتق اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة وَقَالَ لَهُ قولا شَدِيدا.
فَدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على أَن الْعَمَل بِالْقُرْعَةِ، والقرعة: أَن يكْتب اسْم كل وَاحِد مِنْهُم فِي رقْعَة، وتدرج كل رقْعَة فِي بندقة من طين أَو شمع وَتَكون البنادق مُتَسَاوِيَة فِي الْقدر وَالْوَزْن، ثمَّ تطرح فِي حجر رجل لم يحضر ذَلِك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي مثل هَذِه الْقَضِيَّة: يعْتق من كل وَاحِد ثلثه ويستسعى فِي الْبَاقِي، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ يَقُول إِذا أعتق ثَلَاثَة مماليك لَا يملك غَيرهم فِي مَرضه فَمَاتَ أحدهم قبل موت الْمُعْتق، فَإنَّا نقرع بَين الْمَيِّت والحيين، فَإِن خرجت على الْمَيِّت حكمنَا بِأَنَّهُ مَاتَ(1/483)
حرا، وَإِن خرجت على أحد الْأَحْيَاء حكمنَا بِأَنَّهُ مَاتَ رَقِيقا. وَقَالَ مَالك: الْمَيِّت رَقِيق بِكُل حَال، ويقرع بَين الْحَيَّيْنِ.
وَقَوله: وَقَالَ لَهُ قولا شَدِيدا. أَي أغْلظ لَهُ فِي إقدامه على إِخْرَاج مَال قد تعلّقت بِهِ حُقُوق الْوَرَثَة.
461 - / 564 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أسر أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا وَأَصَابُوا مَه العضباء.
العضباء اسْم لناقة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي الَّتِي تسمى بالجدعاء والقصواء. قَالَ ابْن الْمسيب: كَانَ فِي طرف أذنها جدع. وَقَالَ الْخطابِيّ: قطع من أذنها فسميت الْقَصْوَاء. وَهَذِه النَّاقة أَصَابَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذَا الرجل المأسور، وَكَانَ من بني عقيل، وأسرت امْرَأَة من الْأَنْصَار، وَأُصِيبَتْ العضباء أَي أَخذهَا الْعَدو.
وَقَوله: يريحون نعمهم بَين يَدي بُيُوتهم: أَي يردونها إِلَى مَوضِع مبيتهم.
والمنوقة: المذللة، مثل قَوْله مدربة.
ونذروا بهَا: علمُوا.
وَقَوله: " بئس مَا جزتها " وَذَلِكَ لِأَن هَذِه الْمَرْأَة ركبت العضباء، فَلَمَّا سلمت عَلَيْهَا نذرت نحرها.(1/484)
وَقَوله: " لَا وَفَاء لنذر فِي مَعْصِيّة الله ". هَذَا دَلِيل على انْعِقَاده؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نفى الْوَفَاء لَا الِانْعِقَاد. وَعِنْدنَا إِن نذر الْمعْصِيَة ينْعَقد وَيكون مُوجبه كَفَّارَة يَمِين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا ينْعَقد وَلَا يلْزم بِهِ كَفَّارَة.
وَقَوله: " فِيمَا لَا يملك العَبْد " وَهَذَا من جنس الأول، وَعِنْدنَا أَنه إِذا قَالَ: غُلَام فلَان حر لَأَفْعَلَنَّ كَذَا الْيَوْم، وَلم يفعل، فَعَلَيهِ كَفَّارَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى: لَا شَيْء عَلَيْهِ.
462 - / 565 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْعَصْر فَسلم من ثَلَاث رَكْعَات، ثمَّ دخل منزله فَقَامَ إِلَيْهِ رجل يُقَال لَهُ الْخِرْبَاق فَذكر لَهُ صَنِيعه، فَخرج غَضْبَان حَتَّى أَتَى إِلَى النَّاس فَقَالَ: " أصدق هَذَا؟ " قَالُوا: نعم، فصلى رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ، ثمَّ سلم.
ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنه سجد قبل السَّلَام، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ فَإِنَّهُ سَيَأْتِي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة مُبينًا، وَأَنه سلم ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ، إِلَّا أَنه لَيْسَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة ذكر سَلام بعد السَّجْدَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْكُور هَاهُنَا فِي مُسْند عمرَان.
وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن كَلَام الْمُصَلِّي نَاسِيا لم يبطل الصَّلَاة،(1/485)
فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكلم مُعْتَقدًا أَنَّهَا قد تمت وَأَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة، وَكَذَلِكَ الْخِرْبَاق تكلم مُعْتَقدًا أَنَّهَا تمت لِإِمْكَان وُقُوع النّسخ. فَأَما كَلَام بَقِيَّة النَّاس فقد رُوِيَ أَنهم أومأوا: أَي نعم، فَيكون قَول الرَّاوِي: قَالُوا: نعم، يجوز: رَوَاهُ بِالْمَعْنَى كَمَا تَقول: قلت بيَدي ورأسي، قَالَ الشَّاعِر:
(قَالَت لَهُ العينان سمعا وَطَاعَة ... ... ... ... ... ... . .)
فَإِن ثَبت هَذَا فَلَا كَلَام، وَإِن كَانُوا قَالُوا بألسنتهم فَلَا يضر لِأَنَّهُ لم ينْسَخ من الْكَلَام مَا كَانَ جَوَابا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لقَوْله تَعَالَى: {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} [الْأَنْفَال: 24] وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث سعيد بن الْمُعَلَّى: كنت أُصَلِّي فدعاني رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم أجبه، فَقلت: كنت أُصَلِّي، فَقَالَ: " ألم يقل الله: {اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ} ؟ " وَإِذا ثَبت أَن جَوَاب الرَّسُول وَاجِب فَلَيْسَ بمبطل.
وَقد اخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي كَلَام النَّاسِي فِي الصَّلَاة، فَروِيَ عَنهُ أَنه تبطل، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَاخْتَارَهُ أَكثر مَشَايِخنَا، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه لَا تبطل، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَهُوَ الَّذِي أختاره. والحرف الَّذِي يتنازع فِيهِ: هَل الْكَلَام من المنافيات أَو من الْمَحْظُورَات؟ فعلى الرِّوَايَة الأولى أَنه منَاف كالحدث، وعَلى الْأُخْرَى أَنه مَحْظُور، وَلَا حظر مَعَ النسْيَان.(1/486)
463 - / 566 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " إِن أَخا لكم قد مَاتَ فصلوا عَلَيْهِ ".
يَعْنِي النَّجَاشِيّ. قَالَ ابْن إِسْحَق: اسْم النَّجَاشِيّ أَصْحَمَة. وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّة. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: إِنَّمَا النَّجَاشِيّ اسْم الْملك كَقَوْلِك هِرقل وَقَيْصَر، وَلست أَدْرِي أبالعربية هُوَ أم وفَاق وَقع بَين الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا. وَالنَّجَاشِي هُوَ الناجش، والنجش: استثارة الشَّيْء، وَمِنْه قيل للزائد فِي السّلْعَة ناجش ونجاش.
وَقد دلّ الحَدِيث على جَوَاز الصَّلَاة على الْمَيِّت الْغَائِب بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز.
464 - / 567 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: أَن امْرَأَة لعنت ناقتها، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " خُذُوا مَا عَلَيْهَا ودعوها؛ فَإِنَّهَا ملعونة ".
إِن قيل: اللَّعْنَة الْبعد، وَإِنَّمَا يكون جَزَاء الذَّنب، والناقة غير مكلفة، فَكيف تقع عَلَيْهَا لعنة؟
فَالْجَوَاب من أَرْبَعَة أوجه:
أَحدهَا: أَن معنى وُقُوع اللَّعْنَة عَلَيْهَا خُرُوجهَا من الْبركَة واليمن، ودخولها فِي الشَّرّ والشؤم، وللعنة تَأْثِير فِي الأَرْض والمياه، وَسَيَأْتِي فِي مُسْند ابْن عمر أَن النَّاس نزلُوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرض ثَمُود واستقوا من بئارها واعتجنوا بِهِ، فَأَمرهمْ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يهريقوا مَا(1/487)
استقوا من بئارها وَأَن يعلفوا الْإِبِل الْعَجِين، وَأمرهمْ أَن يسقوا من الْبِئْر الَّتِي كَانَت تردها النَّاقة. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أبي بَرزَة أَن امْرَأَة لعنت ناقتها، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا تصاحبنا نَاقَة عَلَيْهَا لعنة ". وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أبي الْيُسْر أَن رجلا لعن بعيره فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " انْزِلْ عَنهُ، فَلَا تصحبنا بملعون. وَلَا تدعوا على أَنفسكُم، وَلَا تدعوا على أَوْلَادكُم، وَلَا تدعوا على أَمْوَالكُم، وَلَا توافقوا من الله سَاعَة يسْأَل فِيهَا عَطاء فيستجاب لكم ".
وَالثَّانِي: أَنه نهى عَن ركُوبهَا؛ لِأَن لَاعن النَّاقة ظلمها باللعن، فتخوف رُجُوع اللَّعْنَة عَلَيْهِ، قَالَ عَمْرو بن قيس: إِذا لعن الرجل الدَّابَّة قَالَت لَهُ: على أعصانا لله لعنته. ذكره ابْن الْأَنْبَارِي.
وَالثَّالِث: أَن دَعْوَة اللاعن للناقة كَانَت مجابة، وَلِهَذَا قَالَ: " إِنَّهَا ملعونة ".
وَالرَّابِع: أَنه إِنَّمَا فعل هَذَا عُقُوبَة لصَاحِبهَا لِئَلَّا يعود إِلَى مثل ذَلِك، حَكَاهُمَا الْخطابِيّ.(1/488)
كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة.
465 - / 568 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول قَوْله: " لَا تسْأَل الْإِمَارَة، فَإنَّك إِن أعطيتهَا من غير مَسْأَلَة أعنت عَلَيْهَا، وَإِن أعطيتهَا عَن مَسْأَلَة وكلت إِلَيْهَا ".
أما نَهْيه عَن سُؤال الْإِمَارَة، فَإِن الْإِمَارَة أَمَانَة، والإمارة بلَاء، فَنَهَاهُ عَن سُؤال الْبلَاء.
وَقَوله: " وكلت إِلَيْهَا " أَي أسلمت إِلَيْهَا فضعفت عَنْهَا وَظهر عجزك.
وَقد أَفَادَ هَذَا الحَدِيث تَعْلِيم التَّسْلِيم إِلَى اخْتِيَار الله عز وَجل؛ فَإِنَّهُ من رَضِي بِالْقضَاءِ أعين على الْمقْضِي، وَمن مَال إِلَى اخْتِيَار نَفسه وكل إِلَى تَدْبيره كَمَا قَالَ فِي حق هَاجر: " لَو تركت زَمْزَم لكَانَتْ عينا معينا ".(1/489)
466 - / 569 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم:
" لَا تحلفُوا بالطواغي وَلَا بِآبَائِكُمْ ".
الطواغي جمع طاغية، وَهِي الطواغيت، وَهِي الْأَصْنَام الَّتِي كَانَت تعبد فِي الْجَاهِلِيَّة. والطغيان فِي الْحَقِيقَة مُضَاف إِلَى عابديها، لَكِنَّهَا لما كَانَت السَّبَب أضيف إِلَيْهَا فَقيل طواغي: أَي مطغي فِيهَا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس} [إِبْرَاهِيم: 36] وأصل الطغيان مُجَاوزَة الْحَد فِي الْمعْصِيَة، وَيُقَال: طَغى الْبَحْر: إِذا هَاجَتْ أمواجه، وطغى السَّيْل: جَاءَ بِمَاء كثير. وطغى الدَّم: تتيع. قَالَ الْخَلِيل: والطغوان لُغَة فِي الطغيان، وَالْفِعْل طغيت وطغوت.
وَأما الْحلف بِالْآبَاءِ فقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمر.
467 - / 570 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: حسر عَنْهَا: أَي كشف.(1/490)
كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن مُغفل
وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة.
468 - / 571 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول قَوْله: " بَين كل أذانين صَلَاة لمن شَاءَ ".
المُرَاد بالأذانين الْأَذَان وَالْإِقَامَة، فَلَمَّا أضيفت الْإِقَامَة إِلَى الْأَذَان سميت باسمه، كَمَا قيل الْعمرَان وَالْمرَاد أَبُو بكر وَعمر، وَمعنى الحَدِيث: من شَاءَ تطوع حِينَئِذٍ.
فَإِن قيل: فَلم خص التَّطَوُّع بِهَذَا الْوَقْت وَقد علم أَنه يجوز فِي غَيره؟
فَالْجَوَاب أَنه قد يجوز أَن يتَوَهَّم أَن الْأَذَان للصَّلَاة يمْنَع أَن يفعل سوى الصَّلَاة الَّتِي أذن لَهَا، فَبين جَوَاز التَّطَوُّع.
469 - / 572 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: فنزوت.(1/491)
وَالْمعْنَى: وَثَبت مسرعا.
470 - / 573 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: نهى عَن الْخذف وَقَالَ: " إِنَّه لَا ينْكَأ بِهِ عَدو ".
الْخذف فِي الْأَغْلَب: الرَّمْي بالشَّيْء الْيَسِير كالحصاة والنواة، وأغلب مَا يكون بأطراف الْأَصَابِع.
والنكاية فِي الْعَدو: التَّأْثِير فِيهِ ببلوغ الْأَذَى مِنْهُ.
ويفقأ الْعين: يشقها.
471 - / 574 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: فَرجع فِي قِرَاءَته.
أَي: ردد وَتثبت.
472 - / 575 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ:
" لَا يغلبنكم الْأَعْرَاب على اسْم صَلَاتكُمْ الْمغرب، والأعراب تَقول هِيَ الْعشَاء ".
الْمَعْنى: سَموهَا أَنْتُم بالمغرب لَا بالعشاء، وَسَيَأْتِي فِي مُسْند ابْن عمر: " لَا يغلبنكم الْأَعْرَاب، أَلا إِنَّهَا الْعشَاء، وهم يعتمون بحلاب الْإِبِل ". وَهَذِه إِشَارَة إِلَى الْعَتَمَة.(1/492)
473 - / 576 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم:
أَمر بقتل الْكلاب ثمَّ قَالَ: " مَا بالهم وبال الْكلاب " ثمَّ أرخص فِي كلب الصَّيْد وكلب الْغنم.
أما أمره بقتل الْكلاب فقد بَقِي هَذَا مُدَّة ثمَّ نهى عَن ذَلِك بقوله: " مَا بالهم وبال الْكلاب " وَسَيَأْتِي فِي مُسْند جَابر قَالَ: أمرنَا رَسُول الله بقتل الْكلاب ثمَّ نهى عَن قَتلهَا. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: اقْتُلُوا مِنْهَا كل أسود بهيم. وَيَجِيء فِي حَدِيث: " لَوْلَا أَن الْكلاب أمة لأمرت بقتلها " أَي لاستدمت الْأَمر بذلك. وَلَو أَرَادَ الله سُبْحَانَهُ إبِْطَال أمة لما أَمر نوحًا أَن يحمل مَعَه فِي سفينته من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، فَلَمَّا حفظ الحمائر للتناسل علم أَنه أَرَادَ حفظ كل الْأُمَم. وَيحْتَمل قَوْله: " لَوْلَا أَن الْكلاب أمة " أَي خلق كثير يشق استيعابها فِي كل الْأَمَاكِن، فَلَا يحصل استئصالها، وَإِنَّمَا أَمر بقتلها لِأَن الْقَوْم ألفوها، وَكَانَت تخالطهم فِي أوانيهم، فَأَرَادَ فطامهم عَن ذَلِك فَأمر بِالْقَتْلِ، فَلَمَّا اسْتَقر فِي نُفُوسهم تنجيسها وإبعادها نهى عَن ذَلِك، فَصَارَ النَّهْي نَاسِخا لذَلِك الْأَمر.
وَمعنى: رخص فِي كلب الصَّيْد وَالْغنم: أَي فِي اقتنائهما.
وَقَوله: " إِذا ولغَ الْكَلْب ... " ولوغ الْكَلْب: تنَاوله المَاء بِطرف لِسَانه، يُقَال: ولغَ يلغ.(1/493)
وتعفير الْإِنَاء: غسله بِمَاء مَعَه تُرَاب. والعفر: التُّرَاب.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على نَجَاسَة الْكَلْب، لِأَنَّهُ أَمر بِغسْل الْإِنَاء، وَقد كشف هَذَا قَوْله فِي حَدِيث آخر: " طهُور إِنَاء أحدكُم " وَالطَّهَارَة تضَاد النَّجَاسَة، وَزَاد هَذَا كشفا أمره بالتعفير، فَلَا يخفى أَن ضم التُّرَاب إِلَى المَاء لزِيَادَة الِاحْتِيَاط فِي التَّطْهِير وَرفع النَّجَاسَة. وَمِمَّنْ ذهب إِلَى أَن الْكَلْب نجس أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَقَالَ مَالك وَدَاوُد: إِنَّه طَاهِر، وَإِنَّمَا يغسل ولوغه تعبدا.
وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على وجوب الْعدَد، وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد، فَروِيَ عَنهُ سبع مَرَّات إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ على حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَوَافَقَ مَالك دَاوُد على وجوب هَذَا الْعدَد، إِلَّا أَن عِنْدهمَا لَا للنَّجَاسَة. وَرُوِيَ عَن أَحْمد ثَمَان مَرَّات إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ على هَذَا الحَدِيث. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أبي حنيفَة، فَروِيَ عَنهُ: يغسل ثَلَاثًا، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه لَا يشْتَرط الْعدَد، بل يغسل حَتَّى يغلب على الظَّن الطَّهَارَة.
فَإِن أَدخل الْكَلْب يَده أَو رجله غسل الْإِنَاء كَمَا لَو ولغَ فِيهِ، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَقَالَ مَالك وَدَاوُد: لَا يجب غسله.
وَالْخِنْزِير كَالْكَلْبِ فِيمَا ذكرنَا خلافًا لمَالِك وَدَاوُد.
وَقد نبه هَذَا الحَدِيث على وجوب الْعدَد فِي غسل النَّجَاسَات، لِأَنَّهُ لما نَص فِي الولوغ على سبع نبه على سَائِر النَّجَاسَات، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُور من مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل، وَعنهُ رِوَايَة أُخْرَى: يجب غسل(1/494)
الأنجاس ثَلَاث مَرَّات، وَهُوَ قَول لأبي حنيفَة، وَعنهُ رِوَايَة ثَالِثَة: لَا يجب الْعدَد، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَالْمَشْهُور عَن أبي حنيفَة.(1/495)
(26) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي بكرَة
[15] واسْمه نفيع، وَإِنَّمَا كني بِأبي بكرَة لِأَن رَسُول الله لما حاصر أهل الطَّائِف نَادَى مناديه: " أَيّمَا عبد نزل من الْحصن إِلَيْنَا فَهُوَ حر. . فَنزل أَبُو بكرَة فِي بكرَة، فكنى بذلك. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة عشر حَدِيثا.
474 - / 577 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: [15] " إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيْئَته يَوْم خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض ". إِنَّمَا قَالَ هَذَا لأجل النسيء الَّذِي كَانَت الْعَرَب تَفْعَلهُ، وَفِيه نزل: {إِنَّمَا النسيء زِيَادَة فِي الْكفْر} [التَّوْبَة: 37] والنسيء؛ تَأْخِير الشَّيْء، وَكَانَت الْعَرَب قد تمسكت من مِلَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بِتَحْرِيم الشُّهُور الْأَرْبَعَة، فَرُبمَا احتاجوا إِلَى تَحْلِيل الْمحرم لِحَرْب تكون بَينهم فيؤخرون تَحْرِيم الْمحرم إِلَى صفر، ثمَّ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَأْخِير تَحْرِيم صفر، ثمَّ كَذَلِك حَتَّى تتدافع الشُّهُور فيستدير التَّحْرِيم على السّنة كلهَا، فكأنهم يستنسئون الشَّهْر الْحَرَام ويستقرضونه. قَالَ الْفراء: كَانَت(2/5)
الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا أَرَادوا الصَّدْر عَن منى قَامَ رجل من بني كنَانَة يُقَال لَهُ نعيم بن ثَعْلَبَة. وَكَانَ رَئِيس الْمَوْسِم، يَقُول: أَنا الَّذِي لَا أعاب وَلَا أخاب وَلَا يرد لي قَضَاء، فَيَقُولُونَ: أنسئنا شهرا، يُرِيدُونَ: أخر عَنَّا حُرْمَة الْمحرم وَاجْعَلْهَا فِي صفر، فيفعل ذَلِك. وَقَالَ مُجَاهِد: أول من أظهر النسيء جُنَادَة بن عَوْف الْكِنَانِي، فَوَافَقت حجَّة أبي بكر ذَا الْقعدَة، ثمَّ حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْعَام الْقَابِل فِي ذِي الْحجَّة، فَذَلِك حِين قَالَ: " إِن الزَّمَان قد اسْتَدَارَ كَهَيئَةِ ". وَقَوله: " اسْتَدَارَ " من الدّور. والهيئة: الْحَالة. وَسمي الشَّهْر شهرا لشهرته. [15] وَقَوله:: " مِنْهَا أَرْبَعَة حرم إِنَّمَا سَمَّاهَا حرما لمعنيين: أَحدهمَا: لتَحْرِيم الْقِتَال فِيهَا، وَكَانَت الْعَرَب تعتقد ذَلِك. وَالثَّانِي: لِأَن تَعْظِيم انتهاك الْمَحَارِم فِيهَا أَشد من تَعْظِيمه فِي غَيرهَا. [15] قَوْله: " ذُو الْقعدَة " قَالَ ثَعْلَب: إِنَّمَا سموهُ ذَا الْقعدَة لأَنهم كَانُوا يَقْعُدُونَ فِيهِ؛ وسموه ذَا الْحجَّة لأَنهم كَانُوا يحجون فِيهِ. وَأما الْمحرم فلتحريمه، وَأما صفر فلأنهم كَانُوا يطْلبُونَ الْميرَة فِيهِ، يُقَال: صفر السقاء: إِذا لم يكن فِيهِ شَيْء. وربيع لأَنهم يربعون فِيهَا. وجمادى لِأَن المَاء يجمد فيهمَا. وَرَجَب من التَّعْظِيم، يُقَال: رجبه يرجبه: إِذا عظمه. [15] أما إِضَافَته إِلَى مُضر فلأنهم كَانُوا يعظمونه أَشد من بَقِيَّة الْعَرَب. [15] وَقَوله: " بَين جُمَادَى وَشَعْبَان " يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: التَّأْكِيد كَمَا قَالَ: " ابْن لبون ذكر ". وَالثَّانِي: لمَكَان مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ من النسيء؛ فَإِن الْأَشْهر كَانَت تنْقَلب بالنسيء.(2/6)
[15] قَالَ ثَعْلَب: وَسمي شعْبَان لأَنهم كَانُوا يتفرقون فِيهِ ويتشعبون. [15] قَوْله: وَأَعْرَاضكُمْ " أَي نفوسكم، قَالَ ابْن قُتَيْبَة: عرض الرجل نَفسه، وَمن شتم عرض رجل فَإِنَّمَا ذكره فِي نَفسه بالسوء، وَمِنْه قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أهل الْجنَّة: " لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَإِنَّمَا هُوَ عرق يجْرِي من أعراضهم مثل الْمسك " وَقَالَ أَبُو بكر بن الْأَنْبَارِي: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الْعرض مَوضِع الْمَدْح والذم من الْإِنْسَان، ذهب بِهِ أَبُو الْعَبَّاس إِلَّا أَن الْقَائِل إِذا ذكر عرض فلَان فَمَعْنَاه أُمُوره الَّتِي يرْتَفع أَو يسْقط بذكرها، وَمن جِهَتهَا يحمد أَو يذم، فَيجوز أَن تكون أموراً يذكر بهَا دون أسلافه، وَيجوز أَن يذكر أسلافه ليلحقه النَّقْص بعيبهم، لَا يعلم بَين أهل اللُّغَة خِلَافه إِلَّا مَا قَالَه ابْن قُتَيْبَة، فَإِنَّهُ أنكر أَن يكون الْعرض الأسلاف، وَزعم أَن عرض الرجل نَفسه، وَاحْتج بقوله عَلَيْهِ السَّلَام: " وَإِنَّمَا هُوَ عرق يجْرِي من أعراضهم " قَالَ: مَعْنَاهُ من أبدانهم، وَاحْتج بقول أبي الدَّرْدَاء: أقْرض من عرضك ليَوْم فقرك. قَالَ مَعْنَاهُ: من نَفسك بِأَن لَا تذكر من ذكرك. وَاحْتج بِحَدِيث أبي ضَمْضَم: اللَّهُمَّ إِنِّي قد تَصَدَّقت بعرضي، قَالَ: مَعْنَاهُ: بنفسي وأحللت من اغتابني. قَالَ: فَلَو كَانَ الْعرض الأسلاف مَا جَازَ لَهُ أَن يحل من سبّ الْمَوْتَى، لِأَن ذَلِك إِلَيْهِم لَا إِلَيْهِ. وَمِمَّا يدل على ذَلِك قَول حسان:(2/7)
(فَإِن أبي ووالده وعرضي ... لعرض مُحَمَّد مِنْكُم وقاء)
[15] قَالَ أَبُو بكر: فَهَذَا الَّذِي ذهب إِلَيْهِ ابْن قُتَيْبَة وَاضح الْخَطَأ؛ أَلا ترى قَول مِسْكين الدَّارمِيّ:
(رب مهزول سمين عرضه ... وسمين الْجِسْم مهزول الْحسب)
[15] فَلَو كَانَ الْعرض الْبدن والجسم على مَا ادّعى لم يكن مِسْكين ليقول: " رب سمين عرضه " إِذْ كَانَ مستحيلاً أَن يَقُول الْقَائِل: رب مهزول سمين جِسْمه، لِأَنَّهُ متناقض، وَإِنَّمَا أَرَادَ: رب مهزول جِسْمه كَرِيمَة أَفعاله. فَأَما الحَدِيث الَّذِي احْتج بِهِ فِي صفة أهل الْجنَّة فَقَالَ الْأمَوِي: الْأَعْرَاض: المغابن، وَهِي الْمَوَاضِع الَّتِي تعرق من الْجَسَد وَقَول أبي الدَّرْدَاء: أقْرض من عرضك، مَعْنَاهُ: من عابك وَذكر أسلافك فَلَا تجاره. وَكَذَلِكَ قَول أبي ضَمْضَم مَعْنَاهُ: قد تَصَدَّقت على من ذَكرنِي أَو ذكر أسلافي بِمَا يرجع إِلَيّ عَيبه، وَلم يرد أَنه أحله من أسلافه، لكنه إِذا ذكر آباءه لحقه بذكرهم نقيصة فأحله مِمَّا أوصل إِلَيْهِ من الْأَذَى، فَأَما حسان فَإِنَّهُ أَرَادَ بقوله: وعرضي: جَمِيع أسلافي الَّذين أمدح وأذم من جهتهم؛ يدل عَلَيْهِ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فَإِن دماءكم وَأَعْرَاضكُمْ " فَلَو كَانَ الْعرض هُوَ النَّفس كَانَ ذكر الدَّم كَافِيا. وَقَوله: " أَلا هَل بلغت؟ " أَلا كلمة يُنَبه بهَا الْمُخَاطب. وَهل بِمَعْنى قد، كَقَوْلِه: {هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى} [النازعات: 15] .(2/8)
[15] وَقَوله: " يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض " قَالَ لنا ابْن الخشاب: قد قَالَه قوم يضْرب بجزم الْبَاء، وَالصَّحِيح يضْرب بِالرَّفْع. [15] وَقَوله: انكفأ إِلَى كبشين. أَي رَجَعَ. والأملح: الَّذِي فِيهِ بَيَاض وَسَوَاد، غير أَن الْبيَاض فِيهِ أَكثر، قَالَ الشَّاعِر:
(لكل دهر قد لبست أثوابا ... )
(حَتَّى اكتسى الرَّأْس قناعا أشيبا ... )
(أَمْلَح لَا لذا وَلَا محببا ... )
والجزيعة: الْقطعَة من الْغنم. [15] قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذِه الزِّيَادَة - يَعْنِي ذكر الكبشين والجزيعة من الْغنم - وهم من ابْن عون فِيمَا يُقَال، وَإِنَّمَا رَوَاهُ ابْن سِيرِين عَن أنس، وَلم يخرج البُخَارِيّ هَذِه الزِّيَادَة لذَلِك. وَالله أعلم. [15] وَقَوله: مَا بهشت لَهُم. أَي مَا دافعتهم وَلَا قاتلتهم. وأصل البهش من الْحَرَكَة والانزعاج. وَهَذَا قَالَه أَبُو بكرَة يَوْم حرق ابْن الْحَضْرَمِيّ، وَهَذَا هُوَ عبد الله بن عَامر بن الْحَضْرَمِيّ، وَقيل: عبد الله بن عَمْرو. وَقَالَ أَبُو عبيد: وَجه مُعَاوِيَة عبد الله بن عَامر الْحَضْرَمِيّ إِلَى الْبَصْرَة يَدْعُو أَهلهَا إِلَى بيعَته، فَنزل مربعة(2/9)
الْأَحْنَف، فَبعث إِلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام جَارِيَة بن قدامَة، فَسَار إِلَيْهِ فِي خيله، فالتجأ ابْن عَامر إِلَى دَار وَمَعَهُ سَبْعُونَ رجلا، فَأمر جَارِيَة، فأشعلت النَّار فِي الدَّار، فَاحْتَرَقَ ابْن عَامر وَمن مَعَه، وَكَانَ مَعَ ابْن الْحَضْرَمِيّ فِي الدَّار عبد الله ابْن خازم السّلمِيّ، فَأَتَتْهُ أمه عجلى فَقَالَت: لتنزلن أَو لألقين رِدَائي، فَلم يفعل، فَأَلْقَت رداءها، ثمَّ قَالَت: لتنزلن أَو لألقين خماري، فَلم يفعل، فألقته ثمَّ قَالَت: لتنزلن أَو لألقين إزَارِي فَنزل، فَأخذت بناصيته تجره وَهِي تَقول:
(الله نجاك فشكرا شكرا ... )
(من حر نَار سعروها سعرا ... )
(طُوبَى لأم زفرتك زفرا ... )
(لَو كنت تجزيها بشفع وترا ... )
(مَا نلْت من دنياك عَيْشًا مرا ... )
[15] فلقيها رجل وَهِي تسوقه فَقَالَ: أتفعلين هَذَا بِسَيِّد الْعَرَب؛ فَقَالَ: دعها، فَإِنَّهَا وَالِدَة.
475 - / 578 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " شهرا عيد لَا ينقصان: رَمَضَان وَذُو الْحجَّة ". [15] أما الْعِيد فَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد الْعِيد كل يَوْم يجمع، كَأَنَّهُمْ عَادوا إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: سمي عيدا لِأَنَّهُ عود من(2/10)
التَّرَحِ إِلَى الْفَرح. [15] وَأما رَمَضَان فَقَالَ ابْن فَارس: الرمض: حر الْحِجَارَة من شدَّة حر الشَّمْس. وَلما نقلوا أَسمَاء الشُّهُور من اللُّغَة الْقَدِيمَة سَموهَا بالأزمنة الَّتِي وَقعت فِيهَا، فَوَافَقَ هَذَا الشَّهْر أَيَّام رمض الْحر، وَيجمع على رمضانات وأرمضاء. [15] فَإِن قيل: كَيفَ سمي رَمَضَان شهر عيد، وَإِنَّمَا الْعِيد فِي شَوَّال؟ [15] فقد أجَاب عَنهُ الْأَثْرَم بجوابين: أَحدهمَا: أَنه قد يرى هِلَال شَوَّال بعد الزَّوَال فِي آخر يَوْم من شهر رَمَضَان. وَالثَّانِي: أَنه لما قرب الْعِيد من الصَّوْم أَضَافَهُ إِلَيْهِ، وَالْعرب تسمي الشَّيْء باسم الشَّيْء إِذا قرب مِنْهُ. [15] وَفِي معنى قَوْله: " لَا ينقصان " أَرْبَعَة أَقْوَال: [15] أَحدهَا: أَن الْكَلَام خرج على الْغَالِب، وَالْغَالِب أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّقْص إِن كَانَ أَحدهمَا تسعا وَعشْرين كَانَ الآخر ثَلَاثِينَ. قَالَ الْأَثْرَم: كَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يذهب إِلَى هَذَا. [15] وَالثَّانِي: أَن المُرَاد تَفْضِيل الْعَمَل فِي عشر ذِي الْحجَّة وَأَنه لَا ينقص من الْأجر عَن شهر رَمَضَان. وَالثَّالِث: أَن النَّاس لما كَانَ يكثر اخْتلَافهمْ فِي هذَيْن الشَّهْرَيْنِ لأجل عيدهم وحجهم، أعلمهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الشَّهْرَيْنِ - وَإِن نقصت أعدادهما فحكمهما على التَّمام والكمال فِي حكم الْعِبَادَة، لِئَلَّا يَقع فِي الْقُلُوب شكّ إِذا صَامُوا تِسْعَة وَعشْرين، أَو وَقع وقوفهم خطأ فِي(2/11)
الْحَج فَبين أَن الثَّوَاب تَامّ وَإِن نقص الْعدَد، وَالْمعْنَى: لَا ينقص أجر من صامهما، ذكرهن أَبُو سُلَيْمَان البستي. [15] وَالرَّابِع: أَن الْإِشَارَة بِهَذَا كَانَت إِلَى سنة مَعْلُومَة، ذكره أَبُو بكر بن فورك.
476 - / 579 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أمرنَا أَن نشتري الْفضة بِالذَّهَب كَيفَ شِئْنَا، ونشتري الذَّهَب بِالْفِضَّةِ كَيفَ شِئْنَا، فَسَأَلَهُ رجل فَقَالَ: يدا بيد؟ فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعت. [15] اعْلَم أَن الرِّبَا على ضَرْبَيْنِ: رَبًّا الْفضل، وَربا النَّسِيئَة. وَقد سبق الْكَلَام فِي رَبًّا النَّسِيئَة فِي مُسْند عمر عَلَيْهِ السَّلَام، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِي رَبًّا الْفضل فِي مُسْند عبَادَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، لِأَن هُنَاكَ أليق بِهِ.
477 - / 580 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " أَلا أنبئكم بأكبر الْكَبَائِر؟ الْإِشْرَاك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين " وَكَانَ مُتكئا فَجَلَسَ فَقَالَ: " أَلا وَقَول الزُّور، وَشَهَادَة الزُّور " فَمَا زَالَ يكررها حَتَّى قُلْنَا: ليته سكت. [15] إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ بَدَأَ بالشرك فِي هَذَا الحَدِيث وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود الْمُتَقَدّم ثمَّ ثنى هُنَاكَ بقتل الْوَلَد، فثلث بِالزِّنَا، وثنى هُنَا بعقوق الْوَالِدين وَثلث بِشَهَادَة الزُّور، وسمى هَذِه أكبر الْكَبَائِر، وَمَعْلُوم أَن الْقَتْل وَالزِّنَا أعظم من العقوق وَشَهَادَة الزُّور؟(2/12)
[15] فَالْجَوَاب: أَنه كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام ذكر لكل قوم مَا يخَاف أَن يصدر مِنْهُم أَكثر من غَيره، كَمَا قَالَ لبَعْضهِم: " لَا تغْضب " كَأَنَّهُ أحس مِنْهُ بِشدَّة الْغَضَب. وَيحْتَمل أَن يكون اقْتصر فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود على الذُّنُوب الَّتِي بَين العَبْد وَبَين ربه، وَذكر هَاهُنَا بعد الشّرك مَا يتَعَلَّق بالآدمي وجنسه. [15] فَإِن قيل: فَكيف عظم شَهَادَة الزُّور بتفخيم أمرهَا وتكرار ذكرهَا والشرك أعظم؟ [15] فَالْجَوَاب: أَن تَعْظِيم أَمر الشّرك قد عرف، فَأَرَادَ تَعْظِيم مَا لَا يعرف قدر وقعه، فكرر، كَمَا أَكثر ذكر عيب قوم لوط بالفاحشة، وَقوم شُعَيْب بالتطفيف، وَإِن كَانَ الشّرك أعظم. [15] وَاعْلَم أَن قبُول قَول الشَّاهِد إِنَّمَا كَانَ لما يظْهر من دينه وصلاحه، وَذَاكَ من ستر الله عز وَجل عَلَيْهِ وإنعامه، فَإِذا شهد بالزور قَابل النِّعْمَة بالكفران وبارز السَّاتِر، ثمَّ ضم إِلَى هَذَا اقتطاع المَال الْحَرَام، فَصَارَ قَوْله سَببا لنقض حكم الشَّرِيعَة من اخْتِصَاص صَاحب المَال بِمَالِه، فَلذَلِك عظم الْأَمر. [15] وَأما قَوْله: " حَتَّى قُلْنَا ليته سكت "، فلأنهم علمُوا أَن تكراره لذَلِك يُوجب تَعْظِيم هَذَا الذَّنب، وَقد عرفُوا أَن هَذِه الذلة تقع بِبَعْض الْمُسلمين، فأحبوا تيسير الْأَمر.
478 - / 581 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أثنى رجل عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " وَيلك، قطعت عنق صَاحبك " ثمَّ قَالَ: " من كَانَ مادحا أَخَاهُ لَا(2/13)
محَالة فَلْيقل: أَحسب فلَانا، وَالله حسيبه، وَلَا أزكي على الله أحدا ". [15] معنى الحَدِيث: أَنَّك عرضت صَاحبك للهلاك بمدحك إِيَّاه، لِأَن الْمَدْح يُحَرك إِلَى الْإِعْجَاب بِالنَّفسِ، وَالْكبر. [15] وَقَوله: " وَالله حسيبه " أَي محاسبه على أَعماله، فَإِن شَاءَ عاقبه بذنوبه. وَقد سبق الْكَلَام فِي الْمَدْح فِي مُسْند أبي مُوسَى.
479 - / 582 وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " لَا يحكم أحد بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان ". [15] الْغَضَب: غليان دم الْقلب طلبا للانتقام، وَذَلِكَ يخرج الطَّبْع عَن حد الِاعْتِدَال، وَمن قد عجز عَن الحكم لعقله على هَوَاهُ عجز عَن الحكم لغيره، وَقد كَانَت الْعَرَب تَقول: الْغَضَب غول الْعقل. يعنون أَنه يغوله وَيذْهب بِهِ. وَفِي معنى الْغَضَب الْجُوع وَالْمَرَض وكل مَا يخرج عَن الِاعْتِدَال.
480 - / 583 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " أَرَأَيْتُم إِن كَانَ جُهَيْنَة وَمُزَيْنَة وَأسلم وغفار خيرا من بني تَمِيم وَبني أَسد وَبني غطفان " قَالُوا: خابوا وخسروا. قَالَ: " فَإِنَّهُم خير مِنْهُم ". [15] هَذِه الْقَبَائِل المفضولة كَانَت نَاقِصَة الْقدر عِنْد الْعَرَب، ففضلت بِالْإِسْلَامِ على من كَانَ أفضل مِنْهَا
481 - / 584 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " إِذا التقى المسلمان بسيفيهما(2/14)
فالقاتل والمقتول فِي النَّار ". [15] قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: هَذَا إِنَّمَا يكون فِي اللَّذين يقتتلان على غير تَأْوِيل، بل على عَدَاوَة أَو عصبية أَو طلب دنيا، فَأَما من قَاتل أهل الْبَغي فَقتل أَو دفع عَن نَفسه فَإِنَّهُ لَا يدْخل فِي هَذَا الْوَعيد؛ لِأَنَّهُ مَأْمُور بالذب عَن نَفسه غير قَاصد قتل صَاحبه، أَلا ترَاهُ يَقُول: " إِنَّه كَانَ حَرِيصًا على قتل صَاحبه ". [15] وَقَوله: " فهما فِي جرف جَهَنَّم " الجرف جَانب الْوَادي الَّذِي يتجرف بالسيل، أَي يتهدم أَو يخَاف عَلَيْهِ ذَلِك.
482 - / 586 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] إِن أَبَا بكرَة انْتهى إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ رَاكِع فَرَكَعَ قبل أَن يصل إِلَى الصَّفّ، فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " زادك الله حرصا، وَلَا تعد ". [15] ظَاهر هَذَا الحَدِيث النَّهْي عَن صَلَاة الْفَذ، وَمن صلى وَلم يعلم بِالنَّهْي أعلم وَصحت صلَاته، فَإِن علم وَصلى فَذا لم تصح، وَهَذَا قَول سعيد بن جُبَير، وَالنَّخَعِيّ، وَالْحسن بن صَالح، وَإِسْحَق بن رَاهَوَيْه، وَأحمد بن حَنْبَل، خلافًا للأكثرين.(2/15)
483 - / 587 وَقد ذكرنَا الحَدِيث الثَّالِث فِي مُسْند أبي مُوسَى، إِلَّا أَن صفة صَلَاة الْكُسُوف تَأتي فِي مُسْند ابْن عَبَّاس إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
484 - / 588 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " لَا يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة ". [15] سَبَب قَول رَسُول الله هَذَا أَنه لما قتل شيرويه أَبَاهُ كسْرَى لم يملك سوى ثَمَانِيَة أشهر، وَيُقَال سِتَّة أشهر، ثمَّ هلك فَملك بعده ابْنه أردشير، وَكَانَ لَهُ سبع سِنِين فَقتل، فملكت بعده بوران بنت كسْرَى، فَبلغ هَذَا رَسُول الله، فَقَالَ: " لن يفلح قوم ولوا أَمرهم امْرَأَة ". وَكَذَلِكَ كَانَ، فَإِنَّهُم لم يستقم لَهُم أَمر. [15] والفلاح: الْفَوْز بالمطلوب، وَالتَّدْبِير يحْتَاج إِلَى كَمَال الرَّأْي، وَنقص الْمَرْأَة مَانع. [15] وَفِي الحَدِيث دَلِيل على أَن الْمَرْأَة لَا تلِي الْإِمَارَة وَلَا الْقَضَاء وَلَا عقد النِّكَاح.
485 - / 589 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: اسْتقْبل الْحسن بن عَليّ مُعَاوِيَة بكتائب أَمْثَال الْجبَال. [15] الْكَتَائِب جمع كَتِيبَة: وَهِي الْقطعَة المجتمعة من الْجَيْش.(2/16)
والأقران جمع قرن. [15] وَقَوله: قد عاثت فِي دمائها. أَي أفسدت وتجاوزت. والعيث: الْفساد. [15] وَقَوله: " إِن ابْني هَذَا سيد " السَّيِّد الرئيس الَّذِي يفوق قومه. قَالَ الْخطابِيّ: اشتقاقه من السوَاد: أَي هُوَ الَّذِي يَلِي السوَاد الْعَظِيم وَيقوم بشأنهم. [15] والفئة: الْجَمَاعَة. قَالَ الزّجاج: هُوَ من فأوت رَأسه بالعصا، وفأيت: إِذا شققته. [15] وَقد بَان صدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مصالحة الْحسن مُعَاوِيَة.
486 - / 590 وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم: " تكون فتْنَة الْقَاعِد خير من الْمَاشِي فِيهَا، والماشي فِيهَا خير من السَّاعِي ". [15] الْمَشْي دون السَّعْي. [15] وَقَوله: " يعمد إِلَى سَيْفه فَيدق على حَده " كِنَايَة عَن ترك الْقِتَال، لِأَنَّهُ إِذا فعل هَذَا بِسَيْفِهِ لم يُقَاتل. [15] وَقَوله: " يبوء بإثمه ": أَي يرجع بإثمه فِيمَا اجترأ عَلَيْك، " وبإثمك " فِيمَا ارْتَكَبهُ فِي قَتلك.(2/17)
(27) كشف الْمُشكل من مُسْند بُرَيْدَة بن الْحصيب
[15] لَيْسَ فِي الصَّحَابَة من اسْمه بُرَيْدَة سوى هَذَا. وَفِي الصحابيات امْرَأَة اسْمهَا بُرَيْدَة بنت بشر بن الْحَارِث، لَيْسَ فِي الصحابيات من اسْمهَا بُرَيْدَة سواهَا. [15] وَجُمْلَة مَا روى بُرَيْدَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَسَبْعَة وَسِتُّونَ حَدِيثا، لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة عشر حَدِيثا.
487 - / 591 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول قَوْله: غزا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتّ عشرَة غَزْوَة. وَفِي رِوَايَة: تسع عشرَة غَزْوَة، قَاتل مِنْهُنَّ فِي ثَمَان. [15] كَانَ بُرَيْدَة يُشِير إِلَى مَا شَاهد من الْغَزَوَات؛ لِأَنَّهُ لَقِي رَسُول الله فِي طَرِيق الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة فَأسلم، وَلم يقدم عَلَيْهِ حَتَّى مَضَت بدر وَأحد. وعَلى مَا سَاقه مُحَمَّد بن سعد فِي " الطَّبَقَات ": غزوات رَسُول الله سبع وَعِشْرُونَ، وسراياه سِتّ وَخَمْسُونَ. وَفِي رِوَايَة أَن السَّرَايَا سبع وَأَرْبَعُونَ، وَالَّذِي قَاتل فِيهِ رَسُول الله من الْغَزَوَات: بدر، وَأحد، والمريسيع،(2/18)
وَالْخَنْدَق، وَقُرَيْظَة، وخيبر، وَالْفَتْح، وحنين، والطائف. قَالَ ابْن سعد: هَذَا الَّذِي اجْتمع لنا عَلَيْهِ، وَفِي بعض الرِّوَايَات أَنه قَاتل فِي بني النَّضِير، وَفِي غزَاة وَادي الْقرى مُنْصَرفه من خَيْبَر، وَفِي الغابة.
488 - / 592 وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] أَن رَسُول الله بعث عليا إِلَى خَالِد يَعْنِي إِلَى الْيمن ليقْبض الْخمس، فاصطفى عَليّ مِنْهَا سبية، فَأصْبح وَقد اغْتسل، فَقلت لخَالِد: أَلا ترى إِلَى هَذَا؟ . وَتَمام هَذَا الحَدِيث فِي غير هَذِه الرِّوَايَة: وَكنت أبْغض عليا، فَلَمَّا قدمنَا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكرت لَهُ ذَلِك فَقَالَ: " يَا بُرَيْدَة أتبغض عليا؟ " فَقلت: نعم. فَقَالَ: " لَا تبْغضهُ، فَإِن لَهُ فِي الْخمس أَكثر من ذَلِك ". [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث إِشْكَال من أَرْبَعَة أوجه: أَحدهَا: كَيفَ جَازَ لعَلي عَلَيْهِ السَّلَام أَن يصطفي لنَفسِهِ مِمَّا لم يقسم؟ وَالثَّانِي: كَيفَ جَازَ لَهُ أَن يطَأ من غير اسْتِبْرَاء؟ . وَالثَّالِث: كَيفَ فعل هَذَا وَقد علم غضب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خطب على فَاطِمَة؟ وَالرَّابِع: كَيفَ يجوز لبريدة أَن يبغض عليا، وَمَا وَجه هَذَا البغض؟ [15] وَالْجَوَاب: أما الأول فَاعْلَم أَن كثيرا من الْأَحَادِيث تروى مبتورة(2/19)
فَيَقَع الْإِشْكَال لذَلِك، وَقد جَاءَ هَذَا الحَدِيث مُبينًا من طَرِيق آخر: قَالَ بُرَيْدَة: كنت فِي جَيش فغنموا، فَبعث أَمِير الْجَيْش إِلَى رَسُول الله أَن ابْعَثْ من يخمسها، فَبعث عليا وَفِي السَّبي وصيفة من أفضل السَّبي وَقعت فِي الْخمس، ثمَّ خمس فَصَارَت فِي أهل بَيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ خمس فَصَارَت فِي آل عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. فقد كشف هَذَا الحَدِيث الْحَال، وَأَنه أَمر عليا بِقَبض الْخمس وقسمته وَقبض حَقه مِنْهُ، فعلى هَذَا مَا تصرف إِلَّا بعد الْقِسْمَة. [15] وَأما الْإِشْكَال الثَّانِي: فَجَوَابه من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن عليا عَلَيْهِ السَّلَام اصْطفى تِلْكَ السبية وَأصْبح يَوْمًا من الْأَيَّام وَقد اغْتسل لَا من وَطئهَا، فظنوا أَنه من وَطئهَا. وَالثَّانِي: أَن يكون من وَطئهَا وَلَا يكون ذَلِك الإصباح عقيب سبيهَا. بل لما استبرأها. [15] وَالثَّالِث أَن تكون غير بَالِغَة، وَقد ذهب جمَاعَة من الْعلمَاء إِلَى أَن غير البوالغ لَا يستبرأن، مِنْهُم الْقَاسِم بن مُحَمَّد، وَمِنْهُم اللَّيْث بن سعد، وَأَبُو يُوسُف، وَكَانَ أَبُو يُوسُف لَا يرى اسْتِبْرَاء الْعَذْرَاء وَإِن كَانَت بَالِغَة، فَيحْتَمل أَن تكون تِلْكَ الوصيفة عذراء. [15] وَأما الْإِشْكَال الثَّالِث: فَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون هَذَا قبل مَا جرى من خطبَته جوَيْرِية بنت أبي جهل وإنكار رَسُول الله تِلْكَ الْحَالة. وَالثَّانِي: أَن وَطْء سبية لموْضِع الْحَاجة فِي السّفر لَا يكون كاتخاذ زَوْجَة. [15] وَأما الْإِشْكَال الرَّابِع: فَإِن الْإِنْسَان إِذا رأى من يفعل شَيْئا لَا يفهمهُ(2/20)
أبغضه لذَلِك، وَهَذَا مَنْسُوب إِلَى سوء الْفَهم أَيْضا، فَكَأَنَّهُ كَانَ يرى من أَفعاله مَالا يعلم مَعْنَاهُ فَيبْغضهُ لذَلِك:
(وَكم من عائب قولا صَحِيحا ... وآفته من الْفَهم السقيم)
[15] وَقد بلغنَا أَن رجلا من كبار الْعلمَاء تزوج امْرَأَة ثمَّ طَلقهَا، فَلَمَّا كَانَ فِي بَقِيَّة تِلْكَ اللَّيْلَة دخل عَلَيْهَا فَوَطِئَهَا، وَكَانَ يرى أَن وَطْء الرَّجْعِيَّة مُبَاح، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من الْعلمَاء، على أَنه يُمكن أَن يكون أشهد على ارتجاعها حِينَئِذٍ وَهِي لَا تعلم، فَأخْبرت تِلْكَ الْمَرْأَة ولدا لَهَا وَقَالَت: مَا هَذَا بِمُسلم؛ لِأَنَّهُ طَلقنِي ثمَّ وطئني. فَقَالَ الْوَلَد: أَنا أحتال فِي قَتله، فَقدر الله عز وَجل أَن علم بِالْحَال فَقِيه، فَأَخْبرهُمَا بِجَوَاز ذَلِك، فَهَذَا مِمَّا يلاقي أهل الْعلم مِمَّن لَا يعرفهُ.
489 - / 593 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: بَكرُوا بِصَلَاة الْعَصْر. أَي قدموها فِي أول الْوَقْت.
490 - / 594 وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها ". [15] إِنَّمَا نَهَاهُم لأَنهم كَانُوا إِذا زاروا الْقُبُور رُبمَا ذكرُوا محَاسِن الْآبَاء على عَادَة الْجَاهِلِيَّة، وَكن النِّسَاء يندبن ويبكين، فَنهى الْكل، ثمَّ أطلق الرِّجَال بعد معرفتهم بآداب الْإِسْلَام وَبقيت الْكَرَاهِيَة للنِّسَاء لضعفهن عَن التماسك.(2/21)
[15] وَقَوله: " نَهَيْتُكُمْ عَن لُحُوم الْأَضَاحِي " فَإِن ذَلِك ذَلِك كَانَ لسَبَب سَيَأْتِي ذكره فِي مُسْند عَائِشَة عَلَيْهَا السَّلَام. [15] وَقَوله: " فَاشْرَبُوا فِي الأسقية " الأسقية: الأوعية الَّتِي يَجْعَل فِيهَا المَاء، وَلَا تكون إِلَّا من جُلُود، والظروف أَعم لِأَنَّهَا تكون للْمَاء وللنبيذ وَغَيرهمَا، وكل شَيْء جعلت فِيهِ شَيْئا فَهُوَ ظرف لَهُ ووعاء. [15] وَفِي قَوْله: " كل مُسكر حرَام " دَلِيل على تَحْرِيم النَّبِيذ.
491 - / 596 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَن ماعزا أقرّ بِالزِّنَا، فَأرْسل إِلَى قومه: " أتعلمون بعقله بَأْسا؟ أتنكرون مِنْهُ شَيْئا؟ " فَقَالُوا: مَا نعلمهُ إِلَّا وَفِي الْعقل. فَلَمَّا أقرّ أَرْبعا حفروا لَهُ حُفْرَة، ثمَّ أَمر بِهِ فرجم، فَجَاءَت الغامدية فَردهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَد جَاءَت فَقَالَ: لَعَلَّك أَن تردني كَمَا رددت ماعزا، فو الله إِنِّي لحبلى. فَقَالَ: " إِمَّا لَا فاذهبي حَتَّى تلدي ". [15] قد سبق الْخلاف فِي عدد الْإِقْرَار فِي مُسْند جَابر بن سَمُرَة. [15] والوفي الْعقل: الْكَامِل. [15] وَقَوله: " إِمَّا لَا " قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الْعَوام يَقُولُونَ أما لي بِفَتْح الْألف وَاللَّام وتسكين الْيَاء، وَالصَّوَاب إِمَّا لَا بِكَسْر الْألف وَبعدهَا لَا، وَأَصله: إِلَّا يكن ذَلِك الْأَمر فافعل هَذَا، وَمَا زَائِدَة وأنشدني أَبُو زَكَرِيَّا
(أمرعت الأَرْض لَو أَن مَالا ... )(2/22)
(لَو أَن نوقا لَك أَو جمالا ... )
(أَو ثلة من غنم إِمَّا لَا ... )
[15] وَفِي هَذَا الحَدِيث أَنه حفر لماعز. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي سعيد أَنه قَالَ فِي مَاعِز: مَا أوثقناه وَلَا حفرنا لَهُ، وَظَاهر كَلَام أَحْمد يدل على أَنه لَا يحْفر فِي حد الرَّجْم لَا للرجل وَلَا للْمَرْأَة، وَقد اخْتلف كَلَام القَاضِي أبي يعلى، فَذكر فِي كِتَابه " الْمُجَرّد " إِن ثَبت الْحَد على الْمَرْأَة بِالْإِقْرَارِ لم يحْفر لَهَا، وَإِن ثَبت بِالْبَيِّنَةِ حفر لَهَا إِلَى الصَّدْر، وَهُوَ اخْتِيَار صَاحِبيهِ أبي الْوَفَاء بن عقيل وَأبي الْخطاب. وَقَالَ فِي كِتَابه " الْخلاف ": لَا يحْفر لَهَا. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: يحْفر للْمَرْأَة، وَالْعلَّة فِي ذَلِك أَنَّهَا عَورَة. وَالْوَجْه فِي ترك الْحفر أَنه كالربط والشد، وَلَا يُمكن مَعَه الْهَرَب. قَالَ ابْن عقيل: فَإِذا شرعنا فِي إِقَامَة الْحَد على الزَّانِي فهرب من ألم الْحِجَارَة، فَهَل يتبع بِالرَّجمِ أَو يتْرك؟ ينظر، فَإِن كَانَ حَده ثَبت بِإِقْرَارِهِ ترك، لِأَن الْهَرَب نوع رُجُوع، وَإِن كَانَ ثَبت بِالْبَيِّنَةِ أتبع فرجم إِلَى أَن تزهق نَفسه. [15] والغامدية كَانَت من غامد. [15] وَصَاحب المكس: العشار الَّذِي كَانَ يَأْخُذ من الْمُسلمين عشر أَمْوَالهم لَا على وَجه الزَّكَاة، بل على وَجه التَّعَدِّي. والمكس: الانتقاص، وَمِنْه المماكسة، فَكَأَن العشار ينتقص الْأَمْوَال(2/23)
[15] وَمعنى فاستنكهه: شم ريح فَمه، والنكهة: ريح الْفَم، وَكَأَنَّهُ ظن أَنه سَكرَان لأجل إِقْرَاره بِمَا يُوجب الْحَد. [15] وَقَوله: " أحاطت بِهِ خطيئته " ذكر فِيهِ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أحاطت بحسناته: أَي أحبطتها، لِأَن الْمُحِيط أَكثر من المحاط بِهِ، فَيكون كَقَوْلِه: {وَإِن جَهَنَّم لمحيطة بالكافرين} [التَّوْبَة: 49] وَقَوله: {أحَاط بهم سرادقها} [الْكَهْف: 29] وَالثَّانِي: أحاطت بِهِ: أهلكته، كَقَوْلِه: {إِلَّا أَن يحاط بكم} [يُوسُف: 66] . [15] وَقد ذكرنَا فِيمَا تقدم أَن كتمان الْمعاصِي أفضل من إظهارها، غير أَن ماعزا والغامدية لم يعلمَا بذلك، وَغلب عَلَيْهِمَا خوف الله عز وَجل وَالْغَضَب على النَّفس فِي إقدامها على الْمنْهِي، فَأَسْلمَا أَنفسهمَا إِلَى الْحَد، وَذَلِكَ من أحسن التَّوْبَة وأصحها.
492 - / 597 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن امْرَأَة قَالَت: كَانَ على أُمِّي صَوْم شهر، قَالَ: " صومي عَنْهَا ". [15] ظَاهر هَذَا أَنه كَانَ عَلَيْهَا نذر، وَعِنْدنَا أَن الْوَلِيّ يَصُوم عَن النَّاذِر، فَأَما إِذا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاء رَمَضَان واتسع الْوَقْت لقضائه فَلم يقضه فعندنا يطعم عَنهُ وَلَا يصام. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَدَاوُد: لَا يصام وَلَا يطعم عَنهُ لَا فِي النذور وَلَا فِي قَضَاء رَمَضَان إِلَّا أَن يُوصي بذلك. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الْجَدِيد: يطعم عَنهُ فيهمَا. وَفِي الْقَدِيم: يصام فيهمَا.(2/24)
[15] وَقَوله: " حجي عَنْهَا " دَلِيل على أَن الْحَج لَا يسْقط بِالْمَوْتِ، وَالْمعْنَى: افعلي مَا لَزِمَهَا، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يسْقط إِلَّا أَن يُوصي بِهِ الْمَيِّت. وَعِنْدنَا أَنه إِذا مَاتَ من عَلَيْهِ فرض الْحَج لزم الْوَرَثَة أَن يحجوا عَنهُ من صلب مَاله، من دويرة أَهله، سَوَاء أوصى بذلك أم لم يوص. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يلْزمهُم إِلَّا أَن يُوصي. قَالَ الشَّافِعِي: يحجّ عَنهُ من الْمِيقَات، وَهَذَا الْحَج على مَا وَصفنَا بقع عَن المحجوج عَنهُ فِي مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَقع عَن الْحَاج، وللمحجوج عَنهُ ثَوَاب النَّفَقَة.
493 - / 598 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الصَّلَوَات يَوْم الْفَتْح بِوضُوء وَاحِد، وَقَالَ: " عمدا صَنعته ". [15] كَانَ من عَادَته عَلَيْهِ السَّلَام الْوضُوء لكل صَلَاة إيثاراً للمستحب، فَفعل هَذَا ليبين أَنه جَائِر.
494 - / 599 وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن رجلا نَشد فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: من دَعَا إِلَى الْجمل الْأَحْمَر: فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا وجدت ". [15] نَشد الرجل الضَّالة بِمَعْنى طلبَهَا: وأنشدها بِمَعْنى عرفهَا، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ: " وَلَا وجدت " لترك احترامه الْمَسْجِد، وَالْمَسْجِد إِنَّمَا بني لذكر الله عز وَجل وَطلب الْآخِرَة لَا لأمور الدُّنْيَا، وَقد كَانَ يَنْبَغِي لهَذَا أَن ينشد ضالته على بَاب الْمَسْجِد لَا فِيهِ.(2/25)
495 - / 600 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أبرد بِالظّهْرِ، وَصلى الْمغرب قبل أَن يغيب الشَّفق، وأسفر بِالْفَجْرِ. [15] أبرد بِالظّهْرِ: أَخّرهَا حَتَّى خف الْحر. والشفق: الْحمرَة. وأسفر: أخر الصَّلَاة حَتَّى أَضَاء الصُّبْح.
496 - / 601 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " السَّلَام عَلَيْكُم أهل الديار من الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين ". [15] كَانَ شَيخنَا أَبُو الْفضل بن نَاصِر يَقُول إِذا دخل الْمَقَابِر: عَلَيْكُم السَّلَام أهل دَار قوم مُؤمنين، وَلَا يَقُول السَّلَام عَلَيْكُم، لحَدِيث رَوَاهُ جَابر بن سليم الهُجَيْمِي: أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت: عَلَيْك السَّلَام يَا رَسُول الله. فَقَالَ: " لَا تقل عَلَيْك السَّلَام، فَإِنَّهَا تَحِيَّة الْمَيِّت " فَتوهم الشَّيْخ لأجل هَذَا الحَدِيث أَن السّنة فِي تَحِيَّة الْمَيِّت أَن يُقَال عَلَيْك السَّلَام، وَترك الْأَخْذ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ بُرَيْدَة وَأَبُو هُرَيْرَة، وَفِيه دَلِيل على أَن سنة السَّلَام لَا تخْتَلف فِي تَحِيَّة الْأَحْيَاء والأموات، وَإِنَّمَا قَالَ مَا قَالَ للهجيمي إِشَارَة إِلَى مَا جرت بِهِ الْعَادة مِنْهُم فِي تَحِيَّة الْأَمْوَات، فَإِنَّهُم كَانُوا يقدمُونَ اسْم الْمَيِّت على الدُّعَاء وَهُوَ مَذْكُور فِي أشعارهم، قَالَ الشماخ:
(عَلَيْك سَلام من أَمِير وباركت ... يَد الله فِي ذَاك الْأَدِيم الممزق)(2/26)
وَقَالَ آخر:
(عَلَيْك سَلام الله قيس بن عَاصِم ... وَرَحمته مَا شَاءَ أَن يترحما)
[15] فَإِن قَالَ قَائِل: إِنَّمَا يُقَال إِن شَاءَ الله فِي الْأَمر المظنون، وَقد وَقع الْيَقِين بِالْمَوْتِ، فَمَا وَجه قَوْله: " وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون ". [15] فَالْجَوَاب: من أَرْبَعَة أوجه: [15] أَحدهمَا: أَن استثناءه وَقع على الْبِقَاع، لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن يَمُوت، فِي هَذِه الْبقْعَة أَو فِي غَيرهَا، رَوَاهُ إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم بن هَانِئ عَن أَحْمد بن حَنْبَل. [15] وَالثَّانِي: أَنه لما قيل لَهُ: {وَلَا تقولن لشَيْء إِنِّي فَاعل ذَلِك غَدا إِلَّا أَن يَشَاء الله} [الْكَهْف: 23، 24] صَارَت هَذِه الْكَلِمَة هجيراه فِي الْمُتَيَقن والمظنون، وَهَذِه الْكَلِمَة لما أهمل ذكرهَا سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فِي قَوْله: " لأطوفن اللَّيْلَة على مائَة امْرَأَة تَلد كل امْرَأَة غُلَاما " لم يحصل لَهُ مَقْصُوده. وَإِذا أطلقت على لِسَان رجل من يَأْجُوج وَمَأْجُوج فَقَالَ: غَدا يحْفر السد إِن شَاءَ الله نفعتهم. فَقدر على الْحفر، فَإِذا فَاتَ مَقْصُود نَبِي بِتَرْكِهَا، وَحصل مُرَاد كَافِر بقولِهَا، فليعرف قدرهَا، وَكَيف لَا وَهِي تَتَضَمَّن إِظْهَار عجز البشرية وَتَسْلِيم الْأَمر إِلَى قدرَة الربوبية. [15] وَالثَّالِث: أَن الِاسْتِثْنَاء وَاقع على اسْتِصْحَاب الْأَيْمَان إِلَى الْمَوْت لَا إِلَى نفس الْمَوْت، فَيكون ذَلِك صادرا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على جِهَة التَّعْلِيم، أَو لِأَنَّهُ كَانَ مَعَه غَيره مِمَّن لَا يدْرِي مآله.(2/27)
[15] الرَّابِع: أَن يكون مَعَه من ينافق، فَيَنْصَرِف اسْتِثْنَاؤُهُ إِلَيْهِم، وَيكون الْمَعْنى: إِن شَاءَ الله لُحُوق هَؤُلَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ قبل الْمَوْت وَقع اللحوق بِالْمُؤْمِنِينَ من الْمَوْتَى للْكُلّ. [15] فَإِن قيل: إِنَّمَا تسْأَل الْعَافِيَة للحي، فَمَا معنى سؤالها للْمَيت؟ [15] فَالْجَوَاب: أَنه يتَعَيَّن الْإِيمَان بتعذيب الْمَوْتَى وببعثهم، فَسَأَلَ للمعذبين مِنْهُم الْعَافِيَة من بلَاء الْعَذَاب.
497 - / 602 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " لَا تغلوا، وَلَا تغدروا، وَلَا تمثلوا ". [15] الْغلُول أَخذ شَيْء من الْمغنم قبل قسمته فِي خُفْيَة، والغدر: نقض الْعَهْد. والمثلة: تَشْوِيه الْخلقَة. [15] وَقَوله: " وَلَا تقتلُوا وليدا " الْوَلِيد: الصَّغِير، وَذَلِكَ لِأَن الصّبيان وَالنِّسَاء يصيرون رَقِيقا بِنَفس السَّبي، وَلَا يجوز إِضَاعَة المَال. [15] والذمة: الْعَهْد، وأخفرت الذِّمَّة: نقضتها. [15] وَقَوله: " فَإنَّك لَا تَدْرِي أتصيب حكم الله " فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: حكم الله الظَّاهِر فِي شَرعه، فَرُبمَا خَفِي عَنْك وَأَنت باجتهادك فِي تِلْكَ الْحَال مَعْذُور. وَالثَّانِي: حكم الله الَّذِي عِنْده.
498 - / 603 وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: " حُرْمَة نسَاء الْمُجَاهدين على القاعدين كَحُرْمَةِ أمهاتهم ".(2/28)
[15] إِنَّمَا عظم الْخطب فِي هَذَا لأجل الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، فَإِن الْمُجَاهدين يجمعُونَ بَين نصر دين الله، وطاعته، وَحفظ حوزة القاعدين، وَترك شهوات النَّفس فِي الْإِقَامَة، فَتعين حفظهم على القاعدين من هَذِه الْجِهَات، كَمَا عظم الزِّنَا بحليلة الْجَار لحق الْجوَار، وَالْجهَاد أعظم. [15] وَمعنى قَوْله: " يخلف رجلا " يقوم مقَامه فِي النّظر إِلَى أَهله. [15] وَقَوله: رَسُول الله: " فَمَا ظنكم؟ " يحْتَمل ثَلَاثَة أوجه: [15] أَحدهمَا: مَا ظنكم أَن الله يفعل بِهَذَا الخائن، فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمَا ظن الَّذين يفترون على الله الْكَذِب يَوْم الْقِيَامَة} [يُونُس: 60] تَقْدِيره: مَا ظنهم أَن الله فَاعل بهم؟ [15] وَالثَّانِي: مَا ظنكم بِهَذَا الَّذِي قد حكم فِي أَعمال هَذَا الخائن، هَل يدع مِنْهَا شَيْئا؟ [15] وَالثَّالِث: مَا ظنكم بِهَذَا الْمَظْلُوم فِي أَهله، هَل يتْرك حَقه يَوْم الْحَاجة إِلَى الْأَخْذ مَعَ هَذَا الانبساط الشنيع فِي أَهله؟
499 - / 604 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: " من لعب بالنرد شير فَكَأَنَّمَا صبغ يَده فِي لحم الْخِنْزِير وَدَمه ". [15] النَّرْد أعجمي مُعرب؟ وشير: حُلْو. وَالْخِنْزِير اسْم يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى. وَالْمرَاد بصبغ يَده فِي لحم الْخِنْزِير وَدَمه أَن لحم الْخِنْزِير وَدَمه حرَام التَّنَاوُل، فقد مس بِيَدِهِ مَا يحرم تنَاوله، فَكَذَلِك اللاعب بالنرد يلْعَب بِمَا يحرم عَلَيْهِ اللّعب بِهِ.(2/29)
(28) كشف الْمُشكل من مُسْند عَائِذ بن عَمْرو الْمُزنِيّ
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة.
500 - / 605 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: سَأَلت عَائِذ بن عَمْرو: هَل ينْقض الْوتر؟ فَقَالَ: إِذا أوترت من أَوله فَلَا توتر من آخِره. [15] اعْلَم أَن من لَهُ عَادَة بِقِيَام اللَّيْل فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يُؤَخر الْوتر، فَإِن أوتر أول اللَّيْل ثمَّ أَرَادَ التَّطَوُّع بعد ذَلِك فَهَل ينْقض وتره؟ كره أَحْمد ذَلِك، وَقَالَ أَبُو بكر من أَصْحَابنَا: ينْقض وتره. قَالَ ابْن عقيل: فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَة رِوَايَة وَوجه، والتطوع بعد الْوتر - وَإِن كَانَ تَركه أولى - جَائِز.
501 - / 606 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " إِن شَرّ الرعاء الحطمة ". [15] الرعاء: جمع رَاع، كَمَا يُقَال صَاحب وصحاب. والحطمة:(2/30)
الْمُفْسد من الْوُلَاة الَّذِي لَا يرفق برعيته. والحطم: السواق بعنف كَأَنَّهُ يحطم بعض الْإِبِل بِبَعْض، قَالَ الشَّاعِر:
(قد لفها اللَّيْل بسواق حطم ... )
[[15] وأصل الحطم كسر الشَّيْء الْيَابِس، وَسميت جَهَنَّم الحطمة لحطمها مَا يلقى فِيهَا، فَإِنَّهَا تكسر الْعظم بعد أكل اللَّحْم. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ عبيد الله بن زِيَاد لعائذ: أَنْت من نخالة أَصْحَاب مُحَمَّد، أَي من رذالتهم. وَهَذِه جرْأَة قبيحة من ذَلِك الْفَاسِق على أَقوام قد عمهم الله بِالشَّهَادَةِ لَهُم بِالْخَيرِ، فَقَالَ: {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} [الْفَتْح: 29] وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا تسبوا أَصْحَابِي، فَلَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه ".
502 - / 607 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن أَبَا سُفْيَان أَتَى على سلمَان وصهيب وبلال فِي نفر فَقَالُوا: مَا أخذت سيوف الْمُسلمين من عنق عَدو الله مأخذها. فَقَالَ أَبُو بكر: أتقولون هَذَا لشيخ قُرَيْش وسيدهم! فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ، فَقَالَ: " يَا أَبَا بكر، لَعَلَّك أغضبتهم، لَئِن كنت أغضبتهم لقد أغضبت رَبك ". [15] قَوْله: مَا أخذت مأخذها: أَي مَا استوفت حَقّهَا من الْمُكَافَأَة لَهُ(2/31)
على صَنِيعه بِالْمُسْلِمين. [15] وَقَوله: " لَعَلَّك أغضبتهم " تَعْظِيم لَهُم، لِأَن الْحق عز وَجل أوصاه بهم وبأمثالهم من الْفُقَرَاء والموالي بقوله تَعَالَى: {وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم} [الْأَنْعَام: 52] وَقَوله {وَإِذا جَاءَك الَّذين يُؤمنُونَ بِآيَاتِنَا فَقل سَلام عَلَيْكُم} [الْأَنْعَام 54] قَالَ الْحسن: كَانَ إِذا رَآهُمْ بدأهم بِالسَّلَامِ، وَكَذَلِكَ قَوْله: {واصبر نَفسك مَعَ الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي} [الْكَهْف: 28] .(2/32)
(29) كشف الْمُشكل من مُسْند سَمُرَة بن جُنْدُب [
15 -] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَثَلَاثَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة.
503 - / 608 - فِي الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول قَوْله: لقد كنت على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُلَاما، فَكنت أحفظ عَنهُ فَمَا يَمْنعنِي من القَوْل إِلَّا أَن هَاهُنَا رجَالًا هم أسن مني. [15] هَذَا الحَدِيث يُنَبه الْأَحْدَاث على التأدب للأشياخ. [15] وَقَوله: صلى على نفسَاء. قد بَينا معنى النّفاس فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. [15] فَأَما قيام الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام وسط الْمَرْأَة فَهُوَ مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. فَأَما إِذا كَانَ الْمَيِّت رجلا فعندنا يقف بحذاء صَدره. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يقف بحذاء صدر الْمَيِّت رجلا كَانَ أَو امْرَأَة. وَقَالَ مَالك: يقف عِنْد وسط الرجل، وَمن الْمَرْأَة عِنْد منكبيها. وَاخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي فِي الْموقف من الرجل: فَمنهمْ من ذهب إِلَى مَذْهَبنَا، وَمِنْهُم(2/33)
من قَالَ: بحذاء رَأسه. [15] فَإِن قيل: فالرسول عَلَيْهِ السَّلَام لَا يفعل شَيْئا إِلَّا لحكمة، فَمَا حِكْمَة الْفرق بَين الرجل وَالْمَرْأَة؟ [15] فَالْجَوَاب: أَنه لَا يفعل شَيْئا إِلَّا لحكمة، وَقد يخفى علينا وَجه الْحِكْمَة، وَقد لَا تبلغه أفهامنا، وَقد يكون المُرَاد نفس الِابْتِلَاء بِالتَّسْلِيمِ. على أَن الْحِكْمَة ظَاهِرَة هَاهُنَا: وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ الْمَيِّت رجلا فللقيام عِنْد صَدره وَجْهَان: أَحدهمَا أَنه كالمواجهة لَهُ بِالدُّعَاءِ. وَالثَّانِي: أَن صَدره وعَاء لِلْقُرْآنِ وَالْعلم. فَأَما الْمَرْأَة فالحكمة فِي الْوُقُوف عِنْد وَسطهَا من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا أَن الْقرب من وَجههَا يُوجب فكر الْإِنْسَان فِي محَاسِن الْوَجْه، وَكَذَلِكَ فِيمَا سفل، فَكَانَ التَّوَسُّط أولى. وَالثَّانِي: أَن قيام الْإِنْسَان فِي وَسطهَا فِيهِ نوع ستر للْمَرْأَة عَن الْمَأْمُومين؛ لِأَن الْقيام عِنْد وَجههَا يرى مَعَه معظمها، وَكَذَلِكَ عِنْد مؤخرها، وَمَا كَانُوا يحملون إِلَّا على النعش. وَالثَّالِث: أَن الَّذِي تمت بِهِ الْمَرْأَة حملهَا للأولاد، فالوقوف فِي وَسطهَا إِشَارَة بِلِسَان الْحَال إِلَى السُّؤَال بِمحل حمل الْمُؤمنِينَ.
504 - / 609 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الصُّبْح أقبل عَلَيْهِم بِوَجْهِهِ فَقَالَ: " هَل رأى أحد مِنْكُم البارحة رُؤْيا؟ ". [15] ذكر " البارحة " تجوز من بعض الروَاة، لأَنهم كَانُوا يروون بِالْمَعْنَى،(2/34)
وَهَذَا غلط مِمَّن ظن اسْتِوَاء اللَّفْظَيْنِ، وَالصَّحِيح أَنه قَالَ: اللَّيْلَة، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمد فِي " الْمسند ": " هَل رأى أحد مِنْكُم اللَّيْلَة رُؤْيا؟ " وَيدل على صِحَة مَا قُلْنَا قَوْله بعد ذَلِك: " أَتَانِي اللَّيْلَة آتيان " وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: من الْغَلَط أَن تَقول فِيمَا بَين صَلَاة الْفجْر إِلَى الظّهْر: فعلت البارحة كَذَا، وَالصَّوَاب أَن تَقول: فعلت اللَّيْلَة كَذَا إِلَى الظّهْر، وَتقول بعد ذَلِك: فعلت البارحة، إِلَى آخر الْيَوْم. [15] وَأما الرُّؤْيَا فَيُقَال لما كَانَ فِي النّوم، وَهِي فِي الْيَقَظَة رُؤْيَة. [15] وَقَوله: فيقص عَلَيْهِ: أَي يذكر مَا رأى، يَقُول: قصصت الحَدِيث أقصه قصا وقصصا: وَهُوَ الْكَلَام يتَّصل بعضه بِبَعْض، وَالْأَصْل فِيهِ الِاتِّبَاع، وَهُوَ أَن الْمُتَكَلّم يتبع مَا قد كَانَ بالْخبر عَنهُ. [15] وَقَوله: " ابتعثاني " أصل الْبَعْث إثارة الشَّيْء عَن مَكَانَهُ. [15] وَقَوله: " فيثلغ رَأسه ": أَي يشدخه. والشدخ: فضخ الشَّيْء الرطب بالشَّيْء الْيَابِس. [15] وَقَوله: " فيتدهدأ هَذَا الْحجر " قد روى " فيتدهده " قَالَ أَبُو عبيد: يُقَال: تدهدى الْحجر وَغَيره تدهديا، ودهديته أَنا، أدهديه دهداة ودهداء، وَيُقَال تدهدأ تدهدأ، ودهدأته أَنا أدهدئه دهدأة ودهداء: إِذا دحرجته.(2/35)
[15] والكلوب بِفَتْح الْكَاف وَهُوَ الْكلاب، وَالْجمع فيهمَا كلاليب. [15] وَقَوله فيشر شَرّ شدقه، قَالَ أَبُو عبيد: أَي يقطعهُ ويشققه، قَالَ أَبُو زبيد الطَّائِي يصف الْأسد:
(يظل مغبا عِنْده من فرائس ... رفات عِظَام أَو غريض مشرشر)
[15] والشدق: جَانب الْفَم. [15] قَوْله: " على مثل التَّنور " التَّنور مَعْرُوف، قَالَ ابْن عَبَّاس: التَّنور بِكُل لِسَان عَرَبِيّ وأعجمي. وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ عَن ابْن دُرَيْد قَالَ: التَّنور فَارسي مُعرب، لَا تعرف لَهُ الْعَرَب اسْما غير هَذَا. [15] وَقَوله: " فَإِذا فِيهِ لغط " اللَّغط أصوات مختلطة لَا تفهم. [15] واللهب: مَا يرْتَفع من حر النَّار عِنْد اشتعالها. [15] وَقَوله: ضوضوا: أَي ضجوا وصاحوا بِمَا لَا يفهم مِنْهُ إِلَّا الاستغاثة مِمَّا هم فِيهِ. والضوضاة بِغَيْر همز: وَهِي أصوات النَّاس وضجيجهم. [15] وَقَوله: " على شط النَّهر " الشط جَانب الْوَادي، وَمثله الشاطىء. [15] وَقَوله: " فيفغر لَهُ فَاه " أَي يَفْتَحهُ، وَيُقَال: انفغر النُّور: إِذا تفتح. [15] " وألقمه حجرا " أَي جعله كاللقمة فِي فِيهِ.(2/36)
[15] وَقَوله: " كريه الْمرْآة " المرآه والمرأي: المنظر. [15] ويحشها: يوقدها.: وَالرَّوْضَة: الْمَكَان المخضر من الأَرْض، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: لَيْسَ شَيْء عِنْد الْعَرَب أحسن من الرياض المعشبة وَلَا أطيب مِنْهَا ريحًا، قَالَ الْأَعْشَى:
(مَا رَوْضَة من رياض الْحزن معشبة ... خضراء جاد عَلَيْهَا مُسبل هطل)
(يَوْمًا بأطيب مِنْهَا نشر رَائِحَة ... وَلَا بِأَحْسَن مِنْهَا إِذْ دنا الأَصْل)
[15] والمعتمة: الوافية النَّبَات، والعميم: الطَّوِيل من النَّبَات، قَالَ الْأَعْشَى:
(0000000 ... مؤزر بعميم النبت مكتهل ... )
[15] وَنور الرّبيع: ألوان نَبَاته. [15] والدوحة: الشَّجَرَة الْعَظِيمَة من أَي شجر كَانَ، وَالْجمع دوح. [15] والمحض: اللَّبن الْخَالِص، سمي بِصفتِهِ، ثمَّ يستعار فِي مَوَاضِع فَيُقَال: هَذَا الْكَلَام صدق مَحْض، وَكذب مَحْض، وأمحضتك النَّصِيحَة: أَي لَا شوب فِي هَذِه الأِشياء من غير جِنْسهَا. [15] وَقَوله: " فسما بَصرِي صعدا " أَي ارْتَفع نَاحيَة الْعُلُوّ. [15] وَالْقصر: الْمنزل الْمَبْنِيّ. [15] وَأما الربابة فَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ السحابة قد ركب بَعْضهَا بَعْضًا،(2/37)
وَجَمعهَا ربَاب. والربابة بِكَسْر الرَّاء شَبيهَة بالكنانة تكون فِيهَا السِّهَام. [15] وَقَوله: " يَأْخُذ الْقُرْآن فيرفضه " يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: يرفض تِلَاوَته حَتَّى ينساه. وَالثَّانِي: يرفض الْعَمَل لَهُ. [15] وَقَوله: " يبلغ الْآفَاق " الْآفَاق: النواحي. [15] وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: والفطرة: الْإِقْرَار بِاللَّه عز وَجل والمعرفة بِهِ لَا الْإِسْلَام. وَمعنى الْفطْرَة ابْتِدَاء الْخلقَة، وَالْكل أقرُّوا حِين قَالَ: {أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى} [الْأَعْرَاف: 172] وَلست واجدا أحدا إِلَّا وَهُوَ مقرّ بِأَن لَهُ صانعا ومدبرا وَإِن سَمَّاهُ بِغَيْر اسْمه. وَيدل على قَوْله ابْن قُتَيْبَة قَوْله فِي هَذَا الحَدِيث: " وَأَوْلَاد الْمُشْركين ". [15] وَالْأَرْض المقدسة: المطهرة. [15] وَقَوله: " يحدث بالكذبة فَتحمل عَنهُ فيصنع بهَا " أَي يعْمل بهَا وَهَذَا تحذير من الْكَذِب إِلَّا أَنه هُنَا بِأُمُور الشَّرِيعَة أخص.
505 - / 611 وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " من روى عني حَدِيثا يرى أَنه كذب فَهُوَ أحد الْكَاذِبين ". [15] يرى بِمَعْنى يعلم، وَمن علم أَن الحَدِيث كذب لم يجز لَهُ أَن يحدث بِهِ إِلَّا على سَبِيل الْقدح فِي رَاوِيه وتبيين الْكَذِب.(2/38)
506 - / 612 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " لَا يَغُرنكُمْ من سحوركم أَذَان بِلَال ". [15] قد سبق شَرحه وتبيين الفجرين فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
507 - / 613 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " لَا تسمين غلامك يسارا، وَلَا رباحا ". [15] وَقد بيّنت عِلّة هَذَا النَّهْي فِي الحَدِيث، وَكَأَنَّهُ اشتقاق من اسْتِعْمَال التطير.
508 - / 614 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " مِنْهُم من تَأْخُذهُ النَّار إِلَى حجزته، وَمِنْهُم إِلَى ترقوته ". حجزة الْإِزَار: معقده عِنْد السره. والترقوة قد سبق بَيَانهَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.(2/39)
(30) كشف الْمُشكل من مُسْند معقل بن يسَار الْمُزنِيّ
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة.
509 - / 615 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " مَا من عبد يستر عيه الله رعية يَمُوت وَهُوَ غاش لرعيته إِلَّا حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ". [15] أَن لَا يمحض النَّصِيحَة. [15] وَقَوله: " حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة " مَحْمُول على أحد أَمريْن: إِمَّا على جنَّة مَخْصُوصَة من أشرف الْجنان، وَإِمَّا على الدُّخُول مَعَهم عِنْد ابْتِدَاء دُخُولهمْ، فَكَأَنَّهُ يُؤَخر لِلْحسابِ وَالْعَذَاب، وَقد سبق شرح هَذَا الْمَعْنى فِيمَا تقدم.
510 - / 616 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] عَن معقل: كَانَت لي أُخْت تخْطب. [15] اسْم هَذِه الْأُخْت جميل بِضَم الْجِيم وَفتح الْمِيم، ذكره عبد الْغَنِيّ(2/40)
الْحَافِظ عَن الْكَلْبِيّ أَنه سمى هَذِه الْمَرْأَة فَقَالَ: جميل بنت يسَار. [15] وَقَوله: {وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء} [الْبَقَرَة: 232] الطَّلَاق: التَّخْلِيَة، قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ من قَول الْعَرَب: أطلقت النَّاقة فَطلقت: إِذا كَانَت مشدودة فأزلت الشد عَنْهَا وخليتها، فَشبه مَا يَقع بِالْمَرْأَةِ بذلك، لِأَنَّهَا كَانَت مُتَّصِلَة الْأَسْبَاب بِالرجلِ، وَكَانَت الْأَسْبَاب كالشد لَهَا، فَلَمَّا طَلقهَا قطع الْأَسْبَاب. وَيُقَال: طلقت الْمَرْأَة وَطلقت بِفَتْح اللَّام وَضمّهَا. وَقَالَ غَيره: هُوَ من أطلقت الشَّيْء، إِلَّا أَنهم لِكَثْرَة استعمالهم اللفظتين فرقوا بَينهمَا ليَكُون التَّطْلِيق مَقْصُورا على الزَّوْجَات. [15] وَقَوله: {فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن} يُرِيد بِهِ انْقِضَاء الْعدة، بِخِلَاف قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَة الَّتِي قبلهَا: {فبلغن أَجلهنَّ فأمسكوهن} [الْبَقَرَة: 231] قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ: دلّ اخْتِلَاف الْكَلَامَيْنِ على افْتِرَاق البلوغين. [15] وَقَوله: {فَلَا تعضلوهن} خطاب للأولياء، الْمَعْنى: فَلَا تحبسوهن، يُقَال: عضلت النَّاقة: إِذا احْتبسَ وَلَدهَا، وعضلت الدَّجَاجَة: إِذا احْتبسَ بيضها، وَيُقَال للشدائد معضلات وداء عضال: إِذا أعيا. [15] وَقَالَ الشَّافِعِي: وَهَذِه الْآيَة أبين آيَة فِي أَنه لَيْسَ للْمَرْأَة أَن تتَزَوَّج إِلَّا بولِي. وَقد اتّفق أَحْمد وَالشَّافِعِيّ على أَن النِّكَاح بِغَيْر ولي بَاطِل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا زوجت نَفسهَا بِشَاهِدين من كفؤ جَازَ. وَقَالَ أَبُو(2/41)
يُوسُف وَمُحَمّد: النِّكَاح مَوْقُوف حَتَّى يُجِيزهُ الْوَلِيّ أَو الْحَاكِم.
511 - / 617 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " الْعِبَادَة فِي الْهَرج كهجرة إِلَيّ ". [15] الْهَرج: الْقِتَال والاختلاط. وَإِذا عَمت الْفِتَن اشتغلت الْقُلُوب، وَإِذا تعبد حِينَئِذٍ متعبد دلّ على قُوَّة اشْتِغَال قلبه بِاللَّه عز وَجل فيكثر أجره.
512 - / 618 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لقد رَأَيْتنِي يَوْم الشَّجَرَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُبَايع النَّاس. [15] هَذِه الْبيعَة كَانَت فِي غزَاة الْحُدَيْبِيَة لسنة سِتّ من الْهِجْرَة، وسببها أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قد خرج يقْصد الْعمرَة، فَلَمَّا بلغ الْمُشْركين خُرُوجه أجمع رَأْيهمْ على صده عَن الْمَسْجِد الْحَرَام وَخَرجُوا بعسكرهم، فَسَار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى دنا من الْحُدَيْبِيَة، وَهِي طرف الْحرم على تِسْعَة أَمْيَال من مَكَّة، فوقفت يدا رَاحِلَته، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: حل حل، يزجرونها، فَأَبت، فَقَالُوا: خلأت الْقَصْوَاء، فَقَالَ: " مَا خلأت، وَلَكِن حَبسهَا حَابِس الْفِيل. أما وَالله لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْم خطة فِيهَا تَعْظِيم حُرْمَة الله إِلَّا أَعطيتهم إِيَّاهَا " ثمَّ جرها فَقَامَتْ، فولى رَاجعا حَتَّى نزل بِالنَّاسِ على ثَمد من أثماد الْحُدَيْبِيَة قَلِيل المَاء، فَانْتزع سَهْما من كِنَانَته فغرزه فِيهَا، فَجَاشَتْ لَهُم بِالرَّوَاءِ، وجاءه بديل بن وَرْقَاء فِي ركب(2/42)
فَقَالُوا: جئْنَاك من عِنْد قَوْمك يقسمون بِاللَّه لَا يخلون بَيْنك وَبَين الْبَيْت حَتَّى تبيد خضراؤهم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنَّا لم نأت لقِتَال أحد، إِنَّمَا جِئْنَا لنطوف بِهَذَا الْبَيْت، فَمن صدنَا عَنهُ قَاتَلْنَاهُ " فَرجع بديل فَأخْبرهُم. وَأرْسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِم عُثْمَان بن عَفَّان فَقَالَ لَهُ: " أخْبرهُم أَنا لم نأت لقِتَال أحد، وَإِنَّمَا جِئْنَا زوارا لهَذَا الْبَيْت معظمين لِحُرْمَتِهِ، مَعنا الْهَدْي ننحره وننصرف " فَأَتَاهُم فَأخْبرهُم، فَقَالُوا: لَا كَانَ هَذَا أبدا، وَلَا يدخلهَا الْعَام. وَبلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن عُثْمَان قد قتل، فَحِينَئِذٍ دَعَا الْمُسلمين إِلَى الْبيعَة وَهِي بيعَة الرضْوَان فبايعهم تَحت الشَّجَرَة، قَالَ سَلمَة بن الْأَكْوَع: بَينا نَحن قَائِلُونَ زمن الْحُدَيْبِيَة نَادَى مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَيهَا النَّاس، الْبيعَة، الْبيعَة، نزل روح الْقُدس. فثرنا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت الشَّجَرَة فَبَايَعْنَاهُ. وَإِنَّمَا سميت بيعَة لأَنهم باعوا أنفسهم من الله عز وَجل بِالْجنَّةِ، وَكَانَت الشَّجَرَة سَمُرَة، والسمرة وَاحِدَة السمر، وَهُوَ شجر الطلح. ثمَّ آل الْأَمر إِلَى أَن جرى بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين قُرَيْش الصُّلْح، على أَن يرجع وَيعود فِي الْعَام الْمقبل. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث: وَنحن أَرْبَعَة عشرَة مائَة. وَمثله يَقُول جَابر، والبراء، وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع. وَفِي رِوَايَة عَن جَابر: كُنَّا ألفا وَخَمْسمِائة. وَعَن عبد الله بن أبي أوفى كُنَّا ألفا وثلاثمائة.(2/43)
(31) كشف الْمُشكل من مُسْند مَالك بن الْحُوَيْرِث
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة.
513 - / 619 فَفِي الحَدِيث الأول: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا كبر رفع يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِي بهما أُذُنَيْهِ، وَإِذا ركع وَإِذا رفع. وَفِي رِوَايَة: فروع أُذُنَيْهِ. [15] الْفُرُوع: الأعالي. وَقد وَقع الِاتِّفَاق على أَن رفع الْيَدَيْنِ عِنْد تَكْبِيرَة الْإِحْرَام مسنون وَإِنَّمَا الْخلاف فِي رَفعهَا عِنْد الرُّكُوع وَعند الرّفْع مِنْهُ، فَعِنْدَ أَحْمد وَالشَّافِعِيّ يسن ذَلِك، وَعند أبي حنيفَة لَا يسن، وَعَن مَالك كالمذهبين. وَهَذَا الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ لَا ينْدَفع، وَهُوَ فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عمر أَيْضا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد روى هَذِه السّنة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عمر، وَعلي وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو قَتَادَة، وَسَهل ابْن سعد، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأنس، فِي نَحْو ثَلَاثِينَ من الصَّحَابَة، وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَلَيْسَ للخصم حَدِيث صَحِيح.(2/44)
514 - / 620 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَتَيْنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن شببة متقاربون. [15] الشببة: الشَّبَاب. والمتقاربون يَعْنِي فِي السن. [15] وَإِنَّمَا قَالَ: " وليؤمكم أكبركم " لأَنهم كَانُوا متقاربين فِي الْقِرَاءَة. [15] وَقَوله: اسْتَوَى قَاعِدا ثمَّ نَهَضَ. هَذِه تسمى جلْسَة الاسْتِرَاحَة، وَهِي مسنونة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد.(2/45)
(32 كشف الْمُشكل من مُسْند جُنْدُب بن عبد الله
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ اثْنَا عشر.
515 - / 622 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " كَانَ فِيمَن قبلكُمْ رجل بِهِ جرح، فجزع وَأخذ سكينا فجز بهَا يَده، فَمَا رقأ الدَّم حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ الله عز وَجل: بادرني عَبدِي بِنَفسِهِ فَحرمت عَلَيْهِ الْجنَّة ". [15] الجز: قطع بعض الْعُضْو دون إبانته. [15] ورقأ بِمَعْنى انْقَطع. [15] وَأما تَحْرِيم الْجنَّة عَلَيْهِ فَيحْتَمل أَن يكون مُشْركًا قد ضم إِلَى شركه هَذَا الْفِعْل، أَو مستحلا لذَلِك. فَإِن لم يكن كَانَ تَحْرِيم الْجنَّة المرتفعة الْقدر من بَين الْجنان، أَو الْمَنْع من دُخُول الْجنَّة فِي أول الْعرض إِلَى أَن يعذب بالنَّار، لِأَنَّهُ إِذا وَقع الْعرض دخل قوم إِلَى الْجنَّة وَقوم إِلَى النَّار.(2/46)
516 - / 623 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " من سمع سمع الله بِهِ، وَمن يراءي يراءي الله بِهِ ". [15] وَالْمعْنَى: من عمل لغير الله عز وَجل يراءي بِهِ النَّاس جازاه الله تَعَالَى على ذَلِك بِأَن يَفْضَحهُ وَيظْهر مَا يبطنه ويستره.
517 - / 624 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: اقْرَءُوا الْقُرْآن مَا ائتلفت عَلَيْهِ قُلُوبكُمْ، فَإِذا اختلفتم فَقومُوا ". [15] كَانَ اخْتِلَاف الصَّحَابَة يَقع فِي الْقرَاءَات واللغات، فَأمروا بِالْقيامِ عِنْد الِاخْتِلَاف لِئَلَّا يجْحَد أحدهم مَا يقْرَأ الآخر فَيكون جاحدا لما أنزلهُ الله عز وَجل.
518 - / 625 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " أَنا فَرَطكُمْ ". [15] وَقد تقدم فِي مُسْند ابْن مَسْعُود وَغَيره.
519 - / 626 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي بعض الْمشَاهد وَقد دميت إصبعه: " هَل أَنْت إِلَّا إِصْبَع دميت. وَفِي سَبِيل الله مَا لقِيت ". [15] هَذَا شعر تمثل بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام وَلَيْسَ لَهُ، وَلم يكن يَقُول الشّعْر، وَلم يكن الشّعْر يتزن لَهُ، حَتَّى إِنَّه قَالَ يَوْمًا للْعَبَّاس بن مرداس: " أَنْت(2/47)
الْقَائِل: أصبح نَهْبي وَنهب العبيد بَين الْأَقْرَع وعيينة؟ " فَقَالَ أَبُو بكر: وَالله مَا أَنْت بشاعر وَلَا يَنْبَغِي لَك الشّعْر، إِنَّمَا قَالَ كَذَا وَكَذَا. [15] وَإِنَّمَا منع من قَول الشّعْر لِئَلَّا تدخل الشُّبْهَة على قوم فِيمَا أَتَى بِهِ من الْقُرْآن، فَيَقُولُونَ: قوي على ذَلِك بِمَا فِي طبعه من الفطنة للشعر، وَإِنَّمَا كَانَ يتَمَثَّل بِهِ، وَقد قَالَ يَوْمًا:
( ... ... . . ... ويأتيك بالأنباء من لم تزَود ... )
وَقَالَ:
(أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل ... ... ... )
520 - / 627 وَفِي الحَدِيث السَّادِس: اشْتَكَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يقم لَيْلَة أَو لَيْلَتَيْنِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَة فَقَالَت: يَا مُحَمَّد، إِنِّي لأرجو أَن يكون شَيْطَانك قد تَركك، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْل إِذا سجى، مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} [الضُّحَى: 1 - 3] . [15] هَذِه الْمَرْأَة قد قيل إِنَّهَا أم جميل بنت حَرْب أُخْت أبي سُفْيَان،(2/48)
وَهِي امْرَأَة أبي لَهب، وَكَانَت تنْسب مَا يذكرهُ من الْوَحْي إِلَى أَن شَيْطَانا يَأْتِي بِهِ. و (سجى) بِمَعْنى أظلم. و (قلى) أَي أبْغض.
521 - / 628 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم النَّحْر، ثمَّ خطب، ثمَّ ذبح وَقَالَ: " من ذبح قبل أَن يُصَلِّي فليذبح أُخْرَى ". [15] عندنَا أَنه لَا يجوز ذبح الْأُضْحِية قبل صَلَاة الإِمَام، وَيجوز بعْدهَا وَإِن لم يكن قد ذبح الإِمَام، وَهَذَا فِي جَمِيع الْأَمَاكِن. وَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي أهل الْأَمْصَار كَقَوْلِنَا، وَفِي أهل الْقرى يجوز أَن يذبحوا بعد طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر. وَقَالَ مَالك: وَقت الذّبْح أَن يمْضِي بعد دُخُول وَقت الصَّلَاة زمَان يُمكن فِيهِ صَلَاة رَكْعَتَيْنِ وخطبتان، وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْخرقِيّ من أَصْحَابنَا.
522 - / 629 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " من صلى الصُّبْح فَهُوَ فِي ذمَّة الله، فَلَا يطلبنكم الله من ذمَّته بِشَيْء ". [15] معنى الحَدِيث: أَن من صلى الْفجْر فقد أَخذ من الله ذماما فَلَا يَنْبَغِي لأحد أَن يُؤْذِيه بظُلْم، فَمن ظلمه فَإِن الله يُطَالِبهُ بِذِمَّتِهِ.(2/49)
[15] وَقَوله: يكبه. رُبمَا قَرَأَهُ بعض قرأة الحَدِيث بِضَم الْيَاء يَظُنّهُ أَنه من أكببت وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا هُوَ من قَوْلك: كببت فلَانا على وَجهه. فَأَما أكب فلَان على عمله فبالألف.
523 - / 630 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " قَالَ رجل: وَالله لَا يغْفر الله لفُلَان، فَقَالَ الله عز وَجل: من ذَا الَّذِي يتألى عَليّ أَن أَلا أَغفر لفُلَان؟ إِنِّي قد غفرت لَهُ وأحبطت عَمَلك ". [15] يتألى بِمَعْنى يحلف. والألية: الْيَمين. والإحباط: الْإِبْطَال. وَهَذَا المتألي جهل سَعَة الْكَرم فَعُوقِبَ بإحباط الْعَمَل.
524 - / 631 و - فِي الحَدِيث الثَّالِث: " إِنِّي أَبْرَأ إِلَى الله أَن يكون لي مِنْكُم خَلِيل، فَإِن الله قد اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، وَلَو كنت متخذا من أمتِي خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا ". [15] قد بَينا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود معنى الْخَلِيل، واعتذاره عَن اتِّخَاذ أبي بكر خَلِيلًا. [15] وَأما نَهْيه عَن اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد فلئلا تعظم، لِأَن الصَّلَاة عِنْد الشَّيْء تَعْظِيم لَهُ، وَقد أغرب أهل زَمَاننَا بالصلوات عِنْد قبر مَعْرُوف وَغَيره، وَذَلِكَ لغَلَبَة الجهلة وملكة الْعَادَات.(2/50)
525 - / 632 الحَدِيث الرَّابِع: " من قتل تَحت راية عمية يَدْعُو عصبية أَو ينصر عصبية فقتلة جَاهِلِيَّة ". [15] العمية: الْأَمر الملبس لَا يدرى مَا وَجهه، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هُوَ الْأَمر الْأَعْمَى، كالعصبية الَّتِي لَا يستبان مَا وَجههَا وَالْمَقْصُود أَنه يُقَاتل لهواه لَا على مُقْتَضى الشَّرْع.
526 - / 623 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن رجلا قتل رجلا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كَيفَ تصنع بِلَا إِلَه إِلَّا الله؟ ". [15] وَالْمعْنَى إِنَّمَا أمرنَا بِقبُول الظَّوَاهِر، وَلَيْسَ علينا تفتيش البواطن.(2/51)
(33) كشف الْمُشكل من مُسْند معيقيب
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
527 - / 634 - وَفِيه من الْإِشْكَال: أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الرجل يُسَوِّي التُّرَاب حَيْثُ يسْجد: " إِن كنت فَاعِلا فَوَاحِدَة ". [15] اعْلَم أَن الْقَوْم كَانُوا يصلونَ على الأَرْض، فَرُبمَا كَانَ مَوضِع السُّجُود غير معتدل، أَو يكون حر الشَّمْس قد أثر فِي الْمَكَان، فيطلب الساجد بمسحه تعديله أَو كشف الْحَار ليسجد على مَا هُوَ أبرد مِنْهُ، فأجيزت لَهُ الْمرة، لِأَن الْمَقْصُود يحصل بهَا، وَلِئَلَّا يتَكَرَّر الْعَمَل فَيخرج إِلَى شبه الْعَبَث.(2/52)
34 - كشف الْمُشكل من مُسْند مجاشع ومجالد ابْني مَسْعُود
لَيْسَ لَهما فِي الصَّحِيحَيْنِ سوى حَدِيث وَاحِد.
528 - / 635 - وَفِيه: " لَا هِجْرَة بعد فتح مَكَّة ". [15] أما الْهِجْرَة فَهِيَ مُفَارقَة الْكفَّار إِلَى الْمُسلمين، وَلما فتحت مَكَّة صَارَت كالمدينة فِي كَونهَا وطنا للْمُسلمين، وَبِفَتْحِهَا هان أَمر سَائِر الْبلدَانِ؛ لِأَنَّهَا أم الْقرى. [15] وَقَوله: فَلَقِيت معبدًا. كَذَا وَقع فِي أصل الْحميدِي وَهُوَ غلط، وَإِنَّمَا هُوَ: فَلَقِيت أَبَا معبد، وَهِي كنية مجَالد، وَقد ذكره بعد أسطر على الصِّحَّة.(2/53)
(35) كشف الْمُشكل من مُسْند يعلى بن أُميَّة
[15] وَيُقَال لَهُ يعلى بن منية. فأمية أَبوهُ ومنية أمه، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من الصَّحَابَة من اسْمه على حرف الْيَاء سواهُ. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة أَحَادِيث.
529 - / 636 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: غزوت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَيش الْعسرَة، وَكَانَ لَهُ أجِير فقاتل إنْسَانا، فعض أَحدهمَا صَاحبه فَانْتزع إصبعه، فأندر ثنيته فَسَقَطت، فَانْطَلق إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأهدر ثنيته وَقَالَ: " أيدع إصبعه فِي فِيك تقضمها كَمَا يقضم الْفَحْل ". [15] جَيش الْعسرَة يُرَاد بِهِ غَزْوَة تَبُوك. وَكَانَ الْأَمر قد اشْتَدَّ عَلَيْهِم فِي تِلْكَ الْغَزْوَة وَقَوي الْحر. [15] وأندر ثنيته: أَي أسقطها، وندر الشَّيْء بِمَعْنى سقط. والهدر: مَالا مُطَالبَة عَنهُ وَلَا غَرَامَة فِيهِ.(2/54)
[15] والقضم بِأَدْنَى الأضراس. والخضم بأقصاها، وَالْمعْنَى: كَمَا يعَض الْفَحْل.
530 - / 637 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَيفَ ترى فِي رجل أحرم فِي جُبَّة بَعْدَمَا تضمخ بِطيب؟ فَقَالَ: " أما الطّيب الَّذِي بك فاغسله، وَأما الْجُبَّة فانزعها ". وَفِي رِوَايَة: جَاءَهُ رجل وَهُوَ مصفر لحيته وَرَأسه، فَقَالَ: " انْزعْ عَنْك الْجُبَّة، واغسل عَنْك الصُّفْرَة ". [15] هَذَا الحَدِيث يدل على أَن من أحرم وَعَلِيهِ مخيط لم يلْزمه تخريقه بل نَزعه، وَقد رُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: يمزقه. وَعَن النَّخعِيّ أَنه قَالَ: يشقه. والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِمَا مَعَ كَون الشَّارِع نهى عَن إِضَاعَة المَال. قَالَ الْخطابِيّ: وَإِنَّمَا أمره بِغسْل الصُّفْرَة لِأَنَّهَا كَانَت زعفرانا، وَقد نهى الرجل أَن يتزعفر، فعلى هَذَا لَا حجَّة فِيهِ لمن قَالَ: لَا يجوز للْمحرمِ أَن يتطيب قبل الْإِحْرَام بِمَا يبْقى أَثَره بعد الْإِحْرَام. وَفِي هَذَا الحَدِيث حجَّة لمن قَالَ: إِذا لبس وتطيب نَاسِيا فَلَا فديَة عَلَيْهِ، وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَقَول الشَّافِعِي؛ لِأَن النَّاسِي فِي مقَام الْجَاهِل، وَذَلِكَ الرجل كَانَ قريب عهد بِالْإِسْلَامِ، جَاهِلا بأحكامه، فعزره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يلْزمه فديَة.(2/55)
(36) كشف الْمُشكل من مُسْند معَاذ بن جبل
[15] شهد جَمِيع الْمشَاهد، وشيعه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خُرُوجه إِلَى الْيمن مَاشِيا وَهُوَ رَاكب. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَسَبْعَة وَخَمْسُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة أَحَادِيث.
531 - / 639 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: كنت ردف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْسَ بيني وَبَينه إِلَّا مؤخرة الرحل ... . [15] الردف: الرَّاكِب خلف الرَّاكِب. والرحل للبعير كالسرج للْفرس. ومؤخرة الْخَشَبَة: الَّتِي فِي آخِره. [15] وعفير تَصْغِير أعفر: وَهُوَ الَّذِي يَحْكِي لَونه عفرَة الأَرْض، والعفرة بَيَاض لَيْسَ بالناصع، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال أعيفر، إِلَّا أَنهم أَخْرجُوهُ عَن بِنَاء الأَصْل، كَمَا قَالُوا فِي تَصْغِير أسود سُوَيْد. وَالْمَشْهُور فِي اسْم الْحمار الَّذِي كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْفُور.(2/56)
[15] وَأما نداؤه باسمه " يَا معَاذ " ثَلَاث مَرَّات فليتكامل حُضُور قلبه لما يُخَاطب بِهِ. [15] وَقد بَينا معنى لبيْك وَسَعْديك فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. [15] وَقَوله: " مَا حق الْعباد على الله عز وَجل؟ " هَذَا يشكل؛ لِأَنَّهُ لَا يجب على الله عز وَجل شَيْء، غير أَنه قد وعد بأَشْيَاء، فَلَا بُد أَن تكون كَقَوْلِه تَعَالَى: {كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة} [الْأَنْعَام: 54] فالوفاء بالوعد صِيَانة لَهُ من الْخلف لَازم. [15] وَمعنى: " فيتكلوا " أَي يعتمدوا على هَذَا ويتركوا الْجد فِي الْأَعْمَال. [15] وَأما قَوْله: " وَمَا من عبد يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله إِلَّا حرمه الله على النَّار " فَإِنَّهُ يشكل، فَيُقَال: فَأَيْنَ دُخُول العصاة النَّار؟ [15] فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون هَذَا قبل نزُول الْفَرَائِض. وَالثَّانِي: أَنه خرج مخرج الْغَالِب، وَالْغَالِب على الموحد أَن يعْمل بِمَا شهد بِهِ، فَلَا يدْخل النَّار، لتصديق قَوْله بِفِعْلِهِ. وَالثَّالِث: أَن يكون الْمَعْنى: حرمه الله على النَّار أَن يخلد فِيهَا. [15] وَقَوله: فَأخْبر بهَا تأثما. أَي خوفًا من إِثْم الكتمان.
532 - / 640 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " أعلمهم أَن الله افْترض عَلَيْهِم صَدَقَة تُؤْخَذ من أغنيائهم فَترد على فقرائهم ".(2/57)
فِيهِ دَلِيل على أَن الزَّكَاة لَا تنقل، وَعِنْدنَا أَنه يجوز نقل الزَّكَاة إِلَى بلد تقصر فِيهِ الصَّلَاة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَعند أَحْمد الْجَوَاز، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك. وَعَن الشَّافِعِي كالروايتين. [15] وكرائم الْأَمْوَال: نفائسها.
533 - / 644 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم: [15] خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة تَبُوك، فَكَانَ يُصَلِّي الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا، وَالْمغْرب وَالْعشَاء جَمِيعًا. [15] هَذَا الحَدِيث صَرِيح فِي جَوَاز الْجمع فِي السّفر، وَهُوَ قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز الْجمع فِي السّفر إِلَّا بِعَرَفَة والمزدلفة، وَإِنَّمَا يجوز عندنَا الْجمع فِي السّفر الطَّوِيل خلافًا لمَالِك وَأحد قولي الشَّافِعِي أَنه يجوز فِي السّفر الْقصير أَيْضا.(2/58)
(37) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي بن كَعْب
[15] شهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَمِيع الْمشَاهد، وَهُوَ أول من كتب الْوَحْي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأحد الَّذين حفظوا الْقُرْآن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقْرَأ عَلَيْهِ، وَكَانَ عمر يَقُول لَهُ: هَذَا سيد الْمُسلمين. [15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَأَرْبَعَة وَسِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة عشر.
534 - / 645 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: قَالَ ابْن عَبَّاس: تماريت أَنا وصاحبي فِي صَاحب مُوسَى. [15] صَاحبه هُوَ الْحر بن قيس الْفَزارِيّ. والمراء: المجادلة على طَرِيق الشَّك. [15] وَالْمَلَأ: الْأَشْرَاف الَّذين هم الْوُجُوه، وَقيل لَهُم مَلأ لأَنهم مليئون بِمَا يُرَاد مِنْهُم، وَقيل: لأَنهم تملأ الصُّدُور هيبتهم. [15] فَأَما نوف الْبكالِي فَهُوَ من أهل الشَّام. وبكالة من حمير.(2/59)
[15] قَالَ الْخطابِيّ: وَمعنى كذب: أَخطَأ، وَالْعرب تضع الْكَذِب مَوضِع الْخَطَأ فَتَقول: كذب سَمْعِي، وَكذب بَصرِي، قَالَ الأخطل:
(كذبتك عَيْنك أم رَأَيْت بواسط ... غلس الظلام من الربَاب خيالا)
[15] وَإِسْرَائِيل هُوَ يَعْقُوب، وَقد تقدم الْكَلَام فِي هَذَا الِاسْم. [15] و " الْخضر " لقب، وَفِي اسْمه ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: اليسع، قَالَه وهب وَمُقَاتِل. وَالثَّانِي: أرميا بن حلفيا، ذكره ابْن الْمُنَادِي. وَالثَّالِث: إيليا بن ملكان، حَكَاهُ عَليّ بن أَحْمد النَّيْسَابُورِي. [15] وَفِي سَبَب تَسْمِيَته بالخضر قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه جلس على فَرْوَة بَيْضَاء فاهتزت خضراء، وَسَيَأْتِي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. والفروة: الأَرْض الْيَابِسَة، وَقيل: الفروة: جلد وَجه الأَرْض. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ إِذا جلس اخضر مَا حوله، قَالَه عِكْرِمَهْ. وَقَالَ مُجَاهِد: وَكَانَ إِذا صلى اخضر مَا حوله. [15] وَإِنَّمَا عوتب مُوسَى على قَوْله: أَنا أعلم، لِأَنَّهُ أطلق، فَلَو قَالَ: أَنا أعلم بِالتَّوْرَاةِ لم يلم. [15] وَمجمع الْبَحْرين: ملتقاهما، وهما بَحر فَارس وبحر الرّوم، فبحر فَارس نَحْو الْمشرق، وبحر الرّوم نَحْو الْمغرب. [15] وَفِي تَسْمِيَة الْبَلَد الَّذِي يجمعهما قَولَانِ: أَحدهمَا أفريقية، قَالَه(2/60)
أبي بن كَعْب. وَالثَّانِي: طنجة، قَالَه مُحَمَّد بن كَعْب. وَسمي الْبَحْر بحراً لسعته. والمكتل: الزبيل. وَقَوله: فَحَيْثُ تفتقد الْحُوت: أَي تفقده. والنول: الْعَطاء. [15] وَقَوله فِي الْغُلَام: فَأخذ الْخضر بِرَأْسِهِ فاقتلعه. وَقد روى أَنه أضجعه فذبحه، فَقَالَ مُوسَى (أقتلت نفسا زاكية) وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس (زكية) ، قَالَ الْكسَائي: هما لُغَتَانِ كالقاسية والقسية. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الزاكية فِي الْبدن، والزكية فِي الدّين. [15] وَقَوله: " صَار المَاء مثل الكوة " يَعْنِي الفتحة. [15] وَالنّصب: التَّعَب. [15] والمسجى: المغطى بِثَوْب. [15] وَقَوله: على حلاوة الْقَفَا إِشَارَة إِلَى الاستلقاء على الظّهْر. [15] وَقَوله: أَخَذته من صَاحبه ذمَامَة أَي حَيَاء وإشفاق، من الذَّم. والتذمم للصاحب: حفظ ذمَامَة خوفًا من الذَّم إِن لم يفعل. [15] وَقَوله: كَانَ إِذا ذكر أحدا من الْأَنْبِيَاء بَدَأَ بِنَفسِهِ. وَذَاكَ لِأَن الْحق عز وَجل قدمه عَلَيْهِم، فَقدم مَا قدم. [15] فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: " لَا تفضلُونِي على يُونُس "؟ [15] فَالْجَوَاب: أَنه إِذا قَالَ عَن وَحي أَو بِمُقْتَضى وَحي فضل نَفسه،(2/61)
وَإِذا تواضع حطها. [15] وَأما " عين الحيا " فَكَذَا رُوِيَ لنا بِغَيْر هَاء، وَالْحيَاء مَا يحيا النَّاس بِهِ. وَالْمَشْهُور فِي التعارف عين الْحَيَاة. [15] وَقَوله: كَانَ أَثَره فِي حجر: أَي ثقب. [15] والطنفسة بِكَسْر الطَّاء وَفتح الْفَاء وَهِي: بِسَاط صَغِير لَهُ خمل. وكبد الْبَحْر: متن المَاء. [15] وَقَوله: اسْم الْغُلَام حبشون. كَذَا فِي أصل الْحميدِي بِالْحَاء الْمُهْملَة وَبعدهَا بَاء وشين مُعْجمَة وَنون. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: جيشور. [15] فَإِن قيل: هلا صَبر الْخضر مَعَ مُوسَى وَلَو مُدَّة أُخْرَى. [15] فَالْجَوَاب من خَمْسَة أوجه: [15] أَحدهَا: أَنه لما شَرط مُوسَى قطع الصُّحْبَة بقوله: {قَالَ إِن سَأَلتك عَن شَيْء بعْدهَا فَلَا تُصَاحِبنِي} [الْكَهْف: 76] عَامله الْخضر بِاخْتِيَارِهِ. [15] وَالثَّانِي: أَن طول الصُّحْبَة على ذَلِك الْوَجْه لَا يُفِيد؛ لِأَنَّهُ كلما رأى شَيْئا أنكرهُ وَلم يصبر. [15] وَالثَّالِث: أَن الْخضر علم أَن مُوسَى أَعلَى مِنْهُ منزلَة، وَإِنَّمَا بعث لَهُ لتأديبه، والتأديب يَكْفِي مِنْهُ الْيَسِير. [15] وَالرَّابِع: أَن الأولى كَانَت نِسْيَانا، وَالثَّانيَِة جبر عمدها بالمشارطة، وَأما الثَّالِثَة فَلم يكن لَهَا عذر. [15] وَالْخَامِس أَنه لما كَانَ إِنْكَار مُوسَى فِي السَّفِينَة والغلام لله تَعَالَى صَبر عَلَيْهِ الْخضر، فَلَمَّا صَار إِنْكَاره فِي الْجِدَار لحظ نَفسه وَمَكَان جوعه أوقع الْفرْقَة.(2/62)
535 - / 646 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: عَن أبي أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله، إِذا جَامع الرجل الْمَرْأَة وَلم ينزل. قَالَ: يغسل مَا مس الْمَرْأَة مِنْهُ ثمَّ يتَوَضَّأ وَيُصلي. [15] هَذَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام ثمَّ نسخ على مَا بَينا فِي مُسْند عُثْمَان بن عَفَّان. 536 / 647 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: ذكر اللّقطَة. [15] اعْلَم أَن اللّقطَة على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا الْإِبِل وَالْبَقر وَالْبِغَال وَالْحمير والظباء، فَهَذِهِ عندنَا لَا يجوز التقاطها، بل يجب تَركهَا إِلَّا أَن يَأْخُذهَا الإِمَام لحفظها، وَهَذَا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجوز التقاطها. فَأَما الشَّاة فَفِيهَا عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: لَا يجوز التقاطها أَيْضا، وَالثَّانِي: يجوز كَقَوْل بَاقِي الْفُقَهَاء. [15] وَأما غير هَذَا من اللّقطَة مثل الْأَثْمَان وَالْعرُوض، فَيَنْبَغِي لمن يلتقطها أَن ينظر فِي حَال نَفسه: فَإِن علم من نَفسه قلَّة الْأَمَانَة: لم يجز لَهُ أَخذهَا، وَإِن علم من نَفسه الْأَمَانَة وَالْقُوَّة على تَعْرِيفهَا فقد نَص أَحْمد على أَن الْأَفْضَل تَركهَا لَا أَخذهَا، وَفِي قَوْله زيد وسلمان لسويد: دع السَّوْط، دَلِيل على أَن ترك اللّقطَة أفضل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْأَفْضَل أَخذهَا. وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: أَحدهمَا: مثل هَذَا، وَالثَّانِي: يجب عَلَيْهِ أَخذهَا. وَسُئِلَ ابْن عقيل فَقيل لَهُ: أجد صرة من الذَّهَب(2/63)
أَو دملجا أَو سوارا، فَهَل آخذه أم أتركه؟ فَقَالَ: إِن وجدت فِي نَفسك مَسَرَّة ببادرة الوجدان ففتش عَن سَبَب المسرة، فَإِن كَانَت مسرتك لحفظ ذَلِك على صَاحبه، وَكَيف وَقعت بِيَدِك دون غَيْرك فَخذهَا، فقد لَا يحظى صَاحبهَا بمثلك، وَإِن كَانَت مسرتك لوجدانك، وَكنت بإخفائها وَترك تَعْرِيفهَا أسر فَلَا تأخذها، كَمَا إِذا اتّفقت مَعَ امْرَأَة أَجْنَبِيَّة فِي رفْقَة، فَوجدت المسرة بخلو تِلْكَ الرّفْقَة فاهرب، فَمَا تِلْكَ المسرة إِلَّا لما بعْدهَا من الانبساط، هَذَا الله فقه النُّفُوس الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام: " استفت نَفسك " قَالَ: وَكَذَلِكَ استفت نَفسك فِي مِقْدَار مَا تعرفه فَكلما علمت أَنَّك تتطلبه وتتوق إِلَيْهِ إِذا سقط مِنْك فَعرفهُ. [15] وَأما أمره فِي هَذَا الحَدِيث بالتعريف ثَلَاثَة أَحْوَال فَلَا نعلم خلافًا فِي أَنه لَا يجب التَّعْرِيف أَكثر من حول وَاحِد، فَلَا تَخْلُو هَذِه الرِّوَايَة من ثَلَاثَة أَشْيَاء. أما أَن تكون غَلطا من الرَّاوِي؛ فقد دلّ على هَذَا الْوَجْه مَا فِي تَمام الحَدِيث من قَول شُعْبَة: فَسمِعت سَلمَة بن كهيل بعد عشر سِنِين يَقُول: عرفهَا عَاما وَاحِدًا. وَالثَّانِي: أَن يكون علم عَلَيْهِ السَّلَام أَنه لم يَقع تَعْرِيفهَا كَمَا يَنْبَغِي فَلم يحْتَسب لَهُ بالتعريف الأول، كَمَا قَالَ للَّذي صلى وَلم يُحَقّق الصَّلَاة: " ارْجع فصل، فَإنَّك لم تصل " وَالثَّالِث: أَن يكون قد دله على الْوَرع، وَهُوَ اسْتِعْمَال مَا لَا يلْزم. [15] وَأما الْوِعَاء فالظرف الَّذِي هِيَ فِيهِ، والوكاء: الْخَيط الَّذِي يشد بِهِ رَأس الصرة أَو الْقرْبَة(2/64)
[15] وَقَوله: " فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وَإِلَّا فاستمتع بهَا " وَفِي رِوَايَة: " وَإِلَّا فَهِيَ كسبيل مَالك " وَفِي هَذَا دَلِيل على أَنه يملكهَا بعد التَّعْرِيف. وَعِنْدنَا أَن اللّقطَة إِذا كَانَت أثمانا وَعرفهَا حولا ملكهَا، فَأَما إِذا كَانَت عرُوضا أَو حليا أَو ضَالَّة فَإِنَّهُ لَا يملكهَا وَلَا ينْتَفع بهَا، سَوَاء كَانَ غَنِيا أَو فَقِيرا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يملك شَيْئا من اللقطات بِحَال وَلَا ينْتَفع بهَا إِذا كَانَ غَنِيا، فَإِن كَانَ فَقِيرا جَازَ لَهُ الِانْتِفَاع بهَا. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد: يملك جَمِيع اللقطات غَنِيا كَانَ أَو فَقِيرا، وَيتَخَرَّج لنا مثله. وَاخْتلف الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يملكهَا: هَل تدخل فِي ملكه بِاخْتِيَارِهِ أَو بِغَيْر اخْتِيَاره، فعندنا أَنه إِذا عرف الْأَثْمَان حولا دخلت فِي ملكه بِغَيْر اخْتِيَاره. وَاخْتلف أَصْحَاب الشَّافِعِي: فَمنهمْ من قَالَ كَقَوْلِنَا، وَمِنْهُم من قَالَ: لَا يملكهَا إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ، ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ، فَقَالَ قوم مِنْهُم: يفْتَقر إِلَى نِيَّته وَلَفظه واختياره وتصرفه. وَقَالَ آخَرُونَ: يفْتَقر إِلَى نِيَّته وتصرفه، وَقَالَ آخَرُونَ يفْتَقر إِلَى نِيَّته فَقَط. فَأَما إِذا جَاءَ صَاحبهَا بعد الْحول فَإِنَّهُ يغرمها لَهُ، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد ابْن حَنْبَل، وَقَالَ دَاوُد: لَا يغرم. [15] وَقَوله فِي الحَدِيث: " فَإِن جَاءَ أحد يخبر بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إِيَّاه " فَهَذَا دَلِيل على أَن من أخبر بِهَذِهِ الْأَشْيَاء من غير بَيِّنَة دفعت إِلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأحمد وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا تدفع إِلَّا بِبَيِّنَة.(2/65)
537 - / 648 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] قَالَ عمر: اقرؤنا أبي، وأقضانا عَليّ، وَإِنَّا لندع من قَول أبي؟ وَذَلِكَ أَن أَبَيَا يَقُول: لَا أدع شَيْئا سمعته من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {مَا ننسخ من آيَة أَو ننساها} [الْبَقَرَة: 106] . [15] وَأما قَول: أقرؤنا أبي وأقضانا عَليّ، فَإِنَّهُ قد يغلب على الْإِنْسَان من فنون الْعلم فن يفوق بِهِ، وَقد يرْزق فِي ذَلِك الْفَنّ من التَّصَرُّف مَا لَا يرزقه غَيره وَإِن شَاركهُ فِي الْعلم. [15] وَقَوله: وَإِنَّا لندع من قَول أبي. يَعْنِي: من قِرَاءَته، وَقد بَين السَّبَب فِي ذَلِك وَهُوَ أَن الْعَمَل على الْعرض الْأَخير، وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعرض الْقُرْآن على جِبْرِيل، وَعرضه عَلَيْهِ قبل مَوته مرَّتَيْنِ.
538 - / 649 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " لَو أَن لِابْنِ آدم وَاديا من ذهب لأحب أَن يكون لَهُ واديان، وَلنْ يمْلَأ فَاه إِلَّا التُّرَاب "، وَكُنَّا نرى هَذَا من الْقُرْآن حَتَّى نزل قَوْله {أَلْهَاكُم التكاثر} . [15] اعْلَم أَن آثر الْأَشْيَاء عِنْد الْإِنْسَان نَفسه، فَأحب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ بَقَاؤُهَا، ولشدة حبه الْبَقَاء لَا يَنْقَطِع أمله من الْحَيَاة وَلَو عاين الْمَوْت، فَلَمَّا كَانَ المَال سَببا للحياة أحب سَبَب الْبَقَاء والاستكثار مِنْهُ لحبه الْبَقَاء. وَقَوله: " وَلنْ يمْلَأ فَاه إِلَّا التُّرَاب " الْإِشَارَة بِالْمَعْنَى إِلَى حرصه، وبالصورة إِلَى دَفنه فِي الْقَبْر.(2/66)
[15] وَهَذَا الحَدِيث: مِمَّا كَانَ يُتْلَى فِي الْقُرْآن، ثمَّ نسخ لَفظه وَبَقِي حكمه، وَهَذَا معنى قَول أبي: كُنَّا نرى هَذَا من الْقُرْآن. وَقَوله حَتَّى نزلت: {أَلْهَاكُم التكاثر} أَي أَنَّهَا أَثْبَتَت هَذَا الْمَعْنى.
539 - / 650 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: سَأَلت أبي بن كَعْب عَن المعوذتين، قلت: إِن أَخَاك ابْن مَسْعُود يَقُول كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: " قيل لي فَقلت " فَنحْن نقُول كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] الَّذِي كنى عَنهُ من قَول ابْن مَسْعُود كَأَنَّهُ الْإِشَارَة إِلَى أَنه كَانَ لَا يثبتها فِي مصحفه وَلَا يَرَاهَا من الْقُرْآن. وَقَوله: " قيل لي فَقلت " دَلِيل على أَنَّهَا من الْوَحْي، وَقد كَانَ الْأَمر فِي زمن ابْن مَسْعُود مُحْتملا للتأويلات، فَأَما الْآن فانعقد الْإِجْمَاع.
540 - / 651 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع " إِن من الشّعْر حِكْمَة ". الْحِكْمَة: الْكَلَام الْمُحكم لَفظه، الْوَاقِع مَعْنَاهُ، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعجبهُ ذَلِك الْفَنّ من الشّعْر.
أخبرنَا عمر بن أبي الْحسن البسطامي قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن أبي أَحْمد الْخُزَاعِيّ قَالَ: أخبرنَا الْهَيْثَم بن كُلَيْب قَالَ: أخبرنَا التِّرْمِذِيّ قَالَ: حَدثنَا أَحْمد ابْن منيع قَالَ: حَدثنَا مَرْوَان بن مُعَاوِيَة عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطَّائِفِي عَن عَمْرو بن الشريد عَن أَبِيه قَالَ: كنت ردف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَنْشَدته مائَة قافية من قَول أُميَّة بن أبي الصَّلْت، كلما أنشدته بَيْتا قَالَ(2/67)
لي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " هيه " حَتَّى أنشدته مائَة - يَعْنِي مائَة بَيت، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن كَاد ليسلم ".
541 - / 652 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: قيل لأبي: إِن ابْن مَسْعُود يَقُول: من قَامَ السّنة أصَاب لَيْلَة الْقدر. فَقَالَ أبي: وَالله إِنَّهَا لفي رَمَضَان، وَإِنَّهَا لَيْلَة سبع وَعشْرين. وَأما تَسْمِيَتهَا بليلة الْقدر فَفِيهَا خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَن الْقدر: العظمة، من قَوْله تَعَالَى: {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} [الْأَنْعَام: 91] وَهَذَا قَول الزُّهْرِيّ. [15] وَالثَّانِي: أَن من التَّضْيِيق، من قَوْله تَعَالَى: {وَمن قدر عَلَيْهِ رزقه} [الطَّلَاق: 7] فَهِيَ لَيْلَة تضيق فِيهَا الأَرْض عَن الْمَلَائِكَة، وَهَذَا قَول الْخَلِيل بن أَحْمد. وَالثَّالِث: أَن الْقدر: الحكم، كَأَن الْأَشْيَاء تقدر فِيهَا، قَالَه ابْن قُتَيْبَة. وَالرَّابِع: لِأَن من لم يكن لَهُ قدر صَار بمراعاتها ذَا قدر، قَالَه أَبُو بكر الْوراق. وَالْخَامِس: لِأَنَّهُ أنزل فِيهَا كتاب ذُو قدر، وتنزل فِيهَا رَحْمَة ذَات قدر، وملائكة ذَوُو قدر، ذكره شَيخنَا عَليّ بن عبيد الله.(2/68)
وَاخْتلف النَّاس: هَل هِيَ بَاقِيَة أم كَانَت فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة؟ وَالصَّحِيح بَقَاؤُهَا. [15] وَاخْتلفُوا فِي أخص اللَّيَالِي بهَا على سِتَّة أَقْوَال: [15] أَحدهَا: أول لَيْلَة من رَمَضَان، قَالَه أَبُو رزين الْعقيلِيّ. [15] وَالثَّانِي: لَيْلَة ثَمَانِي عشرَة، قَالَه الْحسن. [15] وَالثَّالِث: لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين، وَهُوَ اخْتِيَار الشَّافِعِي. [15] وَالرَّابِع: لَيْلَة ثَلَاث وَعشْرين، وَهُوَ مَذْهَب عبد الله بن أنيس. [15] وَالْخَامِس: لَيْلَة خمس وَعشْرين، وَهُوَ مَذْهَب أبي بكرَة. [15] وَالسَّادِس: لَيْلَة سبع وَعشْرين، وَهُوَ مَذْهَب عَليّ وَأبي بن كَعْب وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة وَعَائِشَة وَأحمد بن حَنْبَل.
542 - / 654 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كنت فِي الْمَسْجِد، فَدخل رجل يُصَلِّي، فَقَرَأَ قِرَاءَة أنكرتها، ثمَّ دخل آخر فَقَرَأَ قِرَاءَة سوى قِرَاءَة صَاحبه، فَلَمَّا قضينا الصَّلَاة. دَخَلنَا جَمِيعًا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَرَأَ فَحسن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَأْنهمَا، فَسقط فِي نَفسِي من التَّكْذِيب وَلَا إِذْ كنت فِي الْجَاهِلِيَّة. [15] الْمَعْنى: وسوس لي الشَّيْطَان، وَلَو اعْتقد ذَلِك لخرج من الْإِسْلَام، وحوشي. [15] وَقَوله: فَضرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صَدْرِي، وَذَلِكَ إزعاج لَهُ عَن(2/69)
محادثة الوسوسة. [15] وَقَوله: " هون عَليّ أمتِي " أَي خفف. [15] وَلما جعلت للرسول عَلَيْهِ السَّلَام مسَائِل يُجَاب فِيهَا، جعلهَا كلهَا لأمته، وَهَذَا غَايَة الْكَرم، لِأَنَّهُ علم مَا تفعل بهم الْخَطَايَا. [15] وَقد سبق الْكَلَام فِي معنى سَبْعَة أحرف فِي مُسْند عمر. [15] وَقَوله: " يرغب إِلَيّ الْخلق كلهم حَتَّى إِبْرَاهِيم " وَهَذَا لِأَن النَّاس إِذا خَرجُوا من الْقُبُور أَقَامُوا مُدَّة لَا يفصل بَينهم، فيستشفعون بِآدَم، ثمَّ بِنوح، ثمَّ بإبراهيم، ثمَّ بمُوسَى، ثمَّ بِعِيسَى، ليراحوا بِالْفَصْلِ بَينهم، فَلَا يتَقَدَّم أحد فِي تِلْكَ الشَّفَاعَة على نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا لم يَقع الْفَصْل إِلَّا بِشَفَاعَتِهِ فقد احْتَاجَ الْأَنْبِيَاء أَيْضا إِلَيْهِ. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أضاة بني غفار. قَالَ الْأَصْمَعِي. الأضاة: المَاء المستنقع من مسيل أَو غَيره، وَجمعه أضا مَقْصُورَة، مثل قطاة وقطا، فَإِن كسرت أَوله قلت إضاء فمددت، تَقْدِيره ثَمَرَة وثمار. وَقَالَ أَبُو عمر الزَّاهِد: يُقَال: أضاة وَجَمعهَا أضا، وَيجمع أضا إضاء، فَهُوَ جمع الْجمع. 543 / 655 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: لَو اشْتريت حمارا تركبه فِي الرمضاء. يَعْنِي الْحر.(2/70)
544 - / 657 وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " أعظم آيَة فِي الْقُرْآن: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم} " [الْبَقَرَة: 255] . [15] فِي اسْم الله الَّذِي هُوَ (الله) عَن الْخَلِيل رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَنه اسْم علم لَيْسَ بمشتق، وَالْأُخْرَى: أَنه مُشْتَقّ. وَاخْتلف من قَالَ باشتقاقه: فَقَالَ قوم: إِنَّه مُشْتَقّ من الوله، لِأَن قُلُوب الْعباد توله نَحوه، وَكَانَ الْقيَاس أَن يُقَال مولوه كَمَا يُقَال معبود، إِلَّا أَنهم خالفوا بِهِ الْبناء ليَكُون علما فَقَالُوا: إِلَه: كَمَا قَالُوا للمكتوب كتاب، وللمحسوب حِسَاب. وَقَالَ آخَرُونَ: أَصله من أَله الرجل يأله: إِذا تحير، لِأَن الْقُلُوب تتحير عِنْد التفكر فِي عَظمته، وَقد قيل إِنَّه الِاسْم الْأَعْظَم، وَكَذَلِكَ قيل فِي قَوْله: {الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم} . [15] قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: والقيوم: الَّذِي لَا يَزُول لَا ستقامة وَصفه بالوجود، إِذا لَا يجوز عَلَيْهِ التَّغَيُّر بِوَجْه من الْوُجُوه. قَالَ الزّجاج: القيوم: الْقَائِم بِأَمْر الْخلق. [15] وَفِي (القيوم) ثَلَاث لُغَات: (القيوم) وَهِي قِرَاءَة الْجُمْهُور. و (الْقيام) وَهِي قِرَاءَة عمر وَابْن مَسْعُود. و (الْقيم) وَهِي قِرَاءَة عَلْقَمَة. قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وأصل القيوم: القيووم، فَلَمَّا اجْتمعت الْيَاء وَالْوَاو(2/71)
وَالسَّابِق سَاكن جعلتا يَاء مُشَدّدَة. وأصل الْقيام: القيوام. قَالَ الْفراء: وَأهل الْحجاز يصرفون الفعال إِلَى الفيعال، يَقُولُونَ للصواغ صياغ. [15] وَقَوله: " إِن لهَذِهِ الْآيَة لِسَانا " مجازه أَن الْحق عز وَجل يقدس: أَي يعظم وينزه عَن السوء عِنْد الْعَرْش بِهَذِهِ الْآيَة، أَو لِأَنَّهُ مَوْصُوف بِمَا فِيهَا.(2/72)
(38) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي طَلْحَة زيد بن سهل
[15] شهد جَمِيع الْمشَاهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لصوت أبي طَلْحَة فِي الْجَيْش خير من فِئَة ". وروى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة وَعشْرين حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة.
545 - / 659 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ كلب وَلَا صُورَة ". [15] أما امتناعها لأجل الْكَلْب فلنجاسته وتنجيسه مَا يكون فِي الْبَيْت وَأما لأجل الصُّور فَلِأَن الصُّورَة قد كَانَت تعبد من دون الله عز وَجل. [15] والتماثيل جمع تِمْثَال: وَهُوَ اسْم للشَّيْء الْمَصْنُوع مشبها بِخلق الله تَعَالَى، واصله من مثلت الشَّيْء بالشَّيْء: إِذا شبهته بِهِ. [15] وَقَوله: " إِلَّا رقما فِي ثوب " زِيَادَة فِي بعض الرِّوَايَات تَقْتَضِي أَن يكون الْمنْهِي عَنهُ مَا كَانَ لَهُ شخص ماثل دون مَا كَانَ منسوجا فِي ثوب، وَهَذَا مَحْمُول على جَوَاز اسْتِعْمَاله بِأَن يُوطأ ويداس، فَأَما عمل الصُّورَة فَلَا يحل، وَلَا تَعْلِيق السّتْر الَّذِي هِيَ فِيهِ، وسنبين هَذَا فِي مُسْند عَائِشَة(2/73)
عَلَيْهَا السَّلَام.
546 - / 660 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَنه كَانَ إِذا ظهر على قوم أَقَامَ بالعرصة ثَلَاث لَيَال. [15] ظهر بِمَعْنى غلب. والعرصة: أَرض الْمَكَان. وَإِنَّمَا كَانَ يُقيم لظُهُور تَأْثِير الْغَلَبَة، وتنفيذ الْأَحْكَام، وترتيب النواب. [15] والبضع: مَا بَين الْوَاحِد إِلَى التِّسْعَة. وَقد فسرت الْبضْعَة فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث أَنَّهَا أَرْبَعَة، قَالُوا: أَمر بأَرْبعَة وَعشْرين رجلا. [15] والطوي: الْبِئْر المطوية. وَقد أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْجَوْهَرِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو عمر بن حيويه قَالَ: أخبرنَا أَبُو الْحسن الرزاز قَالَ: أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الحكيمي قَالَ: أخبرنَا ثَعْلَب عَن ابْن الْأَعرَابِي قَالَ: أَسمَاء الْبِئْر: الرَّكية، والقليب، وَالْفَقِير، والطوي. [15] وَأما الصناديد فهم الْأَشْرَاف. وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمر، وَذكرنَا هُنَاكَ سَماع الْقَوْم لخطاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
547 - / 661 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ:(2/74)
[15] كنت فِيمَن تغشاه النعاس يَوْم أحد حَتَّى سقط السَّيْف من يَدي مرَارًا. [15] لما وَقعت يَوْم أحد الْهَزِيمَة فِي أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكثر الْقَتْل فيهم وَصَاح الشَّيْطَان: قتل مُحَمَّد، اشْتَدَّ خوفهم، وَقَوي غمهم، ثمَّ أنعم الله عَلَيْهِم بِأَن أنزل عَلَيْهِم بعد الْغم أَمَنَة نعاسا، والأمنة: الْأَمْن، وَالنُّعَاس: أخف النّوم، وأمنهم أمنا ينامون مَعَه، والأمنة بِزَوَال الْخَوْف؛ لِأَن الْخَائِف لَا ينَام.
548 - / 662 وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم: [15] كُنَّا قعُودا فِي الأفنية، فجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " مَا لكم ولمجالس الصعدات؟ ". [15] الأفنية جمع فنَاء: وَهُوَ مَا دَار حول الْمنزل، قَالَ أَبُو عبيد: والصعدات: الطّرق، مَأْخُوذَة من الصَّعِيد: وَهُوَ التُّرَاب، وَجمع الصَّعِيد صعد، وَجمع الْجمع صعدات، كَمَا يُقَال طَرِيق وطرق وطرقات. [15] وَقَوله: لغير مَا بَأْس. مَا زَائِدَة. [15] وَقَوله: " إِمَّا لَا " قد بَينا هَذِه الْكَلِمَة فِي مُسْند بُرَيْدَة.(2/75)
(39) كشف الْمُشكل من مُسْند عبَادَة بن الصَّامِت
[15] شهد الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يعلم أهل الصّفة الْقُرْآن، وَهُوَ أحد النُّقَبَاء الاثْنَي عشر. وروى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وأحداً وَثَمَانِينَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عشرَة. [15]
549 - / 663 - فَفِي الحَدِيث الأول: " من أحب لِقَاء الله أحب الله لقاءه " وَقد سبق بَيَانه فِي مُسْند أبي مُوسَى ".
550 - / 664 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " رُؤْيا الْمُؤمن جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة ". [15] وَلِهَذَا الحَدِيث وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن النُّبُوَّة لما كَانَت تَتَضَمَّن اطلاعا على أُمُور يظْهر تحقيقها فِيمَا بعد، وَقع التَّشْبِيه لرؤيا الْمُؤمن بهَا. وَالثَّانِي: أَنه لما كَانَ جمَاعَة من الْأَنْبِيَاء ثبتَتْ نبوتهم بِمُجَرَّد الْوَحْي فِي النّوم، وَجَمَاعَة أُخْرَى ابتدءوا بِالْوَحْي فِي الْمَنَام ثمَّ رقوا(2/76)
إِلَى الْوَحْي واليقظة، حسن التَّشْبِيه. [15] فَإِن قيل: فَمَا وَجه حصرها بِسِتَّة وَأَرْبَعين؟ فقد قَالَ بعض الْعلمَاء: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَقِي فِي النُّبُوَّة ثَلَاثًا وَعشْرين سنة، أَقَامَ مِنْهَا بِمَكَّة ثَلَاث عشرَة سنة، وَكَانَ يُوحى إِلَيْهِ فِي مَنَامه فِي أول الْأَمر سِتَّة أشهر وَهِي نصف سنة، فَصَارَت هَذِه الْمدَّة جُزْءا من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من أَيَّام نبوته. [15] وَقد تواطأ على رِوَايَة هَذَا اللَّفْظ جمَاعَة من الصَّحَابَة، وَأخرج فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبَادَة، وَأبي سعيد، وَأبي هُرَيْرَة، غير أَنه قد روى مُسلم من حَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " الرُّؤْيَا الصَّالِحَة جُزْء من سبعين جُزْءا من النُّبُوَّة " فعلى هَذَا تكون رُؤْيا الْمُؤمن مُخْتَلفَة، فأدناها من سبعين جُزْءا، وأعلاها من سِتَّة وَأَرْبَعين. وَقَالَ ابْن جرير: فَأَما قَوْله: " من سبعين " فعام فِي كل رُؤْيا صَالِحَة لكل مُسلم، بِأَيّ أَحْوَاله كَانَ وعَلى أَي حَال رَآهَا، وَأما جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين فحالة من يكون من أهل إسباغ الْوضُوء فِي السبرات، وَالصَّبْر على المكروهات، وانتظار الصَّلَاة بعد الصَّلَاة. قَالَ: وَقد رُوِيَ: " جُزْء من خَمْسَة وَأَرْبَعين جُزْءا " وَذَلِكَ لما بَين ذَلِك من الْأَحْوَال.
551 - / 665 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب ".(2/77)
وَهَذَا دَلِيل على تعْيين الْفَاتِحَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد ابْن حَنْبَل فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ، وَفِي الْأُخْرَى: يَجْزِي غَيرهَا كمذهب أبي حنيفَة. 3552 / 666 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: بَايعنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على السّمع وَالطَّاعَة فِي الْعسر واليسر. [15] الْعسر: الشدَّة، واليسر: السهولة. [15] والمنشط: النشاط، وَالْمكْره: مَا يكره، والأثرة: انْفِرَاد الْأَمِير عَن الرعايا بِمَا لَهُم فِيهِ حق. [15] ومنازعة الْأَمر يَعْنِي بهَا الْإِمَارَة. [15] وَقَوله: إِلَّا أَن تروا كفرا بواحا. الْبَاء مَفْتُوحَة، وَالْمعْنَى: جهارا. [15] قَوْله: عنْدكُمْ فِيهِ من الله برهَان، أَي أَنه كفر، فَحِينَئِذٍ تجوز الْمُنَازعَة. [15] وَقَوله: لَا نَخَاف فِي الله لومة لائم. إِن قيل: الْخَوْف انزعاج النَّفس، وَذَلِكَ لَا يملك، فَكيف تقع الْمُبَايعَة على نفي مَالا يملك؟ فَالْجَوَاب: أَن هَذَا من التَّوَسُّع فِي الْعبارَة، وَالْمعْنَى: لَا يتْرك القَوْل بِالْحَقِّ خوفًا من اللوم.
553 - / 667 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " تُبَايِعُونِي على أَن أَلا تُشْرِكُوا(2/78)
بِاللَّه شَيْئا، وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم ". [15] قتل الْأَوْلَاد المُرَاد بِهِ الموءودة الَّتِي كَانُوا يفعلونها فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَت الْمَرْأَة إِذا تمخضت بحملها حفرت لَهَا بِئْر، فَإِن ولدت ذكرا حبسوه، وَإِن ولدت أُنْثَى رَمَوْهَا فِي الْبِئْر. [15] وَفِي المُرَاد بالبهتان هَاهُنَا أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه الزِّنَا، وافتراء الْمَرْأَة بَين يَديهَا ورجليها، وَهُوَ ولد الزِّنَا، لِأَنَّهُ يَقع عِنْد الْوَضع بَين يَديهَا ورجليها، فَإِذا ألحقته بزوجها فَذَلِك الْبُهْتَان المفترى. وَقَوله للرِّجَال: " وَلَا يأْتونَ بِبُهْتَان يفترونه " يحْتَمل شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: أَن يكون بَايع الرِّجَال وَالنِّسَاء، فَاجْتمع الْكل فِي النَّهْي عَن الزِّنَا، وَانْفَرَدَ النِّسَاء بِصِيغَة الافتراء بَين أَيْدِيهنَّ وَأَرْجُلهنَّ. وَالثَّانِي: أَن يكون قَرَأَ عَلَيْهِم الْآيَة وَلم يسْقط مَا يتَعَلَّق بِالنسَاء مِنْهَا. [15] وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد بالبهتان هَاهُنَا قذف الْمُحْصنَات والمحصنين، وَيدخل فِي ذَلِك الْكَذِب على النَّاس والاغتياب لَهُم، وَإِنَّمَا ذكرت الْأَيْدِي والأرجل لِأَن مُعظم أَفعَال النَّاس إِنَّمَا تُضَاف مِنْهُم إِلَى الْأَيْدِي والأرجل، إِذْ كَانَت هِيَ العوامل والحوامل، يَقُولُونَ: لفُلَان عِنْدِي يَد، وَالْكِنَايَة بِالْيَدِ عَن الذَّات، قَالَه أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ. [15] وَالْقَوْل الثَّالِث: الْبُهْتَان هَاهُنَا الْمَشْي بالنميمة وَالسَّعْي بِالْفَسَادِ. [15] وَالرَّابِع: أَنَّهُمَا السحر، ذكرهمَا الْمَاوَرْدِيّ.(2/79)
[15] وَقَوله: " وَمن أصَاب شَيْئا من ذَلِك فَعُوقِبَ بِهِ. فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ ". قَالَ الشَّافِعِي: لم أسمع فِي أَن الْحَد يكون كَفَّارَة لأَهله أحسن من هَذَا الحَدِيث. [15] وَقَوله: " وَلَا يعضه بَعْضنَا بَعْضًا " أَي لَا يرميه بالعضيهة: وَهِي الْكَذِب والبهتان، وَالْفِعْل مِنْهَا عضهت.
554 - / 669 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: " إِنِّي خرجت لأخبركم بليلة الْقدر، فتلاحى فلَان وَفُلَان فَرفعت، وَعَسَى أَن يكون خيرا لكم ". [15] والملاحاة: الْخُصُومَة. وَقَوله: " فَرفعت " قَالَ ابْن عقيل: رفع علمهَا. قَالَ: فَإِن قيل: فَكيف أَمر بِطَلَب مَا قد رفع؟ فَالْجَوَاب: أَنه إِنَّمَا أَمر بالتعبد لتقع المصادفة بِالْعَمَلِ لَا الْعلم بِالْعينِ، لِأَنَّهُ مَتى تصور علمهَا زَالَ معنى الرّفْع. [15] وَقَوله: " عَسى أَن يكون خيرا لكم " وَذَلِكَ لِأَن كتمها أحرص لَهُم على طلبَهَا، وَلَو عينت لاقتنعوا بِتِلْكَ اللَّيْلَة فَقل عَمَلهم. [15] وَقَوله: " فالتمسوها فِي التَّاسِعَة وَالسَّابِعَة وَالْخَامِسَة " دَلِيل على أَنَّهَا فِي الْأَفْرَاد من اللَّيَالِي. وَقد سبق الْكَلَام فِي هَذَا فِي مُسْند أبي بن كَعْب.(2/80)
555 - / 670 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " من تعار من اللَّيْل ". يَعْنِي اسْتَيْقَظَ.
556 - / 671 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " خُذُوا عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا، الْبكر بالبكر جلد مائَة وَنفي سنة، وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ جلد مائَة وَالرَّجم ". [15] الْإِشَارَة إِلَى قَوْله عز وَجل: {أَو يَجْعَل الله لَهُنَّ سَبِيلا} [النِّسَاء: 15] . [15] والسبيل مَا ذكره من قَوْله: " الْبكر بالبكر، وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ " وَكَانَ حد الزَّانِيَيْنِ بِمُقْتَضى هَذِه الْآيَة الْأَذَى لَهما وَالْحَبْس للْمَرْأَة خَاصَّة، فنسخ الحكمان. وَاخْتلف الْعلمَاء بِمَاذَا وَقع نسخهما؟ وَالصَّحِيح أَنه نسخ بِوَحْي لم تَسْتَقِر تِلَاوَته، بِدَلِيل قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا " وَقَوله: " الْبكر بالبكر " وَهُوَ الرجل لم يتَزَوَّج وَالْمَرْأَة لم تتَزَوَّج، وَالثَّيِّب بِخِلَاف ذَلِك. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَنه يجْتَمع الْجلد وَالرَّجم فِي حق الزَّانِي الْمُحصن، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على وجوب التَّغْرِيب، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجب، وَقَالَ مَالك: لَا يجب على الْمَرْأَة خَاصَّة.(2/81)
557 - / 672 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " الذَّهَب بِالذَّهَب، وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ، وَالْبر بِالْبرِّ، وَالشعِير بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ، وَالْملح بالملح، مثلا بِمثل، سَوَاء بِسَوَاء، يدا بيد، فَإِذا اخْتلفت هَذِه الْأَصْنَاف فبيعوا كَيفَ شِئْتُم إِذا كَانَ يدا بيد ". [15] اتّفق الْعلمَاء على أَن التَّفَاضُل فِي بيع هَذِه الْأَعْيَان السِّتَّة الَّتِي نَص عَلَيْهَا رَبًّا، وَاخْتلفُوا: هَل جرى فِيهَا الرِّبَا لأعيانها أَو لعلل تعلّقت بهَا؟ فَقَالَ دَاوُد: لأعيانها، وَقَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء: لعلل تعلّقت بهَا. فَأَما الذَّهَب وَالْفِضَّة فالعلة عندنَا فِي تَحْرِيم الرِّبَا فيهمَا الْوَزْن، وَبِهَذَا تعدت الْعلَّة إِلَى كل مَوْزُون. وَأما الْأَعْيَان الْأَرْبَعَة فالعلة فِي تَحْرِيم الرِّبَا فِي الْجِنْس مِنْهَا الْكَيْل، وَبِذَلِك يتَعَدَّى الحكم إِلَى غَيرهمَا، نَص عَلَيْهِ أَحْمد، وَهُوَ الْمَنْصُور عندنَا، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. فعلى هَذَا تكون الْعلَّة مركبة من وصفين: الْكَيْل، وَالْجِنْس. وَعَن الشَّافِعِي قَولَانِ: أَحدهمَا أَن الْعلَّة فيهمَا الطّعْم، وَهُوَ الْجَدِيد من قَوْله الْمَنْصُور عِنْد أَصْحَابه، وَهُوَ الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن أَحْمد، فعلى هَذَا تكون الْعلَّة الطّعْم، وَالْجِنْس مَحل وَشرط وَلَيْسَ بعلة، وَالْقَوْل الثَّانِي للشَّافِعِيّ أَن الْعلَّة الْكَيْل والطعم إِذا اجْتمعَا، وَهَذَا قَوْله الْقَدِيم وَهُوَ الرِّوَايَة الثَّالِثَة عَن أَحْمد. وَقَالَ مَالك: الْعلَّة كَونه قوتا أَو مصلحا للقوت. [15] وَقَوله: " إِذا اخْتلفت هَذِه الْأَصْنَاف فبيعوا كَيفَ شِئْتُم " دَلِيل على أَنه يجوز بيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ، وَالْبر بِالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ. وَقَالَ مَالك: الْبر وَالشعِير جنس وَاحِد، وَعلل بِأَن الْبر لَا يَخْلُو من الشّعير، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وَمَا يتضمنه الْبر من الشّعير لَا يعْتَبر بِهِ، وَلَو(2/82)
اعْتبر بِهِ لم يجز بيع أَحدهمَا بِالْآخرِ. [15] وَقَوله: " إِذا كَانَ يدا بيد " منع لربا النسئية فِي الْجِنْس بِالْجِنْسِ، وَقد شرحنا فِي مُسْند عمر. [15] وَفِي الحَدِيث أَن مُعَاوِيَة أَمر أَن تبَاع أواني من فضَّة إِلَى زمَان خُرُوج الْعَطاء، فَأنْكر ذَلِك عبَادَة وَأورد هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ مُعَاوِيَة: مَا بَال أَقوام يتحدثون عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحَادِيث قد كُنَّا نصحبه فَلم نسمعها مِنْهُ. وَالْعجب من إِنْكَار مُعَاوِيَة حَدِيث عبَادَة، وَأَيْنَ صُحْبَة عبَادَة من صُحْبَة مُعَاوِيَة! فَإِن عبَادَة شهد الْعقبَة وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد، وَإِن كَانَ قد اخْتلف فِي حُضُوره بَدْرًا، وَمُعَاوِيَة إِنَّمَا أسلم يَوْم الْفَتْح فصحبه سنتَيْن، فَمَا قدر تِلْكَ الصُّحْبَة بِالْإِضَافَة إِلَى تِلْكَ. ثمَّ قد كَانَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ صحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبع عشرَة سنة وخفيت عَلَيْهِ أَشْيَاء من أَحَادِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] وَمعنى قَوْله: وَإِن رغم: أَي الْتَصق بالرغام، وَهُوَ التُّرَاب.(2/83)
(40) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ [
15 -] واسْمه خَالِد بن يزِيد، لم يفته مشْهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى عَنهُ مائَة حَدِيث وَخَمْسَة وَخمسين حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة عشر حَدِيثا.
558 - / 673 - فَفِي الحَدِيث الأول: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَا غربت الشَّمْس، فَسمع صَوتا فَقَالَ: " يهود تعذب فِي قبورها ". [15] قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: يهود أعجمي مُعرب، وهم منسوبون إِلَى يهوذ بن يَعْقُوب، فسموا الْيَهُود، وعربت بِالدَّال. قَالَ: وَقيل: هُوَ عَرَبِيّ، وَسمي يَهُودِيّا لتوبته فِي وَقت من الْأَوْقَات فَلَزِمَهُ من أجلهَا هَذَا. وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على عَذَاب الْقَبْر. [15] وَاعْلَم أَن الْإِيمَان بِعَذَاب الْقَبْر وَاجِب للأحاديث الْوَارِدَة فِيهِ، وَهُوَ مَذْكُور فِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي أَيُّوب، وَزيد بن ثَابت، وَابْن(2/84)
عَبَّاس، وَجَابِر، وَعَائِشَة، وَأم خَالِد. وَقد سَأَلَ قوم فَقَالُوا: هَل المعذب الْبدن أَو الرّوح؟ فَإِن قُلْتُمْ الرّوح فالروح لَيست فِي الْبدن المقبور، وَإِن قُلْتُمْ الْبدن فَهُوَ جماد؟ [15] فقد أجَاب عَن هَذَا أَبُو الْوَفَاء بن عقيل فَقَالَ: الْإِيمَان وَاجِب بالتعذيب من غير تَفْصِيل، غير أَن الَّذِي يُوجِبهُ الْقيَاس أَن التعذيب والتنعيم للأرواح الَّتِي أبدانها فِي الْقُبُور لِأَن الْأَرْوَاح هِيَ الْمَقْصُود وَالْبدن آلَة، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {كلما نَضِجَتْ جُلُودهمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيرهَا ليذوقوا الْعَذَاب} [النِّسَاء: 56] فَأخْبر بعلة التبديل، وَفهم من ذَلِك أَن الْجُلُود البالية لَا تذوق الْعَذَاب لعدم الإحساس. [15] فَإِن قيل: فَكيف خص الْقَبْر بذلك؟ قُلْنَا: إِنَّمَا عرف بالقبر، وَالْمرَاد صَاحب الْقَبْر، وَمن الْجَائِز أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أدْرك تَعْذِيب تِلْكَ الْأَرْوَاح الَّتِي أبدانها فِي الْقُبُور. قَالَ: وَمن الْجَائِز أَن يَجْعَل بَين الْبدن وَالروح نوع اتِّصَال لَا نعلمهُ، وَمن الْجَائِز أَن يخلق الله عز وَجل فِي الْبدن إدراكا للتعذيب والتنعيم كَمَا يخلق فِي بعض الْحِجَارَة فتخشع، وَالله أعلم بِحَقِيقَة ذَلِك. وَلَا يجوز أَن يُقَال: إِنَّمَا يكون ذَلِك وَقت السُّؤَال؛ فَإِن الرّوح ترد حِينَئِذٍ وَيكون التعذيب والتنعيم فِي ذَلِك الْوَقْت، لِأَنَّهُ أخبر فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْيَهُود يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم وَلم يكن حِينَئِذٍ وَقت دفنهم. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث أنس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع صَوتا من قبر فَسَأَلَ " مَتى دفن هَذَا؟ " فَقَالُوا: فِي الْجَاهِلِيَّة، فأعجبه ذَلِك وَقَالَ: " لَوْلَا أَن لَا تدافنوا(2/85)
لَدَعَوْت الله أَن يسمعكم عَذَاب الْقَبْر ".
559 - / 674 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمع فِي حجَّة الْوَدَاع الْمغرب وَالْعشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ. [15] مَا حج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد هجرته سوى حجَّة وَاحِدَة، وَإِنَّمَا سميت حجَّة الْوَدَاع لِأَنَّهُ ودع النَّاس لما خطبهم، فَقَالُوا: هَذِه حجَّة الْوَدَاع، وَقد اعْتَمر بعد الْهِجْرَة ثَلَاث مَرَّات، وَقد حج قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا حِين كَانَ بِمَكَّة حجات لَا يعرف عَددهَا. [15] والمزدلفة من الازدلاف، وَهُوَ الْقرب، وَكَأَنَّهُ الْمَكَان الَّذِي يَقع فِيهِ الْقرب إِلَى مَكَّة.
560 - / 675 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " لَا يحل لمُسلم أَن يهجر أَخَاهُ فَوق ثَلَاث ". [15] اعْلَم أَن تَحْرِيم الْهِجْرَة بَين الْمُسلمين أَكثر من ثَلَاث إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يكون بَينهم من عتب وموجدة، أَو لتقصير يَقع فِي حُقُوق الْعشْرَة وَنَحْو ذَلِك، فَهَذَا يحد لَهُ ثَلَاثَة أَيَّام ليرْجع المقصر عَن تَقْصِيره، ويرعوي بهجرته، فَإِذا انْقَضتْ الْمدَّة حرمت الْهِجْرَة عَلَيْهِم، وَيَكْفِي فِي قطع الْهِجْرَة السَّلَام. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " فَإِذا مرت ثَلَاثَة أَيَّام فليلقه فليسلم عَلَيْهِ، فَإِن رد عَلَيْهِ السَّلَام فقد اشْتَركَا فِي الْأجر، وَإِن لم يرد عَلَيْهِ فقد برِئ الْمُسلم من الْهِجْرَة " وَفِي حَدِيث أبي(2/86)
خرَاش السّلمِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " من هجر أَخَاهُ سنة فَهُوَ كسفك دَمه ". [15] فَأَما إِذا كَانَ الهجر لأجل الدّين فَإِن هجر أهل الْبدع يَنْبَغِي أَن يَدُوم على مُرُور الزَّمَان مَا لم تظهر مِنْهُ تَوْبَة وَرُجُوع إِلَى الْحق، وَكَذَلِكَ المبارزون بِالْمَعَاصِي، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم امْتنع من كَلَام الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا وَنهى النَّاس عَن كَلَامهم حَتَّى أنزل الله عز وَجل تَوْبَتهمْ.
561 - / 676 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " إِذا أتيتم الْغَائِط فَلَا تستقبلوا الْقبْلَة وَلَا تستدبروا، وَلَكِن شرقوا أَو غربوا ". [15] الْغَائِط: الْمَكَان المطمئن من الأَرْض، وَكَانُوا يأتونه لقَضَاء الْحَاجة. وَهَذَا الْخطاب لأهل الْمَدِينَة وَلمن كَانَت قبلته على ذَلِك السمت، فَأَما من كَانَت قبلته إِلَى جِهَة الْمغرب والمشرق فَإِنَّهُ لَا يشرق وَلَا يغرب. وَقد اتّفقت الرِّوَايَة عَن أَحْمد أَنه لَا يجوز اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَلَا استدبارها للْحَاجة فِي الصَّحرَاء، وَهل يجوز فِي الْبُنيان؟ على رِوَايَتَيْنِ، إِحْدَاهمَا يجوز، وَبهَا قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَالثَّانيَِة: لَا يجوز كالصحراء، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ دَاوُد: يجوز بِكُل حَال. [15] قَوْله: فَوَجَدنَا مراحيض. المراحيض جمع مرحاض: وَهُوَ المغتسل، يُقَال: رحضت الثَّوْب: إِذا غسلته. وَقَوله: فننحرف أَي(2/87)
نَمِيل فِي جلوسنا. وَكَانَ أَبُو أَيُّوب لَا يرى جَوَاز اسْتِقْبَال الْقبْلَة فِي الْبُنيان كَمَا لَا يجوز فِي الصَّحَارِي.
562 - / 677 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أَخْبرنِي بِعَمَل يدخلني الْجنَّة وَيُبَاعِدنِي من النَّار. فَقَالَ الْقَوْم: مَاله، مَاله؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أرب مَاله ". [15] هَذِه اللَّفْظَة تروى على ثَلَاثَة أوجه: [15] أَحدهَا: أرب بِفَتْح الرَّاء، والأرب: الْحَاجة، وَمَا صلَة، وَالْمعْنَى: حَاجَة جَاءَت بِهِ. فَإِن قيل: فقد علم بسؤال الرجل أَن لَهُ حَاجَة، فَمَا فَائِدَة قَول الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام: لَهُ حَاجَة؟ فَالْجَوَاب: أَن الْمَعْنى: لَهُ حَاجَة مهمة مفيدة جَاءَت بِهِ. [15] وَالْوَجْه الثَّانِي: أرب بِكَسْر الرَّاء، وَالْبَاء منونة فِي الْوَجْهَيْنِ. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الأرب من الرِّجَال: ذُو الْعلم والخبرة، وَأنْشد:
(يلف طوائف الفرسان ... وَهُوَ بلفهم أرب)
أَي: ذُو علم وخبرة. [15] ثمَّ فِي معنى مَاله وَجْهَان: أَحدهمَا الْمَدْح، وهم يَقُولُونَ فِي الْمَدْح: مالفلان، وَيَا لفُلَان. وَيجوز أَن يكون قَول الصَّحَابَة: مَاله من هَذَا أَيْضا. وَالثَّانِي أَنه جَوَاب قَول الصَّحَابَة مَاله، فَيكون الْمَعْنى: أَي حَالَة تنكرون من عَاقل جَاءَ لنيل هَذِه الْفَائِدَة؟ [15] وَالْوَجْه الثَّالِث: أرب بِكَسْر الرَّاء وَفتح الْبَاء على مَذْهَب الْفِعْل(2/88)
الْمَاضِي، وَفِي مَعْنَاهُ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن الْمَعْنى: فطن لهَذَا الْأَمر، قَالَه النَّضر بن شُمَيْل. يُقَال: أرب الرجل فِي الْأَمر: إِذا فطن لَهُ وَبلغ فِيهِ جهده. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أربت بالشَّيْء: إِذا صرت فِيهِ ماهرا بَصيرًا، فَيكون الْمَعْنى على هَذَا التَّعَجُّب من حسن فطنته وتهديه إِلَى مَوضِع حَاجته. وَالثَّانِي: أَن أرب بِمَعْنى احْتَاجَ، وَالْمعْنَى: احْتَاجَ إِلَى السُّؤَال فَسَأَلَ فَلَا تنكروا عَلَيْهِ. وَالثَّالِث: أَنه دَعَا عَلَيْهِ بِأَن تصاب آرابه: أَي أعضاؤه، وَالْمعْنَى: اشتكت آرابه وَسَقَطت، وَلَكِن دُعَاء لَا يُرَاد وُقُوعه، وَإِنَّمَا هُوَ على عَادَة الْعَرَب، كَقَوْلِه: " تربت يداك " و " ثكلتك أمك " و " عقرى حلقى " ذكره ابْن قُتَيْبَة وَابْن الْأَنْبَارِي.
563 - / 678 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير عشر مرار كَانَ كمن أعتق أَرْبَعَة أنفس من ولد إِسْمَاعِيل ". [15] إِسْمَاعِيل اسْم أعجمي، وَفِيه لُغَتَانِ بِاللَّامِ وَالنُّون، قَالَ الراجز:
(قَالَ جواري الْحَيّ لما جينا ... هَذَا وَرب الْبَيْت إسماعينا)
[15] كَذَلِك قرأته على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ. وَإِنَّمَا خص إِسْمَاعِيل لِأَنَّهُ أَبُو الْعَرَب وَالْعرب أفضل من غَيرهم، وَعتق الْأَفْضَل أفضل.
564 - / 679 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: عَن عبد الله بن حنين: أَن ابْن(2/89)
عَبَّاس والمسور اخْتلفَا: هَل يغسل الْمحرم رَأسه؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: يغسل رَأسه، فأرسلني إِلَى أبي أَيُّوب، فَوَجَدته يغْتَسل بَين القرنين. [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: القرنان: قرنا الْبِئْر، وهما منارتان تبنيان من حِجَارَة أَو مدر على رَأس الْبِئْر من جانبيها ويلقى عَلَيْهَا الْخشب، وَإِن كَانَتَا من خشب فهما زرنوقان، قَالَ بعض الرجاز:
(تبين القرنين وَانْظُر مَا هما ... )
(أحجرا أم مدرا تراهما ... )
[15] وَاعْلَم أَن جُمْهُور الْعلمَاء على أَنه يجوز للْمحرمِ غسل رَأسه، وَقد كرهه مَالك بن أنس، وَقَالَ: لَا يغيب رَأسه فِي المَاء، وَوجه كراهيته للاغتسال أَنه يخَاف قطع شَيْء من الشّعْر، وَوجه كراهيته تغييب الرَّأْس فِي المَاء أَنه نوع من الاستنثار، والمأخوذ على الْمحرم كشف رَأسه. [15] وَقَوله: لَا أماريك. المراء: المجادلة على طَرِيق الشَّك.
565 - / 680 وَفِي أَفْرَاد البُخَارِيّ: " مَا بعث الله من نَبِي وَلَا كَانَ بعده من خَليفَة إِلَّا لَهُ بطانتان: بطانة تَأمره بِالْمَعْرُوفِ وتنهاه عَن الْمُنكر، وبطانة لَا تألوه خبالا ".(2/90)
[15] قَالَ الزّجاج: البطانة: الدخلاء الَّذين يستبطنون وينبسط إِلَيْهِم، يُقَال: فلَان بطانة لفُلَان: أَي مدَاخِل لَهُ مؤانس. [15] وَقَوله: " لَا تألوه " تألو بِمَعْنى تقصر. والخبال: الشَّرّ، وَالْمعْنَى: لَا تبقي تِلْكَ البطانة غَايَة فِي إلقائه فِي الشَّرّ، وَهَذَا لِأَن أهل الْخَيْر يدعونَ إِلَى مُرَادهم، وَأهل الشَّرّ يحثون على محبوبهم، والوالي مائل بِالْعقلِ وَالدّين إِلَى أهل الْخَيْر، وبالطبع إِلَى أهل الشَّرّ، إِلَّا أَن الْأَنْبِيَاء يعصمون بِطَهَارَة الْوَضع بِالنُّبُوَّةِ وَالْوَحي، وَغَيرهم يفْتَقر إِلَى قُوَّة مجاهدة، لِأَنَّهُ يتَّفق ميل الطَّبْع وحث من يحث على مَا مَال الطَّبْع إِلَيْهِ، فَمن وَفقه الله تَعَالَى لتأمل العواقب وإيثار التَّقْوَى أبعد أهل الشَّرّ، وَقد كَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز يَقُول لبَعض أَصْحَابه: إِذا رَأَيْتنِي قد ملت عَن الْحق فضع يدك فِي تلبابي هزني، ثمَّ قل: يَا عمر مَا تصنع؟
566 - / 681 - وَفِي الحَدِيث الأول (أَفْرَاد مُسلم: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أُتِي بِطَعَام أكل مِنْهُ وَبعث بفضله إِلَيّ. [15] اعْلَم أَنه لما قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة نزل بقباء على كُلْثُوم بن الْهدم ليَالِي، ثمَّ ركب نَاقَته فمشت بِهِ حَتَّى أَتَت بَاب أبي أَيُّوب فبركت عَلَيْهِ، فَنزل عَلَيْهِ. والسفل والعلو يُقَال بِكَسْر السِّين وَالْعين وضمهما. والسقيفة: السّقف.(2/91)
[15] وَإِنَّمَا كره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل الثوم من أجل رِيحه، وَكَانَ يكره أَن يُوجد مِنْهُ ريح كريهة. وَقد بَين فِي الحَدِيث أَنه كره ذَلِك لأجل الْملك، وَقد رُوِيَ أَن الْمَلَائِكَة تَجِد الرّيح وَلَا تَجِد الطّعْم.
567 - / 682 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " إِن الْأَنْصَار وَمُزَيْنَة وجهينة وغفار موَالِي دون النَّاس ". أَي: يتولونني وأتولاهم، وَهَذَا لإسلامهم ونصرتهم.
568 - / 683 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " لَوْلَا أَنكُمْ تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون فَيغْفر لَهُم ". [15] وَهَذَا لِأَن الذَّنب يُوجب الذل والخشية وَالْخَوْف وَصدق اللجأ، وَبِذَلِك يبين ذل الْعُبُودِيَّة وانفراد عز الربوبية. 569 / 684 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " من صَامَ رَمَضَان وَأتبعهُ سِتا من شَوَّال كَانَ كصيام الدَّهْر ". [15] قد ذكر الْعلمَاء فِي تَوْجِيه هَذَا الحَدِيث أَن السّنة ثَلَاثمِائَة وَسِتُّونَ يَوْمًا، والحسنة بِعشْرَة أَمْثَالهَا، فوقوع رَمَضَان فِي الْأَغْلَب ثَلَاثِينَ مَعَ سِتّ تفي بذلك. [15] وَقد قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وصحف هَذَا الحَدِيث أَبُو بكر الصولي فَقَالَ: " وَأتبعهُ شَيْئا من شَوَّال " وأملاه فِي الْجَامِع، وَالصَّوَاب: " سِتا ".(2/92)
[15] وَقد بَين هَذَا الحَدِيث اسْتِحْبَاب اتِّبَاع رَمَضَان بست من شَوَّال. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا يسْتَحبّ ذَلِك، وَيُشبه أَن يكون الحَدِيث مَا بلغهما، أَو مَا صَحَّ عِنْدهمَا.
570 - / 685 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: عَن أبي عبد الرَّحْمَن الحبلي عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " غدْوَة فِي سَبِيل الله أَو رَوْحَة خير مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس وغربت ". [15] وَأَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: الحبلي بِضَم الْبَاء، وَسمعت عبد الله ابْن أَحْمد النَّحْوِيّ يَقُول: إِمَّا أَن يُقَال بِإِسْكَان الْبَاء أَو بِفَتْحِهَا، نِسْبَة إِلَى الحبلة، فَأَما ضمهَا فَلَا وَجه لَهُ. وَقَالَ ابْن فَارس: الحبلة: ثَمَر العضاه. [15] فَأَما الغدوة فَمن الغدو: وَهُوَ من أول النَّهَار إِلَى انتصافه، فَأَي وَقت من هَذَا سعى فِيهِ الْإِنْسَان قيل: قد غَدا. والرواح من بعد الزَّوَال إِلَى آخر النَّهَار. وسبيل الله هَاهُنَا الْجِهَاد، وَالْمعْنَى أَن مَا يحصل للْإنْسَان من الثَّوَاب فِي غدوته أَو روحته فِي الْجِهَاد خير من كل مَا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَن الشَّمْس تطلع على الْكل وتغرب(2/93)
41 - كشف الْمُشكل من مُسْند أبي بردة هَانِئ بن نيار [
15 -] لم يفته مشْهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى عَنهُ خَمْسَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
571 - / 686 - وَهُوَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " لَا يجلد فَوق عشرَة أسواط إِلَّا فِي حد من حُدُود الله عز وَجل ". [15] اعْلَم أَن الضَّرْب على أضْرب: فَمِنْهُ ضرب على ترك أدب، كضرب الْوَلَد على تعلم الْقُرْآن والعربية وَالْعلم الزَّائِد على قدر الْوَاجِب، وَقد كَانَ ابْن عمر يضْرب وَلَده على اللّحن. وَضرب الْوَلَد على ترك الصَّلَاة إِذا بلغ تسع سِنِين، وعَلى ترك أَسبَاب المعاش، فَهَذَا تَأْدِيب يَنْبَغِي أَن يتلطف فِيهِ ويقتنع بِالسَّوْطِ الْوَاحِد والسوطين. وَمن الضَّرْب ضرب على مَا لَا يجوز: كضرب الْمَرْأَة على النُّشُوز، وَضرب الرجل على قبْلَة الْأَجْنَبِيَّة وَالْخلْوَة مَعهَا، وَشتم النَّاس، فَمثل هَذَا قد اخْتلفت الرِّوَايَة فِيهِ عَن أَحْمد، فَروِيَ عَنهُ أَنه يجلد عشرَة، وَعنهُ: يجلد تِسْعَة، وَعنهُ لَا يبلغ بِهِ أدنى الْحُدُود. وَمن الْجِنَايَات مَا يزِيد على هَذَا، كَوَطْء الْجَارِيَة المشركة، فَهَذَا يُزَاد فِيهِ على أدنى الْحُدُود وَلَا يبلغ(2/94)
بِهِ أَعْلَاهَا. وَقَالَ الْخرقِيّ: لَا يبلغ بالتعزير أدنى الْحُدُود فِي الْجُمْلَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ مَالك: يفعل الإِمَام فِي التَّعْزِير مَا يُؤَدِّيه إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَإِن زَاد على الْحَد.(2/95)
42 - كشف الْمُشكل من مُسْند زيد بن ثَابت [
15 -] كَانَ أحد كتاب الْوَحْي، وَقد كتب الْوَحْي اثْنَا عشر رجلا: أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَأبي بن كَعْب وَزيد وَمُعَاوِيَة وحَنْظَلَة بن الرّبيع وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ وَأَبَان بن سعيد والْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ، وَكتب رجل ثمَّ افْتتن وَتَنصر، غير أَن المداوم على كِتَابَة الْوَحْي زيد وَمُعَاوِيَة، وَزيد هُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ أَبُو بكر لجمع الْقُرْآن، وَأمره عُثْمَان أَن يكْتب الْمَصَاحِف، وَكَانَ أبي بن كَعْب يملي عَلَيْهِ. [15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْنَان وَتسْعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عشرَة.
572 - / 687 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " لَا تَبِيعُوا الثَّمر حَتَّى يَبْدُو صَلَاحه " [15] وَأما بَدو الصّلاح فَهُوَ أَن يَبْدُو النضج فِي الثَّمر ويطيب أكله، وبدو الصّلاح فِي بعض ثَمَرَة الشَّجَرَة صَلَاح لجميعها من غير خلاف فِي الْمَذْهَب. وَهل إِذا بدا الصّلاح فِي بعض الْجِنْس من ثَمَر الْبُسْتَان يجوز(2/96)
بيع ذَلِك الْجِنْس؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: يجوز، وَالثَّانيَِة: لَا يجوز إِلَّا بيع مَا قد بدا صَلَاحه. [15] وَإِنَّمَا اشْترط بَدو الصّلاح لثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا يعود إِلَى البَائِع، وَذَلِكَ من جِهَتَيْنِ: أحداهما أَن ثمن الثَّمَرَة فِي تِلْكَ الْحَال قَلِيل، فَإِذا تَركهَا حَتَّى تصلح زَاد ثمنهَا، وَفِي تعجله للقليل نوع تَضْييع لِلْمَالِ. وَالثَّانِي: لِئَلَّا يُوقع أَخَاهُ الْمُسلم فِي نوع غرر. وَالثَّانِي: يعود إِلَى المُشْتَرِي: وَهُوَ المخاطرة والتغرير بِمَالِه. وَالثَّالِث يرجع إِلَيْهِمَا: وَهُوَ خوف التشاحن وَالْإِثْم عِنْد فَسَاد الثَّمَرَة. وَهَذَا كُله إِذا اشْتَرَاهُ بِشَرْط التبقية، فَأَما إِذا اشْتَرَاهُ بِشَرْط قطعه فِي الْحَال جَازَ. وَقَوله: " وَلَا تَبِيعُوا الثَّمر بِالتَّمْرِ " هَذِه هِيَ الْمُزَابَنَة: وَهِي بيع الثَّمر فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ، إِلَّا أَنه رخص فِي الْعرية. قَالَ أَبُو عبيد: الْعرية وَاحِدَة الْعَرَايَا: وَهِي النَّخْلَة يعريها صَاحبهَا رجلا مُحْتَاجا، والإعراء: أَن يَجْعَل لَهُ ثَمَرَتهَا عَاما، فَرخص لرب المَال أَن يبْتَاع ثَمَر تِلْكَ النَّخْلَة المعراة بِتَمْر لموْضِع حَاجته - يَعْنِي حَاجَة الْمِسْكِين. قَالَ: وَقيل. بل هُوَ الرجل تكون لَهُ النَّخْلَة وسط نخل كثير لرجل آخر، فَيدْخل رب النَّخْلَة إِلَى نخلته، وَرُبمَا كَانَ مَعَ صَاحب النّخل الْكثير أَهله فِي النّخل فيؤذيه بِدُخُولِهِ، فَرخص لصَاحب النّخل الْكثير أَن يَشْتَرِي ثَمَر تِلْكَ النَّخْلَة من صَاحبهَا قبل أَن يجدهَا بِتَمْر لِئَلَّا يتَأَذَّى بِهِ. قَالَ: وَالتَّفْسِير الأول أَجود، لِأَن هَذَا لَيْسَ فِيهِ إعراء، إِنَّمَا هِيَ نَخْلَة يملكهَا رَبهَا، فَكيف تسمى عرية؟(2/97)
[15] فَأَما الْكَلَام فِي الحكم: ففائدة الحَدِيث جَوَاز بيع الْعَرَايَا: وَهُوَ بيع الرطب على رُؤُوس النّخل بخرصه تَمرا على الأَرْض، وَهل يجوز ذَلِك فِي سَائِر الثِّمَار الَّتِي لَهَا رطب ويابس؟ على وَجْهَيْن عَن أَصْحَابنَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز بيع الْعَرَايَا. وَعِنْدنَا أَنه يجوز بيع الْعَرَايَا مِمَّن وَهبهَا كَمَا يجوز من غَيره. وَقَالَ مَالك: لَا يجوز إِلَّا من الْوَاهِب، وَلَا يجوز بيع ذَلِك نَسِيئَة. وَقَالَ مَالك: يجوز وَلَا يجوز إِلَّا عِنْد الْحَاجة، وَهُوَ أَلا يكون للرجل مَا يَشْتَرِي بِهِ الرطب غير التَّمْر خلافًا للشَّافِعِيّ، وَلَا يجوز ذَلِك إِلَّا فِيمَا دون خَمْسَة أوسق. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي أحد قوليه: يجوز فِي خَمْسَة أوسق، فَأَما مَا زَاد فَهُوَ لَا يجوز، قولا وَاحِدًا.
573 - / 688 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: تسحرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قمنا إِلَى الصَّلَاة، وَكَانَ بَينهمَا قدر خمسين آيَة. [15] قد أَفَادَ هَذَا الحَدِيث فائدتين: إِحْدَاهمَا تَأْخِير السّحُور، وَهُوَ السّنة، وَالثَّانيَِة: التغليس بِالْفَجْرِ، وَهُوَ عندنَا أفضل إِذا حضر الْجِيرَان، فَإِن تَأَخَّرُوا كَانَ الْأَفْضَل التَّأْخِير. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الْأَفْضَل التَّأْخِير: وَقَالَ الشَّافِعِي: التَّقْدِيم الْأَفْضَل.
574 - / 689 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: لما خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى(2/98)
أحد رَجَعَ نَاس مِمَّن خرج مَعَه، وَكَانَ أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيهم فرْقَتَيْن: قَالَت فرقة: نقتلهم. وَقَالَت فرقة: لَا نقتلهم، فَنزلت: {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين} [النِّسَاء: 88] . [15] كَانَت غزَاة بدر قد أقرحت قُلُوب الْمُشْركين بِمن قتل من رؤوسهم، فتجهزوا لِلْخُرُوجِ إِلَى قتال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخذُوا مَعَهم النِّسَاء ليذكرنهم قَتْلَى بدر، فَيكون أجرأ لَهُم فِي الْقِتَال، فَلَمَّا رحلوا عَن مَكَّة وَبلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبرهم حرست الْمَدِينَة، وَبَات قوم على بَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحرسونه، وَكَانَ رَأْيه ورأي الأكابر من أَصْحَابه أَلا يخرج من الْمَدِينَة، فَطلب فتيَان أَحْدَاث لم يشْهدُوا بَدْرًا أَن يخرجُوا رَغْبَة فِي الشَّهَادَة، وغلبوا على الْأَمر، فَخرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فانخذل عبد الله بن أبي بعد أَن خرج مَعَه، وانخذل مَعَه ثَلَاثمِائَة. [15] وَقَوله: {فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين} وَالْمعْنَى: أَي شَيْء لكم فِي الِاخْتِلَاف فِي أَمرهم وَقد ظهر نفاقهم. والفئة: الْفرْقَة. [15] وَقَوله: " إِنَّهَا طيبَة " يَعْنِي الْمَدِينَة. وَقد سبق بَيَان هَذَا الِاسْم وَأَنه من الطّيب، وَقَوله: " تَنْفِي الرِّجَال " أَي من لَا يصلح لَهَا " كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد " أَي يخلص رديئه من جيده.
575 - / 690 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: قَرَأت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (والنجم) فَلم يسْجد فِيهَا. [15] لَا يخْتَلف مَذْهَبنَا أَن فِي (النَّجْم) سَجْدَة، غير أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم(2/99)
يسْجد لِأَن الْقَارئ عَلَيْهِ مَا سجد، وَإِنَّمَا يسن سُجُود المستمع إِذا سجد الْقَارئ.
576 - / 691 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: احتجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجيرة بخصفة أوحصير. [15] احتجر: بِمَعْنى اتخذ شبه الْحُجْرَة أحَاط عَلَيْهَا بخصفة: وَهِي مَا يعْمل من جلال التَّمْر أَو سعف الْمقل، وأصل الخصف الضَّم وَالْجمع، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة} [الْأَعْرَاف: 22] . [15] وَقَوله: " فتتبع إِلَيْهِ رجال " أَي تتبعوا أثر فعله وقصدوا التأسي بِهِ. [15] وحصبوا الْبَاب: أَي رَمَوْهُ بالحصباء: وَهِي الْحَصَا الصغار. [15] وَقَوله: " ظَنَنْت أَنه سيكتب عَلَيْكُم " أَي سيفرض عَلَيْكُم. [15] وَإِنَّمَا غضب شَفَقَة على أمته، وَذَلِكَ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: خوف أَن يفْرض عَلَيْهِم. وَالثَّانِي: أَن يحملوا طَاعَة لَا تجب ثمَّ يعجزون عَنْهَا فيتركونها، فَيَقَع الذَّم لَهُم كَمَا وَقع بالذين ابتدعوا الرهبانية ثمَّ مَا رعوها. [15] وَقَوله: " فَإِن أفضل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته " إِنَّمَا فضل إخفاء النَّوَافِل لِأَن الْإِخْلَاص فِي الْخلْوَة أصفى من جِهَة أَن الْعَمَل بَين النَّاس رُبمَا شيب بحب مدحه.
577 - / 692 وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] كَانَ النَّاس يبتاعون الثِّمَار، فَإِذا جذ النَّاس وَحضر تقاضيهم قَالَ(2/100)
الْمُبْتَاع: إِنَّه أصَاب الثَّمر الدمَان، أَصَابَهُ مراض، أَصَابَهُ قشام، عاهات يحتجون بهَا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما كثرت عِنْده الْخُصُومَة فِي ذَلِك: " إِمَّا لَا، فَلَا تتبايعوا حَتَّى يَبْدُو صَلَاح الثَّمر " كالمشورة يُشِير بهَا. [15] جذ النَّاس: قطعُوا الثِّمَار. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: والدمان أَن تَنْشَق النَّخْلَة أول مَا يَبْدُو قَلبهَا عَن عفن وَسَوَاد. والقشام: أَن ينتقص ثَمَر النّخل قبل أَن يصير بلحا. وَأما المراض فمضمومة الْمِيم: وَهُوَ اسْم لأنواع الْأَمْرَاض، وعَلى هَذَا تَجِيء أَسمَاء الْأَمْرَاض فِي الْغَالِب كالصداع والسعال. [15] وَقَوله: " إِمَّا لَا " قد سبق بَيَانه فِي مُسْند بُرَيْدَة. [15] وَقَوله: كالمشورة. الصَّوَاب فِي المشورة ضم الشين وتسكين الْوَاو، وَهِي من شرت الْعَسَل: إِذا استخرجته من بيُوت النَّحْل، وَالْمرَاد بِهَذِهِ المشورة أَلا يشتروا شَيْئا حَتَّى يتكامل صَلَاح جَمِيع الثَّمَرَة لِئَلَّا تجْرِي مُنَازعَة، وَقد تكلمنا فِي هَذَا فِي أول هَذَا الْمسند.
578 - / 693 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمره أَن يتعل(2/101)
كتاب الْيَهُود. وَفِي رِوَايَة فَلم يمر لي نصف شهر حَتَّى حذقته. وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنِّي وَالله مَا آمن الْيَهُود على كتابي ". [15] المُرَاد بِكِتَاب الْيَهُود العبرانية. [15] وحذقته: أحسنته، وَيُقَال: حذق الرجل فِي صَنعته: إِذا مهر فِيهَا. وَإِنَّمَا أمره أَن يتَعَلَّم هَذَا ليكتب إِلَيْهِم وليقرأ لَهُ كتبهمْ، وَإِذا لم يكن عِنْده من أَصْحَابه من يعرف العبرانية احْتَاجَ أَن يقْرَأ لَهُ الْيَهُود وَأَن يكتبوا لَهُ، وَهُوَ لَا يأمنهم.
579 - / 694 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ بطولي الطوليين. [15] بعض أَصْحَاب الحَدِيث يَرْوُونَهُ: بطول الطوليين، وَهُوَ غلط، وَإِنَّمَا هُوَ بطولى على وزن " فعلى " وَهُوَ تَأْنِيث الأطول، وَالْمعْنَى: بأطول السورتين. [15] وَقد رُوِيَ هَذَا من طَرِيق آخر عَن زيد مُفَسرًا: لقد رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ بأطول الطوليين " المص ". وَإِنَّمَا قيل الطوليين لِأَن " الْأَعْرَاف " أطول من أُخْتهَا " الْأَنْعَام ". وَقد حكى أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ أَن بعض الْمُحدثين يَقُول: بطول الطوليين، بِكَسْر الطَّاء وَفتح الْوَاو، والطول: الْحَبل، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعه.(2/102)
580 - / 695 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمْلى عَلَيْهِ: " لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله " فَجَاءَهُ ابْن أم مَكْتُوم وَهُوَ يملها فَقَالَ: وَالله لَو أَسْتَطِيع لَجَاهَدْت - وَكَانَ أعمى. فَأنْزل الله على رَسُوله وَفَخذه على فَخذي. فَثقلَتْ عَليّ خفت أَن ترض فَخذي، ثمَّ سري عَنهُ، فَأنْزل الله عز وَجل {غير أولي الضَّرَر} . [15] كَانَ ابْن أم مَكْتُوم مِمَّن أسلم بِمَكَّة وَهَاجَر، روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثَة أَحَادِيث، وَلم يخرج لَهَا مِنْهَا شَيْء فِي الصَّحِيح. وَاخْتلفُوا فِي اسْمه: فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: عَمْرو بن قيس بن زَائِدَة. وَقَالَ بَعضهم: عبد الله بن عَمْرو. وَاسم أمه عَاتِكَة، وَكَانَ لَا يعرف إِلَّا بِأُمِّهِ. [15] وَفِي الصَّحَابَة أَرْبَعَة عشر رجلا اشتهروا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أمهاتهم: بِلَال ابْن حمامة، وَاسم أَبِيه رَبَاح. معَاذ ومعوذ ابْنا عفراء، وَهِي أمهما، وَاسم أَبِيهِمَا الْحَارِث بن رِفَاعَة. مَالك بن نميلَة، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه ثَابت الْمُزنِيّ. شُرَحْبِيل بن حَسَنَة، وَهِي أمه وَأَبوهُ عبد الله بن المطاع. بشير بن الخصاصية، وَهِي أمه، وَيُقَال: هِيَ امْرَأَة من جداته، وَأَبوهُ معبد بن شرَاحِيل. عبد الله بن بُحَيْنَة، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه مَالك الْأَزْدِيّ. الْحَارِث بن البرصاء، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه مَالك بن قيس اللَّيْثِيّ. يعلى بن منية، ومنية أمه، وَقيل: جدته أم أَبِيه، وَاسم أَبِيه أُميَّة. يعلى بن سيابة، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه مرّة الثَّقَفِيّ.(2/103)
سعد بن حبتة، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه بجير بن مُعَاوِيَة، وَمن وَلَده أَبُو يُوسُف القَاضِي. بديل بن أم أَصْرَم، وَاسم أَبِيه سَلمَة الْخُزَاعِيّ، خفاف بن ندبة، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه عُمَيْر بن الْحَارِث. وَقد اشتهرمن كبار الْعلمَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى أمهاتهم خَمْسَة: إِسْمَاعِيل ابْن علية، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه إِبْرَاهِيم. مُحَمَّد بن عَثْمَة، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه خَالِد، وَهُوَ يروي عَن مَالك الْفَقِيه. مَنْصُور بن صَفِيَّة، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه عبد الرَّحْمَن بن طَلْحَة. مُحَمَّد بن عَائِشَة، وَهِي أمه، وَيُقَال جدة لَهُ، وَاسم أَبِيه حَفْص بن عمر. إِبْرَاهِيم هراسة، وَهِي أمه، وَاسم أَبِيه سَلمَة.(2/104)
(43) كشف الْمُشكل من مُسْند عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ [
15 -] وَجُمْلَة مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اثْنَان وَسِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
581 - / 697 - وَفِيه: " أخْشَى أَن تبسط الدُّنْيَا فتنافسوها ". [15] المنافسة فِي الشَّيْء: المشاحة عَلَيْهِ والتنازع فِيهِ. وَفِي هَذَا الحَدِيث تحذير من فتْنَة الدُّنْيَا، فَإِن من طلب مِنْهَا فَوق الْحَاجة لم يجد لمراده مردا، وَمن قنع بالبلاغ بلغ الْمنزل سليما من الشَّرّ، فَمَا الدُّنْيَا إِلَّا كَمَا قيل:
(إِن السَّلامَة من سلمى وجارتها ... أَلا تمر على حَال بواديها)(2/105)
(44) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي لبَابَة الْأنْصَارِيّ
[15] واسْمه رِفَاعَة بن عبد الْمُنْذر، وَقيل: ابْن الْمُنْذر. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
582 - / 689 - فأوله من حَدِيث ابْن عمر: " اقْتُلُوا الْحَيَّات واقتلوا ذَا الطفيتين والأبتر، فَإِنَّهُمَا يطمسان الْبَصَر ويستسقطان الْحَبل ". [15] قَالَ أَبُو عبيد: الطفية: خوصَة الْمقل، وَجَمعهَا طفي، قَالَ أَبُو ذُؤَيْب:
(عفاغير نؤي الدَّار مَا إِن تبينه ... وأقطاع طفي قد عفت فِي المعاقل)
[15] وَإِنَّمَا شبه الخطين اللَّذين على ظَهره بخوصتين من خوص الْمقل. [15] والأبتر: الْقصير الذَّنب، وروى النَّضر بن شُمَيْل عَن أبي خيرة أَنه قَالَ: الأبتر من الْحَيَّات أَزْرَق مَقْطُوع الذَّنب، يفر من كل أحد، لَا يرَاهُ أحد إِلَّا مَاتَ، وَلَا تنظر إِلَيْهِ حَامِل إِلَّا أَلْقَت مَا فِي بَطنهَا.(2/106)
[15] وَاعْلَم أَن الْحَيَّات أَنْوَاع: فَمِنْهَا مكللة الرَّأْس، طولهَا شبران إِلَى ثَلَاثَة، ورأسها حاد، وعيناها حمراوان، ولونها إِلَى سَواد وصفرة، تحرق كل مَا تنساب عَلَيْهِ، وَلَا يبيت حول حجرها شَيْء، وَإِذا حَاذَى مَسْكَنهَا طَائِر سقط، وَلَا يحس بهَا حَيَوَان إِلَّا هرب، فَإِذا قرب مِنْهَا خدر فَلم يَتَحَرَّك، وَتقتل بصفيرها، وَمن وَقع عَلَيْهِ بصرها مَاتَ، وَمن نهشته ذاب بدنه وانتفخ، وسال صديدا وَمَات فِي الْحَال، وَمَات كل من يقرب من ذَلِك الْمَيِّت من الْحَيَوَانَات، وَمن مَسهَا بعصا هلك بِوَاسِطَة الْعَصَا، وَقد مَسهَا مرّة فَارس برمحه فَمَاتَ الْفَارِس ودابته، ولسعت جحفلة فرس فَمَاتَ الْفرس والفارس، وَهَذَا الْجِنْس يكثر بِبِلَاد التّرْك. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَإِنَّمَا تقتل الْحَيَّة من بعد بِسم ينْفَصل من عينهَا فِي الْهَوَاء حَتَّى يُصِيب. وَكَذَلِكَ القاتلة بصوتها ينْفَصل من صَوتهَا سم فَيدْخل السّمع فَيقْتل. [15] وَأما الْجنان فَهِيَ الْحَيَّات. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِذا رَأَيْت فِي الْبَيْت حَيَّة لَيست بالأبتر وَلَا بِذِي الطفيتين فقتلتها، وَقد جَاءَ النَّهْي عَن قتل حيات الْبيُوت، أفآثم؟ فَالْجَوَاب: أَنه لَا يجوز قتل حيات الْبيُوت إِلَّا بعد الإيذان بِالْقَتْلِ مَا عدا الأبتر وَذَا الطفيتين، فَإِنَّهُمَا يقتلان من غير إيذان. وَقد دلّ على إيذان بَاقِي الْحَيَّات حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَسَيَأْتِي فِي مُسْنده إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَفِيه أَن الإيذان ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن بدا بعد ذَلِك قتل. فَأَما فِي الصَّحَارِي والأودية فَلَا بَأْس بِالْقَتْلِ من غير إيذان، لعُمُوم قَوْله:(2/107)
" خمس فواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم " فَذكر مِنْهُنَّ الْحَيَّة، وَقَالَ: " من تركهن مَخَافَة شرهن فَلَيْسَ منا ".(2/108)
(45) كشف الْمُشكل من مُسْند عتْبَان بن مَالك
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عشرَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
583 - / 699 - فِيهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل إِلَى بَيته، قَالَ: فحبسته على خريز يصنع لَهُ. [15] والخريز والخريزة: دَقِيق يخلط بشحم ويطبخ. [15] وَالدَّار: الْقَبِيلَة، والدور: الْقَبَائِل. [15] وَقَوله: فَثَابَ رجال: أَي جَاءُوا. [15] وَقَوله: مَا فعل مَالك؟ قد ذكر اسْم أَبِيه فِي الحَدِيث، وَأَنه مَالك ابْن الدخشن، أَو الدخيشن. وَقيل: ابْن الدخشم، وَالْمَشْهُور الدخشم بن مرضخة، وَهُوَ عَقبي بَدْرِي. [15] وَإِنَّمَا كرهت الصَّحَابَة مِنْهُ مجالسة الْمُنَافِقين ومودتهم. وَشَهَادَة الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله يَبْتَغِي بذلك وَجه الله، يَنْفِي عَنهُ هَذِه الظنة. [15] وَقَوله: أقفل من غزوتي: أَي أرجع. والقفول: الرُّجُوع من(2/109)
السّفر، وَمِنْه الْقَافِلَة. [15] فَإِن قيل: كَيفَ الْجمع بَين قَوْله: " إِن الله حرم على النَّار من قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله " وَبَين تَعْذِيب الْمُوَحِّدين؟ فَالْجَوَاب: أَنه ذكر فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي نَحن فِيهِ عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: نزلت بعد ذَلِك فَرَائض نرى أَن الْأَمر انْتهى إِلَيْهَا، وَهُوَ جَوَاب لَا يشفي، لِأَن الصَّلَوَات الْخمس فرضت بِمَكَّة قبل هَذِه الْقِصَّة بِمدَّة. وَظَاهر الحَدِيث أَن مُجَرّد القَوْل يدْفع عَذَاب النَّار وَلَو ترك الصَّلَاة، وَإِنَّمَا الْجَواب مَا ذكرنَا فِيمَا تقدم. وَقد ذكرنَا عَن هَذَا جوابين: أَحدهمَا: أَن من قَالَهَا مخلصا فَإِنَّهُ لَا يتْرك الْعلم بالفرائض، إِذْ إخلاص القَوْل حَامِل على أَدَاء اللَّازِم. وَالثَّانِي: أَنه يحرم على النَّار خلوده فِيهَا.(2/110)
(46) كشف الْمُشكل من مُسْند سهل بن حنيف [
15 -] وَلم يفته مشْهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَجُمْلَة مَا روى عَنهُ أَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة.
584 - / 700 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " لَا يَقُولَن أحدكُم خبثت نَفسِي، وَلَكِن ليقل لقست ". [15] خبثت ولقست ومقست بِمَعْنى وَاحِد، وَمَعْنَاهُ غثت وَهُوَ الَّذِي يُريدهُ الْقَائِل: خبثت، لَكِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كره اسْم الْخبث، وَاخْتَارَ لَفْظَة لَا تستبشع، فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكره الْأَلْفَاظ المستبشعة والدالة على الْمَكْرُوه، وَكم غير اسْم شخص لذَلِك الْمَعْنى، كَمَا غير اسْم عاصية بجميلة، وَكَانَ يكره لفظ الْخبث لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل فِي الْكفْر وَالشَّر.
585 - / 701 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: قَامَ سهل يَوْم صفّين فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس اتهموا أَنفسكُم. وَفِي لفظ: اتهموا رَأْيكُمْ. [15] يَعْنِي أَن الْإِنْسَان قد يرى رَأيا وَالصَّوَاب غَيره، كَمَا رأى عمر يَوْم الْحُدَيْبِيَة خلاف مَا رأى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ بَان لَهُ أَن مَا رَآهُ رَسُول الله(2/111)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّوَاب، فَالْمَعْنى: لَا تعملوا بآرائكم وتثبتوا. [15] فَأَما الصُّلْح فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قصد الْعمرَة ورده الْمُشْركُونَ واصطلح هُوَ وهم فِي غزَاة الْحُدَيْبِيَة على أَن يرجع عَنْهُم تِلْكَ السّنة وَيعود فِي الْعَام الْقَابِل، وَكَتَبُوا بَينهم كتابا، وَكَانَ فِيهِ: أَن من أَتَى مُحَمَّدًا مِنْهُم بِغَيْر إِذن وليه رده إِلَيْهِ، وَمن أَتَى قُريْشًا من أَصْحَاب مُحَمَّد لم يردوه، وَهَذَا الَّذِي أزعج عمر؛ لِأَنَّهُ رأى أَن فِي هَذَا نوع ذل، وَلِهَذَا قَالَ: فَفِيمَ نعطى الدنية؟ يَعْنِي النقيصة. وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعلم بِالْمَصْلَحَةِ. وَكَانَ الَّذِي تولى مصالحة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُشْركين سُهَيْل بن عَمْرو، فَخرج ابْنه أَبُو جندل من مَكَّة فِي قيوده، فجَاء إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ سُهَيْل: هَذَا أول مَا أقاضيك عَلَيْهِ، فَرده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ: " يَا أَبَا جندل، قد تمّ الصُّلْح بَيْننَا فاصبر حَتَّى يَجْعَل الله لَك فرجا ومخرجا " وَإِلَى هَذَا أَشَارَ سهل بن حنيف بقوله: لَو أَسْتَطِيع رد أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لرددته. [15] وَقد كَانَ لسهيل بن عَمْرو ولد يُقَال لَهُ عبد الله شهد بَدْرًا، وأخباره مَشْهُورَة، فَرُبمَا ظن بعض طلاب الحَدِيث أَنه أَبُو جندل، وَلَيْسَ كَذَلِك، ذَاك يكنى أَبَا سُهَيْل، وَأَبُو جندل لَا يعرف لَهُ اسْم، وأمهما فَاخِتَة بنت عَامر بن نَوْفَل بن عبد منَاف، وكلا الْوَلَدَيْنِ أسلم بِمَكَّة قَدِيما، وَأما عبد الله فَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَة ثمَّ قدم فأوثقه أَبوهُ وفتنه، فَلَمَّا ظن أَنه قد رَجَعَ عَن دينه خرج مَعَه بِهِ يَوْم بدر، فَلَمَّا الْتَقَوْا انحاز عبد الله إِلَى الْمُسلمين، فَشهد بَدْرًا مُسلما، وَقتل بِالْيَمَامَةِ شَهِيدا.(2/112)
وَأما أَبُو جندل فحبسه أَبوهُ فِي الْحَدِيد وَمنعه الْهِجْرَة، فَلَمَّا خرج يَوْم الْحُدَيْبِيَة رد إِلَى أَبِيه، فَقَالَ: يَا معشر الْمُسلمين، أرد إِلَى الْمُشْركين ليفتنوني عَن ديني؟ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يَا أَبَا جندل، لَا بُد من الْوَفَاء، فاصبر " وَإِنَّمَا رده ليتَحَقَّق الْوَفَاء بِالشّرطِ، وَلما رأى فِي ذَلِك من الْمصلحَة للْمُسلمين. ثمَّ إِنَّه إِنَّمَا سَلمَة إِلَى أَبِيه وَالْأَب لَا يقتل ابْنه، وَغَايَة مَا يصنع بِهِ أَنه يحملهُ على كلمة الْكفْر، وَهِي على وَجه التقية مُبَاحَة، ثمَّ إِن أَبَا جندل أفلت من أَيْديهم بعد ذَلِك وَجَاء إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يزل يَغْزُو مَعَه حَتَّى مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ خرج إِلَى الشَّام مُجَاهدًا. [15] ثمَّ إِن سُهَيْل بن عَمْرو بعث يَوْم الْفَتْح إِلَى ابْنه عبد الله: اطلب لي جوارا من مُحَمَّد. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " هُوَ آمن بِأَمَان الله فليظهر " ثمَّ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمن حوله: " من لَقِي سُهَيْل بن عَمْرو فَلَا يشد النّظر إِلَيْهِ. فلعمري، إِن سهيلا لَهُ عقل وَشرف، وَمَا مثل سُهَيْل من جهل الْإِسْلَام " فَخرج سُهَيْل مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى حنين وَهُوَ على شركه حَتَّى أسلم بالجعرانة، فَأعْطَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غَنَائِم حنين مائَة من الْإِبِل، وَلم يكن أحد من كبراء قُرَيْش الَّذين أَسْلمُوا يَوْم الْفَتْح أَكثر صَلَاة وَلَا صوما وَلَا صَدَقَة مِنْهُ، وَكَانَ رَقِيق الْقلب، كثير الْبكاء عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن. وَدخل معَاذ إِلَى مَكَّة فَجعل يخْتَلف إِلَى معَاذ يقْرَأ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رجل: تخْتَلف إِلَى هَذَا الخزرجي، أَلا اخْتلفت إِلَى رجل من قَوْمك، من قُرَيْش، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي صنع بِنَا مَا صنع حَتَّى سبقنَا كل السَّبق، لقد رفع الله بِالْإِسْلَامِ أَقْوَامًا لَا يذكرُونَ، فليتنا كُنَّا مَعَهم فتقدمنا، وَلَقَد شهِدت مَوَاطِن أَنا فِيهَا معاند للحق، وَأَنا وليت الْكتاب(2/113)
يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَلَقَد فر مني ابْني عبد الله ومولاي عُمَيْر، فصارا فِي حزب مُحَمَّد لما أرادهما الله بِهِ من الْخَيْر، ثمَّ قتل ابْني عبد الله شَهِيدا فعزاني بِهِ أَبُو بكر وَقَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن الشَّهِيد ليشفع لسَبْعين من أهل بَيته " فَأَنا أَرْجُو أَلا يبْدَأ ابْني بِأحد قبلي. قَالَ الزُّهْرِيّ: وَلم يزل سُهَيْل وَابْنه أَبُو جندل مجاهدين بِالشَّام حَتَّى مَاتَا. [15] وَقَوله: " إِنِّي رَسُول الله، وَلنْ يضيعني " الْمَعْنى أَنه يدبر لي حَالي ويحفظني فِي التَّدْبِير. [15] وَقَوله: فَنزل الْقُرْآن بِالْفَتْح. يَعْنِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا فتحنا لَك فتحا مُبينًا} وَهَذَا الْفَتْح عِنْد جُمْهُور الْمُفَسّرين هُوَ مَا جرى فِي الْحُدَيْبِيَة من نحر الْهَدْي، وَحلق الرُّءُوس، وَالصُّلْح. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: لم يكن فتح أعظم من صلح الْحُدَيْبِيَة، لِأَن الْمُشْركين اختلطوا بِالْمُسْلِمين، فَسَمِعُوا كَلَامهم فَتمكن الْإِسْلَام فِي قُلُوبهم، أسلم فِي ثَلَاث سِنِين مِنْهُم خلق كثير. [15] وَقَوله: مَا وَضعنَا سُيُوفنَا على عواتقنا. الْعَوَاتِق جمع عاتق. قَالَ الزّجاج: العاتق: صفحة الْعُنُق من مَوضِع الرِّدَاء من الْجَانِبَيْنِ. [15] وأفظع الْأَمر: اشْتَدَّ، وَهَذَا أَمر مفظع وفظيع. [15] وأسهلن بِنَا يَعْنِي السيوف، أَي حملتنا إِلَى الْمَكَان السهل، وَهُوَ ضد الْحزن. وَهَذَا ضرب مثلا يُرِيد بِهِ أَنا عرفنَا وَجه الصَّوَاب فِي قتالنا.(2/114)
وَإِنَّمَا بَان لَهُم الصَّوَاب لِأَن الْأَمر كَانَ مكشوفا فِي قتال الْكفَّار بِخِلَاف قتال المتأولين. [15] وَقَوله: مَا نسد مِنْهُ خصما. كثير من الْمُحدثين يَقُولُونَ نَشد بالشين الْمُعْجَمَة، وَهُوَ غلط، وَالصَّوَاب بِالسِّين الْمُهْملَة، لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَة الانفجار، وَكَذَلِكَ قَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ. والخصم: جَانب الْعَدو، وخصم كل شَيْء طرفه وجانبه. وَهَذَا كِنَايَة عَن انتشار الْأَمر وصعوبة تلافيه والتأتي للشَّيْء وَحسن تَدْبيره.
586 - / 702 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: عَن يسير بن عَمْرو قَالَ: قلت لسهيل بن حنيف: هَل سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي الْخَوَارِج شَيْئا؟ . [15] الْخَوَارِج: قوم يخرجُون على الْأَئِمَّة، وَأول مَا عرفُوا بِالْخرُوجِ على عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام وَقد ذكرنَا بعض أَحْوَالهم فِي مُسْنده. [15] وَقَوله: وأهوى بِيَدِهِ قبل الْعرَاق: أخبرنَا مُحَمَّد بن نَاصِر عَن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مَنْدَه عَن أبي الْحُسَيْن بن فَارس قَالَ: الْعرَاق مَا سفل من أَرض نجد مستطيلا فَسُمي بذلك تَشْبِيها لَهُ بعراق الْقرْبَة، وَهُوَ الخرز فِي أَسْفَلهَا. قَالَا: وَقَالَ قوم: سمي الْعرَاق من جمع عرقة: وَهِي الزبيل، يُقَال: عرقة وعراق، كَمَا يُقَال أكمة وإكام. والعرقة: السَّقِيفَة من الخوص قبل أَن يَجْعَل مِنْهَا زبيل، وَيُقَال: أعرق الرجل(2/115)
واستعرق أَتَى الْعرَاق. [15] والتراقي جمع ترقوة وللإنسان ترقوتان: وهما العظمان المشرفان فِي أَعلَى الصَّدْر. [15] وَقَوله: يتيه قوم. فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا يضلون فِي الدّين. الثَّانِي: يعْجبُونَ بأعمالهم. [15] وَقَوله: يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَام. قد فسرناه فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. [15] وَقَوله: محلقة رؤوسهم. هَذَا كَانَ من سِيمَاهُمْ، كَأَنَّهُمْ رَغِبُوا عَن الشّعْر، إِمَّا للزهد فِي الزِّينَة، أَو للتورع على زعمهم فِي الْغسْل، خوفًا أَن يمْنَع وُصُول المَاء. وَقد كَانُوا يدققون فِي الْوَرع ويكثرون تِلَاوَة الْقُرْآن، غير أَن الْعُقُول ضعفت حَتَّى حسن لَهُم الشَّيْطَان تخطئة أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. وأكبر محن الْجَاهِل اعْتِقَاده أَنه أعرف من الْعَالم. وَأما حلق الرَّأْس فَإِن أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا لَا يحلقون رؤوسهم إِلَّا فِي الْحَج وَالْعمْرَة، فَلَمَّا وَقع خلاف هَؤُلَاءِ الْقَوْم فِي العقائد وَقع فِي السيماء.
وَاخْتلف الْعلمَاء: هَل يكره حلق الرَّأْس؟ وَفِيه عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ.
587 - / 703 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرت بِهِ جَنَازَة فَقَامَ.(2/116)
قد بَينا نسخ ذَلِك فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.
588 - / 704 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " من سَأَلَ الله الشَّهَادَة فَصدق بلغه الله منَازِل الشُّهَدَاء وَإِن مَاتَ على فرَاشه ". [15] اعْلَم أَن النِّيَّة قطب الْعَمَل عَلَيْهَا يَدُور، وَقد يُفِيد مُجَرّد النِّيَّة من غير عمل، وَلَا يُفِيد عمل من غير نِيَّة. وَمن صدقت نِيَّته فِي طلب الشَّهَادَة فَكَأَنَّهُ استسلم للْقَتْل، فَلَا يضرّهُ بعد بدنه عَن الْجِهَاد لعذر مَعَ صدق نِيَّته، كَمَا قَالَ الله عز وَجل: {وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله} [النِّسَاء: 100] وَكَذَلِكَ من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا، وَكَذَلِكَ لَو نوى قيام اللَّيْل فغلبه النعاس كتب لَهُ ثَوَاب نِيَّته. وَمن هَذَا الْجِنْس: {يَا إِبْرَاهِيم. قد صدقت الرءيا} [الصافات: 104، 105] لِأَن الْخَلِيل اجْتهد فِي أَن يذبح بإمرار المدية، والذبيح استسلم، وَلم يبْق للْفِعْل مَانع سوى جَرَيَان الْقدر، فَكَانَا كَأَنَّمَا فعلا.
589 - / 705 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَهْوى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَة فَقَالَ: " إِنَّهَا حرم آمن ". [15] وَظَاهر الْخَبَر الْخَبَر وَمَعْنَاهُ الْأَمر، كَقَوْلِه تَعَالَى: (وَمن دخله كَانَ(2/117)
آمنا} [آل عمرَان: 97] وَالْمعْنَى: أمنوه. وَقد ذكرنَا حد حرم الْمَدِينَة فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام.(2/118)
(47) كشف الْمُشكل من مُسْند قيس [بن سعدٍ بن عبَادَة [
15 -] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
590 - / 706 - فَالْأول: قد تقدم فِي مُسْند سهل بن حنيف.
591 - / 707 - وَالثَّانِي: إِنَّمَا أخرج مِنْهُ البُخَارِيّ طرفا: أَن قيس بن سعد - وَكَانَ صَاحب لِوَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَرَادَ الْحَج فَرجل. [15] هَذَا قدر مَا أخرج. وَالْمعْنَى: رجل رَأسه: أَي سرحه، وَكَانَ قد سرح شقّ رَأسه فَقَامَ غُلَام فقلد هَدْيه، فَلَمَّا رَآهُ قد قَلّدهُ أهل بِالْحَجِّ وَلم يرجل شقّ رَأسه الآخر، لِئَلَّا يكون مُسْتَعْملا للرفاهية. وَالْمرَاد من الْمحرم الشعث، وَإِن كَانَ فعل عَبده لَا يكسبه فعلا، لكنه يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون أمره بالتقليد. وَالثَّانِي: سلوك طَرِيق الْوَرع.(2/119)
(48) كشف الْمُشكل من مُسْند أسيد بن الْحضير [
15 -] شهد الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سوى بدر، فَإِنَّهُ تخلف لِأَنَّهُ مَا ظن وُقُوع قتال، وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
592 - / 708 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " إِنَّكُم سَتَلْقَوْنَ بعدِي أَثَرَة " [15] وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود، وَأَن الأثرة استئثار الْوُلَاة، إِمَّا بِفضل من الْقِسْمَة، أَو بِالْجُمْلَةِ.
593 - / 709 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: عَن أسيد، بَيْنَمَا هُوَ يقْرَأ من اللَّيْل رفع رَأسه، فَإِذا مثل الظلة. الظلة هَاهُنَا السَّحَاب، وكل شَيْء أظلك فَهُوَ ظلة. وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأسيد لما أخبرهُ: " اقْرَأ يَا ابْن حضير " مَعْنَاهُ: كَانَ يَنْبَغِي أَن تقْرَأ. أَو أَظن أَنَّك قَرَأت وَلم تسكت لأجل ذَلِك.(2/120)
(49) كشف الْمُشكل من مُسْند كَعْب بن مَالك [
15 -] شهد الْمشَاهد كلهَا سوى بدر، لأَنهم مَا ظنُّوا وُقُوع الْقِتَال، وَهُوَ أحد الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانُون حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة أَحَادِيث.
594 - / 710 - فَمن الْمُشكل فِي حَدِيث الأول: أَنه تقاضى ابْن أبي حَدْرَد دينا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد، فارتفعت أصواتهما، فكشف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجف حجرته وَقَالَ: " يَا كَعْب ضع من دينك هَذَا " وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ: الشّطْر، قَالَ: قد فعلت، قَالَ: " قُم فاقضه " [15] اسْم أبي حَدْرَد عبد الله، ويكنى أَبَا مُحَمَّد، وَفِي اسْم أَبِيه ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا عبد الله، وَالثَّانِي أسيد، وَالثَّالِث: سَلامَة. [15] والسجف: السّتْر [15] وَالَّذِي أمره بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على سَبِيل المشورة، وَهَذَا يدل على أَن للْحَاكِم أَن يُرَاوِد الْخَصْمَيْنِ على الصُّلْح إِذا رأى وَجه(2/121)
الْمصلحَة، كَمَا يفصل الحكم بَينهمَا.
595 - / 711 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " مثل الْمُؤمنِينَ مثل الخامة من الزَّرْع تفيئها الرّيح ". [15] قَالَ أَبُو عبيد: الخامة: الغضة الرّطبَة، وَأنْشد:
(إِنَّمَا نَحن مثل خامة زرع ... فَمَتَى يَأن يَأْتِ محتصده)
[15] وَقَوله: " تفيئها " أَي تميلها. [15] وَقَوله: " تصرعها " أَي تلقيها. و " تعدلها ": تقيمها. [15] وتهيج: تيبس، يُقَال: هاج النَّبَات: إِذا يبس، وهاج: إِذا أصفر أَيْضا. [15] والأرزة وَاحِدَة الْأرز، قَالَ أَبُو عبيد: وَهِي شَجَرَة الصنوبر، والصنوبر ثَمَر الْأرز، يُسمى الشّجر صنوبرا. [15] والمجذية: الثَّابِتَة، يُقَال: أجذت تجذي، وجذت تجذو. [15] وانجعافها: انقلاعها. [15] فَشبه الْمُؤمن بالخامة من الزَّرْع الَّتِي تميلها الرّيح، لِأَنَّهُ مرزأ فِي نَفسه وَأَهله وَمَاله، وَشبه الْمُنَافِق بالأرزة الَّتِي لَا تميلها الرّيح، لِأَنَّهُ لَا يرزأ شَيْئا حَتَّى يَمُوت، وَإِن رزئ لم يُؤجر عَلَيْهِ.(2/122)
[15] وَقَالَ أَبُو عَمْرو: هِيَ الأرزة من الشّجر الْأرز، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: هِيَ الآرزة على مِثَال فاعلة، وَهِي الثَّابِتَة فِي الأَرْض، يُقَال: أرزت تأرز، وأرزت تأرز.
596 - / 712 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: فِي تَوْبَة كَعْب: إِنَّمَا خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمسلمون فِي بدر يُرِيدُونَ عير قُرَيْش. [15] قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: العير: الْإِبِل المرحولة المركوبة. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: العير: الْقَوْم على الْإِبِل. وَقَالَ الْفراء: لَا يُقَال عير إِلَّا لأَصْحَاب الْإِبِل. [15] قَوْله: وَلَقَد شهِدت لَيْلَة الْعقبَة. لما أرسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استخفى بأَمْره ثَلَاث سِنِين، ثمَّ نزل عَلَيْهِ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} [الْحجر: 94] فَكَانَ يعرض نَفسه فِي كل موسم على الْقَبَائِل وَيَقُول: " أَلا رجل يحملني إِلَى قومه، فَإِن قُريْشًا قد مَنَعُونِي أَن أبلغ كَلَام رَبِّي " فلقي فِي بعض السنين رهطا من الْخَزْرَج، فَدَعَاهُمْ إِلَى الله تَعَالَى وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام، فَأَجَابُوهُ، وَكَانُوا سِتَّة: أسعد بن زُرَارَة، وعَوْف بن عفراء، وَرَافِع بن مَالك، وَقُطْبَة بن عَامر بن حَدِيدَة، وَعقبَة بن عَامر بن نابي، وَجَابِر بن عبد الله، فَلَمَّا انصرفوا إِلَى قَومهمْ أخبروهم، فَفَشَا(2/123)
الْإِسْلَام فيهم، فَلَمَّا جَاءَ الْمَوْسِم حَضَره اثْنَا عشر رجلا من الْأَنْصَار فيهم من أُولَئِكَ السِّتَّة خَمْسَة، فَإِنَّهُ مَا تخلف مِنْهُم إِلَّا جَابر، فَلَقوهُ بِالْعقبَةِ فَبَايعُوهُ، وَهِي الْعقبَة الأولى، فَلَمَّا انصرفوا بعث مَعَهم مُصعب ابْن عُمَيْر يفقه أهل الْمَدِينَة ويقرئهم الْقُرْآن، وَخرج إِلَيْهِ فِي الْمَوْسِم الثَّالِث مِنْهُم سَبْعُونَ رجلا وَامْرَأَتَانِ، فَوَعَدَهُمْ فِي اللَّيْل عِنْد الْعقبَة، وَخرج وَمَعَهُ عَمه الْعَبَّاس، وَوَقعت الْبيعَة، وَعلمت قُرَيْش، فَلَمَّا اجْتمع رَأْيهمْ على الفتك بِهِ أَمر بِالْخرُوجِ إِلَى الْغَار. [15] وَإِنَّمَا قَالَ كَعْب بن مَالك: مَا أحب أَن لي بِالْعقبَةِ مشْهد بدر، لِأَنَّهُ رأى بيعَة الْعقبَة كالأساس لِلْإِسْلَامِ. [15] وَقَوله: أيسر مني: أَي أغْنى. [15] وَقَوله: لم يكن يُرِيد غزَاة إِلَى ورى بغَيْرهَا: أَي أوهم قصد سواهَا، والتورية فِي الشَّيْء: أَن يستر الَّذِي يُريدهُ وَيظْهر غَيره، أخذت من: وَرَاء الشَّيْء، كَأَنَّك تركت الشَّيْء الَّذِي يليك وتجاوزته إِلَى مَا وَرَاءه، أَو كَأَنَّك ألقيت التَّبْيِين وَرَاء ظهرك. وَهَذَا من حزم الرَّأْي لِئَلَّا يبلغ الْخَبَر الْعَدو فيستعد. [15] وَقَوله: واستقبل مفازا: المفاز والمفازة اسْم للقفز، وَسميت مفازة للتفاؤل بالفوز، كَمَا يُسمى اللديغ سليما. وَيُقَال: هُوَ من فوز: إِذا مَاتَ، وَالْمعْنَى: إِن الْمَوْت يخَاف فِيهَا. [15] وَقَوله فجلا للنَّاس أَمرهم: أَي كشفه وَأخْبرهمْ توجههم: أَي بجهتهم الَّتِي يستقبلونها ومقصدهم الَّذِي يقصدونه. [15] لَا يجمعهُمْ كتاب حَافظ. يُرِيد الدِّيوَان. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور(2/124)
اللّغَوِيّ قَالَ: الدِّيوَان بِالْكَسْرِ، وَالْجمع دواوين، قَالَ الْأَصْمَعِي: أَصله فَارسي، والديو هُوَ الشَّيْطَان، فَأَرَادَ أَنهم كتاب يشبهون الشَّيَاطِين فِي نفاذهم. [15] وَقَوله: وَأَنا إِلَيْهَا أصعر: أَي أميل، والصعر: الْميل. [15] وطفقت: ابتدأت فِي الْفِعْل. [15] وَقَوله: حَتَّى اسْتمرّ بِالنَّاسِ الْجد: أَي تتَابع بهم الِاجْتِهَاد فِي السّير وَالْمُبَالغَة فِيهِ. [15] وتفارط الْغَزْو: أَي تقدم وتباعد. وَرُبمَا قَرَأَهُ من لَا معرفَة لَهُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ: وتفارط الْعَدو بِالدَّال. [15] وَقَوله: يحزنني. فِي يحزن لُغَتَانِ: فتح الْيَاء وَضمّهَا، يُقَال: حزنني وأحزنني، وَأمر محزن وحازن. [15] والأسوة: الْقدْوَة.: والمغموص عَلَيْهِ: الْمَعِيب الْمشَار إِلَيْهِ بذلك. [15] وَقَوله: وَالنَّظَر فِي عطفه: الْعَطف: الْجَانِب، وَالْمعْنَى مَشْغُول بلذاته وعجبه فِي نَفسه عَن الْجِهَاد. [15] وَأما رد معَاذ على من اغتاب كَعْبًا فَفِيهِ تَنْبِيه على الرَّد على كل من يغتاب الْمُسلمين. [15] وَقَوله: رأى رجلا مبيضا: أَي عَلَيْهِ ثِيَاب بيض. [15] والسراب: هُوَ الَّذِي ترَاهُ نصف النَّهَار كَأَنَّهُ مَاء. واللمز: الْعَيْب.(2/125)
[15] وَفِي اسْم أبي خَيْثَمَة ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا عبد الرَّحْمَن بن بيحان، وَيُقَال: بيجان وَيُقَال سيجان. وَالثَّانِي: الْحجاب، وَالثَّالِث: الْحباب. [15] قَوْله: قَافِلًا: أَي رَاجعا. [15] والبث: أَشد الْحزن، سمي بذلك لِأَن صَاحبه لَا يصبر حَتَّى يبثه. وأظل قادما: قرب، تَقول: أظلني الشَّيْء: إِذا دنا مِنْك، وَقد سَمِعت من يصحف هَذَا وَيَقُول: أطل بِالطَّاءِ الْمُهْملَة. وَقَوله: زاح عني الْبَاطِل: أَي ذهب عني مَا كنت أَزورهُ فِي نَفسِي من الْعذر الْبَاطِل، فأجمعت صدقه: أَي أحكمت هَذَا وعزمت عَلَيْهِ. قَالَ المؤرج: أَجمعت الْأَمر، أفْصح من: أَجمعت عَلَيْهِ، وَأنْشد:
(يَا لَيْت شعري والمنى لَا تَنْفَع ... )
(هَل أغدون يَوْمًا وأمري مجمع ... ) [15] وَأما بداية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَسْجِدِ إِذا قدم من سَفَره فَمن أحسن الْأَدَب، فَإِن الْأَدَب فِي تحايا الْمُلُوك تَقْدِيم الأهم على غَيره، فَبَدَأَ بِخِدْمَة الله عز وَجل وشكره على السَّلامَة. [15] والمخلفون: المتخلفون عَن الْغَزْوَة.(2/126)
[15] وَقَوله: ووكل سرائرهم إِلَى الله. الْمَعْنى أَنه قبل عذرهمْ الظَّاهِر، وَترك علم الْبَاطِن إِلَى الْمُنْفَرد بِالْغَيْبِ ليجازيهم عَلَيْهِ. [15] " ألم تكن ابتعت ظهرك؟ " أَي مَا تركب عَلَيْهِ. [15] والجدل: الْمعرفَة بِإِقَامَة الْحجَج ورد كَلَام الْخصم. [15] وَقَوله: ليوشكن: أَي ليسرعن. قَالَ ثَعْلَب: أوشك يُوشك لَا غير. [15] قَالَ ابْن السّكيت: يُقَال: عجبت من سرعَة ذَلِك الْأَمر وسرعه وَمن وَشك ذَلِك ووشكه ووشكانه ووشكانه ووشكانه. [15] وَقَوله: أَرْجُو فِيهِ عُقبى الله: أَي مَا يعقبني بصدقي من الْعَفو. وَهَذَا رجل صَادِق الْإِيمَان كَامِل الْعقل، علم أَنه لَا ينْتَفع بِالْكَذِبِ عِنْد من يطلع على الْغَيْب. [15] وَقَوله: يؤنبونني من التأنيب: اللوم والتوبيخ، يُقَال: أنبه يؤنبه تأنيبا. [15] وَقَوله: فَذكرُوا لي رجلَيْنِ شَهدا بَدْرًا. هَذَا مِمَّا قرأته على الْمَشَايِخ سِنِين، وَمَا نبهني عَلَيْهِ أحد، وَلَا رَأَيْت من نظر فِيهِ مَعَ تتبع بَعضهم أغلاط بعض، فَلَمَّا جمعت أَسمَاء أهل بدر، وَذكرت من اتّفق على حُضُوره وَمن اخْتلف فِيهِ لم أر لهذين الرجلَيْن ذكرا، فَمَا زلت أبحث وأسأل فَلَا يدلني أحد على محجة، وَإِذا الحَدِيث مخرجا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَفِي المسانيد، وَلَا يُنَبه أحد عَلَيْهِ، وَلَا أَدْرِي مَا وَجهه، إِلَى أَن رَأَيْت فِي كتاب " نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه " لأبي بكر الْأَثْرَم،(2/127)
وَقَالَ فِيهِ: كَانَ الزُّهْرِيّ أوحد أهل زَمَانه فِي حفظ الحَدِيث، وَلم يحفظ عَلَيْهِ من الْوَهم إِلَّا الْيَسِير، من ذَلِك قَوْله فِي هذَيْن الرجلَيْن: شهد بَدْرًا. [15] وَأما تَخْصِيص هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة بنهي النَّاس عَن كَلَامهم فَإِنَّهُ دَلِيل على صدق إِيمَانهم، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا من الْمُنَافِقين الَّذين قنع مِنْهُم بالعذر، وَهَذَا كَمَا يُقَال: عَاتب صديقك ودع عَدوك. [15] وَقَوله: وَأما صَاحِبَايَ فاستكانا: أَي ضعفا وذلا من الْحزن. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي " مُسْنده " فَقَالَ: فاستكنا: أَي مَرضا. [15] وَقَوله: وَكنت أَطُوف فِي الْأَسْوَاق فَلَا يكلمني أحد. وَذَاكَ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى النَّاس عَن كَلَامهم عُقُوبَة لَهُم على تخلفهم. [15] وَقَوله: تسورت جِدَار حَائِط أبي قَتَادَة: أَي نزلت من سور الْجِدَار. والجدار: الْحَائِط، والحائط هَاهُنَا: الْبُسْتَان. [15] قَالَ الزّجاج: وَسمي النبط نبطا لاستنباطهم مَا يخرج من الأَرْض. [15] وَقَوله: ضَاقَتْ عَليّ نَفسِي. ضيق النَّفس: غمها بانحصارها عَن الانبساط الَّذِي ألفته، وَكَانَ حزنه على فعل الْمُوجب لذَلِك. [15] وَأما ضيق الأَرْض عَلَيْهِ فلمنع النَّاس من مكالمته ومعاملته، وَأمره(2/128)
[15] باعتزال زَوجته. فضاقت عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ: أَي ضَاقَتْ مَعَ سعتها. وَسُئِلَ بعض القدماء عَن التَّوْبَة النصوح، فَقَالَ: أَن تضيق على التائب أرضه وَنَفسه كَمَا ضَاقَتْ على كَعْب وصاحبيه. وَهَذَا لِأَن المذنب إِذا لاحظ آثَار الطَّرْد، وَخَافَ وُقُوع الْعقُوبَة، وَنَدم على مَا فَاتَ، ضَاقَتْ عَلَيْهِ النَّفس وَالْأَرْض، فَقبلت تَوْبَته لصدق حزنه وندمه. [15] وَقَوله: أوفى على سلع: أَي صعد على ذَلِك الْجَبَل. [15] وَقَوله: أتأمم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي أقصده. [15] وَقَوله: إِن من تَوْبَتِي أَن انخلع من مَالِي. هَذَا نظر بِعَين الْعقل أثمر قطع الْقَاطِع، لِأَنَّهُ لَوْلَا مَاله مَا قعد، فَلَمَّا صدقت تَوْبَته رأى أَن من عَلامَة ندمه قطع الْقَاطِع، فَلم يمنعهُ الرَّسُول من ذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ: " أمسك بعض مَالك فَهُوَ خير لَك ". لعلمه أَن الْقَاطِع إِنَّمَا هُوَ الْفَاضِل عَن الْحَاجة. [15] وَقَوله: أبلاه الله: أَي أنعم عَلَيْهِ. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يُقَال من الْخَيْر: أبليته، وَمن الشَّرّ: بلاه الله. [15] والرجس: المستقذر من كل شَيْء. [15] وَقَوله: " يحطمكم النَّاس " أصل الحطم الْكسر، فاستعير هَاهُنَا لِكَثْرَة النَّاس وازدحامهم على أهل الْبَيْت.(2/129)
597 - / 713 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ: [15] عَن كَعْب: أَنهم كَانَت لَهُم غنم ترعى بسلع، فَأَبْصَرت جَارِيَة لَهُم بِشَاة لَهُم موتا، فَكسرت حجرا فذبحتها بِهِ، فَسَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأمره بأكلها. [15] فِي هَذَا الحَدِيث من الْفِقْه أَن ذَبِيحَة النِّسَاء حَلَال، والحرة الْأمة فِي ذَلِك سَوَاء. وَفِيه جوَار الذّبْح بِالْحجرِ الَّذِي لَهُ حد. والْحَدِيث مَحْمُول على أَن هَذِه الذَّبِيحَة كَانَت بهَا حَيَاة مُسْتَقِرَّة فذبحتها، وَلَوْلَا ذَلِك مَا حلت.
598 - / 714 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: [15] أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْكُل بِثَلَاث أَصَابِع، فَإِذا فرغ لعقها. [15] الْأكل بإصبع وَاحِد لَا يتم بِهِ التَّنَاوُل، وَلَا بِاثْنَيْنِ، وَالْأكل بِأَرْبَع أَو خمس يرفع فَوق مَا يطيقه الْفَم، وَيدل على الشره، وَالْعدْل الْأكل بِثَلَاث. [15] وَفِي لعق الْأَصَابِع ثَلَاثَة معَان: أَحدهَا أَنه رُبمَا كَانَت الْبركَة فِي ذَلِك الْقدر الْبَاقِي على الْيَد وَسَيَأْتِي هَذَا فِي مُسْند جَابر. وَالثَّانِي: أَنه دفع للكبر. وَالثَّالِث: أَنه منع التبذير والتفريط فِيمَا خلق قواما للآدمي. وَقد كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَى مص النواة لشدَّة فَقرهمْ.(2/130)
599 - / 715 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَعثه وَأَوْس بن الْحدثَان أَيَّام التَّشْرِيق فناديا: إِنَّه لَا يدْخل الْجنَّة إِلَّا مُؤمن، وَأَيَّام منى أَيَّام أكل وَشرب. [15] فَأَما أَيَّام التَّشْرِيق فَهِيَ أَيَّام منى، وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام بعد عيد الْأَضْحَى. وَفِي تَسْمِيَتهَا بأيام التَّشْرِيق قَولَانِ ذكرهمَا ثَعْلَب، أَحدهمَا: لِأَن الذّبْح فِيهَا بعد شروق الشَّمْس. وَالثَّانِي: لأَنهم كَانُوا يشرقون فِيهَا اللَّحْم من لُحُوم الْأَضَاحِي، وَهَذَا أصح. وَهِي أَيَّام منى لإقامتهم فِيهَا، وَسميت منى من قَوْلهم: منى الشَّيْء وَقدر كَأَنَّهُ فِيهَا النَّحْر. [15] وَقَوله: أَيَّام أكل وَشرب. أَي لَا يجوز فِيهَا الصَّوْم، وَذَلِكَ لِأَن الْقَوْم كالضيف، والضيف لَا يَصُوم عِنْد مضيفه. وَاتفقَ الْعلمَاء على أَنه لَا يجوز أَن يتَطَوَّع بصومها، فَأَما من صامها عَن فرض فَيجوز عندنَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى لَا يجوز، وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي. وَقَالَ مَالك: لَا يَصح فِيهَا إِلَّا صَوْم الْمُتَمَتّع هُوَ القَوْل الثَّانِي للشَّافِعِيّ. [15] فَإِن قيل: مَا الْمُنَاسبَة بَين ذكر الْإِيمَان وَذكر الْأكل وَالشرب؟ فَالْجَوَاب: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَدَأَ بالأهم من ذكر الْإِيمَان، وَفِيه معنى يمس الْحَج، وَهُوَ أَن الْكفَّار قد كَانُوا يحجون، فَأخْبر أَن التَّعَبُّد إِنَّمَا ينفع الْمُؤمنِينَ دون غَيرهم.(2/131)
(50) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي أسيد مَالك بن ربيعَة السَّاعِدِيّ [
15 -] شهد الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وروى عَنهُ ثَمَانِيَة وَعشْرين حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
600 - / 716 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " خير دور الْأَنْصَار بَنو النجار، ثمَّ بَنو عبد الْأَشْهَل، ثمَّ بَنو الْحَارِث بن الْخَزْرَج، ثمَّ بَنو سَاعِدَة " وَفِي رِوَايَة: لَو كنت كَاذِبًا لبدأت بقومي وَفِي لفظ: عشيرتي. [15] والدور هَاهُنَا الْقَبَائِل. وَالْقَوْم: الرِّجَال دون النِّسَاء، وَسموا قوما لأَنهم يقومُونَ بالأمور. وَالْعشيرَة: الْأَقَارِب الأدنون.
601 - / 717 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين صففنا لقريش: " إِذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا النبل ". [15] صففنا من الصَّفّ، وَقد جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات: حَيْثُ استففنا لقريش، وَمَعْنَاهُ الْقرب مِنْهُم والتدلي عَلَيْهِم، كَأَن مكانهم كَانَ أهبط(2/132)
من مَكَان الصَّحَابَة، وَمِنْه قَوْلهم: أَسف الطَّائِر فِي طيرانه: إِذا انحط إِلَى تقَارب الأَرْض. [15] وَقَوله: " اكثبوكم " الكثب: الْقرب، وَالْمعْنَى: إِذا قربوا مِنْكُم وغشوكم فارموهم ليتباعدوا. [15] وَمعنى " واستبقوا نبلكم " لَا ترموهم إِذا بعدوا، فَإِنَّهُ يضيع النبل.
602 - / 718 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: خرجنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى انطلقنا إِلَى حَائِط، وَقد أَتَى بالجونية، فَلَمَّا دخل عَلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " هبي نَفسك لي " قَالَت: وَهل تهب الملكة نَفسهَا لسوقة. [15] الْحَائِط المُرَاد بِهِ الْبُسْتَان. [15] وَقد اخْتلفُوا فِي اسْم الْجَوْنِية، فَفِي هَذَا الحَدِيث أُمَيْمَة بنت شرَاحِيل، وَقيل: أَسمَاء بنت النُّعْمَان بن أبي الجون. [15] والسوقة: من لَيْسَ بِملك. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: يذهب عوام النَّاس إِلَى أَن السوقة أهل السُّوق، وَذَلِكَ خطأ، إِنَّمَا السوقة عِنْد الْعَرَب من لَيْسَ بِملك، تَاجِرًا كَانَ أَو غير تَاجر، بِمَنْزِلَة الرّعية الَّتِي تسوسها الْمُلُوك، وَسموا سوقة لِأَن الْملك يسوقهم فينساقون لَهُ، ويصرفهم على مُرَاده، يُقَال للْوَاحِد سوقة، وللاثنين سوقة، وَرُبمَا جمع سوقا، قَالَ زُهَيْر:
(أحار لَا أرمين مِنْكُم بداهية ... لم يلقها سوقة قبلي وَلَا ملك)(2/133)
وَقَالَت حرقة بنت النُّعْمَان:
(بَينا نسوس النَّاس وَالْأَمر أمرنَا ... إِذا نَحن فيهم سوقة نتنصف)
[15] فَأَما أهل السُّوق فالواحد مِنْهُم سوقي، وَالْجَمَاعَة سوقيون. [15] وَقَوْلها: أعوذ بِاللَّه مِنْك: أَي ألجأ إِلَيْهِ وألوذ بِهِ. وَقَوله: " لقد عذت بمعاذ " أَي: بِمَا يستعاذ بِهِ. [15] وَقَوله: " اكسها رازقيين " الرازقية: ثِيَاب من كتَّان. [15] وَهَذِه الْجَوْنِية من جملَة من تزوجهن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يدْخل بهَا، وَكَذَلِكَ الْكلابِيَّة، وَاخْتلفُوا فِي اسْمهَا، فَقيل: فَاطِمَة بنت الضَّحَّاك، وَقيل عمْرَة بنت يزِيد، وَقيل: الْعَالِيَة بنت ظبْيَان، وَقيل سبأ بنت سُفْيَان، وَيُقَال: هَذِه الْأَسْمَاء المسميات كُلهنَّ عقد عَلَيْهِنَّ. ومنهن قتيلة أُخْت الْأَشْعَث بن قيس، زوجه إِيَّاهَا الْأَشْعَث، ثمَّ ذهب ليَأْتِيه بهَا فبلغته وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَردهَا، وارتدا، ثمَّ وَتَزَوجهَا بعد عِكْرِمَة بن أبي جهل، فَوجدَ أَبُو بكر من ذَلِك، فَقَالَ لَهُ عمر: وَالله مَا هِيَ من أَزوَاجه، مَا خَيرهَا وَلَا حجبها، وَقد برأها الله مِنْهُ بالارتداد، وَكَانَ عُرْوَة يُنكر أَن يكون تزَوجهَا. ومليكة بنت كَعْب اللَّيْثِيّ، وَبَعْضهمْ يُنكر تَزْوِيجهَا أصلا. وسبأ بنت أَسمَاء، تزَوجهَا فَمَاتَتْ قبل أَن يدْخل بهَا، ذكره أَبُو نصر بن مَاكُولَا. أم شريك الْأَزْدِيَّة،(2/134)
وَاسْمهَا غزيَّة بنت جَابر، وَهِي الَّتِي وهبت نَفسهَا للنَّبِي فقبلها ثمَّ طَلقهَا وَلم يدْخل بهَا، وَقيل: لم يقبلهَا. وَقيل: بل الَّتِي وهبت نَفسهَا لَهُ خَوْلَة بنت حَكِيم، فأرجأها فَتَزَوجهَا عُثْمَان بن مَظْعُون. وَخَوْلَة بنت الْهُذيْل، تزَوجهَا فَمَاتَ قبل أَن تصل إِلَيْهِ. وشراف بنت خَليفَة، أُخْت دحْيَة الْكَلْبِيّ، تزَوجهَا وَلم يدْخل بهَا. وليلى بنت الخطيم، أُخْت قيس، تزَوجهَا وَكَانَت غيورا، فاستقالته فأقالها، وَقيل: بل وهبت نَفسهَا لَهُ فَلم يقبلهَا. وَعمرَة بنت مُعَاوِيَة الكندية، جِيءَ بهَا بَعْدَمَا مَاتَ. وَابْنَة جُنْدُب الجندعية، تزَوجهَا، وَأنكر بَعضهم صِحَة ذَلِك. والغفارية تزَوجهَا، فَلَمَّا نزعت ثِيَابهَا رأى بَيَاضًا فَقَالَ: " الحقي بأهلك " وَقد قيل: إِنَّمَا رَأْي الْبيَاض بالكلابية. فَهَذَا عدد اللواتي تزوجهن وَلم يدْخل بِهن، على الْخلاف الْمَذْكُور فِيهِنَّ. [15] فَأَما اللواتي خطبهن وَلم يتم نِكَاحه إياهن فَأم هانىء بنت عَمه أبي طَالب خطبهَا فَقَالَت: إِنِّي مصبية، فعذرها. وضباعة بنت عَامر بن قرط، خطبهَا إِلَى ابْنهَا سَلمَة بن هَاشم فَقَالَ: حَتَّى أستأمرها، وَقيل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّهَا قد كَبرت، فَلَمَّا أَذِنت لابنها رَجَعَ، فَسكت عَنْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَصفِيَّة بنت بشامة، أَصَابَهَا سبيا، فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن شِئْت أَنا وَإِن شِئْت زَوجك " قَالَت: زَوجي، فأرسلها، فلعنتها بَنو تَمِيم. وجمرة بنت الْحَارِث الْمُزنِيّ، خطبهَا فَقَالَ أَبوهَا: إِن بهَا سوءا، وَلم يكن بهَا، فَرجع وَقد برصت، وَهِي أم شبيب بن(2/135)
البرصاء الشَّاعِر. وَسَوْدَة القرشية، خطبهَا فَقَالَت: أكره أَن يضغو صبيتي عِنْد رَأسك، فَدَعَا لَهَا. امْرَأَة لم يذكر اسْمهَا، خطبهَا فَقَالَت استأمر أبي: فَلَمَّا أذن لَهَا أَبوهَا لقِيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " قد التحفنا لحافا غَيْرك ". [15] فَأَما اللواتي وهبْنَ أَنْفسهنَّ لَهُ فقد ذكرنَا أم شريك، وليلى بنت الخطيم، وَخَوْلَة بنت حَكِيم، على الْخلاف الْمُتَقَدّم.
603 - / 719 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم من هَذَا الْمسند: " إِذا دخل أحدكُم الْمَسْجِد فَلْيقل: اللَّهُمَّ افْتَحْ لي أَبْوَاب رحمتك، وَإِذا خرج فَلْيقل: الله إمني أَسأَلك من فضلك ". [15] إِنَّمَا خصت الرَّحْمَة بِالدُّخُولِ لِأَن الدَّاخِل طَالب للآخرة، وَالرَّحْمَة أخص مَطْلُوب، وَخص الْفضل بِالْخرُوجِ، لِأَن الْإِنْسَان يخرج من الْمَسْجِد لطلب المعاش فِي الدُّنْيَا وَهُوَ المُرَاد بِالْفَضْلِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وابتغوا من فضل الله} [الْجُمُعَة: 10] .(2/136)
(51) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي قَتَادَة الْأنْصَارِيّ
[15] واسْمه عَمْرو بن ربعي، شهد أحدا وَالْخَنْدَق وَمَا بعدهمَا من الْمشَاهد. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أحد وَعِشْرُونَ.
604 - / 720 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " إِذا شرب أحدكُم فَلَا يتنفس فِي الْإِنَاء ". [15] هَذَا على وَجه التَّعْلِيم للنظافة، لِأَنَّهُ رُبمَا خرج مَعَ النَّفس شَيْء من الْأنف فَوَقع فِي الْإِنَاء، وَذَلِكَ فَمَا تعافه نفس الشَّارِب فضلا عَن نفس المنتظر لفراغه ليشْرب، وَرُبمَا غير النَّفس ريح المشروب فتعافه النَّفس، وَرب نفس فَاسد يفْسد مَا يلقاه، وَالْمَاء من ألطف الْجَوَاهِر وأقبلها للتغير بِالرِّيحِ. [15] فَإِن قيل: فقد صَحَّ من حَدِيث أنس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتنفس فِي الْإِنَاء ثَلَاثًا. [15] فَالْجَوَاب: أَن الْمَعْنى يتنفس فِي مُدَّة شربه من الْإِنَاء ثَلَاثًا، وَمعنى(2/137)
هَذَا التنفس عِنْد إبانة المَاء عَن الْفَم، وَالنَّهْي فِي حديثنا هَذَا أَن يَجْعَل النَّفس فِي الْإِنَاء. [15] والخلاء: الْمَكَان الْخَالِي. [15] والتمسح والاستنجاء بِمَعْنى: وَهِي الاستطابة. قَالَ أَبُو عبيد: الاستطابة: الِاسْتِنْجَاء وَهُوَ من الطّيب، يَقُول: يطيب جسده مِمَّا عَلَيْهِ من الْخبث بالاستنجاء، يُقَال: استطاب فَهُوَ مستطيب، وأطاب فَهُوَ مُطيب. [15] وَإِنَّمَا وَقع النَّهْي عَن مس الذّكر والاستنجاء بِالْيَمِينِ لمعنيين: أَحدهمَا: لرفع قدر الْيَمين عَن الِاسْتِعْمَال فِي خساس الْأَحْوَال، وَلِهَذَا تجْعَل فِي آخر دُخُول الْخَلَاء وَأول دُخُول الْمَسْجِد، وَتجْعَل الْيَمين للْأَكْل وَالشرب والتناول، وتمتهن الْيُسْرَى فِي الأقذار. وَالثَّانِي: أَنه لَو باشرت الْيُمْنَى النَّجَاسَة لَكَانَ الْإِنْسَان يتَذَكَّر عِنْد تنَاول طَعَامه بِيَمِينِهِ مَا باشرت ومست، فينفر بالطبع ويستوحش، ويخيل إِلَيْهِ بَقَاء ذَلِك الْأَثر فِيهَا، فنزهت عَن هَذَا ليطيب عيشه فِي التَّنَاوُل. [15] فَإِن قيل: إِذا كَانَ قد نهى عَن مس الذّكر بِالْيَمِينِ، وَعَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ، وَإِن أمْسكهُ باليمنى فقد نهي. فَالْجَوَاب: أَنه يمسح ذكره بِالْأَرْضِ أَو بالجدار أَو بِالْحجرِ الْكَبِير الَّذِي لَا يَتَحَرَّك بِالْمَسْحِ، أَو يضع رجله على طرف الْحجر ثمَّ يتمسح بِهِ، أَو يمسِكهُ بعقبيه، وَأما مسح الدبر فَلَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّكَلُّف.(2/138)
605 - / 721 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كنت جَالِسا مَعَ رجال من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْقَوْم محرمون وَأَنا غير محرم عَام الْحُدَيْبِيَة، فَأَبْصرُوا حمارا وحشيا وَأَنا مَشْغُول أخصف نَعْلي ثمَّ أبصرته، فَقُمْت إِلَى الْفرس فركبت، فنسيت السَّوْط وَالرمْح، فَقلت لَهُم: ناولوني السَّوْط وَالرمْح قَالُوا: لَا وَالله، لَا نعينك عَلَيْهِ، فَغضِبت، فَنزلت فأخذتهما، وشددت على الْحمار فعقرته، فوقعوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ، ثمَّ شكوا فِي أكلهم وهم حرم، فرحنا وخبأت الْعَضُد معي، فسألنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ: " هَل مَعكُمْ مِنْهُ شَيْء؟ " فناولته الْعَضُد فَأكلهَا وَهُوَ محرم. [15] خصف النَّعْل: خرزها. والمخصف: الإشفى لِأَنَّهُ يخرز بِهِ. [15] وَقد جَاءَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق آخر، وَفِيه فَانْطَلَقت أطلب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرفع فرسي شأوا وأسير شأوا - أَي طلقا - ثمَّ سَأَلت عَنهُ رجلا فَقَالَ: تركته بتعهن وَهُوَ اسْم مَوضِع. [15] وَهَذَا الصَّيْد إِنَّمَا صَاده أَبُو قَتَادَة لنَفسِهِ لَا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا للْقَوْم، فَلهَذَا استجازوا الْأكل مِنْهُ، وَلما كَانُوا حرما لم يعاونوه لِئَلَّا تكون معاونة على الصَّيْد. [15] وَقَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم: وَكنت أسمع أَصْحَاب الحَدِيث يتعجبون من هَذَا الحَدِيث وَيَقُولُونَ، كَيفَ جَازَ لأبي قَتَادَة أَن يُجَاوز الْمِيقَات غير محرم؟ وَلَا يَدْرُونَ مَا وَجهه، حَتَّى رَأَيْته مُفَسرًا، رَوَاهُ عِيَاض بن عبد الله عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: خرجنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأحرمنا، فَلَمَّا كُنَّا(2/139)
بمَكَان كَذَا وَكَذَا إِذا نَحن بِأبي قَتَادَة، كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بَعثه فِي كَذَا وَكَذَا - فِي شَيْء قد سَمَّاهُ -، فَذكر قصَّة الْحمار الوحشي فَإِذا أَبُو قَتَادَة إِنَّمَا جَازَ لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ لم يخرج يُرِيد مَكَّة.
606 - / 722 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: بَيْنَمَا نَحن نصلي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع جلبة رجال، فَلَمَّا صلى قَالَ: " مَا شَأْنكُمْ؟ " قَالُوا: استعجلنا إِلَى الصَّلَاة. قَالَ: " فَلَا تَفعلُوا، إِذا أتيتم الصَّلَاة فَعَلَيْكُم السكينَة، فَمَا أدركتم فصلوا، وَمَا فاتكم فَأتمُّوا ". [15] السكينَة " فعيلة " من السّكُون، وَإِنَّمَا أَمر قَاصد الصَّلَاة بِالسَّكِينَةِ لاستعمال الْأَدَب فِي السَّعْي إِلَى الْعِبَادَة. [15] وَقَوله: " فَأتمُّوا " أَكثر الروَاة هَكَذَا رووا " فَأتمُّوا " مِنْهُم ابْن مَسْعُود وَأَبُو قَتَادَة وَأنس، وَأكْثر طرق أبي هُرَيْرَة " فَأتمُّوا " فَإِن الزبيدِيّ وَابْن أبي ذِئْب وَإِبْرَاهِيم بن سعد وَمعمر، كلهم رَوَوْهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة فَقَالُوا: " فَأتمُّوا " وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن الزُّهْرِيّ: فَفِي رِوَايَة عَنهُ كَمَا ذكرنَا، وَفِي رِوَايَة أبي الْيَمَان عَنهُ " فاقضوا " وَفِي رِوَايَة عَن شُعْبَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: " فاقضوا " وَكَذَلِكَ روى ابْن سِيرِين وَأَبُو رَافع عَن أبي هُرَيْرَة(2/140)
[15] وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَا يُدْرِكهُ الْمَأْمُوم من صَلَاة الإِمَام، فَقَالَ قوم: هُوَ أول صلَاته، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وَمَكْحُول وَالزهْرِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَق بن رَاهَوَيْه وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ آخر صلَاته، وَهُوَ قَول مُجَاهِد وَابْن سِيرِين وَالثَّوْري وَأَصْحَاب الرَّأْي وَفِيه عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ، وَالَّذِي نختاره أَنه آخر صلَاته، وَهُوَ الْأَشْبَه بمذهبنا وَمذهب أبي حنيفَة، لِأَن صَلَاة الْمَأْمُوم مرتبطة بِصَلَاة الإِمَام، فَيحمل قَوْله: " فَأتمُّوا " على أَن من قضى مَا فَاتَهُ فقد أتم، لِأَن الصَّلَاة تنقص بِمَا فَاتَ، فقضاؤه إتْمَام لما نقص.
607 - / 723 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة فَلَا تقوموا حَتَّى تروني ". [15] إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة وَلم يكن الإِمَام حَاضرا لم يسن قيام الْمَأْمُوم، لِأَن الْقيام لَا يُرَاد لنَفسِهِ بل للشروع فِي الصَّلَاة فَإِذا قَامَ وَلم يشرع صَار فعله عَبَثا، فَأَما إِذا كَانَ الإِمَام حَاضرا فَأَي وَقت يسن قيام الْمَأْمُومين؟ عندنَا أَنهم يقومُونَ عِنْد قَوْله: قد قَامَت الصَّلَاة، وَيُكَبِّرُونَ للصَّلَاة إِذا فرغ من الْإِقَامَة، وَعند أبي حنيفَة يقومُونَ عِنْد الحيعلة وَيُكَبِّرُونَ عِنْد ذكر الْإِقَامَة، وَعند الشَّافِعِي لَا يقومُونَ إِلَّا عِنْد الْفَرَاغ من الْإِقَامَة
608 - / 724 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: كَانَ يقْرَأ فِي الظّهْر فِي(2/141)
الْأَوليين بِأم الْكتاب وسورتين وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ بِأم الْكتاب، ويسمعنا الْآيَة أَحْيَانًا، وَيطول فِي الرَّكْعَة الأولى مَا لَا يُطِيل فِي الثَّانِيَة. [15] ظَاهر هَذَا الحَدِيث يدل على وجوب الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجب فِي الرَّكْعَتَيْنِ من الصَّلَاة، وَقَالَ أَصْحَابه: وُجُوبهَا فِي الْأَوليين، فَإِن قَرَأَ فِي غير الْأَوليين صحت صلَاته. [15] وَقَوله: ويسمعنا الْآيَة أَحْيَانًا. أَي: فِي وَقت، وَذَلِكَ لَا يخرج الصَّلَاة عَن كَونهَا صَلَاة إخفاء. [15] وَقَوله: وَيطول فِي الرَّكْعَة الأولى دَلِيل على اسْتِحْبَاب تَطْوِيل الأولى من كل صَلَاة، كَيفَ وَقد قَالَ: كَانَ، وَهِي إِخْبَار عَن دوَام الْفِعْل، وَالْعلَّة فِيهِ أَن يلْحق من سمع الْإِقَامَة وَلم يتأهب، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يُطِيل الإِمَام الأولى فِي الْفجْر فَحسب، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ ذكر التَّطْوِيل فِي الظّهْر ثمَّ قَالَ: وَهَكَذَا فِي الْعَصْر. وَقَالَ الشَّافِعِي: يُسَوِّي بَين جَمِيع الرَّكْعَات.
609 - / 725 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " الرُّؤْيَا من الله والحلم من الشَّيْطَان، فَإِذا حلم أحدكُم الْحلم يكرههُ فليبصق عَن يسَاره وليستعذ بِاللَّه مِنْهُ، فَلَنْ يضرّهُ ".(2/142)
[15] الرُّؤْيَا والحلم بِمَعْنى وَاحِد، لِأَن الْحلم مَا يرَاهُ الْإِنْسَان فِي نَومه، غير أَن صَاحب الشَّرْع خص الْخَيْر باسم الرُّؤْيَا، وَالشَّر باسم الْحلم. [15] وَقَوله: " فَإِذا حلم أحدكُم " مَفْتُوحَة اللَّام، يُقَال: حلم: إِذا رأى مناما وحلم بِالضَّمِّ من الْحلم الَّذِي هُوَ الْعَفو. [15] وَقَوله: " فليبصق عَن يسَاره " هَذَا دحر للشَّيْطَان، فَهُوَ من جنس رمي الْجمار. [15] وَقَوله: " وَلَا يحدث بِهِ أحدا " لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَن يذكر مَا يسوء. [15] وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " الرُّؤْيَا على رجل طَائِر مَا لم تعبر، فَإذْ عبرت وَقعت ". قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَرَادَ أَنَّهَا غير مُسْتَقِرَّة، تَقول الْعَرَب للشَّيْء إِذا لم يسْتَقرّ: هُوَ على رجل طَائِر، وَبَين مخالب طَائِر، وعَلى قرن ظَبْي، قَالَ رجل فِي الْحجَّاج:
(كَأَن فُؤَادِي بني أظفار طَائِر ... من الْخَوْف فِي جو السَّمَاء محلق)
(حذار امرىء قد كنت أعلم أَنه ... مَتى مَا يعد من نَفسه الشَّرّ يصدق)
[15] قَالَ المرار يذكر فلاة:
(كَأَن قُلُوب أدلائها ... معلقَة بقرون الظباء)
[15] قَالَ: وَلم يرد بقوله: فَإِذا عبرت وَقعت: أَن كل من عبرها وَقعت، وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك الْعَالم بهَا الْمُصِيب الْمُوفق، لَا الْجَاهِل، وَلَا أَرَادَ أَن كل رُؤْيا تعبر، لِأَن أَكْثَرهَا أضغاث.(2/143)
[15] وَاعْلَم أَن الرُّؤْيَا على ثَلَاثَة أضْرب: أَحدهَا: مَا يَقع من حَدِيث النَّفس وَغَلَبَة الطَّبْع. وَالثَّانِي: من إِلْقَاء الشَّيْطَان. وَالثَّالِث: أَن يَأْتِي بهَا ملك الرُّؤْيَا عَن نُسْخَة أم الْكتاب، فَهَذِهِ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّحِيحَة، وَكَانَ ابْن سِيرِين رُبمَا عبر من كل أَرْبَعِينَ رُؤْيا وَاحِدَة.
610 - / 726 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " من رَآنِي فقد رأى الْحق ". [15] الْمَعْنى: فقد رَآنِي حَقًا، يدل عَلَيْهِ فِي اللَّفْظ الَّذِي قبله، " فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَرَاءَى بِي " أَي لَا يتَمَثَّل بِصُورَتي.
611 - / 728 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " إِذْ دخل أحدكُم الْمَسْجِد فَلَا يجلس حَتَّى يرْكَع رَكْعَتَيْنِ ". [15] لَا خلاف فِي اسْتِحْبَاب هَاتين الرَّكْعَتَيْنِ فِي غير أَوْقَات النَّهْي عَن الصَّلَاة، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي جَوَاز فعلهَا فِي أَوْقَات النَّهْي، وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: أحداهما: الْجَوَاز كَقَوْل الشَّافِعِي.
612 - / 729 وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِل أُمَامَة بنت زَيْنَب بنت رَسُول الله، فَإِذا سجد وَضعهَا، وَإِذا قَامَ حملهَا. [15] كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد زوج زَيْنَب وَهِي أكبر بَنَاته بِابْن خَالَتهَا أبي الْعَاصِ بن الرّبيع، وَكَانَت أم أبي الْعَاصِ هَالة بنت خويلد أُخْت خَدِيجَة(2/144)
فَولدت لأبي الْعَاصِ عليا فَتوفي وَقد ناهز الْحلم، وَقد كَانَ رَدِيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على نَاقَته يَوْم الْفَتْح، وَولدت لَهُ أُمَامَة وَهِي الْمَذْكُورَة هَاهُنَا. وَتَزَوجهَا عَليّ بن أبي طَالب بعد موت فَاطِمَة فَولدت لَهُ ولدا سَمَّاهُ مُحَمَّد. [15] وَقَوله: فَإِذا سجد وَضعهَا وَإِذا قَامَ حملهَا. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون هَذَا لَا عَن قصد من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتعمد، وَلَعَلَّ الصبية لطول مَا ألفته واعتادته فِي غير الصَّلَاة كَانَت تقصده حَتَّى تلابسه فِي الصَّلَاة فَلَا يَدْفَعهَا عَن نَفسه، فَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد أرسلها إِلَى الأَرْض، وَإِذا أَرَادَ الْقيام عَادَتْ الصبية إِلَى ملابسته فَصَارَت مَحْمُولَة، وَأما تعمد حملهَا وحطها فَعمل يكثر، فَلَا يَنْبَغِي أَن يتَوَهَّم فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه فعل ذَلِك لأجل قَضَاء الصبية وطرا من اللّعب، وَإِذا علم خميصة شغله فِي صلَاته، فَكيف لَا يشْغلهُ هَذَا الْفِعْل؟ . وَفِي الحَدِيث دلَالَة على أَن الْأَطْفَال وأبدانهم طَاهِرَة مَا لم تعلم نجاستها، وَفِيه أَن الْعَمَل الْيَسِير لَا يبطل. وَفِيه أَن الرجل إِذا صلى وَفِي كمه مَتَاع أَو على رقبته كارة وَنَحْوهَا فَإِن صلَاته مجزيه.
613 - / 730 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: كَانَ للْمُسلمين عَام حنين جَوْلَة. [15] سَبَب هَذِه الجولة أَن هوَازن اسْتقْبلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه(2/145)
بِجمع كثير، ورشقوا بِالنَّبلِ، فَانْهَزَمَ الْمُسلمُونَ، وَثَبت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ جمَاعَة من أَصْحَابه وَأهل بَيته، مِنْهُم أَبُو بكر الصّديق وَعمر وَعلي وَالْعَبَّاس، فَقَالَ للْعَبَّاس: " نَاد: يَا معشر الْأَنْصَار، يَا أَصْحَاب السمرَة، يَا أَصْحَاب سُورَة الْبَقَرَة " فَنَادَى - وَكَانَ صيتًا - فَأَقْبَلُوا كَأَنَّهُمْ الْإِبِل إِذا حنت إِلَى أَوْلَادهَا، يَقُولُونَ يَا لبيْك، يَا لبيْك، فحملوا على الْمُشْركين فَنظر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى قِتَالهمْ فَقَالَ " الْآن حمي الْوَطِيس ". [15] وَقَوله فِي هَذَا الحَدِيث: ضَربته على حَبل عَاتِقه. حَبل العاتق: مَا بَين الْعُنُق والكاهل. [15] وَقَوله: لَاها الله إِذن. قَالَ الْخطابِيّ: كَذَا يرْوى، وَالصَّوَاب لَاها الله ذَا بِغَيْر ألف قبل الذَّال، وَمَعْنَاهُ فِي كَلَامهم: لَا وَالله، يجْعَلُونَ الْهَاء مَكَان الْوَاو، وَالْمعْنَى لَا وَالله لَا يكون ذَا. [15] والمخرف: الْبُسْتَان الَّذِي تخترف ثماره: أَي تجتنى، مَفْتُوح الْمِيم. فَأَما المخرف بِكَسْر الْمِيم فَهُوَ الْوِعَاء الَّذِي يجمع فِيهِ مَا يخْتَرف. وتأثلت المَال: تملكته فَجَعَلته أصل مَال. وأثلة كل شَيْء أَصله. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن السَّلب للْقَاتِل وَإِن لم يشْتَرط لَهُ الْأَمِير، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن شَرطه لَهُ الْأَمِير اسْتَحَقَّه. وَعِنْدنَا أَنه لَا تدخل الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم فِي السَّلب خلافًا(2/146)
لأكثرهم، وَإِنَّمَا يسْتَحق الْقَاتِل السَّلب بأَرْبعَة شَرَائِط: أَن يقْتله حَال قيام الْحَرْب. وَأَن يغرر بِنَفسِهِ، مثل أَن يقْتله مبارزة أَو ينغمس فِي صف الْمُشْركين، وَأَن يكون الْمَقْتُول صَحِيحا سليما، وَأَن يَكْفِي الْمُسلمين شَره، وَهُوَ أَن يكون مُقبلا على قتال الْمُسلمين، فَأَما إِذا كَانَ مُنْهَزِمًا مجروحا فَلَا. وَقَالَ أَبُو ثَوْر وَدَاوُد: كَيفَ قَتله اسْتحق السَّلب. وَاعْلَم أَن بدار أبي بكر بالزجر والردع وَالْفَتْوَى وَالْيَمِين على ذَلِك فِي حَضْرَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ يصدقهُ الرَّسُول على مَا قَالَه وَيحكم بقوله شرف لم يكن لأحد من صحابته، فَإِنَّهُ قد كَانَ يُفْتِي فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة عشر من أَصْحَابه: أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَابْن مَسْعُود وعمار بن يَاسر وَأبي بن كَعْب ومعاذ بن جبل وَحُذَيْفَة وَزيد بن ثَابت وَأَبُو الدَّرْدَاء وسلمان وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَلِهَذَا لما قَالَ ذَلِك الرجل لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَسَأَلت رجَالًا من أهل الْعلم فَأَخْبرُونِي أَن على ابْني جلد مائَة، لم يُنكر عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتْوَى غَيره فِي زَمَانه، لِأَنَّهَا عَن الرَّسُول صدرت، وَعَن تَعْلِيمه أخذت. وَأما الْفَتْوَى فِي حَضرته على مَا وَصفنَا فَلم تكن لأحد سوى أبي بكر، ويكفيه هَذِه فَضِيلَة على مَا وَصفنَا. [15] وَقد جَاءَ فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث فِي رِوَايَة أُخْرَى: قَالَ أَبُو بكر: كلا، لَا يُعْطِيهِ أصيبغ من قُرَيْش ويدع أسداً من أَسد الله. قَالَ(2/147)
أَبُو سُلَيْمَان: يصفه بالمهانة والضعف، والأصبغ نوع من الطير، وَيجوز أَن يكون شبهه بنبات ضَعِيف يُقَال لَهُ الصبغاء.
614 - / 731 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: " إِنِّي أقوم إِلَى الصَّلَاة وَأَنا أُرِيد أَن أطول فِيهَا، فَأَسْمع بكاء الصَّبِي، فأتجوز فِي صَلَاتي كَرَاهِيَة أَن أشق على أمه ". [15] هَذَا الحَدِيث يدل على شفقته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولطفه بأمته، وَقد نبه بِهَذَا على أَن الأولى بالأئمة التَّخْفِيف، وَأَنه لَا يكَاد يَخْلُو بعض المأمونين من أَمر يشغل قلبه، وَإِن لم يكن التشاغل مَعَه. ويستدل بِهَذَا الحَدِيث على جَوَاز انْتِظَار الإِمَام فِي رُكُوعه للداخل إِذا أحس بِهِ من جِهَة أَنه إِذا كَانَ للْإنْسَان أَن يحذف من طول صلَاته لأجل خَارج إِلَى أُمُور الدُّنْيَا، جَازَ أَن يزِيد فِيهَا من عبَادَة الله وتسبيحه لأجل دَاخل فِي الْعِبَادَة. وَقد حكى أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ أَن بعض الْعلمَاء كره ذَلِك، وَقَالَ: أَخَاف أَن يكون شركا. وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن الْحسن.
615 - / 732 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: سرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ بَعضهم: لَو عرست بِنَا. التَّعْرِيس: النُّزُول فِي السّفر من آخر اللَّيْل.(2/148)
[15] وحاجب الشَّمْس: جُزْء مِنْهَا مثل الْحَاجِب. [15] وَلَعَلَّ بِلَالًا حِين قَالَ: أَنا أوقظكم، لم يقل: إِن شَاءَ الله. [15] وَقَوله: فَلَمَّا ارْتَفَعت وابياضت صلى بهم. لَيْسَ المُرَاد أَنهم أخروا الصَّلَاة، وَلَكنهُمْ انتبهوا وَقد طلعت، فتشاغلوا بِالْوضُوءِ، فَلَمَّا تمت طَهَارَته واجتماعهم وَافق ذَلِك ارتفاعها.
616 - / 733 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: أَنه قَالَ لعمَّار: " بؤس ابْن سميَّة، تقتلك فِئَة باغية " [15] الْبُؤْس والبأساء: الْفقر، وَهَذَا مِمَّا لَا يُرَاد وُقُوعه، كَمَا يَقُولُونَ: ثكلتك أمك، وتربت يَمِينك. [15] وَسُميَّة أم عمار، وَهِي سميَّة بن خباط - بِالْبَاء الْمُعْجَمَة بِوَاحِدَة - مَوْلَاهُ أبي حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة، أسلمت قَدِيما بِمَكَّة، وَكَانَت مِمَّن يعذب فِي الله لترجع عَن دينهَا فَلم تفعل، وَصَبَرت، فَمر عَلَيْهَا يَوْمًا أَبُو جهل فَطَعَنَهَا بِحَرْبَة فِي قبلهَا فَمَاتَتْ، وَكَانَت عجوزا كَبِيرا، فَهِيَ أول شَهِيد فِي الْإِسْلَام. [15] فَأَما الفئة فَهِيَ الْجَمَاعَة. والباغي من قَوْلك: بغى فلَان على فلَان، يَبْغِي: إِذا طلب مَا لَيْسَ لَهُ.
617 - / 734 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن رجلا قَالَ: أَرَأَيْت إِن قتلت فِي سَبِيل الله، يكفر عني خطاياي؟ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " نعم،(2/149)
إِذا قتلت فِي سَبِيل الله وَأَنت صابر محتسب، مقبل غير مُدبر " ثمَّ أعَاد عَلَيْهِ، فَقَالَ: " إِلَّا الدّين، فَإِن جِبْرِيل قَالَ لي ذَلِك ". وَهَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن التحذير من الدّين، لِأَن حُقُوق المخلوقين صعبة شَدِيدَة الْأَمر تمنع دُخُول الْجنَّة حَتَّى تُؤَدّى، وَقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يمْتَنع فِي أول الْإِسْلَام من الصَّلَاة على ذِي الدّين، كل ذَلِك للتحذير من حُقُوق المخلوقين، فَكيف بالظلم؟ [15] فَإِن قيل: فقد كَانَت عَائِشَة تدان وَتقول: لَا يزَال لذِي الدّين عون من الله تَعَالَى. [15] وَالْجَوَاب: أَنه كَانَ لَهَا مَا تُؤدِّي. وَمن الْجَائِز أَن يكون قد كَانَت تضطر إِلَى الدّين. وَالْأولَى الحذر من الدّين، والأغلب أَنه لَا يكَاد يُؤْخَذ إِلَّا بِفُضُول الْعَيْش. أنشدنا أَبُو نصر أَحْمد بن مُحَمَّد الطوسي قَالَ أَنْشدني أَبُو يُوسُف الْقزْوِينِي قَالَ: أَنْشدني أبي قَالَ: أنشدنا القَاضِي أَبُو الْحسن عَليّ بن الْعَزِيز الْجِرْجَانِيّ لنَفسِهِ:
(إِذا شِئْت أَن تستقرض المَال منفقا ... على شهوات النَّفس فِي زمن الْعسر)
(فسل نَفسك الْإِقْرَاض من كيس صبرها ... عَلَيْك وإنظارا إِلَى زمن الْيُسْر)
(فَإِن فعلت كنت الْغَنِيّ وَإِن أَبَت ... فَكل منوع بعده وَاسع الْعذر)
618 - / 735 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " من سره أَن ينجيه الله من(2/150)
كرب يَوْم الْقِيَامَة فليتنفس عَن مُعسر، أَو يضع عَنهُ ". [15] الْمُعسر: الْمضيق لشدَّة الْفقر. والتنفيس: تَأْخِير أجل الدّين عَن وَقت حُلُوله. والوضع: إِسْقَاط بعض الدّين أَو كُله.
619 - / 736 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " لَا تنتبذوا الزهو وَالرّطب جَمِيعًا، وَلَا الرطب وَالزَّبِيب جَمِيعًا، وَلَكِن انتبذوا كل وَاحِد على حِدته ". [15] قَالَ أَبُو عبيد: زهو النّخل: أَن يحمر أَو يصفر. وَإِنَّمَا نهى عَن الْجمع بَينهمَا لِأَنَّهُمَا يتعاونان على الاشتداد، والتعرض بِمَا يُثمر الاشتداد مَكْرُوه، فَإِن حدثت الشدَّة حرمت.
620 - / 737 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " إيَّاكُمْ وَكَثْرَة الْحلف فِي البيع، فَإِنَّهُ ينْفق ثمَّ يمحق ". [15] الْحلف: الْيَمين. والنفاق: خُرُوج الشَّيْء. ونفقت الدَّابَّة: خرج روحها. والمحق: النُّقْصَان. [15] وَالْمعْنَى: أَن السّلْعَة تخرج بِكَثْرَة الْحلف، وَإِنَّمَا تكون هَذِه الْأَيْمَان على جودتها، ثمَّ يَقع فِيمَا حصل بِالْكَذِبِ من الْأَيْمَان النَّقْص والتمحيق.
621 - / 738 وَفِي الحَدِيث السَّادِس: خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنَّكُم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون المَاء - إِن شَاءَ الله - غَدا "(2/151)
فَانْطَلق النَّاس لَا يلوي أحد على أحد: أَي لَا يلْتَفت من سرعَة السّير لأجل بعد المَاء. [15] وابهار اللَّيْل: انتصف. وَقد بَينا هَذَا فِي مُسْند عمر. [15] وَقَوله: فدعمته: أَي أمسكته فَكنت لَهُ كالدعامة. [15] وَقَوله: من غير أَن أوقظه يُنَبه على التلطف وَحسن الْأَدَب. وتهور اللَّيْل: أَي ذهب أَكْثَره. [15] وينجفل: يَنْقَلِب وَيسْقط. [15] وَأما سيره بعد طُلُوع الشَّمْس فقد ذكرنَا فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن أَنه قَالَ: " إِن بِهَذَا الْوَادي شَيْطَانا " وَذَلِكَ لَا يُعلمهُ إِلَّا نَبِي، وَلَا يجوز لغيره تَأْخِير الصَّلَاة إِذا انتبه. [15] والميضأة: مَا يتَوَضَّأ مِنْهُ. والمطهرة: مَا يتَطَهَّر مِنْهُ من الْأَوَانِي. [15] وَقَوله: وضُوءًا دون وضوء. كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى الْوضُوء المجزي دون الْكَامِل. [15] والنبأ: الْخَبَر. [15] وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَلْفَاظ من غير هَذِه الرِّوَايَة قَالَ لَهُ: " ازدهر بِهَذَا الْإِنَاء " بِمَعْنى احتفظ بِهِ وَلَا تضيعه، وأنشدوا:
(كَمَا ازدهرت قينة بالشراع ... لأسوارها عل مِنْهَا اصطباحا)(2/152)
[15] أَي كَمَا احتفظت بالأوتار الْمُغنيَة. والشراع: الأوتار، والواحدة شرعة، وَجَمعهَا شرع وَشرع، ثمَّ الشراع جمع الْجمع. والأسوار يُقَال بِضَم الْألف وَكسرهَا: وَهُوَ الْوَاحِد من أساورة فَارس، وهم الفرسان، وَقد قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: الأسوار من أساورة الْفرس أعجمي مُعرب، وَهُوَ الرَّامِي، وَقيل: الْفَارِس، والأسوار لُغَة فِيهِ، يجمع على الأساور والأساورة، قَالَ الشَّاعِر:
(ووتر الأساور القياسا ... )
(صغدية تنتزع الأنفاسا ... )
[15] قَالَ أَبُو سُلَيْمَان البستي: وأظن أَن قَوْله ازدهر كلمة لَيست بعربية، كَأَنَّهَا قبطية أَو سريانية فعربت. وَحكى أَبُو الْحسن الْهنائِي اللّغَوِيّ عَن بَعضهم أَنه قَالَ: إِنَّمَا هِيَ ازتهر بِالتَّاءِ " افتعل " من. الزهرة وَهِي الزِّينَة: أَي تزين بِهِ. [15] وَقَوله: فَجعل بَعْضنَا يهمس إِلَى بعض. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الهمس: الصَّوْت الْخَفي. [15] وَقَوله: " فَإِن كَانَ الْغَد فليصلها عِنْد وَقتهَا " ظَاهر هَذَا أَن يكون المُرَاد بِهِ صَلَاة الْيَوْم الثَّانِي يُصليهَا عِنْد وَقتهَا، وَحمله الْخطابِيّ على إِعَادَتهَا فِي الْيَوْم الثَّانِي، ثمَّ قَالَ: وَيُشبه أَن يكون ذَلِك اسْتِحْبَابا.(2/153)
[15] وَقَوله: " أطْلقُوا لي غمري " الْغمر: قدح صَغِير، أَو قَعْب صَغِير. وَالْمعْنَى: جيئوني بِهِ. [15] وَقَوله تكابوا عَلَيْهِ: أَي وَقع بَعضهم على بعض. [15] وَقَوله: " أَحْسنُوا الْمَلأ " كثير من طلاب الحَدِيث يَقُولُونَ الملء، وَسمعت أَبَا مُحَمَّد الخشاب يَقْرَأها كَذَلِك، وفسرها فَقَالَ: ملْء الْقرب، وَهَذَا غلط فَاحش، لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدهم قَعْب صَغِير، وَإِنَّمَا كَانُوا يسقون مِنْهُ لشفاههم وَلم يملأوا مِنْهُ قربَة وَلَا وعَاء، وَلِهَذَا قَالَ: " كلكُمْ سيروى " وَإِنَّمَا هُوَ: أَحْسنُوا الْمَلأ: يَعْنِي الْخلق. قَالَ أَبُو زيد: يُقَال: أحسن ملأك: أَي خلقك. قَالَ الْمفضل بن سَلمَة: الْمَلأ: الْخلق، وَجمعه أملاء، وَمِنْه الحَدِيث: " أَحْسنُوا أملاءكم " أَي أخلاقكم، وَكَذَلِكَ قَالَ الزّجاج: الْمَلأ: الْخلق، أَحْسنُوا ملأكم: أَي أخلاقكم، قَالَ الشَّاعِر:
(تنادوا يال بهشة إِذْ رأونا ... فَقُلْنَا: أحسني مَلأ جهينا)
[15] أَي خلقا. وَقَالَ ابْن السّكيت: أَي أَحْسنُوا أخلاقكم فِي الْحَرْب فافعلوا مَا يجب عَلَيْكُم فِيهَا كَمَا يفعل صَاحب الْخلق الْحسن. قَالَ: وَالْمَلَأ: الْخلق، قَالَ النَّبِي: " أَحْسنُوا ملأكم وأملاءكم " قَالَ ابْن قُتَيْبَة: بَال أَعْرَابِي فِي الْمَسْجِد فَضَربهُ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ لَهُم: أَحْسنُوا ملأكم ".(2/154)
[15] وَقَوله: " ساقي الْقَوْم آخِرهم " إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لمعنيين: أَحدهمَا: أَنه قد تفضل بإيثارهم على نَفسه، فَيَنْبَغِي أَن يتمم. وَالثَّانِي: أَنه إِذا شرب وَقد بَقِي أحد اتهمَ بتناول الصافي وَترك الكدر. [15] وَقَوله: جامين: أَي مستريحين.
622 - / 739 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا عرس بلَيْل اضْطجع على يَمِينه، وَإِذا عرس قبيل الصُّبْح نصب ذراعه وَوضع رَأسه على كَفه. [15] قد ذكرنَا أَن التَّعْرِيس نزُول آخر اللَّيْل. وَإِنَّمَا كَانَ يفعل فِي آخر اللَّيْل مَا ذكر لأجل الصَّلَاة، خوفًا أَن يغلبه النّوم.
623 - / 740 وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ تَصُوم؟ فَغَضب. [15] أما غَضَبه عِنْد هَذَا السُّؤَال فَلهُ خَمْسَة أوجه: أَحدهَا: أَنه قد خص بفضائل أوجبت عَلَيْهِ من الشُّكْر مَا لم يجب على غَيره، وَلِهَذَا كَانَ يقف حَتَّى ورمت قدماه، فَكَأَنَّهُ غضب من سُؤال من لم يُشَارِكهُ فِيمَا أنعم بِهِ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنه كَانَ يقوى من التَّعَبُّد على مَالا لَا يقوى غَيره. وَالثَّالِث: أَنه لَو وصف ذَلِك لاعتقد النَّاس وُجُوبه عَلَيْهِم. وَالرَّابِع: أَنه رُبمَا تكلفه السَّائِل ثمَّ عجز عَنهُ ومله فَتَركه. وَالْخَامِس: أَنه تَنْبِيه على كتمان النَّوَافِل. [15] وَقَوله: " لَا صَامَ وَلَا أفطر " يشبه أَن يكون كالدعاء عَلَيْهِ،(2/155)
وَيحْتَمل أَن يكون كالإخبار عَنهُ، فَيكون الْمَعْنى أَنه قد اعْتَادَ إدامة الصَّوْم فارتفعت مشتقه عَنهُ، فَكَأَنَّهُ مَا صَامَ، وَلَا هُوَ فِي عدد المفطرين لصورة الصَّوْم. و " لَا " تكون بِمَعْنى مَا. كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَلَا صدق وَلَا صلى} [الْقِيَامَة: 31] وَهَذَا فِي حق من صَامَ الدَّهْر كُله. فَأَما إِذا أفطر الْأَيَّام الْمُحرمَة فَلَا بَأْس. [15] وَقَوله: " ويطيق ذَاك أحد؟ " هَذَا تَعْظِيم لهَذَا الْأَمر وَبَيَان لصعوبته. [15] وَقَوله: " وددت أَنِّي طوقت ذَاك " أَي أطقت ذَلِك. [15] فَإِن قيل: من يقدر على الْوِصَال كَيفَ يصعب عَلَيْهِ هَذَا؟ [15] فَالْجَوَاب: أَنه كَانَ يواصل فِي بعض الْأَوْقَات، وَرُبمَا عجز لطبع البشرية عَن ذَلِك، وَقد كَانَ يُصَلِّي فِي بعض الْأَوْقَات قَاعِدا، وَيحْتَمل أَن يُشِير بِالْعَجزِ إِلَى أَن ذَلِك يمنعهُ من إِيفَاء أَزوَاجه حقوقهن، لِأَن الصَّوْم يعجزه، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَعَ مَا يجب عَليّ من ذَلِك لَا أُطِيق هَذَا. [15] وَقَوله: " ثَلَاث من كل شهر، ورمضان صَوْم الدَّهْر " لما كَانَت الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا كَانَت الثَّلَاث قَائِمَة مقَام الشَّهْر، فَهَذِهِ تشْتَمل النَّفْل، ورمضان هُوَ الْفَرْض. [15] وَأما صِيَام يَوْم عرفه فَفِي تَسْمِيَة عَرَفَة بِهَذَا الِاسْم قَولَانِ: أَحدهمَا: بِأَن جِبْرِيل كَانَ يري إِبْرَاهِيم الْمَنَاسِك، فَيَقُول: عرفت. وَالثَّانِي: لِأَن آدم وحواء تعارفا هُنَالك.(2/156)
[15] وَقَوله: " أحتسب على الله " أَي أَحسب ذَلِك فِيمَا أدخره عِنْد الله عز وَجل. [15] وَقَوله: " يكفر السّنة الَّتِي قبلهَا وَالسّنة الَّتِي بعْدهَا " الَّتِي تَأتي. وعاشوراء يكفر الَّذِي قبله لِأَنَّهُ فِي بداية السّنة، فَكفر الْمَاضِيَة،(2/157)
(52) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي جهيم الْأنْصَارِيّ
[15] واسْمه عبد الله بن الْحَارِث بن الصمَّة. أخرجَا لَهُ حديثين.
624 - / 741 فَالْحَدِيث الأول: " لَو يعلم الْمَار بَين يَدي الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ عَلَيْهِ أَن يقف أَرْبَعِينَ خير لَهُ من أَن يمر بَين يَدَيْهِ " قَالَ الرَّاوِي: لَا أَدْرِي قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَو شهرا، أَو سنة. [15] إِنَّمَا كره الْمَمَر بَين يَدي الْمُصَلِّي لِأَن الْمَار كالحائل بَينه وَبَين مَقْصُوده، وَيصير كَأَنَّهُ فِي حَال مَمَره مَقْصُود بالتعبد، وَيفرق اجْتِمَاع هم الْمُصَلِّي، فكره لهَذِهِ الْأَشْيَاء.
625 - / 742 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أقبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من نَحْو بِئْر جمل، فَلَقِيَهُ رجل فَسلم عَلَيْهِ، فَلم يرد عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أقبل على الْجِدَار، فَمسح بِوَجْهِهِ وَيَديه، ثمَّ رد عَلَيْهِ السَّلَام. [15] بِئْر جمل: اسْم مَوضِع. وَكَأَنَّهُ كره أَن يرد عَلَيْهِ وَهُوَ غير طَاهِر، لِأَن السَّلَام اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى. يبْقى أَن يُقَال: كَيفَ يَصح التَّيَمُّم فِي الْحَضَر؟ [15] فَجَوَابه من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون هَذَا فِي أول الْأَمر، ثمَّ(2/158)
اسْتَقر الْأَمر على غير ذَلِك. وَالثَّانِي: أَنه نوع تشبه بالطاهرين وَإِن لم يكن لَهُ صِحَة، كَمَا أَمر من أكل يَوْم عَاشُورَاء أَن يمسك بَاقِي النَّهَار، وَكَذَلِكَ تُؤمر الْحَائِض إِذا طهرت فِي أثْنَاء النَّهَار بالإمساك. وَالثَّالِث: قد ذهب الْأَوْزَاعِيّ فِي الْجنب يخَاف إِن اغْتسل أَن تطلع الشَّمْس أَنه يتَيَمَّم وَيُصلي قبل فَوَات الْوَقْت. وَقَالَ أَصْحَاب الرَّأْي: إِذا خَافَ فَوَات صَلَاة الْجِنَازَة وَالْعِيدَيْنِ تيَمّم.(2/159)
(53) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي الدَّرْدَاء الْأنْصَارِيّ
[15] واسْمه عُوَيْمِر. وَيُقَال: عَامر، وعويمر. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَتِسْعَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة عشر.
626 - / 743 - والْحَدِيث الأول: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شهر رَمَضَان فِي حر شَدِيد، وَمَا فِينَا صَائِم إِلَّا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعبد الله بن رَوَاحَة. [15] اتّفق جُمْهُور الْعلمَاء على جَوَاز الْإِفْطَار فِي السّفر، وَالصَّوْم، وَقَالَ دَاوُد: إِذا صَامَ فِي السّفر لم يَصح، وَهَذَا الحَدِيث يرد عَلَيْهِ. وَاخْتلف الْعلمَاء أَيهمَا أفضل؟ فَذهب ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأَبُو بصرة الْغِفَارِيّ إِلَى أَن الْفطر فِي السّفر أفضل، وَوَافَقَهُمْ من التَّابِعين عَطاء وَعِكْرِمَة وَالزهْرِيّ، وَمن الْفُقَهَاء الْأَوْزَاعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: الصَّوْم أفضل. وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الحَدِيث. وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن هَذَا كَانَ فِي أول الْأَمر ثمَّ نسخ بِأَحَادِيث فِي الصِّحَاح، مِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خرج(2/160)
إِلَى مَكَّة أفطر. وَقَالَ الزُّهْرِيّ: إِنَّمَا يُؤْخَذ من أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْآخرِ فالآخر. وَقَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم: وَكَانَ أول الْأَمريْنِ اخْتِيَار الصَّوْم فِي السّفر، فَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصُوم فِي السّفر ثمَّ أفطر، فاختير الْفطر. وَالثَّانِي: أَنه خرج صَائِما ثمَّ أفطر، وَسَيَأْتِي فِي مُسْند جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَى مَكَّة عَام الْفَتْح فصَام ثمَّ دَعَا بقدح من مَاء بعد الْعَصْر فَشرب.
627 - / 744 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " أَلَيْسَ فِيكُم ابْن أم عبد صَاحب النَّعْلَيْنِ والوسادة والمطهرة؟ يَعْنِي ابْن مَسْعُود. وَفِيكُمْ الَّذِي أجاره الله من الشَّيْطَان على لِسَان نبيه؟ يَعْنِي عمارا. وَفِيكُمْ صَاحب سر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ يَعْنِي حُذَيْفَة ". [15] وَقد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود أَنه كَانَ يَلِي هَذِه الْأَشْيَاء من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السّفر. وَقد ذكرنَا فِي مُسْند حُذَيْفَة أَن اسْم أمه أم عبد. [15] وَأما كَون عمار أجِير من الشَّيْطَان فشهادة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ بذلك. وَأما حُذَيْفَة فَإِنَّهُ لما أطلعه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَسمَاء الْمُنَافِقين دون غَيره قيل لَهُ صَاحب السِّرّ.(2/161)
628 - / 745 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] قَالَ أَبُو الدَّرْدَاء: مَا أعرف من أَمر مُحَمَّد شَيْئا إِلَّا أَنهم يصلونَ جَمِيعًا. [15] أَشَارَ أَبُو الدَّرْدَاء إِلَى تغير أَحْوَال كَانَ يعرفهَا فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد عَاشَ أَبُو الدَّرْدَاء قَرِيبا من أَوَاخِر ولَايَة عُثْمَان، لِأَن عُثْمَان قتل فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَأَبُو الدَّرْدَاء توفّي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، فقد رأى فِي تِلْكَ الْأَيَّام مَا لم يكن يألف من تغير النَّاس.
629 - / 746 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أقبل أَبُو بكر آخِذا بِطرف ثَوْبه حَتَّى أبدى عَن رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ النَّبِي: " أما صَاحبكُم فقد غامر ". [15] لما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا بكر يمشي مشْيَة خَارِجَة عَن القانون الصَّالح لَهُ علم أَنه قد خَاصم. وغامر بِمَعْنى غاضب، وَهُوَ مَأْخُوذ من الْغمر: وَهُوَ الحقد. [15] وَقَوله: فأسرعت إِلَيْهِ: أَي كَلمته بِمَا لَا يحسن. [15] ويتمعر: يتَغَيَّر. وَالْأَصْل فِي التمعر قلَّة النضارة وَعدم إشراق اللَّوْن. يُقَال: مَكَان أمعر: إِذا كَانَ مجدبا.
630 - / 747 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " ذهب أهل الدُّثُور بِالْأُجُورِ ". وَقد سبق فِي مُسْند أبي ذَر.(2/162)
631 - / 748 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم. " لَا يكون اللعانون شُفَعَاء وَلَا شُهَدَاء يَوْم الْقِيَامَة " [15] اللَّعْن فِي اللُّغَة الْبعد، وَاللّعان: الَّذِي يتَكَرَّر مِنْهُ اللَّعْن، كالمداح، وَلَا يتَكَرَّر هَذَا إِلَّا مِمَّن لَا يُرَاعِي كَلَامه، وَلَا ينظر فِيمَا يَقُول، وَالشَّهَادَة تَقْتَضِي الْعَدَالَة، وَهَذَا مِمَّا ينافيها. وَكَذَلِكَ الشَّفَاعَة تَقْتَضِي منزلَة، وَهَذَا اللاعن نَازل عَن الْمنزلَة، كَيفَ وَقد بولغ فِي الزّجر عَن اللَّعْن حَتَّى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِنَاقَة لعنت أَن تسيب على مَا ذكرنَا فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن، كل ذَلِك زجر للاعن.
632 - / 749 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: دَعْوَة الْمَرْء الْمُسلم لِأَخِيهِ بِظهْر الْغَيْب مستجابة، عِنْد رَأسه ملك مُوكل، كلما دَعَا لِأَخِيهِ بِخَير قَالَ الْملك الْمُوكل بِهِ: آمين، وَلَك بِمثل " [15] قَوْله: " يظْهر الْغَيْب " أَي وَهُوَ غَائِب، وَذكر الظّهْر تَأْكِيد للغيبة وَنفي للحضور. وَإِنَّمَا كَانَت دَعْوَة الْمُسلم لِأَخِيهِ بِظهْر الْغَيْب مستجابة لِأَنَّهُ لم يثرها سوى الدّين، فَكَانَت لذَلِك خَالِصَة، إِذْ لَيْسَ عِنْده بحاضر فَيُقَال: تملقه، والخالص لَا يرد. وَلما وَقعت الْمُنَاسبَة بَين الْملك وَالْمُسلم فِي التدين والتعبد أوجبت نِيَابَة الْملك عَن الْمُسلم، فَهُوَ يَقُول: " وَلَك بِمثل " أَي بِمثل مَا دَعَوْت.(2/163)
[15] وَفِي هَذَا الحَدِيث ترغيب فِي الدُّعَاء للْمُسلمِ بِظهْر الْغَيْب، لِأَنَّهُ يُثَاب عَلَيْهِ بِدُعَاء الْملك، وَدُعَاء الْملك مستجاب. وَفِيه تَنْبِيه على التحذير من غيبَة الْمُسلم، لِأَن الْملك كَمَا يَدْعُو فِي الْخَيْر لَا يسكت عَن جَوَاب الشَّرّ.
633 - / 750 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي فسمعناه يَقُول: " أعوذ بِاللَّه مِنْك ألعنك بلعنة الله " فَلَمَّا فرغ قُلْنَا لَهُ، فَقَالَ: " إِن عَدو الله إِبْلِيس جَاءَ بشهاب من نَار ليجعله فِي وَجْهي " [15] اعْلَم أَن إِبْلِيس لما غاظه علو الْإِسْلَام، ونكا فِيهِ اشتهاره وارتفاع قدر نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَاءَ مُسْتَقْبلا ليؤذيه. [15] فَإِن قيل: فَكيف دنا مِنْهُ وَهُوَ يفر من ظلّ عمر؟ [15] فَالْجَوَاب: أَنه كَانَ يعلم من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحلم والصفح، وَمن عمر الغلظة والشدة، فطمع فِي جَانب الْحَلِيم. ثمَّ إِنَّه استقتل فِي أَذَى الرئيس وَلم ير أَن يستقتل فِي أَذَى غَيره. [15] وَالْإِشَارَة بدعوة سُلَيْمَان إِلَى قَوْله: {وهب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي} [ص: 35] وَالْمعْنَى: لَو تصرفت فِي الشَّيْطَان بحبسه ضاهيته فِيمَا سخر لَهُ من حبس الشَّيَاطِين، وَقد سَأَلَ أَلا يُشَارك، فَتركت لَهُ هَذِه الْحَالة. [15] وَقَوله: " بلعنة الله التَّامَّة " كَأَنَّهُ الْإِشَارَة بِتَمَامِهَا إِلَى دوامها.
634 - / 752 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَنه أَتَى على امْرَأَة محج على بَاب فسطاط فَقَالَ: " لَعَلَّه يُرِيد أَن يلم بهَا؟ " قَالُوا: نعم. قَالَ:(2/164)
" لقد هَمَمْت أَن ألعنه لعنا يدْخل مَعَه قَبره. كَيفَ يورثه وَهُوَ لَا يحل لَهُ؟ كَيفَ يستخدمه وَهُوَ لَا يحل لَهُ؟ ". [15] وَقَالَ أَبُو عبيد: المحج: الْحَامِل المقرب. وَوجه الحَدِيث أَن يكون الْحمل قد ظهر بهَا قبل أَن تسبى فَنَقُول: إِن جَاءَت بِولد وَقد وَطئهَا بعد ظُهُور الْحمل لم يحل لَهُ أَن يَجعله مَمْلُوكا، لِأَنَّهُ لَا يدْرِي لَعَلَّ الَّذِي ظهر لم يكن حملا، وَإِنَّمَا حدث الْحمل من وَطئه، فَإِن الْمَرْأَة رُبمَا ظن بهَا الْحمل ثمَّ لم يكن شَيْئا، وَالْمعْنَى: لَعَلَّه وَلَده. وَقَوله: كَيفَ يورثه؟ وَالْمرَاد من الحَدِيث النَّهْي عَن وَطْء الْحَوَامِل من السَّبي حَتَّى يَضعن. [15] والفسطاط: بِنَاء مَعْرُوف من الخيم، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: فِيهِ سِتّ لُغَات: فسطاط، وفسطاط، وفستاط، وفستاط، وفساط، وفساط.
635 - / 753 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " من حفظ عشر آيَات من أول سُورَة الْكَهْف عصم من الدَّجَّال " وَفِي رِوَايَة: " من آخر الْكَهْف ". [15] الْكَهْف: المغار فِيهِ الْجَبَل، فَإِن صغر فَهُوَ غَار. [15] والدجال: الْكذَّاب، وَقد اشْتهر عِنْد الْإِطْلَاق بِالَّذِي يخرج فِي آخر الزَّمَان. والعصمة: الْمَنْع. [15] وَأما تَخْصِيص ذَلِك بِعشر آيَات من أول الْكَهْف فَالَّذِي يظْهر لنا فِيهَا من الْحِكْمَة أَن قَوْله تَعَالَى: {لينذر بَأْسا شَدِيدا من لَدنه} [الْكَهْف: 2] يهون(2/165)
بَأْس الدَّجَّال، وَقَوله: {ويبشر الْمُؤمنِينَ الَّذين يعْملُونَ الصَّالِحَات أَن لَهُم أجرا حسنا ماكثين فِيهِ أبدا} [الْكَهْف: 2، 3] يهون الصَّبْر على فتن الدَّجَّال بِمَا يظْهر من نعيمه وعذابه، وَقَوله: {وينذر الَّذين قَالُوا اتخذ الله ولدا} [الْكَهْف: 4] وَقَوله: {كَبرت كلمة تخرج من أَفْوَاههم} [الْكَهْف: 5] فذم من يَدعِي لَهُ ولدا، وَلَا مثل لَهُ، فَكيف يَدعِي الإلهية من هُوَ مثل لِلْخلقِ. فقد تَضَمَّنت الْآيَات مَا يصرف فتْنَة الدَّجَّال. إِلَى قَوْله: {إِذْ أَوَى الْفتية إِلَى الْكَهْف فَقَالُوا رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا} [الْكَهْف: 10] فَهَؤُلَاءِ قوم ابتلوا فصبروا وسألوا صَلَاح أُمُورهم فأصلحت، وَهَذَا تَعْلِيم لكل مدعُو إِلَى الشّرك. [15] وَمن روى " من آخر الْكَهْف " فَإِن فِي قَوْله تَعَالَى: {وعرضنا جَهَنَّم} [الْكَهْف: 100] مَا يهون مَا يظهره من ناره. وَقَوله: {الَّذين كَانَت أَعينهم فِي غطاء عَن ذكري} [الْكَهْف: 101] يُنَبه على التغطية على قُلُوب تَابِعِيّ الدَّجَّال، فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي تَكْذِيبه أَنه جسم مؤلف يقبل التجزؤ، وَفِي الْآيَات: {أَنما إِلَهكُم إِلَه وَاحِد} [الْكَهْف: 110] والمؤلف للأشياء لَا يكون مؤلفا، ثمَّ هُوَ مَحْمُول على حمَار، وخالق الْأَشْيَاء يكون حَامِلا لَهَا لَا مَحْمُولا، ثمَّ هُوَ معيب بالعور، والصانع لَا يطرقه عيب، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا تتضمنه تِلْكَ الْآيَات مِمَّا يدل على كذب الدَّجَّال والكشف عَن فتنته.
636 - / 754 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " أَيعْجزُ أحدكُم أَن يقْرَأ فِي لَيْلَة ثلث الْقُرْآن؟ " قَالُوا: كَيفَ يقْرَأ ثلث الْقُرْآن؟ قَالَ: {قل هُوَ الله أحد} [الْإِخْلَاص: 1] تعدل ثلث الْقُرْآن.(2/166)
[15] الْأَحَد عِنْد الْأَكْثَرين بِمَعْنى الْوَاحِد، وَفرق قوم فَقَالُوا: الْوَاحِد فِي الذَّات والأحد فِي الْمَعْنى. [15] وَفِي معنى كَونهَا ثلث الْقُرْآن ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا مَا أَنبأَنَا بِهِ زَاهِر ابْن طَاهِر قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو عُثْمَان الصَّابُونِي وَأَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ قَالَا: أَنبأَنَا الْحَاكِم أَبُو عبد الله النَّيْسَابُورِي قَالَ: سَمِعت أَبَا الْوَلِيد حسان بن أَحْمد الْفَقِيه يَقُول: سَأَلت أَبَا الْعَبَّاس بن شُرَيْح، قلت: مَا معنى قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {قل هُوَ الله أحد} تعدل ثلث الْقُرْآن "؟ قَالَ: إِن الْقُرْآن أنزل أَثلَاثًا: فثلث أَحْكَام، وَثلث وعد ووعيد، وَثلث أَسمَاء وصفات، وَقد جمع فِي {قل هُوَ الله أحد} أحد الأثلاث وَهُوَ الصِّفَات، فَقيل: إِنَّهَا ثلث الْقُرْآن. [15] وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معرفَة الله هِيَ معرفَة ذَاته، وَمَعْرِفَة أَسْمَائِهِ وَصِفَاته، وَمَعْرِفَة أَفعاله، فَهَذِهِ السُّورَة تشْتَمل على معرفَة ذَاته، إِذْ لَا يُوجد مِنْهُ مثل وَلَا وجد من شَيْء، وَلَا لَهُ مثل، ذكره بعض فُقَهَاء السّلف. [15] وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى: من عمل بِمَا تضمنته من الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ، والإذعان للخالق، كَانَ كمن قَرَأَ ثلث الْقُرْآن وَلم يعْمل بِمَا تضمنه، ذكره ابْن عقيل، قَالَ: وَلَا يجوز أَن يكون الْمَعْنى: من قَرَأَهَا فَلهُ أجر قِرَاءَة ثلث الْقُرْآن، لقَوْل رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من قَرَأَ الْقُرْآن فَلهُ بِكُل حرف عشر حَسَنَات ".(2/167)
(53) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي حميد عبد الرَّحْمَن بن سعد السَّاعِدِيّ
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ خَمْسَة.
637 - / 756 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: اسْتعْمل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا من الأزد يُقَال لَهُ ابْن اللتبية على الصَّدَقَة، فَلَمَّا قدم قَالَ: هَذَا لكم وَهَذَا أهدي إِلَيّ. [15] اسْم ابْن اللتيبة عبد الله، وَيُقَال فِيهِ: ابْن الأتبية. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن هَدَايَا الْعمَّال لَيست كالهدايا الْمُبَاحَة، لِأَن الْعَامِل إِنَّمَا يهدي لَهُ مُحَابَاة ليفعل فِي حق الْمهْدي مَا لَيْسَ لَهُ أَن يفعل، وَتلك خِيَانَة مِنْهُ. [15] وَقَوله: " أَفلا جلس فِي بَيت أمه " يَعْنِي إِنَّمَا أهدي إِلَيْهِ لكَونه عَاملا. [15] وَقَوله: " يحملهُ يَوْم الْقِيَامَة " فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: يحملهُ بصورته. وَالثَّانِي: يحمل إثمه. [15] والرغاء: صَوت الْإِبِل. والخوار: صَوت الْبَقر. واليعار: صَوت الشياه. وَقد صحف بَعضهم فَقَالَ: تنعر بالنُّون. أَنبأَنَا مُحَمَّد بن(2/168)
الْحسن الحاجي قَالَ: أَنبأَنَا عبد الْبَاقِي بن أَحْمد الْوَاعِظ قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو الْحُسَيْن مُحَمَّد بن أَحْمد الْأَهْوَازِي قَالَ: حَدثنَا أَبُو أَحْمد العسكري قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن عبيد الله بن عمار قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد ابْن أبي سعد عَن الْعَبَّاس بن مَيْمُون قَالَ: صحف أَبُو مُوسَى الزَّمن فِي حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سخلة تَيْعر، قَالَ أَبُو مُوسَى: تنعر. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن كل مَا ينْسب بِهِ إِلَى الْحَرَام حرَام، كالقرض الَّذِي يجر مَنْفَعَة، وَكَذَلِكَ من بَاعَ درهما ورغيفا بِدِرْهَمَيْنِ أَو دِينَار، أَو صنجة الْمِيزَان بِدِينَار، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا قد جعل ذَرِيعَة إِلَى الْمَحْظُور.
638 - / 757 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأتينا على حديفة لامْرَأَة، فَقَالَ رَسُول الله: " اخرصوها ". [15] الحديقة: الْبُسْتَان. والخرص: الحزر. وَالْمعْنَى: احزروا قدر مَا يحصل من ثَمَرهَا. والوسق: سِتُّونَ صَاعا. [15] وَأهْدى صَاحب أَيْلَة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بغلة. لما أهْدى إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَعْلُو عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهْدى لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بردا يَعْلُو عَلَيْهِ، ليَكُون الْعُلُوّ فِي الطَّرفَيْنِ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: " هَذِه طابة " يُرِيد الْمَدِينَة. وَالْمعْنَى طيبَة، يُقَال: طيب وطاب، قَالَ الشَّاعِر يمدح عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ:
(مبارك الأعراق فِي الطاب الطاب ... )(2/169)
(بَين أبي العَاصِي وَآل الْخطاب ... ) [15] وَقَوله: " أحد يحبنا ونحبه " يُرِيد أَن أهل أحد - وهم الْأَنْصَار سكان الْمَدِينَة يحبوننا ونحبهم، فأضاف ذَلِك إِلَى الْجَبَل، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] [15] والدور: الْقَبَائِل، وَقد سبق بَيَانه.
639 - / 758 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كَيفَ نصلي عَلَيْك؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى أَزوَاجه وَذريته، كَمَا صليت على إِبْرَاهِيم ". [15] الصَّلَاة من الله: الرَّحْمَة. [15] والأزواج جمع زوج، والفصيح من الْكَلَام أَن يُقَال لامْرَأَة الرجل زوج بِغَيْر هَاء، ويذلك جَاءَ الْقُرْآن. [15] والذرية فِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا " فعلية " من الذَّر، لِأَن الله أخرج الْخلق من صلب آدم كالذر. وَالثَّانِي: أَن أَصْلهَا ذرورة على وزن " فعلولة "، وَلَكِن لما كثر أبدل من الرَّاء الْأَخِيرَة يَاء فَصَارَت ذروية، ثمَّ أدغمت الْوَاو فِي الْيَاء فَصَارَ ذُرِّيَّة، ذكر الْوَجْهَيْنِ الزّجاج وَصوب الأول.(2/170)
[15] وَأما آل إِبْرَاهِيم، فالآل اسْم لكل من رَجَعَ إِلَى مُعْتَمد عَلَيْهِ، فَتَارَة يكون بِالنّسَبِ، وَتارَة يكون بِالسَّبَبِ، وَتارَة يكون الْآل بِمَعْنى الْأَهْل، وَيَقَع صلَة. [15] وَإِبْرَاهِيم اسْم أعجمي، اخْتلفت أَلْفَاظ الْعَرَب بِهِ على حسب مَا رأى كل قوم مِنْهُم أَنه يُقَارب أبنية لغتهم، وَفِيه سِتّ لُغَات: إِحْدَاهُنَّ: إِبْرَاهِيم وَهِي اللُّغَة الفاشية. وَالثَّانيَِة: إبراهام، وَبِه قَرَأَ ابْن عَبَّاس. وَالثَّالِثَة: إبراهم بِكَسْر الْهَاء، قَالَ عبد الْمطلب:
(عذت بِمَا عاذ بِهِ إبراهم ... )
(مُسْتَقْبل الْكَعْبَة وَهُوَ قَائِم ... ) [15] وَالرَّابِعَة: إبراهم بِفَتْح الْهَاء. وَالْخَامِسَة: إبراهم بِضَم الْهَاء. وَالسَّادِسَة إبرهم، قَالَ عبد الْمطلب:
(نَحن آل الله فِي كعبته ... لم يزل ذَاك على عهد ابرهم)
[15] والحميد بِمَعْنى الْمَحْمُود. والمجيد بِمَعْنى الْمَاجِد. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ الشريف. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هُوَ الْوَاسِع الْكَرم. وأصل الْمجد فِي كَلَام الْعَرَب السعَة، والماجد: السخي الْوَاسِع الْعَطاء. وَفِي مثل: " فِي كل شجر نَار، واستمجد المرخ والعفار " أَي: استكثر مِنْهُمَا.(2/171)
640 - / 759 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ: [15] رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كبر جعل يَدَيْهِ حذاء مَنْكِبَيْه. الْمنْكب: رَأس الْكَتف المشرف مِنْهُ. [15] وهصر ظَهره: أَي مده وسواه. وَقَالَ الْخطابِيّ: ثناه وخفضه. [15] والفقار: خرز الظّهْر، يُقَال: فقرة وفقرة، وَبَعْضهمْ يضم الْفَاء. [15] وَقَوله: غير مفترش: أَي لَا يفترش ذِرَاعَيْهِ. وافتراشهما: إلصاقهما بِالْأَرْضِ، وقبضهما يمْنَع التَّمَكُّن من بسط الْكَعْبَيْنِ على الأَرْض. [15] وَقَوله فَإِذا جلس فِي الرَّكْعَتَيْنِ - يَعْنِي: التَّشَهُّد الأول - جلس على رجله الْيُسْرَى، وَهُوَ الَّذِي يُسمى الافتراش. [15] وَقَوله: فَإِذا جلس فِي الرَّكْعَة الْأَخِيرَة - يَعْنِي التَّشَهُّد الْأَخير، فوصف فِيهِ التورك، وَهُوَ أَن يحني رجلَيْهِ وَيقْعد على الأَرْض.
641 - / 760 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم: [15] أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقدح لبن من النقيع، لَيْسَ مخمرا، فَقَالَ: " أَلا خمرته وَلَو تعرض عَلَيْهِ عودا ". [15] المخمر: المغطى. [15] وَقَوله: " تعرض ": أَي وَلَو أَن تعرض، وَالرَّاء مَضْمُومَة، وَبَعض الْعلمَاء يكسرها، وَالْمعْنَى أَن تجْعَل الْعود على عرضه، وَذَلِكَ(2/172)
يستر بعضه. [15] والأسقية جمع سقاء، وَهُوَ الْجلد المدبوغ الْمُتَّخذ للْمَاء كالقربة وَقَالَ أَبُو زيد: يُقَال لمسك السخلة مَا دَامَت ترْضع شكوة، فَإِذا فطم فمسكة البدرة، فَإِذا أجذع فمسكة السقاء. [15] وتوكى: تشد أفواهها. قَالَ أَبُو حميد: إِنَّمَا أَمر أَن توكى لَيْلًا. وَقد بيّنت عِلّة تَخْصِيص اللَّيْل بذلك على مَا سَيَأْتِي فِي مُسْند جَابر إِن شَاءَ الله.(2/173)
(55) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن سَلام
[15] وَهُوَ من ولد يُوسُف بن يَعْقُوب عَلَيْهِمَا السَّلَام، أسلم فِي أول سنة من سني الْهِجْرَة. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا: أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
642 - / 761 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: فِي ذكر مَنَام لَهُ: فَجَاءَنِي منصف: الْمنصف بِكَسْر الْمِيم: الوصيف وَالْخَادِم. [15] وَقَوله: فرقيت: الْقَاف مَكْسُورَة، يُقَال: رقيت: إِذا صعدت، ورقيت، بِفَتْح الْقَاف من الرّقية. وَبَعض الْمُحدثين يفتح الْقَاف فِي الصعُود وَلَا يدْرِي. [15] وَقَوله: وَتلك العروة، عُرْوَة الوثقى. إِنَّمَا لم يقل العروة الوثقى لِأَنَّهُ يجوز نِسْبَة الشَّيْء إِلَى نَفسه، كَقَوْلِه: {ولدار الْآخِرَة} [النَّحْل: 30] . [15] والجواد: الطّرق، واحدتها جادة. [15] والمنهج: الْمُسْتَقيم. [15] وَقَوله: فزجل بِي: أَي رمى بِي.(2/174)
643 - / 762 وَفِيمَا انْفَرد البُخَارِيّ عَن ابْن سَلام: [15] قَالَ: إِذا كَانَ لَك على رجل حق وَأهْدى إِلَيْك حمل تبن أَو حمل قت فَلَا تَأْخُذهُ؛ فَإِنَّهُ رَبًّا. [15] القت مَعْرُوف من علف الْبَهَائِم. وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَن قبُول الْهَدِيَّة من الْمَدِين لِأَنَّهُ فِي معنى الرِّبَا، من جِهَة أَنه يطْلب بذلك مسامحته وَتَأْخِير دينه.(2/175)
(56) كشف الْمُشكل من مُسْند سهل بن أبي حثْمَة
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة. 644 / 763 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: انْطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مَسْعُود إِلَى خَيْبَر وَهِي يَوْمئِذٍ صلح، فتفرقا، فَأتى محيصة إِلَى عبد الله بن سهل وَهُوَ يَتَشَحَّط فِي دَمه قَتِيلا. أَي يضطرب فِيهِ. [15] وَقَوله: " كبر " أَي ليَتَكَلَّم الْأَكْبَر. [15] وَقَوله: " فتبرئكم يهود " أَي تحلف بِالْبَرَاءَةِ من قَتله. [15] وَقَوله: فعقله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَي أعْطى دِيَته. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: عقلت الْمَقْتُول: أَعْطَيْت دِيَته. وعقلت عَن فلَان: إِذا لَزِمته دِيَة فأعطيتها عَنهُ. قَالَ الْأَصْمَعِي: كلمت القَاضِي أَبَا يُوسُف عِنْد الرشيد فِي هَذَا فَلم يفرق بَين عقلته وعقلت عَنهُ حَتَّى فهمته. قَالَ الْخطابِيّ: يشبه أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أعطَاهُ من سهم الغارمين على معنى الْحمالَة فِي إصْلَاح ذَات الْبَين، إِذْ لَا مصرف لمَال الصَّدقَات فِي الدِّيات.(2/176)
[15] وَقَوله: برمتِهِ. أَي يسلم إِلَى أَوْلِيَاء الْقَتِيل. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الرمة: الْحَبل الْبَالِي، وأصل هَذَا أَن رجلا دفع إِلَى رجل بَعِيرًا بِحَبل فِي عُنُقه، فَقيل ذَلِك لكل من دفع شَيْئا بجملته. [15] وَقَوله: فوداه: أَي أدّى دِيَته. [15] والمربد: موقف الأبل، واشتقاقه من ربد: أَي أَقَامَ، والمربد أَيْضا: مَوضِع يلقى فِيهِ التَّمْر كالجرين. [15] وَاعْلَم أَن الْقسَامَة مِمَّا حكم بِهِ الْجَاهِلِيَّة، وَأول من قضى بهَا الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، فأقرها الْإِسْلَام. وَأول قسَامَة كَانَت فِي الْإِسْلَام فِي بني هَاشم، ثمَّ ثنت هَذِه الْقِصَّة والقسامة مَعْمُول بهَا. [15] وَعِنْدنَا أَنه يبْدَأ فِيهَا بأيمان المدعين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يبْدَأ بأيمان الْمُدعى عَلَيْهِم. وَإِذا حلف الْوَلِيّ فِي الْقسَامَة وَجب الْقصاص عندنَا، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي " الْجَدِيد ": لَا يجب عَلَيْهِ الْقصاص بِحَال. وَعِنْدنَا أَنه لَيْسَ للْوَلِيّ أَن يقسم على أَكثر من وَاحِد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: يجوز أَن يَدعِي على جمَاعَة. وَعِنْدنَا أَن الْقسَامَة تجب وَإِن لم يكن بالقتيل أثر. وَعَن أَحْمد: لَا يجب حَتَّى يكون بِهِ أثر كَقَوْل أبي حنيفَة. واللوث الَّذِي تجب مَعَه الْقسَامَة هُوَ الْعَدَاوَة الظَّاهِرَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: الِاعْتِبَار بِوُجُود الْقَتِيل فِي مَحَله وَبِه أثر. وَإِذا كَانَ المدعون جمَاعَة قسمت الْأَيْمَان عَلَيْهِم بِالْحِسَابِ وجبر(2/177)
الْكسر، خلافًا لأحد قولي الشَّافِعِي: يحلف كل وَاحِد مِنْهُم خمسين يَمِينا. وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد هَل يخْتَص الْيَمين بالوارث من الْعصبَة أم لَا؟ فَروِيَ عَنهُ: يخْتَص، وَعنهُ: لَا يخْتَص، كَقَوْل مَالك. [15] وَعِنْدنَا أَنه لَا مدْخل للنِّسَاء فِي أَيْمَان الْقسَامَة بِحَال خلافًا للأكثرين، إِلَّا أَن مَالِكًا قَالَ: لَا يدخلن إِلَّا فِي الْخَطَأ. [15] والقسامة تجب عندنَا فِي قتل العبيد أَيْضا، خلافًا لمَالِك. وَعَن الشَّافِعِي كالمذهبين.
645 - / 764 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: نهى عَن بيع الثَّمر بِالتَّمْرِ، وَرخّص فِي بيع الْعَرَايَا، وَنهى عَن الْمُزَابَنَة. [15] والْحَدِيث قد شرحناه فِي مُسْند زيد بن ثَابت. والمزابنة: هِيَ بيع الثَّمر فِي رُؤُوس النّخل بِالتَّمْرِ.
646 - / 765 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: صَلَاة الْخَوْف، وَأَنه صلاهَا يَوْم ذَات الرّقاع. [15] غزَاة ذَات الرّقاع كَانَت فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة. وَأما تَسْمِيَتهَا بِذَات الرّقاع فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا أَن أَقْدَام الصَّحَابَة نقبت أَي تقرحت وورمت، فلفوا على أَرجُلهم الْخرق، فسميت غَزْوَة ذَات الرّقاع. وَهَذَا قد تقدم من قَول أبي مُوسَى فِي مُسْنده. وَالثَّانِي: أَنه جبل فِيهِ(2/178)
حمرَة وَسَوَاد وَبَيَاض كَانُوا ينزلون فِيهِ، ذكره مُحَمَّد بن سعد فِي " الطَّبَقَات ". [15] وَالصَّلَاة الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الحَدِيث هِيَ الْمُعْتَمد عَلَيْهَا عندنَا وَعند الشَّافِعِي فِي صَلَاة الْخَوْف، وَعَن مَالك رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: مثل قَوْلنَا. وَالثَّانيَِة: أَن الإِمَام يسلم وَلَا ينْتَظر الطَّائِفَة الْأُخْرَى. وَأما أَبُو حنيفَة فَإِنَّهُ يعْتَمد على مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَة والطائفة الْأُخْرَى مُوَاجهَة الْعَدو، ثمَّ انصرفوا فَقَامُوا فِي مقَام أُولَئِكَ، فجَاء أُولَئِكَ فصلى بهم رَكْعَة أُخْرَى ثمَّ سلم، ثمَّ قَامَ هَؤُلَاءِ فقضوا ركعتهم، وَقَامَ هَؤُلَاءِ فقضوا ركعتهم. [15] وَهَذِه الصَّلَاة الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث سهل إِنَّمَا تجوز بأَرْبعَة شَرَائِط: أَحدهمَا: أَن يكون الْعَدو مُبَاح الْقَتْل. وَالثَّانِي: أَن يكون فِي غير جِهَة الْقبْلَة. وَالثَّالِث: أَن لَا يُؤمن هجومه. وَالرَّابِع: أَن يكون فِي الْمُصَلِّين كَثْرَة يُمكن تفريقهم طائفتين، كل طَائِفَة ثَلَاثَة فَأكْثر، فتجعل طَائِفَة بِإِزَاءِ الْعَدو وَطَائِفَة خَلفه تصلي. وَأما إِذا كَانَ الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة وهم بِحَيْثُ لَا يخفى بَعضهم على بعض، وَلَا يخَاف الْمُسلمُونَ كمينا وَفِيهِمْ كَثْرَة فَإِنَّهُ يقفهم خَلفه صفّين فَصَاعِدا، وَيحرم بهم أَجْمَعِينَ، فَإِذا أَرَادَ أَن يسْجد فِي الرَّكْعَة الأولى سجدوا كلهم إِلَّا الصَّفّ الأول الَّذِي يَلِيهِ فَإِنَّهُ يقف فيحرسهم، فَإِذا قَامُوا إِلَى الثَّانِيَة سجد الَّذين حرسوا وَلَحِقُوا بِهِ فصلوا أَجْمَعِينَ، فَإِذا سجد فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة حرس الصَّفّ(2/179)
الَّذِي سجد مَعَه فِي الرَّكْعَة الأولى، فَإِذا جلس سجد الَّذين حرسوه ولحقوه، وَتشهد بِالْجَمِيعِ وَيسلم. فَإِذا اشْتَدَّ الْخَوْف والتحم الْقِتَال صلوا رجَالًا وركبانا إِلَى الْقبْلَة وَغَيرهَا، إِيمَاء وَغير إِيمَاء على قدر طاقتهم، فَإِن احتاجوا إِلَى الْكر والفر والطعن وَالضَّرْب فعلوا وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِم.(2/180)
(57) كشف الْمُشكل من مُسْند ظهير بن رَافع
[15] وَهُوَ بَدْرِي. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حديثان، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
647 - / 766 وَهُوَ قَوْله: لقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَمر كَانَ بِنَا رافقا: سَأَلَني " كَيفَ تَصْنَعُونَ بمحاقلكم؟ " فَقلت: نؤاجرها على الرّبيع والأوسق من التَّمْر أَو الشّعير. قَالَ: " لَا تَفعلُوا، ازرعوها، أَو أزرعوها أَو أمسكوها ". [15] والمحاقل: الْمزَارِع. [15] وَالربيع: النَّهر الصَّغِير، وَجمعه أربعاء، وَمثله الْجَدْوَل. قَالَ ابْن قُتَيْبَة كَانُوا يكرون الأَرْض بِشَيْء مَعْلُوم، ويشترطون بعد ذَلِك على مكتريها مَا ينْبت على الْأَنْهَار، فَنهى عَن ذَلِك. [15] وَقَوله: نهى عَن كِرَاء الأَرْض يَعْنِي. على هَذَا الْوَجْه، رُبمَا ينْبت بَعْضهَا، فَرُبمَا لم ينْبت مَا اشترطوه، وَرُبمَا نبت وَلم ينْبت غَيره. وَيحْتَمل أَن يكون نهى عَن كِرَاء الأَرْض ليرتفق بعض النَّاس من بعض، وَلذَلِك ندبهم إِلَى أَن يمنح الْإِنْسَان أَخَاهُ أرضه ليزرعها فينتفع بذلك.(2/181)
(58) كشف الْمُشكل من مُسْند رَافع بن خديج
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة وَسَبْعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة.
648 - / 767 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: كُنَّا أَكثر الْأَنْصَار حقلا، فَكُنَّا نكرِي الأَرْض على أَن لنا هَذِه وَلَهُم هَذِه، فَرُبمَا أخرجت هَذِه وَلم تخرج هَذِه، فنهانا عَن ذَلِك؛ فَأَما الْوَرق فَلم ينهنا. وَفِي رِوَايَة: كَانَ النَّاس يؤاجرون بِمَا على الماذيانات، وأقبال الجداول، وَأَشْيَاء من الزَّرْع. وَقد سبق بَيَان الحقل. وَالْوَرق: الْفضة. [15] والماذيانات: الْأَنْهَار الْكِبَار، الْوَاحِد ماذيان، كَذَلِك تسميها الْعَجم وَلَيْسَت بعربية والسواقي دون الماذيانات. [15] والجدول: النَّهر الصَّغِير. وأقبال الجداول: أوائلها وَمَا اسْتقْبل مِنْهَا. وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا ينْبت عَلَيْهَا من العشب. كَانَ يشْتَرط على الْمزَارِع(2/182)
أَن يَزْرَعهَا خَاصَّة لرب المَال سوى الشَّرْط على الثُّلُث وَالرّبع، وَهَذِه الْأَشْيَاء لَا يدْرِي أتسلم أم تعطب، فَهِيَ فِي حيّز الْمَجْهُول. والمزارع: كل مَا يَتَأَتَّى زراعته من الأَرْض. [15] وَقَوله: كُنَّا لَا نرى بالْخبر بَأْسا. الْخَبَر بِكَسْر الْخَاء، ذكره أَبُو عبيد فَقَالَ: الْخَبَر وَالْمُخَابَرَة: الْمُزَارعَة بِالنِّصْفِ وَالثلث وَالرّبع وَأَقل أَو أَكثر. وَكَانَ أَبُو عبيد يَقُول: لهَذَا يُسَمِّي الأكار خَبِيرا، لِأَنَّهُ يخابر الأَرْض. وَالْمُخَابَرَة هِيَ المؤاكرة، وَسمي الأكار لِأَنَّهُ يؤاكر الأَرْض. وَقَالَ غَيره: أصل هَذَا من خَيْبَر؛ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقرها فِي أَيْديهم على النّصْف، فَقيل: خابرهم: أَي عاملهم فِي خَيْبَر. [15] وَاعْلَم أَن الْمُزَارعَة بِبَعْض مَا تخرج الأَرْض إِذا كَانَ مَعْلُوما عندنَا جَائِزَة، وَهُوَ قَول الثَّوْريّ وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: لَا تصح بِحَال. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا تجوز فِي الأَرْض الْبَيْضَاء وَتجوز إِذا كَانَ فِي الأَرْض نخل أَو كرم تبعا لَهما.
649 - / 768 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي الحليفة، فَأصَاب النَّاس جوع، فَأَصَابُوا إبِلا وَغنما، وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أخريات الْقَوْم، فعجلوا وذبحوا ونصبوا الْقُدُور، فَأمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالقدور فأكفئت. [15] أكفئت بِمَعْنى كبت: يُقَال: كفأت الْقدر: إِذا كببتها لتفرغ مَا فِيهَا.(2/183)
وَهَذَا لأَنهم أخذُوا مغنما لم يقسمهُ بَينهم، فعاقبهم بِهَذَا. [15] قَوْله: فَعدل: ماثل وساوى. يُقَال: عدلت كَذَا بِكَذَا: أَي ماثلت بِهِ. [15] فند بعير: أَي ذهب فِي الأَرْض. [15] والبهائم جمع بَهِيمَة، قَالَ الزّجاج: إِنَّمَا قيل لَهَا بَهِيمَة لِأَنَّهُمَا أبهمت عَن أَن تميز، وكل حَيّ لَا يُمَيّز فَهُوَ بَهِيمَة. [15] قَالَ أَبُو عبيد: والأوابد. الَّتِي قد توحشت ونفرت من النَّاس. وتأبدت الدَّار تأبدا، وأبدت تأبد وتأبد أبودا: إِذا خلا مِنْهَا أَهلهَا وخلفتهم الْوَحْش فِيهَا. [15] والمدى جمع مدية: وَهِي الشَّفْرَة. [15] وأنهر الدَّم: أساله وصبه بِكَثْرَة، وَهُوَ تَشْبِيه لجَرَيَان الدَّم من الْعُرُوق بجريان المَاء فِي النَّهر. [15] وَقَوله: " أما السن فَعظم "، إِن قَالَ قَائِل: قد عرف هَذَا، فَمَا فَائِدَته؟ وَإِذا كَانَ الظفر مدى الْحَبَشَة فَلم يمْتَنع الذّبْح بِهِ؟ وَلَو أَن مُسلما ذبح بمدية حبشِي جَازَ؟ [15] فَالْجَوَاب أَن قَوْله: " أما السن فَعظم " يدل على أَنه قد كَانَ متقررا فِي عرفهم أَلا يذبحوا بِعظم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يقطع الْعُرُوق كَمَا يَنْبَغِي. وَأما الْحَبَشَة فقد جرت عَادَتهم بِاسْتِعْمَال الْأَظْفَار مَكَان المدى فتنزهق النَّفس خنقا لَا ذبحا.(2/184)
650 - / 769 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " الْحمى من فَور جَهَنَّم " وَفِي لفظ: " من فيح جَهَنَّم فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ ". الْفَوْر والفيح والفوح: اشتداد حرهَا وَقُوَّة غليانها، يُقَال: فاحت الْقدر تفيح: إِذا غلت. [15] وَقَوله: " أبردوها " أَي قابلوا حرهَا بِبرد المَاء وصبه على المحموم. [15] فَإِن قيل: فَنحْن نجد عُلَمَاء الطِّبّ يمْنَعُونَ من اغتسال المحموم. وَيَقُولُونَ: لَا يجوز مُقَابلَة الْأَشْيَاء بأضدادها بَغْتَة، وَالرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام لَا يَقُول إِلَّا حِكْمَة وَحقا، وَقد ذكر عَن بعض من ينْسب إِلَى الْعلم أَنه حم فاغتسل، فاختفت الْحَرَارَة فِي بدنه، فَزَاد مَرضه، فَأخْرجهُ الْأَمر إِلَى أَشْيَاء أحْسنهَا التَّكْذِيب بِالْحَدِيثِ. [15] وَالْجَوَاب: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا خَاطب بِهَذَا أَقْوَامًا كَانُوا يعتادون مثل هَذَا فِي مثل تِلْكَ الأَرْض، والطب يَنْقَسِم: فشيء مِنْهُ بِالْقِيَاسِ كطب اليونانيين، وَشَيْء مِنْهُ تجارب كطب الْعَرَب، وَالْعرب تستشفي بأَشْيَاء لَا توَافق غَيرهم. وَقد قَالَ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: تبريد الحميات الصفراوية بسقي المَاء الْبَارِد وَوضع أَطْرَاف المحموم فِيهِ من أَنْفَع العلاج وأسرعه إِلَى إطفاء نارها، وعَلى هَذَا الْوَجْه أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتبريد الْحمى بِالْمَاءِ دون الانغماس فِيهِ. قَالَ: وَبَلغنِي عَن ابْن الْأَنْبَارِي أَنه كَانَ يَقُول: معنى قَوْله: " فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ " أَي تصدقوا بِالْمَاءِ عَن الْمَرِيض يشفه الله عز وَجل، لما رُوِيَ أَن أفضل الصَّدَقَة سقِِي المَاء. قلت: هَذَا كُله(2/185)
تكلّف فِي الْجَواب يردة مَا سَيَأْتِي فِي مُسْند أَسمَاء بنت أبي بكر: أَنَّهَا كَانَت إِذا أتيت بِالْمَرْأَةِ قد حمت تَدْعُو لَهَا، أخذت المَاء فصبته بَينهَا وَبَين جيبها، وَقَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا أَن نبردها بِالْمَاءِ.
وَأخْبرنَا مُحَمَّد بن أبي طَاهِر الْبَزَّار قَالَ: أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن عمر الْبَرْمَكِي قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد بن ماسي قَالَ: أخبرنَا أَبُو مُسلم الْكَجِّي قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل ابْن مُسلم الْمَكِّيّ عَن الْحسن عَن سَمُرَة بن جُنْدُب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " الْحمى قِطْعَة من النَّار فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُم بِالْمَاءِ الْبَارِد " وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا حم دَعَا بقربة من مَاء فأفرغها على قرنه فاغتسل. [15] فَهَذَا على خلاف مَا قَالَه الْخطابِيّ وَابْن الْأَنْبَارِي. وَالصَّحَابَة أعرف بمقصود الرَّسُول فِي خطابه، وَإِنَّمَا الْوَجْه مَا أَخْبَرتك بِهِ من عادات الْعَرَب فِي بِلَادهمْ. وَقد قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي قَوْله: " فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ " قَالَ: هَذَا لأهل الْمَدِينَة، لَو كَانَ رجل بخراسان فِي الشتَاء كَانَ يصب عَلَيْهِ المَاء، فَهَذَا يصدق مَا ذهبت إِلَيْهِ.
651 - / 770 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: كُنَّا نصلي الْمغرب مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَنْصَرِف أَحَدنَا وَإنَّهُ ليبصر مواقع نبله. مواقع النبل إِنَّمَا يكون فِي الْمَكَان المكشوف والصحراء، وَكَانُوا(2/186)
يصلونَ الْمغرب مَعَ الْغُرُوب فيتهيأ لذَلِك إبصار مواقع النبل، وَكَذَلِكَ كَانُوا يقدمُونَ الْعَصْر فِي أول وَقتهَا فيتهيأ مَا وَصفه فِي الحَدِيث الَّذِي يَلِيهِ.
652 - / 772 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: أعْطى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة - قد عدهم - مائَة مائَة من الْإِبِل، وَأعْطى عَبَّاس بن مرداس دون ذَلِك، فَقَالَ:
(أَتجْعَلُ نَهْبي وَنهب العبيد ... بَين عُيَيْنَة والأقرع)
(وَمَا كَانَ حصن وَلَا حَابِس ... يَفُوقَانِ مرداس فِي مجمع)
(وَمَا كنت دون امْرِئ مِنْهُمَا ... وَمن تخْفض الْيَوْم لَا يرفع)
[15] فَأَتمَّ لَهُ مائَة. [15] هَذَا الْعَطاء كَانَ يَوْم حنين، وَكَانَ السَّبي يَوْمئِذٍ سِتَّة آلَاف رَأس، وَالْإِبِل أَرْبَعَة وَعشْرين ألف بعير، وَالْغنم أَكثر من أَرْبَعِينَ ألف شَاة، وغنم أَرْبَعَة آلَاف أُوقِيَّة فضَّة، فَأعْطى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا سُفْيَان بن حَرْب مائَة من الْإِبِل، وَأَرْبَعين أُوقِيَّة، وَأعْطى ابْنه يزِيد مثله، وَابْنه مُعَاوِيَة مثله، وَحَكِيم بن حزَام مائَة من الْإِبِل، ثمَّ سَأَلَهُ فَأعْطَاهُ مائَة(2/187)
أُخْرَى، وَأعْطى النَّضر بن الْحَارِث مائَة من الْإِبِل، وَصَفوَان بن أُميَّة، والْحَارث بن هِشَام، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَقيس بن عدي، وَحُوَيْطِب ابْن عبد الْعُزَّى، وَأسيد بن جَارِيَة، والأقرع بن حَابِس، وعلقمة بن علاثة، وعيينة بن حصن، وَالْعَبَّاس بن مرداس، وَمَالك بن عَوْف، كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ مائَة من الْإِبِل، وَأعْطى الْعَلَاء بن جَارِيَة، ومخرمة بن نَوْفَل، وَسَعِيد بن يَرْبُوع، وَعُثْمَان بن وهب، وَهِشَام بن عَمْرو، كل وَاحِد خمسين بَعِيرًا، فَهَؤُلَاءِ الَّذين أَعْطَاهُم من الْمُؤَلّفَة يتألفهم بالعطاء على الْإِسْلَام، لِأَنَّهُ كَانَ كالمتزلزل فِي قُلُوبهم، غير أَن أَكثر هَؤُلَاءِ قوي الْإِيمَان فِي قلبه فَخرج عَن حد التَّأْلِيف وَبَقِي عَلَيْهِ الِاسْم. [15] وَقَول الْعَبَّاس: أَتجْعَلُ نَهْبي وَنهب العبيد. العبيد اسْم فرسه. وَقَوله وَمَا كَانَ حصن وَلَا حَابِس. يَعْنِي أَبَوي عُيَيْنَة والأقرع، فعيينة بن حصن، والأقرع بن حَابِس. ويفوق بِمَعْنى يرْتَفع. فَالْمَعْنى: مَا كَانَ أبي دون أبويهما. وَلَا أَنا دونهمَا، وَكَأَنَّهُ ضج خوفًا من نقص مرتبته لَا لأجل المَال، وَلِهَذَا قَالَ: وَمن تخْفض الْيَوْم لَا يرفع.
653 - / 773 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وهم يأبرون النّخل، فَقَالَ: " لَعَلَّكُمْ لَو لم تَفعلُوا كَانَ خيرا " فَتَرَكُوهُ، فنفضت أَو نقصت. [15] يأبرون: يُلَقِّحُونَ. والإبار: تلقيح النّخل. ونخلة مأبورة ومؤبرة.(2/188)
[15] ونفضت: أَي نفضت مَا حملت من التَّمْر فِي مبادئ الْحمل. ونقصت بالصَّاد: أَي عَمَّا كَانَت تحمل. وَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام أعرض عَن الْأَسْبَاب إقبالا على الْمُسَبّب، ثمَّ عرف تَأْثِير الْأَسْبَاب فَقَالَ: " إِنَّمَا أَنا بشر " وَقد ذكرنَا هَذَا فِي مُسْند طَلْحَة.
654 - / 774 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: حرم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بَين لابتيها. [15] وَقد سبق بَيَان هَذَا، وَأَن اللابة الْحرَّة: وَهِي أَرض فِيهَا حِجَارَة سود، وَالْمَدينَة بَين لابتين.(2/189)
(59) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ
[15] فِي الصَّحَابَة رجلَانِ من الْأَنْصَار يُقَال لكل وَاحِد مِنْهَا عبد الله بن زيد، وَإِنَّمَا يفرق بَينهمَا بالأجداد، وَأَحَدهمَا ابْن ثَعْلَبَة، وَهُوَ رائي الْأَذَان فِي الْمَنَام، وَهُوَ من أهل بدر. وَالثَّانِي: ابْن عَاصِم، وَهُوَ صَاحب هَذَا الْمسند، وَلم يشْهد بَدْرًا. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْهَا ثَمَانِيَة.
655 - / 766 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الثَّانِي: شكي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرجل يخيل إِلَيْهِ أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة. قَالَ: " لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا ". [15] هَذَا نهي عَن الْعَمَل بِمُقْتَضى الوسواس لِأَن يَقِين الطَّهَارَة لَا يقاومه الشَّك، وَفِي هَذَا تَنْبِيه على ترك مُوَافقَة الوسواس فِي كل حَال.
656 - / 777 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: أَنه قسم يَوْم حنين وَلم يُعْط الْأَنْصَار شَيْئا. وَقَالَ: " كُنْتُم عَالَة فَأَغْنَاكُمْ الله بِي ". العالة: الْفُقَرَاء.(2/190)
وَقَوله: " لَو شِئْتُم قُلْتُمْ: جئتنا كَذَا وَكَذَا " أَي وحيدا طريدا. [15] وَقَوله: " لَوْلَا الْهِجْرَة لَكُنْت امْرَءًا من الْأَنْصَار " إِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يتَصَوَّر أَن يكون من الْأَنْصَار؟ وَكَيف أَرَادَ هَذَا وَنسبه أفضل؟ [15] وَالْجَوَاب: أَنه لم يرد تَغْيِير النّسَب وَلَا محو الْهِجْرَة، إِذا كِلَاهُمَا إِذا كِلَاهُمَا مَمْنُوع من تَغْيِيره، وَإِنَّمَا أَرَادَ النِّسْبَة إِلَى الْمَدِينَة والنصرة للدّين، فالتقدير: لَوْلَا أَن النِّسْبَة إِلَى الْهِجْرَة نِسْبَة دينية لَا يسع تَركهَا لانتسبت إِلَى داركم. ثمَّ إِن لَفْظَة لَوْلَا ترَاد لتعظيم الْأَمر وَإِن لم يَقع، كَقَوْلِه تَعَالَى: {لَوْلَا كتاب من الله سبق} [الْأَنْفَال: 68] . وَهَذَا إِنَّمَا صدر مِنْهُ بَيَانا لتفضيلهم وحبه إيَّاهُم. [15] والشعب: مَا تفرق بَين الجبلين. [15] والشعار: مَا ولي الْجَسَد. والدثار: مَا تدثر بِهِ الْإِنْسَان فَوق الثِّيَاب. [15] والأثرة: الاستئثار.
657 - / 778 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: خرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَسْقِي، فَدَعَا وقلب رِدَاءَهُ. وَيَجِيء فِي حَدِيث آخر: وحول رِدَاءَهُ. [15] اخْتلفُوا فِي صفة التَّحْوِيل للرداء: فَقَالَ الشَّافِعِي: ينكس أَعْلَاهُ أَسْفَله وأسفله أَعْلَاهُ، ويتوخى أَن يَجْعَل مَا على شقَّه الْأَيْمن على شقة الْأَيْسَر وَيجْعَل الْجَانِب الْأَيْسَر على الْجَانِب الْأَيْمن. وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل وَإِسْحَق: يَجْعَل الْيَمين على الشمَال، وَالشمَال على الْيَمين. وَقَول مَالك قريب من ذَلِك. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِذا كَانَ الرِّدَاء مربعًا(2/191)
نكسه وَإِذا كَانَ طيلسانا مدورا قلبه وَلم ينكسه، وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن: تأولوه على مَذْهَب التفاؤل: أَي لينقلب مَا بهم الجدب إِلَى الخصب.
758 - / 779 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " مَا بَين بَيْتِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة ". [15] الرَّوْضَة: الأَرْض المخضرة بالنبات. وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى الحَدِيث: من لزم طَاعَة فِي هَذِه الْبقْعَة آلت بِهِ الطَّاعَة إِلَى رَوْضَة من رياض الْجنَّة.
659 - / 780 وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة ودعا لَهَا، وَإِنِّي حرمت الْمَدِينَة كَمَا حرم إِبْرَاهِيم مَكَّة، وَإِنِّي دَعَوْت فِي صاعها ومدها بمثلي مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيم لأهل مَكَّة ". [15] إِن قيل: كَيفَ قَالَ: " إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة " وَسَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس: " إِن هَذَا الْبَلَد حرمه الله يَوْم خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ ". [15] فَالْجَوَاب: أَن الله تَعَالَى قضى بِتَحْرِيمِهِ وأجرى الحكم بذلك على لِسَان إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام.(2/192)
[15] وَأما الصَّاع فَهُوَ خَمْسَة أَرْطَال وَثلث، وَالْمدّ رَطْل وَثلث بالعراقي هَذَا مَذْهَبنَا وَمذهب أهل الْحجاز. وَذهب الْعِرَاقِيُّونَ إِلَى أَن الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال وَالْمدّ رطلان. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أظنهم سمعُوا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يغْتَسل بالصاع، وسمعوا فِي حَدِيث آخر أَنه يغْتَسل بِثمَانِيَة أَرْطَال، وسمعوا فِي حَدِيث آخر أَنه كَانَ يتَوَضَّأ برطلين، فتوهموا أَن الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال لهَذَا.
660 - / 781 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: لما كَانَ زمن الْحرَّة أَتَاهُم آتٍ فَقَالَ: إِن ابْن حَنْظَلَة يُبَايع النَّاس على الْمَوْت. [15] ابْن حَنْظَلَة اسْمه عبد الله بن حَنْظَلَة غسيل الْمَلَائِكَة، وَكَانَ حَنْظَلَة قد خرج إِلَى أحد جنبا، لِأَنَّهُ سمع الصائح فأسرع فَقتل، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " رَأَيْت الْمَلَائِكَة الْمَلَائِكَة تغسله بِمَاء المزن فِي صحاف الْفضة " فَسُمي غسيل الْمَلَائِكَة، وَكَانَ ابْنه عبد الله فِي أَيَّام الْحرَّة قد خلع يزِيد، وَبَايع النَّاس على أَن يصبروا على الْقِتَال إِلَى الْمَوْت، على أَن يكون هُوَ أَمِيرا على الْأَنْصَار، وَعبد الله بن مُطِيع أَمِيرا على قُرَيْش، وَمَعْقِل بن سِنَان الْأَشْجَعِيّ أَمِيرا على الْمُهَاجِرين. فَقَالَ عبد الله بن عَبَّاس: ثَلَاثَة أُمَرَاء، هلك الْقَوْم. فَلَمَّا خلع أهل الْمَدِينَة يزِيد بن مُعَاوِيَة أنفذ إِلَيْهِم مُسلم بن عقبَة فَقتل خلقا كثيرا، وَوَقعت وقْعَة عَظِيمَة، فَقيل لَهَا وقْعَة الْحرَّة.(2/193)
661 - / 782 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: وَهُوَ حَدِيث الْوضُوء. [15] وَفِيه: فأكفأ على يَدَيْهِ: أَي أمال الْإِنَاء فَقلب مِنْهُ. [15] وَقَوله: فأخرجنا إِلَيْهِ مَاء فِي تور. التور والمخضب يكونَانِ من صفر كالقدح، فَإِن كَانَ من حِجَارَة قيل لَهُ منقع. وَقيل المخضب شبه المركن والإجانة الَّتِي يغسل فِيهَا الثِّيَاب، والتور دون ذَلِك. واستنثر يحْتَمل شَيْئَيْنِ: أَحدهمَا: الاستشاق. وَالثَّانِي: الامتخاط، لِأَن النثرة هِيَ الْأنف. [15] وَقد اخْتلف فِي هَذَا الحَدِيث عدد غسله ليديه. وَالْمَحْفُوظ دَوَامه على الثَّلَاث، فَإِذا أثبت غسله مرَّتَيْنِ فليبين جَوَاز الِاخْتِلَاف فِي الْعدَد. [15] وَقَوله: بِمَاء غير فضل يَده. الْمَعْنى أَنه أَخذ للمسح مَاء جَدِيدا.(2/194)
(60) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن يزِيد الخطمي
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة أَحَادِيث. انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ البُخَارِيّ، فَأخْرج لَهُ حديثين وَلم يخرج لَهُ مُسلم شَيْئا، كَذَا قَالَ الْحميدِي، ثمَّ قد أفرد فِي آخر الْكتاب من انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ البُخَارِيّ، وَمن انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ مُسلم، وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يُؤَخر هَذَا إِلَى هُنَاكَ. فالعجب من هَذِه الْغَفْلَة فِي التَّرْتِيب.
662 - / 783 وَفِي الحَدِيث الأول: خرج عبد الله بن يزِيد فَاسْتَسْقَى، فَاسْتَغْفر ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ يجْهر بِالْقِرَاءَةِ وَلم يُؤذن وَلم يقم. [15] استسقى: طلب السقيا. [15] وَصلى: دَلِيل على أَنه تسن الصَّلَاة للاستسقاء خلافًا لأبي حنيفَة. [15] وَإِنَّمَا ترك الْأَذَان وَالْإِقَامَة لِأَن الْأَذَان إِعْلَام للغائبين، وَالَّذين يستسقون قد خَرجُوا مَعَه.(2/195)
663 - / 784 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد نهى عَن الْمثلَة والنهبى. [15] الْمثلَة: فعل مَا يخرج عَن الْعَادة فِي الْعقُوبَة، وفيهَا لُغَتَانِ مثلَة بِضَم الْمِيم وتسكين الثَّاء، وَجَمعهَا مثلات بِضَم الْمِيم وَسُكُون الثَّاء، ومثلات بضَمهَا. ومثلة بِفَتْح الْمِيم وَضم الثَّاء، وَجَمعهَا مثلات بِفَتْح الْمِيم وَضم الثَّاء. [15] وَالنَّهْي: اسْم مَا انتهب: وَهُوَ مَا أَخذ مسابقة ومبادرة للعير من الآخرين.(2/196)
(61) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ
[15] وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ البدري، وَقد نَص البُخَارِيّ وَمُسلم على أَنه شهد بَدْرًا، غير أَن الْأَكْثَرين من أَرْبَاب التواريخ يَقُولُونَ: مَا شَهِدَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ ينزل مَاء بدر فنسب إِلَى بدر لنزوله بِالْمَاءِ. وَقد نسب خلق كثير إِلَى معنى وجد مِنْهُم، كسفينة مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ حمل مَتَاعا فِي سفر فَسُمي سفينة. ومقسم مولى ابْن عَبَّاس، كَانَ مولى عبد الله بن الْحَارِث، وَلكنه للزومه ابْن عَبَّاس قيل لَهُ: مولى ابْن عَبَّاس. وَأَبُو سعيد المَقْبُري، نزل عِنْد الْمَقَابِر فَقيل المَقْبُري. [15] وَجُمْلَة مَا روى أَبُو مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وحديثان، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة عشر حَدِيثا.
664 - / 785 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " إِن الْمُسلم إِذا انفق على أَهله نَفَقَة وَهُوَ يحتسبها كَانَت لَهُ صَدَقَة ". [15] معنى يحتسبها يَنْوِي بهَا طَاعَة الله، ويرجو ثَوَابهَا مِنْهُ، فبذلك تجْرِي نَفَقَته مجْرى الصَّدَقَة.(2/197)
665 - / 786 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " الْآيَتَانِ من آخر سُورَة الْبَقَرَة من قَرَأَ بهما فِي لَيْلَة كفتاه ". [15] قَرَأَ بهما: أَي قرأهما، كَقَوْلِه تَعَالَى: {يشرب بهَا عباد الله} [الْإِنْسَان: 6] أَي يشربونها، أَو يشربون مِنْهَا. وأنشدوا:
( ... ... ... ... سود المحاجر لَا يقْرَأن بالسور ... )
أَي لم يَقْرَأْنَهَا، وَالْبَاء صلَة. [15] وَفِي معنى " كفتاه " ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: كفتاه عَن قيام اللَّيْل، قَالَه أَبُو بكر النقاش. وَالثَّانِي: كفتاه مَا يكون من الْآفَات تِلْكَ اللَّيْلَة. وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى حَسبه بهما فضلا وَأَجرا.
666 - / 788 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: لما نزلت آيَة الصَّدَقَة كُنَّا نحامل على ظُهُورنَا فجَاء رجل فَتصدق بِشَيْء كثير، فَقَالُوا: مراء. وَجَاء رجل فَتصدق بِصَاع، فَقَالُوا: إِن الله لَغَنِيّ عَن صَاع هَذَا فَنزلت: {الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين من الْمُؤمنِينَ فِي الصَّدقَات وَالَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا جهدهمْ} [التَّوْبَة: 79] .(2/198)
[15] وَأما آيَة الصَّدَقَة فَالظَّاهِر أَنَّهَا قَوْله: {من ذَا الَّذِي يقْرض الله قرضا حسنا} [الْبَقَرَة: 245] . [15] وَقَوله: نحامل: أَي نحمل ونتكلف الْحمل. [15] والمتصدق بالكثير عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، جَاءَ بأَرْبعَة آلَاف. وَقيل: بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّة من ذهب، فنبذه بالرياء بعض الْمُنَافِقين. وَقَالَ قَتَادَة: تصدق أَيْضا يَوْمئِذٍ عَاصِم بن عدي بن العجلان بِمِائَة وسق من تمر. وَأما الْمُتَصَدّق بالصاع فقد سميناه فِي مُسْند كَعْب بن مَالك، وَذكرنَا تَفْسِير اللمز. [15] وَقَوله: {الْمُطوِّعين} أَي المتطوعين، فأدغمت التَّاء فِي الطَّاء فَصَارَت طاء مُشَدّدَة. [15] والجهد بِضَم الْجِيم لُغَة أهل الْحجاز، وَغَيرهم يفتحها. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: بل المضمومة بِمَعْنى الطَّاقَة، والمفتوحة بِمَعْنى الْمَشَقَّة.
667 - / 789 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: كَانَ لَهُ غُلَام لحام. [15] اللحام: الَّذِي يَبِيع اللَّحْم، أَو يحسن طبخه.
668 - / 790 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: نهى عَن ثمن الْكَلْب وَمهر.(2/199)
الْبَغي وحلوان الكاهن. [15] وَقد ذكرنَا فِي مُسْند أبي جُحَيْفَة أَنه لَا يجوز بيع الْكَلْب وَإِن كَانَ معلما. [15] وَالْبَغي: الْفَاجِرَة. وَالْمرَاد بمهرها هُنَا أُجْرَة الفسوق بهَا، فَسَماهُ مهْرا على سَبِيل التَّشْبِيه بِالْمهْرِ، كَمَا نهى عَن ثمن الْكَلْب، وَهُوَ تَشْبِيه بِالثّمن أَو بِمَا يظنّ ثمنا. [15] والكاهن: الَّذِي يُوهم أَنه يعلم الْغَيْب. وحلوانه: مَا يعطاه على كهانته كالرشوة وَالْأُجْرَة.
669 - / 792 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: " إِن الشَّمْس وَالْقَمَر لَا ينكسفان لمَوْت أحد ". [15] إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن الشَّمْس كسفت عِنْد موت وَلَده إِبْرَاهِيم، فَقَالَ النَّاس: إِنَّمَا كسفت لمَوْت إِبْرَاهِيم.
670 - / 793 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: أَشَارَ بِيَدِهِ نَحْو الْيمن فَقَالَ: " أَلا إِن الْإِيمَان هَاهُنَا، وَإِن الْقَسْوَة وَغلظ الْقُلُوب فِي الْفَدادِين عِنْد أصُول أَذْنَاب الْإِبِل حَيْثُ يطلع قرنا الشَّيْطَان فِي ربيعَة وَمُضر ". [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْأَنْصَار من الْيمن، وَالْإِيمَان فيهم، وَهَذَا مدح لَهُم. وَقَالَ أَبُو عبيد: بَدَأَ الْإِيمَان من مَكَّة، وَهِي مولد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/200)
ومبعثه، ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة. قَالَ: وَيُقَال: مَكَّة من أَرض تهَامَة، وتهامة من أَرض الْيمن، قَالَ: وَفِيه وَجه آخر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هَذَا القَوْل وَهُوَ يَوْمئِذٍ بتبوك، وَمَكَّة وَالْمَدينَة حِينَئِذٍ بَينه وَبَين الْيمن، وَأَشَارَ إِلَى نَاحيَة الْيمن وَهُوَ يُرِيد مَكَّة وَالْمَدينَة. قَالَ: وَفِيه وَجه ثَالِث: وَهُوَ أَنه أَرَادَ بِهَذَا القَوْل الْأَنْصَار وهم يمانون. [15] وَالْقَسْوَة: الشدَّة. وفيهَا ثَلَاث لُغَات: فتح الْقَاف وَضمّهَا وَكسرهَا. وَكَذَلِكَ الغلظة، والربوة. [15] والفدادون: مُخْتَلف فِي لَفْظَة وَتَفْسِيره: فَأَما لَفظه فالأكثرون على التَّشْدِيد، مِنْهُم الْأَصْمَعِي وثعلب، وَكَانَ أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ يُخَفف الْفَدادِين وَيَقُول: الْوَاحِد فدان مشدد. وَفِي المُرَاد بالفدان ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم المكثرون من الْإِبِل، الَّذين تعلو أَصْوَاتهم فِي حروثهم ومواشيهم، وهم أهل جفَاء وخيلاء، وَقد رُوِيَ فِي الحَدِيث: " أَن الأَرْض تَقول للْمَيت إِذا دفن فِيهَا: قد كنت تمشي فِي فدادا " أَي ذَا خُيَلَاء وَكبر. وَهَذَا قَول الْأَصْمَعِي. وَالثَّانِي: أَنهم الحمالون والبقارون والحمارون والرعيان، يشتغلون عَن ذكر الله عز وَجل وَالثَّالِث: أَن الْفَدادِين جمع فدان، وَهِي الْبَقَرَة الَّتِي يحرث بهَا، وَالْمعْنَى أَن أَهلهَا أهل جفَاء لبعدهم عَن الْأَمْصَار والتأدب فِيهَا. وَهَذَا مَذْهَب أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ. فعلى هَذَا تكون نِسْبَة الْجفَاء إِلَى الْفَدادِين(2/201)
وَالْمرَاد أَصْحَابهَا، كَقَوْلِه تَعَالَى: {واسأل الْقرْيَة} [يُوسُف: 82] . [15] وَقَوله: " عِنْد أصُول أَذْنَاب الْإِبِل " أَي هم مَعهَا يسوقونها حَيْثُ يطلع قرنا الشَّيْطَان فِي ربيعَة وَمُضر. كَأَن الْإِشَارَة إِلَى الْقَوْم قبل إسْلَامهمْ، وتعرفهم آدَاب الشَّرْع. وَذكر قَرْني الشَّيْطَان مثل يُرَاد بِهِ طلوعه بالفتن من تِلْكَ النواحي.
671 - / 794 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ: " إِن مِمَّا أردك النَّاس من كَلَام النُّبُوَّة الأولى: إِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت ". [15] هَذَا الحَدِيث يرويهِ القعْنبِي عَن شُعْبَة، وَلَا يروي عَنهُ غَيره، وَكَانَ سَبَب سَمَاعه مِنْهُ مَا أَنبأَنَا بِهِ ابْن نَاصِر قَالَ:
أَنبأَنَا أَبُو عَليّ الْحسن ابْن الْبناء قَالَ: أخبرنَا هِلَال بن مُحَمَّد بن جَعْفَر قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن مُحَمَّد الصّباغ قَالَ: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله الْكشِّي قَالَ: حَدثنِي بعض الْقُضَاة عَن بعض ولد القعْنبِي قَالَ: كَانَ أبي يشرب النَّبِيذ ويصحب الْأَحْدَاث، فَقعدَ يَوْمًا ينتظرهم على الْبَاب، فَمر شُعْبَة وَالنَّاس خَلفه يهرعون، قَالَ: من هَذَا؟ قَالَ شُعْبَة. قَالَ: وَأي شَيْء شُعْبَة؟ قيل: مُحدث، فَقَامَ إِلَيْهِ وَعَلِيهِ إِزَار أَحْمَر، فَقَالَ لَهُ: حَدثنِي. فَقَالَ: مَا أَنْت من أَصْحَاب الحَدِيث، فشهر سكينه فَقَالَ: أتحدثني أَو أجرحك. فَقَالَ لَهُ: حَدثنَا مَنْصُور عَن ربعي عَن أبي مَسْعُود قَالَ: قَالَ(2/202)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت " فَرمى سكينه، وَرجع إِلَى قومه فأهراق مَا عِنْده، وَمضى إِلَى الْمَدِينَة فَلَزِمَ مَالك بن أنس، ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَصْرَة وَقد مَاتَ شُعْبَة، فَمَا سمع مِنْهُ غير هَذَا الحَدِيث. هَكَذَا رُوِيَ لنا فِي كَون القعْنبِي لم يسمع من شُعْبَة غير هَذَا. [15] وَقد رُوِيَ لنا مَا هُوَ أشبه: وَهُوَ أَن القعْنبِي قدم الْبَصْرَة ليسمع من شُعْبَة وَيكثر، فصادف مَجْلِسه يَوْم قدومه قد انْقَضى وَانْصَرف إِلَى منزله، فجَاء فَوجدَ الْبَاب مَفْتُوحًا وَشعْبَة على البالوعة، فَدخل من غير اسْتِئْذَان وَقَالَ: أَنا غَرِيب، قصدت من بلد بعيد لتحدثني. فاستعظم شُعْبَة ذَلِك وَقَالَ: دخلت بَيْتِي بِغَيْر إذني، وتكلمني على هَذِه الْحَالة، اكْتُبْ: حَدثنَا مَنْصُور ... فَذكر لَهُ الحَدِيث ثمَّ قَالَ: وَالله لَا حدثتك غَيره، وَلَا حدثت قوما أَنْت مَعَهم. [15] وَقَوله: " من كَلَام النُّبُوَّة الأولى " الْمَعْنى: أَن الْحيَاء لم يزل ممدوحا على ألسن الْأَنْبِيَاء الْأَوَّلين، ومأمورا بِهِ لم ينْسَخ فِي شرع. [15] وَفِي قَوْله: " إِذا لم تَسْتَحي فَاصْنَعْ مَا شِئْت " ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه بِمَعْنى الْخَبَر وَإِن كَانَ لَفظه لفظ الْأَمر، كَقَوْلِه: " فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " فَيكون الْمَعْنى: إِذا لم يمنعك الْحيَاء صنعت مَا شِئْت، وَهَذَا على جِهَة الذَّم لترك الْحيَاء، وَهَذَا قَول أبي عبيد. وَالثَّانِي: أَنه وَعِيد(2/203)
على ترك الْحيَاء، وَالْمعْنَى إِذا لم تَسْتَحي فافعل مَا تُرِيدُ فستجازى، كَقَوْلِه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40] قَالَه ثَعْلَب. وَالثَّالِث: أَن الْمَعْنى: مَا لم تَسْتَحي مِنْهُ إِذا ظهر فافعله، فَهُوَ فِي معنى قَوْله: " الْإِثْم حواز الْقُلُوب " قَالَه أَبُو مُوسَى الْمروزِي الشَّافِعِي.
672 - / 795 - وَفِي أَفْرَاد مُسلم. " حُوسِبَ رجل فَلم يُوجد لَهُ من الْخَيْر شَيْء، إِلَّا أَنه كَانَ يخالط النَّاس ". [15] قَوْله " حُوسِبَ " أَي نظر فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ. وَالْمرَاد بمخالطته النَّاس: معاملتهم. [15] وَقَوله: " كَانَ من خلقي الْجَوَاز " يَعْنِي التجاوز والمسامحة، وَهُوَ معنى قَوْله: " كنت أتيسر على الْمُوسر " أَي لَا أستقصي وَلَا أناقش. [15] فَإِن قيل قَوْله: " لم يُوجد لَهُ من الْخَيْر شَيْء " دَلِيل على أَنه كَانَ كَافِرًا، لِأَن الْمُؤمن لَا يَخْلُو من شَيْء. [15] فَالْجَوَاب: أَنه قد قَالَ ابْن عقيل: هَذَا رجل لم تبلغه شَرِيعَة، وَعمل لخصلة من الْخَيْر.(2/204)
673 - / 797 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كَانَ يمسح مناكبنا فِي الصَّلَاة. [15] المناكب جمع منْكب: وَهُوَ مُجْتَمع رَأس الْعَضُد فِي الْكَتف. وَالْمعْنَى أَنه كَانَ يسويهم فِي الْوُقُوف، فَيرد الْخَارِج ليَقَع الاسْتوَاء. [15] وَقَوله: " وَلَا تختلفوا فتختلف قُلُوبكُمْ " أَي أَنكُمْ إِذا اختلفتم بالظواهر عُوقِبْتُمْ باخْتلَاف الْقُلُوب. وَيحْتَمل: لَا تختلفن ظواهركم، فَإِن اختلافها دَلِيل على اخْتِلَاف قُلُوبكُمْ. [15] وَقَوله: " ليلني مِنْكُم أولو الأحلام والنهى " قد سبق تَفْسِيره فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
674 - / 798 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَنه كَانَ يضْرب غُلَاما لَهُ، والغلام يَقُول: أعوذ بِاللَّه، ثمَّ يضْربهُ، وَجعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصِيح بِهِ: " اعْلَم أَبَا مَسْعُود، لله أقدر عَلَيْك مِنْك عَلَيْهِ " فاعتقه. فَقَالَ: " لَو لم تفعل لَلَفَحَتْك النَّار ". [15] لفح النَّار: الْإِصَابَة بحرها ولهبها. وَإِنَّمَا كَانَت تصيبه لأحد ثَلَاثَة أَشْيَاء: إِمَّا لِأَنَّهُ ضربه ظلما. أَو لِأَنَّهُ زَاد على مِقْدَار التَّأْدِيب. أَو لِأَنَّهُ استعاذ بِاللَّه فَلم يعذه.
675 - / 799 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: جَاءَ رجل بِنَاقَة مخطومة فَقَالَ: هَذِه فِي سَبِيل الله. فَقَالَ رَسُول الله،: " لَك بهَا يَوْم الْقِيَامَة(2/205)
سَبْعمِائة نَاقَة، كلهَا مخطومة ". [15] المخطومة: المزمومة بالخطام. وَإِنَّمَا سمي خطاما لِأَنَّهُ يَقع على الخطم، والخطم والمخطم: الْأنف. [15] وَاعْلَم أَن هَذَا الثَّوَاب على الْحَسَنَة أَمر مَعْلُوم عِنْد الله عز وَجل، وَقد جعل لنا على الْحَسَنَة من تِلْكَ الْمَقَادِير عشرا، فَهَذَا الرَّسْم الرَّاتِب، وَقد يُضَاعف ذَلِك لِلْمُؤمنِ على قدر إخلاصه وَرضَاهُ عَنهُ إِلَى سَبْعمِائة وَإِلَى سبعين ألفا وَأكْثر كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فِي قَوْله: {فيضاعفه لَهُ أضعافا كَثِيرَة} [الْبَقَرَة: 245] قَالَ: ألفي ألف وَألْفي ألف.
676 - / 800 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: جَاءَ رجل فَقَالَ لَهُ: أبدع بِي فَاحْمِلْنِي. فَقَالَ: " مَا عِنْدِي " فَقَالَ رجل: أَنا أدله على من يحملهُ. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من دلّ على خير فَلهُ مثل أجر فَاعله ". [15] قَوْله: أبدع: أَي عطبت ركابي أَو كلت فَانْقَطع بِي. يُقَال للرجل إِذا كلت رَاحِلَته أَو عطبت فَانْقَطع بِهِ: قد أبدع بِهِ، وَيُقَال: أبدعت الركاب: إِذا كلت. [15] وَقَوله: " من دلّ على خير فَلهُ مثل أجر فَاعله " فِيهِ إِشْكَال: وَهُوَ أَن يُقَال: الدّلَالَة كلمة تقال، وَفعل الْخَيْر إِخْرَاج مَال مَحْبُوب، فَكيف يتساوى الأجران؟ [15] فَالْجَوَاب: أَن المثلية وَاقعَة فِي الْأجر، فالتقدير: لهَذَا أجر كَمَا(2/206)
أَن لهَذَا أجرا وَإِن تفَاوت الأجران. وَمثل هَذَا قَوْله: " من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ أجرهَا وَأجر من عمل بهَا " وَقَوله: " الخازن الْأمين الَّذِي يُعْطي مَا أَمر بِهِ أحد المتصدقين " وَقَوله: " من جهز غازيا فقد غزا، وَمن خَلفه فِي أَهله بِخَير فقد غزا " وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الشَّرّ، فَإِنَّهُ لعن شَارِب الْخمر وعاصرها وحاملها حَتَّى عد عشرَة. وَلعن آكل الرِّبَا ومؤكله وكاتبه وشاهديه.
677 - / 801 وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " يؤم الْقَوْم أقرؤهم لكتاب الله ". [15] هَذَا الحَدِيث يدل على تَقْدِيم الْقَارئ على الْفَقِيه، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل، وَإِنَّمَا يقدم إِذا كَانَ يعرف أَحْكَام الصَّلَاة، فَذَلِك الَّذِي هُوَ أولى من الْفَقِيه الَّذِي لَا يحسن إِلَّا الْفَاتِحَة. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: الْفَقِيه أولى. [15] وَقَوله: " فأقدمهم هِجْرَة " اعْلَم أَن التَّقَدُّم بِسَبَب الْهِجْرَة كَانَ يَوْمئِذٍ ثمَّ انْقَطع وَبقيت فضيلته موروثة، فَمن كَانَ من أَوْلَاد الْمُهَاجِرين، أَو كَانَ من آبَائِهِ أَو أسلافه من لَهُ قدم أَو سَابِقَة فِي الْإِسْلَام، أَو كَانَ آباؤه(2/207)
أقدم إسلاما فَهُوَ يقدم على النَّاقِص عَن مرتبته. فَإِن تَسَاوَت الْجَمَاعَة فِي ذَلِك أَو فِي عَدمه قدم الأسن، لِأَنَّهُ بِالسِّنِّ قد تقدم إِسْلَامه. [15] وَقَوله: " وَلَا تؤمن الرجل فِي سُلْطَانه " أَي فِي الْمَكَان الَّذِي ينْفَرد فِيهِ بِالْأَمر وَالنَّهْي. [15] وَقَوله: " وَلَا يقْعد فِي بَيته على تكرمته إِلَّا بِإِذْنِهِ " والتكرمة: مَا يخص بِهِ وَيكرم من فرَاش وَنَحْوه. [15] وَقَوله: " وأقدمهم قِرَاءَة " كَأَن الْإِشَارَة إِلَى السَّابِق إِلَى حفظ الْقُرْآن.(2/208)
(62) كشف الْمُشكل من مُسْند شَدَّاد بن أَوْس
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
678 - / 802 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " سيد الاسْتِغْفَار أَن يَقُول العَبْد: اللَّهُمَّ أَنْت رَبِّي وَأَنا عَبدك ". [15] سيد الاسْتِغْفَار: أَي أفضله. وَالسَّيِّد هُوَ الْمُقدم. [15] وَقَوله: " وَأَنا على عَهْدك " فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا أَن الْمَعْنى: أَنا على مَا عاهدتك من الْإِيمَان بك وإخلاص الطَّاعَة لَك مَا اسْتَطَعْت. وَالثَّانِي: أَنا على مَا عهِدت إِلَيّ من أَمرك، أنتجز وَعدك فِي الثَّوَاب عَلَيْهِ. [15] وَقَوله: " مَا اسْتَطَعْت " فِيهِ اعْتِرَاف بِالْعَجزِ عَن كنه الْوَاجِب من حق الْحق عز وَجل. [15] وَقَوله: " أَبُوء " أَي أعترف بِالنعْمَةِ وَالِاسْتِغْفَار من الذُّنُوب، يُقَال: بَاء فلَان بِذَنبِهِ: إِذا احتمله كرها لَا يَسْتَطِيع دَفعه عَن نَفسه. [15] وَقَوله: " من قَالَهَا موقنا " الْيَقِين أبلغ علم مكتسب يرْتَفع مَعَه(2/209)
الشَّك لظُهُور برهانه. وَالْكَلَام يحْتَمل معنين: أَحدهمَا: الْيَقِين بِمن يقر لَهُ. وَالثَّانِي: الْيَقِين بِمَا تحويه الْكَلِمَات، وَذَلِكَ يكون بِحُضُور الْقلب، وَصدق الِاعْتِرَاف، لَا بلقلقة اللِّسَان فَقَط.
679 - / 803 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: " إِن الله كتب الْإِحْسَان على كل شَيْء ". [15] أَي أَمر بالرفق واللطف. [15] وَقَوله: " فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة " القتلة بِكَسْر الْقَاف: صُورَة القتلة، يُقَال: قَتله قتلة سوء. [15] وَالذّبْح مصدر ذبحه يذبحه. وأصل الذّبْح الشق، وَقد فسر إِحْسَان الذّبْح بقوله: " وليحد أحدكُم شفرته وليرح ذَبِيحَته " لِأَنَّهُ إِذا لم يفعل ذَلِك طَال تعذيبها، وراحتها بالتعجيل والتسهيل.(2/210)
(63) كشف الْمُشكل من مُسْند النُّعْمَان بن بشير
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة وَأَرْبَعَة عشر حَدِيثا. أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عشرَة.
680 - / 804 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أَن أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنِّي نحلت ابْني هَذَا غُلَاما لي. [15] " النحلة ": الْعَطِيَّة على وَجه الْهِبَة، وَقَالَ: نحل ووهب بِمَعْنى. [15] وَقَوله: " فأرجعه " وَقَوله: " لَا أشهد على جور " دَلِيل على أَنه إِذا فضل بعض وَلَده على بعض مَعَ تساويهم فِي الذكورية أَو الأنوثية فقد أَسَاءَ، وَيُؤمر بارتجاع ذَلِك وبالتسوية بَينهم، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: لَا يسترجع ذَلِك. [15] وَأما السّنة فِي الْعَطِيَّة فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَهَذَا قَول شُرَيْح وَمُحَمّد بن الْحسن وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَق. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: السّنة التَّسْوِيَة.
681 - / 805 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: الْحَلَال بَين وَالْحرَام بَين،(2/211)
وَبَينهمَا مُشْتَبهَات. [15] قَوْله: " الْحَلَال بَين " لِأَن الشَّرْع قد أوضح أمره. [15] والمشتبهات: الَّتِي لَا يُقَال فِيهَا حَلَال وَلَا حرَام، فَهِيَ تشتبه بالشيئين " فَمن اتَّقى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لدينِهِ " أَي احتاط لَهُ. [15] وَقَوله: " يرتع " أَي يرتع إبِله وغنمه وَقَوله: " أَلا " قَالَ الزّجاج: هِيَ كلمة يبتدأ بهَا يُنَبه بهَا الْمُخَاطب تدل على صِحَة مَا بعْدهَا. [15] والحمى: الْمَمْنُوع. " وَحمى الله مَحَارمه " أَي الَّتِي منع مِنْهَا وحرمها. [15] وَقَوله: " وَإِن فِي الْجَسَد مُضْغَة " المضغة: قدر مَا يمضغ. [15] وَسمي الْقلب قلبا لتقلبه فِي الْأُمُور. وَقيل: بل لِأَنَّهُ خَالص مَا فِي الْبدن، وخالص كل شَيْء قلبه. وَالْقلب أَمِير الْبدن، وَمَتى صلح الْأَمِير صلحت الرّعية.
682 - / 806 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " مثل الْمُؤمنِينَ فِي توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الْجَسَد ". [15] إِنَّمَا جعل الْمُؤمنِينَ كجسد وَاحِد لِأَن الْإِيمَان يجمعهُمْ كَمَا يجمع الْجَسَد الْأَعْضَاء، فلموضع اجْتِمَاع الْأَعْضَاء يتَأَذَّى الْكل بتأذى الْبَعْض وَكَذَلِكَ أهل الْإِيمَان، يتَأَذَّى بَعضهم بتأذي الْبَعْض.(2/212)
683 - / 807 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " إِن أَهْون أهل النَّار عذَابا لرجل يوضع فِي أَخْمص قَدَمَيْهِ جمرتان يغلي مِنْهُمَا دماغه " وَفِي رِوَايَة: " كَمَا يغلي الْمرجل ". [15] أَخْمص الْقدَم: بَاطِنهَا. [15] والمرجل: الْقدر الْكَبِيرَة من نُحَاس، وَجَمعهَا مراجل. وَقد جَاءَت هَذِه الصّفة فِي حق أبي طَالب عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس. [15] وَقَوله: " لَا يرى أَن أحدا أَشد عذَابا مِنْهُ " وَذَلِكَ أَنه يرى هَذِه الشدَّة الْعَظِيمَة فيظن أَنَّهَا النِّهَايَة، وظنه أَنه قد خص بأعظم الْعَذَاب عَذَاب فَوق عَذَابه.
684 - / 808 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " لتسون صفوفكم أَو ليخالفن الله بَين وُجُوهكُم ". [15] الظَّاهِر من قَوْله: " أَو ليخالفن الله بَين وُجُوهكُم " أَنه الْوَعيد الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى: {أَن نطمس وُجُوهًا فنردها على أدبارها} [النِّسَاء: 47] . [15] والقداح: السِّهَام. فَأَرَادَ أَنه كَانَ يقوم الصُّفُوف كَمَا تقوم السِّهَام.(2/213)
685 - / 809 - وَفِيمَا انْفَرد بِهِ البُخَارِيّ: " مثل الْقَائِم فِي حُدُود الله وَالْوَاقِع فِيهَا ". الْقَائِم: الْمُسْتَقيم. [15] وَالْحُدُود: مَا منع الله عز وَجل من مجاوزتها. قَالَ الزّجاج: وأصل الْحَد فِي اللُّغَة الْمَنْع، وَمِنْه حد الدَّار: وَهُوَ مَا يمْنَع غَيرهَا من الدُّخُول فِيهَا. والحداد: الْحَاجِب والبواب، وكل من منع شَيْئا فَهُوَ حداد، قَالَ الْأَعْشَى:
(فقمنا وَلما يَصح ديكنا ... إِلَى جونة عِنْد حدادها)
[15] أَي عِنْد رَبهَا الَّذِي يمْنَعهَا إِلَّا لمن يُريدهُ. وأحدت الْمَرْأَة على زَوجهَا وحدت فَهِيَ حاد ومحداد: إِذا قطعت الزِّينَة وامتنعت مِنْهَا. وأحددت النّظر إِلَى فلَان: إِذا منعت نظرك من غَيره، وَسمي الْحَدِيد لِأَنَّهُ يمْتَنع بِهِ من الْأَعْدَاء. وَالْمرَاد من الحَدِيث أَنه إِذا سكت الْإِنْسَان عَن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر عُوقِبَ من عصى، لِأَن سُكُوته مَعَ الْقُدْرَة على الْإِنْكَار عصيان، وَإِن أَخذ على يَد العَاصِي بالزجر سلما جَمِيعًا.(2/214)
686 - / 810 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " لله أَشد فَرحا بتوبة عَبده من رجل حمل زَاده ومزاده ". [15] المزاد: مَا يكون فِيهِ المَاء من جُلُود. [15] والشرف: الْمَكَان العالي. وَالْمعْنَى: صعد إِلَى مَكَان عَال يشرف مِنْهُ على مَا وَرَاءه، هَل يرى مَا يَطْلُبهُ، ومشارف الأَرْض: أعاليها. [15] وَقَالَ: من القيلولة. [15] والخطام: زِمَام الْبَعِير، سمي خطاما لِأَنَّهُ على الخطم وَهُوَ الْأنف، وَقد شرحنا معنى هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند ابْن مَسْعُود.
687 - / 811 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَة ب {سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى} و {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} . [15] هَذَا هُوَ الْمسنون فِي الْعِيدَيْنِ فِي الْمَنْصُور عندنَا. وَعَن أَحْمد رِوَايَة: لَيْسَ فِيهِ معِين، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ مَالك: يقْرَأ ب {سبح} (وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} وَقَالَ الشَّافِعِي: يقْرَأ فِي الأولى ب {ق} وَفِي الثَّانِيَة {اقْتَرَبت} وَهَذَا سَيَأْتِي فِي مُسْند أبي وَاقد اللَّيْثِيّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقرأهما فِي الْأَضْحَى وَالْفطر.(2/215)
[15] وَأما الْجُمُعَة فالمسنون عندنَا أَن يقْرَأ فيهمَا بِسُورَة الْجُمُعَة وَالْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي أَيْضا. وَيحمل هَذَا الحَدِيث على أَنه قد كَانَ يقْرَأ فِي بعض الْأَوْقَات بِهَذَا. وَأخذ مَالك بِهَذَا الحَدِيث وَقَالَ: السّنة أَن يقْرَأ ب {سبح} والغاشية. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَيْسَ فيهمَا معِين.
688 - / 813 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: لقد رَأَيْت نَبِيكُم وَمَا يجد من الدقل مَا يمْلَأ بِهِ بَطْنه. الدقل: ردئ التَّمْر. وَهَذِه صفة لما كَانُوا فِيهِ من ضيق الْعَيْش.(2/216)
(64) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن أبي أوفى
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة وَتسْعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سِتَّة عشر حَدِيثا.
689 - / 814 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر فِي رَمَضَان، فَلَمَّا غَابَتْ الشَّمْس قَالَ: " يَا فلَان، انْزِلْ فاجدح لنا ". [15] الجدح: أَن يخاض السويق بِالْمَاءِ ويحرك بالمجدح. والمجدح خَشَبَة لَهَا ثَلَاث جَوَانِب. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على اسْتِحْبَاب تَعْجِيل الْفطر. [15] وَقَوله: " فقد أفطر الصَّائِم " قد سبق بَيَانه فِي مُسْند عمر. [15]
690 - / 815 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: لما كَانَ يَوْم خَيْبَر وقعنا فِي الْحمر الْأَهْلِيَّة، فَنَادَى مُنَادِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَن أكفئوا الْقُدُور، وَلَا تَأْكُلُوا من لُحُوم الْحمر شَيْئا ".(2/217)
فَقَالَ نَاس: إِنَّمَا نهى عَنْهَا لِأَنَّهَا لم تخمس، وَقَالَ آخَرُونَ: بل نهى عَنْهَا الْبَتَّةَ. [15] وَأما قَول الْقَائِلين: لِأَنَّهَا لم تخمس فَظن مِنْهُم لَيْسَ بِصَحِيح، وَلَوْلَا أَنه نهى عَنْهَا لذاتها مَا أَمر بإكفاء الْقُدُور. وَفِي مُسْند سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنه أَمر بِكَسْر الْقُدُور، تَأْكِيدًا للتَّحْرِيم وتشديدا فِي النَّهْي. وَفِي بعض الْأَحَادِيث: " إِنَّهَا رِجْس ".
691 - / 817 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: بشر خَدِيجَة بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب، لَا صخب فِيهِ وَلَا نصب. [15] الْقصب: الدّرّ المجوف. والصخب: الْأَصْوَات المختلطة والجلبة. وَالنّصب: التَّعَب. وَفِي نفي الصخب وَالنّصب عَن هَذَا الْبَيْت وَجْهَان: أَحدهمَا أَن النصب لابد فِي كل بَيت من تَعب فِي إِصْلَاحه وصخب بَين سكانه، فَأخْبر أَن قُصُور الْجنَّة على خلاف ذَلِك. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لما تعبت فِي تربية الْأَوْلَاد ناسب هَذَا ضَمَان الرَّاحَة.
692 - / 818 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " اللَّهُمَّ منزل الْكتاب، سريع الْحساب، اهزم الْأَحْزَاب ". [15] وَهَذَا الحَدِيث يدل على جَوَاز السجع فِي الْكَلَام. وَمثله: " أَبَا(2/218)
عُمَيْر، مَا فعل النغير ". [15] وَقَوله: " سريع الْحساب " فِي معنى سرعَة الْحساب خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: قلته، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: قرب مجيئة، قَالَه مقَاتل. وَالثَّالِث: أَنه لما علم مَا للمحاسب وَمَا عَلَيْهِ قبل حسابه كَانَ سريع الْحساب لذَلِك. وَالرَّابِع: أَن الْحساب بِمَعْنى الْجَزَاء، فَهُوَ سريع المجازاة. ذكر الْقَوْلَيْنِ الزّجاج. وَالْخَامِس: أَنه لَا يحْتَاج إِلَى فكر وروية كالعاجزين، ذكره أَبُو سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي. [15] والأحزاب: الْجَمَاعَات. وَقَوله: " اهزمهم " قَالَ الزّجاج: أصل الهزم فِي اللُّغَة كسر الشَّيْء وَثني بعضه على بعض، يُقَال: سقاء مُنْهَزِم: إِذا كَانَ بعضه قد ثني على بعض مَعَ جفاف، وقصب مُنْهَزِم: قد كسر وشقق. وَالْعرب تَقول: هزمت على زيد: أَي عطفت عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر:
(هزمت عَلَيْك الْيَوْم يَا ابْنة مَالك ... فجودي علينا بالنوال وأنعمي)
[15] وَيُقَال: سَمِعت هزمة الرَّعْد. قَالَ الْأَصْمَعِي: كَأَنَّهُ صَوت فِيهِ تشقق. [15] " وزلزلهم " خوفهم وحركهم بِمَا يُؤْذِي، وأصل الزلزلة فِي اللُّغَة(2/219)
من زل الشَّيْء عَن مَكَانَهُ، فَإِذا قلت زلزلته فتأويله: كررت زلزلته من مَكَانَهُ، وكل مَا كَانَ فِيهِ تَرْجِيع كررت فِيهِ فَاء الْفِعْل، تَقول: أقل فلَان الشَّيْء: إِذا رَفعه من مَكَانَهُ، فَإِذا كرر رَفعه ورده قيل: قلقلة. وَالْمعْنَى: كرر عَلَيْهِم التحريك بالخوف. [15] وَقَوله: " لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاء الْعَدو " وَهَذَا لِأَن متمني الْبلَاء لَا يدْرِي كَيفَ تكون حَاله. وَقد بَينا فِي مُسْند أبي مُوسَى معنى قَوْله: " الْجنَّة تَحت ظلال السيوف " وَأَنه إِذا تدانى الخصمان صَار كل مِنْهُمَا تَحت ظلّ سيف الآخر، فالجنة تنَال بِهَذَا
69 - 3 / 820 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " اللَّهُمَّ صل على آل أبي أوفى ". [15] وَقد بَينا أَن الصَّلَاة من الله عز وَجل الرَّحْمَة. وَفِي معنى هَذَا الْكَلَام قَولَانِ: أَحدهمَا أَن الْآل صلَة، كَقَوْلِه: {وَبَقِيَّة مِمَّا ترك آل مُوسَى وَآل هَارُون} [الْبَقَرَة: 248] وَالْمعْنَى: صل على أبي أوفى. [15] وَالثَّانِي: أَنه قد علم دُخُول أبي أوفى فِي آله، فَحسن ذكرهم دونه، كَقَوْلِه: {وأغرقنا آل فِرْعَوْن} [الْبَقَرَة: 50] .
694 - / 822 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: قيل لِابْنِ أبي أوفى: كَيفَ(2/220)
كتب على النَّاس الْوَصِيَّة؟ . [15] الْإِشَارَة بِالْوَصِيَّةِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة} [الْبَقَرَة: 180] . وَهَذِه الْوَصِيَّة كَانَت فرضا بِدَلِيل قَوْله {كتب عَلَيْكُم} ثمَّ نسخت. قَالَ ابْن عَبَّاس: نسختها: {للرِّجَال نصيب مِمَّا ترك الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ} [النِّسَاء: 7] . [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ بعض الروَاة: ود أَبُو بكر لَو وجد عهدا من رَسُول الله فخزم أَنفه بخزامة. والخزامة: حَلقَة من شعر تجْعَل فِي أحد جَانِبي المنخرين من الْبَعِير يراض بذلك. وَمعنى الحَدِيث: لَو وجد أَبُو بكر عهدا لانقاد لَهُ.
695 - / 823 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: غزونا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سبع غزوات نَأْكُل الْجَرَاد. [15] مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء جَوَاز أكل الْجَرَاد، وَلَا يفرقون بَين مَا أَخذ حَيا أَو مَيتا. وَقد جَاءَ فِي الحَدِيث: " أحلّت لنا ميتَتَانِ: السّمك وَالْجَرَاد " وَقَالَ مَالك: مَا أَخذ مِنْهُ حَيا فَغَفَلَ عَنهُ حَتَّى مَاتَ فَلَا يُؤْكَل. وَقَالَ اللَّيْث: أكره أكله مَيتا فَأَما مَا أَخذ وَهُوَ حَيّ فَلَا بَأْس بِهِ.(2/221)
696 - / 824 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْجَرّ الْأَخْضَر. قيل لَهُ: نشرب فِي الْأَبْيَض؟ قَالَ: " لَا " , [15] إِنَّمَا نهى عَن الْأَخْضَر لِأَنَّهُ يسْرع فِيهِ اشتداد النَّبِيذ وَإِن كَانَ يتباطأ فِي الْأَبْيَض، ثمَّ ثَبت تَحْرِيم السكر كَيفَ كَانَ، وَسقط حكم الأوعية.
697 - / 825 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: قيل لَهُ: أشهدت حنينا؟ قَالَ: قبل ذَلِك. [15] أَي شهِدت مَا قبل ذَلِك.
698 - / 826 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: مَاتَ إِبْرَاهِيم ابْن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَغِيرا. [15] كَانَ الْمُقَوْقس صَاحب الْإسْكَنْدَريَّة قد بعث مَارِيَة الْقبْطِيَّة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَولدت لَهُ إِبْرَاهِيم فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان من الْهِجْرَة، وَمَات وَهُوَ ابْن سِتَّة عشر شهرا، وَقيل: ثَمَانِيَة عشر شهرا. وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن لَهُ مُرْضعًا تتمّ رضاعه فِي الْجنَّة ".
699 - / 828 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: كُنَّا نُسلف على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.(2/222)
[15] المُرَاد بالسلف السّلم. وَعِنْدنَا أَنه يَصح السّلف فِي الْمَعْدُوم إِذا كَانَ يُوجد فِي مَحَله. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز.
700 - / 829 وَفِيمَا انْفَرد بِهِ مُسلم: " اللَّهُمَّ طهرني بالثلج وَالْبرد وَالْمَاء الْبَارِد ". [15] قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا خص الثَّلج وَالْبرد لِأَنَّهُمَا ماءان مفطوران على الطَّهَارَة الأولى لم يمرسا بيد وَلم يخاضا بِرَجُل، وَذَلِكَ أوفى لصفة الطَّهَارَة، وَأبْعد لَهَا من مُخَالطَة شَيْء من أَنْوَاع النَّجَاسَة. وَقَالَ غَيره: هَذِه الْمَذْكُورَات صَافِيَة، فَهِيَ تَنْفِي الأوساخ أَكثر من المَاء الكدر. [15] وَبَاقِي الحَدِيث قد سبق شَرحه.(2/223)
(65) كشف الْمُشكل من مُسْند زيد بن أَرقم
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ اثْنَا عشر.
701 - / 830 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: كُنَّا نتكلم فِي الصَّلَاة حَتَّى نزلت: {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} [الْبَقَرَة: 238] فَأمرنَا بِالسُّكُوتِ. [15] وَأما الْقيام فَالْمُرَاد بِهِ الْقيام فِي الصَّلَاة. وَأما الْقُنُوت فَقَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الطَّاعَة، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْن قُتَيْبَة: لَا أرى أصل الْقُنُوت إِلَّا الطَّاعَة. وَقَالَ ابْن عمر: هُوَ طول الْقيام فِي الصَّلَاة. وَقَالَ قوم: هُوَ السُّكُوت، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث زيد، فَيكون الْمَعْنى على قَوْلهم: حققوا الطَّاعَة وَالْعِبَادَة بِالسُّكُوتِ عَن كَلَام الْخلق. [15] وَقد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود مَتى حرم الْكَلَام فِي الصَّلَاة.(2/224)
702 - / 831 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كم غزا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: تسع عشرَة غَزْوَة، وَأول غزَاة غَزَاهَا ذَات العشير. [15] لَا يَخْلُو أَن يكون زيد أَشَارَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مناوشة أَو قتال، أَو ذكر مَا يعلم، وَقد ذكرنَا عدد غَزَوَاته وَمَا قَاتل فِيهِ مِنْهَا فِي مُسْند بُرَيْدَة بن الْحصيب. [15] فَأَما ذَات العشير، فَتَارَة تروى بالشين الْمُعْجَمَة، وَتارَة بِالسِّين الْمُهْملَة. وَقد سَمَّاهَا مُحَمَّد بن سعد العشيره بِالْهَاءِ، وَذكر قبلهَا ثَلَاث غزوات. وَقد كَانَت غَزْوَة ذَات الْعَشِيرَة فِي جُمَادَى الْآخِرَة على رَأس سِتَّة عشر شهرا من مهَاجر رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَحمل لِوَاءُهُ حَمْزَة، وَكَانَ لِوَاء أَبيض، واستخلف على الْمَدِينَة أَبَا سَلمَة بن عبد الْأسد، وَخرج يعْتَرض لعير قُرَيْش، وَهِي العير الَّتِي رجعت من الشَّام فِيهَا أَمْوَالهم، فَخرج فِي خمسين وَمِائَة. وَقيل: فِي مِائَتَيْنِ من الْمُهَاجِرين، وَلم يكره أحدا على الْخُرُوج، وَخَرجُوا على ثَلَاثِينَ بَعِيرًا يعتقبونها، فَبلغ ذَا الْعَشِيرَة، وَهِي لبني مُدْلِج بِنَاحِيَة يَنْبع، بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة تِسْعَة برد، ففاته العير، وَخرج قُرَيْش يمنعونها فَكَانَت وقْعَة بدر.
703 - / 832 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سفر أصَاب النَّاس فِيهِ شدَّة، فَقَالَ عبد الله بن أبي: لَا تنفقوا على من(2/225)
عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا. [15] هَذَا السّفر الْمَذْكُور كَانَ فِي غزَاة الْمُريْسِيع. والمريسيع بِئْر لبني المصطلق، وَكَانَ ذَلِك فِي سنة خمس، وَقيل: سِتّ، وَكَانَ قد خرج مَعَه عبد الله بن أبي فِي جمَاعَة من الْمُنَافِقين طلبا للغنيمة لَا رَغْبَة فِي الْجِهَاد، لقرب ذَلِك السّفر، فَلَمَّا قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَزْوَة أقبل رجلَانِ يستقيان مَاء فاختصما، فَنَادَى أَحدهمَا: يال قُرَيْش، وَصَاح الآخر: يال الْخَزْرَج، فَقَالَ ابْن أبي لَا تنفقوا على من عِنْد رَسُول الله حَتَّى يَنْفضوا: أَي يتفرقوا. وَقَالَ: لَئِن رَجعْنَا إِلَى المدنية ليخرجن الْأَعَز يَعْنِي نَفسه، وعنى بالأذل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] وَقَوله: {لووا رُءُوسهم} : أَي حركوها استهزاء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبدعائه. [15] وَقَوله: {كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة} أَي ممالة إِلَى الْجِدَار. وَالْمرَاد أَنَّهَا لَيست بأشجار تثمر وتنمي. [15] وَقَوله: كَانُوا أجمل شَيْء قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ أبي جسيما فصيحا، ذلق اللِّسَان.
704 - / 833 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الذَّهَب بالورق دينا.(2/226)
الْوَرق: الْفضة وَهَذَا رَبًّا النَّسِيئَة، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند عمر.
705 - / 834 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لزيد: " هَذَا الَّذِي أوفى الله بأذنه ". [15] كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد خرج إِلَى الْمُريْسِيع، وَخرج مَعَه عبد الله ابْن أبي، فَقَالَ ابْن أبي: لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل، فَسَمعَهَا زيد بن أَرقم، فَأخْبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأرْسل إِلَى ابْن أبي فَأنْكر ذَلِك، وَحلف: إِنِّي مَا قلت، فلام النَّاس زيدا فَكَذبُوهُ، فَنزلت سُورَة الْمُنَافِقين، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لزيد: " إِن الله قد صدقك " وَقَالَ: " هَذَا الَّذِي أوفى الله بأذنه " أَي أظهر صدقه فِي إخْبَاره عَمَّا سَمِعت أُذُنه.
706 - / 836 وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: [15] كبر زيد على جَنَازَة خمْسا وَقَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكبرها. [15] قد روى زيد وَحُذَيْفَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكبر خمْسا، إِلَّا أَن(2/227)
الْأَكْثَرين مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَسَهل بن حنيف فِي آخَرين رووا عَنهُ أَنه كَانَ يكبر على الْجِنَازَة أَرْبعا، فَهَذَا كَانَ الْأَخير من فعله، وَيدل على ذَلِك مصير الْقَوْم إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قد كَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود فِي جمَاعَة من الصَّحَابَة يكبرُونَ أَرْبعا وهم أعلم بناسخ حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومنسوخه.
707 - / 837 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أهدي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عُضْو من لحم صيد فَرده وَقَالَ: " إِنَّا لَا نأكله، إِنَّا حرم ". [15] وَهَذَا مَحْمُول على أَنه صيد لأَجله، فَلذَلِك امْتنع من أكله.
708 - / 838 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " صَلَاة الْأَوَّابِينَ حِين ترمض الفصال ". [15] الأواب: الرجاع، كَأَنَّهُ أذْنب ثمَّ رَجَعَ بِالتَّوْبَةِ. والفصال والفصلان: صغَار الْإِبِل، وَالْوَاحد فصيل. وَمعنى ترمض: يُصِيبهَا حر الرمضاء: وَهُوَ الرمل يحمى بَحر الشَّمْس فتبرك الفصال من شدَّة احتراق أخفافها، وَالْمعْنَى: صَلَاة الْأَوَّابِينَ عِنْد شدَّة ارْتِفَاع الشَّمْس. وَالْإِشَارَة إِلَى صَلَاة الضُّحَى، وَذَلِكَ أفضل وَقتهَا.
709 - / 839 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من(2/228)
الْعَجز والكسل والجبن ". [15] هَذِه أُمُور تنشأ عَن ضعف فِي النَّفس، إِمَّا جبلة، وَإِمَّا لبعد الرياضة. وَالْبخل فِي الْغَالِب يكون طبعا. والهرم: حَالَة انحلال البنية، فَيصير الْإِنْسَان كلا على غَيره، ويثقل عَلَيْهِ حمل نَفسه. [15] وَقَوله: " زكها " أَي طهرهَا من الذُّنُوب وَأَصْلَحهَا.
710 - / 841 وَفِي الحَدِيث السَّادِس: " إِنِّي تَارِك فِيكُم ثقلين: كتاب الله، وَأهل بَيْتِي ". [15] الثّقل: مَا يثقل حامله. والثقلان: الْإِنْس وَالْجِنّ، وسميا بذلك لِأَنَّهُمَا ثقل الأَرْض، إِذْ كَانَت تحملهم أَحيَاء وأمواتا. قَالَت الخنساء ترثي أخاها:
(أبعد ابْن عَمْرو من آل الشريد ... حلت بِهِ الأَرْض أثقالها)
[15] حلت من التحلية: أَي زانت بِهِ موتاها. [15] وَلما ذكر الْقُرْآن مَعَ مَا يثقل حَقِيقَة وهم أهل بَيته أجراه مجْرى الْمَذْكُور مَعَه، وَقد فسر زيد أهل بَيته فِي هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: أهل بَيته من حرم الصَّدَقَة، وهم آل عَليّ وَآل عقيل وَآل جَعْفَر.(2/229)
(66) كشف الْمُشكل من مُسْند ثَابت بن الضَّحَّاك الْأنْصَارِيّ
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة عشر حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حديثان.
711 - / 842 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: " من حلف على يَمِين بِملَّة غير الْإِسْلَام كَاذِبًا مُتَعَمدا فَهُوَ كَمَا قَالَ ". [15] اعْلَم أَنه إِنَّمَا يحلف الْحَالِف بِمَا هُوَ عَظِيم عِنْده، وَمن اعْتقد تَعْظِيم مِلَّة من ملل الْكفْر فقد ضاه الْكفَّار، وَلما كَانَ مَا يحلف عَلَيْهِ كذبا نفق الْكَذِب بِيَمِين هِيَ معظمة عِنْده. [15] وَقَوله: " وَمن قتل نَفسه بِشَيْء عذب بِهِ " سَيَأْتِي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " من تحسى سما فَقتل نَفسه فَهُوَ يتحساه فِي نَار جَهَنَّم، وَمن قتل نَفسه بحديدة فحديدته فِي يَده يتوجأ بهَا فِي بَطْنه فِي نَار جَهَنَّم، وَمن تردى من جبل فَهُوَ يتردى فِي نَار جَهَنَّم ". [15] وَقَوله: " لَيْسَ على الْمُؤمن نذر فِيمَا لَا يملكهُ " وَهَذَا مثل أَن ينذر عتق من لَا يملك، فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد نَذره، وَلَا يجب عَلَيْهِ شَيْء فِي إِحْدَى(2/230)
الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَفِي الْأُخْرَى: عَلَيْهِ كَفَّارَة يَمِين. [15] وَقَوله: " لعن الْمُؤمن كقتله " وَذَلِكَ أَن اللاعن لِلْمُؤمنِ كَأَنَّهُ أخرجه من حيّز الْمُؤمنِينَ، فَكَأَنَّهُ أعدم وجوده كَمَا لَو قَتله، وَكَذَلِكَ إِذا رَمَاه بالْكفْر. [15] وَقَوله: " وَمن ادّعى دَعْوَى كَاذِبَة ليتكثر بهَا لم يزده الله إِلَّا قلَّة " وَذَلِكَ أَنه من طلب تَحْصِيل شَيْء من الدُّنْيَا بالمعصية عُوقِبَ بانعكاس مَقْصُوده.
711 - م 843 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن الْمُزَارعَة، وَأمر بالمؤاجرة. [15] وَقد تكلمنا فِي هَذَا فِي مُسْند ظهير بن رَافع، ومسند رَافع بن خديج وَبينا أَنهم كَانُوا يزارعون بِمَا يخرج على السواقي وَنَحْو هَذَا، فَلذَلِك نهوا، وَذكرنَا هُنَاكَ الْكَلَام فِي الْمُزَارعَة بِبَعْض مَا تخرج الأَرْض، وَالْخلاف فِيهَا(2/231)
(67) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي بشير الْأنْصَارِيّ
[15] واسْمه قيس بن عبيد. وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد.
712 - / 844 وَفِيه: " لَا تبقين فِي رَقَبَة بعير قلادة من وتر أَو قلادة إِلَّا قطعت ". [15] وَرُبمَا صحف من لَا علم لَهُ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ: من وبر بِالْبَاء، وَإِنَّمَا هِيَ تَاء. وَالْمرَاد بهَا أوتار القسي. وَفِي تَفْسِير الحَدِيث ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنهم كَانُوا يقلدونها أوتار القسي لِئَلَّا تصيبها الْعين على زعمهم، فَأَمرهمْ بقطعها ليعلمهم أَن الأوتار لَا ترد من أَمر الله شَيْئا، هَذَا قَول مَالك بن أنس الْفَقِيه. وَالثَّانِي: أَنه نهى عَن تقليدها أوتار القسي لِئَلَّا تختنق عِنْد شدَّة الركض، وَهَذَا قَول مُحَمَّد بن الْحسن الْفَقِيه. وَالثَّالِث: أَنه أَمر بقطعها لأَنهم كَانُوا يعلقون فِيهَا الْأَجْرَاس، حَكَاهُ أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ.(2/232)
(68) كشف الْمُشكل من مُسْند الْبَراء بن عَازِب
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثمِائَة حَدِيث وَخَمْسَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا.
713 - / 845 فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: ذبح أَبُو بردة نيار قبل الصَّلَاة، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أبدلها " فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا جَذَعَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " اجْعَلْهَا مَكَانهَا، وَلنْ تجزي عَن أحد بعْدك ". [15] الْجَذعَة: مَا قوي من الْغنم وَصَارَ جفرا وَذَلِكَ قبل أَن يحول عَلَيْهِ الْحول، وَإِذا تمّ لَهُ حول صَار ثنيا. وَلَا يجوز فِي الْأَضَاحِي دون الْجذع من الضَّأْن وَهُوَ مَا كمل لَهُ سِتَّة أشهر. والثني مَا عدا ذَلِك. والثني من الْمعز: مَا كمل لَهُ سنة، وَمن الْبَقر مَا كمل لَهُ سنتَانِ، وَمن الْإِبِل مَا كمل لَهُ خمس سِنِين.(2/233)
[15] وتجزي مَفْتُوحَة التَّاء، قَالَ أَبُو عبيد: وَالْمعْنَى لَا تقضي عَن أحد بعْدك، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لَا تجزي نفس عَن نفس شَيْئا} [الْبَقَرَة: 48] . قَوْلهم: أجزاني الشَّيْء إِجْزَاء بِمَعْنى كفاني، فَهُوَ مَهْمُوز، وَلَيْسَ من هَذَا. [15] وَهَذَا تَخْصِيص لهَذَا الرجل وَلَيْسَ بنسخ، لِأَن النّسخ إِنَّمَا يَقع عَامَّة لِلْخلقِ. [15] والداجن: الَّتِي تعلف من الْبَيْت. وَقَوله " من الْمعز " مَحْمُول على أَنه قد كَانَت مِمَّا يجوز أَن يضحى بهَا. [15] والنسك: الذّبْح. والنسيكة: الذَّبِيحَة. وَلما ذبح الأولى ظنا مِنْهُ أَنَّهَا تكفيه أثيب بنيته، لذَلِك سَمَّاهَا الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام نسيكة. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الذّبْح قبل الصَّلَاة لَا يَجْزِي عَن الْأُضْحِية، قَالَ أَصْحَابنَا: وَإِذا مضى مِقْدَار وَقت الصَّلَاة جَازَ الذّبْح.
714 - / 846 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: عَن عبد الله بن يزِيد قَالَ: حَدثنَا الْبَراء - وَهُوَ غير كذوب - قَالَ: كُنَّا نصلي خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا قَالَ: " سمع الله لمن حَمده " لمن يحن أحد منا ظَهره حَتَّى يضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَبهته على الأَرْض. [15] الَّذِي ذكره الْحميدِي من قَوْله عَن عبد الله بن يزِيد قَالَ: حَدثنَا الْبَراء وَهُوَ غير كذوب، يُعْطي أَن التَّابِعِيّ قَالَ عَن الصَّحَابِيّ، وَلَيْسَ(2/234)
كَذَلِك، وَإِنَّمَا هَذَا الحَدِيث يرويهِ أَبُو إِسْحَق، قَالَ: حَدثنِي الْبَراء وَهُوَ غير كذوب، يُشِير أَبُو إِسْحَق إِلَى عبد الله بن يزِيد لَا إِلَى الْبَراء، كَذَلِك قَالَ يحيى بن معِين، قَالَ: لَا يُقَال لرجل من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَهُوَ غير كذوب، فَأخْرج الْحميدِي طرف الحَدِيث فَصَارَ مُضَافا إِلَى الْبَراء، ثمَّ قَوْله غير كذوب تثبيت لصدق الرَّاوِي وَلَا يُوجب تُهْمَة فِي حَقه. [15] وَقد دلّ الحَدِيث على حسن الْمُتَابَعَة للْإِمَام، وَإنَّهُ لَا يشرع الْمَأْمُوم فِي فعل حَتَّى يتمه الإِمَام.
714 - م / 848 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: وجدت قِيَامه فركعته فاعتداله فسجدته فجلسته مَا بَين السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبا من السوَاء. [15] وَإِنَّمَا تَسَاوَت هَذِه الْأَحْوَال لاختصار الْقيام وَتَطْوِيل التَّسْبِيح وَالذكر. [15] وَقَوله: " وَلَا ينفع ذَا الْجد " قَالَ أَبُو عبيد: الْجد بِالْفَتْح لَا غير: الْغنى والحظ يُقَال: لفُلَان فِي هَذَا الْأَمر جد: إِذا كَانَ مرزوقا مِنْهُ، وَالْمعْنَى: لَا ينفع ذَا الْغنى مِنْك غناهُ، وَإِنَّمَا يَنْفَعهُ الْعَمَل بطاعتك. قَالَ أَبُو عبيد: وَزعم بعض النَّاس أَنه بِكَسْر الْجِيم وَهُوَ الِاجْتِهَاد فِي الْعَمَل، قَالَ: وَهَذَا التَّأْوِيل خلاف مَا دَعَا الله إِلَيْهِ الْمُؤمنِينَ حَيْثُ قَالَ: {وَاعْمَلُوا صَالحا} [الْمُؤْمِنُونَ: 51] وَقَالَ: (إِنَّا لَا نضيع أجر من أحسن(2/235)
عملا} [الْكَهْف: 30] فَكيف يحثهم على الْعَمَل وَلَا يَنْفَعهُمْ. وَقلت: وَالَّذِي نفر مِنْهُ أَبُو عبيد لَهُ وَجه: وَهُوَ أَن من قضي عَلَيْهِ الشَّقَاء لم يَنْفَعهُ علمه بِالظَّاهِرِ، وَمن قدرت لَهُ السَّعَادَة لم يضرّهُ مَا يُعلمهُ من شَرّ، وَإِنَّمَا الْعَمَل للسوابق لَا للأعمال، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " مَا مِنْكُم من ينجيه عمله " قَالُوا: وَلَا أَنْت؟ قَالَ: " وَلَا أَنا، إِلَّا أَن يتغمدني مِنْهُ برحمة ".
715 - / 849 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسبع، ونهانا عَن سبع: أمرنَا بعيادة الْمَرِيض، وَاتِّبَاع الْجَنَائِز، وتشميت الْعَاطِس، وإبرار الْقسم، وَنصر الْمَظْلُوم، وَإجَابَة الدَّاعِي، وإفشاء السَّلَام. وَفِي رِوَايَة: وإنشاد الضال. [15] أما عِيَادَة الْمَرِيض فمسنونة لمعنيين: أَحدهمَا: تطيب قلبه واستعرض حَوَائِجه. وَالثَّانِي: الاتعاظ بمصرعه. [15] وَأما اتِّبَاع الْجِنَازَة فلثلاثة معَان: أَحدهَا: قَضَاء حَقه من حمله وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَدَفنه، وَذَلِكَ وَاجِب على الْكِفَايَة. وَالثَّانِي: قَضَاء حق أَهله من مساعدتهم على تشييعه، وتطييب قُلُوبهم وتعزيتهم. وَالثَّالِث: الِاعْتِبَار بِتِلْكَ الْحَال. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: والجنازة بِالْفَتْح: الْمَيِّت، وبالكسر: السرير.(2/236)
وَقَوله: وتشميت الْعَاطِس. قد سبق معنى التشميت فِي مُسْند أبي مُوسَى. وَأما إبرار الْقسم فلمعنيين: أَحدهمَا: لتعظيم الْمقسم بِهِ. وَالثَّانِي: لِئَلَّا يَحْنَث الْحَالِف. [15] وَأما نصر الْمَظْلُوم فلمعنيين: أَحدهمَا: إِقَامَة الشَّرْع بِإِظْهَار الْعدْل. وَالثَّانِي نصر الْأَخ الْمُسلم أَو الدّفع عَن الْكِتَابِيّ وَفَاء بِالذِّمةِ. [15] وَأما إِجَابَة الدَّاعِي فبالإشارة إِلَى الطَّعَام الْمَدْعُو إِلَيْهِ، فَإِن كَانَت وَلِيمَة عرس فإجابة الدَّاعِي إِلَيْهَا إِذا كَانَ مُسلما وَاجِبَة، فَإِن دَعَاهُ فِي الْيَوْم الثَّانِي اسْتحبَّ لَهُ الْإِجَابَة، وَإِن دَعَاهُ فِي الْيَوْم الثَّالِث لم يسْتَحبّ لَهُ الْإِجَابَة. فَإِذا حضر وَكَانَ صَائِما فَلَا يَخْلُو صَوْمه أَن يكون وَاجِبا: فَليدع ولينصرف، أَو أَن يكون تَطَوّعا فالاستحباب أَن يفْطر. فَإِن كَانَ فِي تِلْكَ الْوَلِيمَة آلَة اللَّهْو نظر فِي حَاله، فَإِن كَانَ قدر على الْإِنْكَار حضر، وَإِن لم يقدر لم يحضر. فَإِذا حضر فَرَأى على الثِّيَاب صور الْحَيَوَان، فَإِن كَانَت مفروشة أَو يتكأ إِلَيْهَا كالمخاد جلس، وَإِن كَانَت على الْحِيطَان والستور لم يجلس، وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَحْمد فِي ستر الْحِيطَان بِثِيَاب غير مصورة، أَو عَلَيْهَا صور غير الْحَيَوَان، فَعَنْهُ أَنه حرَام، فعلى هَذِه الرِّوَايَة، لَا يجلس، وَعنهُ أَنه مَكْرُوه، فعلى هَذِه: لَا ينْصَرف.(2/237)
وَإِن كَانَت الْوَلِيمَة لغير عرس فالإجابة إِلَيْهَا غير وَاجِبَة. وَأما إفشاء السَّلَام فَهُوَ إِظْهَاره ونشره، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجب الود، وَيرْفَع التشاحن. وَأما إنشاد الضال فَهُوَ تَعْرِيفه، يُقَال: نشدت الضَّالة: إِذا طلبتها، وأنشدتها: عرفتها. [15] قَوْله: ونهانا عَن خَوَاتِيم الذَّهَب. وَهَذَا نهى تَحْرِيم. وَكَذَلِكَ الشَّرَاب فِي آنِية الْفضة. وَأما المياثر فَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان البستي: هِيَ مراكب تتَّخذ من حَرِير، سميت مبَاشر لوثارتها ولينها. [15] والقسي قد سبق شَرحه فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. [15] والإستبرق: غليظ الديباج، فَارسي مُعرب، وَأَصله إستفره. قَالَ ابْن دُرَيْد: إستروه، وَنقل من العجمية إِلَى الْعَرَبيَّة، فَلَو حقر استبرق أَو كسر لَكَانَ فِي التحقير أُبَيْرِق، وَفِي التكسير أبارق، بِحَذْف السِّين وَالتَّاء جَمِيعًا. وَهَذِه الْأَشْيَاء الْمَذْكُور كلهَا حَرِير، فَلذَلِك حرمت. وَقد سبق ذكر الديباج فِي مُسْند حُذَيْفَة. [15] وآنية الْفضة مُحرمَة على الرِّجَال وَالنِّسَاء، لِأَن اسْتِعْمَالهَا من بَاب السَّرف وَالْخُيَلَاء وإضاعة المَال.(2/238)
716 - / 850 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: كَانَت الْأَنْصَار إِذا حجُّوا فَجَاءُوا لم يدخلُوا من قبل أَبْوَاب الْبيُوت، فجَاء رجل من الْأَنْصَار فَدخل من قبل بَابه، فَكَأَنَّهُ عير بذلك، فَنزلت: {وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا وَلَكِن الْبر من اتَّقى وَأتوا الْبيُوت من أَبْوَابهَا} [الْبَقَرَة: 189] . [15] هَذِه عَادَة كَانَت لَهُم فِي الْجَاهِلِيَّة واستمروا عَلَيْهَا، فأعلموا أَن الْبر هُوَ الطَّاعَة لَيْسَ بِهَذَا الْفِعْل، وَإِنَّمَا هُوَ بر من اتَّقى مَا حرم عَلَيْهِ.
717 - / 851 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع " إِذا أويت إِلَى فراشك فَقل: اللَّهُمَّ إِن أسلمت نَفسِي إِلَيْك ". [15] أويت: صرت إِلَيْهِ: يُقَال: أَوَى الْإِنْسَان إِلَى منزله أويا، وآويته إيواء، والمأوى: مَكَان كل شَيْء. [15] وَقَوله: " أسلمت نَفسِي إِلَيْك " مثل سلمتها. " ووجهت وَجْهي " يحْتَمل الْعُضْو الْمَعْرُوف، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِالْوَجْهِ الْقَصْد، فَكَأَنَّهُ يَقُول: قصدتك فِي طلب سلامتي، " وفوضت أَمْرِي إِلَيْك " أَي رَددته إِلَيْك " وألجأت ظَهْري " أَي أملته. يُقَال: لَجأ فلَان إِلَى كَذَا: أَي مَال إِلَيْهِ. وَقَوله: " رَغْبَة وَرَهْبَة إِلَيْك " أسقط من الرهبة لَفْظَة مِنْك، وأعمل لفظ الرَّغْبَة بقوله: " إِلَيْك " على عَادَة الْعَرَب فِي أشعارهم:(2/239)
( ... ... ... ... وزججن الحواجب والعيونا ... )
[15] والعيون لَا تزجج، وَلَكِن لما جمعهَا فِي النّظم حمل أَحدهمَا على حكم الآخر فِي اللَّفْظ. [15] والفطرة هَاهُنَا: دين الْإِسْلَام. [15] والمضجع: مَوضِع الانضجاع. فَأَما أمره بِالْوضُوءِ عِنْد النّوم فَيدل على أَن الْوضُوء عبَادَة مُرَادة لنَفسهَا؛ لِأَنَّهُ أمره بِهِ عِنْد المناقض. [15] وَقَوله: " اضْطجع على شقك الْأَيْمن " وَهَذَا هُوَ الْمصلحَة فِي النّوم عِنْد الْأَطِبَّاء أَيْضا، فأنهم يَقُولُونَ: يَنْبَغِي أَن يضطجع على الْجَانِب الْأَيْمن سَاعَة ثمَّ يَنْقَلِب إِلَى الْأَيْسَر فينام، فَإِن النّوم على الْيَمين سَبَب انحدار الطَّعَام، لِأَن نصبة الْمعدة تَقْتَضِي ذَلِك، وَالنَّوْم على الْيَسَار يهضم لاشتمال الكبد على الْمعدة [15] وَقَوله: " واجعلهن آخر مَا تَقول " ليَكُون ختام الْكَلَام. [15] فَقلت: أستذكرهن: أَي أكررهن ليثبتن فِي ذكري. [15] وبرسولك، فَقَالَ لَا، وبنبيك. المكرر للفظ أَبُو إِسْحَق السبيعِي، وَالَّذِي رد عَلَيْهِ الْبَراء رَاوِي الحَدِيث. وَفِي أمره بِحِفْظ هَذَا اللَّفْظ دون(2/240)
غَيره مَا يدل على أَنه يَنْبَغِي أَن يُرَاعِي اللَّفْظ. وَقد كَانَ خلق من السّلف يراعون الْأَلْفَاظ. وَهَذَا لِأَنَّهُ قل أَن يَنُوب لفظ عَن لفظ إِلَّا وَبَينهمَا نوع فرق، فَمَتَى أمكن مُرَاعَاة اللَّفْظ كَانَ أَجود، وَإِذا لم يُمكن جَازَ لذِي الْفِقْه والفهم أَن يروي بِالْمَعْنَى. وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يروي الحَدِيث بِالْمَعْنَى. وَهَذِه الْأَلْفَاظ الْمَذْكُورَة هَاهُنَا يسيرَة فَأمكن ضَبطهَا. وَيجوز أَن يكون إِنَّمَا رده عَن ذكر الرَّسُول إِلَى ذكر النَّبِي لفائدة، وَهِي تحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون مُرَاده الْجمع لَهُ بَين الاسمين: النُّبُوَّة والرسالة، فَإِنَّهُ نَبِي قبل أَن يُرْسل، فَأَرَادَ أَن يصفه بِالنُّبُوَّةِ ثمَّ بالرسالة. وَلَو قَالَ: برسولك الَّذِي أرْسلت كَانَت صفة وَاحِدَة مكررة. وَالثَّانِي: أَن يكون ذكر النَّبِي احترارا من أَن يُضَاف ذَلِك إِلَى جِبْرِيل، لِأَنَّهُ إِذا قَالَ: بكتابك وَرَسُولك، احْتمل الرَّسُول جِبْرِيل، وَلم يكن للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهِ ذكر. [15] وَفِي آخر هَذَا الحَدِيث رِوَايَة فِيهَا: " اللَّهُمَّ بِاسْمِك أَحْيَا وباسمك أَمُوت " وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند حُذَيْفَة.
718 - / 852 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَنه كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام ينْقل التُّرَاب وَيَقُول: " اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا ". [15] هَذَا كَانَ يَوْم الخَنْدَق، فَأحب أَن يَأْخُذ نَصِيبا من التَّعَب فِي طَاعَة الله سُبْحَانَهُ، وتمثل بِشعر غَيره.(2/241)
719 - / 853 وَأما الحَدِيث التَّاسِع: فقد تقدم.
720 - / 854 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: ذكر " الْكَلَالَة " وَقد تقدّمت فِي مُسْند عمر.
721 - / 855 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: انْطلق أخفاء من النَّاس وحسر إِلَى هوَازن. [15] قَوْله: انْطلق أخفاء من النَّاس. هَذَا الْمَرْوِيّ المتداول. والأخفاء: السراع. وَقد رَوَاهُ ابْن قُتَيْبَة فَقَالَ: انْطلق جفَاء من النَّاس، وَقَالَ: وهم سرعَان النَّاس، شبههم بجفاء السَّيْل. [15] والحسر: الَّذين لَا دروع عَلَيْهِم. والرشق: الْوَجْه من الرَّمْي، وَهُوَ أَن يَرْمِي الْقَوْم بأجمعهم، فَيَقُولُونَ رمينَا رشقا بِكَسْر الرَّاء فَأَما الرشق بِفَتْح الرَّاء فَهُوَ مصدر رشق يرشق رشقا. [15] وَالرجل من الْجَرَاد: الْقطعَة مِنْهُ. [15] فانكشفوا: يَعْنِي انْهَزمُوا. [15] وَأَبُو سُفْيَان هُوَ ابْن عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، واسْمه الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب، وَكَانَ أَخا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الرضَاعَة،(2/242)
أَرْضَعَتْه حليمة أَيَّامًا، فَلَمَّا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَادَاهُ وهجاه وَكَانَ شَاعِرًا ثمَّ تَلقاهُ فِي فتح مَكَّة فَأسلم قبل الْفَتْح، وَلما حَضرته الْوَفَاة قَالَ لأَهله: لَا تبكوا عَليّ، فَإِنِّي لم أتنطف بخطيئة مُنْذُ أسلمت. [15] وَقَوله: " أَنا النَّبِي لَا كذب " قد تكلم النَّاس فِي إنشاده مثل هَذَا مَعَ كَونه لَا يحسن قَول الشّعْر، فَقَالَ قوم: كَانَ إِذا أنْشد بَيْتا لَا يقيمه، واحتال بعض الروَاة فروى: أَنا النَّبِي لَا كذب بِنصب الْبَاء، وَهَذَا كُله لَا يحْتَاج إِلَيْهِ؛ لِأَن كل مَا ينْقل عَنهُ من الشّعْر فَهُوَ لغيره وَإِنَّمَا كَانَ يتَمَثَّل بِهِ، فَأَما قَول الشّعْر من قبل نَفسه فَإِنَّهُ منع من ذَلِك فَلَا يَتَأَتَّى لَهُ. وَهَذَا الْبَيْت لَا يَخْلُو من أَمريْن: إِمَّا أَن يكون قد قَالَه غَيره فأنشده: أَنْت النَّبِي لَا كذب، فَغَيره هُوَ وَقت الإنشاد. أَو يكون قد قَالَه وَلَا يقْصد الشّعْر فَوَقع شعرًا. وَإِذا تَأَمَّلت هَذَا وجدته يَقع كثيرا فِي كَلَام النَّاس، حَتَّى فِي الْقُرْآن الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شعر قطعا، مثل قَوْله تَعَالَى: {لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون} [آل عمرَان: 92] وَقَوله: {وجفان كالجواب وقدور راسيات} [سبأ: 13] . وَقَالَ بعض المرضى لأَهله: اذْهَبُوا بِي إِلَى الطَّبِيب وَقُولُوا قد اكتوى. فَخرج هَذَا على وزن الشّعْر وَإِن لم يَقْصِدهُ. [15] فَإِن قيل: فَكيف يفتخر بِعَبْد الْمطلب وفخره بِالدّينِ أولى، مَعَ أَنه قد نهى عَن الافتخار بِالْآبَاءِ؟(2/243)
[15] فَالْجَوَاب من ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَنه يصلح فِي الْحَرْب مَالا يصلح فِي غَيرهَا من الافتخار وَالْخُيَلَاء. وَقد قَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام يَوْم خَيْبَر: أَنا الَّذِي سمتني أُمِّي حيدرة. وَالثَّانِي: أَنه لم يرد بذلك الافتخار بِالْآبَاءِ، إِنَّمَا قصد الافتخار بِنَفسِهِ، وَإِنَّمَا ذكر الْأَب للتعريف، كَمَا يَقُول الْغَالِب لعَدوه: أَنا فلَان بن فلَان، وَمَعْنَاهُ: اعرفني، فَأَنا الَّذِي قهرتك، وَأَنا الَّذِي عاديتني، أَو يُرِيد: إِن نسبي صَحِيح، قَالَ خفاف بن ندبة:
(أَقُول لَهُ وَالرمْح يأطر مَتنه ... تَأمل خفافا إِنَّنِي أَنا ذالكا)
[15] وَالثَّالِث: أَنه ذكرهم بِهَذَا النّسَب أَشْيَاء كَانُوا يعرفونها فِي عبد الْمطلب، مشهورها أَرْبَعَة أَشْيَاء: أَحدهَا رُؤْيا رَآهَا عبد الْمطلب فَأخْبر بهَا قُريْشًا فعبرت أَنه سَيكون لَهُ ولد يسود النَّاس ويملكهم، فأذكرهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الرُّؤْيَا لتقوى نفوس المنهزمين من أَصْحَابه، ويوقنوا بِأَن الْعَاقِبَة لَهُ. وَالثَّانِي: أَن عبد الْمطلب وَفد على سيف بن ذِي يزن فَأخْبرهُ سيف أَنه سَيكون من أَوْلَاده نَبِي، وَكَانَ هَذَا الْأَمر مَشْهُورا بَينهم. وَالثَّالِث: أَن عبد الْمطلب أُتِي فِي مَنَامه فَقيل لَهُ: احْفِرْ زَمْزَم: قَالَ: وَمَا زَمْزَم؟ قَالَ: لَا تنزح وَلَا تذم، تَسْقِي الحجيج الْعظم فانتبه فحفرها، فَقَالَت لَهُ قُرَيْش: أشركنا فِيهَا، قَالَ: لَا، هَذَا شَيْء خصصت بِهِ دونكم، فحاكموه إِلَى كاهنة بن يسْعد، فَلَمَّا خَرجُوا عطشوا فِي الطَّرِيق، فانبعثت عين مَاء من تَحت خف رَاحِلَة عبد الْمطلب، فَقَالُوا: قد قضى لَك الَّذِي سقاك، فَلَا نخاصمك أبدا.(2/244)
[15] وَالرَّابِع: أَنهم أمروا فِي النّوم أمروا فِي النّوم بالاستسقاء بِعَبْد الْمطلب: أخبرنَا عبد الله بن عَليّ بن عَليّ الْمُقْرِئ وَمُحَمّد بن نَاصِر قَالَا: أخبرنَا طراد ابْن مُحَمَّد قَالَ: أخبرنَا عَليّ بن مُحَمَّد بن بَشرَان قَالَ: حَدثنَا الْحُسَيْن بن صَفْوَان قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد الْقرشِي قَالَ: حَدثنِي زَكَرِيَّا بن يحيى الطَّائِي قَالَ: حَدثنِي زحر من حُصَيْن عَن جده حميد بن منْهب قَالَ: قَالَ عمي عُرْوَة بن مُضرس يحدث عَن مخرمَة ابْن نَوْفَل عَن أمه رقيقَة ابْنة أبي صَيْفِي بن هِشَام. وَكَانَت لِدَة عبد الْمطلب، قَالَ: تَتَابَعَت على قُرَيْش سنُون أقحلت الضَّرع، وأدقت الْعظم، فَبينا أَنا نَائِمَة - اللَّهُمَّ أَو مهمومة - إِذا هَاتِف يصْرخ بِصَوْت صَحِلَ يَقُول: يَا معشر قُرَيْش، إِن هَذَا النَّبِي الْمَبْعُوث فِيكُم قد اظلتكم أَيَّامه، وَهَذَا إبان نجومه، فحي هلا بالحيا وَالْخصب، أَلا فانظروا رجلا مِنْكُم وسطا عظاما جِسَامًا ابيض بضا، أَوْطَفُ الْأَهْدَاب، سهل الْخَدين، أَشمّ الْعرنِين، لَهُ فَخر يَكْظِم عَلَيْهِ، وَسنة تهدى إِلَيْهِ، فَلْيخْلصْ هُوَ وَولده، وليهبط إِلَيْهِ من كل بطن رجل فليشنوا من المَاء، وليمسوا من الطّيب، ثمَّ ليستلموا الرُّكْن، ثمَّ ليرتقوا أَبَا قبيس، فليستسق الرجل، وليؤمن الْقَوْم، فغثتم مَا شِئْتُم،(2/245)
فَأَصْبَحت علم الله مَذْعُورَة قد اقشعر جلدي، وَوَلِهَ عَقْلِي، واقتصصت رُؤْيَايَ. فالحرمة وَالْحُرْمَة مَا بَقِي بهَا أبطحي إِلَّا قَالُوا: هَذَا شيبَة الْحَمد، وتتامت إِلَيْهِ رجالات قُرَيْش، وَهَبَطَ إِلَيْهِ من كل بطن رجل، فَمَشَوْا وَمَشوا، واستلموا ثمَّ ارْتَقَوْا أَبَا قبيس، وَطَفِقُوا جنابيه، فَمَا يبلغ سَعْيهمْ مهله حَتَّى إِذا اسْتَوَى بذورة الْجَبَل قَامَ عبد الْمطلب وَمَعَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُلَام قد أَيفع أَو كرب، فَقَالَ: اللَّهُمَّ سَاد الْخلَّة، وَكَاشف الْكُرْبَة، أَنْت معلم غير معلم، وَمَسْئُول غير مبخل، وَهَذِه عبداؤك وإماؤك بِعَذِرَاتٍ حَرمك، يَشكونَ إِلَيْك سنيهم، أذهبت الْخُف والظلف. اللَّهُمَّ فأمطرن علينا معرقًا مريعا، فوالكعبة مَا راموا حَتَّى تَفَجَّرَتْ السَّمَاء، وَاكْتفى الْوَادي بثجيجه، فلسمعت شَيْخَانِ قُرَيْش وحلفها عبد الله بن جدعَان وَحرب بن أُميَّة وَهِشَام بن الْمُغيرَة يَقُولُونَ لعبد الْمطلب: هَنِيئًا لَك أَبَا الْبَطْحَاء، أَي عَاشَ بك أهل الْبَطْحَاء. وَفِي ذَلِك تَقول رقيقَة:
(بِشَيْبَة الْحَمد أسْقى الله بَلْدَتنَا ... لما فَقدنَا الحيا واجلوذ الْمَطَر)
(فجَاء بِالْمَاءِ جَوْنِي لَهُ سبل ... سَحا، فَعَاشَتْ بِهِ الْأَنْعَام وَالشَّجر)
(منا من الله بالميمون طَائِره ... وَخير من بشرت يَوْمًا بِهِ مُضر)
(مبارك الْأَمر يستسقى الْغَمَام بِهِ ... مَا فِي الْأَنَام لَهُ عدل وَلَا خطر)
[15] قَالَ مُحَمَّد بن سعد: أسلمت رقيقَة، وَأدْركت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: كُنَّا إِذا احمر الْبَأْس نتقي بِهِ. أَي إِذا اشتدت الْحَرْب(2/246)
نستقبل الْعَدو بِهِ فنجعله أمامنا. وَالْعرب تصف الشَّديد بالحمرة، فَيَقُولُونَ: سنة حَمْرَاء وَمَوْت أَحْمَر.
722 - / 856 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أول مَا قدم الْمَدِينَة نزل على أجداده، أَو قَالَ: على أَخْوَاله من الْأَنْصَار، وَأَنه صلى قبل بَيت الْمُقَدّس سِتَّة عشر أَو سَبْعَة عشر شهرا، وَكَانَ يُعجبهُ أَن تكون قبلته قبل الْبَيْت. [15] قَوْله: نزل على أجداده أَو على أَخْوَاله. قد بَينا فِي مُسْند أبي بكر أَنه قَالَ: " أنزل على أخوال عبد الْمطلب ". [15] وَقَوله: صلى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل بَيت الْمُقَدّس. قبل الشَّيْء وَقبل الشَّيْء: مُقَابِله. وَسميت الْقبْلَة لمقابلة الْمُصَلِّي إِيَّاهَا. [15] وَاتفقَ الْعلمَاء على أَنه دخل الْمَدِينَة فِي ربيع الأول، وَاخْتلفُوا فِي أَي شهر حولت الْقبْلَة على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا يَوْم الْإِثْنَيْنِ لِلنِّصْفِ من رَجَب، قَالَه الْبَراء بن عَازِب وَمَعْقِل بن يسَار. وَالثَّانِي: لِلنِّصْفِ من شعْبَان، قَالَه قَتَادَة. قَالَ مُحَمَّد بن حبيب: حولت يَوْم الثُّلَاثَاء وَقت الظّهْر لِلنِّصْفِ من شعْبَان، زار رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أم بشير بن الْبَراء ابْن معْرور، فتغدى وَأَصْحَابه وَجَاءَت الظّهْر، فصلى بِأَصْحَابِهِ فِي مَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ من الظّهْر إِلَى الشَّام وَأمر أَن يسْتَقْبل الْكَعْبَة وَهُوَ رَاكِع فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة، فَاسْتَدَارَ إِلَى الْكَعْبَة واستدارت الصُّفُوف خَلفه ثمَّ أتم الصَّلَاة، فَسُمي مَسْجِد الْقبْلَتَيْنِ لهَذَا.(2/247)
[15] وَالثَّالِث: حولت فِي جُمَادَى الْآخِرَة، حَكَاهُ ابْن سَلامَة الْمُفَسّر عَن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ. [15] وَقَوله: وَكَانَ يُعجبهُ أَن تكون قبلته قبل الْبَيْت. سَبَب هَذَا ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا: أَنَّهَا قبْلَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا السَّلَام، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَالثَّانِي: لمُخَالفَة الْيَهُود، قَالَه مُجَاهِد. وَالثَّالِث: أَن اسْتِقْبَال الْبَيْت أمس فِي عبَادَة صَاحبه، وَهَذَا الْبَيْت الْمَعْمُول عَلَيْهِ دون بَيت الْمُقَدّس. [15] وَقَوله: أول صَلَاة صلاهَا. ظَاهره أَنَّهَا الصَّلَاة الَّتِي حولت الْقبْلَة فِيهَا. وَقد ذكرنَا أَنَّهَا حولت فِي الظّهْر. فَيحْتَمل أَنه أَرَادَ أَنه صلى الْعَصْر كلهَا إِلَى الْكَعْبَة. [15] وَقَول الرجل: أشهد بِاللَّه، لقد صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الْكَعْبَة، فدار الْقَوْم كلهم - أصل فِي قبُول خبر الْوَاحِد فِي أَمر الدّين إِذا كَانَ ثِقَة، وأصل فِي أَن كل مَأْذُون فِيهِ لَا يبطل مَا مضى قبل النّسخ. [15] قَوْله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} [الْبَقَرَة: 143] أَي صَلَاتكُمْ. وسماها إِيمَانًا لِأَنَّهَا عَن الْإِيمَان نشأت.
723 - / 857 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: أهدي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثوب حَرِير، فَجعلنَا نلمسه ونعجب مِنْهُ، فَقَالَ: " مناديل سعد بن معَاذ فِي الْجنَّة خير من هَذَا ".(2/248)
[15] إِنَّمَا خص المناديل لِأَنَّهَا لَيست من رفيع الْمَتَاع، وَإِنَّمَا جعلت للابتذال، فَإِذا مدح المبتذل دلّ على رفْعَة المصون، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: {بطائنها من إستبرق} [الرَّحْمَن: 54] وَفِي هَذَا ثَنَاء عَظِيم على الظَّوَاهِر.
724 - / 858 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: اعْتَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأبى أهل مَكَّة أَن يَدعُوهُ يدْخل مَكَّة حَتَّى قاضاهم، فَكَتَبُوا: هَذَا مَا قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله. فَقَالُوا: مَا نقر بهَا، فَلَو نعلم أَنَّك رَسُول الله مَا منعناك، وَلَكِن أَنْت مُحَمَّد بن عبد الله. فَقَالَ لعَلي: " امح: رَسُول الله " قَالَ: لَا وَالله، لَا أمحوك أبدا، فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكتاب فَكتب: هَذَا مَا قاضى عَلَيْهِ مُحَمَّد بن عبد الله. [15] قاضاهم: من الْقَضَاء، وَالْقَضَاء: إحكام الْأَمر وإمضاؤه. [15] وَقَوله: فَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكتاب فَكتب، إِطْلَاق يَده بِالْكِتَابَةِ وَلم يحسنها كالمعجزة لَهُ، وَلَا يُنَافِي هَذَا كَونه أُمِّيا لَا يحسن الْكِتَابَة، لِأَنَّهُ مَا حرك يَده تَحْرِيك من يحسن الْكِتَابَة، إِنَّمَا حركها فجَاء الْمَكْتُوب صَوَابا. [15] وَقَوله: فَلَمَّا خَرجُوا تبعتهم بنت حَمْزَة. قد ذكرنَا اسْمهَا فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام. [15] وَقَول جَعْفَر: خَالَتهَا تحتي، يَعْنِي أَسمَاء بنت عُمَيْس، لِأَن أم بنت حَمْزَة سلمى بنت عُمَيْس، وَأسْلمت سلمى وبايعت رَسُول الله(2/249)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَتَزَوجهَا حَمْزَة، فَلَمَّا قتل عَنْهَا تزَوجهَا شَدَّاد بن الْهَاد. وَأما أَسمَاء فَإِنَّهَا أسلمت قَدِيما وبايعت وَهَاجَرت إِلَى الْحَبَشَة مَعَ زَوجهَا جَعْفَر، فَلَمَّا قتل عَنْهَا تزَوجهَا أَبُو بكر الصّديق، فَلَمَّا مَاتَ تزَوجهَا عَليّ بن أبي طَالب. [15] وَقَول زيد: بنت أخي، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آخى بَين حَمْزَة وَزيد، فَقضى بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لخالتها. وَزوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَلمَة بن أبي سَلمَة بن عبد الْأسد، فَهَلَك قبل أَن يجمعها إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا قضى بهَا لخالتها لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَة الْأُم، وَالأُم أولى بالحضانة من الْأَب، لِأَنَّهَا أحنى على الْوَلَد وَأعرف بِمَا يصلحه، فَإِذا عدمت الْأُم فالجدة أم الْأُم، فَإِذا اجْتمعت الْخَالَة والعمة كَانَت الْخَالَة أولى لِأَنَّهَا تدلي بِالْأُمِّ والعمة تدلي بِالْأَبِ، وَالأُم فِي الْحَضَانَة مُقَدّمَة على الْأَب. [15] وَقَوله: جلبان السِّلَاح، قد أَجَازُوا كسر الْجِيم وَضمّهَا، وَقد وَقع تَفْسِيره فِي هَذَا الحَدِيث قَالَ: السَّيْف والقوس وَنَحْوه. والأزهري يَقُول: الجلبان شبه الجراب من الْأدم يوضع فِيهِ السَّيْف مغمودا ويطرح فِيهِ سَوط الرَّاكِب وأداته، ويعلقه من آخِرَة الرحل أَو واسطته. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: لَا أرَاهُ سمي بذلك إِلَّا لجفائه، وَلذَلِك قيل للْمَرْأَة الغليظة الجافية جلبانه(2/250)
[15] وَقَوله: جَاءَ أَبُو جندل يحجل. يُقَال: حجل فلَان فِي مَشْيه: إِذا قَارب الخطو، إِمَّا لقيد أَو تبختر، وَيكون الحجل بِمَعْنى القفز، وَقد شرحنا قصَّة أبي جندل فِي مُسْند سهل بن حنيف.
725 - / 859 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: وَعِنْده فرس مربوط بشطنين. [15] أَي بحبلين. والشطن: الْحَبل الطَّوِيل، وَالْجمع أشطان.
726 - / 860 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: لَيْسَ بالطويل الْبَائِن. يَعْنِي الوافر الطول. [15] وَقَوله: وجمته تضرب قَرِيبا من مَنْكِبَيْه. والجمة: شعر الرَّأْس. والمنكب: فرع الْكَتف.
727 - / 865 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: أَنه قَالَ لحسان: " اهجهم أَو هاجهم، وَجِبْرِيل مَعَك ". [15] الهجاء: ذكر المساوىء. وَالْإِشَارَة إِلَى الْمُشْركين. [15] وَفِي جِبْرِيل إِحْدَى عشرَة لُغَة، قد ذكرتها فِي التَّفْسِير، أَجودهَا جبرئيل على وزن جبرعيل، قَالَ جرير:
(عبدُوا الصَّلِيب وكذبوا بِمُحَمد ... وبجبرئيل وكذبوا ميكالا)(2/251)
[15] وَقَالَ أَبُو عبيد: معنى ايل معنى الربوبية، فأضيف جبر وميكا إِلَيْهِ، وجبر هُوَ الرجل، فَكَانَ مَعْنَاهُ عبد ايل، رجل ايل.
728 - / 866 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: {يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت} [إِبْرَاهِيم: 27] وَالْمعْنَى يثبتهم على الْحق عِنْد السُّؤَال فِي الْقَبْر بالْقَوْل الثَّابِت وَهُوَ التَّوْحِيد.
729 - / 868 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] لما نزل صَوْم رَمَضَان كَانُوا لَا يقربون النِّسَاء رَمَضَان كُله، وَكَانَ رجال يخونون أنفسهم، فَأنْزل الله عز وَجل: {علم الله أَنكُمْ كُنْتُم تختانون أَنفسكُم فَتَابَ عَلَيْكُم وَعَفا عَنْكُم} [الْبَقَرَة: 187] . [15] كَانَ الْمُسلمُونَ إِذا صَامُوا رَمَضَان فَنَامَ أحدهم فِي اللَّيْل لم يجز لَهُ أَن يَأْكُل بعد انتباهه وَلَا أَن يغشى أَهله، فأنزلت هَذِه الْآيَة، وأبيح لَهُم مَا منعُوا مِنْهُ.
730 - / 869 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: كَانَ أَبُو رَافع يُؤْذِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَبعث إِلَيْهِ رجَالًا من الْأَنْصَار وَأمر عَلَيْهِم عبد الله بن عتِيك، فجَاء عبد الله فتلطف حَتَّى دخل، ثمَّ تقنع بِثَوْبِهِ. وأغلق البواب الْبَاب، ثمَّ علق الأغاليق على ود.(2/252)
[15] قَوْله: تقنع بِثَوْبِهِ: أَي تغطى بِهِ. [15] والأغاليق: يُرِيد بهَا المفاتيح. والود: يُرِيد بِهِ الوتد. والأقاليد: المفاتيح، وَاحِدهَا إقليد. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور: الإقليد: الْمِفْتَاح، فَارسي مُعرب، قَالَ الراجز
(لم يؤذها الديك بِصَوْت تغريد ... )
(وَلم تعالج غلقا بإقليد ... )
[15] والمقليد لُغَة فِي الإقليد، وَالْجمع مقاليد. [15] قَوْله: وَكَانَ يسمر عِنْده. السمر حَدِيث اللَّيْل. [15] والعلالي: الْمَوَاضِع الْعَالِيَة. ونذروا بِي: علمُوا بِي. والدهش والداهش: الَّذِي يبدهه الْأَمر فيحيره. [15] وظبة السَّيْف: حَده. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: حداه من جانبيه ظبتاه، وغراره: مَا بَين ظبتيه. وَقَوله: وثئت رجْلي، الْوَاو مَضْمُومَة لَا غير، والوثء: وجع مؤلم. [15] والواعية: أصوات الباكين عَلَيْهِ، وَمَا عَداهَا من الْأَصْوَات يُقَال لَهُ صُرَاخ. وَكَذَلِكَ البغض فَإِنَّهُ عَام، والفرك بَين الزَّوْجَيْنِ خَاصَّة. وَالنَّظَر إِلَى الْأَشْيَاء عَام، والشيم للبرق خَاصَّة. والذنب للحيوان(2/253)
عَام، والذنابي للْفرس خَاصَّة. وَكَذَلِكَ السّير عَام، والسرى فِي اللَّيْل خَاصَّة. والهرب عَام، والإباق للعبيد خَاصَّة. [15] وَقَوله: أنعى أَبَا رَافع: أخبر بِمَوْتِهِ، والنعي: الْإِخْبَار بِالْمَوْتِ. [15] وَقَوله: حَتَّى سَمِعت نعايا أبي رَافع. والنعايا جمع ناعية: وَهِي النوائح، قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: هَكَذَا يرْوى نعايا، وَإِنَّمَا حق الْكَلَام أَن يُقَال: نعاء أبي رَافع: أَي انعوا أَبَا رَافع، كَقَوْلِهِم: دراك: أَي أدركوا، وَمن هَذَا قَول شَدَّاد بن أَوْس: يَا نعاء الْعَرَب، يُرِيد: انعوا الْعَرَب. قَالَ ابْن السّكيت: كَانَت الْعَرَب إِذا مَاتَ ميت لَهُ قدر ركب رَاكب وَسَار فِي النَّاس يَقُول: نعاء فلَانا: أَي انعوه، أخرجه مخرج نزال. قَالَ الحوفي: هَكَذَا روايتي: نعاء بِغَيْر يَاء، وَكَذَا يعرفهُ البصريون. والكوفيون يَقُولُونَ: نعائي، يضيفه إِلَى نَفسه، مثل ضربي زيدا. [15] وَقَوله: وَمَا بِي قلبة: أَي لَيست بِي عِلّة أقلب لأَجلهَا فَأنْظر.
731 - / 870 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: جعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الرجالة يَوْم أحد عبد الله بن جُبَير، وَقَالَ: " إِن رَأَيْتُمُونَا تخطفنا الطير فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أرسل إِلَيْكُم ".(2/254)
[15] قَوْله: " تخطفنا الطير ": مثل يُرِيد بِهِ الْهَزِيمَة. [15] والاشتداد: الْعَدو. وَقد رُوِيَ يسندن قَالَ الزّجاج: يُقَال: سَنَد الرجل فِي الْجَبَل وَأسْندَ: إِذا صعد. والأسواق جمع سَاق. [15] وَقَوله: " وَالْحَرب سِجَال " أَي مرّة لهَؤُلَاء وَمرَّة لهَؤُلَاء. وَأَصله أَن المستقين بالسجل - وَهِي الدَّلْو - يكون لكل وَاحِد مِنْهُم سجل. [15] وهبل: اسْم لصنم من أصنامهم. [15] وَأما الْعُزَّى فَفِيهَا قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا شَجَرَة لغطفان كَانُوا يعبدونها، قَالَه مُجَاهِد. وروى أَبُو صَالح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَالِد بن الْوَلِيد إِلَى الْعُزَّى ليقطعها. وَالثَّانِي: أَنه صنم، قَالَه الضَّحَّاك وَأَبُو عُبَيْدَة. [15] وَقَوله: " الله مَوْلَانَا وَلَا مولى لكم " فَإِن قيل: أَلَيْسَ الله عز وَجل مولى الْخلق كلهم؟ فَالْجَوَاب: أَن الْمولى هَاهُنَا بِمَعْنى الْوَلِيّ، فَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتَوَلَّى الْمُؤمنِينَ بالنصرة والإعانه، ويخذل الْكفَّار.
732 - / 871 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: أَكَانَ وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل السَّيْف؟ قَالَ: لَا بل مثل الْقَمَر. [15] فِي السَّيْف طول، وَفِي الْقَمَر تدوير، وَالْقَمَر يُوصف بالْحسنِ مَالا يُوصف السَّيْف، فَلذَلِك عدل إِلَى تشبيهه بالقمر.(2/255)
733 - / 872 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: عَن الْبَراء قَالَ: تَعدونَ أَنْتُم الْفَتْح فتح مَكَّة، وَقد كَانَ فتح مَكَّة فتحا، وَنحن نعد الْفَتْح بيعَة الرضْوَان يَوْم الْحُدَيْبِيَة، وَالْحُدَيْبِيَة بِئْر فنزحناها. [15] قَالَ الزُّهْرِيّ: لَك يكن فتح أعظم من صلح الْحُدَيْبِيَة، وَذَلِكَ أَن الْمُشْركين اختلطوا بِالْمُسْلِمين فَسَمِعُوا كَلَامهم فَتمكن الْإِسْلَام فِي قُلُوبهم، وَأسلم فِي ثَلَاث سِنِين خلق كثير. [15] فَأَما الْحُدَيْبِيَة فأنبأنا ابْن نَاصِر عَن أبي زَكَرِيَّا عَن الرقي قَالَ: الْحُدَيْبِيَة بِالتَّخْفِيفِ وبالتشديد أَجود. وَقَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا هِيَ مُخَفّفَة. [15] والنزح: استقصاء مَا فِي الْبِئْر من المَاء. [15] وشفيرها: جَانبهَا. [15] وَقَوله: أصدرتنا مَا شِئْنَا: أَي عدنا عَنْهَا بِمَا نحب من المَاء. وَالْعرب تَقول: مَا شِئْت، فِي كل شَيْء تبلغ فِيهِ الأمل. قَالَ ذُو الرمة: غثنا مَا شِئْنَا. [15] والركاب: الْإِبِل.
734 - / 873 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أول من قدم علينا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُصعب بن عُمَيْر وَابْن أم مَكْتُوم، ثمَّ جَاءَ عمار وبلال وَسعد، ثمَّ جَاءَ عمر فِي عشْرين، ثمَّ جَاءَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،(2/256)
فَرَأَيْت الولائد وَالصبيان يَقُولُونَ: هَذَا رَسُول الله. [15] قد بَينا فِي حَدِيث الْعقبَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث مصعبا إِلَى الْمَدِينَة. يفقههم ويقرئهم. وَإِنَّمَا جَاءَ عمر فِي عشْرين لِأَنَّهُ هَاجر جَهرا دون الْكل. والولائد: الْجَوَارِي.
735 - / 875 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْم بدر نيفا على السِّتين. [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: نَيف مَأْخُوذ من أناف على الشَّيْء: إِذْ أظل عَلَيْهِ وأوفى، كَأَنَّهُ لما زَاد على ذَلِك الْعدَد أشرف عَلَيْهِ.
736 - / 876 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كُنَّا نتحدث أَن عدَّة أَصْحَاب بدر على عدَّة أَصْحَاب طالوت الَّذين جاوزا مَعَه النَّهر بضعَة عشر وثلاثمائة. [15] قَالَ الزّجاج: طالوت اسْم أعجمي لَا ينْصَرف، وَاجْتمعَ فِيهِ التَّعْرِيف والعجمة. [15] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما غلب عَدو بني إِسْرَائِيل عَلَيْهِم سَأَلُوا نَبِيّهم شمويل - وَقيل: سمعون - أَن يبْعَث لَهُم ملكا، فَأتي بعصا وَقرن فِيهِ(2/257)
دهن، وَقيل لَهُ: إِن صَاحبكُم الَّذِي يكون ملكا يكون على طول هَذِه الْعَصَا، وَمَتى دخل عَلَيْك فنشق الدّهن فادهن بِهِ فَهُوَ الْملك، وَكَانَ طالوت سقاء يسْقِي على حمَار لَهُ، فَخرج يَطْلُبهُ وَقيل: كَانَ دباغا فضلت حمر لِأَبِيهِ فَخرج مَعَ غُلَام لَهُ يطْلبهَا فَمر بِبَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فدخلاه فنشق الدّهن، فقاسه بالعصا ودهنه، فانزعج بَنو إِسْرَائِيل وَقَالُوا: أَنى يكون لَهُ الْملك علينا! لِأَن النُّبُوَّة كَانَت فِي سبط لاوي، وَالْملك فِي سبط يهوذا، وَلم يكن من السبطين، غير أَنه كَانَ أعلم النَّاس بالحروب، وَكَانَ يفوق النَّاس بمنكبيه وعنقه وَرَأسه، فَلَمَّا جعل مَجِيء التابوت بعد أَن يغلب عَلَيْهِ الْعَدو عَلامَة تدل على تَمْلِيكه عَلَيْهِم، فَجَاءَت بِهِ الْمَلَائِكَة، أطاعوه حِينَئِذٍ، فَخرج مَعَه مائَة ألف، فَسَارُوا فِي حر شَدِيد، وابتلاهم الله بالنهر ليظْهر بالبلوى من لَهُ نِيَّة فِي الْمُوَافقَة مِمَّن هُوَ مَعَه بِالظَّاهِرِ، فَشرب الْقَوْم إِلَّا الْقَلِيل. [15] والبضع: مَا بَين الْوَاحِد إِلَى التِّسْعَة. [15] وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي عدَّة أهل بدر على مَا ذكرنَا فِي مُسْند عمر.
737 - / 877 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أشهد عَليّ بَدْرًا؟ فَقَالَ: بارز وَظَاهر. [15] بارز: بِمَعْنى دَعَا البرَاز، وأصل البرَاز مَا ظهر واستوى من الأَرْض.(2/258)
[15] وَمعنى ظَاهر: أَي جمع بَين درعين فِي اللبَاس لَهما والتوقي بهما.
738 - / 878 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: " من شَاءَ أَن يعقب مَعَك فليعقب ". [15] أَي فليجلس عقيب ذهَاب أَصْحَابه.
739 - / 879 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لما مَاتَ إِبْرَاهِيم: " إِن لَهُ مُرْضعًا فِي الْجنَّة ". [15] البستي: هَذَا يروي على وَجْهَيْن: مُرْضعًا بِضَم الْمِيم: أَي من يتم رضاعه فِي الْجنَّة. يُقَال: امْرَأَة مرضع بِلَا هَاء. ومرضعا بِفَتْح الْمِيم: أَي رضَاعًا.
740 - / 882 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: [15] أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقنت فِي الصُّبْح وَالْمغْرب. [15] قد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قنت شهرا يَدْعُو على قوم من الْمُشْركين، فَفِي هَذَا الحَدِيث أَنه قنت فِي الصُّبْح وَالْمغْرب. وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنه قنت فِي الْعَتَمَة، وَفِي لفظ عَنهُ أَنه قنت فِي الظّهْر وَالْعشَاء وَالصُّبْح. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: قنت فِي جَمِيع الصَّلَوَات. إِلَّا أَن(2/259)
الصَّحِيح أَنه ترك الْقُنُوت.
741 - / 885 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على يَهُودِيّ محمم مجلود. [15] المحمم: المسود الْوَجْه، مفعل من الحمم، والحمم: الفحم.
742 - / 886 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " إِذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك " المُرَاد بِهَذَا أَلا يضع ذراعه على الأَرْض.
743 - / 887 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: مرت بجذل شَجَرَة. [15] أَي بأصلها. وأصل كل شَيْء جذله.(2/260)
(69) كشف الْمُشكل من مُسْند زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد وَثَمَانُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة.
744 - / 888 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، اقْضِ بَيْننَا بِكِتَاب الله. [15] إِن قيل: الَّذِي قضى بِهِ لَيْسَ فِي كتاب الله. وَالْجَوَاب أَنه أَرَادَ: اقْضِ بَيْننَا بِمَا كتب الله: أَي فرض. كَذَلِك قَالَ الْعلمَاء، مِنْهُم ابْن قُتَيْبَة. [15] والعسيف: الْأَجِير.
745 - / 889 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأمة إِذا زنت وَلم تحصن. [15] فِي إِحْصَان الْأمة قَولَانِ: أَحدهمَا: التَّزْوِيج. وَالثَّانِي: الْعتْق. [15] وَقَوله: " بيعوها وَلَو بضفير " الضفير: الْحَبل المضفور: أَي(2/261)
المفتول، وَهُوَ فعيل بِمَعْنى مفعول.
746 - / 890 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: صلى بِنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسلم فِي إِثْر سَمَاء. [15] أَي فِي إِثْر مطر: وَالْعرب تسمى الْمَطَر سَمَاء لِأَنَّهُ يَأْتِي من السَّمَاء، وَالسَّمَاء عِنْدهم كل مَا علا. [15] وَقَوله: " مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا وَكَذَا " قَالَ أَبُو عبيد: الأنواء جمع نوء، وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ نجما مَعْرُوفَة الْمطَالع فِي أزمنة السّنة كلهَا، يسْقط مِنْهَا فِي كل ثَلَاث عشرَة لَيْلَة نجم فِي الْمغرب مَعَ طُلُوع الْفجْر، ويطلع آخر يُقَابله فِي الْمشرق من سَاعَته. وَإِنَّمَا سمي نوءا لِأَنَّهُ إِذا سقط السَّاقِط ناء الطالع، وَذَلِكَ النهوض هُوَ النوء، فَسُمي النَّجْم نوءا لذَلِك، وانقضاء هَذِه الثَّمَانِية وَالْعِشْرين مَعَ انْقِضَاء السّنة. وَكَانَت الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا سقط مِنْهَا نجم وطلع آخر يَقُولُونَ: لَا بُد أَن يكون عِنْد ذَلِك مطر ورياح / فينسبون كل غيث يكون ذَلِك إِلَى النَّجْم الَّذِي يسْقط حِينَئِذٍ، فَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الساقطة مِنْهَا فِي الغرب هِيَ الأنواء، والطالعة مِنْهَا فِي الْمشرق هِيَ البوارح. وَأما قَول عمر: كم بَقِي من نوء الثريا؟ فَإِنَّهُ أَرَادَ كم بَقِي من الْوَقْت الَّذِي جرت الْعَادة أَنه إِذا؟ أَتَى الله بالمطر. وَمن لم يكن اعْتِقَاده أَن الْكَوْكَب يفعل لم يضرّهُ هَذَا القَوْل. وَقد أجَاز الْعلمَاء أَن يُقَال: مُطِرْنَا فِي نوء كَذَا، وَلَا يُقَال بِنَوْء كَذَا.(2/262)
748 - / 891 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " من جهز غازيا فقد غزا ". [15] يُقَال: جهزت فلَانا: إِذا هيأت لَهُ مَا يصلحه فِي قَصده. وَقد بَينا آنِفا أَن الْمعِين على الشَّيْء كالفاعل فِي وُقُوع الْمُشَاركَة فِي الثَّوَاب وَالْعِقَاب.
748 - / 892 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن لقطَة الذَّهَب أَو الْوَرق فَقَالَ: " اعرف وكاءها وعفاصها " وَفِي لفظ: " فَعرف عفاصها، ثمَّ عرفهَا سنة، فَإِن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وَدِيعَة عنْدك، فَإِن جَاءَ طالبها يَوْمًا من الدَّهْر فأدها إِلَيْهِ ". [15] فَأَما اللّقطَة فَإِن الروَاة قد اتَّفقُوا على فتح الْقَاف فِيهَا، وَأَرَادُوا أَنَّهَا الشَّيْء الْمُلْتَقط. قَالَ الْخَيل بن أَحْمد: اللّقطَة بِفَتْح الْقَاف: اسْم للَّذي يلقط، وبسكون الْقَاف: اسْم لما يلتقط: قَالَ الزُّهْرِيّ: هَذَا قِيَاس اللُّغَة، لِأَن فعلة فِي كَلَامهم جَاءَ فَاعِلا كالهمزة، وفعلة بِالسُّكُونِ جَاءَ مَفْعُولا كالهمزة، إِلَّا أَن كَلَام الْعَرَب فِي اللّقطَة على غير الْقيَاس، فَإِن الروَاة أَجمعُوا على أَن اللّقطَة اسْم الشَّيْء الْمُلْتَقط. [15] وَالْوَرق: الْفضة. [15] والوكاء: الَّذِي يشد بِهِ رَأس الصرة. والعفاص: الْوِعَاء الَّذِي يكون فِيهِ المَال. وَفِي عرفان هَذَا فَائِدَتَانِ. إِحْدَاهمَا: أَنه إِذا أَتَى صَاحبهَا سلمت إِلَيْهِ بِمُجَرَّد وَصفه. وَالثَّانِي: يتَمَيَّز من مَال الْمُلْتَقط،(2/263)
وَلَا يتَعَذَّر ردهَا على الْوَرَثَة إِن حدث الْمَوْت. وَمن روى: " فَعرف عفاصها " أَي اطلب من يعرفهُ. وَقَوله: " فَإِن جَاءَ طالبها يَوْمًا من الدَّهْر فأدها إِلَيْهِ " رد صَرِيح لمَذْهَب دَاوُد، فَإِن عِنْده إِذا جَاءَ صَاحبهَا بعد الْحول لم يغرم لَهُ. [15] وَقَوله: فِي ضَالَّة الْإِبِل: " دعها " دَلِيل على أَنه لَا يجوز التقاطها خلافًا لأبي حنيفَة. [15] وَفِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غضب عِنْد هَذَا السُّؤَال حَتَّى احْمَرَّتْ وجنتاه. وَإِنَّمَا غضب لقلَّة فهم السَّائِل، لِأَن اللّقطَة إِنَّمَا أُبِيح أَخذهَا لِأَنَّهَا لَا تصرف لَهَا يُوجب هدايتها إِلَى السَّبِيل الَّذِي يُوقع صَاحبهَا عَلَيْهَا، وَالْإِبِل بِخِلَاف ذَلِك. [15] وَقَوله: " فَإِن مَعهَا حذاءها " الْحذاء: النَّعْل. وَأَرَادَ بِهِ مَا يطَأ عَلَيْهِ الْبَعِير من خفه، فَإِن قوته كالحذاء لَهُ، والسقاء كالقربة وَنَحْوهَا من ظروف المَاء. وَأَرَادَ بالسقاء هَاهُنَا بطن الْبَعِير، فَإِنَّهُ يدّخر فِيهِ مَا يدْفع عَنهُ الْعَطش زَمَانا. [15] وَقَوله فِي الشَّاة: " خُذْهَا " مَحْمُول على مَا إِذا وجدت فِي أَرض فلاة، فَأَما إِذا وجدت بَين ظهراني عمَارَة فَلَا، لِأَنَّهُ لَا يُؤمن عَلَيْهَا هُنَاكَ، وَالْأَفْضَل تَركهَا. وَقد شرحنا أَحْوَال اللّقطَة فِي مُسْند أبي بن كَعْب.(2/264)
749 - / 893 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " أَلا أخْبركُم بِخَير الشُّهَدَاء؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قبل أَن يسْأَلهَا ". [15] هَذَا مدح لمؤدي الشَّهَادَة بعد تحملهَا، فَكَأَنَّهُ يقيمها لأَدَاء الْأَمَانَة، وَلَا يَعْنِي صَاحبهَا بطلبها. وَالشُّهَدَاء فِي هَذَا الحَدِيث جمع شَاهد. وَقد فسرنا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
750 - / 895 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " من آوى ضَالَّة فَهُوَ ضال مَا لم يعرفهَا ". [15] الضَّالة إِنَّمَا تسْتَعْمل فِي الْحَيَوَان، فَأَما الجمادات فَهِيَ اللّقطَة.(2/265)
(70) كشف الْمُشكل من مُسْند سهل بن سعد السَّاعِدِيّ
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة حَدِيث وَثَمَانِية وَثَمَانُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ تِسْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا.
751 - / 896 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: أَن رجلا اطلع من جُحر فِي بَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مدرى يرجل بِهِ رَأسه. [15] المدرى: شَيْء محدد الطّرف كالمسلة، من الْحَدِيد أَو غَيره، فَهُوَ كبعض أَسْنَان الْمشْط إِلَّا أَنه أطول. وأصل المدرى أَنه قرن الثور المحدد الطّرف الَّذِي يدْرَأ بِهِ عَن نَفسه: أَي يدْفع. والمدري يرفع عَن الشّعْر تلبده واشتباكه وَمَا يقف فِي أُصُوله من أَذَى. [15] ويرجل بِمَعْنى يسرح. وَهَذَا الحَدِيث يدل على أَن من اطلع فِي بَيت إِنْسَان بِحَيْثُ ينظر إِلَى عَوْرَته أَو حرمته فَلهُ أَن يَرْمِي عينه، فَإِن فقأها فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ. وَقد دلّ على هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أبي هُرَيْرَة: " لَو أَن رجلا(2/266)
اطلع عَلَيْك فخذفته بحصاة ففقأت عينه مَا كَانَ عَلَيْك جنَاح ".
752 - / 897 - الحَدِيث الثَّانِي: حَدِيث الملاعنين. [15] وَفِيه: كره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الْمسَائِل وعابها. وَفِيه: " إِن جَاءَت بِهِ أُحَيْمِر كَأَنَّهُ وحرة ". [15] أما الْمسَائِل الَّتِي كرهها فَهِيَ مَالا حَاجَة إِلَيْهِ؛ لِأَن عَاصِمًا سَأَلَ لَا لنَفسِهِ، وَعَن شَيْء مَا ابْتُلِيَ بِهِ، وَهُوَ أَمر يكْشف العورات. [15] والوحرة: دويبة كالعظاءة تلصق بِالْأَرْضِ وتتشبث بِمَا تعلق بِهِ، وَإِذ دنت على الأَرْض وحر الْمَكَان: أَي اشْتَدَّ حره. وَجَمعهَا وحر. [15] وَقَوله: " أعين " أَي وَاسع الْعين، وَمِنْه الْحور الْعين. [15] وَهَذَا الرجل الَّذِي لَاعن مُبين الِاسْم فِي الحَدِيث، وَهُوَ عُوَيْمِر، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. [15] وَقَول الزُّهْرِيّ: فَكَانَت سنة المتلاعنين. يَعْنِي التَّفْرِيق بَينهمَا.
753 - / 898 - الحَدِيث الثَّالِث: " إِن كَانَ الشؤم فِي شَيْء فَفِي الْفرس وَالْمَرْأَة والمسكن " وَفِي مُسْند ابْن عمر: " الشؤم فِي الْفرس وَالْمَرْأَة وَالدَّار " وَلم يقل: إِن كَانَ، وَفِي مُسْند جَابر: " إِن كَانَ فِي شَيْء فَفِي الرّبع وَالْخَادِم وَالْفرس يَعْنِي الشؤم.(2/267)
[15] وَلقَائِل أَن يَقُول: فَكيف الْجمع بَين هَذَا وَبَين قَوْله: " لَا عدوى وَلَا طيرة "؟ وَالْجَوَاب: أما عَائِشَة فقد غَلطت من روى هَذَا، وَقَالَت: إِنَّمَا قَالَ: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ: الطَّيرَة فِي الْمَرْأَة وَالدَّابَّة وَالدَّار. وَهَذَا رد مِنْهَا لصريح خبر رَوَاهُ جمَاعَة ثِقَات، فَلَا يعْتَمد على ردهَا. وَالصَّحِيح أَن الْمَعْنى: إِن خيف من شَيْء أَن يكون سَببا لما يخَاف شَره ويتشاءم بِهِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاء، لَا على السَّبِيل الَّتِي تظنها الْجَاهِلِيَّة من الْعَدوي والطيرة، وَإِنَّمَا الْقدر يَجْعَل للأسباب تَأْثِيرا. وَقَالَ الْخطابِيّ: لما كَانَ الْإِنْسَان فِي غَالب أَحْوَاله لَا يَسْتَغْنِي عَن دَار يسكنهَا، وَزَوْجَة يعاشرها، وَفرس يرتبطه. وَكَانَ لَا يَخْلُو من عَارض مَكْرُوه، أضيف الْيمن والشؤم إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء إِضَافَة مَحل وظرف وَإِن كَانَا صادرين عَن قَضَاء الله سُبْحَانَهُ. قَالَ: وَقد قيل: شُؤْم الْمَرْأَة أَلا تَلد، وشؤم الْفرس أَلا يحمل عَلَيْهَا فِي سَبِيل الله، وشؤم الدَّار سوء الْجَار.
754 - / 899 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصلح بَين بني عَمْرو بن عَوْف، فَتقدم أَبُو بكر فصلى بِالنَّاسِ، وَجَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخذ النَّاس فِي التصفيق، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَرفع أَبُو بكر يَده فَحَمدَ الله وَرجع القهقهرى وَرَاءه حَتَّى قَامَ فِي الصَّفّ، وَتقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى بِالنَّاسِ. قد دلّ هَذَا الحَدِيث على اسْتِحْبَاب الصَّلَاة فِي أول وَقتهَا؛ لِأَن الصَّحَابَة لم ينتظروا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى آخر الْوَقْت، وَلَا هُوَ أنكر عَلَيْهِم. وَدلّ على تَفْصِيل أبي بكر حَيْثُ قدموه وَإِشَارَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْهِ أ(2/268)
يثبت على حَاله تَقْرِير لفضله. [15] وَدلّ على جَوَاز الصَّلَاة بإمامين، وَذَلِكَ أَن الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام لما وقف عَن يسَار أبي بكر علم أَبُو بكر أَنه قد نوى الْإِمَامَة فَنوى أَبُو بكر الائتمام. [15] فَأَما رفع أبي بكر يَده وحمده الله تَعَالَى فَإِنَّمَا كَانَ إِشَارَة مِنْهُ إِلَى السَّمَاء شكرا لله، لَا أَنه تكلم. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: لم لم يثبت أَبُو بكر وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام بالثبوت، وَظَاهر هَذَا الْمُخَالفَة؟ فَالْجَوَاب: أَنه علم أَنَّهَا إِشَارَة تكريم لَا إِلْزَام، والأشياء تعرف بقرائنها، وَيدل على ذَلِك أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شقّ الصُّفُوف حَتَّى خلص إِلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنه أَرَادَ الْإِمَامَة لصلى فِي آخر الصُّفُوف. [15] وَقَوله أبي بكر: مَا كَانَ لِابْنِ أبي قُحَافَة أَن يتَقَدَّم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن الإِمَام يكون فِي الْغَالِب أفضل من الْمَأْمُوم، وَإِن كَانَ فِي حق الرَّسُول لَا يحْتَمل هَذَا. وَالثَّانِي: أَنه لما علم أَبُو بكر أَن من الْجَائِز حُدُوث وَحي فِي الصَّلَاة يُغير حكما لم يستجز أَن يتَوَلَّى الصَّلَاة مَعَ وجود الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام، خوفًا من ذَلِك. [15] وَقَوله: " التصفيق للنِّسَاء " سَمِعت شَيخنَا أَبَا الْفضل بن نَاصِر يَقُول: لَيْسَ هُوَ التصفيق الْمَعْرُوف الَّذِي هُوَ ضرب بطن الْكَفّ بباطن الْأُخْرَى، فَإِن ذَلِك يطرب، وَإِنَّمَا هُوَ أَن تضرب الْمَرْأَة بِظهْر راحتها الْيُمْنَى على بَاطِن الرَّاحَة الْيُسْرَى. والتصفيح مثل التصفيق.
755 - / 900 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله فَقَالَت: يَا رَسُول الله، جِئْت أهب لَك نَفسِي، فَنظر إِلَيْهَا(2/269)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَعدَ النّظر فِيهَا وَصَوَّبَهُ. [15] أَي نظر إِلَى وَجههَا وَحط النّظر إِلَى مَا دونه. وَهَذَا يدل على جَوَاز النّظر إِلَى الْمَرْأَة الَّتِي يُرَاد نِكَاحهَا، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لجَوَاز أَن يريدها، فَلَمَّا لم يردهَا طأطأ رَأسه. [15] وَقَوله: " ملكتكها " كلمة عبر بهَا الرَّاوِي عَن زوجتكها. وَقد رَوَاهُ جمَاعَة فَقَالُوا: " زوجتكها ". وَعِنْدنَا أَنه لَا ينْعَقد النِّكَاح بِغَيْر لفظ: زوجت أَو أنكحت. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: ينْعَقد بِكُل لفظ يُوجب التَّمْلِيك. [15] وَقَوله: " بِمَا مَعَك من الْقُرْآن " دَلِيل على أَن تَعْلِيم الْقُرْآن يجوز أَن يكون صَدَاقا، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد، وَفِي أُخْرَى: لَا يجوز، وَإِنَّمَا جَازَ لذَلِك الرجل خَاصَّة. فعلى الرِّوَايَة الأولى نقُول: يجوز أَن تكون مَنَافِع الْحر مهْرا كالخياطة وَغَيرهَا من الْأَعْمَال. [15] وَقَوله: " تزوج وَلَو بِخَاتم من حَدِيد " دَلِيل على جَوَاز عقد النِّكَاح بالشَّيْء الْيَسِير وَعِنْدنَا أَن أقل الْمهْر لَا يتَقَدَّر. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يتَقَدَّر بِمَا يقطع بِهِ السَّارِق. وَقد اخْتلفَا فِيمَا يقطع بِهِ السَّارِق: فَقَالَ أَبُو حنيفَة: النّصاب دِينَار أَو عشرَة دَارهم أَو قيمَة أَحدهمَا من الْعرُوض. وَقَالَ مَالك: النّصاب ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو قيمتهَا من الذَّهَب أَو الْعرُوض. وَفِي رِوَايَة عَنهُ: ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو ربع دِينَار أَو قيمَة(2/270)
أَحدهمَا من الْعرُوض.
756 - / 901 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَنه بشراب فَشرب مِنْهُ، وَعَن يَمِينه غُلَام وَعَن يسَاره الْأَشْيَاخ، فَقَالَ للغلام: " أتأذن لي أَن أعطي هَؤُلَاءِ؟ " فَقَالَ: لَا أوثر بنصيبي مِنْك أحدا. فتله فِي يَده. هَذَا الحَدِيث يدل على تَقْدِيم أهل الْيَمين وَذَلِكَ لشرف الْيَمين. وتله: وَضعه فِي يَده وَدفعه إِلَيْهِ.
757 - / 902 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: " لَا يزَال النَّاس بِخَير مَا عجلوا الْفطر ". وَهَذَا لِأَن إِلْزَام النَّفس مَا لَا يلْزم شرعا ابتداع يخَاف مِنْهُ الزيغ، كَمَا ابتدع أهل الْكتاب فِي دينهم فزاغوا، وشددوا فَشدد الله عَلَيْهِم.
758 - / 903 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: أَن نَفرا تماروا فِي الْمِنْبَر: من أَي عود هُوَ؟ فَقَالَ سعد: من طرفاء الغابة، وَلَقَد رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ عَلَيْهِ فَكبر وَكبر النَّاس وَرَاءه وَهُوَ على الْمِنْبَر، ثمَّ رَجَعَ فَنزل الْقَهْقَرَى حَتَّى سجد فِي أصل الْمِنْبَر، ثمَّ عَاد حَتَّى فرغ من آخر صلَاته، ثمَّ أقبل على النَّاس فَقَالَ: " يَا أَيهَا النَّاس، إِنَّمَا صنعت هَذَا لتأتموا بِي ولتعلموا صَلَاتي ".(2/271)
الغابة: الغيضة، وَجَمعهَا غابات. [15] وَكَانَ الْمِنْبَر مرقاتين، فنزوله وصعوده خطوَات، وَذَلِكَ عمل يسير، وَلَعَلَّه قَامَ على الْمرقاة النَّازِلَة. [15] والقهقرى: الرُّجُوع إِلَى وَرَاء. وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لِئَلَّا يستدبر الْقبْلَة فِي صلَاته. وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك الْفِعْل أَن يعلم أَصْحَابه الصَّلَاة ليحفظوا عَنهُ آدابها. [15] وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الإِمَام إِذا كَانَ أَعلَى من الْمَأْمُوم لم تفْسد إِمَامَته، وَجَاز الائتمام بِهِ، وَإِن كَانَ ذَلِك مَكْرُوها.
759 - / 904 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التقى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتلُوا، وَفِي أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل لَا يدع شَاذَّة وَلَا فاذة إِلَّا اتبعها يضْربهَا بِسَيْفِهِ. فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ أحد منا الْيَوْم كَمَا أَجْزَأَ فلَان، فَقَالَ: " إِنَّه من أهل النَّار ". [15] هَذِه الْقِصَّة جرت يَوْم أحد، وَهَذَا الرجل اسْمه قزمان، وَهُوَ مَعْدُود فِي جملَة الْمُنَافِقين، وَكَانَ قد تخلف يَوْم أحد فَعَيَّرَهُ النِّسَاء وقلن لَهُ: قد خرج الرِّجَال، مَا أَنْت إِلَّا امْرَأَة، فَخرج لما أحفظنه، فَصَارَ فِي الصَّفّ الأول، وَكَانَ أول من رمى بهم، وَجعل يُرْسل نبْلًا كالرماح، ثمَّ صَار إِلَى السَّيْف فَفعل الْعَجَائِب، فَلَمَّا انْكَشَفَ الْمُسلمُونَ كسر جفن سَيْفه وَجعل يَقُول: الْمَوْت أحسن من الْفِرَار، يال الْأَوْس،(2/272)
قَاتلُوا على الأحساب، وَجعل يدْخل وسط الْمُشْركين حَتَّى يُقَال: قد قتل، ثمَّ يخرج وَيَقُول: أَنا الْغُلَام الظفري، حَتَّى قتل سَبْعَة، وأصابته جِرَاحَة، فَمر بِهِ قَتَادَة بن النُّعْمَان فَقَالَ: هَنِيئًا لَك الشَّهَادَة. فَقَالَ: إِنِّي وَالله مَا قَاتَلت على دين، مَا قَاتَلت إِلَّا على الْحفاظ، أَلا تسير قُرَيْش إِلَيْهَا حَتَّى تطَأ سعفتنا، ثمَّ أقلقته الْجراحَة فَقتل نَفسه، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن الله ليؤيد هَذَا الدّين بِالرجلِ الْفَاجِر ". [15] وَأما الشاذة فَهِيَ المنفردة. والفاذة مثلهَا. [15] وَقَوله: مَا أَجْزَأَ أحد كَمَا أَجْزَأَ فلَان: أَي مَا كفى كِفَايَته وَلَا قَامَ مقَامه، وَيُقَال للشَّيْء الْكَافِي: جزأ وأجزأ. [15] وذباب السَّيْف: حد رَأسه. وحد كل شَيْء ذبابه. وَقَالَ بَعضهم: ذبابه: حَده الَّذِي يضْرب بِهِ. [15] التحامل: تكلّف الشَّيْء على مشقة.
760 - / 905 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: جرح وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكسرت رباعيته، وهشمت الْبَيْضَة على رَأسه، فَكَانَت فَاطِمَة تغسل الدَّم وَعلي يسْكب عَلَيْهَا بالمجن. [15] الرباعيات تلِي الثنايا، وَهِي اثْنَتَانِ من فَوق وَاثْنَتَانِ من أَسْفَل، وَقد ذكرنَا عدد الْأَسْنَان وأسماءهن فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. [15] وَقَوله: وهشمت: كسرت. والهشم: كسر الشَّيْء الأجوف.(2/273)
والمجن: الترس.
761 - / 906 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: فَبَاتَ النَّاس يدوكون ليلتهم أَيهمْ يعطاها. [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: يدوكون: يَخُوضُونَ فِيمَن يَدْفَعهَا إِلَيْهِ. يُقَال: النَّاس فِي دوكة: إِذا كَانَ فِي اخْتِلَاط وخوض. [15] وَقَوله: " لِأَن يهدي الله بك رجلا " أبين دَلِيل على تَفْضِيل الْعلم. [15] وَالنعَم: الْإِبِل. وَإِنَّمَا خص حمرها لِأَنَّهَا كرامها وخيارها.
762 - / 907 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي عشر: دَعَا أَبُو أسيد السَّاعِدِيّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عرسه، فَكَانَت امْرَأَته خادمتهم وَهِي الْعَرُوس، أنقعت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تمرات من اللَّيْل فِي تور، فَلَمَّا فرغ من الطَّعَام أماثته فسقته تخصه بذلك. [15] التور: آنِية كالقدح تكون من حِجَارَة، وَهِي اسْم أعجمي، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند جَابر بن عبد الله. [15] وَقَوله: أماثته. يُقَال: مثت الشَّيْء فِي المَاء: إِذا أنقعته فِيهِ ثمَّ عصرته وصفيته. وَيُقَال: انماث ينماث: إِذا ذاب وَتغَير المَاء بِهِ.
763 - / 909 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: فلهي بِشَيْء بَين يَدَيْهِ. لهي بِكَسْر الْهَاء وَمَعْنَاهُ اشْتغل. فإئا فتحت الْهَاء كَانَ من اللَّهْو.(2/274)
764 - / 910 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: ذكر امْرَأَة قدم بهَا على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتزوجها، فَنزلت فِي أجم بني ساعده، فَقَالَت: أعوذ بِاللَّه مِنْك. [15] الأجم والأطم: الْحصن. وَقد تقدّمت تَسْمِيَة هَذِه الْمَرْأَة وَشرح حَالهَا فِي مُسْند أبي أسيد. وَيُقَال: إِن بعض نِسَائِهِ قُلْنَ لَهَا: إِذا أردْت الحظوة عِنْده فَقولِي لَهُ: أعوذ بِاللَّه مِنْك، وَمَا علمت هِيَ مَا تَحت هَذَا.
765 - / 911 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: " يحْشر النَّاس على أَرض بَيْضَاء عفراء كقرصة النقي لَيْسَ فِيهَا معلم لأحد " وَفِي لفظ " علم ". [15] قَالَ أَبُو عبيد: العفر: الْأَبْيَض لَيْسَ بشديد الْبيَاض. [15] والنقي: الْحوَاري. والمعلم الْأَثر. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان البستي: إِنَّمَا سمي الْحوَاري نقيا لِأَنَّهُ نقي من القشر والنخاله. [15] وَيُرِيد بقوله: " لَيْسَ فِيهِ معلم " أَنَّهَا مستوية لَيْسَ فِيهَا حدب يرد الْبَصَر وَلَا بِنَاء يستر مَا وَرَاءه. والمعلم وَاحِد معالم الأَرْض: أَي(2/275)
أعلامها الَّتِي يهتدى بهَا فِي الطّرق.
766 - / 912 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: وننقل التُّرَاب على أكتادنا. [15] الأكتاد جمع كتد بِفَتْح الْكَاف وَالتَّاء: وَهُوَ موصل الْعُنُق فِي الظّهْر، وَهُوَ فِيمَا بَين الْكَاهِل إِلَى الظّهْر، والكاهل مَا بَين الْكَتِفَيْنِ.
767 - / 913 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: كُنَّا نفرح بِيَوْم الْجُمُعَة، وَذَلِكَ أَنه كَانَت عَجُوز ترسل إِلَى بضَاعَة، فتأخذ من أصُول السلق فتطرحه فِي الْقدر، وتكركر عَلَيْهِ حبات من شعير، مَا فِيهِ شَحم وَلَا ودك. [15] بضَاعَة: بِئْر حولهَا نخل وَزرع. وَمن الْمُحدثين من يضم الْبَاء فَيَقُول: بضَاعَة. [15] وَقَوله: تكركر: مَعْنَاهُ تطحن أَو تحبش، وَأَصله من الْكر، ضوعف عود الرَّحَى ورجوعها فِي الطحين مرّة بعد أُخْرَى. والكركرة بِمَعْنى الصَّوْت كالجرجرة. [15] والودك: الدّهن، إِلَّا أَنه لَا يُقَال ودك إِلَّا من الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. وَيُقَال من دهن السمسم والجوز واللوز وَالزَّيْتُون دسم. وَيُقَال من الطير والدجاج والبط زهم.(2/276)
[15] وَقَوله: تغرسه على أربعائنا. الْأَرْبَعَاء: النَّهر. [15] وَقَوله: وَمَا كُنَّا نقِيل وَلَا نتغدى إِلَّا بعد الْجُمُعَة. القيلولة: النّوم قبل الزَّوَال. وَقد اسْتدلَّ بِهِ أَصْحَابنَا على جَوَاز إِقَامَة الْجُمُعَة قبل الزَّوَال، لِأَن القيلولة والغداء لَا يكونَانِ إِلَّا قبل الزَّوَال. وَقد عضد هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي أَفْرَاد البُخَارِيّ من حَدِيث أنس بن مَالك قَالَ: كُنَّا نبكر إِلَى الْجُمُعَة ثمَّ نقِيل بعْدهَا. وَفِي أَفْرَاد مُسلم من حَدِيث جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَة ثمَّ نَذْهَب إِلَى جمالنا فنريحها حِين تَزُول الشَّمْس. وَهَذَا عِنْد أَصْحَابنَا وَقت جَوَاز فعل الْجُمُعَة. فَأَما الِاسْتِحْبَاب فَبعد الزَّوَال. وَيُمكن أَن تشبه بِصَلَاة الْعِيد، لِأَن الْجُمُعَة كالعيد. [15] وَلقَائِل أَن يَقُول: أَوْقَات الصَّلَاة مَعْلُومَة مُجْتَمع عَلَيْهَا، فَلَا تغير بِأَمْر مُحْتَمل. وَوجه الِاحْتِمَال أَن قَوْله: مَا كُنَّا نقِيل وَلَا نتغدى: أَي كُنَّا يحرضنا على البكور إِلَى الْجُمُعَة، نؤخر غداءنا وقيلولتنا إِلَى مَا بعد الْجُمُعَة. ويوضحه قَول أنس: كُنَّا نبكر إِلَى الْجُمُعَة ثمَّ نقِيل بعْدهَا. وَقد يَقُول من أخر غداءه إِلَى وَقت الْمسَاء: هَذَا غدائي. [15] ويكشف هَذَا أَن جَمِيع الْأَلْفَاظ: كُنَّا، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَلَفْظَة كَانَ إِخْبَار عَن دوَام الْفِعْل. وَقد قَالَ الْخصم: إِن ذَلِك جَائِز لَا مُسْتَحبّ، فَمَا كَانُوا بالذين يدومون على ترك الِاسْتِحْبَاب. فَأَما قَول جَابر: كُنَّا نصلي الْجُمُعَة ونريح جمالنا حِين تَزُول الشَّمْس، فَهُوَ(2/277)
إِخْبَار عَن صَلَاة الْجُمُعَة مَعَ الزَّوَال.
768 - / 914 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: " رِبَاط يَوْم فِي سَبِيل الله ... ". [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أصل الرِّبَاط والمرابطة: أَن يرْبط هَؤُلَاءِ خيولهم وَهَؤُلَاء خيولهم فِي الثغر، كل يعد لصَاحبه.
769 - / 915 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: هَذَا حري إِن خطب أَن ينْكح. [15] حري وحقيق وجدير بِمَعْنى. وَالْمرَاد من الحَدِيث أَلا يزدرى الْفَقِير، فَإِنَّهُ فِي الْأَغْلَب خير من الْغَنِيّ.
770 - / 917 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: كَانَ بَين مصلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين الْجِدَار ممر الشَّاة. [15] هَذَا الْقرب من الْقبْلَة لأجل من يجوز.
771 - / 920 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: كَانَ رجال يصلونَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عاقدي أزرهم على أَعْنَاقهم كَهَيئَةِ الصّبيان، وَيُقَال للنِّسَاء: لَا ترافعن رؤوسكن حَتَّى يَسْتَوِي الرِّجَال جُلُوسًا. [15] كَانَت كسْوَة أُولَئِكَ الرِّجَال قَليلَة، وثيابهم قَصِيرَة لمَكَان الْفقر،(2/278)
فَأمر النِّسَاء أَلا يرفعن رؤوسهن حَتَّى يَسْتَوِي الرِّجَال جُلُوسًا لِئَلَّا يشاهدن عَورَة.
772 - / 921 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: إِن أهل الْجنَّة ليتراءون الغرفة فِي الْجنَّة كَمَا تتراءون الْكَوْكَب فِي السَّمَاء. [15] إِنَّمَا سميت الْجنَّة جنَّة لاستتار أرضه بأشجارها. وَسمي الْجِنّ لاستتارهم، وَيُسمى الْجَنِين أَيْضا. [15] والغرفة: الْمنزل فَوق الْأَبْنِيَة. [15] والكوكب: النَّجْم. وَأما الدُّرِّي فَقَالَ الْكسَائي: الدُّرِّي بِضَم الدَّال مشبه بالدر، وبكسر الدَّال: الْجَارِي. وَبِفَتْحِهَا: الملتمع. [15] والأفق وَاحِد الْآفَاق: وَهِي النواحي.
773 - / 922 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: " إِن فِي الْجنَّة شَجَرَة يسير الرَّاكِب الْجواد الْمُضمر السَّرِيع مائَة عَام مَا يقطعهَا ". [15] الْجواد: الْفرس السَّرِيع. وتضمير الْخَيل: أَن تشد عَلَيْهَا سُرُوجهَا وتجلل بالأجلة، وتجري حَتَّى تعرق، ويكرر ذَلِك عَلَيْهَا حَتَّى تعتاده، فيقوى لحملها وَيذْهب رهلها، وتخف حركتها، فَإِذا انْتَهَت رياضتها وَبَلغت مَا يُريدهُ الرائضون فِيهَا فَهِيَ مضمرة، وَمَا دَامَت فِي الرياضة فَهِيَ غير مضمرة. وَاسم الْمَكَان الَّذِي تجْرِي فِيهِ الْمِضْمَار. وَقد يُقَال(2/279)
الْمِضْمَار للْوَقْت الَّذِي تضمر فِيهِ الْخَيل للسباق. وَهَذِه الشَّجَرَة يُقَال: إِنَّهَا طُوبَى.
774 - / 923 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْعِشْرين: " أَنا فَرَطكُمْ على الْحَوْض، وليردن عَليّ أَقوام أعرفهم ويعرفونني، ثمَّ يُحَال بيني وَبينهمْ ". [15] الفرط: الْمُتَقَدّم لأصلاح أَمر. [15] وَهَؤُلَاء الَّذين أَحْدَثُوا بعده يحْتَمل أَن يُرَاد بهم المُنَافِقُونَ والمرتدون والمبتدعون فِي أصل الدّين. [15] وَسُحْقًا مصدر أسحقه الله سحقا: أَي أبعده بعدا. [15] فَإِن قيل: كَيفَ خَفِي حَالهم عَلَيْهِ وَقد قَالَ: " تعرض عَليّ أَعمال أمتِي " فَالْجَوَاب أَنه إِنَّمَا تعرض عَلَيْهِ أَعمال الْمُوَحِّدين لَا الْمُنَافِقين وَلَا الْكَافرين.
775 - / 926 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث من أَفْرَاد البُخَارِيّ: " ليدخلن الْجنَّة من أمتِي سَبْعُونَ ألفا - أَو سَبْعمِائة ألف - سماطين، آخذ بَعضهم بِبَعْض، حَتَّى يدْخل أَوَّلهمْ وَآخرهمْ الْجنَّة، وُجُوههم على صُورَة الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر ".(2/280)
[15] السماط: مَا رتب على جِهَة مُتَسَاوِيَة. وَهَؤُلَاء يدْخلُونَ بَعضهم آخذ بيد بعض. [15] وَقَوله: " على صُورَة الْقَمَر " أَي على ضوئه لَيْلَة الْبَدْر، لَيْلَة أَربع عشرَة. [15] وَفِي تَسْمِيَتهَا بذلك قَولَانِ ذكرهمَا ابْن الْقَاسِم: أَحدهمَا: لأ، الْقَمَر فِيهَا يُبَادر طلوعه غرُوب الشَّمْس. وَالثَّانِي: لامتلاء الْقَمَر وَحسنه وكماله. وَسميت بدرة الدَّرَاهِم بدرة لامتلائها، وَمِنْه قَوْلهم: عين حدرة بدرة: إِذا كَانَت ممتلئة.
776 - / 927 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: " أَنا وكافل الْيَتِيم فِي الْجنَّة كَهَذا " وَأَشَارَ بالسبابة وَالْوُسْطَى وَفرج بَينهمَا شَيْئا. [15] قَالَ الْأَصْمَعِي: الْيُتْم فِي النَّاس من قبل الْأَب، وَفِي غير النَّاس من قبل الْأُم. وَقَالَ ثَعْلَب: مَعْنَاهُ فِي كَلَام الْعَرَب الِانْفِرَاد، فَمَعْنَى يَتِيم: مُنْفَرد عَن أَبِيه، وَأنْشد:
(أفاطم، إِنِّي ذَاهِب فتثبتي ... وَلَا تجزعي، كل النِّسَاء يَتِيم)
[15] قَالَ: ويروى يَتِيم، ويئيم، فَمن روى بِالتَّاءِ أَرَادَ كل النِّسَاء ضَعِيف مُنْفَرد، وَمن روى بِالْيَاءِ أَرَادَ: كل النِّسَاء يَمُوت عَنْهُن أَزوَاجهنَّ. قَالَ: وأنشدنا ابْن الْأَعرَابِي:
(ثَلَاثَة أحباب فحب علاقَة ... وَحب تملاق، وَحب هُوَ الْقَتْل)(2/281)
[15] فَقُلْنَا لَهُ: زِدْنَا: فَقَالَ: الْبَيْت يَتِيم، أَي مُنْفَرد. [15] وقرأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: إِذا بلغ الصَّبِي زَالَ عَنهُ اسْم الْيُتْم، يُقَال مِنْهُ: يتم ييتم يتما ويتما، وَجمع الْيَتِيم يتامى وأيتام، وكل مُنْفَرد عَن الْعَرَب يَتِيم ويتيمة. قَالَ: وَقيل أَيْضا: أصل الْيُتْم الْغَفْلَة، وَبِه سمي الْيَتِيم لِأَنَّهُ يتغافل عَن بره. والمراة تدعى يتيمة مالم تتَزَوَّج، فَإِذا تزوجت زَالَ عَنْهَا اسْم الْيُتْم. وَقيل: لَا يَزُول عَنْهَا اسْم الْيُتْم أبدا. وَقَالَ أَبُو عَمْرو: الْيُتْم: الإبطاء، وَمِنْه أَخذ الْيَتِيم، لِأَن الْبر يبطئ عَنهُ. [15] وَأما كَفَالَة الْيَتِيم فمعناها الْقيام بأَمْره وتربيته.
777 - / 928 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " من يضمن لي مَا بَين لحييْهِ وَمَا بَين رجلَيْهِ أضمن لَهُ الْجنَّة ". [15] الْإِشَارَة إِلَى اللِّسَان والفرج. وَالْمرَاد بِالضَّمَانِ الْوَفَاء بترك الْمعاصِي بهما.
778 - / 929 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: هَل أكل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم النقي؟ يَعْنِي الحوارى. [15] وَقَوله: مَا بَقِي ثريناه: أَي بللناه بِالْمَاءِ. وَأَصله من الثرى وَهُوَ التُّرَاب الندي.(2/282)
779 - / 930 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: كَانَ النَّاس يؤمرون أَن يضع الرجل الْيَد الْيُمْنَى على ذراعه الْيُسْرَى فِي الصَّلَاة، قَالَ أَبُو حَازِم: وَلَا أعلمهُ إِلَّا ينمي ذَلِك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] وضع الْيَد الْيُمْنَى على الْيُسْرَى مُسْتَحبّ فِي الصَّلَاة عندنَا، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، ولمالك رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا كَقَوْلِنَا، وَالثَّانيَِة: أَنه غير مُسْتَحبّ، إِنَّمَا هُوَ مُبَاح. [15] وَفِي ينمي لُغَتَانِ فتح الْيَاء وَضمّهَا. وَمَعْنَاهَا رفع الحَدِيث. قَالَ الزّجاج: نميت بالشَّيْء نَمَاء: إِذا رفعته، وأنميته إنماء مثله. [15] 780 / 931 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: قَالَ سهل: مَا عدوا من مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا من وَفَاته، مَا عدوا إِلَّا من مقدمه الْمَدِينَة. [15] الْإِشَارَة إِلَى التَّارِيخ. وَأعلم أَنه لما أهبط آدم من الْجنَّة وانتشر وَلَده، أرخ بنوه من هُبُوطه إِلَى أَن بعث الله نوحًا، فأرخوا مبعث نوح إِلَى أَن كَانَ الْغَرق، فأرخوا من الطوفان إِلَى نَار إِبْرَاهِيم. فَلَمَّا كثر ولد إِسْمَاعِيل افْتَرَقُوا، فأرخ بَنو إِسْحَق من نَار إِبْرَاهِيم إِلَى مبعث يُوسُف، وَمن مبعث يُوسُف إِلَى مبعث مُوسَى، وَمن مبعث مُوسَى إِلَى ملك سُلَيْمَان، وَمن ملك سُلَيْمَان إِلَى مبعث عِيسَى، وَمن مبعث عِيسَى إِلَى أَن بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وأرخ بَنو إِسْمَاعِيل من نَار إِبْرَاهِيم إِلَى(2/283)
بِنَاء الْبَيْت، وَمن بِنَاء الْبَيْت حَتَّى تَفَرَّقت معد. وَكَانَت للْعَرَب أَيَّام وأعلام يعدونها، ثمَّ أَرخُوا من موت كَعْب بن لؤَي إِلَى الْفِيل. وَكَانَ التَّارِيخ من الْفِيل إِلَى أَن أرخ عمر بن الْخطاب من الْهِجْرَة، وَإِنَّمَا أرخ عمر بعد سبع عشرَة سنة من الْهِجْرَة، وَذَلِكَ أَن أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ كتب إِلَى عمر أَنه تَأْتِينَا من قبلك كتب لَيْسَ لَهَا تَارِيخ فأرخ، فَاسْتَشَارَ عمر الصَّحَابَة فِي ذَلِك، فَقَالَ بَعضهم: أرخ لمبعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: لوفاته. فَقَالَ عمر: بل نؤرخ لمهاجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن مهاجره فرق بَين الْحق وَالْبَاطِل، فأرخ لذَلِك. وَاخْتلفُوا بِأَيّ شهر يبدأون، فَقَالَ عُثْمَان: أَرخُوا الْمحرم أول السّنة. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب: كتب التَّارِيخ بمشورة عَليّ.
781 - / 932 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع: " فِيهَا مَا لَا عين رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعت، وَلَا خطر على قلب بشر ". [15] اعْلَم أَن نعيم الْجنَّة لما كَانَ غَائِبا نَاب الْوَصْف عَن الْمُشَاهدَة. وَإِنَّمَا يُوصف مَا قد رئي جنسه وَمَا يعرف شبهه، فوصف الله عز وَجل للْمُؤْمِنين مَا يعْرفُونَ من المطاعم والأزواج والفرش والقصور وَالْأَشْجَار والأنهار، ثمَّ درج الْأَغْرَاض فِي قَوْله: {وفيهَا مَا تشتهيه الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين} [الزخرف: 71] ثمَّ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " فِيهَا مَا لَا عين رَأَتْ، وَلَا أذن سَمِعت، وَلَا خطر على قلب تشر " وَهَذَا لِأَن النُّفُوس تحب الْأَشْيَاء(2/284)
المتجددة والغربية. فَلَمَّا كَانَ مَا قد رَأَتْهُ وَسمعت بِهِ وَمَا يخْطر بالقلوب عِنْدهَا مَعْرُوفا، أخْبرهَا بِوُجُود مَا يزِيد على ذَلِك مِمَّا لم يبلغ إِلَى مَعْرفَته، إِذْ لم تَرَ جنسه، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} [السَّجْدَة: 17] وَقد جعل ذَلِك فِي مُقَابلَة قيام اللَّيْل حِين قَالَ: {تَتَجَافَى جنُوبهم عَن الْمضَاجِع} [السَّجْدَة: 16] فأخفى جزاءهم لأخفائهم عِبَادَته فِي الدجى. وَقَول الْقرظِيّ: إِن ثمَّ لكيسا. أَي عقلا وافرا. حِين أخفوا مُعَامَلَته، وَفِي إخفاء الْمُعَامَلَة اقتناع بِرُؤْيَة الْمَعْمُول مَعَه.
782 - / 933 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: كَانَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حائطنا فرس يُقَال لَهُ اللحيف. الْحَائِط: الْبُسْتَان. [15] وَفِي اسْم هَذَا الْفرس ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: اللحيف بِالْحَاء. وَالثَّانِي: اللخيف بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَهُوَ مَذْكُور فِي الحَدِيث أَيْضا. وَالثَّالِث: النحيف بالنُّون والحاء الْمُهْملَة، ذكره بعض أهل التَّارِيخ. [15] وَقد ملك صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة أَفْرَاس: أَحدهمَا: اسْمهَا السكب، وَهُوَ أول فرس ملكه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالثَّانِي: المرتجز، وَهُوَ الَّذِي اشْتَرَاهُ من الْأَعرَابِي، فَشهد فِيهِ خُزَيْمَة بن ثَابت. وَبَعض الروَاة جعل الاسمين لفرس وَاحِد. وَالثَّالِث: اللزاز، فرس اشْتَرَاهُ لَهُ الْمُقَوْقس. وَالرَّابِع: الظرب. أهداه لَهُ ربيعَة بن الْبَراء. وَالْخَامِس: الْورْد، أهداه لَهُ تَمِيم الدَّارِيّ. وَالسَّادِس النحيف. وَالسَّابِع: اليعسوب. وَكَانَت لَهُ النَّاقة(2/285)
الْقَصْوَاء، وَهِي العضباء، وَهِي الجدعاء. وَكَانَت بغلة تسمى بالشهباء وبالدلدل، وَكَانَ لَهُ حمَار يُقَال لَهُ يَعْفُور.(2/286)
(71) كشف الْمُشكل من مُسْند مَالك بن صعصعة
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة أَحَادِيث، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث وَاحِد، وَهُوَ حَدِيث الْمِعْرَاج.
783 - / 935 - وَفِيه من الْمُشكل: بَينا أَنا فِي الْحطيم. [15] والحطيم هُوَ الْحجر، وَإِنَّمَا سمي حطيما لما حطم من جِدَاره، فَلم يسو بِبِنَاء الْبَيْت وَترك خَارِجا مِنْهُ محطوم الْجِدَار. وأصل الحطم الْكسر. [15] وَإِنَّمَا سمي الْحجر حجرا لِأَنَّهُ احتجر: أَي اقتلع من الأَرْض بِمَا أدير عَلَيْهِ من الْبُنيان. [15] وَقَوله: من ثغرة نَحره. النَّحْر مَوضِع القلادة. وثغرته: الهزمة الَّتِي تقع فِي اللبة. واللبة مَوضِع وسط القلادة، وَجمع الثغرة ثغر. [15] والشعرة: الْعَانَة. [15] والقص بالصَّاد، والعامة تَقول بِالسِّين وَذَلِكَ غلط: وَهُوَ وسط الصَّدْر. [15] والطست وَقد ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند أبي ذَر.(2/287)
[15] وَأما قَول مُوسَى: أبْكِي لِأَن غُلَاما بعث بعدِي يدْخل الْجنَّة من أمته أَكثر مِمَّا يدخلهَا من أمتِي، فَرُبمَا توهم جَاهِل أَنه فِي معنى الْحَسَد. والحسد لَا يجوز فِي حق الْأَنْبِيَاء، إِنَّمَا يكون فِي معنى الْغِبْطَة. وَقد قيل: إِنَّمَا بَكَى رَحْمَة لأمته، وتمنيا لَهُم الْخَيْر، لِأَنَّهُ بَالغ فِي الِاجْتِهَاد مَعَهم، وَطَالَ زمنهم إِلَى مَجِيء عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ زَاد عدد السالمين من أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِم. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: هَذَا الْغُلَام، وَهُوَ لفظ يَقْتَضِي التصغير؟ فَالْجَوَاب: أَنه تعجب من منَّة الله عَلَيْهِ مَعَ صغر سنه. وَيحسن فِي ذكر النعم تَصْغِير الْمُنعم عَلَيْهِ لينفرد الْمُنعم بالعظمة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن هُوَ إِلَّا عبد أنعمنا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] وَقَوله عز وَجل: {ألم يجدك يَتِيما فآوى ووجدك ضَالًّا فهدى} [الضُّحَى: 6، 7] . [15] وَأما الْبَيْت الْمَعْمُور فَهُوَ الْكثير الغاشية، كَأَنَّهُ عمر بِمن يَغْشَاهُ. [15] قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ حِيَال الْكَعْبَة، يحجه كل يَوْم سَبْعُونَ ألف ملك ثمَّ لَا يعودون إِلَيْهِ حَتَّى تقوم السَّاعَة. [15] وَمعنى آخر مَا عَلَيْهِم: أبدا. [15] وَقَوله فِي اللَّبن: " هِيَ الْفطْرَة " أصل الْخلقَة. وَهُنَاكَ وَقع الْإِقْرَار بالخالق من غير شوب دَعْوَى فِي حق غَيره. فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بالفطرة إِلَى الْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ، لِأَن الْخمر يشاب، وَالْعَسَل يشاب، بِخِلَاف اللَّبن. [15] وَقَوله: " أحد الثَّلَاثَة بَين الرجلَيْن ": أَي لَيْسَ بالطويل وَلَا بالقصير.(2/288)
[15] ومراق الْبَطن مُشَدّدَة الْقَاف: وَهُوَ مَا سفل من الْبَطن من الْمَوَاضِع الَّتِي ترق جلودها. وَيُقَال: وَاحِدهَا مرق. [15] وَقَوْلهمْ: مرْحَبًا بِهِ: الْمَعْنى أَتَى رحبا: أَي سَعَة. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَقَول النَّاس: مرْحَبًا وَأهلا: مَعْنَاهُ أتيت رحبا وَأهلا لَا غرباء، فأنس وَلَا تستوحش. وسهلا: أَي أتيت سهلا لَا حزنا. وَهُوَ فِي مَذْهَب الدُّعَاء، كَمَا تَقول: لقِيت خيرا.(2/289)
(72) كشف الْمُشكل من مُسْند كَعْب بن عجْرَة
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَرْبَعَة أَحَادِيث.
784 - / 936 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: قَوْله: " أَيُؤْذِيك هوَام رَأسك؟ ". [15] الْهَوَام جمع هَامة. [15] وَقَوله: " انسك نسيكة " يعْنى اذْبَحْ ذَبِيحَة، وَهِي شَاة. [15] والتهافت: التساقط شَيْء بعد شَيْء. [15] وَالْفرق: مكيال مَعْرُوف لَهُم. قَالَ ثَعْلَب: هُوَ مَفْتُوح وَلَا تسكنها. وَكَذَلِكَ قَالَ القتبي: وَهُوَ بِفَتْح الرَّاء، وَهُوَ سِتَّة عشر رطلا. وَقَالَ ابْن فَارس: بِفَتْح رائه وتسكن. وَهَذَا الْمِقْدَار مَكِيل من التَّمْر، وَلَا يَجْزِي أقل من نصف صَاع لكل فَقير.(2/290)
785 - / 938 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: " مُعَقِّبَات لَا يخيب قائلهن ". [15] المعقبات: الَّتِي يعقب بَعْضهَا بَعْضًا: أَي يَأْتِي بَعضهنَّ فِي عقب بعض.
786 - / 939 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: عَن كَعْب بن عجْرَة أَنه دخل الْمَسْجِد وَعبد الرَّحْمَن بن أم الحكم يخْطب قَاعِدا، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْخَبيث يخْطب قَاعِدا، وَقد قَالَ الله عز وَجل: {وَإِذا رَأَوْا تِجَارَة أَو لهوا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِما} [الْجُمُعَة: 11] . [15] الْقيام فِي الْخطْبَة مسنون عندنَا. فَأَما عِنْد الشَّافِعِي فَإِنَّهُ شَرط لَا تصح الْخطْبَة إِلَّا بِهِ.(2/291)
(73) كشف الْمُشكل من مُسْند أبي بَرزَة نَضْلَة بن عبيد
[15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ سَبْعَة أَحَادِيث.
787 - / 940 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: كَانَ يُصَلِّي الهجير الَّتِي تدعونها الأولى حِين تدحض الشَّمْس. [15] الهجير والهاجرة نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر. [15] وتدحض بِمَعْنى تَزُول. [15] وَقَوله: " وَالشَّمْس حَيَّة " حَيَاة الشَّمْس بَقَاء حرهَا لم يفتر، ولونها لم يصفر. [15] وَأما كَرَاهِيَة النّوم قبل الْعشَاء فَإِنَّهُ لَا يُؤمن امتداد النّوم إِلَى أَن يذهب وَقت الْفَضِيلَة، وَرُبمَا لم يدْرك حِينَئِذٍ جمَاعَة، فَإِن قَامَ النَّائِم فِي وَقت الْفَضِيلَة فَمَا أَخذ من النّوم قبل مُرَاده، فَيقوم كسلان. وَأما الحَدِيث بعْدهَا فلاستحباب ختم الْعَمَل بِالطَّاعَةِ، وَنسخ عَادَة الْجَاهِلِيَّة فِي(2/292)
السمر. فَأَما إِذا كَانَ الحَدِيث بعْدهَا فِي الْعلم وَالْخَيْر فَإِنَّهُ لَا يكره.
788 - / 941 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: [15] مَا أرى أحدا الْيَوْم خيرا من هَذِه الْعِصَابَة الملبدة، خماص الْبُطُون من أَمْوَال النَّاس. [15] الملبدة: المقيمة الَّتِي لَا تتصرف فِي الْفِتَن. والملبد: الْمُقِيم اللاصق بِالْأَرْضِ. [15] والخامص: الضامر. وَأَرَادَ نزاهة الْقَوْم من دِمَاء النَّاس وَأَمْوَالهمْ.
789 - / 942 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كُنَّا على شاطئ النَّهر وَقد نضب عَنهُ المَاء. [15] نضب: مَفْتُوحَة الضَّاد. وَالْمعْنَى: لم يبْق عَلَيْهِ شَيْء. [15] والتعنيف: التوبيخ. وَالْمعْنَى: مَا وبخني أحد وَلَا لَقِيَنِي بِكَلَام يشق. والعنف ضد الرِّفْق. [15] وَقَوله: منزلي متراخ: أَي متباعد. [15] وَقد ذكرنَا الحرورية فِي مُسْند عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام، وهم الَّذين خَرجُوا على عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام فنزلوا حروراء. والأزارقة: خوارج نسبوا إِلَى نَافِع بن الْأَزْرَق. [15] والقهقرى: الرُّجُوع على العقبين إِلَى وَرَاء.(2/293)
[15] وَقَوله: مخزيك: أَي مذلك. قَالَ الزّجاج: المخزى فِي اللُّغَة: المذل المحقور بِأَمْر قد لزمَه وبحجة. يُقَال: أخزيته: ألزمته حجَّة أذللته مَعهَا.
790 - / 943 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد مُسلم: [15] قَالَت: امْرَأَة لناقتها: حل، اللَّهُمَّ العنها. [15] وَحل: زجر للناقة. وَقد فسرنا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.
791 - / 944 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: حلقي عقرى. [15] أما حلقى وعقرى فهما كلمتان تخفان على أَلْسِنَة الْعَرَب فِي الدُّعَاء على النِّسَاء، وَرُبمَا دعين بهَا على أَنْفسهنَّ تَعْظِيمًا لِلْأَمْرِ الَّذِي وَقع الْغَضَب مِنْهُ، وَمَعْنَاهَا: عقرهَا الله وحلقها: أَي أَصَابَهَا بوجع فِي حلقها. [15] وَقَوله: " لَا، لعمر الله " أَي وحياته.
792 - / 945 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: " وَأمر الْأَذَى عَن الطَّرِيق ". أَي: نحه(2/294)
793 - / 946 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث رجلا إِلَى حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب، فسبوه وضربوه، فَأتى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأخْبرهُ، فَقَالَ: " لَو أهل عمان أتيت مَا سبوك وَلَا ضربوك ". [15] قَالَ بعض الْعلمَاء: كَانَ أهل عمان أسْرع النَّاس قبولا للْخَبَر.
أخبرنَا ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَبُو بكر بن مَالك قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن أَحْمد، حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا يزِيد قَالَ: أخبرنَا جرير قَالَ: أَنبأَنَا الزبير بن الحريث عَن أبي لبيد قَالَ: خرج رجل فِي طاحية مُهَاجرا يُقَال لَهُ بيرح بن أَسد، فَقدم الْمَدِينَة بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بأيام، فَرَآهُ عمر، فَعلم أَنه غَرِيب، فَقَالَ لَهُ: من أَنْت؟ فَقَالَ: من أهل عمان. قَالَ / من أهل عمان؟ قَالَ نعم. فَأخذ بِيَدِهِ فَأدْخلهُ على أبي بكر فَقَالَ: هَذَا من أهل الأَرْض الَّتِي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: " إِنِّي لأعْلم أَرضًا يُقَال لَهَا عمان، ينضج بناحيتها الْبَحْر، بهَا حَيّ من الْعَرَب لَو أَتَاهُم رَسُول مَا رَمَوْهُ بِسَهْم وَلَا حجر ".(2/295)
(74) كشف الْمُشكل من مُسْند سَلمَة بن الْأَكْوَع
[15] وَاسم الاكوع سِنَان بن عبد الله بن قُشَيْر، كَذَلِك ذكره مُحَمَّد بن سعد، وَقَالَ غَيره: هُوَ سَلمَة بن عَمْرو بن الْأَكْوَع، والأكوع جده فنسب إِلَيْهِ. [15] وَجُمْلَة مَا روى عَن النَّبِي سِتَّة وَتسْعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَلَاثُونَ.
794 - / 948 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الثَّانِي: غزونا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هوَازن، فَبينا نَحن نتضحى مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] قَالَ أَبُو عبيد: أَي نتغدى، وَاسم ذَلِك الْغَدَاء الضحاء، وَإِنَّمَا سمي بذلك لِأَنَّهُ يُؤْكَل فِي الضحاء، والضحاء ارْتِفَاع النَّهَار الْأَعْلَى، وَهُوَ مَمْدُود مُذَكّر. وَالضُّحَى مُؤَنّثَة مَقْصُورَة، وَهِي حِين تشرق الشَّمْس. [15] قَوْله: إِذْ جَاءَ رجل: كَانَ هَذَا الرجل جاسوسا لِلْعَدو.(2/296)
[15] وَقَوله: ثمَّ انتزع طلقا. الطلق بِفَتْح اللَّام: قيد من جُلُود يُقيد بِهِ الْبَعِير، وكل حَبل مفتول فَهُوَ طلق. والطلق فِي غير هَذَا: الشوط. يُقَال: عدا طلقا أَو طلقين. [15] والجعبة: الَّتِي يَجْعَل فِيهَا السِّهَام، وَهِي الكنانة أَيْضا. [15] وَقَوله: وَفينَا ضعفة. أَي ضعفاء. ورقة من الظّهْر. أَي: وَفِي إبلنا قله. [15] والناقة الورقاء لَوْنهَا لون الرماد، وَكَذَلِكَ الْبَعِير الأورق. وَسميت الْحَمَامَة وَرْقَاء للونها.
795 - / 950 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: أَن سَلمَة كَانَ يتحَرَّى مَوضِع الْمُصحف يسبح فِيهِ. [15] كَأَنَّهُ قد كَانَ هُنَاكَ مَوضِع مصحف. ويسبح بِمَعْنى يُصَلِّي. وَإِنَّمَا كَانَ يتحَرَّى ذَلِك الْموضع لأَنهم زادوا فِي الْمَسْجِد، فَكَأَنَّهُ كَانَ يطْلب مَوضِع الْحَائِط الأول.
796 - / 953 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يُؤذن من كَانَ أكل فليصم بَقِيَّة يَوْمه، وَمن لم يكن أكل فليصم فَإِن الْيَوْم عَاشُورَاء. [15] اعْلَم أَن صَوْم بعض النَّهَار لَيْسَ بِصَوْم، غير أَن الْإِمْسَاك لاحترام الْوَقْت وَبَيَان تَعْظِيمه، كَمَا يُؤمر القادم فِي رَمَضَان، وَالْحَائِض إِذا(2/297)
طهرت أَن تمسك، وَمن لَا مَاء لَهُ وَلَا تُرَاب أَن يُصَلِّي على حَاله. وَهَذَا كَانَ قبل فرض رَمَضَان، فَلَمَّا فرض رَمَضَان اشتغلوا بِهِ عَن غَيره، فَصَارَ مَا سواهُ نفلا.
797 - / 954 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى خَيْبَر، فسرنا لَيْلًا، فَقَالَ رجل من الْقَوْم لعامر بن الْأَكْوَع: أَلا تسمعنا من هنياتك. فَنزل يَحْدُو. [15] الهنيات هَاهُنَا: الأراجيز. [15] وَقَوله: اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْت مَا اهتدينا. قد بَينا معنى اللَّهُمَّ فِي أول الْكتاب. [15] وَقَوله: عولوا علينا. أَي أجلبوا، من العويل. يُقَال: أعولت وعولت. [15] فَأَما قَول الرَّسُول: " يرحمه الله " فَإِنَّهُ كَانَ لَا يسْتَغْفر لإِنْسَان يَخُصُّهُ إِلَّا اسْتشْهد. وَهَذَا مَذْكُور فِي آخر هَذَا الْمسند. [15] وَمعنى وَجَبت: وَجَبت لَهُ الشَّهَادَة. [15] وَلَوْلَا: بِمَعْنى هلا. [15] أمتعنا بِهِ: أَي بِبَقَائِهِ. وَالَّذِي قَالَ هَذَا عمر بن الْخطاب، وَهُوَ مُبين فِي آخر هَذَا الْمسند. [15] والمخمصة: المجاعة. [15] وَقَوله: واكسروا قدروها: كَانُوا قد طبخوا لُحُوم الْحمر الْأَهْلِيَّة، فَأَرَادَ بِكَسْر الْقُدُور التَّغْلِيظ فِي التَّحْرِيم، كَمَا أَمر.(2/298)
يشق الزقاق فِي الْخمر. [15] وَقد دلّ هَذَا على أَن التَّغْلِيظ على أَصْحَاب الْمُنكر جَائِز إِذا كَانَ سَببا لحسم المُرَاد، فَأَما إِذا قبلوا قَول الْحق فَإِن اللين أولى، وَلِهَذَا لما رَآهُمْ قد اسْتَجَابُوا لمراده أجَاز غسل الْأَوَانِي فَقَالَ: " أوذاك ". [15] فَإِن قيل: قد نهى عَن إِضَاعَة المَال. فَالْجَوَاب: أَن إِضَاعَة الشَّيْء الْخَاص للْمصْلحَة الْعَامَّة حسن، كتحريق مَال الغال. [15] وذباب السَّيْف: طرفه الَّذِي يضْرب بِهِ. [15] وقفلوا بِمَعْنى رجعُوا من غزاتهم. [15] وَقَوله: رَآنِي شاحبا: أَي متغير اللَّوْن. يُقَال: شحب وشحب بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا. [15] وَقَوله: ليهابون الصَّلَاة عَلَيْهِ. يَعْنِي الدُّعَاء لَهُ. [15] وَقَوله: مَاتَ بسلاحه. كَأَنَّهُمْ ظنوه فِي مقَام من قتل نَفسه، وَهَذَا غلط.
798 - / 956 وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: خرجت قبل أَن يُؤذن بِالْأولَى. يَعْنِي: الظّهْر. واللقاح من النوق: الْحَوَامِل، الْوَاحِدَة لاقح ولقوح. [15] وَقَوله: يَا صَبَاحَاه، يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَنهم كَانُوا يغيرون وَقت الصَّباح، وأنشدوا:(2/299)
(نَحن صبحنا عَامِرًا فِي دارها ... )
[15] فَكَأَن الْقَائِل: يَا صَبَاحَاه يَقُول: قد رهقنا الْعَدو. وَالثَّانيَِة: لما كَانَ الْأَعْدَاء يتراجعون عَن الْقِتَال فِي اللَّيْل فَإِذا جَاءَ النَّهَار عاودوه، كَانَ قَول الْقَائِل: يَا صَبَاحَاه، بِمَعْنى: قد جَاءَ وَقت الصَّباح فتأهبوا للقاء [15] وَقَوله: مَا بَين لابتي الْمَدِينَة. قد بَينا فِيمَا تقدم أَن اللابة جمعهَا لوب: وَهِي الْحِجَارَة السود. [15] قَوْله: ثمَّ اندفعت على وَجْهي: أَي أسرعت الْعَدو. [15] والرضع: اللئام، والراضع: اللَّئِيم. وَالْمعْنَى: الْيَوْم يَوْم هَلَاك الرضع. [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: اصل هَذَا أَن رجلا كَانَ يرضع الْغنم وَالْإِبِل وَلَا يحلبها لِئَلَّا يسمع صَوت الْحَلب، فَقيل ذَلِك لكم لئيم. [15] وَقَوله: وَقد حميت الْقَوْم المَاء: أَي منعتهم مِنْهُ. [15] قَوْله: " ملكت فَأَسْجِحْ " قَالَ ابْن قُتَيْبَة: أَي سهل. يُقَال خد أسجح: أَي سهل. [15] وَقَوله: " فَإِن الْقَوْم يقرونَ فِي قَومهمْ " من الْقرى والضيافة. وَالْمعْنَى أَنهم قد وصلوا إِلَى قَومهمْ. وَسَيَأْتِي فِي الحَدِيث الْخَامِس من أَفْرَاد مُسلم بَيَان هَذَا، وَهُوَ قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنَّهُم الْآن ليفرون فِي أَرض غطفان " فَقَالَ: نحر لَهُم فلَان جزورا، فَلَمَّا كشطوا جلدهَا(2/300)
رَأَوْا غبارها فَقَالُوا: أَتَاكُم الْقَوْم، فَخَرجُوا هاربين. وَقد صحف هَذَا جمَاعَة فَقَالَ بَعضهم: يقرونَ بِفَتْح الْيَاء وَضم الرَّاء، وَفَسرهُ بِأَنَّهُم يجمعُونَ المَاء وَاللَّبن. وَقَالَ آخَرُونَ: يغرون بالغين الْمُعْجَمَة، وَهَذَا تَصْحِيف مِمَّن لَا يعرف الحَدِيث.
799 - / 957 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: على أَي شَيْء بايعتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: على الْمَوْت. [15] الْمَعْنى: على أَلا يَفروا وَلَو آل الْأَمر إِلَى الْمَوْت.
800 - / 959 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: لما نزلت: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة} [الْبَقَرَة: 184] كَانَ من أَرَادَ أَن يفْطر ويفتدي حَتَّى نزلت: {فليصمه} . [15] على هَذَا التَّفْسِير يكون الْمَعْنى يُطِيقُونَ صَوْمه وَلَا يصومونه.
801 - / 961 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: أَن الْحجَّاج قَالَ: يَا ابْن الْأَكْوَع، أرتددت على عقبيك؟ تعربت؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أذن لي فِي البدو. [15] وَمعنى تعربت: عدت أَعْرَابِيًا بعد صُحْبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَذَلِك فسر بعض الْعلمَاء وَكَذَلِكَ سمعناه من أشياخنا. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي. تعزبت بالزاي: أَي بَعدت عَن الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَات بلزومك الْبَادِيَة. يُقَال: رجل عزب: أَي بعيد عَن النِّسَاء.(2/301)
802 - / 962 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس عشر: إِبَاحَة الْمُتْعَة، قد بَينا نسخهَا فِي مُسْند عمر بن الْخطاب.
803 - / 963 - وَفِي الحَدِيث الأول من أَفْرَاد البُخَارِيّ: " من تَقول عَليّ مَا لم أقل " أَي من تكلّف أَن يَقُول عَليّ.
804 - / 964 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: كَانَ إِذا أُتِي بِجنَازَة قَالَ: " هَل عَلَيْهِ دين؟ هَل ترك شَيْئا " إِلَى أَن جِيءَ بِرَجُل عَلَيْهِ ثَلَاثَة دَنَانِير، فَقَالَ: " صلوا على صَاحبكُم ". [15] أعلم أَن هَذَا كَانَ فِي أول الْأَمر، وَفَائِدَته تَعْظِيم أَمر الدّين، ثمَّ نسخ هَذَا بِمَا سَيَأْتِي فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة: أَنه قَالَ لما فتح الله الْفتُوح، قَالَ: " من ترك دينا فعلي ".
805 - / 965 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: خفت أزواد الْقَوْم وأملقوا، فَقَالَ: " نَاد فِي النَّاس يَأْتُوا بِفضل أَزْوَادهم، فَدَعَا على الطَّعَام وبرك عَلَيْهِ ". [15] الإملاق: الْفقر. [15] وَفضل الأزواد: مَا فضل مِنْهَا. والأزواد جمع زَاد.(2/302)
[15] وبرك: دَعَا بِالْبركَةِ.
806 - / 966 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: مر على نفر ينتضلون. النضال: الرَّمْي.
807 - / 967 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: فنفث فِيهِ ثَلَاث نفثات. النفث: النفخ بِغَيْر ريق. قَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي: قَالَ اللغويون: تَفْسِير نفث: نفخ نفخا لَيْسَ مَعَه ريق، قَالَ ذُو الرمة:
(وَمن جَوف مَاء غرمض الْحول فَوْقه ... مَتى يحس مِنْهُ مائح الْقَوْم يتفل)
808 - / 969 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي من أَفْرَاد مُسلم: فجمعنا تزوادنا. [15] التزواد: الزَّاد، وَالتَّاء فِيهِ مَفْتُوحَة، وَقد حَدثنَا مُحَمَّد بن نَاصِر قَالَ: أمْلى علينا أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عَليّ التبريزي قَالَ: أمْلى عَليّ أَبُو الْعَلَاء المعري قَالَ: الْأَشْيَاء الَّتِي جَاءَت على وزن " تفعال " على(2/303)
ضَرْبَيْنِ: مصَادر وَأَسْمَاء. فَأَما المصادر فالتلقاء والتبيان، وهما فِي الْقُرْآن. وَقَالُوا: التنضال من المناضلة، فَمنهمْ من يَجعله مصدرا، وَمِنْهُم من يَجعله اسْما على تفعال. وَيُقَال: جَاءَنَا لتيفاق الْهلَال، كَمَا يُقَال: لتوفاقه ولميفاقه، فَمنهمْ من يَجعله اسْما، وَمِنْهُم من يَجعله مصدرا. وَأما الْأَسْمَاء فالتنبال وَهُوَ الْقصير. وَيُقَال: رجل تيتاء أَي عذيوط، وَيُقَال بالضاد أَيْضا. وتيراك: مَوضِع. وتعشار: مَوضِع. وتقصار: قلادة قَصِيرَة فِي الْعُنُق. وتيغار: حب مَقْطُوع، أَي جابية. وتمراد: برج صَغِير للحمام. وتمساح: من دَوَاب المَاء مَعْرُوف، رجل تمساح: أَي كَذَّاب. وتمتان، وَاحِد التمانين: وَهِي خيوط يضْرب بهَا الْفسْطَاط. وَرجل تكلام. كثير الْكَلَام. وتلقام: كثير اللقم. وتلعاب: كثير اللّعب. والتمثال وَاحِد التماثيل. وتجفاف الْفرس مَعْرُوف. وترباع: مَوضِع. وترعام: اسْم شَاعِر. وترياق فِي معنى درياق وطرياق ذكره ابْن دُرَيْد فِي بَاب " تفعال ". قَالَ أَبُو الْعَلَاء: وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون على " فعيال ". وَمضى تهواء من(2/304)
اللَّيْل بِمَعْنى هوي. وناقة تضراب: وَهِي الْقَرِيبَة الْعَهْد بقرع الْفَحْل. وتلفاق: ثَوْبَان يخاط أَحدهمَا بِالْآخرِ. [15] فَأَما ربضة العنز، فَإِن العنز وَاحِدَة المعزى. وربضتها مَكَانهَا الَّذِي تربض فِيهِ وتأوي إِلَيْهِ، وَمِنْه قيل لمحلة كل قوم ربض لأَنهم يأوون إِلَيْهَا. [15] والإداوة مفسرة فِي مُسْند أبي بكر. والنطفة: شَيْء يسير من المَاء. [15] وندغفقه: نَصبه صبا شَدِيدا لكثرته. وَيُقَال: فلَان فِي عَيْش دغفق: أَي وَاسع.
809 - / 970 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: غزونا وعلينا أَبُو بكر، فَأمرنَا فعرسنا ثمَّ شن الغازة. [15] التَّعْرِيس: نزُول الْمُسَافِرين من آخر اللَّيْل يقعون فِيهِ وقْعَة ثمَّ يرتحلون. [15] وَشن الْغَارة: أرسلها وبثها وَأمر أَصْحَابه بهَا. [15] والعنق من النَّاس: الْجَمَاعَة. [15] والقشع مُفَسّر فِي الحَدِيث بالنطع، ذكره ابْن قُتَيْبَة بِفَتْح الْقَاف، وَقَالَ أَبُو عَمْرو الزَّاهِد: هُوَ بِكَسْر الْقَاف.
810 - / 971 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: فَقدمت فأعلو ثنية، فاستقبلني رجل فأرميه لَهُم، فَقبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْضَة من تُرَاب ثمَّ اسْتقْبل بهَا(2/305)
وُجُوههم فَقَالَ: " شَاهَت الْوُجُوه ". [15] قَوْله: فأعلو ثنية: أَي فعلوت. والثنية: طَرِيق مُرْتَفع بَين جبلين. وَكَذَلِكَ قَوْله فأرميه: أَي فرميته. وشاهت الْوُجُوه: قبحت.
811 - / 972 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: قعد رَسُول الله على جبا الرَّكية فَجَاشَتْ. [15] الجبا مَفْتُوح الْجِيم مَقْصُور غير مَهْمُوز: وَهُوَ مَا حول الْبِئْر. والركية: الْبِئْر، وَجَمعهَا ركايا. [15] وَقَوله: فَجَاشَتْ: أَي تحرّك المَاء فِيهَا حَرَكَة غليان. [15] والحجفة والدرقة: نَوْعَانِ مِمَّا يستجن بِهِ فِي الْحَرْب. وَقَوله: واسونا اصلح: أَي اتَّفقُوا مَعنا عَلَيْهِ وشاركونا فِيهِ. وَمِنْه الْمُوَاسَاة. [15] وَقَوله: وَكنت تبيعا لطلْحَة: أَي خَادِمًا لَهُ أتبعه وأكون مَعَه. [15] وَقَوله: كسحت شَوْكهَا: أَي قطعته. يُقَال: كسحت الْبَيْت: إِذا قشرت مَا فَوق أرضه مِمَّا يُؤْذِي النَّازِل بِهِ. [15] قَوْله: قتل ابْن زنيم. مَا نَحْفَظ من الصَّحَابَة من يُقَال لَهُ ابْن زنيم غير شَخْصَيْنِ: سَارِيَة بن زنيم بن عَمْرو بن عبد الله بن جَابر، وَهُوَ الَّذِي قَالَ عمر: يَا سَارِيَة الْجَبَل. وَأَخُوهُ أنس بن زنيم.(2/306)
قَوْله: اخترطت السَّيْف: أَي سللته من غمده. [15] وَقَوله: وَأخذت سِلَاحهمْ فَجَعَلته ضغثا فِي يَدي. الضغث: الحزمة والباقة من الشَّيْء كالبقل وَمَا أشبهه. قَالَه الزّجاج. وَالْمعْنَى جعلت سِلَاحهمْ فِي يَدي مثل الضغث والعبلات بِفَتْح الْبَاء: حَيّ من قُرَيْش ينسبون إِلَى أم من يُقَال لَهُ عبلة. [15] والمجفف من الْخَيل: هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ التجافيق: وَهِي كل مَا يمْنَع وُصُول الْأَذَى إِلَيْهِ، فَهُوَ مثل المدجج من الرِّجَال: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ السِّلَاح التَّام. [15] وَقَوله: " يكن لَهُم بَدْء الْفُجُور " بدؤه: ابتداؤه. " وثناه " ثَانِيه، وَقد يمد. [15] وَالظّهْر: الركاب وَمَا يستعد للْحَمْل وَالرُّكُوب من الْإِبِل. [15] وَقَوله: أنديه. قَالَ أَبُو عبيد: التندية: أَن يُورد الرجل فرسه المَاء حَتَّى يشرب، ثمَّ يردهُ إِلَى المرعى سَاعَة يرتعي، ثمَّ يُعِيدهُ إِلَى المَاء. قَالَ الْأَصْمَعِي: وَالْإِبِل فِي ذَلِك مثل الْخَيل. واختصم حَيَّان من الْعَرَب فِي مَوضِع: فَقَالَ أحد الْحَيَّيْنِ: مسرح بهمنا، ومخرج نسائنا، ومندى خَيْلنَا، قَالَ الشَّاعِر يصف بَعِيرًا:
(قريبَة ندوته من محمضه ... )(2/307)
[15] يَعْنِي الْموضع الَّذِي يندو فِيهِ. فَإِذا أردْت أَن الْفرس يفعل ذَلِك هُوَ وَلم تَفْعَلهُ أَتَت بِهِ قلت: قد ندا يندو ندوا. والندوة والمندى وَاحِد: وَهُوَ الْموضع الَّذِي ترعى فِيهِ بعد السَّقْي. قَالَ الْأَزْهَرِي: وللتندية معنى آخر: وَهُوَ تضمير الْفرس وإجراؤه حَتَّى يسيل عرقه، وَيُقَال لذَلِك الْعرق إِذا سَالَ: الندى. [15] والأكمة: مَوضِع مُرْتَفع من الأَرْض. [15] وَقَوله: فَألْحق رجلا مِنْهُم: أَي فلحقت. [15] قَوْله: خُذْهَا، يَعْنِي الرَّمية، [15] وَقَوله: فأعقربهم: أَي فأعقرهم. [15] والآرم: الْأَعْلَام. [15] وَقَوله: وَجَلَست على قرن. الْقرن: جبيل صَغِير مُنْفَرد. [15] والبرح: الشدَّة، يُقَال: برح فِي الْأَمر: إِذا اشْتَدَّ، وتباريح [الشوق] : توهجه، والبارح: الرّيح الْآتِيَة بِالتُّرَابِ فِي شدَّة هبوب. [15] وَقَول الأخرم لسَلمَة: لَا تحل بيني وَبَين الشَّهَادَة، يعلمك قُوَّة إِيمَان الصَّحَابَة وَشدَّة يقينهم. [15] وَقَوله: حَتَّى يعدلُوا: أَي حَتَّى عدلوا. [15] وَقَوله: فحليتهم: أَي طردتهم. وَأَصله الْهَمْز، يُقَال: حلأت الرجل عَن المَاء: إِذا منعته الْوُرُود، وَرجل محلأ: أَي مذود عَن المَاء(2/308)
[15] ونغض الْكَتف: فَرعه. وَقد ذكرنَا فِي مُسْند أبي ذَر. [15] وَقَوله: وأرذوا فرسين: أَي تركوهما لفرارهم. وَبَعْضهمْ يَقُول: أردوا بِالدَّال غير الْمُعْجَمَة، وَفَسرهُ بِأَنَّهُم عرضوهما للردى، وَلَيْسَ بِشَيْء. [15] والمذقة: من اللَّبن: الممذوق بِمَاء. والمذق خلط المَاء بِاللَّبنِ. [15] وَقَوله " إِنَّهُم الْآن يقرونَ " أَي يضافون ويطعمون من الْقرى. [15] وَقَوله: فطفرت: أَي وَثَبت. [15] وربطت عَلَيْهِ: أَي تَأَخَّرت عَنهُ شرفا أَو شرفين: أَي قدرا من الْمسَافَة ثمَّ إِنِّي رفعت: أَي زِدْت فِي الْعَدو. حَتَّى ألحقهُ: أَي لحقته. [15] فأصكه: أَي صككته. والصك: الضَّرْب على الْوَجْه خَاصَّة. قَالَ بعض الْعلمَاء: الصَّك ضرب الشَّيْء بالشَّيْء العريض. [15] وَاعْلَم أَن الْعَرَب تفرق فِي الضَّرْب، فَتَقول للضرب بِالرَّاحِ على مقدم الرَّأْس: صفع. وعَلى الْقَفَا: صقع. وعَلى الْوَجْه: صك. وعَلى الخد ببسط الْكَفّ. لطم. وبقبضتها: لكم. وبكلتا الْيَدَيْنِ: لدم. وعَلى الذقن والحنك. وهز. وعَلى الْجنب وخز. وعَلى الصَّدْر والبطن بالكف: وكز. وبالركبة: زبن. وَبِالرجلِ: ركل.(2/309)
[15] وَقَوله: يخْطر بِسَيْفِهِ: أَي يهزه ويتبختر معجبا بِنَفسِهِ، متعرضا للمبارزة. [15] وَقَوله: شاكي السِّلَاح: أَي شائك السِّلَاح. [15] والبطل: الشجاع، يُقَال: بَطل بَين البطولة والبطالة. [15] والمغامر: المخاصم. ويروى: مغاور: أَي مقَاتل. [15] وَقَوله: ذهب يسفل لَهُ: أَي يحط يَده إِلَى أَسْفَل. [15] والأكحل: عرق. [15] وَقَوله: فَكَانَت فِيهَا نَفسه: أَي مَاتَ بذلك. [15] وَقَوله: أَنا الَّذِي سمتني أُمِّي حيدرة: لما ولد عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام سَمَّاهُ أَبوهُ عليا، وسمته أمه أسدا باسم أَبِيهَا، فغلب عَلَيْهِ عَليّ، فَذكر مَا سمته بِهِ أمه لمناسبة مَا بَين الْحَرْب وصولة الْأسد. والحيدرة من أَسمَاء الْأسد، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنا الْأسد. [15] وَقَوله: كريه المنظرة. وَالْهَاء فِي حيدرة والمنظرة للاستراحة، فهما زائدتان. [15] وَأما السندرة، فَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هِيَ شَجَرَة يصنع فِيهَا الْقَيْسِي والنبل. فَيحمل أَن يكون أَرَادَ مكيالا يتَّخذ من هَذِه الشَّجَرَة، سمي باسمها كَمَا يُسمى الْقوس نبعة باسم الشَّجَرَة الَّتِي أخذت مِنْهَا. فَإِن كَانَ كَذَلِك فَإِنِّي أَحسب الْكَيْل بهَا كَيْلا جرفا. قلت: وَظَاهر الحَدِيث يدل على أَن الَّذِي ولي قتل مرحب عَليّ(2/310)
عَلَيْهِ السَّلَام. وَقد حكى مُحَمَّد بن سعد أَن مُحَمَّد بن مسلمة قتل مرْحَبًا يَوْمئِذٍ، ودفق عَلَيْهِ عَليّ بعد أَن أثْبته مُحَمَّد.
814 - / 973 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَن رجلا أكل بِشمَالِهِ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " كل بيمينك " قَالَ: لَا أَسْتَطِيع. قَالَ: " لَا اسْتَطَعْت " مَا مَنعه إِلَّا الْكبر. [15] وَالْمعْنَى أَنه كَانَ لَا يحتفل للطعام وَلَا يُبَالِي فيتناوله باليسرى. وَيَنْبَغِي للعاقل أَن يعرف قدر مَا جعل قواما لَهُ.
813 - / 975 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: عدنا رجلا موعوكا، فَوضعت يَدي عَلَيْهِ فَقلت: مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رجلا أَشد حرا. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " أَلا أخْبركُم بأشد حرا مِنْهُ يَوْم الْقِيَامَة؟ هاذينك الرجلَيْن المقفيين ". [15] كَأَن الْإِشَارَة إِلَى رجلَيْنِ من الْمُنَافِقين انْطَلقَا. والمنطلق يرى قَفاهُ لَا وَجهه. آخر مَا فِي مسانيد الْمُتَقَدِّمين بعد الْعشْرَة(2/311)
وَأول مسانيد المكثرين
(75) كشف الْمُشكل من مُسْند عبد الله بن الْعَبَّاس
[15] ولد فِي الشّعب وَبَنُو هَاشم محصورون فِيهِ قبل خُرُوجهمْ مِنْهُ بِيَسِير، وَذَلِكَ قبل الْهِجْرَة بِثَلَاث سِنِين، وَرَأى جِبْرِيل مرَّتَيْنِ، ودعا لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالحكمة وَالْفِقْه والتأويل، فَكَانَ حبر الْأمة، وَكَانَ يُسمى الْبَحْر لغزارة علمه. [15] وَجُمْلَة مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف حَدِيث وسِتمِائَة وَسِتُّونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِائَتَا حَدِيث وَأَرْبَعَة وَسِتُّونَ حَدِيثا.
814 - / 977 - فَمن الْمُشكل فِي الحَدِيث الأول: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَجود النَّاس، وَكَانَ أَجود مَا يكون فِي رَمَضَان حِين يلقاه جِبْرِيل. [15] الْجُود: كَثْرَة الْإِعْطَاء. وَإِنَّمَا كثر جوده عَلَيْهِ السَّلَام فِي رَمَضَان لخمسة أَشْيَاء: أَحدهَا: أَنه شهر فَاضل، وثواب الصَّدَقَة يتضاعف فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَات. قَالَ الزُّهْرِيّ: تَسْبِيحَة فِي رَمَضَان خير من(2/312)
سبعين فِي غَيره. وَالثَّانِي: أَنه شهر الصَّوْم، فإعطاء النَّاس إِعَانَة لَهُم على الْفطر والسحور. وَالثَّالِث: أَن إنعام الْحق يكثر فِيهِ، فقد جَاءَ فِي الحَدِيث: أَنه يُزَاد فِيهِ رزق الْمُؤمن، وَأَنه يعْتق فِيهِ كل يَوْم ألف عَتيق من النَّار. فَأحب الرَّسُول أَن يُوَافق ربه عز وَجل فِي الْكَرم. وَالرَّابِع: أَن كَثْرَة الْجُود كالشكر لترداد جِبْرِيل إِلَيْهِ فِي كل لَيْلَة. وَالْخَامِس: أَنه لما كَانَ يدارسه الْقُرْآن فِي كل لَيْلَة من رَمَضَان زَادَت معاينته الْآخِرَة، فَأخْرج مَا فِي يَدَيْهِ من الدُّنْيَا.
815 - / 978 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي: خرج رَسُول الله فِي رَمَضَان حَتَّى بلغ الكديد فَأفْطر. [15] الكديد بِفَتْح الْكَاف اسْم مَاء بَين عسفان وقديد. [15] وَقَوله: فَصبح مَكَّة: أَي جاءها صباحا. [15] وَقَوله: وَقد صَامَ فِي السّفر وَأفْطر. دَلِيل على أَن من صَامَ أَجْزَأَ عَنهُ، خلافًا لداود. [15] والغدير: مستنقع المَاء. وَإِنَّمَا سمي غديرا لِأَن السَّيْل غَادَرَهُ: أَي تَركه فِي الأَرْض المنخفضة الَّتِي تمسكه. [15] والظهيرة: وَقت اشتداد الْحر. ونحرها: اشتدادها. وَنحر كل شَيْء أَوله.(2/313)
[15] وَقَوله: فَكَانَ أَصْحَابه يتبعُون الأحدث فالأحدث من أمره. من كَلَام الزُّهْرِيّ، وَإِنَّمَا دَرَجه الرَّاوِي فِي الحَدِيث وَلم يبين. وَقد بَين ذَلِك معمر بن رَاشد وَمُحَمّد بن إِسْحَق عَن الزُّهْرِيّ.
816 - / 979 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: استفتى سعد بن عبَادَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نذر كَانَ على أمه، توفيت قبل أَن تقضيه، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " اقضه عَنْهَا ". [15] هَذَا الحَدِيث يدل على أَن صَوْم النّذر يَقْضِيه الْوَلِيّ عَن الْمَيِّت. وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد، وَالْقَدِيم من قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَدَاوُد: لَا يصام عَنهُ. والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم. [15] وَأما المخرف فَهُوَ الْبُسْتَان الَّذِي تخترف مِنْهُ الثِّمَار. وَقَالَ أَبُو عبيد: هُوَ جنى النّخل، وَجمعه مخارف، وَإِنَّمَا سمي مخرفا لِأَنَّهُ يخْتَرف مِنْهُ: أَي يجتنى. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هَذَا غلط؛ لِأَن جنى النّخل مخروف، فَأَما المخرف فَإِنَّهُ النّخل نَفسه. فَقَوله: إِن لي مخرفا. يُرِيد نخلا. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن ثَوَاب القربات إِذْ فعلت للْمَيت وصل إِلَيْهِ.
817 - / 980 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع: لما حضر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ".(2/314)
[15] اخْتلف الْعلمَاء فِي الَّذِي أَرَادَ أَن يكْتب لَهُم على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ أَن ينص على الْخَلِيفَة بعده. وَالثَّانِي: أَن يكْتب كتابا فِي الْأَحْكَام يرْتَفع مَعَه الْخلاف، وَالْأول أظهر. [15] وَقَوله: حسبكم كتاب الله: أَي يكفيكم. قَالَ الْخطابِيّ: إِنَّمَا ذهب عمر إِلَى أَنه لَو نَص بِمَا يزِيل الْخلاف لبطلت فَضِيلَة الْعلمَاء، وَعدم الِاجْتِهَاد. قلت: وَهَذَا غلط من الْخطابِيّ لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَن مضمونه أَن رَأْي عمر أَجود من رَأْي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالثَّانِي: أَنه لَو نَص على شَيْء أَو أَشْيَاء لم يبطل الِاجْتِهَاد، لِأَن الْحَوَادِث أَكثر من أَن تحصر، وَإِنَّمَا خَافَ عمر أَن يكون مَا يَكْتُبهُ فِي حَالَة غَلَبَة الْمَرَض الَّذِي لَا يعقل مَعهَا القَوْل، وَلَو تيقنوا أَنه قَالَ مَعَ الْإِفَاقَة لبادروا إِلَيْهِ. وَهُوَ معنى قَوْلهم: هجر. وَإِنَّمَا قَالُوهُ استفهاما، أَي: أتراه يهجر: أَي يتَكَلَّم بِكَلَام الْمَرِيض الَّذِي لَا يدْرِي بِهِ؟ [15] واللغط: اخْتِلَاط الْأَصْوَات. [15] والرزية: من الرزء. والرزء: الْمُصِيبَة. [15] وَقَوله: " فَالَّذِي أَنا فِيهِ خير " يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا قد كَانَ يعانيه فِي مَرضه مِمَّا أعد لَهُ من الْكَرَامَة. وَالثَّانِي: أَن يكون الْمَعْنى: فَإِن امتناعي من أَن أكتب لكم خير مِمَّا تدعونني إِلَيْهِ من الْكِتَابَة. فَأَما جَزِيرَة الْعَرَب فقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند عمر.(2/315)
[15] وَقَوله: " أجيزوا الْوَفْد " أَي أعطوهم. والجائزة: الْعَطاء.
818 - / 981 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس: " أَقْرَأَنِي جِبْرِيل على حرف فراجعته، فَلم أزل أستزيده حَتَّى انْتهى إِلَى سَبْعَة أحرف ". [15] قَالَ الزُّهْرِيّ: بَلغنِي أَن تِلْكَ الأحرف إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمر الَّذِي يكون وَاحِدًا لَا يخْتَلف فِي حَلَال وَلَا حرَام. [15] وَقد فسرنا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند عمر. وَبِمَا حكيناه هُنَالك عَن أبي عبيد ينْكَشف معنى قَول الزُّهْرِيّ هَاهُنَا.
819 - / 982 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس: أَقبلت رَاكِبًا على أتان وَقد ناهزت الْحلم، فَنزلت وَأرْسلت الأتان ترتع. [15] الأتان: الْحمار. [15] وناهزت الشَّيْء: قربت مِنْهُ. [15] وترتع: تتسع فِي المرعى.
820 - / 983 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع: مر بِشَاة ميتَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " هلا انتفعتم بإهابها " وَفِي لفظ: " فدبغتموه فانتفعتم بِهِ ". [15] الْحَيَوَان عندنَا على ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: مَا لَا يخْتَلف الْمَذْهَب فِي نَجَاسَته حَيا وَمَيتًا، وَهُوَ الْكَلْب وَالْخِنْزِير، وَمَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهَا، فَهَذَا لَا يطهر جلده، قولا وَاحِدًا. وَالثَّانِي: مَا لَا يخْتَلف(2/316)
الْمَذْهَب فِي طَهَارَته حَال الْحَيَاة، وَهُوَ مَا يحل أكله، فَفِي طَهَارَة جلده بالدباغ إِذا مَاتَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَنه لَا يطهر، وَهُوَ قَول طَاوس وَسَالم بن عبد الله، وَالثَّانيَِة: يطهر، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَعَن مَالك كالروايتين. [15] وَالثَّالِث: مَا يخْتَلف الْمَذْهَب فِي طَهَارَته حَيا على رِوَايَتَيْنِ، وَهُوَ مَا لَا يحل أكله غير الْكَلْب وَالْخِنْزِير والمتولد مِنْهُمَا، فَهَذَا إِنَّمَا يطهر جلده بالدباغ على الرِّوَايَة الَّتِي تَقول إِنَّه طَاهِر. وَقَالَ الشَّافِعِي: كل الْجُلُود تطهر إِلَّا جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَدَاوُد: وَجلد الْخِنْزِير. وَإِذا قلت: لَا تطهر جُلُود الْميتَة أجبنا عَن هَذَا الحَدِيث بِثَلَاثَة أجوبة: أَحدهَا: الطعْن وَإِن كَانَ فِي الصِّحَاح. قَالَ أَحْمد: لم يَصح عِنْدِي فِي الدّباغ حَدِيث، وأصحها حَدِيث ابْن عكيم، وَالْجرْح مقدم على التَّعْدِيل. وَقَالَ أَبُو بكر الْأَثْرَم. قد اضْطَرَبُوا فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: فَتَارَة يجعلونه سَمَاعا لِابْنِ عَبَّاس عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام، وَتارَة عَن مَيْمُونَة، وَتارَة عَن سَوْدَة. وَالثَّانِي: أَنه مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن عكيم. قَالَ الْأَثْرَم: حَدِيث ابْن عكيم أثبت الْأَحَادِيث؛ لِأَنَّهُ كَأَن نَاسخ لما قبله، أَلا ترَاهُ يَقُول: قبل مَوته بِشَهْر. ويؤكد(2/317)
هَذَا أَنه يَقْتَضِي الْحَظْر، والحظر مقدم على الْإِبَاحَة. وَالثَّالِث: أَنه يَجعله على الِانْتِفَاع بِهِ فِي اليابسات. وَلنَا رِوَايَة فِي جَوَاز ذَلِك. [15] فَأَما الإهاب فَإِنَّهُ اسْم للجلد. وَقيل: هُوَ الْجلد قبل أَن يدبغ، وَجمعه أهب على فعل. وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: إِنَّمَا يُقَال الإهاب لجلد مَا يُؤْكَل لَحْمه.
821 - / 984 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن: كَانَ أهل الْكتاب يسدلون أشعارهم، فسدل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناصيته. [15] سدلت وأسبلت وَأرْسلت بِمَعْنى. والناصية: مقدم شعر الرَّأْس.
822 - / 986 - وَفِي الحَدِيث الْعَاشِر: طَاف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع على بعير يسْتَلم الرُّكْن بمحجن. [15] والمحجن: الْعَصَا المعوجة الطّرف.
823 - / 986 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي عشر: أَن رجلا أَتَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: رَأَيْت اللَّيْلَة فِي الْمَنَام ظلة تنطف السّمن وَالْعَسَل، وَأرى النَّاس يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا بِأَيْدِيهِم، فالمستكثر والمستقل. [15] والظلة: السحابة، وكل شَيْء أظلك من فَوْقك فَهُوَ ظلة.(2/318)
[15] وتنطف: تقطر. يُقَال: نطف ينطف بِضَم الطَّاء وَكسرهَا، والمصدر النطف بِفَتْحِهَا، ويتكففون: أَي يَأْخُذُونَ بأكفهم. [15] وَالسَّبَب الْوَاصِل: الْحَبل الْمَمْدُود. [15] وَقَوله: " اعبرها " يُقَال: عبرت الرُّؤْيَا وعبرتها، أعبرها عبرا وتعبيرا. قَالَ الزّجاج: وَالْمعْنَى خبرت بآخر مَا يؤول إِلَيْهِ أمرهَا. واشتقاقه من عبر النَّهر: وَهُوَ شاطىء النَّهر. فَتَأْوِيل عبرت النَّهر: بلغت إِلَى عبره: أَي إِلَى شطه: وَهُوَ آخر عرضه. [15] وَقَوله: " أصبت بَعْضًا وأخطأت بَعْضًا " فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَوضِع الْخَطَأ أَنه عبر السّمن وَالْعَسَل بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ حَقه أَن يعبر كل وَاحِد مِنْهُمَا بِشَيْء، قَالَ بعض الْعلمَاء: كَانَ يَنْبَغِي أَن يعبرهما بِالْكتاب وَالسّنة. وَحكى أَبُو بكر الْخَطِيب عَن بعض الْعلمَاء قَالَ: أهل الْعلم بِعِبَارَة الرُّؤْيَا يذهبون إِلَى أَنَّهُمَا شَيْئَانِ، كل وَاحِد مِنْهُمَا غير صَاحبه، من أصلين مُخْتَلفين، وَأَبُو بكر ردهما إِلَى أصل وَاحِد وَهُوَ الْقُرْآن. وَمن الْحجَّة لمن قَالَ هَذَا مَا أَنبأَنَا بِهِ ابْن الْحصين قَالَ: أخبرنَا ابْن الْمَذْهَب قَالَ: أخبرنَا أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ: أخبرنَا عبد الله بن أَحْمد قَالَ: حَدثنِي أبي قَالَ: حَدثنَا قُتَيْبَة قَالَ: حَدثنَا ابْن لَهِيعَة عَن واهب بن عبد الله عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: رَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم كَأَن فِي إِحْدَى إصبعي سمنا وَفِي الْأُخْرَى عسلا وَأَنا ألعقهما، فَلَمَّا أَصبَحت ذكرت ذَلِك لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: " تقْرَأ الْكِتَابَيْنِ: التَّوْرَاة(2/319)
وَالْفرْقَان " فَكَانَ يقرؤهما. وَالثَّانِي: أَن الْخَطَأ تَفْسِيره بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي هَذَا بعد، لقَوْله: " أصبت بَعْضًا وأخطأت بَعْضًا " وَإِنَّمَا الْإِشَارَة إِلَى تَعْبِير الرُّؤْيَا. [15] وَفِي قَوْله: " لَا تقسم " دَلِيل على أَن أمره بإبرار الْمقسم خَاص المُرَاد، وَيحْتَمل مَنعه إِيَّاه الْجَواب ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن التَّعْبِير الَّذِي صَوبه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعضه وَخَطأَهُ فِي بعضه كَانَ من جِهَة الظَّن لَا من قبل الْوَحْي، فَظن رَسُول يجوز أَن يَقع فِيهِ الْخَطَأ. كَمَا ظن أَنهم لَو تركُوا تلقيح النّخل لم يضر. ذكر هَذَا القَوْل أَبُو بكر الْخَطِيب. وَالثَّانِي: أَنه علم غيب، فَجَاز أَن يخْتَص بِهِ ويخفيه عَن غَيره. وَالثَّالِث: أَنه لما أقدم أَبُو بكر على تَعْبِير الرُّؤْيَا وَلم يصبر للإستفادة من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنعه الإفادة الثَّانِيَة، كالعقوبة للْفِعْل الأول. [15] وَقَوله: " من رأى رُؤْيا فليقصها " أَي ليذكرها على مَا رَآهَا. يُقَال: فلَان يقص الحَدِيث: أَي يذكرهُ على مَا نَقله.
824 - / 989 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث عشر: " لَيْسَ لنا مثل السوء. الَّذِي يعود فِي هِبته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه ". [15] الْمَعْنى: لَا يصلح ضرب الْمثل الْقَبِيح لنا، إِنَّمَا يضْرب لغيرنا، وَهَذَا تَقْدِيم الِاعْتِذَار عَمَّا يستوحش.(2/320)
825 - / 990 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع عشر: ذكر التلاعن عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ عَاصِم بن عدي فِي ذَلِك قولا ثمَّ انْصَرف. [15] يشبه أَن يكون ذَلِك القَوْل مَا ذَكرْنَاهُ فِي مُسْند ابْن مَسْعُود من قَوْلهم: إِن وجد رجل مَعَ امْرَأَته رجلا فَقتله، أتقتلونه؟ [15] وَقَول عَاصِم: مَا ابْتليت بِهَذَا. أَي بشكوى هَذَا الرجل إِلَيّ. إِلَّا بِقَوْلِي: أَي: بِمَا قلته. [15] وَقَوله: سبط الشّعْر. يُقَال: شعر سبط وسبط: إِذا كَانَ سهلاً غير متجعد. والجعد المنثني. فَإِذا زَادَت جعودة الشّعْر فَهُوَ القطط. [15] والخدل: الممتلىء الْأَعْضَاء الدَّقِيق الْعِظَام. [15] والآدم: الأسمر. [15] وَقد ذكرنَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود اسْم هَذَا الرجل الَّذِي قذف امْرَأَته. [15] وَقَوله: كَانَت تظهر السوء: يَعْنِي الْقَبِيح، يُشِير بذلك إِلَى الزِّنَا.
826 - / 991 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس عشر: لَو أَن النَّاس غضوا من الثُّلُث إِلَى الرّبع، فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " وَالثلث كثير ". [15] غضوا بِمَعْنى نَقَصُوا. وَمِنْه غض الْبَصَر. وعَلى فلَان فِي هَذَا غَضَاضَة. وَالْمرَاد الْوَصِيَّة بِالثُّلثِ. وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ خَافَ من قَوْله: " وَالثلث كثير " أَن يكون قد كره ذَلِك الْمِقْدَار.(2/321)
827 - / 993 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع عشر: انخسفت الشَّمْس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] انخسفت بِمَعْنى انكسفت. وَقد قيل: الخسوف للقمر والكسوف للشمس، فعلى هَذَا يكون مستعارا. وَقيل: إِذا ذهب بَعْضهَا فَهُوَ الْكُسُوف، وَإِذا ذهب الْجَمِيع فَهُوَ الخسوف. [15] وَقد ذكرت صَلَاة الْكُسُوف فِي هَذَا الحَدِيث. وَذكر فِي كل رَكْعَة ركوعان، وَهَذَا مَذْهَب أَحْمد فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقد رُوِيَ عَن أَحْمد فِي كل رَكْعَة أَربع ركوعات، وَهُوَ مَذْكُور فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: صَلَاة الْكُسُوف كَهَيئَةِ صَلَاتنَا، ثمَّ ندعوا حَتَّى تنجلي. [15] وَالسّنة عندنَا فِي صَلَاة كسوف الشَّمْس الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ. وَهَذَا فِي حَدِيث عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جهر فِي صَلَاة الخسوف بقرَاءَته. وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ: يسر بِالْقِرَاءَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث ابْن عَبَّاس: فحزرنا قِرَاءَته. فَلَو كَانَ جهر لاستغني عَن الحزر، وَالْجَوَاب أَن عَائِشَة أَثْبَتَت، وَقَول الْمُثبت مقدم. وَمن الْجَائِز أَن يكون ابْن عَبَّاس قد كَانَ فِي آخر الصُّفُوف فَلم يسمع، فَاحْتَاجَ إِلَى الحزر، ثمَّ قد يكون قَرِيبا فيشاغل بِالسَّمَاعِ عَن معرفَة مِقْدَار التِّلَاوَة. [15] وَالْمُسْتَحب فِي خُسُوف الْقَمَر أَن يصلوا جمَاعَة كَمَا يصلونَ فِي(2/322)
كسوف الشَّمْس. وَهَذَا قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك لَيْسَ فِي خُسُوف الْقَمَر صَلَاة مسنونة فِي جمَاعَة، بل يصلونَ فِي بُيُوتهم فُرَادَى كَهَيئَةِ صَلَاتنَا. وَلَا يسن فِي الكسوفين خطْبَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ الشَّافِعِي: يسْتَحبّ أَن يخْطب بعد الصَّلَاة خطبتين كَمَا يخْطب لصَلَاة الْعِيد. [15] وتجلت بِمَعْنى انكشفت وَظَهَرت. [15] وَقَوله: " تناولت شَيْئا فِي مقامك " الْمقَام بِفَتْح الْمِيم: مَوضِع الْإِقَامَة، وَرُبمَا استعملوا هَذِه اللَّفْظَة لهَذِهِ. [15] وتكعكع بِمَعْنى تَأَخّر وَلم يتَقَدَّم. وَيُقَال: تكعكع وكع، وتكأكأ: إِذا جبن عَن الْإِقْدَام. [15] وَقَوله: " فَلم أر منْظرًا أفظع " أَي أهول. يُقَال: أفظع الْأَمر فَهُوَ فظيع ومفظع: إِذا كَانَ شَدِيدا هائلا. وَفِي الْكَلَام إِضْمَار " مِنْهُ ". قَالَ طَلْحَة يَوْم الْجمل: لم أر كَالْيَوْمِ مصرع شيخ أضيع. والعشير: الصاحب وَالزَّوْج والمعاشر، وَكله من الْعشْرَة.
828 - / 994 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن عشر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أكل عرقا أَو لَحْمًا ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ. الْعرق: الْعظم الَّذِي يُؤْخَذ عَنهُ اللَّحْم فَيبقى عَلَيْهِ بَقِيَّة مِنْهُ، وَجمعه(2/323)
عراق، وَهُوَ جمع نَادِر وَتقول: عرقت اللَّحْم وتعرقته واعترقته: إِذا أخذت عَنهُ اللَّحْم بأسنانك. [15] وَالْمرَاد من هَذَا الحَدِيث أَنه نَاسخ لقَوْله: " توضؤوا مِمَّا مست النَّار " وَسَيَأْتِي بَيَان هَذَا فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة إِن شَاءَ الله.
829 - / 995 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع عشر: قَالَت الْمَرْأَة: إِن فَرِيضَة الله فِي الْحَج أدْركْت أبي شَيخا كَبِيرا لَا يَسْتَطِيع أَن يثبت على الرَّاحِلَة، أفحج عَنهُ؟ قَالَ: " نعم ". [15] أَرَادَت هَذِه الْمَرْأَة أَن أَبَاهَا أسلم على الْكبر، وَمن أدْركهُ الْكبر أَو الزَّمن وَلم يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة وَجب عَلَيْهِ عندنَا أَن يَسْتَنِيب من يحجّ عَنهُ إِذا قدر على المَال، سَوَاء كَانَ لَهُ مَال قبل عذره أَو طَرَأَ بعد عذره وَلَا يلْزمه، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ مَالك: العضب يسْقط الْحَج بِكُل حَال، وَلَا يلْزم الْإِنْسَان أَن يَسْتَنِيب فِي الْحَج. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تجب الِاسْتِنَابَة إِلَّا على من اسْتَقر الْوُجُوب فِي ذمَّته، فَإِذا تقدم العضب على الْوُجُوب لم يجب. وَاعْلَم أَنه إِذا حج هَذَا النَّائِب وَقع عَن المستنيب، وَهُوَ قَول مَالك(2/324)
وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يَقع الْحَج على الْحَاج تَطَوّعا وَلَا يَقع على المستنيب إِلَّا ثَوَاب النَّفَقَة. وَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على هَذَا، فَإِن عوفي المستنيب من العضب لم يلْزمه الْحَج خلافًا لأبي حنيفَة.
830 - / 996 - وَفِي الحَدِيث الْعشْرين: وَقد أنقذ الإشفى فِي كفها. الأشفى مَقْصُورَة، وَهِي حَدِيدَة يخرز بهَا. والعامة تَقول: الشفى.
831 - / 997 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْعِشْرين: أَنه قَالَ يَوْم فتح مَكَّة: " لَا هِجْرَة، وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة ". [15] قَوْله: " لَا هِجْرَة " إِنَّمَا وَجَبت الْهِجْرَة لمعنيين: أَحدهمَا: نصْرَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ كَانَ فِي قلَّة، فَوَجَبَ على النَّاس النفير إِلَيْهِ لنصره على أعدائه. وَالثَّانِي: لاقتباس الْعلم وَفهم الدّين. وَكَانَ أعظم الْمخوف عَلَيْهِم مَكَّة، فَلَمَّا فتحت أَمن الْمُسلمُونَ وانتشر الدّين، فَقيل للنَّاس: قد انْقَطَعت الْهِجْرَة وَبقيت نِيَّة المجاهدة، وَكُونُوا مستعدين، فَإِذا دعيتم إِلَى عَدو فانفروا. [15] وَقَوله: " لم تحل إِلَّا سَاعَة من نَهَار " أَي حل لي فِيهَا إِرَاقَة الدَّم، وَلم يرد بِهِ حل الصَّيْد وَقطع الشّجر. وَهَذَا دَلِيل وَاضح على أَنَّهَا فتحت عنْوَة. وَقَالَ الشَّافِعِي: فتحت صلحا. [15] وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن جنى ثمَّ لَجأ إِلَى الْحرم، فروى الْمروزِي(2/325)
عَن أَحْمد أَنه إِذا قتل أَو قطع يدا أَو أقنى حدا فِي غير الْحرم ثمَّ دخله لم يقم عَلَيْهِ الْحَد، وَلم يقْتَصّ مِنْهُ، وَلَكِن لَا يُبَايع وَلَا يشارى وَلَا يؤاكل حَتَّى يخرج. فَإِن فعل شَيْئا من ذَلِك فِي الْحرم استوفى مِنْهُ. وروى عَنهُ حَنْبَل أَنه إِن قتل خَارج الْحرم ثمَّ دخله لم يقتل، وَإِن كَانَت الْجِنَايَة دون النَّفس أقيم عَلَيْهِ الْحَد، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: يُقَام عَلَيْهِ جَمِيع ذَلِك فِي النَّفس وَمَا دونهَا. [15] وَقَوله: " لَا يعضد شوكه " أَي لَا يكسر. والعضد: قطع الشّجر بالمعضد: وَهُوَ كالسيف يمتهن فِي قطع الشّجر. وَيُسمى مَا قطع من الشّجر إِذا عضدت العضيد والعضد. [15] وَقَوله: " وَلَا ينفر صَيْده " أَي لَا يزعج عَن مَكَانَهُ، فَإِنَّهُ إِذا تعرض لَهُ بالاصطياد نفر. وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: إِذا كَانَ أَيْضا فِي ظلّ شَجَرَة لم ينفره الرجل ليستظل بهَا. [15] وَقَوله: " وَلَا تلْتَقط لقطته إِلَّا من عرفهَا " عندنَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَن لقطَة الْحرم لَا يحل أَن يَأْخُذهَا إِلَّا من يعرفهَا أبدا وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهَا كَسَائِر اللقط. وَعَن الشَّافِعِي كالروايتين. فعلى الرِّوَايَة الأولى الْأَمر فِي اللّقطَة ظَاهر، وعَلى الثَّانِيَة يكون الْفرق بَين لقطَة الْحرم وَغَيره أَن لقطَة غير الْحرم إِذا كَانَت يسيره لم يجب تَعْرِيفهَا بِخِلَاف لقطَة الْحرم، فَإِنَّهُ يجب تَعْرِيفهَا وَإِن قلت. وفقهه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن سَاكِني مَكَّة يَحْتَاجُونَ إِلَى الْيَسِير لشدَّة فَقرهمْ. وَالثَّانِي: أَن يكون ذَلِك التَّخْصِيص لتعظيم الْمَكَان، فَإِن الْحَسَنَة تضَاعف بهَا، والسيئة أَيْضا.(2/326)
[15] قَوْله: " وَلَا يخْتَلى خلاه " الخلا بِالْقصرِ: الْحَشِيش الرطب، الْوَاحِدَة خلاة. فَإِذا مددته فَهُوَ الْمَكَان الْخَالِي. وَكَانَ الشَّافِعِي يَقُول: لَا يحتش فِي الْحرم، فَأَما الرَّعْي فَلَا بَأْس. [15] وَقَوله: " لمن ينشدها " أَي يعرفهَا. والمنشد: الْمُعَرّف. وَقد ذهب بَعضهم إِلَى معنى لَو صَحَّ فِيهِ اللَّفْظ لَكَانَ حسنا، فَقَالَ: المنشد: صَاحب اللّقطَة، وَالْمعْنَى: لَا تحل لقطتهَا إِلَّا لِرَبِّهَا. قَالَ أَبُو عبيد: لَا يجوز فِي الْعَرَبيَّة أَن يُقَال للطَّالِب منشد، إِنَّمَا المنشد الْمُعَرّف، والطالب هُوَ الناشد. [15] والإذخر: نَبَات مَعْرُوف. والقين: الْحداد. وَقد اسْتدلَّ بَعضهم على أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحكم بِاجْتِهَادِهِ، بقول الْعَبَّاس فِي أثْنَاء الْكَلَام: إِلَّا الْإِذْخر فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِلَّا الْإِذْخر " وَلم ينْتَظر الْوَحْي. قَالَ ابْن عقيل: هَذَا اسْتِدْلَال أبله، فَإِن الْوَحْي كَانَ أقرب إِلَى قلبه من الِاسْتِثْنَاء إِلَى لِسَانه، وَإِنَّمَا هَذَا قَول من يظنّ أَن قطع الْمسَافَة بِالْوَحْي كَقطع الْمسَافَة بالكلف. أَو لَيْسَ الْقُدْرَة الْمنزلَة للإلهام إِلَى قلبه الْكَرِيم أَو الْوَحْي على لِسَان الْملك هِيَ الَّتِي أحضرت عرش بلقيس قبل ارتداد الطّرف؟ فَهَذِهِ الْغَفْلَة عَن مِقْدَار سرعَة الإيحاء. ثمَّ إِنَّمَا يشكل هَذَا على من لم يعلم مَادَّة جِبْرِيل، فيستبعد صعُود جسم ونزوله، وَلَو فطنوا أَن الْمَلَائِكَة فِي الْحَقِيقَة كاشفة تَنْتَشِر وتنقبض، بَيْنَمَا جِبْرِيل ظهر(2/327)
ناشرا جناحيه من الْمشرق إِلَى الْمغرب، تصور فِي صُورَة دحْيَة، وحوته الْحُجْرَة، وَدخل تَحت العباءة، وَتدْخل الْمَلَائِكَة إِلَى ضيق اللحود. وَقد وجدنَا شُعَاع الشَّمْس سَاعَة تطلع من الْمشرق إِلَى الْمغرب فِي وَقت وَاحِد، وَلَو رفعت إجانة عَن مِصْبَاح انبسط فِي الْآفَاق، وآكد من هَذَا مَا نرَاهُ فِي نفوسنا حِين نرفع الجفن عَن الْعين فنرى الأفلاك ونجومها إدراكا لَهَا بالشعاع المنبعث من عيوننا إِلَى ذَلِك الْمحل الْأَعْلَى قَاطعا لتِلْك المساحة، فَلَا يَخْلُو جِبْرِيل أَن يكون من جنس تِلْكَ الْأَنْوَار، أَو يكون قد جعلت فِيهِ من سرعَة الْحَرَكَة مَا جعل فِي الْأَنْوَار. [15] والعضاه: شجر ذُو شوك كالطلح. يُقَال: أَرض عضهة: إِذا كَانَت كَثِيرَة العضاه. وبعير عضه: إِذا كَانَ يَأْكُل الْعضَاة.
832 - / 998 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْعِشْرين: " وَمَا يعذبان فِي كَبِير ". [15] فِيهِ وَجْهَان: أَحدهمَا أَن هَذَا لَيْسَ من الْكَبَائِر، فَإِنَّهَا قد عدت فِي أَحَادِيث، فَيكون الْمَعْنى التحذير من الْكَبَائِر؛ لِأَنَّهُ إِذا وَقع الْعَذَاب فِي الْقَبْر على مَا لَيْسَ من الْكَبَائِر فَكيف بالكبائر؟ وَالثَّانِي: أَنه لَيْسَ المُرَاد أَن هَذَا لَيْسَ بكبير فِي بَاب الدّين، وَلكنه لَيْسَ بكبير على فَاعله، إِذْ النثرة من الْبَوْل لَا تشق، وَترك النميمة سهل. والنميمة: أَن ينْقل الْإِنْسَان ذكرا قبيحا عَن شخص إِلَى شخص. وَيُقَال للنمام: قَتَّات وديبوب، وتلاع، وقساس، ونمال.(2/328)
[15] وَقَوله: " لَا يسْتَتر من بَوْله " أَي لَا يَجْعَل بَينه وَبَينه مَا يستره مِنْهُ. وَمن روى: " لَا يستنزه " فَالْمَعْنى: لَا يتباعد، وَمَكَان نزيه: خَال من الأنيس. [15] والعسيب من النّخل كالقضيب من الشَّجَرَة. وَإِنَّمَا غرس عسيبا رطبا لِأَنَّهُ أَرَادَ أَن يظْهر عَلَيْهِمَا بركَة مَمَره. فَكَأَنَّهُ سَأَلَ لَهما التَّخْفِيف، فَجعل رُطُوبَة العسيب حدا لمُدَّة التَّخْفِيف. وَهَذَا سَيَأْتِي فِي مُسْند جَابر، أدرجه مُسلم فِي مُسْند أبي الْيُسْر، قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِنِّي مَرَرْت بقبرين يعذبان، فَأَحْبَبْت بشفاعتي أَن يرفه عَنْهُمَا مَا دَامَ هَذَا الغصنان رطبين " وَهَذَا كَانَ لبركة شَفَاعَته. وَسَيَأْتِي فِي مُسْند الْعَبَّاس أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عمك أَبُو طَالب كَانَ يحوطك وَيفْعل، فَهَل يَنْفَعهُ ذَلِك؟ قَالَ: " نعم، وجدته فِي غَمَرَات من النَّار فَأَخْرَجته إِلَى ضحضاح ". فَأَما مَا يحْكى عَن الرافضة أَنهم يجْعَلُونَ مَعَ الْمَيِّت سعفة رطبَة فَلَا وجد لَهُ.
833 - / 999 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْعِشْرين: أمرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نسجد على سَبْعَة أَعْضَاء: الْجَبْهَة، وَالْيَدَيْنِ، والركبتين، وَالرّجلَيْنِ. [15] عندنَا أَنه يجب السُّجُود على هَذِه الْأَعْضَاء، وَهُوَ قَول مَالك، وَأحد قولي الشَّافِعِي. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لَا يجب إِلَّا على الْجَبْهَة،(2/329)
وَهُوَ قَول أبي حنيفَة. وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيمَن يسْجد على أَنفه دون جَبهته. فعندنا أَنه لَا يجْزِيه، رِوَايَة وَاحِدَة، وَهُوَ قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: يجْزِيه. فَأَما إِذا سجد على جَبهته دون أَنفه فَهَل يجْزِيه، عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَنه يجْزِيه، وَهِي الرِّوَايَة الصَّحِيحَة، وَبهَا قَالَ أَكثر الْفُقَهَاء. [15] وَاعْلَم أَن بدن الْإِنْسَان سَبْعَة أَعْضَاء: يَدَاهُ، وَرجلَاهُ، وَرَأسه، وظهره، وبطنه. فَأمر بِوَضْع هَذِه الْأَعْضَاء على الأَرْض ذلا لخالقه، فَحصل الْمَقْصُود من الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ، فَبَقيَ الظّهْر والبطن، فَلَو وَقع على بَطْنه فَاتَ ذل الظّهْر، وَلَو اسْتلْقى على ظَهره فَاتَ ذل بَاقِي الْأَعْضَاء. فَكَانَ السُّجُود جَامعا لذل الْبَطن وَالظّهْر. [15] وَقَوله: وَلَا نكفت الثِّيَاب: أَي لَا نضمها ونجمعها من الانتشار، قَالَ تَعَالَى: {ألم نجْعَل الأَرْض كفاتا} [المرسلات: 25] وَالْمعْنَى أَنَّهَا تضم أَهلهَا أَحيَاء على ظهرهَا وأمواتا فِي بَطنهَا. يُقَال: اكفت هَذَا إِلَيْك: أَي ضمه. وَكَانُوا يسمون بَقِيع الْغَرْقَد كفتة. لِأَنَّهُ مَقْبرَة للموتى. وَالْمرَاد أَن لَا تَقِيّ شعورنا وثيابنا عِنْد السُّجُود التُّرَاب صِيَانة لَهَا، بل نرسلها حَتَّى تقع على الأَرْض، فتسجد مَعَ الْأَعْضَاء. [15] وَقَوله: معقوص أَي مضفور. وعقص الشّعْر: ضفره وفتله. [15] وَقَوله: وَهُوَ مكتوف: أَي مربوط مشدود.
834 - / 1000 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْعِشْرين: قَالَ ابْن عَبَّاس، أما الَّذِي نهى عَنهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ الطَّعَام أَن يُبَاع حَتَّى يقبض. وَلَا(2/330)
أَحسب كل شَيْء إِلَّا مثله. وَفِي رِوَايَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: " من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه " قلت لِابْنِ عَبَّاس: كَيفَ ذَاك؟ قَالَ: دَرَاهِم بِدَرَاهِم، وَالطَّعَام مرجاً. [15] اعْلَم أَن القبوض تخْتَلف، فَمِنْهَا مَا يكون بِالْيَدِ، وَمِنْهَا بِالتَّخْلِيَةِ بَينه وَبَين المُشْتَرِي، وَمِنْهَا بِالنَّقْلِ من مَوْضِعه، وَمِنْهَا بِأَن يكتال، وَذَاكَ يكون فِيمَا يُكَال. فَإِذا بيع الطَّعَام وَهُوَ صبرَة فَقَبضهُ نَقله من مَكَانَهُ، فَإِن بيع بِالْكَيْلِ لم يجز للْمُشْتَرِي أَن يَبِيعهُ دون أَن يُعِيد الْكَيْل عَلَيْهِ. وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن الْكَيْل قد يخْتَلف، فَرُبمَا حصل فِي الْكَيْل الثَّانِي زِيَادَة فَكَانَت للْبَائِع، أَو نقص فَكَانَ التَّمام عَلَيْهِ. [15] وَكَذَلِكَ الْمَوْزُون والمذروع الْمَعْدُود. وَقَالَ أَبُو حُذَيْفَة فِي الْمكيل وَالْمَوْزُون كَقَوْلِنَا، وَفِي المذروع يجوز رِوَايَة وَاحِدَة. وَله فِي الْمَعْدُود رِوَايَتَانِ. [15] وَأما قَول ابْن عَبَّاس: وَالطَّعَام مرجأ، فَإِنَّهُ تَأَول هَذَا على السّلف، وَذَلِكَ أَن يَشْتَرِي الرجل من الرجل طَعَاما بِمِائَة إِلَى أجل، ثمَّ يَبِيعهُ مِنْهُ قبل قَبضه مِنْهُ بِمِائَة وَعشْرين، فَهَذَا غير جَائِز، لِأَنَّهُ فِي التَّقْدِير بيع دَرَاهِم بِدَرَاهِم وَالطَّعَام غَائِب.
835 - / 1001 وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْعِشْرين: أَنه خرج إِلَى أَرض تهتز زرعا فَقَالَ: " لمن هَذِه؟ " فَقَالُوا: اكتراها فلَان. فَقَالَ " أما إِنَّه لَو منحها إِيَّاه كَانَ خيرا لَهُ من أَن يَأْخُذ عَلَيْهَا أجرا مَعْلُوما ".(2/331)
[15] هَذَا الحَدِيث مُبين فِي مُسْند رَافع بن خديج. ومنحة الأَرْض: إِبَاحَة الزَّرْع فِيهَا من غير أُجْرَة.
836 - / 1002 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْعِشْرين: وَقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأهل الْمَدِينَة ذَا الحليفة، وَلأَهل الشَّام الْجحْفَة، وَلأَهل نجد قرن الْمنَازل، وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم، قَالَ: " هن لَهُنَّ وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ من غير أهلهن، فَمن كَانَ دونهن فمهله من أَهله ". [15] اعْلَم أَن المُرَاد من هَذِه الْمَوَاقِيت الصَّلَاة، فَإِنَّهُ لَو صلى قبل الْمِيقَات لم يجز، فَأَما إِذا جَاوز الْمِيقَات محلا ثمَّ أحرم فَعَلَيهِ دم، سَوَاء عَاد إِلَى الْمِيقَات أَو لم يعد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن عَاد ملبيا سقط الدَّم. وَقَالَ الشَّافِعِي: يسْقط بِكُل حَال إِلَّا أَن يعود بعد الطّواف. فَأَما إِذا عَاد إِلَى الْمِيقَات غير محرم فَأحْرم مِنْهُ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ. [15] وَقرن بتسكين الرَّاء، وَرُبمَا فتح الرَّاء من لَا يعرف من الْفُقَهَاء وطلبة الحَدِيث. [15] وَقَوله: " فهن لَهُنَّ " أَي هَذِه الْمَوَاقِيت لهَذِهِ الْبلدَانِ وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّهُ لَو جَاءَ الْمدنِي من الشَّام أحرم من الْجحْفَة، وَلَو جَاءَ الشَّامي من قبل ذِي الحليفة أحرم مِنْهَا. وَاعْلَم أَن الْمَوَاقِيت خَمْسَة، وَالْمَذْكُور مِنْهَا فِي هَذَا الحَدِيث أَرْبَعَة، وَقد بقى ذَات عرق، فروى أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث عَائِشَة(2/332)
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقت لأهل الْعرَاق ذَات عرق. قَالَ أَبُو دَاوُد: وَالصَّحِيح أَن عمر بن الْخطاب وَقتهَا لأهل الْعرَاق بعد أَن فتحت الْعرَاق.
837 - / 1003 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْعِشْرين: احْتجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ محرم. [15] الْحجامَة للْمحرمِ جَائِزَة عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء. وَقَالَ مَالك: لَا يحتجم إِلَّا من ضَرُورَة. [15] وَاعْلَم أَن الْخَوْف على الْمحرم من الْحجامَة لأجل قطع الشّعْر، فَإِن احْتجم فِي مَوضِع لَا شعر فِيهِ فَلَا بَأْس بِهِ، فَإِن حلق دون ثَلَاث شَعرَات فَفِي كل شَعْرَة مد من طَعَام، وَعَن أَحْمد أَيْضا: قَبْضَة من طَعَام. وَعَن الشَّافِعِي ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: مد. وَالثَّانِي: ثَلَاث دَرَاهِم. وَالثَّالِث. دِرْهَم. وَأما إِن حلق ثَلَاث شَعرَات فَعَلَيهِ دم. وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: فِي أَربع شَعرَات دم. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجب الدَّم إِلَّا فِي حلق ربع الرَّأْس فَصَاعِدا. وَقَالَ مَالك: يجب فِيمَا يحصل بزواله إمَاطَة الْأَذَى. وَاتفقَ الْعلمَاء على تَسَاوِي حكم شعر الرَّأْس وَالْبدن، مَا خلا دَاوُد فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تجب الْفِدْيَة إِلَّا بحلق الرَّأْس.(2/333)
838 - / 1005 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْعِشْرين: قَالَ ابْن عَبَّاس: شهِدت الصَّلَاة يَوْم الْفطر مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر، فكلهم يُصليهَا قبل الْخطْبَة. [15] أما تَقْدِيم الصَّلَاة على الْخطْبَة فَيحْتَمل ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن يكون ذَلِك للْخلاف بَين مَا هُوَ فرض عين كَالْجُمُعَةِ وَمَا هُوَ فرض كِفَايَة. وَالثَّانِي: لِأَن النَّاس يهتمون بِالْفطرِ أَو بالأضاحي، فَقدمت الصَّلَاة لِئَلَّا ينشغلوا عَنْهَا. وَالثَّالِث: أَن الْخَطِيب يبين لَهُم مَا يخرجُون فِي الْفطر، وبماذا يضحون، وَذَلِكَ يفْتَقر إِلَى الْحِفْظ، فَأخر لِئَلَّا يتفكر الْحَافِظ لَهُ قبل الصَّلَاة فِي الصَّلَاة. فَأَما خطْبَة الْجُمُعَة فَلَا تزيد على الموعظة الَّتِي فِي الصَّلَاة من جِنْسهَا. [15] وَقَوله: فَجعلْنَ يلقين الفتخ وَالْخَوَاتِيم. قَالَ عبد الرَّزَّاق: الفتخ: الخواتيم الْعِظَام كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: خَوَاتِيم لَا فصوص لَهَا. وَقَالَ لنا عبد الله بن أَحْمد النَّحْوِيّ: الفتخ: خَوَاتِيم كن يلبسنها فِي أَصَابِع الرجلَيْن، وأنشدنا لامْرَأَة العجاج، قَالَ: ضمهَا إِلَيْهِ العجاج وَقبلهَا فَقَالَت:
(وَالله لَا تخدعني بِالضَّمِّ ... )
(وَلَا بتقبيل وَلَا بشم ... )
(إِلَّا بزعزاع يسلي همي ... )(2/334)
(يسْقط مِنْهُ فتخي فِي كمي ... )
[15] قَالَ: وَكَانَت أكمام الْعَرَب وَاسِعَة، فَلذَلِك قَالَت هَذَا. [15] وَالْخَوَاتِيم جمع خَاتم، وَفِيه أَربع لُغَات: خَاتم بِفَتْح التَّاء وبكسرها، وخاتام، وخيتام. [15] والقرط والخرص: الْحلقَة الصَّغِيرَة من الْحلِيّ تجْعَل فِي الْأذن. [15] والسخاب: خيط ينظم فِيهِ خرز ويلبسه الْجَوَارِي وَالصبيان، وَجمعه سخب. [15] وَأما كَون الْعِيد لَا يُؤذن لَهُ فقد سبق بَيَان الْمَعْنى فِي هَذَا، وَأَن الْعِيد يصلى فِي الصَّحرَاء، وَالْأَذَان لمن لم يحضر، والمصلون للعيد قد حَضَرُوا، وَمن لم يحضر لم يسمع الْأَذَان، فَلَا فَائِدَة فِيهِ.
839 - / 1006 - وَفِي الحَدِيث الثَّلَاثِينَ: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَامَ يتهجد. [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: تهجد بِمَعْنى سهر، وهجد بِمَعْنى نَام. قَالَ لبيد:
(قَالَ هجدنا فقد طَال السرى ... ... ... ... ... ... ... . .)(2/335)
[15] أَي نومنا. قَالَ الْأَزْهَرِي: المتهجد: الْقَائِم إِلَى الصَّلَاة من النّوم، وَقيل لَهُ متهجد لإلقاته الهجود عَن نَفسه، كَمَا يُقَال تحرج وتأثم. وَحكى ابْن الْأَنْبَارِي أَن اللغويين يَقُولُونَ: هُوَ من حُرُوف الأضداد. يُقَال للنائم هاجد ومتهجد، وللساهر أَيْضا كَذَلِك. [15] وَقَوله: " أَنْت قيم السَّمَوَات " أَي الْقَائِم بمصالحها، وَفِي لفظ: " قيام السَّمَوَات " وَقد شرحنا هَذَا فِي مُسْند أبي بن كَعْب. [15] وَقَوله: " أَنْت نور السَّمَوَات وَالْأَرْض " أَي بك حصل نورها وهداية أَهلهَا. [15] قَوْله: " والساعة حق " يَعْنِي الْقِيَامَة. سميت سَاعَة لِأَنَّهَا تكون فِي سَاعَة. [15] وَقَوله: " لَك أسلمت، وَعَلَيْك توكلت " أَي وثقت بتدبيرك: " وَإِلَيْك أنبت " أَي رجعت عَمَّا تكره. " فَاغْفِر لي مَا قدمت وَمَا أخرت " يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا قدمت من الذُّنُوب وَمَا أخرت مِنْهَا، كَأَنَّهُ قَالَ: اغْفِر لي الْقَدِيم والْحَدِيث. وَالثَّانِي: فَاغْفِر لي مَا قدمت مِمَّا يَنْبَغِي أَن يُؤَخر، وَمَا أخرت مِمَّا يَنْبَغِي أَن يقدم. [15] وَقَوله: " وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني " يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا: مَا قد نَسِيته من الزلل. وَالثَّانِي: مَا هُوَ خطأ عنْدك وَأَنا لَا أعلم أَنه خطأ.(2/336)
840 - / 1007 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالثَّلَاثِينَ: " ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى رجل ذكر ". [15] قَالَ الْخطابِيّ: بِأَهْلِهَا: أَي بذوي السِّهَام الَّذين يَرِثُونَ، فَمَا بَقِي فَالْأولى رجل: أَي لأَقْرَب رجل من الْعصبَة. وَالْوَلِيّ. الْقرب. وَإِنَّمَا قَالَ " ذكر " ليعلم أَن الْعصبَة إِذا كَانَ عَمَّا أَو ابْن عَم أَو من كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا وَكَانَ مَعَه أُخْت، أَنَّهَا لَا تَرث شَيْئا.
841 - / 1008 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: " لَا تلقوا الركْبَان ". [15] تلقي الركْبَان: أَن يخرج إِلَيْهِم قبل أَن يقدموا فيشتري مِنْهُم السّلْعَة رخيصة وهم لَا يعْرفُونَ سعر الْبَلَد. فَنهى عَن ذَلِك لما فِيهِ من الخديعة والغبن. [15] وَقَوله: " وَلَا يبع حَاضر لغَائِب " قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: لَا يتربص بسلعته لَا أَن يَبِيعهُ بِسعْر يَوْمه فيرتفق النَّاس بذلك، فَإِذا جَاءَهُ الحضري قَالَ لَهُ: أَنا أتربص بسلعتك حرم النَّاس ذَلِك الرِّفْق. قَالَ: وَقَالَ: إِنَّمَا يحرم عَلَيْهِ ذَلِك فِي بلد ضيق الرِّفْق.
842 - / 1009 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(2/337)
احْتجم وَأعْطى الْحجام أجره، واستعط. اسْم هَذَا الَّذِي حجمه نَافِع، ويكنى أَبَا طيبَة. [15] والضريبة: مَا يضْرب على العَبْد من خراج يُؤَدِّيه. وَلما خفف عَنهُ الدَّم ناسب هَذَا أَن يكلم مَوْلَاهُ ليخفف من خراجه. وَقد قَالَ الْعلمَاء: لَا يكره إِعْطَاء الْحجام، إِنَّمَا يكره للحجام الْأَخْذ. [15] وَقَوله: استعط. الاستعاط: تَحْصِيل الدّهن أَو غَيره فِي أقْصَى الْأنف، سَوَاء كَانَ بجذب النَّفس أَو بالتفريخ فِيهِ.
843 - / 1010 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قيل لَهُ فِي الذّبْح وَالْحلق وَالرَّمْي والتقديم وَالتَّأْخِير فَقَالَ: " لَا حرج ". [15] اعْلَم أَن هَذِه الْأَفْعَال مترتبة، ومحلها كلهَا يَوْم النَّحْر، فأولها الرَّمْي، ثمَّ الذّبْح، ثمَّ الْحلق، ثمَّ الطّواف. والحرج: الضّيق، ويعبر بِهِ عَن الْإِثْم لِأَنَّهُ فِي معنى الضّيق. [15] وَهَذَا الحَدِيث فِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس مُخْتَصر. وَقد ضَبطه عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَهُوَ يَوْمئِذٍ أحفظ من ابْن عَبَّاس، وَفِي حَدِيثه: أَن رجلا قَالَ: لم أشعر فنحرت قبل أرمي، فَقَالَ: " ارْمِ، وَلَا حرج ". فَقَالَ آخر: لم أشعر فحلقت قبل أَن أذبح، فَقَالَ: " اذْبَحْ وَلَا حرج ". [15] وَعِنْدنَا أَنه إِذا قدم الحلاق على الرَّمْي أَو على النَّحْر جَاهِلا بمخالفة(2/338)
السّنة فِي ذَلِك فَلَا شَيْء عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ عَالما بذلك، فَهَل يجب عَلَيْهِ دم؟ فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَقد حمل من لَا يرى وجوب الدَّم قَوْله: " وَلَا حرج " على نفي الْإِثْم، وَاللَّفْظ عَام فِي الْإِثْم والفدية.
844 - / 1011 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: رخص للحائض أَن تنفر إِذا حَاضَت. [15] هَذَا مُفَسّر فِي تَمام الحَدِيث: وَهُوَ أَن تكون قد حَاضَت بعد الطّواف الْفَرْض، فتنفر وتترك طواف الْوَدَاع. ويحتج بِهَذَا من يرى أَن طواف الْوَدَاع لَيْسَ بِوَاجِب، وَهُوَ قَول مَالك، وَأحد قولي الشَّافِعِي. وَعِنْدنَا أَنه وَاجِب يلْزم بِتَرْكِهِ دم، وَلَا يمْتَنع أَن يكون رخص لَهُ لِئَلَّا تطول عَلَيْهَا الْإِقَامَة مَعَ إِيجَاب الدَّم عَلَيْهَا.
845 - / 1012 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا يرَوْنَ أَن الْعمرَة فِي أشهر الْحَج من أفجر الْفُجُور فِي الأَرْض، وَكَانُوا يسمون الْمحرم صفر، وَيَقُولُونَ: إِذا برأَ الدبر، وَعَفا الْأَثر، وانسلخ صفر، حلت الْعمرَة لمن اعْتَمر. الْفُجُور: الْخُرُوج عَن الْحق. [15] وَقَوْلهمْ: برأَ الدبر. قَالَ أَبُو سُلَيْمَان: يحْتَمل أَن يَكُونُوا أَرَادوا:(2/339)
إِذا برأَ الدبر من ظُهُور الْإِبِل، لِأَنَّهَا إِذا انصرفت عَن الْحَج دبرت ظُهُورهَا. [15] وَقَوْلهمْ: وَعَفا الْأَثر: أَي امحى، وغطاه مَا نبت. وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: وَعَفا الْوَبر: أَي كثر نَبَاته. [15] وَقَوله: فَقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَبِيحَة رَابِعَة. يَعْنِي رَابِعَة من ذِي الْحجَّة وَهَذَا مَذْكُور فِي الحَدِيث. [15] والإهلال: رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. [15] وَقَوله: فَأَمرهمْ أَن يجعلوها عمْرَة. وَذَلِكَ بفسح نِيَّة الْحَج وَقطع أَفعاله، وَأَن يَجْعَل الْإِحْرَام للْعُمْرَة، فَإِذا فرغ من أَعمال الْعمرَة حل ثمَّ أحرم من مَكَّة ليَكُون مُتَمَتِّعا. [15] وَهَذَا إِذا لم يسق الْهَدْي، فَإِن سَاقه لم يجز لَهُ الْفَسْخ، لِأَنَّهُ لَو فسخ الْحَج احْتَاجَ إِلَى أَن يشرع فِي أَفعَال عمْرَة وَلَا يحل مِنْهَا إِلَّا بِالْحلقِ، وَقد قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تحلقوا رءوسكم حَتَّى يبلغ الْهَدْي محلّة} [الْبَقَرَة: 196] . وَإِنَّمَا أَمر أَصْحَابه بِالْفَسْخِ ليَقَع الْخلاف بَين حجهم وَحج الْمُشْركين، فَإِن الْمُشْركين كَانُوا لَا يرَوْنَ الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، وَكَانَ يحب مخالفتهم، وَقد قَالَ أَصْحَابنَا: إِنَّمَا أَمرهم بِالْفَسْخِ ليتمتعوا، وتأسف على التَّمَتُّع. وَقَالَ ابْن عقيل: وَهَذَا يبعد عِنْدِي أَن يكون الله عز وَجل فَوت نبيه فِي حجَّته الْإِحْرَام بهَا على الْوَجْه الْأَفْضَل.(2/340)
[15] وَهَذَا الحَدِيث نَص فِي جَوَاز فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة. وَقد رَوَاهُ جمَاعَة من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه إِنَّمَا أَمر أَصْحَابه أَن يفسخوا الْحَج إِلَى الْعمرَة، وتأسف هُوَ على كَونه لَا يُمكنهُ الْفَسْخ لأجل الْهَدْي، فَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث جَابر وَغَيره. وَقد نَص أَحْمد على جَوَاز ذَلِك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد: لَا يجوز فسخ الْحَج بِحَال. وَإِنَّمَا تأسف عَلَيْهِ السَّلَام على سوق الْهَدْي لِئَلَّا يُخَالف فعله فعل أَصْحَابه، فيظن المُنَافِقُونَ أَنه غير مُتبع فِي فعله، فَأَرَادَ أَن يكون الْأَمر وَاحِدًا. [15] وَقَوله: " فَإِن الْعمرَة قد دخلت فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " فِي تَفْسِير هَذَا أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة. وألفاظ الحَدِيث تشهد لهَذَا الْمَعْنى. وَالثَّانِي: أَن الْإِشَارَة إِلَى تدَاخل النُّسُكَيْنِ، فيجزي عَنْهُمَا طواف وَاحِد وسعي وَاحِد. وَالثَّالِث: أَن الْعمرَة قد دخلت فِي وَقت الْحَج وشهوره، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يرَوْنَ ذَلِك. وَالرَّابِع: أَن الْمَعْنى سقط فرض الْعمرَة بِالْحَجِّ، وَهَذَا قَول من لَا يرى وجوب الْعمرَة.
846 - / 1013 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالثَّلَاثِينَ: " اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل ". [15] الْفِقْه: الْفَهم، وَقد سبق هَذَا. [15] وَاخْتلف الْعلمَاء فِي معنى التَّأْوِيل، فَذهب أَكثر القدماء إِلَى أَنه بِمَعْنى التَّفْسِير.(2/341)
[15] وَقَالَ آخَرُونَ: بل التَّفْسِير إِخْرَاج الشَّيْء عَن مقَام الخفاء إِلَى مقَام التجلي، والتأويل نقل الْكَلَام عَن وَضعه الْأَصْلِيّ إِلَى مَا يحْتَاج فِي إثْبَاته إِلَى دَلِيل لولاه مَا ترك ظَاهر اللَّفْظ، فَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلك: آل الشَّيْء إِلَى كَذَا: أَي صَار إِلَيْهِ. [15] وَأما الْحِكْمَة فقد ذَكرنَاهَا فِي مُسْند ابْن مَسْعُود. [15] وَالْكتاب: الْقُرْآن.
847 - / 1015 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالثَّلَاثِينَ: أَنا مِمَّن قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْمزْدَلِفَة فِي ضعفة أَهله. [15] وَقد سبق تَفْسِير الْمزْدَلِفَة: وَهِي الْمَكَان الَّذِي يقرب إِلَى مَكَّة. وحد الْمزْدَلِفَة مَا بَين المأزمين ووادي محسر. والمأزمان: المضيقان. [15] والضعفة جمع ضَعِيف. وَإِنَّمَا قدم الضِّعَاف لِئَلَّا يحطمهم النَّاس، فَإِن النَّاس يبيتُونَ بِمُزْدَلِفَة، فَإِذا طلع الْفجْر دفعُوا. [15] وَعِنْدنَا أَنه يجوز الدّفع من مُزْدَلِفَة بعد نصف اللَّيْل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز حَتَّى يطلع الْفجْر. فَأَما إِذا دفع قبل نصف اللَّيْل فعندنا أَن عَلَيْهِ دَمًا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا دم عَلَيْهِ، وَيتَخَرَّج لنا مثله.(2/342)
848 - / 1016 - وَفِي الحَدِيث الْأَرْبَعين: " وتوق كرائم أَمْوَالهم ". أَي نفائسها.
849 - / 1017 - وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ: " لَا يخلون رجل بِامْرَأَة إِلَّا وَمَعَهَا ذُو محرم. [15] عِلّة هَذَا النَّهْي ظَاهِرَة، وَهُوَ أَن الطباع تَدْعُو إِلَى مَا جبلت عَلَيْهِ، وَالْحيَاء يكف مَعَ مُشَاهدَة الْخلق، فَإِذا كَانَت الْخلْوَة عدم الْحيَاء الْمَانِع، فَلم يبْق إِلَّا الْمَانِع الديني. وَالْإِنْسَان يجْرِي مَعَ طبعه من غير تكلّف، ويعاني مُخَالفَة هَوَاهُ حفظا للدّين بِكُل كلفة، فالطبع كالمنحدر، وَالتَّقوى كالمداد، وَقد تضعف قُوَّة هَذَا الَّذِي يمد، أَو يشْتَد جَرَيَان المنحدر. ثمَّ لَو قَدرنَا السَّلامَة من الْفُجُور ففكر النَّفس فِي تَصْوِير ذَلِك لَا ينفكان مِنْهُ أَو أَحدهمَا، فَحسن الزّجر عَن ذَلِك. [15] وَأما السّفر فَإِن الْمَرْأَة إِذا خلت عَن محرم كَانَت كَأَنَّهَا فِي خلْوَة، وَلَا يُؤمن عَلَيْهَا من جِهَة ميل طبعها إِلَى الْهوى وَعدم الْمحرم المدافع عَنْهَا. وَقد دلّ هَذَا الحَدِيث على أَن الْمَرْأَة إِذا لم تَجِد الْمحرم لم يلْزمهَا الْحَج، وَهُوَ مَذْهَب أَحْمد، وَقَول أبي حنيفَة. وَهل الْمحرم من شَرَائِط الْوُجُوب أم من شَرَائِط الْأَدَاء، فِيهِ عَن أَحْمد رِوَايَتَانِ. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: إِذا تحصنت الْمَرْأَة بنسوة ثِقَات وَكَانَ الطَّرِيق آمنا لَزِمَهَا الْخُرُوج وَإِن لم يساعدها محرم.(2/343)
850 - / 1018 وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْأَرْبَعِينَ: إِن رفع الصَّوْت بِالذكر حِين ينْصَرف النَّاس من الْمَكْتُوبَة كَانَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] الْإِشَارَة بِهَذَا الذّكر بعد الصَّلَاة أَن يُرَاد بِهِ الدُّعَاء وَالتَّسْبِيح وَالتَّكْبِير. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث: مَا كُنَّا نَعْرِف انْقِضَاء صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بِالتَّكْبِيرِ.
851 - / 1091 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْأَرْبَعِينَ: بت عِنْد خَالَتِي مَيْمُونَة، فَقَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اللَّيْل فَتَوَضَّأ من شن معلقَة. [15] أما مَيْمُونَة فَهِيَ زوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي مَيْمُونَة بنت الْحَارِث ابْن حزن الْهِلَالِيَّة، وَأُخْتهَا لبَابَة بنت الْحَارِث وتكنى أم الْفضل، وَهِي أم عبد الله بن عَبَّاس. [15] والشن: الْقرْبَة البالية. [15] وَقَوله: فجعلني عَن يَمِينه. وَهَذَا لِأَن الْقَائِم عَن الْيَسَار فِي حكم الْفَذ. [15] والنفخ هَاهُنَا بِمَعْنى الغطيط. [15] واستن: اسْتعْمل السِّوَاك. [15] وَقَوله: يمسح النّوم عَن وَجهه: أَي يمسح أثر النّوم. [15] وشحمة الْأذن: مَا لَان من أَسْفَلهَا، وَهُوَ مُعَلّق القرط. [15] وَقَوله: فَتحدث مَعَ أَهله. يدل على حسن المعاشرة للأهل وَنفي الانقباض وَسُوء الْخلق، وَفِيه رد لطريقة أهل العبوس من جهلة(2/344)
المتزهدين، فَإِن الحَدِيث يُوجب الْأنس وَيرْفَع الوحشة ويطيب النُّفُوس. وَرُبمَا قَالَ بعض الْجُهَّال: الحَدِيث يضيع الزَّمَان. وَالْجَوَاب: أَنه كَانَ حَدِيثا مُبَاحا وَقصد بِهِ إيناس المعاشر أثيب الْأنس على الْقَصْد، وَلم يضع الزَّمَان. [15] وَقَوله: فَأطلق شناقها. قَالَ أَبُو عبيد: الشناق: الْخَيط وَالسير الَّذِي تعلق بِهِ الْقرْبَة على الوتد. يُقَال مِنْهُ: أشنقتها إشناقا: إِذا علقتها وَيُقَال: أشنقت النَّاقة: إِذا مددتها بزمامها إِلَيْك كَمَا تكبح الْفرس. وَقَالَ أَبُو زيد: شنقت النَّاقة شنقا. وَقَالَ الزّجاج: يُقَال: شنقت الْقرْبَة وأشنقتها، وشنقت الدَّابَّة وأشنقتها. [15] وَأما طلبه للنور فَلِأَنَّهُ سَبَب الْهِدَايَة. وَالْمعْنَى: اللَّهُمَّ اهدني وأرشدني، لِأَن نور الطَّرِيق يمْنَع الضلال. [15] وَقَوله: أبقيه يُقَال: أبقيت فلَانا أبقيه: إِذا رصدته وراعيته. [15] وَقَوله: وَسبع فِي التابوت: أَي سَبْعَة أَشْيَاء مَكْتُوبَة عِنْدِي فِي التابوت، وَهُوَ نَحْو الصندوق. يَقُول: قد نسيتهَا وَهِي عِنْدِي مَكْتُوبَة. وَقد جَاءَ فِيمَا بعد مِنْهَا: عصبي، ولحمي، وَدمِي، وشعري، وبشري. [15] والغليم تَصْغِير غُلَام. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور اللّغَوِيّ قَالَ: يذهب عوام النَّاس إِلَى أَن الْغُلَام وَالْجَارِيَة: العَبْد وَالْأمة خَاصَّة،(2/345)
وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا الْغُلَام وَالْجَارِيَة الصغيران. قَالَ: وَقد قيل: الْغُلَام: الطار الشَّارِب. وَيُقَال لِلْجَارِيَةِ غلامة أَيْضا، قَالَ الشَّاعِر:
( ... ... ... ... . . ... تهان لَهَا الغلامة والغلام)
وَقد يُقَال للكهل أَيْضا غُلَام، قَالَ ليلى الأخيلية تمدح الْحجَّاج:
( ... ... ... ... . . غُلَام ... إِذا هز الْقَنَاة سَقَاهَا)
[15] وَكَأن قَوْلهم للطفل غُلَام على معنى التفاؤل: أَي سيصير غُلَاما. وَقَوْلهمْ للكهل غُلَام: أَي الَّذِي كَانَ مرّة غُلَاما. وَهُوَ " فعال " من الغلمة، وَهِي شدَّة شَهْوَة النِّكَاح. وَقَالَت امْرَأَة ترقص بِنْتا لَهَا:
(وَمَا علتي أَن تكون جاريه ... )
(حَتَّى إِذا مَا بلغت ثمانيه ... )
(زوجتها عتبَة أَو مُعَاوِيه ... )
(أختَان صدق ومهور غاليه ... )
[15] والغليظ: صَوت يسمع من تردد النَّفس كَهَيئَةِ صَوت المختنق. والخطيب قريب مِنْهُ، والغين وَالْخَاء متقاربتا الْمخْرج. [15] والذؤابة: الشّعْر المنسدل من وسط الرَّأْس إِلَى مَا انحدر عَنهُ.(2/346)
والعضد: مَا بَين الْمرْفق والمنكب. [15] ويعدلني: يصرفني عَن مقَامي إِلَى الْجَانِب الْأَيْمن، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فسواك فعدلك} [الإنفطار: 7] على قِرَاءَة من خفف: إِلَى صرفك إِلَى أَي الصُّور شَاءَ.
852 - / 1020 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْأَرْبَعِينَ: " لَو أَن أحدكُم إِذا أَرَادَ أَن يَأْتِي أَهله قَالَ: بِسم الله ". [15] المُرَاد بالإتيان هَاهُنَا الْجِمَاع، وَفِي تِلْكَ الْحَال للهوى غَلَبَة تشغل عَن الذّكر، وَإِذا تشاغل الْإِنْسَان بِالذكر فِي غير وقته الْمُعْتَاد أَو مَعَ مَا يضاده نظر الْمَذْكُور إِلَيْهِ، فأعاذه من الْعَدو وَأجَاب دعاءه. [15] فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى " لم يضرّهُ الشَّيْطَان "؟ أتراه: لَا يوقعه قطّ فِي زلَّة؟ وَكَيف يكون هَذَا وَلم يسلم الأكابر من هَذَا؟ فَالْجَوَاب: أَنه يحْتَمل أَن يكون معنى دفع ضَرَر الشَّيْطَان حفظه من إغوائه وإضلاله بالْكفْر والزيغ، وَيحْتَمل أَن يكون حفظه من الْكَبَائِر وَالْفَوَاحِش. وَيحْتَمل أَن يكون توفيقه للتَّوْبَة إِذا زل.
853 - / 1021 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْأَرْبَعِينَ: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد بالدبور ". [15] الصِّبَا: ريح لينَة تَأتي من نَاحيَة الشرق، ويقابلها الدبور. وَجَاء(2/347)
فِي التَّفْسِير: أَن ريح الصِّبَا هِيَ الَّتِي حملت ريح يُوسُف قبل البشير إِلَى يَعْقُوب، فإليها يستريح كل محزون. قَالَ أَبُو صَخْر الْهُذلِيّ:
(إِذا قلت هَذَا حِين أسلو يهيجني ... نسيم الصِّبَا من حَيْثُ يطلع الْفجْر)
854 - / 1022 وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْأَرْبَعِينَ: " أما إِبْرَاهِيم فانظروا إِلَى صَاحبكُم، وَأما مُوسَى فجعد آدم على جمل أَحْمَر مَخْطُوم بخلبة ". [15] وَقَوله: " انْظُرُوا إِلَى صَاحبكُم " يَعْنِي أَنه يشبهني. [15] والجعد: الشّعْر المنقبض. والسبط: السهل. [15] والآدم: الأسمر. [15] والخطام: سمي بذلك لِأَنَّهُ على الخطم وَهُوَ الْأنف. والخلب: الليف يفتل مِنْهُ الحبال للخطم وَغَيرهَا. [15] وَقَوله: " كَأَنَّهُ من رجال شنُوءَة وَمن الزط " وهم قوم معروفون. [15] والمربوع: الْمُتَوَسّط بَين الطول وَالْقصر: وَهُوَ الربعة أَيْضا. [15] وَقَوله: {فَلَا تكن فِي مرية من لِقَائِه} [السَّجْدَة: 23] المرية: الشَّك. وللمفسرين فِي معنى هَذِه الْآيَة أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: فَلَا تكن فِي مرية من لِقَاء مُوسَى ربه، رَوَاهُ ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالثَّانِي: من لِقَاء مُوسَى لَيْلَة الْإِسْرَاء، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قَتَادَة، وَهُوَ قَول أبي الْعَالِيَة وَمُجاهد. وَالثَّالِث: من لِقَاء الْأَذَى كَمَا لقى مُوسَى، قَالَه الْحسن.(2/348)
وَالرَّابِع: من تلقي مُوسَى كتاب الله بِالرِّضَا وَالْقَبُول، فَتكون الْهَاء للْكتاب، وَهُوَ قَول السّديّ. وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: أضيف الْمصدر إِلَى ضمير الْكتاب، وَالْمعْنَى: من لِقَاء مُوسَى الْكتاب. وَفِي ذَلِك مدح لَهُ على امْتِثَال مَا أَمر بِهِ، وتنبيه على الْأَخْذ بِمثل هَذَا الْفِعْل. [15] والثنية: طَرِيق مُرْتَفع بَين جبلين. [15] والجؤار: رفع الصَّوْت. [15] وهرشى ولفت: موضعان.
855 - / 1024 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْأَرْبَعِينَ: " فَلَا يمسح يَده حَتَّى يلعقها أَو يلعقها ". [15] قد ذكرنَا وَجه الْحِكْمَة فِي مُسْند كَعْب بن مَالك.
856 - / 1025 وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْأَرْبَعِينَ: أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه أَن يرملوا ثَلَاثَة أَشْوَاط ويمشوا بَين الرُّكْنَيْنِ، ليرى الْمُشْركُونَ جلدهمْ. الرمل كالهرولة والخبب، وَهُوَ فَوق الْمَشْي وَدون الْإِسْرَاع. [15] والأشواط: الدورات فِي الطّواف(2/349)
[15] وَالْجَلد: الْقُوَّة. وَإِنَّمَا اقْتصر على ثَلَاثَة أَشْوَاط لطفا بهم. وَهَذَا مِمَّا زَالَ سَببه وَبَقِي حكمه. وَفِي هَذَا تَنْبِيه على التجلد خوفًا من شماتة الْأَعْدَاء.
857 - / 1026 - وَفِي الحَدِيث الْخمسين: أعتم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالعشاء حَتَّى رقد النِّسَاء وَالصبيان، ثمَّ خرج يَقُول: " أَنه للْوَقْت لَوْلَا أَن أشق على أمتِي ". [15] أعتم بِمَعْنى أَخّرهَا. يُقَال: عتم اللَّيْل إِذا مضى مِنْهُ صدر. وعتم الْقَوْم: صَارُوا وَقت الْعَتَمَة. وَالْعَتَمَة: ظلمَة اللَّيْل. ووقتها بعد غيبوبة الشَّفق. [15] فَأَما قَوْله: " إِنَّه للْوَقْت " فَإِنَّهُ يَعْنِي وَقت الْفَضِيلَة ". [15] وَقَوله: " لَيْسَ أحد من أهل الأَرْض اللَّيْلَة ينتظرها غَيْركُمْ " هَذَا مِمَّا اطلع عَلَيْهِ فقاله عَن مطالعة الْغَيْب.
858 - / 1028 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالْخمسين: قَالَ رجل لِابْنِ عَبَّاس: مَا هَذِه الْفتيا الَّتِي تشغفت النَّاس: أَن من طَاف بِالْبَيْتِ فقد حل؟ فَقَالَ: سنة نَبِيكُم وَإِن رغمتم. [15] الْفتيا: جَوَاب السُّؤَال. [15] وَقَوله: تشغفت النَّاس. هَذِه الْكَلِمَة ترى على سِتَّة أوجه: [15] أَحدهَا: تشغفت أَي حلت شغَاف قُلُوبهم فشغلتها. وَالثَّانِي(2/350)
تشعبت بِالنَّاسِ: أَي تَفَرَّقت بهم. وَالثَّالِث: شعبت النَّاس. وَالرَّابِع: شعبت، بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، ومعناهما فرقتهم. وَالْخَامِس: شغبت: أَي أوجبت الشغب وَالِاخْتِلَاف بَينهم. والشغب هَاهُنَا هيجان الشَّرّ والمنازعة. وَالسَّادِس: أَن هَذَا الْأَمر قد تفشغ النَّاس، وَالْمعْنَى: تفشغ فيهم: أَي كثر، يُقَال تفشغ فِي رَأسه الشيب: أَي كثر وانتشر. قَالَ الْأَصْمَعِي: تفشغ الشَّيْء: فَشَا وَكثر. [15] وَقَوله: وَإِن رغمتم، قد بَينا هَذَا فِي مُسْند أبي ذَر. وَكَانَ الأَصْل: ون رغم أنف فلَان: أَي وَإِن الْتَصق بالرغام: وَهُوَ التُّرَاب، ثمَّ حذف هَاهُنَا ذكر الْأنف لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال. [15] فَأَما قَوْله: من طَاف بِالْبَيْتِ فقد حل. اعْلَم أَنه الْحَج لَهُ تحللان: الأول يحصل بِاثْنَيْنِ من ثَلَاثَة: وَهِي الرَّمْي والحلاق وَالطّواف. وَالثَّانِي يحصل بالثالث إِذا قُلْنَا إِن الحلاق نسك وَهُوَ الصَّحِيح، وَإِن قُلْنَا لَيْسَ بنسك حصل التَّحَلُّل الأول بِوَاحِد من اثْنَيْنِ: الرَّمْي وَالطّواف، وَحصل الثَّانِي بِالْآخرِ. فَإِذا تحلل الْحل الأول أُبِيح لَهُ جَمِيع الْمَحْظُورَات إِلَّا الْجِمَاع فِي الْفرج، وَهُوَ ظَاهر كَلَام أَحْمد. وَظَاهر كَلَام أَصْحَابنَا أَنه لَا يُبَاح لَهُ جملَة الِاسْتِمْتَاع ودواعيه. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يُبَاح الْجِمَاع فِي الْفرج، وَفِي دواعيه قَولَانِ. [15] وَقد بَينا آنِفا أَن أول الْأَشْيَاء الرَّمْي، ثمَّ الذّبْح، ثمَّ الْحلق، ثمَّ(2/351)
الطّواف. فَيحمل كَلَام ابْن عَبَّاس على التَّحَلُّل الأول، فَإِنَّهُ بعد الطّواف، أَو على من رمى وَحلق ثمَّ طَاف.
859 - / 1029 - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالْخمسين: " عمْرَة فِي رَمَضَان تقضي حجَّة، أَو حجَّة معي ". [15] الْمَعْنى: تفي بهَا وَتقوم مقَامهَا. وَفِي لفظ: " تعدل حجَّة " وَقد بَينا أَن ثَوَاب الْأَعْمَال يزِيد بِزِيَادَة شرف الْوَقْت، أَو خلوص الْقَصْد، أَو حُضُور قلب الْعَامِل. وَقد ذكرنَا عَن الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ: تَسْبِيحَة فِي رَمَضَان خير من سبعين فِي غَيره.
860 - / 1030 - وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالْخمسين: " لَو أَن لِابْنِ آدم مثل وَاد مَالا لأحب أَن لَهُ إِلَيْهِ مثله ". قد سبق بَيَان هَذَا، وَذكرنَا أَن أحب الْأَشْيَاء إِلَى الْآدَمِيّ نَفسه، وَقد جعل المَال قواما لَهَا، فَهُوَ يحب الازدياد من سَبَب بَقَائِهَا.
861 - / 1031 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالْخمسين: قَالَ عَطاء: خرجنَا مَعَ ابْن عَبَّاس فِي جَنَازَة مَيْمُونَة بسرف فَقَالَ: هَذِه زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِذا رفعتم نعشها فَلَا تزعزعوا وَلَا تزلزلوا. [15] كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد تزوج مَيْمُونَة بِهَذَا الْموضع الَّذِي اسْمه سرف، وَقضى الله سُبْحَانَهُ أَنَّهَا مَاتَت ودفنت هُنَاكَ.(2/352)
[15] والزعزعة: التحريك بِشدَّة وعنف. وَيُقَال للسير إِذا جد: هَذَا سير زعزع، وَكَذَلِكَ الزلزلة: اضْطِرَاب شَدِيد بحركة قَوِيَّة. [15] وَقَوله: كَانَ عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تسع نسْوَة. إِشَارَة إِلَى اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُن. وَهن: عَائِشَة وَحَفْصَة وَسَوْدَة وَأم سَلمَة ومَيْمُونَة وَزَيْنَب بنت جحش وَجُوَيْرِية وَصفِيَّة. [15] وَقَوله: كَانَ لَا يقسم لوَاحِدَة. فِي هَذَا الحَدِيث عَن عَطاء أَنه قَالَ: بلغنَا أَنَّهَا صَفِيَّة. وَقَالَ غَيره: إِنَّمَا هِيَ سَوْدَة؛ لِأَنَّهَا وهبت يَوْمهَا لعَائِشَة.
862 - / 1032 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالْخمسين: قَالَ ابْن عَبَّاس: لَيْسَ التحصيب بشي، إِنَّمَا هُوَ منزل نزله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. [15] التحصيب: نزُول المحصب، وَهُوَ الشّعب الَّذِي يخرج مِنْهُ إِلَى الأبطح فِي طَرِيق منى. وكل مَوضِع جعلت فِيهِ الْحَصْبَاء - وَهِي صغَار الْحِجَارَة - فَهُوَ محصب. وَأَرَادَ: النُّزُول فِيهِ لَيْسَ بنسك من مَنَاسِك الْحَج، وَإِنَّمَا نزل فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتِّفَاقًا غير قصد.
863 - / 1033 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالْخمسين: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خرج من الْبَيْت ركع رَكْعَتَيْنِ فِي قبل الْكَعْبَة وَقَالَ: " هَذِه الْقبْلَة ". [15] قَوْله: فِي قبل: أَي فِي مقابلتها ومواجهتها. [15] وَقَوله: " هَذِه الْقبْلَة " فِي الْإِشَارَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا إِلَى الْكَعْبَة. ثمَّ فِي الْمَعْنى قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه تَقْرِير لحكم الِانْتِقَال عَن(2/353)
بَيت الْمُقَدّس، وَالثَّانِي: الْإِشَارَة إِلَى وَجه الْبَيْت فِي حق حاضره، بِخِلَاف الْغَائِب فَإِنَّهُ يجْتَهد. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْإِشَارَة إِلَى وَجه الْكَعْبَة، فَيكون التَّعَلُّم للْإِمَام أَن يسْتَقْبل الْبَيْت من وَجهه وَإِن كَانَت الصَّلَاة إِلَى جَمِيع جهاته جَائِزَة.
864 - / 1034 - وَفِي الحَدِيث الثَّامِن وَالْخمسين: مكث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة ثَلَاث عشرَة، وَتُوفِّي وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ. [15] والمكث: الْإِقَامَة. وَهَذَا مِقْدَار مَا أَقَامَ بِمَكَّة بعد أَن أُوحِي إِلَيْهِ. [15] وَقَوله: وَتُوفِّي وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ. وَهُوَ الصَّحِيح فِي مِقْدَار عمره. وَقد رُوِيَ مثل هَذَا عَن مُعَاوِيَة وَأنس وَعَائِشَة. وَعَن أنس أَنه قَالَ: توفّي على رَأس سِتِّينَ. وَعَن ابْن عَبَّاس: أَنه توفّي وَهُوَ ابْن خمس وَسِتِّينَ. وكل هَذِه الْأَطْرَاف فِي الصَّحِيح. فَأَما خمس وَسِتُّونَ فَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه من أَفْرَاد مُسلم، والمتفق عَلَيْهِ عَن ابْن عَبَّاس مَا قدمنَا. وَالثَّانِي: أَنه إِشَارَة إِلَى مَا كَانَ يرى قبل النُّبُوَّة من النُّور وَيسمع من الصَّوْت. وَهَذَا مُبين فِي الحَدِيث. وَمن قَالَ سِتِّينَ قصد أعشار السّني، وَالْإِنْسَان قد يَقُول: عمري خَمْسُونَ سنة، وَلَعَلَّه قد زَاد عَلَيْهَا، لِأَن الزِّيَادَة لما لم تبلغ عشرا لم يذكرهَا. [15] وَأما قَول ابْن عَبَّاس: لبث بِمَكَّة عشرا يوحي إِلَيْهِ. فَلهُ وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنه ذكر العقد وَترك مَا زَاد عَلَيْهِ كَمَا بَينا. وَالثَّانِي: أَنه لما أُوحِي إِلَيْهِ استسر بِالنُّبُوَّةِ ثَلَاث سِنِين حَتَّى نزل عَلَيْهِ (فَاصْدَعْ بِمَا(2/354)
تُؤمر} [الْحجر: 94] . فَأَنْذر حِينَئِذٍ، فَحسب ابْن عَبَّاس مَا ظهر. [15] وَأما الْبضْع فَهُوَ الْقطعَة من الشَّيْء، وَالْعرب تسْتَعْمل ذَلِك فِي الْعدَد من الثَّلَاث. [15] وَفِي هَذَا الحَدِيث: قلت لعروة: ابْن عَبَّاس [يَقُول] : بضع عشرَة سنة، فغفره. أَي دَعَا لَهُ بالمغفرة، فَقَالَ: غفر الله لَهُ. والغفر: ستر الذَّنب بِالْعَفو عَنهُ.
865 - / 1035 - وَفِي الحَدِيث التَّاسِع وَالْخمسين: أَنه لما قدم الْمَدِينَة فَرَأى الْيَهُود يَصُومُونَ عَاشُورَاء فَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " قَالُوا: نجى الله فِيهِ مُوسَى فصامه. فَقَالَ: " أَنا أَحَق بمُوسَى مِنْكُم " فصامه وَأمر بصيامه. [15] اعْلَم أَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتبع طَرِيق الْأَنْبِيَاء فِيمَا لم يشرع لَهُ مثله أَو خِلَافه، لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {فبهداهم اقتده} [الْأَنْعَام: 90] فصَام عَاشُورَاء قبل فرض رَمَضَان، لِأَنَّهُ لما قدم الْمَدِينَة لم يكن عَلَيْهِ فرض رَمَضَان، وَإِنَّمَا قدم فِي ربيع الأول، فَأَقَامَ إِلَى أَن جَاءَ عَاشُورَاء، فَرَآهُمْ يصومونه فصامه. فَلَمَّا جَاءَ شعْبَان من السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة فرض رَمَضَان، فصامه وَترك عَاشُورَاء، فَبَان من هَذِه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَامَ تسع رمضانات.
866 - / 1036 - وَفِي الحَدِيث السِّتين: " إِنَّكُم ملاقوا الله حُفَاة عُرَاة غرلًا ".(2/355)
[15] الغرل: جمع أغرل: وَهُوَ الَّذِي لم يختتن. وَقَالَ أَبُو بكر الْأَنْبَارِي: أغرل وأرغل وأقلف وأغلف بِمَعْنى. وَقَالَ أَبُو هِلَال العسكري: لَا تلتقي الرَّاء مَعَ اللَّام فِي الْعَرَبيَّة إِلَّا أَربع كَلِمَات: أرل: وَهُوَ اسْم جبل وورل: وَهِي دَابَّة مَعْرُوفَة. وجرل: وَهُوَ ضرب من الْحِجَارَة. والغرلة: وَهِي الغلفة. [15] وَالْمرَاد أَنهم يعادون كَمَا خلقُوا، ويبقون على تِلْكَ الْحَال؛ لِأَن لَذَّة جماع الأقلف تزيد على لَذَّة جماع المختون. قَالَ ابْن عقيل: وَذَلِكَ أَن بشرة حَشَفَة الأقلف موقاة بالغلفة، فَتكون بَشرَتهَا أرق، وَمَوْضِع الجس كلما كَانَ أرق كَانَ الجس أصدق، كراحة الْكَفّ إِذا كَانَت مرفهة من الْأَعْمَال صلحت للجس، وَإِذا كَانَت يَد قصار أَو نجار خشنت فخفي فِيهَا الجس. قَالَ: فَلَمَّا أبانوا فِي الدُّنْيَا تِلْكَ الْبضْعَة لأَجله أَعَادَهَا ليذيقها من حلاوة فضلَة ونعيم جنته. والسر فِي الْخِتَان مَعَ كَون الغلفة معفوا عَمَّا تحتهَا من النَّجس أَنه سنة إِبْرَاهِيم، حَيْثُ بلي بالترويع بِذبح الْوَلَد، فَأحب أَن يَجْعَل لكل وَاحِد من مِلَّته ترويعا بِقطع عُضْو وإراقة دم وَلَده، ويبتلي أَوْلَادهم بِالصبرِ على إيلام الْآبَاء لَهُم، فَتكون هَذِه الْحَالة مظهرة للصبر وَالتَّسْلِيم من الْآبَاء وَالْأَوْلَاد، أُسْوَة بإبراهيم. [15] وَقَوله: " أول من يكسى إِبْرَاهِيم " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ كالعريان من النَّفس وَالْمَال وَالْولد، فَأسلم نَفسه إِلَى النيرَان، وَولده إِلَى القربان، وَمَاله للضيفان، فشرف بابتدائه بالكسوة. [15] وَقَوله: " لم يزَالُوا مرتدين " قد بَينا فِي مُسْند سهل بن سعد أَن(2/356)
الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى الْمُرْتَدين وَالْمُنَافِقِينَ. وَقد قَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ معنى الارتداد الرُّجُوع عَن الدّين، إِنَّمَا هُوَ التَّأَخُّر عَن بعض الْحُقُوق اللَّازِمَة، وَالتَّقْصِير فِيهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَه فِيهِ بعد من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن قَوْله: " مرتدين على أَعْقَابهم " يعْطى الْكفْر، كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمرَان: 144] أَي رجعتم إِلَى الْكفْر. وَالثَّانِي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي حَدِيث آخر: " فَأَقُول بعدا لَهُم وَسُحْقًا " وَلَا يَقُول هَذَا للْمُسلمين، لِأَن شَفَاعَته للمذنبين.
867 - / 1037 وَفِي الحَدِيث الْحَادِي وَالسِّتِّينَ: بَيْنَمَا رجل وَاقِف مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة، إِذْ وَقع من رَاحِلَته فأوقصته أَو فأقعصته. وَقَالَ بَعضهم: فوقصته. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " اغسلوه بِمَاء وَسدر، وكفنوه فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تحنطوه، وَلَا تخمروا رَأسه ". [15] الوقص بِسُكُون الْقَاف: كسر الْعُنُق، يُقَال: وقصت عُنُقه فَهِيَ موقوصة، ووقصت بفلان نَاقَته: أَي كسرت عُنُقه. قَالَ أَبُو عبيد: وَيُقَال للرجل إِذا كَانَ مائل الْعُنُق قصيرها: أوقص، وَمن هَذَا حَدِيث عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام: أَنه قضى فِي القارصة والقامصة والواقصة بِالدِّيَةِ أَثلَاثًا. وَتَفْسِيره: أَن ثَلَاث جوَار كن يلعبن، فركبت إِحْدَاهُنَّ صاحبتها فقرصت الثَّالِثَة المركوبة فقمصت، فَسَقَطت الراكبة، فوقصت عُنُقهَا، فَجعل عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام القارصة ثلث الدِّيَة،(2/357)
وعَلى القامصة الثُّلُث، وَأسْقط الثُّلُث لِأَنَّهُ حِصَّة الراكبة لِأَنَّهَا أعانت على نَفسهَا. [15] وَأما الإقعاص فَهُوَ الْقَتْل عَاجلا، يُقَال: ضربه فأقصعه: أَي قَتله مَكَانَهُ. وَقد روى بَعضهم فِي هَذَا الحَدِيث: فأقصعته بِتَقْدِيم الصَّاد، وَهُوَ غلط وَإِن كَانَ لَهُ وَجه على بعد، يُقَال: قصع الْبَعِير بجرته: إِذا هشمها بأضراسه وطحنها، وَالْمَحْفُوظ مَا سبق. [15] وَقَوله: " وَلَا تحنطوه " لِأَن فِي الحنوط طيبا. " وَلَا تخمروا رَأسه " أَي لاتغطوه. [15] والملبي من التَّلْبِيَة. والملبد من التلبيد. وَكَانَ الْمحرم يَجْعَل فِي رَأسه صمغا أَو عسلا ليجمع الشّعْر ويتلبد فَلَا يتخلله التُّرَاب، وَلَا يَقع فِيهِ الدبيب، وَلَا يُصِيبهُ الشعث. [15] وَالْمرَاد من الحَدِيث: أَن الْمحرم يبْعَث على شعث الْإِحْرَام. وَقد دلّ أَيْضا على أَن الْمَوْت لَا يقطع حكم الْإِحْرَام، وَأَنه إِذا مَاتَ الْمحرم لم يخمر رَأسه وَلم يقرب طيبا، وَهَذَا قَول أَحْمد وَالشَّافِعِيّ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك: يبطل إِحْرَامه وَيفْعل بِهِ مَا يفعل بِغَيْر الْمحرم إِذا مَاتَ. وَلَا خلاف أَنه لَا يُطَاف بِهِ، وَلَا تلْزمهُ الْفِدْيَة فِي مَاله إِذا لبس الْمخيط.
868 - / 1038 - وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسِّتِّينَ: قلت لِابْنِ عَبَّاس:(2/358)
أَلِمَنْ قتل مُؤمنا مُتَعَمدا من تَوْبَة؟ قَالَ: لَا. فتلوت عَلَيْهِ: {وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} إِلَى قَوْله: {إِلَّا من تَابَ} [الْفرْقَان: 68 - 69] فَقَالَ: هَذِه آيَة مَكِّيَّة نسختها آيَة مَدَنِيَّة. {وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} [النِّسَاء: 93] . [15] وَيصْلح أَن يُجَاب ابْن عَبَّاس عَن قَوْله هَذَا بِأَن هَذِه الْآيَة المدنية عَامَّة قد دَخلهَا التَّخْصِيص، فَإِنَّهُ لَو قَتله وَالْقَاتِل كَافِر ثمَّ أسلم انهدرت عَنهُ الْعقُوبَة فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة، فَإِذا كَانَت من الْعلم الْمَخْصُوص فَأَي دَلِيل صلح للتخصيص وَجب الْعَمَل بِهِ. وَمن أَسبَاب التَّخْصِيص أَن يكون قَتله مستحلا فيخلد لَا ستحلاله لِأَنَّهُ يكفر بذلك. وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّهَا إِنَّمَا نزلت فِي حق مُسلم ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام وَقتل مُسلما، وَقد أجَاب قوم بِجَوَاب آخر فَقَالُوا: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم إِن جازاه، وَلَيْسَ من ضَرُورَة الْوَعيد وُقُوعه. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله: {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} [النِّسَاء: 48] وَالْوَجْه مَا قُلْنَاهُ.
869 - / 739 وَفِي الحَدِيث الثَّالِث وَالسِّتِّينَ: قَالَ ابْن عَبَّاس: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} [الشُّعَرَاء: 214] صعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصَّفَا فَجعل يُنَادي. [15] الْعَشِيرَة: الرَّهْط الأدنون. والبطون: دون الْقَبِيلَة. [15] وَقَوله: " يَا بني فهر، يَا بني عدي " فهر هُوَ مَالك بن النَّضر، من(2/359)
أجداد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وعدي هُوَ ابْن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر. [15] وَقَوله: تَبًّا لَك: أَي هَلَاكًا. والتباب: الخسران. وَمعنى: {تبت يدا أبي لَهب} خسرت يَدَاهُ {وَتب} [المسد: 1] أَي خسر هُوَ. وَقَالَ الْفراء: الأول دُعَاء وَالثَّانِي خبر كَمَا تَقول للرجل: أهْلكك الله وَقد أهْلكك. وجعلك الله صَالحا وَقد جعلك. [15] وَأما تَخْصِيص ذَلِك بِالْيَدِ فعلى عَادَة الْعَرَب، فَإِنَّهُم يعبرون بِبَعْض الشَّيْء عَن جَمِيعه كَقَوْلِه: {ذَلِك بِمَا قدمت يداك} [الْحَج: 10] وَإِنَّمَا خصت الْيَد بِالذكر لِأَن الرِّبْح والخسران يكونَانِ بالمعاملة وَالْبيع، وَالْيَد هِيَ الآخذة المعطية. [15] فَأَما أَبُو لَهب فَهُوَ عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَلقَائِل أَن يَقُول: مَا السِّرّ فِي أَن الله تَعَالَى كناه وَفِي الكنية نوع تَعْظِيم؟ وَجَوَابه من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه قد قيل: إِن اسْمه عبد الْعُزَّى، فَكيف يذكرهُ الله تَعَالَى بِهَذَا الِاسْم وَفِيه معنى الشّرك. وَالثَّانِي: أَن كثيرا من النَّاس اشتهروا بكناهم وَلم تعرف أَسمَاؤُهُم. قَالَ ابْن قُتَيْبَة: خبرني غير وَاحِد عَن الْأَصْمَعِي أَن أَبَا عَمْرو بن الْعَلَاء وَأَبا سُفْيَان بن الْعَلَاء اسماهما كناهما، وَإِن كَانَ اسْم أبي لَهب كنيته فَإِنَّمَا ذكره بِمَا لَا يعرف إِلَّا بِهِ. [15] وَقَوله: {مَا أغْنى عَنهُ مَاله} أَي مَا يُغني. قَالَ ابْن مَسْعُود: قَالَ أَبُو لَهب: إِن كَانَ مَا يَقُول ابْن أخي حَقًا فَأَنا أفتدي بِمَالي وَوَلَدي. فَقَالَ الله عز وَجل: {مَا أغْنى عَنهُ مَاله وَمَا كسب} فَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: المُرَاد(2/360)
بِكَسْبِهِ وَلَده. [15] وَقَوله: يَا صَبَاحَاه. مُفَسّر فِي مُسْند سَلمَة بن الْأَكْوَع. [15] وَقَوله: {وجعلناكم شعوبا وقبائل} [الحجرات: 13] الشعوب. جمع شعب: وَهُوَ الْحَيّ الْعَظِيم مثل مُضر وَرَبِيعَة. والقبائل دونهَا كبكر من ربيعَة وَتَمِيم من مُضر.
870 - / 1040 وَفِي الحَدِيث الرَّابِع وَالسِّتِّينَ: أَن بُرَيْدَة بن الْحصيب قَالَ: " لَا رقية إِلَّا من عين أَو حمة ". [15] قَوْله: " من عين " أَي من إِصَابَة الْعين. وَقَوله: " أَو حمة " قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْحمة سم الْحَيَّات والعقارب وَمَا أشبههَا من ذَوَات السمُوم، والعامة تذْهب إِلَى أَن حمة الْعَقْرَب شَوْكهَا وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا الْحمة سمها، والشوكة هِيَ الإبرة. وَسَيَأْتِي فِي مَوَاضِع من المسانيد الرُّخْصَة فِي الرّقية. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيث عَوْف بن مَالك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: " لَا بَأْس بالرقى مَا لم يكن شرك ". والمسند من هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُفَسّر فِي مُسْند عمرَان بن حُصَيْن.(2/361)
871 - / 1041 - وَفِي الحَدِيث الْخَامِس وَالسِّتِّينَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعالج من التَّنْزِيل شدَّة، وَكَانَ مِمَّا يُحَرك بِهِ شَفَتَيْه، فَأنْزل الله {لَا تحرّك بِهِ لسَانك} [الْقِيَامَة: 16] تَفْسِير هَذَا أَنه كَانَ يُحَرك شَفَتَيْه بِمَا قد سَمعه من جِبْرِيل قبل إتْمَام جِبْرِيل الْوَحْي، مَخَافَة أَن يذهب عَنهُ جِبْرِيل وَمَا حفظ. فَقيل لَهُ: {لَا تحرّك بِهِ} أَي الْقُرْآن {لسَانك لتعجل بِهِ} أَي بِأَخْذِهِ {إِن علينا جمعه وقرآنه} أَي علينا جمعه وضمه فِي صدرك. {فَإِذا قرأناه} أَي إِذا فرغ جِبْرِيل من قِرَاءَته {فَاتبع قرآنه} قَالَ ابْن عَبَّاس: فاستمع وأنصت.
872 - / 1042 - وَفِي الحَدِيث السَّادِس وَالسِّتِّينَ: أَهْدَت خَالَتِي أم حفيد إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمنا وَأَقِطًا وأضبا. [15] أم حفيد أسلمت وبايعت وروت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَيَأْتِي اسْمهَا فِي هَذَا الحَدِيث حفيدة، وَكَذَلِكَ فِي مُسْند خَالِد بن الْوَلِيد، وَإِنَّمَا هِيَ أم حفيد بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، أُخْت أم الْفضل الَّتِي هِيَ أم ابْن عَبَّاس. [15] والأقط: شَيْء يصنع من اللَّبن فيجفف. [15] والأضب جمع ضَب. أخبرنَا موهوب بن أَحْمد وَمُحَمّد بن أبي مَنْصُور بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِمَا قَالَا: أخبرنَا الْمُبَارك بن عبد الْجَبَّار قَالَ: أَنبأَنَا الْعَزِيز بن عَليّ الْأَزجيّ قَالَ: أخبرنَا أَبُو طَاهِر مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن(2/362)
المخلص قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو مُحَمَّد عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن السكرِي قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي سعيد قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن عبد الله الطوسي عَن أبي عبيد قَالَ: قَالَ أَبُو زيد: الضَّب حِين يخرج من بيضته حسل، ثمَّ غيداق، ثمَّ مطبخ، ثمَّ يكون ضباً مدْركا. قَالَ أَبُو عبيد: وَقَالَ الْأَحْمَر: هُوَ حسل، ثمَّ مطبخ ثمَّ خضرم ثمَّ ضَب. قَالَ الطوسي: وَأَخْبرنِي الْأَسدي عَن أبي فصيح قَالَ: تَجِيء الضبة إِلَى الْمَكَان فتبيض عشْرين بَيْضَة تصفها صفا، ثمَّ تَدعه أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثمَّ تَأتي فِي الْوَقْت الَّذِي قد آن لَهُ أَن يخرج فتكشف عَنهُ فتأكله إِلَّا مَا أفلت مِنْهُ، فَلذَلِك قيل: " أعق من ضَب ". قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن أبي سعد: وحَدثني مُحَمَّد بن عبد الله بن يَعْقُوب قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو الْحسن اللحياني وَقَالَ: الضَّب أطول دَابَّة عمرا، تعيش ثَلَاثمِائَة سنة، يُقَال: " لَا آتِيك سنّ الحسل " لطول عمره. قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وحَدثني مُحَمَّد ابْن أبي بشر الدينَوَرِي قَالَ: أنشدنا الْعَبَّاس بن الْفرج:
(فَلَو كَانَ هَذَا الضَّب لَا ذَنْب لَهُ ... وَلَا كشية، مَا مَسّه الدَّهْر لَا مس)
(وَلكنه من أجل ذنيبه ... وكشيته دبت إِلَيْهِ الدهارس)
[15] الكشية: لحْمَة صفراء تملأ جَوف الضَّب. وأنشدوا:
(وَأَنت لَو ذقت الكشى بالأكباد ... )(2/363)
(لما تركت الضَّب يعدو بالواد ... )
[15] وَقد كَانَ جمَاعَة من الْعَرَب يحبونَ أكل الضَّب ويربونه. وَإِنَّمَا عافه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بَين من قَوْله: " إِنَّه لم يكن بِأَرْض قومِي فأجدني أعافه ". [15] وَقد نبه هَذَا الحَدِيث على ترك مَا تعافه النَّفس من المطاعم، وَاتِّبَاع مَا تميل إِلَيْهِ. وحكماء الْأَطِبَّاء يَقُولُونَ: مَا تميل النَّفس إِلَيْهِ أصلح مِمَّا لَا تميل إِلَيْهِ إِلَّا أَن يكون فِيهِ فرط رداءة، وَهَذَا لِأَن الله تَعَالَى جبل النَّفس على الْميل إِلَى مَا يصلحها والنفور عَمَّا يؤذيها. فلولا أَنه خلق فِيهَا شَهْوَة الْمطعم لما أكلت، ولكان ترك الْأكل سَببا للهلاك، لكنه جعل الشَّهْوَة باعثا ليحصل الْمَقْصُود من تنَاول الْغذَاء. وَقد يحْتَاج الْبدن إِلَى الحامض تَارَة فتشتهيه النَّفس، وَإِلَى الحلو، وَإِلَى فنون المطاعم، فَوضع تِلْكَ الشَّهْوَة لاخْتِلَاف النَّفْع، وَهَذَا الْقدر جَهله كثير من المتزهدين، فمنعوا النَّفس مِمَّا تؤثره، وَذَلِكَ سعي فِي إبِْطَال حَقّهَا، ورد لحْمَة الْوَاضِع، وسعي فِي تنقيص قوى النَّفس أَو تلفهَا. وَرُبمَا ظن بعض جهالهم أنني أحث بِهَذَا الْكَلَام على تنَاول الشَّهَوَات مُطلقًا، وَإِنَّمَا أُشير إِلَى أَخذ مِقْدَار الْحَاجة مِمَّا يصلح الْبدن لَا إِلَى الشره، فليفهم هَذَا. [15] والمحنوذ: المشوي، وَيُقَال لَهُ حنيذ، كَمَا يُقَال للمطبوخ طبيخ، وللمقتول قَتِيل، قَالَ الْفراء: هُوَ مَا حفرت الأَرْض ثمَّ غممته. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ المشوي بِالْحِجَارَةِ المحماة.(2/364)
[15] وَقَوله: " فأجدني أعافه " أَي أكرهه. يُقَال: عاف يعاف عيافا. وَقد بَين سَبَب كراهيته، وللعادة والمألوف أثر. [15] وَقَوله: دَعَانَا عروس. المُرَاد بالعروس الرجل المتزوج. قَرَأت على شَيخنَا أبي مَنْصُور قَالَ: تذْهب الْعَامَّة إِلَى أَن الْعَرُوس يَقع على الْمَرْأَة خَاصَّة دون الرجل، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل يُقَال: رجل عروس وَامْرَأَة عروس، وَلَا يسميان عروسين إِلَّا أَيَّام الْبناء، قَالَ الشَّاعِر:
( ... ... ... ... وَهَذَا عروسا بِالْيَمَامَةِ خَالِد)
[15] وَمن أمثالهم: " كَاد الْعَرُوس يكون أَمِيرا " وَيُقَال لَهما أَيْضا عرسان فِي كل وَقت، قَالَ الراجز:
(أَنْجَب عرس جمعا وعرس ... )
[15] وَقَوله: فَقرب إِلَيْهِم خوان: الخوان مَعْرُوف، يتْرك عَلَيْهِ الطَّعَام وَقت الْأكل. وَقيل لثعلب: أَيجوزُ أَن يُقَال: إِنَّمَا سمي خوانًا لِأَنَّهُ يتخون مَا عَلَيْهِ: أَي ينتقص؟ فَقَالَ: مَا يبعد.(2/365)
873 - / 1043 - وَفِي الحَدِيث السَّابِع وَالسِّتِّينَ: سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَوْلَاد الْمُشْركين فَقَالَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين إِذْ خلقهمْ ". [15] قَالَ ابْن قُتَيْبَة: الْمَعْنى: لَو أبقاهم. يُرِيد: فَلَا تحكموا عَلَيْهِم بِكفْر آبَائِهِم إِذا لم يبلغُوا فيكفروا، وَلَا تحكموا عَلَيْهِم بميثاق الْفطْرَة الَّتِي ولدُوا عَلَيْهَا، لأَنهم لم يبلغُوا فيؤمنوا. [15] قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَوْلَاد الْمُشْركين على خَمْسَة أَقْوَال: أَحدهَا: الْوَقْف فيهم، لِأَن طَرِيق إِثْبَات ذَلِك النَّص، وَلَا نَص، وَهَذَا اخْتِيَار أبي بكر الْأَثْرَم، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا ينزلون جنَّة وَلَا نَارا، وَيُقَال فيهم كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين " فاستدل بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور وَبِحَدِيث عَائِشَة قَالَت: مَاتَ صبي من الْأَنْصَار فَقلت: عُصْفُور من عصافير الْجنَّة، فَقَالَ النَّبِي: " أَو غير ذَلِك يَا عَائِشَة. إِن الله خلق الْجنَّة وَخلق لَهَا أَهلا، خلقهَا لَهُم وهم فِي أصلاب آبَائِهِم. وَخلق النَّار وَخلق لَهَا أَهلا، خلقهَا لَهُم وهم فِي أصلاب آبَائِهِم ". [15] وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنهم فِي النَّار. روى عبد الله بن الْحَارِث عَن خَدِيجَة أَنَّهَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أَوْلَادهَا من أزواجها فِي الْجَاهِلِيَّة. فَقَالَ: " فِي النَّار " فَقَالَت: بِغَيْر عمل؟ فَقَالَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين " وَسَأَلته عَن أَوْلَادهَا مِنْهُ، فَقَالَ: " فِي الْجنَّة " فَقَالَت: بِغَيْر عمل؟ فَقَالَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين ". وروى يحيى بن(2/366)