44 - (بَاب الْإِحْصَارِ)
[1862] قَالَ الْعَيْنِيُّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَصْرِ بِأَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ وَبِأَيِّ مَعْنًى فَقَالَ قوم يكون الحصر حال مِنْ مَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ وَكَسْرٍ وَذَهَابِ نَفَقَةٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَمْنَعُهُ عَنِ الْمُضِيِّ إِلَى الْبَيْتِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
وَرُوِيَ ذَلِكَ عن بن عباس وبن مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
وَقَالَ آخَرُونَ وَهُمُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لا يكون الإحصار إِلَّا بِالْعَدُوِّ فَقَطْ وَلَا يَكُونُ بِالْمَرَضِ
انْتَهَى
[1863] (مَنْ كُسِرَ) بِضَمِّ الْكَافِ وَكَسْرِ السِّينِ (أَوْ عَرَجَ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ أَيْ أَصَابَهُ شَيْءٌ فِي رِجْلِهِ وَلَيْسَ بِخِلْقَةٍ فَإِذَا كَانَ خِلْقَةً قِيلَ عَرِجَ بِكَسْرِ الرَّاءِ (مِنْ قَابِلٍ) أَيْ فِي السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ رَأَى الْإِحْصَارَ بِالْمَرَضِ وَالْعُذْرِ يَعْرِضُ لِلْمُحْرِمِ مِنْ غَيْرِ حَبْسِ الْعَدُوِّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَعُرْوَةَ وَالنَّخَعِيِّ
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ الْعَدُوِّ وروي ذلك عن بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَرُوِيَ مَعْنَاهُ أَيْضًا عن بن عُمَرَ (وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ) وَإِنَّمَا فِيمَنْ كَانَ حَجُّهُ عَنْ فَرْضٍ فَأَمَّا الْمُتَطَوِّعُ بِالْحَجِّ إِذَا حُصِرَ فَلَا شَيْءَ غَيْرَ هَذَا الْإِحْصَارِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَإِنْ صَحَّ حَدِيث الْحَجَّاج بْن عَمْرو فَقَدْ حَمَلَهُ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّهُ يُحِلّ بَعْد فَوَاته بِمَا يُحِلّ بِهِ مَنْ يَفُوتهُ الحج بغير مرض فقد روينا عن بن عَبَّاس ثَابِتًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَا حَصْر إِلَّا حَصْر عَدُوّ
تَمَّ كَلَامه(5/220)
وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ مِنْ قَابِلٍ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ
[1864] (أَبِي مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ) بَدَلٌ مِنْ لَفْظِ أَبِي (أَهْلُ الشَّامِ) يَعْنِي الْحُجَّاجَ (وَبَعَثَ) أَيْ أَرْسَلَ (مَكَانِي) الَّذِي كُنْتُ فِيهِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَمَّا مَنْ لَا يَرَى عَلَيْهِ الْقَضَاءَ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بَدَلُ الْهَدْيِ وَمَنْ أَوْجَبَهُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْبَدَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى هَدْيًا بَالِغَ الكعبة وَمَنْ نَحَرَ الْهَدْيَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ وَكَانَ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ فَإِنَّ هَدْيَهُ لَمْ يَبْلُغِ الْكَعْبَةَ فَلَزِمَهُ إِبْدَالُهُ وَإِبْلَاغُهُ الْكَعْبَةَ
وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِهَذَا الْقَوْلِ انْتَهَى
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَفِعْلُهُ إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ اسْتُحِبَّ الْإِبْدَالُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَمَا اسْتُحِبَّ الْإِتْيَانُ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَضَاءُ مَا أُحْصِرَ عَنْهُ واجبا بالتحلل انتهى (عام الحديبية) قال بن الْقَيِّمِ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ سَنَةَ سِتٍّ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ فَنَحَرَ الْبُدْنَ حَيْثُ صُدَّ بالحديبية وحلق هو وأصحابه رؤوسهم وَحَلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ وَرَجَعَ مِنْ عَامِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَيُقَالُ لَهَا عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ دَخَلَهَا فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ إِكْمَالِ عُمْرَتِهِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَالَ غَيْره مَعْنَى حَدِيث الْحَجَّاج بْن عَمْرو أَنَّ تَحَلُّله بِالْكَسْرِ وَالْعَرَج إِذَا كَانَ قَدْ اِشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي عَقْد الْإِحْرَام عَلَى مَعْنَى حَدِيث ضُبَاعَة
قَالُوا وَلَوْ كَانَ الْكَسْر مُبِيحًا لِلْحِلِّ لَمْ يَكُنْ لِلِاشْتِرَاطِ مَعْنًى(5/221)
واختلف هل كانت قضاء العمرة الَّتِي صُدَّ عَنْهَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي عُمْرَةً مُسْتَأْنَفَةً عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا قَضَاءٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالثَّانِي لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالَّذِينَ قَالُوا كَانَتْ قَضَاءً احْتَجُّوا بِأَنَّهَا سُمِّيَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَهَذَا الِاسْمُ تَابِعٌ لِلْحُكْمِ
وَقَالَ آخَرُونَ الْقَضَاءُ هُنَا مِنَ الْمُقَاضَاةِ لِأَنَّهُ قَاضَى أَهْلَ مَكَّةَ عَلَيْهَا لَا أَنَّهُ مِنْ قَضَى يَقْضِي قَضَاءً قَالُوا وَلِهَذَا سُمِّيَتْ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ قَالُوا وَالَّذِينَ صُدُّوا عَنِ الْبَيْتِ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَعَهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَلَوْ كَانَ قَضَاءً لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ
وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِالْقَضَاءِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَالْحَدِيثُ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالُوا وَأَيْضًا فَلَا يَقُول أَحَد بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث فَإِنَّهُ لَا يُحِلّ بِمُجَرَّدِ الْكَسْر وَالْعَرَج فَلَا بُدّ مِنْ تَأْوِيله فَيَحْمِلهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ
قَالُوا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَفِيد بِالْحِلِّ زَوَال عَقْده وَلَا الِانْتِقَال مِنْ حَاله بِخِلَافِ الْمُحْصَر بِالْعَدُوِّ
وَقَوْله وَعَلَيْهِ الْحَجّ مِنْ قَابِل هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَجَّ الْفَرْض فَأَمَّا إِنْ كَانَ مُتَطَوِّعًا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ غَيْر هَدْي الْإِحْصَار
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَحَدِيث الْحَجَّاج بْن عَمْرو قَدْ اُخْتُلِفَ فِي إِسْنَاده وَالثَّابِت عَنْ بن عَبَّاس خِلَافه وَأَنَّهُ لَا حَصْر إِلَّا حَصْر الْعَدُوّ تَمَّ كَلَامه
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين بن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة فَمَنْ بَعْدهمْ فِيمَنْ مُنِعَ مِنْ الْوُصُول إِلَى البيت بمرض أو كسر أو عرج هل حكمه حكم المحصر في جواز التحلل فروي عن بن عباس وبن عمر ومروان بن الحكم أنه لا يحلله إلا الطواف بالبيت وهو قوله مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في المشهور من مذهبه
وروى عن بن مسعود أنه كالمحصر بالعدو
وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وإبراهيم النخعي وأبي ثور وأحمد في الرواية الأخرى عنه
ومن حجة هؤلاء حديث الحجاج وأبي هريرة وبن عباس
قالوا وهو حديث حسن يحتج بمثله(5/222)
أو عرج هل حكمه حكم المحصر في جواز التحلل فروي عن بن عباس وبن عمر ومروان بن الحكم أنه لا يحلله إلا الطواف بالبيت وهو قوله مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في المشهور من مذهبه وروى عن بن مسعود أنه كالمحصر بالعدو وهو قول عطاء والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وإبراهيم النخعي وأبي ثور وأحمد في الرواية الأخرى عنه ومن حجة هؤلاء حديث الحجاج وأبي هريرة وبن عباس قالوا وهو حديث حسن يحتج بمثله قالوا وأيضا ظاهر القرآن بل صريحه يدل على أن الحصر يكره بالمرض فإن لفظ الإحصار إنما هو للمرض يقال أحصره المرض وحصر العدو فيكون لفظ الآية صريحا في المريض وحصر العدو ملحق به فكيف يثبت الحكم في الفرع دون الأصل قال الخليل وغيره حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته وأحصر هو عن بلوغ المناسك بمرض أو نحوه قالوا وعلى هذا خرج قول بن عباس لا حصر إلا حصر العدو ولم يقل لا إحصار إلا إحصار العدو فليس بين رأيه وروايته تعارض ولو قدر تعارضهما فالأخذ بروايته دون رأيه لأن روايته حجة ورأيه ليس بحجة قالوا وقولكم لو كان يحل بالحصر لم يكن للاشتراط معنى جوابه من وجهين أحدهما أنكم لا تقولون بالاشتراط ولا يفيد الشرط عندكم شيئا فلا يحل عندكم بشرط ولا بدونه فالحديثان معا حجة عليكم وأما نحن فعندنا أنه يستفيد بالشرط فائدتين إحداهما جواز الإحلال والثانية سقوط الدم فإذا لم يكن شرط استفاد بالعذر الإحلال وحده وثبت وجوب الدم عليه فتأثير الاشتراط في سقوط الدم وأما قولكم إن معناه أنه يحل بعد فواته بما يحل به من يفوته الحج لغير مرض ففي غاية الضعف فإنه لا تأثير للكسر ولا للعرج في ذلك فإن المفوت يحل صحيحا كان أو مريضا وأيضا فإن هذا يتضمن تعليق الحكم بوصف لم يعتبره النص وإلغاء الوصف الذي اعتبره وَهَذَا الِاسْمُ تَابِعٌ لِلْحُكْمِ
وَقَالَ آخَرُونَ الْقَضَاءُ هُنَا مِنَ الْمُقَاضَاةِ لِأَنَّهُ قَاضَى أَهْلَ مَكَّةَ عليها لا أنه يحمل على الحل بالشرط فالشرط إنما أن يكون له تأثير في الحل
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قالوا وأيضا ظاهر القرآن بل صريحه يدل على أن الحصر يكره بالمرض فإن لفظ الإحصار إنما هو للمرض يقال أحصره المرض وحصر العدو فيكون لفظ الآية صريحا في المريض وحصر العدو ملحق به فكيف يثبت الحكم في الفرع دون الأصل قال الخليل وغيره حصرت الرجل حصرا منعته وحبسته وأحصر هو عن بلوغ المناسك بمرض أو نحوه
قالوا وعلى هذا خرج قول بن عباس لا حصر إلا حصر العدو ولم يقل لا إحصار إلا إحصار العدو فليس بين رأيه وروايته تعارض ولو قدر تعارضهما فالأخذ بروايته دون رأيه لأن روايته حجة ورأيه ليس بحجة
قالوا وقولكم لو كان يحل بالحصر لم يكن للاشتراط معنى جوابه من وجهين أحدهما أنكم لا تقولون بالاشتراط ولا يفيد الشرط عندكم شيئا
فلا يحل عندكم بشرط ولا بدونه فالحديثان معا حجة عليكم وأما نحن فعندنا أنه يستفيد بالشرط فائدتين
إحداهما جواز الإحلال والثانية سقوط الدم فإذا لم يكن شرط استفاد بالعذر الإحلال وحده وثبت وجوب الدم عليه فتأثير الاشتراط في سقوط الدم
وأما قولكم إن معناه أَنَّهُ يُحِلّ بَعْد فَوَاته بِمَا يُحِلّ بِهِ من يفوته الحج لغير مرض ففي غاية الضعف فإنه لا تأثير للكسر ولا للعرج في ذلك فإن المفوت يحل صحيحا كان أو مريضا
وأيضا فإن هذا يتضمن تعليق الحكم بوصف لم يعتبره النص وإلغاء الوصف الذي اعتبره وهذا غير جائز
وأما قولكم إنه يحمل على الحل بالشرط فالشرط إما أن يكون له تأثير في الحل عِنْدكُمْ أَوْ لَا تَأْثِير لَهُ فَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا فِي الْحِلّ لَمْ يَكُنْ الْكَسْر وَالْعَرَج هُوَ السَّبَب الَّذِي عُلِّقَ الْحُكْم بِهِ وَهُوَ خِلَاف النَّصّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِير فِي الْحِلّ بَطَلَ حَمْل الْحَدِيث عَلَيْهِ
قَالُوا وَأَمَّا قَوْلكُمْ إِنَّهُ لَا يَقُول أَحَد بِظَاهِرِهِ فَإِنَّ ظَاهِره إِنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْكَسْر وَالْعَرَج يَحِلّ
فَجَوَابه أَنَّ الْمَعْنَى فَقَدْ صَارَ مِمَّنْ يَجُوز لَهُ الْحِلّ بَعْد أَنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْل مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَار مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِم وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ أَنَّهُ أَفْطَرَ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يُبَاشِر الْمُفَطِّرَات بِدَلِيلِ إِذْنه لِأَصْحَابِهِ فِي الْوِصَال إِلَى السَّحَر وَلَوْ أَفْطَرُوا حُكْمًا لَاسْتَحَالَ مِنْهُمْ الْوِصَال وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْد حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره} فَإِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا آخَر حَلَّتْ لَا بِمُجَرَّدِ نِكَاح الثَّانِي بَلْ لَا بُدّ مِنْ مُفَارَقَته وَانْقِضَاء الْعِدَّة وَعَقْد الْأَوَّل عَلَيْهَا
قَالُوا وَأَمَّا قَوْلكُمْ إِنَّهُ لَا يَسْتَفِيد بِالْإِحْلَالِ الِانْتِقَال مِنْ حَاله الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا وَلَا التَّخَلُّص مِنْ أَذَاهُ بِخِلَافِ مَنْ حَصَرَهُ الْعَدُوّ فَكَلَام لَا مَعْنَى تَحْته فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَفِيد بِحِلِّهِ أَكْثَر مِمَّا يَسْتَفِيد المحصر بالعدو(5/223)
45 - (بَاب دُخُولِ مَكَّةَ)
[1865] (بَاتَ) أَيْ نَزَلَ فِي اللَّيْلِ لَيْلَةَ قُدُومِهِ (بِذِي طَوًى) بِفَتْحِ الطَّاءِ وضمها وكسرها والفتح أفصح وأشهر مَوْضِعٍ بِمَكَّةَ دَاخِلَ الْحَرَمِ وَقِيلَ اسْمُ بِئْرٍ عِنْدَ مَكَّةَ فِي طَرِيقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
قَالَ النووي والحديث فيه فوائد منها الاغتسال للدخول مَكَّةَ وَأَنَّهُ يَكُونُ بِذِي طَوًى لِمَنْ كَانَ فِي طَرِيقِهِ وَبِقَدْرِ بُعْدِهَا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقِهِ وَهَذَا الْغُسْلُ سُنَّةٌ وَمِنْهَا الْمَبِيتُ بذي طوى وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِمَنْ هِيَ عَلَى طَرِيقِهِ وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِقُرْبِ مَكَّةَ وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا مُحْرِمًا بِعُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ لَيْلًا فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ
[1866] (مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا) الَّتِي يُنْزَلُ مِنْهَا إِلَى الْمُعَلَّى مَقْبَرَةِ أَهْلِ مَكَّةَ يُقَالُ لَهَا كَدَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ
وَالثَّنِيَّةُ بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ كُلُّ عَقَبَةٍ فِي جَبَلٍ أَوْ طَرِيقٍ عَالٍ فِيهِ تُسَمَّى ثَنِيَّةٌ (مِنْ ثَنِيَّةِ الْبَطْحَاءِ) الْأَبْطَحُ كُلُّ مَكَانٍ مُتَّسِعٍ وَالْأَبْطَحُ بِمَكَّةَ هُوَ الْمُحَصَّبُ (وَيَخْرُجُ مِنَ الثنية السفلى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فَإِنَّهُ إِذَا بَقِيَ مَمْنُوعًا مِنْ اللِّبَاس وَتَغْطِيَة الرَّأْس وَالطِّيب مَعَ مَرَضه تَضَرَّرَ بِذَلِكَ أَعْظَم الضَّرَر فِي الْحَرّ وَالْبَرْد وَمَعْلُوم أَنَّهُ قَدْ يَسْتَفِيد بِحِلِّهِ مِنْ التَّرَفُّه مَا يَكُون سَبَب زَوَال أَذَاهُ كَمَا يَسْتَفِيد الْمُحْصَر بِالْعَدُوِّ بِحِلِّهِ فَلَا فَرْق بَيْنهمَا فَلَوْ لَمْ يَأْتِ نَصّ بِحِلِّ الْمُحْصَر بِمَرَضٍ لَكَانَ الْقِيَاس عَلَى الْمُحْصَر بِالْعَدُوِّ يَقْتَضِيه فَكَيْفَ وَظَاهِر الْقُرْآن وَالسُّنَّة وَالْقِيَاس يَدُلّ عَلَيْهِ وَاَللَّه أَعْلَم(5/224)
وَهِيَ الَّتِي أَسْفَلُ مَكَّةَ عِنْدَ بَابِ شُبَيْكَةَ يُقَالُ لَهَا كُدًى بِضَمِّ الْكَافِ مَقْصُورٌ بِقُرْبِ شعب الشاميين وشعب بن الزبير عند قعيقعان
وقال بن الْمَوَّازِ كُدًى الَّتِي دَخَلَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الْعَقَبَةُ الصُّغْرَى الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ الَّتِي يُهْبَطُ مِنْهَا عَلَى الْأَبْطَحِ وَالْمَقْبَرَةُ مِنْهَا عَلَى يَسَارِكَ وَكُدًى الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا هِيَ الْعَقَبَةُ الْوُسْطَى الَّتِي بِأَسْفَلِ مَكَّةَ وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى (زَادَ الْبَرْمَكِيُّ يَعْنِي ثَنِيَّتَيْ مَكَّةَ) وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى قَالَ المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وبن مَاجَهْ
[1867] (مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ) هِيَ شَجَرَةٌ كَانَتْ بذي الحليفة
قاله السندي
وفي عمدة القارىء قَالَ الْمُنْذِرِيُّ هِيَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَ الْبَكْرِيِّ هِيَ مِنَ الْبَقِيعِ وَقَالَ عِيَاضٌ هُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ عَلَى طَرِيقِ مَنْ أَرَادَ الذَّهَابَ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْهَا إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ فَيَبِيتُ بِهَا وَإِذَا رَجَعَ بَاتَ بِهَا أَيْضًا
(مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ) بِلَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنَ التَّعْرِيسِ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ
قَالَ الْحَافِظُ وَكُلٌّ مِنَ الشَّجَرَةِ وَالْمُعَرَّسِ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ لَكِنِ الْمُعَرَّسُ أَقْرَبُ انْتَهَى
وَالْمَعْنَى كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ الَّتِي عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَيَدْخُلُ الْمَدِينَةَ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ وَهُوَ أَسْفَلُ مِنْ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ قال بن بَطَّالٍ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُ فِي الْعِيدِ يَذْهَبُ مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعُ مِنْ أُخْرَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ
[1868] (عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءَ) أَيْ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدِّ مُنَوَّنًا الثَّنِيَّةُ الْعُلْيَا مِمَّا يَلِي الْمَقَابِرَ (وَيَدْخُلُ فِي العمرة من كدى) بالضم القصر وَالصَّرْفِ الثَّنِيَّةُ السُّفْلَى مِمَّا يَلِي بَابَ الْعُمْرَةِ قَالَهُ السِّنْدِيُّ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَفِي رِوَايَةٍ وَخَرَجَ مِنْ(5/225)
كُدًى
قَالَ عِيَاضٌ وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا اخْتَلَفَا فِي ضبط كداء وكدا فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ الْعُلْيَا بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ وَالسُّفْلَى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ (يَدْخُلُ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ كَدَاءَ وَكُدًى مَرَّةً مِنْ ذَاكَ وَأُخْرَى مِنْ هَذَا وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ هِشَامٌ وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ الْحَدِيثَ (وَكَانَ) كُدًى (أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ) أَيْ عُرْوَةَ
فِيهِ اعْتِذَارُ هِشَامٍ لِأَبِيهِ لِكَوْنِهِ رَوَى الْحَدِيثَ وَخَالَفَهُ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَتْمٍ لَازِمٍ وَكَانَ رُبَّمَا فَعَلَهُ وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ غَيْرَهُ بِقَصْدِ التَّيْسِيرِ قَالَهُ الْحَافِظُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
[1869] (دَخَلَ مِنْ أَعْلَاهَا) هُوَ ثَنِيَّةُ كَدَاءَ بِفَتْحِ الْكَافِ (وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا) هُوَ ثَنِيَّةُ كُدًى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ
وَالْحَدِيثُ فِيهِ اسْتِحْبَابُ الدُّخُولِ إِلَى مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَالْخُرُوجِ مِنَ السُّفْلَى سَوَاءٌ فِيهِ الْحَجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَمَنْ دَخَلَهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْخُرُوجِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ لِلْخَارِجِ مِنْهَا سَوَاءً خَرَجَ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ انتهى
قال بن تَيْمِيَةَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الثَّنِيَّةَ الْعُلْيَا الَّتِي تُشْرِفُ عَلَى الْأَبْطَحِ وَالْمَقَابِرِ إِذَا دَخَلَ مِنْهَا الْإِنْسَانُ فَإِنَّهُ يَأْتِي مِنْ وِجْهةِ الْبَلَدِ وَالْكَعْبَةِ وَيَسْتَقْبِلُهَا اسْتِقْبَالًا مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ بِخِلَافِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنَ النَّاحِيَةِ السُّفْلَى لِأَنَّهُ يَسْتَدْبِرُ الْبَلَدَ وَالْكَعْبَةَ مُسْتَحَبٌّ أَنْ يكون ما يليه منها مؤخرا لئلا يستدير
6 - (باب في رفع اليد إِذَا رَأَى الْبَيْتَ)
[1870] (عَنِ الرَّجُلِ) الَّذِي يَرَى الْبَيْتَ (يَرْفَعُ يَدَيْهِ) أَيْ هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا (يَفْعَلُ هَذَا) أَيْ يَرْفَعُ الْيَدَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّعَاءِ (إِلَّا الْيَهُودَ) أَيْ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
قُلْتُ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّ الْمُثْبِتِينَ بِالرَّفْعِ أَوْلَى لِأَنَّ مَعَهُمْ زِيَادَةَ عِلْمٍ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ البيهقي رواية غير جابر في(5/226)
إثبات للرفع أَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْقَوْلُ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُحْمَلَ الْإِثْبَاتُ عَلَى أَوَّلِ رُؤْيَةٍ وَالنَّفْيُ عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَكَانَ مِمَّنْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذا رأى البيت سفيان الثوري وبن الْمُبَارَكُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فَضَعَّفَ هَؤُلَاءِ حَدِيثَ جَابِرٍ لِأَنَّ الْمُهَاجِرَ رَاوِيَهُ عندهم مجهول وذهبوا إلى حديث بْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ افْتِتَاحِ الصلاة واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة والموقفين والجمرتين
وروي عن بن عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ البيت
وعن بن عباس مثل ذلك انتهى
وقال بن الْهُمَامِ أَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ سَمِعْتُ مِنْ عُمَرَ كَلِمَةً مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ سَمِعَهَا غَيْرِي سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ قَالَ اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ فَحَيِّنَا بِالسَّلَامِ
وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ عَنِ بن جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً الْحَدِيثَ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ
وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ سفيان الثوري وبن الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ ضَعَّفُوا حَدِيثَ جَابِرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1871] (خَلْفَ الْمَقَامِ) أَيْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ وَهَذَا الْحَدِيثُ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ
[1872] (أَقْبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي تَوَجَّهَ مِنَ الْمَدِينَةِ (إِلَى الْحَجَرِ) أَيِ الْأَسْوَدِ (فَاسْتَلَمَهُ) أَيْ بِاللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ (ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ) سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ (ثُمَّ أَتَى الصَّفَا) بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ (فَعَلَاهُ) أَيْ صَعِدَهُ (حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى البيت) وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ وَأَنَّهُ فَعَلَ فِي الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ وَهَذَا فِي الصَّفَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الزَّمَنِ وَأَمَّا الْآنَ فَالْبَيْتُ يُرَى مِنْ بَابِ الصَّفَا قَبْلَ رُقِيِّهِ لِمَا حَدَثَ مِنِ ارْتِفَاعِ الْأَرْضِ ثَمَّةَ حَتَّى انْدَفَنَ كَثِيرٌ مِنْ دَرَجِ الصَّفَا وَقِيلَ بِوُجُوبِ الرُّقِيِّ مُطْلَقًا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (فَرَفَعَ يَدَيْهِ) هَذَا مَوْضِعُ التَّرْجَمَةِ لَكِنْ يُقَالُ إِنَّ هَذَا الرَّفْعَ لِلدُّعَاءِ عَلَى الصَّفَا لا لرؤية(5/227)
الْبَيْتِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْعَوَامُّ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ مَعَ التكبير على هيئة رفعهما في الصلاة فَلَا أَصْلَ لَهُ (أَنْ يَذْكُرَهُ) أَيْ مِنَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّوْحِيدِ (وَيَدْعُوَهُ) أَيْ بِمَا شَاءَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أن لا تعيين في دعوات المناسك لأنه يورث خشوع الناسك
وقال بن الْهُمَامِ لِأَنَّ تَوْقِيتَهَا يَذْهَبُ بِالرِّقَّةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَمَنْ يُكَرِّرُ مَحْفُوظَهُ وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَأْثُورِ فَحَسَنٌ (وَالْأَنْصَارُ تَحْتَهُ) كَذَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ الْأَنْصَارُ بِالرَّاءِ وَكَذَا قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالْأَنْصَابُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بِمَعْنَى الْأَحْجَارِ الْمَنْصُوبَةِ لِلصُّعُودِ إِلَى الصَّفَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي الْفَتْحِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَنْصَارِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ اسْتِلَامُ الحجر افْتِعَالٌ مِنَ السَّلَامِ وَهُوَ التَّحِيَّةُ وَكَذَا أَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ الْمُحَيَّا مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يُحَيُّونَهُ
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ هُوَ افْتِعَالٌ مِنَ السَّلَامِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ وَاحِدَتُهَا سَلِمَةٌ بِكَسْرِ اللَّامِ يُقَالُ اسْتَلَمْتُ الْحَجَرَ إِذَا لَمَسْتُهُ كَمَا يُقَالُ اكْتَحَلْتُ مِنَ الْكُحْلِ
وَقَالَ غَيْرُهُ الِاسْتِلَامُ أَنْ يُحَيِّيَ نَفْسَهُ عَنِ الْحَجَرِ بِالسَّلَامِ لِأَنَّ الْحَجَرَ لَا يُحَيِّيهِ كَمَا يُقَالُ اخْتَدَمَ إِذَا لَمْ يكن له خادم فخدم نفسه
وقال بن الْأَعْرَابِيِّ هُوَ مَهْمُوزُ الْأَصْلِ تُرِكَ هَمْزُهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّلَامِ وَهِيَ الْحَجَرُ كَمَا يُقَالُ اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ وَبَعْضُهُمْ يَهْمِزُهُ انْتَهَى
7 - (بَاب فِي تَقْبِيلِ الْحَجَرِ)
[1873] (جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ فَقَبَّلَهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ مُتَابَعَةَ السُّنَنِ وَاجِبَةٌ وَلَمْ يُوقَفْ (يَقِفْ) لَهَا عَلَى عِلَلٍ مَعْلُومَةٍ وَأَسْبَابٍ مَعْقُولَةٍ وَأَنَّ أَعْيَانَهَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ وَإِنْ لَمْ يَفْقَهْ مَعَانِيَهَا إِلَّا أَنَّ معلوما في الجملة أن تقبيله الحجر إِنَّمَا هُوَ إِكْرَامٌ لَهُ وَإِعْظَامٌ لِحَقِّهِ وَتَبَرُّكٌ بِهِ وَقَدْ فُضِّلَ بَعْضُ الْأَحْجَارِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا فُضِّلَ بَعْضُ الْبِقَاعِ وَالْبُلْدَانِ وَكَمَا فُضِّلَ بَعْضُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ(5/228)
وَالشُّهُورِ وَبَابُ هَذَا كُلِّهِ التَّسْلِيمُ وَهُوَ أَمْرٌ شَائِعٌ فِي الْعُقُولِ جَائِزٌ فِيهَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَلَا مُسْتَنْكَرٍ
وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْحَجَرَ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ
وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ صَافَحَهُ فِي الْأَرْضِ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَهْدٌ فَكَانَ كَالْعَهْدِ يَعْقِدُهُ الْمَمْلُوكُ بِالْمُصَافَحَةِ لِمَنْ يُرِيدُ مِنَ الْأُمَّةِ وَالِاخْتِصَاصِ بِهِ وَكَمَا يُصَفَّقُ عَلَى أَيْدِي الْمُلُوكِ لِلْبَيْعَةِ وَكَذَلِكَ تَقْبِيلُ الْيَدِ مِنَ الْخَدَمِ لِلسَّادَةِ وَالْكُبَرَاءِ فَهَذَا كَالتَّمْثِيلِ بِذَلِكَ وَالتَّشْبِيهِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وبن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ عَنْ عُمَرَ وَعَابِسٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ مَكْسُورَةٌ وَسِينٌ مُهْمَلَةٌ
8 - (بَاب اسْتِلَامِ الْأَرْكَانِ)
[1874] (يَمْسَحُ مِنَ الْبَيْتِ) أَيْ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ مِنْ أَجْزَائِهِ (إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الْأُولَى وَقَدْ يُشَدَّدُ وَالْمُرَادُ بِهِمَا الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ وَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ تَغْلِيبًا وَالرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ أَحَدُهُمَا شَامِيٌّ وَثَانِيهِمَا عِرَاقِيٌّ وَيُقَالُ لَهُمَا الشَّامِيَّانِ تَغْلِيبًا
وَرُكْنُ الْبَيْتِ جَانِبُهُ وَلِلرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ فَضِيلَةٌ بِاعْتِبَارِ بَقَائِهِمَا عَلَى بِنَاءِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلِذَلِكَ خَصَّهُمَا بِالِاسْتِلَامِ وَالرُّكْنُ الْأَسْوَدُ أَفْضَلُ لكون الحجر الأسود فِيهِ وَلِهَذَا يُقَبَّلُ وَيُكْتَفَى بِاللَّمْسِ فِي الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ
وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم تقبيل الركن اليماني وعليه الجمور
قَالَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْحَقِّ الدَّهْلَوِيُّ
قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبَيْتِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ الْأَوَّلُ لَهُ فَضِيلَتَانِ لِكَوْنِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِيهِ وَكَوْنِهِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالثَّانِي لِكَوْنِهِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقَطْ وَلَيْسَ لِلْآخَرَيْنِ شَيْءٌ مِنْهَا وَلِذَلِكَ يُقَبَّلُ الْأَوَّلُ وَيُسْتَلَمُ الثَّانِي وَلَا يُقَبَّلَانِ وَلَا يُسْتَلَمَانِ هَذَا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ تَقْبِيلَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[1875] (أَنَّهُ أُخْبِرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَلَفْظُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ وَكَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَ الْحَافِظُ بِنَصْبِ عَبْدٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّ سَالِمًا كَانَ حَاضِرًا لِذَلِكَ فَتَكُونُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ(5/229)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَقَوْلُهُ عَنْ عَائِشَةَ مُتَعَلِّقٌ بِأُخْبِرَ (إِنَّ الْحِجْرَ بَعْضُهُ مِنَ الْبَيْتِ) الْحِجْرُ بِكَسْرِ الْحَاءِ اسْمُ الْحَائِطِ الْمُسْتَدِيرِ إِلَى جانب الكعبة الغربي
قاله بن الْأَثِيرِ
قَالَ الْعَيْنِيُّ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عَلَى صِفَةِ نِصْفِ الدَّائِرَةِ وَقَدْرُهَا تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَقَالُوا سِتَّةُ أَذْرُعٍ مِنْهُ مَحْسُوبٌ مِنَ الْبَيْتِ بِلَا خِلَافٍ وَفِي الزَّائِدِ خِلَافٌ (بَعْضُهُ مِنَ الْبَيْتِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيُّ فَقَالَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْحِجْرَ لَيْسَ كُلُّهُ مِنَ الْبَيْتِ بَلِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْبَيْتِ قَدْرُ سِتَّةِ أَذْرُعٍ مُتَّصِلٍ بِالْبَيْتِ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ وَزِدْتُ فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الجُدُرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ قَالَ نَعَمْ فَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِجْرَ كُلُّهُ مِنَ الْبَيْتِ وَبِذَلِكَ كَانَ يُفْتِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَتُؤَيِّدُهَا رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي الْحِجْرَ فَقَالَ صَلِّي فِي الْحِجْرِ إِنْ أَرَدْتِ دُخُولَ الْبَيْتِ
الْحَدِيثَ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ الْحِجْرَ كُلَّهُ مِنَ الْبَيْتِ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَرَجَّحَهُ بن الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ (إِنْ كَانَتْ سَمِعَتْ هَذَا) لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّضْعِيفِ لِرِوَايَتِهَا وَالتَّشْكِيكِ فِي صِدْقِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ صِدِّيقَةً حَافِظَةً وَلَكِنْ كَثِيرًا يَقَعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ صُورَةُ التَّشْكِيكِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْيَقِينِ وَالتَّقْرِيرِ كَقَوْلِهِ تعالى وإن أدري لعله فتنة لكم وكقوله قل إن ضللت فإنما أضل عن نفسي قَالَهُ النَّوَوِيُّ (إِنِّي لَأَظُنُّ) جَزَاءُ شَرْطٍ يُرِيدُ إِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ استلامها فكان بن عُمَرَ عَلِمَ تَرْكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِلَامَ وَلَمْ يَعْلَمْ عِلَّتَهُ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بِخَبَرِ عَائِشَةَ هَذَا عَرَفَ عِلَّةَ ذَلِكَ وَهُوَ كَوْنُهُمَا لَيْسَا عَلَى الْقَوَاعِدِ بَلْ أَخْرَجَ مِنْهُ بَعْضَ الْحِجْرِ وَلَمْ يَبْلُغْ بِهِ رُكْنَ الْبَيْتِ الَّذِي مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ وَالرُّكْنَانِ اللَّذَانِ الْيَوْمَ مِنْ جِهَةِ الْحِجْرِ لَا يُسْتَلَمَانِ كَمَا لَا يُسْتَلَمُ سَائِرُ الْجُدُرِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِالْأَرْكَانِ وَعَنْ عُرْوَةَ وَمُعَاوِيَةَ اسْتِلَامُ الْكُلِّ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ شيئا مهجورا
وذكر عن بن الزبير أيضا وكذا عن جابر وبن عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُسْتَلَمُ إِلَّا الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ خَاصَّةً وَلَا يُسْتَلَمُ الْيَمَانِيُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ فَإِنِ اسْتَلَمَهُ فَلَا بَأْسَ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ
وَقَالَ القسطلاني وهذا الذي قاله بن عُمَرَ مِنْ فِقْهِهِ وَمِنْ تَعْلِيلِ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ عَلَّلَ عَدَمَ الِاسْتِلَامِ بِعَدَمِ أَنَّهَا مِنَ الْبَيْتِ انْتَهَى (وَرَاءَ الْحَجْرِ) أَيِ الْحَطِيمِ (إِلَّا لِذَلِكَ) أَيْ لِأَجْلِ أَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ(5/230)
الْبَيْتِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ ومسلم قول بن عُمَرَ هَذَا بِمَعْنَاهُ عَنْ عَائِشَةَ فِي أَثْنَاءِ عِمَارَةِ الْبَيْتِ انْتَهَى
[1876] (لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ) وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِلَامِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَرُدُّ الْحَدِيثُ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ وَفِيهِ مَقَالٌ انتهى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى بن حبان في صحيحه عن بْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَسْح الْحَجَر وَالرُّكْن الْيَمَانِيّ يَحُطّ الْخَطَايَا حَطًّا
وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث حَنْظَلَة بْن أَبِي سُفْيَان قَالَ رَأَيْت طَاوُسًا يَمُرّ بِالرُّكْنِ فَإِنْ وَجَدَ عَلَيْهِ زِحَامًا مَرَّ وَلَمْ يزاحم وإن رَآهُ خَالِيًا قَبَّلَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ رَأَيْت بن عباس فعل مثل ذلك ثم قال بن عَبَّاس رَأَيْت عُمَر بْن الْخَطَّاب فَعَلَ مِثْل ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ عُمَر إِنَّك حَجَر لَا تَنْفَع وَلَا تَضُرّ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَك مَا قَبَّلْتُك ثُمَّ قَالَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ مِثْل ذَلِكَ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ كَمْ يُقَبِّل الْحَجَر وَفِي النَّسَائِيِّ عَنْ عُمَر أَنَّهُ قَبَّلَ الْحَجَر الْأَسْوَد وَالْتَزَمَهُ وَقَالَ رَأَيْت أَبَا الْقَاسِم صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِك حَفِيًّا
وفي النسائي عن بن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْحَجَر الْأَسْوَد مِنْ الْجَنَّة
وَفِي صَحِيح أَبِي حَاتِم عَنْ نَافِع بْن شَيْبَة الْحَجَبِيّ قَالَ سَمِعْت عَبْد اللَّه بْن عَمْرو يَقُول سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول وَهُوَ مُسْنِد ظَهْره إِلَى الْكَعْبَة الرُّكْن وَالْمَقَام يَاقُوتَتَان مِنْ يَاقُوت الْجَنَّة وَلَوْلَا أَنَّ اللَّه طَمَسَ نُورهمَا لَأَضَاءَا مَا بَيْن المشرق والمغرب
وفي صحيحه أيضا عن بن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِهَذَا الْحَجَر لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ يَشْهَدَانِ لِمَنْ اِسْتَلَمَهُ يَوْم الْقِيَامَة بِحَقٍّ
وَفِي صَحِيحه أَيْضًا عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَبْعَثَنَّ اللَّه هَذَا الرُّكْن يَوْم الْقِيَامَة لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِر بِهِمَا وَلِسَان يَنْطِق بِهِ يَشْهَد لِمَنْ اِسْتَلَمَهُ بِالْحَقِّ وَأَخْرَجَ النسائي عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوف بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَته فَإِذَا اِنْتَهَى إِلَى الرُّكْن أَشَارَ إِلَيْهِ وَفِي الصَّحِيح عَنْ بن عُمَر أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اِسْتِلَام الْحَجَر فَقَالَ رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمهُ وَيُقَبِّلهُ
رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَهَذَا يَحْتَمِل الْجَمْع بَيْنهمَا وَيَحْتَمِل أَنَّهُ رَآهُ يَفْعَل هَذَا تَارَة
وَهَذَا تارة(5/231)
49 - (بَاب الطَّوَافِ الْوَاجِبِ)
[1877] هَكَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ وَكَذَا فِي نُسَخِ الْمُنْذِرِيِّ وَفِي الْمَعَالِمِ لِلْخَطَّابِيِّ بَابُ طَوَافِ الْبَيْتِ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّوَافِ طَوَافُ الْقُدُومِ وَظَاهِرُ تَبْوِيبِ الْمُؤَلِّفِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى وُجُوبِهِ كَمَا هُوَ رَأْيُ مالك وبعض الحنفية قال علي القارىء الْحَنَفِيُّ فِي شَرْحِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ الْأَوَّلُ طَوَافُ الْقُدُومِ وَيُسَمَّى طَوَافُ التَّحِيَّةِ وَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى مَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ وَفِي خِزَانَةِ المفتيين أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصَحِّ
وَالثَّانِي طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَيُسَمَّى طَوَافُ الرُّكْنِ وَالْإِفَاضَةِ وَطَوَافُ الْحَجِّ وَطَوَافُ الْفَرْضِ وَطَوَافُ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ
الثَّالِثُ طَوَافُ الصَّدْرِ وَيُسَمَّى طَوَافُ الْوَدَاعِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْآفَاقِيِّ دُونَ الْمَكِّيِّ انْتَهَى مُلَخَّصًا
وَفِي رَحْمَةِ الْأُمَّةِ فِي اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ وَطَوَافُ الْقُدُومِ سُنَّةٌ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ أَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ
وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ تَرَكَهُ مُطِيقًا لَزِمَهُ دَمٌ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ رُكْنٌ بِالِاتِّفَاقِ وَطَوَافُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَدْ ثَبَتَ تَقْبِيل الْيَد بَعْد اِسْتِلَامه فَفِي الصحيحين أيضا عن نافع قال رأيت بن عمر استلم الحجر بيده ثم قبد يَده وَقَالَ مَا تَرَكْته مُنْذُ رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلهُ
فَهَذِهِ ثَلَاثَة أَنْوَاع صَحَّتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْبِيله وَهُوَ أَعْلَاهَا وَاسْتِلَامه وَتَقْبِيل يَده وَالْإِشَارَة إِلَيْهِ بِالْمِحْجَنِ وَتَقْبِيله لِمَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي الطُّفَيْل قَالَ رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوف بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِم الْحَجَر بِمِحْجَنِ مَعَهُ وَيُقَبِّل الْمِحْجَن
وَقَدْ رَوَى الْإِمَام أَحْمَد فِي مُسْنَده عَنْ عُمَر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ياعمر إِنَّك رَجُل قَوِيّ لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَر إِنْ وَجَدْت خَلْوَة فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ
وَأَمَّا الرُّكْن الْيَمَانِيّ فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اِسْتَلَمَهُ من رواية بن عمر وبن عباس وحديث بن عُمَر فِي الصَّحِيحَيْنِ لَمْ يَكُنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسّ مِنْ الْأَرْكَان إلا اليمانيين وحديث بن عَبَّاس فِي التِّرْمِذِيّ وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ فِي تاريخه عن بن عَبَّاس قَالَ كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِسْتَلَمَ الرُّكْن الْيَمَانِيّ قَبَّلَهُ وَفِي صَحِيح الْحَاكِم عَنْهُ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّل الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَيَضَع خَدّه عَلَيْهِ وَهَذَا الْمُرَاد بِهِ الْأَسْوَد فَإِنَّهُ يُسَمَّى يَمَانِيًّا مَعَ الرُّكْن الْآخَر يُقَال لَهُمَا الْيَمَانِيَّيْنِ بِدَلِيلِ حَدِيث عُمَر فِي تَقْبِيله الْحَجَر الْأَسْوَد خَاصَّة وَقَوْله لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلك مَا قَبَّلْتُك فَلَوْ قَبَّلَ الْآخَر لَقَبَّلَهُ عُمَر
وَفِي النفس من حديث بن عَبَّاس هَذَا شَيْء وَهَلْ هُوَ مَحْفُوظ أَمْ لا(5/232)
الْوَدَاعِ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِلَّا لِمَنْ أَقَامَ فَلَا وَدَاعَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالْإِقَامَةِ انْتَهَى
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالُ الْمُؤَلِّفِ عَلَى وُجُوبِهِ بِأَنَّهُ مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَافَ الْقُدُومِ مَعَ كَوْنِهِ يَشْتَكِي بَلْ طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ وَكَذَا أَمَرَ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِأَنَّهَا تَطُوفُ رَاكِبَةً وَهَذَا شَأْنُ مَا يَكُونُ وَاجِبًا وَفِي شَرْحِ الْمُنْتَقَى قَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ طَوَافِ الْقُدُومِ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلْيَطَّوَّفُوا بالبيت العتيق ولفعله صلى الله عليه وسلم وقوله خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّهُ سُنَّةٌ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ قَالَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْوُجُوبِ بِالْآيَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى طَوَافِ الْقُدُومِ لِأَنَّهَا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ إِجْمَاعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
كَذَا فِي غاية المقصود (يستلم الركن بمحجن) قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَى طَوَافِهِ عَلَى الْبَعِيرِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَنْ يُشَاهِدُوهُ فَيَسْأَلُوهُ عَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَيَأْخُذُوا عَنْهُ مَنَاسِكَهُمْ فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُشْرِفَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
وَفِيهِ مِنَ الْفِقْهِ جَوَازُ الطَّوَافِ عَنِ الْمَحْمُولِ وَإِنْ كَانَ مُطِيقًا لِلْمَشْيِ
وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرًا لِأَنَّ الْبَعِيرَ إِذَا بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ الْمُدَّةَ الَّتِي يُقْضَى فِيهَا الطَّوَافُ لَمْ يَكَدْ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَبُولَ فَلَوْ كَانَ بَوْلُهُ يُنَجِّسُ الْمَكَانَ لَنُزِّهَ الْمَسْجِدُ عَنْ إِدْخَالِهِ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْمِحْجَنُ الْعُودُ الْمُعَقَّفُ الرَّأْسِ يَكُونُ مَعَ الرَّاكِبِ يُحَرِّكُ بِهِ رَاحِلَتَهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ البخاري ومسلم والنسائي وبن مَاجَهْ
[1878] (قَالَتْ لَمَّا اطْمَأَنَّ) أَيْ صَارَ مُطْمَئِنًّا
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ
وَصَفِيَّةُ هَذِهِ أَخْرَجَ لَهَا الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثًا
وَقِيلَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِصَحَابِيَّةٍ
وَإِنَّ الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرحمن النسائي وأبي بكر البرقاني وذكرها بن السَّكَنِ فِي كِتَابِهِ فِي الصَّحَابَةِ وَكَذَلِكَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَلَهَا رِوَايَةٌ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَقُولُ فِيهِ وَأَنَا(5/233)
أنظر إليه
وقد أخرج بن مَاجَهْ عَنْهَا وَذَكَرَ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ عَامَ الْفَتْحِ غَيْرَ أَنَّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ انتهى
[1879] (بن خَرَّبُوذٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ (يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ) أَيْ يُشِيرُ إِلَيْهِ (ثُمَّ يُقَبِّلُهُ) أَيْ بَدَلَ الْحَجَرِ لِلْمَاشِي
قَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ والحديث دال على أنه يحزي عَنِ اسْتِلَامِهِ بِالْيَدِ بِآلَةٍ وَيُقَبِّلُ الْآلَةَ كَالْمِحْجَنِ وَالْعَصَا وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَلَمَهُ بِيَدِهِ قَبَّلَ يَدَهُ فقد روى الشافعي أنه قال قال بن جُرَيْجٍ لِعَطَاءٍ هَلْ رَأَيْتَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إذا اسْتَلَمُوا قَبَّلُوا أَيْدِيَهُمْ قَالَ نَعَمْ رَأَيْتُ جَابِرَ بن عبد الله وبن عُمَرَ وَأَبَا سَعِيدٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ إِذَا اسْتَلَمُوا قَبَّلُوا أَيْدِيَهُمْ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِلَامُهُ لِأَجْلِ الزَّحْمَةِ قَامَ حِيَالَهُ وَرَفَعَ يَدَهُ وَكَبَّرَ لِمَا روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ياعمر إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضُّعَفَاءَ إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَزْرَقِيُّ وَإِذَا أشار بيده فَلَا يُقَبِّلُهَا لِأَنَّهُ لَا يُقَبَّلُ إِلَّا الْحَجَرُ أَوْ مَا مَسَّ الْحَجَرَ انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَبُو الطُّفَيْلِ هُوَ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ
وَأَخْرَجَهُ مسلم وبن مَاجَهْ
[1880] (لِيَرَاهُ النَّاسُ) فِيهِ بَيَانُ الْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا طَافَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رَاكِبًا (وَلِيُشْرِفَ) أَيْ لِيَطَّلِعُوا عَلَيْهِ (غَشُوهُ) بِتَخْفِيفِ الشِّينِ أَيِ ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ وَكَثُرُوا وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ وَهُوَ يَشْتَكِي فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ(5/234)
[1881] (وَهُوَ يَشْتَكِي فَطَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ وَجَاءَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَوَافِهِ هَذَا مَرِيضًا وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الْبُخَارِيُّ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ بَابُ الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ رَاكِبًا لِهَذَا كُلِّهِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَأَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ اسْتِلَامِهِ بِيَدِهِ بأن كان راكبا أو غيره استلمه بعصى وَنَحْوِهِ ثُمَّ قَبَّلَ مَا اسْتَلَمَ بِهِ (أَنَاخَ) أَيْ رَاحِلَتَهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَفِي حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ لَفْظَةٌ لَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَهُوَ يَشْتَكِي
[1882] (أَنِّي أَشْتَكِي) أَيْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي مَرِيضَةٌ وَالشِّكَايَةُ الْمَرَضُ (فَقَالَ طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ رَاكِبًا لَيْسَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ النَّوَوِيُّ إِنَّمَا أَمَرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّوَافِ مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ لِشَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ سُنَّةَ النِّسَاءِ التَّبَاعُدُ عَنِ الرِّجَالِ فِي الطَّوَافِ وَالثَّانِي أَنَّ قُرْبَهَا يُخَافُ مِنْهُ تَأَذِّي النَّاسِ بِدَابَّتِهَا وَكَذَا إِذَا طَافَ الرَّجُلُ رَاكِبًا وَإِنَّمَا طَافَتْ فِي حَالِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهَا وَكَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ صَلَاةَ الصُّبْحِ انْتَهَى (إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ) أَيْ مُتَّصِلًا إِلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا متحلقين حولها (وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور) أَيْ بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ قَرَأَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ الْأَوْلَى لِلرَّاوِي أَنْ يَقُولَ يَقْرَأُ الطُّورَ أَوْ يَكْتَفِي بِالطُّورِ وَلَمْ يَقُلْ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم والنسائي وبن ماجه(5/235)
50 - (بَاب الِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ)
[1883] (طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَبِعًا) مِنَ الضَّبْعِ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَهُوَ وَسَطُ الْعَضُدِ وَقِيلَ هُوَ مَا تَحْتَ الْإِبْطِ وَالِاضْطِبَاعُ أَنْ يَأْخُذَ الْإِزَارَ أَوِ الْبُرْدَ فَيَجْعَلُ وَسَطَهُ تَحْتَ إِبْطِهِ الْأَيْمَنِ وَيُلْقِي طَرَفَهُ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ مِنْ جِهَتَيْ صَدْرِهِ وَظَهْرِهِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِبْدَاءِ الضَّبْعَيْنِ
قِيلَ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِلتَّشَجُّعِ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ مُضْطَبِعًا هُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الضَّبْعِ بِإِسْكَانِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهُوَ الْعَضُدُ وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَ إِزَارَهُ تَحْتَ إِبْطِهِ الْأَيْمَنِ وَيَرُدَّ طَرَفَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ وَيَكُونَ مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا وَكَذَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلْحَافِظِ
وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ هِيَ المذكورة في حديث بن عَبَّاسٍ الْآتِي
وَالْحِكْمَةُ فِي فِعْلِهِ أَنَّهُ يُعِينُ عَلَى إِسْرَاعِ الْمَشْيِ
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ الجمهور سوى مالك قاله بن الْمُنْذِرِ
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الِاضْطِبَاعُ في طواف يسن فيه المرمل (بِبُرْدٍ أَخْضَرَ) وَلَفْظُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ وَهُوَ مُضْطَبِعٌ بِبُرْدٍ لَهُ حَضْرَمِيٍّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الترمذي وبن مَاجَهْ أَخْضَرَ
[1884] (فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ) الرَّمَلُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمِيمِ هُوَ إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى دُونَ الْعَدْوِ فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَهُزَّ فِي مَشْيِهِ كَتِفَيْهِ كَالْمُبَارِزِ الْمُتَبَخْتِرِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ كَذَا فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا
وَالرَّمَلُ فِي الْأَطْوَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ كَذَا فِي الْمُحَلَّى شَرْحِ الْمُوَطَّأِ (أرديتهم) جمع رداء (تحت اباطهم) قال بن رَسْلَانَ الْمُرَادُ أَنْ يَجْعَلَهُ تَحْتَ عَاتِقِهِمُ الْأَيْمَنِ (ثُمَّ قَذَفُوهَا) أَيِ أَلْقَوْهَا وَطَرَحُوا طَرَفَيْهَا (عَلَى عَوَاتِقِهِمْ) الْعَاتِقُ الْمَنْكِبُ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ وأخرج نحو بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الطَّبَرَانِيُّ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ حديث بن عَبَّاسٍ رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَقَدْ صَحَّحَ حَدِيثَ الاضطباع النووي(5/236)
51 - (بَاب فِي الرَّمَلِ)
[1885] بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمِيمِ وَمَرَّ آنِفًا تَفْسِيرُهُ
(قَدْ رَمَلَ بِالْبَيْتِ) قَالَ النَّوَوِيُّ الرَّمَلُ مُسْتَحَبٌّ فِي الطَّوَافَاتِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنَ السَّبْعِ وَلَا يُسَنُّ ذَلِكَ إِلَّا فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَفِي طَوَافٍ وَاحِدٍ فِي الْحَجِّ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُشْرَعُ فِي طَوَافِ يَعْقُبُهُ سَعْيٌ وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَفِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ لِأَنَّ شَرْطَ طَوَافِ الْوَدَاعِ أَنْ يَكُونَ قَدْ طَافَ الْإِفَاضَةِ
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا طَافَ لِلْقُدُومِ وَفِي نِيَّتِهِ أَنَّهُ يَسْعَى بَعْدَهُ اسْتُحِبَّ الرَّمَلُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي نِيَّتِهِ لَمْ يَرْمُلْ فِيهِ بَلْ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي إِنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ سَوَاءً أَرَادَ السَّعْيَ بَعْدَهُ أَمْ لَا انْتَهَى (مَوْتَ النَّغَفِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَاءٍ دُودٌ يَسْقُطُ مِنْ أُنُوفِ الدَّوَابِّ وَاحِدَتُهَا نَغَفَةٌ يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا اسْتُحْقِرَ وَاسْتُضْعِفَ مَا هُوَ إِلَّا نَغَفَةٌ (وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قِبَلِ قُعَيْقِعَانَ) اسْمُ جَبَلٍ بِمَكَّةَ وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يُسَنُّ فِعْلُهُ لكافة الأمة على معنى القرية كَالسُّنَنِ الَّتِي هِيَ عِبَادَاتٌ وَلَكِنْ شَيْءٌ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبٍ خَاصٍّ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّةَ أَصْحَابِهِ وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ قَدْ أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ انْتَهَى (عَلَى بَعِيرِهِ) هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا والمروة للراكب لعذر
قال بن رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا مَا لَفْظُهُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ بن عَبَّاسٍ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ انْتَهَى
يَعْنِي نَفْيَ(5/237)
كون الطواف بصفة الركوب سنابل الطَّوَافُ مِنَ الْمَاشِي أَفْضَلُ ذَكَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ (لَا يُدْفَعُونَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَكَذَا قَوْلُهُ الْآتِي لَا يُصْرَفُونَ (وَلِيَرَوْا مَكَانَهُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَبُو الطُّفَيْلِ هُوَ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَبُو عَاصِمٍ الْغَنَوِيُّ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ
وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ الْحُرِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ ثَلَاثَتِهِمْ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ بِنَحْوِهِ وَفِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ
[1886] (وَهَنَتْهُمْ) بِتَخْفِيفِ الْهَاءِ أَيْ أَضْعَفَتْهُمْ يُقَالُ وهنته وأوهنته لغتان (يثرب) هُوَ اسْمُ الْمَدِينَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَسُمِّيَتْ فِي الإسلام المدينة وطيبة وَطَابَةُ (يَقْدَمُ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَأَمَّا بِضَمِّ الدَّالِ فَمَعْنَاهُ يَتَقَدَّمُ (وَلَقُوا مِنْهَا) أَيْ مِنْ يَثْرِبَ (شَرًّا) وَلَفْظُ مُسْلِمٍ شِدَّةً فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ (فَأَمَرَهُمْ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْأَشْوَاطَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ جَمْعُ شَوْطٍ وَهُوَ الْجَرْيُ مَرَّةً إِلَى الْغَايَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الطَّوْفَةُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الطَّوَافِ شَوْطًا
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ إِنَّهُ يُكْرَهُ تَسْمِيَتُهُ شَوْطًا وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمَا (وَأَنْ يَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ) قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا منسوخ بحديث نافع عن بن عُمَرَ الْآتِي بَعْدَ ذَلِكَ وَيَجِيءُ بَسْطُ الْكَلَامِ هُنَاكَ (إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَبِالْمُوَحَّدَةِ وَالْقَافِ الرِّفْقُ وَالشَّفَقَةُ وَهُوَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لَمْ يَأْمُرْهُمْ وَيَجُوزُ النَّصْبُ
وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ إِظْهَارِ الْقُوَّةِ بِالْعِدَّةِ وَالسِّلَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ إِرْهَابًا لَهُمْ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنَ الرِّيَاءِ الْمَذْمُومِ
وَفِيهِ جَوَازُ الْمَعَارِيضِ بِالْفِعْلِ كَمَا تَجُوزُ بِالْقَوْلِ وَرُبَّمَا كَانَتْ بِالْفِعْلِ أَوْلَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ(5/238)
[1887] (فِيمَا الرَّمَلَانُ) بِإِثْبَاتِ أَلِفِ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَهِيَ لُغَةٌ وَالْأَكْثَرُ يَحْذِفُونَهَا وَالرَّمَلَانُ بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرُ رَمَلَ (والكشف عن المناكب) هو الاضطباع (وَقَدْ أَطَّأَ اللَّهُ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ أَثْبَتَهُ وأحكمه أصله وطىء فَأُبْدِلَتِ الْوَاوُ هَمْزَةً كَمَا فِي وَقَّتْتُ وَأَقَّتْتُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا هُوَ وَطَّأَ أَيْ ثَبَّتَهُ وَأَرْسَاهُ بِالْوَاوِ وَقَدْ تُبْدَلُ أَلِفًا (لَا نَدَعُ شَيْئًا) زَادَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي آخِرهِ ثُمَّ رَمَلَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ قَدْ هَمَّ بِتَرْكِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ لِأَنَّهُ عَرَفَ سَبَبَهُ وَقَدِ انْقَضَى فَهَمَّ أَنْ يَتْرُكَهُ لِفَقْدِ سَبَبِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهَا فَرَأَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ أَوْلَى وَيُؤَيِّدُ مَشْرُوعِيَّةَ الرَّمَلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مَا ثبت في حديث بن عباس أنهم رملوا في حجة الوداع مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد نفى الله في ذلك الوقت الكفر وَأَهْلُهُ عَنْ مَكَّةَ
وَالرَّمَلُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ثَابِتٌ أَيْضًا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ يَسُنُّ الشَّيْءَ لِمَعْنًى فَيَزُولُ وَتَبْقَى السُّنَّةُ عَلَى حَالِهَا
وَمِمَّنْ كَانَ يَرَى الرَّمَلَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً وَيَرَى عَلَى مَنْ تَرَكَهُ دَمًا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَيْسَ عَلَى تَارِكِهِ شيء انتهى
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ
[1888] (إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ) أَيِ الْكَعْبَةِ (وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أَيْ وَإِنَّمَا جُعِلَ السَّعْيُ بَيْنَهُمَا (وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ) يَعْنِي إِنَّمَا شُرِعَ ذَلِكَ لِإِقَامَةِ شِعَارِ النُّسُكِ
قَالَهُ المناوي قال علي القارىء أَيْ لِأَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُتَبَرَّكَةِ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالطَّوَافُ حَوْلَ البيت والوقوف للدعاء فَإِنَّ أَثَرَ الْعِبَادَةِ لَائِحَةٌ فِيهِمَا
وَإِنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سُنَّةً لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي التَّكْبِيرُ سُنَّةٌ مَعَ كُلِّ جَمْرَةٍ وَالدَّعَوَاتُ فِي السَّعْيِ سُنَّةٌ
وَأَطَالَ الطِّيبِيُّ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ(5/239)
[1889] (فَاسْتَلَمَ) أَيِ الْحَجَرَ (ثُمَّ رَمَلَ ثَلَاثَةَ أَطَوَافٍ) والمراد بالرمل الْخَبَبُ وَهُوَ أَنْ يُقَارِبَ خُطَاهُ بِسُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ عَدْوٍ وَلَا وَثْبٍ
وَغَلِطَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ دُونَ الْخَبَبِ وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ الْعَدْوُ (وَكَانُوا) أَيِ الصَّحَابَةُ (وَتَغَيَّبُوا مِنْ قُرَيْشٍ) وَكَانَتِ الْقُرَيْشُ جَالِسَةً مِمَّا يَلِي الْحِجْرَ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ (مَشَوْا) أَيِ الصَّحَابَةُ
وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُمْ رَمَلُوا فِي تَمَامِ الدَّوْرَةِ كَمَا سَيَجِيءُ وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ فَلِذَلِكَ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ بِذَلِكَ (ثُمَّ يَطْلُعُونَ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى قُرَيْشٍ (كَأَنَّهُمُ الْغِزْلَانُ) كَغِلْمَانٍ جَمْعُ غَزَالٍ هُوَ وَلَدُ الظَّبْيَةِ (فكانت سنة) وقد مر قول بن عَبَّاسٍ إِنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ وَهَذَا رُجُوعُهُ مِنْهُ إلى قول الجماعة إنه سنة بعد ما تَقَدَّمَ مِنْهُ مِنَ النَّفْيِ كَذَا فِي فَتْحِ الورود والحديث سكت عنه المنذري
[1890] (عن بن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم) قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ
[1891] (رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ) أَيِ الْأَسْوَدِ (إِلَى الْحَجَرِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرْمُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ كَامِلَةٍ
قَالَ فِي الْفَتْحِ وَلَا يُشْرَعُ تَدَارُكُ الرَّمَلِ فَلَوْ تَرَكَهُ فِي الثَّلَاثَةِ لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ هَيْئَتَهَا السَّكِينَةُ وَلَا تَتَغَيَّرُ وَيَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ فَلَا رَمَلَ على النساء وَيَخْتَصُّ بِطَوَافٍ يَتَعَقَّبُهُ سَعْيٌ عَلَى الْمَشْهُورِ وَلَا فَرْقَ فِي اسْتِحْبَابِهِ بَيْنَ مَاشٍ وَرَاكِبٍ وَلَا دَمَ بِتَرْكِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا
قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الرَّمَلَ يُشْرَعُ فِي جَمِيعِ الْمَطَافِ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الحجر
وأما حديث بن عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمُ قَالَ أَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَيَمْشُوا ما بين الركنين فمنسوخ بحديث بن عمر هذا لأن حديث بن عَبَّاسٍ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَانَ فِي الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ فِي أَبْدَانِهِمْ وَإِنَّمَا(5/240)
رَمَلُوا إِظْهَارًا لِلْقُوَّةِ وَاحْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا جُلُوسًا فِي الْحِجْرِ وَكَانُوا لَا يَرَوْنَهُمْ بَيْنَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَيَرَوْنَهُمْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَمَّا حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهَذَا التَّأَخُّرِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنْ يَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَإِنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ فَالرَّمَلُ فِي جَمِيعِ الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالْمَشْيُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ لَا تَقَعُ عَلَيْهِمْ أَعْيُنُ الْمُشْرِكِينَ وَفَعَلَ ذَلِكَ رِفْقًا بِهِمْ لِمَا كَانَ بِهِمْ مِنَ الْمَرَضِ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّجَلُّدِ فِي الْجِهَاتِ الَّتِي تَقَعُ عَلَيْهِمْ فِيهَا أَعْيُنُ الْمُشْرِكِينَ حِينَ جَلَسُوا لَهُمْ
2 - (بَاب الدُّعَاءِ فِي الطَّوَافِ)
[1892] (رَبَّنَا) مَنْصُوبٌ بِحَذْفِ النِّدَاءِ (آتِنَا) أَيْ أَعْطِنَا (فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) أَيِ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ أَوِ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالرِّزْقَ الْحَسَنَ أَوْ حَيَاةً طَيِّبَةً أَوِ الْقَنَاعَةَ أَوْ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أَيِ الْمَغْفِرَةَ وَالْجَنَّةَ وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ أَوْ مُرَافَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الرِّضَاءَ أَوِ الرُّؤْيَةَ أَوِ اللِّقَاءَ (وَقِنَا) أَيِ احْفَظْنَا (عَذَابَ النَّارِ) أَيْ شَدَائِدَ جَهَنَّمَ مِنْ حَرِّهَا وَزَمْهَرِيرِهَا وَسَمُومِهَا وَجُوعِهَا وَعَطَشِهَا وَنَتِنِهَا وَضِيقِهَا وَعَقَارِبِهَا وَحَيَّاتِهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1893] (أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ) قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الرَّمَلَ أَوَّلُ مَا يَشْرَعُ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَوْ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ فِي الْحَجِّ (يَسْعَى ثَلَاثَةَ أَطَوَافٍ) فَمُرَادُهُ يَرْمُلُ وَسَمَّاهُ سَعْيًا مَجَازًا لِكَوْنِهِ يُشَارِكُ السَّعْيَ فِي أَصْلِ الْإِسْرَاعِ وَإِنِ اخْتَلَفَ صِفَتُهَا وَأَنَّ الرَّمَلَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الثلاثة الأول من السبع وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ (ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ) وَالْمُرَادُ بِهِمَا رَكْعَتَا الطَّوَافِ وَهُمَا سُنَّةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ(5/241)
وَفِي قَوْلٍ وَاجِبَتَانِ وَسَمَّاهُمَا سَجْدَتَيْنِ مَجَازًا
وَزَادَ مُسْلِمٌ ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ
وَقَوْلُهُ ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ هُوَ مَوْضِعُ تَرْجَمَةِ الْبَابِ لِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ مِنْ مُتِمَّاتِ الطَّوَافِ وَلَا بُدَّ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْأَدْعِيَةِ وَفِي الْمَعَالِمِ لِلْخَطَّابِيِّ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ الْآتِي تَحْتَ هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الدُّعَاءِ فِي الطَّوَافِ وَلَيْسَ فِي الْخَطَّابِيِّ بَابُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعَصْرِ ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ تَحْتَ حَدِيثِ جُبَيْرٍ وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمُ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَةُ الْبَابِ بِالدُّعَاءِ فِي الطَّوَافِ انْتَهَى كَلَامُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
3 - (بَاب الطَّوَافِ بَعْدَ الْعَصْرِ)
[1894] (قَالَ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا) وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ بن السَّرْحِ ثَابِتٌ فِي رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ وَحَدِيثُ الْفَضْلِ بن يعقوب في رواية بن الْعَبْدِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَلِذَا أَكْثَرُ النُّسَخِ خَالٍ عَنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ كَذَا فِي الشَّرْحِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ واستدل به الشافعي على أن
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى بن حبان في صحيحه عن بْن عُمَر قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا لَا يَضَع قَدَمًا وَلَا يَرْفَع أُخْرَى إِلَّا حَطَّ اللَّه عَنْهُ بِهَا خَطِيئَة وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَة وَرَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَة
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا فَهُوَ كَعَدْلِ رَقَبَة
وَهَذِهِ الْأَحَادِيث عَامَّة فِي كُلّ الْأَوْقَات لَمْ يَأْتِ مَا يَخُصّهَا وَيُخْرِجهَا عَنْ عُمُومهَا وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيّ فِي الْجَامِع مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ أَبِيهِ عن بن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ خَمْسِينَ مَرَّة خَرَجَ مِنْ ذُنُوبه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه
قَالَ وفي الباب عن أنس وبن عمر وحديث بن عَبَّاس غَرِيب
وَسَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيث فقال إنما يروى هذا عن بن عَبَّاس قَوْله قَالَ أَيُّوب السِّخْتِيَانِيّ وَكَانُوا يَقُولُونَ عَبْد اللَّه بْن سَعِيد بْن جُبَيْر أَفْضَل من أبيه(5/242)
الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ وَاحْتُجَّ لَهُ أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ
وَقَوْلُهُ إِلَّا بِمَكَّةَ فَاسْتَثْنَاهُ مِنْ بَيْنِ الْبِقَاعِ
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَخْصِيصِ ركعتي الطواف مِنْ بَيْنِ الصَّلَاةِ وَقَالُوا إِذَا كَانَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ غَيْرَ مَحْظُورٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وكان من سنة الطواف أن يصلي الركعتان بَعْدَهُ فَقَدْ عُقِلَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الصَّلَاةِ غَيْرُ مُنْهًى عَنْهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
4 - (بَاب طَوَافِ الْقَارِنِ)
[1895] (إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا طَوَافَهُ الْأَوَّلَ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا يُكَرَّرُ بَلْ يُقْتَصَرُ مِنْهُ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَيُكْرَهُ تَكْرَارُهُ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَأَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ
وَفِيهِ خِلَافٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ
قال المنذري أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وبن ماجه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي طَوَاف الْقَارِن وَالْمُتَمَتِّع عَلَى ثَلَاثَة مَذَاهِب أَحَدهَا أَنَّ عَلَى كُلّ مِنْهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيّ وبن مَسْعُود وَهُوَ قَوْل سُفْيَان الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَهْل الْكُوفَة وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَات عَنْ الْإِمَام أَحْمَد
الثَّانِي أَنَّ عَلَيْهِمَا كِلَيْهِمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَام أَحْمَد فِي رِوَايَة اِبْنه عَبْد اللَّه وَهُوَ ظَاهِر حَدِيث جَابِر هَذَا
الثَّالِث أَنَّ عَلَى الْمُتَمَتِّع طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ وَعَلَى الْقَارِن سَعْي وَاحِد وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عَنْ عَطَاء وَطَاوُسٍ وَالْحَسَن
وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَظَاهِر مَذْهَب أَحْمَد
وَحُجَّتهمْ حَدِيث عَائِشَة وَقَدْ تَقَدَّمَ وَذَكَرْنَا مَا قِيلَ فِيهِ
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ مِنْ رواية علي وبن مَسْعُود وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعِمْرَان بْن حُصَيْنٍ وَلَا يَثْبُت شَيْء مِنْهَا وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا بُدّ لِلْمُتَمَتِّعِ مِنْ سَعْيَيْنِ تَأَوَّلُوا حَدِيث جَابِر بِتَأْوِيلَاتٍ مُسْتَكْرَهَة جِدًّا(5/243)
الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ وَاحْتُجَّ لَهُ أَيْضًا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ
وَقَوْلُهُ إِلَّا بِمَكَّةَ فَاسْتَثْنَاهُ مِنْ بَيْنِ الْبِقَاعِ
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَخْصِيصِ ركعتي الطواف مِنْ بَيْنِ الصَّلَاةِ وَقَالُوا إِذَا كَانَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ غَيْرَ مَحْظُورٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وكان من سنة الطواف أن يصلي الركعتان بَعْدَهُ فَقَدْ عُقِلَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الصَّلَاةِ غَيْرُ مُنْهًى عَنْهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
4 - (بَاب طَوَافِ الْقَارِنِ)
(إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا طَوَافَهُ الْأَوَّلَ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا يُكَرَّرُ بَلْ يُقْتَصَرُ مِنْهُ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَيُكْرَهُ تَكْرَارُهُ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا وَأَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ
وَفِيهِ خِلَافٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ
قال المنذري أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وبن ماجه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فَقَالَ بَعْضهمْ طَوَافًا وَاحِدًا أَيْ طَوَافَيْنِ عَلَى صِفَة وَاحِدَة فَالْوَاحِدَة رَاجِعَة إِلَى صِفَة الطَّوَاف لَا إِلَى نَفْسه وَهَذَا فِي غَايَة الْبُعْد وَسَيَأْتِي الْكَلَام يَشْهَد بِبُطْلَانِهِ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَرَادَ بِهِ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا قَارِنِينَ خَاصَّة
فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا وَأَمَرَ أَصْحَابه أَنْ يُحِلُّوا مِنْ إِحْرَامهمْ إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْي فَاكْتَفَى هُوَ وَأَصْحَابه الْقَارِنُونَ بِطَوَافٍ وَاحِد وَهَذَا بَعِيد جِدًّا فَإِنَّ الَّذِينَ قَرَنُوا مِنْ أَصْحَابه كُلّهمْ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْي مِنْ سَائِرهمْ وَهُمْ آحَاد يَسِيرَة لَمْ يَبْلُغُوا الْعَشَرَة وَلَا الْخَمْسَة بَلْ الْحَدِيث ظَاهِر جِدًّا فِي اِكْتِفَائِهِمْ كُلّهمْ بِطَوَافٍ وَاحِد بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة وَلَمْ يَأْتِ لِهَذَا الْحَدِيث مُعَارِض إِلَّا حَدِيث عَائِشَة وَقَدْ ذَكَرَ بَعْض الْحُفَّاظ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَة مِنْ قَوْل عُرْوَة لَا مِنْ قولها
وقد ثبت عن بن عَبَّاس اِكْتِفَاء الْمُتَمَتِّع بِسَعْيٍ وَاحِد
رَوَى الْإِمَام أَحْمَد فِي مَنَاسِك اِبْنه عَبْد اللَّه عَنْ الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَطَاء عن بن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يَقُول الْقَارِن وَالْمُفْرِد وَالْمُتَمَتِّع يَجْزِيه طَوَاف الْبَيْت وَسَعْي بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة وَلَكِنْ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ بن عَبَّاس أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَة الْحَجّ فَقَالَ أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار وَأَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع وَأَهْلَلْنَا فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّة قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِجْعَلُوا إِهْلَالكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَة إِلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْي طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة وَأَتَيْنَا النِّسَاء وَلَبِسْنَا الثِّيَاب وَقَالَ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْي فَإِنَّهُ لَا يَحِلّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغ الْهَدْي مَحِلّه ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّة التَّرْوِيَة أَنْ نُهِلّ بِالْحَجِّ فَإِذَا فَرَغْنَا مِنْ الْمَنَاسِك جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة فَقَدْ تَمَّ حَجّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْي كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى {فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي فَمَنْ لَمْ يَجِد فَصِيَام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} إلى أمصاركم الشاة تجزىء فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَام بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة فَإِنَّ اللَّه أَنْزَلَهُ فِي كِتَابه وَسُنَّة نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْر أَهْل مَكَّة وَذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيث
فَهَذَا صَرِيح فِي أَنَّ الْمُتَمَتِّع يَسْعَى سَعْيَيْنِ وَهَذَا مِثْل حَدِيث عَائِشَة سَوَاء بَلْ هُوَ أَصْرَح مِنْهُ فِي تَعَدُّد السَّعْي عَلَى الْمُتَمَتِّع فَإِنْ صَحَّ عن بن عَبَّاس مَا رَوَاهُ الْوَلِيد عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَطَاء فَلَعَلَّ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَة رِوَايَتَيْنِ كَمَا عَنْ الْإِمَام أَحْمَد فِيهَا رِوَايَتَانِ
وَفِي مَسَائِل عَبْد اللَّه قَالَ قُلْت لِأَبِي الْمُتَمَتِّع كَمْ يَسْعَى بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة قَالَ إِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ فَهُوَ أَجْوَد وَإِنْ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا فَلَا بَأْس قَالَ وَإِنْ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا فَهُوَ أَعْجَب إِلَيَّ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ جَابِر وَأَحْمَد فَهِمَ مِنْ حَدِيث عَائِشَة قَوْلهَا فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَر بَعْد أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى بِحَجِّهِمْ أَنَّ هَذَا طَوَاف الْقُدُوم وَاسْتُحِبَّ فِي رِوَايَة الْمَرُّوذِيّ وَغَيْره لِلْقَادِمِ مِنْ عَرَفَة إِذَا كَانَ مُتَمَتِّعًا أَنْ يَطُوف طَوَاف الْقُدُوم
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْض أَصْحَابه ذَلِكَ وَفَهِمَ مِنْ حَدِيث عَائِشَة أَنَّ الْمُرَاد بِهِ طَوَاف الْفَرْض وَهَذَا سَهْو مِنْهُ فَإِنَّ طَوَاف الْفَرْض مُشْتَرَك بَيْن الْجَمِيع وَعَائِشَة أَثْبَتَتْ لِلْمُتَمَتِّعِ مَا نَفَتْهُ عَنْ الْقَارِن وَلَيْسَ الْمُرَاد بِحَدِيثِ عَائِشَة إِلَّا الطَّوَاف بَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة وَاَللَّه أَعْلَم(5/244)
[1896] (الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ) أَيِ الَّذِينَ وَافَقُوا مَعَهُ فِي الْقُرْآنِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ تَرْجَمَةِ الْبَابِ لِلْمُؤَلِّفِ
وَقِيلَ بَلْ مُطْلَقًا وَالصَّحَابَةُ كَانُوا مَا بَيْنَ قَارِنٍ وَمُتَمَتِّعٍ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَكْفِيهِ سَعْيٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ بَنَى النَّسَائِيُّ تَرْجَمَتَهُ فَقَالَ كَمْ طَوَافُ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ (لَمْ يَطُوفُوا) بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ (حَتَّى رَمَوُا الْجَمْرَةَ) يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1897] (قَالَ لَهَا طَوَافُكِ إِلَخْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَمَا مَرَّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ من الصحابة بن عُمَرَ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُدَ وَغَيْرِهِمْ
وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ وَالْأَحَادِيثُ متواردة على معنى حديث عائشة عن بن عُمَرَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِالطَّوَافَيْنِ لقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وَلَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ التَّمَامَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَطُفْ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا
وَقَدِ اكْتَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ وَكَانَ قَارِنًا كَمَا هُوَ الْحَقُّ
وَاعْلَمْ أَنَّ عَائِشَةَ قَدْ أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ وَلَكِنَّهَا حَاضَتْ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْفُضِي عُمْرَتَكِ
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَى رَفْضِهَا إِيَّاهَا رَفْضُ الْعَمَلِ فِيهَا وَإِتْمَامُ أَعْمَالِهَا الَّتِي هِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَتَقْصِيرُ شَعْرِ الرَّأْسِ فَأَمَرَهَا صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَأَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ فَتَصِيرَ قَارِنَةً وَتَقِفُ بِعَرَفَاتٍ وَتَفْعَلُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلَّا الطَّوَافَ فَتُؤَخِّرُهُ حَتَّى تَطْهُرَ
وَمِنْ أَدِلَّةِ أَنَّهَا صَارَتْ قَارِنَةً قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لَهَا طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ الْحَدِيثَ
فَإِنَّهُ صَرِيحٌ أَنَّهَا كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ
وَيَتَعَيَّنُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَة لَمَّا طُفْت بِالْكَعْبَةِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَة حَلَلْت مِنْ حَجّك وَعُمْرَتك جَمِيعًا قَالَتْ يَا رَسُول اللَّه إِنِّي أَجِد فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حِين حَجَجْت قَالَ فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْد الرَّحْمَن فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيم(5/245)
تأويل قوله صلى الله عليه وَسَلَّمَ ارْفُضِي عُمْرَتَكِ بِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فَلَيْسَ مَعْنَى ارْفُضِي الْعُمْرَةَ الْخُرُوجُ مِنْهَا وَإِبْطَالُهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهُمَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِهِمَا بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِالتَّحَلُّلِ مِنْهُمَا بَعْدَ فَرَاغِهِمَا
قَالَهُ فِي سُبُلِ السَّلَامِ
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ طَاوُسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ حَلَفَ مَا طَافَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عن بن عُمَرَ أَنَّهُ طَافَ لِحَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ طَوَافًا وَاحِدًا بَعْدَ أَنْ قَالَ إِنَّهُ سَنَفْعَلُ كَمَا فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجَ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ رَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الْأَوَّلِ يَعْنِي الَّذِي طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ لِلْإِفَاضَةِ وَقَالَ كَذَلِكَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْحَافِظُ وَطُرُقُهُ ضعيفة وكذا روى نحوه من حديث بن مسعود بإسناد ضعيف ومن حديث بن عُمَرَ بِإِسْنَادٍ فِيهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ وَهُوَ متروك
قال بن حَزْمٍ لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَصْلًا وَتَعَقَّبَهُ فِي الْفَتْحِ بِأَنَّهُ قَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا عَنْ علي وبن مَسْعُودٍ ذَلِكَ بِأَسَانِيدَ لَا بَأْسَ بِهَا انْتَهَى
فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إِلَى الْجَمْعِ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ إِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ فَيُحْمَلُ عَلَى طَوَافِ الْقُدُومِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَأَمَّا السَّعْيُ مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يَثْبُتِ انْتَهَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ من حديث طاووس بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عَائِشَةَ وَمِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ عَائِشَةَ بِمَعْنَاهُ
5 - (بَاب الْمُلْتَزَمِ)
[1898] وَسَيَجِيءُ تَفْسِيرُهُ
(قَدْ خَرَجَ مِنَ الْكَعْبَةِ) وَلَفْظُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْكَعْبَةِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ رَأَيْت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُلْزِق وَجْهه وَصَدْره بِالْمُلْتَزَمِ(5/246)
وَأَصْحَابُهُ قَدِ اسْتَلَمُوا الْبَيْتَ (مِنَ الْبَابِ إِلَى الْحَطِيمِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ اسْتَلَمُوا وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي اسْتَلَمُوهُ مِنَ الْبَيْتِ وَالْحَطِيمُ هُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ كَمَا ذَكَرَهُ مُحِبُّ الدِّينِ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْحَطِيمُ ما بين الباب إلى المقام
وقال بن حَبِيبٍ هُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْبَابِ إِلَى الْمَقَامِ وَقِيلَ هُوَ الشَّاذَرْوَانُ وَقِيلَ هُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ سِيَاقُ هَذَا الْحَدِيثِ
وَسُمِّيَ حَطِيمًا لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَحْطِمُونَ هُنَاكَ بِالْإِيمَانِ وَيُسْتَجَابُ فِيهِ الدُّعَاءُ لِلْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ وَقَلَّ مَنْ حَلَفَ هُنَالِكَ كَاذِبًا إِلَّا عُجِّلَتْ لَهُ الْعُقُوبَةُ
وَفِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحَطِيمَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْمِيزَابُ (قَدْ وَضَعُوا خُدُودَهُمْ عَلَى الْبَيْتِ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ وضع الخد والصدر على البيت وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ وَيُقَالُ لَهُ الْمُلْتَزَمُ كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْمُلْتَزَمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أبي الزبير عن بن عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ يَصِحُّ عَنْهُ مَوْقُوفًا كَذَا فِي النَّيْلِ
وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَلْتَزِمُونَهُ (وَسْطُهُمْ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ تَقُولُ جَلَسْتُ وَسْطَ الْقَوْمِ بِالتَّسْكِينِ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ وَجَلَسْتُ وَسَطَ الدَّارِ بِالْفَتْحِ لِأَنَّهُ اسْمٌ قَالَ وَكُلُّ وَسَطٍ يَصْلُحُ فِيهِ بَيْنٌ فَهُوَ وَسْطٌ بِالْإِسْكَانِ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ بَيْنٌ فَهُوَ وَسَطٌ بِالْفَتْحِ
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ كُلُّ مَا بُيِّنَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ كَوَسْطِ الصَّفِّ وَالْقِلَادَةِ وَالسُّبْحَةِ وَحَلْقَةِ النَّاسِ فَهُوَ بِالْإِسْكَانِ وَمَا كَانَ مُنْضَمًّا لَا يُبَيَّنُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ كَالسَّاحَةِ وَالدَّارِ وَالرَّاحِبَةِ فَهُوَ وَسَطٌ بِالْفَتْحِ
وَقَدْ أَجَازُوا فِي الْمَفْتُوحِ الْإِسْكَانَ وَلَمْ يُجِيزُوا فِي السَّاكِنِ الْفَتْحَ انْتَهَى
وَقَالَ السِّنْدِيُّ تَحْتَ قَوْلِهِ اسْتَلَمُوا الْبَيْتَ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُلْتَزَمَ مَا بَيْنَ الْبَابِ وَالرُّكْنِ فَكَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِالْمُقَايَسَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ اسْتِلَامُ هَذَا الْمَوْضِعِ يُقَاسُ عَلَيْهِ اسْتِيلَاءُ الْمُلْتَزَمِ انْتَهَى
وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدٌ إِسْحَاقُ الدَّهْلَوِيُّ أَوْ بِأَنَّ مَوْضِعَ الْمُلْتَزَمِ ازْدَحَمُوا عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ مَا كَانَ فَارِغًا فَاسْتَلَمُوا فِي هَذَا الْبَابِ الْجَانِبَ مِنَ الْبَابِ وَلَيْسَ قَوْلُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطُهُمْ نَصًّا عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ شَرِيكًا فِي هَذَا الْفِعْلِ أَيْضًا انْتَهَى
قَالَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وفي البيهقي أيضا عن بن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يَلْزَم مَا بَيْن الرُّكْن وَالْبَاب وَكَانَ يَقُول مَا بَيْن الرُّكْن وَالْبَاب يُدْعَى الْمُلْتَزَم لَا يَلْزَم مَا بَيْنهمَا أَحَد يَسْأَل اللَّه شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ
وَأَمَّا الْحَطِيم فَقِيلَ فِيهِ أَقْوَال أَحَدهَا أَنَّهُ مَا بَيْن الرُّكْن وَالْبَاب وَهُوَ الْمُلْتَزَم وَقِيلَ هُوَ جِدَار الْحَجَر لِأَنَّ الْبَيْت رُفِعَ وَتُرِكَ هَذَا الْجِدَار مَحْطُومًا وَالصَّحِيح أَنَّ الْحَطِيم الْحَجَر نَفْسه وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ الْإِسْرَاء قَالَ بَيْنَا أَنَا نَائِم في الحطيم وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْر قَالَ وَهُوَ حَطِيم بِمَعْنَى مَحْطُوم كَقَتِيلٍ بِمَعْنَى مَقْتُول(5/247)
الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ
[1899] (قال طفت مع عبد الله) ولفظ بن مَاجَهْ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ السَّبْعِ رَكَعْنَا فِي دُبُرِ الْكَعْبَةِ فَقُلْتُ أَلَا تَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ
قَالَ ثُمَّ مَضَى فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ قَامَ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْبَابِ فَأَلْصَقَ صَدْرَهُ وَيَدَيْهِ وَخَدَّهُ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ انْتَهَى (جِئْنَا دبر الكعبة) تقدم من رواية بن مَاجَهْ أَنَّ هَذَا الْمَجِيءَ كَانَ لِرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ
قَالَ السِّنْدِيُّ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمَقَامِ غَيْرُ لَازِمٍ انْتَهَى (حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ) يُقَالُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ إِذَا لَمَسَهُ وَتَنَاوَلَهُ (بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ) أَيْ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ
وَإِسْنَادُ الحديث ليس بقوي
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
وَرَوَى عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ
وَقَوْلُهُ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ سَمِعَ شُعَيْبٌ مِنْ عَبْدِ الله على الصحيح ووقع في كتاب بن مَاجَهْ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَيَكُونُ شُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ طَافَا جَمِيعًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ
[1900] (كَانَ يقود بن عَبَّاسٍ) بَعْدَ ذَهَابِ بَصَرِهِ (عِنْدَ الشُّقَّةِ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ بِمَعْنَى النَّاحِيَةِ أَيْ نَاحِيَةِ الْمُلْتَزَمِ (الَّذِي يَلِي الْحَجَرَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَالْمَوْصُولُ صِفَةُ الرُّكْنِ (مِمَّا يَلِي الْبَابَ) أَيْ بَابَ الْبَيْتِ أَيِ الشُّقَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْبَابِ(5/248)
(نُبِّئْتُ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ أَمَا أُنْبِئْتَ عَلَى صِيغَةِ الْخِطَابِ وَبِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ أُخْبِرْتَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ وهو شبه
6 - لللباب أَمْرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ [1901] (قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَلَّا لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ) قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا مِنْ دَقِيقِ عِلْمِهَا وَفَهْمِهَا الثَّاقِبِ وَكَبِيرِ مَعْرِفَتِهَا بِدَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ إِنَّمَا دَلَّ لَفْظُهَا عَلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ عَمَّنْ يَطُوفُ بِهِمَا وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ السَّعْيِ وَلَا عَلَى وُجُوبِهِ فَأَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِيهَا دَلَالَةٌ لِلْوُجُوبِ وَلَا لِعَدَمِهِ وَبَيَّنَتِ السَّبَبَ فِي نُزُولِهَا وَالْحِكْمَةَ فِي نَظْمِهَا وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ حِينَ تَحَرَّجُوا مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا والمروة فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَمَا يَقُولُ عُرْوَةُ لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطُوفَ بِهِمَا وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ وَاجِبًا وَيَعْتَقِدُ إِنْسَانٌ أَنَّهُ يُمْنَعُ إِيقَاعُهُ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَذَلِكَ كَمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَيُقَالُ فِي جَوَابِهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ إِنْ صَلَّيْتَهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَيَكُونُ جَوَابًا صَحِيحًا وَلَا يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِ صَلَاةِ الظُّهْرِ (يُهِلُّونَ) أَيْ يَحُجُّونَ (لِمَنَاةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ صَنَمٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ بن الْكَلْبِيِّ كَانَتْ صَخْرَةً نَصَبَهَا عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ لِهُذَيْلٍ وَكَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَالطَّاغِيَةُ صِفَةٌ لَهَا إِسْلَامِيَّةٌ (وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ) أَيْ مُقَابِلَةً وَقُدَيْدٌ بِقَافٍ مُصَغَّرٌ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَثِيرُ الْمِيَاهِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيِّ (وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَتَطَوَّفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ(5/249)
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى الطَّوَافِ بِمَنَاةَ فَسَأَلُوا عَنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ وَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ رِوَايَةُ سُفْيَانَ الْمَذْكُورَةُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ إِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ بِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِنَّا كُنَّا لَا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَوَصَلَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ فَتْحِ الْبَارِي
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ
[1902] (اعْتَمَرَ) أَيْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ عَامَ الْقَضِيَّةِ (أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ) الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ أَيْ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ (قَالَ لَا) قَالَ النَّوَوِيُّ سَبَبُ تَرْكِ دُخُولِهِ مَا كَانَ فِي الْبَيْتِ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالصُّوَرِ وَلَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ يَتْرُكُونَهُ لِيُغَيِّرَهَا فَلَمَّا كَانَ فِي الْفَتْحِ أمر بإزالة الصورة ثم دخلها يعني كما في حديث بن عَبَّاسٍ الَّذِي عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ انْتَهَى وَيُحْتَمَلُ أن يكون دخول البيت لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرْطِ فَلَوْ أَرَادَ دُخُولَهُ لَمَنَعُوهُ كَمَا مُنِعَ مِنَ الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ زِيَادَةً عَلَى الثَّلَاثِ فَلَمْ يَقْصِدْ دُخُولَهُ لِئَلَّا يَمْنَعُوهُ
قَالَهُ الْحَافِظُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا
قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بن أَبِي أَوْفَى صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ فِي عُمْرَتِهِ قَالَ لَا
فَقَدْ بين بن أَبِي أَوْفَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي عُمْرَتِهِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ فِي حَجَّتِهِ
[1904] (عَنْ كَثِيرِ بْنِ جُمْهَانَ أَنَّ رَجُلًا) وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ قال رأيت بن عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ إِنْ أَمْشِي فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَإِنْ أَسْعَى فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى وأنا شيخ كبير
ولفظ الترمذي رأيت بن عُمَرَ يَمْشِي فِي(5/250)
الْمَسْعَى فَقُلْتُ لَهُ أَتَمْشِي فِي الْمَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ لَئِنْ سَعَيْتُ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى وَلَئِنْ مَشَيْتُ فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي
قَالَ التِّرْمِذِيُّ الَّذِي يَسْتَحِبُّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنْ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنْ لَمْ يَسْعَ مَشَى بَيْنَ الصَّفَا و (المروة) رَأَوْهُ جَائِزًا انْتَهَى
قُلْتُ وَجَاءَ فِي مُسْنَدِ أحمد من رواية حبيبة بنت أبي تجراة قَالَتْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ وَرَاءَهُمْ يَسْعَى وَهُوَ يَقُولُ اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَقُولُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيُ فَاسْعَوْا وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ السَّعْيَ فَرْضٌ وَهُمُ الْجُمْهُورُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ فِي النَّاسِي خِلَافَ الْعَامِدِ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَعَنْهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ وبه قال أنس فيما نقله عنه بن الْمُنْذِرِ وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَجَّ وَلَمْ يَطُفْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنَّ حَجَّهُ قَدْ تَمَّ وَعَلَيْهِ دم لكن الذي حكاه الحافظ بن حَجَرٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الجُمْهُورِ أَنَّهُ رُكْنٌ لَا يُجْبَرُ بِالدَّمِ وَلَا يَتِمُّ الْحَجُّ بِدُونِهِ
قَالَ بن الْمُنْذِرِ إِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ حَبِيبَةَ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي الْوُجُوبِ
قُلْتُ الْعُمْدَةُ فِي الْوُجُوبِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ امْرِئٍ وَلَا عُمْرَتَهُ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ حَدِيثًا مَقْرُونًا وَقَالَ أَيُّوبُ هُوَ ثِقَةٌ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
7 - (بَاب صفة حجة النبي)
[1905] (دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ هُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الْفَوَائِدِ وَنَفَائِسَ مِنْ مُهِمَّاتِ الْقَوَاعِدِ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ لَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ(5/251)
كَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ وَأَكْثَرُوا
وَصَنَّفَ فِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ جُزْءًا كَثِيرًا
وَخَرَّجَ فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ مِائَةً وَنَيِّفًا وَخَمْسِينَ نَوْعًا وَلَوْ تُقُصِّيَ لَزِيدَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ قَرِيبٌ مِنْهُ
وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ زَائِرُونَ أَوْ ضِيفَانٌ وَنَحْوُهُمْ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ لِيُنْزِلَهُمْ مَنَازِلَهُمْ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَمَرَنَا رسول الله أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ وَفِيهِ إِكْرَامُ أَهْلِ بيت رسول الله كَمَا فَعَلَ جَابِرٌ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ قَوْلِهِ لِلزَّائِرِ وَالضَّيْفِ وَنَحْوِهِمَا مَرْحَبًا
وَمِنْهَا مُلَاطَفَةُ الزَّائِرِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَتَأْنِيسُهُ وَهَذَا سَبَبُ حِلِّ جَابِرٍ زِرَّيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَوَضْعِ يَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ
وَقَوْلُهُ وَأَنَا يَوْمئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ فِعْلِ جَابِرٍ ذَلِكَ التَّأْنِيسَ لِكَوْنِهِ صَغِيرًا أَمَّا الرَّجُلُ الْكَبِيرُ فَلَا يَحُسُّ إِدْخَالَ الْيَدِ فِي جَيْبِهِ وَالْمَسْحَ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ
وَمِنْهَا جَوَازُ إِمَامَةِ الْأَعْمَى وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ
وَمِنْهَا أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِنْ غَيْرِهِ
وَمِنْهَا جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ
(فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ) وَهِيَ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْجِيمِ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا وَرِوَايَاتِنَا لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي سَاجَةٍ بِحَذْفِ النُّونِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْجُمْهُورِ قَالَ هُوَ الصَّوَابُ
قَالَ وَالسَّاجَةُ وَالسَّاجُ جَمِيعًا ثَوْبٌ كَالطَّيْلَسَانِ وَشِبْهِهِ قَالَ رِوَايَةُ النُّونِ وَقَعَتْ فِي رِوَايَةِ الْفَارِسِيِّ قَالَ وَمَعْنَاهُ ثَوْبٌ مُلَفَّقٌ قَالَ قَالَ بَعْضُهُمْ النُّونُ خَطَأٌ وَتَصْحِيفٌ
قُلْتُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَيَكُونُ ثَوْبًا مُلَفَّقًا عَلَى هَيْئَةِ الطَّيْلَسَانِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ السَّاجُ وَالسَّاجَةُ الطَّيْلَسَانُ وَجَمْعُهُ سِيجَانٌ
انْتَهَى
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ نَسَاجَةٌ كَسَحَابَةٍ ضَرْبٌ مِنْ مَلَاحِفَ مَنْسُوجَةٍ كَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ
انْتَهَى (يَعْنِي) تَفْسِيرٌ لِلنِّسَاجَةِ (ثَوْبًا مُلَفَّقًا) أَيْ ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ لَفَقْتُ الثَّوْبَ لَفْقًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ ضَمَمْتُ إِحْدَى الشُّقَّتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَاسْمُ الشُّقَّةِ لِفْقٌ عَلَى وَزْنِ حِمْلٌ وَالْمُلَاءَةُ لِفْقَانِ (عَلَى الْمِشْجَبِ) بِمِيمٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ جِيمٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَهُوَ اسْمٌ لِأَعْوَادٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا الثِّيَابُ وَمَتَاعُ الْبَيْتِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ السُّيُوطِيُّ مِشْجَبٌ كَمِنْبَرٍ عيدان تضم رؤوسها وتفرج قوائمها(5/252)
فَيُوضَعُ عَلَيْهَا الثِّيَابُ (عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) هِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا وَالْمُرَادُ حَجَّةُ الْوَدَاعِ (فَقَالَ) أَيْ أَشَارَ (فَعَقَدَ) أَيْ بِأَنَامِلِهِ عَدَدَ تِسْعَةٍ (مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا أَيْ لَبِثَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَكِنَّهُ اعْتَمَرَ
وَقَدْ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمَرَّ بَيَانُهُ
(ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ) بِلَفْظِ الْمَعْرُوفِ أَيْ أَمَرَ بِأَنْ يُنَادَى بَيْنَهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ بِلَفْظِ الْمَجْهُولِ أَيْ نَادَى مُنَادٍ بإذنه (في العاشرة) مَعْنَاهُ أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَأَشَاعَهُ بَيْنَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا لِلْحَجِّ مَعَهُ وَيَتَعَلَّمُوا الْمَنَاسِكَ وَالْأَحْكَامَ وَيُشَاهِدُوا أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ وَيُوصِيهِمْ لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ وَتَشِيعَ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَتَبْلُغَ الرِّسَالَةُ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ
وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إِيذَانُ النَّاسِ بِالْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ لِيَتَأَهَّبُوا بِهَا (كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ) أَيْ يَطْلُبُ وَيَقْصِدُ (أَنْ يَأْتَمَّ) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ يَقْتَدِيَ (وَيَعْمَلَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ
قَالَ الْقَاضِي هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ وَهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ وَلِهَذَا قَالَ جَابِرٌ وَمَا عَمِلَ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ وَمِثْلُهُ تَوَقُّفُهُمْ عَنِ التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ مَا لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى أَغْضَبُوهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ وَتَعْلِيقُ عَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى إِحْرَامَهُمَا عَلَى إحرام النبي انْتَهَى
قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ وَقَدْ بَلَغَ جُمْلَةُ من معه مِنْ أَصْحَابِهِ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ تِسْعِينَ أَلْفًا وَقِيلَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا انْتَهَى
(وَخَرَجْنَا مَعَهُ) أَيْ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ (حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ) فَنَزَلَ بِهَا فَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ بَاتَ وَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ وَالظُّهْرَ وَكَانَ نِسَاؤُهُ كُلُّهُنَّ مَعَهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اغْتَسَلَ غُسْلًا ثَانِيًا لِإِحْرَامِهِ غَيْرَ غُسْلِ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي الْمِرْقَاةِ (اغْتَسِلِي) فِيهِ اسْتِحْبَابُ غُسْلِ الْإِحْرَامِ لِلنُّفَسَاءِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ (وَاسْتَذْفِرِي) وَالِاسْتِذْفَارُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ أَنْ تَشُدَّ فَرْجَهَا بِخِرْقَةٍ لِتَمْنَعَ سَيَلَانَ الدَّمِ أَيْ شُدِّي فَرْجَكِ
وَفِيهِ صِحَّةُ إِحْرَامِ النُّفَسَاءِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ (فِي الْمَسْجِدِ) الَّذِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ
وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ رَكْعَتَيِ الْإِحْرَامِ (ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ) هِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَبِالْمَدِّ
قَالَ الْقَاضِي(5/253)
وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الْعَذَرِيِّ الْقُصْوَى بِضَمِّ الْقَافِ والقصر
قال وهو خطأ قال بن قتيبة كانت للنبي نُوقٌ الْقَصْوَاءُ وَالْجَدْعَاءُ وَالْعَضْبَاءُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ إِنَّ الْعَضْبَاءَ وَالْقَصْوَاءَ وَالْجَدْعَاءَ اسْمٌ لِنَاقَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي) هَكَذَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ مَدِّ بَصَرِي وَهُوَ صَحِيحٌ وَمَعْنَاهُ مُنْتَهَى بَصَرِي وَأَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ مَدَّ بَصَرِي وَقَالَ الصَّوَابُ مَدَى بَصَرِي وَلَيْسَ هُوَ بِمُنْكَرٍ بَلْ هُمَا لُغَتَانِ وَالْمَدُّ أَشْهَرُ (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ) فِيهِ جَوَازُ الْحَجِّ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَقَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وعلى كل ضامر وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا فَقَالَ مَالِكٌ والشافعي وجمهور العلماء الركوب أفضل اقتداء بالنبي وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى وَظَائِفِ مَنَاسِكِهِ وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ نَفَقَةً
وَقَالَ دَاوُدُ مَاشِيًا أَفْضَلُ لِمَشَقَّتِهِ (يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) مَعْنَاهُ الْحَثُّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ فِعْلِهِ فِي حجته تلك (فأهل رسول الله) أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ (بِالتَّوْحِيدِ) أَيْ إِفْرَادِ التَّلْبِيَةِ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُخَالَفَتِهَا (فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ) هَكَذَا فِي نُسَخِ أَبِي دَاوُدَ وَبَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ لَفْظُ يَرُدُّ بِالرَّاءِ بَعْدَ الْيَاءِ مِنْ رَدَّ يَرُدُّ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ بِالزَّايِ بَعْدَ الْيَاءِ مِنَ الزِّيَادَةِ أَيْ فَلَمْ يزد رسول الله شَيْئًا مِنْهُ وَأَخَذَ هَذِهِ النُّسْخَةَ النَّوَوِيُّ فَقَالَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا روي من زيادة الناس في التلبية مِنَ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ كَمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ الْحَسَنِ لَبَّيْكَ مرهوبا منك ومرغوبا إليك
وعن بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَبَّيْكَ حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا قَالَ الْقَاضِي قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَحَبُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى تلبية رسول الله وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ (وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ تَلْبِيَتَهُ) أَيْ يُرَدِّدُهَا فِي مَوَاضِعَ (قَالَ جَابِرٌ لَسْنَا نَنْوِي إِلَّا الْحَجَّ) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ(5/254)
قَالَ بِتَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ (لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ) أَيْ مَعَ الْحَجِّ أَيْ لَا نَرَى الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَوْنِ الْعُمْرَةِ مَحْظُورَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ
وَقِيلَ مَا قَصَدْنَاهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي ذِكْرِنَا
وَالْمَعْنَى لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ مَقْرُونَةً بِالْحَجَّةِ أَوِ الْعُمْرَةَ الْمُفْرَدَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ الصَّحَابَةَ خَرَجُوا مَعَهُ لا يعرفون إلا الحج فبين لَهُمْ وُجُوهَ الْإِحْرَامِ وَجَوَّزَ لَهُمُ الِاعْتِمَارَ فِي أشهر الحج فقال من أحب يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ (فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا) فِيهِ أَنَّ الطَّوَافَ سَبْعُ طَوَافَاتٍ وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَرْمُلَ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ وَيَمْشِيَ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْأَرْبَعِ الْأَخِيرَةِ وَالرَّمَلُ هُوَ أَسْرَعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى وَهُوَ الْخَبَبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ الرَّمَلُ إِلَّا فِي طَوَافٍ وَاحِدٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ
أَمَّا إِذَا طَافَ فِي غَيْرِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَا رَمَلَ وَلَا يُسْرِعُ أَيْضًا فِي كُلِّ طَوَافِ حَجٍّ وَإِنَّمَا يُسْرِعُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَفِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا طَوَافٌ يَعْقُبُهُ سَعْيٌ وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَيُتَصَوَّرُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ وَيُسَنُّ الِاضْطِبَاعُ فِي طَوَافِ يُسَنُّ فِيهِ الرَّمَلُ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ (اسْتَلَمَ الرُّكْنَ) أَيْ مَسَحَهُ بِيَدِهِ وَهُوَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ طَوَافٍ وَأَرَادَ بِهِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَأَطْلَقَ الرُّكْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْيَمَانِيِّ (فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ) هَذَا دَلِيلٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ طَائِفٍ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُمَا وَاجِبَتَانِ أَمْ سُنَّتَانِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا خَلْفَ الْمَقَامِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِي الْحِجْرِ وَإِلَّا فَفِي الْمَسْجِدِ وَإِلَّا فَفِي مَكَّةَ وَسَائِرِ الْحَرَمِ وَلَوْ صَلَّاهَا فِي وَطَنِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقَاصِي الْأَرْضِ جَازَ وَفَاتَهُ الْفَضِيلَةُ وَلَا يُفَوِّتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَا دَامَ حَيًّا
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَطُوفَ أَطْوِفَةً اسْتُحِبَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَقِيبَ كُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْهِ فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَطُوفَ أَطْوِفَةً بِلَا صَلَاةٍ ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَ الْأَطْوِفَةِ لِكُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْهِ
قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَا يُقَالُ مَكْرُوهٌ
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وعائشة وطاووس وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يوسف وكرهه بن عُمَرَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حنيفة وأبو ثور ومحمد بن الحسن وبن الْمُنْذِرِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (قَالَ) أَيْ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (فَكَانَ أَبِي) مُحَمَّدُ بن علي يقول في روايته (قال بن نُفَيْلٍ وَعُثْمَانُ) أَيْ فِي حَدِيثَيْهِمَا (وَلَا أَعْلَمُهُ) أَيْ لَا أَعْلَمُ جَابِرًا (ذَكَرَهُ) هَذَا الْأَمْرَ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ بِالسُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ (إلا عن النبي) وَمِنْ قَوْلِهِ وَلَا أَعْلَمُهُ مَقُولَةً يَقُولُ أَيْ كَانَ أَبِي يَقُولُ وَلَا أَعْلَمُ جَابِرًا ذَكَرَ هذه القراءة إلا عن(5/255)
النبي (قَالَ سُلَيْمَانُ) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي حَدِيثِهِ (وَلَا أَعْلَمُهُ) أَيْ جَابِرًا (إِلَّا قَالَ) جَابِرٌ في قراءة السورتين (قال رسول الله كذا)
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فَكَانَ أَبِي يَقُولُ وَلَا أَعْلَمُهُ ذكره إلا عن النبي كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد وقل ياأيها الكافرون
(قَالَ النَّوَوِيُّ) مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَ أَبِي يَعْنِي مُحَمَّدًا يَقُولُ إِنَّهُ قَرَأَ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ
قَالَ جَعْفَرٌ وَلَا أَعْلَمُ أَبِي ذَكَرَ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ عَنْ قِرَاءَةِ جَابِرٍ فِي صَلَاةِ جَابِرٍ بَلْ عَنْ جابر عن قراءة النبي فِي صَلَاتِهِ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الفاتحة قل ياأيها الكافرون وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ قُلْ هُوَ الله أحد وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا أَعْلَمُ ذَكَرَهُ إِلَّا عَنِ النبي فَلَيْسَ هُوَ شَكًّا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْعِلْمِ تُنَافِي الشَّكَّ بَلْ جَزَمَ بِرَفْعِهِ إِلَى النبي وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جابر أن النبي طَافَ بِالْبَيْتِ فَرَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَلَاثًا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما قل ياأيها الكافرون وقل هو الله أحد (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْتِ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلطَّائِفِ طَوَافُ الْقُدُومِ إِذَا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ وَصَلَاتِهِ خَلْفَ الْمَقَامِ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمُهُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصَّفَا لِيَسْعَى وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِلَامَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَلْزَمْ دَمٌ (ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ) أَيِ الصَّفَا (إِلَى الصَّفَا) أَيْ جَبَلِ الصَّفَا
قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ أَنَّ السَّعْيَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَبْدَأَ مِنَ الصَّفَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ النبي قال ابدأوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ هَكَذَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفِي هَذَا الرُّقِيِّ خِلَافٌ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا وَاجِبٍ فَلَوْ تَرَكَهُ صَحَّ سَعْيُهُ لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ
وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ إِنْ أَمْكَنَهُ فِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَقِفَ عَلَى الصَّفَا مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَيَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى بِهَذَا الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ وَيَدْعُوَ وَيُكَرِّرَ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (أَنْجَزَ وَعْدَهُ) أَيْ وَفَى وَعْدَهُ بِإِظْهَارِهِ تَعَالَى للدين (ونصر عبده) يريد به(5/256)
نَفْسَهُ (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ) فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ (وَحْدَهُ) أَيْ مِنْ غَيْرِ قِتَالِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا سَبَبَ لانهزامهم كما أشار إليه قوله تعالى وأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها أَوِ الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ تَحَزَّبَ لِحَرْبِ رَسُولِ الله فَإِنَّهُ هَزَمَهُمْ وَكَانَ الْخَنْدَقُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ سَنَةَ خَمْسٍ (ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ) أَيْ بَيْنَ مَرَّاتِ هَذَا الذِّكْرِ بِمَا شَاءَ وَقَالَ الذِّكْرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قاله السندي
وقال القارىء إِنَّهُ دَعَا بَعْدَ فَرَاغِ الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنَ الذِّكْرِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ (حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ) أَيِ انْحَدَرَتْ فِي السَّعْيِ مَجَازٌ مِنْ قَوْلِهِمْ صَبَّ الْمَاءَ فَانْصَبَّ (رَمَلَ) وَفِي الْمُوَطَّأِ سَعَى وَهُوَ بِمَعْنَى رَمَلَ (فِي بَطْنِ الْوَادِي) أَيِ الْمَسْعَى وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَفْرَجٌ بَيْنَ جِبَالٍ أَوْ تِلَالٍ أَوْ آكَامٍ يَعْنِي انْحَدَرَتْ قَدَمَاهُ بِالسُّهُولَةِ فِي صَيِّبٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُنْحَدِرُ الْمُنْخَفِضُ مِنْهَا أَيْ حَتَّى بَلَغَتَا عَلَى وَجْهِ السُّرْعَةِ إِلَى أَرْضٍ مُنْخَفِضَةٍ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ السَّعْيِ الشَّدِيدِ فِي بطن الوادي حَتَّى يَصْعَدَ ثُمَّ يَمْشِي بَاقِيَ الْمَسَافَةِ إِلَى الْمَرْوَةِ عَلَى عَادَةِ مَشْيِهِ وَهَذَا السَّعْيُ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنَ الْمَرَاتِبِ السَّبْعِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَالْمَشْيُ مُسْتَحَبٌّ فِيمَا قَبْلَ الْوَادِي وَبَعْدَهُ وَلَوْ مَشَى فِي الْجَمِيعِ أَوْ سَعَى فِي الْجَمِيعِ أَجْزَأَهُ وَفَاتَهُ الْفَضِيلَةُ
هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ
وَعَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ تَرَكَهُ السَّعْيُ الشَّدِيدُ فِي مَوْضِعِهِ رِوَايَتَانِ أَحَدُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا وَالثَّانِيَةُ تَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ (فَصَنَعَ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ مَا صَنَعَ عَلَى الصَّفَا) مِنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالرُّقِيِّ كَمَا صَنَعَ عَلَى الصَّفَا وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ الطَّوَافِ عَلَى الْمَرْوَةِ) فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الذَّهَابَ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ يُحْسَبُ مَرَّةً وَالرُّجُوعُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا ثَانِيَةً وَالرُّجُوعُ إِلَى الْمَرْوَةِ ثَالِثَةً وَهَكَذَا فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ السَّبْعِ مِنَ الصَّفَا وَآخِرُهَا بِالْمَرْوَةِ (قَالَ) النبي وَهُوَ جَوَابُ إِذَا (إِنِّي لَوِ اسْتَقْبَلْتُ) أَيْ لَوْ عَلِمْتُ فِي قَبْلِ (مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) أَيْ مَا عَلِمْتُهُ فِي دُبُرٍ مِنْهُ
وَالْمَعْنَى لَوْ ظَهَرَ لِيَ هَذَا الرَّأْيُ الَّذِي رَأَيْتُهُ الْآنَ لَأَمَرْتُكُمْ بِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِي وَابْتِدَاءِ خُرُوجِي (لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ) بِضَمِّ السِّينِ يَعْنِي لَمَا جَعَلْتُ عَلَيَّ هَدْيًا وَأَشْعَرْتُهُ وَقَلَّدْتُهُ وَسُقْتُهُ بَيْنَ يَدَيَّ فَإِنَّهُ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ وَلَا يَنْحَرُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ فَلَا يَصِحُّ لَهُ فَسْخُ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَسُقْ إِذْ يَجُوزُ لَهُ فَسْخُ الْحَجِّ إِنَّمَا قَالَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وليعلموا أن(5/257)
الْأَفْضَلَ لَهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ إِذْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الِاقْتِدَاءِ بِفِعْلِهِ
وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَجْعَلُ التَّمَتُّعَ أَفْضَلَ وَهَذَا صريح في أنه لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا (وَلَجَعَلْتُهَا) أَيِ الْحَجَّةَ (عُمْرَةً) أَيْ جَعَلْتُ إِحْرَامِي بِالْحَجِّ مَصْرُوفًا إِلَى الْعُمْرَةِ كَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مُوَافَقَةً (لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ) الْهَدْيُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَعَ الْكِسْرَةِ (فَلْيَحْلِلْ) بِسُكُونِ الْحَاءِ أَيْ لِيَصِرْ حَلَالًا وَلْيَخْرُجْ مِنْ إِحْرَامِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ (وَلْيَجْعَلْهَا) أَيِ الْحَجَّةَ (عُمْرَةً) إِذْ قَدْ أُبِيحَ لَهُ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ حتى يستأنف الإحرام للحج قاله القارىء
(فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ) هُوَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ بِضَمِّ الْجِيمِ وَبِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِهَا ذَكَرَهُمَا الْجَوْهَرِيُّ (أَلِعَامِنَا هَذَا) أَيْ جَوَازُ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ أَوِ الْإِتْيَانُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ مَعَ الْحَجِّ يَخْتَصُّ بِهَذِهِ السَّنَةِ (أَمْ لِلْأَبَدِ) أَيْ مِنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ (هَكَذَا) أَيْ كَالتَّشْبِيكِ (مَرَّتَيْنِ) أَيْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ (لَا) أَيْ لَيْسَ لِعَامِنَا هَذَا فَقَطْ (بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ) بِإِضَافَةِ الْأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي أَيْ آخِرِ الدَّهْرِ أَوْ بِغَيْرِ الْإِضَافَةِ وَكَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ ثُمَّ قَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فقال يارسول اللَّهِ أَرَأَيْتَ مُتْعَتَنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ أَيْ مَخْصُوصَةٌ بِهِ لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِهِ أَمْ لِجَمِيعِ الْأَعْصَارِ فَقَالَ هِيَ لِلْأَبَدِ أَيْ لَا يَخْتَصُّ بِهِ بَلْ لِجَمِيعِهَا إِلَى أَبَدِ الْآبَادِ
وَهَذَا أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ
فَمَعْنَى قَوْلِ سُرَاقَةَ أَلِعَامِنَا هَذَا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالظَّاهِرِيَّةِ أَهَلِ الْفَسْخُ لِعَامِنَا هَذَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا أَهَلِ التَّمَتُّعُ لِعَامِنَا هَذَا فعلى الأولى معنى قوله دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ أَيْ دَخَلَتْ نِيَّةُ الْعُمْرَةِ فِي نِيَّةِ الْحَجِّ بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ نَوَى الْحَجَّ صَحَّ الْفَرَاغُ مِنْهُ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَى الثَّانِي حَلَّتِ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَصَحَّتْ قَالُوا وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ مَا زَعَمَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجُوزُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقِيلَ مَعْنَاهُ جَوَازُ الْقِرَانِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ دَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالُوا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْفَسْخِ هَلْ هُوَ خَاصٌّ لِلصَّحَابَةِ أَمْ لِتِلْكَ السَّنَةِ أَمْ(5/258)
بَاقٍ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ لَيْسَ خَاصًّا بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَقْلِبَ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً وَيَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِهَا
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ انْتَهَى
قَالَ بن الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ بَعْدَ ذِكْرِهِ حَدِيثَ البراء وغضبه لَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْفَسْخِ وَنَحْنُ نُشْهِدُ اللَّهَ عَلَيْنَا أَنَّا لَوْ أَحْرَمْنَا بِحَجٍّ لَرَأَيْنَا فَرْضًا عَلَيْنَا فَسْخَهُ إِلَى عمرة تفاديا من غضب رسول الله وَاتِّبَاعًا لِأَمْرِهِ
فَوَاللَّهِ مَا نُسِخَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا صَحَّ حَرْفٌ وَاحِدٌ يُعَارِضُهُ وَلَا خُصَّ بِهِ أَصْحَابُهُ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ بَلْ أَجْرَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ سُرَاقَةَ أَنْ سَأَلَهُ هَلْ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ أَمْ لَا فَأَجَابَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لِأَبَدِ الْأَبَدِ فَمَا نَدْرِي مَا يُقَدَّمُ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَهَذَا الْأَمْرُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ انْتَهَى وَتَقَدَّمَ بَعْضُ الْبَيَانِ فِي بَابِ إِفْرَادِ الْحَجِّ
(بِبُدْنٍ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعُ بَدَنَةٍ (صَبِيغًا) أَيْ مَصْبُوغًا (فَأَنْكَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ عَلَيْهَا) فِيهِ إِنْكَارُ الرَّجُلِ عَلَى زَوْجَتِهِ مَا رَآهُ مِنْهَا مِنْ نَقْصٍ فِي دِينِهَا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَأَنْكَرَ (قَالَ) أَيْ جَابِرٌ (يَقُولُ بِالْعِرَاقِ) أَيْ حِينَ كَانَ فِيهِ (محرشا على فاطمة) التحريش الإغراء والمراد ها هنا أَنْ يَذْكُرَ لَهُ مَا يَقْتَضِي عِتَابَهَا (قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ) فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْإِحْرَامِ بِإِحْرَامٍ كَإِحْرَامِ فُلَانٍ (فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ) وَفِيهِ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَإِرَادَةُ الْخُصُوصِ لِأَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَحِلَّ وَلَمْ تَكُنْ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ حَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَيْ معظمهم(5/259)
(وَقَصَّرُوا) وَلَمْ يَحْلِقُوا مَعَ أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَبْقَى شَعْرٌ يُحْلَقُ فِي الْحَجِّ فَلَوْ حَلَقُوا لَمْ يَبْقَ شَعْرٌ فَكَانَ التقصير ها هنا أَحْسَنَ لِيَحْصُلَ فِي النُّسُكَيْنِ إِزَالَةُ شَعْرٍ (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) هُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ يَرْتَوُونَ وَيَشْرَبُونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ وَيَسْقُونَ الدَّوَابَّ لِمَا بَعْدَهُ
وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ أحدا إِلَى مِنًى قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ
وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَا بَأْسَ بِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ (فَرَكِبَ رَسُولُ الله إِلَخْ) فِيهِ بَيَانُ سُنَنٍ إِحْدَاهَا أَنَّ الرُّكُوبَ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَشْيِ كَمَا أَنَّهُ فِي جُمْلَةِ الطَّرِيقِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَشْيِ
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْأَفْضَلُ فِي جُمْلَةِ الْحَجِّ الرُّكُوبُ إِلَّا فِي مَوَاطِنِ الْمَنَاسِكِ وَهِيَ مَكَّةُ وَمِنًى وَمُزْدَلِفَةُ وَعَرَفَاتٌ وَالتَّرَدُّدُ بَيْنَهَا
وَالسُّنَّةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُصَلِّيَ بِمِنًى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَبِيتَ بِمِنًى هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَهِيَ لَيْلَةُ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهَذَا الْمَبِيتُ سُنَّةٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا وَاجِبٍ فَلَوْ تَرَكَهُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ (حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ) فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَخْرُجُوا مِنْ مِنًى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ لَهُ مِنْ شَعْرٍ فَضُرِبَتْ بِنَمِرَةٍ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ اسْمُ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ عَرَفَاتٍ وَهِيَ مُنْتَهَى أَرْضِ الْحَرَمِ وَكَانَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ فِيهِ اسْتِحْبَابُ النُّزُولِ بِنَمِرَةٍ إِذَا ذَهَبُوا مِنْ مِنًى لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَدْخُلُوا عَرَفَاتٍ إِلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا
فَالسُّنَّةُ أَنْ يَنْزِلُوا بِنَمِرَةٍ فَمَنْ كَانَ لَهُ قُبَّةٌ ضَرَبَهَا وَيَغْتَسِلُونَ لِلْوُقُوفِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَارَ بِهِمُ الْإِمَامُ إِلَى مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَخَطَبَ بِهِمْ خُطْبَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَخُفِّفَتِ الثَّانِيَةُ جِدًّا فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُمَا صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جامعا بينهما فإذا فرغ من الصلاة سارا إِلَى الْمَوْقِفِ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الِاسْتِظْلَالِ لِلْمُحْرِمِ بِقُبَّةٍ وَغَيْرِهَا وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ لِلنَّازِلِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ لِلرَّاكِبِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ وَبِهِ قَالَ كَثِيرُونَ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ
وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْقِبَابِ وَجَوَازُهَا مِنْ شَعْرٍ (وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَخْ) أَيْ إِنَّهُمْ لَمْ يشكوا في المخالفة بل تحققوا أنه يَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُ مِنْ مَوَاقِفِ الحمس أَهْلِ حَرَمِ اللَّهِ(5/260)
(فَأَجَازَ) أَيْ تَجَاوَزَ عَنِ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى عَرَفَاتٍ
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَى هَذَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَهُوَ جَبَلٌ فِي الْمُزْدَلِفَةِ يُقَالُ لَهُ قُزَحُ وَقِيلَ إِنَّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ كُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَتَجَاوَزُونَ الْمُزْدَلِفَةَ وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ فَظَنَّتْ قُرَيْشٌ أَنَّ النبي يَقِفُ فِي الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ عَلَى عَادَتِهِمْ وَلَا يتجاوز فتجاوزه النبي إِلَى عَرَفَاتٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أفاض الناس أَيْ سَائِرُ الْعَرَبِ غَيْرَ قُرَيْشٍ وَإِنَّمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ لِأَنَّهَا مِنَ الْحَرَمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ (حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ) مَجَازٌ وَالْمُرَادُ قَارَبَ عَرَفَاتٍ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ وَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ بِنَمِرَةٍ فَنَزَلَ بِهَا وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ نَمِرَةَ لَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ وَأَنَّ دُخُولَ عَرَفَاتٍ قَبْلَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا خِلَافُ السُّنَّةِ وَالْقُبَّةُ هِيَ خَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ (حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ) أَيْ مَالَتْ وَزَالَتْ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ إِلَى جَانِبِ الْغَرْبِ (أَمَرَ بالقصواء) لقب ناقة رسول الله وَلَمْ تَكُنْ قَصْوَاءَ أَيْ مَقْطُوعَةَ الْأُذُنِ أَيْ بِإِحْضَارِهَا (فَرُحِلَتْ) هُوَ بِتَخْفِيفِ الْحَاءِ أَيْ جُعِلَ عَلَيْهَا الرَّحْلُ (بَطْنَ الْوَادِي) هُوَ وَادِي عُرَنَةَ بضم العين وفتح الراي وَبَعْدَهَا نُونٌ وَلَيْسَتْ عُرَنَةُ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَالِكًا فَقَالَ هِيَ مِنْ عَرَفَاتٍ (فَخَطَبَ النَّاسَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الخطبة للإمام بالحجيج يوم عرفة فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ سُنَّةٌ بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَخَالَفَ فِيهَا الْمَالِكِيَّةُ
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ فِي الْحَجِّ أَرْبَعُ خُطَبٍ مَسْنُونَةٍ إِحْدَاهَا يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَخْطُبُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالثَّانِيَةُ هَذِهِ الَّتِي بِبَطْنِ عرنة يوم عرفات والثالثة يوم النحر وَالرَّابِعَةُ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي من أيام التشريق
قَالَ الْعُلَمَاءُ وَكُلُّ هَذِهِ الْخُطَبُ أَفْرَادٌ وَبَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَّا الَّتِي يَوْمَ عَرَفَاتٍ فَإِنَّهَا خُطْبَتَانِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ وَيُعَلِّمُهُمْ فِي كُلِّ خُطْبَةٍ مِنْ هَذِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِلَى الْخُطْبَةِ الْأُخْرَى (فَقَالَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ) أَيْ تَعَرُّضُهَا (عَلَيْكُمْ حَرَامٌ) أَيْ لَيْسَ لِبَعْضِكُمْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِبَعْضٍ فَيُرِيقَ دَمَهُ أَوْ يَسْلُبَ مَالَهُ (كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا) يَعْنِي تَعَرُّضُ بَعْضِكُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَأَمْوَالَهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ كَحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَهُمَا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ (فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) أَيْ ذِي الْحِجَّةِ (فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) أَيْ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمَ الْمُحْتَرَمَ
وَفِيهِ تَأْكِيدٌ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ حُرْمَةِ الزَّمَانِ وَاحْتِرَامِ الْمَكَانِ فِي تَشْبِيهِ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبَدَانِ(5/261)
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ مُتَأَكِّدَةُ التَّحْرِيمِ شَدِيدَتُهُ
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَإِلْحَاقِ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ قِيَاسًا (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ) أَيْ فَعَلَهُ أَحَدُكُمْ (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ (تَحْتَ قَدَمَيَّ) بِالتَّثْنِيَةِ (مَوْضُوعٌ) أَيْ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ تَحْتَ الْقَدَمِ وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ إِبْطَالِهِ وَالْمَعْنَى عَفَوْتُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَعَلَهُ رَجُلٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارَ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ تَحْتَ الْقَدَمِ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِبْطَالُ أَفْعَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَبُيُوعِهَا الَّتِي لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا قَبْضٌ وَأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي قَتْلِهَا وَأَنَّ الْإِمَامَ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ قَوْلِهِ وَإِلَى طِيبِ نَفْسِ مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ (وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ) أَيْ مَتْرُوكَةٌ لَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ أَعَادَهَا لِلِاهْتِمَامِ أَوْ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ (وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ) أَيْ أَضَعُهُ وَأَتْرُكُهُ (دِمَاؤُنَا) أَيِ الْمُسْتَحَقَّةُ لَنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ دِمَاءُ أَقَارِبِنَا وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ ابْتَدَأَ فِي وَضْعِ الْقَتْلِ وَالدِّمَاءِ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ لِيَكُونَ أَمْكَنَ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ وأسد لباب الطمع بترخص فيه (دم بن ربيعة) اسمه إياس هو بن عم النبي
قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ وَالْجُمْهُورُ اسْمُ هَذَا الِابْنِ إِيَاسُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
وَقَالَ الْقَاضِي وَرَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
قَالَ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ قِيلَ هُوَ وَهْمٌ وَالصَّوَابُ بن ربيعة لأن ربيعة عاش بعد النبي إِلَى زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَتَأَوَّلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَالَ دَمُ رَبِيعَةَ لِأَنَّهُ وَلِيُّ الدَّمِ فَنَسَبَهُ إِلَيْهِ انْتَهَى
(كَانَ مُسْتَرْضَعًا) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ كَانَ لِابْنِهِ ظِئْرٌ تُرْضِعُهُ (فَقَتَلَتْهُ) أي بن رَبِيعَةَ (هُذَيْلٌ) وَكَانَ طِفْلًا صَغِيرًا يَحْبُو بَيْنَ الْبُيُوتِ فَأَصَابَهُ حَجَرٌ فِي حَرْبِ بَنِي سَعْدٍ مَعَ قَبِيلَةِ هُذَيْلٍ فَقَتَلَهُ (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ) يُرِيدُ أَمْوَالَهُمُ الْمَغْصُوبَةَ وَالْمَنْهُوبَةَ
وَإِنَّمَا خَصَّ الرِّبَا تَأْكِيدًا لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ مَعْقُولٌ فِي صُورَةِ مَشْرُوعٍ وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (وَأَوَّلُ رِبًا) أَيْ زَائِدٍ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ (أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) قِيلَ إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ رِبَانَا وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ خَبَرٌ وَقَوْلُهُ (فَإِنَّهُ) أَيِ الرِّبَا أَوْ رِبَا عَبَّاسٍ (مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ وَالْمُرَادُ الزَّائِدُ عَلَى رَأْسِ المال
قال تعالى وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ(5/262)
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ الزَّائِدُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كما قال تعالى وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم وَأَنَّ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ فَإِذَا وُضِعَ الرِّبَا فَمَعْنَاهُ وَضْعُ الزِّيَادَةِ وَالْمُرَادُ بِالْوَضْعِ الرَّدُّ وَالْإِبْطَالُ (فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ) أَيْ فِي حَقِّهِنَّ والفاء فصيحة وهو معطوف على ماسبق مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ فِي اسْتَبَاحَةِ الدِّمَاءِ وَنَهَبِ الْأَمْوَالِ وَفِي النِّسَاءِ (فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ) أَيْ بِعَهْدِهِ مِنَ الرِّفْقِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ (وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ) أَيْ بِشَرْعِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَانْكِحُوا وَقِيلَ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ أَيْ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا (وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ) أَيْ مِنَ الْحُقُوقِ (أَنْ لَا يُوطِئْنَ) بِهَمْزَةٍ أَوْ بِإِبْدَالِهَا بِالتَّخْفِيفِ صِيغَةُ جَمْعِ الْإِنَاثِ مِنَ الْإِيطَاءِ أَيِ الْإِفْعَالِ قَالَهُ السِّنْدِيُّ (فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ) أَيْ لَا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ مَنَازِلَ الْأَزْوَاجِ وَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ (فَإِنْ فَعَلْنَ) أَيِ الإيطاء المذكور (فاضربوهن) قال بن جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ
الْمَعْنَى لَا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ فَيَتَحَدَّثُ إِلَيْهِنَّ وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ نَهَى عَنْ مُحَادَثَتِهِنَّ وَالْقُعُودِ إِلَيْهِنَّ وَلَيْسَ هَذَا كِنَايَةٌ عن الزنى وَإِلَّا كَانَ عُقُوبَتُهُنَّ الرَّجْمَ دُونَ الضَّرْبِ (ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مُجَرِّحٍ أَوْ شَدِيدٍ شَاقٍّ (وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ) مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَفِي مَعْنَاهُ سُكْنَاهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ بِاعْتِبَارِ حَالِكُمْ فَقْرًا وَغِنًى أَوْ بِالْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ مِنَ التَّوَسُّطِ الْمَمْدُوحِ (وَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ) أَيْ فِيمَا بَيْنَكُمْ (مَا) مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ (لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ تَرْكِي إِيَّاهُ فِيكُمْ أَوْ بَعْدَ التَّمَسُّكِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ (إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ) أَيْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ (كِتَابَ اللَّهِ) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِمَا فِي التَّفْسِيرِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْكِتَابِ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وَقَوْلِهِ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا فَيَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ الْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ (وَأَنْتُمْ مسؤولون عَنِّي) أَيْ عَنْ تَبْلِيغِي وَعَدَمِهِ (فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ) أَيْ فِي حَقِّي (قَدْ بَلَّغْتَ) أَيِ الرِّسَالَةَ (وَأَدَّيْتَ) أَيِ الْأَمَانَةَ (وَنَصَحْتَ) أَيِ الْأُمَّةَ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ أَشَارَ (يَرْفَعُهَا) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَالَ أَيْ رَافِعًا إِيَّاهَا أَوْ مِنَ السَّبَّابَةِ أَيْ مَرْفُوعَةً (وَيَنْكُتُهَا) بِضَمِّ الْكَافِ وَالْمُثَنَّاةِ الفوقانية أي(5/263)
يُشِيرُ بِهَا إِلَى النَّاسِ كَالَّذِي يَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ
وَالنَّكْتُ ضَرْبُ الْأَنَامِلِ إِلَى الْأَرْضِ
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالْمُوَحَّدَةِ
وَفِي النِّهَايَةِ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ يُمِيلُهَا إِلَيْهِمْ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ
قَالَ الْقَاضِي هَكَذَا الرِّوَايَةُ وَهُوَ بَعِيدُ الْمَعْنَى
قَالَ قِيلَ صَوَابُهُ يَنْكُبُهَا بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ
قَالَ وَرُوِّينَاهُ فِي سُنَنِ أَبِي داود وبالتاء المثناة من طريق بن الْأَعْرَابِيِّ وَبِالْمُوَحَّدَةِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ التَّمَّارِ وَمَعْنَاهُ يُقْلِبُهَا وَيُرَدِّدُهَا إِلَى النَّاسِ مُشِيرًا إِلَيْهِمْ وَمِنْهُ نَكَبَ كِنَانَتَهُ إِذَا قَلَبَهَا انْتَهَى
(اللَّهُمَّ اشْهَدْ) عَلَى عِبَادِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِأَنِّي قَدْ بَلَّغْتُ أَوِ الْمَعْنَى اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنْتَ إِذْ كَفَى بِكَ شَهِيدًا (ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ) أَيْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَهَذَا الْجَمْعُ كَجَمْعِ الْمُزْدَلِفَةِ جَمْعُ نُسُكٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَجَمْعُ سَفَرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَمَنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ مُسَافِرًا دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ كَأَهْلِ مَكَّةَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْجَمْعُ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ عِنْدَهُ (وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) أَيْ مِنَ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ (حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ) أَيْ أَرْضَ عَرَفَاتٍ أَوِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ مَوْقِفُهُ الْخَاصُّ وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ (فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ) بِالْحِجْرِ (إِلَى الصَّخَرَاتِ) بِفَتْحَتَيْنِ الْأَحْجَارُ الْكِبَارُ
قَالَ النَّوَوِيُّ هُنَّ حَجَرَاتٌ مُفْتَرَشَاتٌ فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي بِوَسَطِ أَرْضِ عَرَفَاتٍ فَهَذَا هُوَ الْمَوْقِفُ الْمُسْتَحَبُّ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَلْيَتَقَرَّبْ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا مَا اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الْجَبَلِ وَتَوَهُّمُهُمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوُقُوفُ إِلَّا فِيهِ فَغَلَطٌ وَالصَّوَابُ جَوَازُ الْوُقُوفِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ
وَأَمَّا وَقْتُ الْوُقُوفِ فَهُوَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ
وَقَالَ أَحْمَدُ يَدْخُلُ وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ (وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَرُوِيَ بِالْجِيمِ وَفَتْحِ الْبَاءِ قَالَ الْقَاضِي الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْحَدِيثِ وَحَبْلُ الْمُشَاةِ مُجْتَمَعُهُمْ وَحَبْلُ الرَّمَلِ مَا طَالَ مِنْهُ وَضَخُمَ وَأَمَّا بِالْجِيمِ فَمَعْنَاهُ طَرِيقُهُمْ وَحَيْثُ تَسْلُكُ الرَّجَّالَةُ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ بِالْحَاءِ أَيْ طَرِيقُهُمُ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ فِي الرَّمَلِ وَقِيلَ الْحَبْلُ الرَّمْلُ الْمُسْتَطِيلُ وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَى الْمُشَاةِ لِأَنَّهَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهَا إِلَّا الْمَاشِي وَدُونَ حَبْلِ الْمُشَاةِ وَدُونَ الصَّخَرَاتِ اللَّاصِقَةِ بِسَفْحِ الْجَبَلِ مَوْقِفُ الْإِمَامِ وَبِهِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَتَحَرَّى الْوُقُوفَ (فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا) أَيْ قَائِمًا بِرُكْنِ الْوُقُوفِ رَاكِبًا عَلَى النَّاقَةِ (حَتَّى غَرَبَتِ الشمس) أي(5/264)
أَكْثَرُهَا أَوْ كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ (وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا) أَيْ ذَهَابًا قَلِيلًا (حِينَ غَابَ الْقُرْصُ) أَيْ جَمِيعُهُ (فَدَفَعَ) أَيِ ارْتَحَلَ وَمَضَى
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيِ ابْتَدَأَ السَّيْرَ وَدَفَعَ نَفْسَهُ وَنَحَّاهَا انْتَهَى
قَالَ السِّنْدِيُّ أَيِ انْصَرَفَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ (وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيْ ضَمَّ وَضَيَّقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ (مَوْرِكَ رَحْلِهِ) الْمَوْرِكُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا مُقَدَّمُ الرَّحْلِ
قَالَ النَّوَوِيُّ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُثْنِي الرَّاكِبُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ قُدَّامَ وَاسِطَةِ الرَّحْلِ إِذَا مَلَّ مِنَ الرُّكُوبِ
وَضَبَطَهُ الْقَاضِي بِفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ وَهُوَ قِطْعَةُ أُدُمٍ يَتَوَرَّكُ عَلَيْهَا الرَّاكِبُ تُجْعَلُ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ شِبْهُ الْمِخَدَّةِ الصَّغِيرَةِ وَالرَّحْلُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَعْرُوفٌ (السَّكِينَةَ) بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمُوهَا (كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ أَيِ التَّلَّ اللَّطِيفَ مِنَ الرَّمْلِ الْحِبَالُ فِي الرِّمَالِ كَالْجِبَالِ فِي الْحَجَرِ (أَرْخَى لَهَا) أَيْ لِلنَّاقَةِ (قَلِيلًا) أَيْ إِرْخَاءً قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا (حَتَّى تَصْعَدَ) بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقِ وَضَمِّهَا يُقَالُ صَعِدَ فِي الْجَبَلِ وَأَصْعَدَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى إذ تصعدون ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ
(ثُمَّ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ) مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ قِيلَ سُمِّيَتْ بِهِ لِمَجِيءِ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ أَيْ سَاعَاتٍ قَرِيبَةٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أَيْ قُرِّبَتْ (فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) أَيْ وَقْتَ الْعِشَاءِ (بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ) قَالَ النَّوَوِيُّ إِنَّ السُّنَّةَ لِلدَّافِعِ مِنْ عَرَفَاتٍ أَنْ يُؤَخِّرَ الْمَغْرِبَ إِلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ وَيَكُونُ هَذَا التَّأْخِيرُ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ ثُمَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ أَنَّهُ يَجْمَعُ بِسَبَبِ النُّسُكِ وَيَجُوزُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَمِنًى وَغَيْرِهِمْ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ جَمَعَ بِسَبَبِ السَّفَرِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَلَمْ يُسَبِّحْ) أَيْ يُصَلِّ (بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (شَيْئًا) أَيْ مِنَ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ (ثُمَّ اضْطَجَعَ) أَيْ لِلنَّوْمِ (حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ) وَالْمَبِيتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سُنَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ(5/265)
وَقِيلَ وَاجِبٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ كَالْوُقُوفِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَجِلَّةِ
وَقَالَ مَالِكٌ النُّزُولُ وَاجِبٌ وَالْمَبِيتُ سنة وكذا الوقوف بعده قال القارىء ثُمَّ الْمَبِيتُ بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بِحُضُورِ لَحْظَةٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ (حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ) أَيْ طلع الفجر فصلى بغلس (بِنِدَاءٍ) أَيْ أَذَانٍ (حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ)
قَالَ النَّوَوِيُّ الْمَشْعَرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُرَادُ بِهِ ها هنا قُزَحُ وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ فِي الْمُزْدَلِفَةِ
وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ أَنَّ الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ قُزَحُ
وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ جَمِيعُ الْمُزْدَلِفَةِ انْتَهَى كلامه
قال القارىء وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَالْمَشْعَرِ الحرام ما في البخاري كان بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ
(فَحَمِدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ) أَيْ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ (وَهَلَّلَهُ) أَيْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (وَحْدَهُ) أَيْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إِلَخْ (حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا) أَيْ أَضَاءَ الْفَجْرُ إِضَاءَةً تَامَّةً (ثُمَّ دَفَعَ) أَيِ انْصَرَفَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى (وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ) أَيْ بَدَلَ أُسَامَةَ (وَكَانَ رَجِلًا) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ لَمْ يَكُنْ شَدِيدَ الْجُعُودَةِ وَلَا شَدِيدَ السُّبُوطَةِ بَلْ بَيْنَهُمَا (وَسِيمًا) أَيْ حَسَنًا (مَرَّ الظعن) بضم الظاء المعجمة والعين المهملة جميع ظَعِينَةٍ كَالسُّفُنِ جَمْعُ سَفِينَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ فِي الْهَوْدَجِ (حَتَّى أَتَى مُحَسِّرًا) مُحَسِّرٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُشَدَّدَةِ الْمُهْمَلَتَيْنِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِيلَ أَصْحَابِ الْفِيلِ حُسِرَ فِيهِ أي أعيى وَكَلَّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسئا وهو حسير (فَحَرَّكَ قَلِيلًا) أَيْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ زَمَانًا قَلِيلًا أَوْ مَكَانًا قَلِيلًا فَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ السَّيْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ(5/266)
قَالَ الْعُلَمَاءُ يُسْرِعُ الْمَاشِي وَيُحَرِّكُ الرَّاكِبُ دَابَّتَهُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْرَ رَمْيَةِ حجر (ثم سلك الطريق الوسطى) فَفِيهِ أَنَّ سُلُوكَ هَذَا الطَّرِيقِ فِي الرُّجُوعِ مِنْ عَرَفَاتٍ سُنَّةٌ وَهُوَ غَيْرُ الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ إِلَى عَرَفَاتٍ لِيُخَالِفَ الطَّرِيقَ تَفَاؤُلًا بتغير الحال كما فعل رسول الله فِي دُخُولِ مَكَّةَ حِينَ دَخَلَهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَخَرَجَ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى (الَّذِي يُخْرِجُكَ) مِنَ الْإِخْرَاجِ (إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى) هِيَ الْجَمْرَةُ الْأُولَى الَّتِي قَرِيبُ مَسْجِدِ الْخَيْفِ (حَتَّى أَتَى) عَطْفٌ عَلَى سَلَكَ أَيْ حَتَّى وَصَلَ (الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ) وَلَعَلَّ الشَّجَرَةَ إِذْ ذَاكَ كَانَتْ مَوْجُودَةً هُنَاكَ وَأَمَّا الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى فَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ وَهِيَ الْجَمْرَةُ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ
وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لِلْحَاجِّ إِذَا دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ فَوَصَلَ مِنًى أَنْ يَبْدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا قَبْلَ رَمْيِهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِهِ (فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ) بِالْخَاءِ والذال المعجمتين الرمي برؤوس الْأَصَابِعِ
قَالَ الطِّيبِيُّ بَدَلٌ مِنَ الْحَصَيَاتِ وَهُوَ بِقَدْرِ حَبَّةِ الْبَاقِلَّا
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ أَنَّ الرَّمْيَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَأَنَّ قَدْرَهُنَّ بِقَدْرِ حَصَى الْخَذْفِ وَهُوَ نَحْوُ حَبَّةِ الْبَاقِلَّا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَكْبَرَ وَلَا أَصْغَرَ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ أَجْزَأَهُ بِشَرْطِ كَوْنِهِ حَجَرًا وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْحَصَيَاتِ فَيَرْمِيهِنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً (فَرَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي) بَيَانٌ لِمَحَلِّ الرَّمْيِ
وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَقِفَ لِلرَّمْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي بِحَيْثُ يَكُونُ مِنًى وَعَرَفَاتٌ وَالْمُزْدَلِفَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَمَكَّةُ عَنْ يَسَارِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ (وَأَمَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) أَيْ بَقِيَّةَ الْبُدْنِ (فَنَحَرَ) أَيْ عَلِيٌّ (مَا غَبَرَ) أَيْ مَا بَقِيَ مِنَ الْمِائَةِ (وَأَشْرَكَهُ) أي النبي عَلِيًّا فِي هَدْيِهِ
قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِي نَفْسِ الْهَدْيِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَعِنْدِي لَمْ يَكُنْ تَشْرِيكًا حَقِيقَةً بَلْ أَعْطَاهُ قَدْرًا يَذْبَحُهُ
قَالَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ النبي نَحَرَ الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَأَعْطَى عَلِيًّا الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْيَمَنِ وَهِيَ تَمَامُ الْمِائَةِ انْتَهَى
قَالَ القارىء وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَشْرَكَ عَلِيًّا فِي ثَوَابِ هَدْيِهِ لِأَنَّ الْهَدْيَ يُعْطَى حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ
ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ ذَبْحِ الْهَدَايَا وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا يُؤَخِّرُ بَعْضَهَا إِلَى أَيَّامِ التشريق(5/267)
(بِبَضْعَةٍ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ (فَجُعِلَتْ) أَيِ الْقِطَعُ (فِي قِدْرٍ) الْقِدْرُ بالكسر معلوم يؤنث (فأكلا) أي النبي وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (مِنْ لَحْمِهَا) الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْقِدْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْهَدَايَا (وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا) أَيْ مِنْ مَرَقِ الْقِدْرِ أَوْ مَرَقِ لُحُومِ الْهَدَايَا
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ وَقِيلَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَكُلُوا مِنْهَا (ثُمَّ أَفَاضَ) أَيْ أَسْرَعَ (إِلَى الْبَيْتِ) أَيْ بَيْتِ اللَّهِ لِطَوَافِ الْفَرْضِ وَيُسَمَّى طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالرُّكْنِ
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُ الْإِفَاضَةَ بِنِيَّةِ غَيْرِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ لَوْ نَوَى غَيْرَهُ كَنَذْرٍ أَوْ وَدَاعٍ وَقَعَ عَنِ الْإِفَاضَةِ (فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ فَحُذِفَ ذِكْرُ الطَّوَافِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فقد ذكر مسلم من حديث بن عمر أن النبي أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى
وَوَجْهُ الجمع بينهما أنه طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ بِأَصْحَابِهِ حِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالظُّهْرِ الثَّانِيَةِ الَّتِي بِمِنًى انتهى
قال القارىء أَوْ يُقَالُ الرِّوَايَتَانِ حَيْثُ تَعَارَضَتَا فَتَتَرَجَّحُ صَلَاتُهُ بِمَكَّةَ لِكَوْنِهَا أَفْضَلُ وَيُؤَيِّدُهُ ضِيقُ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَعَ قُبَيْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْعَرِ وَرَمَى بِمِنًى وَنَحَرَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ وَطَبَخَ لَحْمَهَا وَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ بِمَكَّةَ وَمَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا عَنْ وَقْتِ الْمُخْتَارِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) وَهُمْ أَوْلَادُ الْعَبَّاسِ وَجَمَاعَتُهُ لِأَنَّ سِقَايَةَ الْحَاجِّ كَانَتْ وَظِيفَتَهُ (يَسْقُونَ) أَيْ مَرَّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَنْزِعُونَ الْمَاءَ مِنْ زَمْزَمَ وَيَسْقُونَ النَّاسَ (عَلَى زَمْزَمَ)
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ يَغْرِفُونَ بِالدِّلَاءِ وَيَصُبُّونَهُ فِي الْحِيَاضِ وَنَحْوِهَا فَيُسَبِّلُونَهُ (فَقَالَ انْزِعُوا) أَيِ الْمَاءَ وَالدِّلَاءَ (بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) يَعْنِي الْعَبَّاسَ وَمُتَعَلِّقِيهِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ دَعَا لَهُمْ بِالْقُوَّةِ عَلَى النَّزْعِ وَالِاسْتِقَاءِ أَيْ إِنَّ هَذَا الْعَمَلَ عَمَلٌ صَالِحٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ لِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لَهُمْ (فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ) أَيْ لَوْلَا مَخَافَةُ كَثْرَةِ الِازْدِحَامِ عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ تُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِكُمْ عَنْهُ رَغْبَةً فِي النزع قاله القارىء(5/268)
وَقَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ لَوْلَا خَوْفِي أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ فَيَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَغْلِبُونَكُمْ وَيَدْفَعُونَكُمْ عَنِ الِاسْتِقَاءِ لَاسْتَقَيْتُ مَعَكُمْ لِكَثْرَةِ فَضِيلَةِ هَذَا الِاسْتِقَاءِ (فَنَاوَلُوهُ) أَيْ أَعْطَوْهُ (دَلْوًا) رِعَايَةً لِلْأَفْضَلِ (فَشَرِبَ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الدَّلْوِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مسلم وبن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ مُطَوَّلًا وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا
وَفِي رِوَايَةٍ أَدْرَجَ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَاتَّخِذُوا من مقام إبراهيم مصلى قال فقرأ فيها بالتوحيد وقل ياأيها الكافرون
وَفِي رِوَايَةٍ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ
[1906] (عَنْ أَبِيهِ) مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (أَنَّ النبي) مُرْسَلًا (فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ) أَيْ بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ كَمَا يَلُوحُ مِنَ الرِّوَايَةِ السَّابِقَةِ (بِأَذَانٍ وَاحِدٍ إِلَخْ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاتَيْنِ بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ بِأَذَانٍ لِلْأُولَى وَإِقَامَتَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ إِقَامَةٌ
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ (وَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ) أَيْ بِالْمُزْدَلِفَةِ (بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ) وَفِيهِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَاتَيْنِ بِجَمْعِ التَّأْخِيرِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ بِأَذَانٍ لِلْأُولَى وَإِقَامَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا) أَيْ لَمْ يُصَلِّ شَيْئًا مِنَ النَّوَافِلِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ (هَذَا الْحَدِيثُ أَسْنَدَهُ) بِذِكْرِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ أَيِ الْمَذْكُورِ آنِفًا (وَوَافَقَ حَاتِمَ) مَفْعُولُ وَافَقَ (عَلَى إِسْنَادِهِ) أَيْ عَلَى إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِذِكْرِ جَابِرٍ (مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ) وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَبْدَ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيَّ وَإِنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ مُرْسَلًا لَكِنْ رَوَاهُ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَكَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ عَنِ جعفر بن مُحَمَّدٍ بِذِكْرِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَصَارَ الْحَدِيثُ مُتَّصِلًا (إِلَّا) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَافَقَ أَيْ وَافَقَ حَاتِمًا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ التَّالِيَةَ (قَالَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ) أَيِ الْعِشَاءَ (بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ) بِخِلَافِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّهُ قال بأذان(5/269)
وَإِقَامَتَيْنِ وَرِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ تُؤَيِّدُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُمَا قَالَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ
وَقَدْ وَجَدْتُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَعَامَّتُهَا خَالِيَةٌ عَنْهَا وَهِيَ هَذِهِ قَالَ أَبُو دَاوُدَ قَالَ لِي أَحْمَدُ أَخْطَأَ حَاتِمٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ انْتَهَى
قُلْتُ فِي صِحَّةِ نِسْبَةِ هَذَا الْكَلَامِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ ثُمَّ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ نَظَرٌ فَقَدْ صَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ وَهْمِ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1907] (قَدْ نَحَرْتُ ها هنا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ) يَعْنِي كُلُّ بُقْعَةٍ مِنْهَا يَصِحُّ النَّحْرُ فِيهَا وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنِ الْأَفْضَلُ النَّحْرُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي نَحَرَ فِيهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ كَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَمَنْحَرُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ هُوَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى الَّتِي تَلِي مسجد منى كذا قال بن التين
وحد منى من وادي محس إلى العقبة (قد وقفت ها هنا) يَعْنِي عِنْدَ الصَّخَرَاتِ وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ يَصِحُّ الْوُقُوفُ فِيهَا
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ فِي أَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ عَرَفَاتٍ صَحَّ وُقُوفُهُ وَلَهَا أَرْبَعُ حُدُودٍ حَدٌّ إِلَى جَادَّةِ طَرِيقِ الْمَشْرِقِ وَالثَّانِي إِلَى حَافَّاتِ الْجَبَلِ الَّذِي وَرَاءَ أَرْضِهَا وَالثَّالِثُ إِلَى الْبَسَاتِينِ الَّتِي تَلِي قَرْنَيْهَا عَلَى يَسَارِ مُسْتَقْبِلِ الْكَعْبَةِ وَالرَّابِعُ وَادِي عُرَنَةَ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَبِالنُّونِ وَلَيْسَتْ هِيَ وَلَا نَمِرَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ وَلَا مِنَ الْحَرَمِ (وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كُلَّهَا مَوْقِفٌ كَمَا أَنَّ عَرَفَاتٍ كُلَّهَا مَوْقِفٌ قَالَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ
مَوْقِفٌ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ
[1908] (فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ) الْمُرَادُ بِالرِّحَالِ الْمَنَازِلُ
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ رَحْلُ الرَّجُلِ مَنْزِلُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ(5/270)
[1909] (وَاتَّخِذُوا) بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْأَمْرِ وَهِيَ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَالْأُخْرَى بِالْفَتْحِ عَلَى الْخَبَرِ وَالْأَمْرُ دَالٌّ عَلَى الْوُجُوبِ
قَالَ فِي الْفَتْحِ لَكِنِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ إِلَى جَمِيعِ جِهَاتِ الْكَعْبَةِ فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّخْصِيصِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمَيْهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ الْآنَ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْمُرَادُ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرَمُ كُلُّهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (فقرأ) النبي (فِيهِمَا بِالتَّوْحِيدِ) أَيْ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْقِرَاءَةِ بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ بِاتِّخَاذِ الْمُصَلَّى لَا بِالصَّلَاةِ
وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ إِنَّ قَوْلَهُ (مُصَلًّى) أَيْ قِبْلَةً انْتَهَى
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَعْنَاهُ تَحْتَ حَدِيثِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ لَكِنْ يَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ فَقَرَأَ فِيهِمَا بِالتَّوْحِيدِ هُوَ قَوْلٌ مُدْرَجٌ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ جَابِرٌ وَكَذَا قَوْلُهُ قَالَ عَلِيٌّ بِالْكُوفَةِ فَذَهَبْتُ مُحَرِّشًا إِلَى آخِرِ قِصَّةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا هُوَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مُنْقَطِعًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَابِرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
8 - (بَاب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ)
[1910] (وَمَنْ دَانَ دِينَهَا) أَيْ تَبِعَهُمْ وَاتَّخَذَ دِينَهُمْ دِينًا (يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ) أَيْ حِينَ يَقِفُ النَّاسُ بِعَرَفَةَ (وَكَانُوا) أَيْ قُرَيْشٌ (يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ) جَمَعَ أَحْمَسَ مِنَ الْحَمَاسَةِ بِمَعْنَى الشَّجَاعَةِ وَالشِّدَّةِ وَبِهِ لُقِّبَ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَمَنْ قِبَلَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِتَحَمُّسِهِمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ لِالْتِجَائِهِمْ إِلَى الْحُمَسَاءَ وَهِيَ الْكَعْبَةُ لِأَنَّ أَحْجَارَهَا أَبْيَضُ إِلَى السَّوَادِ وَهُوَ يَكُونُ شَدِيدًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ مِنَ الْحَرَمِ وَلَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ (سَائِرُ الْعَرَبِ) يَعْنِي بَقِيَّتُهُمْ (يقفون بعرفة(5/271)
عَلَى الْعَادَةِ الْقَدِيمَةِ (ثُمَّ يُفِيضُ مِنْهَا) الْإِفَاضَةُ الدَّفْعُ فِي السَّيْرِ وَأَصْلُهَا الصَّبُّ فَاسْتُعِيرَ لِلدَّفْعِ فِي السَّيْرِ وَأَصْلُهُ أَفَاضَ نَفْسَهُ أَوْ رَاحِلَتَهُ ثُمَّ تَرَكَ الْمَفْعُولَ رَأْسًا حَتَّى صَارَ كَاللَّازِمِ (ثُمَّ أَفِيضُوا) أَيِ ادْفَعُوا (مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) أَيْ عَامَّتُهُمْ وَهُوَ عَرَفَةُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
9 - (بَاب الْخُرُوجِ إِلَى مِنًى)
[1911] (يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) هُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (يَوْمَ عَرَفَةَ) هُوَ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ
وَذَكَرَ أَنَّ شُعْبَةَ قَالَ لَمْ يَسْمَعِ الْحَكَمُ مِنْ مِقْسَمٍ إِلَّا خَمْسَةَ أَشْيَاءَ وَعَدَّهَا وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِيمَا عَدَّ شُعْبَةُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ هَذَا مُنْقَطِعًا انْتَهَى
[1912] (عَقَلْتَهُ) بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ عَلِمْتَهُ وَحَفِظْتَهُ (يَوْمَ النَّفْرِ) أَيِ الرُّجُوعِ مِنْ مِنًى وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (قَالَ بِالْأَبْطَحِ) وَهُوَ الْمُحَصَّبُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فِي الْأَبْطَحِ هُوَ الْعَصْرُ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ أَنَسٌ (افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ) أَيْ لَا تُخَالِفْهُمْ فَإِنْ نَزَلُوا بِهِ فَانْزِلْ بِهِ وَإِنْ تَرَكُوهُ فَاتْرُكْهُ
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُتَابَعَةِ أُولِي الْأَمْرِ وَالِاحْتِرَازِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِنُسُكٍ وَاجِبٍ
نَعَمِ الْمَسْنُونُ مَا فَعَلَهُ الشَّارِعُ وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَ أَنَسٍ يُفِيدُ أَنَّ تَرْكَهُ لِعُذْرٍ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ بن حجر المكي(5/272)
فَإِنَّهُ قَالَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ سُنَّةً أَمْ لَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
0 - (بَاب الْخُرُوجِ إِلَى عَرَفَةَ)
[1913] (غَدًا) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ سَارَ غَدْوَةً (حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَوَجَّهَ مِنْ مِنًى حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ بِهَا وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتِ الشمس (وهي منزل الإمام) قال بن الْحَاجِّ الْمَالِكِيُّ وَهَذَا الْمَوْضِعُ يُقَالُ لَهُ الْأَرَاكُ
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِلَ بِنَمِرَةٍ حَيْثُ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ السَّاقِطَةِ بِأَصْلِ الْجَبَلِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَاتٍ (رَاحَ) أَيْ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ (مُهَجِّرًا) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَكْسُورَةِ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ التَّهْجِيرُ وَالتَّهَجُّرُ السَّيْرُ فِي الْهَاجِرَةِ وَالْهَاجِرَةُ نِصْفُ النَّهَارِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَرِّ وَالتَّوَجُّهُ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُنَّةٌ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْجِيلِ الصَّلَاةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ بَابُ التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ أَيْ مِنْ نَمِرَةَ (فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إِلَخْ) قَالَ بن الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إِلَّا لِمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وطنه ستة عشرة فَرْسَخًا إِلْحَاقًا لَهُ بِالْقَصْرِ قَالَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فإن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ جَمَعَ فَجَمَعَ مَعَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْمَكِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَرْكِ الْجَمْعِ كَمَا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الْقَصْرِ فَقَالَ أَتِمُّوا فَإِنَّا سَفْرٌ وَلَوْ حَرُمَ الْجَمْعُ لَبَيَّنَهُ لَهُمْ إِذْ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ
قَالَ وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلَافٌ فِي الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ بَلْ وَافَقَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَرَى الْجَمْعَ فِي غَيْرِهِ
وَقَوْلُهُ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فِيهِ(5/273)
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ يَدُلُّ على خلافه وعليه عمل العلماء
قال بن حزم رواية بن عُمَرَ لَا تَخْلُو عَنْ وَجْهَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ كَمَا رَوَى جَابِرٌ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ثُمَّ كَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِبَعْضِ مَا يَأْمُرُهُمْ وَيَعِظُهُمْ فِيهِ فَسَمَّى ذَلِكَ الْكَلَامَ خُطْبَةً فَيَتَّفِقُ الْحَدِيثَانِ بِذَلِكَ وَهَذَا أَحْسَنُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فحديث بن عُمَرَ وَهْمٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بن يسار وقد تقدم الكلام عليه انتهى
قلت وقد صرح ها هنا بِالتَّحْدِيثِ
1 - (بَاب الرَّوَاحِ إِلَى عَرَفَةَ)
[1914] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَيْ بَابِ الْخُرُوجِ إِلَى عَرَفَةَ وَبَابِ الرَّوَاحِ إِلَى عَرَفَةَ أَنَّ الْأَوَّلَ فِي بَيَانِ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ يَكُونُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالثَّانِي فِي بَيَانِ أَنَّ الذَّهَابَ مِنْ وَادِي نَمِرَةَ إِلَى عَرَفَاتٍ وَوُقُوفَهُ فِي عَرَفَاتٍ يَكُونُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ
(عَنِ بن عمر) وعند بن مَاجَهْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ بِعَرَفَةَ فِي وَادِي نَمِرَةَ قَالَ فَلَمَّا قُتِلَ الْحَجَّاجُ الْحَدِيثَ (يَرُوحُ فِي هَذَا الْيَوْمِ) أَيْ مِنْ وَادِي نَمِرَةَ إِلَى الموقف في العرفات (قال) أي بن عُمَرَ (إِذَا كَانَ ذَلِكَ) أَيْ زَوَالُ الشَّمْسِ كما يفهم من السياق (فلما أراد بن عمر) وعند بن ماجه فلما أراد بن عُمَرَ أَنْ يَرْتَحِلَ قَالَ أَزَاغَتِ الشَّمْسُ قَالُوا لَمْ تَزُغْ بَعْدُ فَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ أَزَاغَتِ الشَّمْسُ قَالُوا لَمْ تَزُغْ بَعْدُ فَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ أَزَاغَتِ الشَّمْسُ قَالُوا لَمْ تَزُغْ بَعْدُ فَجَلَسَ ثُمَّ قَالَ أَزَاغَتِ الشَّمْسُ قَالُوا نَعَمْ فَلَمَّا قَالُوا زَاغَتِ ارْتَحَلَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ بن ماجه والله أعلم(5/274)
62 - (باب الخطبة بِعَرَفَةَ)
[1915] (عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَمِّهِ) أَيْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَمِّهِ وَكَثِيرًا مَا يَرْوِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ كَحَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ العَقِيقَةِ الْحَدِيثَ (وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِعَرَفَةَ) قِيلَ لَمْ يَكُنْ بِعَرَفَاتٍ مِنْبَرٌ فِي وَقْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا شَكٍّ وَخُطْبَتُهُ كَانَتْ عَلَى نَاقَتِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَوْلُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ عَلَى النَّاقَةِ أو سهو قَالَهُ فِي فَتْحِ الْوَدُودِ
وَقَالَ مَوْلَانَا مُحَمَّدٌ إِسْحَاقُ الْمُحَدِّثُ الدَّهْلَوِيُّ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ
[1916] (أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ إِلَخْ) وَفِي النَّسَائِيِّ يَخْطُبُ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النسائي وبن مَاجَهْ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ وَلَمْ يَقُولَا عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْحَيِّ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ كَذَلِكَ وَأَبُوهُ هُوَ نُبَيْطُ بْنُ شَرِيطٍ لَهُ صُحْبَةٌ وَلِأَبِيهِ شَرِيطٍ صُحْبَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَنُبَيْطٌ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ آخِرَ الْحُرُوفِ وَبَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَشَرِيطٌ بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ آخِرَ الْحُرُوفِ وَبَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ
[1917] (عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبِي عَمْرٍو) كُنْيَةِ عَبْدِ الْمَجِيدِ (خَالِدُ بْنُ الْعَدَّاءِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (بْنِ هَوْذَةَ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ (يَخْطُبُ النَّاسَ(5/275)
أَيْ يَعِظُهُمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْمَنَاسِكَ (يَوْمَ عَرَفَةَ) بَعْدَ الزَّوَالِ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ (عَلَى بَعِيرٍ قَائِمٍ فِي الرِّكَابَيْنِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَائِمًا حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَدَاخِلَانِ
وَقَوْلُهُ قَائِمًا أَوْ وَاقِفًا لَا أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى الدَّابَّةِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ حَالَ كَوْنِ الرِّجْلَيْنِ دَاخِلَيْنِ فِي الرِّكَابَيْنِ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
3 - (بَاب مَوْضِعِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ)
[1919] (عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ) أَيِ الْجُمَحِيِّ الْقُرَشِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ شَيْبَانَ) أَيِ الْأَزْدِيِّ لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ وَيُذْكَرُ فِي الْوُحْدَانِ وَهُوَ خَالُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (قَالَ) أَيْ يَزِيدُ (أتانا بن مِرْبَعٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَقِيلَ اسْمُهُ زَيْدٌ وَقِيلَ يَزِيدُ وَقِيلَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ (وَنَحْنُ بِعَرَفَةَ) هِيَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمَخْصُوصِ وَقِيلَ يَجِيءُ بِمَعْنَى الزَّمَانِ وَأَمَّا عَرَفَاتٌ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَيَجِيءُ بِمَعْنَى الْمَكَانِ فَقَطْ وَلَعَلَّ جَمْعَهُ بِاعْتِبَارِ نَوَاحِيهِ وَأَطْرَافِهِ
كَذَا فِي اللُّمَعَاتِ (فِي مَكَانٍ يُبَاعِدُهُ عَمْرُو) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَيْ يَصِفُهُ بِالْبُعْدِ
وَهَذَا مُدْرَجٌ فِي الْحَدِيثِ أَدْرَجَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مِنْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ يَصِفُ مَكَانًا بِأَنَّ هَذَا الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ يَزِيدُ بْنُ شَيْبَانَ وَغَيْرُهُ فِيهِ كَانَ بَعِيدًا عَنِ الْإِمَامِ يَعْنِي قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ وَبَيْنَ مَوْقِفِ إِمَامِ الْحَاجِّ مَسَافَةٌ وَعِنْدَ بن مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ شَيْبَانَ
قَالَ كُنَّا وُقُوفًا فِي مكان تباعده من الموقف فأتانا بن مِرْبَعٍ الْحَدِيثَ
قَالَ السِّنْدِيُّ أَيْ مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَهُوَ مِنْ بَاعَدَ بِمَعْنَى بَعَّدَ مُشَدَّدًا وَعَمْرٌو هُوَ الْمُخَاطَبُ(5/276)
بِهَذَا الْكَلَامِ أَيْ مَكَانًا تُبَعِّدُهُ أَنْتَ أَيْ تَعُدُّهُ بَعِيدًا
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي عَنْ عَمْرٍو بِمَنْزِلَةِ قَالَ عَمْرٌو كَانَ ذَلِكَ الْمَكَانُ بَعِيدًا عَنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ انْتَهَى
(قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ) أَيْ مَوَاضِعِ نُسُكِكُمْ وَمَوَاقِفِكُمُ الْقَدِيمَةِ فَإِنَّهَا جَاءَتْكُمْ مِنْ إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ وَلَا تُحَقِّرُوا شَأْنَ مَوْقِفِكُمْ بِسَبَبِ بُعْدِهِ عَنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ
وَالْمَشَاعِرُ جَمْعُ الْمَشْعَرِ وَهُوَ الْعِلْمُ أَنَّ مَوْضِعَ النُّسُكِ وَالْعِبَادَةِ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَالْمَقْصُودُ دَفْعُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَوْقِفَ مَا اخْتَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَطْيِيبُ خَاطِرِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى إِرْثِ أَبِيهِمْ وَسُنَنِهِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه الترمذي والنسائي وبن ماجه
وقال الترمذي حديث بن مِرْبَعٍ الْأَنْصَارِيِّ حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ بن عيينة عن عمرو بن دينار
وبن مِرْبَعٍ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ مِرْبَعٍ الْأَنْصَارِيُّ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَالَ غَيْرُهُ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَقِيلَ زَيْدٌ
وَمِرْبَعٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِهَا
4 - (بَاب الدَّفْعَةِ مِنْ عَرَفَةَ)
[1920] (قَالَ أَفَاضَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ صَدَرَ رَاجِعًا إِلَى مِنًى وَأَصْلُ الْفَيْضِ السَّيَلَانُ يُقَالُ فَاضَ الْمَاءُ إِذَا سَالَ وَأَفَضْتُهُ إِذَا أَسَلْتُهُ (وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ) أَيْ فِي السَّيْرِ وَالْمُرَادُ السَّيْرُ بِالرِّفْقِ وَعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ (وَرَدِيفُهُ) وَهُوَ الرَّاكِبُ خَلْفَهُ (أُسَامَةُ) بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ) أَيْ لَازِمُوا الطُّمَأْنِينَةَ وَالرِّفْقَ وَعَدَمَ الْمُزَاحَمَةِ فِي السَّيْرِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ الْبِرَّ) أَيِ الْخَيْرَ (لَيْسَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ) وَالْإِيجَافُ الْإِسْرَاعُ فِي السَّيْرِ يُقَالُ وَجَفَ الْفَرَسُ وَجِيَفًا وَأَوْجَفَ الْفَرَسَ إِيجَافًا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَا أَوْجَفْتُمْ عليه من خيل ولا ركاب (فما(5/277)
رَأَيْتُهَا) أَيِ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ (عَادِيَةً) أَيْ مُسْرِعَةً فِي الْمَشْيِ (حَتَّى أَتَى جَمْعًا) أَيِ الْمُزْدَلِفَةَ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1921] (أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ) أَيْ زُهَيْرٌ وَسُفْيَانُ كِلَاهُمَا يَرْوِيَانِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ (عَشِيَّةَ) وَعِنْدَ مُسْلِمٍ كَيْفَ صَنَعْتُمْ حِينَ رَدِفْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ (رَدِفْتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ رَكِبْتَ وَرَاءَهُ
وَفِيهِ الرُّكُوبُ حَالَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ وَالِارْتِدَافُ عَلَى الدَّابَّةِ وَمَحَلُّهُ إِذَا كَانَتْ مُطِيقَةً (جِئْنَا الشِّعْبَ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ انْصَرَفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الدَّفْعَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ لِحَاجَتِهِ انْتَهَى
وَالشِّعْبُ بِالْكَسْرِ الطَّرِيقُ وَقِيلَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ (لِلْمُعَرَّسِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ هُوَ مَوْضِعُ التَّعْرِيسِ وَبِهِ سُمِّيَ مُعَرَّسُ ذِي الْحُلَيْفَةِ عَرَّسَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى فِيهِ الصُّبْحَ وَالتَّعْرِيسُ نُزُولُ الْمُسَافِرِ آخِرَ اللَّيْلِ نَزْلَةً لِلنَّوْمِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرٍ جِئْنَا الشِّعْبَ الَّذِي يُنِيخُ النَّاسُ فِيهِ لِلْمَغْرِبِ انْتَهَى
أَيْ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ (وَمَا قَالَ) وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يَقُلْ أُسَامَةُ (أَهَرَاقَ الْمَاءَ) هُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَفِيهِ أَدَاءُ الرِّوَايَةِ بِحُرُوفِهَا (ثُمَّ دَعَا بِالْوَضُوءِ) أَيْ بِمَاءِ الْوُضُوءِ (فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا لَيْسَ بِالْبَالِغِ جِدًّا) أَيْ تَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا بِأَنْ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَخَفَّفَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَالِبِ عَادَتِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ الْآتِيَةِ بِلَفْظِ فَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا تَرَكَ إِسْبَاغَهُ حِينَ نَزَلَ الشِّعْبَ لِيَكُونَ مُسْتَصْحِبًا لِلطَّهَارَةِ فِي طَرِيقِهِ وَتَجَوَّزَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فلما نزل وأرادها أسبغه (قلت يارسول اللَّهِ الصَّلَاةَ) بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ أَيْ تذكر الصلاة أوصل وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ (الصَّلَاةُ) بِالرَّفْعِ (أَمَامَكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَيِ الصَّلَاةُ سَتُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْكَ أَوْ أَطْلَقَ الصَّلَاةَ عَلَى مَكَانِهَا أَيِ الْمُصَلَّى بَيْنَ يَدَيْكَ أَوْ مَعْنَى أَمَامَكَ لَا تَفُوتُكُ وَسَتُدْرِكُهَا
وَفِيهِ تذكير(5/278)
التَّابِعِ بِمَا تَرَكَهُ مَتْبُوعُهُ لِيَفْعَلَهُ أَوْ يَعْتَذِرَ عَنْهُ أَوْ يُبَيِّنَ لَهُ صَوَابَهُ (حَتَّى قَدِمْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ) أَيْ لَمْ يَبْدَأْ بِشَيْءٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ ثُمَّ سَارَ حَتَّى بَلَغَ جَمْعًا فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَسَيَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَزِيدُوا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى الْإِنَاخَةِ وَلَفْظُهُ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ وَلَمْ يَحُلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ فَصَلَّوْا ثُمَّ حَلُّوا وَكَأَنَّهُمْ صَنَعُوا ذَلِكَ رِفْقًا بِالدَّوَابِّ أَوْ لِلْأَمْنِ مِنْ تَشْوِيشِهِمْ بِهَا
وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ خَفَّفَ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاتَيْنِ
وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَقْطَعُ ذَلِكَ الْجَمْعَ (وَلَمْ يَحُلُّوا) أَيِ الْمَحَامِلَ عَنْ ظُهُورِ الدَّوَابِّ (ثُمَّ حَلَّ النَّاسُ) أَيِ الْمَحَامِلَ (قَالَ رَدِفَهُ الْفَضْلُ) أَيْ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (وَانْطَلَقْتُ أَنَا فِي سُبَّاقِ) بِضَمِّ السِّينِ وَالْبَاءِ الْمُشَدَّدَةِ على وزن الحفاظ جمع سابق كالحافظ والقاري وَالْقُرَّاءِ يُقَالُ سَبَقَهُ إِلَيْهِ سَبْقًا أَيْ تَقَدَّمَهُ وَجَازَهُ وَخَلَفَهُ فَهُوَ سَابِقٌ
وَأَمَّا السَّبَّاقُ بِفَتْحِ السين فهو فعال للمبالغة في السبق (على رجلي) يعني ماشيا إلى منى
واستدل بالحديث على جمع التأخير وهو إجماع بِمُزْدَلِفَةَ لَكِنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَطَائِفَةٍ بِسَبَبِ السَّفَرِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِسَبَبِ النُّسُكِ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْحَاجُّ الْمَغْرِبَ إِذَا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى يَبْلُغَ الْمُزْدَلِفَةَ وَلَوْ أَجْزَأَتْهُ فِي غَيْرِهَا لَمَا أَخَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وبن مَاجَهْ
[1922] (ثُمَّ أَرْدَفَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَجَعَلَ يُعْنِقُ) مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ أَيْ يَسِيرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْرًا وسطا(5/279)
(وَيَقُولُ السَّكِينَةَ) أَيِ الْزَمُوا السَّكِينَةَ (وَدَفَعَ) أَيْ رَجَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ أَتَمَّ مِنْهُ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
[1923] (سُئِلَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) خُصَّ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّهُ كَانَ رَدِيفَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ (حِينَ دَفَعَ) أَيِ انْصَرَفَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ
قِيلَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ الدَّفْعُ فِي الْإِفَاضَةِ لِأَنَّ النَّاسَ فِي مَسِيرِهِمْ ذَلِكَ يَدْفَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَقِيلَ حَقِيقَةُ دَفَعَ أَيْ دَفَعَ نَفْسَهُ عَنْ عَرَفَةَ وَنَحَّاهَا (قَالَ) أَيْ أُسَامَةُ (كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ السَّيْرَ السَّرِيعَ وَقِيلَ مَا بَيْنَ الْإِبْطَاءِ وَالْإِسْرَاعِ فَوْقَ الْمَشْيِ وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ كَقَوْلِهِمْ رَجَعَ الْقَهْقَرَى أَوِ الْوَصْفِيَّةِ أَيْ يَسِيرُ السَّيْرَ الْعَنَقَ (فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً) بِفَتْحٍ أَيْ سَعَةً وَمَكَانًا خَالِيًا عَنِ الْمَارَّةِ وَالْفَجْوَةُ الْفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ (نَصَّ) بِتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ سَارَ سَيْرًا أَسْرَعَ وَحَرَّكَ النَّاقَةَ يَسْتَخْرِجُ أَقْصَى سَيْرَهَا
قِيلَ أَصْلُ النَّصِّ الِاسْتِقْصَاءُ وَالْبُلُوغُ إِلَى الْغَايَةِ أَيْ سَاقَ دَابَّتَهُ سَوْقًا شَدِيدًا حَتَّى اسْتَخْرَجَ أَقْصَى مَا عِنْدَهَا
قَالَ الطِّيبِيُّ الْعَنَقُ الْمَشْيُ وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ الْمُبَادَرَةُ وَالْمُسَارَعَةُ إِلَى الْعِبَادَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالطَّاعَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم والنسائي وبن مَاجَهْ
[1924] (رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الرِّدْفُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَالرَّدِيفُ الرَّاكِبُ خَلْفَ الرَّاكِبِ (فَلَمَّا وَقَعَتِ الشَّمْسُ) أَيْ غَرَبَتْ (دَفَعَ) أَيِ انْصَرَفَ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1925] (حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ) بِكَسْرِ الشِّينِ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ (وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ) قَالَ(5/280)
الْقُرْطُبِيُّ اخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يُسْبِغْ هَلِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ الْأَعْضَاءِ فَيَكُونُ وُضُوءًا لُغَوِيًّا أَوِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ الْعَدَدِ فَيَكُونُ وُضُوءًا شَرْعِيًّا
قَالَ كِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ لَكِنْ يُعَضِّدُ مَنْ قَالَ بِالثَّانِي مَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وُضُوءًا خَفِيفًا لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي النَّاقِصِ خَفِيفٌ
فَإِنْ قُلْتَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَوَضَّأَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ وَلَكِنَّهُ خَفَّفَ ثُمَّ لَمَّا نَزَلَ تَوَضَّأَ وُضُوءًا آخَرَ وَأَسْبَغَهُ وَالْوُضُوءُ لَا يُشْرَعُ مَرَّتَيْنِ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ
قاله بن عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ الْعَيْنِيُّ قُلْتُ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مَشْرُوعِيَّةِ تَكْرَارِ الْوُضُوءِ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثَانِيًا لِحَدَثٍ طَارِئٍ (ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ) قَالَ الْعَيْنِيُّ كَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ خَشْيَةَ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ التَّشْوِيشِ بِقِيَامِهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(أَفَضْتُ) أَيْ رَجَعَتُ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ (فَمَا مَسَّتْ قَدَمَاهُ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْزِلْ لِحَاجَةٍ بَيْنَ عَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَحَدِيثُ أُسَامَةَ الْمُتَقَدِّمُ يُعَارِضُ ذَلِكَ لَكِنْ يُرَجَّحُ حَدِيثُ أُسَامَةَ عَلَى حَدِيثِ الشَّرِيدِ لِأَنَّهُ الْمُثْبِتُ وَكَانَ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ وَلَمْ يَرَ الشَّرِيدُ نُزُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَا نَفَاهُ عَلَى عِلْمِهِ
وَقَالَ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ هَذَا الْحَدِيثُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاسَّةَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو الْقَاسِمِ انْتَهَى
5 - (بَاب الصَّلَاةِ)
بِجَمْعٍ [1926] بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمِيمِ هُوَ الْمُزْدَلِفَةُ
(صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعًا) قَالَ(5/281)
الْخَطَّابِيُّ هَذَا سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الْآخِرَةِ مِنْهُمَا كَمَا سَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا وَمَعْنَاهُ الرُّخْصَةُ دُونَ الْعَزِيمَةِ إِلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ مُتَابَعَةُ السُّنَّةِ وَالتَّمَسُّكُ بِهَا وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَصَلَّى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهِمَا صَلَّاهُمَا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْمُزْدَلِفَةَ فقال أكثر الفقهاء إن ذلك يجزيه مَعَ الْكَرَاهَةِ لِفِعْلِهِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِنْ صَلَّاهُمَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِي جَمْعًا كَانَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَحَكَى نَحْوًا مِنْ هَذَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَجْزَأَهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ الْإِعَادَةَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
فِي رِوَايَةٍ بِإِقَامَةِ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا
وَفِي رِوَايَةٍ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ بِإِقَامَةٍ
وَفِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ يُقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُؤَذِّنُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا انتهى
[1928] (شبابة) هو بن سُوَارٍ فَهُوَ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ كِلَاهُمَا يَرْوِيَانِ عن بن أَبِي ذِئْبٍ (وَلَمْ يُنَادِ فِي الْأَوَّلِ) أَيْ لَمْ يُؤَذِّنْ فِي الْأُولَى وَتَخْصِيصُ الْأُولَى لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَذَانٌ فِي الْأُولَى فَفِي الثانية
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَذَهَبَ سُفْيَان الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَة إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّيهِمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة لَهُمَا كَمَا جَاءَ فِي بعض روايات حديث بن عمر(5/282)
بِالْأَوْلَى (وَلَمْ يُسَبِّحْ) أَيْ لَمْ يُصَلِّ النَّافِلَةَ
[1929] (فِي هَذَا الْمَكَانِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُؤَذِّنُ وَيُصَلِّيهِمَا بِإِقَامَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا سُنَّ لِصَلَاةِ الْوَقْتِ وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ لَمْ تُصَلَّ فِي وَقْتِهَا فَلَا يُؤَذَّنُ لَهَا كَمَا لَا يُؤَذَّنُ لِلْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يُؤَذَّنُ لِلْأُولَى وَيُقَامُ لَهَا ثُمَّ يُقَامُ لِلْأُخْرَى بِلَا أَذَانٍ وقد روى هذا في حديث جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ فِي قِصَّةِ الْحَجِّ أَنَّهُ فَعَلَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ
وَقَالَ مَالِكٌ يُؤَذَّنُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَيُقَامُ لَهَا فَيُصَلِّي بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يُجْمَعَانِ بإقامة واحدة على حديث بن عُمَرَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي إِسْحَاقَ
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيَّهُمَا فَعَلْتَ أَجْزَأَكَ انْتَهَى
وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُتَقَدِّمَةٌ لِأَنَّ مَعَ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ وَزِيَادَةُ الثقة مقبولة ولأن جابر اعْتَنَى الْحَدِيثَ وَنَقَلَ حَجَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْصَاةً فَهُوَ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْأَذَانُ لِلْأُولَى مِنْهُمَا وَيُقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ إِقَامَةً فَيُصَلِّيهِمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَيُتَأَوَّلُ حَدِيثُ إِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَهَا إِقَامَةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا لِيُجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[1930] (قَالَا صَلَّيْنَا مع بن عُمَرَ بِالْمُزْدَلِفَةِ) قَالَ الْعَيْنِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْعُلَمَاءِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ يُقِيمُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا يُؤَذِّنُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال بن عَبْد الْبَرّ وَهُوَ مَحْفُوظ مِنْ رِوَايَات الثِّقَات إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الْمَغْرِب وَالْعِشَاء بِجَمْعٍ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة
قُلْت وَقَدْ ثبت ذلك عن بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة(5/283)
وَالثَّانِي أَنَّهُ يُقِيمُ مَرَّةً وَاحِدةً لِلْأُولَى فَقَطْ وَلَا أَذَانَ أَصْلًا
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلْأُولَى وَيُقِيمُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَابِلَةِ
وَالرَّابِعُ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْأُولَى فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالْخَامِسُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَيُقِيمُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَالسَّادِسُ أَنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَا يُقِيمُ أَصْلًا
وَأَصْلُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِمَّا الْأَخْبَارُ أَوِ الآثار وأشد الاضطراب في ذلك عن بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ مَوْقُوفًا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ مُسْنَدًا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ مسند الْجَمْعُ بِإِقَامَتَيْنِ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1931] (ثَلَاثًا وَاثْنَتَيْنِ) أَيِ الْمَغْرِبَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَالْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَغْرِبَ لَا يُقْصَرُ بَلْ يُصَلَّى ثَلَاثًا أَبَدًا وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَفِيهِ أَنَّ الْقَصْرَ فِي الْعِشَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ الرُّبَاعِيَّاتِ أَفْضَلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وقال مالك صليهما بأذانين وإقامتين وهو مذهب بن مسعود
وفي صحيح البخاري من حديث بن مَسْعُود أَنَّهُ صَلَّى صَلَاتَيْنِ كُلّ وَاحِدَة وَحْدهَا بأذان وإقامة
قال بن الْمُنْذِر وَرَوَى هَذَا عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ
قال بن عَبْد الْبَرّ وَلَا أَعْلَم فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه وَلَكِنَّهُ رَوَى عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ كَذَلِكَ
وَمَذْهَب إِسْحَاق وَسَالِم وَالْقَاسِم أَنَّهُ يُصَلِّيهِمَا بِإِقَامَتَيْنِ فَقَطْ وحجتهم حديث بن عُمَر الْمُتَقَدِّم هُوَ رِوَايَة عَنْ أَحْمَد وَمَذْهَب أَحْمَد وَالشَّافِعِيّ فِي الْأَصَحّ عَنْهُ وَأَبِي ثَوْر وَعَبْد الْمَلِك الْمَاجِشُونِ وَالطَّحَاوِيّ أَنَّهُ يُصَلِّيهِمَا بِأَذَانٍ وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ
وَحُجَّتهمْ حَدِيث جَابِر الطَّوِيل(5/284)
[1932] (حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ) وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1933] (فَلَمْ يَكُنْ يَفْتُرُ) أَيْ يَمَلُّ وَيَضْعُفُ (أَقَامَ أَوْ أَمَرَ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (فَقَالَ الصَّلَاةَ) أَيْ صَلُّوا الصَّلَاةَ أَوْ قَامَتِ الصَّلَاةُ (دَعَا بِعَشَائِهِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ طَعَامُ الْعَشِيَّةِ (قَالَ) أَيِ الْأَشْعَثُ (حَدِيثِ أَبِي
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَدْ تَكَلَّفَ قَوْم الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الْأَحَادِيث بضروب من التكلف
وعن بن عُمَر فِي ذَلِكَ ثَلَاث رِوَايَات
إِحْدَاهُنَّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنهمَا بِإِقَامَتَيْنِ فَقَطْ وَالثَّانِيَة أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنهمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة لَهُمَا وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ الرِّوَايَتَيْنِ وَالثَّالِثَة أَنَّهُ صَلَّاهُمَا بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة ذَكَرَ ذَلِكَ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا الْحَجَّاج بْن الْمِنْهَال حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ أنس بن سيرين قال وقفت مع بن عُمَر بِعَرَفَة وَكَانَ يُكْثِر أَنْ يَقُول لَا إله إلا الله وحده لا شريك له لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير فَلَمَّا أَفَضْنَا مِنْ عَرَفَة دَخَلَ الشِّعْب فَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ إِلَى جَمْع فَعَرَضَ رَاحِلَته ثُمَّ قَالَ الصَّلَاة
فَصَلَّى الْمَغْرِب وَلَمْ يُؤَذِّن وَلَمْ يُقِمْ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ قَالَ الصَّلَاة ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاء وَلَمْ يُؤَذِّن وَلَمْ يُقِمْ
وَالصَّحِيح فِي ذَلِكَ كُلّه الْأَخْذ بِحَدِيثِ جَابِر وَهُوَ الْجَمْع بَيْنهمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ لِوَجْهَيْنِ اِثْنَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّ الْأَحَادِيث سَوَاء مُضْطَرِبَة مُخْتَلِفَة فهذا حديث بن عُمَر فِي غَايَة الِاضْطِرَاب كَمَا تَقَدَّمَ فَرُوِيَ عن بن عُمَر مِنْ فِعْله الْجَمْع بَيْنهمَا بِلَا أَذَان وَلَا إِقَامَة وَرُوِيَ عَنْهُ الْجَمْع بَيْنهمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة وَرُوِيَ عَنْهُ الْجَمْع بَيْنهمَا بِأَذَانٍ وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة وَرُوِيَ عَنْهُ مُسْنَدًا إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْع(5/285)
أَيْ سُلَيْمٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ للأحاديث الصحيحة عن بن عُمَرَ فِي هَذَا وَعَلَّاجُ بْنُ عَمْرٍو ذَكَرَ البخاري أنه رأى بن عُمَرَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ أَنَّ سُلَيْمَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَهُوَ أبو الشعثاء قد سمع من بن عُمَرَ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا جَاءَ فِيهِ
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى الصَّلَاتَيْنِ كُلَّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ بن مَسْعُودٍ
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ قَوْلُهُ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ يَعْنِي لِكُلِّ صَلَاةٍ دُونَ أَذَانٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِأَذَانٍ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَهُوَ حَجٌّ وَاحِدٌ لَكِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ هُنَا لِذِكْرِ أَذَانٍ وَلَا نَفْيِهِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى هَذَا وَيَبْقَى الْإِشْكَالُ فِي إِثْبَاتِ جَابِرٍ إِقَامَتَهُنَّ وَنَصَّ بن عُمَرَ عَلَى إِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَعَلَّهُ يَعْنِي بِوَاحِدَةٍ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ يَعْنِي دُونَ أَذَانٍ فِيهَا وَبَقِيَتِ الْأُولَى بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
بَيْنهمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَة وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا الْجَمْع بَيْنهمَا بِإِقَامَتَيْنِ وَعَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا الْجَمْع بَيْنهمَا بِأَذَانٍ وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة لَهُمَا وَعَنْهُ مَرْفُوعًا الْجَمْع بَيْنهمَا دُون ذِكْر أَذَان وَلَا إِقَامَة وَهَذِهِ الرِّوَايَات صَحِيحَة عَنْهُ فَيَسْقُط الْأَخْذ بها لاختلافها واضطرابها
وأما حديث بن مَسْعُود فَإِنَّهُ مَوْقُوف عَلَيْهِ مِنْ فِعْله
وَأَمَّا حديث بن عَبَّاس فَغَايَته أَنْ يَكُون شَهَادَة عَلَى نَفْي الْأَذَان وَالْإِقَامَة الثَّابِتَيْنِ وَمَنْ أَثْبَتَهُمَا فَمَعَهُ زِيَادَة عِلْم وَقَدْ شَهِدَ عَلَى أَمْر ثَابِت عَايَنَهُ وَسَمِعَهُ
وَأَمَّا حَدِيث أُسَامَة فَلَيْسَ فِيهِ الْإِتْيَان بِعَدَدِ الْإِقَامَة لَهُمَا وَسَكَتَ عَنْ الْأَذَان وَلَيْسَ سُكُوته عَنْهُ مُقَدَّمًا عَلَى حَدِيث مَنْ أَثْبَتَهُ سَمَاعًا صَرِيحًا بَلْ لَوْ نَفَاهُ جُمْلَة لَقَدَّمَ عَلَيْهِ حَدِيث مَنْ أَثْبَتَهُ لِتَضَمُّنِهِ زِيَادَة عَلَى خَفِيَتْ عَلَى النَّافِي
الْوَجْه الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيث جَابِر فِي جَمْعه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَة أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنهمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يَأْتِ فِي حَدِيث ثَابِت قَطُّ خِلَافه وَالْجَمْع بَيْن الصَّلَاتَيْنِ بِمُزْدَلِفَةِ كَالْجَمْعِ بَيْنهمَا بِعَرَفَة لَا يَفْتَرِقَانِ إِلَّا فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير فَلَوْ فَرَضْنَا تَدَافُع أَحَادِيث الْجَمْع بِمُزْدَلِفَةَ جُمْلَة لَأَخَذْنَا حُكْم الْجَمْع مِنْ جَمْع عَرَفَة(5/286)
[1934] (وَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنَ الْغَدِ) أَيْ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ (قَبْلَ وَقْتِهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِجَمْعٍ الَّتِي هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ وَصَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الْمُعْتَادَةِ وَلَكِنْ بَعْدَ تَحَقُّقِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَوْلُهُ قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُرَادُ قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُعْتَادَةِ لَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِجَائِزٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ أَنَّ بن مسعود صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ بِالْمُزْدَلِفَةِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْفَجْرَ هَذِهِ السَّاعَةَ وَفِي رِوَايَةٍ فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ وَلَكِنْ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا
وَقَدْ يَحْتَجُّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السفر لأن بن مَسْعُودٍ مِنْ مُلَازِمِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَا رَآهُ يَجْمَعُ إِلَّا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ جَوَازُ الْجَمْعِ فِي جَمِيعِ الْأَسْفَارِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْقَصْرُ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ مَفْهُومٌ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِالْمَفْهُومِ وَلَكِنْ إِذَا عَارَضَهُ مَنْطُوقٌ قَدَّمْنَاهُ عَلَى الْمَفْهُومِ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِجَوَازِ الْجَمْعِ ثُمَّ هُوَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِالْإِجْمَاعِ فِي صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَاتٍ
انْتَهَى كَلَامُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1935] (فَلَمَّا أَصْبَحَ يَعْنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ بِمُزْدَلِفَةَ (فقال هذا قزح) بضم القاف وفتح الزاء كَعُمَرَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَدْلِ وَالْعَلَمِيَّةِ اسْمٌ لِمَوْقِفِ الْإِمَامِ بِمُزْدَلِفَةَ وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الترمذي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ إِلَّا مِنْ هذا الوجه(5/287)
[1936] (وقفت ها هنا) أَيْ قُرْبَ الصَّخَرَاتِ (وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ) أَيْ يَصِحُّ الْوُقُوفُ فِيهَا إِلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ (وَوَقَفْتُ ها هنا) أَيْ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِمُزْدَلِفَةَ وَهُوَ الْبِنَاءُ الْمَوْجُودُ بِهَا الْآنَ (وَجَمْعٌ) أَيِ الْمُزْدَلِفَةُ (كُلُّهَا مَوْقِفٌ) أَيْ إِلَّا وَادِي مُحَسِّرٍ قِيلَ جَمْعٌ عَلَمٌ لِمُزْدَلِفَةَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهِ
وَقِيلَ غَيْرُ ذلك (ونحرت ها هنا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ) يَعْنِي كُلُّ بُقْعَةٍ مِنْهَا يَصِحُّ النَّحْرُ فِيهَا وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنِ الْأَفْضَلُ النَّحْرُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي نَحَرَ فِيهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ كَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَمَنْحَرُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ هُوَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى الَّتِي تَلِي مسجد منى كذا قال بن التِّينِ وَحَدُّ مِنًى مِنْ وَادِي مُحَسِّرٍ إِلَى الْعَقَبَةِ (فِي رِحَالِكُمْ) الْمُرَادُ بِالرِّحَالِ الْمَنَازِلُ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ رَحْلُ الرَّجُلِ مَنْزِلُهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ وَبَرٍ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1937] (قَالَ كُلُّ عَرَفَةَ) أَيْ أَجْزَائُهَا وَمَوَاضِعُهَا وَوُجُوهُ جِبَالِهَا (مَوْقِفٌ) أَيْ مَوْضِعُ وُقُوفٍ لِلْحَجِّ (وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ) أَيْ مَوْضِعُ نَحْرٍ وَذَبْحٍ لِلْهَدَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَجِّ (وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ) أَيْ لِوُقُوفِ صُبْحِ الْعِيدِ (وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ جَمْعُ فَجٍّ وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ (طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ) أَيْ يَجُوزُ دُخُولُ مَكَّةَ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهَا وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءَ أَفْضَلُ وَيَجُوزُ النَّحْرُ فِي جَمِيعِ نَوَاحِيهَا لِأَنَّهَا مِنَ الْحَرَمِ وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْحَرَجِ
ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ
وَيَجُوزُ ذَبْحُ جَمِيعِ الْهَدَايَا فِي أَرْضِ الْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ إِلَّا أَنَّ مِنًى أَفْضَلُ لِدِمَاءِ الْحَجِّ وَمَكَّةَ لَا سِيَّمَا الْمَرْوَةَ لِدِمَاءِ الْعُمْرَةِ وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ تَخْصِيصِهِمَا بِالذِّكْرِ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1938] (لَا يُفِيضُونَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يَدْفَعُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ (عَلَى ثَبِيرَ) بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وكسر(5/288)
الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَهَا رَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِمَكَّةَ وَهُوَ أَعْظَمُ جِبَالِهَا
وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الدَّفْعِ مِنَ الْمَوْقِفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عِنْدَ الْإِسْفَارِ
وَقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَقِفْ فِيهَا حتى طلعت الشمس فاته الوقوف
قال بن الْمُنْذِرِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ وَكَانَ مَالِكٌ يَرَى أَنْ يَدْفَعَ قَبْلَ الْإِسْفَارِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِالنُّصُوصِ
كَذَا فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ والترمذي وبن مَاجَهْ
6 - (بَاب التَّعْجِيلِ)
مِنْ جَمْعٍ [1939] (أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ) أَيْ قَدَّمَهُ (لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ) أَيْ إِلَى مِنًى (فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ) بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ ضَعِيفٍ أَيْ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ
قَالَ الطِّيبِيُّ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الضَّعَفَةِ لَيْلًا لِئَلَّا يَتَأَذَّوْا بِالزِّحَامِ انْتَهَى
والحديث أخرجه البخاري والترمذي وبن مَاجَهْ
قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1940] (أُغَيْلِمَةَ) بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَدَّمْنَا
قَالَ فِي النَّيْلِ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ تَصْغِيرُ أَغْلِمَةٍ بِسُكُونِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ اللَّامِ جَمْعُ غُلَامٍ وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقِيَاسِ وَلَمْ يَرِدْ فِي جَمْعِ الْغُلَامِ أَغْلِمَةٌ وَإِنَّمَا وَرَدَ غِلْمَةٌ بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالْأُغَيْلِمَةِ الصِّبْيَانُ وَلِذَلِكَ صَغَّرَهُمْ (عَلَى حُمُرَاتٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ جَمْعُ الْحُمُرِ وَحُمُرٌ جَمْعٌ لِحِمَارٍ (فَجَعَلَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَلْطَحُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ اللَّطْحُ الضَّرْبُ اللَّيِّنُ عَلَى الظَّهْرِ بِبَطْنِ الْكَفِّ انْتَهَى
أَيْ يَضْرِبُ بِيَدِهِ ضَرْبًا خَفِيفًا وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مُلَاطَفَةً لَهُمْ (أَفْخَاذَنَا) جَمْعُ فَخِذٍ (وَيَقُولُ أُبَيْنِيَّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ يَاءِ التَّصْغِيرِ وَبَعْدَهَا نُونٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ ياء النسب المشددة كذا قال بن رسلان(5/289)
فِي شَرْحِ السُّنَنِ
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ الْأُبَيْنِيُّ بِوَزْنِ الْأُعَيْمِيِّ تَصْغِيرًا لِأَبْنَاءِ بِوَزْنِ أَعْمَى هُوَ جمع بن (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ إِنَّ وَقْتَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَعْدِ طلوع الشمس
قال المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
وَالْحَسَنُ الْعُرَنِيُّ بَجَلِيٌّ كُوفِيٌّ ثِقَةٌ وَاحْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ غَيْرَ أَنَّ حديثه عن بن عَبَّاسٍ مُنْقَطِعٌ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الحسن العرني لم يسمع من بن عَبَّاسٍ شَيْئًا
انْتَهَى
وَالْعُرَنِيُّ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ
[1941] (يُقَدِّمُ ضُعَفَاءَ أَهْلِهِ) قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّأِ لَا بَأْسَ أَنْ يُقَدِّمَ الضَّعَفَةَ وَيَأْمُرُهُمْ وَيُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا انتهى
وقال القارىء وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى وُجُوبِ الْمَبِيتِ بِهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَمَنْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ الدَّمُ وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سنة وهو قول مالك
وقال بن خُزَيْمَةَ هُوَ رُكْنٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ مِقْسَمٍ عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ وَقَالَ لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَيُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ جَمْعًا بَيْنَ السُّنَّتَيْنِ
[1942] (عَنْ عَائِشَةَ) حَدِيثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ (قَبْلَ الْفَجْرِ) هَذَا مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ فَلَا يَصْلُحُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى جَوَازِ الرَّمْيِ لِغَيْرِهِنَّ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ لِوُرُودِ الْأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ لمن بعث معن مِنَ الضَّعَفَةِ كَالْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ أَنْ يَرْمِيَ فِي وَقْتِ رَمْيِهِنَّ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ
وأخرج أحمد من حديث بن عباس أن(5/290)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِهِ مَعَ أَهْلِهِ إِلَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ فَرَمَوُا الْجَمْرَةَ مَعَ الْفَجْرِ (فَأَفَاضَتْ) أَيْ ذَهَبَتْ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى مِنًى (الْيَوْمَ الَّذِي) خَبَرُ كَانَ أَيْ يَوْمَ نَوْبَتِهَا كَأَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى سَبَبِ اسْتِعْجَالِهَا فِي الرَّمْيِ وَالْإِفَاضَةِ (يَعْنِي) هُوَ مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي دَاوُدَ أَوْ أَحَدِ رُوَاتِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَذَكَرَ ذَلِكَ عَقِيبَ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ
قَالَ الشَّافِعِيُّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ خُرُوجَهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ لِأَنَّ رَمْيَهَا كَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ لِأَنَّهَا لَا تُصَلِّي الصُّبْحَ بِمَكَّةَ إِلَّا وَقَدْ رَمَتْ قَبْلَ الفجر بساعة ووافق الشافعي عطاء وطاووس فَقَالَا تَرْمِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ تَرْمِي بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ ذَلِكَ
انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
[1943] (مُخْبِرٌ) اسْمُ الْفَاعِلِ مِنَ الْإِخْبَارِ (أَنَّهَا رَمَتِ الْجَمْرَةَ) هَذِهِ جُمْلَةٌ مُجْمَلَةٌ فَسَّرَهَا ذَلِكَ الْمُخْبِرُ عَنْ أَسْمَاءَ بِقَوْلِهِ (قُلْتُ) الْقَائِلُ ذَلِكَ الْمُخْبِرُ (قَالَتْ) أَسْمَاءُ (إِنَّا كُنَّا نَصْنَعُ هَذَا) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالَ الْحَافِظ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ قَالَ بن عَبْد الْبَرّ كَانَ الْإِمَام أَحْمَد يَدْفَع حَدِيث أم سلمة هذا ويضعفه قال بن عَبْد الْبَرّ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا رَمَاهَا ضُحَى ذَلِكَ الْيَوْم وَقَالَ جَابِر رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي الْجَمْرَة ضُحَى يَوْم النَّحْر وَحْده وَرَمَى بَعْد ذَلِكَ بَعْد زَوَال الشَّمْس أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ اِخْتَلَفُوا فِي رَمْيهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس فَمَنْ رَمَاهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس
يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَة
قَالَ بن عَبْد الْبَرّ وَحُجَّته أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَاهَا بَعْد طُلُوع الشَّمْس فَمَنْ رَمَاهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس كَانَ مُخَالِفًا للسنة ولزمه إعادتها
قال زعم بن الْمُنْذِر أَنَّهُ لَا يَعْلَم خِلَافًا فِيمَنْ رَمَاهَا قَبْل طُلُوع الشَّمْس وَبَعْد الْفَجْر أَنَّهُ يُجْزِئهُ
قَالَ وَلَوْ عَلِمْت أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لَأَوْجَبْت عَلَى فَاعِل ذَلِكَ الْإِعَادَة
قَالَ وَلَمْ يُعْلَم قَوْل الثَّوْرِيِّ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوز رَمْيهَا إِلَّا بَعْد طُلُوع الشَّمْس وَهُوَ قَوْل مجاهد وإبراهيم النخعي
فمقتضى مذهب بن الْمُنْذِر أَنَّهُ يَجِب الْإِعَادَة عَلَى مَنْ رَمَاهَا قبل طلوع الشمس وحديث بن عَبَّاس صَرِيح فِي تَوْقِيتهَا بِطُلُوعِ الشَّمْس وَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّفَق عَلَيْهِ بَيْن الْأُمَّة فَهَذَا فَعَلَهُ وَهَذَا قَوْله وَحَدِيث أُمّ سَلَمَة قَدْ أَنْكَرَهُ الْإِمَام أَحْمَد وَضَعَّفَهُ(5/291)
وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يابني هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْتُ لَا فَصَلَّتْ سَاعَةً ثم قالت يابني هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْتُ لَا فَصَلَّتْ سَاعَةً ثم قالت يابني هل غاب القمر قلت نعم قال فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا فَقُلْتُ لَهَا ياهنتاه ما أرانا إلا قد غسلنا قالت يابني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلظُّعُنِ انْتَهَى
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ الرَّمْيُ لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ
وَاسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى إِسْقَاطِ الْمُرُورِ بِالْمَشْعَرِ عَنِ الظَّعِينَةِ
وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ السُّكُوتُ عَنِ الْمُرُورِ بِالْمَشْعَرِ وَقَدْ ثبت في صحيح البخاري وغيره عن بن عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ ثُمَّ يَقْدَمُونَ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَيَرْمُونَ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ مَوْلًى لِأَسْمَاءَ أَخْبَرَهُ
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مَعْنَاهُ أَتَمَّ مِنْهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْهَا
[1944] (بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) أَيْ بِقَدْرِهِ فِي الصِّغَرِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ (فَأَوْضَعَ) أَيْ أَسْرَعَ السَّيْرَ بِإِبِلِهِ يُقَالُ وَضَعَ الْبَعِيرُ وَأَوْضَعَهُ رَاكِبُهُ أَيْ أَسْرَعَ بِهِ السَّيْرَ (وَادِي مُحَسِّرٍ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَالَ مَالِك لَمْ يَبْلُغنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِأَحَدِ فِي الرَّمْي قَبْل طُلُوع الْفَجْر
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدين بن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه وَالْحَدِيث الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْد اللَّه مَوْلَى أَسْمَاء أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَة جَمْع عِنْد الْمُزْدَلِفَة فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَة ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيّ هَلْ غَابَ الْقَمَر قُلْت نَعَمْ قَالَتْ فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا فَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَة ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْح فِي مَنْزِلهَا فَقُلْت لَهَا يَا هَنْتَاهُ مَا أَرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ يَا بُنَيّ إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلظَّعْنِ وَفِي لَفْظ لِمُسْلِمٍ لِظَعْنِهِ
وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيل عَلَى جَوَاز رَمْيهَا بَعْد نِصْف اللَّيْل فَإِنَّ الْقَمَر يَتَأَخَّر فِي اللَّيْلَة الْعَاشِرَة إِلَى قُبَيْل الْفَجْر وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاء بَعْد غِيَابه مِنْ مُزْدَلِفَة إِلَى مِنًى فَلَعَلَّهَا وَصَلَتْ مَعَ الْفَجْر أَوْ بَعْده فَهِيَ وَاقِعَة عَيْن وَمَعَ هَذَا فَهِيَ رُخْصَة لِلظَّعْنِ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى تَقَدُّم الرَّمْي فَإِنَّمَا تَدُلّ عَلَى الرَّمْي بَعْد طُلُوع الْفَجْر وَهَذَا قَوْل أَحْمَد فِي رِوَايَة وَاخْتِيَار بن الْمُنْذِر وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَأَصْحَابهمَا(5/292)
التَّحْسِيرِ
قَالَ الْأَزْرَقِيُّ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَإِنَّمَا شُرِعَ الْإِسْرَاعُ فِيهِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَقِفُونَ فِيهِ وَيَذْكُرُونَ مَفَاخِرَ آبَائِهِمْ فَاسْتَحَبَّ الشَّارِعُ مُخَالَفَتَهُمْ
وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِسْرَاعِ بِالْمَشْيِ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ
قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
7 - (بَاب يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ)
[1945] اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ قِيلَ هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَقِيلَ هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَقِيلَ هُوَ أَيَّامُ الْحَجِّ كُلِّهَا كَقَوْلِهِمْ يَوْمُ الْجَمَلِ وَيَوْمُ صِفِّينَ وَنَحْوِهِ وَقِيلَ الْأَكْبَرُ الْقِرَانُ وَالْأَصْغَرُ الْإِفْرَادُ وَقِيلَ هُوَ حَجُّ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
(قَالَ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) قَالَ تَعَالَى وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الناس أَيْ إِعْلَامٌ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بريء من المشركين ورسوله قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ أَيْ يَوْمَ الْعِيدِ لِأَنَّ فِيهِ تَمَامَ الْحَجِّ مُعْظَمَ أَفْعَالِهِ وَلِأَنَّ الْإِعْلَامَ كَانَ فِيهِ
وَوَصَفَ الْحَجَّ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَجِّ مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَعْمَالِهِ فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ بَاقِي الْأَعْمَالِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَالْقُرْآن قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْأَذَان يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر وَلَا خِلَاف أَنَّ النِّدَاء بِذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ يَوْم النَّحْر بِمِنًى فَهَذَا دَلِيل قَاطِع عَلَى أَنَّ يَوْم الْحَجّ الْأَكْبَر يَوْم النَّحْر
وَذَهَبَ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْنه عَبْد اللَّه وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنَّهُ يَوْم عَرَفَة
وَقِيلَ أَيَّام الْحَجّ كُلّهَا فَعَبَّرَ عَنْ الْأَيَّام بِالْيَوْمِ كَمَا قَالُوا يَوْم الْجَمَل وَيَوْم صِفِّينَ قَالَهُ الثَّوْرِيُّ
وَالصَّوَاب الْقَوْل الْأَوَّل(5/293)
[1946] (بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ) سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ (فِي) جُمْلَةِ رَهْطٍ (مَنْ يُؤَذِّنُ) مِنَ التَّأْذِينِ أَوِ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ (يَوْمَ النَّحْرِ) ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ بَعَثَنِي (لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ) أَيْ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ (مُشْرِكٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هذا وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُنَا الْحَرَامُ كُلُّهُ فَلَا يُمَكَّنُ مُشْرِكٌ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ بِحَالٍ حَتَّى لَوْ جَاءَ فِي رِسَالَةٍ أَوْ أَمْرٍ مُهِمٍّ لَا يُمَكَّنُ مِنَ الدُّخُولِ وَلَوْ دَخَلَ خُفْيَةً وَمَرِضَ وَمَاتَ نُبِشَ وَأُخْرِجَ مِنَ الْحَرَمِ (وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) هَذَا إِبْطَالٌ لِمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ عَلَيْهِ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عُرَاةً
وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ يُشْتَرَطُ لَهُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ يَقُولُ يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ أَجْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ انْتَهَى
8 - (بَاب الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ)
[1947] (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ) أَيْ دَارَ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَوَضَعَهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَامٍ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا وَكُلُّ شَهْرٍ مَا بَيْنَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ إِلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ غَيَّرُوا ذَلِكَ فَجَعَلُوا عَامًا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا وَعَامًا ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْسِئُونَ الْحَجَّ فِي كُلِّ عامين من شَهْرٌ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ وَيَجْعَلُونَ الشَّهْرَ الَّذِي أَنْسَئُوهُ مُلْغًى فَتَصِيرُ تِلْكَ السَّنَةُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَتَتَبَدَّلُ أَشْهُرُهَا فَيُحِلُّونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ وَيُحَرِّمُونَ غَيْرَهَا فَأَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَقَرَّرَهُ عَلَى مَدَارِهِ الْأَصْلِيِّ
فَالسَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ هِيَ السَّنَةُ الَّتِي وَصَلَ ذُو الْحِجَّةِ إِلَى مَوْضِعِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ يَعْنِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ ذُو الْحِجَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَاحْفَظُوهُ وَاجْعَلُوا الْحَجَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَلَا تُبَدِّلُوا شَهْرًا بِشَهْرٍ كَعَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ
كَذَا فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ(5/294)
وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ قَدْ بَدَّلَتْ أَشْهُرَ الْحَرَامِ وَقَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ أَوْقَاتَهَا مِنْ أَجْلِ النَّسِيءِ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَهُوَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما الْآيَةَ وَمَعْنَى النَّسِيءِ تَأْخِيرُ رَجَبٍ إِلَى شَعْبَانَ وَالْمُحَرَّمِ إِلَى صَفَرٍ وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ نَسَأْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخَّرْتُهُ وَمِنْهُ النَّسِيئَةُ فِي الْبَيْعِ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنَ الدِّينِ تَعْظِيمُ هَذِهِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ فِيهَا عَنِ الْقِتَالِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَيَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى أَنْ تَنْصَرِمَ هَذِهِ الْأَشْهُرُ وَيَخْرُجُوا إِلَى أَشْهُرِ الْحِلِّ فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَتَمَسَّكُونَ بِذَلِكَ فَلَا يَسْتَحِلُّونَ الْقِتَالَ فِيهَا وَكَانَ قَبَائِلُ مِنْهُمْ يَسْتَبِيحُونَهَا فَإِذَا قَاتَلُوا فِي شَهْرِ حَرَامٍ حَرَّمُوا مَكَانَهُ شَهْرًا آخَرَ مِنْ أَشْهُرِ الْحِلِّ فَيَقُولُونَ نَسَأْنَا الشَّهْرَ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ حَتَّى اخْتَلَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَخَرَجَ حِسَابُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَكَانُوا رُبَّمَا يحجون في بعض السنن في شهر ويحجون في بعض السنن فِي شَهْرٍ وَيَحُجُّونَ مِنْ قَابِلٍ فِي شَهْرٍ غيره إلى كَانَ الْعَامُ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَادَفَ حَجُّهُمْ شَهْرَ الْحَجِّ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ ذُو الْحِجَّةِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ الْيَوْمَ التَّاسِعَ مِنْهُ ثُمَّ خَطَبَهُمْ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ أشهرالحج قَدْ تَنَاسَخَتْ بِاسْتِدَارَةِ الزَّمَانِ وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي وَضَعَ اللَّهُ حِسَابَ الْأَشْهُرِ عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَمَرَهُمْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَبَدَّلَ أَوْ يَتَغَيَّرَ فِيمَا يُسْتَأْنَفُ مِنَ الْأَيَّامِ
فَهَذَا تَفْسِيرُهُ وَمَعْنَاهُ انْتَهَى كَلَامُهُ (السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى
قَالَهُ الطِّيبِيُّ (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) قَالَ تَعَالَى فلا تظلموا فيهن أنفسكم أَيْ بِهَتْكِ حُرْمَتِهَا وَارْتِكَابِ حَرَامِهَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُقَاتَلَةِ فِيهَا مَنْسُوخَةٌ وَيُؤَيِّدُ النَّسْخَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَاصَرَ الطَّائِفَ وَغَزَا هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ في شوال وذي القعدة (ثلاث) أي ليالي (مُتَوَالِيَاتٌ) أَيْ مُتَتَابِعَاتٌ اعْتَبَرَ ابْتِدَاءَ الشُّهُورِ مِنَ اللَّيَالِي فَحُذِفَتِ التَّاءُ قَالَهُ الطِّيبِيُّ (وَرَجَبُ مُضَرَ) إِنَّمَا أَضَافَ الشَّهْرَ إِلَى مُضَرَ لِأَنَّهَا تُشَدِّدُ فِي تَحْرِيمِ رَجَبٍ وَتُحَافِظُ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ مِنْ مُحَافَظَةِ سَائِرِ الْعَرَبِ فَأُضِيفَ الشَّهْرُ إِلَيْهِمْ بِهَذَا الْمَعْنَى (الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى تَوْكِيدِ الْبَيَانِ كَمَا قَالَ فِي أَسْنَانِ الصَّدَقَةِ
فَإِذَا لَمْ يَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ ومعلوم أن بن اللَّبُونِ لَا يَكُونُ إِلَّا ذَكَرًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا نَسُوا رَجَبًا وَحَوَّلُوهُ عَنْ مَوْضِعِهِ وَسَمَّوْا بِهِ بَعْضَ الشُّهُورِ الْأُخَرِ فَنَحَلُوهُ اسْمَهُ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ رَجَبًا هَذَا الشَّهْرُ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ لَا مَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ رَجَبًا عَلَى حِسَابِ النَّسِيءِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْحَدِيثُ سكت عنه المنذري(5/295)
[1948] (عن بن أبي بكرة) إثبات واسطة بن أَبِي بَكْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ فَيَّاضٍ صَحِيحٌ
قَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْحَجِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ فَيَّاضٍ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنِ بن أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ وَسَيَأْتِي انْتَهَى
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ محمد بن سيرين عن بن أَبِي بَكْرَةَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي بكرة انتهى
وأما زيادة بن أَبِي بَكْرَةَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي بَكْرَةَ فِي حَدِيثِ مُسَدَّدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُتَقَدِّمِ وَجَدْتُ فِي بَعْضِ نُسَخِ السُّنَنِ دُونَ بَعْضٍ وَالصَّحِيحُ إِسْقَاطُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ مُسَدَّدٍ
وَهَكَذَا بِحَذْفِ إِسْقَاطِ وَاسِطَةِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ فِي تُحْفَةِ الْأَشْرَافِ فِي تَرْجَمَةِ مسدد عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ مُحَمَّدٌ هُوَ بن سِيرِينَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ هَكَذَا فِي النُّسْخَتَيْنِ من المنذري (وسماه بن عون) حديث بن عَوْنٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ عَنْ مسدد عن بشر بن المفضل عن بن عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الدِّيَاتِ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ مَسْعَدَةَ عَنِ بن عَوْنٍ
قَالَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وحديث محمد بن سيرين عن بن أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ والنسائي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
9 - (بَاب مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَرَفَةَ)
[1949] (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ) غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ (الدِّيلِيِّ) بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ (فنادى) ذلك الرجل (رسول الله) مَفْعُولُ نَادَى (فَأَمَرَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَنَادَى) الْمُنَادِي بِأَمْرِ(5/296)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْحَجُّ الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ) قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ تَقْدِيرُهُ إِدْرَاكُ الْحَجِّ وُقُوفَ عَرَفَةَ
وَفِي الْمِرْقَاةِ أَيْ مِلَاكُ الْحَجِّ وَمُعْظَمُ أَرْكَانِهِ وُقُوفُ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ (مَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوُقُوفَ يَفُوتُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ وَقْتَهُ يَمْتَدُّ إِلَى مَا بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ (مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ) أَيْ وَلَوْ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ الْعِيدُ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ (فَتَمَّ حَجُّهُ) أَيْ لَمْ يَفُتْهُ وَأَمِنَ مِنَ الْفَسَادِ إِذَا لَمْ يُجَامِعْ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَأَمَّا إِذَا فَاتَهُ الْوُقُوفُ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ إِحْرَامِهِ إِلَى قَابِلٍ كَمَا نُقِلَ الْإِجْمَاعُ فِي ذَلِكَ إِلَّا رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ فَإِنِ اسْتَدَامَ إِحْرَامُهُ إِلَى قَابِلٍ لَمْ يُجْزِئْهُ الْحَجُّ (أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ) مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَأَيَّامُ رَمْيِ الْجِمَارِ وَهِيَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنْهَا لِإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّفْرُ يَوْمَ ثَانِي النَّحْرِ وَلَوْ كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ مِنَ الثَّلَاثِ لَجَازَ أَنْ يَنْفِرَ مَنْ شَاءَ فِي ثَانِيَةٍ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ (فَمَنْ تَعَجَّلَ) أَيِ اسْتَعْجَلَ بِالنَّفْرِ أَيِ الْخُرُوجِ مِنْ مِنًى (فِي يَوْمَيْنِ) أَيِ الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَنَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهَا بَعْدَ رَمْيِ جِمَارِهِ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) بِالتَّعْجِيلِ (وَمَنْ تَأَخَّرَ) عَنِ النَّفْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ حَتَّى بَاتَ لَيْلَةَ الثَّالِثِ وَرَمَى يَوْمَ الثَّالِثِ جِمَارَهُ
وَقِيلَ الْمَعْنَى وَمَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الثَّالِثِ إِلَى الرَّابِعِ وَلَمْ يَنْفِرْ مَعَ الْعَامَّةِ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ
وَسَقَطَ عَنْهُ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَرَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ
وَتَعَجَّلَ جَاءَ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا وَهُنَا لَازِمٌ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) وَهُوَ أَفْضَلُ لِكَوْنِ الْعَمَلِ فِيهِ أَكْمَلَ لعملهلله وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا فِئَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا تَرَى الْمُتَعَجِّلَ آثِمًا وَأُخْرَى تَرَى الْمُتَأَخِّرَ آثِمًا فَوَرَدَ التَّنْزِيلُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهُمَا وَدَلَّ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ هِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ أَوَّلُهَا الْيَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ قَوْلُ بن عمر وبن عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
قِيلَ إِنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْدُودَاتِ يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالب ويروي عن بن عُمَرَ أَيْضًا وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَقَالَ المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي بن مَاجَهْ
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ(5/297)
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَذَكَرَ أَنَّ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ وَهَذَا أَجْوَدُ حديث رواه سفيان الثوري
[1950] (بن مُضَرِّسٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ ثُمَّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ (بِجَمْعٍ) أَيْ بالمزدلفة (من جبل طي) هُمَا جَبَلُ سَلْمَى وَجَبَلُ أَجَأَ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ وطيء بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ (أَكَلَلْتُ مَطِيَّتِي) أَيْ أَعْيَيْتُ دَابَّتِي (مِنْ حَبْلٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْمُوَحَّدَةِ أَحَدُ حِبَالِ الرَّمْلِ وَهُوَ مَا اجْتَمَعَ فَاسْتَطَالَ وَارْتَفَعَ
قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ (هَذِهِ الصَّلَاةَ) يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةَ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ شَرْطٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِشُهُودِهِ جَمْعًا
وَقَدْ قَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ إِذَا فَاتَهُ جَمْعٌ وَلَمْ يَقِفْ بِهِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَيَجْعَلُ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً وَمِمَّنْ تَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بن خزيمة وبن جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاذْكُرُوا اللَّهَ عند المشعر الحرام وَهَذَا نَصٌّ وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ فَتَرْكُهُ لَا يَجُوزُ بِوَجْهٍ
وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِنْ فَاتَهُ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَالْوُقُوفُ بِهَا أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ انْتَهَى كَلَامُهُ (لَيْلًا أَوْ نَهَارًا) تَمَسَّكَ بِهَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ وَقْتُ الْوُقُوفِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا بَعْدَ الزَّوَالِ بَلْ وَقْتُهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَطُلُوعِهِ يَوْمَ الْعِيدِ لِأَنَّ لَفْظَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مُطْلَقَانِ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهَارِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ لَمْ يَقِفُوا إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ وَقَفَ قَبْلَهُ فَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا الْفِعْلَ مُقَيِّدًا لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ (فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ) فَاعِلُ تَمَّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ بِهِ مُعْظَمَ الْحَجِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَالَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ عُرْوَة بْن مُضَرِّس لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْر الشَّعْبِيّ(5/298)
الْفَوَاتُ فَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَلَا يُخْشَى فَوَاتُهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ الْحَجُّ عَرَفَةُ أَيْ مُعْظَمُ الْحَجِّ هُوَ الْوُقُوفُ (وَقَضَى) ذَلِكَ الْحَاجُّ (تَفَثَهُ) مَفْعُولُ قَضَى قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ التَّفَثَ مَا يَصْنَعُهُ الْمُحْرِمُ عِنْدَ حِلِّهِ مِنْ تَقْصِيرِ شَعْرٍ أَوْ حَلْقِهِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَغَيْرِهِ مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ وَيَدْخُلُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ نَحْرُ الْبُدْنِ وَقَضَاءُ جَمِيعِ الْمَنَاسِكِ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي التَّفَثَ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ
وَأَصْلُ التَّفَثِ الْوَسَخُ وَالْقَذَرُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ وَقْفَةً بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ النَّهَارُ تَبِعَ اللَّيْلَ فِي الْوُقُوفِ فَمَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ حَجٌّ مِنْ قَابِلٍ
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ هَدْيٌ مِنَ الْإِبِلِ وَحَجَّةٌ تَامَّةٌ وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مَنْ صَدَرَ يَوْمَ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَحَجَّةٌ تَامَّةٌ كَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَمَنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا رَجَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَوَقَفَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّمُ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عُرْوَةُ بْنُ مُضَرِّسٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ الشَّعْبِيُّ انْتَهَى كَلَامُهُ
قُلْتُ عَامِرٌ هُوَ الشَّعْبِيُّ وَهُوَ يَقُولُ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الْمُضَرِّسِ فَكَيْفَ يُقَالُ عُرْوَةُ بْنُ مُضَرِّسٍ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ الشَّعْبِيُّ وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أيضا بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ عَلَى شَرْطِهِمَا كَذَا فِي الشَّرْحِ
0 - (بَاب النُّزُولِ بِمِنًى)
[1951] (وَنَزَّلَهُمْ) مِنَ التَّنْزِيلِ (وَأَشَارَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَى مَيْمَنَةِ الْقِبْلَةِ) أَيْ جَانِبِ الْيَمِينِ مِنَ الْقِبْلَةِ (إِلَى مَيْسَرَةِ الْقِبْلَةِ) أَيْ جَانِبِ الْيَسَارِ مِنَ الْقِبْلَةِ بِحَيْثُ لَوْ وَقَفْتَ فِي مِنًى مُوَلِّيًا ظَهْرَكَ إِلَى مِنًى(5/299)
وَجَعَلْتَ الْقِبْلَةَ تِلْقَاءَ وَجْهِكَ فَأَيُّ مَكَانٍ وَقَعَ جَانِبُكَ الْيَمِينُ فَهُوَ يَمِينُ الْقِبْلَةِ وَمَا كَانَ جَانِبُكَ الْيَسَارُ فَهُوَ يَسَارُ الْقِبْلَةِ (ثُمَّ لِيَنْزِلِ النَّاسُ حَوْلَهُمْ) أَيْ حَوْلَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ لَكِنْ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاذٍ الْآتِي فِي بَابِ مَا يَذْكُرُ الْإِمَامُ فِي خُطْبَتِهِ يُفَسِّرُ هَذَا الْحَدِيثَ تَفْسِيرًا وَاضِحًا لَا يَبْقَى فِيهِ خَفَاءٌ
فَالْمَعْنَى أَشَارَ إِلَى مَيْمَنَةِ الْقِبْلَةِ أَيْ إِلَى مُقَدَّمِ مَسْجِدِ مِنًى وَأَشَارَ إِلَى مَيْسَرَةِ الْقِبْلَةِ أَيْ إِلَى وَرَاءِ مَسْجِدِ مِنًى وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُتَعَيَّنُ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
1 - (بَاب أَيِّ يَوْمٍ يَخْطُبُ بِمِنًى)
[1952] (عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ) وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ وَالْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ (يَخْطُبُ بَيْنَ) أَيْ فِي (أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) هُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (وَهِيَ) أَيْ خُطْبَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَانِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ (الَّتِي خَطَبَ بِمِنًى) يَوْمَ النَّحْرِ عَاشِرَ ذِي الْحِجَّةِ فَالْخُطْبَتَانِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَفِي ثَالِثِ النَّحْرِ مُتَّحِدَتَانِ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ تَعْلِيمُ أَحْكَامِ الْمَنَاسِكِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَسَيَجِيءُ بَيَانُ أَنَّهُ كَمْ يُسْتَحَبُّ مِنَ الْخُطَبِ فِي الْحَاجِّ فِي آخِرِ أَبْوَابِ الْخُطَبِ
[1953] (سَرَّاءُ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ وَقِيلَ الْقَصْرُ (بِنْتُ نَبْهَانَ) الْغَنَوِيَّةُ صَحَابِيَّةٌ لَهَا حَدِيثٌ وَاحِدٌ
قَالَهُ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ وَقَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ (وَكَانَتْ رَبَّةَ بَيْتٍ) أَيْ صَاحِبَةَ بيت يكون فيه الأصنام (يوم(5/300)
الرؤوس) بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْهَمْزَةِ بَعْدَهَا وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يأكلون فيه رؤوس الأضاحي
قال إمام الفن جاد اللَّهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ أَهْلُ مَكَّةَ يسمون يوم القر يوم الرؤوس لأنهم يأكلون فيه رؤوس الْأَضَاحِيِّ انْتَهَى
وَهَذَا مِنَ أَلْفَاظِ الْمَجَازِ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ اللُّغَةِ كَصَاحِبِ الْمِصْبَاحِ وَالْقَامُوسِ وَاللَّسَانِ وَغَيْرِهِمْ
وَأَمَّا يَوْمُ الْقَرِّ فَقَالَ فِي الْمِصْبَاحِ قِيلَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يَوْمُ الْقَرِّ لِأَنَّ النَّاسَ يَقِرُّونَ فِي مِنًى (أَيُّ يَوْمٍ هَذَا) سَأَلَ عَنْهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ لِتَكُونَ الْخُطْبَةُ أَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَثْبَتَ (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) هَذَا مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْجَوَابِ لِلْأَكَابِرِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْجَهْلِ وَلَعَلَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ (عَمُّ أَبِي حُرَّةَ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَاسْمُ أَبِي حُرَّةَ حَنِيفَةُ
وَقِيلَ حَكِيمٌ (الرَّقَاشِيُّ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ شِينٌ مُعْجَمَةٌ
2 - (بَاب مَنْ قَالَ خَطَبَ يَوْمَ النَّحْرِ)
[1954] (الْعَضْبَاءِ) هِيَ مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ كُلُّ قَطْعٍ فِي الْأُذُنِ جَدْعٌ فَإِنْ جَاوَزَ الرُّبْعَ فَهِيَ عَضْبَاءُ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ إِنَّ الْعَضْبَاءَ الَّتِي قُطِعَ نِصْفُ أُذُنِهَا فَمَا فَوْقُ
وَقَالَ الْخَلِيلُ هِيَ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ
قَالَ الْحَرْبِيُّ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَضْبَاءَ اسْمٌ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْأُذُنِ فَقَدْ جُعِلَ اسْمُهَا هَذَا (يوم الأضاحي بِمِنًى) وَهَذِهِ هِيَ الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَعَلَهَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ بِهَا الْمَبِيتَ وَالرَّمْيَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَذَا فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النسائي(5/301)
[1955] (بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ) فِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ
3 - (بَاب أَيِّ وَقْتٍ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ)
[1956] (رَافِعُ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ) نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ مُزَيْنَةَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ (يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى) أَيْ أَوَّلَ النَّحْرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ) أَيْ بَيْضَاءَ يُخَالِطُهَا قَلِيلُ سَوَادٍ
وَلَا يُنَافِيهِ حَدِيثُ قُدَامَةَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ صَهْبَاءَ (وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ) مِنَ التَّعْبِيرِ أَيْ يُبَلِّغُ حَدِيثَهُ مَنْ هُوَ بَعِيدٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ حَيْثُ يَبْلُغُهُ صَوْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَفْهَمُهُ فَيُبَلِّغُهُ لِلنَّاسِ وَيُفْهِمُهُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ وَنُقْصَانِ (وَالنَّاسُ بَيْنَ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ) أَيْ بَعْضُهُمْ قَاعِدُونَ وَبَعْضُهُمْ قَائِمُونَ وَهُمْ كَثِيرُونَ حَيْثُ بَلَغُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَاعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَغَيْرَهُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ لَا خُطْبَةَ فِيهِ للحاج وأن هذه الأحاديث إنما هو من قبيل الوصايا العامة لا أنه خُطْبَةٌ مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ
وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الرُّوَاةَ سَمَّوْهَا خُطْبَةً كَمَا سَمَّوُا الَّتِي وَقَعَتْ بِعَرَفَاتٍ خُطْبَةً وَقَدِ اتُّفِقَ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَاتٍ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ بِعَرَفَاتٍ
وَالْقَائِلُونَ بِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ هُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ
وَقَالُوا خُطَبُ الْحَجِّ سَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ(5/302)
وَيَوْمَ عَرَفَةَ وَثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيُّ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ ثَانِي النَّحْرِ ثَالِثُهُ وَزَادَ خُطْبَةً رَابِعَةً وَهِيَ يَوْمُ النَّحْرِ قَالَ وَبِالنَّاسِ إِلَيْهَا حَاجَةٌ لِيَعْلَمُوا أَعْمَالَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الرَّمْيِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ وَاسْتُدِلَّ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ
وَتَعَقَّبَهُ الطَّحَاوِيُّ بِأَنَّ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ يَوْمَ النَّحْرِ لَيْسَتْ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَإِنَّمَا ذَكَرَ وَصَايَا عَامَّةً
قَالَ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ عَلَّمَهُمْ فِيهَا شَيْئًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَمْ تقصد لأجل الحج
وقال بن الْقَصَّارِ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَبْلِيغِ مَا ذَكَرَهُ لِكَثْرَةِ الْجَمْعِ الَّذِي اجْتَمَعَ مِنْ أَقَاصِي الدُّنْيَا فَظَنَّ الَّذِي رَآهُ أَنَّهُ خَطَبَ قَالَ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إِلَى تَعْلِيمِهِمْ أَسْبَابَ التَّحَلُّلِ الْمَذْكُورَةَ فَلَيْسَ بِمُتَعَيَّنٍ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْلِمَهُمْ إِيَّاهَا بِمَكَّةَ أَوْ يَوْمَ عَرَفَةَ انْتَهَى
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ فِي الْخُطْبَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَعْظِيمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَعَلَى تَعْظِيمِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَعَلَى تَعْظِيمِ بَلَدِ الْحَرَامِ وَقَدْ جَزَمَ الصَّحَابَةُ بِتَسْمِيَتِهَا خُطْبَةً فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى تَأْوِيلِ غَيْرِهِمْ
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ إِمْكَانِ تَعْلِيمِ مَا ذَكَرَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ كَوْنُهُ يَرَى مَشْرُوعِيَّةَ الْخُطْبَةِ ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ وَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ جَمِيعَ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ لَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَعْمَالٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ شَرَعَ تَجْدِيدَ التَّعْلِيمِ بِحَسَبِ تَجَدُّدِ الْأَسْبَابِ
وَأَمَّا قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ إِنَّهُ لَمْ يُعَلِّمْهُمْ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ فَيَرُدُّهُ مَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ وَذَكَرَ فِيهِ السُّؤَالَ عَنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ
كَذَا فِي النَّيْلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
4 - (بَاب مَا يَذْكُرُ الْإِمَامُ فِي خُطْبَتِهِ بِمِنًى)
[1957] (وَنَحْنُ بِمِنًى) أَيَّامُ مِنًى أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَالْأَحَادِيثُ الْأُخَرُ مُصَرِّحَةٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَيَتَعَيَّنُ يَوْمُ النَّحْرِ (فَفُتِحَتْ أَسْمَاعُنَا) بِضَمِّ الْفَاءِ الثَّانِيَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ بَعْدَهَا أَيِ اتَّسَعَ سَمْعُ أَسْمَاعِنَا وَقَوِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَارُورَةٌ فُتُحٌ بِضَمِّ الْفَاءِ وَالتَّاءِ أَيْ وَاسِعَةُ الرَّأْسِ
قَالَ الْكِسَائِيُّ لَيْسَ لَهَا صِمَامٌ وَغِلَافٌ وَهَكَذَا صَارَتْ أَسْمَاعُهُمْ لَمَّا سَمِعُوا(5/303)
صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مِنْ بَرَكَاتِ صَوْتِهِ إِذَا سَمِعَهُ الْمُؤْمِنُ قَوِيَ سَمْعُهُ وَاتَّسَعَ مَسْلَكُهُ حَتَّى صَارَ يَسْمَعُ الصَّوْتَ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ وَيَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ الْخَفِيَّةَ (وَنَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَذْهَبُوا لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ بَلْ وَقَفُوا فِي رِحَالِهِمْ وهم يسمعونها ولعلى هَذَا الْمَكَانَ فِيمَنْ لَهُ عُذْرٌ مَنَعَهُ عَنِ الْحُضُورِ لِاسْتِمَاعِهَا وَهُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (فَطَفِقَ يُعَلِّمُهُمْ) هَذَا انْتِقَالٌ مِنَ التكلم إلى الغيبة وهو أسباب مِنْ أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ مُسْتَحْسَنٌ (حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ) يَعْنِي الْمَكَانَ الَّذِي تُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ وَالْجِمَارُ هِيَ الْحَصَى الصِّغَارُ الَّتِي يَرْمِي بِهِ الْجَمَرَاتِ (فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ) زَادَ فِي نُسْخَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ فِي أُذُنَيْهِ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَجْمَعَ لِصَوْتِهِ فِي إِسْمَاعِ خُطْبَتِهِ وَلِهَذَا كَانَ بِلَالٌ يَضَعُ إِصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ فِي الْأَذَانِ وَعَلَى هَذَا وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَتَقْدِيرُهُ فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ (ثُمَّ قَالَ) أَيْ رَمَى
وَفِيهِ اسْتِعَارَةُ الْقَوْلِ لِلْفِعْلِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي السُّنَّةِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ وَضَعَ إِحْدَى السَّبَّابَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى لِيُرِيَهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ حَصَى الْخَذْفِ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ الْقَوْلَ النَّفْسِيَّ كَمَا قَالَ تَعَالَى ويقولون في أنفسهم وَيَكُونُ الْمُرَادُ هُنَا النِّيَّةَ لِلرَّمْيِ
قَالَ أَبُو حَيَّانَ وَتَرَاكِيبُ الْقَوْلِ السِّتِّ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْخِفَّةِ وَالسُّرْعَةِ فَلِهَذَا عَبَّرَ هُنَا بِالْقَوْلِ (بِحَصَى الْخَذْفِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَيُرْوَى بِالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ وَالثَّانِي هُوَ الْأَصْوَبُ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي فَصْلِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ حَذَفْتُهُ بِالْعَصَا أَيْ رَمَيْتُهُ بِهَا وَفِي فَصْلِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ خَذْفُ الْحَصَى الرَّمْيُ بِهِ بِالْأَصَابِعِ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ حَصَى الْخَذْفِ صِغَارٌ مِثْلُ النَّوَى يُرْمَى بِهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ حَصَى الْخَذْفِ أَصْغَرُ مِنَ الْأُنْمُلَةِ طُولًا وَعَرْضًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِقَدْرِ الْبَاقِلَّا
وَقَالَ النَّوَوِيُّ بِقَدْرِ النَّوَاةِ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ مُتَقَارِبَةٌ لِأَنَّ الْخَذْفَ بِالْمُعْجَمَتَيْنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالصَّغِيرِ (فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ) أَيْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ الَّذِي بِمِنًى وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْمُقَدَّمِ الْجِهَةُ (ثُمَّ نَزَلَ النَّاسُ) بِرَفْعِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ ثُمَّ نَزَّلَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ كَذَا فِي النَّيْلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ(5/304)
75 - (بَاب يَبِيتُ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى)
[1958] (فَبَاتَ بِمِنًى وَظَلَّ) ظَلَّ عَطْفٌ عَلَى بَاتَ أَيْ بَاتَ بِمِنًى وَظَلَّ بِمِنًى وَظَلَّ وَبَاتَ مِنَ الْأَفْعَالِ النَّاقِصَةِ مَوْضُوعَتَانِ لِاقْتِرَانِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ بِوَقْتَيْهِمَا
فَمَعْنَى ظَلَّ زَيْدٌ سَائِرًا كَانَ زَيْدٌ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ سَائِرًا فَاقْتَرَنَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ وَهُوَ سَيْرُ زَيْدٍ بِجَمِيعِ النَّهَارِ مُسْتَغْرِقًا لَهُ
وَمَعْنَى بَاتَ زَيْدٌ سَائِرًا كَانَ زَيْدٌ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ سَائِرًا فَاقْتَرَنَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ أَعَنِي سَيْرَ زَيْدٍ بجميع الليل مستغرقا له
فمعنى قول بْنِ عُمَرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مُقِيمًا بِمِنًى أَيَّامَ مِنًى يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَبِتْ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى أَصْلًا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَأَمَّا نَحْنُ فَلَمْ نَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنَّا مَنْ كَانَ يَبِيتُ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى بَيْتُوتَةٍ بِهَا مِثْلِ حِفْظِ الْمَالِ وَسِقَايَةِ الْحَجِّ فَنَحْنُ نَتَبَايَعُ بِأَمْوَالِ النَّاسِ فَيَأْتِي أَحَدُنَا مَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى فَيَبِيتُ هُنَاكَ مِنْ أَجْلِ حِفْظِ الْمَالِ الَّذِي كُنَّا نَتَبَايَعُ بِهِ كَمَا أَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبِيتُ بِهَا مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ وَفِقْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ لِلْحَاجِّ رُخْصَةً فِي بَيْتُوتَتِهِ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى إِذَا دَعَتْ إِلَيْهَا الضَّرُورَةُ وَلَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى سِقَايَةِ الْحَاجِّ بَلْ يَعُمُّهَا وَغَيْرَهَا مِنَ الضَّرُورَاتِ كَذَا فِي الشَّرْحِ
وَقَالَ فِي فَتْحِ الْوَدُودِ يريد بن عُمَرَ أَنَّ فِعْلَكُمْ يُخَالِفُ السُّنَّةَ وَمُقْتَضَى حَدِيثِ الْعَبَّاسِ الْآتِي أَنَّهُ لَا إِسَاءَةَ فِي الْمَعْذُورِ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ انْتَهَى
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَبِيتِ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى لِحَاجَةٍ مِنْ حِفْظِ مَالٍ وَنَحْوِهِ فَكَانَ بن عَبَّاسٍ يَقُولُ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ مَتَاعٌ بِمَكَّةَ يَخْشَى عَلَيْهِ إِنْ بَاتَ بِمِنًى
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَيَّامَ مِنًى إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ وَقَدْ أَسَاءَ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَتِ الرُّخْصَةُ فِي هَذَا إِلَّا لِأَهْلِ السِّقَايَةِ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ فِي لَيْلَةٍ دِرْهَمًا وَفِي لَيْلَتَيْنِ دِرْهَمَيْنِ وَفِي لَيَالٍ دَمٌ
وَكَانَ مَالِكٌ يَرَى عَلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ دَمًا انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1959] (أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ) أَيِ الَّتِي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْمَمْلُوءَةِ مِنْ مَاءِ(5/305)
زَمْزَمَ الْمَنْدُوبِ الشُّرْبَ مِنْهَا عَقِبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرِ الشُّرْبُ مِنَ الْبِئْرِ لِلْخَلْقِ الْكَثِيرِ وَهِيَ الْآنَ بِرْكَةٌ وَكَانَتْ حِيَاضًا فِي يَدِ قُصَيٍّ ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَبْدِ مُنَافٍ ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ الْعَبَّاسِ ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَلِيٍّ وَهَكَذَا إِلَى الْآنَ لَهُمْ نُوَّابٌ يَقُومُونَ بِهَا قَالُوا وَهُوَ لِآلِ عَبَّاسٍ أَبَدًا (فَأَذِنَ لَهُ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَجُوزُ لِمَنْ هُوَ مَشْغُولٌ بِالِاسْتِقَاءِ مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ لِأَجْلِ النَّاسِ أَنْ يَتْرُكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى وَيَبِيتَ بِمَكَّةَ وَلِمَنْ لَهُ عُذْرٌ شَدِيدٌ أَيْضًا فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ السُّنَّةِ إِلَّا بِعُذْرٍ وَمَعَ الْعُذْرِ تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِسَاءَةُ
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيَجِبُ الْمَبِيتُ فِي أَكْثَرِ اللَّيْلِ
وَمِنَ الْأَعْذَارِ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ ضَيَاعُ مَرِيضٍ أَوْ حُصُولُ مَرَضٍ لَهُ يَشُقُّ مَعَهُ الْمَبِيتُ مَشَقَّةً لَا تُحْتَمَلُ عَادَةً كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
6 - (بَاب الصَّلَاةِ بِمِنًى)
[1960] أَيْ فِي بَيَانِ كَمِّيَّةِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي مِنًى هَلْ يُصَلِّي عَلَى حَالِهَا أَوْ يَقْصُرُ
(وَحَدِيثُ أَبِي مُعَاوِيَةَ أَتَمُّ) هَذِهِ مَقُولَةُ أَبِي دَاوُدَ (عَنِ الْأَعْمَشِ) أَيْ يَرْوِي أَبُو مُعَاوِيَةَ وَحَفْصٌ عَنِ الْأَعْمَشِ (زَادَ) أَيْ مُسَدَّدٌ (عَنْ حَفْصِ) بْنِ غِيَاثٍ (صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ) إِنَّمَا ذَكَرَ صَدْرًا وَقَيَّدَ بِهِ لِأَنَّ عُثْمَانَ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ سِتِّ سنين (زاد) أي مسدد (من ها هنا) أَيْ مِنْ قَوْلِهِ الْآتِي ثُمَّ تَفَرَّقَتْ إِلَى آخِرِهِ (ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ) أَيِ اخْتَلَفْتُمْ فَمِنْكُمْ مَنْ يَقْصُرُ وَمِنْكُمْ مَنْ لَا يَقْصُرُ (فَلَوَدِدْتُ) أَيْ فَلَتَمَنَّيْتُ غَرَضُهُ وَدِدْتُ أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَدَلَ الْأَرْبَعِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَاهُ يَفْعَلُونَهُ
وَفِيهِ كَرَاهَةُ مُخَالَفَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ
كَذَا فِي عمدة القارىء
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي قَالَ الدَّاوُدِيُّ خشي بن مَسْعُودٍ أَنْ لَا يُجْزِئَ الْأَرْبَعُ فَاعِلَهَا وَتَبِعَ عُثْمَانَ كَرَاهِيَةً لِخِلَافِهِ وَأَخْبَرَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ
وَقَالَ(5/306)
غَيْرُهُ يُرِيدُ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى أَرْبَعًا تَكَلَّفَهَا فَلَيْتَهَا تُقْبَلُ كَمَا تُقْبَلُ الرَّكْعَتَانِ انْتَهَى
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْغَيْبِ وَهَلْ يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا فَتَمَنَّى أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ مِنَ الْأَرْبَعِ الَّتِي يُصَلِّيهَا رَكْعَتَانِ وَلَوْ لَمْ يُقْبَلِ الزَّائِدُ وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ عِنْدَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ وَالرَّكْعَتَانِ لابد مِنْهُمَا وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَ يَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا أُتِمُّ مُتَابَعَةً لِعُثْمَانَ وَلَيْتَ اللَّهَ قَبِلَ مِنِّي رَكْعَتَيْنِ مِنَ الْأَرْبَعِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَوْ كَانَ الْمُسَافِرُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِتْمَامُ كَمَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ لَمْ يُتَابِعُوا عُثْمَانَ إِذْ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَلَأِ مِنَ الصَّحَابَةِ مُتَابَعَتُهُ عَلَى الْبَاطِلِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ رَأْيِهِمْ جَوَازَ الْإِتْمَامُ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِيَارُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمُ الْقَصْرَ أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَاعْتَذَرَ بِقَوْلِهِ الْخِلَافُ شَرٌّ فَلَوْ كَانَ الْإِتْمَامُ لَا يَجُوزُ لَكَانَ الْخِلَافُ لَهُ خَيْرًا مِنَ الشَّرِّ إِلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا صَلَّى عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعًا لِأَنَّهُ كَانَ اتَّخَذَهَا وَطَنًا
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اتَّخَذَ الْأَمْوَالَ بِالطَّائِفِ وَأَرَادَ أن يقيم بها وكان من مذهب بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا قَدِمَ عَلَى أَهْلٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَتَمَّ الصَّلَاةَ
وقال أحمد بن حنبل بمثل قول بن عَبَّاسٍ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ مَا ذكره بن قرة عن بن مَسْعُودٍ
[1961] (لِأَنَّهُ أَجْمَعَ) أَيْ أَجْمَعَ عَزِيمَتَهُ وَصَمَّمَ قَصْدَهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بَعْدَ الْحَجِّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ هَذَا مُنْقَطِعٌ الزُّهْرِيُّ لَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ رَضِيَ الله عنه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه بَعْد قَوْل الْمُنْذِرِيِّ وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَان أَنَّهُ تَأَهَّلَ بِمَكَّة فَيَرُدّهُ سَفَر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَوْجَاتِهِ وَأَمَّا ما روي عن عثمان أنه تَأَهَّلَ بِمَكَّة فَيَرُدّهُ أَنَّ هَذَا غَيْر مَعْرُوف بَلْ الْمَعْرُوف أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهَا أَهْل وَلَا مَال وَقَدْ ذَكَرَ مَالِك فِي الْمُوَطَّأ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَان بْن عَفَّان كَانَ إِذَا اِعْتَمَرَ رُبَّمَا لَمْ يَحْطُطْ رَاحِلَته حتى يرجع
ويردده مَا تَقَدَّمَ أَنَّ عُثْمَان مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا بِمَكَّة بَعْد الْهِجْرَة
وقال بن عَبْد الْبَرّ وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ عُثْمَان أَخَذَ بِالْإِبَاحَةِ فِي ذَلِكَ(5/307)
[1962] (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ هَذَا أَيْضًا مُنْقَطِعٌ
[1963] (ثُمَّ أَخَذَ بِهِ) أَيْ بِالْإِتْمَامِ دُونَ الْقَصْرِ
[1964] (عَامَئِذٍ) أَيْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ إِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ لفعل عثمان رضي الله عنه
وقد
7 - (بَاب الْقَصْرِ لِأَهْلِ مَكَّةَ)
[1965] (أَكْثَرَ مَا كَانُوا) مَا مَصْدَرِيَّةٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ أَيْ أَكْثَرَ أَكْوَانِهِمْ لِأَنَّ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ أَفْعَلُ يَكُونُ جَمْعًا وَالْمَعْنَى صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَالْحَالُ أَنَّ النَّاسَ كَانَ أَكْوَانُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْثَرَ مِنْ أَكْوَانِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ يَعْنِي أَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانُوا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ
فَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَالنَّاسُ أَكْثَرُ مِمَّا كَانُوا
وَفِقْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَصْرَ ليس
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَالَ غَيْره اِعْتَقَدَ عُثْمَان وَعَائِشَة فِي قَصْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ رُخْصَة أَخَذَ بِالْأَيْسَرِ رِفْقًا بِأُمَّتِهِ فَأَخَذَا بِالْعَزِيمَةِ وَتَرَكَا الرُّخْصَة
وَاَللَّه أَعْلَم(5/308)
مُخْتَصًّا بِالْخَوْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَانَ وَقْتُ أَمْنٍ وَمَعَ ذَلِكَ قَصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَرْنَا مَعَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْرَ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالْخَوْفِ
وَفِي حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَذَا فِي الشَّرْحِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَكِّيَّ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِمِنًى لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُسَافِرًا بِمِنًى فَصَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِ وَلَعَلَّهُ لَوْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَلَاتِهِ لَأَمَرَهُ بِالْإِتْمَامِ وَقَدْ يَتْرُكُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانٌ بعض المأمور فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ اقْتِصَارًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبَيَانِ السَّابِقِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْعِلْمِ الظَّاهِرِ الْعَامِّ
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُصَلِّي بِهِمْ فَيَقْصُرُ فإذا سلم التفت إليهم وقال أتموا ياأهل مَكَّةَ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَقْصُرُ الْإِمَامُ وَالْمُسَافِرُ مَعَهُ وَيَقُومُ أَهْلُ مَكَّةَ فَيُتِمُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا قَصَرَ قَصَرُوا مَعَهُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ
8 - (بَاب فِي رَمْيِ الْجِمَارِ)
[1966] (عَنْ أُمِّهِ) هِيَ أُمُّ جُنْدَبٍ الْأَزْدِيَّةُ كَمَا سَيَجِيءُ (مِنْ بَطْنِ الْوَادِي) هُوَ مَسِيلُ الْمَاءِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَخْتَارُونَ أَنْ يَرْمِيَ الرَّجُلُ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَرْمِيَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي رَمَى مِنْ حَيْثُ قَدَرَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَطْنِ الْوَادِي قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْمُوَطَّأِ هُوَ أَفْضَلُ وَمِنْ حَيْثُ مَا رَمَى فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَوْلُ الْعَامَّةِ (لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) أَيْ بِالزِّحَامِ وَبِالرَّمْيِ بِالْحَصَى الْكَبِيرَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ بن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ وَأُمُّ سُلَيْمَانَ هِيَ أُمُّ جُنْدَبٍ الْأَزْدِيَّةُ جَاءَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي(5/309)
بَعْضِ طُرُقِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
[1967] (بَيْنَ أَصَابِعِهِ حَجَرًا) أَيْ حَصًى كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ
[1968] (وَلَمْ يَقُمْ عِنْدَهَا) أَيْ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَمَّا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَفِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَيُطِيلُ الْقِيَامَ كَمَا سَيَجِيءُ
[1969] (عن بن عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الْجِمَارَ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْعُمَرِيُّ وَفِيهِ مَقَالٌ وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِأَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ
[1970] (يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ) قَالَ الشَّافِعِيُّ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَصَلَ مِنًى رَاكِبًا أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا وَمَنْ وَصَلَهَا مَاشِيًا أَنْ يَرْمِيَهَا مَاشِيًا وَفِي الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنَ التَّشْرِيقِ يَرْمِي جَمِيعَ الْجَمَرَاتِ مَاشِيًا وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ رَاكِبًا وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يُسْتَحَبُّ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَرْمِيَ مَاشِيًا
ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (لِتَأْخُذُوا) بِكَسْرِ اللَّامِ
قَالَ النَّوَوِيُّ هِيَ لَامُ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ قَالَ وَهَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ وَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي أَتَيْتُ بِهَا فِي حَجَّتِي مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْهَيْئَاتِ هِيَ أُمُورُ الْحَجِّ وَصِفَتُهُ وَالْمَعْنَى اقْبَلُوهَا وَاحْفَظُوهَا وَاعْمَلُوا بِهَا وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ (قَالَ لَا أَدْرِي) وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فَإِنِّي لَا أَدْرِي (لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ مَصْدَرٌ (هَذِهِ) الَّتِي فِي تِلْكَ السَّنَةِ الْحَاضِرَةِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَوْدِيعِهِمْ وَإِعْلَامِهِمْ بِقُرْبِ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ حِجَّةُ الوداع
وروى البيهقي وبن عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ مَاشِيًا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فَإِنْ صح هذا(5/310)
كَانَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ
وَقَالَ غَيْرُهُ قَدْ صَحَّحَهُ الترمذي
قال بن عَبْدِ الْبَرِّ وَفَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ وَحَسْبُكَ مَا رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ مِنْ فِعْلِ النَّاسِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ رَاكِبًا وَرَمَى الْجِمَارَ مَاشِيًا وَذَلِكَ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ انْتَهَى
قُلْتُ وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا لَيْسَ فِي رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُنْذِرِيُّ
قَالَ الْمِزِّيُّ هَذَا الْحَدِيثُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاسَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو الْقَاسِمِ
قُلْتُ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1971] (ضُحًى) أَيْ قَبْلَ الزَّوَالِ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ لَا خِلَافَ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ هُوَ الْأَحْسَنُ لِرَمْيِهَا
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ رَمَاهَا قَبْلَ الْفَجْرِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ من نصف الليل وبه قال عطاء وطاووس
وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْجُمْهُورُ إِنَّهُ لَا يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَمَنْ رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ وَإِنْ رَمَاهَا قَبْلَ الْفَجْرِ أَعَادَ
قال بن الْمُنْذِرِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَرْمِيَ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَلَا يَجُوزُ الرَّمْيُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِأَنَّ فَاعِلَهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَمَنْ رَمَاهَا حِينَئِذٍ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ إِذْ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ لَا يُجْزِئُهُ انْتَهَى
وَالْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِمَنْ كَانَ لَا رُخْصَةَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ رُخْصَةٌ كَالنِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ مِنَ الضَّعَفَةِ جَازَ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ النَّحْرِ إِجْمَاعًا
وَاعْلَمْ أَنْ قَدْ قِيلَ إِنَّ الرَّمْيَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا حَكَى ذَلِكَ بَعْضٌ وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ الْفَتْحِ عَلَى حِكَايَةِ الْوُجُوبِ عَنِ الجُمْهُورِ
وَقَالَ إِنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سنة وحكى بن جَرِيرٍ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّ الرَّمْيَ إِنَّمَا شُرِعَ حِفْظًا لِلتَّكْبِيرِ فَإِنْ تَرَكَهُ وَكَبَّرَ أَجْزَأَهُ وَالْحَقُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وآهله وَسَلَّمَ بَيَانٌ لِمُجْمَلٍ وَاجِبٍ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ولله على الناس حج البيت وقوله صلى الله عليه وسلم خذوا عني مَنَاسِكَكُمْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ
[1972] (عَنْ وَبْرَةَ) بِفَتَحَاتٍ وَقِيلَ بِسُكُونِ الموحدة هو بن عبد الرحمن تابعي (قال سألت بن عُمَرَ مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ) أَيْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ (قَالَ إِذَا رَمَى إِمَامُكَ) أَيِ اقْتَدِ فِي الرَّمْيِ(5/311)
بِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِوَقْتِ الرَّمْيِ
قَالَهُ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ تَبِعَ عَالِمًا لَقِيَ اللَّهَ سَالِمًا
وَأَمَّا قول بن حَجَرٍ الْمَكِّيِّ أَيِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ إِنْ حَضَرَ الْحَجَّ وَإِلَّا فَأَمِيرُ الْحَجِّ فَفِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي زَمَانِنَا (فَارْمِ) تَقْدِيرُهُ ارْمِ مَوْضِعَ الْجَمْرَةِ أَوِ ارْمِ الرَّمْيَ أَوِ الْحَصَى (فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ) أَرَدْتُ تَحْقِيقَ وَقْتِ رَمْيِ الْجَمْرَةِ (فَقَالَ كُنَّا نَتَحَيَّنُ) أَيْ نَطْلُبُ الْحِينَ وَالْوَقْتَ أَيْ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ نَنْتَظِرُ دُخُولَ وَقْتِ الرَّمْيِ (فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا) بِلَا ضَمِيرٍ أَيِ الْجَمْرَةَ وفي رواية بن مَاجَهْ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
[1973] (أَفَاضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخِرِ يَوْمِهِ) أَيْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ فِي آخِرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ أَوَّلُ أَيَّامِ النَّحْرِ (حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى ثُمَّ أَفَاضَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ (فَمَكَثَ بِهَا) أَيْ بِمِنًى (لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى وَاجِبٌ وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدَّمِ لِتَرْكِهِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ (يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ) حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صِفَتَهُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ (وَيَقِفُ عِنْدَ الْأُولَى إِلَخْ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْوُقُوفِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَهِيَ الْوُسْطَى وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَهَا وَتَرْكُ الْقِيَامِ عِنْدَ الثَّالِثَةِ وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ وَقَدْ تقدم الكلام عليه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَمَى الْجَمْرَة بِسَبْعِ حَصَيَات مِنْ رِوَايَة عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر
وَشَكُّ الشَّاكّ لَا يُؤَثِّر فِي جَزْم الجازم(5/312)
[1974] (عن بن مَسْعُودٍ قَالَ لَمَّا انْتَهَى) أَيْ وَصَلَ (إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى) أَيِ الْعَقَبَةِ وَوَهِمَ الطِّيبِيُّ فَقَالَ أَيِ الْجَمْرَةِ الَّتِي عِنْدَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ (جَعَلَ الْبَيْتَ) أَيِ الْكَعْبَةَ (عَنْ يَسَارِهِ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ وَقَفَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ أَنْ يَجْعَلَ مَكَّةَ عَنْ يَسَارِهِ (وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ مِنًى عَلَى جِهَةِ يَمِينِهِ وَيَسْتَقْبِلَ الْجَمْرَةَ بِوَجْهِهِ (وَرَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَمْيَ الْجَمْرَةِ يكون بسبع حصيات وهو يرد قول بن عُمَرَ مَا أُبَالِي رَمَيْتُ الْجَمْرَةَ بِسِتٍّ أَوْ بِسَبْعٍ
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَا شَيْءَ على من رمى بست
وعن طاووس يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ وَعَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ مَنْ رَمَى أَقَلَّ مِنْ سَبْعٍ وَفَاتَهُ التَّدَارُكُ يَجْبُرُهُ بِدَمٍ
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي تَرْكِ حَصَاةٍ مُدٌّ وَفِي تَرْكِ حَصَاتَيْنِ مُدَّانِ وَفِي ثَلَاثَةٍ فَأَكْثَرَ دَمٌ
وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ تَرَكَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ فَنِصْفُ صَاعٍ وَإِلَّا فَدَمٌ (أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَحْكَامِ الْحَجِّ فِيهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه مختصرا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي ذَلِكَ فَاَلَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُور وُجُوب اِسْتِيفَاء السَّبْع فِي كُلّ رَمْي وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ رَمْي جَمِيعهنَّ بَعْد أَنْ يُكَبِّر عِنْد كُلّ جَمْرَة سَبْع تَكْبِيرَات أَجْزَأَهُ ذَلِكَ قَالَ وَإِنَّمَا جَعَلَ الرَّمْي بِالْحَصَى فِي ذَلِكَ سَبَبًا لِحِفْظِ التَّكْبِيرَات السَّبْع
وَقَالَ عَطَاء إِنْ رَمَى بِخَمْسٍ أَجْزَأَهُ وَقَالَ مُجَاهِد إِنْ رَمَى بِسِتٍّ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاق
وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد إِنْ نَقَصَ حَصَاة أَوْ حَصَاتَيْنِ فَلَا بَأْس وَقَالَ مَرَّة إِنْ رَمَى بِسِتٍّ نَاسِيًا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَمَّدهُ فَإِنْ تَعَمَّدَهُ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ
وَكَانَ عُمَر يَقُول مَا أُبَالِي رَمَيْت بِسِتٍّ أَوْ بِسَبْعٍ وَقَالَ مَرَّة لَا يُجْزِيه أَقَلُّ مِنْ سَبْع
وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنه وَالْأَثْرَم وَغَيْرهمْ عَنْ بن أبي نجيح سئل طاووس عَنْ رَجُل تَرَكَ حَصَاة قَالَ يُطْعِم لُقْمَة فَقَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن لَمْ تَسْمَع قَوْل سَعْد قَالَ سَعْد بْن مَالِك رَجَعْنَا فِي حَجَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا مَنْ يَقُول رَمَيْت بِسِتٍّ وَمِنَّا مَنْ يَقُول رَمَيْت بِسَبْعٍ فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ بَعْضنَا على بعض(5/313)
[1975] (عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ فَتَشْدِيدِ الدَّالِ وبالحاء المهملتين
بن عَاصِمٍ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا البداح صحابي يروي عن أبيه
قال بن عَبْدِ الْبَرِّ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ فَقِيلَ لَهُ إِدْرَاكٌ وَقِيلَ إِنَّ الصُّحْبَةَ لِأَبِيهِ وَلَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ (رَخَّصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ جَمْعُ رَاعٍ لِرُعَاتِهَا (فِي الْبَيْتُوتَةِ) أَيْ فِي تَرْكِهَا (يَرْمُونَ) أَيْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (يَوْمَ النَّحْرِ) أَيْ يَوْمَ الْعِيدِ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ) مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ وَأَوَّلُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِيَ عَشَرَ (بِيَوْمَيْنِ) أَيْ لِيَوْمَيْنِ مُتَعَلِّقٌ لِيَرْمُونَ فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْحَادِيَ عَشَرَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْيَوْمِ الْآتِي وَهُوَ الثَّانِيَ عَشَرَ وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ رَمْيِ يَوْمَيْنِ بِتَقْدِيمِ الرَّمْيِ عَلَى يَوْمِهِ وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَيَرْمُوهُ فِي أَحَدِهِمَا (وَيَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ) أَيِ الِانْصِرَافِ مِنْ مِنًى وَهَذَا الظَّاهِرُ خِلَافُ مَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ فِي الْمُوَطَّأِ وَالزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِهِ قَالَ مَالِكٌ تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ لِرَعْيِهِمْ فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ ثَانِيهِ أَتَوُا الْيَوْمَ الثَّالِثَ رَمَوْا مِنَ الْغَدِ وَذَلِكَ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ لِمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَيَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى أَيْ ثَانِي النَّحْرِ ثُمَّ يَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ ذَلِكَ الْحَاضِرِ ثَالِثَ النَّحْرِ وَيَدُلُّ لِفَهْمِ مَالِكٍ الْإِمَامِ رِوَايَةَ سُفْيَانَ الْآتِيَةَ بِلَفْظِ رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا
قَالَ مَالِكٌ فَإِنْ بَدَا لَهُمُ النَّفْرُ فَقَدْ فَرَغُوا لِأَنَّهُمْ تَعَجَّلُوا فِي يَوْمَيْنِ وَإِنْ أَقَامُوا بِمِنًى إِلَى الْغَدِ رَمَوْا مَعَ النَّاسِ يَوْمَ النَّفْرِ الْآخِرِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَنَفَرُوا وَهَكَذَا قَالَهُ مَالِكٌ وَالزُّرْقَانِيُّ فِي شرحه
وقال الخطابي أراد بيوم النفر ها هنا النَّفْرَ الْكَبِيرَ وَهَذَا رُخْصَةٌ رَخَّصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرِّعَاءِ لِأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ فَلَوْ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِالْمُقَامِ وَالْمَبِيتِ بِمِنًى ضَاعَتْ أَمْوَالُهُمْ وَلَيْسَ حُكْمُ غَيْرِهِمْ كَحُكْمِهِمْ
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِ الْيَوْمِ الَّذِي يُرْمَى فِيهِ فَقَالَ مَالِكٌ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ رَمَوْا مِنَ الْغَدِ وَذَلِكَ يَوْمُ النَّفْرِ الأول(5/314)
يَرْمُونَ لِلْيَوْمِ الَّذِي مَضَى وَيَرْمُونَ لِيَوْمِهِمْ ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقْضِي أَحَدٌ شَيْئًا حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مالك
وقال بعضهم هم بالخيار إن شاؤوا قدموا وإن شاؤوا أَخَّرُوا
انْتَهَى
قُلْتُ النَّفْرُ الْآخِرُ وَالنَّفْرُ الْكَبِيرُ هُوَ نَفْرُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِنْ لَمْ يَتَعَجَّلُوا
كَذَا فِي الشَّرْحِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[1976] (عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ بْنِ عَدِيٍّ) قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ قَالَ الْحَاكِمُ مَنْ قَالَ عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَدْ نَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ انْتَهَى (رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَذِكْرُ الْأَوَّلِ أَصَحُّ
[1977] (عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجِمَارِ) أَيْ عَنْ عَدَدِ الْحَصَى الَّتِي يرمي بها الجمار (فقال) بن عَبَّاسٍ (مَا أَدْرِي) قُلْتُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وبن عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ فَهُوَ أَوْلَى بِالْأَخْذِ وأما بن عَبَّاسٍ فَتَرَدَّدَ وَشَكَّ فِيهِ فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ
كَذَا فِي الشَّرْحِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1978] (إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ إِلَخْ) وَعِنْدَ أَحْمَدَ فِي مسنده من هذا الوجه إذا رميتم وحلفتم فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْحَلْقُ يَحِلُّ كُلُّ مُحَرَّمٍ على المحرم إلا النساء فلا يحل وطئهن إِلَّا بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى حِلِّ الطِّيبِ وَغَيْرِهِ إِلَّا الْوَطْءَ بَعْدَ الرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ كَذَا فِي سُبُلِ السلام
وعند أحمد أيضا من حديث بن عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لكم كل(5/315)
شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ قَالَ فِي الْبَدْرِ الْمُنِيرِ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ بِالرَّمْيِ لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ كُلُّ مَحْظُورٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ إِلَّا الْوَطْءَ لِلنِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ انْتَهَى
قال المنذري والحجاج هذا هو بن أَرْطَاةَ قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ
وَذَكَرَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ وَيَحْيَى وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيَّانِ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الزُّهْرِيِّ شَيْئًا
وَذُكِرَ عَنِ الْحَجَّاجِ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا
9 - (بَاب الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ)
[1979] (قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّرَحُّمِ عَلَى الْحَيِّ وَعَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالْمَيِّتِ (وَالْمُقَصِّرِينَ) هُوَ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قُلْ وَالْمُقَصِّرِينَ وَيُسَمَّى عَطْفُ التَّلْقِينِ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ من التقصير لتكريره صلى الله عليه وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ لِلْمُحَلِّقِينَ وَتَرْكِ الدُّعَاءِ لِلْمُقَصِّرِينَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مَعَ سُؤَالِهِمْ لَهُ ذَلِكَ
وَظَاهِرُ صِيغَةِ الْمُحَلِّقِينَ أَنَّهُ يُشْرَعُ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ لِأَنَّهُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الصِّيغَةُ إِذْ لَا يُقَالُ لِمَنْ حَلَقَ بَعْضَ رَأْسِهِ إِنَّهُ حَلَقَ إِلَّا مَجَازًا
وَقَدْ قَالَ بِوُجُوبِ حَلْقِ الْجَمِيعِ أحمد ومالك واستحبه الكوفيون والشافعي ويجزىء الْبَعْضَ عِنْدَهُمْ وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ الرُّبْعُ إِلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ النِّصْفُ وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَقَلُّ مَا يَجِبُ حَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي التَّقْصِيرِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَلْقِ هَلْ هُوَ نُسُكٌ أَوْ تَحْلِيلُ مَحْظُورٍ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْجُمْهُورُ وَإِلَى الثَّانِي عَطَاءٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ
وَقَدْ أَطَالَ صَاحِبُ الْفَتْحِ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَمَنْ أَحَبَّ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ ذُيُولِهِ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ البخاري ومسلم(5/316)
[1980] (حَلَقَ رَأْسَهُ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ أَمَرَ بِحَلْقِهِ
اخْتَلَفُوا فِي اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي حَلَقَ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ لِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ زَعَمُوا أَنَّهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى مُحَلِّقِينَ رؤوسكم ومقصرين فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَّا أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَوِ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ صَلَّى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ الِاكْتِفَاءُ بِبَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ
وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا
وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ قَطُّ أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِحَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرِهِ بَلْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقَزَعَةِ حَتَّى لِلصِّغَارِ وَهِيَ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ وَتَخْلِيَةُ بَعْضِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِحْرَامِ إِلَّا بِالِاسْتِيعَابِ كَمَا قَالَ بِهِ مَالِكٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
[1981] (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِمِنًى) وَهُوَ الْآنَ يُسَمَّى مسجد الحنيف
قال بن حجر المكي هو ما بين مسجد الحنيف وَمَحَلِّ نَحْرِهِ الْمَشْهُورِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَةَ (فَدَعَا بِذِبْحٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَا يُذْبَحُ مِنَ الْغَنَمِ (ثُمَّ دَعَا بِالْحَلَّاقِ) هُوَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ وَقِيلَ غَيْرُهُ (فَأَخَذَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ) قَالَ الطِّيبِيُّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الِابْتِدَاءُ بِالْأَيْمَنِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْأَيْسَرُ أَيْ لِيَكُونَ أَيْمَنَ الْحَالِقِ (الشعرة) بفتح الشين (ثم قال ها هنا) بِحَذْفِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ (أَبُو طَلْحَةَ) الْأَنْصَارِيُّ (فَدَفَعَهُ) أَيِ النِّصْفَ (إِلَى أَبِي طَلْحَةَ) قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ التَّبَرُّكِ بِشَعْرِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَنَحْوِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ(5/317)
[1982] (قَالَ لِلْحَالِقِ) قَدْ وُجِدَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي النُّسْخَتَيْنِ
قَالَ الْمِزِّيُّ حَدِيثُ عُبَيْدِ بْنِ هِشَامٍ الْحَلَبِيِّ وَعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الْحِمْصِيِّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاسَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو الْقَاسِمِ وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ وَكَذَا لَيْسَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُنْذِرِيِّ كَذَا فِي الشَّرْحِ
[1983] (كَانَ يُسْأَلُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (يَوْمَ مِنًى) أَيْ عَنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَتَأْخِيرِهَا (فَيَقُولُ لَا حَرَجَ) قَالَ الطِّيبِيُّ أَفْعَالُ يَوْمِ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ الذَّبْحُ ثُمَّ الْحَلْقُ ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ فَقِيلَ هَذَا التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِهَذَا الْحَدِيثِ فلا يتعلق بتركه دم
وقال بن جُبَيْرٍ إِنَّهُ وَاجِبٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَوَّلُوا قَوْلَهُ وَلَا حَرَجَ عَلَى دَفْعِ الْإِثْمِ لِجَهْلِهِ دُونَ الْفِدْيَةِ انْتَهَى
قُلْتُ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا عَلَى بعض وهو إجماع كما قال بن قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي
قَالَ فِي الْفَتْحِ إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ انْتَهَى
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى إِيجَابِ الدَّمِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ إِلَى الْجَوَازِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الدَّمِ قَالُوا لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَرَجَ يَقْتَضِي رَفْعَ الْإِثْمِ وَالْفِدْيَةِ مَعًا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ نَفْيُ الضِّيقِ وَإِيجَابُ أَحَدِهِمَا فِيهِ ضِيقٌ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الدَّمُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي النَّيْلِ وَأَطَالَ فِيهِ الْكَلَامَ (إِنِّي أَمْسَيْتُ) الْمَسَاءُ خِلَافُ الصَّبَاحِ
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْمَسَاءُ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْمَعْنَى أَنِّي دَخَلْتُ فِي الْمَسَاءِ وَلَمْ أَرْمِ وَكَانَ عَلَيَّ الرَّمْيُ قَبْلَ الزَّوَالِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ(5/318)
[1984] (لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ الْحَلْقُ) أَيْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ الْحَلْقُ فِي التَّحَلُّلِ إِنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ أَيْ إِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَحَدُهُمَا وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ وَفِي النَّيْلِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّهِنَّ التَّقْصِيرُ وَقَدْ حَكَى الْحَافِظُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ
قَالَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنْ حَلَقَتْ أَجْزَأَهَا
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ لَا يَجُوزُ
وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نهى أن تحلق المرأة رأسها
وحديث بن عَبَّاسٍ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَقَدْ قَوَّى إِسْنَادَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَأَبُو حاتم في العلل وحسنه الحافظ وأعله بن القطان ورد عليه بن المواق فأصاب
قاله الشوكاني
0 - (باب العمرة)
[1986] هِيَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الزِّيَارَةِ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ أَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ هِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ دون الوقوف بعرفة ودون المبيت بمزدلفة
(عن بن جريج عن عكرمة) وأخرجه بن خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرٍ عَنِ بن جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ
وَفِي صحيح البخاري من طريق بن جريج أن عكرمة بن خالد سأل بن عُمَرَ عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ فَقَالَ لَا بأس
قال عكرمة قال بن عمر اعتمر النبي قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ
قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بن سعد عن بن إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ سَأَلْتُ بن عُمَرَ مِثْلَهُ
وَعِنْدَ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ(5/319)
من طريق يعقوب بن إبراهيم عن بن إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقُلْتُ إِنَّا لَمْ نَحُجَّ قَطُّ أَفَنَعْتَمِرُ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ نَعَمْ وَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ فَقَدِ اعْتَمَرَ رَسُولُ الله عُمَرَهُ كُلَّهَا قَبْلَ حَجِّهِ قَالَ فَاعْتَمَرْنَا
كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي
[1987] (لِيَقْطَعَ) وَلِيُبْطِلَ (بِذَلِكَ) أَيْ بِاعْتِمَارِهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ (أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ) الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَفْجَرُ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا وَهَذَا مِنْ تَحَكُّمَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ (وَمَنْ دَانَ دِينَهُمْ) أَيْ تَعَبَّدَ بِدِينِهِمْ وَتَدَيَّنَ بِهِ (إِذَا عَفَا) أَيْ كَثُرَ يُقَالُ عفى الْقَوْمُ إِذَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حتى عفوا (الْوَبَرْ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْبَاءِ أَيْ وَبَرُ الْإِبِلِ الذي حلق بِالرِّحَالِ
وَلَفْظُ الشَّيْخَيْنِ يَقُولُونَ إِذَا عَفَا الْأَثَرْ أَيِ انْدَرَسَ أَثَرُ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا فِي سَيْرِهَا وَيُحْتَمَلُ أَثَرُ الدَّبَرِ (وَبَرَأَ الدَّبَرْ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ مَا كَانَ يَحْصُلُ بِظُهُورِ الْإِبِلِ مِنَ الْحَمْلِ عَلَيْهَا وَمَشَقَّةِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ كَانَ يَبْرَأُ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنَ الْحَجِّ كَذَا فِي الْفَتْحِ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُقْرَأُ سَاكِنَةَ الرَّاءِ لِإِرَادَةِ السَّجْعِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ طَرَفًا مِنْهُ وَلَمْ يُخْرِجَا قِصَّةَ عَائِشَةَ فِي الْعُمْرَةِ وَحَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
[1988] (أَخْبَرَنِي رَسُولُ مَرْوَانَ الَّذِي) صِفَةُ رَسُولٍ (أُرْسِلَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (إِلَى أُمِّ مَعْقِلٍ) وَالْمُرْسِلُ بِكَسْرِ السِّينِ هُوَ مَرْوَانُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الَّذِي صِفَةُ مَرْوَانَ وَلَفْظُ أَرْسَلَ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَفَاعِلُهُ مروان وهذا احتمال قوي وتؤيده رواية بن مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ وَفِيهَا الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَى أُمِّ مَعْقِلٍ (فَلَمَّا قَدِمَ) أَبُو مَعْقِلٍ (قَالَتْ أُمُّ مَعْقِلٍ) لِزَوْجِهَا أَبِي مَعْقِلٍ (قَدْ عَلِمْتَ) بِصِيغَةِ الْخِطَابِ (أَنَّ عَلَيَّ حَجَّةٌ) أَيْ بِإِرَادَةِ حَجٍّ لِي كَانَتْ مَعَ رَسُولِ الله لَكِنْ مَا قُدِّرَ لِيَ(5/320)
الحج مع النبي وَفَاتَنِي وَحَصَلَ لِيَ الْحُزْنُ وَالتَّأَسُّفُ عَلَى فَوْتِ الْمَعِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَاعِثَةً لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ وَلَفْظُهُ أَنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ جَعَلَتْ عليها حجة معك وعند بن مَنْدَهْ أَيْضًا جَعَلَتْ عَلَى نَفْسِهَا حَجَّةً مَعَكَ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهَا ذَلِكَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ عَلَيَّ حَجَّةً فَرْضًا أَوْ نَذْرًا فَلَا يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى إِجْزَاءِ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ عَنِ الْحَجِّ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهَا الْفَرْضُ عَنِ الذِّمَّةِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ ثَوَابَ الْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ كثواب الحج مع رسول الله وَهَذَا التَّأْوِيلُ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ
وَلَا شَكَّ أَنَّ رُوَاةَ هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يُتْقِنُوا أَلْفَاظَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَحْفَظُوهَا بَلِ اخْتَلَطُوا وَغَيَّرُوا الْأَلْفَاظَ وَاضْطَرَبُوا فِي الْإِسْنَادِ وَفِيهِ ضَعِيفٌ وَمَجْهُولٌ (حَتَّى دَخَلَا عليه) أي على النبي (إِنَّ عَلَيَّ حَجَّةً) تَقَدَّمَ تَأْوِيلُهُ (بَكْرًا) بِالْفَتْحِ الْفَتِيُّ مِنَ الْإِبِلِ (صَدَقَتْ) زَوْجَتِي أُمُّ مَعْقِلٍ (جَعَلْتُهُ) الْبَكْرَ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيِ الْغَزْوِ وَالْجِهَادِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْبَكْرِ (فَإِنَّهُ) الْحَجُّ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كَمَا أَنَّ الْجِهَادَ فِي سبيل الله
قال الخطابي فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ جَوَازُ إِحْبَاسِ الْحَيَوَانِ وَفِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ الْحَجَّ مِنَ السَّبِيلِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الناس في ذلك فكان بن عَبَّاسٍ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ مِنْ زَكَاتِهِ فِي الْحَجِّ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عن بن عُمَرَ وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ يَقُولَانِ يُعْطِي مِنْ ذَلِكَ الْحَجَّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ لَا تُصْرَفُ الزَّكَاةُ إلى الحج وسهم السبيل عندهم الْغُزَاةُ وَالْمُجَاهِدُونَ انْتَهَى
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَحَدِيثُ أُمِّ مَعْقِلٍ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ انْتَهَى
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي مَعْقِلٍ وَهُوَ الْأَسَدِيُّ وَيُقَالُ الْأَنْصَارِيُّ وَحَدِيثُ أُمِّ مَعْقِلٍ فِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ الْبَجْلِيُّ الْكُوفِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غير واحد
وقد اختلف على أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيهِ فَرُوِيَ فيه عنه كما ها هنا وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِي مَعْقِلٍ كَمَا ذَكَرْنَا
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حديث بن عباس قال قال رسول الله لامرأة من الأنصار سماها بن عَبَّاسٍ فَنَسِيتُ اسْمَهَا مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي مَعَنَا قُلْتُ لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلَّا نَاضِحَانِ فَحَجَّ أَبُو وَلَدِهَا وَابْنُهَا عَلَى نَاضِحٍ وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ
قَالَ فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ حَجَّةٌ أَوْ نَحْوًا مِمَّا قَالَ وَسَمَّاهَا فِي رِوَايَةِ مسلم أم(5/321)
سِنَانٍ
وَفِيهِ قَالَ جَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فقال رسول الله أَعْطِهَا فَلْتَحُجَّ عَلَيْهِ فَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ (إِنِّي امْرَأَةٌ قَدْ كَبِرْتُ) مِنْ بَابِ سَمِعَ أَيْ مِنْ طُولِ عُمُرِي (وَسَقِمْتُ) الْآنَ فَمَا أَدْرِي مَتَى أَحُجُّ (فَهَلْ مِنْ عَمَلٍ يُجْزِئُ) أي يكفي (عني من حجتي) معك (تجزىء حَجَّةً) مَعِي
[1989] (الْأَسَدِيِّ أَسَدِ خُزَيْمَةَ) الْأَسَدِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى أَسَدٍ وَالْأَسَدُ كَثِيرُونَ لَكِنْ أُمُّ مَعْقِلٍ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ أَبِي قَبِيلَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ مُضَرَ الْحَمْرَاءِ قَالَهُ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ (فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَلَمْ يَكُنْ لِي غَيْرُ هَذَا الْجَمَلِ فَكَانَ هَذَا هُوَ السَّبَبُ لِفَوْتِ حَجَّتِي مَعَ رَسُولِ الله (وَأَصَابَنَا مَرَضٌ) بَعْدَ ذَلِكَ (وَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ) بعد رجوعه مع النبي وليس المراد أنه مات قبل خروجه إِلَى الْحَجِّ فَالْعِبَارَةُ فِيهَا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ قَالَتْ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أَبُو فُلَانٍ وَابْنُهُ وَتَرَكَ نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ نَاضِحَانِ كَانَا لِأَبِي فُلَانٍ زَوْجِهَا حَجَّ هُوَ وَابْنُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَكَانَ الْآخَرُ يسقي عليه غلامنا (فلما فرغ) النبي (مِنْ حَجِّهِ) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ (جِئْتُهُ) أَيْ أَنَا إلى رسول الله (فقال) لي النبي (لَقَدْ تَهَيَّأْنَا) لِلْخُرُوجِ مَعَكَ فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ وَخَرَجَ أَبُو مَعْقِلٍ مَعَكَ (فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ) بَعْدَ الْحَجِّ (فَأَوْصَى بِهِ) أَيْ جَعَلَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (فَهَلَّا خَرَجْتِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ الْجَمَلِ الْمُعَدِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (فَإِنَّهَا) الْعُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ (كَحَجَّةٍ) مَعِي أَيْ في الثواب(5/322)
(فَكَانَتْ تَقُولُ) أُمُّ مَعْقِلٍ (الْحَجُّ حَجَّةٌ وَالْعُمْرَةُ عُمْرَةٌ) تَعْنِي مَا هُمَا وَاحِدَةٌ فِي الْمَنْزِلَةِ فكيف جعل النبي عمرة رمضان كحجة (ولا شَكَّ (قَدْ قَالَ هَذَا) الْقَوْلَ أَيِ الْعُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً (فَمَا أَدْرِي أَلِيَ خَاصَّةً) أَوْ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ عَامَّةً
قَالَ الْحَافِظُ في الفتح قال بن خُزَيْمَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّ الشَّيْءَ يُشَبَّهُ بِالشَّيْءِ وَيُجْعَلُ عِدْلَهُ إِذَا أَشْبَهَهُ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي لَا جَمِيعِهَا لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا يُقْضَى بها فرض الحج ولا النذر
وقال بن بَطَّالٍ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ الَّذِي نَدَبَهَا إِلَيْهِ كَانَ تَطَوُّعًا لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أن العمرة لا تجزىء عَنْ حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَعْلَمَهَا أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ الْحَجَّةَ فِي الثَّوَابِ لَا أَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَهَا فِي إِسْقَاطِ الْفَرْضِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الِاعْتِمَارَ لَا يُجْزِئُ عَنْ حَجِّ الْفَرْضِ
وَنَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ نَظِيرُ مَا جَاءَ أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن
وقال بن الْعَرَبِيِّ حَدِيثُ الْعُمْرَةِ صَحِيحٌ وَهُوَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ فَقَدْ أَدْرَكَتِ الْعُمْرَةُ مَنْزِلَةَ الْحَجِّ بانضمام رمضان إليها
وقال بن الْجَوْزِيِّ فِيهِ أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ شَرَفِ الْوَقْتِ كَمَا يَزِيدُ بِحُضُورِ الْقَلْبِ وَبِخُلُوصِ الْقَصْدِ
وَقَالَ غَيْرُهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عُمْرَةٌ فَرِيضَةٌ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةِ فَرِيضَةٍ وَعُمْرَةٌ نَافِلَةٌ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةِ نَافِلَةٍ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبَرَكَةِ رَمَضَانَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ
قَالَ الْحَافِظُ الثَّالِثُ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَإِنَّهُ قَالَ ولا تعلم هَذَا إِلَّا لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا وَهَكَذَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ قَوْلِ أُمِّ مَعْقِلٍ وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
وَقَالَ النَّمَرِيُّ أُمُّ طُلَيْقٍ لَهَا صُحْبَةٌ حَدِيثُهَا مَرْفُوعٌ عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً فِيهَا نَظَرٌ
وَقَالَ أَيْضًا أُمُّ مَعْقِلٍ الْأَنْصَارِيَّةُ وَهِيَ أُمُّ طُلَيْقٍ لها كنيتان انتهى
قال الحافظ وزعم بن عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ هِيَ أُمُّ طُلَيْقٍ لَهَا كُنْيَتَانِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ أَبَا معقل مات في عهد النبي وَأَبَا طُلَيْقٍ عَاشَ حَتَّى سَمِعَ مِنْهُ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ مِنْ صِغَارِ التَّابِعِينَ فَدَلَّ عَلَى تَغَايُرِ الْمَرْأَتَيْنِ انْتَهَى
قُلْتُ لِحَدِيثِ أُمِّ مَعْقِلٍ طُرُقٌ وَأَسَانِيدُ وَلَا يَخْلُو مِنَ الِاضْطِرَابِ في المتن والإسناد
وقد(5/323)
ساق بعض أسانيد الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي مَعْقِلٍ وَلِأَجْلِ دَفْعِ الِاضْطِرَابِ وَرَفْعِ التَّنَاقُضِ قَدْ أَوَّلْتُ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ كَمَا عَرَفْتَ
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْبَابِ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عن بن عَبَّاسٍ كَذَا فِي الشَّرْحِ
[1990] (فَأَتَى) الرَّجُلُ (رَسُولَ الله) بعد ما رجع رسول الله مِنْ حَجَّتِهِ (إِنَّهَا سَأَلَتْنِي الْحَجَّ مَعَكَ) قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ (ذَاكَ) الْجَمَلُ (حَبِيسٌ) أَيْ وَقْفٌ (قال) النبي (أَمَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ حَرْفُ التَّنْبِيهِ (وَإِنَّهَا أَمَرَتْنِي) عَطْفٌ عَلَى أَنَّهَا سَأَلَتْنِي
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أن حديث بن عَبَّاسٍ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ فِي قِصَّةِ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَنَّ حَدِيثَ أُمِّ مَعْقِلٍ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَنِ أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ وَقَعَتَا لِامْرَأَتَيْنِ وَوَقَعَتْ لِأُمِّ طُلَيْقٍ قِصَّةٌ مِثْلُ هَذِهِ أَخْرَجَهَا أَبُو عَلِيِّ بن السكن وبن مَنْدَهْ وَالدُّولَابِيُّ فِي الْكُنَى مِنْ طَرِيقِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّ أَبَا طُلَيْقٍ حَدَّثَهُ أَنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ لَهُ وَلَهُ جَمَلٌ وَنَاقَةٌ أَعْطِنِي جَمَلَكَ أَحُجَّ عَلَيْهِ قَالَ جَمَلِي حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَتْ إِنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْ أَحُجَّ عَلَيْهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ رسول الله صَدَقَتْ أُمُّ طُلَيْقٍ وَفِيهِ مَا يَعْدِلُ الْحَجَّ قَالَ عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ وَفِي الْقِصَّةِ الَّتِي في حديث بن عَبَّاسٍ مِنَ التَّغَايُرِ لِلْقِصَّةِ الَّتِي فِي حَدِيثِ غيره ولقوله في حديث بن عَبَّاسٍ إِنَّهَا أَنْصَارِيَّةٌ وَأَمَّا أُمُّ مَعْقِلٍ فَإِنَّهَا أَسَدِيَّةٌ انْتَهَى
وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ نَحْوَهُ مُخْتَصَرًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَعْقِلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وفيه ذكر العمرة في رمضان وأخرجه بن ماجه مختصرا
قال رسول الله عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً انْتَهَى(5/324)
[1991] (اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ) وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أن النبي اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ عُمْرَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً فِي شَوَّالٍ
قَالَ الْحَافِظُ إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ
وَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا لَكِنْ قَوْلُهَا فِي شَوَّالٍ مُغَايِرٌ لِقَوْلِ غَيْرِهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ وَقَعَ فِي آخِرِ شَوَّالٍ وَأَوَّلِ ذِي القعدة ويؤيده ما رواه بن مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ لم يعتمر رسول الله إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ انْتَهَى
وَقَالَ الْحَافِظُ بن القيم وظن بعض الناس أن النبي اعْتَمَرَ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ وَاحْتَجَّ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالُوا وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا ذِكْرُ مَجْمُوعِ مَا اعْتَمَرَهُ فَإِنَّ أَنَسًا وعائشة وبن عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمْ قَدْ قَالُوا إِنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهَا بِهِ أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين بْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه لَمْ يَتَكَلَّم الْمُنْذِرِيُّ عَلَى هَذَا الْحَدِيث وَهُوَ وَهْم فَإِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِر فِي شَوَّال قَطّ فَإِنَّهُ لَا رَيْب أَنَّهُ اِعْتَمَرَ عُمْرَة الْحُدَيْبِيَة وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَة ثُمَّ اِعْتَمَرَ مِنْ الْعَام الْقَادِم عُمْرَة الْقَضِيَّة وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَة ثُمَّ غَزَا غُزَاة الْفَتْح وَدَخَلَ مَكَّة غَيْر مُحْرِم ثُمَّ خَرَجَ إِلَى هَوَازِن وَحَرْب ثَقِيف ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة فَاعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَة وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَة ثُمَّ اِعْتَمَرَ مَعَ حَجَّته عُمْرَة قَرَنَهَا بِهَا وَكَانَ اِبْتِدَاؤُهَا فِي ذِي الْقَعْدَة وَسَيَأْتِي حَدِيث أَنَس بَعْد هَذَا فِي أَنَّ عُمْرَة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَة
وَقَدْ رَوَى مَالِك فِي الْمُوَطَّأ عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِر إِلَّا ثَلَاثًا إِحْدَاهُنَّ فِي شَوَّال وَاثْنَتَيْنِ فِي ذِي الْقَعْدَة
وَهَذَا مُرْسَل عِنْد جَمِيع رُوَاة الموطأ
قال بن عَبْد الْبَرّ وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا عَنْ عَائِشَة وَلَيْسَ رُوَاته مُسْنَدًا مِمَّنْ يُذْكَر مَعَ مَالِك في صحة النقل
وقال بن شِهَاب اِعْتَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاث عُمَر اِعْتَمَرَ عَام الْحُدَيْبِيَة فَصَدَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي ذِي الْقَعْدَة سَنَة سِتّ وَاعْتَمَرَ مِنْ الْعَام الْمُقْبِل فِي ذِي الْقَعْدَة سَنَة سَبْع آمِنًا هُوَ وَأَصْحَابه ثُمَّ اِعْتَمَرَ الْعُمْرَة الثَّالِثَة فِي ذِي الْقَعْدَة سَنَة ثَمَان حِين أَقْبَلَ مِنْ الطَّائِف مِنْ الْجِعْرَانَة
وَرَوَى مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتَمَرَ أَرْبَعًا فَذَكَرَ مِثْل هَذَا وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَغَيْره وَكَذَلِكَ ذَكَر مُوسَى بْن عُقْبَة وَزَادَ وَمِنْهُنَّ وَاحِدَة مَعَ حَجَّته وَكَذَلِكَ قَالَ جَابِر اِعْتَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاث عُمَر
كُلّهنَّ فِي ذِي الْقَعْدَة إِحْدَاهُنَّ زَمَن الْحُدَيْبِيَة وَالْأُخْرَى فِي(5/325)
ومرة في شوال
قال بن الْقَيِّمِ وَهَذَا الْحَدِيثُ وَهْمٌ وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا عَنْهَا فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ قَطُّ فَإِنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ بِلَا رَيْبٍ الْعُمْرَةُ الْأُولَى كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ لَمْ يَعْتَمِرْ إِلَّا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى فَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَمِرْ ذَلِكَ الْعَامِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ وَهَزَمَ اللَّهُ أعداؤه فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَكَانَ ذَلِكَ في ذي القعدة كما قال أنس وبن عَبَّاسٍ فَمَتَى اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ وَلَكِنْ لَقِيَ الْعَدُوَّ فِي شَوَّالٍ وَخَرَجَ فِيهِ مِنْ مَكَّةَ وَقَضَى عُمْرَتَهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ الْعَدُوِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا وَلَمْ يَجْمَعْ ذَلِكَ الْعَامَ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ وَلَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ انتهى
قال بن الْقَيِّمِ وَقَوْلُهَا اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ إِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا فَلَعَلَّهُ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ حِينَ خَرَجَ فِي شَوَّالٍ وَلَكِنْ إِنَّمَا أَحْرَمَ بِهَا في ذي القعدة وكذا له شَيْخُ مَشَايِخِنَا مُحَمَّدٌ إِسْحَاقُ الْمُحَدِّثُ الدَّهْلَوِيُّ فَقَالَ قَوْلُهَا عُمْرَةً فِي شَوَّالٍ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ لكن لما كان خروجه إِلَى حُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ وَكَانَ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ حُنَيْنٍ وُقُوعُ هَذِهِ الْعُمْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي هَذَا السَّفَرِ نَسَبَتْهَا إِلَى شَوَّالٍ وَإِنْ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1992] (مَرَّتَيْنِ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بن عُمَرَ لَمْ يَعُدَّ الْعُمْرَةَ الَّتِي قَرَنَهَا النَّبِيُّ بِحَجَّتِهِ وَلَمْ يَعُدَّ أَيْضًا عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ الَّتِي صد عنها (لقد علم بن عُمَرَ) كَأَنَّهَا نَسَبَتْهُ إِلَى نِسْيَانِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بأنها كانت
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
صُلْح قُرَيْش وَالْأُخْرَى فِي رَجْعَته مِنْ الطَّائِف وَمِنْ حُنَيْنٍ مِنْ الْجِعْرَانَة وَهَذَا لَا يُنَاقِض مَا رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ ثَلَاث حِجَج قَبْل أَنْ يُهَاجِر وَحَجَّة بَعْد مَا هَاجَرَ مَعَهَا عُمْرَة فَإِنَّ جَابِرًا أَرَادَ عُمْرَته الْمُفْرَدَة الَّتِي أَنْشَأَ لَهَا سَفَرًا لِأَجْلِ الْعُمْرَة وَلَا يُنَاقِض هَذَا أيضا حديث بن عُمَر أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بَعْد هَذَا فَإِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا عَنْ عَائِشَة أَنَّهُ اِعْتَمَرَ فِي شَوَّال فَلَعَلَّهُ عَرَضَ لَهَا فِي ذَلِكَ مَا عَرَضَ لِابْنِ عُمَر مِنْ قَوْله إِنَّهُ اِعْتَمَرَ فِي رَجَب وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْفُوظًا عَنْ عَائِشَة كَانَ الْوَهْم مِنْ عُرْوَة أَوْ مِنْ هِشَام وَاَللَّه أَعْلَم بَلْ أَنْ يُحْمَل عَلَى أَنَّهُ اِبْتَدَأَ إِحْرَامهَا فِي شَوَّال وَفَعَلَهَا فِي ذِي الْقَعْدَة
فَتَتَّفِق الْأَحَادِيث كُلّهَا
وَاَللَّه أَعْلَم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال بن حزم صدقت عائشة وصدق بن عُمَر
لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِر مُنْذُ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَة عُمْرَة كَامِلَة مُفْرَدَة
إِلَّا اِثْنَتَيْنِ كَمَا قَالَ بن عُمَر وَهُمَا عُمْرَة الْقَضَاء
وَعُمْرَة الْجِعْرَانَة عَام حنين(5/326)
أَرْبَعَ عُمَرٍ
وَقَدْ رَوَى مُجَاهِدٌ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ اعتمر النبي أربع كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ (قَدِ اعْتَمَرَ ثَلَاثًا) عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَالْعُمْرَةَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَعُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ (سِوَى الَّتِي قَرَنَهَا بِحَجَّةِ الْوَدَاعِ) وَهِيَ الرَّابِعَةُ وَكَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ مَعَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ بن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا بِنَحْوِهِ
[1993] (أَرْبَعَ عُمَرٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ عُمْرَةٍ هُوَ مَفْعُولُ اعْتَمَرَ (عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا قِيلَ هِيَ اسْمُ بِئْرٍ وَقِيلَ شَجَرَةٌ وَقِيلَ قَرْيَةٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ أَكْثَرُهَا فِي الْحَرَمِ وَهِيَ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ مُعْتَمِرًا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَاجْتَمَعَ قُرَيْشٌ وَصَدُّوهُ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فَصَالَحَهُمْ وَرَجَعَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ وَلَمْ يَعْتَمِرْ وَلَكِنْ عَدُّوهَا مِنَ الْعُمَرِ لِتَرَتُّبِ أَحْكَامِهَا مِنْ إِرْسَالِ الْهَدْيِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْإِحْرَامِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ وَكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ (وَالثَّانِيَةَ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى عُمْرَةِ الحديبية أي العمرة الثانية (حين تواطؤوا عَلَى عُمْرَةٍ مِنْ قَابِلٍ) أَيْ تَوَافَقُوا وَصَالَحُوا فِي الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَدَاءِ الْعُمْرَةِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ وَهِيَ أَيْضًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ (وَالثَّالِثَةَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ) فِيهَا لُغَتَانِ إِحْدَاهُمَا بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مُخَفَّفَةً وَبَعْدَ الْأَلِفِ نُونٌ وَالثَّانِيَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَهِيَ مَا بَيْنَ الطَّائِفِ وَمَكَّةَ وَهِيَ إِلَى مَكَّةَ أَقْرَبُ فَهِيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَيْضًا سَنَةَ ثَمَانٍ وَهِيَ بَعْدَ الْفَتْحِ (وَالرَّابِعَةَ الَّتِي قَرَنَ مَعَ حَجَّتِهِ) هِيَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَكَانَتْ أَفْعَالُهَا فِي ذِي الْحَجَّةِ بِلَا خِلَافٍ وَأَمَّا إِحْرَامُهَا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ في ذي القعدة
كذا في عمدة القارىء
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ مرسلا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَعَدَّتْ عَائِشَة وَأَنَس إِلَى هَاتَيْنِ الْعُمْرَتَيْنِ عُمْرَة الْحُدَيْبِيَة الَّتِي صُدَّ عَنْهَا وَالْعُمْرَة الَّتِي قَرَنَهَا بِحَجَّتِهِ فَتَأَلَّفَتْ أَقْوَالهمْ وَانْتَفَى التَّعَارُض عَنْهَا
ثُمَّ قال الشيخ بن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه بَعْد قَوْل الْمُنْذِرِيِّ وَذَكَرَ بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مُعْتَمِرًا فِي رَمَضَان إِلَى أَنْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَكَانَ اِبْتِدَاء خُرُوجهمْ لَهَا فِي رَمَضَان وَهَذَا لَا يَصِحّ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُج فِي رَمَضَان إِلَى مَكَّة إِلَّا في غزاة الفتح ولم يعتمر منها(5/327)
[1994] (هُدْبَةُ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَفِي صَحِيحٍ هَدَّابٌ وَهُمَا وَاحِدٌ (إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ) أَيِ الْعُمْرَةُ كُلُّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا الَّتِي فِي حَجَّتِهِ كَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ قاله الحافظ وقال بن الْقَيِّمِ وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ وبين قول عائشة وبن عباس لم يعتمر رسول الله إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ لِأَنَّ مَبْدَأَ عُمْرَةِ الْقِرَانِ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَنِهَايَتَهَا كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مَعَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ فَعَائِشَةُ وبن عَبَّاسٍ أَخْبَرَا عَنِ ابْتِدَائِهَا وَأَنَسٌ أَخْبَرَ عَنِ انْقِضَائِهَا (أَتْقَنْتُ) مِنَ الْإِتْقَانِ وَهُوَ الْحِفْظُ وَالضَّبْطُ التام (من ها هنا) الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ عُمْرَةً زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ (مِنْ هُدْبَةَ) بْنِ خَالِدٍ (وَسَمِعْتُهُ) أَيِ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ آنِفًا (مِنْ أَبِي الْوَلِيدِ) الطَّيَالِسِيِّ (وَلَمْ أَضْبُطْهُ) أَيْ لَمْ أَحْفَظْهُ كَمَا يَنْبَغِي ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ لَفْظِ هُدْبَةَ فَقَالَ (عُمْرَةً زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ) نُصِبَ بِاعْتَمَرَ وَهِيَ الْعُمْرَةُ الْأُولَى (أَوْ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ) هَذَا شَكٌّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ فَوْقَ أَبِي دَاوُدَ وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِالشَّكِّ وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَأَخْرَجَهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَفْظُهُ عمرته من الحدييبة (وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ) مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ هِيَ الْعُمْرَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ والقضية وإنما سميت بهما لأنه قَاضَى قُرَيْشًا لَا أَنَّهَا وَقَعَتْ قَضَاءً عَنِ العُمْرَةِ الَّتِي صَدَرَ عَنْهَا إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتَا عُمْرَةً وَاحِدَةً وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ هِيَ قضاء عنها قال بن الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَتَسْمِيَةُ الصَّحَابَةِ وَجَمِيعِ السَّلَفِ إِيَّاهَا بِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ خِلَافُهُ وَتَسْمِيَةُ بَعْضِهِمْ إِيَّاهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ لَا يَنْفِيهِ فَإِنَّهُ اتَّفَقَ فِي الْأُولَى مُقَاضَاةُ النَّبِيِّ أَهْلَ مَكَّةَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَدْخُلَ مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ وَيُقِيمَ ثَلَاثًا وَهَذَا الْأَمْرُ قَضِيَّةٌ تَصِحُّ إِضَافَةُ هَذِهِ الْعُمْرَةِ إِلَيْهَا فَإِنَّهَا عُمْرَةٌ كَانَتْ عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَهِيَ قَضَاءٌ عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَتَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَى كل منهما فلا تستلزم الإضافة إلى القضية نفي القضاء والإضافة إلى القضاء تفيد ثبوته فيثبت مفيد ثُبُوتُهُ بِلَا مُعَارِضٍ انْتَهَى (وَعُمْرَةً مِنَ الْجِعْرَانَةِ) هِيَ الثَّالِثَةُ (غَنَائِمَ) جَمْعُ غَنِيمَةٍ وَهِيَ مَا نِيلَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ عَنْوَةً وَالْحَرْبُ قَائِمَةً والفيء ما ينل مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (حُنَيْنٍ(5/328)
بِالصَّرْفِ وَادٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَكَانَتْ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ فِي زَمَنِ غَزْوَةِ الفتح ودخل عليه بِهَذِهِ الْعُمْرَةِ إِلَى مَكَّةَ لَيْلًا وَخَرَجَ مِنْهَا لَيْلًا إِلَى الْجِعْرَانَةِ فَبَاتَ بِهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ وَزَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتَّى جَامَعَ الطَّرِيقَ وَمِنْ ثَمَّ خَفِيَتْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ
قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ (وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ) فِي ذِي الْحِجَّةِ هِيَ الرَّابِعَةُ
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ
وَأَخْرَجَ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْوَلِيدِ وَسَاقَ مَتْنَهُ بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ وَأَخْرَجَهُ الترمذي
فائدة ولم يحفظ عن النبي أَنَّهُ اعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ
فَإِنْ قِيلَ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَسْتَحِبُّونَ الْعُمْرَةَ فِي السَّنَةِ مِرَارًا خُصُوصًا فِي رَمَضَانَ ثُمَّ لَمْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ عن النبي قيل إن النبي كَانَ يَشْتَغِلُ فِي الْعِبَادَاتِ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ لَوِ اعْتَمَرَ مِرَارًا لَبَادَرَتِ الْأُمَّةُ إِلَى ذَلِكَ وَكَانَ يَشُقُّ عليها وقد كان يترك النبي كَثِيرًا مِنَ الْعَمَلِ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ
وَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ خَرَجَ مِنْهُ حَزِينًا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِي وَهَمَّ أَنْ يَنْزِلَ يَسْتَسْقِي مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ لِلْحَاجِّ فَخَافَ أَنْ يُغْلَبَ أَهْلُهَا عَلَى سِقَايَتِهِمْ بَعْدَهُ
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ من حديث بن مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي التَّكْرَارِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى ذَلِكَ إِذْ لَوْ كَانَتِ الْعُمْرَةُ بِالْحَجِّ لَا تُعْقَلُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً لَسَوَّى بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُفَرَّقَا
وَقَدْ ندب النبي إِلَى ذَلِكَ بِلَفْظِهِ فَثَبَتَ الِاسْتِحْبَابُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الِاعْتِمَارِ خِلَافًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ يُكْرَهُ أَنْ يُعْتَمَرَ فِي السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ كَالْمَالِكِيَّةِ وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصِحُّ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الِاعْتِمَارِ وَخَالَفَ مالكا مطرف من أصحابه وبن الْمَوَّازِ قَالَ مُطَرِّفٌ لَا بَأْسَ بِالْعُمْرَةِ فِي السنة مرارا
وقال بن الْمَوَّازِ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ
وَقَدِ اعْتَمَرَتْ عَائِشَةُ مَرَّتَيْنِ فِي شَهْرٍ وَلَا أَدْرِي أَنْ يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ وَلَا مِنَ الِازْدِيَادِ مِنَ الْخَيْرِ فِي مَوْضِعٍ وَلَمْ يَأْتِ بِالْمَنْعِ مِنْهُ نَصٌّ
وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ
وَيَكْفِي فِي هذا أن النبي أَعْمَرَ عَائِشَةَ مِنَ التَّنْعِيمِ سِوَى عُمْرَتِهَا الَّتِي كَانَتْ أَهَلَّتْ بِهَا وَذَلِكَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ وَاعْتَمَرَتْ عَائِشَةُ فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ
فَقِيلَ لِلْقَاسِمِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ فَقَالَ أَعَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا جَمَّمَ رَأْسَهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَمِرُ فِي السنة مرارا
ذكره بن الْقَيِّمِ وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِيهِ(5/329)
81 - (باب المهلة بالعمرة تحيض [1995] قبل إِتْمَامُ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ)
(فَيُدْرِكُهَا الْحَجُّ فَتَنْقُضُ عُمْرَتَهَا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَتَرْفُضُ عُمْرَتَهَا (وَتُهِلُّ) تُحْرِمُ (بِالْحَجِّ) بَعْدَ رَفْضِهَا (هَلْ تَقْضِي عُمْرَتَهَا) الَّتِي أَحْرَمَتْ بِهَا قَبْلَ إِدْرَاكِ الْحَجِّ
فَإِنْ قُلْتَ يُفْهَمُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْبَابِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ قَدْ رَفَضَتِ الْعُمْرَةَ لِأَجْلِ عُذْرِ الْحَيْضِ فَالْعُمْرَةُ الَّتِي أَهَلَّتْ بِهَا مِنَ التَّنْعِيمِ قَضَاءٌ عَنْهَا لِأَدَاءِ مَرَّةٍ أُخْرَى
قُلْتُ نَعَمْ كَذَا يُفْهَمُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْبَابِ لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا يَصِحُّ رَفْضُهَا وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ وَفِي لَفْظٍ حَلَلْتِ مِنْهُمَا جَمِيعًا
فَإِنْ قِيلَ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا ارْفُضِي عُمْرَتَكِ وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَفِي لَفْظٍ آخَرَ دَعِي عُمْرَتَكِ وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَفِي لَفْظٍ أَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي رَفْضِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ ارْفُضِيهَا وَدَعِيهَا وَالثَّانِي أَمْرُهُ لَهَا بِالِامْتِشَاطِ
قِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ ارْفُضِيهَا أَيِ اتْرُكِي أَفْعَالَهَا وَالِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا وَكُونِي فِي حَجَّةٍ مَعَهَا وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ حَلَلْتِ مِنْهُمَا جَمِيعًا لَمَّا قُضِيَتْ أَعْمَالُ الْحَجِّ
وَقَوْلُهُ يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ فَهَذَا صَرِيحٌ أَنَّ إِحْرَامَ الْعُمْرَةِ لَمْ تُرْفَضْ وَإِنَّمَا رُفِضَتْ أَعْمَالُهَا وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا بِقَضَاءِ حَجَّتِهَا انْقَضَى حَجَّتُهَا وَعُمْرَتُهَا ثُمَّ أَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا إِذْ تَأْتِي بِعُمْرَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ كَصَوَاحِبَاتِهَا
وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ إِيضَاحًا بَيِّنًا مَا روى مسلم في صحيحه ولفظ قَالَتْ عَائِشَةُ وَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَحِضْتُ فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَلَمْ أُهِلَّ إِلَّا بِعُمْرَةٍ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي وَأَمْتَشِطَ وَأُهِلَّ بِالْحَجِّ وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ قَالَتْ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا قَضَيْتُ حَجِّي بَعَثَ مَعِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مِنَ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي أَدْرَكَنِي الْحَجُّ ولم أحل منها فَهَذَا حَدِيثٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالصَّرَاحَةُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْ مِنْ عُمْرَتِهَا وَأَنَّهَا بَقِيَتْ مُحْرِمَةً بِهَا حَتَّى أَدْخَلَتْ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَهَذَا خَبَرُهَا عَنْ نَفْسِهَا وَذَلِكَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا كُلٌّ مِنْهُمَا(5/330)
يُوَافِقُ الْآخَرَ كَذَا فِي زَادِ الْمَعَادِ (أُخْتَكَ عَائِشَةَ) بَدَلٌ مِنْ أُخْتِكَ (فَإِذَا هَبَطْتَ) مِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيْ نَزَلْتَ (بِهَا) أَيْ عَائِشَةَ (مِنَ الْأَكَمَةِ) تَلٌّ وَقِيلَ شُرْفَةٌ كَالرَّابِيَةِ وَهُوَ مَا اجْتَمَعَ مِنَ الْحِجَارَةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَرُبَّمَا غَلُظَ وَرُبَّمَا لَمْ يَغْلُظْ وَالْجَمْعُ أَكَمٌ وَأَكَمَاتٌ مِثْلُ قَصَبَةٍ وَقَصَبٍ وَقَصَبَاتٍ وَجَمْعُ الْأَكَمِ آكَامٌ مِثْلُ جَبَلٍ وَجِبَالٍ وَجَمْعُ الْآكَامِ أُكُمٌ بِضَمَّتَيْنِ مِثْلُ كِتَابٍ وَكُتُبٍ وَجَمَعُ الْأُكُمِ آكَامٌ مِثْلُ عُنُقٍ وَأَعْنَاقٍ كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَزَّارُ وَلَا يُعْلَمُ رَوَتْ حَفْصَةُ عَنْ أَبِيهَا إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ مِنَ التَّنْعِيمِ انْتَهَى [1996] (أَبِي مُزَاحِمٌ) بَدَلٌ مِنْ لَفْظِ أَبِي (فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ) الَّذِي هُنَاكَ (فَاسْتَقْبَلَ بَطْنَ سَرِفَ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَآخِرُهُ فَاءٌ مَوْضِعٌ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقِ الْمَرْوَةِ جَبَلٍ بِمَكَّةَ بَنَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَفِيهِ مَاتَتْ أَيْ تَوَجَّهَ وَاسْتَقْبَلَ وَجْهَهُ إِلَى بَطْنِ سَرِفَ (فَأَصْبَحَ بِمَكَّةَ) قَالَ السِّنْدِيُّ فِي فَتْحِ الْوَدُودِ ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ الْجِعْرَانَةَ لَيْلًا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَأَصْبَحَ بِهَا بِحَيْثُ مَا عُلِمَ بِخُرُوجِهِ مِنْهَا وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ بِالْجِعْرَانَةِ فَأَصْبَحَ فِيهَا كَبَائِتٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ مُحَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا فَقَضَى عُمْرَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْغَدِ خَرَجَ فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتَّى جَامَعَ الطَّرِيقَ طَرِيقَ جَمْعٍ بِسَرِفَ فمن أجل ذلك خفت عُمْرَتُهُ عَلَى النَّاسِ انْتَهَى وَلَفْظُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا ثُمَّ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ أَخَذَ فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتَّى جَامَعَ الطَّرِيقَ طَرِيقَ الْمَدِينَةِ وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلًا مِنَ الْجِعْرَانَةِ حِينَ أَمْسَى مُعْتَمِرًا فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا فَقَضَى عُمْرَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتَّى جَامَعَ الطَّرِيقَ(5/331)
طَرِيقَ الْمَدِينَةِ بِسَرِفَ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَتَمَّ مِنْهُ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَلَا يُعْرَفُ لِمُحَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ هذا الحديث
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ
2 - (بَاب الْمَقَامِ فِي الْعُمْرَةِ)
[1997] أَيِ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ
(أقام في عمرة القضاء ثلاثا) قال بن الْقَيِّمِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ سِوَى المرة الأولى فإنه وصل إلى الحدييبة وَصُدَّ عَنِ الدُّخُولِ إِلَيْهَا ثُمَّ دَخَلَهَا الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ فَقَضَى عُمْرَتَهُ وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ خَرَجَ ثُمَّ دَخَلَهَا الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ دَخَلَهَا بِعُمْرَةٍ مِنَ الْجِعْرَانَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ تَعْلِيقًا
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ثَلَاثًا
3 - (بَاب الْإِفَاضَةِ فِي الْحَجِّ)
[1998] هِيَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ في قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق
(أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ) أَيْ طَافَ بِالْبَيْتِ (ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى يَعْنِي رَاجِعًا) وَالَّذِي رَوَاهُ جابر في الحديث
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هكذا قال بن عُمَر وَقَالَ جَابِر فِي حَدِيثه الطَّوِيل ثُمَّ أَفَاضَ إِلَى الْبَيْت فَصَلَّى بِمَكَّة الظُّهْر(5/332)
طَرِيقَ الْمَدِينَةِ بِسَرِفَ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَتَمَّ مِنْهُ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَلَا يُعْرَفُ لِمُحَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ هذا الحديث
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ
2 - (بَاب الْمَقَامِ فِي الْعُمْرَةِ)
أَيِ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ
(أقام في عمرة القضاء ثلاثا) قال بن الْقَيِّمِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ سِوَى المرة الأولى فإنه وصل إلى الحدييبة وَصُدَّ عَنِ الدُّخُولِ إِلَيْهَا ثُمَّ دَخَلَهَا الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ فَقَضَى عُمْرَتَهُ وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ خَرَجَ ثُمَّ دَخَلَهَا الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ دَخَلَهَا بِعُمْرَةٍ مِنَ الْجِعْرَانَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ نَحْوَهُ تَعْلِيقًا
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ثَلَاثًا
3 - (بَاب الْإِفَاضَةِ فِي الْحَجِّ)
هِيَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العتيق
(أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ) أَيْ طَافَ بِالْبَيْتِ (ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى يَعْنِي رَاجِعًا) وَالَّذِي رَوَاهُ جَابِرٌ فِي الْحَدِيثِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
رَوَاهُ مُسْلِم وَقَالَتْ عَائِشَة أَفَاضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخِر يَوْمه حِين صَلَّى الظُّهْر ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَمَكَثَ بِهَا الْحَدِيث وَسَيَأْتِي
فَاخْتَلَفَ النَّاس فِي ذلك فرجحت طائفة منهم بن حَزْم وَغَيْره حَدِيث جَابِر وَأَنَّهُ صَلَّى الظُّهْر بِمَكَّة
قَالُوا وَقَدْ وَافَقَتْهُ عَائِشَة وَاخْتِصَاصهَا بِهِ وَقُرْبهَا مِنْهُ وَاخْتِصَاص جَابِر وَحِرْصه عَلَى الِاقْتِدَاء بِهِ أَمْر لَا يُرْتَاب فِيهِ
قَالُوا وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجَمْرَة وَحَلَقَ رَأْسه وَخَطَبَ النَّاس وَنَحَرَ مِائَة بَدَنَة هُوَ وَعَلِيّ وَانْتَظَرَ حَتَّى سُلِخَتْ وَأَخَذَ مِنْ كُلّ بَدَنَة بِضْعَة فَطُبِخَتْ وَأَكَلَا مِنْ لَحْمهَا
قَالَ بن حَزْم وَكَانَتْ حَجَّته فِي آذَار وَلَا يَتَّسِع النَّهَار لِفِعْلِ هَذَا جَمِيعه مَعَ الْإِفَاضَة إِلَى الْبَيْت وَالطَّوَاف وَصَلَاة الرَّكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَرْجِع إِلَى مِنًى وَوَقْت الظُّهْر بَاقٍ
وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْهُمْ شيخ الإسلام بن تَيْمِيَة وَغَيْره الَّذِي يُرَجِّح أَنَّهُ إِنَّمَا صَلَّى الظُّهْر بِمِنًى لِوُجُوهِ أَحَدهَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى الظُّهْر بِمَكَّة لَأَنَابَ عَنْهُ فِي إِمَامَة النَّاس بِمِنًى إِمَامًا يُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْر وَلَمْ يَنْقُل ذلك أحد
ومحتال أَنْ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ الظُّهْر بِمِنًى نَائِب لَهُ وَلَا يَنْقُلهُ أَحَد فَقَدْ نَقَلَ النَّاس نِيَابَة عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف لَمَّا صَلَّى بِهِمْ الْفَجْر فِي السَّفَر وَنِيَابَة الصِّدِّيق لَمَّا خَرَجَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْلِح بَيْن بَنِي عَمْرو بْن عَوْف وَنِيَابَته فِي مَرَضه وَلَا يَحْتَاج إِلَى ذِكْر مَنْ صَلَّى بِهِمْ بِمَكَّة لِأَنَّ إِمَامهمْ الرَّاتِب الَّذِي كَانَ مُسْتَمِرًّا عَلَى الصَّلَاة قَبْل ذَلِكَ وَبَعْده هُوَ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ
الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِهِمْ بِمَكَّة لَكَانَ أَهْل مَكَّة مُقِيمِينَ فَكَانَ يَتَعَيَّن عَلَيْهِمْ الْإِتْمَام وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتِمُّوا صَلَاتكُمْ فَإِنَّا قَوْم سَفْر كَمَا قَالَهُ فِي غُزَاة الْفَتْح
الثَّالِث أَنَّهُ يُمْكِن اِشْتِبَاه الظُّهْر الْمَقْصُورَة بِرَكْعَتَيْ الطَّوَاف وَلَا سِيَّمَا وَالنَّاس يُصَلُّونَهُمَا مَعَهُ وَيَقْتَدُونَ بِهِ فِيهِمَا فَظَنَّهُمَا الرَّائِي الظُّهْر
وَأَمَّا صَلَاته بِمِنًى وَالنَّاس خَلْفه فَهَذِهِ لَا يُمْكِن اِشْتِبَاههَا بِغَيْرِهَا أَصْلًا لَا سِيَّمَا وَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِمَام الْحَجّ الَّذِي لَا يُصَلِّي لَهُمْ سِوَاهُ فَكَيْف يَدَعهُمْ بِلَا إِمَام يُصَلُّونَ أَفْرَادًا وَلَا يُقِيم لَهُمْ مَنْ يُصَلِّي بِهِمْ هَذَا فِي غَايَة الْبُعْد
وَأَمَّا حَدِيث عَائِشَة فَقَدْ فَهِمَ مِنْهُ جَمَاعَة مِنْهُمْ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ وَغَيْره أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْر بِمِنًى ثُمَّ أَفَاضَ إِلَى الْبَيْت بَعْد مَا صَلَّى الظُّهْر لِأَنَّهَا قَالَتْ أَفَاضَ مِنْ آخِر يَوْمه حِين صَلَّى الظُّهْر ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى
قَالُوا وَلَعَلَّهُ صَلَّى الظُّهْر بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَكَّة فَصَلَّى الظُّهْر بِمَنْ لَمْ يُصَلِّ كَمَا قَالَ جابر(5/333)
الطَّوِيلِ وَعَائِشَةُ هُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ هذا الحديث ومنهم حَدِيثَ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ لِصِحَّةِ الْحَدِيثَيْنِ
كَذَا فِي فَتْحِ الْوَدُودِ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَوَّلَ النَّهَارِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إِلَّا بِهِ
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ وَفَعَلَهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى مَا بَعْدِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَأَتَى بِهِ بَعْدَهَا أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِذَا تَطَاوَلَ لَزِمَهُ مَعَهُ دَمٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ مُخْتَصَرٌ
[1999] (عَنْ أَبِيهِ) وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ (وَعَنْ أُمِّهِ) أَيْ أُمِّ أَبِي عُبَيْدَةَ (زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ) بَدَلٌ عَنْ أُمِّهِ وَهِيَ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي يَصِيرُ) أَيْ يَرْجِعُ (إِلَيَّ فِيهَا) أَيْ يَدْخُلُ عَلَيَّ فِيهَا (مَسَاءَ يَوْمِ النَّحْرِ) أَيِ اتَّفَقَ أَنْ كَانَتْ لَيْلَةُ نَوْبَتِي مَسَاءَ يَوْمِ النَّحْرِ أَيْ مَسَاءَ لَيْلَةٍ تَلِي يَوْمَ النَّحْرِ وَهِيَ لَيْلَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمَسَاءُ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى أَنْ يَشْتَدَّ الظَّلَامُ
قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ
ولعل المراد به ها هنا أَوَّلُ اللَّيْلِ (فَصَارَ) أَيْ رَجَعَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَرَأَى قَوْمًا لَمْ يصلوا فصلى بهم ثالثة كما قال بن عُمَر وَهَذِهِ حَرْفَشَة فِي الْعِلْم وَطَرِيقَة يَسْلُكهَا الْقَاصِرُونَ فِيهِ وَأَمَّا فُحُول أَهْل الْعِلْم فَيَقْطَعُونَ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ وَيُحِيلُونَ الِاخْتِلَاف عَلَى الْوَهْم وَالنِّسْيَان الَّذِي هُوَ عُرْضَة الْبَشَر وَمَنْ لَهُ إِلْمَام بِالسُّنَّةِ وَمَعْرِفَة بِحُجَّتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطع بأنه لم يصل الظهر فِي ذَلِكَ الْيَوْم ثَلَاث مَرَّات بِثَلَاثِ جَمَاعَات بَلْ وَلَا مَرَّتَيْنِ
وَإِنَّمَا صَلَّاهَا عَلَى عَادَته الْمُسْتَمِرَّة قَبْل ذَلِكَ الْيَوْم وَبَعْده صَلَّى اللَّه عليه وسلم
وفهم منه آخرون منهم بن حَزْم وَغَيْره أَنَّهُ أَفَاضَ حِين صَلَّاهَا بِمَكَّة
وَفِي نُسْخَة مِنْ نُسَخ السُّنَن أَفَاضَ حَتَّى صَلَّى الظُّهْر ثُمَّ رَجَعَ وَهَذِهِ الرِّوَايَة ظَاهِرَة فِي أَنَّهُ صَلَّاهَا بِمَكَّة كَمَا قَالَ جَابِر وَرِوَايَة حِين مُحْتَمِلَة لِلْأَمْرَيْنِ وَاَللَّه أَعْلَم(5/334)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِلَى) فِي ذَلِكَ الْمَسَاءِ أَيْ دَخَلَ عَلَيَّ فِيهِ (فَدَخَلَ عَلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (وَهْبُ) فَاعِلُ دَخَلَ (بْنُ زَمْعَةَ) وَدَخَلَ (مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ آلِ أَبِي أُمَيَّةَ) أَيْضًا حَالَ كَوْنِهِمَا (مُتَقَمِّصَيْنِ) أَيْ لَابِسَيِ الْقَمِيصَ (هَلْ أَفَضْتَ) أَيْ طُفْتَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ يَا (أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) هَذِهِ كُنْيَةُ وَهْبٍ (قَالَ) الرَّاوِي (فَنَزَعَهُ) أَيْ نَزَعَ وَهْبٌ ذَلِكَ الْقَمِيصَ (مِنْ رَأْسِهِ) أَيْ قِبَلَ رَأْسِهِ (وَنَزَعَ صَاحِبُهُ) الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهَا مَعَهُ أَيْضًا (ثُمَّ قَالَ) وَهْبٌ (وَلِمَ) أَمَرْتَنَا بِنَزْعِ الْقَمِيصِ عَنَّا (إِنَّ هَذَا) أَيْ يَوْمَ النَّحْرِ (يَوْمٌ رُخِّصَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لَكُمْ إِذَا أَنْتُمْ) أَيُّهَا الْحَجِيجُ (رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ) أَيْ فَرَغْتُمْ عَنْ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ (أَنْ تُحِلُّوا) مَفْعُولُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لِقَوْلِهِ رُخِّصَ (يَعْنِي) أَيْ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ أَنْ تَحِلُّوا أَيْ أَنْ تَحِلُّوا (مِنْ كُلِّ مَا حُرِمْتُمْ مِنْهُ إِلَّا النِّسَاءَ) إلى ها هنا تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ) أَيْ دَخَلْتُمْ فِي الْمَسَاءِ (قَبْلَ أَنْ تَطُوفُوا هَذَا الْبَيْتَ) يَوْمَ النَّحْرِ (صِرْتُمْ حُرُمًا) بِضَمَّتَيْنِ وَيَجُوزُ تَسْكِينُ الرَّاءِ أَيْضًا جَمْعُ حَرَامٍ بِمَعْنَى مُحْرِمٍ أَيْ صِرْتُمْ مُحْرِمِينَ (كَهَيْئَتِكُمْ) أَيْ كَمَا كُنْتُمْ مُحْرِمِينَ (قَبْلَ أَنْ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ) أَيْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ (حَتَّى تَطُوفُوا بِهِ) أَيْ بالبيت
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هذا الحديث يرويه بن إِسْحَاق عَنْ أَبِي عُبَيْدَة بْن عَبْد اللَّه بْن زَمْعَة عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمّه زَيْنَب بِنْت أَبِي سَلَمَة يُحَدِّثَانِهِ عَنْ أُمّ سَلَمَة وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَحَدَّثَتْنِي أُمّ قَيْس بِنْت مِحْصَن وَكَانَتْ جَارَة لَهُمْ قَالَتْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي عُكَّاشَة بْن مِحْصَن فِي نَفَر مِنْ بَنِي أَسَد مُتَقَمِّصًا عَشِيَّة يَوْم النَّحْر ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيَّ عِشَاء وَقُمُصُهُمْ عَلَى أَيْدِيهمْ يَحْمِلُونَهَا فَقُلْت أَيْ عكاشة مَا لَكُمْ خَرَجْتُمْ مُتَقَمِّصِينَ ثُمَّ رَجَعْتُمْ وَقُمُصُكُمْ عَلَى أَيْدِيكُمْ تَحْمِلُونَهَا فَقَالَ أَخْبَرَتْنَا أُمّ قَيْس كَانَ هَذَا يَوْمًا رَخَّصَ فِيهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا إِذَا نَحْنُ رَمَيْنَا الْجَمْرَة حَلَلْنَا مِنْ كُلّ مَا أَحْرَمْنَا مِنْهُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النِّسَاء حَتَّى تَطُوف بِالْبَيْتِ فَإِذَا أَمْسَيْنَا وَلَمْ نَطُفْ جَعَلْنَا قُمُصَنَا عَلَى أَيْدِينَا وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيث مَحْفُوظ فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَة رَوَاهُ عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمّه وَعَنْ أم قيس(5/335)
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا التَّرْخِيصَ لَكُمْ إِنَّمَا هُوَ بِشَرْطِ أَنْ تَطُوفُوا طَوَافَ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلُوا فِي مَسَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَمَّا إِذَا فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ بِأَنْ أَمْسَيْتُمْ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ تَطُوفُوا طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فَلَيْسَ لَكُمْ هَذَا التَّرْخِيصُ وَإِنْ رَمَيْتُمْ وَذَبَحْتُمْ وَحَلَقْتُمْ بَلْ بَقِيتُمْ مُحْرِمِينَ كَمَا كُنْتُمْ مُحْرِمِينَ قَبْلَ الرَّمْيِ
وَفِقْهُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ قَبْلَ مَسَاءِ يَوْمِ النَّحْرِ رُخِّصَ لَهُ التَّحَلُّلُ عَنِ الْإِحْرَامِ وَحَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي الْإِحْرَامِ مَا خَلَا النِّسَاءَ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُفِضْ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ مَسَائِهِ بَلْ دَخَلَتْ لَيْلَةُ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ إِفَاضَتِهِ لَمْ يُرَخَّصْ لَهُ التَّحْلِيلُ بَلْ بَقِيَ حَرَامًا كَمَا كَانَ وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ فِي الْإِحْرَامِ كَالتَّقَمُّصِ وَغَيْرِهِ بَلْ بَقِيَ حَرَامًا كَمَا كَانَ وَإِنْ كَانَ رَمَى وَذَبَحَ وَحَلَقَ وَأَنَّ مَنْ لَبِسَ الْقَمِيصَ فِي الْإِحْرَامِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا وَجَبَ عَلَيْهِ أن ينزعه بعد ما عَلِمَهُ أَوْ ذَكَرَهُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ نَزْعُهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ تَغْطِيَةُ رَأْسِهِ
وَقَدْ وَقَعَ حَدِيثُ يَعْلَى عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بِلَفْظِ اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ فَخَلَعَهَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ شَقَّ قَمِيصَهُ مِنْ جَيْبِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ رِجْلَيْهِ فَنَظَرَ الْقَوْمُ إِلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي أَمَرْتُ بِبُدْنِي الَّتِي بَعَثْتُ بِهَا أَنْ تُقَلَّدَ الْيَوْمَ وَتُشْعَرَ فَلَبِسْتُ قَمِيصِي وَنَسِيتُ فَلَمْ أَكُنْ لِأُخْرِجَ قَمِيصِي مِنْ رَأْسِي أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ فَفِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَطَاءٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِمَا انْفَرَدَ بِهِ فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَهُ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ
وَقَدْ تَرَكَهُ مَالِكٌ وَهُوَ جَارُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ فِي فَتْحِ الْوَدُودِ وَلَعَلَّ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّغْلِيطِ وَالتَّشْدِيدِ فِي تَأْخِيرِ الطَّوَافِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَالتَّأْكِيدِ فِي إِتْيَانِهِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَأْبَى مِثْلَ هَذَا الْحَمْلِ جِدًّا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
[2000] (أَخَّرَ طَوَافَ يَوْمِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَدْ اِسْتَشْكَلَهُ النَّاس قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا حُكْم لَا أَعْلَم أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاء يَقُول بِهِ
تَمَّ كَلَامه
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عقبة عن أبي الزبير عن عائشة وبن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ طَوَاف يَوْم النَّحْر إِلَى اللَّيْل
وَأَخْرَجَهُ الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حَسَن وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ تَعْلِيقًا
وَكَأَنَّ رِوَايَة أَبِي دَاوُدَ لَهُ عَقِب حَدِيث أُمّ سَلَمَة اِسْتِدْلَال مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ حَدِيث أُمّ سَلَمَة لِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّ قَبْل طَوَافه بِالْبَيْتِ ثُمَّ أَخَّرَهُ إِلَى اللَّيْل
لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيث وَهْم فَإِنَّ الْمَعْلُوم مِنْ فِعْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا طَافَ طَوَاف الْإِفَاضَة نَهَارًا بَعْد الزَّوَال كَمَا قَالَهُ جَابِر وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعَائِشَة وَهَذَا أَمْر لَا يَرْتَاب فِيهِ أَهْل الْعِلْم وَالْحَدِيث وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل عَائِشَة أَفَاضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين صَلَّى الظُّهْر مِنْ رِوَايَة أَبِي سَلَمَة وَالْقَاسِم عَنْهَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَحَدِيث أَبِي سَلَمَة عَنْ عَائِشَة أَصَحّ
وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي سَمَاع أَبِي الزُّبَيْر مِنْ عائشة نظر وقد سمع من بن عباس(5/336)
النَّحْرِ إِلَى اللَّيْلِ) قِيلَ فِي مَعْنَاهُ إِنَّهُ رُخِّصَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ إِلَى اللَّيْلِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطُفْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فِي اللَّيْلِ
وَفِي زَادِ الْمَعَادِ أَفَاضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ الظُّهْرِ رَاكِبًا فَطَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَالصَّدْرِ وَلَمْ يَطُفْ غَيْرَهُ وَلَمْ يُسْمَعْ مَعَهُ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَطَائِفَةٌ زَعَمَتْ أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنَّمَا أَخَّرَ طواف الزيارة إلى الليل وهو قول طاووس وَمُجَاهِدٍ وَعُرْوَةَ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ عَائِشَةَ الْمُخَرَّجِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ غَلَطٌ بَيِّنٌ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أهل العلم بحجته صلى الله عليه وسلم
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَطَّانُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إِنَّمَا طَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ نَهَارًا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ أَوْ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى الظُّهْرَ بِهَا بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ فَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِنَّهُ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى الظُّهْرَ بِهَا وَجَابِرٌ يَقُولُ إِنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ هَذِهِ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ أَخَّرَ الطَّوَافَ إِلَى اللَّيْلِ وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُرْوَ إِلَّا مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ
وَأَبُو الزُّبَيْرِ مُدَلِّسٌ لَمْ يَذْكُرْ ها هنا سَمَاعًا عَنْ عَائِشَةَ انْتَهَى
وَقَالَ السِّنْدِيُّ الْمَعْلُومُ الثَّابِتُ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَنَّهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ الطَّوَافُ الْفَرْضُ قَبْلَ اللَّيْلِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي تَأْخِيرِهِ إِلَى اللَّيْلِ أَوِ الْمُرَادَ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ غَيْرُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَيْ إِنَّهُ كَانَ يَقْصِدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ أَيَّامَ مِنًى بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَإِذَا زَارَ طَافَ أَيْضًا وَكَانَ يُؤَخِّرُ طَوَافَ تِلْكَ الزِّيَارَةِ إِلَى اللَّيْلِ بِتَأْخِيرِ تِلْكَ الزِّيَارَةِ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا يَذْهَبُ إِلَى مَكَّةَ لِأَجْلِ تِلْكَ الزِّيَارَةِ فِي النَّهَارِ بَعْدَ الْعَصْرِ مَثَلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا مُسْتَوْفًى
[2001] (لَمْ يَرْمُلْ) مِنْ بَابِ نَصَرَ (أَفَاضَ فِيهِ) أَيْ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ
قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن ماجه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَيُمْكِن أَنْ يُحْمَل قَوْلهَا أَخَّرَ طَوَاف يَوْم النَّحْر إِلَى اللَّيْل عَلَى أَنَّهُ أَذِنَ فِي ذَلِكَ فَنُسِبَ إِلَيْهِ وَلَهُ نَظَائِر(5/337)
84 - (بَاب الْوَدَاعِ [2002] مِنَ الْبَيْتِ)
فَهَذَا بَابٌ لِإِثْبَاتِ الْوَدَاعِ وَالْبَابُ الْآتِي لِإِثْبَاتِ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(كَانَ النَّاسُ) أَيْ بَعْدَ حَجِّهِمْ (يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ) أَيْ طَرِيقٍ طَائِفًا أَوْ غَيْرَ طَائِفٍ (لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ) أَيِ النَّفَرَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِي أَوْ لَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْ مَكَّةَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْآفَاقِيُّ (حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ) أَيْ بِالطَّوَافِ بِهِ
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَخَالَفَ فِيهِ مَالِكٌ هَكَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
5 - (بَاب الْحَائِضِ تَخْرُجُ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ)
[2003] (ذَكَرَ صَفِيَّةَ) أَيْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ (لَعَلَّهَا حَابِسَتُنَا) أَيْ مَانِعَتُنَا عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِانْتِظَارِ طَوَافِهَا (فَلَا إِذًا) جَوَابٌ وَجَزَاءٌ أَيْ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَنَّهَا أَفَاضَتْ فَلَا أَمْنَعُهَا لِلْخُرُوجِ
وَنَظِيرُهُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَشْرِبَةِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الظُّرُوفِ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ إِنَّهُ لابد لَنَا مِنْهَا قَالَ فَلَا إِذًا قَالَ فِي الْفَتْحِ فَلَا إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ أَيْ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْهَا فَلَا تدعوها
وفي لفظ الشيخين قلت يارسول اللَّهِ إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ قَالَ فَلْتَنْفِرْ إِذَنْ أَيْ فَلَا حَبْسَ عَلَيْنَا حِينَئِذٍ لِأَنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّوَجُّهِ وَالَّذِي يَجِبُ عَلَيْهَا قَدْ فَعَلَتْهُ
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَلَا بَأْسَ انْفِرِي وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ اخْرُجِي وَفِي رِوَايَةٍ فَلْتَنْفِرْ وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ وَالْمُرَادُ بِهَا الرَّحِيلُ مِنْ منى إلى جهة المدينة(5/338)
قال بن الْمُنْذِرِ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ بِالْأَمْصَارِ لَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ الَّتِي طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ طَوَافُ الْوَدَاعِ
وَرُوِّينَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُمْ أَمَرُوهَا بِالْمَقَامِ إِذَا كَانَتْ حَائِضًا لِطَوَافِ الْوَدَاعِ كَأَنَّهُمْ أَوْجَبُوهُ عَلَيْهَا كَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِذْ لَوْ حَاضَتْ قَبْلَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهَا
قَالَ وقد ثبت رجوع بن عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ ذَلِكَ وَبَقِيَ عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة
وروى بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ كَانَ الصَّحَابَةُ يَقُولُونَ إِذَا أَفَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ فَقَدْ فَرَغَتْ إِلَّا عُمَرَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ بِمَعْنَاهُ
[2004] (أَرِبْتَ عَنْ يَدَيْكَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ سَقَطْتَ مِنْ أَجْلِ مَكْرُوهٍ يُصِيبُ يَدَيْكَ مِنْ قَطْعٍ أَوْ وَجَعٍ أَوْ سَقَطْتَ بِسَبَبِ يَدَيْكَ أَيْ مِنْ بِنَايَتِهِمَا
قِيلَ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخَجَالَةِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ لَكِنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ حَقِيقَتَهُ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ نِسْبَةُ الْخَطَأِ إِلَيْهِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ سَقَطَتْ آرَابُكَ مِنَ الْيَدَيْنِ خَاصَّةً (لِكَيْمَا أُخَالِفَ) مَا زَائِدَةٌ
وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى نَسْخِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَكَذَلِكَ اسْتَدَلَّ عَلَى نَسْخِهِ بِحَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ عِنْدَ أَبِي داود الطيالسي أنها قالت حضت بعد ما طُفْتُ بِالْبَيْتِ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَنْفِرَ
وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ حَبَسَتْنَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْفِرَ
وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ وَإِسْحَاقُ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّحَاوِيُّ وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أخرجه النسائي والترمذي وصححه الحاكم عن بن عُمَرَ قَالَ مَنْ حَجَّ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ إِلَّا الْحُيَّضَ رَخَّصَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حديث بن عَبَّاسٍ أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ
وأخرج أحمد في مسنده عن بن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَصْدُرَ قَبْلَ أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ إِذَا كَانَتْ قَدْ طَافَتْ فِي الْإِفَاضَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْإِسْنَادُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ حَسَنٌ
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَقَالَ غَرِيبٌ(5/339)
86 - (بَاب طَوَافِ الْوَدَاعِ)
[2005] (بِالْأَبْطَحِ) وَهُوَ الْبَطْحَاءُ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى وَهِيَ مَا انْبَطَحَ مِنَ الْأَرْضِ وَاتَّسَعَ وَهُوَ الْمُحَصَّبُ وَحَدُّهَا مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ
قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ الْأَبْطَحُ وَالْبَطْحَاءُ وَخَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَذَا فِي الْعَيْنِيِّ (حَتَّى فَرَغْتُ) مِنَ الْعُمْرَةِ (فَطَافَ بِهِ) أَيْ طَوَافَ الْوَدَاعِ (ثُمَّ خَرَجَ) أَيْ إِلَى الْمَدِينَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّنْعِيمِ وَالْأَبْطَحِ وَالْمُحَصَّبِ
[2006] (فِي النَّفْرِ الْآخِرِ) أَيِ الرُّجُوعِ مِنْ مِنًى (فَنَزَلَ الْمُحَصَّبَ) كَمُعَظَّمٍ
قَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَوْضِعٍ كَثِيرِ الْحَصَاةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الشِّعْبُ الَّذِي أَحَدُ طَرَفَيْهِ مِنًى وَيَتَّصِلُ الْآخَرُ بِالْأَبْطَحِ فَعَبَّرَ بِهِ عَنِ الْمُحَصَّبِ الْمَعْرُوفِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُجَاوِرِ عَلَى الْمُجَاوَرِ انْتَهَى وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ الشِّعْبُ الَّذِي مَخْرَجُهُ إِلَى الْأَبْطَحِ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ فِيهِ
[2007] (كَانَ إِذَا جَازَ مَكَانًا مِنْ دَارِ يَعْلَى) لَعَلَّهُ الْمَوْضِعُ الْمَعْلُومُ بِمَوْضِعِ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ قَالَهُ السِّنْدِيُّ
وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ كَانَ إِذَا جَاءَ مَكَانًا فِي(5/340)
دَارِ يَعْلَى اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا
وَفِي أُسْدِ الْغَابَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي مَكَانًا فِي دَارِ يَعْلَى فَيَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ فَيَدْعُو وَيَخْرُجُ مِنْهُ فَيَدْعُو وَنَحْنُ مُسْلِمَاتٌ (نَسِيَهُ) أَيْ ذَلِكَ الْمَكَانَ (عُبَيْدُ اللَّهِ) بْنُ أَبِي يَزِيدَ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُطَابِقُ الْبَابَ إِلَّا بِالتَّعَسُّفِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ طَارِقٍ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي خَرَّجَاهُ بِهِ
قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَصِحُّ
7 - (بَاب التَّحْصِيبِ)
[2008] وَهُوَ النُّزُولُ فِي الْمُحَصَّبِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ الَّذِي يَلْزَمُ فِعْلُهُ إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاسْتِرَاحَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَصَلَّى فِيهِ الْعَصْرَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ وَبَاتَ فِيهِ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ لَكِنْ لَمَّا نَزَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ النُّزُولُ بِهِ مُسْتَحَبًّا اتِّبَاعًا لَهُ وَقَدْ فَعَلَهُ بَعْدَهُ الْخُلَفَاءُ
(لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ) أَيْ أَسْهَلَ لِخُرُوجِهِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ (فَمَنْ شَاءَ نَزَلَهُ وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَنْزِلْهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ وَإِنَّ عائشة وبن عباس كان لَا يَقُولَانِ بِهِ وَيَقُولَانِ هُوَ مَنْزِلٌ اتِّفَاقِيٌّ لَا مَقْصُودٌ فَحَصَلَ خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ اسْتِحْبَابُهُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَيَبِيتَ مِنْ بَعْضِ اللَّيْلِ أَوْ كُلِّهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُحَصَّبُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَالْحَصْبَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ وَالْأَبْطَحُ وَالْبَطْحَاءُ وَخَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ اسْمٌ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَأَصْلُ الْخَيْفِ كُلُّ مَا انْحَدَرَ عَنِ الجبل وارتفع عن المسيل
قال بن عَبْدِ الْبَرِّ وَتَبِعَهُ عِيَاضٌ اسْمٌ لِمَكَانٍ مُتَّسِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى مِنًى وَيُقَالُ لَهُ الْأَبْطَحُ وَالْبَطْحَاءُ وَخَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه(5/341)
[2009] (أَنْ أُنْزِلَهُ) أَيِ الْمُحَصَّبَ (كَانَ) أَيْ أَبُو رَافِعٍ (عَلَى ثَقَلٍ) بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْقَافِ أَيْ مَتَاعِهِ (فِي الْأَبْطَحِ) وَهُوَ الْمُحَصَّبُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وقال عثمان وهو بن أَبِي شَيْبَةَ يَعْنِي فِي الْأَبْطَحِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
[2010] (في حجته) متعلق بقلت يارسول الله صلى الله عليه وسلم (عَقِيلُ) بْنُ أَبِي طَالِبٍ (مَنْزِلًا) أَيْ فِي مَكَّةَ أَيْ كَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَاهُ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَأَخُوهُ طَالِبٌ وَلَمْ يَرِثْ أَبَا طَالِبٍ ابْنَاهُ جَعْفَرٌ وَلَا عَلِيٌّ شَيْئًا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَلَوْ كَانَا وَارِثَيْنِ لَنَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُورِهِمَا وَكَانَ قَدِ اسْتَوْلَى طَالِبٌ وَعَقِيلٌ عَلَى الدَّارِ كُلِّهَا بِاعْتِبَارِ مَا وَرِثَاهُ مِنْ أَبِيهِمَا لِكَوْنِهِمَا كَانَا لَمْ يُسْلِمَا أَوْ بِاعْتِبَارِ تَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَقِّهِ مِنْهَا بِالْهِجْرَةِ وَفُقِدَ طَالِبٌ بِبَدْرٍ فَبَاعَ عَقِيلٌ الدَّارَ كُلَّهَا قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ (بخيف) أي بوادي وهو المحصب (حَالَفَتْ قُرَيْشًا) قَالَ النَّوَوِيُّ تَحَالَفُوا عَلَى إِخْرَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى هَذَا الشِّعْبِ وَهُوَ خَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ وَكَتَبُوا بَيْنَهُمُ الصَّحِيفَةَ الْمَسْطُورَةَ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْبَاطِلِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْأَرَضَةَ فَأَكَلَتْ مَا فِيهَا مِنَ الْكُفْرِ وَتَرَكَتْ مَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَخْبَرَ جبرائيل النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَأَخْبَرَ بِهِ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ فَأَخْبَرَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَهُ فسقط في أيديهم ونكسوا على رؤوسهم
وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ
وَإِنَّمَا اخْتَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّزُولَ هُنَاكَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى النِّعْمَةِ فِي دُخُولِهِ ظَاهِرًا وَنَقْضًا لِمَا تَعَاقَدُوهُ بَيْنَهُمْ
قَالَهُ الْعَيْنِيُّ (لَا يُؤْوُوهُمْ) مِنْ آوَى يُؤْوِي إِيوَاءً
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ والنسائي وبن ماجه(5/342)
[2011] (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) إِلَى آخِرِ حَدِيثِ (حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ) أَيْ يَرْجِعَ (فَذَكَرَ نَحْوَهُ) وَلَفْظُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِمِنًى نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ حَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُحَصَّبِ (لَمْ يَذْكُرِ) الْأَوْزَاعِيُّ (أَوَّلَهُ) أَيْ أَوَّلَ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ هَلْ تَرَكَ لَنَا إِلَخْ
(وَلَا ذَكَرَ) الْأَوْزَاعِيُّ (الْخَيْفَ الْوَادِي) مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ مَعْمَرٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مُطَوَّلًا
[2012] (بن عُمَرَ كَانَ يَهْجَعُ هَجْعَةً) أَيْ يَنَامُ نَوْمَةً خَفِيفَةً فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ أَتَمَّ مِنْهُ
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ نَحْوَهُ
[2013] (ثُمَّ هَجَعَ بِهَا هَجْعَةً) وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ المنذري
8 - (باب من قَدَّمَ شَيْئًا قَبْلَ شَيْءٍ فِي حَجِّهِ)
[2014] (أَنَّهُ قَالَ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَدْ سَبَقَ أَنَّ أَفْعَالَ يَوْمِ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ رَمْيُ(5/343)
جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ الذَّبْحُ ثُمَّ الْحَلْقُ ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَأَنَّ السُّنَّةَ تَرْتِيبُهَا هَكَذَا فَلَوْ خَالَفَ وَقَدَّمَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ جَازَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَرَجَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْكَ مُطْلَقًا وَقَدْ صَرَّحَ فِي بَعْضِهَا بِتَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى الرَّمْيِ
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَحَرَ قَبْلَ الرَّمْيِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالسَّاهِي فِي ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَعَدَمِهَا وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْإِثْمِ عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ التَّقْدِيمَ
وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ مَعْنَاهُ افْعَلْ مَا بَقِيَ عَلَيْكَ وَقَدْ أَجْزَأَكَ مَا فَعَلْتَهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ (فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ) يَعْنِي مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[2015] (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ) بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ (حَاجًّا) أَيْ مُرِيدًا الْحَجَّ (فَمَنْ قال يارسول اللَّهِ سَعَيْتُ) أَيْ لِلْحَجِّ عَقِيبَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ طَوَافِ قُدُومِ الْآفَاقِ أَوْ طَوَافِ نَفْلٍ لِلْمَكِّيِّ (قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ) أَيْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ بظاهره يشمل الآفاقي وَالْمَكِّيَّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي أَفْضَلِيَّةِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَيَّدَهُ بِالْآفَاقِيِّ (أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا) أَيْ فِي أَفْعَالِ أَيَّامِ مِنًى (يَقُولُ لَا حَرَجَ لَا حَرَجَ) أَيْ لَا إِثْمَ (إِلَّا عَلَى رَجُلٍ) بِالِاسْتِثْنَاءِ يُؤَيِّدُ أَنَّ مَعْنَى الْحَرَجِ هُوَ الْإِثْمُ (اقْتَرَضَ) بِالْقَافِ أَيِ اقْتَطَعَ (عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ) أَيْ نَالَ مِنْهُ وَقَطَعَهُ بِالْغِيبَةِ أَوْ غَيْرِهَا (وَهُوَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ (ظَالِمٌ) فَيَخْرُجُ حَرَجُ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ (فَذَلِكَ الَّذِي) أَيِ الرَّجُلُ الْمَوْصُوفُ (حَرِجَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ وَقَعَ مِنْهُ حَرَجٌ (وَهَلَكَ) أَيْ بِالْإِثْمِ وَالْعَطْفُ تَفْسِيرِيٌّ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ(5/344)
مُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَالشَّافِعِيُّ وَفُقَهَاءُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْجَمِيعِ قَدَّمَ مِنْهَا مَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ مِنْهَا مَا أَخَّرَ
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَدَّمَ شَيْئًا أَوْ أَخَّرَ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ وَقَالُوا أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفْعَ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ دُونَ الْفِدْيَةِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاهِيًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ إِنِّي لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ فَكَأَنَّهُمُ اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
9 - (بَاب فِي مَكَّةَ [2016] هَلْ يُبَاحُ فِيهَا شَيْءٌ مَا لَا يُبَاحُ فِي غَيْرِهَا)
(بَابَ بَنِي سَهْمٍ) قال في تاج العروس بنو سهم قبيل فِي قُرَيْشٍ وَهُمْ بَنُو سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ (لَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى السُّتْرَةِ فِي مَكَّةَ وَمَنْ لَا يَقُولُ بِهِ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الطَّائِفِينَ كَانُوا يَمُرُّونَ وَرَاءَ مَوْضِعِ سُجُودٍ أَوْ وَرَاءَ مَا يَقَعُ فِيهِ نَظَرُ الْخَاشِعِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا بن نمير حدثنا أبو أسامة عن بن جُرَيْجٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ بَنِي الْمُطَّلِبِ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ وَدَاعَةَ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ سَعْيِهِ حَاجَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّقِيفَةِ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ أَحَدٌ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ بَابُ السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَسَاقَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي جُحَيْفَةَ وَفِيهِ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَنَصَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةً
قَالَ الْحَافِظُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهَا بَطْحَاءُ مكة
وقال بن الْمُنِيرِ إِنَّمَا خَصَّ مَكَّةَ بِالذِّكْرِ رَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ السُّتْرَةَ قِبْلَةٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قِبْلَةٌ إِلَّا الْكَعْبَةُ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى سُتْرَةٍ انْتَهَى
وَالَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَكِّتَ عَلَى مَا تَرْجَمَ بِهِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَيْثُ قَالَ فِي بَابٍ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ شَيْءٌ ثُمَّ أَخْرَجَ عَنِ بن جُرَيْجٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَيِ النَّاسِ سُتْرَةٌ وَأَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَصْحَابُ السُّنَنِ وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ فَقَدْ رَوَاهُ أبو داود عن أحمد عن(5/345)
بن عيينة قال كان بن جُرَيْجٍ أَخْبَرَنَا بِهِ هَكَذَا فَلَقِيتُ كَثِيرًا فَقَالَ لَيْسَ مِنْ أَبِي سَمِعْتُهُ وَلَكِنْ مِنْ بَعْضِ أَهْلِي عَنْ جَدِّي فَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ التَّنْبِيهَ عَلَى ضَعْفِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا فِي مَشْرُوعِيَّةِ السُّتْرَةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَنْ لَا فَرْقَ فِي مَنْعِ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي بَيْنَ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا وَاغْتَفَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ذَلِكَ لِلطَّائِفِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ لِلضَّرُورَةِ
وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ جَوَازُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَكَّةَ انْتَهَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ سُفْيَانُ) بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا أَيْ لَيْسَ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ سُتْرَةٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ وَجَدُّهُ هُوَ الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ الْقُرَشِيُّ السَّهْمِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ وَلِأَبِيهِ أَبِي وَدَاعَةَ الْحَارِثِ بْنِ صَبِرَةَ أَيْضًا صُحْبَةٌ وَهُمَا مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَيُقَالُ فِيهِ صَبِرَةَ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالضَّادِ المعجمة والأول أظهر وأشهر
0 - (باب تحريم مَكَّةَ)
[2017] (ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ) أَيْ مَنَعَ الْفِيلَ عَنْ تَعَرُّضِهِ (وَسَلَّطَ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى مَكَّةَ (وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ) قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ عَنْوَةً وَقَهْرًا كَمَا هُوَ عِنْدنَا أَيْ أُحِلَّ لِي سَاعَةً أَيْ زَمَانًا قَلِيلًا إِرَاقَةُ الدَّمِ دُونَ الصَّيْدِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ
وَفِي زَادِ الْمَعَادِ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ إِلَّا عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ انْتَهَى (هِيَ) أَيْ مَكَّةُ (حَرَامٌ) أَيْ عَلَى كُلِّ(5/346)
أَحَدٍ بَعْدَ تِلْكَ السَّاعَةِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيِ النَّفْخَةِ الْأُولَى (لَا يُعْضَدُ) أَيْ لَا يُقْطَعُ (شَجَرُهَا) أَيْ وَلَوْ يَحْصُلُ التَّأَذِّي بِهِ
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ يَجُوزُ قَطْعُ الشَّوْكِ الْمُؤْذِي فَمُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ وَلِذَا جَرَى جَمْعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ عَلَى حُرْمَةِ قَطْعِهِ مُطْلَقًا وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَاخْتَارَهُ فِي عِدَّةِ كُتُبِهِ
وَأَمَّا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ كُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إِبَاحَةِ قَطْعِ الشَّوْكِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْظُورُ مِنْهُ الشَّوْكَ الَّذِي يَرْعَاهُ الْإِبِلُ وَهُوَ مَا دَقَّ دُونَ الصُّلْبِ الَّذِي لَا تَرْعَاهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَطَبِ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بأهل العلم علماء المالكية
قاله القارىء (وَلَا يُنَفَّرُ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ (صَيْدُهَا) أَيْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِالِاصْطِيَادِ وَالْإِيحَاشِ وَالْإِيهَاجِ (لُقَطَتُهَا) بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ سَاقِطَتُهَا (إِلَّا لِمُنْشِدٍ) أَيْ مُعَرِّفٍ أَيْ لَا يَلْتَقِطُهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَأْخُذْهَا لِنَفْسِهِ وَانْتِفَاعِهَا
قِيلَ أَيْ لَيْسَ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ إِلَّا التَّعْرِيفَ فَلَا يَتَمَلَّكُهَا أَحَدٌ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهَا وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقِيلَ حُكْمُهَا كَحُكْمِ غَيْرِهَا
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا أَنْ لَا يُتَوَهَّمَ تَخْصِيصُ تَعْرِيفِهَا بِأَيَّامِ الْمَوْسِمِ وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ (إِلَّا الْإِذْخِرَ) بِالنَّصْبِ أَيْ قُلْ إِلَّا الْإِذْخِرَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَيْنَهُمَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ وَهُوَ نَبْتٌ عَرِيضُ الْأَوْرَاقِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ تُسْقَفُ بِهَا الْبُيُوتُ فَوْقَ الْخَشَبِ (فَقَامَ أَبُو شَاهٍ) قَالَ النَّوَوِيُّ هُوَ بِهَاءٍ وَتَكُونُ هَاءً فِي الْوَقْفِ وَالدَّرْجِ وَلَا يُقَالُ بِالتَّاءِ قَالُوا وَلَا يُعْرَفُ اسْمُ أَبِي شَاهٍ هَذَا وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِكُنْيَتِهِ (اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ) هَذَا تَصْرِيحٌ بِجَوَازِ كِتَابَةِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه فِي حَدِيث اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاة فِيهِ أَنَّ مَكَّة فُتِحَتْ عَنْوَة
وَفِيهِ تَحْرِيم قَطْع شَجَر الْحَرَم وَتَحْرِيم التَّعَرُّض لِصَيْدِهِ بِالتَّنْفِيرِ فَمَا فوقه(5/347)
الْعِلْمِ غَيْرَ الْقُرْآنِ
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا عِنْدنَا إِلَّا مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ
كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ
وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ بِالنَّهْيِ عَنْ كِتَابَةِ غَيْرِ الْقُرْآنِ فَمِنَ السَّلَفِ مَنْ مَنَعَ كِتَابَةَ الْعِلْمِ
وَقَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ بِجَوَازِهِ ثُمَّ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ بَعْدَهُمْ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَأَجَابُوا عَنْ أَحَادِيثِ النَّهْيِ بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَكَانَ النَّهْيُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ اشْتِهَارِ الْقُرْآنِ لِكُلِّ أَحَدٍ فَنَهَى عَنْ كِتَابَةِ غَيْرِهِ خَوْفًا مِنِ اخْتِلَاطِهِ وَاشْتِبَاهِهِ فَلَمَّا اشْتَهَرَ وَأُمِنَتْ تِلْكَ الْمَفْسَدَةُ أَذِنَ فِيهِ وَالثَّانِي أَنَّ النَّهْيَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِمَنْ وُثِقَ بِحِفْظِهِ وَخِيفَ اتِّكَالُهُ عَلَى الْكِتَابَةِ وَالْإِذْنُ لِمَنْ لَمْ يُوثَقْ بِحِفْظِهِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[2018] (وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا) بِالْقَصْرِ النَّبَاتُ الرَّقِيقُ مَا دَامَ رَطْبًا فَاخْتِلَاؤُهُ قَطْعُهُ وَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ حَشِيشٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
[2019] (عَنْ أُمِّهِ) اسْمُهَا مُسَيْكَةُ (قلت يارسول اللَّهِ أَلَا نَبْنِي) مِنَ الْبِنَاءِ أَيْ نَحْنُ مَعَاشِرَ الصَّحَابَةِ (مُنَاخُ) بِضَمِّ الْمِيمِ مَوْضِعُ الْإِنَاخَةِ (مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ) وَالْمَعْنَى أَنَّ الِاخْتِصَاصَ فِيهِ بِالسَّبْقِ لَا بِالْبِنَاءِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَفِيهِ أَنَّ لُقَطَتهَا لَا يَجُوز أَخْذهَا إِلَّا لِتَعْرِيفِهَا أَبَدًا وَالْحِفْظ عَلَى صَاحِبهَا
وَفِيهِ جَوَاز قَطْع الْإِذْخِر خَاصَّة رُطَبه وَيَابِسه
وَفِيهِ أَنَّ اللاجىء إِلَى الْحَرَم لَا يَتَعَرَّض لَهُ مَا دَامَ فِيهِ وَيُؤَيِّدهُ قَوْله فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيث فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْفِك بِهَا دَمًا
وَفِيهِ جَوَاز تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء عَنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَط اِتِّصَاله بِهِ وَلَا نِيَّته مِنْ أَوَّل الْكَلَام
وَفِيهِ الْإِذْن فِي كِتَابَة السُّنَن وَأَنَّ النَّهْي عَنْ ذَلِكَ الْمَنْسُوخ
والله أعلم(5/348)
وَقَالَ الطِّيبِيُّ مَعْنَاهُ أَتَأْذَنُ أَنْ نَبْنِيَ لَكَ بَيْتًا فِي مِنًى لِتَسْكُنَ فِيهِ فَمَنَعَ وَعَلَّلَ بِأَنَّ مِنًى مَوْضِعٌ لِأَدَاءِ النُّسُكِ مِنَ النَّحْرِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالْحَلْقِ يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ فَلَوْ بَنَى فِيهَا لَأَدَّى إِلَى كَثْرَةِ الْأَبْنِيَةِ تَأَسِّيًا بِهِ فَتَضِيقُ عَلَى النَّاسِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الشَّوَارِعِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْضُ الْحَرَمِ مَوْقُوفَةٌ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ مَكَّةَ قَهْرًا وَجَعَلَ أَرْضَ الْحَرَمِ مَوْقُوفَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا أَحَدٌ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وبن مَاجَهْ عَنْ أُمِّهِ مُسَيْكَةَ وَذَكَرَ غَيْرُهُمَا أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ
[2020] (قَالَ احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ) وَهُوَ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ فِي حَالَةِ الْغَلَاءِ لِيُبَاعَ إِذَا اشْتَدَّ غَلَاهُ وَهُوَ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَفِي الْحَرَمِ أَشَدُّ (إِلْحَادٌ فِيهِ) أَيْ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ فِي الْحَرَمِ
قَالَ تَعَالَى وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عذاب أليم قال المناوي احْتِكَارُ الطَّعَامِ أَيِ احْتِبَاسُ مَا يُقْتَاتُ لِيَقِلَّ فَيَغْلُوَ فَيَبِيعَهُ بِكَثِيرٍ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ إِلْحَادٌ فِيهِ يَعْنِي احْتِكَارُ الْقُوتِ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَبِمَكَّةَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا فَإِنَّهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ فَيَعْظُمُ الضَّرَرُ بِذَلِكَ الْإِلْحَادِ وَالِانْحِرَافِ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ عَلَّلَ الْمُسْنَدَ بِهَذَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال بن الْقَطَّان وَعِنْدِي أَنَّهُ ضَعِيف لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَة يُوسُف بْن مَاهَك عَنْ أُمّه مُسَيْكَة وَهِيَ مَجْهُولَة لَا نَعْرِف رَوَى عَنْهَا غَيْر اِبْنهَا
وَالصَّوَاب تَحْسِين الْحَدِيث فَإِنَّ يُوسُف بْن مَاهَك من التابعين وقد سمع أم هانئ وبن عمر وبن عَبَّاس وَعَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَقَدْ رَوَى عَنْ أُمّه وَلَمْ يُعْلَم فِيهَا جَرْح وَمِثْل هَذَا الْحَدِيث حَسَن عِنْد أَهْل الْعِلْم بِالْحَدِيثِ وَأُمّه تَابِعِيَّة قَدْ سَمِعَتْ عَائِشَة(5/349)
91 - (بَاب فِي نَبِيذِ السِّقَايَةِ)
[2021] أَيْ فِي فَضْلِ الْقِيَامِ بِالسِّقَايَةِ وَالثَّنَاءِ عَلَى أَهْلِهَا وَاسْتِحْبَابِ الشُّرْبِ مِنْهَا
(قَالَ قَالَ رَجُلٌ) وَلَفْظُ مُسْلِمٍ قَالَ كنت جالسا مع بن عَبَّاسٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ (مَا بَالُ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ) يُرِيدُ أَهْلَ بَيْتِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فَقَالَ مَا لِي أَرَى بَنِي عَمِّكُمْ يَسْقُونَ الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ وَأَنْتُمْ تَسْقُونَ النَّبِيذَ أَمِنْ حَاجَةٍ بِكُمْ أَمْ مِنْ بُخْلٍ (أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ) أَيْ فَعَلْتُمُ الْحَسَنَ الْجَمِيلَ
وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْقِيَامِ بِالسِّقَايَةِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ الْحَاجُّ وَغَيْرُهُ مِنْ نَبِيذِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ لِهَذَا الْحَدِيثِ
وَهَذَا النَّبِيذُ بِزَبِيبٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يَطِيبُ طَعْمُهُ وَلَا يَكُونُ مُسْكِرًا فَأَمَّا إِذَا طَالَ زَمَنُهُ وَصَارَ مُسْكِرًا فَهُوَ حَرَامٌ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الثَّنَاءِ عَلَى أَصْحَابِ السِّقَايَةِ وَكُلِّ صَانِعِ جَمِيلٍ قَالَهُ النَّوَوِيُّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ(5/350)
2 - (بَاب الْإِقَامَةِ بِمَكَّةَ)
[2022] (يَقُولُ لِلْمُهَاجِرِينَ إِقَامَةٌ بَعْدَ الصَّدْرِ ثَلَاثًا فِي الْكَعْبَةِ) أَيْ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ النُّسُكِ وَالْمُرَادُ أَنَّ لَهُ مُكْثَ هَذِهِ الْمُدَّةِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَزْيَدُ مِنْهَا لأنها بلدة تركها الله تَعَالَى فَلَا يُقِيمُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْعَوْدَ إِلَى مَا تَرَكَهُ لِلَّهِ تَعَالَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ بِمَعْنَاهُ
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ قِيلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ بَالصَّدْرِ وَقْتَ النَّاسِ آخِرَ أَيَّامِ مِنًى بَعْدَ تَمَامِ نُسُكِهِمْ فَيُقِيمُ هُوَ بَعْدَهُمْ لِحَاجَةٍ لَا أَنَّهُ يُقِيمُ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الصَّدْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَجْزِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ طَوَافِهِ بَلْ يُعِيدُهُ عِنْدَ كَافَّتِهِمْ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ
وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ مَنَعَ الْمُهَاجِرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ الْهِجْرَةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَوُجُوبِ سُكْنَى الْمَدِينَةِ لِنُصْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُوَاسَاتِهِمْ لَهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَإِعْزَازِهِمْ لِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ
وَأَمَّا الْمُهَاجِرُ مِمَّنْ آمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي سُكْنَى بَلَدِهِ مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا انْتَهَى(6/3)
93 - (بَاب الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ)
[2023] (الْحَجَبِيُّ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ مَنْسُوبٌ إِلَى حِجَابَةِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ وِلَايَتُهَا وَفَتْحُهَا وَإِغْلَاقُهَا وَخِدْمَتُهَا (فَأَغْلَقَهَا) لِخَوْفِ الزِّحَامِ وَلِئَلَّا يَجْتَمِعَ النَّاسُ وَيَدْخُلُوا وَيَزْدَحِمُوا فَيَنَالَهُمْ ضَرَرٌ (فَمَكَثَ فِيهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ ذَكَرَ مُسْلِمٌ عَنْ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَصَلَّى فِيهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ
وَعَنْ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه صلى الله عليه وَسَلَّمَ دَعَا فِي نَوَاحِيهَا وَلَمْ يُصَلِّ
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ بِلَالٍ وَلِأَنَّهُ مُثْبَتٌ فَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ فَوَجَبَ تَرْجِيحُهُ
وَالْمُرَادُ الصَّلَاةُ الْمَعْهُودَةُ ذَاتُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلِهَذَا قَالَ بن عُمَرَ وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى وَأَمَّا نَفْيُ أُسَامَةَ فَسَبَبُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْكَعْبَةَ أَغْلَقُوا الْبَابَ وَاشْتَغَلُوا بَالدُّعَاءِ فَرَأَى أُسَامَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو ثُمَّ اشْتَغَلَ أُسَامَةُ بَالدُّعَاءِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْبَيْتِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى وَبِلَالٌ قَرِيبٌ مِنْهُ ثُمَّ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ بِلَالٌ لِقُرْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ أُسَامَةُ لِبُعْدِهِ وَاشْتِغَالِهِ وَكَانَتْ صَلَاةً خَفِيفَةً فَلَمْ يَرَهَا أُسَامَةُ لِإِغْلَاقِ الْبَابِ مَعَ بُعْدِهِ وَاشْتِغَالِهِ بَالدُّعَاءِ وَجَازَ لَهُ نَفْيُهَا عَمَلًا بِظَنِّهِ وَأَمَّا بِلَالٌ فَحَقَّقَهَا فَأَخْبَرَ بِهَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ إِذَا صَلَّى مُتَوَجِّهًا إِلَى جِدَارٍ مِنْهَا أَوْ إِلَى الْبَابِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ يَصِحُّ فِيهَا صَلَاةُ النَّفْلِ وَصَلَاةُ الْفَرْضِ
وَقَالَ مَالِكٌ تَصِحُّ فِيهَا صَلَاةُ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ وَلَا يَصِحُّ الْفَرْضُ وَلَا الْوَتْرُ وَلَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَلَا رَكْعَتَا الطَّوَافِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَأَصْبَغُ الْمَالِكِيُّ وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ لَا تَصِحُّ فِيهَا صَلَاةٌ أَبَدًا لَا فَرِيضَةٌ وَلَا نَافِلَةٌ
وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ حَدِيثُ بِلَالٍ وَإِذَا صَحَّتِ النَّافِلَةُ صَحَّتِ الْفَرِيضَةُ (جَعَلَ عَمُودًا عَنْ(6/4)
يَسَارِهِ وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ) هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَهَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّأِ
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَكُلُّهُ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي لَفْظِهِ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ فَرُوِيَ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودَيْنِ عَلَى يَمِينِهِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ كَذَلِكَ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَرُوِيَ عَنْهُ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ كَذَلِكَ
وَرُوِيَ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَلَى يَسَارِهِ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ كَذَلِكَ
[2024] (لَمْ يَذْكُرْ) أَيْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ (السَّوَارِيَّ) جَمْعُ السَّارِيَةِ وَهِيَ الْعَمُودُ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
وَالْأَذْرَمُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ قَرْيَةٌ قَدِيمَةٌ مِنْ دِيَارِ رَبِيعَةَ وَهِيَ الْيَوْمَ مِنْ أَعْمَالِ نَصِيبِينَ قَرْيَةٌ كَغَيْرِهَا
[2026] (قَالَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إِسْنَادُهُ فِيهِ ضَعْفٌ
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَفْوَانَ هَذَا لَهُ صُحْبَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَفِيهِ مَقَالٌ
[2027] (أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ) أَيِ امْتَنَعَ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ (وَفِيهِ الْآلِهَةُ) أَيِ الْأَصْنَامُ وَأَطْلَقَ عَلَيْهَا الْآلِهَةَ بَاعْتِبَارِ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَ وَكَانَتْ تَمَاثِيلُ عَلَى صُوَرٍ شَتَّى فَامْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ وَهِيَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ فِرَاقَ الْمَلَائِكَةِ وَهِيَ لَا تَدْخُلُ مَا فِيهِ صُورَةٌ كَذَا فِي(6/5)
فَتْحِ الْبَارِي (وَفِي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ) جَمْعُ زَلَمٍ وهي الأقلام وقال بن التِّينِ الْأَزْلَامُ الْقِدَاحُ وَهِيَ أَعْوَادٌ كَتَبُوا فِي أَحَدِهَا افْعَلْ وَفِي الْآخَرِ لَا تَفْعَلْ وَلَا شَيْءَ فِي الْآخَرِ فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ السَّفَرَ أَوْ حَاجَةً أَلْقَاهَا فِي الْوِعَاءِ فَإِنْ خَرَجَ افْعَلْ فَعَلَ وَإِنْ خَرَجَ لَا تَفْعَلْ لَمْ يَفْعَلْ وَإِنْ خَرَجَ لَا شَيْءَ أَعَادَ الْإِخْرَاجَ حَتَّى يَخْرُجَ لَهُ افْعَلْ أَوْ لَا تَفْعَلْ (وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا) أَيْ إِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ اسْمَ أَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ الِاسْتِقْسَامَ بِهَا وَهُوَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ وَكَانَتْ نِسْبَتُهُمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَوَلَدِهِ الِاسْتِقْسَامَ بِهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِمَا لِتَقَدُّمِهِمَا عَلَى عَمْرٍو (مَا اسْتَقْسَمَا) أَيْ مَا اقْتَسَمَ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ بَالْأَزْلَامِ قَطُّ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الِاسْتِقْسَامُ طَلَبُ الْقِسْمِ بِكَسْرِ الْقَافِ الَّذِي قُسِمَ لَهُ وَقُدِّرَ مِمَّا لَمْ يُقْسَمْ وَلَمْ يُقَدَّرْ وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْهُ أَيِ اسْتِدْعَاءُ ظُهُورِ الْقِسْمِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ طَلَبُ وُقُوعِ السَّقْيِ (فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إن الناس تركوا رواية بن عَبَّاسٍ وَأَخَذَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ كَمَا أُجِيبَ عَنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي الصحيح أن بن عَبَّاسٍ رَوَاهُ عَنْ أُسَامَةَ فَرَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى أُسَامَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ
4 - (بَاب الصَّلَاةِ فِي الْحِجْرِ)
[2028] (فَأَدْخَلَنِي فِي الْحِجْرِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيِ الْحَطِيمِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَعَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ بْنِ بِلَالٍ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَعَلْقَمَةُ هَذَا هُوَ مَوْلَى عَائِشَةَ تَابِعِيٌّ مَدَنِيٌّ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأُمُّهُ حَكَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ اسْمَهَا مُرْجَانَةُ(6/6)
(بَاب فِي دُخُولِ الْكَعْبَةِ)
[2029] (وَهُوَ كَئِيبٌ) أَيْ مَغْمُومٌ فَعِيلٌ مِنَ الْكَآبَةِ (لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي) أَيْ لَوْ عَلِمْتُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مَا عَلِمْتُ فِي آخِرِهِ مَا دَخَلْتُهَا أَيْ في البيت
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[2030] (حَدَّثَنِي خَالِي) اسْمُهُ مُسَافِعُ بْنُ شَيْبَةَ (لِعُثْمَانَ) بْنِ طَلْحَةَ الْحَجَبِيِّ (أَنْ تُخَمِّرَ الْقَرْنَيْنِ) أَيْ تُغَطِّيَ قَرْنَيِ الْكَبْشِ الَّذِي فَدَى اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ كَذَا فِي فَتْحِ الْوَدُودِ
وَفِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ قَالَتْ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بن طلحة فسألت لما دَعَاهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ حِينَ دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ فَنَسِيتُ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُخَمِّرْهَا فَخَمِّرْهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي البيت شيء يشغل المصلين انتهى (قال بن السَّرْحِ) أَيْ فِي حَدِيثِهِ (خَالِي مُسَافِعُ بْنُ شَيْبَةَ) بَدَلٌ مِنْ خَالِي
وَمُسَافِعٌ هَذَا هُوَ خَالُ مَنْصُورٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأُمُّ مَنْصُورٍ هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ الْقُرَشِيَّةُ الْعَبْدَرِيَّةُ وَقَدْ جَاءَتْ مُسَمَّاةً فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهَا
وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ ظَاهِرَةٌ فِي صحبتها
وعثمان هذا هو بن طَلْحَةَ الْقُرَشِيُّ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا جِيمٌ مَفْتُوحَةٌ وَبَاءٌ مُوَحَّدَةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى حِجَابَةِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ شَرَّفَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُمْ جَمَاعَةُ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ إِلَيْهِمْ حِجَابَةُ الْكَعْبَةِ وَمِفْتَاحُهَا نَسَبَ كَذَلِكَ غير واحد(6/7)
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَرُوِيَ كَمَا سُقْنَاهُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِهِ مُسَافِعٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ خَالِهِ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أُمَّهُ
6 - (بَاب فِي مَالِ الْكَعْبَةِ)
[2031] (حَتَّى أَقْسِمَ مَالَ الْكَعْبَةِ) أَيِ الْمَدْفُونُ فِيهَا
وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهُ وَفِي لَفْظٍ لَهُ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَعِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَا أَخْرُجُ حَتَّى أَقْسِمَ مَالَ الْكَعْبَةِ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ غَلِطَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ حِلْيَةُ الْكَعْبَةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْكَنْزُ الَّذِي بِهَا وَهُوَ مَا كَانَ يُهْدَى إِلَيْهَا فَيُدَّخَرُ مَا يزيد عن الحاجة وقال بن الْجَوْزِيِّ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُهْدُونَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْمَالَ تَعْظِيمًا إِلَيْهَا فَيَجْتَمِعُ فِيهَا (قَدْ رَأَى مَكَانَهُ) أَيْ مَكَانَ الْمَالِ (فَلَمْ يُحَرِّكَاهُ) أَيْ لم يخرجا المال عن موضعه
قال بن بَطَّالٍ أَرَادَ عُمَرُ لِكَثْرَتِهِ إِنْفَاقَهُ فِي مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَمَّا ذُكِّرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَمْسَكَ وَإِنَّمَا تَرَكَا ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ مَا جُعِلَ فِي الْكَعْبَةِ وَسُبِّلَ لَهَا يَجْرِي مَجْرَى الْأَوْقَافِ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ عَنْ وَجْهِهِ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ الْإِسْلَامِ وَتَرْهِيبُ الْعَدُوِّ
قُلْتُ هَذَا التَّعْلِيلُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ مِنَ الْحَدِيثِ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَرَكَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ رِعَايَةً لِقُلُوبِ قُرَيْشٍ كَمَا تَرَكَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ وَلَفْظُهُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بَالْأَرْضِ الْحَدِيثَ
فَهَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ قَالَهُ الْحَافِظُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ
وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ هَذَا هُوَ الْقُرَشِيُّ الْعَبْدَرِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ كُنْيَتُهُ أَبُو عُثْمَانَ وَيُقَالُ أَبُو صفية
7 - باب(6/8)
[2032] ليس ها هنا بَابٌ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ لَكِنْ لَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ الْبَابِ الْأَوَّلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(مِنْ لِيَّةَ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ جَبَلٌ قُرْبَ الطَّائِفِ أَعْلَاهُ لِثَقِيفٍ وَأَسْفَلُهُ لِنَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ حُنَيْنٍ يُرِيدُ الطَّائِفَ وَأَمَرَ وَهُوَ بِهِ بِهَدْمِ حِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ قَائِدِ غَطَفَانَ (فِي طَرَفِ الْقَرْنِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ جَبَلٌ صَغِيرٌ فِي الْحِجَازِ بِقُرْبِ الطَّائِفِ (حَذْوَهَا) أَيْ مُقَابِلَ السِّدْرَةِ (فَاسْتَقْبَلَ نَخِبًا) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْخَاءِ ثُمَّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَادٍ بَالطَّائِفِ قِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّائِفِ سَاعَةٌ كَذَا فِي الْمَرَاصِدِ
(بِبَصَرِهِ) مُتَعَلِّقُ اسْتَقْبَلَ أَيِ اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخِبًا بِبَصَرِهِ وَعَيْنِهِ (وَقَالَ) الرَّاوِي (مَرَّةً) أُخْرَى (وَادِيَهُ) أَيِ اسْتَقْبَلَ وَادِيَ الطَّائِفِ وَهُوَ نَخِبٌ (وَوَقَفَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَتَّى اتَّقَفَ النَّاسُ) أَيْ حَتَّى وَقَفُوا اتَّقَفَ مُطَاوِعُ وَقَفَ تَقُولُ وَقَفْتُهُ فاتقف مثل وعدته فاتعد والأصل فيه أو تقف فَقُلِبَتِ الْوَاو يَاءً لِسُكُونِهَا وَكَسْرِ مَا قَبْلَهَا ثُمَّ قُلِبَتِ الْيَاءُ تَاءً وَأُدْغِمَتْ فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ (ثُمَّ قَالَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ صَيْدَ وَجٍّ) بَالْفَتْحِ ثُمَّ التَّشْدِيدِ وَادٍ بَالطَّائِفِ بِهِ كَانَتْ غَزْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلطَّائِفِ وَقِيلَ هُوَ الطَّائِفُ
كذا في المراصد
وقال بن رَسْلَانَ هُوَ أَرْضٌ بَالطَّائِفِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ
وَقَالَ أَصْحَابُنَا هُوَ وَادٍ بَالطَّائِفِ وَقِيلَ كُلُّ الطَّائِفِ انْتَهَى
وَقَالَ الْحَازِمِيُّ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ فِي الْأَمَاكِنِ
وَجٌّ اسْمٌ لِحُصُونِ الطَّائِفِ وَقِيلَ الْوَاحِدُ مِنْهَا وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ وَجٌّ بِوَحٍّ بَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهِيَ نَاحِيَةُ نُعْمَانَ (وَعِضَاهَهُ) قَالَ فِي النَّيْلِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ كُلُّ شَجَرٍ فِيهِ شَوْكٌ وَاحِدَتُهَا عِضَاهَةٌ وَعِضَهَةٌ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْعِضَاهُ كُلُّ شَجَرٍ يَعْظُمُ وَلَهُ شَوْكٌ (حَرَمٌ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْحَرَامُ كَقَوْلِهِمْ زَمَنٌ وَزَمَانٌ (مُحَرَّمٌ لِلَّهِ) تَأْكِيدٌ لِلْحُرْمَةِ(6/9)
قَالَ فِي النِّهَايَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْحِمَى لَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمَةً فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ نُسِخَ وَكَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ كَمَا سَيَجِيءُ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ صَيْدِ وَجٍّ وَشَجَرِهِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كَرَاهَتِهِ الشَّافِعِيُّ وَجَزَمَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بَالتَّحْرِيمِ وَقَالُوا إِنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيِّ بَالْكَرَاهَةِ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ قَالَ بن رَسْلَانَ فِي شَرْحِ السُّنَنِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي الْإِمْلَاءِ وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْجُمْهُورُ الْقَطْعُ بِتَحْرِيمِهِ قَالُوا وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ بَالْكَرَاهَةِ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ ثُمَّ قَالَ وَفِيهِ طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ يَعْنِي مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَأْثَمُ فَيُؤَدِّبُهُ الْحَاكِمُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الضَّمَانِ إِلَّا فِيمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذَا شَيْءٌ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي حُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ حُكْمُ الْمَدِينَةِ وَشَجَرِهَا
وَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهِ خِلَافٌ انْتَهَى (وَذَلِكَ) يَعْنِي تَحْرِيمَ وَجٍّ (قَبْلَ نُزُولِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الطَّائِفَ وَحِصَارِهِ لِثَقِيفٍ) وَكَانَتْ غَزْوَةُ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا مِنْ حِصْنِ الطَّائِفِ وَعَسْكَرَ هُنَاكَ فَحَاصَرَ ثَقِيفًا ثَمَانِيَةَ عشر يوما
وقال بن إِسْحَاقَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً
وَقَوْلُهُ وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِهِ الطَّائِفَ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ أَبِي دَاوُدَ الْمُؤَلِّفِ وَلَا شَيْخِهِ حَامِدِ بْنِ يَحْيَى لِأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ
وَفِيهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ أَيْضًا فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مَا دُونَ زُبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ الصَّحَابِيِّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَلَسْتُ أَعْلَمُ لِتَحْرِيمِهِ وَجْهًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحِمَى لِنَوْعٍ مِنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ إِنَّمَا كَانَ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَفِي مُدَّةٍ مَحْصُورَةٍ ثُمَّ نُسِخَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِهِ الطَّائِفَ وَحِصَارِهِ ثَقِيفًا ثُمَّ عَادَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى الْإِبَاحَةِ كَسَائِرِ بِلَادِ الْحِلِّ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَسْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلُوا بِحَضْرَةِ الطَّائِفِ وَحَصَرُوا أَهْلَهَا ارْتَفَقُوا بِمَا نَالَتْهُ أَيْدِيهِمْ مِنْ شَجَرٍ وَصَيْدٍ وَمِرْفَقٍ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا حِلٌّ مُبَاحٌ وَلَيْسَ يَحْضُرنِي فِي هَذَا وَجْهٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ انْتَهَى
قَالَ فِي الشَّرْحِ قُلْتُ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْقَوْلِ أَيْ كَوْنُ تَحْرِيمِ وَجٍّ قَبْلَ نُزُولِ الطَّائِفِ نَظَرٌ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ قَالَ فِي مَغَازِيهِ مَا مُلَخَّصُهُ إِنَّ رِجَالًا مِنْ ثَقِيفٍ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ وَقْعَةِ الطَّائِفِ فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ قُبَّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ وَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ هُوَ الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَتَبُوا كِتَابَهُمْ وَكَانَ خَالِدٌ هُوَ الَّذِي كَتَبَهُ وَكَانَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَتَبَ لَهُمْ أَيْ بَعْدَ إِسْلَامِ أَهْلِ الطَّائِفِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ رسول الله إلى المؤمنين أن عضاه وَصَيْدَهُ حَرَامٌ لَا يُعْضَدُ مَنْ وُجِدَ يَصْنَعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُنْزَعُ ثِيَابُهُ فَإِنْ تَعَدَّى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ فَيُبَلَّغُ النَّبِيَّ محمد وَأَنَّ هَذَا أَمْرُ(6/10)
النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ
وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِأَمْرِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ أَحَدٌ فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
انْتَهَى مُلَخَّصًا مُحَرَّرًا مِنْ زَادِ الْمَعَادِ
ثم قال بن الْقَيِّمِ إِنَّ وَادِيَ وَجٍّ وَهُوَ وَادٍ بَالطَّائِفِ حَرَمٌ يَحْرُمُ صَيْدُهُ وَقَطْعُ شَجَرِهِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ وَالْجُمْهُورُ قَالُوا لَيْسَ فِي الْبِقَاعِ حَرَمٌ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَالَفَهُمْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَجٌّ حَرَمٌ يَحْرُمُ صَيْدُهُ وَشَجَرُهُ وَاحْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ وَالثَّانِي حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ الزُّبَيْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ صَيْدَ وَجٍّ وَعِضَاهَهُ حَرَمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعْرَفُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِنْسَانٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ
قُلْتُ وَفِي سَمَاعِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ نَظَرٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَكَذَا عَبْدُ الْحَقِّ أَيْضًا وَتُعُقِّبَ بِمَا نُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ وَكَذَا قَالَ الْأَزْدِيُّ
وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ صَحَّحَهُ وذكر الخلال أن أحمد ضعفه
وقال بن حِبَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ كَانَ يخطىء وَمُقْتَضَاهُ تَضْعِيفُ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ أَخْطَأَ فِيهِ فَهُوَ ضَعِيفٌ
وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ لَا يُتَابَعُ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ تُقَارِبُهُ فِي الضَّعْفِ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ
قَالَ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يَصِحُّ
وَذَكَرَ الْخَلَّالُ فِي الْعِلَلِ أَنَّ أَحْمَدَ ضَعَّفَهُ
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله بن شيبان هذا صوابه بن إِنْسَانٍ
وَقَالَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِنْسَانٍ لَهُ حَدِيثٌ فِي صَيْدِ وَجٍّ قَالَ وَلَمْ يَرْوِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِنْسَانٍ الطَّائِفِيُّ وَأَبُوهُ فَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَسُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ فَقَالَ لَيْسَ بَالْقَوِيِّ وَفِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ وَذَكَرَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ وَذَكَرَ أَبَاهُ وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ وَلَمْ يَصِحَّ حَدِيثُهُ
وَقَالَ الْبُسْتِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِنْسَانٍ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثُهُ
8 - (بَاب فِي إِتْيَانِ الْمَدِينَةِ)
[2033] (لَا تُشَدُّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ (الرِّحَالُ) جَمْعُ رَحْلٍ بِفَتْحٍ وَسُكُونٍ كَنَّى بِهِ(6/11)
عَنِ السَّفَرِ (وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ سُمِّيَ بِهِ لِبُعْدِهِ عَنِ مَسْجِدِ مَكَّةَ أَوْ لِكَوْنِهِ لَا مَسْجِدَ وَرَاءَهُ وَخَصَّهَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِلَيْهِ الْحَجُّ وَالْقِبْلَةُ وَالثَّانِيَ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَالثَّالِثَ قِبْلَةُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا فِي النَّذْرِ يَنْذُرُهُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ فَإِنْ شَاءَ وَفَى بِهِ وَإِنْ شَاءَ صَلَّى فِي غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ فَإِنَّ الْوَفَاءَ يَلْزَمُهُ بِمَا نَذَرَ فِيهَا
وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مَسَاجِدُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أُمِرْنَا بَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إِلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَعَلَيْهِ تَأَوَّلُوا الْخَبَرَ
انْتَهَى
قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ اخْتُلِفَ فِي شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى غَيْرِهَا كَالذَّهَابِ إِلَى زِيَارَةِ الصَّالِحِينَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا وَالْمَوَاضِعِ الْفَاضِلَةِ فِيهَا وَالتَّبَرُّكِ بِهَا فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ يَحْرُمُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَقَالَ بِهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَطَائِفَةٌ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْجَوَازُ وَخَصَّ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ فِيمَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ بَالِاعْتِكَافِ فِي غَيْرِ الثَّلَاثَةِ لَكِنْ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ دَلِيلًا
انتهى
وأخرج مالك في الموطأ عن مرثد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَقِيتُ بَصْرَةَ بْنَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيَّ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ فَقُلْتُ مِنَ الطُّورِ فقال لو أدركت قبل أن يخرج إِلَيْهِ مَا خَرَجْتَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ
قَالَ الشَّيْخُ الْأَجَلُّ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّهْلَوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ تَعْلِيقًا عَلَى الْبُخَارِيِّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَحْذُوفُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِمَّا جِنْسٌ قَرِيبٌ أَوْ جِنْسٌ بَعِيدٌ فَعَلَى الْأَوَّلِ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى الْمَسَاجِدِ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ وَحِينَئِذٍ مَا سِوَى الْمَسَاجِدِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَوْضِعٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ فَحِينَئِذٍ شَدُّ الرِّحَالِ إِلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الْمُعَظَّمَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِظَاهِرِ سِيَاقِ الْحَدِيثِ
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ حِينَ رَاجَعَ عَنِ الطُّورِ وَتَمَامُهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَهَذَا الْوَجْهُ قَوِيٌّ مِنْ جِهَةِ مَدْلُولِ حَدِيثِ بَصْرَةَ انْتَهَى
وَقَالَ الشَّيْخُ وَلِيُّ اللَّهِ فِي حُجَّةِ اللَّهِ الْبَالِغَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا أَقُولُ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْصِدُونَ مَوَاضِعَ(6/12)
مُعَظَّمَةً بِزَعْمِهِمْ يَزُورُونَهَا وَيَتَبَرَّكُونَ بِهَا وَفِيهِ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى فَسَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَسَادَ لِئَلَّا يَلْتَحِقَ غَيْرُ الشَّعَائِرِ بَالشَّعَائِرِ وَلِئَلَّا يَصِيرَ ذَرِيعَةً لِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْقَبْرَ وَمَحَلَّ عِبَادَةِ وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالطُّورِ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي النَّهْيِ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
9 - (بَاب فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ)
[2034] (مَا كَتَبْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ أَوِ الْمَنْفِيُّ شَيْءٌ اخْتُصُّوا بِهِ عَلَى النَّاسِ (وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ) وَسَبَبُ قَوْلِ عَلِيٍّ هَذَا يَظْهَرُ بِمَا رُوِّينَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بَالْأَمْرِ فَيُقَالُ لَهُ قَدْ فَعَلْنَا فَيَقُولُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَالَ لَهُ الْأَشْتَرُ هَذَا الَّذِي تَقُولُ شَيْءٌ عَهِدَهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا عَهِدَ إِلَيَّ شَيْئًا خَاصًّا دُونَ النَّاسِ إِلَّا شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهُوَ فِي صَحِيفَةٍ فِي قِرَابِ سَيْفِي فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخْرَجَ الصَّحِيفَةَ فَإِذَا فِيهَا (الْمَدِينَةُ حَرَامٌ) أَيْ حَرَمٌ كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْ حَرَمٌ مُحَرَّمَةٌ (مَا بَيْنَ عَائِرَ) بَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْأَلِفِ مَهْمُوزًا آخِرُهُ رَاءٌ جَبَلٌ بَالْمَدِينَةِ (إِلَى ثَوْرٍ) وَهَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ إِلَى ثَوْرٍ وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ مَا بَيْنَ عَيْرَ إِلَى أُحُدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَا يَعْرِفُونَ جَبَلًا عِنْدَهُمْ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ وَإِنَّمَا ثَوْرٌ بِمَكَّةَ لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ ثَوْرٌ جَبَلٌ بِمَكَّةَ وَجَبَلٌ بَالْمَدِينَةِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرَ إِلَى ثَوْرٍ
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَكَابِرِ الْأَعْلَامِ إِنَّ هَذَا تَصْحِيفٌ وَالصَّوَابُ إِلَى أُحُدٍ لِأَنَّ ثَوْرًا إِنَّمَا هُوَ بِمَكَّةَ فَغَيْرُ جَيِّدٍ لِمَا أَخْبَرَنِي الشُّجَاعُ الْبَعْلِيُّ الشَّيْخُ الزَّاهِدُ عَنِ الْحَافِظِ أَبِي محمد عبد السلام(6/13)
الْبَصْرِيِّ أَنَّ حِذَاءَ أُحُدٍ جَانِحًا إِلَى وَرَائِهِ جَبَلًا صَغِيرًا يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ وَتَكَرَّرَ سُؤَالِي عَنْهُ طَوَائِفَ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الْأَرْضِ فَكُلٌّ أَخْبَرَ أَنَّ اسْمَهُ ثَوْرٌ وَلِمَا كَتَبَ إِلَيَّ الشَّيْخُ عَفِيفُ الدِّينِ الْمَطَرِيُّ عَنْ وَالِدِهِ الْحَافِظِ الثِّقَةِ قَالَ إِنَّ خَلْفَ أُحُدٍ عَنْ شِمَالِهِ جَبَلًا صَغِيرًا مُدَوَّرًا يُسَمَّى ثَوْرًا يَعْرِفهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ
قَالَهُ صَاحِبُ تَحْقِيقِ النُّصْرَةِ
وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْأَحْكَامِ قَدْ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ الْعَالِمُ أَبُو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد عَنْ يَسَارِهِ جَانِحًا إِلَى وَرَائِهِ جَبَلًا صَغِيرًا يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سُؤَالُهُ عَنْهُ لِطَوَائِفَ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ فَكُلٌّ أَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْجَبَلَ اسْمُهُ ثَوْرٌ وَتَوَارَدُوا عَلَى ذَلِكَ
قَالَ فَعَلِمْنَا أَنَّ ذِكْرَ ثَوْرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ صَحِيحٌ وَأَنَّ عَدَمَ عِلْمِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ بِهِ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ وَعَدَمِ بَحْثِهِمْ عَنْهُ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حُسَيْنٍ الْمَرَاغِيُّ نَزِيلُ الْمَدِينَةِ فِي مُخْتَصَرِهِ لِأَخْبَارِ الْمَدِينَةِ إِنَّ خَلَفَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَنْقُلُونَ عَنْ سَلَفِهِمْ أَنَّ خَلْفَ أُحُدٍ مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ جَبَلًا صَغِيرًا إِلَى الْحُمْرَةِ بِتَدْوِيرٍ يُسَمَّى ثَوْرًا
قَالَ وَقَدْ تَحَقَّقْتُهُ بَالْمُشَاهَدَةِ
(فَمَنْ أَحْدَثَ) أَيْ أَظْهَرَ (حَدَثًا) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالدَّالِ أَيْ مُخَالِفًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَنِ ابْتَدَعَ بِهَا بِدْعَةً (أَوْ آوَى) بَالْمَدِّ (مُحْدِثًا) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ مُبْتَدِعًا (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ
قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ لَكِنِ الْمُرَادُ بَاللَّعْنِ هُنَا الْعَذَابُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى ذَنْبِهِ لَا كَلَعْنِ الْكَافِرِ الْمُبْعَدِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كُلَّ الْإِبْعَادِ (لَا يُقْبَلُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (مِنْهُ) مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ (عَدْلٌ وَلَا صَرْفٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُقَالُ فِي تَفْسِيرِ الْعَدْلِ إِنَّهُ الْفَرِيضَةُ وَالصَّرْفِ النَّافِلَةُ
وَمَعْنَى الْعَدْلِ هُوَ الْوَاجِبُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَمَعْنَى الصَّرْفِ الرِّبْحُ وَالزِّيَادَةُ وَمِنْهُ صَرْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَالنَّوَافِلُ الزِّيَادَاتُ عَلَى الْأُصُولِ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ صَرْفًا انْتَهَى (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ عَهْدُهُمْ وَأَمَانُهُمْ (وَاحِدَةٌ) أَيْ إِنَّهَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يَخْتَلِفُ بَاخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ وَلَا يَجُوزُ نَقْضُهَا لِتَفَرُّدِ الْعَاقِدِ بِهَا
وَكَأَنَّ الَّذِي يَنْقُصُ ذِمَّةَ نَفْسِهِ وَهِيَ مَا يُذَمُّ الرَّجُلُ عَلَى إِضَاعَتِهِ مِنْ عَهْدٍ وَأَمَانٍ كَأَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ الَّذِي إِذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ (يَسْعَى بِهَا) أَيْ يَتَوَلَّاهَا وَيَلِي أَمْرَهَا (أَدْنَاهُمْ) أَيْ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ مَرْتَبَةً
وَالْمَعْنَى أَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ سَوَاءَ صَدَرَتْ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ شَرِيفٍ أَوْ وَضِيعٍ
قَالَ الطِّيبِيُّ فَإِذَا أَمَّنَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَافِرًا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ وَإِنْ كَانَ الْمُؤْمِّنُ عَبْدًا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ أَنْ يُحَاصِرَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ فَيُعْطِي بَعْضَ عَسْكَرَةِ الْمُسْلِمِينَ أَمَانًا لِبَعْضِ الْكُفَّارِ فَإِنَّ أَمَانَهُ مَاضٍ وَإِنْ كَانَ الْمُجِيرُ عَبْدًا وَهُوَ أَدْنَاهُمْ وَأَقَلُّهُمْ
وَهَذَا خَاصٌّ فِي أَمَانِ بَعْضِ الْكُفَّارِ دُونَ جَمَاعَتِهِمْ وَلَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ أَمَانًا عَامًّا لِجَمَاعَةِ الْكُفَّارِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَمَانُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ أَصْلًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ انْتَهَى (فَمَنْ أَخْفَرَ) بَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَأَمَانَهُ لِلْكَافِرِ بِأَنْ قَتَلَ ذَلِكَ الْكَافِرَ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ وحقيقته إزالة حفرته أَيْ عَهْدَهُ وَأَمَانَهُ (وَمَنْ وَالَى قَوْمًا) بِأَنْ يقول معتق(6/14)
لِغَيْرِ مُعْتِقِهِ أَنْتَ مَوْلَايَ (بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) لَيْسَ لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الْإِذْنِ وَقَصْرِهِ عَلَيْهِ بَلْ بُنِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْغَالِبِ وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْذَنَ مَوَالِيَهُ لَمْ يَأْذَنُوا لَهُ
قال الطيبي قيل أراد به ولاء المولاة لَا وَلَاءَ الْعِتْقِ كَمَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ لَيْسَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّرْطِ حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَ مَوَالِيهِ إِذَا أَذِنُوا لَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى التَّوْكِيدِ لِتَحْرِيمِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[2035] (قَالَ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا) أَيْ لَا يُقْطَعُ كَلَؤُهَا
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَى يُخْتَلَى يؤخذ ويقطع والخلاء بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورًا هُوَ الرَّطْبُ مِنَ الكلأ قالوا الخلاء وَالْعُشْبُ اسْمٌ لِلرَّطْبِ مِنْهُ وَالْحَشِيشُ وَالْهَشِيمُ اسْمُ الْيَابِسِ مِنْهُ وَالْكَلَأُ مَهْمُوزًا يَقَعُ عَلَى الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ (وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا) وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِتَحْرِيمِ التَّنْفِيرِ وَهُوَ الْإِزْعَاجُ وَتَنْحِيَتُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ فَإِنْ نَفَّرَهُ عَصَى سَوَاءً تَلِفَ أَمْ لَا لَكِنْ إِنْ تَلِفَ فِي نِفَارِهِ قَبْلَ سُكُونِ نِفَارِهِ ضَمِنَهُ الْمُنَفِّرُ وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ
قَالَ الْعُلَمَاءُ نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالتَّنْفِيرِ عَلَى الْإِتْلَافِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُ إِذَا حَرُمَ التَّنْفِيرُ فَالْإِتْلَافُ أَوْلَى
قَالَهُ النَّوَوِيُّ (أَشَادَ بِهَا) هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِتَعْرِيفِهَا أَبَدًا لَا سَنَةً يُقَالُ أَشَادَهُ وَأَشَادَ بِهِ إِذَا أَشَاعَهُ وَرَفَعَ ذِكْرَهُ
كَذَا فِي النِّهَايَةِ
وَفِي بَعْضِهَا أَنْشَدَهَا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ
الْمُنْشِدُ هُوَ الْمُعَرِّفُ وَأَمَّا طَالِبُهَا فَيُقَالُ لَهُ نَاشِدٌ
وَأَصْلُ النَّشْدِ وَالنِّشَادِ رَفْعُ الصَّوْتِ
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُعَرِّفَهَا سَنَةً ثُمَّ يَتَمَلَّكَهَا كَمَا فِي بَاقِي الْبِلَادِ بَلْ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِمَنْ يُعَرِّفُهَا أَبَدًا وَلَا يَتَمَلَّكُهَا وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ
وَقَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا بَعْدَ تَعَرُّفِهَا سَنَةً كَمَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ
وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
قَالَهُ النَّوَوِيُّ (وَلَا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ) قال بن رَسْلَانَ هَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا حَاجَةَ فَإِنْ كَانَتْ حَاجَةً جَازَ (وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقْطَعَ) اسْتُدِلَّ بِهَذَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَلَى تَحْرِيمِ شَجَرِهَا وَخَبْطِهِ وَعَضْدِهِ وَتَحْرِيمِ صَيْدِهَا وَتَنْفِيرِهِ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمَدِينَةِ حَرَمًا كَحَرَمِ مَكَّةَ(6/15)
يَحْرُمُ صَيْدُهُ وَشَجَرُهُ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فَإِنْ قَتَلَ صَيْدًا أَوْ قَطَعَ شَجَرًا فَلَا ضَمَانَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلنُّسُكِ فَأَشْبَهَ الْحِمَى
وَقَالَ بن أبي ذئب وبن أَبِي لَيْلَى يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ كَحَرَمِ مَكَّةَ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحَرَمٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا تَثْبُتُ لَهُ الْأَحْكَامُ مِنْ تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ وَالْأَحَادِيثُ تَرُدُّ عليهم واستدلوا بحديث ياأبا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ أَوْ أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْحِلِّ (إِلَّا أَنْ يَعْلِفَ) مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَالْعَلَفُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ اسْمُ الْحَشِيشِ أَيْ مَا تَأْكُلُهُ الدَّابَّةُ وَبِسُكُونِ اللَّامِ مَصْدَرُ عَلَفْتُ عَلْفًا
وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ لِلْعَلَفِ لَا لِغَيْرِهِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[2036] (قَالَ حَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَلَوْ وَجَدْتُ الظِّبَاءَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا مَا ذَعَرْتُهَا وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى انْتَهَى وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ جَعَلَ رَاجِعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْجُذَامِيِّ هَذَا فَهَذَا الْحَدِيثُ مِثْلُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لِأَنَّ الْبَرِيدَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ فِيهِمَا التَّصْرِيحُ بِمِقْدَارِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ اللَّابَتَانِ الْحَرَّتَانِ وَاحِدَتُهُمَا لَابَةٌ بِتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ الْحَرَّةُ وَالْحَرَّةُ الْحِجَارَةُ السُّودُ وَلِلْمَدِينَةِ لَابَتَانِ شَرْقِيَّةٌ وَغَرْبِيَّةٌ وَهِيَ بَيْنَهُمَا
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ حَمَى الْمَدِينَةَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ أَيِ الشَّرْقُ وَالْغَرْبُ وَالْجَنُوبُ وَالشَّمَالُ أَرْبَعَةُ بريدا وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا فَصَارَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ (لَا يُخْبَطُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْخَبْطُ ضَرْبُ الشَّجَرِ لِيَسْقُطَ وَرَقُهُ (وَلَا يُعْضَدُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ لَا يُقْطَعُ وَالْعَضْدُ الْقَطْعُ (إِلَّا مَا يُسَاقُ بِهِ) مِنَ السَّوْقِ يُقَالُ سقت الدابة أسواقها سَوْقًا أَيْ مَا يَكُونُ عَلَفًا لِلْجَمَلِ عَلَى قدر الضرورة فيساق به للجمل لِلرَّعْيِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ كِنَانَةَ سُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيِّ فَقَالَ لَا أَعْرِفُهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَجْهُولِ(6/16)
[2037] (أَخَذَ رَجُلًا) أَيْ عَبْدًا (فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْ أَخَذَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ (فَجَاءَ مَوَالِيهُ وَكَلَّمُوهُ فِيهِ) أَيْ شَأْنِ الْعَبْدِ وَرَدِّ سَلَبِهِ (حَرَّمَ هَذَا الْحَرَمَ) قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ تَحْرِيمَهَا كَتَحْرِيمِ مَكَّةَ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلْيَسْلُبْهُ ثِيَابَهُ) هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهَا تُؤْخَذُ ثِيَابُهُ جَمِيعُهَا
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ يُبْقِي لَهُ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ
وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ (وَلَا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً) بِضَمِّ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا وَمَعْنَى الطُّعْمَةِ الْأَكْلَةُ وَأَمَّا الْكَسْرُ فَجِهَةُ الْكَسْبِ وَهَيْئَتُهُ (وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ) أَيْ تَبَرُّعًا
وَبِقِصَّةِ سَعْدٍ هَذِهِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ مَنْ صَادَ مِنْ حَرَمِ الْمَدِينَةِ أَوْ قَطَعَ مِنْ شَجَرِهَا أُخِذَ سَلَبُهُ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَبِهَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ انْتَهَى
وَقَدْ حَكَى بن قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَحَدِ الرِّوَايَتَيْنِ الْقَوْلَ بِهِ قَالَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذِئْبٍ وبن الْمُنْذِرِ انْتَهَى
وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى الْقَاضِي عِيَاضٍ حَيْثُ قَالَ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّلَبِ فَقِيلَ إِنَّهُ لِمَنْ سَلَبَهُ وَقِيلَ لِمَسَاكِينِ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ لِبَيْتِ الْمَالِ وَظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ أَنَّهُ طُعْمَةٌ لِكُلِّ مَنْ وَجَدَ فِيهِ أَحَدًا يَصِيدُ أَوْ يَأْخُذُ مِنْ شَجَرِهِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ سُئِلَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَيْسَ بَالْمَشْهُورِ فَيُعْتَبَرُ حَدِيثُهُ انْتَهَى
قَالَ الذَّهَبِيُّ تَابِعِيٌّ وُثِّقَ
[2038] (مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ) أَيْ مِنْ بَعْضِ أَشْجَارِهَا (فَأَخَذَ مَتَاعَهُمْ) أَيْ ثِيَابَهُمْ وَمَا عِنْدَهُمْ (وَقَالَ يَعْنِي لِمَوَالِيهِمْ) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّاوِي (أَنْ يُقْطَعَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ قَطَعَ(6/17)
مِنْهُ) أَيْ مِنْ شَجَرِهَا (فَلِمَنْ أَيِ الَّذِي (أَخَذَهُ) أَيِ الْقَاطِعُ (سَلَبُهُ) بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ أَيْ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ وَغَيْرِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ صَالِحٌ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَمَوْلَى سَعْدٍ مَجْهُولٌ
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ سَعْدًا رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بَالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطَهُ فَسَلَبَهُ فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّازُ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُعْلَمُ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا سَعْدٌ وَلَا يُعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ سَعْدٍ إِلَّا عَامِرٌ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ سَعْدٍ وَمِنْ حَدِيثِ مَوْلَى سَعْدٍ عَنْهُ فَلَعَلَّهُ أَرَادَ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَوَهِمَ الِحَاكِمُ فَقَالَ فِي حَدِيثِ سَعْدٍ إِنَّ الشَّيْخَيْنِ لَمْ يُخَرِّجَاهُ وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ
[2039] (حِمَى) بِكَسْرِ الْحَاءِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَهُوَ الْمَحْظُورُ وَفِي الْعُرْفِ مَا يَحْمِيهِ الْإِمَامُ لِمَوَاشِي الصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ حَمَيْتُ الْمَكَانَ مِنَ النَّاسِ حَمْيًا مِنْ بَابِ رَمَى وَحِمْيَةً بَالْكَسْرِ مَنَعْتُهُ عَنْهُمْ وَأَحْمَيْتُهُ بَالْأَلِفِ جَعَلْتُهُ حِمًى لَا يُقْرَبُ وَلَا يُجْتَرَأُ عَلَيْهِ (وَلَكِنْ يُهَشُّ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (هَشًّا) أَيْ يُنْثَرُ بِلِينٍ وَرِفْقٍ
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ هَشَّ الرَّجُلُ هَشًّا مِنْ بَابِ قَتَلَ صَالَ بِعَصَاهُ وَهَشَّ الشَّجَرَةَ هَشًّا أَيْضًا ضَرَبَهَا لِيَتَسَاقَطَ وَرَقُهَا انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[2040] (كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ مَاشِيًا وَرَاكِبًا) وَفِي رواية لمسلم أن بن عُمَرَ كَانَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ وَكَانَ يَقُولُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ أَمَّا قُبَاءٌ فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِيهِ الْمَدُّ وَالتَّذْكِيرُ وَالصَّرْفُ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ عَوَالِيهَا
وَفِيهِ بَيَانُ فَضْلِهِ وفضل مسجده والصلاة فيه وفضيلة زيادته وَأَنَّهُ يَجُوزُ زِيَارَتُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَقَوْلُهُ كُلَّ سَبْتٍ فِيهِ جَوَازُ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَيَّامِ بَالزِّيَارَةِ(6/18)
وهذا هو الصواب وقول الجمهور وكره بن مَسْلَمَةَ الْمَالِكِيُّ ذَلِكَ قَالُوا لَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ قَالَهُ النَّوَوِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بن دينار عن بن عمر
(زاد بن نُمَيْرٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ
00 - (بَابُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ)
[2041] هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالْأَكْثَرُ خَالٍ عَنْ هَذَا وَلَيْسَ هَذَا الْبَابُ فِي الْمُنْذِرِيِّ أَيْضًا وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْمُؤَلِّفُ فِي بَابِ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ أَحَادِيثَ تَحْرِيمِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِفَضَائِلِ الْمَدِينَةِ وَزِيَارَةِ قُبَاءَ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ
(قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ) قَالَ فِي فَتْحِ الْوَدُودِ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي مِنْ قَبِيلِ حَذْفِ الْمَعْلُولِ وَإِقَامَةِ الْعِلَّةِ مَقَامَهُ وَهَذَا فَنٌّ فِي الْكَلَامِ شَائِعٌ فِي الْجَزَاءِ وَالْخَبَرِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ كَذَّبُوكَ فقد كذب رسل من قبلك أَيْ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَلَا تَحْزَنْ فَقَدْ كُذِّبَ
إِلَخْ فَحُذِفَ الْجَزَاءُ وَأُقِيمَ عِلَّتُهُ مَقَامَهُ وَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نضيع أجر من أحسن عملا أَيْ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَا نُضِيعُ عَمَلَهُمْ لِأَنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أحسن عملا فكذا ها هنا يُقَدَّرُ الْكَلَامُ أَيْ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا أَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ لِأَنِّي حَيٌّ أَقْدِرُ عَلَى رَدِّ السَّلَامِ وَقَوْلُهُ حَتَّى أَرُدُّ عَلَيْهِ أَيْ فَسَبَبُ ذَلِكَ حَتَّى أَرُدُّ عَلَيْهِ فَحَتَّى هُنَا حَرْفُ ابْتِدَاءٍ تُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ مِثْلَ مَرِضَ فُلَانٌ حَتَّى لَا يَرْجُونَهُ لَا بِمَعْنَى كَيْ وَبِهَذَا اتَّضَحَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَلَا يُخَالِفُ مَا ثَبَتَ حَيَاةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ وَقَعَ السُّؤَالُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْأَنْبِيَاءِ أَحْيَاءً وَفِي قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ وَسَائِرِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ فِي حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَوَّلِ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَأَلَّفْتُ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ تَأْلِيفًا سَمَّيْتُهُ انْتِبَاهَ الْأَذْكِيَاءِ بِحَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرْتُهُ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا أَقْوَاهَا أَنَّ قَوْلَهُ رَدَّ اللَّهُ رُوحِي جُمْلَةٌ حالية وقاعدة(6/19)
الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ جُمْلَةَ الْحَالِ إِذَا صُدِّرَتْ بِفِعْلٍ ماض قدرت فيه كقوله تعالى أو جاءوكم حصرت صدورهم أي قد حصرت وكذا ها هنا يُقَدَّرُ قَدْ وَالْجُمْلَةُ مَاضِيَةٌ سَابِقَةٌ عَلَى السَّلَامِ الْوَاقِعِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَحَتَّى لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ بَلْ لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْحَدِيثِ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي قَبْلَ ذَلِكَ وَأَرُدُّ عَلَيْهِ
وَإِنَّمَا جَاءَ الْإِشْكَالُ مِنْ أَنَّ جُمْلَةَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي بِمَعْنَى حَالٍ أَوِ اسْتِقْبَالٍ وَظُنَّ أَنَّ حَتَّى تَعْلِيلِيَّةٌ وَلَا يَصِحُّ كُلُّ ذَلِكَ
وَبِهَذَا الَّذِي قَدَّرْنَاهُ ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ
وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الرَّدَّ لَوْ أُخِذَ بِمَعْنَى حَالٍ أَوِ اسْتِقْبَالٍ لَلَزِمَ تَكَرُّرُهُ عِنْدَ تَكَرُّرِ الْمُسَلِّمِينَ وَتَكَرُّرُ الرَّدِّ يَسْتَلْزِمُ تَكَرُّرَ الْمُفَارَقَةِ وَتَكَرُّرُ الْمُفَارَقَةِ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَحْذُورَاتٌ مِنْهَا تَأَلُّمُ الْجَسَدِ الشَّرِيفِ بِتَكْرَارِ خُرُوجِ رُوحِهِ وَعَوْدِهِ أَوْ نَوْعٍ مَا مِنْ مُخَالَفَةِ تَكْرِيرٍ إِنْ لَمْ يَتَأَلَّمْ وَمِنْهَا مُخَالَفَةُ سائر الناس من الشهداء وغيرهم إذا لَمْ يَثْبُتْ لِأَحَدِهِمْ أَنَّهُ يَتَكَرَّرُ لَهُ مُفَارَقَةُ رُوحِهِ وَعَوْدِهِ بَالْبَرْزَخِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بَالِاسْتِمْرَارِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً
وَمِنْهَا مُخَالَفَةُ الْقُرْآنِ إِذْ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ وَهَذَا التَّكْرَارُ يَسْتَلْزِمُ مَوْتَاتٍ كَثِيرَةً وَهُوَ بَاطِلٌ
وَمِنْهَا مُخَالَفَةُ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا خَالَفَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ مَا قُبِضُوا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أَرْوَاحُهُمْ فَهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ حَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ بِلَفْظِ إِلَّا وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي بِزِيَادَةِ لَفْظِ قَدْ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِلَّا وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي فَأَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَحْدَثَ اللَّهُ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ
قَالَ السُّيُوطِيُّ وَلَفْظُ الرَّدِّ قَدْ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُفَارَقَةِ بَلْ كَنَّى بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الصَّيْرُورَةِ وَحَسَّنَهُ هَذَا مُرَاعَاةُ الْمُنَاسِبَةِ اللَّفْظِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَاءَ لَفْظُ الرَّدِّ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ بِآخِرِهِ
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِرَدِّهَا عَوْدُهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ بَدَنِهَا وَإِنَّمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالْبَرْزَخِ مَشْغُولٌ بِأَحْوَالِ الْمَلَكُوتِ مُسْتَغْرِقٌ فِي مُشَاهَدَتِهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا بِحَالَةِ الْوَحْيِ فَعَبَّرَ عَنْ إِفَاقَتِهِ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ بِرَدِّ الرُّوحِ انْتَهَى
قَالَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ الْفَاكِهَانِيُّ فَإِنْ قُلْتَ قَوْلُهُ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي لَا يَلْتَئِمُ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا دَائِمًا بَلْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَتَعَدَّدَ حَيَاتُهُ وَمَمَاتُهُ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى الرُّوحِ هُنَا النُّطْقُ مَجَازًا فَكَأَنَّهُ قَالَ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ نُطْقِي وَهُوَ حَيٌّ دَائِمًا لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَيَاتِهِ نُطْقُهُ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ نُطْقُهُ عِنْدَ سَلَامِ كُلِّ أَحَدٍ وَعِلَاقَةُ الْمَجَازِ أَنَّ النُّطْقَ مِنْ لَازِمِهِ وُجُودُ الرُّوحِ كَمَا أَنَّ الرُّوحَ مِنْ لَازِمِهِ وُجُودُ النُّطْقِ بَالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ فَعَبَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَنِ الْآخَرِ
وَمِمَّا يُحَقِّقُ ذلك أن(6/20)
عَوْدَ الرُّوحِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَرَّتَيْنِ لِقَوْلِهِ تعالى ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين انْتَهَى كَلَامُهُ
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ السَّخَاوِيُّ فِي كِتَابِ الْبَدِيعِ رَدُّ رُوحِهِ يَلْزَمُهُ تَعَدُّدُ حَيَاتِهِ وَوَفَاتِهِ فِي أَقَلَّ مِنْ سَاعَةٍ إِذِ الْكَوْنُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يَتَعَدَّدُ فِي آنٍ وَاحِدٍ كَثِيرًا
وَأَجَابَ الْفَاكِهَانِيُّ وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّ الرُّوحَ هُنَا بِمَعْنَى النُّطْقِ مَجَازًا فَكَأَنَّهُ قَالَ يَرُدُّ اللَّهُ عَلَيَّ نُطْقِي
وَقِيلَ إِنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا مَشَقَّةَ
وَقِيلَ الْمُرَادُ بَالرُّوحِ مَلَكٌ وُكِّلَ بِإِبْلَاغِهِ السَّلَامَ وَفِيهِ نَظَرٌ
انْتَهَى
قَالَ الْخَفَاجِيُّ فِي نَسِيمِ الرِّيَاضِ شَرْحِ الشِّفَاءِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ وَاسْتِعَارَةُ رَدِّ الرُّوحِ لِلنُّطْقِ بَعِيدَةٌ وَغَيْرُ مَعْرُوفَةٍ وَكَوْنُ الْمُرَادِ بَالرُّوحِ الْمَلَكُ تَأْبَاهُ الْإِضَافَةُ لِضَمِيرٍ إِلَّا أَنَّهُ مَلَكٌ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ فَاخْتُصَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَجْوِبَةِ
وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ بَلَغَنِي أَنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِكُلِّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَبْلُغُهُ
وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا إِطْلَاقُ الرُّوحِ عَلَى الْمَلَكِ فِي الْقُرْآنِ وَإِذَا خُصَّ هَذَا بَالزُّوَّارِ هَانَ أَمْرُهُ
وَجُمْلَةُ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَالِيَّةٌ وَلَا يَلْزَمُهَا قَدْ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ إِلَّا كَمَا ذَكَرَهُ فِي التَّسْهِيلِ وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ
وَبَالْجُمْلَةِ فَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخْلُو مِنَ الْإِشْكَالِ
قَالَ الْخَفَاجِيُّ أَقُولُ الَّذِي يَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ وَحَيَاةُ الْأَنْبِيَاءِ أَقْوَى وَإِذَا لَمْ يُسَلِّطْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضَ فَهُمْ كَالنَّائِمِينَ
وَالنَّائِمُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يَنْطِقُ حَتَّى يَنْتَبِهَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّتِي لَمْ تمت في منامها الْآيَةَ فَالْمُرَادُ بَالرَّدِّ الْإِرْسَالُ الَّذِي فِي الْآيَةِ وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا سَمِعَ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِدُونِهَا تَيَقَّظَ وَرَدَّ لَا أَنَّ رُوحَهُ تُقْبَضُ قَبْضَ الْمَمَاتِ ثُمَّ يُنْفَخُ وَتُعَادُ كَمَوْتِ الدُّنْيَا وَحَيَاتِهَا لِأَنَّ رُوحَهُ مُجَرَّدَةٌ نُورَانِيَّةٌ وَهَذَا لِمَنْ زَارَهُ وَمَنْ بَعُدَ تُبَلِّغُهُ الْمَلَائِكَةُ سَلَامَهُ فَلَا إِشْكَالَ أَصْلًا انْتَهَى
قَالَ فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بَعْدَ مَا أَطَالَ الْكَلَامَ هَذَا أَيْ تَقْرِيرُ الْخَفَاجِيِّ مِنْ أَحْسَنِ التَّقَارِيرِ
وَأَخْرَجَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ وَمَنْ صَلَّى نَائِيًا بُلِّغْتُهُ وَمَعْنَى قَوْلِهِ نَائِيًا أَيْ بَعِيدًا عَنِّي وَبُلِّغْتُهُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُشَدَّدًا أَيْ بَلَّغَتْهُ الْمَلَائِكَةُ سَلَامَهُ وَصَلَاتَهُ عَلَيَّ
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ
قَالَهُ الْخَفَاجِيُّ
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ(6/21)
الْأَعْرَجُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الصَّبَّاحِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ مِنْ بَعِيدٍ أبلغته قال بن الْقَيِّمِ فِي جِلَاءِ الْأَفْهَامِ وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ جدا
وما قال علي القارىء تَحْتَ حَدِيثِ الْبَابِ فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ وَظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ الشَّامِلُ لِكُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَمَنْ خَصَّ الرد بوقت الزيادة فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ انْتَهَى
فَيُرَدُّ كَلَامُهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الرِّوَايَاتِ
وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لِمَنْ زَارَهُ وَمَنْ بَعُدَ عَنْهُ تُبَلِّغُهُ الْمَلَائِكَةُ سَلَامَهُ
وَحَدِيثُ الْبَابِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ نَحْوَهُ سَنَدًا ومتنا
قال بن الْقَيِّمِ وَقَدْ صَحَّ إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ وَسَأَلْتُ شيخنا بن تَيْمِيَةَ عَنْ سَمَاعِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ كَأَنَّهُ أَدْرَكَهُ وَفِي سَمَاعِهِ مِنْهُ نَظَرٌ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ وَرِيَاضِ الصَّالِحِينَ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ
وَقَالَ بن حَجَرٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَقَدْ أُنْكِرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِهِ وَضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ مَرَّةً وَوَثَّقَهُ أُخْرَى انْتَهَى كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ مُخْتَصَرًا
[2042] (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا) أَيْ لَا تَتْرُكُوا الصَّلَوَاتِ وَالْعِبَادَةَ فَتَكُونُوا فِيهَا كَأَنَّكُمْ أَمْوَاتٌ
شَبَّهَ الْمَكَانَ الْخَالِيَ عَنِ الْعِبَادَةِ بَالْقُبُورِ وَالْغَافِلَ عَنْهَا بَالْمَيِّتِ ثُمَّ أَطْلَقَ الْقَبْرَ عَلَى الْمَقْبَرَةِ
وَقِيلَ الْمُرَادُ لَا تَدْفِنُوا فِي الْبُيُوتِ وَإِنَّمَا دُفِنَ الْمُصْطَفَى فِي بَيْتِ عَائِشَةَ مَخَافَةَ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ مَسْجِدًا ذَكَرَهُ الْقَاضِي قَالَهُ الْمُنَاوِيُّ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفِنَ فِي بَيْتِهِ لِأَنَّهُ اتُّبِعَ فِيهِ سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَمَا وَرَدَ مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ
فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِهِمُ انْتَهَى (وَلَا تجعلوا قبري عيدا) قال الإمام بن تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ أَبْعَدَ بَعْض الْمُتَكَلِّفِينَ وَقَالَ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِهِ الْحَثّ عَلَى كَثْرَة زِيَارَة قَبْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ لَا يُهْمَل حَتَّى لَا يُزَارَ إِلَّا فِي بَعْض الْأَوْقَات
كَالْعَبْدِ الَّذِي لَا يَأْتِي فِي الْعَام إِلَّا مَرَّتَيْنِ قَالَ وَيُؤَيِّد هَذَا التَّأْوِيل مَا جَاءَ فِي الْحَدِيث نَفْسه لَا تَجْعَلُوا بُيُوتكُمْ قُبُورًا أَيْ لَا تَتْرُكُوا الصَّلَاة فِي بُيُوتكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوهَا كَالْقُبُورِ الَّتِي لَا يُصَلَّى فيها(6/22)
لَا تُعَطِّلُوا الْبُيُوتَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقُبُورِ فَأَمَرَ بِتَحَرِّي الْعِبَادَةِ بَالْبُيُوتِ وَنَهَى عَنْ تَحَرِّيهَا عِنْدَ الْقُبُورِ عَكْسَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ النَّصَارَى وَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
وَالْعِيدُ اسْمُ مَا يَعُودُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ الْعَامِّ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ عَائِدًا مَا يَعُودُ السَّنَةَ أَوْ يَعُودُ الْأُسْبُوعَ أو الشهر ونحو ذلك
وقال بن الْقَيِّمِ الْعِيدُ مَا يُعْتَادُ مَجِيئُهُ وَقَصْدُهُ مِنْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمُعَاوَدَةِ وَالِاعْتِيَادِ فَإِذَا كَانَ اسْمًا لِلْمَكَانِ فَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُقْصَدُ فِيهِ الِاجْتِمَاعُ الِانْتِيَابُ بَالْعِبَادَةِ وَبِغَيْرِهَا كَمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمِنًى وَمُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ وَالْمَشَاعِرَ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عِيدًا لِلْحُنَفَاءِ وَمَثَابَةً لِلنَّاسِ كَمَا جَعَلَ أَيَّامَ الْعِيدِ مِنْهَا عِيدًا
وَكَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَعْيَادٌ زَمَانِيَّةٌ وَمَكَانِيَّةٌ فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بَالْإِسْلَامِ أَبْطَلَهَا وَعَوَّضَ الْحُنَفَاءَ مِنْهَا عِيدَ الْفِطْرِ وَعِيدَ النَّحْرِ كَمَا عَوَّضَهُمْ عَنْ أَعْيَادِ الْمُشْرِكِينَ الْمَكَانِيَّةِ بِكَعْبَةٍ وَمِنًى وَمُزْدَلِفَةَ وَسَائِرِ الْمَشَاعِرِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الِاجْتِمَاعِ لِزِيَارَتِهِ اجْتِمَاعِهِمْ لِلْعِيدِ إِمَّا لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَجَاوَزُوا حَدَّ التَّعْظِيمِ
وَقِيلَ الْعِيدُ مَا يُعَادُ إِلَيْهِ أَيْ لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا تَعُودُونَ إِلَيْهِ مَتَى أَرَدْتُمْ أَنْ تُصَلُّوا عَلَيَّ فَظَاهِرُهُ مَنْهِيٌّ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ وَالْمُرَادُ الْمَنْعُ عَمَّا يُوجِبُهُ وَهُوَ ظَنُّهُمْ بِأَنَّ دُعَاءَ الْغَائِبِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ) أَيْ لَا تَتَكَلَّفُوا الْمُعَاوَدَةَ إِلَيَّ فَقَدِ اسْتَغْنَيْتُمْ بَالصَّلَاةِ عَلَيَّ
قَالَ الْمُنَاوِيُّ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ اجْتِمَاعَ الْعَامَّةِ فِي بَعْضِ أَضْرِحَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ مَخْصُوصٍ مِنَ السَّنَةِ وَيَقُولُونَ هَذَا يَوْمُ مَوْلِدِ الشَّيْخِ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَرُبَّمَا يَرْقُصُونَ فِيهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا وَعَلَى وَلِيِّ الشَّرْعِ رَدْعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالُهُ انْتَهَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالَ بَعْضهمْ وَزِيَارَة قَبْره صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ غُنْيَة عَنْ هَذَا التَّكَلُّف الْبَارِد وَالتَّأْوِيل الْفَاسِد الَّذِي يُعْلَم فَسَاده مِنْ تَأَمُّل سِيَاق الْحَدِيث وَدَلَالَة اللَّفْظ عَلَى مَعْنَاهُ وَقَوْله فِي آخِره وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتكُمْ تَبْلُغنِي حَيْثُ كُنْتُمْ وَهَلْ فِي الْأَلْغَاز أَبْعَد مِنْ دَلَالَة مَنْ يُرِيد التَّرْغِيب فِي الْإِكْثَار مِنْ الشَّيْء وملازمته بقوله لا تجعله عيدا وقوله وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتكُمْ قُبُورًا نَهْيٌ لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ الْقُبُور الَّتِي لَا يُصَلَّى فِيهَا وَكَذَلِكَ نَهْيه لَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْره عِيدًا نَهْي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ مَجْمَعًا
كَالْأَعْيَادِ الَّتِي يَقْصِد النَّاس الِاجْتِمَاع إِلَيْهَا لِلصَّلَاةِ بَلْ يُزَار قَبْره صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يَزُورهُ الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِمْ عَلَى الْوَجْه الَّذِي يُرْضِيه وَيُحِبّهُ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ(6/23)
وقال شيخ الإسلام بن تَيْمِيَةَ الْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا يَنَالُنِي منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قبركم مِنْ قَبْرِي وَبُعْدِكُمْ عَنْهُ فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى اتِّخَاذِهِ عِيدًا انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ السَّفَرِ لِزِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءُ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يُمْكِنُ اسْتِحْصَالُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يُمْكِنُ مِنْ قُرْبٍ وَأَنَّ مَنْ سَافَرَ إِلَيْهِ وَحَضَرَ مِنْ نَاسٍ آخَرِينَ فَقَدِ اتَّخَذَهُ عِيدًا وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِنَصِّ الْحَدِيثِ فَثَبَتَ مَنْعُ شَدِّ الرَّحْلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ كَمَا ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ جَعْلِهِ عِيدًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَهَاتَانِ الدَّلَالَتَانِ مَعْمُولٌ بِهِمَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ وَوَجْهُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ قَوْلُهُ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الْبُعْدِ وَالْبَعِيدُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْقُرْبُ إِلَّا بَاخْتِيَارِ السَّفَرِ إِلَيْهِ وَالسَّفَرُ يَصْدُقُ عَلَى أَقَلِّ مَسَافَةٍ مِنْ يَوْمٍ فَكَيْفَ بِمَسَافَةٍ بَاعِدَةٍ فَفِيهِ النَّهْيُ عَنِ السَّفَرِ لِأَجْلِ الزِّيَارَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ وَلَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ يَرْتَقِي بِهَا إِلَى دَرَجَةِ الصِّحَّةِ
قَالَهُ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي رَحِمَهُ اللَّهُ
وَقَالَ فِي فَتْحِ الْمَجِيدِ شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ رُوَاتُهُ مَشَاهِيرُ لَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ لَيْسَ بالحافظ نعرف وننكر
وقال بن مَعِينٍ هُوَ ثِقَةٌ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ لَا بَأْسَ بِهِ
قال الشيخ بن تَيْمِيَةَ وَمِثْلُ هَذَا إِذَا كَانَ لِحَدِيثِهِ شَوَاهِدُ عُلِمَ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ وَهَذَا لَهُ شَوَاهِدُ مُتَعَدِّدَةٌ انْتَهَى وَمِنْ شَوَاهِدِهِ الصَّادِقَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَجِيءُ إِلَى فُرْجَةٍ كَانَتْ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُ فِيهَا فَيَدْعُو فَنَهَاهُ وَقَالَ أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا فَإِنَّ تَسْلِيمَكُمْ يَبْلُغُنِي أَيْنَ كُنْتُمْ رَوَاهُ الضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ وَأَبُو يَعْلَى وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سُهَيْلٍ قَالَ رَآنِي الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْقَبْرِ فَنَادَانِي وَهُوَ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ يَتَعَشَّى فَقَالَ هَلُمَّ إِلَى الْعَشَاءِ فَقُلْتُ لَا أُرِيدُهُ فَقَالَ مَا لِي رَأَيْتُكَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَقُلْتُ سَلَّمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَسَلِّمْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ مَا كُنْتُمْ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ مَا أَنْتُمْ وَمَنْ بَالْأَنْدَلُسِ إِلَّا سَوَاءٌ
قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى الْمُهْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَلَا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي(6/24)
قال بن تَيْمِيَةَ فَهَذَانِ الْمُرْسَلَانِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ يَدُلَّانِ عَلَى ثُبُوتِ الْحَدِيثِ لَا سِيَّمَا وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ أَرْسَلَهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ عِنْدَهُ هَذَا لَوْ لَمْ يُرْوَ مِنْ وُجُوهٍ مُسْنَدَةٍ غَيْرِ هَذَيْنِ فَكَيْفِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مُسْنَدًا
انتهى
قال بن تَيْمِيَةَ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ شَدِّ الرَّحْلِ إِلَى قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى قَبْرِ غَيْرِهِ مِنَ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اتِّخَاذِهَا أَعْيَادًا
قَالَ فِي فَتْحِ الْمَجِيدِ شَرْحِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَعْنِي مَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَنُقِلَ فِيهَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فَمِنْ مُبِيحٍ لِذَلِكَ كَالْغَزَالِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيِّ وَمِنْ مَانِعٍ لِذَلِكَ كَابْنِ بطة وبن عُقَيْلٍ وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ
نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ الصَّوَابُ لِحَدِيثِ شَدِّ الرِّحَالِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ
انْتَهَى كَلَامُهُ
وَأَمَّا الْآنَ فَالنَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ عَنِ الصَّلَاةِ قَامُوا فِي مُصَلَّاهُمْ مُسْتَقْبِلِينَ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ الرَّاكِعِينَ لَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْتَصِقُ بَالسُّرَادِقِ وَيَطُوفُ حَوْلَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ بَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفِيهِ مَا يَجُرُّ الْفَاعِلَ إِلَى الشِّرْكِ وَمِنْ أَعْظَمِ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ هُجُومُ النِّسْوَةِ حَوْلَ حُجْرَةِ الْمَرْقَدِ الْمُنَوَّرِ وَقِيَامُهُنَّ هُنَاكَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَتَشْوِيشُهُنَّ عَلَى الْمُصَلِّينَ بَالسُّؤَالِ وَتَكَلُّمُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ كَاشِفَاتٍ الْأَعْيُنَ وَالْوُجُوهَ فَإِنَّا لِلَّهِ
إِلَى مَا ذَهَبَ بِهِمْ إِبْلِيسُ الْعَدُوُّ وَفِي أَيِّ هُوَّةٍ أَوْقَعَهُمْ فِي لِبَاسِ الدِّينِ وَزِيِّ الْحَسَنَاتِ
وَإِنْ شِئْتَ التَّفْصِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَانْظُرْ إِلَى كُتُبِ شُيُوخِ الإسلام كابن تيمية وبن الْقَيِّمِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْهَادِي مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ
وَأَمَّا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَكَشَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ الْقَاضِي بَشِيرِ الدِّينِ الْقِنَّوْجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ كِتَابَهُ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ وَالرَّدُّ عَلَى مُنْتَهَى الْمَقَالِ مِنْ أَحْسَنِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي هَذَا الْبَابِ
وَاعْلَمْ أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفُ مِنْ أَكْثَرِ الطَّاعَاتِ وَأَفْضَلُ مِنْ كَثِيرِ الْمَنْدُوبَاتِ لَكِنْ يَنْبَغِي لِمَنْ يُسَافِرُ أَنْ يَنْوِيَ زِيَارَةَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ ثُمَّ يَزُورَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصَلِّيَ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا زِيَارَةَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَزِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم آمين
[2043] (بن الْهُدَيْرِ) مُصَغَّرًا (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فِي الْمَدِينَةِ (نُرِيدُ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ) أَيْ(6/25)
زِيَارَتَهَا (حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا) أَيْ صَعِدْنَا (عَلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ) بِإِضَافَةِ حَرَّةٍ إِلَى وَاقِمٍ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْحَرَّةُ الْأَرْضُ ذَاتُ الْحِجَارَةِ وَوَاقِمٌ بِكَسْرِ الْقَافِ أُطُمٌ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الْحَرَّةُ (فَلَمَّا تَدَلَّيْنَا مِنْهَا) أَيْ هَبَطْنَا إِلَى الْأَسْفَلِ (فَإِذَا قُبُورٌ بِمَحْنِيَّةٍ) بِحَيْثُ يَنْعَطِفُ الْوَادِي وَهُوَ مُنْحَنَاهُ أَيْضًا أَيْ بِمَحَلِّ انْعِطَافِ الْوَادِي وَمَحَانِي الْوَادِي مَعَاطِفُهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ
وَمَحْنِيَّةٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ وفتح الياء بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ (قُبُورُ إِخْوَانِنَا) الْمُسْلِمِينَ (قَالَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ (قُبُورُ أَصْحَابِنَا) الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَنَالُوا مَنْزِلَةَ الشُّهَدَاءِ (قُبُورَ الشُّهَدَاءِ) فِي سَبِيلِ اللَّهِ (قُبُورُ إِخْوَانِنَا) إِنَّمَا أَضَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسْبَةَ الْأُخُوَّةِ وَشَرَّفَ بِهَا لِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[2044] (أَنَاخَ بَالْبَطْحَاءِ) أَيْ نَاقَتَهُ وَالْأَبْطَحُ كُلُّ مَكَانٍ مُتَّسِعٍ (الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ) قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ أَوْ سَبْعَةٌ انْتَهَى
وَهَذَا احْتِرَازٌ عَنِ الْبَطْحَاءِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى (فَصَلَّى بِهَا) قَالَ الْقَاضِي وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ النُّزُولَ وَالصَّلَاةَ فِيهِ وَأَنْ لَا يُجَاوِزَ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ وَقْتِ صَلَاةٍ مَكَثَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَيُصَلِّيَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[2045] (الْمُعَرَّسَ) قَالَ الْقَاضِي الْمُعَرَّسُ مَوْضِعُ النُّزُولِ
قَالَ أَبُو زَيْدٍ عَرَّسَ الْقَوْمُ فِي الْمَنْزِلِ إِذَا نَزَلُوا بِهِ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ
وَقَالَ الْخَلِيلُ وَالْأَصْمَعِيُّ التَّعْرِيسُ النُّزُولُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ
قَالَ الْقَاضِي وَالنُّزُولُ بَالْبَطْحَاءِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فِي رُجُوعِ الْحَاجِّ لَيْسَ مِنْ مناسك الحج(6/26)
وَإِنَّمَا فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَبَرُّكًا بِآثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهَا بَطْحَاءُ مُبَارَكَةٌ
قَالَ وَقِيلَ إِنَّمَا نَزَلَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُجُوعِهِ حَتَّى يُصْبِحَ لِئَلَّا يَفْجَأَ النَّاسُ أَهَالِيَهُمْ لَيْلًا كَمَا نَهَى عَنْهُ صَرِيحًا فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِهَا وَبَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ
قَالَ فِي الْمَرَاصِدِ الْمُعَرَّسُ مَسْجِدُ ذِي الْحُلَيْفَةِ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَنْهَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَرِّسُ فِيهِ ثُمَّ يَرْحَلُ انْتَهَى
وَفِي النِّهَايَةِ الْمُعَرَّسُ مَوْضِعُ التَّعْرِيسِ وَبِهِ سُمِّيَ مُعَرَّسُ ذِي الْحُلَيْفَةِ عَرَّسَ بِهِ النَّبِيُّ
(صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(6/27)
20 - أول كتاب النِّكَاحِ النِّكَاحُ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَالتَّدَاخُلُ وَفِي الشَّرْعِ عَقْدٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَحِلُّ بِهِ الْوَطْءُ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَالْوَطْءُ لَا يَجُوزُ بَالْإِذْنِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا وَقَوْلِهِ لَعَنَ اللَّهُ نَاكِحَ يَدِهِ وَقِيلَ إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا
وَقَالَ الْفَارِسِيُّ إِنَّهُ إِذَا قِيلَ نَكَحَ فُلَانَةً أَوْ بِنْتَ فُلَانٍ فَالْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدُ وَإِذَا قِيلَ نَكَحَ زَوْجَتَهُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ وَيَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِلْعَقْدِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ النُّورِ وَلَكِنَّهُ مُنْتَقَضٌ لقوله تعالى حتى تنكح زوجا غيره وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ إِنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا لِلتَّزْوِيجِ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النكاح فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْحُلُمُ قَالَهُ فِي النَّيْلِ
وَفَوَائِدُ النِّكَاحِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُودِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَمِنْهَا قَضَاءُ الْوَطَرِ بِنَيْلِ اللَّذَّةِ وَالتَّمَتُّعِ بَالنِّعْمَةِ وَهَذِهِ هِيَ الْفَائِدَةُ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ إِذْ لَا تَنَاسُلَ فِيهَا وَمِنْهَا غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْحَرَامِ وَغَيْرُ ذَلِكَ
(باب التحريض على النكاح)
[2046] (فَاسْتَخْلَاهُ) الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ لِعُثْمَانَ وَالْمَنْصُوبُ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَيِ انْفِرَادُ عُثْمَانَ بَابْنِ مَسْعُودٍ (أَنْ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ) أَيْ فِي النِّكَاحِ (قَالَ لِي تعال ياعلقمة) لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى بَقَاءِ الْخَلْوَةِ حِينَئِذٍ (فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ) أَيْ فِي الْخَلْوَةِ فَلَعَلَّ بن مَسْعُودٍ حَدَّثَ لِعَلْقَمَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ بعد المجيء(6/28)
عَلَى أَنَّهُ كَانَ تَتِمَّةً لِمَا ذَكَرَهُ فِي الخلوة
كذا في فتح الودود (ياأبا عبد الرحمن) هي كنية بن مَسْعُودٍ (جَارِيَةً بِكْرًا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْبِكْرِ وَتَفْضِيلِهَا عَلَى الثَّيِّبِ (يَرْجِعُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ مَا كُنْتَ تَعْهَدُ) مَعْنَاهُ يَرْجِعُ إِلَيْكُ مَا مَضَى مِنْ نَشَاطِكَ وَقُوَّةِ شَبَابِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنْعِشُ الْبَدَنَ (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ) بَالْهَمْزَةِ وَتَاءِ التَّأْنِيثِ مَمْدُودًا وَفِيهَا لُغَةٌ أُخْرَى بِغَيْرِ هَمْزٍ وَلَا مَدٍّ وَقَدْ تُهْمَزُ وَتُمَدُّ بِلَا هَاءٍ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْمُرَادُ بَالْبَاءَةِ النِّكَاحُ وَأَصْلُهُ الْمَوْضِعُ يَتَبَوَّأُهُ وَيَأْوِي إِلَيْهِ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بَالْبَاءَةِ هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيُّ وَهُوَ الْجِمَاعُ فَتَقْدِيرُهُ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْجِمَاعَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَنِهِ وَهِيَ مُؤْنَةُ النِّكَاحِ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الْجِمَاعَ لِعَجْزِهِ عَنْ مُؤَنِهِ فَعَلَيْهِ بَالصَّوْمِ لِيَدْفَعَ شَهْوَتَهُ وَيَقْطَعَ شَرَّ مَنِيِّهِ كَمَا يَقْطَعُهُ الْوِجَاءُ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بَالْبَاءَةِ مُؤْنَةُ النِّكَاحِ سُمِّيَتْ بَاسْمِ مَا يُلَازِمُهَا وَتَقْدِيرُهُ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ مُؤَنَ النِّكَاحِ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيَصُمْ قَالُوا وَالْعَاجِزُ عَنِ الْجِمَاعِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الصَّوْمِ لِدَفْعِ الشَّهْوَةِ فَوَجَبَ تَأْوِيلُ الْبَاءَةِ عَلَى الْمُؤَنِ
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَخْتَلِفَ الِاسْتِطَاعَتَانِ فَيَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ أَيْ بَلَغَ الْجِمَاعَ وَقَدَرَ عَلَيْهِ فَلْيَتَزَوَّجْ وَيَكُونَ قَوْلُهُ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَيْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّزْوِيجِ وَقِيلَ الْبَاءَةُ بَالْمَدِّ الْقُدْرَةُ عَلَى مُؤَنِ النِّكَاحِ وَبَالْقَصْرِ الْوَطْءُ
قَالَ الْحَافِظُ وَلَا مَانِعَ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ بِأَنْ يُرَادَ بَالْبَاءَةِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوَطْءِ وَمُؤَنِ التَّزْوِيجِ وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ بِلَفْظِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَزَوَّجَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ مَنْ كَانَ ذَا طَوْلٍ فَلْيَنْكِحْ وَمِثْلُهُ لِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ (فَإِنَّهُ) أَيِ التَّزَوُّجُ (أَغَضُّ لِلْبَصَرِ) أَيْ أَخْفَضُ وَأَدْفَعُ لِعَيْنِ الْمُتَزَوِّجِ عَنِ الْأَجْنَبِيَّةِ مِنْ غَضَّ طَرْفَهُ أَيْ خَفَضَهُ وَكَفَّهُ (وَأَحْصَنُ) أَيْ أَحْفَظُ لِلْفَرْجِ أَيْ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أَيْ مُؤَنَ الْبَاءَةِ (فَعَلَيْهِ بَالصَّوْمِ) قِيلَ هَذَا مِنْ إِغْرَاءِ الْغَائِبِ وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُغْرِي إِلَّا الشَّاهِدَ تَقُولُ عَلَيْكَ زَيْدًا وَلَا تَقُولُ عَلَيْهِ زَيْدًا
قَالَ الطِّيبِيُّ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الضَّمِيرُ لِلْغَائِبِ رَاجِعًا إِلَى لَفْظَةِ مَنْ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ في قوله يامعشر الشَّبَابِ وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ مِنْكُمْ جَازَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ
وَأَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ إِغْرَاءُ الْغَائِبِ بَلِ الْخِطَابُ للحاضرين(6/29)
الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ وقد استحسنه القرطبي والحافظ
والإ رشاد إِلَى الصَّوْمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجُوعِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ مُثِيرَاتِ الشَّهْوَةِ وَمُسْتَدْعَيَاتِ طُغْيَانِهَا (فَإِنَّهُ) أَيِ الصَّوْمُ (لَهُ) أَيْ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّزْوِيجِ لِفَقْرِهِ (وِجَاءٌ) بِكَسْرِ الواو والمد هو رض الخصيتين والمراد ها هنا أَنَّ الصَّوْمَ يَقْطَعُ الشَّهْوَةَ وَيَقْطَعُ شَرَّ الْمَنِيِّ كما يقلعه الْوِجَاءُ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بَالنِّكَاحِ لِمَنِ اسْتَطَاعَهُ وَتَاقَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ
وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ عِنْدنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً أَمْرُ نَدْبٍ لَا إِيجَابٍ فَلَا يَلْزَمُ التَّزَوُّجُ وَلَا التَّسَرِّي سَوَاءً خَافَ الْعَنَتَ أَمْ لَا
هَذَا مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ أَوْجَبَهُ إِلَّا دَاوُدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ
وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا يَلْزَمُهُ إِذَا خَافَ الْعَنَتَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يَتَسَرَّى قَالُوا وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُهُمْ خَوْفَ الْعَنَتِ
قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ التَّزْوِيجُ فَقَطْ وَلَا يَلْزَمُهُ الْوَطْءُ وَتَعَلَّقُوا بِظَاهِرِ الْأَمْرِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَعَ الْقُرْآنِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النساء وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَخَيَّرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ النِّكَاحِ وَالتَّسَرِّي
قَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ هَذَا حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَيَّرَهُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالتَّسَرِّي بَالِاتِّفَاقِ وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ وَاجِبًا لَمَا خَيَّرَهُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَبَيْنَ التَّسَرِّي لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ وَاجِبٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ حَقِيقَةِ الْوَاجِبِ وَأَنَّ تَارِكَهُ لَا يَكُونُ آثما انتهى
قال المنذري وأخرجه البخاري
(باب ما يؤمر به إلخ)
[2047] (تُنْكَحُ النِّسَاءُ) بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْكَافِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَالنِّسَاءُ رُفِعَ بِهِ (لِأَرْبَعٍ) أَيْ لَخَصَّهَا لَهَا الْأَرْبَعُ فِي غَالِبِ الْعَادَةِ (لِحَسَبِهَا) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ شَرَفِهَا
وَالْحَسَبُ فِي الْأَصْلِ الشَّرَفُ بَالْآبَاءِ وَبَالْأَقَارِبِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِسَابِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَفَاخَرُوا عَدُّوا مَنَاقِبَهُمْ وَمَآثِرَ آبَائِهِمْ وَقَوْمِهِمْ وَحَسَبُوهَا فَيُحْكَمُ لِمَنْ زَادَ عَدَدُهُ عَلَى غَيْرِهِ
وَقِيلَ المراد بالحسب ها هنا الْأَفْعَالُ الْحَسَنَةُ
وَقِيلَ الْمَالُ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِذِكْرِهِ قَبْلَهُ
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الشَّرِيفَ النَّسِيبَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ نَسِيبَةً إِلَّا إِنْ(6/30)
تَعَارَضَ نَسِيبَةٌ غَيْرُ دَيِّنَةٍ وَغَيْرُ نَسِيبَةٍ دَيِّنَةٌ فَتُقَدَّمُ ذَاتُ الدِّينِ وَهَكَذَا فِي كُلِّ الصِّفَاتِ
وأما ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ إِنَّ أَحْسَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا الَّذِي يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ الْمَالُ فَقَالَ الْحَافِظُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ حَسَبُ مَنْ لَا حَسَبَ لَهُ فَيَقُومُ النَّسَبُ الشَّرِيفُ لِصَاحِبِهِ مَقَامَ الْمَالِ لِمَنْ لَا نَسَبَ لَهُ وَمِنْهُ حَدِيثُ سَمُرَةَ رَفَعَهُ الْحَسَبُ الْمَالُ وَالْكَرَمُ وَالتَّقْوَى أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ هُوَ وَالْحَاكِمُ قَالَهُ فِي النَّيْلِ (وَلِجَمَالِهَا) يُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ تَزَوُّجِ الْجَمِيلَةِ إِلَّا إِنْ تَعَارَضَ الْجَمِيلَةُ الغير دينة والغير جميلة الدَّيِّنَةُ
نَعَمْ لَوْ تَسَاوَتَا فِي الدِّينِ فَالْجَمِيلَةُ أَوْلَى وَيَلْتَحِقُ بَالْحَسَنَةِ الذَّاتُ الْحَسَنَةِ الصِّفَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةَ الصَّدَاقِ (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ) أَيْ فُزْ بِنِكَاحِهَا
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّائِقَ بِذِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ مَطْمَحَ نَظَرِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَا سِيَّمَا فِيمَا تَطُولُ صُحْبَتُهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْصِيلِ صَاحِبَةِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْبُغْيَةِ (تَرِبَتْ يَدَاكَ) يُقَالُ تَرِبَ الرَّجُلُ أَيِ افْتَقَرَ كَأَنَّهُ قَالَ تُلْصَقُ بَالتُّرَابِ وَلَا يُرَادُ به ها هنا الدُّعَاءُ بَلِ الْحَثَّ عَلَى الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ فِي طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
(بَاب فِي تَزْوِيجِ الْأَبْكَارِ)
[2048] (قُلْتُ نَعَمْ) أَيْ تَزَوَّجْتُ (بِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ أَيْ أَهِيَ بِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَالنَّصْبِ فِيهِمَا أَيْ أَتَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا (فَقُلْتُ ثَيِّبًا) أَيْ تَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَالرَّفْعِ أَيْ هِيَ ثَيِّبٌ (أَفَلَا بِكْرًا) أَيْ فَهَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا (تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ) تَعْلِيلُ التَّزْوِيجِ الْبِكْرَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأُلْفَةِ التَّامَّةِ فَإِنَّ الثَّيِّبَ قَدْ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةَ الْقَلْبِ بَالزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَكُنْ مَحَبَّتُهَا كَامِلَةً بخلاف البكر
وذكر بن سَعْدٍ أَنَّ اسْمَ امْرَأَةِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ سَهْلَةُ بِنْتُ مَسْعُودِ بْنِ أَوْسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ الْأَوْسِيَّةُ
قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى استحباب نكاح الأبكار إلا لمقتضى لِنِكَاحِ الثَّيِّبِ كَمَا وَقَعَ لِجَابِرٍ فَإِنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ
هَكَذَا في(6/31)
الْبُخَارِيِّ فِي النَّفَقَاتِ
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ذَكَرَهَا فِي الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحِهِ كُنَّ لِي تِسْعُ أَخَوَاتٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ إِلَيْهِنَّ جَارِيَةً خَرْقَاءَ مِثْلَهُنَّ وَلَكِنِ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُمَشِّطُهُنَّ قَالَ أَصَبْتَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جابر وأخرجه بن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ جَابِرٍ
(بَاب النَّهْيِ عَنْ تَزْوِيجِ مَنْ لَمْ يَلِدْ مِنْ النِّسَاءِ)
[2049] هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْبَابُ ها هنا فِي نُسْخَةٍ وَسَائِرُ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ عِنْدِي خَالِيَةٌ عنه وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَابُ بَعْدَ حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ
(لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ) أَيْ لَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا عَمَّنْ يَقْصِدُهَا بِفَاحِشَةٍ أَوْ لَا تَمْنَعُ أَحَدًا طَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (غَرِّبْهَا) بَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَمْرٌ مِنَ التَّغْرِيبِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ أَبْعِدْهَا يُرِيدُ الطَّلَاقَ
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ بِلَفْظِ طَلِّقْهَا (قَالَ) أَيِ الرَّجُلُ (أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي) أَيْ تَتُوقَ إِلَيْهَا نَفْسِي (قَالَ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَأَمْسِكْهَا خَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ طَلَاقَهَا أَنْ تَتُوقَ نَفْسُهُ إِلَيْهَا فَيَقَعَ فِي الْحَرَامِ
قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ فَقِيلَ مَعْنَاهُ الْفُجُورُ وَأَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ يَطْلُبُ مِنْهَا الْفَاحِشَةَ وبهذا قال أبو عبيد والخلال والنسائي وبن الْأَعْرَابِيِّ وَالْخَطَّابِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَهُوَ مُقْتَضَى اسْتِدْلَالِ الرَّافِعِيِّ بِهِ هُنَا
وَقِيلَ مَعْنَاهُ التَّبْذِيرُ وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ أَحَدًا طَلَبَ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ وَالْأَصْمَعِيُّ وَمُحَمَّدُ بن ناصر ونقله عن علماء الإسلام وبن الْجَوْزِيِّ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
وَقَالَ بَعْضُ حُذَّاقِ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَمْسِكْهَا مَعْنَاهُ أَمْسِكْهَا عن الزنى أَوْ عَنِ التَّبْذِيرِ إِمَّا بِمُرَاقَبَتِهَا أَوْ بَالِاحْتِفَاظِ عَلَى الْمَالِ أَوْ بِكَثْرَةِ جِمَاعِهَا
وَرَجَّحَ الْقَاضِي أبو الطيب الأول بأن السخا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِقَوْلِهِ طَلِّقْهَا ولأن التبذيران كَانَ مِنْ مَالِهَا فَلَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِهِ فَعَلَيْهِ حِفْظُهُ وَلَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِطَلَاقِهَا
قِيلَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ أَنَّهَا لا(6/32)
تَمْتَنِعُ مِمَّنْ يَمُدُّ يَدَهُ لِيَتَلَذَّذَ بِلَمْسِهَا وَلَوْ كَانَ كَنَّى بِهِ عَنِ الْجِمَاعِ لَعُدَّ قَاذِفًا أَوْ أَنَّ زَوْجَهَا فَهِمَ مِنْ حَالِهَا أَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِمَّنْ أَرَادَ مِنْهَا الْفَاحِشَةَ لَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهَا انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَمِيرُ فِي سُبُلِ السَّلَامِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ بَلْ لَا يَصِحُّ لِلْآيَةِ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْمُرُ الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ دَيُّوثًا فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ
وَالثَّانِي بَعِيدٌ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ إِنْ كَانَ بِمَالِهَا فَمَنْعُهَا مُمْكِنٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ فَكَذَلِكَ وَلَا يُوجِبُ أَمْرُهُ بِطَلَاقِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ لَا يَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ كِنَايَةً عَنِ الْجُودِ فَالْأَقْرَبُ الْمُرَادُ أَنَّهَا سَهْلَةُ الْأَخْلَاقِ لَيْسَ فِيهَا نُفُورٌ وَحِشْمَةٌ عَنِ الْأَجَانِبِ لَا أَنَّهَا تَأْتِي الْفَاحِشَةَ
وَكَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مَعَ الْبُعْدِ مِنَ الْفَاحِشَةِ
وَلَوْ أَرَادَ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا عَنِ الْوَقَاعِ مِنَ الْأَجَانِبِ لَكَانَ قَاذِفًا لَهَا انْتَهَى
قُلْتُ الْإِرَادَةُ بِقَوْلِهِ لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ أَنَّهَا سَهْلَةُ الْأَخْلَاقِ لَيْسَ فِيهَا نُفُورٌ وَحِشْمَةٌ عَنِ الْأَجَانِبِ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَالظَّاهِرُ عِنْدِي مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ بِقَوْلِهِ قِيلَ وَالظَّاهِرُ إِلَخْ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِانْفِرَادِ
وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ وَاقِدٍ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ وَأَنَّ الْفَضْلَ بْنَ مُوسَى السِّينَانِيَّ تَفَرَّدَ بِهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ الليثي عن بن عَبَّاسٍ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ فِي سُنَنِهِ تَزْوِيجَ الزَّانِيَةِ وَقَالَ هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرْسَلَ فِيهِ أَوْلَى بَالصَّوَابِ
وقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ تُعْطِي مِنْ مَالِهِ
قُلْتُ فَإِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ يَقُولُ مِنَ الْفُجُورِ فَقَالَ لَيْسَ هُوَ عِنْدنَا إِلَّا أَنَّهَا تُعْطِي مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِإِمْسَاكِهِ وَهِيَ تَفْجُرُ
وَسُئِلَ عنه بن الْأَعْرَابِيِّ فَقَالَ مِنَ الْفُجُورِ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ الريبة وأنها مطاوعة لمن أرادها لا ترديده انْتَهَى
[2050] (وَأَنَّهَا لَا تَلِدُ) كَأَنَّهُ عَلِمَ بِذَلِكَ بِأَنَّهَا لَا تَحِيضُ (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ) أَيِ الَّتِي تُحِبُّ زَوْجَهَا (الْوَلُودَ) أَيِ الَّتِي تَكْثُرُ وِلَادَتُهَا
وَقَيَّدَ بِهَذَيْنِ لِأَنَّ الْوَلُودَ إِذَا لَمْ تَكُنْ وَدُودًا لَمْ يَرْغَبِ الزَّوْجُ فِيهَا وَالْوَدُودَ إِذَا لَمْ تَكُنْ وَلُودًا لَمْ يَحْصُلِ الْمَطْلُوبُ وَهُوَ تَكْثِيرُ الْأُمَّةِ بِكَثْرَةِ التَّوَالُدِ وَيُعْرَفُ هَذَانِ(6/33)
الْوَصْفَانِ فِي الْأَبْكَارِ مِنْ أَقَارِبِهِنَّ إِذِ الْغَالِبُ سِرَايَةُ طِبَاعِ الْأَقَارِبِ بَعْضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ وَيُحْتَمَلُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى تَزَوَّجُوا اثْبُتُوا عَلَى زَوَاجِهَا وَبَقَاءِ نِكَاحِهَا إِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ قَالَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قُلْتُ هَذَا الِاحْتِمَالُ يُزَاحِمُهُ سَبَبُ الْحَدِيثِ (فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ) أَيْ مُفَاخِرٌ بِسَبَبِكُمْ سَائِرَ الْأُمَمِ لِكَثْرَةِ أَتْبَاعِي
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
(بَاب فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانية)
[2051] (أَنَّ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَبَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ (الْغَنَوِيَّ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا نُونٌ مَفْتُوحَةٌ نِسْبَةٌ إِلَى غَنِيِّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ غَنِيُّ بْنُ يَصْعُرَ وَيُقَالُ أَعْصَرُ بْنُ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ غَيْلَانَ
قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ (كَانَ يَحْمِلُ الْأَسَارَى بِمَكَّةَ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ كَانَ يَحْمِلُ الْأَسَارَى مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ كَانَ رَجُلًا يَحْمِلُ الْأَسْرَى مِنْ مَكَّةَ وَيَأْتِي بِهِمُ الْمَدِينَةَ
وَالْأَسَارَى وَالْأَسْرَى كِلَاهُمَا جَمْعُ أَسِيرٍ (وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ) أَيْ فَاجِرَةٌ وَجَمْعُهَا الْبَغَايَا (وَكَانَتْ) أَيْ عَنَاقُ (صَدِيقَتُهُ) أَيْ حَبِيبَتُهُ (قَالَ) أَيْ مَرْثَدُ (وَقَالَ لَا تَنْكِحْهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَنْ ظَهَرَ منها الزنى وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ لِأَنَّ فِي آخِرِهَا وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فإنه صريح في التحريم
قال بن الْقَيِّمِ وَأَمَّا نِكَاحُ الزَّانِيَةِ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ بتحريمه(6/34)
فِي سُورَةِ النُّورِ وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ نَكَحَهَا فَهُوَ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يلتزم حكمه تعالى ويعتقد وجوبه عليه أولا فَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَإِنِ الْتَزَمَهُ وَاعْتَقَدَ وُجُوبَهُ وَخَالَفَهُ فَهُوَ زَانٍ ثُمَّ صَرَّحَ بتحريمه فقال وحرم ذلك على المؤمنين وَأَمَّا جَعْلُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ وَحُرِّمَ ذَلِكَ إلى الزنى فَضَعِيفٌ جِدًّا إِذْ يَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ أَوْ مُشْرِكَةٍ وَالزَّانِيَةُ لَا يَزْنِي بِهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَهَذَا مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُصَانَ عَنْهُ الْقُرْآنُ
ولا يعارض ذلك حديث بن عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّهُ فِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى نِكَاحِ الزَّوْجَةِ الزَّانِيَةِ وَالْآيَةُ فِي ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى نِكَاحِ مَنْ زَنَتْ وَهِيَ تَحْتَهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَالزَّانِيَةِ
وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ
غَيْرُ الزنى أَيْضًا وَعَلَى هَذَا فَلَا مُعَارَضَةَ أَصْلًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْآيَةِ الْقَوْلُ فِيهَا كَمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ
وَقَالَ غَيْرُهُ النَّاسِخُ لَهَا وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى منكم فَدَخَلَتِ الزَّانِيَةُ فِي أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ مَنْ زَنَى بَامْرَأَةٍ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
وَالثَّانِي أَنَّ النكاح ها هنا الْوَطْءُ وَالْمُرَادُ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يُطَاوِعُهُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُشَارِكُهُ فِي مُرَادِهِ إِلَّا زَانِيَةٌ مِثْلُهُ أو مشركة لا تحرم الزنى
وَتَمَامُ الْفَائِدَةِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَحُرِّمَ ذَلِكَ على المؤمنين يَعْنِي الَّذِينَ امْتَثَلُوا الْأَوَامِرَ وَاجْتَنَبُوا النَّوَاهِيَ
وَالثَّالِثُ أَنَّ الزَّانِيَ الْمَجْلُودَ لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً مَجْلُودَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَكَذَا الزَّانِيَةُ
وَالرَّابِعُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي نِسْوَةٍ كَانَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ مِمَّا كَسَبَتْهُ من الزنى وَاحْتُجَّ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ
وَالْخَامِسُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ عَلَى الْعَفِيفِ وَالْعَفِيفِ عَلَى الزَّانِيَةِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
[2052] (لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ) قَالَ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَمِيرُ فِي سُبُلِ السَّلَامِ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُزَوَّجَ بِمَنْ ظَهَرَ زِنَاهُ وَلَعَلَّ الْوَصْفَ بَالْمَجْلُودِ بِنَاءٌ عَلَى الْأَغْلَبِ في حق من ظهر منه الزنى
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ(6/35)
بَالزَّانِيَةِ الَّتِي ظَهَرَ زِنَاؤُهَا
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ قوله تعالى وحرم ذلك على المؤمنين إِلَّا أَنَّهُ حَمَلَ الْحَدِيثَ وَالْآيَةَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى لَا يَنْكِحُ لَا يَرْغَبُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلَّا فِي مِثْلِهِ وَالزَّانِيَةُ لَا تَرْغَبُ فِي نِكَاحِ غَيْرِ الْعَاهِرِ هَكَذَا تَأَوَّلُوهُمَا
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَالْآيَةُ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لَا الْإِخْبَارَ عَنْ مُجَرَّدِ الرَّغْبَةِ وَأَنَّهُ يَحْرُمُ نِكَاحُ الزَّانِي الْعَفِيفَةَ وَالْعَفِيفِ الزَّانِيَةَ وَلَا أَصْرَحَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ وَحُرِّمَ ذَلِكَ على المؤمنين أَيْ كَامِلُ الْإِيمَانِ الَّذِينَ هُمْ لَيْسُوا بِزُنَاةٍ وَإِلَّا فَإِنَّ الزَّانِيَ لَا يَخْرُجُ عَنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا كَمَا نُسِخَتِ الْآيَةُ فِي قَوْلِ بن الْمُسَيِّبِ انْتَهَى (وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ) أَيْ عَبْدُ الْوَارِثِ (أَخْبَرَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ) أَيْ بِلَفْظِ التَّحْدِيثِ وَأَمَّا مُسَدَّدٌ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ بِلَفْظِ (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ) أَيْ بِلَفْظِ عَنْ وَأَمَّا مُسَدَّدٌ فَبِلَفْظِ التَّحْدِيثِ
(بَاب فِي الرَّجُلِ يُعْتِقُ أَمَتَهُ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا)
[2053] (مَنْ أَعْتَقَ جَارِيَتَهُ وَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ) أَيْ أَجْرُ الْعِتْقِ وَأَجْرُ التَّزْوِيجِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
وَأَبُو مُوسَى هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيُّ
[2054] (أَعْتَقَ صَفِيَّةَ) بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ (وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَ الْعِتْقَ صَدَاقَ الْمُعْتَقَةِ وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِهِ مِنَ الْقُدَمَاءِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَطَاوُسٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ قَالُوا إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا صَحَّ الْعَقْدُ وَالْعِتْقُ وَالْمَهْرُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَأَجَابَ الْبَاقُونَ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ ذَكَرَهَا الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مِنْهَا أَنَّهُ أَعْتَقَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا وَكَانَتْ مَعْلُومَةً فَتَزَوَّجَهَا بِهَا وَلَكِنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَهْرَ نَفْسَ الْعِتْقِ لَا قِيمَةَ الْمُعْتَقَةِ وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَ الْعِتْقِ الْمَهْرَ وَلَكِنَّهُ مِنْ خصائصه
ويجاب عنه بأن(6/36)
دعوى الاختصاص تَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ وَمِنْهَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَعْتَقَهَا بِشَرْطِ أَنْ يَنْكِحَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ فَلَزِمَهَا الْوَفَاءُ بِذَلِكَ وَيَكُونَ خَاصًّا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا تَعَسُّفٌ لَا مَلْجَأَ إِلَيْهِ
وَبَالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ جَوَابٌ مِنْهَا سَالِمًا مِنْ خَدْشِهِ
وَالْحَامِلُ لِمَنْ خَالَفَ الْحَدِيثَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الْمَخْدُوشَةِ ظَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِلْقِيَاسِ قَالُوا لِأَنَّ الْعَقْدَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ قَبْلَ عِتْقِهَا وَهُوَ مُحَالٌ لِتَنَاقُضِ حُكْمِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ أَوْ بَعْدَهُ وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لَهَا وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِذَا وَقَعَ مِنْهَا الِامْتِنَاعُ لَزِمَتْهَا السِّعَايَةُ بِقِيمَتِهَا وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ
وَالْحَقُّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ هُوَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنْ صِحَّةِ جَعْلِ الْعِتْقِ صَدَاقَ الْمُعْتَقَةِ وَلَيْسَ بِيَدِ الْمَانِعِ بُرْهَانٌ
وَقَدْ أَطَالَ الْبَحْثُ في هذه المسألة العلامة بن الْقَيِّمِ فِي الْهُدَى بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ إِنْ شِئْتَ الِاطِّلَاعَ فَارْجِعْ إِلَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَصَفِيَّةُ هِيَ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَلَا مَهْرَ لَهَا غَيْرَ الْعِتْقِ وَقَالَ آخَرُونَ كَانَ ذَلِكَ خَاصًّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَبَاحَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ بَالْخِيَارِ إِذَا أَعْتَقَهَا وَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنْ تَزْوِيجِهِ فَلَهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا
وَقَالَ بَعْضُهُمْ جُعِلَ عِتْقُهَا صَدَاقُهَا هُوَ قَوْلُ أَنَسٍ لَمْ يُسْنِدْهُ وَلَعَلَّهُ تَأْوِيلٌ مِنْهُ إِذَا لَمْ يُسَمِّ لَهَا صَدَاقًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
انْتَهَى
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الطبري من الشافعية وبن الْمُرَابِطِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمَا إِنَّهُ قَوْلُ أَنَسٍ قَالَهُ ظَنًّا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَرْفَعْهُ وَرُبَّمَا تَأَيَّدَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمَيْمَةَ وَيُقَالُ أَمَةُ اللَّهِ بِنْتُ رُزَيْنَةَ عَنْ أُمِّهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَخَطَبَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَأَمْهَرَهَا رُزَيْنَةَ وَكَانَ أَتَى بِهَا مَسْبِيَّةً مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ وَهَذَا لَا يَقُومُ حُجَّةً لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ وَيُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ صَفِيَّةَ نَفْسِهَا قَالَتْ أَعْتَقَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ عِتْقِي صَدَاقِي
وَهَذَا مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ أَنَسًا قَالَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا ظَنَّهُ انْتَهَى
(بَاب يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ)
[2055] (يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَيُكْسَرُ وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ الْكَسْرَ مَعَ الْهَاءِ وَفِعْلُهُ فِي(6/37)
الْفَصِيحِ مِنْ حَدِّ عَلِمَ يَعْلَمُ وَأَهْلُ نَجْدٍ قَالُوهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَعَلَيْهِ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَذُمُّ عُلَمَاءُ زَمَانِهِ وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضَعُونَهَا وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَصُّ اللَّبَنِ مِنَ الثَّدْيِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لَئِيمُ مَرَاضِعَ أَيْ يَرْضَعُ غَنَمًا وَلَا يَحْلُبُهَا مَخَافَةَ أَنْ يُسْمَعَ صَوْتَ حَلْبِهِ فَيُطْلَبَ مِنْهُ اللَّبَنَ وَفِي الشَّرْعِ مَصُّ الرَّضِيعِ اللَّبَنَ مِنْ ثَدْيِ الْآدَمِيَّةِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ (مَا يَحْرُمُ مِنَ الْوِلَادَةِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ أَيِ النَّسَبِ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بَيْنَ الرَّضِيعِ وَأَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا هُوَ وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا فُرُوعُهُ مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ وَلَا يَسْرِي التَّحْرِيمُ مِنَ الرَّضِيعِ إِلَى آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ فَلِأَبِيهِ أَنْ يَنْكِحَ الْمُرْضِعَةَ إِذْ لَا مَنْعَ مِنْ نِكَاحِ أُمِّ الِابْنِ وَأَنْ يَنْكِحَ ابْنَتَهَا وَكَمَا صَارَ الرضيع بن الْمُرْضِعَةِ تَصِيرُ هِيَ أُمَّهُ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ هِيَ وأصولها من النسب والرضاع وإخوتها وَأَخَوَاتُهَا مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ فَهُمْ أَخْوَالُهُ وَخَالَاتُهُ وَإِنْ ثَارَ اللَّبَنُ مِنْ حَمْلٍ مِنْ زَوْجٍ صَارَ الرَّضِيعُ ابْنًا لِلزَّوْجِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الرَّضِيعُ وَلَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ مِنَ الرَّضِيعِ بَالنِّسْبَةِ إِلَى صَاحِبِ اللَّبَنِ إِلَى أُصُولِهِ وَحَوَاشِيهِ فَلِأُمِّ الرَّضِيعِ أَنْ تَنْكِحَ صَاحِبَ اللَّبَنِ وَصَارَ الزَّوْجُ أَبَاهُ فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّضِيعِ هُوَ وَأُصُولُهُ وَفُصُولُهُ مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ فَهُمْ أَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ وَيَحْرُمُ إِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ مِنَ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ إِذْ هُمْ أَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ
قَالَهُ الْعَلَّامَةُ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَالَ الْعُلَمَاءُ يُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ يَحْرُمْنَ فِي النَّسَبِ مُطْلَقًا وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ لَا يَحْرُمْنَ
الْأُولَى أُمُّ الْأَخِ فِي النَّسَبِ حَرَامٌ لِأَنَّهَا إِمَّا أُمٌّ وَإِمَّا زَوْجُ أَبٍ وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً فَتُرْضِعُ الْأَخَ فَلَا تَحْرُمُ عَلَى أَخِيهِ
الثَّانِيَةُ أُمُّ الْحَفِيدِ حَرَامٌ فِي النسب لأنها إما بنت أو زوج بن وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً فَتُرْضِعُ الْحَفِيدَ فَلَا تَحْرُمُ عَلَى جَدِّهِ
الثَّالِثَةُ جَدَّةُ الْوَلَدِ فِي النَّسَبِ حَرَامٌ لِأَنَّهَا إِمَّا أُمٌّ أَوْ أُمُّ زَوْجَةٍ وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً أَرْضَعَتِ الْوَلَدَ فَيَجُوزُ لِوَالِدِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
الرَّابِعَةُ أُخْتُ الْوَلَدِ حَرَامٌ فِي النَّسَبِ لِأَنَّهَا بِنْتٌ أَوْ رَبِيبَةٌ وَفِي الرَّضَاعِ قَدْ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً فَتُرْضِعُ الْوَلَدَ فَلَا تَحْرُمُ عَلَى الْوَالِدِ
وَهَذِهِ الصُّوَرُ الْأَرْبَعُ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا جَمَاعَةٌ وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْجُمْهُورُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
وَفِي التَّحْقِيقِ لَا يُسْتَثْنَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَحْرُمْنَ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ وَإِنَّمَا حَرُمْنَ مِنْ جِهَةِ الْمُصَاهَرَةِ
وَاسْتَدْرَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أُمَّ الْعَمِّ وَأُمَّ العمة وأم(6/38)
الْخَالِ وَأُمَّ الْخَالَةِ فَإِنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ فِي النَّسَبِ لَا فِي الرَّضَاعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ النِّكَاحُ وَيَحِلُّ النَّظَرُ وَالْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ لَكِنْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأُمُورِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَتَوَارَثَانِ وَلَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفَقَةُ الْآخَرِ وَلَا يَعْتِقُ بَالْمِلْكِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهَا الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ فَهُمَا كالأجنبيين فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِمَعْنَاهُ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ
[2056] (أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ) بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَلْ لَكَ فِي أُخْتِي) أَيْ هَلْ لَكَ رَغْبَةٌ فِي تَزْوِيجِ أُخْتِي وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنْكِحْ أُخْتِي عَزَّةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ
وَعِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ هَلْ لَكَ فِي حَمْنَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ
وَعِنْدَ أَبِي مُوسَى فِي الذَّيْلِ دُرَّةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ
وَجَزَمَ الْمُنْذِرِيُّ بِأَنَّ اسْمَهَا حَمْنَةَ كَمَا فِي الطَّبَرَانِيِّ
وَقَالَ عِيَاضٌ لَا نَعْلَمُ لِعَزَّةَ ذِكْرًا فِي بَنَاتِ أَبِي سُفْيَانَ إِلَّا فِي رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْهَرُ فِيهَا عَزَّةُ (قَالَ) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَفْعَلُ مَاذَا) فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةِ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَهُ مِنَ النحاة (أختك) بالنصب أي أنكح أختك (أو تحبين ذلك) هُوَ اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ مِنْ كَوْنِهَا تَطْلُبُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا مَعَ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ مِنَ الْغَيْرَةِ وَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَ الْهَمْزَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَعَلَى مُقَدَّرٍ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَيْ أَنْكِحُهَا وَتُحِبِّينَ ذَاكَ (لَسْتُ بِمُخْلِيَةٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَخْلَى يُخْلِي أَيْ لَسْتُ بِمُنْفَرِدَةٍ بِكَ وَلَا خَالِيَةً مِنْ ضَرَّةٍ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ بِوَزْنِ فَاعِلِ الْإِخْلَاءِ مُتَعَدِّيًا وَلَازِمًا مِنْ أَخْلَيْتُ بِمَعْنَى خَلَوْتُ مِنَ الضَّرَّةِ أَيْ لَسْتُ بِمُتَفَرِّغَةٍ وَلَا خَالِيَةً مِنْ ضَرَّةٍ
قَالَهُ الْحَافِظُ
وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ أَيْ لَسْتُ مَتْرُوكَةً لِدَوَامِ الْخَلْوَةِ (وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ شَارَكَنِي بَالْأَلِفِ (فِي خَيْرٍ أُخْتِي) أَحَبُّ مُبْتَدَأٌ وَأُخْتِي خَبَرُهُ وَهُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مُضَافٌ إِلَى مَنْ وَمَنْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ أَيْ وَأَحَبُّ شَخْصٍ شَارَكَنِي فَجُمْلَةُ شَارَكَنِي فِي مَحَلِّ جَرٍّ صِفَتُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَالْجُمْلَةُ صِلَتُهَا وَالتَّقْدِيرُ أَحَبُّ الْمُشَارِكِينَ لِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي
قِيلَ الْمُرَادُ بَالْخَيْرِ صُحْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ السَّاتِرَةُ لِمَا لَعَلَّهُ يعرض من(6/39)
الْغَيْرَةِ الَّتِي جَرَتْ بِهَا الْعَادَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَأَحَبُّ مَنْ شَرِكَنِي فِيكَ أُخْتِي
قَالَ الْحَافِظُ فَعُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ بَالْخَيْرِ ذَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي) لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ حَرَامٌ (لَقَدْ أُخْبِرْتُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ
قَالَ الْحَافِظُ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمٍ مَنْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَلَعَلَّهُ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْخَبَرَ لَا أَصْلَ لَهُ وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ضَعْفِ الْمَرَاسِيلِ (أَنَّكَ تَخْطُبُ دُرَّةَ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (أَوْ ذُرَّةَ) بَالْمُعْجَمَةِ (شَكَّ زُهَيْرٌ) الرَّاوِي عَنْ هِشَامٍ وَفِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَعَ اسْمُهَا دُرَّةُ بِغَيْرِ الشَّكِّ (بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ) مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ تَعْنِينَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِثْبَاتٍ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ أَوِ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ فَيَكُونُ تَحْرِيمُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهَا فَمَنْ وُجِهٍ وَاحِدٍ
وَكَأَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ
وَإِمَّا بَعْدَ ذَلِكَ وَظَنَّتْ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا قَالَ الْكَرْمَانِيُّ
قَالَ وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَالْأَوَّلُ يَدْفَعُهُ سِيَاقُ الْحَدِيثِ (لَوْ لَمْ تَكُنْ) أَيْ دُرَّةُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ (رَبِيبَتِي) أَيْ بِنْتُ زَوْجَتِي مُشْتَقَّةٌ مِنَ الرَّبِّ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ لِأَنَّ زَوْجَ الْأُمِّ يَرُبُّهَا وَيَقُومُ بِأَمْرِهَا وَقِيلَ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ (فِي حَجْرِي) رَاعَى فِيهِ لَفْظَ الْآيَةِ وَإِلَّا فَلَا مَفْهُومَ لَهُ
كَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ (ما حلت لي) هذا جواب لو يعي لَوْ كَانَ بِهَا مَانِعٌ وَاحِدٌ لَكَفَى فِي التَّحْرِيمِ فَكَيْفَ وَبِهَا مَانِعَانِ (أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا) أَيْ وَالِدَ دُرَّةَ أَبَا سَلَمَةَ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ أَوْ مَفْعُولٌ مَعَهُ (ثُوَيْبَةُ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَبَعْدَ التَّحْتِيَّةِ السَّاكِنَةِ مُوَحَّدَةٌ كَانَتْ مَوْلَاةً لِأَبِي لَهَبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَلَا تَعْرِضْنَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ نُونٌ عَلَى الْخِطَابِ لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ وَبِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ خِطَابٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ
قَالَ الْحَافِظُ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ جَاءَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَتِ الْقِصَّةُ لِاثْنَيْنِ وَهُمَا أُمُّ حَبِيبَةَ وَأُمُّ سَلَمَةَ رَدْعًا وَزَجْرًا أَنْ تَعُودَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا أَوْ غَيْرُهُمَا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَهَذَا كَمَا لَوْ رَأَى رَجُلٌ امْرَأَةً تُكَلِّمُ رَجُلًا(6/40)
فَقَالَ لَهَا أَتُكَلِّمِينَ الرِّجَالَ فَإِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ شَائِعٌ
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وبن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(بَاب فِي لَبَنِ الْفَحْلِ)
[2057] بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الرَّجُلُ أَيْ هَلْ يَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّضِيعِ وَيَصِيرُ وَلَدًا لَهُ أَمْ لَا وَنِسْبَةُ اللَّبَنِ إِلَيْهِ مَجَازٌ لِكَوْنِهِ سَبَبًا فِيهِ
(دَخَلَ عَلَيَّ أَفْلَحُ بْنُ أَبِي الْقُعَيْسِ) هَكَذَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ بِلَفْظِ أَفْلَحَ بْنِ أَبِي الْقُعَيْسِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ بِلَفْظِ أَفْلَحَ بْنِ قُعَيْسٍ وَفِي أُخْرَى لَهُ بِلَفْظِ عَمِّي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَبُو الْجَعْدِ وَفِي رِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَهُ أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ
قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْحُفَّاظُ الصَّوَابُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى وَهِيَ الَّتِي كَرَّرَهَا مُسْلِمٌ فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ فِي كُتُبُ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهَا أَنَّ عَمَّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ هُوَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ وَكُنْيَةُ أَفْلَحَ أَبُو الْجَعْدِ انْتَهَى (فَاسْتَتَرْتُ) أَيِ احْتَجَبْتُ (إِنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ وَلَمْ يُرْضِعنِي الرَّجُلُ) أَيْ حَصَلَتْ لِي الرَّضَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ فَكَأَنَّهَا ظَنَّتْ أَنَّ الرَّضَاعَةَ لَا تَسْرِي إِلَى الرِّجَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بَالْحَالِ (فَلْيَلِجْ عَلَيْكِ) مِنَ الْوُلُوجِ أَيْ فَلْيَدْخُلْ
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ يُحَرِّمُ حَتَّى تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ فِي جِهَةِ صَاحِبِ اللَّبَنِ كَمَا تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْبَتَ عُمُومَةَ الرَّضَاعِ وَأَلْحَقَهَا بَالنَّسَبِ فَثَبَتَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّضِيعِ وَيَصِيرُ وَلَدًا لَهُ وَأَوْلَادُهُ إِخْوَةُ الرَّضِيعِ وَأَخَوَاتُهُ وَيَكُونُ إِخْوَتُهُ أَعْمَامُ الرَّضِيعِ وَأَخَوَاتُهُ عَمَّاتُهُ وَيَكُونُ أَوْلَادُ الرَّضِيعِ أَوْلَادُهُ
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ كَالْأَوْزَاعِيِّ فِي أَهْلِ الشَّامِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي أهل الكوفة وبن جُرَيْجٍ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَمَالِكٍ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَتْبَاعِهِمْ وَحُجَّتُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بن عمر وبن الزُّبَيْرِ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَعَائِشَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التابعين وبن(6/41)
الْمُنْذِرِ وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ فَقَالُوا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّضَاعِ لِلرَّجُلِ لِأَنَّ الرَّضَاعَ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي اللَّبَنُ مِنْهَا
قَالُوا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْعَمَّةَ وَلَا الْبِنْتَ كَمَا ذَكَرَهُمَا فِي النَّسَبِ وَأُجِيبُوا بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بَالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عداه ولاسيما وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ بِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَنْفَصِلُ مِنَ الرَّجُلِ وَإِنَّمَا يَنْفَصِلُ مِنَ الْمَرْأَةِ فَكَيْفَ تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ إِلَى الرَّجُلِ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ
وَأَيْضًا فَإِنَّ سَبَبَ اللَّبَنِ هُوَ مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ مَعًا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا كَالْجَدِّ لَمَّا كَانَ سَبَبُ الْوَلَدِ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ وَلَدِ الْوَلَدِ به لتعلقه بولده وإلى هذا أشار بن عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اللِّقَاحُ وَاحِدٌ
أخرجه بن أَبِي شَيْبَةَ
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَطْءَ يُدِرُّ اللَّبَنَ فَلِلْفَحْلِ فِيهِ نَصِيبٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
وَأَفْلَحُ بَالْفَاءِ وَالْقُعَيْسُ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَبَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْفَحْلِ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّحْرِيمُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَرْأَةِ لَا مِنْ نَاحِيَةِ الرَّجُلِ رُوِيَ هَذَا عن عائشة وبن عمر وبن الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظاهر وبن بِنْتِ الشَّافِعِيِّ وَقِيلَ إِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ عَائِشَةَ وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ لِأَنَّهَا الَّتِي رَوَتِ الْحَدِيثَ فِيهِ
قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ نَشْرُ الْحُرْمَةِ إِلَى الْفَحْلِ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ اللَّبَنَ لَيْسَ يَنْفَصِلُ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَنْفَصِلُ مِنْهَا وَالْمُتَّبَعُ الْحَدِيثُ انْتَهَى
(بَاب فِي رِضَاعَةِ الْكَبِيرِ)
[2058] (عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ) أَيْ كِلَاهُمَا عَنْ أَشْعَثَ (الْمَعْنَى وَاحِدٌ) أَيْ مَعْنَى حَدِيثِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِهِمَا اخْتِلَافٌ (وَعِنْدَهَا رَجُلٌ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَشَقَّ ذَلِكَ) أَيْ دُخُولُ ذَلِكَ الرَّجُلِ (عَلَيْهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ (ثُمَّ اتَّفَقَا) أَيْ حَفْصٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ (فَقَالَ انْظُرْنَ) أَيْ تَفَكَّرْنَ وَاعْرِفْنَ (مَنْ(6/42)
إِخْوَانُكُنَّ) خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ رَضَاعَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَتْ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ (فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّضَاعَةَ الَّتِي بِهَا يَقَعُ الْحُرْمَةُ مَا كَانَ فِي الصِّغَرِ وَالرَّضِيعُ طِفْلٌ يُقَوِّيهِ اللَّبَنُ وَيَسُدُّ جُوعَهُ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَسُدُّ جُوعَهُ اللَّبَنُ وَلَا يُشْبِعهُ إِلَّا الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا فَلَا حُرْمَةَ لَهُ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْدِيدِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِنَّهَا حَوْلَانِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرضاعة قَالُوا فَدَلَّ أَنَّ مُدَّةَ الْحَوْلَيْنِ إِذَا انْقَضَتْ فَقَدِ انْقَطَعَ حُكْمُهَا وَلَا عِبْرَةَ لِمَا زَادَ بَعْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ حَوْلَانِ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ
وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ ثَلَاثُ سِنِينَ
وَيُحْكَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ جَعَلَ حُكْمَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَوْلَيْنِ إِذَا كَانَتْ يَسِيرًا حُكْمَ الْحَوْلَيْنِ انْتَهَى
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْكِتَابِ بَعْدَ قَوْلِهِ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَجَدْتُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا اخْتِلَافًا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
[2059] (مَا شَدَّ الْعَظْمَ) أَيْ قَوَّاهُ وَأَحْكَمَهُ
وَشَدُّ الْعَظْمِ وَإِنْبَاتُ اللَّحْمِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا إِذَا كَانَ الرَّضِيعُ طِفْلًا يَسُدُّ اللَّبَنُ جُوعَهُ لِأَنَّ مَعِدَتَهُ تَكُونُ ضَعِيفَةً يَكْفِيهَا اللَّبَنُ وَيَنْبُتُ بِذَلِكَ لَحْمُهُ وَيَشْتَدُّ عَظْمُهُ فَيَصِيرُ كَجُزْءٍ مِنَ الْمُرْضِعَةِ فَيَشْتَرِكُ فِي الْحُرْمَةِ مَعَ أَوْلَادِهَا (لَا تَسْأَلُونَا وَهَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ) الْحَبْرُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وكسرها العالم وأراد بهذا الحبر بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[2060] (بِمَعْنَاهُ) أَيْ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (وَقَالَ أَنْشَرَ الْعَظْمَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَنْشَرَ الْعَظْمَ مَعْنَاهُ مَا شَدَّ الْعَظْمَ وَقَوَّاهُ وَالْإِنْشَارُ بِمَعْنَى الْإِحْيَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ ثم إذا شاء أنشره وَقَدْ يُرْوَى أَنْشَزَ الْعَظْمَ بَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَمَعْنَاهُ زَادَ فِي حَجْمِهِ فَنَشَرَهُ انْتَهَى
وَقَالَ السِّنْدِيُّ أَيْ رَفَعَهُ وَأَعْلَاهُ أَيْ أَكْبَرَ حَجْمَهُ(6/43)
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ سُئِلَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْهِلَالِيِّ فَقَالَ هُوَ مَجْهُولٌ وَأَبُوهُ مَجْهُولٌ انْتَهَى
وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا كَانَ فِي حَالِ الصِّغَرِ لِأَنَّهَا الْحَالُ الَّذِي يُمْكِنُ طَرْدُ الْجُوعِ فِيهَا بَاللَّبَنِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الصِّغَرِ فَالْجُمْهُورُ قَالُوا مَهْمَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ فَإِنَّ رَضَاعَهُ يَحْرُمُ وَلَا يَحْرُمُ مَا كَانَ بَعْدَهُمَا مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لمن أراد أن يتم الرضاعة وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ الرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ مَا كَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ وَلَمْ يُقَدِّرُوهُ بِزَمَانٍ
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِنْ فُطِمَ وَلَهُ عَامٌ وَاحِدٌ وَاسْتَمَرَّ فِطَامُهُ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْحَوْلَيْنِ لَمْ يُحَرِّمْ هَذَا الرَّضَاعُ شَيْئًا وَإِنْ تَمَادَى رَضَاعُهُ وَلَمْ يُفْطَمْ فَمَا يَرْضَعُ وَهُوَ فِي الْحَوْلَيْنِ حَرُمَ وَمَا كَانَ بَعْدَهُمَا لَا يَحْرُمُ وَإِنْ تَمَادَى رَضَاعُهُ
وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ عَارِيَةٌ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ فَلَمْ نطل بها المقال
(باب من حَرَّمَ بِهِ [2061] أَيْ بِرَضَاعَةِ الْكَبِيرِ)
(كَانَ تَبَنَّى سالما) أي اتخذه ولدا
وسالم هو بن مَعْقِلٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَلَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ وَإِنَّمَا كَانَ يُلَازِمُهُ بَلْ كَانَ مِنْ حُلَفَائِهِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ (وَأَنْكَحَهُ) أَيْ زَوَّجَهُ (هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ) بَدَلٌ مِنَ ابْنَةِ أَخِيهِ
وَوَقَعَ عِنْدَ مَالِكٍ فَاطِمَةَ فَلَعَلَّ لَهَا اسْمَيْنِ (وَهُوَ) أَيْ سَالِمٌ (مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنَ الأنصار) قال بن حِبَّانَ يُقَالُ لَهَا لَيْلَى وَيُقَالُ ثُبَيْتَةُ بِضَمِّ الثَّاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ بِنْتُ يَعَّارٍ بفتح التحتية بن زَيْدِ بْنِ عُبَيْدٍ وَكَانَتِ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ بن عتبة وبهذا جزم بن سَعْدٍ
وَقِيلَ اسْمُهَا سَلْمَى وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ (كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا) هُوَ أَبُو
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ عَائِشَة فِي رَضَاع الْكَبِير اللَّيْث بْن سَعْد وَعَطَاء وَأَهْل الظَّاهِر
وَالْأَكْثَرُونَ حَمَلُوا الْحَدِيث إِمَّا عَلَى الْخُصُوص وَإِمَّا عَلَى النَّسْخ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى النَّسْخ بِأَنَّ قِصَّة سَالِم كَانَتْ فِي أَوَّل الْهِجْرَة لِأَنَّهَا هَاجَرَتْ عَقِب نُزُول الْآيَة وَالْآيَة نَزَلَتْ فِي أَوَائِل الهجرة(6/44)
أُسَامَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى الْقُرَشِيُّ نَسَبًا الْهَاشِمِيُّ وَلَاءً مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِبُّهُ وَأَبُو حِبِّهِ كَانَ أُمُّهُ خَرَجَتْ بِهِ تَزُورُ قَوْمَهَا فَأَغَارَتْ عَلَيْهِمْ بَنُو الْقَيْنِ فَأَخَذَوا بِزَيْدٍ وَقَدِمُوا بِهِ سُوقَ عُكَاظٍ فَاشْتَرَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ فَوَهَبَتْهُ للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بن ثمان سنين فأعتقه وتبناه
قال بن عُمَرَ مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا زَيْدًا بِقَوْلِهِ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا الْآيَةَ اسْتُشْهِدَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (ادْعُوهُمْ) أَيِ الْمُتَبَنَّيْنَ (لِآبَائِهِمْ) أَيْ آبَائِهِمُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ مَائِهِمْ لَا لِمَنْ تَبَنَّاهُ
وَتَمَامُ الْآيَةِ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ومواليكم (فَرُدُّوا إِلَى آبَائِهِمْ) وَلَمْ يُنْسَبُوا إِلَى مَنْ تَبَنَّاهُ وَلَمْ يُوَرَّثُوا مِيرَاثَهُمْ بَلْ مِيرَاثَ آبَائِهِمْ (كَانَ مَوْلًى وَأَخًا فِي الدِّينِ) لَعَلَّ فِي هَذَا إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِمْ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وأن سالما لما نزلت (أدعوهم لآبائهم) كَانَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ لَهُ أَبٌ فَقِيلَ لَهُ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ (إِنَّا كُنَّا نَرَى) أَيْ نَعْتَقِدُ (فَكَانَ) أَيْ سَالِمٌ (يَأْوِي) أَيْ يَسْكُنُ
وَعِنْدَ مَالِكٍ يَدْخُلُ عَلَيَّ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ أَوَيْتُ مَنْزِلِي وَإِلَيْهِ أُوِيًّا بَالضَّمِّ وَيُكْسَرُ وأويت تأوية وتأويت واتويت وأتويت نزلته بنفسي وسكنت (وَيَرَانِي فُضْلًا) بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِ الضَّادِ أَيْ مُتَبَذِّلَةً فِي ثِيَابِ الْمِهْنَةِ يُقَالُ تَفَضَّلَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ
هَذَا قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ وَتَبِعَهُ بن الْأَثِيرِ وَزَادَ وَكَانَتْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ
وَقَالَ بن عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ الْخَلِيلُ رَجُلٌ فُضْلٌ مُتَوَشِّحٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ
قَالَ فَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عليها وهي منكشف بعضها
وعن بن وَهْبٍ فُضْلٌ مَكْشُوفَةُ الرَّأْسِ وَالصَّدْرِ
وَقِيلَ الْفُضْلُ الَّذِي عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَلَا إِزَارَ تَحْتَهُ
وَقَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ تَفَضَّلَتِ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا إِذَا كَانَتْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ كَقَمِيصٍ لَا كُمَّيْنِ لَهُ (وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتَ) أَيِ الْآيَةَ الَّتِي سَاقَهَا قَبْلُ وهي (أدعوهم
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَأَمَّا أَحَادِيث الْحُكْم بِأَنَّ التَّحْرِيم يَخْتَصّ بِالصِّغَرِ
فَرَوَاهَا مَنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامهمْ مِنْ الصَّحَابَة نَحْو أبي هريرة وبن عَبَّاس وَغَيْرهمْ فَتَكُون أَوْلَى(6/45)
لآبائهم) وقوله (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) (فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ إِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعَقَلَ مَا عَقَلُوهُ وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا (أَرْضِعِيهِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَتْ كَيْفَ أُرْضِعهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ فَتَبَسَّمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ قَدْ عَلِمْتِ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ وَفِي أُخْرَى لَهُ فَقَالَتْ إِنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَعَلَّهَا حَلَبَتْهُ ثُمَّ شَرِبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ ثَدْيَهَا وَهَذَا أَحْسَنُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَفَا عَنْ مَسِّهِ لِلْحَاجَةِ كَمَا خُصَّ بَالرَّضَاعَةِ مَعَ الْكِبَرِ انْتَهَى (أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عَائِشَةُ أَنْ يَرَاهَا) الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ يَعُودُ إِلَى مَنْ وَالْمَنْصُوبُ إِلَى عَائِشَةَ (أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ) أَيْ بَالرَّضَاعَةِ فِي الْكِبَرِ (حَتَّى يُرْضَعَ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (فِي الْمَهْدِ) أَيْ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ حِينَ يَكُونُ الطِّفْلُ فِي الْمَهْدِ
وَالْحَدِيثُ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ إِرْضَاعَ الْكَبِيرِ يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءَ بْنِ أَبِي رباح والليث بن سعد وبن علية وبن حَزْمٍ
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اعْتِبَارِ الصِّغَرِ فِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ وَأَجَابُوا عَنْ قِصَّةِ سَالِمٍ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ حُكْمٌ مَنْسُوخٌ وَقَرَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ قِصَّةَ سَالِمٍ كَانَتْ فِي أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَوْلَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ فَدَلَّ عَلَى تَأَخُّرِهَا وَهُوَ مُسْتَنَدٌ ضَعِيفٌ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِ الرَّاوِي وَلَا مِنْ صِغَرِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا رَوَاهُ مُتَقَدِّمًا
وَأَيْضًا فَفِي سِيَاقِ قِصَّةِ سَالِمٍ مَا يُشْعِرُ بِسَبْقِ الْحُكْمِ بَاعْتِبَارِ الْحَوْلَيْنِ لِقَوْلِ امْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ حَيْثُ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضِعِيهِ قَالَتْ وَكَيْفَ أُرْضِعهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ إِنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ قَالَ أَرْضِعِيهِ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهَا كَانَتْ تَعْرِفُ أَنَّ الصِّغَرَ مُعْتَبَرٌ فِي الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ
وَمِنْهَا دَعْوَى الْخُصُوصِيَّةِ بِسَالِمٍ وَامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ دَعْوَى الِاخْتِصَاصِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ وَقَدِ اعْتَرَفْنَ بِصِحَّةِ الْحُجَّةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا عَائِشَةُ وَلَا حُجَّةَ فِي إِبَائِهِنَّ لَهَا كَمَا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي أَقْوَالِهِنَّ إِذَا خَالَفَتِ الْمَرْفُوعَ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ مُخْتَصَّةُ بِسَالِمٍ لَبَيَّنَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَيَّنَ اخْتِصَاصَ أَبِي بُرْدَةَ بَالتَّضْحِيَةِ(6/46)
بَالْجِذْعِ مِنَ الْمَعْزِ وَمِنْهَا حَدِيثُ إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ وَحَدِيثُ لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا شَدَّ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ وَحَدِيثُ لَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَحَدِيثُ لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ لَمْ يُسْنِدْهُ عَنِ بن عُيَيْنَةَ غَيْرُ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ
وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَ حَدِيثِ الْبَابِ وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الرَّضَاعَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الصِّغَرُ إِلَّا فِيمَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ كَرَضَاعِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْ دُخُولِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَيَشُقُّ احْتِجَابُهَا مِنْهُ وَيُجْعَلُ حَدِيثُ الْبَابِ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بن تَيْمِيَةَ
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدِي وَقَالَ هَذِهِ طَرِيقَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ طَرِيقَةِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِرَضَاعِ الْكَبِيرِ مُطْلَقًا وَبَيْنَ مَنْ جَعَلَ رَضَاعَ الْكَبِيرِ كَرَضَاعِ الصَّغِيرِ مُطْلَقًا لِمَا لَا يَخْلُو عَنْهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ مِنَ التَّعَسُّفِ انْتَهَى وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَعِلْمُهُ أَتَمُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
1 - (بَاب هَلْ يُحَرِّمُ مَا دُونَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ)
[2062] (كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ) مِنْ بَيَانِيَّةٌ أَيْ كَانَ سَابِقًا فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةُ (عَشْرَ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمْنَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَشْرَ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ (ثُمَّ نُسِخْنَ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ) أَيْ ثُمَّ نَزَلَتْ خَمْسُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَنُسِخَتْ تِلْكَ الْعَشْرُ (فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ) أَيْ خَمْسُ رَضَعَاتٍ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَهِيَ أَيْ آيَةُ خَمْسِ رَضَعَاتٍ (مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ
وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّسْخَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ تَأَخَّرَ إِنْزَالُهُ جِدًّا حَتَّى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْرَأُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَيَجْعَلُهَا قُرْآنًا مَتْلُوًّا لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ لِقُرْبِ عَهْدِهِ فَلَمَّا بَلَغَهُمُ النَّسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُتْلَى
وَالنَّسْخُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَتِلَاوَتُهُ كَعَشْرِ رَضَعَاتٍ
وَالثَّانِي مَا نسخت تلاوته دون حكمه كخمس رضعات
وكالشيخ والشيخة إذا زنيا(6/47)
فارجموهما
والثالث مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ وَهَذَا هُوَ الأكثر وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وصية لأزواجهم الْآيَةَ قَالَهُ النَّوَوِيُّ
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ وبن مسعود وعبد الله بن الزبير وعطاء وطاؤس وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَاللَّيْثِ بن سعد والشافعي وأصحابه وقال به بن حَزْمٍ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وبن الْمُنْذِرِ وَدَاوُدُ وَأَتْبَاعُهُ إِلَى أَنَّ الَّذِي يُحَرِّمُ ثَلَاثُ رَضَعَاتٍ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنَ الرَّضَاعِ سَوَاءٌ فِي التَّحْرِيمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَتَمَسَّكُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَبَالْعُمُومِ الْوَارِدِ فِي الْأَخْبَارِ
قَالَ الْحَافِظُ قَوِيَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ اخْتَلَفَتْ فِي الْعَدَدِ وعَائِشَةُ الَّتِي رَوَتْ ذَلِكَ قَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهَا فِيمَا يُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَى أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَأَيْضًا فَقَوْلُ عَشْرِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَمَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ قَوْلَيِ الْأُصُولِيِّينَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بَالتَّوَاتُرِ وَالرَّاوِي رَوَى هَذَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لَا خَبَرٌ فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قُرْآنًا وَلَا ذَكَرَ الرَّاوِي أَنَّهُ خَبَرٌ لِيُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ في هذه المسألة الشوكاني في النيل فليراجع إِلَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
وَهَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي اعْتِبَارِ عَدَدِ الْخَمْسِ فِي التَّحْرِيمِ انْتَهَى
[2063] (لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ) الْمَصَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْمَصِّ وَهُوَ أَخْذُ الْيَسِيرِ مِنَ الشَّيْءِ كَمَا فِي الضِّيَاءِ وَفِي الْقَامُوسِ مَصِصْتُهُ بَالْكَسْرِ أَمُصّهُ وَمَصَصْتُهُ أَمُصُّهُ كَخَصَصْتُهُ أَخُصُّهُ شَرِبْتُهُ شُرْبًا رَفِيقًا
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَصَّةَ وَالْمَصَّتَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُ الرَّضَاعِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ وَيَدُلُّ بمفهومه على أن الثلث مِنَ الْمَصَّاتِ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ
وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وبن ماجه(6/48)
12 - (باب في الرضخ عند الفصال)
[2064] الرضخ اعطاء
(بن إدريس) أي أبو معاوية وبن إِدْرِيسَ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ (مَا يُذْهِبُ) مِنَ الْإِذْهَابِ أَيْ مَا يُزِيلُ (مَذَمَّةَ الرَّضَاعَةِ) أَيْ حَقَّ الْإِرْضَاعِ أَوْ حَقَّ ذَاتِ الرَّضَاعِ
فِي الْفَائِقِ الْمَذَمَّةُ وَالذِّمَامُ بَالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ الْحَقُّ وَالْحُرْمَةُ الَّتِي يُذَمُّ مُضَيِّعُهَا يُقَالُ رَعَيْتُ ذِمَامَ فُلَانٍ وَمَذَمَّتُهُ
وَعَنْ أَبِي زَيْدٍ الْمِذَمَّةُ بَالْكَسْرِ الذِّمَامُ وَبَالْفَتْحِ الذَّمُّ
قَالَ الْقَاضِي وَالْمَعْنَى أَيْ شَيْءٌ يُسْقِطُ عَنِّي حَقَّ الْإِرْضَاعِ حَتَّى أَكُونَ بِأَدَائِهِ مُؤَدِّيًا حَقَّ الْمُرْضِعَةِ بِكَمَالِهِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَرْضِخُوا لِلظِّئْرِ بِشَيْءٍ سِوَى الْأُجْرَةِ عِنْدَ الْفِصَالِ وَهُوَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ (الْغُرَّةُ) أَيِ الْمَمْلُوكُ (الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ) بَالرَّفْعِ بَدَلٌ مِنَ الْغُرَّةِ وَقِيلَ الْغُرَّةُ لَا تُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْأَبْيَضِ مِنَ الرَّقِيقِ وَقِيلَ هِيَ أَنْفَسُ شَيْءٍ يُمْلَكُ
قَالَ الطِّيبِيُّ الْغُرَّةُ الْمَمْلُوكُ وَأَصْلُهَا الْبَيَاضُ فِي جَبْهَةِ الْفَرَسِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِأَكْرَمِ كُلِّ شَيْءٍ كَقَوْلِهِمْ غُرَّةُ الْقَوْمِ سَيِّدُهُمْ
وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ الْمَمْلُوكُ خَيْرُ مَا يُمْلَكُ سُمِّيَ غُرَّةً وَلَمَّا جَعَلَتِ الظِّئْرُ نَفْسَهَا خَادِمَةً جُوزِيَتْ بِجِنْسِ فِعْلِهَا
وَقَالَ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ يَقُولُ إِنَّهَا قَدْ خَدَمَتْكَ وَأَنْتَ طِفْلٌ وَحَضَنَتْكَ وَأَنْتَ صَغِيرٌ فَكَافِئْهَا بِخَادِمٍ يَخْدُمُهَا وَيَكْفِيهَا الْمِهْنَةَ قَضَاءً لِذِمَامِهَا وَجَزَاءً لَهَا عَلَى إِحْسَانِهَا انْتَهَى
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بَالْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْعَطِيَّةِ لِلْمُرَاضَعَةِ عِنْدَ الْفِطَامِ وَأَنْ يَكُونَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَأَبُوهُ هُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيُّ سَكَنَ الْمَدِينَةَ وَقِيلَ كَانَ يَنْزِلُ الْعَرْجَ
ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ وَقَالَ وَلَا أَعْلَمُ لِلْحَجَّاجِ بْنِ مَالِكٍ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ
وَقَالَ النَّمَرِيُّ لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ (قَالَ النُّفَيْلِيُّ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (حَجَّاجُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْأَسْلَمِيُّ) بِزِيَادَةِ لَفْظِ الْأَسْلَمِيِّ (وَهَذَا) أَيْ لَفْظُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (لَفْظُهُ) أَيْ لَفْظُ حَدِيثِ النُّفَيْلِيِّ(6/49)
13 - (بَاب مَا يُكْرَهُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُنَّ مِنْ النساء)
[2065] ما معنى مِنْ وَمِنَ النِّسَاءِ بَيَانٌ لَهَا أَيْ بَابُ النِّسَاءِ اللَّاتِي يُكْرَهُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُنَّ
(لَا تُنْكَحُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَلَى عَمَّتِهَا) سَوَاءَ كَانَتْ سُفْلَى كَأُخْتِ الْأَبِ أَوْ عُلْيَا كَأُخْتِ الْجَدِّ مَثَلًا (عَلَى خَالَتِهَا) سُفْلَى كَانَتْ أَوْ عُلْيَا (وَلَا تُنْكَحُ الْكُبْرَى) أَيْ سِنًّا غَالِبًا أَوْ رُتْبَةً فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ وَالْمُرَادُ الْعَمَّةُ وَالْخَالَةُ (عَلَى الصُّغْرَى) أَيْ بِنْتِ الْأَخِ أَوْ بِنْتِ الْأُخْتِ وَسُمِّيَتْ صُغْرَى لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِنْتِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْبَيَانِ لِلْعِلَّةِ وَالتَّأْكِيدِ لِلْحُكْمِ (وَلَا الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى) كَرَّرَ النَّفْيَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِلتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا إِلَخْ وَلِدَفْعِ تَوَهُّمِ جَوَازِ تَزَوُّجِ الْعَمَّةِ عَلَى بِنْتِ أخيها والخالة على بنت أختها الفضيلة الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ كَمَا يَجُوزُ تَزَوُّجُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَا يُخَافُ مِنْ وُقُوعِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُنَّ لِأَنَّ الْمُشَارَكَةَ فِي الْحَظِّ مِنَ الزَّوْجِ تُوقِعُ الْمُنَافَسَةَ بَيْنَهُنَّ فَيَكُونُ مِنْهَا قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الْمَمْلُوكَتَيْنِ فِي الْوَطْءِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَمَةِ وَبَيْنَ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا فِي الْوَطْءِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[2066] (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا) أَيْ فِي النِّكَاحِ وَكَذَا فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجمع الرجل وفي آخرها قال بن شِهَابٍ فَنَرَى خَالَةَ أَبِيهَا وَعَمَّةَ أَبِيهَا بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً أَنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا سَوَاءً كَانَتْ عَمَّةً وَخَالَةً حَقِيقِيَّةً وَهِيَ أُخْتُ الْأَبِ وَأُخْتُ الْأُمِّ أَوْ مَجَازِيَّةً وَهِيَ أُخْتُ أَبِي الْأَبِ وَأَبِي الجد وإن(6/50)
عَلَا أَوْ أُخْتُ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْجَدَّةِ مِنْ جِهَتَيِ الْأُمِّ وَالْأَبِ وَإِنْ عَلَتْ فَكُلُّهُنَّ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ يَجُوزُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وأحل لكم ما وراء ذلكم وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ خَصُّوا بِهَا الْآيَةَ
وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ جَوَازُ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنٌ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ
وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الوطء بملك اليمنى كَالنِّكَاحِ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً وَعِنْدَ الشِّيعَةِ مُبَاحٌ
قَالُوا وَيُبَاحُ أَيْضًا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ قَالُوا وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْ تجمعوا بين الأختين إِنَّمَا هُوَ فِي النِّكَاحِ
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً هُوَ حَرَامٌ كَالنِّكَاحِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْ تجمعوا بين الأختين وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ مُخْتَصٌّ بَالنِّكَاحِ لَا يُقْبَلُ بَلْ جَمِيعُ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْآيَةِ مُحَرَّمَاتٌ بَالنِّكَاحِ وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ جَمِيعًا
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يَحِلُّ وَطْؤُهَا بملك اليمين لانكاحها فَإِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ لِسَيِّدِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَاقِي الْأَقَارِبِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ بِنْتَيِ الْعَمَّتَيْنِ وَبِنْتَيِ الْخَالَتَيْنِ وَنَحْوُهُمَا فَجَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي عن بعض السلف أنه حرمه
دَلِيلُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وراء ذلكم وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ زَوْجَةِ الرَّجُلِ وَبِنْتِهِ مِنْ غَيْرِهَا فَجَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ والجمهور وقال الحسن وعكرمة وبن أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ
دَلِيلُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[2067] (كَرِهَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبَيْنَ الْخَالَتَيْنِ وَالْعَمَّتَيْنِ) قَالَ فِي فَتْحِ الْوَدُودِ كُرِهَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ أَيْ وَبَيْنَ مَنْ هُمَا عَمَّةٌ وَخَالَةٌ لَهَا فَالظَّرْفُ الثَّانِي مِنْ مَدْخُولِ بَيْنَ مَتْرُوكٌ فِي الْكَلَامِ لِظُهُورِهِ وَكَذَا قَوْلُهُ بَيْنَ الْخَالَتَيْنِ أَيْ وَبَيْنَ مَنْ هُمَا خَالَتَانِ لَهَا وَالْمُرَادُ بَالْخَالَتَيْنِ الصَّغِيرَةُ مِمَّنْ هِيَ خَالَةٌ لَهَا وَالْكَبِيرَةُ مِنْهَا أَوِ الْأَبَوِيَّةُ وَهِيَ أُخْتُ الْأُمِّ مِنْ أَبٍ وَالْأُمِّيَّةُ وَهِيَ أُخْتُ الْأُمِّ مِنْ أُمٍّ وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ الْعَمَّتَيْنِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَالْخَالَتَيْنِ الْخَالَةُ وَمَنْ هِيَ خَالَةٌ لَهَا أُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الْخَالَةِ تَغْلِيبًا وَكَذَا الْعَمَّتَيْنِ وَالْكَلَامُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِأَحَادِيثِ الْبَابِ
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِكَمَالِ الدَّمِيرِيِّ قَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى حَمَلَهُ عَلَى الْمَجَازِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ(6/51)
إِحْدَاهُمَا عَمَّةٌ وَالْأُخْرَى خَالَةٌ أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا عَمَّةُ الْأُخْرَى أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا خَالَةُ الْأُخْرَى
تَصْوِيرُ الْأُولَى أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ وَابْنُهُ فَتَزَوَّجَا امْرَأَةً وَبِنْتَهَا فَتَزَوَّجَ الْأَبُ الْبِنْتَ وَالِابْنُ الْأُمَّ فَوَلَدَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ابْنَةٌ مِنْ هَاتَيْنِ الزَّوْجَتَيْنِ فَابْنَةُ الْأَبِ عَمَّةُ بِنْتِ الِابْنِ وَبِنْتُ الِابْنِ خَالَةٌ لِبِنْتِ الْأَبِ
وَتَصْوِيرُ الْعَمَّتَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَجُلٌ أُمَّ رَجُلٍ وَيَتَزَوَّجَ الْآخَرُ أُمَّهُ فَيُولَدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ابْنَةٌ فَابْنَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَمَّةُ الْأُخْرَى
وَتَصْوِيرُ الْخَالَتَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ رَجُلٌ ابْنَةَ رَجُلٍ وَالْآخَرُ ابْنَتَهُ فَوَلَدَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ابْنَةٌ فَابْنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالَةُ الْأُخْرَى انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ خَصِيفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْحَرَّانِيُّ وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ
[2068] (عَنْ قَوْلِهِ وَإِنْ خِفْتُمْ الخ) أي عن معنى هذه الآية (ياابن أُخْتِي) أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ (هِيَ الْيَتِيمَةُ) أَيِ الَّتِي مَاتَ أَبُوهَا (فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا) أَيِ الَّذِي يَلِي مَالَهَا (بِغَيْرِ أَنْ يُقْسِطَ) أَيْ بِغَيْرِ أَنْ يَعْدِلَ يُقَالُ قَسَطَ إِذَا جَارَ وَأَقْسَطَ إِذَا عَدَلَ وَقِيلَ الْهَمْزَةُ فِيهِ للسلب أي أزال القسط ورجحه بن التِّينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّ أَفْعَلَ فِي أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ لَا يَكُونُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَّا مِنَ الثُّلَاثِيِّ
ثُمَّ حَكَى السِّيرَافِيُّ جَوَازَ التَّعَجُّبِ بَالرُّبَاعِيِّ وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّ قَسَطَ مِنَ الْأَضْدَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَيُعْطِيهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْمُولٍ بِغَيْرِ أَيْ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهَا مِثْلَ مَا يُعْطِيهَا غَيْرُهُ أَيْ مِمَّنْ يرغب في نكاحها سواه (أعلا سُنَّتِهِنَّ) أَيْ طَرِيقَتِهِنَّ وَعَادَتِهِنَّ (سِوَاهُنَّ) أَيْ سِوَى الْيَتَامَى مِنَ النِّسَاءِ بِأَيِّ مَهْرٍ تُوَافِقُوا عَلَيْهِ (قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ) هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَدَاةِ عَطْفٍ
قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ
(ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ طَلَبُوا مِنْهُ الْفُتْيَا (بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ) أَيْ بَعْدَ نُزُولِ(6/52)
هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ وَإِنْ خِفْتُمْ
إِلَى وَرُبَاعَ (فيهن) متعلق باستفتوا (وترغبون أن تنكحوهن هِيَ رَغْبَةُ أَحَدِكُمْ عَنْ يَتِيمَتِهِ) فِيهِ تَعْيِينُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَتَرْغَبُونَ لِأَنَّ رَغِبَ يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ بِمُتَعَلِّقِهِ يُقَالُ رَغِبَ فِيهِ إِذَا أراد وَرَغِبَ عَنْهُ إِذَا لَمْ يُرِدْهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تُحْذَفَ فِي وَأَنْ تُحْذَفَ عَنْ وَقَدْ تَأَوَّلَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَقَالَ نَزَلَتْ فِي الْغَنِيَّةِ وَالْمُعْدِمَةِ وَالْمَرْوِيُّ هُنَا عَنْ عَائِشَةَ أَوْضَحَ فِي أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي الْغَنِيَّةِ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُعْدِمَةِ (فَنُهُوا) أَيْ نُهُوا عَنْ نِكَاحِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا لِجَمَالِهَا وَمَالِهَا لِأَجْلِ زُهْدِهِمْ فِيهَا إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَالِ وَالْجَمَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْيَتِيمَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ فِي الْعَدْلِ (مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُنَّ) زَادَ الْبُخَارِيُّ إِذَا كُنَّ قَلِيلَاتِ الْمَالِ وَالْجَمَالِ
وَفِي الْحَدِيثِ اعْتِبَارُ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْمَحْجُورَاتِ وَأَنَّ غَيْرَهُنَّ يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِدُونِ ذَلِكَ
وَفِيهِ جَوَازُ تَزْوِيجِ الْيَتَامَى قَبْلَ الْبُلُوغِ لِأَنَّهُنَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يُقَالُ لَهُنَّ يَتِيمَاتٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَطْلَقَ اسْتِصْحَابًا لِحَالِهِنَّ (قَالَ يونس) هو بن يزيد الراوي عن بن شِهَابٍ (وَقَالَ رَبِيعَةُ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَرَبِيعَةُ هَذَا يشبه أن يكون بن أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ يَقُولُ اتْرُكُوهُنَّ إِنْ خِفْتُمْ فَقَدْ أَحْلَلْتُ لَكُمْ أَرْبَعًا) حَاصِلُهُ أَنَّ جَزَاءَ قَوْلِهِ وَإِنْ خِفْتُمْ مَحْذُوفٌ وَهُوَ اتْرُكُوهُنَّ وَأُقِيمَ مَقَامُهُ قوله فانكحوا ما طاب لكم قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ(6/53)
[2069] (أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ) هُوَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ (مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ) أَيْ فِي زَمَانِ قَتْلِهِ فِي عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ (لَقِيَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَمَخْرَمَةُ بِفَتْحِهَا وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَلَهُمَا صُحْبَةٌ (فَقَالَ لَهُ) أَيْ قَالَ الْمِسْوَرُ لِزَيْنِ الْعَابِدِينَ (قَالَ) أَيْ زَيْنُ الْعَابِدِينَ (قَالَ هَلْ أَنْتَ مُعْطِيَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ (سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لَعَلَّ هَذَا السَّيْفَ ذُو الْفَقَارِ وَفِي مرآة الزمان أنه عليه السلام وَهَبَهُ لِعَلِيٍّ قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى آلِهِ وَأَرَادَ الْمِسْوَرُ بِذَلِكَ صِيَانَةَ سَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يَأْخُذَهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْقَسْطَلَّانِيُّ (فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ) أَيْ يَأْخُذُونَهُ مِنْكَ بَالْقُوَّةِ وَالِاسْتِيلَاءِ (وَايْمُ اللَّهِ) لَفْظُ قَسَمٍ ذُو لُغَاتٍ وَهَمْزَتُهَا وَصْلٌ وَقَدْ تُقْطَعُ تُفْتَحُ وَتُكْسَرُ (لَا يُخْلَصُ) بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (إِلَيْهِ) أَيْ لَا يَصِلُ إِلَى السَّيْفِ أَحَدٌ (حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى نَفْسِي) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ حَتَّى تَبْلُغَ نَفْسِي أَيْ تُقْبَضَ رُوحِي (خَطَبَ بِنْتَ أَبِي جَهْلٍ) اسْمُهَا جُوَيْرِيَةُ تَصْغِيرُ جَارِيَةٍ أَوْ جَمِيلَةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ (وَأَنَا يَوْمئِذٍ مُحْتَلِمٌ) أَيْ بَالِغٌ (إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي) أَيْ بَضْعَةٌ مِنِّي (وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا) أَيْ بِسَبَبِ الْغَيْرَةِ وَقَوْلُهُ تُفْتَنَ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ (ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ) أَرَادَ بِهِ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَكَانَ زَوْجَ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَالصِّهْرُ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَأَقَارِبِهِ وَأَقَارِبِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ صَهَرْتُ الشَّيْءَ وَأَصْهَرْتُهُ إِذَا قَرَّبْتُهُ وَالْمُصَاهَرَةُ مُقَارَبَةٌ بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَالْمُتَبَاعِدِينَ (فَأَحْسَنَ) أَيْ فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ (حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ فِي حَدِيثِهِ (وَوَعَدَنِي) أَنْ(6/54)
يُرْسِلَ إِلَى زَيْنَبَ أَيْ لَمَّا أُسِرَ بِبَدْرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَفُدِيَ وَشَرَطَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْسِلَهَا لَهُ (فَوَفَى لِي) بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ
وَأُسِرَ أَبُو الْعَاصِ مَرَّةً أُخْرَى وَأَجَارَتْهُ زَيْنَبُ فَأَسْلَمَ وَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نِكَاحِهِ وَوَلَدَتْ لَهُ أُمَامَةَ الَّتِي كَانَ يَحْمِلُهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي (وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ إِلَخْ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِبَاحَةِ نِكَاحِ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَكِنْ نَهَى عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِهِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهَا وَأَذَاهَا يُؤْذِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَوْفُ الْفِتْنَةِ عَلَيْهَا بِسَبَبِ الْغَيْرَةِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ الْجَمْعُ بَيْنَ بِنْتِ نَبِيِّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِنْتِ عَدُوِّ اللَّهِ
قَالَهُ الْعَلَّامَةُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
[2070] (بِهَذَا الْخَبَرِ) أَيْ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (فَسَكَتَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ النِّكَاحِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَفِي الِاسْتِدْلَال بِهَذَا نَظَر فَإِنَّ هَذَا حُكْم مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَيَّد مُؤَكَّد بِالْقَسَمِ وَلَكِنْ حَلَفَ الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ أَنَّهُ لَا يُوصَل إِلَيْهِ أَبَدًا ظَاهِر فِيهِ ثِقَته بِاَللَّهِ فِي إِبْرَاره
وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُول إِنَّ الْمِسْوَر وُلِدَ بِمَكَّة فِي السَّنَة الثَّانِيَة مِنْ الْهِجْرَة وَكَانَ لَهُ يَوْم مَوْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَان سِنِينَ هَذَا قَوْل أَكْثَره
وَقَوْله وَأَنَا يَوْمئِذٍ مُحْتَلِم هَذَا الْكَلِمَة ثَابِتَة فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَفِيهِ تَحْرِيم أَذَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ وَجْه مِنْ الْوُجُوه وَإِنْ كَانَ بِفِعْلٍ مُبَاح فَإِذَا تَأَذَّى بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ فِعْله لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُول اللَّه}
وَفِيهِ غَيْرَة الرَّجُل وَغَضَبه لِابْنَتِهِ وَحُرْمَته
وَفِيهِ بَقَاء عَار الْآبَاء فِي الْأَعْقَاب لِقَوْلِهِ بِنْت عَدُوّ اللَّه فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْوَصْف تَأْثِيرًا فِي الْمَنْع وَإِلَّا لَمْ يَذْكُرهُ مَعَ كَوْنهَا مُسْلِمَة وَعَلَيْهِ بَقَاء أَثَر صَلَاح الْآبَاء فِي الْأَعْقَاب لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكَانَ أبوهما صالحا}(6/55)
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ وَهِيَ بكسر الخاء المعجمة
قال بن دَاوُدَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ حَرَّمَ اللَّهُ عز وجل عَلِيٍّ أَنْ يَنْكِحَ عَلَى فَاطِمَةَ حَيَاتَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
[2071] (إِنَّ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هَاشِمُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالصَّوَابُ هِشَامٌ لِأَنَّهُ جَدُّ الْمَخْطُوبَةِ وَبَنُو هِشَامٍ هُمْ أَعْمَامُ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ لِأَنَّهُ أَبُو الْحَكَمُ عَمْرُو بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَقَدْ أَسْلَمَ أَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ عَامَ الْفَتْحِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمَا
وَمِمَّنْ يَدْخُلُ فِي إِطْلَاقِ بَنِي هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَقَدْ أَسْلَمَ أَيْضًا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ (اسْتَأْذَنُوا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ اسْتَأْذَنُونِي (فَلَا آذَنُ ثُمَّ لَا آذَنُ ثُمَّ لَا آذَنُ) كَرَّرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَأْيِيدِ مُدَّةِ مَنْعِ الْإِذْنِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ رَفْعَ الْمَجَازَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُحْمَلَ النَّفْيُ عَلَى مُدَّةٍ بِعَيْنِهَا فَقَالَ ثُمَّ لَا آذَنُ أَيْ وَلَوْ مَضَتِ الْمُدَّةُ الْمَفْرُوضَةُ تَقْدِيرًا لَا آذَنُ بَعْدَهَا ثُمَّ كَذَلِكَ أَبَدًا (فَإِنَّمَا ابْنَتِي بَضْعَةٌ مِنِّي) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ قِطْعَةٌ
قَالَ الْحَافِظُ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهَا كَانَتْ أُصِيبَتْ بِأُمِّهَا ثُمَّ بِأَخَوَاتِهَا وَاحِدَةٌ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَنْ تَسْتَأْنِسُ بِهِ مِمَّنْ يُخَفِّفُ عَلَيْهَا الْأَمْرَ مِمَّنْ تُفْضِي إِلَيْهِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَفِيهِ أَوْضَح دَلِيل عَلَى فَضْل فَاطِمَة وَأَنَّهَا سَيِّدَة نِسَاء هَذِهِ الْأُمَّة لِكَوْنِهَا بَضْعَة مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَفِيهِ ثَنَاء الرَّجُل عَلَى زَوْج اِبْنَته بِجَمِيلِ أَوْصَافه وَمَحَاسِن أَفْعَاله
وَفِيهِ أَنَّ أَذَى أَهْل بَيْته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِرَابَتهمْ أَذًى لَهُ
وَقَوْله يَرِيبنِي مَا أَرَابَهَا يَقُول رَابَنِي فُلَان إِذَا رَأَيْت مِنْهُ مَا يَرِيبك وَتَكْرَههُ وَأَرَابَنِي أَيْضًا قَالَ الْفَرَّاء هُمَا بِمَعْنًى وَاحِد
وَفَرَّقَ آخَرُونَ بينهما بأن رابني تحققت منه الريبة
وأرابني إِذَا ظَنَنْت ذَلِكَ بِهِ كَأَنَّهُ أَوْقَعَك فِيهَا
وَالصِّهْر الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَبُو الْعَاصِ بْن الرَّبِيع وَزَوْجَته زَيْنَب بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِنْت أَبِي جَهْل هَذِهِ الْمَخْطُوبَة قَالَ عَبْد الْغَنِيّ بْن سَعِيد وَغَيْره اِسْمهَا الْعَوْرَاء
وَهَذِهِ الْعِبَارَة ذَكَرَ بَعْضهَا الْمُنْذِرِيُّ بِمَعْنَاهَا(6/56)
بِسِرِّهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهَا الْغَيْرَةُ (يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا) كَذَا هُنَا مِنْ أَرَابَ رُبَاعِيًّا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا مِنْ رَابَ ثُلَاثِيًّا
قَالَ النَّوَوِيُّ يَرِيبُنِي بِفَتْحِ الْيَاءِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ الرَّيْبُ مَا رَابَكَ مِنْ شَيْءٍ خِفْتَ عُقْبَاهُ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ رَابَ وَأَرَابَ بِمَعْنًى
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ رَابَنِي الْأَمْرُ تَيَقَّنْتُ مِنَ الرِّيبَةِ وَأَرَابَنِي شَكَّكَنِي وَأَوْهَمَنِي
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَيْضًا وَغَيْرِهِ كَقَوْلِ الْفَرَّاءِ انْتَهَى (وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا) مِنَ الْإِيذَاءِ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ فَاطِمَةَ لَوْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ لَمْ يُمْنَعْ عَلِيٌّ مِنَ التَّزْوِيجِ بِهَا أَوْ بِغَيْرِهَا
وَفِي الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ أَذَى مَنْ يَتَأَذَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَأَذِّيهِ لِأَنَّ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَامٌ اتِّفَاقًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّهُ يُؤْذِيهِ مَا يُؤْذِي فَاطِمَةَ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ شَيْءٌ فَتَأَذَّتْ بِهِ فَهُوَ يُؤْذِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهَادَةِ هَذَا الْخَبَرِ الصَّحِيحِ
وَلَا شَيْءَ أَعْظَمَ فِي إِدْخَالِ الْأَذَى عَلَيْهَا مِنْ قَتْلِ وَلَدِهَا وَلِهَذَا عُرِفَ بَالِاسْتِقْرَاءِ مُعَاجَلَةُ مَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ بَالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ
وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ بِسَدِّ الذَّرِيعَةِ لِأَنَّ تَزْوِيجَ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدَةِ حَلَالٌ لِلرِّجَالِ مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْأَرْبَعَ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَالِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ فِي الْمَالِ وَفِيهِ بَقَاءُ عَارِ الْآبَاءِ فِي أَعْقَابِهِمْ لِقَوْلِهِ بِنْتِ عَدُوِّ اللَّهِ فَإِنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِأَنَّ لِلْوَصْفِ تَأْثِيرًا فِي الْمَنْعِ مَعَ أَنَّهَا هِيَ كَانَتْ مُسْلِمَةً حَسَنَةَ الْإِسْلَامِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
4 - (بَاب فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ)
[2072] يَعْنِي تَزْوِيجَ الْمَرْأَةِ إِلَى أَجَلٍ فَإِذَا انْقَضَى وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ
(يُقَالُ لَهُ رَبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ (نَهَى عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) قَدْ رُوِيَ نَسْخُ الْمُتْعَةِ بَعْدَ التَّرْخِيصِ فِي سِتَّةِ مَوَاطِنَ الْأَوَّلُ فِي خَيْبَرَ الثَّانِي فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ الثَّالِثُ عَامَ الْفَتْحِ الرَّابِعُ(6/57)
عَامَ أَوْطَاسٍ الْخَامِسُ غَزْوَةِ تَبُوكٍ السَّادِسُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَهَذِهِ الَّتِي أُورِدَتْ إِلَّا أَنَّ فِي ثُبُوتِ بَعْضِهَا خِلَافًا
قَالَ الثَّوْرِيُّ الصَّوَابُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا وَإِبَاحَتَهَا وَقَعَا مَرَّتَيْنِ فَكَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ خَيْبَرَ حُرِّمَتْ فِيهَا ثُمَّ أُبِيحَتْ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ عَامُ أَوْطَاسٍ ثُمَّ حُرِّمَتْ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا
وَإِلَى هَذَا التَّحْرِيمِ ذَهَبَ الْجَمَاهِيرُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَذَهَبَ إِلَى بَقَاءِ الرُّخْصَةِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَرُوِيَ رُجُوعُهُمْ وَقَوْلُهُمْ بَالنَّسْخِ وَمِنْ ذلك بن عَبَّاسٍ رُوِيَ عَنْهُ بَقَاءُ الرُّخْصَةِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ إِلَى الْقَوْلِ بَالتَّحْرِيمِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ بَيَّنَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ منسوخ وأخرج بن مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا ثُمَّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وأما بن عَبَّاس فَإِنَّهُ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَك فِي إِبَاحَتهَا عِنْد الْحَاجَة وَالضَّرُورَة وَلَمْ يُبِحْهَا مُطْلَقًا فَلِمَا بَلَغَهُ إِكْثَار النَّاس مِنْهَا رَجَعَ وَكَأَنْ يُحْمَل التَّحْرِيم عَلَى مَنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا
قَالَ الخطابي حدثنا بن السَّمَّاك حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن سَلَّام حَدَّثَنَا الْفَضْل بْن دُكَيْن حَدَّثَنَا عَبْد السَّلَام عَنْ الْحَجَّاج عن أبي خالد عن المنهال عن بن جُبَيْر قَالَ قُلْت لِابْنِ عَبَّاس هَلْ تَدْرِي مَا صَنَعْت وَبِمَا أَفْتَيْت قَدْ سَارَتْ بِفُتْيَاك الرُّكْبَان وَقَالَتْ فِيهِ الشُّعَرَاء
قَالَ وَمَا قَالُوا قُلْت قَالُوا قَدْ قُلْت لِلشَّيْخِ لَمَّا طَالَ محبسه يا صاح هل في فتيا بن عَبَّاس هَلْ لَك فِي رُخْصَة الْأَطْرَاف آنِسَة تكون مثواك حتى رجعة الناس فقال بن عَبَّاس إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَاَللَّه مَا بِهَذَا أَفْتَيْت وَلَا هَذَا أَرَدْت وَلَا أَحْلَلْت إِلَّا مِثْل مَا أَحَلَّ اللَّه الْمَيْتَة وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير وَمَا تَحِلّ إِلَّا لِلْمُضْطَرِّ وَمَا هِيَ إِلَّا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّم وَلَحْم الْخِنْزِير
وَقَالَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ حَدَّثَنَا رَوْح بْن عُبَادَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْن عُبَيْدَة سَمِعْت مُحَمَّد بن كعب القرظي يحدث عن بن عَبَّاس قَالَ كَانَتْ الْمُتْعَة فِي أَوَّل الْإِسْلَام مُتْعَة النِّسَاء فَكَانَ الرَّجُل يَقْدَم بِسِلْعَتِهِ الْبَلَد لَيْسَ لَهُ مَنْ يَحْفَظ عَلَيْهِ شَيْئَهُ وَيَضُمّ إِلَيْهِ مَتَاعه فَيَتَزَوَّج الْمَرْأَة إِلَى قَدْر مَا يَرَى أَنَّهُ يَقْضِي حَاجَته وَقَدْ كَانَتْ تَقْرَأ / < فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَل مُسَمًّى فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ > / حَتَّى نَزَلَتْ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتكُمْ} إِلَى قَوْله {مُحْصِنِينَ غَيْر مُسَافِحِينَ} فَتُرِكَتْ الْمُتْعَة وَكَانَ الْإِحْصَان إِذَا شَاءَ طَلَّقَ وَإِذَا شَاءَ أَمْسَكَ وَيَتَوَارَثَانِ وَلَيْسَ لَهُمَا مِنْ الْأَمْر شَيْء
فهاتان الروايتان المقيدتان عن بن عَبَّاس تُفَسِّرَانِ مُرَاده مِنْ الرِّوَايَة الْمُطْلَقَة الْمُقَيَّدَة والله أعلم(6/58)
حَرَّمَهَا وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَمَتَّعَ وَهُوَ محصن إلا رجمته بالحجارة
وقال بن عُمَرَ نَهَانَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا كُنَّا مُسَافِحِينَ
إِسْنَادُهُ قَوِيٌّ
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ إِبَاحَتَهَا قَطْعِيٌّ وَنَسْخَهَا ظَنِّيٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الرَّاوِينَ لِإِبَاحَتِهَا رَوَوْا نَسْخَهَا وَذَلِكَ إِمَّا قَطْعِيٌّ فِي الطَّرَفَيْنِ أَوْ ظَنِّيٌّ فِي الطَّرَفَيْنِ جَمِيعًا
قَالَهُ فِي السُّبُلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ أَتَمُّ مِنْهُ
(حَرَّمَ مُتْعَةَ النِّسَاءِ) قَالَ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حَرَّمَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَلَمْ يَبْقَ الْيَوْمَ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ إِلَّا شَيْئًا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الروافض
وكان بن عَبَّاسٍ يَتَأَوَّلُ فِي إِبَاحَتِهِ لِلْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ بِطُولِ الْعُزْبَةِ وَقِلَّةِ الْيَسَارِ وَالْجِدَةِ ثُمَّ تَوَقَّفَ عَنْهُ وأمسك عن الفتوى به حدثنا بن السِّمَاكِ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سَلَامٍ السَّوَّاقِ قَالَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ عَنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ هَلْ تَدْرِي مَا صَنَعْتَ وبما أَفْتَيْتَ وَقَدْ سَارَتْ بِفُتْيَاكَ الرُّكْبَانُ وَقَالَتْ فِيهِ الشُّعَرَاءُ قَالَ وَمَا قَالَتْ قُلْتُ قَالُوا قَدْ قلت للشيخ لما طال مجلسه ياصاح هل لك في فتيا بن عباس هل لَكَ فِي رُخْصَةِ الْأَطْرَافِ آنِسَةٌ تكُونُ مَثْوَاكَ حتى مصدر الناس فقال بن عَبَّاسٍ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَاللَّهِ مَا بِهَذَا أَفْتَيْتُ وَلَا هَذَا أَرَدْتُ وَلَا أَحْلَلْتُ إِلَّا مِثْلَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا يَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ وَمَا هِيَ إِلَّا كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّهُ إِنَّمَا سَلَكَ فِيهِ مَسْلَكَ الْقِيَاسِ وَشَبَّهَهُ بَالْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ وَهُوَ قِيَاسٌ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تَتَحَقَّقُ كَهِيَ فِي بَابِ الطَّعَامِ الَّذِي بِهِ قِوَامُ الْأَنْفُسِ وَبِعَدَمِهِ يَكُونُ التَّلَفُ وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَابِ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَمُصَابَرَتِهَا مُمْكِنَةٌ وَقَدْ تُحْسَمُ مَادَّتُهَا بَالصَّوْمِ وَالصَّلَاحِ فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا فِي حُكْمِ الضَّرُورَةِ كَالْآخَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ قَالَ مَالِكٌ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ هُوَ يَعْنِي نِكَاحُ المتعة جائز قال بن الهمام نسبته إلى مالك غلط
وقال بن دَقِيقِ الْعِيدِ مَا حَكَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ مَالِكٍ مِنَ الْجَوَازِ خَطَأٌ فَقَدْ بَالَغَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَنْعِ النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ حَتَّى أَبْطَلُوا تَوْقِيتَ الْحِلِّ بِسَبَبِهِ فَقَالُوا لَوْ عَلَّقَ عَلَى وَقْتٍ لابد مِنْ مَجِيئِهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ الْآنَ لِأَنَّهُ تَوْقِيتٌ لِلْحِلِّ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى نِكَاحِ الْمُتْعَةِ
قَالَ عِيَاضٌ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْبُطْلَانِ التَّصْرِيحُ بَالشَّرْطِ فَلَوْ نَوَى عِنْدَ الْعَقْدِ أَنْ يُفَارِقَ بَعْدَ مُدَّةٍ صَحَّ نِكَاحُهُ إِلَّا الْأَوْزَاعِيَّ فَأَبْطَلَهُ(6/59)
15 - (بَاب فِي الشِّغَارِ)
بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الرَّفْعُ يُقَالُ شَغَرَ الْكَلْبُ إِذَا رَفَعَ رِجْلَهُ لِيَبُولَ كَأَنَّهُ قَالَ لَا تَرْفَعُ رِجْلَ بِنْتِي حَتَّى أَرْفَعَ رِجْلَ بِنْتِكَ وَقِيلَ هُوَ مِنْ شَغَرَ الْبَلَدُ إِذَا خَلَا لِخُلُوِّهِ عَنِ الصَّدَاقِ
وَيُقَالُ شَغَرَتِ الْمَرْأَةُ إذا رفعت رجلها عند الجماع
قال بن قُتَيْبَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْغَرُ عِنْدَ الْجِمَاعِ
وَكَانَ الشِّغَارُ مِنْ نِكَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
قَالَهُ النَّوَوِيُّ
[2074] (قُلْتُ لنافع ما الشغار) قال بن الْبَرِّ ذَكَرَ تَفْسِيرَ الشِّغَارِ جَمِيعُ رُوَاةِ مَالِكٍ عَنْهُ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَلَا يَرِدُ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ يَعْنِي الْمُؤَلِّفَ أَخْرَجَهُ عَنِ الْقَعْنَبِيِّ فَلَمْ يَذْكُرِ التَّفْسِيرَ وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى لِأَنَّهُمَا اخْتَصَرَا ذَلِكَ فِي تَصْنِيفِهِمَا وَإِلَّا فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْنٍ بَالتَّفْسِيرِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْنَبِيِّ انْتَهَى
وَاعْلَمْ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ تَفْسِيرُ الشِّغَارِ
فَالْأَكْثَرُ لَمْ يَنْسُبُوهُ لِأَحَدٍ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ لَا أَدْرِي التَّفْسِيرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عن بن عُمَرَ أَوْ عَنْ نَافِعٍ أَوْ عَنْ مَالِكٍ
قَالَ الْخَطِيبُ فِي الْمُدْرَجِ هُوَ مِنْ قَوْلِ مالك بينه وفصله القعنبي وبن مَهْدِيٍّ وَمُحْرِزُ بْنُ عَوْنٍ عَنْهُ قُلْتُ وَمَالِكٌ إِنَّمَا تَلَقَّاهُ عَنْ نَافِعٍ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ مُسَدَّدٍ هَذِهِ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ التَّفْسِيرُ فِي حديث بن عُمَرَ جَاءَ مِنْ قَوْلِ نَافِعٍ وَمِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَمَّا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَالظَّاهِرِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِنْ كَانَ مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ مَقْبُولٌ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا سَمِعَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ
قَالَ الْحَافِظُ وَفِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كعب مرفوعا لاشغار قالوا يارسول اللَّهِ وَمَا الشِّغَارُ قَالَ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ بَالْمَرْأَةِ لا صداق بينهما وإسناده ضعيفا لَكِنَّهُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ
هَذَا كُلُّهُ تَلْخِيصُ مَا فِي التَّلْخِيصِ وَالْفَتْحِ
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشغار زاد بن نُمَيْرٍ وَالشِّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ زَوِّجْنِي ابنتك(6/60)
وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي الْحَدِيثَ (يَنْكِحُ ابْنَةَ الرَّجُلِ) أَيْ يَتَزَوَّجُ رَجُلٌ بِنْتَ رَجُلٍ (وَيُنْكِحُهُ) بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِنْكَاحِ
وَالْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الشِّغَارِ حَرَامٌ بَاطِلٌ
قَالَ النَّوَوِيُّ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ هُوَ نَهْيٌ يَقْتَضِي إِبْطَالَ النِّكَاحِ أَمْ لَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي إِبْطَالُهُ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ
وَقَالَ مَالِكٌ يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَبْلَهُ لَا بَعْدَهُ
وَقَالَ جَمَاعَةٌ يَصِحُّ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وإسحاق وبه قال أبو ثور وبن جَرِيرٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْبَنَاتِ مِنَ الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَالْإِمَاءِ كَالْبَنَاتِ فِي هَذَا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ
[2075] (وَكَانَا جَعَلَا صَدَاقًا) مَفْعُولُ جَعَلَا الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ أَيْ كَانَا جَعَلَا إِنْكَاحَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ ابْنَتَهُ صَدَاقًا (فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ) بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْخَلِيفَةُ (إِلَى مَرْوَانَ) بْنِ الْحَكَمِ وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَقَالَ فِي كِتَابِهِ) الَّذِي كَتَبَ إِلَى مَرْوَانَ (هَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ إِذَا وَقَعَ النِّكَاحُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْفُقَهَاءُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد روى بن حِبَّان فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ ثَابِت عَنْ أَنَس قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا شِغَار فِي الْإِسْلَام وَمِنْ حَدِيث حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الْحَسَن عَنْ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا شِغَار
وَمَنْ اِنْتَهَبَ نُهْبَة فَلَيْسَ منا(6/61)
وَمِمَّنْ أَبْطَلَ هَذَا النِّكَاحَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ النِّكَاحُ جَائِزٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَمَعْنَى النَّهْيِ فِي هَذَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَسْتَحِلَّ الْفَرْجَ بِغَيْرِ مَهْرٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَصْلُ الشَّغْرِ فِي اللُّغَةِ الرَّفْعُ يُقَالُ شَغَرَ الْكَلْبُ بِرِجْلِهِ إِذَا رَفَعَهَا عِنْدَ الْبَوْلِ قَالَ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا النِّكَاحُ شِغَارًا لِأَنَّهُمَا رَفَعَا الْمَهْرَ بَيْنَهُمَا قَالَ وَهَذَا الْقَائِلُ لَا يَنْفَصِلُ مِمَّنْ قَالَ بَلْ سُمِّيَ شِغَارًا لِأَنَّهُ رَفَعَ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ فَارْتَفَعَ النِّكَاحُ وَالْمَهْرُ مَعًا وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ قَدِ انْطَوَى عَلَى أَمْرَيْنِ معا أن البدل ها هنا لَيْسَ شَيْئًا غَيْرَ الْعَقْدِ وَلَا الْعَقْدُ شَيْءٌ غَيْرُ الْبَدَلِ فَهُوَ إِذَا فَسَدَ مَهْرًا فَسَدَ عَقْدًا وَإِذَا أَبْطَلَتْهُ الشَّرِيعَةُ فَإِنَّهَا أَفْسَدَتْهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَانُوا يُوقِعُونَهُ وَكَانُوا يُوقِعُونَهُ مَهْرًا وعقدا فوجب أن يفسدا معا
وكان بن أَبِي هُرَيْرَةَ يُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَاسْتَثْنَى عضوا من أعضائها وهو مالا خِلَافَ فِي فَسَادِهِ
قَالَ وَكَذَلِكَ الشِّغَارُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ زَوَّجَ وَلِيَّتَهُ وَاسْتَثْنَى بُضْعَهَا حَتَّى جَعَلَهُ مَهْرًا لِصَاحِبَتِهَا وَعَلَّلَهُ فَقَالَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ لَهُ مَعْقُودٌ بِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ لَهَا مَعْقُودٌ بِهَا فَصَارَ كَالْعَبْدِ تَزَوَّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ رَقَبَتُهُ صَدَاقًا لِلزَّوْجَةِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ انْتَهَى
قُلْتُ صَرَّحَ بَالتَّحْدِيثِ
6 - (بَاب فِي التَّحْلِيلِ)
[2076] (قَالَ إِسْمَاعِيلُ وَأُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهُ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ يَرْجِعُ إِلَى عَامِرٍ (قَدْ رَفَعَهُ) أَيِ الْحَدِيثَ (لُعِنَ الْمُحِلُّ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْإِحْلَالِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُحَلِّلُ مِنَ التَّحْلِيلِ وَهُمَا بِمَعْنًى أَيِ الَّذِي تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةَ غَيْرِهِ ثَلَاثًا بِقَصْدِ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْوَطْءِ لِيُحِلَّ الملطق نِكَاحَهَا
قِيلَ سُمِّيَ مُحَلِّلًا لِقَصْدِهِ إِلَى التَّحْلِيلِ (وَالْمُحَلَّلُ لَهُ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى أَيِ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُطَلِّقُ ثَلَاثًا
قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ إِذَا شَرَطَ الزَّوْجُ أَنَّهُ إِذَا نَكَحَهَا بَانَتْ مِنْهُ أَوْ شَرَطَ أَنَّهُ يُطَلِّقَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا شَكَّ أَنَّ إِطْلَاقَهُ يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ وَغَيْرَهَا لَكِنْ رَوَى الْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أبي(6/62)
غَسَّانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ قال جاء رجل إلى بن عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا أَخٌ لَهُ عَنْ غَيْرِ مُؤَامَرَةٍ لِيُحِلَّهَا لِأَخِيهِ هَلْ يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ قَالَ لَا إِلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ بن حَزْمٍ لَيْسَ الْحَدِيثُ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مُحَلِّلٍ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ وَاهِبٍ وَبَائِعٍ وَمُزَوِّجٍ فَصَحَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَعْضَ الْمُحِلِّينَ وَهُوَ مَنْ أَحَلَّ حَرَامًا لِغَيْرِهِ بِلَا حُجَّةَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَنْ شَرَطَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا لَمْ يَنْوِ تَحْلِيلَهَا لِلْأَوَّلِ وَنَوَتْهُ هِيَ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي اللَّعْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الشَّرْطُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ شَرْطٍ بَيْنَهُمَا فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ مُتَنَاهٍ إِلَى مُدَّةٍ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا وَكَانَ نِيَّةً وَعَقِيدَةً فَهُوَ مَكْرُوهٌ فَإِنْ أَصَابَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ فَقَدْ حَلَّتْ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَقَدْ كَرِهَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُضْمِرَا أَوْ يَنْوِيَا أَوْ أَحَدُهُمَا التَّحْلِيلَ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْاهُ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ لَا يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ فَإِنْ كَانَتْ نِيَّةُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي أَوِ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِزَوْجِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا لَا يُعْجِبُنِي إِلَّا أَنْ يُفَارِقَهَا وَيَسْتَأْنِفَ نِكَاحًا جَدِيدًا
وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ
انْتَهَى كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ وَإِنَّمَا لَعَنَهُمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ الْمُرُوءَةِ وَقِلَّةِ الْحَمِيَّةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى خِسَّةِ النَّفْسِ وسقوطها
أما النسبة إِلَى الْمُحَلَّلِ لَهُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا بَالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحَلِّلِ فَلِأَنَّهُ يُعِيرُ نَفْسَهُ بَالْوَطْءِ لِغَرَضِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَطَؤُهَا لِيُعَرِّضَهَا لِوَطْءِ الْمُحَلَّلِ لَهُ وَلِذَلِكَ مَثَّلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ
ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ نَقْلًا عَنِ الْقَاضِي
[2077] (فَرَأَيْنَا أَنَّهُ) أَيِ الرَّجُلُ (بِمَعْنَاهُ) أَيْ بِمَعْنَى الحديث المذكور
قال المنذري وأخرجه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَحَدِيث جَابِر الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث مُجَالِد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ قَالَ هَكَذَا رَوَى أَشْعَث بْن عَبْد الرَّحْمَن عَنْ مُجَالِد عَنْ عَامِر عَنْ جَابِر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا حَدِيث لَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَائِمِ لِأَنَّ مُجَالِد بْن سَعِيد قَدْ ضَعَّفَهُ بعض أهل(6/63)
الترمذي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ عَلِيٍّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
والحارث هذا هو بن عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْوَرُ الْكُوفِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو زُهَيْرٍ وَكَانَ كَذَّابًا
وَقَدْ رَوَى هُذَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ النَّخَعِيُّ لَا يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ فَإِنْ كَانَ نِيَّةُ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي أَوِ الْمَرْأَةِ أَنَّهُ مُحَلِّلٌ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ عَقَدَ النِّكَاحَ مُطْلَقًا لَا شَرْطَ فِيهِ فَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَلَا تُفْسِدُ النِّيَّةُ مِنَ النِّكَاحِ شَيْئًا لِأَنَّ النِّيَّةَ حَدِيثُ نَفْسٍ وَقَدْ رُفِعَ عَنِ النَّاسِ مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمُ انْتَهَى
7 - (بَاب فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ مواليه)
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ
[2078] (بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) جَمْعُ مَوْلًى أَيْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ (فَهُوَ عَاهِرٌ) أَيْ زَانٍ
وَاسْتَدَلَّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الْعِلْم مِنْهُمْ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَرَوَى عَبْد اللَّه بْن نُمَيْر هَذَا الْحَدِيث عَنْ مُجَالِد عَنْ عَامِر عَنْ جَابِر عَنْ عَلِيّ وَهَذَا وهم وهم فيه بن نُمَيْر وَالْحَدِيث الْأَوَّل أَصَحّ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيث عَنْ عَلِيّ مِنْ غَيْر وَجْه قَالَ فِي الْبَاب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَعُقْبَة بْن عامر وبن عَبَّاس قَالَ وَالْعَمَل عَلَى هَذَا الْحَدِيث عِنْد أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن عَفَّان وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَغَيْرهمْ وَهُوَ قَوْل الْفُقَهَاء مِنْ التَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُول سفيان الثوري وبن الْمُبَارَك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق قَالَ وَسَمِعْت الْجَارُود يَذْكُر عَنْ وَكِيع أَنَّهُ قَالَ بِهَذَا وَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْمَى بِهَذَا الْبَاب مِنْ قَوْل أَصْحَاب الرَّأْي قَالَ وَكِيع وَقَالَ سُفْيَان إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُل الْمَرْأَة لِيُحِلّهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُمْسِكهَا فَلَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يُمْسِكهَا حَتَّى يَتَزَوَّجهَا بِنِكَاحٍ جَدِيد
تَمَّ كَلَامه
وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ لَا يُحِلّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّل إِلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَة فَإِنْ كَانَتْ نِيَّة أَحَد الثَّلَاثَة الزَّوْج الْأَوَّل أَوْ الثَّانِي أَوْ الْمَرْأَة أَنْ تُحَلَّل فَالنِّكَاح بَاطِل وَلَا تَحِلّ لِلْأَوَّلِ(6/64)
بَالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ إِنَّ نِكَاحَ الْعَبْدِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَذَلِكَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَاهِرٌ وَالْعَاهِرُ الزَّانِي وَالزِّنَا بَاطِلٌ
وَقَالَ دَاوُدُ إِنَّ نِكَاحَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ النِّكَاحَ عِنْدَهُ فَرْضُ عَيْنٍ وَفُرُوضُ الْأَعْيَانِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ وَهُوَ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ
وَقَالَ فِي السُّبُلِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَدَيْهِ الْحَدِيثُ
قَالَ الْمُظْهِرُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَلَا يَصِيرُ الْعَقْدُ صَحِيحًا عِنْدَهُمَا بَالْإِجَازَةِ بَعْدَهُ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إِنْ أَجَازَ بَعْدَ الْعَقْدِ صَحَّ
ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
[2079] (حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْكَافِ وَفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ (إِذَا نَكَحَ) أَيْ تَزَوَّجَ (فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَإِنَّمَا بَطَلَ نِكَاحُ الْعَبْدِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَقَبَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ مَمْلُوكَتَانِ لِسَيِّدِهِ وَهُوَ إِذَا اشْتَغَلَ بِحَقِّ الزَّوْجَةِ لَمْ يَتَفَرَّغْ لِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ وَكَانَ فِي ذَلِكَ ذَهَابُ حَقِّهِ فَأَبْطَلَ النِّكَاحَ إِبْقَاءً لِمَنْفَعَتِهِ عَلَى صَاحِبِهِ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى بُطْلَانِ هَذَا النِّكَاحِ (قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ إِلَخْ) لِأَنَّ فِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ الْعُمَرِيَّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَرَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَصِحُّ والصواب أنه موقوف على بن عُمَرَ
8 - (بَاب فِي كَرَاهِيَةِ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ)
[2080] الْخِطْبَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْتِمَاسٌ لِلنِّكَاحِ وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَالْحَجِّ وبين يدي
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ فِي كِتَاب الْعِلَل سَأَلْت مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ هُوَ حَدِيث حَسَن وعبد الله بن جعفر المخزمي صَدُوق ثِقَة وَعُثْمَان بْنُ مُحَمَّد الْأَخْنَسِيّ ثِقَة وَكُنْت أَظُنّ أَنَّ عُثْمَان لَمْ يَسْمَع مِنْ سعيد المقبري(6/65)
عَقْدِ النِّكَاحِ فَبِضَمِّ الْخَاءِ
(لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ) بِضَمِّ الْبَاءِ عَلَى أَنَّ لَا نَافِيَةٌ وَبِكَسْرِهَا عَلَى أَنَّهَا نَاهِيَةٌ
قَالَ السُّيُوطِيُّ الْكَسْرُ وَالنَّصْبُ عَلَى كَوْنِهِ نَهْيًا فَالْكَسْرُ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي تَحْرِيكِ السَّاكِنِ وَالْفَتْحُ لِأَنَّهَا أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ وَأَمَّا الرفع فعلى كونه نفيا ذكره القارىء فِي الْمِرْقَاةِ وَقَالَ وَالْفَتْحُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ رِوَايَةً وَدِرَايَةً (عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ) عَبَّرَ بِهِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى كَمَالِ التَّوَدُّدِ وَقَطْعِ صُوَرِ الْمُنَافَرَةِ أَوْ لِأَنَّ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ إِسْلَامًا
وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّحْرِيمِ كَمَا حَكَى ذَلِكَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي
وقال الخطابي إن النهي ها هنا لِلتَّأْدِيبِ وَلَيْسَ بِنَهْيِ تَحْرِيمٍ يُبْطِلُ الْعَقْدَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ
قَالَ الْحَافِظُ وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ كَوْنِهِ لِلتَّحْرِيمِ وَبَيْنَ الْبُطْلَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ لِلتَّحْرِيمِ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّحْرِيمِ بَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطِهِ فَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَحَلُّ التَّحْرِيمِ إِذَا صَرَّحَتِ الْمَخْطُوبَةُ بَالْإِجَابَةِ أَوْ وَلِيُّهَا الَّذِي أَذِنَتْ لَهُ فَلَوْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بَالرَّدِّ فَلَا تَحْرِيمَ وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِجَابَةِ
وَأَمَّا مَا احْتُجَّ بِهِ مِنْ قَوْلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَاهَا فَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا بَلْ خَطَبَهَا لِأُسَامَةَ فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا خَطَبَاهَا مَعًا أَوْ لَمْ يَعْلَمِ الثَّانِي بِخِطْبَةِ الْأَوَّلِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ بِأُسَامَةَ وَلَمْ يَخْطُبْ كَمَا سَيَأْتِي
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطْبَةً فَلَعَلَّهُ كَانَ بَعْدَ ظُهُورِ رَغْبَتِهَا عَنْهُمَا
وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ لَا تَمْتَنِعُ الْخِطْبَةُ إِلَّا بَعْدَ التَّرَاضِي عَلَى الصَّدَاقِ وَلَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ
وَقَالَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ إِذَا تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فُسِخَ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُفْسَخُ قَبْلَهُ لَا بَعْدَهُ
قَالَ فِي الْفَتْحِ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْخِطْبَةُ وَهِيَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِوُقُوعِهَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ
كَذَا فِي النَّيْلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ بَعْضهمْ قَالَ نَهْيه أَنْ يَخْطُب الرَّجُل عَلَى خِطْبَة أَخِيهِ مَنْسُوخ بِخِطْبَتِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَة فَاطِمَة بنت قيس
قال الشيخ بن قَيِّم الْجَوْزِيَّة يَعْنِي بَعْد أَنْ خَطَبَهَا مُعَاوِيَة وَأَبُو جَهْم
قَالَ وَهَذَا(6/66)
[2081] (لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَبِيعُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَا يَبِعْ بَالْجَزْمِ وَيَأْتِي شَرْحُ قَوْلِهِ وَلَا يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَنَّ مَحَلَّ التَّحْرِيمِ إِذَا كَانَ الْخَاطِبُ مُسْلِمًا فَلَوْ خَطَبَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً فَأَرَادَ الْمُسْلِمُ أَنْ يَخْطُبَهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ووافقه من الشافعية بن المنذر وبن جُوَيْرِيَةَ وَالْخَطَّابِيُّ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَتِهِ حَتَّى يَذَرَ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قَطَعَ اللَّهُ الْأُخُوَّةَ بَيْنَ الكافر والمسلم فيختص النهي بالمسلم
وقال بن الْمُنْذِرِ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْإِبَاحَةُ حَتَّى يَرِدَ الْمَنْعُ وَقَدْ وَرَدَ الْمَنْعُ مُقَيَّدًا بَالْمُسْلِمِ فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِلْحَاقِ الذِّمِّيِّ بَالْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ التَّعْبِيرَ بِأَخِيهِ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقْتُلُوا أولادكم وكقوله وربائبكم اللاتي في حجوركم وَنَحْو ذَلِكَ وَبَنَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَاحْتِرَامِهِ أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَعَلَى الْأَوَّلِ الرَّاجِحُ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَعَلَى الثَّانِي الرَّاجِحُ مَا قَالَ غَيْرُهُ
قَالَهُ فِي الْفَتْحِ قَالَ المنذري وأخرجه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
غَلَط فَإِنَّ فَاطِمَة لَمْ تَرْكَن إِلَى وَاحِد مِنْهُمَا وَإِنَّمَا جَاءَتْ مُسْتَشِيرَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ عَلَيْهَا بِمَا هُوَ الْأَصْلَح لَهَا وَالْأَرْضَى لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَمْ يَخْطُبهَا لِنَفْسِهِ وَمَوْرِد النَّهْي إِنَّمَا هُوَ خِطْبَة الرَّجُل لِنَفْسِهِ عَلَى خِطْبَة أَخِيهِ فَأَمَّا إِشَارَته عَلَى الْمَرْأَة إِذَا اِسْتَشَارَتْهُ بِالْكُفْءِ الصَّالِح فَأَيْنَ ذَلِكَ مِنْ الْخِطْبَة عَلَى خِطْبَة أَخِيهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ غَلَط الْقَائِل وَالْحَمْد لِلَّهِ
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْأَحْكَام الْمُمْتَنِع نَسْخهَا فَإِنَّ صَاحِب الشَّرْع عَلَّلَهُ بِالْأُخُوَّةِ وَهِيَ عِلَّة مَطْلُوبَة الْبَقَاء وَالدَّوَام لَا يَلْحَقهَا نَسْخ وَلَا إِبْطَال(6/67)
(باب الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى الْمَرْأَةِ وَهُوَ يُرِيدُ تَزْوِيجَهَا)
[2082] (إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ) أَيْ أَرَادَ خِطْبَتَهَا وَهِيَ بِكَسْرِ الْخَاءِ مُقَدِّمَاتُ الْكَلَامِ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ عَلَى الْخُطْبَةِ بَالضَّمِّ وَهِيَ الْعَقْدُ (فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا) أَيْ عُضْوٌ (يَدْعُوهُ) أَيْ يَحْمِلُهُ وَيَبْعَثُهُ (فَلْيَفْعَلْ) الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ بِقَرِينَةِ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَحَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول إذا ألقى الله عزوجل فِي قَلْبِ امْرِئٍ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلَا بَأْسَ أن ينظر إليها رواه أحمد وبن مَاجَهْ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ اسْتِحْبَابُ النَّظَرِ إِلَى مَنْ يُرِيدُ تَزَوُّجَهَا وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَدُ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ
وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ قَوْمٍ كَرَاهَتَهُ وَهَذَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَالَ الشَّافِعِيّ يَنْظُر إِلَى وَجْههَا وَكَفَّيْهَا وَهِيَ مُتَغَطِّيَة وَلَا يَنْظُر إِلَى مَا وَرَاء ذَلِكَ
وَقَالَ دَاوُد يَنْظُر إِلَى سَائِر جَسَدهَا
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَعَنْ أَحْمَد ثَلَاث رِوَايَات إِحْدَاهُنَّ يَنْظُر إِلَى وَجْههَا وَيَدَيْهَا وَالثَّانِيَة يَنْظُر مَا يَظْهَر غَالِبًا كَالرَّقَبَةِ وَالسَّاقَيْنِ وَنَحْوهمَا وَالثَّالِثَة يَنْظُر إِلَيْهَا كُلّهَا عَوْرَة وَغَيْرهَا فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَنْظُر إِلَيْهَا مُتَجَرِّدَة وَاللَّفْظ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِم لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي نَظَر الْخَاطِب وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ خَطَبَ رَجُل اِمْرَأَة مِنْ الْأَنْصَار فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ نَظَرْت إِلَيْهَا قَالَ لَا فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْظُر إِلَيْهَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيق يَزِيد بْن كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة
قَالَ مَرْوَان بْنُ مُعَاوِيَة الْفَزَارِيُّ عَنْ يَزِيد
خَطَبَ رَجُل اِمْرَأَة
وَقَالَ سُفْيَان عَنْ يَزِيد عَنْ أَبِي حَازِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة
أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّج اِمْرَأَة وَهَذَا مُفَسِّر لِحَدِيثِ مُسْلِم أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ اِمْرَأَة وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيث بَكْر بْن عَبْد اللَّه الْمُزَنِيِّ عَنْ الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة قَالَ خَطَبْت اِمْرَأَة عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَظَرْت إِلَيْهَا قُلْت
لَا قَالَ فَانْظُرْ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَم بَيْنكُمَا(6/68)
خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ لِلْحَاجَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَى وَالشَّهَادَةِ وَنَحْوِهَا ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا يُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَقَطْ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِعَوْرَةٍ وَلِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بَالْوَجْهِ عَلَى الْجَمَالِ أَوْ ضِدِّهِ وَبَالْكَفَّيْنِ عَلَى خُصُوبَةِ الْبَدَنِ أَوْ عَدَمِهَا
هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَنْظُرُ إِلَى مَوَاضِعِ اللَّحْمِ
وَقَالَ دَاوُدُ يَنْظُرُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا وَهَذَا خَطَأٌ ظَاهِرٌ مُنَابِذٌ لِأُصُولِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ثُمَّ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ هَذَا النَّظَرِ رِضَاهَا بَلْ لَهُ ذَلِكَ فِي غَفْلَتِهَا وَمِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ إِعْلَامٍ لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ أَكْرَهُ النَّظَرَ فِي غَفْلَتِهَا مَخَافَةً مِنْ وُقُوعِ نَظَرِهِ عَلَى عَوْرَةٍ
وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَشْتَرِطِ اسْتِئْذَانَهَا وَلِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي غَالِبًا مِنَ الْإِذْنِ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَغْرِيرًا فَرُبَّمَا رَآهَا فَلَمْ تُعْجِبْهُ فَيَتْرُكُهَا فَتَنْكَسِرُ وَتَتَأَذَّى وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ إِلَيْهَا قَبْلَ الْخِطْبَةِ حَتَّى إِنْ كَرِهَهَا تَرَكَهَا مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَرَكَهَا بَعْدَ الْخِطْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
(فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ) أَيْ أَخْتَفِي (مَا دعا لي) أَيْ حَمَلَنِي
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ انْتَهَى
قُلْتُ وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الشَّافِعِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
قَالَ الْحَافِظُ وَرِجَالُهُ ثقات وأعله بن الْقَطَّانِ بِوَاقِدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَالَ الْمَعْرُوفُ وَاقِدُ بْنُ عَمْرٍو وَرِوَايَةُ الْحَاكِمِ فِيهَا وَاقِدُ بْنُ عَمْرٍو وَكَذَا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ الْمَذْكُورُ
قَالَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ رِجَالُ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ وَحَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ سَكَتَ عَنْهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
0 - (بَاب فِي الْوَلِيِّ)
[2083] الْمُرَادُ بَالْوَلِيِّ هُوَ الْأَقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَةِ مِنَ النَّسَبِ ثُمَّ مِنَ السَّبَبِ ثُمَّ مِنْ عَصَبَتِهِ وَلَيْسَ لِذَوِي السِّهَامِ وَلَا لِذَوِي الْأَرْحَامِ وِلَايَةٌ وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَوِي
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَالَ التِّرْمِذِيّ وَذَكَرَ سُلَيْمَان بْن مُوسَى رَاوِيه عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة سليمان بن(6/69)
الْأَرْحَامِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَلِيٌّ أَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَعَضَلَ انْتَقَلَ الْأَمْرُ إِلَى السُّلْطَانِ
قَالَهُ فِي النَّيْلِ
وَقَالَ عَلِيٌّ القارىء الْحَنَفِيُّ الْوَلِيُّ هُوَ الْعَصَبَةُ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ بِشَرْطِ حُرِّيَّةٍ وَتَكْلِيفٍ ثُمَّ الْأُمُّ ثُمَّ ذُو الرَّحِمِ الأقرب فالأقرب ثم مولى الموالات ثُمَّ الْقَاضِي
(أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ) أَيْ نَفْسَهَا وَأَيُّمَا مِنَ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي سَلْبِ الْوِلَايَةِ عَنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ (بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا) أَيْ أَوْلِيَائِهَا (فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) أَيْ قَالَ كَلِمَةَ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (فَإِنْ دَخَلَ) أَيِ الَّذِي نَكَحَتْهُ بغير إذن وليها (فالمهر لها بما أصحاب مِنْهَا) وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا (فَإِنْ تَشَاجَرُوا) أَيْ تَنَازَعَ الْأَوْلِيَاءُ وَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ وَالتَّشَاجُرُ الْخُصُومَةُ وَالْمُرَادُ الْمَنْعُ من العقد دون المشاحة في السبق إِلَيْهِ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ فِي مَصْلَحَتِهَا
قَالَهُ فِي الْمَجْمَعِ (فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ من لاولي له) لأن
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
مُوسَى ثِقَة عِنْد أَهْل الْحَدِيث
لَمْ يَتَكَلَّم فِيهِ أَحَد مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ إِلَّا الْبُخَارِيّ وَحْده فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ أَجْل أَحَادِيث اِنْفَرَدَ بِهَا وَذَكَرَهُ دُحَيْم فَقَالَ فِي حَدِيثه بَعْض اِضْطِرَاب وَقَالَ لَمْ يَكُنْ فِي أَصْحَاب مَكْحُول أَثْبَت مِنْهُ وَقَالَ النَّسَائِيُّ
فِي حَدِيثه شَيْء وَقَالَ الْبَزَّار سُلَيْمَان بْن مُوسَى أَجَلُّ مِنْ بن جُرَيْجٍ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ
سُلَيْمَان بْن مُوسَى أَحْفَظ مِنْ مَكْحُول وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ مَعَ مَا فِي مَذْهَب أَهْل الْعِلْم بِالْحَدِيثِ مِنْ وُجُوب قَبُول خَبَر الصَّادِق وَإِنْ نَسِيَهُ مَنْ أَخْبَرَهُ عَنْهُ
قَالَ التِّرْمِذِيّ وَرَوَاهُ الْحَجَّاج بْن أَرْطَاة وَجَعْفَر بْن أَبِي رَبِيعَة عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَرُوِيَ عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم
قال بن جُرَيْجٍ ثُمَّ لَقِيت الزُّهْرِيِّ فَسَأَلْته فَأَنْكَرَهُ فَضَعَّفُوا هَذَا الْحَدِيث مِنْ أَجْل هَذَا وَذُكِرَ عَنْ يَحْيَى بْن مَعِين أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَذْكُر هذا الحرف عن بن جُرَيْجٍ إِلَّا إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم قَالَ يَحْيَى بْن مَعِين وَسَمَاع إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم مِنْ بن جُرَيْجٍ لَيْسَ بِذَاكَ
إِنَّمَا صَحَّحَ كُتُبه عَلَى كُتُب عَبْد الْمَجِيد بْن عَبْد الْعَزِيز بْن أبي رواد فيما سمع من بن جُرَيْجٍ وَضَعَّفَ يَحْيَى رِوَايَة إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيم عن بن جُرَيْجٍ
قَالَ التِّرْمِذِيّ
وَالْعَمَل عَلَى حَدِيث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَاب لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ عِنْد أَهْل الْعِلْم مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَعَبْد اللَّه بْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَغَيْرهمْ
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ فُقَهَاء التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ مِنْهُمْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَشُرَيْح وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ(6/70)
الْوَلِيَّ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ التَّزْوِيجِ فَكَأَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهَا فَيَكُونُ السُّلْطَانُ وَلِيَّهَا وَإِلَّا فَلَا وِلَايَةَ لِلسُّلْطَانِ مَعَ وُجُودِ الْوَلِيِّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَهُوَ عِنْدِي حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَمْ يُؤَثِّرْ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ إِنْكَارُ الزُّهْرِيِّ لَهُ فَإِنَّ الْحِكَايَةَ فِي ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَدْ وَهَّنَهَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ مَا فِي مَذْهَبِ أَهْلِ الْعِلْمِ بَالْحَدِيثِ مِنْ وُجُوبِ قَبُولِ خبر الصادق وإن نسميه مَنْ أَخْبَرَهُ عَنْهُ
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيُّ حَدِيثُ إِسْرَائِيلَ صَحِيحٌ فِي لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَسُئِلَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ الزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَإِسْرَائِيلُ ثِقَةٌ فَإِنْ كَانَ شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ أَرْسَلَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ الْحَدِيثَ انْتَهَى
وَقَالَ فِي النَّيْلِ وَأَسْنَدَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَالذُّهْلِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ صَحَّحُوا حَدِيثَ إِسْرَائِيلَ وَحَدِيثُ عائشة أخرجه أيضا أبو عوانة وبن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ أُعِلَّ بَالْإِرْسَالِ وتكلم فيه بعضهم من جهة أن بن جُرَيْجٍ قَالَ ثُمَّ لَقِيتُ الزُّهْرِيَّ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ وَقَدْ عَدَّ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَنْدَهْ عدة من رواه عن بن جُرَيْجٍ فَبَلَغُوا عِشْرِينَ رَجُلًا وَذَكَرَ أَنَّ مَعْمَرًا وعبيد الله بن زحر تابعا بن جُرَيْجٍ عَلَى رِوَايَتِهِ إِيَّاهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى وَأَنَّ قُرَّةَ وَمُوسَى بْنَ عُقْبَةَ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ وَأَيُّوبَ بْنَ مُوسَى وَهِشَامَ بْنَ سَعْدٍ وَجَمَاعَةً تَابَعُوا سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ وَرَوَاهُ أَبُو مَالِكٍ الْجَنْبِيُّ وَنُوحُ بْنُ دَرَّاجٍ وَمَنْدَلٌ وَجَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ وَجَمَاعَةٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عائشة
وقد أعل بن حبان وبن عدي وبن عبد البر والحاكم وغيره الحكاية عن بن جُرَيْجٍ بِإِنْكَارِ الزُّهْرِيِّ وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ لَا يَلْزَمُ مِنْ نِسْيَانِ الزُّهْرِيِّ لَهُ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى وَهِمَ فِيهِ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ إِلَّا بِوَلِيٍّ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي النكاح فالجمهور على اشتراطه وحكي عن بن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ وَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لا يشترط مطلقا واحتجوا بحديث بن عَبَّاسٍ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا الْحَدِيثَ وفي لفظ لِمُسْلِمٍ الْبِنْتُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْجَوَابُ ما قال بن الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهَا حَقًّا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَغَيْرهمْ
وَبِهَذَا يَقُول سُفْيَان الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَعَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاق(6/71)
وَجَعَلَهَا أَحَقَّ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إِلَّا مُبَاشَرَةً وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا
كَذَا فِي تَخْرِيجِ الْهِدَايَةِ لِلزَّيْلَعِيِّ
وَالْحَقُّ أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ الْوَلِيِّ بَاطِلٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أحاديث الباب
(جعفر) أي بن ربيعة (لم يسمع من الزهري) هو بن شِهَابٍ (كَتَبَ) أَيِ الزُّهْرِيُّ (إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى جَعْفَرٍ
[2085] (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَخِفَّةِ الدَّالِ (أَبُو عُبَيْدَةَ الْحَدَّادُ) هُوَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ وَاصِلٍ (عَنْ يُونُسَ) بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ أَبِي إِسْرَائِيلَ الْكُوفِيِّ (وَإِسْرَائِيلُ) بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) السَّبِيعِيِّ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْكِتَابِ هَذِهِ الْعِبَارَةُ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ وَإِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى انْتَهَى
وَهَذَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَالَ التِّرْمِذِيّ وَحَدِيث أَبِي مُوسَى حَدِيث فِيهِ اِخْتِلَاف رَوَاهُ إِسْرَائِيل وَشَرِيك بْن عَبْد اللَّه وَأَبُو عَوَانَة وَزُهَيْر بْن مُعَاوِيَة وَقَيْس بْن الرَّبِيع عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ أَسْبَاط بْن مُحَمَّد وَزَيْد بْن حُبَاب عَنْ يُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَة الْحَدَّاد عَنْ يُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوه) وَلَمْ يَذْكُر فِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاق وَقَدْ رُوِيَ عَنْ يُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَرَوَى شُعْبَة وَالثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ وَقَدْ ذَكَرَ بَعْض أَصْحَاب سُفْيَان عَنْ سُفْيَان (عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة) عَنْ أَبِي مُوسَى وَلَا يَصِحّ وَرِوَايَة هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة (عَنْ أَبِي مُوسَى) عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ عِنْدِي أَصَحّ لِأَنَّ سَمَاعهمْ مِنْ أَبِي إِسْحَاق فِي أَوْقَات مُخْتَلِفَة وَإِنْ كَانَ شُعْبَة وَالثَّوْرِيُّ أَحْفَظ وَأَثْبَت مِنْ جَمِيع هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَوَوْا عَنْ أَبِي إِسْحَاق هَذَا الْحَدِيث فَإِنَّ رِوَايَة هَؤُلَاءِ عِنْدِي أَشْبَه (وَأَصَحّ) لِأَنَّ شُعْبَة وَالثَّوْرِيَّ سَمِعَا هَذَا الْحَدِيث مِنْ أَبِي إِسْحَاق فِي مَجْلِس وَاحِد وَمِمَّا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا مَحْمُود بْن غَيْلَان حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا شُعْبَة قَالَ سَمِعْت سُفْيَان الثَّوْرِيُّ يَسْأَل أَبَا إِسْحَاق(6/72)
وَاضِحٌ (قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَهُوَ يُونُسُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ إِلَخْ) مَرَدُّ الْمُؤَلِّفِ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ الْحَدَّادَ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ شَيْخَيْهِ الْأَوَّلِ يُونُسَ وَهُوَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى بِغَيْرِ ذِكْرِ وَاسِطَةِ أَبِي إِسْحَاقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ أَبُو دَاوُدَ يُونُسُ لَقِيَ أَبَا بُرْدَةَ وَالثَّانِي عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى
قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ
رَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ انْتَهَى
وَأَمَّا غَيْرُ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَدَّادِ فَذَكَرَ وَاسِطَةَ أَبِي إِسْحَاقَ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَوَاهُ أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَزَيْدُ بْنُ حُبَابٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى
قُلْتُ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ انْتَهَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
أَسَمِعْت أَبَا بُرْدَة يَقُول قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ فَقَالَ نَعَمْ فَدَلَّ هَذَا (الْحَدِيث عَلَى) أَنَّ سَمَاع شُعْبَة وَالثَّوْرِيِّ هَذَا الْحَدِيث فِي وَقْت وَاحِد وَإِسْرَائِيل هُوَ ثَبَت فِي أَبِي إِسْحَاق سَمِعْت مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى يَقُول سَمِعْت عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ يَقُول مَا فَاتَنِي الَّذِي فَاتَنِي مِنْ حَدِيث الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاق إِلَّا لِمَا اِتَّكَلْت بِهِ عَلَى إِسْرَائِيل لِأَنَّهُ كَانَ يَأْتِي بِهِ أَتَمَّ
هَذَا آخِر كَلَام التِّرْمِذِيّ
وَقَالَ عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ
حَدِيث إِسْرَائِيل صَحِيح فِي لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ
وَسُئِلَ عَنْهُ الْبُخَارِيّ فَقَالَ
الزِّيَادَة مِنْ الثِّقَة مَقْبُولَة وَإِسْرَائِيل ثِقَة فَإِنْ كَانَ شُعْبَة وَالثَّوْرِيُّ أَرْسَلَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرّ الْحَدِيث
وَقَالَ قَبِيصَة بْن عُقْبَة جَاءَنِي عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيث فَحَدَّثْته بِهِ عَنْ يُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى لَمْ يَذْكُر فِيهِ أَبَا إِسْحَاق فَقَالَ اِسْتَرَحْنَا مِنْ خِلَاف أَبِي إِسْحَاق
قُلْت وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْن الصَّبَّاح عَنْ أَسْبَاط بْن مُحَمَّد عَنْ يُونُس عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِي مُوسَى ذَكَرَهُ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرَك فَهَذَا وَجْه
(الثَّانِي) رِوَايَة عِيسَى اِبْنه وَحَجَّاج بْن مُحَمَّد الْمِصِّيصِيّ وَالْحَسَن بْن قُتَيْبَة وَغَيْرهمْ عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا
(الثَّالِث) رِوَايَة شُعْبَة وَالثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا
هَذِهِ رِوَايَة أَكْثَر الْأَثْبَات عَنْهُمَا
(الرَّابِع) رِوَايَة يَزِيد بْن زُرَيْع عَنْ شُعْبَة وَرِوَايَة مُؤَمِّل بْن إِسْمَاعِيل وَبِشْر بْن مَنْصُور عَنْ الثَّوْرِيِّ كِلَيْهِمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي بُرْدَة عَنْ أَبِيهِ مَوْصُولًا
فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَوْجُه(6/73)
[2086] (عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ (أنها كانت عند بن جَحْشٍ) اسْمُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بَالتَّصْغِيرِ أَسْلَمَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ وَأَسْلَمَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ أَيْضًا وَهَاجَرَتْ إِلَى الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا عُبَيْدِ اللَّهِ فَتَنَصَّرَ زَوْجُهَا بَالْحَبَشَةِ وَمَاتَ بِهَا وَأَبَتْ هِيَ أَنْ تَتَنَصَّرَ وَثَبَتَتْ عَلَى إِسْلَامِهَا فَفَارَقَهَا (فَهَلَكَ) عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ أَيْ مَاتَ (عَنْهَا) أَيْ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ (فَزَوَّجَهَا) مِنَ التَّزْوِيجِ أَيْ أُمَّ حَبِيبَةَ (النَّجَاشِيُّ) مَلِكُ الْحَبَشَةِ وَهُوَ فَاعِلُ قَوْلِهِ زَوَّجَهَا (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْمَفْعُولُ الثَّانِي (وَهِيَ) أَيْ أُمُّ حَبِيبَةَ (عِنْدَهُمْ) أَيْ عِنْدَ أَهْلِ الحبشة مقيمة ما
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَالتَّرْجِيح لِحَدِيثِ إِسْرَائِيل فِي وَصْله مِنْ وُجُوه عَدِيدَة أَحَدهَا تَصْحِيح مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَئِمَّة لَهُ وَحُكْمهمْ لِرِوَايَتِهِ بِالصِّحَّةِ كَالْبُخَارِيِّ وَعَلِيّ بْن المديني والترمذي وبعدهم الحاكم وبن حبان وبن خُزَيْمَةَ
الثَّانِي تَرْجِيح إِسْرَائِيل فِي حِفْظه وَإِتْقَانه لِحَدِيثِ أَبِي إِسْحَاق وَهَذَا شِهَاده الْأَئِمَّة لَهُ وَإِنْ كَانَ شُعْبَة وَالثَّوْرِيُّ أَجَلُّ مِنْهُ لَكِنَّهُ لِحَدِيثِ أَبَى إِسْحَاق أَتْقَن وَبِهِ أَعْرَف
الثَّالِث مُتَابَعَة مَنْ وَافَقَ إِسْرَائِيل عَلَى وَصْله كَشَرِيكٍ وَيُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق
قَالَ عُثْمَان الدَّارِمِيُّ سَأَلْت يَحْيَى بْن مَعِين شَرِيك أَحَبُّ إِلَيْك فِي أَبِي إِسْحَاق أَوْ إِسْرَائِيل فَقَالَ شَرِيك أَحَبُّ إِلَيَّ وَهُوَ أَقْدَم وَإِسْرَائِيل صَدُوق قُلْت يُونُس بْن أَبِي إِسْحَاق أَحَبّ إِلَيْك أَوْ إِسْرَائِيل فَقَالَ كُلّ ثِقَة
الرَّابِع مَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيّ وَهُوَ أَنَّ سَمَاع الَّذِينَ وَصَلُوهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاق كَانَ فِي أَوْقَات مُخْتَلِفَة وَشُعْبَة وَالثَّوْرَيْ سَمِعَاهُ مِنْهُ فِي مَجْلِس وَاحِد
الْخَامِس أَنَّ وَصْله زِيَادَة مِنْ ثِقَة لَيْسَ دُون مَنْ أَرْسَلَهُ وَالزِّيَادَة إِذَا كَانَ هَذَا حَالهَا فَهِيَ مَقْبُولَة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيّ وَاَللَّه أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رَحِمَهُ اللَّه هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف الْمَعْلُوم عِنْد أَهْل الْعِلْم أَنَّ الَّذِي زَوَّجَ أُمّ حَبِيبَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ النَّجَاشِيّ فِي أَرْض الْحَبَشَة وَأَمْهَرَهَا مِنْ عِنْده وَزَوْجهَا الْأَوَّل الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ فِي الْحَبَشَة هُوَ عُبَيْد اللَّه بْن جَحْش بْن رِئَاب أَخُو زَيْنَب بِنْت جَحْش زَوْج رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَصَّرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَة وَمَاتَ بِهَا نَصْرَانِيًّا فَتَزَوَّجَ اِمْرَأَته رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي اِسْمهَا قَوْلَانِ أَحَدهمَا رَمْلَة وَهُوَ الْأَشْهَر وَالثَّانِي
هِنْد وَتَزْوِيج النَّجَاشِيّ لَهَا حَقِيقَة فَإِنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَهُوَ أَمِير البلد وسلطانه(6/74)
قدمت بالمدينة
قال بن الْأَثِيرِ فِي أُسْدِ الْغَابَةِ تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بَالْحَبَشَةِ زَوَّجَهَا مِنْهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَقِيلَ عَقَدَ عَلَيْهَا خالد بن سعيد بن العاص بن أمية وَأَمْهَرَهَا النَّجَاشِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مائة دِينَارٍ وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا عُثْمَانُ لَحْمًا وَقِيلَ أَوْلَمَ عَلَيْهَا النَّجَاشِيُّ وَحَمَلَهَا شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بَالْمَدِينَةِ
رَوَى مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَهَذَا مِمَّا يُعَدُّ مِنْ أَوْهَامِ مُسْلِمٍ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بَالْحَبَشَةِ قَبْلَ إِسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ السِّيَرِ فِي ذَلِكَ وَلَمَّا جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ لَمَّا أَوْقَعَتْ قُرَيْشٌ بِخُزَاعَةَ وَنَقَضُوا عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَافَ فَجَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيُجَدِّدَ الْعَهْدَ فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ فَلَمْ تَتْرُكْهُ يَجْلِسُ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ أَنْتَ مُشْرِكٌ
وَقَالَ قَتَادَةُ لَمَّا عَادَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ مُهَاجِرَةً إِلَى الْمَدِينَةِ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَهَا وَكَذَلِكَ رَوَى الليث عن عقيل عن بن شِهَابٍ وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بَالْحَبَشَةِ وَهُوَ أَصَحُّ وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ أُمَّ حَبِيبَةَ ابْنَتَهُ قَالَ ذَلِكَ الْفَحْلُ لَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْض الْمُتَكَلِّفِينَ عَلَى أَنَّهُ سَاقَ الْمَهْر مِنْ عِنْده
فَأُضِيفَ التَّزْوِيج إِلَيْهِ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضهمْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ هُوَ الْخَاطِب وَاَلَّذِي وَلِيَ الْعَقْد عُثْمَان بْن عَفَّان وَقِيلَ عَمْرو بْن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ
وَالصَّحِيح أَنَّ عَمْرو بْن أُمَيَّة كَانَ وَكِيل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ بَعَثَ بِهِ النَّجَاشِيّ يُزَوِّجهُ إِيَّاهَا وَقِيلَ الَّذِي وَلِيَ الْعَقْد عَلَيْهَا خالد بن سعيد بن العاص بن عَمّ أَبِيهَا
وَقَدْ رَوَى مُسْلِم فِي الصَّحِيح من حديث عكرمة بن عمار عن بن عَبَّاس قَالَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى أَبِي سُفْيَان وَلَا يُقَاعِدُونَهُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا نَبِيّ اللَّه ثَلَاث أَعْطَيْتهنَّ قَالَ نَعَمْ قَالَ عِنْدِي أَحْسَن الْعَرَب وَأَجْمَلهَا أُمّ حَبِيبَة بِنْت أَبِي سُفْيَان أُزَوِّجكهَا قَالَ نَعَمْ قَالَ وَمُعَاوِيَة تَجْعَلهُ كَاتِبًا بَيْن يَدَيْك
قَالَ نَعَمْ قَالَ وَتَأْمُرنِي حَتَّى أُقَاتِل الْكُفَّار كَمَا كُنْت أُقَاتِل الْمُسْلِمِينَ قَالَ نَعَمْ وَقَدْ رَدَّ هَذَا الْحَدِيث جَمَاعَة مِنْ الْحُفَّاظ وَعَدُّوهُ مِنْ الْأَغْلَاط فِي كِتَاب مُسْلِم قَالَ بن حَزْم هَذَا حَدِيث مَوْضُوع لَا شَكَّ فِي وَضْعه وَالْآفَة فِيهِ مِنْ عِكْرِمَة بْن عَمَّار فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِف فِي أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا قَبْل الْفَتْح بِدَهْرٍ وَأَبُوهَا كَافِر وَقَالَ أَبُو الْفَرَج بْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَاب الْكَشْف لَهُ هَذَا الْحَدِيث وَهْم مِنْ بَعْض الرُّوَاة لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَرَدُّد وَقَدْ اِتَّهَمُوا بِهِ عِكْرِمَة بْن عَمَّار رَاوِيه وَقَدْ ضَعَّفَ أَحَادِيثه يَحْيَى بْن سَعِيد الْأَنْصَارِيّ وَقَالَ لَيْسَتْ بِصِحَاحٍ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْن حَنْبَل هِيَ أَحَادِيث ضِعَاف وَكَذَلِكَ لَمْ يُخَرِّج عَنْهُ الْبُخَارِيّ إِنَّمَا أَخْرَجَ عَنْهُ مُسْلِم لِقَوْلِ يَحْيَى بْن مَعِين ثِقَة
قَالَ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا وَهْم لِأَنَّ أَهْل التَّارِيخ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أُمّ حَبِيبَة كَانَتْ تَحْت عُبَيْد اللَّه بْن جَحْش وَوَلَدَتْ لَهُ وَهَاجَرَ بِهَا وَهُمَا مُسْلِمَانِ إِلَى أَرْض الْحَبَشَة ثُمَّ تَنَصَّرَ وَثَبَتَتْ أُمّ حَبِيبَة عَلَى(6/75)
يُقْدَعُ أَنْفُهُ وَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ سِتٍّ وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ انْتَهَى
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْإِصَابَةِ أَخْرَجَ بن سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ قَالَ قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ زَوْجِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ بِأَسْوَأِ صُورَةٍ فَفَزِعْتُ فَأَصْبَحْتُ فَإِذَا بِهِ قَدْ تَنَصَّرَ فَأَخْبَرْتُهُ بَالْمَنَامِ فَلَمْ يَحْفِلْ بِهِ وَأَكَبَّ عَلَى الْخَمْرِ حَتَّى مَاتَ فَأَتَانِي آتٍ في نومي فقال ياأم المؤمنين فَفَزِعْتُ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنِ انْقَضَتْ عِدَّتِي فَمَا شَعَرْتُ إِلَّا بِرَسُولِ النَّجَاشِيِّ يَسْتَأْذِنُ فَإِذَا هِيَ جَارِيَةٌ لَهُ يُقَالُ لَهَا أَبْرَهَةُ فَقَالَتْ إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكِ وَكِّلِي مَنْ يُزَوِّجُكِ فَأَرْسَلْتُ إِلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ فَوَكَّلْتُهُ فَأَعْطَيْتُ أَبْرَهَةَ سِوَارَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ أَمَرَ النَّجَاشِيُّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحَضَرُوا فَخَطَبَ النَّجَاشِيُّ فَحَمِدَ اللَّهَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
دِينهَا فَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيّ يَخْطُبهَا عَلَيْهِ فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا وَأَصْدَقَهَا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم وَذَلِكَ سَنَة سَبْع مِنْ الْهِجْرَة وَجَاءَ أَبُو سُفْيَان فِي زَمَن الْهُدْنَة فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَنَحَّتْ بِسَاط رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَا يَجْلِس عَلَيْهِ وَلَا خِلَاف أَنَّ أَبَا سُفْيَان وَمُعَاوِيَة أَسْلَمَا فِي فَتْح مَكَّة سَنَة ثَمَان وَلَا يُعْرَف أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَبَا سُفْيَان
وَقَدْ تَكَلَّفَ أَقْوَام تَأْوِيلَات فَاسِدَة لِتَصْحِيحِ الْحَدِيث كَقَوْلِ بَعْضهمْ إِنَّهُ سَأَلَهُ تَجْدِيد النِّكَاح عَلَيْهَا وَقَوْل بَعْضهمْ إِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ النِّكَاح بِغَيْرِ إِذْنه وَتَزْوِيجه غَيْر تَامّ فَسَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُزَوِّجهُ إِيَّاهَا نِكَاحًا تَامًّا فَسَلَّمَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاله وَطَيَّبَ قَلْبه بِإِجَابَتِهِ وَقَوْل بَعْضهمْ إِنَّهُ ظَنَّ أن التخيير كان طلاقا فسأل رجعتها وَابْتِدَاء النِّكَاح عَلَيْهَا وَقَوْل بَعْضهمْ إِنَّهُ اِسْتَشْعَرَ كَرَاهَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا وَأَرَادَ بِلَفْظِ التَّزْوِيج اِسْتِدَامَة نِكَاحهَا لَا اِبْتِدَاءَهُ وَقَوْل بَعْضهمْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون وَقَعَ طَلَاق فَسَأَلَ تَجْدِيد النِّكَاح وَقَوْل بَعْضهمْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَبُو سُفْيَان قَالَ ذَلِكَ قَبْل إِسْلَامه كَالْمُشْتَرِطِ لَهُ فِي إِسْلَامه وَيَكُون التَّقْدِير ثَلَاث إِنْ أَسْلَمْت تُعْطِينِيهِنَّ وَعَلَى هَذَا اِعْتَمَدَ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ فِي جَوَابَاته لِلْمَسَائِلِ الْوَارِدَة عَلَيْهِ وَطَوَّلَ فِي تَقْرِيره
وَقَالَ بَعْضهمْ إِنَّمَا سَأَلَهُ أَنْ يُزَوِّجهُ اِبْنَته الْأُخْرَى وَهِيَ أُخْتهَا وَخَفِيَ عَلَيْهِ تَحْرِيم الْجَمْع بَيْن الْأُخْتَيْنِ لِقُرْبِ عَهْده بِالْإِسْلَامِ فَقَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى اِبْنَته أُمّ حَبِيبَة حَتَّى سَأَلَتْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَغَلِطَ الرَّاوِي فِي اِسْمهَا
وَهَذِهِ التَّأْوِيلَات فِي غَايَة الْفَسَاد وَالْبُطْلَان وَأَئِمَّة الْحَدِيث وَالْعِلْم لَا يَرْضَوْنَ بِأَمْثَالِهَا وَلَا يُصَحِّحُونَ أَغْلَاط الرُّوَاة بِمِثْلِ هَذِهِ الْخَيَالَات الْفَاسِدَة وَالتَّأْوِيلَات الْبَارِدَة الَّتِي يَكْفِي فِي الْعِلْم بِفَسَادِهَا تَصَوُّرهَا وَتَأَمَّلْ الْحَدِيث
وَهَذَا التَّأْوِيل الْأَخِير وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِر أَقَلّ فَسَادًا فَهُوَ أَكْذَبهَا وَأَبْطَلُهَا وَصَرِيح الْحَدِيث يَرُدّهُ فَإِنَّهُ قَالَ أُمّ حَبِيبَة أُزَوِّجكهَا قال نعم فلو كان المسؤول تَزْوِيج أُخْتهَا لَمَا أَنْعَمَ لَهُ بِذَلِكَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْحَدِيث غَلَط لَا يَنْبَغِي التَّرَدُّد فِيهِ وَاَللَّه أَعْلَم(6/76)
وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ فَأَجَبْتُ وقد أصدقتها عنه أربع مائة دِينَارٍ ثُمَّ سَكَبَ الدَّنَانِيرَ فَخَطَبَ خَالِدٌ فَقَالَ قَدْ أَجَبْتُ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوَّجْتُهُ أُمَّ حَبِيبَةَ وَقَبَضَ الدَّنَانِيرَ وَعَمِلَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ طَعَامًا فَأَكَلُوا
قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيَّ الْمَالُ أَعْطَيْتُ أَبْرَهَةَ مِنْهُ خَمْسِينَ دِينَارًا
قَالَتْ فَرَدَّتْهَا عَلَيَّ وَقَالَتْ إِنَّ الْمَلِكَ عَزَمَ عَلَيَّ بِذَلِكَ وَرَدَّتْ عَلَيَّ مَا كُنْتُ أَعْطَيْتُهَا أَوَّلًا ثُمَّ جَاءَتْنِي مِنَ الْغَدِ بِعُودٍ وَوَرْسٍ وَعَنْبَرٍ وَزَبَادٍ كَثِيرٍ فَقَدِمْتُ بِهِ مَعِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وروى بن سَعْدٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَقِيلَ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ
وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ الرَّسُولَ إِلَى النَّجَاشِيِّ بَعَثَ بِهَا مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى أَنَّ الرَّسُولَ إِلَى النَّجَاشِيِّ بِذَلِكَ كَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ
وَمُطَابَقَةُ الْبَابِ بِقَوْلِهِ فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ لِأَنَّ أَبَاهَا أَبَا سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ ذَلِكَ الزَّمَانَ وَكَانَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ أَسْلَمَتْ فَلَمْ يَكُنْ أَبُو سُفْيَانَ وَلِيُّهَا فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ لِأَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَنْ لا ولي له
وعلى رواية بن سَعْدٍ كَمَا فِي الْإِصَابَةِ وَعَلَى رِوَايَةِ زُبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ كَمَا فِي أُسْدِ الْغَابَةِ كَانَ خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس أخ أُمِّ حَبِيبَةَ حَاضِرًا وَمُتَوَلِّيًا لِأَمْرِ النِّكَاحِ وَيَجِيءُ بَعْضُ الْبَيَانِ فِي بَابِ الصَّدَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ
1 - (بَاب فِي الْعَضْلِ)
[2087] الْعَضْلُ مَنْعُ الْوَلِيِّ مَوْلَاهُ مِنَ النِّكَاحِ
(كَانَتْ لِي أُخْتٌ) اسْمُهَا جُمَيْلُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ بِنْتُ يَسَارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ وَقِيلَ اسْمُهَا لَيْلَى قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ تَبَعًا للسهيلي في مبهمات القرآن
وعند بن إِسْحَاقَ فَاطِمَةُ فَيَكُونُ لَهَا اسْمَانِ وَلَقَبٌ أَوْ لَقَبَانِ وَاسْمٌ قَالَهُ الْعَلَّامَةُ الْقَسْطَلَّانِيُّ (تُخْطَبُ) بِصِيغَةِ المجهول من الخطبة بالكسر (فأتاني بن عَمٍّ لِي فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ
قَالَ الْحَافِظُ قِيلَ هُوَ أَبُو الْبَدَّاحِ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْصَارِيُّ هَكَذَا وَقَعَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي ثُمَّ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي اسْمِ هَذَا الرَّجُلِ ثُمَّ قَالَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ عَنِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ فَأَتَانِي بن عم(6/77)
لِي فَخَطَبَهَا مَعَ الْخُطَّابِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ مُزَنِيٌّ وَأَبُو الْبَدَّاحِ أنصاري فيحتمل أنه بن عَمِّهِ لِأُمِّهِ أَوْ مِنَ الرَّضَاعَةِ (فَقُلْتُ لَا وَاللَّهِ لَا أُنْكِحُهَا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ لَا أُزَوِّجُهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا أَنْكَحْتُكَهَا (فَفِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ) هَذَا صَرِيحٌ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَوْنَ ظَاهِرِ الْخِطَابِ فِي السِّيَاقِ لِلْأَزْوَاجِ حيث وقع فيها (وإذا طلقتم النساء) لَكِنْ قَوْلُهُ فِي بَقِيَّتِهَا (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْفَضْلَ يَتَعَلَّقُ بَالْأَوْلِيَاءِ كَذَا في الفتح (فبلغن أجلهن) أي انقضت عدتهن (فلا تعضلوهن) أَيْ لَا تَمْنَعُوهُنَّ (الْآيَةَ) بَالنَّصْبِ أَيْ أَتِمَّ الْآيَةَ
قَالَ الْحَافِظُ وَهِيَ أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَلِيِّ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِعَضْلِهِ مَعْنًى وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَ لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا لَمْ تَحْتَجْ إِلَى أَخِيهَا وَمَنْ كَانَ أَمْرُهُ إِلَيْهِ لَا يُقَالُ إِنَّ غَيْرَهُ مَنَعَهُ مِنْهُ
وذكر بن المنذر أنه لا يعرف عن أحد من الصَّحَابَةِ خِلَافُ ذَلِكَ انْتَهَى
وَلَا يُعَارَضُ بِإِسْنَادِ النِّكَاحِ إِلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ تَوَقُّفِهِ إِلَى إِذْنِهِنَّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
2 - (بَاب إِذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ)
[2088] (أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ) أَيْ مِنْ رَجُلَيْنِ (فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا) أَيْ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ تَصَادُقٍ فَإِنْ وَقَعَا مَعًا أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا بَطَلَا مَعًا (وَأَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ بَيْعًا مِنْ رَجُلَيْنِ) أَيْ مُرَتَّبًا (فَهُوَ) أَيِ الْبَيْعُ (لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا) أَيْ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا فَإِنْ وَقَعَا مَعًا أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ بَطَلَا
قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بَعْدَ إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا فَإِذَا زَوَّجَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ قَبْلَ الْآخَرِ فَنِكَاحُ الْأَوَّلِ جَائِزٌ وَنِكَاحُ الْآخَرِ مَفْسُوخٌ وَإِذَا زَوَّجَا جَمِيعًا فَنِكَاحُهُمَا جَمِيعًا مَفْسُوخٌ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ انْتَهَى قَالَ(6/78)
المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ سَمُرَةَ شَيْئًا
وَقِيلَ إِنَّهُ سَمِعَ منه حديث العقيقة انتهى
3 - (باب في قوله تعالى لا يحل لكم)
الخ [2089] (أَخْبَرَنَا أَسْبَاطٌ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ (أَخْبَرَنَا الشَّيْبَانِيُّ) هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ (قَالَ الشَّيْبَانِيُّ وَذَكَرَهُ عَطَاءٌ أَبُو الْحَسَنِ السُّوَائِيُّ وَلَا أَظُنُّهُ إِلَّا عَنِ بن عَبَّاسٍ) حَاصِلُهُ أَنَّ لِلشَّيْبَانِيِّ فِيهِ طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا موصولة وهي عكرمة عن بن عَبَّاسٍ وَالْأُخْرَى مَشْكُوكٌ فِي وَصْلِهَا وَهِيَ عَطَاءٌ أبو الحسن السوائي عن بن عَبَّاسٍ وَأَبُو الْحَسَنِ كُنْيَةُ عَطَاءٍ وَالسُّوَائِيُّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ (كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ) فِي رِوَايَةِ السُّدِّيِّ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بَالْجَاهِلِيَّةِ وَفِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَذَلِكَ أورده الطبري من طريق العوفي عن بن عَبَّاسٍ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ اسْتَمَرَّ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ أُنْزِلَتِ الْآيَةُ فَقَدْ جَزَمَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ كَذَا فِي الْفَتْحِ (كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ) أَيْ أَوْلِيَاءُ الرَّجُلِ (مِنْ وَلِيِّ نَفْسِهَا) أَيْ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ وَأَقْرِبَائِهَا مِنْ أَبِيهَا وَجَدِّهَا (إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ زَوَّجَهَا أَوْ زَوَّجُوهَا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ إِنْ شَاءَ بعضهم تزوجها وإن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ) روى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ اِسْتَشْكَلَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ مَعْنَى وِرَاثَتهمْ النِّسَاء الْمَنْهِيّ عَنْهَا حَتَّى قَالَ الْمَعْنَى لَا يَحِلّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا نِكَاحهنَّ لِتَرِثُوا أَمْوَالهنَّ كَرْهًا
قَالَ وَفِي الْمُرَاد بِمِيرَاثِهِنَّ وَجْهَانِ(6/79)
الطبري من طريق بن جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ خَاصَّةٍ
قَالَ نَزَلَتْ فِي كَبْشَةَ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ مِنَ الْأَوْسِ وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ فَجَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت يانبي اللَّهِ لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي وَلَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحَ
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَبِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ أَرَادَ ابْنُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ وَكَانَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أبي طلحة عن بن عَبَّاسٍ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَةً أَلْقَى عَلَيْهَا حَمِيمُهُ ثَوْبًا فَمَنَعَهَا مِنَ النَّاسِ فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً تَزَوَّجَهَا وَإِنْ كَانَتْ دَمِيمَةً حَبَسَهَا حَتَّى تَمُوتَ وَيَرِثَهَا
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا كَانَ الرَّجُلُ يَرِثُ امْرَأَةَ ذِي قَرَابَتِهِ فَيَعْضُلُهَا حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِ الصَّدَاقَ
وَزَادَ السُّدِّيُّ إِنْ سَبَقَ الْوَارِثُ فَأَلْقَى عَلَيْهَا ثَوْبَهُ كَانَ أَحَقَّ بِهَا وَإِنْ سَبَقَتْ هِيَ إِلَى أَهْلِهَا فَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا
ذَكَرَ الْحَافِظُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي الْفَتْحِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[2090] (عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ) مَنْسُوبٌ إِلَى نَحْوٍ بَطْنٌ مِنَ الْأَزْدِ (لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كرها
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
أَحَدهمَا مَا يَصِل إِلَى الْأَزْوَاج مِنْ أَمْوَالهنَّ بِالْمَوْتِ دُون الْحَيَاة عَلَى مَا يَقْتَضِيه الظَّاهِر مِنْ لَفْظ الْمِيرَاث
الثَّانِي الْوُصُول إِلَى أَمْوَالهنَّ فِي الْحَيَاة وَبَعْدهَا وَقَدْ يُسَمَّى مَا وَصَلَ فِي الْحَيَاة مِيرَاثًا كَمَا قَالَ تَعَالَى {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْس}
وَهَذَا تَكَلُّف وَخُرُوج عَنْ مُقْتَضَى الْآيَة بَلْ الَّذِي مَنَعُوا مِنْهُ أَنْ يَجْعَلُوا حَقَّ الزَّوْجِيَّة حَقًّا مَوْرُوثًا يَنْتَقِل إِلَى الْوَارِث كَسَائِرِ حُقُوقه وَهَذِهِ كَانَتْ شُبْهَتهمْ أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِيَّة اِنْتَقَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ مُوَرِّثهمْ فَأَبْطَلَ اللَّه ذَلِكَ وَحُكِمَ بِأَنَّ الزَّوْجِيَّة لَا تَنْتَقِل بِالْمِيرَاثِ إِلَى الْوَارِث بَلْ إِذَا مَاتَ الزَّوْج كَانَتْ الْمَرْأَة أَحَقَّ بِنَفْسِهَا وَلَمْ يَرِث بُضْعهَا أَحَد وليس البضع كَالْمَالِ فَيَنْتَقِل بِالْمِيرَاثِ
وَقَوْله فَوَعَظَ اللَّه ذَلِكَ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدهمَا أَيْ يُقَدَّر فِيهِ حَرْف جَرّ أَيْ فِي ذَلِكَ
وَالثَّانِي أَيْ يَضْمَن وَعَظَ مَعْنَى مَنَعَ وَحَذِرَ وَنَحْوه
وَاسْتَنْبَطَ بَعْضهمْ مِنْ الْآيَة أَنَّهُ لَا يَحِلّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُمْسِك اِمْرَأَته وَلَا أَرَب لَهُ فِيهَا طَمَعًا أَنْ تَمُوت فَيَرِث مَالهَا وَفِيهِ نَظَر
وَاَللَّه أعلم(6/80)
أَنْ تَرِثُوا فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بيحل أَيْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ إِرْثُ النِّسَاءِ وَالنِّسَاءُ مَفْعُولٌ بِهِ إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ أَنْ تَرِثُوا أَمْوَالَ النِّسَاءِ وَالْخِطَابُ لِلْأَزْوَاجِ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمَرْأَةِ غَرَضٌ أَمْسَكَهَا حَتَّى تَمُوتَ فَيَرِثَهَا أَوْ تَفْتَدِيَ بِمَالِهَا إِنْ لَمْ تَمُتْ
وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ عَلَى مَعْنَى أَنْ يَكُنَّ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمَوْرُوثِ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ لِأَقْرِبَاءِ الْمَيِّتِ وَكَرْهًا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنَ النِّسَاءِ أَيْ تَرِثُوهُنَّ كارهات أو مكرهات (ولا تعضلوهن) جزم بلا الناهية أو نصب عطف عَلَى أَنْ تَرِثُوا وَلَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ لَا تَعْضُلُوهُنَّ مِنَ النِّكَاحِ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ لَا تَعْضُلُوهُنَّ مِنَ الطَّلَاقِ إِنْ كَانَ لِلْأَزْوَاجِ (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتيتموهن) اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَعْضُلُوهُنَّ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ الْمُرَادِفَةِ لِهَمْزَتِهَا أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ فَالْجَارُّ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ أَيْ لِتَذْهَبُوا مَصْحُوبِينَ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أَيْ زِنًا (وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَرِثُ امْرَأَةَ ذِي قَرَابَةٍ فَيَعْضُلُهَا) أَيِ الْمَرْأَةَ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ (فَأَحْكَمَ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ مَنَعَهُ مِنْ أَحْكَمْتُهُ أَيْ مَنَعْتُهُ (وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا عَطْفَ تَفْسِيرٍ
[2091] (فَوَعَظَ اللَّهُ ذَلِكَ) الْمُرَادُ بَالْوَعْظِ النَّهْيُ أَيْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ
4 - (بَاب فِي الِاسْتِئْمَارِ)
[2092] (لَا تُنْكَحُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ نَفْيًا لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ نَهْيًا (الثَّيِّبُ) أَيِ الَّتِي فَارَقَتْ زَوْجَهَا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ وَقَعَ لَفْظُ الْأَيِّمِ مَكَانَ الثَّيِّبِ قَالَ الْحَافِظُ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَيِّمَ هِيَ الثَّيِّبُ لِمُقَابَلَتِهَا بَالْبِكْرِ (حَتَّى تُسْتَأْمَرَ) أَصْلُ الِاسْتِئْمَارِ طَلَبُ الْأَمْرِ فَالْمَعْنَى لا يعقد(6/81)
عَلَيْهَا حَتَّى يُطْلَبَ الْأَمْرُ مِنْهَا
وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تُسْتَأْمَرَ أَنَّهُ لَا يُعْقَدُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَأْمُرَ بِذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّهَا بَلْ فِيهِ إِشْعَارٌ بَاشْتِرَاطِهِ
قَالَهُ الْحَافِظُ (وَلَا الْبِكْرُ إِلَّا بإذنها) أي ولا ينكح الْبِكْرُ إِلَّا بِإِذْنِهَا
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ
قَالَ الْحَافِظُ عَبَّرَ لِلثَّيِّبِ بَالِاسْتِئْمَارِ وَلِلْبِكْرِ بَالِاسْتِئْذَانِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاسْتِئْمَارَ يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِ الْمُشَاوَرَةِ وَجَعْلِ الْأَمْرِ إِلَى الْمُسْتَأْمَرَةِ وَلِهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى صَرِيحِ إِذْنِهَا فِي الْعِقْدِ فَإِذَا صَرَّحَتْ بِمَنْعِهِ امْتَنَعَ اتِّفَاقًا وَالْبِكْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ
وَالْإِذْنُ دَائِرٌ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالسُّكُوتِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْقَوْلِ وَإِنَّمَا جُعِلَ السُّكُوتُ إِذْنًا فِي حَقِّ الْبِكْرِ لِأَنَّهَا قَدْ تَسْتَحْيِي أَنْ تُفْصِحُ (وَمَا إِذْنُهَا) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَكَيْفَ إِذْنُهَا (قَالَ أَنْ تَسْكُتَ) أَيْ إِذْنُهَا سُكُوتُهَا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِكْرَ إِذَا أُنْكِحَتْ قَبْلَ أَنْ تُسْتَأْذَنَ فَتَصْمُتَ أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ كَمَا يَبْطُلُ إِنْكَاحَ الثَّيِّبِ قَبْلَ أَنْ تُسْتَأْمَرَ فَتَأْذَنُ بَالْقَوْلِ
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أنس وبن أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِنْكَاحُ الْأَبِ الْبِكْرَ الْبَالِغَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ تُسْتَأْذَنْ وَمَعْنَى اسْتِئْذَانِهَا إِنَّمَا هُوَ عِنْدَهُمْ عَلَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ دُونَ الْوُجُوبِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ بَاسْتِئْمَارِ أُمَّهَاتِهِنَّ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن ماجه
[2093] (أخبرنا حماد) هو بن سَلَمَةَ (الْمَعْنَى) وَاحِدٌ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ زُرَيْعٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ كِلَاهُمَا يَرْوِيَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو فَيَزِيدُ يَرْوِي بِلَفْظِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو وَحَمَّادُ بِصِيغَةِ عَنْ وَمَعْنَى حَدِيثِهِمَا وَاحِدٌ وَإِنْ تَغَايَرَ فِي بَعْضِ اللَّفْظِ (تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ) هِيَ صَغِيرَةٌ لَا أَبَ لَهَا وَالْمُرَادُ هُنَا الْبِكْرُ الْبَالِغَةُ سَمَّاهَا بَاعْتِبَارِ مَا كانت كقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وَفَائِدَةُ التَّسْمِيَةِ مُرَاعَاةُ حَقِّهَا وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهَا فِي تَحَرِّي الْكِفَايَةِ وَالصَّلَاحِ فَإِنَّ الْيَتِيمَ مَظِنَّةُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ
ثُمَّ هِيَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا مَعْنَى لإذنها ولا لإبائها فكأنه عليه الصلاة والسلام شَرَطَ بُلُوغَهَا فَمَعْنَاهُ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَبْلُغَ فتستأمر أي تستأذن
كذا قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ (وَإِنْ أَبَتْ(6/82)
فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا) بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ فَلَا تعدي عَلَيْهَا وَلَا إِجْبَارَ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ واليتيمة ها هنا هِيَ الْبِكْرُ الْبَالِغَةُ الَّتِي مَاتَ أَبُوهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا فَلَزِمَهَا اسْمُ الْيَتِيمِ فَدُعِيَتْ بِهِ وَهِيَ بَالِغَةٌ
وَالْعَرَبُ رُبَّمَا دَعَتِ الشَّيْءَ بَالِاسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي إِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِمَعْنًى مُتَقَدِّمٍ ثُمَّ يَنْقَطِعُ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا يَزُولُ الِاسْمُ
وَقَالَ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ إِنْكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ لِلصَّغِيرَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَلَا يُزَوِّجُهَا الْأَخُ وَلَا الْعَمُّ وَلَا الْوَصِيُّ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَا يُزَوِّجُهَا الْوَصِيُّ
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ الْيَتِيمَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا يُزَوِّجُهَا الْوَصِيُّ حَتَّى يَكُونَ وَلِيًّا لَهَا وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيًّا لِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ إِذَا بَلَغَتِ انْتَهَى
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَزْوِيجِ الْيَتِيمَةِ فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْيَتِيمَةَ إِذَا زُوِّجَتْ فَالنِّكَاحُ مَوْقُوفٌ حَتَّى تبلغ فإذا بلغت فلها الخيار في إجاز النِّكَاحِ أَوْ فَسْخِهِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْيَتِيمَةِ حَتَّى تَبْلُغَ وَلَا يَجُوزُ الْخِيَارُ فِي النِّكَاحِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِذَا بَلَغَتِ الْيَتِيمَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَزُوِّجَتْ فَرَضِيَتْ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لَهَا إِذَا أَدْرَكَتْ وَاحْتَجَّا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ
[2094] (وَرَوَاهُ أَبُو عُمَرَ وذكوان عن عائشة قالت يارسول الله(6/83)
إِلَخْ) هَكَذَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مُسْنَدًا بِمَعْنَاهُ (قَالَ سُكَاتُهَا إِقْرَارُهَا) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ سُكَاتُهَا إِذْنُهَا
وَفِي أُخْرَى له رضاها صمتها
قال بن الْمُنْذِرِ يُسْتَحَبُّ إِعْلَامُ الْبِكْرِ أَنَّ سُكُوتَهَا إِذْنٌ لَكِنْ لَوْ قَالَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ صَمْتِي إِذْنٌ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ بِذَلِكَ عند الجمهور وأبطله بعض المالكية
وقال بن شَعْبَانَ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ ثَلَاثًا إِنْ رَضِيتِ فَاسْكُتِي وَإِنْ كَرِهْتِ فَانْطِقِي
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُطَالُ الْمَقَامُ عِنْدَهَا لِئَلَّا تَخْجَلَ فَيَمْنَعُهَا ذَلِكَ مِنَ الْمُسَارَعَةِ
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بَلْ ظَهَرَتْ مِنْهَا قَرِينَةُ السُّخْطِ أَوِ الرِّضَا بَالتَّبَسُّمِ مَثَلًا أَوِ الْبُكَاءِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ نَفَرَتْ أَوْ بَكَتْ أَوْ قَامَتْ أَوْ ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَمْ تُزَوَّجْ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا أَثَرَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَنْعِ إِلَّا إِنْ قَرَنَتْ مَعَ الْبُكَاءِ الصِّيَاحَ وَنَحْوَهُ
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الدَّمْعِ فَإِنْ كَانَ حَارًّا دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ وَإِنْ كَانَ بَارِدًا دَلَّ عَلَى الرِّضَا
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْبِكْرَ الَّتِي أُمِرَ بَاسْتِئْذَانِهَا هِيَ الْبَالِغُ إِذْ لَا مَعْنَى لِاسْتِئْذَانِ مَنْ لَا تَدْرِي مَا الْإِذْنُ وَمَنْ يَسْتَوِي سُكُوتُهَا وَسُخْطُهَا
كَذَا فِي الْفَتْحِ
[2095] (آمِرُوا) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ وَمِيمٍ مُخَفَّفَةٍ مَكْسُورَةٍ (النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ) أَيْ شاورهن فِي تَزْوِيجِهِنَّ
قَالَ الْعَلْقَمِيُّ وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ اسْتِطَابَةِ أَنْفُسِهِنَّ وَهُوَ أَدْعَى إِلَى الْأُلْفَةِ وَخَوْفًا مِنْ وُقُوعِ الْوَحْشَةِ بَيْنَهُمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ بِرِضَاءِ الْأُمِّ إِذِ الْبَنَاتُ إِلَى الْأُمَّهَاتِ أَمْيَلُ وَفِي سَمَاعِ قَوْلِهِنَّ أَرْغَبُ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ رُبَّمَا عَلِمَتْ مِنْ حَالِ بِنْتِهَا الْخَافِي عَنْ أَبِيهَا أَمْرًا لَا يَصْلُحُ مَعَهُ النِّكَاحُ مِنْ عِلَّةٍ تَكُونُ بِهَا أَوْ سَبَبٍ يَمْنَعُ مِنَ الْوَفَاءِ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ
5 - (بَابٌ فِي الْبِكْرِ يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا وَلَا يَسْتَأْمِرُهَا)
[2096] (أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ) فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِجْبَارِ لِلْأَبِ لِابْنَتِهِ(6/84)
الْبِكْرِ عَلَى النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ بَالْأَوْلَى
وَإِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجْبَارِ الْأَبِ ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِحَدِيثِ وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا وَيَأْتِي فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ لِلْأَبِ إِجْبَارَ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ عَمَلًا بِمَفْهُومِ حَدِيثِ الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِكْرَ بِخِلَافِهَا وَأَنَّ الْوَلِيَّ أَحَقُّ بِهَا وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ مَفْهُومٌ لَا يُقَاوِمُ الْمَنْطُوقَ وَبِأَنَّهُ لَوْ أُخِذَ بِعُمُومِهِ لَزِمَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَبِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنْ لَا يُخَصَّ بِجَوَازِ الْإِجْبَارِ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي تَقْوِيَةِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ إن حديث بن عَبَّاسٍ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ جَوَابُ الْبَيْهَقِيِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ فَلَا يثبت الحكم
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَعَلَى طَرِيقَة الْبَيْهَقِيِّ وَأَكْثَر الْفُقَهَاء وَجَمِيع أَهْل الْأُصُول هَذَا حَدِيث صَحِيح لِأَنَّ جَرِير بْن حَازِم ثِقَة ثَبَت وَقَدْ وَصَلَهُ وَهُمْ يَقُولُونَ زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة فَمَا بَالهَا تُقْبَل فِي مَوْضِع بَلْ فِي أَكْثَر الْمَوَاضِع الَّتِي تُوَافِق مَذْهَب الْمُقَلِّد وَتُرَدّ فِي مَوْضِع يُخَالِف مَذْهَبه وَقَدْ قَبِلُوا زِيَادَة الثِّقَة فِي أَكْثَر مِنْ مِائَتَيْنِ مِنْ الْأَحَادِيث رَفْعًا وَوَصْلًا وَزِيَادَة لَفْظ وَنَحْوه وَهَذَا لَوْ اِنْفَرَدَ بِهِ جَرِير فَكَيْف وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى رَفْعه عَنْ أَيُّوب زيد بن حبان ذكره بن مَاجَهْ فِي سُنَنه
وَأَمَّا حَدِيث جَابِر فَهُوَ حَدِيث يَرْوِيه شُعَيْب بْن إِسْحَاق عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَطَاء عَنْ جَابِر أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ اِبْنَته وَهِيَ بِكْر مِنْ غَيْر أَمْرهَا فَأَتَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَّقَ بَيْنهمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيث أَبِي حَفْص التِّنِّيسِيِّ سَمِعْت الْأَوْزَاعِيَّ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن مُرَّة عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح قَالَ زَوَّجَ رَجُل اِبْنَته وَهِيَ بِكْر وَسَاقَ الْحَدِيث وَهَذَا الْإِرْسَال لَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمَوْصُول خَطَأ بِمُجَرَّدِهِ
وَأَمَّا حَدِيث جَرِير الَّذِي أَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ عَلَى أَيُّوب فَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيث جَرِير عن أيوب عن عكرمة عن بن عَبَّاس أَنَّ جَارِيَة بِكْرًا أَتَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي وَهِيَ كَارِهَة فَرَدَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِكَاحهَا وَرِجَاله مُحْتَجّ بِهِمْ فِي الصَّحِيح وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْكَح الْبِكْر إِلَّا بِإِذْنِهَا وَهَذَا نَهْي صَرِيح فِي الْمَنْع فَحَمْله عَلَى الِاسْتِحْبَاب بعيد جدا
وفي حديث بن عَبَّاس وَالْبِكْر يَسْتَأْمِرهَا أَبُوهَا رَوَاهُ مُسْلِم وَسَيَأْتِي فَهَذَا خَبَر فِي مَعْنَى الْأَمْر عَلَى إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ أَوْ خَبَر مَحْض وَيَكُون خَبَرًا عَنْ حُكْم الشَّرْع لَا خَبَرًا عَنْ الْوَاقِع وَهِيَ طريقة المحققين(6/85)
بِهَا تَعْمِيمًا
قَالَ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَمِيرُ فِي سُبُلِ السَّلَامِ كَلَامٌ لِهَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ يَعْنِي الْبَيْهَقِيَّ وَالْحَافِظَ مُحَامَاةٌ عَلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبِهِمْ وَإِلَّا فَتَأْوِيلُ الْبَيْهَقِيِّ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَذَكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بَلْ إِنَّمَا قَالَتْ إِنَّهُ زَوَّجهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَالْعِلَّةُ كَرَاهَتُهَا فَعَلَيْهَا عُلِّقَ التَّخْيِيرُ لِأَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كُنْتِ كَارِهَةً فَأَنْتِ بَالْخِيَارِ
وَقَوْلُ الْحَافِظِ إِنَّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ كَلَامٌ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ حُكْمٌ عَامٌّ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ فَأَيْنَمَا وُجِدَتِ الْكَرَاهَةُ تُثْبِتُ الْحُكْمَ انتهى
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ
(قَالَ أَبُو دَاوُدَ لَمْ يَذْكُرْ) أَيْ محمد بن عبيد (بن عَبَّاسٍ) بَالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (وَهَكَذَا) أَيْ بِغَيْرِ ذكر بن عَبَّاسٍ (رَوَاهُ النَّاسُ مُرْسَلًا) وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ التَّابِعِيُّ سَوَاءٌ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَفَعَلَ كَذَا أَوْ فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ كَذَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (مَعْرُوفٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ رِوَايَتُهُمْ مُرْسَلًا مَعْرُوفٌ أَوْ إِرْسَالُهُ مَعْرُوفٌ
وَمَا رَوَاهُ الضَّعِيفُ مُخَالِفًا لِلثِّقَةِ يُقَالُ لَهُ الْمُنْكَرُ وَمُقَابِلُهُ يُقَالُ بِهِ الْمَعْرُوفُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فَقَدْ تُوَافِق أَمْره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَبَره وَنَهْيه عَلَى أَنَّ الْبِكْر لَا تُزَوَّج إِلَّا بِإِذْنِهَا وَمِثْل هَذَا يُقَرِّب مِنْ الْقَاطِع وَيَبْعُد كُلّ الْبُعْد حَمْله عَلَى الِاسْتِحْبَاب وَرَوَى النسائي من حديث عكرمة عن بن عَبَّاس قَالَ أَنْكَحَ رَجُل مِنْ بَنِي الْمُنْذِر اِبْنَته وَهِيَ كَارِهَة فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحهَا وَرَوَى أَيْضًا مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن بُرَيْدَة عَنْ عَائِشَة أَنَّ فَتَاة دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي زوجني بن أَخِيهِ لِيَرْفَع بِي خَسِيسَته وَأَنَا كَارِهَة قَالَتْ اِجْلِسِي حَتَّى يَأْتِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِيهَا فَدَعَاهُ فَجَعَلَ الْأَمْر إِلَيْهَا فَقَالَتْ يَا رَسُول اللَّه قَدْ اِخْتَرْت مَا صَنَعَ أَبِي وَلَكِنِّي أَرَدْت أَنْ أعلم أن للنساء من الأمر شيء وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ أَبِي سَلَمَة قَالَ أَنْكَحَ رَجُل مِنْ بَنِي الْمُنْذِر اِبْنَته وَهِيَ كَارِهَة فَأَتَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحهَا
وَعَمَل هَذِهِ الْقَضَايَا وَأَشْبَاههَا عَلَى الثَّيِّب دُون الْبِكْر خِلَاف مُقْتَضَاهَا لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَل عَنْ ذَلِكَ وَلَا اِسْتَفْصَلَ وَلَوْ كَانَ الْحُكْم يَخْتَلِف بِذَلِكَ لَاسْتَفْصَلَ وَسَأَلَ عَنْهُ وَالشَّافِعِيّ يُنَزِّل هَذَا مَنْزِلَة الْعُمُوم وَيَحْتَجّ بِهِ كَثِيرًا
وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّد بْن حَزْم من طريق قاسم بن أصبغ عن بن عُمَر أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ اِبْنَته بِكْرًا فَأَتَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ نِكَاحهَا وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ هَذَا الْحَدِيث فِي سُنَنه وَفِي كِتَاب الْعِلَل وَأَعَلَّهُ بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّ عَمّهَا زَوَّجَهَا بَعْد وَفَاة أَبِيهَا وَزَوَّجَهَا مِنْ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر وَهِيَ بِنْت عُثْمَان بْن مَظْعُون وَعَمّهَا قَدَامَة فَكَرِهَتْهُ فَفَرَّقَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنهمَا فَتَزَوَّجَهَا الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة
قَالَ وَهَذَا أَصَحّ مِنْ قَوْل مَنْ قَالَ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَاَللَّه أَعْلَم(6/86)
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي التَّلْخِيصِ من مصنف بن أَبِي شَيْبَةَ بَالْإِسْنَادِ السَّابِقِ الْمَوْصُولِ
قَالَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ وَأُعِلَّ بَالْإِرْسَالِ
وَتَفَرَّدَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ وَتَفَرَّدَ حُسَيْنٌ عَنْ جَرِيرٍ وَأَيُّوبَ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَيُّوبَ بْنَ سُوَيْدٍ رَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مَعْمَرُ بْنُ جُدْعَانَ الرَّقِّيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَيَّانٍ عَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا
وَإِذَا اخْتُلِفَ فِي وَصْلِ الْحَدِيثِ وَإِرْسَالِهِ حُكِمَ لِمَنْ وَصَلَهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْفُقَهَاءِ وَعَنِ الثَّانِي بِأَنَّ جَرِيرًا تُوبِعَ عَنْ أَيُّوبَ كَمَا تَرَى وَعَنِ الثَّالِثِ بِأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ تَابَعَ حُسَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ جَرِيرٍ انْتَهَى
قَالَ فِي الْفَتْحِ وَالطَّعْنُ فِي الْحَدِيثِ فَلَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّ طُرُقَهُ تَقْوَى بعضها ببعض انتهى
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مُرْسَلًا وَقَالَ وَكَذَا رَوَاهُ النَّاسُ مُرْسَلًا مَعْرُوفًا
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا حَدِيثٌ أَخْطَأَ فِيهِ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَلَى أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْصُولًا وَهُوَ أَيْضًا خَطَأٌ وَذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ وَقَالَ هَذَا وَهْمٌ وَالصَّوَابُ مُرْسَلٌ وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ كَانَ وَضَعَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ فَخَيَّرَهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى
قُلْتُ مَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ هُوَ تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ وَالْحَدِيثُ قَوِيٌّ حَسَنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
6 - (بَاب فِي الثَّيِّبِ)
[2098] (الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا) قَالَ الْقَاضِي اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في المراد بالأيم ها هنا فَقَالَ عُلَمَاءُ الْحِجَازِ وَالْفُقَهَاءُ كَافَّةً الْمُرَادُ الثَّيِّبُ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بَالثَّيِّبِ وَبِأَنَّهَا جُعِلَتْ مُقَابِلَةً لِلْبِكْرِ وَبِأَنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِهَا فِي اللُّغَةِ لِلثَّيِّبِ
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَزُفَرُ الأيم ها هنا كُلُّ امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ قَالُوا فَكُلُّ امْرَأَةٍ بَلَغَتْ فَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَعَقْدُهَا عَلَى نَفْسِهَا نِكَاحٌ صَحِيحٌ
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ
قَالُوا وَلَيْسَ الْوَلِيُّ مِنْ أَرْكَانِ صِحَّةِ النِّكَاحِ بَلْ مِنْ تَمَامِهِ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَتَوَقَّفُ صِحَّةِ النِّكَاحِ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ
قَالَ الْقَاضِي وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ مِنْ وَلِيِّهَا هَلْ أَحَقُّ بَالْإِذْنِ فَقَطْ أَوْ بَالْإِذْنِ وَالْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا
فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ بالإذن فقط(6/87)
وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ بِهِمَا جَمِيعًا
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا يَحْتَمِلُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ أَنَّ الْمُرَادَ أَحَقُّ مِنْ وَلِيِّهَا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ عَقْدٍ وَغَيْرِهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُدُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا أَحَقُّ بَالرِّضَى أَيْ لَا تُزَوَّجُ حَتَّى تَنْطِقَ بَالْإِذْنِ بِخِلَافِ الْبِكْرِ وَلَكِنْ لَمَّا صَحَّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ يَتَعَيَّنُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ أَحَقُّ ها هنا لِلْمُشَارَكَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهَا فِي نَفْسِهَا فِي النِّكَاحِ حَقًّا وَلِوَلِيِّهَا حَقًّا وَحَقُّهَا أَوْكَدُ مِنْ حَقِّهِ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ تَزْوِيجَهَا كُفُؤًا وَامْتَنَعَتْ لَمْ يُجْبَرْ وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تُزَوَّجَ كُفُؤًا فَامْتَنَعَ الْوَلِيُّ أُجْبِرَ فَإِنْ أَصَرَّ زَوَّجَهَا الْقَاضِي فَدَلَّ عَلَى تَأَكُّدِ حَقِّهَا وَرُجْحَانِهِ
كَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ (وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا) أَيْ تُسْتَأْذَنُ فِي أَمْرِ نِكَاحِهَا (وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا) بِضَمِّ الصَّادِ أَيْ سُكُوتُهَا يَعْنِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ صَرِيحٍ مِنْهَا بَلْ يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا لِكَثْرَةِ حَيَائِهَا
قَالَ النَّوَوِيُّ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ بِكْرٍ وَكُلِّ وَلِيٍّ وَأَنَّ سَكُوتَهَا يَكْفِي مُطْلَقًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنْ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ جَدًّا فَاسْتِئْذَانُهُ مُسْتَحَبٌّ وَيَكْفِي فِيهِ سُكُوتُهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي مِنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا
وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ السُّكُوتَ كَافٍ فِي جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَلِوُجُودِ الْحَيَاءِ
وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ النُّطْقِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءً كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ زَالَ كَمَالُ حَيَائِهَا بِمُمَارَسَةِ الرِّجَالِ وَسَوَاءً زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ بزنا وَلَوْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَثْبَةٍ أَوْ بِإِصْبَعٍ أَوْ بِطُولِ الْمُكْثِ أَوْ وُطِئَتْ فِي دُبُرهَا فَلَهَا حُكْمُ الثَّيِّبِ عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ حُكْمُ الْبِكْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ (وَهَذَا لَفْظُ الْقَعْنَبِيِّ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
[2099] (وَالْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا) ظَاهِرُهُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِهَا
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَبِ يُزَوِّجُ الْبِكْرَ الْبَالِغَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ وَوَافَقَهُمْ أَبُو ثَوْرٍ يُشْتَرَطُ اسْتِئْذَانُهَا فَلَوْ عُقِدَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لَمْ يَصِحَّ
وَقَالَ الْآخَرُونَ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَلَوْ كَانَتْ بالغا بغير استئذان وهو قول بن أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ مَفْهُومُ حَدِيثِ الْبَابِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّيِّبَ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْبِكْرِ أَحَقُّ بِهَا مِنْهَا
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّوْكَانِيُّ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَا يَنْتَهِضُ لِلتَّمَسُّكِ بِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْطُوقِ
قَالَ الْحَافِظُ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى مرفوعا تستأمر(6/88)
الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا قَالَ فَقَيَّدَ ذَلِكَ بَالْيَتِيمَةِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَيْهِ وفيه نظر لحديث بن عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْتُهُ بِلَفْظِ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فَنَصَّ عَلَى ذِكْرِ الْأَبِ
وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ الْمُؤَامَرَةَ قَدْ تَكُونُ عَنِ اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ بن عُمَرَ رَفَعَهُ وَآمِرُوا النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ
قَالَ الشَّافِعِيُّ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأُمِّ أَمْرٌ لَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى اسْتِطَابَةِ النَّفْسِ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ زِيَادَةُ ذِكْرِ الْأَبِ فِي حديث بن عباس غير محفوظ
قال الشافعي زادها بن عيينة في حديثه وكان بن عُمَرَ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ يُزَوِّجُونَ الْأَبْكَارَ لَا يَسْتَأْمِرُونَهُنَّ
قال البيهقي والمحفوظ في حديث بن عَبَّاسٍ الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ وَرَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ بِلَفْظِ وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَالْبِكْرِ الْيَتِيمَةُ
قُلْتُ وَهَذَا لَا يَدْفَعُ زِيَادَةَ الثِّقَةِ الْحَافِظِ بِلَفْظِ الْأَبِ
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ بَلِ الْمُرَادُ بَالْيَتِيمَةِ الْبِكْرُ لَمْ يَدْفَعْ وَتُسْتَأْمَرُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَبُ وَغَيْرُهُ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّ الِاسْتِئْمَارَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْ مُسْتَحَبٌّ عَلَى مَعْنَى اسْتِطَابَةِ النفس كما قال الشافعي كل الْأَمْرَيْنِ مُحْتَمَلٌ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ (قَالَ أَبُو دَاوُدَ أَبُوهَا لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ هَذَا مِنْ سُفْيَانَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي عامة النسخ
وقال البيهقي وزيادة بن عُيَيْنَةَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ
[2100] (لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ) أَيْ إِنْ لَمْ تَرْضَ لِمَا سَلَفَ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ رِضَاهَا وَعَلَى أَنَّ الْعَقْدَ إِلَى الْوَلِيِّ (وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (وَصَمْتُهَا) أَيْ سُكُوتُهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي خَنْسَاء هَذِهِ هَلْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فَقَالَ مَالِك هِيَ ثَيِّب وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث مَالِك عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن وَمُجَمِّع اِبْنَيْ يَزِيد بْن جَرِير عَنْ خَنْسَاء(6/89)
[2101] (وَمُجَمِّعٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمِيمِ الثَّقِيلَةِ ثُمَّ عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ (الْأَنْصَارِيَّيْنِ) بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ صِفَةٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُجَمِّعٍ (عَنْ خَنْسَاءَ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونُ وَالسِّينُ الْمُهْمَلَةُ عَلَى وَزْنِ حَمْرَاءَ (بِنْتِ خِدَامٍ) بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الْمُهْمَلَةِ كَذَا ضَبَطَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَالتَّقْرِيبِ
وَقَالَ القارىء فِي الْمِرْقَاةِ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ قَالَ مَيْرَكُ صَحَّحَ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَفِي شَرْحِ الْكَرْمَانِيِّ لِلْبُخَارِيِّ بَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَخَالَفَهُمَا الْعَسْقَلَانِيُّ فَصَحَّحَهُ بَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ انْتَهَى
وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ خِذَامٌ بَالْمُعْجَمَتَيْنِ (وَهِيَ ثَيِّبٌ) وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَتْ أَنْكَحَنِي أَبِي وَأَنَا كَارِهَةٌ وَأَنَا بِكْرٌ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ كَمَا حَقَّقَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ (فَكَرِهْتُ ذَلِكَ) أَيْ ذَلِكَ النِّكَاحَ أَوْ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ أَبُوهَا (فَرَدَّ نِكَاحَهَا) أَيْ تَزْوِيجَ الْأَبِ أَوْ تَزَوُّجَ الزَّوْجِ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الثَّيِّبِ بِغَيْرِ إذنها
قال المنذري وأخرجه البخاري والنسائي وبن مَاجَهْ
قَالَ بَعْضُهُمْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى بَالْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْأَبَ إِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ الثَّيِّبَ بِغَيْرِ رِضَاهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيُرَدُّ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ الْخَنْسَاءَ
وَشَذَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ فَقَالَ الْحَسَنُ نِكَاحُ الْأَبِ جَائِزٌ عَلَى ابْنَتِهِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا كَرِهَتْ أَوْ لَمْ تَكْرَهْ
وَقَالَ النَّخَعِيُّ إِنْ كَانَتِ الِابْنَةُ فِي عِيَالِهِ زَوَّجَهَا وَلَمْ يَسْتَأْمِرْهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي عِيَالِهِ وَكَانَتْ نَائِيَةً عَنْهُ اسْتَأْمَرَهَا وَقَالَ مَا خَالَفَ السُّنَّةَ فَهُوَ مَرْدُودٌ انْتَهَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَخَالَفَ مَالِكًا سُفْيَان الثَّوْرِيَّ فَرَوَاهُ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم عَنْ عَبْد اللَّه بْن يَزِيد عَنْ خَنْسَاء قَالَتْ أَنْكَحَنِي أَبِي وَأَنَا كَارِهَة وَأَنَا بِكْر فَشَكَوْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا تُنْكِحهَا وَهِيَ كارهة رواه النسائي من حديث بن الْمُبَارَك عَنْ سُفْيَان
قَالَ عَبْد الْحَقّ رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ بِكْرًا وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي كِتَاب أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَالصَّحِيح أَنَّهَا كَانَتْ ثَيِّبًا(6/90)
27 - (بَاب فِي الْأَكْفَاءِ)
[2102] جَمْعُ كُفْءٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةُ الْمِثْلِ وَالنَّظِيرِ
(أَنَّ أَبَا هِنْدٍ) اسْمُهُ يَسَارٌ وَكَانَ مَوْلًى لِبَنِي بَيَاضَةَ (فِي الْيَافُوخِ) وَهُوَ حَيْثُ الْتَقَى عَظْمُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَمُؤَخَّرِهِ
قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ (أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ) أَيْ زَوِّجُوهُ بَنَاتَكُمْ (وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِ) أَيِ اخْطُبُوا إِلَيْهِ بَنَاتَهُ وَلَا تُخْرِجُوهُ مِنْكُمْ لِلْحِجَامَةِ (وَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِمَّا تَدَاوُونَ بِهِ خَيْرٌ فَالْحِجَامَةُ) أَيْ فَهُوَ الْحِجَامَةُ
قَالَ العلامة بن الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ فَإِنْ قُلْتُ الْأَصْلُ فِي إِنِ الشَّرْطِيَّةِ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي الْمَشْكُوكِ وَثُبُوتِ الْخَيْرِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِهِمْ لَا عَلَى التَّعْيِينِ كَانَ مُحَقَّقًا عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ أَوْرَدَهُ بِأَنْ قُلْتُ قَدْ تُسْتَعْمَلُ إِنْ لِتَأْكِيدِ تَحَقُّقِ الْجَزَاءِ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُعْلَمُ أَنَّ لَهُ صَدِيقًا إِنْ كَانَ لَكَ صَدِيقٌ فَهُوَ زَيْدٌ عَلَى مَعْنَى إِنْ تَصَوَّرَتْ مَعْنَى الصَّدِيقِ وَثُبُوتِهِ لَكَ حَقَّ التَّصَوُّرِ وَحَصَّلْتَ مَعْنَاهُ فِي نَفْسِكَ فَهُوَ زَيْدٌ انْتَهَى
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُ أَنَّ الْكَفَاءَةَ بَالدِّينِ وَحْدِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَبُو هِنْدٍ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ لَيْسَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَالْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءٍ بَالدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالنَّسَبِ وَالصِّنَاعَةِ
وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ فِيهَا السَّلَامَةَ مِنَ الْعُيُوبِ وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمُ الْيَسَارَ فَيَكُونُ جِمَاعُهَا سِتَّ خِصَالٍ انْتَهَى
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ مُخْتَصٌّ بَالدِّينِ مَالِكٌ وَنُقِلَ عَنِ بن عمر وبن مَسْعُودٍ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاعْتَبَرَ الْكَفَاءَةَ فِي النَّسَبِ الْجُمْهُورُ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ قُرَيْشٌ أَكْفَاءُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَالْعَرَبُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ العرب كفؤ لِقُرَيْشٍ كَمَا لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِ كفأ لِلْعَرَبِ وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ تَقْدِيمُ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ أَكْفَاءُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إِذَا نَكَحَ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ يُفْسَخُ النِّكَاحُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَتَوَسَّطَ(6/91)
الشَّافِعِيُّ فَقَالَ لَيْسَ نِكَاحُ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ حَرَامًا فَأَرُدُّ بِهِ النِّكَاحَ وَإِنَّمَا هُوَ تَقْصِيرٌ بَالْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَإِذَا رَضُوا صَحَّ وَيَكُونُ حَقًّا لَهُمْ تَرَكُوهُ فَلَوْ رَضُوا إِلَّا وَاحِدًا فَلَهُ فَسْخُهُ وَذَكَرَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي اشْتِرَاطِ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ كَيْلَا تُضَيِّعَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ انْتَهَى
وَلَمْ يَثْبُتْ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ بَالنَّسَبِ حَدِيثٌ وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ رَفَعَهُ الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ انْتَهَى
قلت وكذلك ما رواه الحاكم عن بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ إِلَّا حَائِكًا أَوْ حَجَّامًا ضَعِيفٌ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ لا أصل له
سأل بن أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَبَاهُ فَقَالَ هَذَا كَذَّابٌ لَا أَصْلَ لَهُ
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ باطل
ورواه بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ عَنْ زُرْعَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ عن نافع عن بن عُمَرَ
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ لَا يَصِحُّ
وقال بن حِبَّانَ عِمْرَانُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عن الثقات
وقال بْنُ أَبِي حَاتِمٍ سَأَلْتُ أَبِي عَنْهُ فَقَالَ مُنْكَرٌ وَقَدْ حَدَّثَ بِهِ هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فَزَادَ فِيهِ بَعْدَ أَوْ حَجَّامٍ أَوْ دَبَّاغٍ قَالَ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الدَّبَّاغُونَ وَهَمُّوا بِهِ وقال بن عبد البر هذا منكر موضوع وذكره بن الْجَوْزِيِّ فِي الْعِلَلِ الْمُتَنَاهِيَةِ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى بن عُمَرَ فِي أَحَدِهِمَا عَلِيُّ بْنُ عُرْوَةَ وَقَدْ رماها بن حِبَّانَ بَالْوَضْعِ وَفِي الْآخَرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بن عطية وهو متروك والأول في بن عَدِيٍّ وَالثَّانِي فِي الدَّارَقُطْنِيِّ كَذَا فِي التَّلْخِيصِ
وَحَدِيثُ الْبَابِ سَكَتَ عَنْهُ الْمُؤَلِّفُ وَالْمُنْذِرِيُّ وَأَوْرَدَهُ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَقَالَ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ
8 - (بَاب فِي تَزْوِيجِ مَنْ لَمْ يُولَدْ)
[2103] (مَيْمُونَةَ بِنْتَ كرم) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبَعْدَهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَمِيمٌ (فِي حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (فَدَنَا) أَيْ قَرُبَ (وَهُوَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَعَهُ دِرَّةٌ) بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الَّتِي يَضْرِبُ بِهَا (كَدِرَّةِ الْكُتَّابِ) بِضَمِّ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ أَيْ كَدِرَّةٍ تَكُونُ عِنْدَ مُعَلِّمِي الْأَطْفَالِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ الدِّرَّةُ بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ(6/92)
وَفَتْحِهَا هِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِدِرَّةِ الْكُتَّابِ الَّتِي يُؤَدِّبُ بِهَا الْمُعَلِّمُ صِبْيَانَهُ فَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى صِغَرِهَا انْتَهَى (وَهُمْ يَقُولُونَ الطَّبْطَبِيَّةَ الطَّبْطَبِيَّةَ الطَّبْطَبِيَّةَ) بِفَتْحِ الطَّائَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ وَبَعْدَ الثَّانِيَةِ مِثْلُهَا مَكْسُورَةٌ ثُمَّ يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ ثُمَّ تَاءُ التَّأْنِيثِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَرَادَتْ بِهِ حِكَايَةَ وَقْعِ الْأَقْدَامِ أَيْ يَقُولُونَ بِأَرْجُلِهِمْ طَبْ طَبْ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الدِّرَّةِ لِأَنَّهَا إِذَا ضُرِبَ بِهَا حَكَتْ صَوْتَ طَبْ طَبْ وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى التَّحْذِيرِ كَقَوْلِكَ الْأَسَدَ الْأَسَدَ أَيِ احْذَرُوا الطَّبْطَبِيَّةَ
كَذَا فِي الْمُنْذِرِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ (فَأَخَذَ) أَيْ أَبِي (بِقَدَمِهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَقَرَّ لَهُ) أَيْ فَأَقَرَّ بِرِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَرَفَ بِهَا (إِنِّي حَضَرْتُ جَيْشَ عَثْرَانَ) بَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وكان ذلك في الجاهلية (قال بن الْمُثَنَّى جَيْشُ غَثْرَانَ) بَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ (مَنْ يُعْطِينِي رُمْحًا بِثَوَابِهِ) أَيْ مَنْ يُعْطِينِي رُمْحًا وَيَأْخُذُ مِنِّي فِي عِوَضِهِ ثَوَابَهُ أَيْ جَزَاءَهُ (أَوَّلَ بِنْتٍ تَكُونُ لِي) أَيْ تُولَدُ لِي (فَقُلْتُ لَهُ أَهْلِي) أَيْ هِيَ أَهْلِي أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى إِضْمَارِ عَامِلِهِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ وَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ (جَهِّزْهُنَّ) وَضَمِيرُ الْجَمْعِ رِعَايَةٌ لِلَفْظِ أَهْلٍ أَوْ لِلتَّعْظِيمِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ جَهَّزَهُمْ (فَحَلَفَ) أَيْ طَارِقٌ (أَنْ لَا يَفْعَلَ) أَيْ لَا يُجَهِّزُهَا (حَتَّى أُصْدِقَ) أَيْ أَجْعَلَ لَهَا مَهْرًا (وَبِقَرْنِ أَيِّ النِّسَاءِ هِيَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ بِسِنِّ أَيِّ النِّسَاءِ هِيَ وَالْقَرْنُ بَنُو سِنٍّ وَاحِدٍ يُقَالُ هَؤُلَاءِ قَرْنُ زَمَانٍ كَذَا وَأَنْشَدَنِي أَبُو عَمْرٍو قَالَ أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى إِذَا مَا مَضَى الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ مِنْهُمْ وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فَأَنْتَ غَرِيبُ وَفِي النِّهَايَةِ بِقَرْنِ أَيِّ النِّسَاءِ هِيَ أَيْ بِسِنِّ أَيَّتِهِنَّ (قَدْ رَأَتِ الْقَتِيرَ) أَيِ الشَّيْبَ (قَالَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنْ تَتْرُكَهَا) أَيِ الْمَرْأَةَ (قَالَ) كَرْدَمٌ أَبُو مَيْمُونَةَ (فَرَاعَنِي) أَيْ أَفْزَعَنِي وَهُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ (فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ) أَيِ الْفَزَعَ (قَالَ لَا تَأْثَمْ وَلَا صَاحِبُكَ) أَيْ طَارِقُ بْنُ الْمُرَقَّعِ (يَأْثَمُ) بَالْحِنْثِ مِنَ الْيَمِينِ(6/93)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِتَرْكِهَا لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى مَعْدُومِ الْعَيْنِ فَاسِدٌ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مَوْعِدًا لَهُ فَلَمَّا رَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَفِي بِمَا وَعَدَ وَأَنَّ هَذَا لَا يُقْلِعُ عَمَّا طَلَبَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِتَرْكِهَا وَالْإِعْرَاضِ عَنْهَا لِمَا خاف عليهما من الإثم إذا تنازعنا وَتَخَاصَمَا إِذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يَفْعَلَ غَيْرَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَتَلَطَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَرْفِهِ عَنْهُ بَالْمَسْأَلَةِ عَنْ سِنِّهَا حَتَّى قَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّهَا قَدْ رَأَتِ الْقَتِيرَ أي الشيب وكبرت وأنه لاحظ فِي نِكَاحِهَا
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُشِيرَ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ بِمَا هُوَ أَدْعَى إِلَى الصَّلَاحِ وَأَقْرَبُ إِلَى التَّقْوَى انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ
وَفِي إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ
[2104] (إِذا رَمِضُوا) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ وَجَدُوا الْحَرَارَةَ فِي أَقْدَامِهِمْ
9 - (بَاب الصَّدَاقِ)
[2105] (فَقَالَتْ ثِنْتَا عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ وَيُكْسَرُ (أُوقِيَّةً) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا (وَنَشٌّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَشِينٌ مُعْجَمَةٌ مُشَدَّدَةٌ أَيْ مَعَهَا نَشٌّ أَوْ يُزَادُ نش
قال بن(6/94)
الْأَعْرَابِيِّ النَّشُّ النِّصْفُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَنَشُّ الرَّغِيفِ نِصْفُهُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ النَّشُّ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَهُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الدَّرَاهِمِ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ شَيْءٍ سِوَاهُ
قَالَ النَّوَوِيُّ اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ كَوْنِ المهر خمس مائة دِرْهَمٍ وَالْمُرَادُ فِي حَقِّ مَنْ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ
فَإِنْ قِيلَ فَصَدَاقُ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافِ درهم أو أربع مائة دِينَارٍ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ تَبَرَّعَ بِهِ النَّجَاشِيُّ مِنْ مَالِهِ إِكْرَامًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والنسائي وبن مَاجَهْ
[2106] (الْعَجْفَاءُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (لَا تُغَالُوا) بِضَمِّ التَّاءِ وَاللَّامِ (بِصُدُقِ النِّسَاءِ) جَمْعُ صَدَاقٍ
قَالَ الْقَاضِي الْمُغَالَاةُ التَّكْثِيرُ أَيْ لَا تُكْثِرْ مُهُورَهُنَّ (فَإِنَّهَا) أَيِ الْقِصَّةَ أَوِ الْمُغَالَاةَ (لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَاحِدَةُ الْمَكَارِمِ أَيْ مِمَّا تُحْمَدُ (فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى) أَيْ زِيَادَةُ تَقْوَى (عِنْدَ اللَّهِ) أَيْ مَكْرُمَةٌ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم (كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا) أَيْ بِمُغَالَاةِ الْمُهُورِ (النَّبِيَّ) بَالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (مَا أَصْدَقَ) أَيْ لَمْ يَجْعَلْ صَدَاقَ امْرَأَةٍ (وَلَا أُصْدِقَتْ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً) وهي أربع مائة وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنَ الْحَدِيثِ الْآتِي أَنَّ صَدَاقَ أُمِّ حَبِيبَةَ كَانَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِ عُمَرَ لِأَنَّهُ أَصْدَقَهَا النَّجَاشِيُّ فِي الْحَبَشَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَنَشٍّ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَجَاوَزْ عَدَدَ الْأَوَاقِي الَّتِي ذَكَرَهَا عُمَرُ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ عَدَدَ الْأُوقِيَّةِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْكُسُورِ مَعَ أَنَّهُ نَفَى الزِّيَادَةَ فِي عِلْمِهِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ صَدَاقَ أُمِّ حَبِيبَةَ وَلَا الزِّيَادَةَ الَّتِي رَوَتْهُ عَائِشَةُ
فَإِنْ قُلْتَ نَهْيُهُ عَنِ الْمُغَالَاةِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فلا تأخذوا منه شيئا قُلْتُ النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ وَالْكَلَامُ فِيهَا لَا فِيهِ لَكِنْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ لَا تَزِيدُوا فِي مُهُورِ النِّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَمَنْ زاد ألقيت الزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مَا ذَلِكَ لَكَ قَالَ وَلِمَ قَالَتْ لِأَنَّ اللَّهَ يقول وآتيتم إحداهن قنطارا فَقَالَ عُمَرُ امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ أَخْرَجَ(6/95)
عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيِّ قَالَ قَالَ عُمَرُ لَا تُغَالُوا فِي مُهُورِ النساء فقالت امرأة ليس ذلك لك ياعمر إن الله يقول وآتيتم إحداهن قنطارا مِنْ ذَهَبٍ
قَالَ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ بن مَسْعُودٍ فَقَالَ عُمَرُ امْرَأَةٌ خَاصَمَتْ عُمَرَ فَخَصَمَتْهُ
وَأَخْرَجَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُنْقَطِعٍ فَقَالَ عُمَرُ امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَرَجُلٌ أَخْطَأَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عُمَرَ فَذَكَرَهُ مُتَّصِلًا مُطَوَّلًا
وَأَصْلُ قَوْلِ عُمَرَ لَا تُغَالُوا فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ عند أصحاب السنن وصححه بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ قِصَّةُ الْمَرْأَةِ انتهى
قال المنذري أبو الجعفاء اسْمُهُ هَرِمُ بْنُ نُسَيْبٍ
قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَفِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْكَرَابِيسِيُّ حَدِيثُهُ لَيْسَ بَالْقَائِمِ
[2107] (عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ) بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (كَانَتْ تَحْتَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ (فَمَاتَ) أَيْ زَوْجُهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ (فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ) بِفَتْحِ النُّونِ وَيُكْسَرُ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَالشِّينِ المعجمة والياء المخففة ويشدد لقب مالك الْحَبَشَةِ وَاسْمُ الَّذِي آمَنَ أَصْحَمَةُ وَقَدْ يُعَدُّ فِي الصَّحَابَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُعَدُّ لِأَنَّهُ لم يدرك الصحبة
قاله القارىء قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ زَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ سَاقَ إِلَيْهَا الْمَهْرَ فَأُضِيفَ عَقْدُ النِّكَاحِ إِلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ منه وهو المهر
وقد روى أصحاب السيران الَّذِي عَقَدَ النِّكَاحَ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بن العاص وهو بن عَمِّ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبُو سُفْيَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكٌ وَقَبِلَ نِكَاحَهَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ وَكَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ انتهى
وقوله وهو بن عم أبي سفيان أي بن بن عَمِّ أَبِي سُفْيَانَ (وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ) أَيْ أَصْدَقَهَا النَّجَاشِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَرْبَعَةَ آلَافِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ (وَبَعَثَ بِهَا) أَيْ أَرْسَلَ أُمَّ حَبِيبَةَ (مَعَ شُرَحْبِيلَ) بِضَمِّ الشِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي وَلَعَلَّ فِيهِ الْعُجْمَةَ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ وهو من مهاجرة الحبشة (بن حَسَنَةَ) بِفَتَحَاتٍ أُمُّ شُرَحْبِيلَ
وَفِي الْمَوَاهِبِ وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أُمُّ حَبِيبَةَ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَقِيلَ اسْمُهَا هِنْدٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأُمُّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ فَكَانَتْ تَحْتَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ(6/96)
وَهَاجَرَ بِهَا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ تَنَصَّرَ وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَمَاتَ هُنَاكَ وَثَبَتَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ نِكَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا وَمَوْضِعِ الْعَقْدِ فَقِيلَ إِنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ لِيَخْطُبَهَا عَلَيْهِ فَزَوَّجَهَا إياه وأصدقها عنه أربع مائة دينار وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حَسَنَةَ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَرْسَلَ إِلَيْهَا جَارِيَتَهُ أَبْرَهَةَ فَقَالَتْ إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَكِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أُزَوِّجَكِ وَأَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَوَكَّلَتْهُ وَأَعْطَتْ أَبْرَهَةَ سِوَارَيْنِ وَخَاتَمَ فِضَّةٍ سُرُورًا بِمَا بَشَّرَتْهَا بِهِ فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ أَمَرَ النَّجَاشِيُّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحَضَرُوا فَخَطَبَ النَّجَاشِيُّ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ السَّلَامِ الْمُؤْمِنِ الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْجَبَّارِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بَالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَجَبْتُ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَصْدَقْتُهَا أربع مائة دِينَارٍ ذَهَبًا ثُمَّ صَبَّ الدَّنَانِيرَ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ فَتَكَلَّمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ فَقَالَ الْحَمْدُ الله أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بَالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَجَبْتُ إِلَى مَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوَّجْتُهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ فَبَارَكَ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفَعَ الدَّنَانِيرَ إِلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَقَبَضَهَا ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَقُومُوا فَقَالَ اجْلِسُوا فَإِنَّ سُنَّةَ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا تَزَوَّجُوا أَنْ يُؤْكَلَ طَعَامٌ عَلَى التَّزْوِيجِ فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلُوا ثُمَّ تَفَرَّقُوا
أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الصَّفْوَةِ كَمَا قَالَهُ الطَّبَرِيُّ وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
وَخَالِدٌ هذا هو بن بن عَمِّ أَبِيهَا وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ أَبُوهَا حَالَ نِكَاحِهَا مُشْرِكًا مُحَارِبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا كَانَ بَالْمَدِينَةِ بَعْدَ رُجُوعِهَا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ انْتَهَى
وَتَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ فِي بَابِ الْوَلِيِّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَيْ أُمُّ شُرَحْبِيلَ هِيَ حَسَنَةُ وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُطَاعِ
[2108] (عَلَى صَدَاقِ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ) وَقَالَ بن إسحاق عن أبي جعفر أصدقها أربع مائة دينار
أخرجه بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقَةٍ
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أنس أنه صدقها مَائَتَيْ دِينَارٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ
كَذَا فِي النَّيْلِ (وَكَتَبَ) أَيِ النَّجَاشِيُّ (بِذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنَ التَّزْوِيجِ (فقبل(6/97)
رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المنذري هذا مرسل
وقيل أصدقها أربع مائة دِينَارٍ وَقِيلَ مَائَتَيْ دِينَارٍ انْتَهَى
0 - (بَاب قِلَّةِ الْمَهْرِ)
[2109] (وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ) أَيْ أَثَرُهُ
وَالرَّدْعُ بِمُهْمَلَاتٍ مَفْتُوحُ الْأَوَّلِ سَاكِنُ الثَّانِي هُوَ أَثَرُ الطِّيبِ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَالصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ أَثَرٌ مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ طِيبِ الْعَرُوسِ وَلَمْ يَقْصِدْهُ وَلَا تَعَمَّدَ التَّزَعْفُرَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ النَّهْيُ عَنِ التَّزَعْفُرِ لِلرِّجَالِ وَكَذَا نَهَى الرِّجَالَ عَنِ الْخَلُوقِ لِأَنَّهُ شِعَارُ النِّسَاءِ وَقَدْ نَهَى الرِّجَالَ عَنِ التَّشَبُّهِ بَالنِّسَاءِ فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي وَالْمُحَقِّقُونَ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَهْيَمْ) أَيْ مَا شَأْنُكَ أَوْ مَا هَذَا وَهِيَ كَلِمَةُ اسْتِفْهَامٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكُونِ وَهَلْ هِيَ بَسِيطَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ قَوْلَانِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ
كَذَا فِي الْفَتْحِ
قَالَ الطِّيبِيُّ سُؤَالٌ عَنِ السَّبَبِ فَلِذَا أَجَابَ بِمَا أَجَابَ وَيَحْتَمِلُ الْإِنْكَارُ بِأَنَّهُ كَانَ نَهَى عَنِ التَّضَمُّخِ بَالْخَلُوقِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَيْسَ تَضَمُّخًا بَلْ شَيْءٌ عَلِقَ بِهِ مِنْ مُخَالَطَةِ الْعَرُوسِ أَيْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ انْتَهَى
وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ وَالْفَاضِلِ تَفَقُّدُ أَصْحَابِهِ وَالسُّؤَالِ عَمَّا يَخْتَلِفُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ (قَالَ مَا أَصْدَقْتَهَا) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ كَمْ أَصْدَقْتَهَا أَيْ كَمْ جَعَلْتَ صَدَاقَهَا (قَالَ وَزْنَ نَوَاةٍ) بِنَصْبِ النُّونِ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أَصْدَقْتُهَا وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ أَيِ الَّذِي أَصْدَقْتُهَا هُوَ
قَالَهُ الْحَافِظُ
قَالَ الْقَاضِي قَالَ الْخَطَّابِيُّ النَّوَاةُ اسْمٌ لِقَدْرٍ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ فَسَّرُوهَا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْ ذَهَبٍ
قَالَ الْقَاضِي كَذَا فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هِيَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَثُلُثٌ
وَقِيلَ الْمُرَادُ نَوَاةُ التَّمْرِ أَيْ وَزْنُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ النَّوَاةُ رُبْعُ دِينَارٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ وَقَعَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ قَالَ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذَهَبٌ إِنَّمَا هِيَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ تُسَمَّى نَوَاةً كَمَا تُسَمَّى الْأَرْبَعُونَ أُوقِيَّةً
كَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ (أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ) لَوْ هَذِهِ لَيْسَتِ الِامْتِنَاعِيَّةَ وَإِنَّمَا هِيَ الَّتِي لِلتَّقْلِيلِ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي الْوَلِيمَةِ عَنِ الْمُوسِرِ وَلَوْلَا ثُبُوتُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَمَ(6/98)
عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِأَقَلَّ مِنَ الشَّاةِ لَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ أقل ما يجزيء فِي الْوَلِيمَةِ مُطْلَقًا وَلَكِنْ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ وَفِي تَنَاوُلِهِ لِغَيْرِهِ خِلَافٌ فِي الأصول معروف
قال القاضي عياض وأجموا على أنه لاحد لِأَكْثَرِ مَا يُولَمُ بِهِ وَأَمَّا أَقَلُّهُ فَكَذَلِكَ وَمَهْمَا تَيَسَّرَ أَجْزَأَ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّهَا عَلَى قَدْرِ حَالِ الزَّوْجِ كَذَا فِي النَّيْلِ
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْلِيلِ الصَّدَاقِ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ كَانَ مِنْ مَيَاسِيرِ الصَّحَابَةِ وَقَدْ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِصْدَاقِهِ وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَإِنَّمَا حَصَلَ لَهُ الْيَسَارُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مُلَازَمَةِ التِّجَارَةِ حَتَّى ظَهَرَتْ مِنَ الْإِعَانَةِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ مَا اشْتَهَرَ وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[2110] (مِلْءُ كَفَّيْهِ سَوِيقًا) هُوَ دَقِيقُ الْقَمْحِ الْمَقْلُوِّ أَوِ الذُّرَةِ أَو الشَّعِيرِ أَوْ غَيْرِهَا (فَقَدِ اسْتَحَلَّ) الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ يَرْجِعُ إِلَى مَنْ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أَيْ فَقَدْ جَعَلَهَا حَلَالًا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْمَهْرِ وَأَدْنَاهُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا تَرَاضَيَا بِهِ الْمُتَنَاكِحَانِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ لَا تَوْقِيتَ فِي أَقَلِّ الْمَهْرِ وَأَدْنَاهُ وَهُوَ مَا تَرَاضَوْا بِهِ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَوْ أَصْدَقَهَا سَوْطًا لَحَلَّتْ لَهُ
وَقَالَ مَالِكٌ أَقَلُّ الْمَهْرِ رُبْعُ دِينَارٍ
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَقَلُّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقَدَّرُوهُ بِمَا يُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ عِنْدَهُمْ وَزَعَمُوا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إتلاف عضوا انْتَهَى
قُلْتُ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَقَلُّهُ خمسون درهما
وقال النخعي أربعون
وقال بن شُبْرُمَةَ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ
وَاسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ وَبِحَدِيثِ الْخَاتَمِ الَّذِي سَيَأْتِي وَبِحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي فَزَارَةَ تَزَوَّجَتْ عَلَى نَعْلَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَضِيتِ مِنْ نَفْسِكِ وَمَالِكِ بِنَعْلَيْنِ قالت نعم فأجازه رواه أحمد وبن ماجه والترمذي(6/99)
وصححه وبحديث بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَدُّوا الْعَلَائِقَ قِيلَ مَا الْعَلَائِقُ قَالَ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ وَلَوْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ضَعْفٌ لَكِنْ حَدِيثُ الْخَاتَمِ وَحَدِيثُ نَوَاةِ الذَّهَبِ مِنْ أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَفِيهِمَا كِفَايَةٌ لِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ وَلَيْسَ عَلَى الْأَقْوَالِ الْبَاقِيَةِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَقَلَّ هُوَ أَحَدُهَا لَا دُونَهُ
وَمُجَرَّدُ مُوَافَقَةِ مَهْرٍ مِنَ الْمُهُورِ الْوَاقِعَةِ فِي عَصْرِ النُّبُوَّةِ الْوَاحِدِ مِنْهَا كَحَدِيثِ النَّوَاةِ مِنَ الذَّهَبِ فَإِنَّهُ موافق لقول بن شُبْرُمَةَ وَلِقَوْلِ مَالِكٍ عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِهَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمِقْدَارُ الَّذِي لَا يُجْزِئُ دُونَهُ إِلَّا مَعَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ دُونَ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ وَلَا تَصْرِيحَ
فَالرَّاجِحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ
فَكُلُّ مَا لَهُ قِيمَةٌ صَحَّ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بَالصَّوَابِ
فَإِنْ قُلْتَ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ إِلَّا الْأَكْفَاءَ وَلَا يُزَوِّجُهُنَّ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ وَلَا مَهْرَ دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ إِذْ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنْ لَا مَهْرَ دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
قُلْتُ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ بَعْدَ إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ أَحَادِيثُهُ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهَا انْتَهَى
وَقَالَ أَخُونَا الْعَلَّامَةُ فِي التَّعْلِيقِ الْمُغْنِي الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ أَحَادِيثُ مُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ مَوْضُوعَةٌ كَذِبٌ انْتَهَى
قَالَ بن الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ كَمَا قَالَ
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَعَنْ أبي يعلى رواه بن حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ وَقَالَ مُبَشِّرٌ يَرْوِي عَنِ الثِّقَاتِ الْمَوْضُوعَاتِ لَا يَحِلُّ كَتْبُ حَدِيثِهِ إِلَّا على جهة التعجب انتهى
ورواه بن عَدِيٍّ وَالْعُقَيْلِيِّ وَأَعَلَّاهُ بِمُبَشِّرِ بْنِ عُبَيْدٍ وَأَسْنَدَ الْعُقَيْلِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ وَصَفَهُ بَالْوَضْعِ وَالْكَذِبِ انْتَهَى
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ قَالَهُ الزَّيْلَعِيُّ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُوسَى بْنُ مُسْلِمٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ (نَسْتَمْتِعُ بَالْقُبْضَةِ بِضَمِّ) الْقَافِ وَفَتْحِهَا وَالضَّمُّ أَفْصَحُ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْقُبْضَةُ بَالضَّمِّ مَا قَبَضْتَ عَلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ يُقَالُ أَعْطَاهُ قُبْضَةً مِنْ تَمْرٍ أَوْ سَوِيقٍ قَالَ وربما يفتح (قال أبو داود رواه بن جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ إِلَخْ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ مُعَلَّقًا قَدْ أَخْرَجَهُ مسلم في صحيحه من حديث بن جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ سَمِعْتُ(6/100)
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ كُنَّا نَسْتَمْتِعُ بَالْقُبْضَةِ مِنَ التَّمْرِ وَالدَّقِيقِ الْأَيَّامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم
وقال أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ صَارَ مَنْسُوخًا فَإِنَّمَا نُسِخَ مِنْهُ شَرْطُ الْأَجَلِ فَأَمَّا مَا يَجْعَلُونَهُ صَدَاقًا فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ النَّسْخُ انْتَهَى
1 - (بَاب فِي التَّزْوِيجِ عَلَى الْعَمَلِ يَعْمَلُ)
[2111] (إِنِّي قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِي لَكَ) أَيْ أَمْرَ نَفْسِهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْحَقِيقَةُ غَيْرُ مُرَادِهِ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْحُرِّ لَا تُمْلَكُ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ أَتَزَوَّجُكَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ (فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ (هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ) مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ أَيْ تَجْعَلُ صَدَاقَهَا ذَلِكَ الشَّيْءَ وَمِنْ زَائِدَةٌ فِي الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرُ مُتَعَلِّقُ الظَّرْفِ وَجُمْلَةُ تُصْدِقُهَا فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ صِفَةٌ لِشَيْءٍ وَيَجُوزُ فِيهِ الْجَزْمُ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ (مَا عِنْدِي إِلَّا إِزَارِي هَذَا) عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ وَلَا إِزَارٌ غَيْرَ مَا عَلَيْهِ (فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) لَوْ تَقْلِيلِيَّةٌ
قَالَ عِيَاضٌ وَوَهَمَ مَنْ زَعَمَ خِلَافَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ خَاتِمًا بِكَسْرِ التَّاءِ وَفَتْحِهَا
قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّدَاقُ قَلِيلًا وَكَثِيرًا مِمَّا يُتَمَوَّلُ إِذَا تَرَاضَى بِهِ الزَّوْجَانِ لِأَنَّ خَاتِمَ الْحَدِيدِ فِي نِهَايَةٍ مِنَ الْقِلَّةِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَادَّعَى بَعْضهمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ لَا نِكَاح إِلَّا بِوَلِيٍّ وَلَا يَصِحّ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَوْهُوبَة كَانَتْ تَحِلّ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَعَلَتْ أَمْرهَا إِلَيْهِ فَزَوَّجَهَا بِالْوِلَايَةِ وَأَمَّا دَعْوَى الْخُصُوص فِي الْحَدِيث فَإِنَّهَا مِنْ وَجْه دُون وَجْه فَالْمَخْصُوص به صلى الله عليه وسلم هُوَ نِكَاحه بِالْهِبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى (وَامْرَأَة مُؤْمِنَة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لِلنَّبِيِّ) إِلَى قَوْله (خَالِصَة لَك مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ(6/101)
جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ
وَفِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ خَاتِمِ الْحَدِيدِ وَفِيهِ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ وَلِأَصْحَابِنَا فِي كَرَاهَتِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُكْرَهُ لِأَنَّ الْحَدِيثَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ ضَعِيفٌ انْتَهَى مُخْتَصَرًا
(قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ صَدَاقًا لِأَنَّ الْبَاءَ يَقْتَضِي الْمُقَابَلَةَ فِي الْعُقُودِ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَهْرًا لَمْ يَكُنْ لِسُؤَالِهِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ مَعْنًى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَأَمَّا تَزْوِيج الْمَرْأَة عَلَى تَعْلِيم الْقُرْآن فَكَثِير مِنْ أَهْل الْعِلْم يُجِيزهُ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَصْحَابهمَا وَكَثِير يَمْنَعهُ كَأَبِي حَنِيفَة وَمَالِك وَفِيهِ جَوَاز نِكَاح الْمُعْدِم الَّذِي لَا مَال لَهُ وَفِيهِ الرد عَلَى مَنْ قَالَ بِتَقْدِيرِ أَقَلّ الصَّدَاق إِمَّا بخمسة دراهم كقول بن شُبْرُمَةَ أَوْ بِعَشْرَةٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة أَوْ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا كَقَوْلِ النَّخَعِيِّ أَوْ بِخَمْسِينَ كَقَوْلِ سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ ثَلَاثَة دَرَاهِم أَوْ رُبْع دِينَار كَقَوْلِ مَالِك وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَال حُجَّة يَجِب الْمَصِير إِلَيْهَا وَلَيْسَ بَعْضهَا بِأَوْلَى مِنْ بَعْض وَغَايَة مَا ذَكَرَهُ الْمُقَدِّرُونَ قِيَاس اِسْتِبَاحَة الْبُضْع عَلَى قَطْع يَد السَّارِق وَهَذَا الْقِيَاس مَعَ مُخَالَفَته لِلنَّصِّ فَاسِد إِذْ لَيْسَ بَيْن الْبَابَيْنِ عِلَّة مُشْتَرَكَة تُوجِب إِلْحَاق أَحَدهمَا بِالْآخَرِ وَأَيْنَ قَطْع يَد السَّارِق مِنْ بَاب الصَّدَاق وَهَذَا هُوَ الْوَصْف الطَّرْدِيّ الْمَحْض الَّذِي لَا أَثَر لَهُ فِي تَعْلِيق الأحكام به وفيه جَوَاز عَرْض الْمَرْأَة نَفْسهَا عَلَى الرَّجُل الصَّالِح وَفِيهِ جَوَاز كَوْن الْوَلِيّ هُوَ الْخَاطِب وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه كَذَلِكَ وَذَكَرَ الْحَدِيث وَفِيهِ جَوَاز سُكُوت الْعَالِم وَمَنْ سُئِلَ شَيْئًا لَمْ يَرُدّ قَضَاءَهُ وَلَا الْجَوَاب عَنْهُ وَذَلِكَ أَلْيَن فِي صَرْف السَّائِل وَأَجْمَل مِنْ جِهَة الرَّدّ وَهُوَ مِنْ مَكَارِم الْأَخْلَاق وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز أَنْ تَكُون مَنَافِع الْحُرّ صَدَاقًا وَفِيهِ نَظَر وَاَللَّه أَعْلَم(6/102)
[2112] (فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَفِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً عَلَى سُورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ يُعَلِّمُهَا إِيَّاهُمَا
وَفِي مُرْسَلِ أَبِي النُّعْمَانِ الْأَزْدِيِّ زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً عَلَى سُورَةٍ مِنَ القرآن
وفي حديث بن عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ هَلْ تَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا قَالَ نَعَمْ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ قَالَ أَصْدِقْهَا إِيَّاهَا
قَالَ الْحَافِظُ وَيُجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ حَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظْ بَعْضٌ أَوْ أَنَّ الْقَصَصَ مُتَعَدِّدَةٌ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عِسْلُ بْنُ سُفْيَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ
[2113] (وَكَانَ مَكْحُولٌ يَقُولُ إِلَخْ) هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَّا مَا احْتُجَّ عَلَيْهَا بِمَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي النُّعْمَانِ الْأَزْدِيِّ قَالَ زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً عَلَى سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ لَا تَكُونُ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ مَهْرًا فَهَذَا مَعَ إِرْسَالِهِ فِيهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ
قَالَهُ الْحَافِظُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِجَوَازِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَالَ أَحْمَدُ أَكْرَهُهُ انْتَهَى
2 - (بَاب فِيمَنْ تَزَوَّجَ وَلَمْ يُسَمِّ صَدَاقًا حَتَّى مَاتَ)
[2114] (عَنْ فِرَاسٍ) بكسر الفاء بن يحيى الهمداني المكتب الكوفي وثقه بن معين (عن عبد الله) هو بن مَسْعُودٍ (وَلَمْ يَفْرِضْ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ لَمْ يُقَدِّرْ وَلَمْ يُعَيِّنْ (فَقَالَ) أَيْ(6/103)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا) أَرَادَ بَالصَّدَاقِ الْكَامِلِ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا يَأْتِي (وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ) أَيْ لِلْوَفَاةِ (قَالَ مَعْقِلٌ) بِفَتْحِ الميم وكسر القاف (بن سِنَانٍ) بِكَسْرِ السِّينِ الْأَشْجَعِيُّ (قَضَى بِهِ) أَيْ بِمَا قَضَيْتُ (فِي بَرْوَعٍ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ كَجَدْوَلٍ وَلَا يُكَبَّرُ بِنْتِ وَاشِقٍ صَحَابِيَّةٌ وَفِي الْمُغْنِي بِفَتْحِ الْبَاءِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَكَسْرِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ (وَاشِقٍ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ كَمَالَ الْمَهْرِ بَالْمَوْتِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا الزَّوْجُ وَلَا دَخَلَ بِهَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[2116] (أُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِهَذَا الْخَبَرِ) أَيْ بِهَذَا الْحَدِيثِ المذكور (فاختلفوا إليه) أي إلى بن مَسْعُودٍ (أَوْ قَالَ مَرَّاتٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (لَا وَكْسَ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ لَا نَقْصَ (وَلَا شَطَطَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ وَلَا زِيَادَةَ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْوَكْسُ النُّقْصَانُ وَالشَّطَطُ الْعُدْوَانُ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِ الْحَقِّ يُقَالُ اشْتَطَّ الرَّجُلُ فِي الْحُكْمِ إِذَا تَعَدَّى الْحَقَّ وَجَاوَزَهُ (فَإِنْ يَكُ) حُكْمِي هَذَا وَقَضَائِي (فَمِنَ اللَّهِ) أَيْ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ (وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وفيه أن الصواب في قول واحد ولا يكون القولان المتضادان صوابا معا
وهو منصوص الأئمة الأربعة والسلف
وأكثر الخلف
وفيه أن الله تعالى هو الموفق للصواب الملهم له بتوفيقه وإعانته وأن الخطأ من النفس(6/104)
وَمِنَ الشَّيْطَانِ أَيْ مِنْ قُصُورِ عِلْمِي وَمِنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَتَلْبِيسِهِ عَلَيَّ وَجْهَ الْحَقِّ فِيهِ (والله ورسوله يريان) يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ثُمَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكَا شَيْئًا لَمْ يُبَيِّنَاهُ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ وَلَمْ يُرْشِدَا إِلَى صَوَابِ الْحَقِّ فِيهِ إِمَّا نَصًّا أَوْ دَلَالَةً وَهُمَا بَرِيئَانِ مِنْ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِمَا الْخَطَأُ الَّذِي يُؤْتَى الْمَرْءُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ عَجْزِهِ وَتَقْصِيرِهِ
وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ بِمَوْتِ زَوْجِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّدَاقِ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ دُخُولٌ وَلَا خَلْوَةٌ وَبِهِ قَالَ بن مسعود وبن سيرين وبن أَبِي لَيْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ
وعن علي وبن عباس وبن عُمَرَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا الْمِيرَاثَ فَقَطْ وَلَا تَسْتَحِقُّ مَهْرًا وَلَا مُتْعَةً لِأَنَّ الْمُتْعَةَ لَمْ تَرِدْ إِلَّا لِلْمُطَلَّقَةِ وَالْمَهْرُ عِوَضٌ عَنِ الْوَطْءِ وَلَمْ يَقَعْ مِنَ الزَّوْجِ
وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بَالِاضْطِرَابِ فَرُوِيَ مَرَّةً عَنْ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ وَمَرَّةً عَنْ رَجُلٍ مِنْ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
والشيطان ولا يضاف إلى الله ولا إلى رسوله
ولا حجة فيه للقدرية المجوسية إذا إضافته إلى النفس والشيطان إضافة إلى محله ومصدره وهو النفس وشبهها وهو الشيطان وتلبيسه الحق بالباطل بل فيه رد على القدرية الجبرية الذين يبرئون النفس والشيطان من الأفعال البتة ولا يرون للمكلف فعلا اختياريا يكون صوابا أو خطأ
والذي دل عليه قول بن مسعود وهو قول الصحابة كلهم وأئمة السنة من التابعين ومن بعدهم هو إثبات القدر الذي هو نظام التوحيد
إثبات فعل العبد الأختياري
الذي هو نظام الأمر والنهي
وهو متعلق المدح والذم والثواب والعقاب والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ فِي سُنَنه مِنْ حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ سعيد بن جبير عن بن عَبَّاس
أَنَّ رَجُلًا كَلَّمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْء فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْحَمْد لِلَّهِ نَحْمَدهُ وَنَسْتَعِينهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّه فَلَا مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِي لَهُ وَأَشْهَد أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْده وَرَسُوله أَمَّا بَعْد وَالْأَحَادِيث كُلّهَا مُتَّفِقَة عَلَى أَنَّ نَسْتَعِينهُ وَنَسْتَغْفِرهُ وَنَعُوذ بِهِ بِالنُّونِ وَالشَّهَادَتَانِ بِالْإِفْرَادِ وَأَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَشْهَد أَنَّ محمدا عبده ورسوله(6/105)
أَشْجَعَ أَوْ نَاسٍ مِنْ أَشْجَعَ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاضْطِرَابَ غَيْرُ قَادِحٍ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ صَحَابِيٍّ وَصَحَابِيٍّ وَهَذَا لَا يُطْعَنُ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ
وَقَالُوا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لَا تَقْبَلْ قَوْلَ أَعْرَابِيٍّ بَوَّالٍ عَلَى عَقِبَيْهِ فِيمَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ وَلَوْ سُلِّمَ ثُبُوتُهُ فَلَمْ يَنْفَرِدْ بَالْحَدِيثِ مَعْقِلٌ الْمَذْكُورُ بَلْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ بَلْ مَعَهُ الْجَرَّاحُ كَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَأَيْضًا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إِنَّمَا نَفَيَا مَهْرَ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِّ وَالْفَرْضِ لَا مَهْرَ مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَأَحْكَامُ الْمَوْتِ غَيْرُ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ
[2117] (وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) قَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو الْقَاسِمِ انْتَهَى (عَبْدُ العزيز بن يحيى) بدل من أبو الْأَصْبَغِ وَهُوَ كُنْيَتُهُ (فَدَخَلَ بِهَا الرَّجُلُ) أَيْ جَامَعَهَا (وَلَمْ يَفْرِضْ) أَيْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا (وَكَانَ) أَيِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال شيخ الإسلام بن تَيْمِيَة لَمَّا كَانَتْ كَلِمَة الشَّهَادَة لَا يَتَحَمَّلهَا أَحَد عَنْ أَحَد وَلَا تُقْبَل النِّيَابَة بِحَالٍ أَفْرَدَ الشَّهَادَة بِهَا
وَلَمَّا كَانَتْ الِاسْتِعَانَة وَالِاسْتِعَاذَة وَالِاسْتِغْفَار يُقْبَل ذَلِكَ فَيَسْتَغْفِر الرَّجُل لِغَيْرِهِ وَيَسْتَعِين اللَّه لَهُ وَيَسْتَعِيذ بِاَللَّهِ لَهُ أَتَى فِيهَا بِلَفْظِ الْجَمْع وَلِهَذَا يَقُول اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَأَعِذْنَا واغفر لنا
قال ذلك في حديث بن مسعود وليس فيه نحمده وفي حديث بن عَبَّاس نَحْمَدهُ بِالنُّونِ مَعَ أَنَّ الْحَمْد لَا يَتَحَمَّلهُ أَحَد عَنْ أَحَد وَلَا يَقْبَل النِّيَابَة فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة مَحْفُوظَة فِيهِ إِلَى أَلْفَاظ الْحَمْد وَالِاسْتِعَانَة عَلَى نَسَق وَاحِد
وَفِيهِ مَعْنًى آخَر وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِعَانَة وَالِاسْتِعَاذَة وَالِاسْتِغْفَار طَلَب وَإِنْشَاء فَيُسْتَحَبّ لِلطَّالِبِ أَنْ يَطْلُبهُ لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا الشَّهَادَة فَهِيَ إِخْبَار عَنْ شَهَادَته لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِنَبِيِّهِ بِالرِّسَالَةِ وَهِيَ خَبَر يطابق عقد الْقَلْب وَتَصْدِيقه وَهَذَا إِنَّمَا يُخْبِر بِهِ الْإِنْسَان عَنْ نَفْسه لِعِلْمِهِ بِحَالِهِ بِخِلَافِ إِخْبَاره عَنْ غَيْره فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُخْبِر عَنْ قَوْله وَنُطْقه لَا عَنْ عَقْد قَلْبه
وَاَللَّه أَعْلَم(6/106)
الرَّجُلُ (مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ) أَيْ غَزْوَةَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ مَكَّةَ سُمِّيَتْ بِبِئْرٍ هُنَاكَ وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُشَدِّدُونَهَا وَكَانَ تَوَجُّهُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا مِنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مُسْتَهَلَّ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَخَرَجَ قَاصِدًا إِلَى الْعُمْرَةِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمُ الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ (وَكَانَ مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ لَهُمْ (لَهُ) سَهْمٌ بِخَيْبَرَ) خَيْبَرُ عَلَى وَزْنِ جَعْفَرٍ وَهِيَ مَدِينَةٌ كَبِيرَةٌ ذَاتُ حُصُونٍ وَمَزَارِعَ عَلَى ثَمَانِيَةِ بُرُدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى جِهَةِ الشام
قال بن إِسْحَاقَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَقِيَّةِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ فَأَقَامَ يُحَاصِرُهَا بِضْعَ عشرة ليلا إِلَى أَنْ فَتَحَهَا فِي صَفَرٍ
وَرَوَى يُونُسُ بن بكير في المغازي عن بن إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ قَالَا انْصَرَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الْحُدَيْبِيَةِ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْفَتْحِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ فِيهَا خَيْبَرَ بِقَوْلِهِ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه يَعْنِي خَيْبَرَ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى سَارَ إِلَى خَيْبَرَ فِي الْمُحَرَّمِ (وَإِنِّي أُشْهِدكُمْ أَنِّي أَعْطَيْتُهَا) أَيْ فُلَانَةً (سَهْمِي بِخَيْبَرَ) أَيْ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَافِظَ جَعَلَ حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ هذا شاهد الحديث مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْمَذْكُورِ وَلَا شَهَادَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا فِي امْرَأَةٍ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا نَعَمْ فِيهِ شَاهِدٌ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ (خَيْرُ النِّكَاحِ أَيْسَرُهُ) أَيْ أَسْهَلُهُ عَلَى الرَّجُلِ بِتَخْفِيفِ الْمَهْرِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ الْعَزِيزِيُّ أَيْ أَقَلُّهُ مَهْرًا أَوْ أَسْهَلُهُ إِجَابَةً لِلْخِطْبَةِ انْتَهَى (قَالَ أَبُو دَاوُدَ يُخَافُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ مُلْزَقًا) أَيْ مُلْحَقًا (لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ هَذَا) لِأَنَّهُ أعطاها(6/107)
زَائِدًا عَلَى الْمَهْرِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إِنَّمَا تُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَأَكْثَرُهَا خَالِيَةٌ مِنْهَا
3 - (بَاب فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ)
[2118] (فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه النسائي
وأبو عبيدة هو بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) بِتَخْفِيفِ أَنْ وَرَفْعِ الْحَمْدِ
قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ يَجُوزُ تَخْفِيفُ أَنْ وَتَشْدِيدُهَا وَمَعَ التَّشْدِيدِ يَجُوزُ رَفْعُ الحمد ونصبه ورويناه بذلك ذكره القارىء فِي الْمِرْقَاةِ وَقَالَ رَفْعُ الْحَمْدِ مَعَ التَّشْدِيدِ عَلَى الْحِكَايَةِ (نَسْتَعِينُهُ) أَيْ فِي حَمْدِهِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ وَمَا بَعْدَهُ جُمَلٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِأَحْوَالِ الْحَامِدِينَ (وَنَسْتَغْفِرُهُ) أَيْ فِي تَقْصِيرِ عِبَادَتِهِ وَتَأْخِيرِ طَاعَتِهِ (وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا) أَيْ مِنْ ظُهُورِ شُرُورِ أَخْلَاقِ نُفُوسِنَا الرَّدِيَّةِ وَأَحْوَالِ طباع هوائنا الدَّنِيَّةِ (مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ) بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ أَيْ مَنْ يُوَفِّقْهُ لِلْعِبَادَةِ (فَلَا مُضِلَّ لَهُ) أَيْ مِنْ شَيْطَانٍ وَنَفْسٍ وَغَيْرِهِمَا (وَمَنْ يُضْلِلْ) بِحَذْفِ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِإِثْبَاتِ الضَّمِيرِ (فَلَا هَادِيَ لَهُ) أَيْ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَلَا مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَضَافَ الشَّرَّ إِلَى الْأَنْفُسِ أَوَّلًا كَسْبًا وَالْإِضْلَالَ إِلَى اللَّهِ تعالى ثانيا خلقا وتقديرا (ياأيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله ولعله هكذا في مصحف بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّ الْمُثْبَتَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي بدون ياأيها الَّذِينَ آمَنُوا قِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلًا لِمَا فِي الْإِمَامِ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللام في ياأيها النَّاسُ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ
قُلْتُ لَا يَصِحُّ هَذَا الِاحْتِمَالُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ ياأيها الذين آمنوا اتقوا ربكم(6/108)
الذي خلقكم من نفس واحدة الْآيَةَ مَعَ أَنَّ الْمَوْصُولَيْنِ لَا يُلَائِمَانِ لِلتَّخْصِيصِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (تَسَّاءَلُونَ) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَبِتَشْدِيدِ السِّينِ قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ (بِهِ) أَيْ تَتَسَاءَلُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ حَوَائِجَكُمْ بَاللَّهِ كَمَا تَقُولُونَ أَسْأَلُكَ بَاللَّهِ (وَالْأَرْحَامَ) بَالنَّصْبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْقُرَّاءِ أَيْ وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا وَفِيهِ عَظِيمُ مُبَالَغَةٍ فِي اجْتِنَابِ قَطْعِ الرَّحِمِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ بَالْخَفْضِ أَيْ بِهِ وَبَالْأَرْحَامِ كَمَا فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ عن بن مَسْعُودٍ يُقَالُ سَأَلْتُكَ بَاللَّهِ وَبَالرَّحِمِ وَالْعَطْفُ عَلَى الضمير المجرور من غير إعادة الجار فصيح عَلَى الصَّحِيحِ وَطَعَنَ مَنْ طَعَنَ فِيهِ
وَقِيلَ الْجَرُّ لِلْجِوَارِ
وَقِيلَ الْوَاوُ لِلْقَسَمِ (رَقِيبًا) أَيْ حافظا (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) في المعالم قال بن مسعود وبن عَبَّاسٍ هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى قِيلَ وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فقالوا يارسول اللَّهِ وَمَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى فاتقوا الله ما استطعتم فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
وَقِيلَ إِنَّهَا ثَابِتَةٌ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ مُبَيِّنَةٌ (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) النَّهْيُ فِي ظَاهِرِ الْكَلَامِ وَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ وَإِنَّمَا نُهُوا فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ تَرْكِ الْإِسْلَامِ وَمَعْنَاهُ دَاوِمُوا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى لَا يُصَادِفُكُمُ الموت إلا وأنتم مسلمون (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله) أي مخالفته ومعاقبته (وقولوا قولا سديدا) أَيْ صَوَابًا وَقِيلَ عَدْلًا وَقِيلَ صِدْقًا وَقِيلَ مُسْتَقِيمًا وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَيْ دَاوِمُوا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ (يُصْلِحْ لكم أعمالكم) أي يتقبل حسناتكم (ويغفر لكم ذنوبكم) أَيْ يَمْحُو سَيِّئَاتِكُمْ (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أَيْ بَامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الزَّوَاجِرِ (فَقَدْ فَازَ فوزا عظيما) أَيْ ظَفِرَ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَدْرَكَ مُلْكًا كَبِيرًا
وقد استدل بحديث بن مَسْعُودٍ هَذَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ وَعِنْدَ كُلِّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْره مِنْ حَدِيث عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ تَشَهَّدَ رَجُلَانِ عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدهمَا مَنْ يُطِعْ اللَّه وَرَسُوله فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِمهَا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِئْسَ الْخَطِيب أَنْتَ فَإِنْ صَحَّ حَدِيث عِمْرَان بْن دَاوَرَ فَلَعَلَّهُ رَوَاهُ بَعْضهمْ بِالْمَعْنَى فَظَنَّ أَنَّ اللَّفْظَيْنِ سَوَاء وَلَمْ يَبْلُغهُ حَدِيث بِئْسَ الْخَطِيب أَنْتَ وَلَيْسَ عِمْرَان بِذَلِكَ الْحَافِظ(6/109)
حَاجَةٍ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ بِغَيْرِ خُطْبَةٍ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ انْتَهَى
وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ حَدِيثُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْآتِي فَيَكُونُ عَلَى هَذَا الْخُطْبَةُ فِي النِّكَاحِ مَنْدُوبَةٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْرَجَهُ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصَ وَحْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ أخرجه عنهما
انتهى
وزاد بن مَاجَهْ بَعْدَ قَوْلِهِ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَفْظَةَ نحمده وبعده قَوْلِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا لَفْظَةَ وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا
وَزَادَ الدَّارِمِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ عَظِيمًا ثُمَّ يَتَكَلَّمُ بِحَاجَتِهِ
[2119] (عَنْ أَبِي عِيَاضٍ) اسْمُهُ عَمْرُو بْنُ الْأَسَدِ الْعَنْسِيُّ بِنُونٍ أَوِ الْهَمْدَانِيُّ أَحَدُ زُهَّادِ الشَّامِ مُخَضْرَمٌ ثِقَةٌ عَابِدٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ مَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ (كَانَ إِذَا تَشَهَّدَ) أَيْ خَطَبَ (ذَكَرَ نَحْوَهُ) أَيْ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (أَرْسَلَهُ بَالْحَقِّ) أَيْ بَالْهُدَى (بَشِيرًا) مَنْ أَجَابَ إِلَيْهِ (وَنَذِيرًا) مَنْ لَمْ يُجِبْ إِلَيْهِ (بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ) أَيْ قُدَّامَهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عِمْرَانُ بْنُ دَاوُدَ الْقَطَّانُ وَفِيهِ مَقَالٌ
[2120] (عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ) قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ هُوَ عَبَّادُ بْنُ شَيْبَانَ (خَطَبْتُ) مِنَ الْخِطْبَةِ بَالْكَسْرِ (أُمَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) أَيْ عَمَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَأَنْكَحَنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَشَهَّدَ) أَيْ يَخْطُبُ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْخُطْبَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ وَذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِيهِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِهَا خَطَبْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّتَهُ فَأَنْكَحَنِي وَلَمْ يَتَشَهَّدْ وَفِي بَعْضِهَا أَلَا أُنْكِحُكَ أُمَامَةَ بِنْتَ رَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ إِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ انْتَهَى
(قَالَ لَنَا أَبُو عِيسَى) هُوَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عِيسَى إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ الرَّمْلِيُّ أَحَدُ(6/110)
رُوَاةِ هَذَا السُّنَنِ عَنِ الْمُؤَلِّفِ أَبِي دَاوُدَ وَرَوَى عَنْهُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ دحيم بن خليل ولعل قائل قَالَ لَنَا إِلَخْ تِلْمِيذُهُ هَذَا أَوْ تِلْمِيذٌ آخَرُ مِنْ تَلَامِذَتِهِ (قِيلَ لَهُ أَيَجُوزُ هَذَا) أَيْ جَوَازُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْخُطْبَةِ (أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَحَدِيثِ سَهْلِ بن سعد السَّاعِدِيِّ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَمْ تُذْكَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ
قَالَ الْحَافِظُ تَحْتَ حَدِيثِ سَهْلٍ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ العقد تقدم الخطبة إذا لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ وُقُوعُ حَمْدٍ وَلَا تَشَهُّدٍ وَلَا غَيْرِهِمَا مِنْ أَرْكَانِ الْخِطْبَةِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الظَّاهِرِيَّةُ فَجَعَلُوهَا وَاجِبَةً وَوَافَقَهُمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَبُو عَوَانَةَ فَتَرْجَمَ فِي صَحِيحِهِ بَابَ وُجُوبِ الْخُطْبَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ انْتَهَى
4 - (بَاب فِي تَزْوِيجِ الصِّغَارِ)
[2121] (قَالَ سُلَيْمَانُ أَوْ سِتٍّ) يَعْنِي قَالَ سُلَيْمَانُ فِي رِوَايَتِهِ وَأَنَا بِنْتُ سَبْعٍ أَوْ سِتٍّ بَالشَّكِّ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ تَزَوَّجَنِي وَأَنَا بِنْتُ سَبْعٍ وَفِي أَكْثَرِ رِوَايَاتِهِ بِنْتُ سِتٍّ
قَالَ النَّوَوِيُّ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ كَانَ لَهَا سِتُّ وَكَسْرٌ فَفِي رِوَايَةٍ اقْتَصَرَتْ عَلَى السِّنِينَ وَفِي رِوَايَةٍ عَدَّتِ السَّنَةَ الَّتِي دَخَلَتْ فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ
قَالَ النَّوَوِيُّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ تَزْوِيجِهِ بِنْتَهُ الْبِكْرَ الصَّغِيرَةَ لِهَذَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا لِسَبْعِ سِنِينَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا لِتِسْعِ سِنِينَ ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيث الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ الْأَسْوَد عَنْهَا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا
وَهِيَ بِنْت تِسْع وَمَاتَ عَنْهَا وَهِيَ بِنْت ثَمَان عَشْرَة ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيث مُطَرِّف بْن طَرِيف عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي عُبَيْدَة قَالَ قَالَتْ عَائِشَة تَزَوَّجَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتِسْعِ سِنِينَ وَصَحِبْته تِسْعًا وَلَيْسَ شَيْء مِنْ هَذَا بِمُخْتَلِفٍ فإن عقده صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا كَانَ وَقَدْ اِسْتَكْمَلَتْ سِتّ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي السَّابِعَة وَبِنَاؤُهُ بِهَا كَانَ لِتِسْعِ سِنِينَ مِنْ مَوْلِدهَا فَعَبَّرَ عَنْ الْعَقْد بِالتَّزْوِيجِ وَكَانَ لِسِتِّ سِنِينَ وَعَبَّرَ عَنْ الْبِنَاء بِهَا بِالتَّزْوِيجِ وَكَانَ لِتِسْعٍ
فَالرِّوَايَتَانِ حَقٌّ(6/111)
الْحَدِيثِ وَإِذَا بَلَغَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي فَسْخِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ
وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ لَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ وَأَمَّا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يزوجها عند الشافعي والثوري ومالك وبن أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْجُمْهُورِ
قَالُوا فَإِنْ زَوَّجَهَا لَمْ يَصِحَّ
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ مِنَ السَّلَفِ يَجُوزُ لِجَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ وَيَصِحُّ وَلَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ إِلَّا أَبَا يُوسُفَ فَقَالَ لَا خِيَارَ لَهَا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
5 - (بَاب فِي الْمُقَامِ عِنْدَ الْبِكْرِ)
[2122] أَيْ إِقَامَةُ الزَّوْجِ عِنْدَهَا بَعْدَ الزِّفَافِ
(أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَ لَيَالٍ (لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ) أَيِ احْتِقَارٌ وَالْمُرَادُ بَالْأَهْلِ قَبِيلَتُهَا وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أَيْ لَا يَلْحَقُ أَهْلَكِ بِسَبَبِكِ هَوَانٌ وَقِيلَ أَرَادَ بَالْأَهْلِ نَفْسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَهْلٌ وَالْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَوَانٍ أَيْ لَيْسَ اقْتِصَارِي عَلَى الثَّلَاثَةِ لِهَوَانِكِ عَلَيَّ وَلَا لِعَدَمِ رَغْبَةٍ فِيكِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ الْحُكْمُ (إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ ثُمَّ دُرْتُ قَالَتْ ثَلِّثْ
وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ إِنْ شِئْتِ أَقَمْتُ عِنْدَكِ ثلاثا خالصة لك وإن شئت سبت لَكِ وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي
قَالَتْ تُقِيمُ مَعِي ثَلَاثًا خَالِصَةً
قَالَ فِي النِّهَايَةِ اشْتَقُّوا فَعَّلَ مِنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ فَمَعْنَى سَبَّعَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَثَلَّثَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا تَعَدَّى السَّبْعَ لِلْبِكْرِ وَالثَّلَاثَ لِلثَّيِّبِ بَطَلَ الْإِيثَارُ وَوَجَبَ قَضَاءُ سَائِرِ الزَّوْجَاتِ مِثْلَ تِلْكَ الْمُدَّةِ بَالنَّصِّ فِي الثَّيِّبِ وَالْقِيَاسِ فِي الْبِكْرِ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ مِنَ الزَّوْجِ تَعَدِّي تِلْكَ الْمُدَّةِ بِإِذْنِ الزَّوْجَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والنسائي وبن مَاجَهْ
[2123] (لَمَّا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ) هِيَ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ(6/112)
بَنَاتِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَزَوَّجَهَا (زَادَ عُثْمَانُ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (وَكَانَتْ) أَيْ صَفِيَّةُ (وَقَالَ) أَيْ عُثْمَانُ (حَدَّثَنِي هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا حُمَيْدٌ أَخْبَرَنَا أَنَسٌ) وَأَمَّا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ فَقَالَ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بَالْعَنْعَنَةِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[2124] (إِذَا تَزَوَّجَ) أَيِ الرَّجُلُ (الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ) أَيْ تَكُونُ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ فَيَتَزَوَّجُ مَعَهَا بِكْرًا (وَلَوْ قُلْتَ) الْقَائِلُ أَبُو قِلَابَةَ (إِنَّهُ رَفَعَهُ لَصَدَقْتَ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِرَفْعِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ صَادِقًا وَيَكُونُ رُوِيَ بَالْمَعْنَى وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ رَأَى أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى اللَّفْظِ أَوْلَى
وقال بن دَقِيقِ الْعِيدِ قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ ظَنَّ أَنَّهُ سَمِعَهُ عَنْ أنس مرفوعا لفظا فتحرر عَنْهُ تَوَرُّعًا وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ رَأَى أَنَّ قَوْلَ أَنَسٍ مِنَ السُّنَّةِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ فَلَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ لَصَحَّ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ
قَالَ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنَ السُّنَّةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِطَرِيقٍ اجْتِهَادِيٍّ مُحْتَمِلٌ وَقَوْلَهُ إِنَّهُ رَفَعَهُ نَصَّ فِي رَفْعِهِ وَلَيْسَ لِلرَّاوِي أَنْ يَنْقُلَ مَا هُوَ ظَاهِرٌ مُحْتَمِلٌ إِلَى مَا هُوَ نَصٌّ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ انْتَهَى
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ قَوْلِهِ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا وَبَيْنَ رَفْعِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَنَسٍ وَقَالُوا فِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالدَّارِمِيِّ وَغَيْرِهِمُ انْتَهَى مُخْتَصَرًا
وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِكْرَ تُؤْثَرُ بِسَبْعٍ وَالثَّيِّبَ بِثَلَاثٍ
قِيلَ وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ قَبْلَ الجديدة
وقال بن عَبْدِ الْبَرِّ حَاكِيًا عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إِنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ بِسَبَبِ الزِّفَافِ وَسَوَاءٌ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ أَمْ لَا
وَحَكَى النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُهَا وَإِلَّا فَيَجِبُ
قَالَ فِي الْفَتْحِ وَهَذَا يُوَافِقُ كَلَامَ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ أَنْ لَا فَرْقَ وَإِطْلَاقُ الشَّافِعِيِّ يُعَضِّدُهُ وَيُمْكِنُ التَّمَسُّكُ لِقَوْلِ مَنِ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ قَبْلَ الْجَدِيدَةِ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ لِمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ أَيْضًا
لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ(6/113)
قَالَ الْحَافِظُ لَكِنِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ قَالَ وَفِيهِ يَعْنِي حَدِيثَ أَنَسٍ الْمَذْكُورَ حُجَّةٌ عَلَى الْكُوفِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ الْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ سَوَاءٌ وَعَلَى الْأَوْزَاعِيِّ فِي قَوْلِهِ لِلْبِكْرِ ثَلَاثٌ وَلِلثَّيِّبِ يَوْمَانِ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ
6 - (بَاب فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ بِامْرَأَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا شَيْئًا)
[2125] قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ نَقَدْتُ الدَّرَاهِمَ نَقْدًا مِنْ بَابِ قَتَلَ وَالْفَاعِلُ نَاقِدٌ وَنَقَدْتُ الرَّجُلَ الدَّرَاهِمَ بِمَعْنَى أَعْطَيْتُهُ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ انْتَهَى
(لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ) هِيَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ تَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَبَنَى عَلَيْهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ وَلَدَتْ لَهُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَالْمُحْسِنَ وَزَيْنَبَ وَرُقَيَّةَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ وَمَاتَتْ بَالْمَدِينَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ (قَالَ أَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْحُطَمِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَحْطِمُ السُّيُوفَ وَقِيلَ مَنْسُوبَةٌ إِلَى بَطْنٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ يُقَالُ لَهُ حُطَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ كَانُوا يَعْمَلُونَ الدُّرُوعَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي تَقْدِيمَ شَيْءٍ لِلزَّوْجَةِ قَبْلَ الدُّخُولَ بِهَا جَبْرًا لِخَاطِرِهَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الرِّوَايَةِ هَلْ أَعْطَاهَا دِرْعَهُ الْمَذْكُورَةَ أَوْ غَيْرَهَا
وَقَدْ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ فِي تَعْيِينِ مَا أَعْطَى عَلِيٌّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَّا إِنَّهَا غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ
قَالَهُ فِي السُّبُلِ قُلْتُ قَدْ جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ تَعْيِينُ مَا أَعْطَى عَلِيٌّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ سَكَتَ عَنْهَا أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه النسائي(6/114)
[2126] (فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا) فِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ إِنَّهُ يَجُوزُ الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُسْلِمَ الزَّوْجُ مَهْرَهَا وَكَذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ الِامْتِنَاعُ حَتَّى يُسَمِّيَ الزَّوْجُ مَهْرَهَا وَقَدْ تُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ رَضِيَتْ بَالْعَقْدِ بِلَا تَسْمِيَةٍ وَأَجَازَتْهُ فَقَدْ نَفَذَ وَتَعَيَّنَ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا الِامْتِنَاعُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَضِيَتْ بِهِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَا إِجَازَةٍ فَلَا عَقْدَ رَأْسًا فَضْلًا عَنِ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الِامْتِنَاعِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ حَتَّى يُعَيِّنَ الزَّوْجُ مَهْرَهَا ثُمَّ حَتَّى يُسْلِمَهُ
قِيلَ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَهْرَ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى عِنْدَ الْعَقْدِ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مُسَمًّى عِنْدَ الْعَقْدِ وَوَقَعَ التَّأْجِيلُ بِهِ وَلَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِتَقْدِيمِ شَيْءٍ مِنْهُ كَرَامَةً لِلْمَرْأَةِ وَتَأْنِيسًا
كَذَا فِي النَّيْلِ
[2128] (أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُدْخِلَ) مِنَ الْإِدْخَالِ (قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا) فِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ أَنْ يُسْلِمَ الزَّوْجُ إِلَى الْمَرْأَةِ مَهْرَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْقَاضِي الشَّوْكَانِيُّ وَلَا أَعْرِفُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا (قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَخَيْثَمَةُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ) هَذِهِ الْعِبَارَةَ لَمْ تُوجَدْ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بَلْ إِنَّمَا وُجِدَتْ فِي بعضها وخيثمة هذا هو بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعْفِيُّ الْكُوفِيُّ عَنْ أَبِيهِ وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ وَعَنْهُ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ قَالَ الْأَعْمَشُ وَرِثَ خيثمة مائتي ألف درهما فأنفقها على الفقراء وثقه بن مَعِينٍ وَالْعِجْلِيُّ
كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه بن ماجه(6/115)
[2129] (أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ) أَيْ تَزَوَّجَتْ (عَلَى صَدَاقٍ أَوْ حِبَاءٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَعَ الْمَدِّ أَصْلُهُ الْعَطِيَّةُ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ بَالْحُلْوَانِ قَالَهُ الْعَلَّامَةُ الْعَزِيزِيُّ
وَقَالَ فِي السُّبُلِ الْحِبَاءُ الْعَطِيَّةُ لِلْغَيْرِ أَوْ لِلزَّوْجِ زَائِدًا عَلَى مَهْرِهَا (أَوْ عِدَّةٌ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ
قَالَ الْعَلْقَمِيُّ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يلزمه الوفاء وعند بن مَاجَهْ أَوْ هِبَةٌ بَدَلُ الْعِدَّةِ (قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ) أَيْ قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ (فَهُوَ لَهَا) أَيْ مُخْتَصٌّ بِهَا دُونَ أَبِيهَا لِأَنَّهُ وُهِبَ لَهَا قَبْلَ الْعَقْدِ الَّذِي شُرِطَ فِيهِ لِأَبِيهَا مَا شُرِطَ وَلَيْسَ لِأَبِيهَا حَقٌّ فِيهِ إِلَّا بِرِضَاهَا (وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ) أَيْ وَمَا شُرِطَ مِنْ نَحْوِ هِبَةٍ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ فَهُوَ حَقٌّ لِمَنْ أُعْطِيَهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَبِ وَغَيْرِهِ (وَأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ) بَالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (عَلَيْهِ الرَّجُلُ) أَيْ لأجله فعلي للتعليل
قال العلقمي قال بن رَسْلَانَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَحَقُّ مَا أُكْرِمَ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافٌ يَقْتَضِي الْحَضَّ عَلَى إِكْرَامِ الْوَلِيِّ تَطْيِيبًا لِنَفْسِهِ (ابْنَتُهُ) بَالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى حَذْفِ كَانَ وَالتَّقْدِيرُ أَحَقُّ مَا أُكْرِمَ لِأَجْلِهِ الرِّجَالُ إِذَا كَانَتِ ابْنَتَهُ (أَوْ أُخْتُهُ) ظَاهِرُ الْعَطْفِ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَصُّ بَالْأَبِ بَلْ كُلُّ وَلِيٍّ كَذَلِكَ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مَا يُذْكَرُ قَبْلَ الْعَقْدِ مِنْ صَدَاقٍ أَوْ حِبَاءٍ أَوْ عِدَّةٍ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَذْكُورًا لِغَيْرِهَا وَمَا يُذْكَرُ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ فَهُوَ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ سَوَاءً كَانَ وَلِيًّا أَوْ غَيْرَ وَلِيٍّ أَوِ الْمَرْأَةَ نَفْسَهَا وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَمَالِكٌ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ لِمَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَخٍ أَوْ أَبٍ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْمَهْرِ تَكُونُ فَاسِدَةً وَلَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ كَذَا فِي النَّيْلِ وَالسُّبُلِ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ تَحْتَ هَذَا الْحَدِيثِ وهذا مأول عَلَى مَا يَشْتَرِطُهُ الْوَلِيُّ لِنَفْسِهِ سِوَى الْمَهْرِ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهِ فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ فِي الرَّجُلِ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ عَلَى أَنَّ لِأَبِيهَا كَذَا وَكَذَا شَيْئًا اتَّفَقَا عَلَيْهِ سِوَى الْمَهْرِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْمَرْأَةِ دُونَ الأب وكذلك روي عن عطاء وطاؤس
وَقَالَ أَحْمَدُ هُوَ لِلْأَبِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ يَدَ الْأَبِ مَبْسُوطَةٌ فِي مَالِ الْوَلَدِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ زَوَّجَ ابْنَتَهُ رَجُلًا فَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ مَالًا
وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ زَوَّجَ ابْنَتَهُ رَجُلًا وَاشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ يَجْعَلُهَا فِي الْحَجِّ وَالْمَسَاكِينِ
وَقَالَ(6/116)
الشافعي إذا فعل ذلك فلما مَهْرُ مِثْلِهَا وَلَا شَيْءَ لِلْوَلِيِّ انْتَهَى
قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْحُفَّاظِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
7 - (بَاب مَا يُقَالُ لِلْمُتَزَوِّجِ [2130] مِنَ الدُّعَاءِ)
(كَانَ إِذَا رَفَّأَ الْإِنْسَانُ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ وَهَمْزَةِ وَقَدْ لَا يُهْمَزُ أَيْ هَنَّأَهُ وَدَعَا لَهُ وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِمْ لِلْمُتَزَوِّجِ أَنْ يَقُولُوا بَالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَالَ لِلْمُتَزَوِّجِ بالرفاء والبنين
قال بن الْأَثِيرِ الرِّفَاءُ الِالْتِئَامُ وَالِاتِّفَاقُ وَالْبَرَكَةُ وَالنَّمَاءُ وَهُوَ من قولهم رفأت الثوب رفأ ورفوته ورفوا وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ كَرَاهِيَةً لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ وَلِهَذَا سُنَّ فِيهِ غَيْرُهُ انْتَهَى (وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ الدُّعَاءَ لَهُ بَالْبَرَكَةِ مَوْضِعَ التَّرْفِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ النسائي وبن ماجه
وقال الترمذي حسن صحيح
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه عَلَى قَوْل الْخَطَّابِيّ فِي مَعْنَى رَفَأَ فَعَلَى الْأَوَّل أَصْله رَفَأَ بِالْهَمْزِ ثُمَّ خُفِّفَ فَقِيلَ رَفَأَ وَعَلَى الثَّانِي أَصْله الْوَاو فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَلّ
قَالَ الْجَوْهَرِيّ رَفَوْت الرَّجُل سَكَّنْته مِنْ الرُّعْب ثُمَّ ذَكَرَ بَيْت أَبِي خِرَاش الْهُذَلِيّ وَالْمُرَافَاة الِاتِّفَاق
قَالَ وَلَمَّا أَنْ رَأَيْت أَبَا رُوَيْم يُرَافِينِي وَيُكْرَه أَنْ يُلَامَا وَالرَّفَا الِالْتِحَام وَالِاتِّفَاق وَيُقَال رَفَّيْته تَرْفِيَة إِذَا قُلْت للمتزوج بالرفاء والبنين قال بن السِّكِّيت
وَإِنْ شِئْت كَانَ مَعْنَاهُ بِالسُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَة مِنْ رَفَوْت الرَّجُل إِذَا سَكَّنْته
تَمَّ كَلَامه
ثم ذكر المنذري حديث عقيل
قال بن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه بَعْده وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنه عَنْ الْحَسَن قَالَ تَزَوَّجَ عُقَيْل بْن أَبِي طَالِب اِمْرَأَة مِنْ بَنِي خَيْثَمٍ فَقِيلَ لَهُ بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ
فَقَالَ قُولُوا كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَارَكَ اللَّه فِيكُمْ وَبَارَكَ لَكُمْ(6/117)
38 - (باب الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيَجِدُهَا حُبْلَى)
[2131] (ثُمَّ اتَّفَقُوا) أَيْ مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ (يُقَالُ لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الرَّجُلِ (بَصْرَةُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بن أَكْثَمَ بَالْمُثَلَّثَةِ وَيُقَالُ بُسْرَةُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبَالسِّينِ وَيُقَالُ نَضْلَةُ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُعْجَمَةٍ صَحَابِيٌّ مِنَ الأنصار
كذا في التقريب (والولد عبدلك) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا من العلماء اختلف في أن ولد الزنى حُرٌّ إِنْ كَانَ مِنْ حُرَّةٍ فَكَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ أَنَّهُ أَوْصَاهُ بِهِ خَيْرًا وَأَمَرَهُ بَاصْطِنَاعِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَاقْتِنَائِهِ لِيَنْتَفِعَ بِخِدْمَتِهِ إِذَا بَلَغَ فَيَكُونُ كَالْعَبْدِ لَهُ فِي الطَّاعَةِ مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَجَزَاءً لِمَعْرُوفِهِ وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ بَالْبِرِّ يُسْتَعْبَدُ الحر انتهى
(قال الحسن) أي بن علي (فاجلدها) أي بصيغة الواحد (وقال بن أَبِي السَّرِيِّ فَاجْلِدُوهَا) أَيْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ (أَوْ قال
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه هَذَا الْحَدِيث قَدْ اُضْطُرِبَ فِي سَنَده وَحُكْمه وَاسْم الصَّحَابِيّ رَاوِيه
فَقِيلَ بَصْرَة بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَالصَّاد الْمُهْمَلَة وَقِيلَ نَضْرَة بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة وَقِيلَ نَضْلَة بِالنُّونِ وَالضَّاد الْمُعْجَمَة وَاللَّام وَقِيلَ بُسْرَة بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَالسِّين الْمُهْمَلَة وَقِيلَ نَضْرَة بْن أَكْثَم الْخُزَاعِيّ وَقِيلَ الْأَنْصَارِيّ وَذَكَرَ بَعْضهمْ أَنَّهُ بَصْرَة بْن أَبِي بَصْرَة الْغِفَارِيُّ وَوَهِمَ قَائِله
وَقِيلَ بَصْرَة هَذَا مَجْهُول وَلَهُ عِلَّة عَجِيبَة وَهِيَ أَنَّهُ حَدِيث يَرْوِيه بن جُرَيْجٍ عَنْ صَفْوَان بْن سُلَيْمٍ عَنْ سَعِيد بن المسيب عن رجل من الأنصار
وبن جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعهُ مِنْ صَفْوَان إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيّ عَنْ صَفْوَان وَإِبْرَاهِيم هَذَا مَتْرُوك الْحَدِيث تَرَكَهُ أَحْمَد بْن(6/118)
فَحُدُّوهَا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (أَرْسَلُوهُ كُلُّهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ رَوَى قتادة ويحيى بن أبي كثير وعطاء الخرساني كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ مُرْسَلًا (وَفِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ بَصْرَةَ بْنَ أَكْثَمَ) قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ بَصْرَةُ بْنُ أَكْثَمَ بَالْمُثَلَّثَةِ كَمَا تَقَدَّمَ
[2132] (فَذَكَرَ مَعْنَاهُ) أَيْ فذكر
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
حنبل ويحيى بن معين وبن الْمُبَارَك وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زُرْعَة الرَّازِيَّانِ وَغَيْرهمْ وَسُئِلَ عَنْهُ مَالِك بْن أَنَس أَكَانَ ثِقَة فَقَالَ لَا وَلَا فِي دِينه
وَلَهُ عِلَّة أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمَعْرُوف أَنَّهُ إِنَّمَا يُرْوَى مُرْسَلًا عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا رَوَاهُ قَتَادَة ويزيد بن نعيم وعطاء الخرساني
كُلّهمْ عَنْ سَعِيد عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ذَكَرَ عَبْد الْحَقّ هَذَيْنِ التَّعْلِيلَيْنِ ثُمَّ قَالَ وَالْإِرْسَال هُوَ الصَّحِيح
وَقَدْ اِشْتَمَلَ عَلَى أَرْبَعَة أَحْكَام أَحَدهَا وُجُوب الصَّدَاق عَلَيْهِ بِمَا اِسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجهَا وَهُوَ ظَاهِر لِأَنَّ الْوَطْء فِيهِ غَايَته أَنْ يَكُون وَطْء شُبْهَة إِنْ لَمْ يَصِحّ النِّكَاح
الثَّانِي بُطْلَان نِكَاح الحامل من الزنى
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نِكَاح الزَّانِيَة
فَمَذْهَب الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل أَنَّهُ لَا يَجُوز تَزَوُّجهَا حَتَّى تَتُوب وَتَنْقَضِي عِدَّتهَا فَمَتَى تَزَوَّجَهَا قَبْل التَّوْبَة أَوْ قَبْل اِنْقِضَاء عِدَّتهَا كَانَ النِّكَاح فَاسِدًا وَيُفَرَّق بَيْنهمَا وَهَلْ عِدَّتهَا ثَلَاث حِيَض أَوْ حَيْضَة عَلَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ
وَمَذْهَب الثَّلَاثَة أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَتَزَوَّجهَا قَبْل تَوْبَتهَا وَالزِّنَا لَا يَمْنَع عِنْدهمْ صِحَّة الْعَقْد كَمَا لَمْ يُوجِب طَرَيَانُهُ فَسْخه
ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي نِكَاحهَا فِي عِدَّتهَا فَمَنَعَهُ مَالِك اِحْتِرَامًا لِمَاءِ الزوج وصيانة لاختلاط النسب الصريح بولد الزنى وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنَّهُ يَجُوز الْعَقْد عَلَيْهَا مِنْ غَيْر اِنْقِضَاء عِدَّة ثُمَّ اِخْتَلَفَا فَقَالَ الشَّافِعِيّ
يَجُوز الْعَقْد عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لِهَذَا الْحَمْل وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَأَبُو حَنِيفَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ لَا يَجُوز الْعَقْد عَلَيْهَا حَتَّى تَضَع الْحَمْل لِئَلَّا يَكُون الزَّوْج قَدْ سَقَى مَاءَهُ زَرْع غَيْره وَنَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُوطَأ الْمَسْبِيَّة الْحَامِل حَتَّى تَضَع مَعَ أَنَّ حَمْلهَا مَمْلُوك لَهُ فَالْحَامِل من الزنى أَوْلَى أَنْ لَا تُوطَأ حَتَّى تَضَع وَلِأَنَّ مَاء الزَّانِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَة فَمَاء الزَّوْج مُحْتَرَم فَكَيْفَ يَسُوغ لَهُ أَنْ يَخْلِطهُ بِمَاءِ الْفُجُور وَلِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَمَّ بِلَعْنِ الَّذِي يُرِيد أَنْ يَطَأ أَمَته الْحَامِل مِنْ غَيْره(6/119)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (زَادَ) أَيْ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي رِوَايَتِهِ
قَالَ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ إِنْ ثَبَتَ لِمَنْ رَأَى الْحَمْلَ مِنَ الْفُجُورِ يَمْنَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ النِّكَاحُ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْوَطْءُ عَلَى مَذْهَبِهِ مَكْرُوهٌ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
قَالَ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا جَعَلَ لَهَا صَدَاقَ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى لِأَنَّ فِي هذا الحديث من رواية بن نعيم عن بن الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا
وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ وَقَعَ صَحِيحًا لَمْ يَجُزِ التَّفْرِيقُ لِأَنَّ حُدُوثَ الزنى بَالْمَنْكُوحَةِ لَا يَفْسَخُ النِّكَاحَ وَلَا يُوجِبُ لِلزَّوْجِ الْخِيَارَ
وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ إِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ مَنْسُوخًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَكَانَتْ مَسْبِيَّة مَعَ اِنْقِطَاع الْوَلَد عَنْ أَبِيهِ وَكَوْنه مَمْلُوكًا لَهُ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى يَصِحّ الْعَقْد عَلَيْهَا وَلَكِنْ لَا تُوطَأ حَتَّى تَضَع
الثَّالِث وُجُوب الْحَدّ بِالْحَبْلِ وَهَذَا مَذْهَب مَالِك وَأَحْمَد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَحُجَّتهمْ قَوْل عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالرَّجْم حَقّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء إِذَا كَانَ مُحْصَنًا إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَة أَوْ كَانَ حَمْل أَوْ اِعْتِرَاف مُتَّفَق عَلَيْهِ وَلِأَنَّ وجود الحمل أمارة ظاهرة على الزنى أَظْهَر مِنْ دَلَالَة الْبَيِّنَة وَمَا يَتَطَرَّق إِلَى دَلَالَة الْحَمْل يَتَطَرَّق مِثْله إِلَى دَلَالَة الْبَيِّنَة وَأَكْثَر
وَحَدِيث بَصْرَة هَذَا فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِجَلْدِهَا بِمُجَرَّدِ الْحَمْل مِنْ غَيْر اِعْتِبَار بَيِّنَة وَلَا إِقْرَار
وَنَظِير هَذَا
حَدُّ الصَّحَابَة فِي الْخَمْر بِالرَّائِحَةِ وَالْقَيْء
الْحُكْم الرَّابِع إِرْفَاق وَلَد الزنى وَهُوَ مَوْضِع الْإِشْكَال فِي الْحَدِيث وَبَعْض الرُّوَاة لَمْ يَذْكُرهُ فِي حَدِيثه كَذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيد وَغَيْره وَإِنَّمَا قَالُوا فَفَرَّقَ بَيْنهمَا وَجَعَلَ لَهَا الصَّدَاق وَجَلَدَهَا مِائَة وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَال فِي الْحَدِيث وَإِنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ اللَّفْظَة فَقَدْ قِيلَ إِنَّ هَذَا لَعَلَّهُ كَانَ فِي أَوَّل الْإِسْلَام حِين كَانَ الرِّقّ يَثْبُت عَلَى الْحُرّ الْمَدِين ثُمَّ نُسِخَ وَقِيلَ إِنَّ هَذَا مَجَاز وَالْمُرَاد بِهِ اِسْتِخْدَامه(6/120)
39 - (بَاب فِي الْقَسْمِ بَيْنَ النِّسَاءِ)
[2133] (مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ) أَيْ مَثَلًا (فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا) أَيْ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا بَلْ مَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى (وَشِقُّهُ) أَيْ أَحَدُ جَنْبَيْهِ وَطَرَفِهِ (مَائِلٌ) أَيْ مَفْلُوجٌ
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمَيْلُ إِلَى إِحْدَاهُنَّ
وَقَدْ قَالَ تعالى فلا تميلوا كل الميل وَالْمُرَادُ الْمَيْلُ فِي الْقَسْمِ وَالْإِنْفَاقِ لَا فِي الْمَحَبَّةِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ
قَالَ المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا من حديث همام يعني بن يَحْيَى
[2134] (الْخَطْمِيُّ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةٌ إِلَى خَطْمَةَ فَخِذٌ مِنَ الْأَوْسِ (يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ) أَيْ فَيُسَوِّي بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْبَيْتُوتَةِ
وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْقَسْمَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ
وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى تُرْجِي من تشاء منهن الْآيَةَ وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ (اللَّهُمَّ هَذَا) أَيْ هَذَا الْعَدْلُ (قَسْمِي) بِفَتْحِ الْقَافِ (فِيمَا أَمْلِكُ) أَيْ فِيمَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ (فَلَا تَلُمْنِي) أَيْ فَلَا تُعَاتِبْنِي أَوْ لَا تُؤَاخِذْنِي (فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ) أَيْ مِنْ زِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ وَمَيْلِ الْقَلْبِ فَإِنَّكَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ (يَعْنِي الْقَلْبَ) هَذَا تَفْسِيرٌ مِنَ الْمُؤَلِّفِ لِقَوْلِهِ مَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ يَعْنِي بِهِ الْحُبَّ وَالْمَوَدَّةَ كَذَلِكَ فَسَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَمَيْلَ الْقَلْبِ أَمْرٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ بَلْ هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ قَوْلِهِ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جميعا ما ألفت بين قلوبهم وَبِهِ فُسِّرَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المرء وقلبه قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا وذكر الترمذي أن المرسل أصح(6/121)
[2135] (ياابن أُخْتِي) أَيْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ (لَا يُفَضِّلُ) مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ (مِنْ مُكْثِهِ عِنْدنَا) هَذَا بَيَانُ الْقَسْمِ وَالْمُكْثُ الْإِقَامَةُ وَالتَّلَبُّثُ فِي الْمَكَانِ (وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ) وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مَا مِنْ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا امْرَأَةً امْرَأَةً فَيَدْنُو وَيَلْمِسُ (مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ) وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ غَيْرِ وقاع وهو المراد ها هنا (سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ) هِيَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ بِمَكَّةَ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ وَدَخَلَ عَلَيْهَا بِهَا وَهَاجَرَتْ مَعَهُ (حِينَ أَسَنَّتْ) أَيْ كَبِرَتْ (وَفَرِقَتْ) بِكَسْرِ الراء من باب سمع أي خافت (يارسول الله يومي لعائشة) أي نوبتي ووقعت بيتوتي لِعَائِشَةَ وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الدُّخُولُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَوْمِهَا مِنْ نِسَائِهِ وَالتَّأْنِيسُ لَهَا وَاللَّمْسُ وَالتَّقْبِيلُ وَفِيهِ بَيَانُ حُسْنِ خُلُقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِأَهْلِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمَرْأَةِ نَوْبَتَهَا لِضَرَّتِهَا ويعتبر رضي الزَّوْجِ وَلِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الزَّوْجَةِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُسْقِطَ حَقَّهُ إِلَّا بِرِضَائِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَوَثَّقَهُ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ
[2136] (يَسْتَأْذِنَّا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَسْتَأْذِنُنَا (فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ) بِإِضَافَةِ يَوْمٍ إِلَى الْمَرْأَةِ أَيْ يَوْمَ نَوْبَتِهَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْأُخْرَى (تُرْجِي) بَالْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ قِرَاءَتَانِ مُتَوَاتِرَتَانِ مِنْ أَرْجَأَ مَهْمُوزًا أَوْ مَنْقُوصًا أَيْ تُؤَخِّرُ وَتَتْرُكُ وَتُبْعِدُ (مَنْ تَشَاءُ) أَيْ مُضَاجَعَةَ مَنْ تَشَاءُ (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ من تشاء) أَيْ تَضُمُّهَا إِلَيْكَ وَتُضَاجِعُهَا
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فِي تَأْوِيلِ تُرْجِي أَقْوَالٌ أَحَدُهَا(6/122)
تطلق وتمسك ثانيها تعتزل من شئت من مِنْهُنَّ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَتَقْسِمُ لِغَيْرِهَا ثَالِثُهَا تَقْبَلُ مَنْ شِئْتَ مِنَ الْوَاهِبَاتِ وَتَرُدُّ مَنْ شِئْتَ انْتَهَى
قَالَ الْبَغَوِيُّ أَشْهَرُ الْأَقَاوِيلِ أَنَّهُ فِي الْقَسْمِ بَيْنَهُنَّ وَذَلِكَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ سَقَطَ عَنْهُ وَصَارَ الِاخْتِيَارُ إِلَيْهِ فِيهِنَّ (إِنْ كَانَ ذَاكَ) أَيِ الِاسْتِئْذَانُ (إِلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (لَمْ أُوثِرْ أَحَدًا عَلَى نَفْسِي) قَالَ النَّوَوِيُّ هَذِهِ الْمُنَافَسَةُ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَتْ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِمْتَاعِ وَلِمُطْلَقِ الْعِشْرَةِ وَشَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَحُظُوظِهَا الَّتِي تَكُونُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ بَلْ هِيَ مُنَافَسَةٌ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ وَالْقُرْبِ مِنْ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ وَفِي خِدْمَتِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ وَفِي قَضَاءٍ لِحُقُوقِهِ وَحَوَائِجِهِ وَتَوَقُّعِ نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَالْوَحْيِ عَلَيْهِ عِنْدَهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[2137] (يَزِيدُ بْنُ بَابِنُوسَ) بِمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ ثُمَّ نُونٌ مَضْمُومَةٌ وَوَاوٌ سَاكِنَةٌ وَسِينٌ مُهْمَلَةٌ
قَالَ الْحَافِظُ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (بَعَثَ إِلَى النِّسَاءِ) أَيْ أَرْسَلَ إِلَيْهِنَّ أَحَدًا (فِي مَرَضِهِ) أَيِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ (فَأَذِنَّ لَهُ) بِتَشْدِيدِ النُّونِ فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَزِيدُ بْنُ بَابِنُوسَ مَجْهُولٌ وَلَمْ أر ذلك في ما شَاهَدْتُهُ مِنْ كِتَابِ أَبِي حَاتِمٍ لَعَلَّهُ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِهِ
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ وَأَنَّهُ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ قَاتَلُوا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
[2138] (إِذَا أَرَادَ سَفَرًا) مَفْهُومُهُ اخْتِصَاصُ الْقُرْعَةِ بِحَالَةِ السَّفَرِ وَلَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بَلْ لِتُعَيِّنَ الْقُرْعَةُ مَنْ يُسَافِرُ بِهَا وَتُجْرَى الْقُرْعَةُ أَيْضًا فِيمَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَ زَوْجَاتِهِ فَلَا يَبْدَأُ بِأَيِّهِنَّ شَاءَ(6/123)
بَلْ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ فَيَبْدَأُ بَالَّتِي تَخْرُجُ لَهَا الْقُرْعَةُ إِلَّا أَنْ يَرْضَيْنَ بِشَيْءٍ فَيَجُوزُ بِلَا قُرْعَةٍ
قَالَهُ الْحَافِظُ (خَرَجَ بِهَا مَعَهُ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ أَخْرَجَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ الَّتِي خَرَجَ سَهْمُهَا مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ
وَاسْتُدِلَّ بَالْحَدِيثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقُرْعَةِ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَدَمَ اعْتِبَارِ الْقُرْعَةِ
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْخَطَرِ وَالْقِمَارِ وَحُكِيَ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ إِجَازَتُهَا انْتَهَى
قَالَ المنذري أخرجه البخاري والنسائي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
(بَاب فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِطُ لَهَا دَارَهَا)
[2139] أَيْ يَشْتَرِطُ فِي الْعَقْدِ الْإِقَامَةَ مَعَهَا فِي بَلَدِهَا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا أَمْ لَا وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ
(أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ) أَيْ أَحَقُّ الشُّرُوطِ بَالْوَفَاءِ شُرُوطُ النِّكَاحِ
وَقَوْلُهُ أَحَقُّ الشُّرُوطِ مُبْتَدَأٌ وَأَنْ تُوفُوا بِهِ بَدَلٌ مِنَ الشُّرُوطِ وَمَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ خَبَرٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ كُلُّ مَا شَرَطَ الزَّوْجُ تَرْغِيبًا لِلْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا
وَمَنْ لَا يَقُولُ بَالْعُمُومِ يُجْمِلُهُ عَلَى الْمَهْرِ أَوْ عَلَى جَمِيعِ مَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الزَّوْجِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَنَحْوِهَا
قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى شُرُوطٍ لَا تُنَافِي مُقْتَضَى النِّكَاحِ بَلْ تَكُونُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ وَمَقَاصِدِهِ كَاشْتِرَاطِ الْعِشْرَةِ بَالْمَعْرُوفِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَكِسْوَتِهَا وَسُكْنَاهَا بَالْمَعْرُوفِ وَأَنَّهُ لَا يُقَصِّرُ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهَا وَيَقْسِمُ لَهَا كَغَيْرِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَقْسِمَ لَهَا وَلَا يَتَسَرَّى عَلَيْهَا وَلَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَلَا يُسَافِرَ بِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ بَلْ يَلْغُو الشَّرْطُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَالَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بَالشَّرْطِ مُطْلَقًا لِحَدِيثِ أَحَقُّ الشُّرُوطِ انْتَهَى
وَفِي الْمَعَالِمِ لِلْخَطَّابِيِّ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ(6/124)
حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ يَرَيَانِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ دَارِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِهَا مِنَ الْبَلَدِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَنَّ عَلَيْهِ الْوَفَاءَ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ
وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَنْقُلَهَا عَنْ دَارِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
1 - (بَاب فِي حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ)
[2140] (أَتَيْتُ الْحِيرَةَ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَلْدَةٌ قَدِيمَةٌ بِظَهْرِ الْكُوفَةِ (فَرَأَيْتُهُمْ) أَيْ أَهْلَهَا (يَسْجُدُونَ لِمَرْزُبَانَ لَهُمْ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الزَّاي الْفَارِسُ الشُّجَاعُ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْقَوْمِ دُونَ الْمَلِكِ وَهُوَ مُعْرَبٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ
وَقِيلَ أَهْلُ اللُّغَةِ يَضُمُّونَ مِيمَهُ ثُمَّ إِنَّهُ مُنْصَرِفٌ وَقَدْ لَا يَنْصَرِفُ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ) لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَكْرَمُ الْمَوْجُودَاتِ (أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (لَوْ مَرَرْتَ بِقَبْرِي أَكُنْتَ تَسْجُدُ لَهُ) أَيْ لِلْقَبْرِ أَوْ لِمَنْ فِي الْقَبْرِ (قُلْتُ لَا قَالَ فَلَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُد لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَة أَنْ تَسْجُد لِزَوْجِهَا
قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب صَحِيح قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ مُعَاذ بْن جَبَل وَسُرَاقَة بن مالك وعائشة وبن عَبَّاس وَعَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى وَطَلْق بن علي وأم سلمة وأنس وبن عمر
فهذه أحد عشر حديثا
فحديث بن أَبِي أَوْفَى رَوَاهُ أَحْمَد فِي مُسْنَده قَالَ لَمَّا قَدِمَ مُعَاذ مِنْ الشَّام سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا هَذَا يَا مُعَاذ قَالَ أَتَيْت الشَّام فَوَافَيْتهمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتهمْ فَوَدِدْت فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَل ذَلِكَ بِك فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَفْعَلُوا فَلَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُد لِغَيْرِ اللَّه لَأَمَرْت الْمَرْأَة أَنْ تَسْجُد لِزَوْجِهَا وَاَلَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَة حَقَّ رَبّهَا حَتَّى تُؤَدِّي حَقَّ زَوْجهَا وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسهَا وَهِيَ عَلَى قَتَب لَمْ تَمْنَعهُ وَرَوَاهُ بن ماجه
وروى(6/125)
تَفْعَلُوا) قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيِ اسْجُدُوا لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَلِمَنْ مُلْكُهُ لَا يَزُولُ فَإِنَّكَ إِنَّمَا تَسْجُدُ لِيَ الْآنَ مَهَابَةً وَإِجْلَالًا فَإِذَا صِرْتُ رَهِينَ رَمْسٍ امْتَنَعْتَ عَنْهُ (لَوْ كُنْتُ آمُرُ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ آمِرًا بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ لَوْ صَحَّ لِي أَنْ آمُرَ أَوْ لَوْ فُرِضَ أَنِّي كُنْتُ آمُرُ (لَأَمَرْتُ النِّسَاءَ أَنْ يَسْجُدْنَ لِأَزْوَاجِهِنَّ لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحَقِّ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ حَقٍّ فَالتَّنْوِينُ لِلتَّكْثِيرِ وَالتَّعْرِيفِ لِلْجِنْسِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ
[2141] (إِذَا دَعَا الرجل امرأته إلى فراشه) قال بن أَبِي حَمْزَةَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْفِرَاشَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ (فَلَمْ تَأْتِهِ) مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ (فَبَاتَ) أَيْ زَوْجُهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَأْمُورَةً إِلَى طَاعَةِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُعْصِيَةٍ
قِيلَ وَالْحَيْضُ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي الِامْتِنَاعِ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَبِمَا عَدَا الْفَرْجِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ (حَتَّى تصبح) أي المرأة أو الملائكة
قال القارىء وَالْأَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَ النَّهَارِ كَذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
النسائي من حديث حفص بن أَخِي عَنْ أَنَس رَفَعَهُ لَا يَصْلُح لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُد لِبَشَرٍ وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُد لِبَشَرٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَة أَنْ تَسْجُد لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَم حَقّه عَلَيْهَا وَرَوَاهُ أَحْمَد
وَفِيهِ زِيَادَة وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَوْ كَانَ مِنْ قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنجبس بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيد
ثُمَّ اِسْتَقْبَلَتْهُ تَلْحَسهُ مَا أَدَّتْ حَقّه
وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيث أَبِي عُتْبَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ سَأَلْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيّ النَّاس أَعْظَم حَقًّا عَلَى الْمَرْأَة قَالَ
زَوْجهَا قُلْت فَأَيّ النَّاس أَعْظَم حَقًّا عَلَى الرَّجُل قَالَ أُمّه
وَرَوَى النسائي وبن حِبَّان مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَنْظُر اللَّه إِلَى اِمْرَأَة لَا تَشْكُر لِزَوْجِهَا وَهِيَ لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ وَقَدْ رَوَى الترمذي وبن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث أُمّ سَلَمَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَيّمَا اِمْرَأَة مَاتَتْ وَزَوْجهَا رَاضٍ عَنْهَا دَخَلَتْ الْجَنَّة قَالَ التِّرْمِذِيّ حَسَن غَرِيب
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا الرَّجُل اِمْرَأَته لِفِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيء فَبَاتَ غَضْبَانًا عَلَيْهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَة حَتَّى تُصْبِح(6/126)
انْتَهَى
وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الذي في السماء سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا وَلَابْنِ حِبَّانَ وبن خُزَيْمَةَ ثَلَاثَةٌ لَا تُقْبَلُ لَهُمْ صَلَاةٌ وَلَا يَصْعَدُ لَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ حَسَنَةً الْعَبْدُ الْآبِقُ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَالْمَرْأَةُ السَّاخِطُ عَلَيْهَا زَوْجُهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا فَهَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ تَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
2 - (بَابٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا)
[2142] (وَتَكْسُوهَا) بَالنَّصْبِ (إِذَا اكْتَسَيْتَ) قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ اهْتِمَامًا بِثَبَاتِ مَا قَصَدَ مِنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ يَعْنِي كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ أَنْ يُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمَ فَالْمُرَادُ بَالْخِطَابِ عَامٌّ لِكُلِّ زَوْجٍ أَيْ يَجِبُ عَلَيْكَ إِطْعَامُ الزَّوْجَةِ وَكِسْوَتُهَا عِنْدَ قُدْرَتِكَ عَلَيْهِمَا لِنَفْسِكَ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ) فَإِنَّهُ أَعْظَمُ الْأَعْضَاءِ وَأَظْهَرُهَا وَمُشْتَمِلٌ عَلَى أَجْزَاءٍ شَرِيفَةٍ وَأَعْضَاءٍ لَطِيفَةٍ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ الْوَجْهِ عِنْدَ التَّأْدِيبِ (وَلَا تُقَبِّحْ) بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ أَيْ لَا تَقُلْ لَهَا قَوْلًا قَبِيحًا وَلَا تَشْتُمْهَا وَلَا قَبَّحَكِ اللَّهُ وَنَحْوَهُ (وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ) أَيْ لَا تَتَحَوَّلْ عَنْهَا أَوْ لَا تُحَوِّلْهَا إِلَى دَارٍ أُخْرَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى واهجروهن في المضاجع قال المنذري وأخرجه النسائي وبن ماجه
[2143] (يارسول اللَّهِ نِسَاؤُنَا) أَيْ أَزْوَاجُنَا (مَا نَأْتِي مِنْهُنَّ) أي ما نستمع مِنْ أَزْوَاجِنَا (وَمَا نَذَرُ) أَيْ(6/127)
وَمَا نَتْرُكُ (ائْتِ حَرْثَكَ) أَيْ مَحَلَّ الْحَرْثِ مِنْ حَلِيلَتِكَ وَهُوَ قُبُلُهَا إِذْ هُوَ لَكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ تُزْرَعُ
وَذِكْرُ الْحَرْثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِتْيَانَ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى حَرَامٌ (أَنَّى شِئْتَ) أَيْ كَيْفَ شِئْتَ مِنْ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَاضْطِجَاعٍ وَإِقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ بِأَنْ يَأْتِيهَا فِي قُبُلِهَا مِنْ جِهَةِ دُبْرِهَا
وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي قُبُلِهَا مِنْ جِهَةِ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلُ (وَأَطْعِمْهَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (إِذَا طَعِمْتَ) بِتَاءِ الْخِطَابِ لَا التَّأْنِيثَ (وَاكْسُهَا) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ السِّينِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا (إِذَا اكْتَسَيْتَ) قَالَ الْعَلْقَمِيُّ وَهَذَا أَمْرُ إِرْشَادٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ كَمَالِ الْمُرُوءَةِ أن يطعهما كُلَّمَا أَكَلَ وَيَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَى
وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ أَكْلَهُ يُقَدَّمُ عَلَى أَكْلِهَا وَأَنَّهُ يَبْدَأُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَهَا وَحَقُّهُ فِي الْأَكْلِ وَالْكِسْوَةِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا لِحَدِيثِ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ (وَلَا تُقَبِّحِ الْوَجْهَ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ لَا تَقُلْ إِنَّهُ قَبِيحٌ أَوْ لَا تَقُلْ قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَكِ أَيْ ذَاتَكِ فَلَا تَنْسُبْهُ وَلَا شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا إِلَى الْقُبْحِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحُسْنِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَوَّرَ وَجْهَهَا وَجِسْمَهَا وَأَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَذَمُّ الصَّنْعَةِ يَعُودُ إِلَى مَذَمَّةِ الصَّانِعِ
كَذَا قَالَ الْعَزِيزِيُّ فِي السِّرَاجِ الْمُنِيرِ (وَلَا تَضْرِبْ) أَيْ ضَرْبًا مُبَرِّحًا مُطْلَقًا وَلَا غَيْرَ مُبَرِّحٍ بِغَيْرِ إِذْنٍ شَرْعِيٍّ كَنُشُوزٍ
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ الضَّرْبِ مُطْلَقًا وَإِنْ حَصَلَ نُشُوزٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا الْأَوْلَى تَرْكُ الضَّرْبِ مَعَ النُّشُوزِ كَذَا قَالَ الْعَزِيزُ قُلْتُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ ضَرْبُ غَيْرِ الْوَجْهِ إِذَا ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَقْتَضِي ضَرْبَهَا كَالنُّشُوزِ أَوِ الْفَاحِشَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[2144] (عَنْ سَعِيدِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ) هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي تُحْفَةِ الْأَشْرَافِ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ وَفِي بَعْضِهَا عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ(6/128)
43 - (بَاب فِي ضَرْبِ النِّسَاءِ)
[2145] (فَإِنْ خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ) أَصْلُ النُّشُوزِ الِارْتِفَاعُ وَنُشُوزُ الْمَرْأَةِ هُوَ بُغْضُهَا لِزَوْجِهَا وَرَفْعُ نَفْسِهَا عَنْ طَاعَتِهِ وَالتَّكَبُّرُ عَلَيْهِ (فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) أَيِ اعْتَزِلُوا إِلَى فِرَاشٍ آخَرَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِي الْمُرَادِ بَالْهِجْرَانِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ تَرْكُ الدُّخُولِ عَلَيْهِنَّ وَالْإِقَامَةِ عِنْدَهُنَّ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ وَهُوَ مِنَ الْهِجْرَانِ وَهُوَ الْبُعْدُ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا يُضَاجِعُهَا
وَقِيلَ الْمَعْنَى يُضَاجِعُهَا وَيُوَلِّيهَا ظَهْرَهُ وَقِيلَ يَمْتَنِعُ عَنْ جِمَاعِهَا وَقِيلَ يُجَامِعُهَا وَلَا يُكَلِّمُهَا وَقِيلَ اهْجُرُوهُنَّ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُجْرِ بِضَمِّ الْهَاءِ وَهُوَ الْكَلَامُ الْقَبِيحُ أَيْ أَغْلِظُوا لَهُنَّ فِي الْقَوْلِ كَذَا قَالَ الحافظ في الفتح (قال حماد) هو بن سَلَمَةَ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ (يَعْنِي النِّكَاحَ) أَيِ الْوَطْءَ فَالْمُرَادُ بَالْهِجْرَانِ فِي الْمَضَاجِعِ عِنْدَ حَمَّادٍ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْجِمَاعِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَبُو حُرَّةَ الرَّقَاشِيُّ اسْمُهُ حَنِيفَةُ وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ عَمُّهُ حَنِيفَةُ وَيُقَالُ حَكِيمُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَقِيلَ عَامِرُ بْنُ عَبْدَةَ الرَّقَاشِيُّ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ عَمُّ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيُّ بَلَغَنِي أَنَّ اسْمَهُ حِذْيَمُ بْنُ حنيفة وعلي بن زيد هذا هو بن جُدْعَانَ الْمَكِّيُّ نَزَلَ الْبَصْرَةَ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ
[2146] (إياس بن عبد الله بن أبي ذباب) بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ لَهُ حَدِيثٌ وَعَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَطْ ذَكَرَهُ بن حِبَّانَ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِينَ (لَا تَضْرِبُوا إِمَاءَ الله) جمع أمة أي زوجاتكم فإنهن جوار اللَّهِ كَمَا أَنَّ الرِّجَالَ عَبِيدٌ لَهُ تَعَالَى (فَقَالَ ذَئِرْنَ النِّسَاءُ) مِنْ بَابِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ ومن وادي قوله تعالى وأسروا النجوى أي اجترأن(6/129)
وَنَشَزْنَ وَغَلَبْنَ (فَأَطَافَ) هَذَا بَالْهَمْزِ يُقَالُ أَطَافَ بَالشَّيْءِ أَلَمَّ بِهِ وَقَارَنَهُ أَيِ اجْتَمَعَ وَنَزَلَ (بَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ بِأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْآلَ يَشْمَلُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (يَشْكُونَ أَزْوَاجَهُنَّ) أَيْ مِنْ ضَرْبِهِمْ إِيَّاهُنَّ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ طَافَ) هَذَا بِلَا هَمْزٍ
قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ لَقَدْ طَافَ صَحَّ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَالْأَوَّلُ بِهَمْزٍ وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ كِلَاهُمَا بَالْهَمْزِ فَهُوَ مِنْ طَافَ حَوْلَ الشَّيْءِ أَيْ دَارَ (ليس أولئك) أي الرجال الذي يَضْرِبُونَ نِسَاءَهُمْ ضَرْبًا مُبَرِّحًا أَيْ مُطْلَقًا (بِخِيَارِكُمْ) بَلْ خِيَارُكُمْ مَنْ لَا يَضْرِبُهُنَّ وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُنَّ أَوْ يُؤَدِّبُهُنَّ وَلَا يَضْرِبُهُنَّ ضَرْبًا شَدِيدًا يُؤَدِّي إِلَى شِكَايَتِهِنَّ
فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ ضَرْبَ النِّسَاءِ فِي مَنْعِ حُقُوقِ النِّكَاحِ مُبَاحٌ إِلَّا أَنَّهُ يَضْرِبُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَوَجْهُ تَرَتُّبِ السُّنَّةِ عَلَى الْكِتَابِ فِي الضَّرْبِ يَحْتَمِلُ أَنَّ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ضَرْبِهِنَّ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ لَمَّا ذَئِرْنَ النِّسَاءُ أَذِنَ فِي ضَرْبِهِنَّ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مُوَافِقًا لَهُ ثُمَّ لَمَّا بَالَغُوا فِي الضَّرْبِ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الضَّرْبَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا عَلَى شَكَاسَةِ أَخْلَاقِهِنَّ فَالتَّحَمُّلُ وَالصَّبْرُ عَلَى سُوءِ أَخْلَاقِهِنَّ وَتَرْكُ الضَّرْبِ أَفْضَلُ وَأَجْمَلُ
وَيُحْكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ هَذَا الْمَعْنَى كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ لَا أَعْلَمُ رَوَى إِيَاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ فِي تَارِيخِهِ وَقَالَ لَا يُعْرَفُ لِإِيَاسٍ بِهِ صُحْبَةٌ
وَقَالَ بن أَبِي حَاتِمٍ إِيَاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ الدَّوْسِيُّ مَدَنِيٌّ لَهُ صُحْبَةٌ سَمِعْتُ أَبِي وَأَبَا زُرْعَةَ يَقُولَانِ ذَلِكَ
[2147] (عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُسْلِيُّ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةً إِلَى مُسْلِيَةَ مِنْ كِنَانَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ وَعَنْهُ دَاوُدُ الْأَوْدِيُّ (لَا يُسْأَلُ) نَفْيُ مَجْهُولٍ (فِيمَا ضَرَبَ امْرَأَتَهُ) أَيْ إِذَا رَاعَى شُرُوطَ الضَّرْبِ وَحُدُودَهُ
قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ لَا يُسْأَلُ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ التَّحَرُّجِ وَالتَّأَثُّمِ
قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن ماجه(6/130)
44 - (باب فيما يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ)
[2148] (عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ) بَالضَّمِّ وَالْمَدِّ وَبَالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْجِيمِ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ كَذَا فِي النِّهَايَةِ أَيِ الْبَغْتَةِ
قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ فَجَأَهُ الْأَمْرُ فُجَاءَةً بَالضَّمِّ وَالْمَدِّ وَفَاجَأَهُ إِذَا جَاءَ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ بِصِيغَةِ الْمَرَّةِ (فَقَالَ اصْرِفْ بَصَرَكَ) أَيْ لَا تَنْظُرْ مَرَّةً ثَانِيَةً لِأَنَّ الْأُولَى إِذَا لَمْ تَكُنْ بَالِاخْتِيَارِ فَهُوَ معفو عنها فإن أدام النظر أتم وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبصارهم قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا وَإِنَّمَا ذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَهَا وَيَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إِلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ وَيُرْوَى أَطْرِقْ بَصَرَكَ قَالَ وَالْإِطْرَاقُ أَنْ يُقْبِلَ بِبَصَرِهِ إِلَى وَجْهِهِ وَالصَّرْفُ أَنْ يَفْتِلَهُ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ وَالنَّاحِيَةِ الْأُخْرَى انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[2149] (لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النظرة) من اتباع أَيْ لَا تُعْقِبْهَا إِيَّاهَا وَلَا تَجْعَلْ أُخْرَى بَعْدَ الْأُولَى (فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى) أَيِ النَّظْرَةَ الْأُولَى إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ (وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ) أَيِ النَّظْرَةُ الْآخِرَةُ لِأَنَّهَا بَاخْتِيَارِكَ فَتَكُونُ عَلَيْكَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ شريك(6/131)
[2150] (لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ) زَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَتِهِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ وَالْمُبَاشَرَةُ بِمَعْنَى الْمُخَالَطَةُ وَالْمُلَامَسَةُ وَأَصْلُهُ مِنْ لَمْسِ الْبَشَرَةِ الْبَشَرَةَ وَالْبَشَرَةُ ظَاهِرُ جِلْدِ الْإِنْسَانِ (لِتَنْعَتَهَا) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فتنعتها أي فتصف نعومة بدنها ولينة جَسَدِهَا (كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا) فَيَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِهَا وَيَقَعُ بِذَلِكَ فِتْنَةٌ
وَالْمَنْهِيُّ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ
قَالَ الطِّيبِيُّ الْمَعْنِيُّ بِهِ فِي الْحَدِيثِ النَّظَرُ مَعَ اللَّمْسِ فَتَنْظُرُ إِلَى ظَاهِرِهَا مِنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَتَجُسُّ بَاطِنَهَا بَاللَّمْسِ وَتَقِفُ عَلَى نُعُومَتِهَا وَسُمْنَتِهَا فَتَنْعَتُهَا عَطْفٌ عَلَى تُبَاشِرُ فَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَيْهِمَا فَيَجُوزُ الْمُبَاشَرَةُ بِغَيْرِ التَّوْصِيفِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[2151] (فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَتْ أَوَّلَ نِسَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْتًا وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ وُضِعَ عَلَى النَّعْشِ فِي الْإِسْلَامِ (إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ) مِنَ الْإِقْبَالِ (فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ) شَبَّهَهَا بَالشَّيْطَانِ فِي صِفَةِ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِضْلَالِ فَإِنَّ رُؤْيَتَهَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ دَاعِيَةٌ لِلْفَسَادِ (فَإِنَّهُ يُضْمِرُ مَا فِي نَفْسِهِ) أَيْ يُضْعِفُهُ وَيُقَلِّلُهُ مِنَ الضُّمُورِ وَهُوَ الْهُزَالُ وَالضَّعْفُ كَذَا فِي الْمَجْمَعِ
قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْهَوَى وَالدُّعَاءُ إِلَى الْفِتْنَةِ بِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي نُفُوسِ الرِّجَالِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى النِّسَاءِ وَالتَّلَذُّذِ بَالنَّظَرِ إِلَيْهِنَّ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِنَّ فَهِيَ شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بِوَسْوَسَتِهِ وَتَزْيِينِهِ لَهُ
وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا تَلْبَسَ ثِيَابًا فَاخِرَةً وَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يَنْظُرَ إِلَيْهَا وَلَا إِلَى ثِيَابِهَا
وَفِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بَالرَّجُلِ أَنْ يَطْلُبَ امْرَأَتَهُ إِلَى الْوِقَاعِ فِي النَّهَارِ وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَغِلَةٌ بِمَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَتْ عَلَى الرجل شهوته(6/132)
فَيَتَضَرَّرُ بَالتَّأْخِيرِ فِي بَدَنِهِ أَوْ قَلْبِهِ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ
[2152] (مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بَاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا عَفَا اللَّهُ مِنْ صِغَارِ الذُّنُوبِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلا اللمم وَهُوَ مَا يُلِمُّ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ صِغَارِ الذُّنُوبِ الَّتِي لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَحَفِظَهُ (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ) أَيْ أَثْبَتَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ (حَظَّهُ) أَيْ نصيبه (من الزنى) بالقصر على الأفصح
قال القارىء والمراد من الحظ مقدمات الزنى مِنَ التَّمَنِّي وَالتَّخَطِّي وَالتَّكَلُّمِ لِأَجْلِهِ وَالنَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَالتَّخَلِّي
وَقِيلَ أَثْبَتَ فِيهِ سَبَبَهُ وَهُوَ الشَّهْوَةُ وَالْمَيْلُ إِلَى النِّسَاءِ وَخَلَقَ فِيهِ الْعَيْنَيْنِ وَالْقَلْبَ والفرج وهي التي تجد لذة الزنى أَوِ الْمَعْنَى قَدَّرَ فِي الْأَزَلِ أَنْ يَجْرِيَ عليه الزنى في الجملة (أدرك) أي أصاب بن آدَمَ وَوَجَدَ (ذَلِكَ) أَيْ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ أَوْ حَظَّهُ (لَا مَحَالَةَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ أَيْ لَا بُدَّ لَهُ وَلَا فِرَاقَ وَلَا احْتِيَالَ مِنْهُ فَهُوَ وَقَعَ الْبَتَّةَ (فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ) أَيْ حَظُّهَا عَلَى قَصْدِ الشَّهْوَةِ فِيمَا لَا يَحِلُّ لَهُ (وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ) أَيِ التَّكَلُّمُ عَلَى وَجْهِ الْحُرْمَةِ كَالْمُوَاعَدَةِ (وَالنَّفْسُ) أَيِ الْقَلْبُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلَعَلَّ النَّفْسَ إِذَا طَلَبَتْ تَبِعَهَا الْقَلْبُ (تَمَنَّى) بِحَذْفِ أَحَدِ التَّاءَيْنِ (وَتَشْتَهِي) لَعَلَّهُ عَدَلَ عَنْ سَنَنِ السَّابِقِ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ أَيْ زِنَا النفس تمنيها واشتهاؤها وقوع الزنى الْحَقِيقِيِّ (وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ سمى هذه الأشياء باسم الزنى لِأَنَّهَا مُقَدِّمَاتٌ لَهُ مُؤْذِنَةٌ بِوُقُوعِهِ
وَنَسَبَ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ إِلَى الْفَرْجِ لِأَنَّهُ مَنْشَؤُهُ وَمَكَانُهُ أَيْ يُصَدِّقُهُ بَالْإِتْيَانِ بِمَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَيُكَذِّبُهُ بَالْكَفِّ عَنْهُ
وَقِيلَ مَعْنَاهُ إِنْ فَعَلَ بَالْفَرْجِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ الفرج مصدقا لتلك الأعضاء أن ترك ما هو المقصود من لك فَقَدْ صَارَ الْفَرْجُ مُكَذِّبًا
وَقِيلَ مَعْنَى كَتَبَ أَنَّهُ أَثْبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِأَنْ خَلَقَ لَهُ الْحَوَاسَّ الَّتِي يَجِدُ بِهَا لَذَّةَ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَأَعْطَاهُ الْقُوَى الَّتِي بِهَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فَبَالْعَيْنَيْنِ وَبِمَا رُكِّبَ فِيهِمَا مِنَ الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ تَجِدُ لَذَّةَ النَّظَرِ وَعَلَى هَذَا وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ وَأَجْبَرَهُ عَلَيْهِ بَلْ رَكَّزَ فِي جِبِلَّتِهِ حُبَّ الشَّهَوَاتِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ يَعْصِمُ مَنْ يَشَاءُ
وَقِيلَ هَذَا لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ فَإِنَّ الْخَوَاصَّ مَعْصُومُونَ عن الزنى وَمُقَدِّمَاتِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ بِأَنْ يُقَالَ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى(6/133)
عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ صُدُورَ نفس الزنى فَمَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ عَنْهُ بِفَضْلِهِ صَدَرَ عَنْهُ من مقدمات الظَّاهِرَةِ وَمَنْ عَصَمَهُ بِمَزِيدِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ عَنْ صُدُورِ مُقَدِّمَاتِهِ وَهُمْ خَوَاصُّ عِبَادِهِ صَدَرَ عَنْهُ لَا مَحَالَةَ بِمُقْتَضَى الْجِبِلَّةِ مُقَدِّمَاتُهُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ تَمَنِّي النَّفْسِ وَاشْتِهَاؤُهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[2153] (فَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ) أَيِ الْأَخْذُ وَاللَّمْسُ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْكِتَابَةُ وَرَمْيُ الْحَصَى عَلَيْهَا وَنَحْوُهُمَا (فزناهما المشي) أي إلى موضع الزنى (فَزِنَاهُ الْقُبَلُ) جَمْعُ الْقُبْلَةُ
[2154] (وَالْأُذُنُ زِنَاهَا الِاسْتِمَاعُ) إِلَى كَلَامِ الزَّانِيَةِ أَوِ الْوَاسِطَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
5 - (بَاب فِي وَطْءِ السَّبَايَا)
[2155] جَمْعُ السَّبِيَّةِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْمَنْهُوبَةُ
(بَعَثَ يَوْمَ حُنَيْنٍ) بَالتَّصْغِيرِ وَادٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَرَاءَ عَرَفَاتٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ مِيلًا وَهُوَ مَصْرُوفٌ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ (بَعْثًا) أَيْ جَيْشًا (إِلَى أَوْطَاسٍ) بَالصَّرْفِ وَقَدْ لَا يَنْصَرِفُ مَوْضِعٌ أَوْ بُقْعَةٌ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ (فَظَهَرُوا) أَيْ غَلَبُوا (تَحَرَّجُوا) أَيْ خَافُوا الحرج وهو(6/134)
الأثم (مِنْ غِشْيَانِهِنَّ أَيْ مِنْ وَطْئِهِنَّ (مِنْ أَجْلِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُنَّ مُزَوَّجَاتٌ وَالْمُزَوَّجَةُ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِبَاحَتَهُنَّ بِقَوْلِهِ (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلا ما ملكت أيمانكم) المراد بالمحصنات ها هنا الْمُزَوَّجَاتُ وَمَعْنَاهُ وَالْمُزَوَّجَاتُ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ إِلَّا مَا مَلَكْتُمْ بَالسَّبْيِ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ زَوْجِهَا الْكَافِرِ وَتَحِلُّ لَكُمْ إِذَا انْقَضَى اسْتِبْرَاؤُهَا (إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهُنَّ) أَيِ اسْتِبْرَاؤُهُنَّ وَهِيَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ عَنِ الْحَامِلِ وَبِحَيْضَةٍ عَنِ الْحَائِلِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ فِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِذَا سُبِيَا مَعًا فَقَدْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ السَّبْيَ وَأَمَرَ أَنْ لَا تُوطَأَ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ ذَاتِ زَوْجٍ وَغَيْرِهَا وَلَا عَمَّنْ كَانَتْ سُبِيَتْ مِنْهُنَّ مَعَ الزَّوْجِ أَوْ وَحْدَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه فِي قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْف يُوَرِّثهُ وَهُوَ لَا يَحِلّ لَهُ قَوْلَانِ أَحَدهمَا أَنَّ ذَلِكَ الْحَمْل قَدْ يَكُون مِنْ زَوْجهَا الْمُشْرِك فَلَا يَحِلّ لَهُ اِسْتِلْحَاقه وَتَوْرِيثه
وَقَدْ يَكُون إِذَا وَطِئَهَا تَنْفُش مَا كَانَ فِي الظَّاهِر حَمْلًا وَتَعَلَّقَ مِنْهُ فَيَظُنّهُ عَبْده وَهُوَ وَلَده فَيَسْتَخْدِمهُ اِسْتِخْدَام الْعَبْد وَيَنْفِيه عَنْهُ
وهذان الوجهان ذكر معناهما المنذري
قال بن الْقَيِّم وَهَذَا الْقَوْل ضَعِيف فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْن إِنْكَار الْأَمْرَيْنِ
اِسْتِخْدَامه وَاسْتِلْحَاقه وَقَدْ جَاءَ كَيْف يَسْتَعْبِدهُ وَيُوَرِّثهُ وَمَعْلُوم أَنَّ اِسْتِلْحَاقه وَاسْتِعْبَاده جَمْع بَيْن الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَكَذَا إِذَا تَفَشَّى الَّذِي هُوَ حَمْل فِي الظَّاهِر وَعَلِقَتْ مِنْهُ لَا يُتَصَوَّر فِيهِ الِاسْتِلْحَاق والاستعباد(6/135)
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِذَا سُبِيَا جَمِيعًا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ مَا كَانَ فِي الْمَقَاسِمِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا فَإِنِ اشْتَرَاهَا رَجُلٌ فَشَاءَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا جَمَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بحيضة
وقد تأول بن عَبَّاسٍ الْآيَةَ فِي الْأَمَةِ يَشْتَرِيهَا وَلَهَا زَوْجٌ فَقَالَ بَيْعُهَا طَلَاقُهَا وَلِلْمُشْتَرِي اتِّخَاذُهَا لِنَفْسِهِ وَهُوَ خِلَافُ أَقَاوِيلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَحَدِيثُ بَرِيرَةَ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ
انْتَهَى مُلَخَّصًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[2156] (فَرَأَى امْرَأَةً مُجِحًّا) بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَجِيمٍ مَكْسُورَةٍ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مُشَدَّدَةٍ أَيْ حَامِلٌ تَقْرُبُ وِلَادَتُهَا (أَلَمَّ بِهَا) أَيْ جَامَعَهَا وَالْإِلْمَامُ مِنْ كِنَايَاتِ الْوَطْءِ (لَقَدْ هَمَمْتُ) أَيْ عَزَمْتُ وَقَصَدْتُ (أَنْ أَلْعَنَهُ) أَيْ أَدْعُوَ عَلَيْهِ بَالْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَةِ (لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ) أَيْ يَسْتَمِرُّ إِلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا هَمَّ بِلَعْنِهِ لِأَنَّهُ إِذَا أَلَمَّ بِأَمَتِهِ الَّتِي يَمْلِكُهَا وَهِيَ حَامِلٌ كَانَ تَارِكًا لِلِاسْتِبْرَاءِ وَقَدْ فُرِضَ عَلَيْهِ (كَيْفَ يُوَرِّثُهُ) أَيِ الْوَلَدُ (وَهُوَ) أَيْ تَوْرِيثُهُ (وَكَيْفَ يَسْتَخْدِمُهُ) أَيِ الْوَلَدُ (وَهُوَ) أَيِ اسْتِخْدَامُهُ
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ كَيْفَ يُوَرِّثُهُ إِلَخْ أَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ وِلَادَتُهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ كَوْنُ الْوَلَدِ مِنْ هَذَا السَّابِي وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ قَبْلَهُ فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنَ السَّابِي يَكُونُ وَلَدًا لَهُ وَيَتَوَارَثَانِ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنْ غَيْرِ السَّابِي لَا يَتَوَارَثَانِ هُوَ وَالسَّابِي لِعَدَمِ الْقَرَابَةِ بَلْ لَهُ اسْتِخْدَامُهُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ فَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَدْ يَسْتَلْحِقُهُ وَيَجْعَلُهُ ابْنًا لَهُ وَيُوَرِّثُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَوْرِيثُهُ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يَحِلُّ تَوَارُثُهُ وَمُزَاحَمَتُهُ لِبَاقِي الْوَرَثَةِ وَقَدْ يَسْتَخْدِمُهُ اسْتِخْدَامَ الْعَبِيدِ وَيَجْعَلُهُ عَبْدًا يَتَمَلَّكُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مِنْهُ إِذَا وَضَعَتْهُ لِمُدَّةٍ مُحْتَمِلَةٍ كَوْنَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فَالصَّوَاب الْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا وَطِئَهَا حَامِلًا صَارَ فِي الْحَمْل جُزْء مِنْهُ
فَإِنَّ الْوَطْء يَزِيد فِي تَخْلِيقه وَهُوَ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ عَبْد لَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَنْ يَسْتَعْبِدهُ وَيَجْعَلهُ كَالْمَالِ الْمَوْرُوث عَنْهُ فَيُوَرِّثهُ أَيْ يَجْعَلهُ مَالًا مَوْرُوثًا عَنْهُ
وَقَدْ صَارَ فِيهِ جُزْء مِنْ الْأَب
قَالَ الْإِمَام أَحْمَد الْوَطْء يَزِيد فِي سَمْعه وَبَصَره
وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْله لَا يَحِلّ لِرَجُلٍ أَنْ يَسْقِي مَاءَهُ زَرْع غَيْره وَمَعْلُوم أَنَّ الْمَاء الَّذِي يُسْقَى بِهِ الزَّرْع يَزِيد فِيهِ وَيَتَكَوَّن الزَّرْع مِنْهُ وَقَدْ شَبَّهَ وَطْء الْحَامِل بِسَاقِي الزَّرْع الْمَاء وَقَدْ جَعَلَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَحِلّ الْوَطْء حَرْثًا وَشَبَّهَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْل بِالزَّرْعِ وَوَطْء الْحَامِل بِسَقْيِ الزَّرْع
وَهَذَا دَلِيل ظَاهِر جِدًّا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوز نِكَاح الزَّانِيَة حَتَّى تَعْلَم بَرَاءَة رَحِمهَا إِمَّا بِثَلَاثِ حِيَض أَوْ بِحَيْضَةٍ وَالْحَيْضَة أَقْوَى لِأَنَّ الماء الذي من الزنى وَالْحَمْل وَإِنْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَة فَلِمَاءِ الزَّوْج حرمة وهو(6/136)
مِنْهُمَا
فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ وَطْئِهَا خَوْفًا مِنْ هَذَا الْمَحْظُورِ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ
[2157] (لَا تُوطَأُ) بِهَمْزٍ فِي آخِرِهِ أَيْ لَا تُجَامَعُ (وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ) أَيْ وَلَا تُوطَأُ حَائِلٌ (حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً) بَالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ وَقَوْلُهُ لَا تُوطَأُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ لَا تُجَامِعُوا مَسْبِيَّةً حَامِلًا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَلَا حَائِلًا ذَاتَ إِقْرَاءٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً كَامِلَةً وَلَوْ مَلَكَهَا وَهِيَ حَائِضٌ لا تعتد بتلك الحيضة حتى تستبرىء بِحَيْضَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ لِصِغَرِهَا أَوْ كِبَرِهَا فَاسْتِبْرَاؤُهَا يَحْصُلُ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ أَوْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ أَصَحُّهُمَا الْأَوَّلُ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِحْدَاثَ الْمِلْكِ يُوجِبُ الِاسْتِبْرَاءَ وَبِظَاهِرِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ
كَذَا قَالَ القارىء نَقْلًا عَنْ مَيْرَكٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ شَرِيكٌ الْقَاضِي
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
[2158] (قَامَ) أَيْ رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ (أَنْ يَسْقِيَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ يُدْخِلَ (مَاءَهُ) أَيْ نُطْفَتَهُ (زَرْعَ غَيْرِهِ) أَيْ مَحَلَّ زَرْعٍ لِغَيْرِهِ (يَعْنِي) هَذَا قَوْلُ رُوَيْفِعٍ أَوْ غَيْرِهِ أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ (إِتْيَانَ الْحَبَالَى) أَيْ جِمَاعَهُنَّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ شَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدَ إِذَا عَلِقَ بَالرَّحِمِ بَالزَّرْعِ إِذَا نَبَتَ وَرَسَخَ فِي الْأَرْضِ وَفِيهِ كَرَاهِيَةُ وَطْءِ الْحَبَالَى إِذَا كَانَ الْحَبَلُ مِنْ غير الواطىء عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا انْتَهَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَنْفِي عَنْهُ مَا قَدْ يَكُون مِنْ مَائِهِ وَوَطْئِهِ
وَقَدْ صَارَ فِيهِ جُزْء مِنْهُ كَمَا لَا يَحِلّ لواطىء الْمَسْبِيَّة الْحَامِل ذَلِكَ وَلَا فَرْق بَيْنهمَا
فَلِهَذَا قَالَ الْإِمَام أَحْمَد فِي إِحْدَى الرِّوَايَات عَنْهُ إِنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَ الْأَمَة وَأَحْبَلَهَا ثُمَّ مَلَكَهَا حَامِلًا أَنَّهُ إِنْ وَطِئَهَا صَارَتْ أُمّ وَلَد لَهُ تُعْتَق بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْوَلَد قَدْ يَلْحَق من مائه الأول والثاني والله أعلم(6/137)
(أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ) أَيْ يُجَامِعُهَا (حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا) أَيْ بِحَيْضَةٍ أَوْ بِشَهْرٍ (أَنْ يَبِيعَ مَغْنَمًا) أَيْ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ (حَتَّى يَقْسِمَ) أَيْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَيُخْرِجُ مِنْهُ الْخُمُسَ
[2159] (زَادَ) أَيْ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ (فِيهِ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ (بِحَيْضَةٍ) أَيْ لَفْظَ بِحَيْضَةٍ (وَهُوَ) أَيْ زِيَادَةُ بِحَيْضَةٍ (وَهْمٌ مِنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَهُوَ) أَيْ زِيَادَةُ بِحَيْضَةٍ (صَحِيحٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ) الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرَ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً (فَلَا يَرْكَبُ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ غَنِيمَتِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا) أَيْ أَضْعَفَهَا (رَدَّهَا فِيهِ) أَيْ فِي الْفَيْءِ بِمَعْنَى الْمَغْنَمِ
وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الرُّكُوبَ إِذَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى الْعَجَفِ فَلَا بَأْسَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (فَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُلْجِئَةٍ (حَتَّى إِذَا أَخَلَقَهُ) بَالْقَافِ أَيْ أَبْلَاهُ (رَدَّهُ فِيهِ) أَيْ فِي الْفَيْءِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
6 - بَاب فِي جَامِعِ النِّكَاحِ [2160] (أو اشترى خادما) أي جارية أو رفيقا وَهُوَ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فَيَكُونُ تَأْنِيثُ الضَّمِيرِ فيما(6/138)
سَيَأْتِي بَاعْتِبَارِ النَّسَمَةِ أَوِ النَّفْسِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا) أَيْ خَيْرَ ذَاتِهَا (وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ) أَيْ خَلَقْتَهَا وَطَبَعْتَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْبَهِيَّةِ (فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ) بِكَسْرِ الذَّالِ وَيُضَمُّ وَيُفْتَحُ أَيْ بِأَعْلَاهُ (زَادَ أَبُو سَعِيدٍ) هِيَ كُنْيَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ (ثُمَّ لِيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا) وَهِيَ الشَّعْرُ الْكَائِنُ فِي مُقَدَّمِ الرأس
قال المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
[2161] (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ) أَيْ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ أَوْ سُرِّيَّتَهُ وَلَوْ هَذِهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّمَنِّي عَلَى حَدِّ فَلَوْ أَنَّ لنا كرة وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَنَّى لَهُمْ ذَلِكَ الْخَيْرَ يَفْعَلُونَهُ لِتَحْصُلَ لَهُمُ السَّعَادَةُ وَحِينَئِذٍ فَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ هَلْ يَحْتَاجُ إلى جواب أو لا وبالثاني قال بن الصائغ وبن هِشَامٍ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ لَسَلِمَ مِنَ الشَّيْطَانِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (قَالَ بِسْمِ اللَّهِ) أَيْ مُسْتَعِينًا بَاللَّهِ وَبِذِكْرِ اسْمِهِ (اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا) أَيْ بَعِّدْنَا (وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا) أَيْ حِينَئِذٍ مِنَ الْوَلَدِ وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَنِّبْ وَأَطْلَقَ مَا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى شَيْءٍ كَقَوْلِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بما وضعت (ثُمَّ قُدِّرَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ثُمَّ إِنْ قُدِّرَ (أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ) أَيِ الْإِتْيَانِ (لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا) اخْتُلِفَ فِي الضَّرَرِ الْمَنْفِيِّ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ فِي أَنْوَاعِ الضَّرَرِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْحَمْلِ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ من صيغة النفي مع التأييد وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ كل بن آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي بَطْنِهِ حِينَ يُولَدُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا فَإِنَّ هَذَا الطَّعْنَ نَوْعُ ضَرَرٍ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ صُرَاخِهِ فَقِيلَ الْمَعْنَى لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ مِنْ أَجَلِ بَرَكَةِ التَّسْمِيَةِ بَلْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لك عليهم سلطان
وَقِيلَ الْمُرَادُ لَمْ يَصْرَعْهُ وَقِيلَ لَمْ يَضُرُّهُ في بدنه
وقال بن(6/139)
دَقِيقِ الْعِيدِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَضُرَّهُ فِي دِينِهِ أَيْضًا وَلَكِنْ يُبْعِدُهُ انْتِفَاءُ الْعِصْمَةِ
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ اخْتِصَاصَ مَنْ خُصَّ بَالْعِصْمَةِ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ لَا بِطَرِيقِ الْجَوَازِ فَلَا مَانِعَ أَنْ يُوجَدَ مَنْ لَا يُصْدَرُ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ عَمْدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا لَهُ
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ مَعْنَى لَمْ يَضُرُّهُ أَيْ لَمْ يَفْتِنْهُ عَنْ دِينِهِ إِلَى الْكُفْرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عِصْمَتَهُ مِنْهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[2162] (مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ امْرَأَتَهُ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَتِ الْأُمَّةُ إِلَّا الْقَلِيلَ لِلْحَدِيثِ هَذَا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ إِلَّا لِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَلَمْ يُحِلَّ تَعَالَى إِلَّا الْقُبُلَ كَمَا دَلَّ له قوله فأتوا حرثكم أنى شئتم وقوله فأتوهن من حيث أمركم الله فَأَبَاحَ مَوْضِعَ الْحَرْثِ وَالْمَطْلُوبُ مِنَ الْحَرْثِ نَبَاتُ الزَّرْعِ فَكَذَلِكَ النِّسَاءُ الْغَرَضُ مِنْ إِتْيَانِهِنَّ هُوَ طَلَبُ النَّسْلِ لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقُبُلِ فَيَحْرُمُ مَا عَدَا مَوْضِعَ الْحَرْثِ وَلَا يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ لِعَدَمِ الْمُشَابَهَةِ فِي كَوْنِهِ مَحَلًّا لِلزَّرْعِ
وَأَمَّا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه هَذَا الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي هَذَا الْبَاب وَقَدْ بَقِيَ فِي الْبَاب أَحَادِيث أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ وَنَحْنُ نَذْكُرهَا
الْأَوَّل عَنْ خُزَيْمَةَ بْن ثَابِت أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول إِنَّ اللَّه لَا يستحي مِنْ الْحَقّ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أَدْبَارهنَّ
الثَّانِي عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ الرَّجُل يَأْتِي اِمْرَأَة فِي دُبُرهَا قَالَ تَلِك اللُّوطِيَّة الصُّغْرَى رَفَعَهُ هَمَّام عَنْ قَتَادَة عَنْ عَمْرو وَوَقَفَهُ سُفْيَان عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَج عَنْ عَمْرو وَتَابَعَهُ مَطَر الْوَرَّاق عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب مَوْقُوفًا
الثالث عن كريب عن بن عَبَّاس عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَنْظُر اللَّه إِلَى رَجُل أَتَى رَجُلًا أَوْ اِمْرَأَة فِي دُبُرهَا
هَذَا حَدِيث اُخْتُلِفَ فِيهِ فَرَوَاهُ الضَّحَّاك بْن عُثْمَان عَنْ مخرمة بن سليمان عن كريب عن بن عَبَّاس وَرَوَاهُ وَكِيع عَنْ الضَّحَّاك مَوْقُوفًا وَرَوَاهُ أَبُو خَالِد عَنْهُ مَرْفُوعًا وَصَحَّحَ الْبُسْتِيّ رَفْعه وأبو خالد هو الأحمر
الرابع عن بن الْهَاد عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أَدْبَارهنَّ(6/140)
مَحَلُّ الِاسْتِمْتَاعِ فِيمَا عَدَا الْفَرْجَ فَمَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ جَوَازُ مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ فِيمَا عَدَا الْفَرْجَ
وَذَهَبَتِ الْإِمَامِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِتْيَانِ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ بَلْ وَالْمَمْلُوكِ فِي الدُّبُرِ
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَصِحَّ فِي تَحْلِيلِهِ وَلَا تَحْرِيمِهِ شَيْءٌ وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ حَلَالٌ وَلَكِنْ قَالَ الرَّبِيعُ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِحِلِّهِ فِي الْقَدِيمِ
وَفِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا أُرَخِّصُ فِيهِ بَلْ أَنْهَى عَنْهُ وَقَالَ إِنَّ مَنْ نَقَلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ إِبَاحَتَهُ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِمْ أَفْحَشَ الْغَلَطِ وَأَقْبَحَهُ وَإِنَّمَا الَّذِي أَبَاحُوهُ أَنْ يَكُونَ الدُّبُرُ طَرِيقًا إِلَى الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ فَيَطَأُ مِنَ الدُّبُرِ لَا فِي الدُّبُرِ فَاشْتَبَهَ عَلَى السَّامِعِ انتهى
كذا في
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الْخَامِس حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَقَدْ تَقَدَّمَ
وَلَهُ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْظُر اللَّه إِلَى رَجُل أَتَى اِمْرَأَة فِي دُبُرهَا
السَّادِس عَنْ عَلِيّ بْن طَلْق قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيّ فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه إِنَّا نَكُون فِي الْبَادِيَة فَيَكُون مِنْ أَحَدنَا الرُّوَيْحَة فقال إن الله لا يستحي مِنْ الْحَقّ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أَعْجَازهنَّ
السابع عن بن عَبَّاس قَالَ جَاءَ عُمَر بْن الْخَطَّاب إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه هَلَكْت قَالَ وَمَا الَّذِي أَهْلَكَك قَالَ حَوَّلْت رَحْلِي اللَّيْلَة فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا
فَأَوْحَى اللَّه إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَة (نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) يَقُول أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُر وَالْحَيْضَة
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّه الْحَاكِم وَتَفْسِير الصَّحَابِيّ فِي حُكْم الْمَرْفُوع
الثَّامِن عَنْ أَبِي تَمِيمَة الْهُجَيْمِيّ عَنْ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَتَى حَائِضًا
أَوْ اِمْرَأَة فِي دُبُرهَا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثم ذكر أبو داود تفسير بن عَبَّاس لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى (فَأْتُوا حَرْثكُمْ)
ثُمَّ قَالَ الشَّيْخ شَمْس الدِّين وَهَذَا الَّذِي فَسَّرَ به بن عباس فسر به بن عُمَر
وَإِنَّمَا وَهِمُوا عَلَيْهِ لَمْ يَهِم هُوَ
فَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي النَّصْر أَنَّهُ قَالَ لِنَافِعٍ قَدْ أَكْثَر عَلَيْك الْقَوْل أَنَّك تَقُول عن بن عُمَر إِنَّهُ أَفْتَى بِأَنْ يُؤْتَى النِّسَاء فِي أَدْبَارهنَّ
قَالَ نَافِع لَقَدْ كَذَبُوا عَلَيَّ وَلَكِنْ سأخبرك كيف كان الأمر إن بن عُمَر عَرَضَ الْمُصْحَف يَوْمًا وَأَنَا عِنْده حَتَّى بَلَغَ (نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) قَالَ يَا نَافِع هَلْ تَعْلَم مَا أَمْر هَذِهِ الْآيَة إِنَّا كُنَّا مَعْشَر قُرَيْش نَجْبِي النِّسَاء فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَدِينَة وَنَكَحْنَا نِسَاء الْأَنْصَار أَرَدْنَا مِنْهُنَّ مِثْل مَا كُنَّا نُرِيد مِنْ نِسَائِنَا فَإِذَا هُنَّ قَدْ كَرِهْنَ ذَلِكَ وَأَعْظَمْنَهُ وَكَانَتْ نِسَاء الْأَنْصَار إِنَّمَا يُؤْتَيْنَ عَلَى جنوبهن فأنزل الله عزوجل (نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)
فهذا هو الثابت عن بن عُمَر وَلَمْ يُفْهَم عَنْهُ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ غَيْر ذَلِكَ
وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم قَالَ قُلْت لِمَالِك إِنَّ عِنْدنَا(6/141)
السَّامِعِ انْتَهَى
كَذَا فِي
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحرث بْن يَعْقُوب عَنْ سَعِيد بْن يَسَار قَالَ قُلْت لِابْنِ عُمَر
إِنَّا نَشْتَرِي الْجَوَارِي فَنُحَمِّض لَهُنَّ قَالَ وَمَا التَّحْمِيض قَالَ نَأْتِيهِنَّ فِي أدبارهن قال أف أو يعمل هَذَا مُسْلِم فَقَالَ لِي مَالِك فَأَشْهَد عَلَى رَبِيعَة أَنَّهُ يُحَدِّثنِي عَنْ سَعِيد بْن يَسَار أنه سأل بن عُمَر عَنْهُ فَقَالَ لَا بَأْس بِهِ فَقَدْ صح عن بن عُمَر أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَة بِالْإِتْيَانِ فِي الْفَرْج مِنْ نَاحِيَة الدُّبُر وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ نَافِع وَأَخْطَأَ مَنْ أَخْطَأَ عَلَى نَافِع فَتُوُهِّمَ أَنَّ الدُّبُر مَحَلّ لِلْوَطْءِ لَا طَرِيق إِلَى وَطْء الْفَرْج فَكَذَّبَهُمْ نَافِع وَكَذَلِكَ مَسْأَلَة الْجَوَارِي إن كان قد حفظ عن بن عُمَر أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْإِحْمَاض لَهُنَّ فَإِنَّمَا مُرَاده إِتْيَانهنَّ مِنْ طَرِيق الدُّبُر فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ وطئهن في الدبر وقال أو يفعل هَذَا مُسْلِم فَهَذَا يُبَيِّن تَصَادُق الرِّوَايَات وَتَوَافُقهَا عَنْهُ
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث سُلَيْمَان بْن بِلَال عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر أَنَّ رَجُلًا أَتَى اِمْرَأَته فِي دُبُرهَا فِي عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا فَأَنْزَلَ الله عزوجل {نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قِيلَ هَذَا غَلَط بِلَا شَكٍّ غَلِطَ فِيهِ سليمان بن بلال أو بن أَبِي أُوَيْس رَاوِيه عَنْهُ وَانْقَلَبَتْ عَلَيْهِ لَفْظَة مِنْ بِلَفْظَةِ فِي وَإِنَّمَا هُوَ أَتَى اِمْرَأَة مِنْ دُبْرهَا وَلَعَلَّ هَذِهِ هِيَ قِصَّة عُمْر بْن الْخُطَّاب بِعَيْنِهَا لَمَا حَوْل رَحْله وَوَجَدَ مِنْ ذُلّك وَجَدَا شَدِيدًا فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلَكَتْ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ أَوْ يَكُون بَعْض الرُّوَاة ظَنَّ أَنَّ ذُلّك هُوَ الْوَطْء فِي الدُّبْر فَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي ظَنَّهُ مَعَ أَنَّ هُشَام بْن سَعْد قَدْ خَالَفَ سَلِيمَانِ فِي هَذَا فَرَوَاهُ عَنْ زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ عَطَاء بْن يَسَار مُرْسَلًا
وَاَلَّذِي يُبَيِّن هَذَا وَيَزِيدهُ وُضُوحًا أَنَّ هَذَا الْغَلَط قَدْ عَرَضَ مِثْله لِبَعْضِ الصَّحَابَة حِين أَفْتَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَازِ الْوَطْء فِي قُبُلهَا مِنْ دُبُرهَا حَتَّى يُبَيِّن لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا قَالَ الشَّافِعِيّ أَخْبَرَنِي عَمِّي قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن السَّائِب عَنْ عَمْرو بْن أُحَيْحَة بْن الْجُلَاح أَوْ عَنْ عَمْرو بْن فُلَان بْن أُحَيْحَة قَالَ الشَّافِعِيّ أَنَا شَكَكْت عَنْ خُزَيْمَةَ بْن ثَابِت أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِتْيَان النِّسَاء فِي أَدْبَارهنَّ أَوْ إِتْيَان الرَّجُل اِمْرَأَته فِي دُبُرهَا فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَال فَلَمَّا وَلَّى الرِّجَال دَعَاهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ فَقَالَ كَيْف قُلْت فِي أَيّ الْخَرِبَتَيْنِ أَوْ فِي أَيّ الْخَرَزَتَيْنِ أَوْ فِي أَيّ الْخُصْفَتَيْنِ أَمِنْ دُبُرهَا فِي قُبُلهَا فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرهَا فِي دبرها فلا إن الله لا يستحي مِنْ الْحَقّ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أَدْبَارهنَّ
قَالَ الشَّافِعِيّ عَمِّي ثِقَة وَعَبْد اللَّه بْن عَلِيّ ثِقَة وَقَدْ أَخْبَرَنِي مُحَمَّد وَهُوَ عَمّه مُحَمَّد بْن عَلِيّ عَنْ الْأَنْصَارِيّ الْمُحَدِّث بِهِ أَنَّهُ أَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا وَخُزَيْمَة مَنْ لَا يَشُكّ عَالِم فِي ثِقَته وَالْأَنْصَارِيّ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ عَمْرو بْن أُحَيْحَة
فَوَقَعَ الِاشْتِبَاه فِي كَوْن الدُّبُر طَرِيقًا إِلَى مَوْضِع الْوَطْء أَوْ هُوَ مَأْتَى
وَاشْتَبَهَ عَلَى مَنْ اِشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَعْنَى مِنْ بِمَعْنَى فِي فَوَقَعَ الْوَهْم(6/142)
السبل
قال المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
[2163] (إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فِي فَرْجِهَا من
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَاكِم حَدَّثَنَا الْأَصَمّ قَالَ سَمِعْت مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم يَقُول سَمِعْت الشَّافِعِيّ يَقُول لَيْسَ فِيهِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّحْرِيم وَالتَّحْلِيل حَدِيث ثَابِت وَالْقِيَاس أَنَّهُ حَلَال وَقَدْ غلط سفيان في حديث بن الْهَاد يُرِيد حَدِيثه عَنْ عِمَارَة بْن خُزَيْمَةَ عن أبيه يرفعه إن الله لا يستحي مِنْ الْحَقّ لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أَدْبَارهنَّ ويريد بغلطه أن بن الْهَاد قَالَ فِيهِ مَرَّة عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن حُصَيْنٍ عَنْ هَرَمِيّ بْن عَبْد اللَّه الْوَاقِفِيِّ عَنْ خُزَيْمَةَ ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عُبَيْد اللَّه
فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن عَمْرو بْن قَيْس الْخَطْمِيّ عَنْ هَرَمِيّ عَنْ خُزَيْمَةَ وَقِيلَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن هَرَمِيّ فَمَدَاره عَلَى هَرَمِيّ بْن عَبْد اللَّه عَنْ خُزَيْمَةَ وَلَيْسَ لِعِمَارَةِ بْن خُزَيْمَةَ فِيهِ أَصْل إِلَّا مِنْ حَدِيث بن عيينة
وأهل العلم بالحديث يرونه خَطَأ
هَذَا كَلَام الْبَيْهَقِيِّ
قِيلَ هَذِهِ الْحِكَايَة مُخْتَصَرَة مِنْ مُنَاظَرَة حَكَاهَا الشَّافِعِيّ جَرَتْ بَيْنه وَبَيْن مُحَمَّد بْن الْحَسَن يَكُون مِنْهُ تَحْرِيم إِتْيَان غَيْره فَالْإِتْيَان فِي الدُّبُر حَتَّى يَبْلُغ مِنْهُ مَبْلَغ الْإِتْيَان فِي الْقُبُل مُحَرَّم بِدَلَالَةِ الْكِتَاب ثُمَّ السُّنَّة فَذَكَرَ حَدِيث عَمّه ثُمَّ قَالَ وَلَسْت أُرَخِّص بِهِ أُنْهِي عَنْهُ
فَلَعَلَّ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه تَوَقَّفَ فِيهِ أَوَّلًا ثُمَّ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ التَّحْرِيم وَثُبُوت الْحَدِيث فِيهِ رَجَعَ إِلَيْهِ وَهُوَ أَوْلَى بِجَلَالَتِهِ وَمَنْصِبه وَإِمَامَته مِنْ أَنْ يُنَاظِر عَلَى مَسْأَلَة يَعْتَقِد بُطْلَانهَا يَذُبّ بِهَا عَنْ أَهْل الْمَدِينَة جَدَلًا ثُمَّ يَقُول وَالْقِيَاس حِلّه وَيَقُول لَيْسَ فِيهِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّحْرِيم وَالتَّحْلِيل حَدِيث ثَابِت عَلَى طَرِيق الْجَدَل بل إن كان بن عَبْد الْحَكَم حَفِظَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيّ فَهُوَ مِمَّا قَدْ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ صَرِيح التَّحْرِيم
وَاَللَّه أَعْلَم
وَفِي سِيَاقهَا دَلَالَة عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الذَّبّ عَنْ أَهْل الْمَدِينَة عَلَى طَرِيق الْجَدَل فَأَمَّا هُوَ فَقَدْ نَصَّ فِي كِتَاب عِشْرَة النِّسَاء عَلَى تَحْرِيمه
هَذَا جَوَاب الْبَيْهَقِيِّ
وَالشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه قَدْ صَرَّحَ فِي كُتُبه الْمِصْرِيَّة بِالتَّحْرِيمِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ خُزَيْمَةَ وَوَثَّقَ رُوَاته كَمَا ذَكَرْنَا
وَقَالَ فِي الْجَدِيد قَالَ اللَّه تَعَالَى {نِسَاؤُكُمْ حَرْث لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وَبَيَّنَ أَنَّ مَوْضِع الْحَرْث هُوَ مَوْضِع الْوَلَد وَأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَبَاحَ الْإِتْيَان فِيهِ إِلَّا فِي وَقْت الْحَيْض وَأَنَّى شِئْتُمْ بِمَعْنَى مِنْ أَيْنَ شِئْتُمْ قَالَ وَإِبَاحَة الْإِتْيَان فِي مَوْضِع الْحَرْث يُشْبِه أَنْ
(1) (يَكُون غَرْسًا لِلزَّرْعِ)
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين بن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث عَائِشَة كُنْت أَغْتَسِل أَنَا وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاء وَاحِد كِلَانَا جُنُب وَكَانَ يَأْمُرنِي فَأَتَّزِر فَيُبَاشِرنِي وَأَنَا حَائِض
قَالَ الشَّافِعِيّ قَالَ بَعْض أَهْل الْعِلْم بِالْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} يَعْنِي فِي مَوْضِع الْحَيْض(6/143)
وَرَائِهَا) أَيْ مِنْ جِهَةِ خَلْفِهَا (كَانَ وَلَدُهُ) أَيِ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ (أَحْوَلَ) فِي الْقَامُوسِ الْحَوَلُ مُحَرَّكَةٌ ظُهُورُ الْبَيَاضِ فِي مُؤَخَّرِ الْعَيْنِ وَيَكُونُ السَّوَادُ فِي قِبَلِ الْمَأْقِ أَوْ إِقْبَالِ الْحَدَقَةِ عَلَى الْأَنْفِ أَوْ ذَهَابِ حَدَقَتِهَا قِبَلَ مُؤَخَّرَهَا وَأَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ كَأَنَّمَا تَنْظُرُ إِلَى الْحَجَاجِ (حَجَاجٌ بَالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ اسْتِخْوَانٌ) أَوْ أَنْ تَمِيلَ الْحَدَقَةُ إِلَى اللِّحَاظِ (نِسَاؤُكُمْ) أَيْ مَنْكُوحَاتِكُمْ ومملوكاتكم (حرث لكم) أَيْ مَوَاضِعُ زِرَاعَةِ أَوْلَادِكُمْ يَعْنِي هُنَّ لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ الْمُعَدَّةِ لِلزِّرَاعَةِ وَمَحَلِّهِ الْقُبُلُ فَإِنَّ الدُّبُرَ مَوْضِعُ الْفَرْثِ لَا مَوْضِعُ الْحَرْثِ (فَأْتُوا حرثكم أنى شئتم) أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ مِنْ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ أَوْ اضْطِجَاعٍ أَوْ مِنْ وَرَائِهَا فِي فَرْجِهَا وَالْمَعْنَى عَلَى أَيْ هَيْئَةٍ كَانَتْ فَهِيَ مُبَاحَةٌ لَكُمْ مُفَوَّضَةٌ إِلَيْكُمْ وَلَا يَتَرَتَّبُ مِنْهَا ضَرَرٌ عَلَيْكُمْ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه
[2164] (إن بن عُمَرَ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ أَوْهَمَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ هَكَذَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَاتِ وَالصَّوَابُ بِغَيْرِ أَلِفٍ يُقَالُ وَهِمَ الرَّجُلُ بِكَسْرِ الْهَاءِ إِذَا غَلِطَ فِي الشَّيْءِ وَوَهَمَ مَفْتُوحَةُ الْهَاءِ إذا ذهب وهمه إلى الشيء وأولاهم بَالْأَلِفِ إِذَا أَسْقَطَ مِنْ قِرَاءَتِهِ أَوْ كَلَامِهِ شيئا ويشبه أن يكون قد بلغ بن عباس عن بن عُمَرَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ شَيْءٌ خِلَافُ مَا كان يذهب إليه بن عَبَّاسٍ
انْتَهَى (وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ) الْوَثَنُ هُوَ كُلُّ مَا لَهُ جُثَّةٌ مَعْمُولَةٌ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ أَوْ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْحِجَارَةِ كَصُورَةِ الْآدَمِيِّ وَالصَّنَمُ الصُّورَةُ بِلَا جُثَّةٍ وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ (وَكَانُوا) أَيِ الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ (يَرَوْنَ) أَيْ يَعْتَقِدُونَ (لَهُمْ) أَيْ لِيَهُودَ (فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ) لِأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ (إِلَّا عَلَى حَرْفٍ) أَيْ طَرَفٍ يَعْنِي لَا يُجَامِعُونَ إِلَّا عَلَى طَرَفٍ وَاحِدٍ وَهِيَ حَالَةُ الِاسْتِلْقَاءِ
وَقَالَ فِي(6/144)
الْمَجْمَعِ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ أَيْ جَنْبٍ (يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شَرْحًا مُنْكَرًا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْ يَبْسُطُونَ وَأَصْلُ الشَّرْحِ فِي اللُّغَةِ الْبَسْطُ وَمِنْهُ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ بَالْأَمْرِ وَهُوَ انْفِتَاحُهُ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ شَرَحْتُ الْمَسْأَلَةَ إِذَا فَتَحْتُ الْمُغْلَقَ مِنْهَا وَبَيَّنْتُ الْمُشْكِلَ مِنْ مَعْنَاهَا
قُلْتُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ شَرَحَ كَمَنَعَ كَشَفَ فَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ أَيْ يَكْشِفُونَهُنَّ وَهُوَ الظَّاهِرُ (يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ) أَيِ الشَّرْحَ الْمُتَعَارَفَ بَيْنَهُمْ (حَتَّى شَرِيَ أَمْرُهُمَا) شَرِيَ كَرَضِيَ أَيِ ارْتَفَعَ وَعَظُمَ وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ شَرِيَ الْبَرْقُ إِذَا لَجَّ فِي اللَّمَعَانِ
قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شئتم) أَيْ كَيْفَ شِئْتُمْ (أَيْ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ) هَذَا تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى أَنَّى (يَعْنِي بِذَلِكَ) أَيْ بِقَوْلِهِ حَرْثَكُمْ (مَوْضِعَ الْوَلَدِ) وَهُوَ الْقُبُلُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ تَحْرِيمِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ بِغَيْرِ مَوْضِعِ الْوَلَدِ مَعَ مَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ فِي سَائِرِ الْأَخْبَارِ انْتَهَى
وَقَالَ النَّوَوِيُّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا حَائِضًا كَانَتْ أَوْ طَاهِرًا لِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مَشْهُورَةٍ
قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَحِلُّ الْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
7 - (بَاب فِي إِتْيَانِ الْحَائِضِ وَمُبَاشَرَتِهَا)
[2165] (أَنَّ الْيَهُودَ) جَمْعُ يَهُودِيٍّ كَرُومٍ وَرُومِيٍّ وَأَصْلُهُ الْيَهُودِيِّينَ ثُمَّ حُذِفَ يَاءُ النِّسْبَةِ كَذَا قِيلَ وَفِيهِ(6/145)
تَأَمُّلٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْيَهُودَ قَبِيلَةٌ سُمِّيَتْ بَاسْمِ جَدِّهَا يَهُودَا أَخِي يُوسُفَ الصِّدِّيقِ وَالْيَهُودِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِمْ بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِنْهُمْ (وَلَمْ يُؤَاكِلُوهَا) بَالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ وَاوًا
وَقِيلَ إِنَّهُ لُغَةٌ (وَلَمْ يُجَامِعُوهَا فِي الْبَيْتِ) أَيْ لَمْ يُخَالِطُوهُنَّ وَلَمْ يُسَاكِنُوهُنَّ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ (عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنْ فعل يهود المذكور (ويسألونك عن المحيض) أَيِ الْحَيْضِ مَاذَا يُفْعَلُ بِالنِّسَاءِ فِيهِ (قُلْ هُوَ أَذًى) أي قذر (فاعتزلوا النساء) أي اتركوا وطئهن (في المحيض) أَيْ وَقْتِهِ أَوْ مَكَانِهِ
قَالَ فِي الْأَزْهَارِ الْمَحِيضُ الْأَوَّلُ فِي الْآيَةِ هُوَ الدَّمُ بَالِاتِّفَاقِ لقوله تعالى قل هو أذي وَفِي الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا الدَّمُ كَالْأَوَّلِ وَالثَّانِي زَمَانُ الْحَيْضِ وَالثَّالِثُ مَكَانَهُ وَهُوَ الْفَرْجُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ الْأَذَى مَا يَتَأَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ قِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ لَوْنًا كَرِيهًا وَرَائِحَةً مُنْتِنَةً وَنَجَاسَةً مُؤْذِيَةً مَانِعَةً عَنِ الْعِبَادَةِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ مُبَيِّنًا لِلِاعْتِزَالِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ بِقَصْرِهِ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ (جَامِعُوهُنَّ) أَيْ سَاكِنُوهُنَّ (وَاصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ) مِنَ الْمُؤَاكَلَةِ وَالْمُشَارَبَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ (غَيْرَ النِّكَاحِ) أَيِ الْجِمَاعِ وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ فَاعْتَزِلُوا فَإِنَّ الِاعْتِزَالَ شَامِلٌ لِلْمُجَانَبَةِ عَنِ الْمُؤَاكَلَةِ وَالْمُضَاجَعَةِ (هَذَا الرَّجُلُ) يَعْنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وعبروا به لِإِنْكَارِهِمُ النُّبُوَّةَ (أَنْ يَدَعَ) أَيْ يَتْرُكَ (مِنْ أَمْرِنَا) أَيْ مِنْ أُمُورِ دِينِنَا (إِلَّا خَالَفَنَا) بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ لَا يَتْرُكُ أَمْرًا مِنْ أُمُورِنَا إِلَّا مَقْرُونًا بَالْمُخَالَفَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ) بَالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ أَسْلَمَ قَبْلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَلَى يَدِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ الثَّانِيَةَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ (وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ) هُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ بَالْمَدِينَةِ عَلَى يَدِ مُصْعَبٍ أَيْضًا قَبْلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا (أَفَلَا نَنْكِحُهُنَّ) أَيْ أَفَلَا نُجَامِعُهُنَّ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ (فَتَمَعَّرَ) أَيْ فَتَغَيَّرَ (أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا) أَيْ غَضِبَ (فَخَرَجَا) خَوْفًا مِنَ الزِّيَادَةِ فِي(6/146)
التَّغَيُّرِ أَوِ الْغَضَبِ (فَاسْتَقْبَلَهُمَا هَدِيَّةٌ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَاسْتَقْبَلَتْهُمَا أَيِ اسْتَقْبَلَ الرَّجُلَيْنِ شَخْصٌ مَعَهُ هَدِيَّةٌ يُهْدِيهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ (مِنْ لَبَنٍ) مِنْ بَيَانِيَّةٌ (فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمَا) جَمْعُ أَثَرٍ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَهُمَا أَحَدًا فَنَادَاهُمَا فَجَاءَاهُ
وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَسَقَاهُمَا (فَظَنَنَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا) أَيْ لَمْ يَغْضَبْ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ عَلِمْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدْعُوهُمَا إِلَى مُجَالَسَتِهِ وَمُؤَاكَلَتِهِ إِلَّا وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمَا
وَالظَّنُّ يَكُونُ بِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى الْحُسْبَانِ وَالْآخَرُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ فَكَانَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مُنْصَرِفًا إِلَى الْحُسْبَانِ وَالْآخَرُ إِلَى الْعِلْمِ وَزَوَالِ الشَّكِّ
انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُبَاشَرَةِ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فِي غَيْرِ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى الْجَوَازِ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَصْبَغُ وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وبن الْمُنْذِرِ وَدَاوُدُ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ حَرَامٌ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ المسيب وشريح وطاؤس وَعَطَاءٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَقَتَادَةُ
وَفِيهَا لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ الْأَشْهَرُ مِنْهَا التَّحْرِيمُ وَالثَّانِي عَدَمُ التَّحْرِيمِ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَالثَّالِثُ إِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ يَضْبِطُ نَفْسَهُ عَنِ الْفَرْجِ إِمَّا لِشِدَّةِ وَرَعٍ أَوْ لِضَعْفِ شَهْوَةٍ جَازَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[2166] (عَنْ جَابِرِ بْنِ صُبْحٍ) بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ (سَمِعْتُ خِلَاسًا) بِكَسْرِ أوله هو بن عَمْرٍو (الْهَجَرِيُّ) بِفَتْحَتَيْنِ (نَبِيتُ فِي الشِّعَارِ الْوَاحِدِ) الشِّعَارُ بَالْكَسْرِ ثَوْبٌ يَلِي الْجَسَدَ لِأَنَّهُ يَلِي شَعْرَهُ وَالدِّثَارُ ثَوْبٌ فَوْقَهُ (وَأَنَا حَائِضٌ طَامِثٌ) هُوَ بِمَعْنَى حَائِضٍ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِحَائِضٍ (فَإِنْ أَصَابَهُ) أَيْ أَصَابَ بَدَنَهُ (مِنِّي شَيْءٌ) أَيْ شَيْءٌ مِنَ الدَّمِ (مَكَانَهُ) أَيْ مَكَانَ الدَّمِ (وَلَمْ يَعْدُهُ) أَيْ لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ الْمَكَانَ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّوْمِ مَعَ الْحَائِضِ والاضطجاع(6/147)
مَعَهَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ هُنَاكَ حَائِلٌ يَمْنَعُ مِنْ مُلَاقَاةِ الْبَشَرَةِ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ أَوْ تَمْنَعُ الْفَرْجَ وَحْدَهُ عِنْدَ مَنْ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا الْفَرْجَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[2167] (أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الثانية وأصله تأزر بِوَزْنِ تَفْتَعِلُ وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ النُّحَاةِ الْإِدْغَامَ حَتَّى قَالَ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ إِنَّهُ خَطَأٌ لَكِنْ نَقَلَ غَيْرُهُ أَنَّهُ مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَحَكَاهُ الصَّغَانِيُّ فِي مَجْمَعِ البحرين
وقال بن الْمَلَكِ إِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي
وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهَا تَشُدُّ إِزَارًا تَسْتُرُ سُرَّتَهَا وَمَا تَحْتَهَا إِلَى الرُّكْبَةِ فَمَا تَحْتَهَا
وَالْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ بِمَا تَحْتَ الْإِزَارِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
8 - (بَاب فِي كَفَّارَةِ مَنْ أَتَى حَائِضًا)
[2168] (فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ) أَيْ فِيمَنْ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ثُبُوتِ التَّصَدُّقِ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَكَانَتْ الْآيَة مُحْتَمِلَة لِمَا قَالَ وَمُحْتَمِلَة اِعْتِزَال جَمِيع أَبْدَانهنَّ فَدَلَّتْ سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اِعْتِزَال مَا تَحْت الْإِزَار مِنْهَا وَإِبَاحَة مَا فَوْقه
وَحَدِيث أَنَس هَذَا ظَاهِر فِي أَنَّ التَّحْرِيم إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَوْضِع الْحَيْض خَاصَّة وَهُوَ النِّكَاح وَأَبَاحَ كُلّ مَا دُونه
وَأَحَادِيث الْإِزَار لَا تُنَاقِضهُ
لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغ فِي اِجْتِنَاب الْأَذَى وَهُوَ أولى(6/148)
لِمَنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ
قَالَ فِي السُّبُلِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى إِيجَابِ الصَّدَقَةِ الْحَسَنُ وَسَعِيدٌ لَكِنْ قَالَا يُعْتِقُ رَقَبَةً قِيَاسًا عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ
وَقَالَ غَيْرُهُمَا بَلْ يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مُرْسَلٌ أَوْ مَوْقُوفٌ وَقَالَ بن عَبْدِ الْبَرِّ حُجَّةُ مَنْ لَمْ يُوجِبِ اضْطِرَابُ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّ الذِّمَّةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ فِيهَا شَيْءٌ لِمِسْكِينٍ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ لَا مَدْفَعَ فِيهِ وَلَا مَطْعَنَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
قَالَ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَمِيرِ أَمَّا مَنْ صَحَّ لَهُ كَابْنِ الْقَطَّانِ فَإِنَّهُ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي تَصْحِيحِهِ وَأَجَابَ عَنْ طُرُقِ الطَّعْنِ فيه وأقره بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَقَوَّاهُ فِي كِتَابِهِ الْإِمَامِ فَلَا عُذْرَ لَهُ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ
وَأَمَّا مَنْ لم يصح عنده كالشافعي وبن عَبْدِ الْبَرِّ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ
[2169] (إِذَا أَصَابَهَا) أَيْ جَامَعَهَا (فِي الدَّمِ) وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي إِقْبَالِ الدَّمِ (فَدِينَارٌ) أَيْ عَلَى الْمُجَامِعُ فِيهِ (وَإِذَا أَصَابَهَا فِي انْقِطَاعِ الدَّمِ فَنِصْفُ دِينَارٍ) قِيلَ إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي اخْتِلَافِ الْكَفَّارَةِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَأَمَّا حَدِيث مُعَاذ قَالَ سَأَلْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَحِلّ لِلرَّجُلِ مِنْ اِمْرَأَته وَهِيَ حَائِض فَقَالَ مَا فَوْق الْإِزَار وَالتَّعَفُّف عَنْ ذَلِكَ أَفْضَل فَفِيهِ بَقِيَّة عَنْ سَعْد الْأَغْطَش وَهُمَا ضَعِيفَانِ
قَالَ عَبْد الْحَقّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ثُمَّ قَالَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيق حِزَام بْن حَكِيم وَهُوَ ضَعِيف عَنْ عَمّه أَنَّهُ سَأَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحِلّ لِي مِنْ اِمْرَأَتِي وَهِيَ حَائِض فَقَالَ لَك مَا فَوْق الْإِزَار قَالَ وَيُرْوَى عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة وليس بقوي
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه هَذَا الْحَدِيث قَدْ رَوَاهُ عَفَّان وَجَمَاعَة عَنْ شُعْبَة مَوْقُوفًا وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ عَنْهُ مَوْقُوفًا ثُمَّ قَالَ قِيلَ لِشُعْبَةَ إِنَّك كُنْت تَرْفَعهُ
فَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ
وقال النسائي بعد ما رَوَاهُ شُعْبَة مَوْقُوفًا قَالَ شُعْبَة أَنَا حِفْظِي مَرْفُوع وَقَالَ فُلَان وَفُلَان إِنَّهُ كَانَ لَا يَرْفَعهُ فَقَالَ بَعْض الْقَوْم يَا أَبَا بِسْطَام حَدَّثَنَا بِحِفْظِك وَدَعْنَا مِنْ فُلَان فَقَالَ وَاَللَّه مَا أُحِبّ أَنِّي حَدَّثْت بِهَذَا أَوْ سَكَتَ عَنْ هَذَا وَأَنِّي عَمَّرْت فِي الدُّنْيَا عُمْر نُوح فِي قَوْمه(6/149)
بَالْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ أَنَّهُ فِي أَوَّلِهِ قَرِيبُ عَهْدٍ بَالْجِمَاعِ فَلَمْ يُعْذَرْ فِيهِ بِخِلَافِهِ فِي آخِرِهِ فَخَفَّفَ فِيهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدِ اضْطَرَبَ الرُّوَاةُ فِيهِ اضْطِرَابًا كَثِيرًا فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ فَرُوِيَ تَارَةً مَرْفُوعًا وَتَارَةً مَوْقُوفًا وَتَارَةً مُرْسَلًا عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَارَةً مُعْضَلًا عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَارَةً عَلَى الشَّكِّ دِينَارٌ أَوْ نِصْفُ دِينَارٍ وَتَارَةً عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَوَّلِ الدَّمِ وَآخِرِهِ وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنْ أَتَى رَجُلٌ امْرَأَتَهُ حَائِضًا أَوْ بَعْدَ تَوْلِيَةِ الدَّمِ وَلَمْ تَغْتَسِلْ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلَا يَعُدْ وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ شَيْءٌ لَوْ كَانَ ثَابِتًا أَخَذْنَا بِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقِيلَ لِشُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّكَ كُنْتَ تَرْفَعُهُ قَالَ إِنِّي كُنْتُ مَجْنُونًا فَصَحَّحْتُ فَرَجَعَ عَنْ رَفْعِهِ بَعْدَ مَا كَانَ يَرْفَعُهُ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
9 - (بَاب مَا جَاءَ فِي الْعَزْلِ)
[2170] هُوَ أَنْ يُجَامِعُ فَإِذَا قَارَبَ الْإِنْزَالَ نَزَعَ وَأَنْزَلَ خَارِجَ الْفَرْجِ
(ذُكِرَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (ذَلِكَ) أَيِ الْعَزْلُ (يَعْنِي الْعَزْلَ) هَذَا بَيَانٌ لِذَلِكَ (فَلِمَ يَفْعَلُ أَحَدُكُمْ) فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ إِذْ لَا مَانِعَ عَنِ الْعُلُوقِ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَمْ يَقُلْ فَلَا يَفْعَلْ) أَشَارَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث سَعِيد بْن جبير عن بن عَبَّاس أَنَّ رَجُلًا أَخْبَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَصَابَ اِمْرَأَته وَهِيَ حَائِض فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِق نَسَمَة وَلَهُ عِلَّتَانِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا النَّسَائِيُّ
إِحْدَاهُمَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيث يَرْوِيه الوليد بن مسلم عن بن جابر عن علي بن يذيمة عن بن جبير عن بن عَبَّاس وَاخْتُلِفَ عَلَى الْوَلِيد فَرَوَاهُ عَنْهُ مُوسَى بْن أَيُّوب كَذَلِكَ وَخَالَفَهُ مَحْمُود بْن خَالِد فَرَوَاهُ عَنْ الْوَلِيد عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد السُّلَمِيّ قَالَ النَّسَائِيُّ هُوَ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن تَمِيم ضَعِيف
الْعِلَّة الثَّانِيَة الوقف على بن عَبَّاس ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ
وَقَالَ عَبْد الْحَقّ حَدِيث الْكَفَّارَة فِي إِتْيَان الْحَائِض لَا يُرْوَى بِإِسْنَادٍ يُحْتَجّ بِهِ وَلَا يَصِحّ فِي إِتْيَان الْحَائِض إلا التحريم(6/150)
إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُمْ بَالنَّهْيِ وَإِنَّمَا أَشَارَ أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ ذَلِكَ (فَإِنَّهُ لَيْسَتْ مِنْ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ إِلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا) أَيْ كل نفس قدر الله خلقها لا بد أَنْ يَخْلُقَهَا سَوَاءٌ عَزَلَ أَحَدُكُمْ أَمْ لَا فَلَا فَائِدَةَ فِي الْعَزْلِ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْعَزْلِ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ مَا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ كَرِهَ الْعَزْلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمُ انْتَهَى (قَالَ أَبُو دَاوُدَ قزعة مولى زياد) أي بن أَبِي سُفْيَانَ وَقَزَعَةُ بَالْقَافِ وَالزَّاي وَبَعْدَهُمَا مُهْمَلَةٌ بفتحات هو بن يَحْيَى الْبَصْرِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وبن عُمَرَ وَعَنْهُ مُجَاهِدٌ وَعَاصِمُ الْأَحْوَلِ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ
قال المنذري
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه فَالْيَهُود ظَنَّتْ أَنَّ الْعَزْل بِمَنْزِلَةِ الْوَأْد فِي إِعْدَام مَا اِنْعَقَدَ بِسَبَبِ خَلْقه فَكَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ
وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ اللَّه خَلْقه مَا صَرَفَهُ أَحَد
وَأَمَّا تَسْمِيَته وَأْدًا خَفِيًّا فَلِأَنَّ الرَّجُل إِنَّمَا يَعْزِل عَنْ اِمْرَأَته هَرَبًا مِنْ الْوَلَد وَحِرْصًا عَلَى أَنْ لَا يَكُون
فَجَرَى قَصْده وَنِيَّته وَحِرْصه عَلَى ذَلِكَ مَجْرَى مَنْ أَعْدَمَ الْوَلَد بِوَأْدِهِ لَكِنَّ ذَاكَ وَأْد ظَاهِر مِنْ الْعَبْد فِعْلًا وَقَصْدًا
وَهَذَا وَأْد خَفِيّ لَهُ إِنَّمَا أَرَادَهُ وَنَوَاهُ عَزْمًا وَنِيَّة فَكَانَ خَفِيًّا
وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيّ تَعْلِيقًا عَنْ سُلَيْمَان التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرو الشَّيْبَانِيِّ عن بن مَسْعُود فِي الْعَزْل قَالَ هُوَ الْوَأْد الْخَفِيّ
وَقَدْ اِخْتَلَفَ السَّلَف وَالْخَلَف فِي الْعَزْل فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَغَيْره يُرْوَى عَنْ عَدَد مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ رَخَّصُوا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِّينَا الرُّخْصَة فِيهِ مِنْ الصَّحَابَة عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَأَبِي أَيُّوب الْأَنْصَارِيّ وزيد بن ثابت وبن عَبَّاس وَغَيْرهمْ
وَذَكَرَ غَيْره أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَخَبَّاب بْن الْأَرَتّ وَجَابِر بْن عَبْد الله والمعروف عن علي وبن مَسْعُود كَرَاهَته
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرَوَيْت عَنْهُمَا الرُّخْصَة وَرَوَيْت الرُّخْصَة مِنْ التَّابِعِينَ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب وَطَاوُسٍ وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه
وَأَلْزَمَهُمْ الشَّافِعِيّ الْمَنْع مِنْهُ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ وَعَبْد اللَّه بْن مَسْعُود الْمَنْع مِنْهُ ثُمَّ قَالَ وَلَيْسُوا يَأْخُذُونَ بِهَذَا وَلَا يَرَوْنَ بِالْعَزْلِ بَأْسًا ذَكَرَ ذَلِكَ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ الْعِرَاقِيُّونَ عَلِيًّا وَعَبْد اللَّه(6/151)
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[2171] (إِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أن العزل موءودة الصغرى) المؤودة هِيَ الَّتِي دُفِنَتْ حَيَّةً وَكَانَتْ عَادَةُ سُرَاةِ الْعَرَبِ أَنْ يَدْفِنُوا بَنَاتَهُمْ إِذَا وُلِدَتْ تَحَرُّزًا عَنْ لُحُوقِ الْعَارِ فَقَالَتِ الْيَهُودُ إِنَّ الْعَزْلَ أَيْضًا قَرِيبٌ مِنَ الْوَأْدِ لِأَنَّهُ إِتْلَافُ نَفْسٍ وَلَوْ بَعِيدَةٌ عَنِ الْوُجُودِ (قَالَ كَذَبَتْ يَهُودُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعَزْلِ وَلَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا فِي حَدِيثِ جُدَامَةَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَا فِي حَدِيثِ جُدَامَةَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ وَتَكْذِيبِ الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّحْرِيمَ الْحَقِيقِيَّ
وقال بن الْقَيِّمِ الَّذِي كَذَّبَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ هُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ الْعَزْلَ لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْحَمْلُ أَصْلًا وَجَعَلُوا بِمَنْزِلَةِ قَطْعِ النَّسْلِ بَالْوَأْدِ فَأَكْذَبَهُمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْحَمْلَ إِذَا شَاءَ اللَّهُ خَلْقَهُ وَإِذَا لَمْ يُرِدْ خَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ وَأْدًا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا أَسْمَاهُ وَأْدًا خَفِيًّا فِي حَدِيثِ جُدَامَةَ بِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يَعْزِلُ هَرَبًا مِنَ الْحَمْلِ فَأَجْرَى قَصْدَهُ لِذَلِكَ مَجْرَى الْوَأْدِ لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَأْدَ ظَاهِرٌ بَالْمُبَاشَرَةِ اجْتَمَعَ فِيهِ الْقَصْدُ وَالْفِعْلُ وَالْعَزْلُ يَتَعَلَّقُ بَالْقَصْدِ فَقَطْ فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَفِيًّا انْتَهَى (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا قَدَّرَ خَلْقَ نَفْسٍ فَلَا بُدَّ مِنْ خَلْقِهَا وَأَنَّهُ يَسْبِقُكُمُ الْمَاءُ فَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهِ وَلَا يَنْفَعُكُمُ الْحِرْصُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَسْبِقُ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ شُعُورِ الْعَازِلِ لِتَمَامِ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَأَمَّا قَوْل الْإِمَام أَحْمَد فِيهِ فَأَكْثَر نُصُوصه أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْزِل عَنْ سُرِّيَّته وَأَمَّا زَوْجَته فَإِنْ كَانَتْ حُرَّة لَمْ يَعْزِل عَنْهَا إِلَّا بِإِذْنِهَا وَإِنْ كَانَتْ أَمَة لَمْ يَعْزِل إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدهَا
وَرُوِيَتْ كَرَاهَة الْعَزْل عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي بَكْر الصديق وعن علي وبن مسعود في المشهور عنهما وعن بن عُمَر
وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَصْحَاب أَحْمَد وَغَيْرهمْ يَحْرُم كُلّ عَزْل وَقَالَ بَعْض أَصْحَابه يُبَاح مُطْلَقًا
وَقَدْ رَوَى مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاص أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنِّي أَعْزِل عَنْ اِمْرَأَتِي فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَ تَفْعَل ذَلِكَ فَقَالَ الرَّجُل أُشْفِق عَلَى وَلَدهَا أَوْ عَلَى أَوْلَادهَا فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ ضَارًّا أَحَدًا ضَرَّ فَارِس وَالرُّوم
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث جَابِر كُنَّا نَعْزِل وَالْقُرْآن يَنْزِل فَلَوْ كَانَ شَيْء يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَى عَنْهُ الْقُرْآن
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيث كُنَّا نَعْزِل عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَنْهَنَا
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد قَالَ ذُكِرَ الْعَزْل عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَمَا ذَاكُمْ قَالُوا الرَّجُل تَكُون لَهُ الْمَرْأَة(6/152)
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ اخْتُلِفَ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِيهِ
فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مُخْتَصَرًا بِمَعْنَاهُ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَفِي حَدِيثِهِ وَقِيلَ فِيهِ عَنْ رِفَاعَةَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَقِيلَ فِيهِ عَنْ أَبِي مُطِيعِ بْنِ رِفَاعَةَ وَقِيلَ فِيهِ عَنْ أَبِي رِفَاعَةَ وَقِيلَ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ) بِكَسْرِ اللَّامِ قَبِيلَةٌ مِنْ بَنِي خُزَاعَةَ مِنَ الْعَرَبِ
[2172] (فَأَصَبْنَا سَبَايَا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ يجري عليهم الرق إذا كانوا الشركين لِأَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَبِيلَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمُ الرِّقُّ لِشَرَفِهِمْ (وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ قِلَّةُ الْجِمَاعِ (وَأَحْبَبْنَا الْفِدَاءَ) أَيِ احْتَجْنَا إِلَى الْوَطْءِ وَخِفْنَا مِنَ الْحَبَلِ فَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهَا وَأَخْذُ الْفِدَاءِ فِيهَا (فَأَرَدْنَا أَنْ نَعْزِلَ) أَيْ مِنَ السَّبَايَا مَخَافَةَ الْحَبَلِ (ثُمَّ قُلْنَا) أَيْ فِي أَنْفُسِنَا أَوْ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ (نَعْزِلُ) بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا) أَيْ بَيْنَنَا
وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ (فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنِ الْعَزْلِ أَوْ جَوَازِهِ (مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا إِلَخْ) قَالَ النَّوَوِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
تُرْضِع فَيُصِيب مِنْهَا وَيَكْرَه أَنْ تَحْمِل مِنْهُ قَالَ فَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا ذَلِكُمْ فإنما هو القدر قال بن عَوْن فَحَدَّثْت بِهِ الْحَسَن فَقَالَ وَاَللَّه لَكَانَ هَذَا زَجْر
وَفِي لَفْظ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ قَوْله لَا عَلَيْكُمْ أَقْرَب إِلَى النَّهْي
وَوَجْه ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم أَنَّهُ إِنَّمَا نُفِيَ الْحَرَج عَنْ عَدَم الْفِعْل
فَقَالَ لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا يَعْنِي فِي أَنْ لَا تَفْعَلُوا وَهِيَ يَدُلّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى ثُبُوت الْحَرَج فِي الْفِعْل فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ نَفْي الْحَرَج عَنْ الْفِعْل لَقَالَ لَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا
وَالْحُكْم بِزِيَادَةِ لَا خِلَاف الْأَصْل فلهذا فهم الحسن وبن سِيرِينَ مِنْ الْحَدِيث الزَّجْر
وَاَللَّه أَعْلَم
قَالَ الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز اِسْتِرْقَاق الْعَرَب وَوَطْء سَبَايَاهُمْ وَكُنَّ كِتَابِيَّات
وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيث أَبِي سعيد(6/153)
مَعْنَاهُ مَا عَلَيْكُمْ ضَرَرٌ فِي تَرْكِ الْعَزْلِ لأن كل نفس قدر الله خلقها لابد أَنْ يَخْلُقَهَا سَوَاءٌ عَزَلْتُمْ أَمْ لَا وَمَا لَمْ يُقَدِّرْ خَلْقَهَا لَا يَقَعُ سَوَاءٌ عَزَلْتُمْ أَمْ لَا فَلَا فَائِدَةَ فِي عَزْلِكُمُ انْتَهَى
قَالَ فِي النَّيْلِ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا
قَالَ بن سيرين هذا أقرب إلى النهي
وحكى بن عَوْنٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ وَاللَّهِ لِكَأَنَّ هَذَا زَجْرٌ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ كَأَنَّ هَؤُلَاءِ فَهِمُوا مِنْ لَا النَّهْيَ عَمَّا سَأَلُوا عَنْهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا تَعْزِلُوا وَعَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا وَيَكُونُ قَوْلُهُ وَعَلَيْكُمْ إِلَى آخِرِهِ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذَا التَّقْدِيرِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتْرُكُوا وَهُوَ الَّذِي يُسَاوِي أَنْ لَا تَفْعَلُوا
وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَى لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا أَيْ لَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا فَفِيهِ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْ عَدَمِ الْفِعْلِ فَأَفْهَمَ ثُبُوتَ الْحَرَجِ فِي فِعْلِ الْعَزْلِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ لَقَالَ لَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ لَا زَائِدَةٌ فَيُقَالُ الْأَصْلُ عَدَمَ ذَلِكَ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[2173] (إِنَّ لِي جَارِيَةً) زَادَ مُسْلِمٌ هِيَ خَادِمَتُنَا وَسَانِيَتُنَا (أَيِ الَّتِي تَسْقِي لَنَا شَبَّهَهَا بَالْبَعِيرِ فِي ذَلِكَ) (أَطُوفُ عَلَيْهَا) أَيْ أُجَامِعُهَا (وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمَلَ) أَيْ تَحْبَلَ مِنِّي (فَإِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) أَيْ مِنَ الْحَمْلِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ عَزَلْتَ أَمْ لَا (ثُمَّ أَتَاهُ) أَيِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فِي سَبَايَا أَوْطَاس وَإِبَاحَة وَطْئِهِنَّ وَهُنَّ مِنْ الْعَرَب
وَحَدِيثه الْآخَر لَا تُوطَأ حَامِل حَتَّى تَضَع
وَكَانَ أَكْثَر سَبَايَا الصَّحَابَة فِي عَصْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَرَب وكانوا يطأوهن بِإِذْنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَشْتَرِط فِي الْوَطْء غَيْر اِسْتِبْرَائِهِنَّ لَمْ يَشْتَرِط إِسْلَامهنَّ وَتَأْخِير الْبَيَان عَنْ وَقْت الْحَاجَة لَا يَجُوز
وَقَدْ دَفَعَ أَبُو بَكْر إِلَى سَلَمَة بْن الْأَكْوَع اِمْرَأَة مِنْ السَّبْي نَفَّلَهُ إِيَّاهَا مِنْ الْعَرَب
وَأَخَذَ عَمْرو بْن أُمَيَّة مِنْ سَبْي بَنِي حَنِيفَة
وَأَخَذَ الصَّحَابَة مِنْ سَبْي المجوس ولم ينقل أنهم اجتنبوهن
قال بن عَبْد الْبَرّ إِبَاحَة وَطْئِهِنَّ مَنْسُوخ بِقَوْلِهِ {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَات حَتَّى يُؤْمِنَّ} وَهَذَا فِي غَايَة الضَّعْف لِأَنَّهُ فِي النِّكَاح وَسَأَلَ مُحَمَّد بْن الْحَكَم أَحْمَد عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا أَدْرِي أَكَانُوا أَسْلَمُوا أَمْ لَا(6/154)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْعِلْمِ إِبَاحَةُ الْعَزْلِ عَنِ الْجَوَارِي وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وكرهه بعض الصحابة وروي عن بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ تُسْتَأْمَرُ الْحُرَّةُ فِي الْعَزْلِ وَلَا تُسْتَأْمَرُ الْجَارِيَةُ
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَعْزِلُ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا وَلَا يَعْزِلُ عَنِ الْجَارِيَةِ إِذَا كَانَتْ زَوْجَةً إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا وَيَعْزِلُ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْءِ أَمَتِهِ وَادَّعَى الْعَزْلَ فَإِنَّ الولد لاحق بِهِ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الِاسْتِبْرَاءَ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْأَمَةَ فِرَاشًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
0 - (بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ ذِكْرِ الرَّجُلِ مَا يَكُونُ مِنْ إِصَابَتِهِ أَهْلَهُ)
[2174] (حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ طُفَاوَةَ) بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ
قَالَ فِي التَّقْرِيبِ الطُّفَاوِيُّ شَيْخٌ لِأَبِي نَضْرَةَ لَمْ يُسَمَّ مِنَ الثَّالِثَةِ لَا يُعْرَفُ (تَثَوَّيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) أَيْ جِئْتُهُ ضَيْفًا وَالثَّوِيُّ الضَّيْفُ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ تَضَيَّفْتُهُ إِذَا ضِفْتُهُ
قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ (أَشَدَّ تَشْمِيرًا) أَيْ أَكْثَرَ اجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَةِ (وَهُوَ) أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (يُسَبِّحُ بِهَا) أَيْ بَالْحَصَى أَوِ النَّوَى وَالْمَعْنَى يَعُدُّ التَّسْبِيحُ بِهَا (إِذَا نَفِدَ) أَيْ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَوْله فِي الْحَدِيث وَلْيُصَفِّقْ النِّسَاء دَلِيل عَلَى أَنَّ قَوْله فِي حَدِيث سَهْل بْن سعد المتفق عليه التصفيق لِلنِّسَاءِ أَنَّهُ إِذْن وَإِبَاحَة لَهُنَّ فِي التَّصْفِيق فِي الصَّلَاة عِنْد نَائِبَة تَنُوب لَا أَنَّهُ عَيْب وَذَمّ
قَالَ الشَّافِعِيّ حُكْم النِّسَاء التَّصْفِيق وَكَذَا قَالَهُ أَحْمَد
وَذَهَبَ مَالِك إِلَى أَنَّ الْمَرْأَة لَا تُصَفِّق وَأَنَّهَا تُسَبِّح
وَاحْتَجَّ لَهُ الْبَاجِيّ وَغَيْره بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَابَهُ شَيْء فِي صَلَاته فَلْيُسَبِّحْ قَالُوا وَهَذَا عَامّ فِي الرِّجَال(6/155)
فَنِيَ وَلَمْ يَبْقَ (مَا فِي الْكِيسِ) مِنَ النَّوَى أَوِ الْحَصَى (أَلْقَاهُ إِلَيْهَا) أَيْ أَلْقَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكِيسَ إِلَى الْجَارِيَةِ (بَيْنَا أَنَا أُوعَكُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْوَعْكِ وَهُوَ شِدَّةُ الْحُمَّى (مَنْ أَحَسَّ) أَيْ مَنْ أَبْصَرَ (الْفَتَى الدَّوْسِيَّ) يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ (فَقَالَ لِي مَعْرُوفًا) أَيْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (أَوْ صَفَّانِ مِنْ نِسَاءٍ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (إِنْ نَسَّانِي) بِتَشْدِيدِ السِّينِ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ أَيْ أَنْسَانِي (فَلْيُسَبِّحْ) أَيْ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ (الْقَوْمُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ اسْمُ الْقَوْمِ إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ
قَالَ زُهَيْرٌ وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فَلْيُصَفِّقِ النِّسَاءُ فَقَابَلَ بِهِ النِّسَاءَ فَدَلَّ أَنَّهُنَّ لَمْ يَدْخُلْنَ فِيهِمْ وَيُصَحِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَسْخَرْ قوم من قوم انْتَهَى (وَلْيُصَفِّقِ النِّسَاءُ) التَّصْفِيقُ ضَرْبُ إِحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ التَّسْبِيحِ وَالتَّصْفِيقِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ (مَجَالِسَكُمْ مَجَالِسَكُمْ) بَالنَّصْبِ أَيِ الْزَمُوا مَجَالِسَكُمْ (زَادَ مُوسَى) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (ها هنا) أَيْ بَعْدَ قَوْلِهِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَالنِّسَاء قَالُوا وَقَوْله التَّصْفِيق لِلنِّسَاءِ هُوَ عَلَى طَرِيق الذَّمّ وَالْعَيْب لَهُنَّ كَمَا يُقَال كُفْرَان الْعَشِير مِنْ فِعْل النِّسَاء
وَهَذَا بَاطِل مِنْ ثَلَاثَة أَوْجُه أَحَدهَا أَنَّ فِي نَفْس الْحَدِيث تَقْسِيم التَّنْبِيه بَيْن الرِّجَال وَالنِّسَاء وَإِنَّمَا سَاقَهُ فِي مَعْرِض التَّقْسِيم وَبَيَان اِخْتِصَاص كُلّ نَوْع بِمَا يَصْلُح لَهُ فَالْمَرْأَة لَمَّا كَانَ صَوْتهَا عَوْرَة مُنِعَتْ مِنْ التَّسْبِيح وَجَعَلَ لَهَا التَّصْفِيق وَالرَّجُل لَمَّا خَالَفَهَا فِي ذَلِكَ شُرِعَ لَهُ التسبيح(6/156)
مَجَالِسَكُمْ مَجَالِسَكُمْ (ثُمَّ اتَّفَقُوا) أَيِ الرُّوَاةُ (ثُمَّ أَقْبَلَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلْتُ كَذَا) أَيْ يُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ جِمَاعِهِ وَيُفْشِي مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ مِنْ أُمُورِ الِاسْتِمْتَاعِ (فَجَثَتْ) قَالَ فِي القاموس جثي كَدَعَا وَرَمَى جُثُوًّا وَجِثِيًّا جَلَسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ (فَتَاةٌ) أَيْ شَابَّةٌ (كَعَابٌ) بَالْفَتْحِ الْمَرْأَةُ حِينَ يَبْدُو ثَدْيُهَا لِلنُّهُودِ وَهِيَ الْكَاعِبُ أَيْضًا وَجَمْعُهَا كَوَاعِبُ (وَتَطَاوَلَتْ) أَيِ امْتَدَّتْ وَرَفَعَتْ عُنُقَهَا (مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَوْنُهُ) كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ (إِنَّ طِيبَ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ ريحه) كالحناء
قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ حَمَلُوا قَوْلَهُ وطيب النساء على ما أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا فَلْتَطَّيَّبْ بِمَا شَاءَتِ انْتَهَى
وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ انْتَهَى مُلَخَّصًا (أَلَا لَا يُفْضِيَنَّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يَصِلَنَّ (رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَى امْرَأَةٍ) أَيْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَالْمَعْنَى لَا يَضْطَجِعَانِ مُتَجَرِّدَيْنِ تَحْتَ ثَوْبٍ وَاحِدٍ
قَالَ فِي الْمَجْمَعِ هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ بِأَنْ يَكُونَا مُتَجَرِّدَيْنِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَتَنْزِيهٌ انْتَهَى (إِلَّا إِلَى وَلَدٍ أَوْ وَالِدٍ) لَيْسَ هَذَا الاستثناء في
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الثَّانِي أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث أَبِي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّسْبِيح لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيق لِلنِّسَاءِ فَهَذَا التَّقْسِيم وَالتَّنْوِيع صَرِيح فِي أَنَّ حُكْم كُلّ نَوْع مَا خَصَّهُ بِهِ
وَخَرَّجَهُ مُسْلِم بِهَذَا اللَّفْظ وَقَالَ فِي آخِره فِي الصَّلَاة(6/157)
حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ لَا يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ رَوَاهُ فِي ضِمْنِ حَدِيثٍ (وَذَكَرَ ثَالِثَةً) أَيْ كَلِمَةً ثَالِثَةً (وَهُوَ فِي حَدِيثِ مُسَدَّدٍ) مَرْجِعٌ هُوَ قَوْلُهُ أَلَا لَا يُفْضِيَنَّ إِلَخْ (وَقَالَ مُوسَى أَخْبَرَنَا حَمَّادٌ إِلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَقُلْ فِي رِوَايَتِهِ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ طُفَاوَةَ كَمَا قَالَ مُسَدَّدٌ وَمُؤَمَّلٌ بَلْ قَالَ عَنِ الطُّفَاوِيِّ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ إِفْشَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنْ أُمُورِ الْجِمَاعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَ الْفَاعِلِ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةً فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ نَشْرِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْأَسْرَارِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُمَا الرَّاجِعَةِ إِلَى الْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ
قِيلَ وَهَذَا التَّحْرِيمُ هُوَ فِي نَشْرِ أُمُورِ الِاسْتِمْتَاعِ وَوَصْفِ التَّفَاصِيلِ الرَّاجِعَةِ إِلَى الْجِمَاعِ وَإِفْشَاءِ مَا يَجْرِي مِنَ الْمَرْأَةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ حَالَةَ الْوِقَاعِ
وَأَمَّا مُجَرَّدُ ذِكْرِ نَفْسِ الْجِمَاعِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ وَلَا إِلَيْهِ حَاجَةٌ فَمَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُرُوءَةِ وَمِنَ التَّكَلُّمِ بِمَا لَا يَعْنِي وَمِنْ حُسْنِ إسلام المرء تركه مالا يَعْنِيهِ فَإِنْ كَانَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ أَوْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ فَلَا كَرَاهَةَ فِي ذِكْرِهِ وَذَلِكَ نَحْوَ أَنْ تُنْكِرَ الْمَرْأَةُ نِكَاحَ الزَّوْجِ لَهَا وَتَدَّعِي عَلَيْهِ الْعَجْزَ عَنِ الْجِمَاعِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي ادَّعَتْ عليه امرأته العنة قال يارسول اللَّهِ إِنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا لِقِصَّةِ الطِّيبِ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الطُّفَاوِيَّ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا يُعْرَفُ اسْمُهُ
وَقَالَ أَبُو الفضل محمد بن طاهر والطفاوي مجهول
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الثَّالِث أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ فِي قَوْله وَلْيُصَفِّقْ النِّسَاء وَلَوْ كَانَ قَوْله التَّصْفِيق لِلنِّسَاءِ عَلَى جِهَة الذَّمّ وَالْعَيْب لَمْ يَأْذَن فِيهِ
وَاَللَّه أعلم(6/158)
(باب في من خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا)
[2175] أَيْ أَفْسَدَهَا بِأَنْ يُزَيِّنَ إِلَيْهَا عَدَاوَةَ الزَّوْجِ
(أَخْبَرَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ) بِتَقْدِيمِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الزَّاي الْمُعْجَمَةِ مُصَغَّرًا (لَيْسَ مِنَّا) أَيْ مِنْ أَتْبَاعِنَا (مَنْ خَبَّبَ) بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْأُولَى بَعْدَ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ خَدَعَ وَأَفْسَدَ (امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا) بِأَنْ يذكر مساوىء الزَّوْجِ عِنْدَ امْرَأَتِهِ أَوْ مَحَاسِنَ أَجْنَبِيٍّ عِنْدَهَا (أَوْ عَبْدًا) أَيْ أَفْسَدَهُ (عَلَى سَيِّدِهِ) بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْإِفْسَادِ
وَفِي مَعْنَاهُمَا إِفْسَادُ الزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ وَالْجَارِيَةِ عَلَى سَيِّدِهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه النسائي
[2176] (لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا) أَيْ فِي كَوْنِهَا مِنْ بَنَاتِ آدَمَ (لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا) وَفِي رواية(6/159)
الْبُخَارِيِّ لِتَسْتَفْرِغَ مَا فِي صَحْفَتِهَا
وَالصَّحْفَةُ إِنَاءٌ كَالْقَصْعَةِ يَعْنِي لِتَجْعَلَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ قَصْعَةَ أُخْتِهَا خَالِيَةً عَمَّا فِيهَا وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ أَنْ يَصِيرَ لَهَا مَا كَانَ يَحْصُلُ لِضَرَّتِهَا مِنَ النفقة وغيرها (ولتنكح) عطف على لتسفرغ وَكِلَاهُمَا عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ أَيْ لِتَجْعَلَ صَحْفَتَهَا فَارِغَةً لتفوز بحظها وتنكح زوجها
وقال العلامة بن الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ قَوْلُهُ وَلِتَنْكِحَ بَالنَّصْبِ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ يَعْنِي لِتَنْكِحَ طَالِبَةُ الطَّلَاقِ زَوْجَ تِلْكَ الْمُطَلَّقَةِ وَإِنْ كَانَتِ الطَّالِبَةُ وَالْمَطْلُوبَةُ تَحْتَ رَجُلٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُهُ إِلَى الْمَطْلُوبَةِ يَعْنِي لِتَنْكِحَ ضَرَّتُهَا زَوْجًا آخَرَ فَلَا تَشْتَرِكَ مَعَهَا فِيهِ
وَرُوِيَ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ يَعْنِي لِتُجْعَلَ مَنْكُوحَةً لَهُ
وَرُوِيَ وَلْتَنْكِحْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْمَعْلُومِ الْمَجْهُولِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ لَا تَسْأَلْهُ يَعْنِي لِتَثْبُتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْمَنْكُوحَةُ عَلَى نِكَاحِهَا الْكَائِنِ مَعَ الضَّرَّةِ قَانِعَةً بِمَا يَحْصُلُ لَهَا فِيهِ أَوْ مَعْنَاهُ وَلْتَنْكِحْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ الْغَيْرُ الْمَنْكُوحَةِ زَوْجًا غَيْرَ زَوْجِ أُخْتِهَا وَلِتَتْرُكَ ذَلِكَ الزَّوْجَ لَهَا أَوْ مَعْنَاهُ لِتَنْكِحْ تِلْكَ الْمَخْطُوبَةُ زَوْجَ أُخْتِهَا وَلْتَكُنْ ضَرَّةً عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِلْجَمْعِ مَعَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ طَلَاقَ أُخْتِهَا (فَإِنَّمَا لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا) يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوصِلُ إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ مَا قُدِّرَ لَهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَغَيْرِهِمَا سَوَاءً كَانَتْ مُنْفَرِدَةً أَوْ مَعَ أُخْرَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
(بَاب فِي كَرَاهِيَةِ الطَّلَاقِ)
[2177] (أَخْبَرَنَا مُعَرِّفٌ) بِكَسْرِ الراء المشددة هو بن وَاصِلٍ السَّعْدِيُّ الْكُوفِيُّ ثِقَةٌ مِنَ السَّادِسَةِ (مَا أَحَلَّ اللَّهُ) مَا نَافِيَةٌ (شَيْئًا أَبْغَضُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَيْسَ كُلُّ حَلَالٍ مَحْبُوبًا بَلْ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ مَحْبُوبٌ وَإِلَى مَا هُوَ مَبْغُوضٌ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ مَعْنَى الْكَرَاهِيَةِ فِيهِ مُنْصَرِفٌ إِلَى السَّبَبِ الْجَالِبِ لِلطَّلَاقِ وَهُوَ سُوءُ الْعِشْرَةِ وَقِلَّةُ الْمُوَافَقَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الطَّلَاقِ لَا إِلَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدِّين بْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيث مُعَاذ بْن جَبَل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحَلَّ اللَّه شَيْئًا أَبْغَض إِلَيْهِ مِنْ الطَّلَاق وَفِيهِ حُمَيْدُ بْن مَالِك وَهُوَ ضَعِيف
وَفِي مُسْنَد الْبَزَّار مِنْ حَدِيث أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُطَلَّق النِّسَاء إِلَّا مِنْ رِيبَة إِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ الذَّوَّاقِينَ وَلَا الذواقات(6/160)
نَفْسِ الطَّلَاقِ فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ طَلَّقَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ رَاجَعَهَا وَكَانَتْ لِابْنِ عُمَرَ امْرَأَةٌ يُحِبُّهَا وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ صُحْبَتَهُ إِيَّاهَا فَشَكَاهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِهِ فقال ياعبد اللَّهِ طَلِّقِ امْرَأَتَكَ فَطَلَّقَهَا وَهُوَ لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ يَكْرَهُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ هَذَا مُرْسَلٌ
[2178] (أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الطَّلَاقُ) قِيلَ كَوْنُ الطَّلَاقِ مَبْغُوضًا مُنَافٍ لِكَوْنِهِ حَلَالًا فَإِنَّ كَوْنَهُ مَبْغُوضًا يَقْتَضِي رُجْحَانَ تَرْكِهِ عَلَى فِعْلِهِ وَكَوْنُهُ حَلَالًا يَقْتَضِي مُسَاوَاةَ تَرْكِهِ لِفِعْلِهِ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بَالْحَلَالِ مَا لَيْسَ تَرْكُهُ بِلَازِمٍ الشَّامِلُ لِلْمُبَاحِ وَالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَقَدْ يُقَالُ الطَّلَاقُ حَلَالٌ لِذَاتِهِ وَالْأَبْغَضِيَّةُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ انْجِرَارِهِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ وَالْمَشْهُورُ فِيهِ الْمُرْسَلُ وَهُوَ غَرِيبٌ
وَقَالَ البيهقي في رواية بن أَبِي شَيْبَةَ يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَلَا أُرَاهُ يَحْفَظُهُ
(بَاب فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ)
[2179] قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَيَشْهَدُ شَاهِدَيْنِ انْتَهَى
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ رَوَى الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عن بن مسعود في قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن قَالَ فِي الطُّهْرِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ
وَأَخْرَجَهُ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَذَلِكَ انْتَهَى
(أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ) اسْمُهَا آمِنَةُ بِنْتُ غَفَّارٍ أَوْ بِنْتُ عَمَّارٍ
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَنَّ اسْمَهَا النَّوَارُ
قَالَ الْحَافِظُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهَا آمِنَةُ وَلَقَبُهَا النَّوَارُ (وَهِيَ حَائِضٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ (عَلَى عَهْدِ) أَيْ فِي عَهْدِ (عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنْ حُكْمِ طَلَاقِهِ (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا) أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ عِنْدَ جَمْعٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ
قَالَ الْعَيْنِيُّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
وقال(6/161)
صَاحِبُ الْهِدَايَةِ الْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ وَاجِبٌ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَرَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ بَالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ (ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ) أَيْ مِنَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا (ثُمَّ تَحِيضُ) أَيْ حَيْضَةً أُخْرَى (ثُمَّ تَطْهُرُ) أَيْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ (ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ الطُّهْرِ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ (وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ) أَيْ فِي الطُّهْرِ الثَّانِي (قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحِكْمَةِ فِي الْأَمْرِ بَالْإِمْسَاكِ كَذَلِكَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ أَيْ بِمَا فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا بِطُهْرٍ تَامٍّ ثُمَّ حَيْضٍ تَامٍّ لِيَكُونَ تَطْلِيقَهَا وَهِيَ تَعْلَمُ عِدَّتَهَا إِمَّا بِحَمْلٍ أَوْ بِحَيْضٍ أَوْ لِيَكُونَ تَطْلِيقَهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بَالْحَمْلِ وَهُوَ غَيْرُ جَاهِلٍ بِمَا صَنَعَ أَوْ لِيَرْغَبَ فِي الْحَمْلِ إِذَا انْكَشَفَتْ حَامِلًا فَيُمْسِكَهَا لِأَجْلِهِ
وَقِيلَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا تَصِيرَ الرَّجْعَةُ لِغَرَضِ الطَّلَاقِ فَإِذَا أَمْسَكَهَا زَمَانًا يَحِلُّ لَهُ فِيهِ طَلَاقُهَا ظَهَرَتْ فَائِدَةُ الرَّجْعَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَطُولُ مَقَامُهُ مَعَهَا فَيُجَامِعُهَا فَيَذْهَبُ مَا فِي نَفْسِهِ فَيُمْسِكُهَا
كَذَا فِي النَّيْلِ (فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ) أَيْ في قوله فطلقوهن لعدتهن (أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لَهَا بِمَعْنَى فِي كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ كَتَبْتُ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنَ الشَّهْرِ أَيْ فِي وَقْتٍ خَلَا فِيهِ مِنَ الشَّهْرِ خَمْسُ لَيَالٍ وَقَوْلُهُ تِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَلِيَ الْكَلَامُ المتقدم وهو الطهر أي فالأظهار أَوْ حَالَةُ الطُّهْرِ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ فِيهَا النِّسَاءُ فَفِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ الْأَقْرَاءَ الَّتِي تَعْتَدُّ بِهَا هِيَ الْأَطْهَارُ دُونَ الْحِيَضِ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ إِلَخْ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ هُوَ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ قَالُوا لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ وَجَعَلَهُ الْعِدَّةَ وَنَهَاهُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي الْحَيْضِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِدَّةً ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الأطهار وأجاب الطحاوي بأنه ليس المراد ها هنا بَالْعِدَّةِ هُوَ الْعِدَّةُ الْمُصْطَلِحَةُ الثَّابِتَةُ بَالْكِتَابِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ بَلْ عِدَّةُ طَلَاقِ النِّسَاءِ أَيْ وَقْتُهُ وَلَيْسَ أَنَّ مَا يَكُونُ عِدَّةً تُطَلَّقُ لَهَا النِّسَاءُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِدَّةَ الَّتِي تَعْتَدُّ بِهَا النِّسَاءُ وَقَدْ جَاءَتِ الْعِدَّةُ لِمَعَانٍ
وَفِيهِ مَا فِيهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[2180] (طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً) ظَهَرَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا كان بن عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي(6/162)
الْحَيْضِ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً
[2181] (فَقَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا إِذَا طَهُرَتْ) فِيهِ جَوَازُ الطَّلَاقِ حَالَ الطُّهْرِ وَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الْآخَرِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى الْمَنْعِ
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بَالْجَوَازِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَبِأَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْحَيْضِ فَإِذَا طَهُرَتْ زَالَ مُوجِبُ التَّحْرِيمِ فَجَازَ الطَّلَاقُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ كَمَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَطْهَارِ
وَاسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ بَالرِّوَايَةِ الْأُولَى فَفِيهَا نَصٌّ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ الَّتِي كَانَ طَلَّقَ فِيهَا بَلْ فِي الطُّهْرِ التَّالِي لِلْحَيْضَةِ الْأُخْرَى (أَوْ وَهِيَ حَامِلٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَهُوَ مُطَلِّقٌ لِلسُّنَّةِ وَيُطَلِّقُهَا فِي أَيْ وَقْتٍ شَاءَ فِي الْحَمْلِ وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِيهَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ يَجْعَلُ بَيْنَ وُقُوعِ التَّطْلِيقَتَيْنِ شَهْرًا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ لَا يُوقِعُ عَلَيْهَا وَهِيَ حَامِلٌ أَكْثَرَ مِنْ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَتْرُكُهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا ثُمَّ يُوقِعُ سَائِرَ التَّطْلِيقَاتِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[2182] (فَتَغَيَّظَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَةِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْضَبُ بِغَيْرِ حَرَامٍ كَذَا قَالَ عَلِيٌّ القارىء (ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا طَاهِرًا) قَالَ فِي الْفَتْحِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ طَاهِرًا هَلِ الْمُرَادُ انْقِطَاعُ الدَّمِ أَوِ التَّطَهُّرُ بَالْغُسْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَالرَّاجِحُ الثَّانِي لِمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِلَفْظِ مُرْ عَبْدَ اللَّهِ فَلْيُرَاجِعْهَا فَإِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضَتِهَا الْأُخْرَى فَلَا يَمَسَّهَا حَتَّى يُطَلِّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا فَلْيُمْسِكْهَا (كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى) أَيْ بقوله فطلقوهن(6/163)
لعدتهن قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[2183] (كَمْ طَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ فَقَالَ وَاحِدَةً) فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَقَدْ تَظَاهَرَتْ رِوَايَاتُ مُسْلِمٍ بِأَنَّهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[2184] (تعرف بن عُمَرَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَتَعْرِفُ بِذِكْرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ (فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ) حَكَى عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ (فِي قُبُلِ عِدَّتِهَا) بِضَمَّتَيْنِ أَيْ فِي إِقْبَالِهِ وَأَوَّلِهِ (فَمَهْ) أَيْ فَمَاذَا لِلِاسْتِفْهَامِ فَأَبْدَلَ الْأَلِفَ هَاءً لِلْوَقْفِ أَيْ فَمَا يَكُونُ وَإِنْ لَمْ يَحْتَسِبْ بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ أَوْ هُوَ كَلِمَةُ زَجْرٍ أَنِ انْزَجِرْ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَكَوْنِهِ مَحْسُوبًا فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ (أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي (إِنْ عَجَزَ) أَيْ عَنْ فَرْضٍ فَلَمْ يُقِمْهُ (وَاسْتَحْمَقَ) فَلَمْ يَأْتِ بِهِ أَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْهَمْزَةُ فِي أرأيت للاستفهام الانكاري أن نَعَمْ يَحْتَسِبُ الطَّلَاقَ وَلَا يُمْنَعَ احْتِسَابُهُ لِعَجْزِهِ وَحَمَاقَتِهِ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ فِيهِ حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ أَيُسْقِطُ عَنْهُ الطَّلَاقَ حُمْقُهُ أَوْ يُبْطِلُهُ عَجْزُهُ قَالَ وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ طَلَاقَ الْحَائِضِ وَاقِعٌ وَلَوْلَا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ فِي الْمُرَاجَعَةِ مَعْنًى
وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ طَلَاقِ الْحَائِضِ الْحَائِلِ بِغَيْرِ رِضَاهَا فَلَوْ طَلَّقَهَا أَثِمَ وَوَقَعَ طَلَاقُهُ وَيُؤْمَرُ بَالرَّجْعَةِ وَشَذَّ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَقَالَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَالَ العلماء كافة انتهى
قلت قد أطال بن الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ طَلَاقَ الْحَائِضِ لَا يَقَعُ فَعَلَيْكَ أَنْ تُطَالِعَهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه(6/164)
[2185] (أَنَّهُ) أَيْ أَبُو الزُّبَيْرِ (سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ) بِنَصْبِ الدَّالِ مَفْعُولُ (مَوْلَى عُرْوَةَ) بَدَلٌ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (يَسْأَلُ) أَيْ عَبْدُ الرحمن (بن عُمَرَ) بَالنَّصْبِ (وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (قَالَ) أَيْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ (كَيْفَ تَرَى) الْخِطَابُ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا) أَيْ لَمْ يَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ التَّطْلِيقَةَ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ إِنَّ طَلَاقَ الْحَائِضِ لَا يَقَعُ
وَالْقَائِلُونَ بِوُقُوعِ طَلَاقِ الْحَائِضِ قالوا إن قوله ولم يرها شيئا منكر لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُ أَبِي الزُّبَيْرِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ لَمْ يَرْوِ أَبُو الزُّبَيْرِ حَدِيثًا أَنْكَرَ مِنْ هَذَا وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا بَاتًّا تَحْرُمُ مَعَهُ الْمُرَاجَعَةُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ أَوْ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا جَائِزًا فِي السُّنَّةِ مَاضِيًا فِي حُكْمِ الِاخْتِيَارِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا قَدْ أَشَارَ إِلَى نَكَارَةِ قَوْلِهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا حَيْثُ قَالَ وَالْأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم فِي صَحِيحه حَدِيث أَبِي الزُّبَيْر هَذَا بِحُرُوفِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا بَلْ قَالَ فَرَدَّهَا وَقَالَ إِذَا طَهُرَتْ إِلَى آخِره
وَقَدْ دَلَّ حديث بن عُمَر هَذَا عَلَى أُمُور مِنْهَا تَحْرِيم الطَّلَاق فِي الْحَيْض
وَمِنْهَا أَنَّهُ حُجَّة لِمَنْ قَالَ بِوُقُوعِهِ قَالُوا لِأَنَّ الرَّجْعَة إِنَّمَا تَكُون بَعْد الطَّلَاق وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ
وَقَالُوا لَا مَعْنَى لِوُقُوعِ الطَّلَاق وَالْأَمْر بِالْمُرَاجَعَةِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعُدّ الطَّلَاق لَمْ يَكُنْ لِأَمْرِهِ بِالرَّجْعَةِ مَعْنًى بَلْ أَمَرَهُ بِارْتِجَاعِهَا وَهُوَ رَدّهَا إِلَى حَالهَا الْأُولَى قَبْل تَطْلِيقهَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الطَّلَاق لَمْ يَقَع
قَالُوا وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي حَدِيث أَبِي الزُّبَيْر الْمَذْكُور آنِفًا(6/165)
(قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ بن عُمَرَ إِلَخْ) حَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أي حديث بن عُمَرَ فِي تَطْلِيقِهِ امْرَأَتَهُ حَائِضًا رَوَاهُ عَنْهُ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَنْسُ بْنُ سِيرِينَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَأَبُو الزُّبَيْرِ وَمَنْصُورٌ وَفِي رِوَايَاتِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ أَنَّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالُوا وَأَبُو الزُّبَيْر ثِقَة فِي نَفْسه صَدُوق حَافِظ إِنَّمَا تَكَلَّمَ فِي بَعْض مَا رَوَاهُ عَنْ جَابِر مُعَنْعَنًا لَمْ يُصَرِّح بِسَمَاعِهِ مِنْهُ وَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيث بِسَمَاعِهِ مِنْ بن عُمَر فَلَا وَجْه لِرَدِّهِ
قَالُوا وَلَا يُنَاقِض حديثه ما تقدم من قول بن عُمَر فِيهِ أَرَأَيْت إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَقَوْله فَحَسِبْت مِنْ طَلَاقهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ لفظ مرفوع إلى النبي
وَقَوْله وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا مَرْفُوع صَرِيح فِي عَدَم الْوُقُوع
قَالُوا وَهَذَا مُقْتَضَى قَوَاعِد الشَّرِيعَة
فَإِنَّ الطَّلَاق لَمَّا كَانَ مُنْقَسِمًا إِلَى حَلَال وَحَرَام كَانَ قِيَاس قَوَاعِد الشَّرْع أَنَّ حَرَامه بَاطِل غَيْر مُعْتَدّ بِهِ كَالنِّكَاحِ وَسَائِر الْعُقُود الَّتِي تَنْقَسِم إِلَى حَلَال وَحَرَام وَلَا يَرِد عَلَى ذَلِكَ الظِّهَار فَإِنَّهُ لَا يَكُون قَطّ إِلَّا حَرَامًا لِأَنَّهُ مُنْكَر مِنْ الْقَوْل وَزُور فَلَوْ قِيلَ لَا يَصِحّ لَمْ يَكُنْ لِلظِّهَارِ حُكْم أَصْلًا
قَالُوا وَكَمَا أَنَّ قَوَاعِد الشَّرِيعَة أَنَّ النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم فَكَذَلِكَ يَقْتَضِي الْفَسَاد وَلَيْسَ مَعَنَا مَا يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى فَسَاد الْعَقْد إِلَّا النَّهْي عَنْهُ
قَالُوا وَلِأَنَّ هَذَا طَلَاق مَنَعَ مِنْهُ صَاحِب الشَّرْع وَحُجِرَ عَلَى الْعَبْد فِي اِتِّبَاعه فَكَمَا أَفَادَ مَنْعه وَحَجْره عَدَم جَوَاز الْإِيقَاع أَفَادَ عَدَم نُفُوذه وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلْحَجْرِ فَائِدَة وَإِنَّمَا فَائِدَة الْحَجْر عَدَم صِحَّة مَا حُجِرَ عَلَى الْمُكَلَّف فِيهِ
قَالُوا وَلِأَنَّ الزَّوْج لَوْ أَذِنَ لَهُ رَجُل بِطَرِيقِ الْوَكَالَة أَنْ يُطَلِّق اِمْرَأَته طَلَاقًا مُعَيَّنًا فَطَلَّقَ غَيْر مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ لَمْ يُنَفَّذ لِعَدَمِ إِذْنه
وَاَللَّه سُبْحَانه إِنَّمَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي الطَّلَاق الْمُبَاح وَلَمْ يَأْذَن لَهُ فِي الْمُحَرَّم فَكَيْف تُصَحِّحُونَ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ وَتُوقِعُونَهُ وَتَجْعَلُونَهُ مِنْ صَحِيح أَحْكَام الشَّرْع(6/166)
النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ أَيْ مِنَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَلَيْسَ فِي رِوَايَاتِهِمْ ذِكْرُ حَيْضَةٍ أُخْرَى سِوَى الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا
وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَالِمٍ عن بن عُمَرَ
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عن بن عُمَرَ وَنَافِعٌ عَنْهُ وَفِي رِوَايَتِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ أَيْ مِنَ الْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا ثُمَّ تَحِيضُ أَيْ حَيْضَةً أُخْرَى سِوَى الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا ثُمَّ تَطْهُرُ أَيْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ أَوْ أَمْسَكَ
فَفِي رِوَايَتِهِمَا زِيَادَةٌ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الخرساني عن الحسن عن بن عُمَرَ مِثْلَ رِوَايَتِهِمَا (وَالْأَحَادِيثُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الطَّلَاق نَافِذًا فِي الْحَيْض لَكَانَ الْأَمْر بِالْمُرَاجَعَةِ وَالتَّطْلِيق بَعْده تَكْثِيرًا مِنْ الطَّلَاق الْبَغِيض إِلَى اللَّه وَتَقْلِيلًا لِمَا بَقِيَ مِنْ عَدَده الَّذِي يَتَمَكَّن مِنْ الْمُرَاجَعَة مَعَهُ
وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَا مَصْلَحَة فِي ذَلِكَ
قَالُوا وَإِنَّ مَفْسَدَة الطَّلَاق الْوَاقِع فِي الْحَيْض لَوْ كَانَ وَاقِعًا لَا يَرْتَفِع بِالرَّجْعَةِ وَالطَّلَاق بَعْدهَا بَلْ إِنَّمَا يَرْتَفِع بِالرَّجْعَةِ الْمُسْتَمِرَّة الَّتِي تَلُمّ شَعَث النِّكَاح وَتُرَقِّع خِرَقه
فَأَمَّا رَجْعَة يَعْقُبهَا طَلَاق فَلَا تُزِيل مَفْسَدَة الطَّلَاق الْأَوَّل لَوْ كَانَ وَاقِعًا
قَالُوا وَأَيْضًا فَمَا حَرَّمَهُ اللَّه سُبْحَانه مِنْ الْعُقُود فَهُوَ مَطْلُوب الْإِعْدَام بِكُلِّ طَرِيق حَتَّى يُجْعَل وُجُوده كَعَدَمِهِ فِي حُكْم الشَّرْع وَلِهَذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ فِعْله بَاطِلًا فِي حُكْم الشَّرْع وَالْبَاطِل شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ
وَمَعْلُوم أَنَّ هَذَا هُوَ مَقْصُود الشَّارِع مِمَّا حَرَّمَهُ وَنَهَى عَنْهُ فَالْحُكْم بِبُطْلَانِ مَا حَرَّمَهُ وَمَنَعَ مِنْهُ أَدْنَى إِلَى تَحْصِيل هَذَا الْمَطْلُوب وَأَقْرَب بِخِلَافِ مَا إِذَا صَحَّحَ فَإِنَّهُ يَثْبُت لَهُ حُكْم الْوُجُود
قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِذَا صُحِّحَ اِسْتَوَى هُوَ وَالْحَلَال فِي الْحُكْم الشَّرْعِيّ وَهُوَ الصِّحَّة
وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي مُوجِب ذَلِكَ مِنْ الْإِثْم وَالذَّمّ وَمَعْلُوم أَنَّ الْحَلَال الْمَأْذُون فِيهِ لَا يُسَاوِي الْمُحَرَّم الْمَمْنُوع مِنْهُ الْبَتَّة
قَالُوا وَأَيْضًا فَإِنَّمَا حَرَّمَ لِئَلَّا يَنْفُذ وَلَا يَصِحّ فَإِذَا نَفَذَ وَصَحَّ وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْم الصَّحِيح كَانَ ذَلِكَ عَائِدًا عَلَى مُقْتَضَى النَّهْي بِالْإِبْطَالِ
قَالُوا وَأَيْضًا فَالشَّارِع إِنَّمَا حَرَّمَهُ وَنَهَى عَنْهُ لِأَجْلِ الْمَفْسَدَة الَّتِي تَنْشَأ مِنْ وُقُوعه فَإِنَّ مَا نَهَى عَنْهُ الشَّرْع وَحَرَّمَهُ لَا يَكُون قَطُّ إِلَّا مُشْتَمِلًا عَنْ مَفْسَدَة خَالِصَة أَوْ رَاجِحَة فَنَهَى عَنْهُ قَصْدًا لِإِعْدَامِ تَلِك الْمَفْسَدَة
فَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّتِهِ وَنُفُوذه لَكَانَ ذَلِكَ تَحْصِيلًا لِلْمَفْسَدَةِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِع إِعْدَامهَا وَإِثْبَاتًا لَهَا(6/167)
كُلُّهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ) أَيْ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ونافع أثبت عن بن عُمَرَ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَالْأَثْبَتُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِهِ إِذَا خَالَفَهُ
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ حَدِيثُ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ أَثْبَتُ مِنْ هَذَا
وَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ لَمْ يَرْوِ أَبُو الزُّبَيْرِ حَدِيثًا أَنْكَرَ مِنْ هَذَا
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ وَلَمْ يَقُلْهُ عَنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي الزُّبَيْرِ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ جُلَّةٌ فَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ
وأبو الزبير ليس بحجة في من
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالُوا وَأَيْضًا فَالْعَقْد الصَّحِيح هُوَ الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَثَره وَيَحْصُل مِنْهُ مَقْصُوده
وَهَذَا إِنَّمَا يَكُون فِي الْعُقُود الَّتِي أَذِنَ فِيهَا الشَّارِع وَجَعَلَهَا أَسْبَابًا لِتَرَتُّبِ آثَارهَا عَلَيْهَا فَمَا لَمْ يَأْذَن فِيهِ وَلَمْ يَشْرَعهُ كَيْف يَكُون سَبَبًا لِتَرَتُّبِ آثَاره عَلَيْهِ وَيُجْعَل كَالْمَشْرُوعِ الْمَأْذُون فِيهِ
قَالُوا وَأَيْضًا فَالشَّارِع إِنَّمَا جَعَلَ لِلْمُكَلَّفِ مُبَاشَرَة الْأَسْبَاب فَقَطْ وَأَمَّا أَحْكَامهَا الْمُتَرَتِّبَة عَلَيْهَا فَلَيْسَتْ إِلَى الْمُكَلَّف وَإِنَّمَا هِيَ إِلَى الشَّارِع فَهُوَ قد نصب الأسباب جعلها مُقْتَضَيَات لِأَحْكَامِهَا وَجَعَلَ السَّبَب مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ فَإِذَا بَاشَرَهُ رَتَّبَ عَلَيْهِ الشَّارِع أَحْكَامه
فَإِذَا كَانَ السَّبَب مُحَرَّمًا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ وَلَمْ يَنْصِبهُ الشَّارِع مُقْتَضِيًا لِآثَارِ السَّبَب الْمَأْذُون فِيهِ وَالْحُكْم لَيْسَ إِلَى الْمُكَلَّف حَتَّى يَكُون إِيقَاعه إِلَيْهِ غَيْر مَأْذُون فِيهِ وَلَا نَصَبَهُ الشَّارِع لِتَرَتُّبِ الْآثَار عَلَيْهِ فَتَرْتِيبهَا عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ عَلَى السَّبَب الْمُبَاح الْمَأْذُون فِيهِ وَهُوَ قِيَاس فِي غَايَة الْفَسَاد إِذْ هُوَ قِيَاس أَحَد النَّقِيضَيْنِ عَلَى الْآخَر فِي التَّسْوِيَة بَيْنهمَا فِي الْحُكْم وَلَا يَخْفَى فَسَاده
قَالُوا وَأَيْضًا فَصِحَّة الْعَقْد هُوَ عِبَارَة عَنْ تَرَتُّب أَثَره الْمَقْصُود لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ وَهَذَا التَّرَتُّب نِعْمَة مِنْ الشَّارِع أَنْعَمَ بِهَا عَلَى الْعَبْد وَجَعَلَ لَهُ طَرِيقًا إِلَى حُصُولهَا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَاب الَّتِي أَذِنَ لَهُ فِيهَا فَإِذَا كَانَ السَّبَب مُحَرَّمًا مَنْهِيًّا عَنْهُ كَانَتْ مُبَاشَرَته مَعْصِيَة فَكَيْف تَكُون الْمَعْصِيَة سَبَبًا لِتَرَتُّبِ النِّعْمَة الَّتِي قَصَدَ الْمُكَلَّف حُصُولهَا قَالُوا وَقَدْ عَلَّلَ مَنْ أَوْقَعَ الطَّلَاق وَأَوْجَبَ الرَّجْعَة إِيجَاب الرَّجْعَة بِهَذِهِ الْعِلَّة بِعَيْنِهَا وَقَالُوا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الرَّجْعَة مُعَامَلَة لَهُ بِنَقِيضِ قَصْده فَإِنَّهُ اِرْتَكَبَ أَمْرًا مُحَرَّمًا يَقْصِد بِهِ الْخَلَاص مِنْ الزَّوْجَة فَعُومِلَ بِنَقِيضِ قَصْده فَأَمَرَ بِرَجْعَتِهَا
قَالُوا فَمَا جَعَلْتُمُوهُ أَنْتُمْ عِلَّة لِإِيجَابِ الرَّجْعَة فَهُوَ بِعَيْنِهِ عِلَّة لِعَدَمِ وُقُوع الطَّلَاق الَّذِي قَصَدَهُ الْمُكَلَّف بِارْتِكَابِهِ مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ
وَلَا رَيْب أَنَّ دَفْع وُقُوع الطَّلَاق أَسْهَل مِنْ دَفْعه بِالرَّجْعَةِ فَإِذَا اِقْتَضَتْ هَذِهِ الْعِلَّة دَفْع أَثَر الطَّلَاق بِالرَّجْعَةِ فَلِأَنْ تَقْتَضِي دَفْع وُقُوعه أَوْلَى وَأَحْرَى
قَالُوا وَأَيْضًا فَلِلَّهِ تَعَالَى فِي الطَّلَاق الْمُبَاح حُكْمَانِ أَحَدهمَا إِبَاحَته وَالْإِذْن فِيهِ وَالثَّانِي جَعْله سَبَبًا لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الزَّوْجَة
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الطَّلَاق مَأْذُونًا فِيهِ اِنْتَفَى الْحُكْم الْأَوَّل وَهُوَ الْإِبَاحَة فَمَا(6/168)
خَالَفَهُ فِيهِ مِثْلُهُ فَكَيْفَ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا بَاتًّا تَحْرُمُ مَعَهُ الْمُرَاجَعَةُ إِلَى آخِرِ مَا نَقَلْتُ كَلَامَ الْخَطَّابِيِّ تَحْتَ قَوْلِهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الْمُوجِب لِبَقَاءِ الْحُكْم الثَّانِي وَقَدْ اِرْتَفَعَ سَبَبه
وَمَعْلُوم أَنَّ بَقَاء الْحُكْم بِدُونِ سَبَبه مُمْتَنِع وَلَا تَصِحّ دَعْوَى أَنَّ الطَّلَاق الْمُحَرَّم سَبَب لِمَا تَقَدَّمَ قَالُوا وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي لَفْظ الشَّارِع يَصِحّ كَذَا وَلَا يَصِحّ وَإِنَّمَا يُسْتَفَاد ذَلِكَ مِنْ إِطْلَاقه وَمَنْعه فَمَا أَطْلَقَهُ وَأَبَاحَهُ فباشره المكلف حكم بصحته بمعى أَنَّهُ وَافَقَ أَمْر الشَّارِع
فَصَحَّ وَمَا لَمْ يَأْذَن فِيهِ وَلَمْ يُطْلِقهُ فَبَاشَرَهُ الْمُكَلَّف حُكِمَ بِعَدَمِ صِحَّته بِمَعْنَى أَنَّهُ خَالَفَ أَمْر الشَّارِع وَحُكْمه
وَلَيْسَ مَعَنَا مَا يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى الصِّحَّة وَالْفَسَاد إِلَّا مُوَافَقَة الْأَمْر وَالْإِذْن وَعَدَم مُوَافَقَتهمَا
فَإِنْ حَكَمْتُمْ بِالصِّحَّةِ مَعَ مُخَالَفَة أَمْر الشَّارِع وَإِبَاحَته لَمْ يَبْقَ طَرِيق إِلَى مَعْرِفَة الصَّحِيح مِنْ الْفَاسِد إِذْ لَمْ يَأْتِ مِنْ الشَّرْع إِخْبَار بِأَنَّ هَذَا صَحِيح وَهَذَا فَاسِد غَيْر الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم فَإِذَا جَوَّزْتُمْ ثُبُوت الصِّحَّة مَعَ التَّحْرِيم فَبِأَيِّ شَيْء تَسْتَدِلُّونَ بَعْد ذَلِكَ عَلَى فَسَاد الْعَقْد وَبُطْلَانه
قَالُوا وَأَيْضًا فَإِنَّ النبي قَالَ كُلّ عَمَل لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرنَا فَهُوَ رَدٌّ وَفِي لَفْظ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرنَا فَهُوَ رَدٌّ وَالرَّدّ فِعْل بِمَعْنَى الْمَفْعُول أَيْ فَهُوَ مَرْدُود وَعَبَّرَ عَنْ الْمَفْعُول بِالْمَصْدَرِ مُبَالَغَة حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْس الرَّدّ وَهَذَا تَصْرِيح بِإِبْطَالِ كُلّ عَمَل عَلَى خِلَاف أَمْره وَرَدّه وَعَدَم اِعْتِبَاره فِي حُكْمه الْمَقْبُول وَمَعْلُوم أَنَّ الْمَرْدُود هُوَ الْبَاطِل بِعَيْنِهِ بَلْ كَوْنه رَدًّا أَبْلَغَ مِنْ كَوْنه بَاطِلًا إِذْ الْبَاطِل قَدْ يُقَال لِمَا لَا تَقَع فِيهِ أَوْ لِمَا مَنْفَعَته قَلِيلَة جِدًّا وَقَدْ يُقَال لِمَا يُنْتَفَع بِهِ ثُمَّ يَبْطُل نَفْعه وَأُمًّا الْمَرْدُود فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجْعَلهُ شَيْئًا وَلَمْ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ مَقْصُوده أَصْلًا
قَالُوا فَالْمُطَلِّق فِي الْحَيْض قَدْ طَلَّقَ طَلَاقًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْر الشَّارِع فَيَكُون مَرْدُودًا فَلَوْ صَحَّ وَلَزِمَ لَكَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ وَهُوَ خِلَاف النَّصّ
قَالُوا وَأَيْضًا فَالشَّارِع أَبَاحَ لِلْمُكَلَّفِ مِنْ الطَّلَاق قَدْرًا مَعْلُومًا فِي زَمَن مَخْصُوص وَلَمْ يُمَلِّكهُ أَنْ يَتَعَدَّى الْقَدْر الَّذِي حَدَّ لَهُ وَلَا الزَّمَن الَّذِي عَيَّنَ لَهُ فَإِذَا تَعَدَّى مَا حَدَّ لَهُ مِنْ الْعَدَد كَانَ لَغْوًا بَاطِلًا فَكَذَلِكَ إِذَا تَعَدَّى مَا حَدَّ لَهُ مِنْ الزَّمَان يَكُون لَغْوًا بَاطِلًا فَكَيْفَ يَكُون عِدْوَانه فِي الْوَقْت صَحِيحًا مُعْتَبَرًا لَازِمًا وَعِدْوَانه أَنَّهُ فِي الْعَدَد لَغْوًا بَاطِلًا قَالُوا وَهَذَا كَمَا أَنَّ الشَّارِع حَدَّ لَهُ عَدَدًا مِنْ النِّسَاء مُعَيَّنًا فِي وَقْت مُعَيَّن فَلَوْ تَعَدَّى مَا حَدَّ لَهُ مِنْ الْعَدَد كَانَ لَغْوًا وَبَاطِلًا
وَكَذَلِكَ لَوْ تَعَدَّى مَا حَدَّ لَهُ مِنْ الْوَقْت بِأَنْ يَنْكِحهَا قَبْل اِنْقِضَاء الْعِدَّة مَثَلًا أَوْ فِي وَقْت الْإِحْرَام فَإِنَّهُ يَكُون لَغْوًا بَاطِلًا
فَقَدْ شَمَلَ الْبُطْلَان نَوْعَيْ التَّعَدِّي عَدَدًا أَوْ وَقْتًا
قَالُوا وَأَيْضًا فَالصِّحَّة إِمَّا أَنْ تُفَسَّر بِمُوَافَقَةِ أَمْر الشَّارِع وَإِمَّا أَنْ تُفَسَّر بِتَرَتُّبِ أَثَر الْفِعْل عَلَيْهِ فَإِنْ فُسِّرَتْ بِالْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ تَصْحِيح هَذَا الطَّلَاق مُمْكِنًا وَإِنْ فُسِّرَتْ بِالثَّانِي وَجَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُون الْعَقْد(6/169)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الْمُحَرَّم صَحِيحًا لِأَنَّ تَرَتُّب الثَّمَرَة عَلَى الْعَقْد إِنَّمَا هُوَ بِجَعْلِ الشَّارِع الْعَقْد كَذَلِكَ وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَر الْعَقْد الْمُحَرَّم وَلَمْ يَجْعَلهُ مُثْمِرًا لِمَقْصُودِهِ كَمَا مَرَّ تَقْدِيره
قَالُوا وَأَيْضًا فَوُصِفَ الْعَقْد الْمُحَرَّم بِالصِّحَّةِ مَعَ كَوْنه مُنْشِئًا لِلْمَفْسَدَةِ وَمُشْتَمِلًا عَلَى الْوَصْف الْمُقْتَضِي لِتَحْرِيمِهِ وَفَسَاده جَمَعَ بَيْن النَّقِيضَيْنِ فَإِنَّ الصِّحَّة إِنَّمَا تَنْشَأ عَنْ الْمَصْلَحَة وَالْعَقْد الْمُحَرَّم لَا مَصْلَحَة فِيهِ
بل هو منشأ لِمَفْسَدَةٍ خَالِصَة أَوْ رَاجِحَة
فَكَيْف تَنْشَأ الصِّحَّة من شيء هو منشأ الْمَفْسَدَة
قَالُوا وَأَيْضًا فَوَصْف الْعَقْد الْمُحَرَّم بِالصِّحَّةِ إِمَّا أَنْ يُعْلَم بِنَصٍّ مِنْ الشَّارِع أَوْ مِنْ قِيَاسه أَوْ مِنْ تَوَارُد عُرْفه فِي محال حُكْمه بِالصِّحَّةِ أَوْ مِنْ إِجْمَاع الْأُمَّة
وَلَا يُمْكِن إِثْبَات شَيْء مِنْ ذَلِكَ فِي مَحَلّ النِّزَاع بَلْ نُصُوص الشَّرْع تَقْتَضِي رَدَّهُ وَبُطْلَانه كَمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ قِيَاس الشَّرِيعَة كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَكَذَلِكَ اِسْتِقْرَاء مَوَارِد عُرْف الشَّرْع فِي مَجَال الْحُكْم بِالصِّحَّةِ إِنَّمَا يَقْتَضِي الْبُطْلَان فِي الْعَقْد الْمُحَرَّم لَا الصِّحَّة وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاع فَإِنَّ الْأُمَّة لَمْ تُجْمِع قَطّ وَلِلَّهِ الْحَمْد عَلَى صِحَّة شَيْء حَرَّمَهُ اللَّه وَرَسُوله لَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَلَا فِي غَيْرهَا فَالْحُكْم بِالصِّحَّةِ فِيهَا إِلَى أَيّ دَلِيل يَسْتَنِد
قَالُوا وَأَمَّا قَوْل النبي مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا فَهَذَا حُجَّة لَنَا عَلَى عَدَم الْوُقُوع لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَهَا
وَالرَّجُل مِنْ عَادَته إِذَا طَلَّقَ اِمْرَأَته أَنْ يُخْرِجهَا عَنْهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُرَاجِعهَا وَيُمْسِكهَا فَإِنَّ هَذَا الطَّلَاق الَّذِي أَوْقَعَهُ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ شَرْعًا وَلَا تَخْرُج الْمَرْأَة عن الزوجية بسببه فهو كقوله لِبَشِيرِ بْن سَعْد فِي قِصَّة نَحْله اِبْنه النُّعْمَان غُلَامًا رُدَّهُ
وَلَا يَدُلّ أَمْره إِيَّاهُ بِرَدِّهِ عَلَى أَنَّ الْوَلَد قَدْ مَلَكَ الْغُلَام وَأَنَّ الرَّدّ إِنَّمَا يَكُون بَعْد الْمِلْك فَكَذَلِكَ أَمْره بِرَدِّ الْمَرْأَة وَرَجْعَتهَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُون إِلَّا بَعْد نُفُوذ الطَّلَاق بل لما ظن بن عُمَر جَوَاز هَذَا الطَّلَاق فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ قَاصِدًا لوقوعه رد إليه النبي اِمْرَأَته وَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدّهَا وَرَدُّ الشَّيْء إِلَى مِلْك مَنْ أَخْرَجَهُ لَا يَسْتَلْزِم خُرُوجه عَنْ مِلْكه شَرْعًا كَمَا تُرَدّ الْعَيْن الْمَغْصُوبَة إِلَى مَالِكهَا وَيُقَال لِلْغَاصِبِ رُدَّهَا إِلَيْهِ وَلَا يَدُلّ ذَلِكَ عَلَى زَوَال مِلْك صَاحِبهَا عَنْهَا وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ رُدَّ عَلَى فُلَان ضَالَّته وَلَمَّا بَاعَ عَلَى أَحَد الْغُلَامَيْنِ الْأَخَوَيْنِ قَالَ لَهُ النبي رُدَّهُ رُدَّهُ وَهَذَا أَمْر بِالرَّدِّ حَقِيقَة
قَالُوا فَقَدْ وَفَّيْنَا اللَّفْظ حَقِيقَته الَّتِي وُضِعَ لَهَا
قالوا وأيضا فقد صرح بن عمر أن النبي رَدَّهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا وَتَعَلُّقكُمْ عَلَى أَبِي الزُّبَيْر مِمَّا لَا مُتَعَلِّق فِيهِ فَإِنَّ أَبَا الزُّبَيْر إِنَّمَا يَخَاف مِنْ تَدْلِيسه وَقَدْ صَرَّحَ هَذَا بِالسَّمَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِمُرَاجَعَتِهَا لَا يَسْتَلْزِم نُفُوذ الطَّلَاق
قالوا والذي يدل عليه أن بن عُمَر قَالَ فِي الرَّجُل(6/170)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
يُطَلِّق اِمْرَأَته وَهِيَ حَائِض لَا يُعْتَدّ بِذَلِكَ ذَكَرَهُ الْإِشْبِيلِيّ فِي الْأَحْكَام مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن عَبْد السَّلَام الْخُشَنِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار حَدَّثَنَا عَبْد الْوَهَّاب بْن عَبْد الْمَجِيد الثَّقَفِيّ حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر عن نافع عن بن عُمَر أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُل يُطَلِّق اِمْرَأَته وهي حائض قال بن عمر لا يعتد بذلك وذكره بن حَزْم فِي كِتَاب الْمُحَلَّى بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيق الْخُشَنِيِّ
وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح
قَالُوا وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنه بِإِسْنَادٍ شِيعِيّ عَنْ أَبِي الزبير قال سألت بن عُمَر عَنْ رَجُل طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا وَهِيَ حَائِض فَقَالَ لِي أَتَعْرِفُ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قُلْت نَعَمْ قَالَ طَلَّقْت اِمْرَأَتِي ثَلَاثًا على عهد النبي فَرَدَّهَا رَسُول اللَّه إِلَى السُّنَّة قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ كُلّهمْ شِيعَة وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا
وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيث بَاطِل قَطْعًا وَلَا تَحْتَجّ بِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ لِلتَّعْرِيفِ بِحَالِهِ وَلَوْ كَانَ إِسْنَاده ثِقَات لَكَانَ غَلَطًا فَإِنَّ الْمَعْرُوف مِنْ رِوَايَة الأثبات عن بن عُمَر أَنَّهُ إِنَّمَا طَلَّقَ تَطْلِيقَة وَاحِدَة كَمَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي الصَّحِيح مِنْ حَدِيث يُونُس بْن جُبَيْر وَلَكِنْ لَوْ حَاكَمْنَا مُنَازِعِينَا إِلَى مَا يُقِرُّونَ بِهِ مِنْ أَنَّ رِوَايَة أَهْل الْبِدَع مَقْبُولَة فَكَمْ فِي الصَّحِيح مِنْ رِوَايَة الشِّيعَة الْغُلَاة وَالْقَدَرِيَّة وَالْخَوَارِج وَالْمُرْجِئَة وَغَيْرهمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ الطَّعْن فِي هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّ رُوَاته شِيعَة إِذْ مُجَرَّد كَوْنهمْ شِيعَة لَا يُوجِب رَدَّ حَدِيثهمْ
وَبَعْد فَفِي مُعَارَضَته بِحَدِيثِ يُونُس بْن جُبَيْر أَنَّهُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَة كَلَام لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الثَّلَاث وَاحِدَة قَالَ هِيَ ثَلَاث فِي اللَّفْظ وَهِيَ وَاحِدَة فِي الْحُكْم عَلَى مَا فِي حَدِيث أبي الصهباء عن بن عَبَّاس
وَاَللَّه أَعْلَم
قَالُوا وَأَمَّا قَوْلكُمْ إِنَّ نافعا أثبت في بن عُمَر وَأَوْلَى بِهِ مِنْ أَبِي الزُّبَيْر وَأَخَصّ فَرِوَايَته أَوْلَى أَنْ نَأْخُذ بِهَا فَهَذَا إِنَّمَا يُحْتَاج إِلَيْهِ عِنْد التَّعَارُض فَكَيْفَ وَلَا تَعَارُض بَيْنهمَا فَإِنَّ رِوَايَة أَبِي الزُّبَيْر صَرِيحَة فِي أَنَّهَا لَمْ تُحْسَب عَلَيْهِ وَأَمَّا نَافِع فَرِوَايَاته لَيْسَ فِيهَا شَيْء صَرِيح قَطّ أَنَّ النَّبِيّ حَسِبَهَا عَلَيْهِ بَلْ مَرَّة قَالَ فَمَهْ أَيْ فَمَا يَكُون وَهَذَا لَيْسَ بِإِخْبَارٍ عَنْ النَّبِيّ أَنَّهُ حَسِبَهَا وَمَرَّة قَالَ أَرَأَيْت إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَهَذَا رَأْي مَحْض وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ رَكِبَ خُطَّة عَجْز وَاسْتَحْمَقَ أَيْ رَكِبَ أُحْمُوقَة وَجَهَالَة فَطَلَّقَ فِي زَمَن لَمْ يُؤْذَن لَهُ فِي الطَّلَاق فِيهِ وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْد بن عمر أنه حَسِبَهَا عَلَيْهِ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُول لِلسَّائِلِ أَرَأَيْت إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَى وُقُوع الطَّلَاق فَإِنَّ مَنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ يُرَدّ إِلَى الْعِلْم وَالسُّنَّة الَّتِي سَنَّهَا رسول الله فَكَيْف يُظَنّ بِابْنِ عُمَر أَنَّهُ يَكْتُم نَصًّا عن رسول الله فِي الِاعْتِدَاد بِتِلْكَ الطَّلْقَة ثُمَّ يُحْتَجّ بِقَوْلِهِ أَرَأَيْت إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ وَقَدْ سَأَلَهُ مَرَّة رَجُل عَنْ شَيْء فَأَجَابَهُ بِالنَّصِّ فَقَالَ السَّائِل أَرَأَيْت إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا قَالَ اِجْعَلْ أَرَأَيْت بِالْيَمَنِ وَمَرَّة قَالَ تُحْسَب مِنْ طَلَاقهَا وهذا قول نافع ليس قول بن عُمَر كَذَلِكَ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ عَبْد اللَّه لِنَافِعٍ مَا فَعَلَتْ التَّطْلِيقَة قَالَ وَاحِدَة أَعْتَدّ بِهَا وَفِي بَعْض أَلْفَاظه فَحُسِبَتْ تَطْلِيقَة وَفِي لَفْظ للبخاري عن سعيد بن جبير عن بن عُمَر فَحُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ وَلَكِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة اِنْفَرَدَ بِهَا سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْهُ وَخَالَفَ نَافِع وَأَنَس بْن سِيرِينَ وَيُونُس بْن جُبَيْر وسائر الرواة عن بن عمر فلم يذكروا فحسبت علي وانفراد بن جُبَيْر بِهَا كَانْفِرَادِ أَبِي الزُّبَيْر(6/171)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا فَإِنْ تَسَاقَطَتْ الرِّوَايَتَانِ لَمْ يَكُنْ فِي سَائِر الْأَلْفَاظ دَلِيل عَلَى الْوُقُوع وَإِنْ رُجِّحَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَرِوَايَة أَبِي الزُّبَيْر صَرِيحَة فِي الرَّفْع وَرِوَايَة سَعِيد بْن جُبَيْر غَيْر صَرِيحَة فِي الرَّفْع فَإِنَّهُ لم يذكر فاعل الحساب فلعل أباه رضي الله عنه حسبها عليه بعد موت النبي فِي الْوَقْت الَّذِي أَلْزَمَ النَّاس فِيهِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاث وَحَسِبَهُ عَلَيْهِمْ اِجْتِهَادًا مِنْهُ وَمَصْلَحَة رَآهَا لِلْأُمَّةِ لِئَلَّا يَتَتَابَعُوا فِي الطَّلَاق الْمُحَرَّم فَإِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ يَلْزَمهُمْ وَيَنْفُذ عَلَيْهِمْ أَمْسَكُوا عَنْهُ وقد كان في زمن النبي لَا يَحْتَسِب عَلَيْهِمْ بِهِ ثَلَاثًا فِي لَفْظ وَاحِد فَلَمَّا رَأَى عُمَر النَّاس قَدْ أَكْثَرُوا مِنْهُ رَأَى إِلْزَامهمْ بِهِ وَالِاحْتِسَاب عَلَيْهِمْ بِهِ
قَالُوا وَبِهَذَا تَأْتَلِف الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب وَيَتَبَيَّن وَجْههَا وَيَزُول عَنْهَا التَّنَاقُض وَالِاضْطِرَاب وَيُسْتَغْنَى عَنْ تَكَلُّف التَّأْوِيلَات الْمُسْتَكْرَهَة لَهَا وَيَتَبَيَّن مُوَافَقَتهَا لِقَوَاعِد الشَّرْع وَأُصُوله
قَالُوا وَهَذَا الظَّنّ بِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا اِحْتَسَبَ عَلَى النَّاس بِالطَّلَاقِ الثَّلَاث اِحْتَسَبَ عَلَى اِبْنه بِتَطْلِيقَتِهِ الَّتِي طَلَّقَهَا فِي الْحَيْض وَكَوْن النَّبِيّ لَمْ يَرَهَا شَيْئًا مِثْل كَوْن الطَّلَاق الثَّلَاث عَلَى عَهْده كَانَ وَاحِدَة
وَإِلْزَام عُمَر النَّاس بِذَلِكَ كَإِلْزَامِهِ لَهُ بِهَذَا وَأَدَّاهُ اِجْتِهَاده رَضِيَ اللَّه عَنْهُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ تَخْفِيفًا وَرِفْقًا بِالْأُمَّةِ لِعِلَّةِ إِيقَاعهمْ الطَّلَاق وَعَدَم تَتَابُعهمْ فِيهِ فَلَمَّا أَكْثَرُوا مِنْهُ وَتَتَابَعُوا فِيهِ أَلْزَمَهُمْ بِمَا اِلْتَزَمُوهُ وَهَذَا كَمَا أَدَّاهُ اِجْتِهَاده فِي الْجَلْد فِي الْخَمْر ثَمَانِينَ وَحَلْق الرَّأْس فِيهِ والنفي والنبي إِنَّمَا جَلَدَ فِيهِ أَرْبَعِينَ وَلَمْ يَحْلِق فِيهِ رَأْسًا وَلَمْ يُغَرِّب فَلَمَّا رَأَى النَّاس قَدْ أَكْثَرُوا مِنْهُ وَاسْتَهَانُوا بِالْأَرْبَعِينَ ضَاعَفَهَا عَلَيْهِمْ وَحَلَقَ وَنَفَى
وَلِهَذَا نَظَائِر كَثِيرَة سَتُذْكَرُ فِي مَوْضِع آخَر إِنْ شَاءَ اللَّه
قَالُوا وَتَوَهَّمَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّا خَالَفْنَا الْإِجْمَاع فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة غَلَط فَإِنَّ الْخِلَاف فِيهَا أَشْهَر مِنْ أَنْ يُجْحَد وَأَظْهَر مِنْ أَنْ يُسْتَر
وَإِذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَة مِنْ مَوَارِد النِّزَاع فَالْوَاجِب فِيهَا اِمْتِثَال مَا أَمَرَ اللَّه بِهِ وَرَسُوله مِنْ رَدِّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاء إِلَى اللَّه وَرَسُوله وَتَحْكِيم اللَّه وَرَسُوله دُون تَحْكِيم أَحَد مِنْ الْخَلْق قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّه وَالرَّسُول إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر ذَلِكَ خَيْر وَأَحْسَن تَأْوِيلًا}
فَهَذِهِ بَعْض كَلِمَات الْمَانِعِينَ مِنْ الْوُقُوع
وَلَوْ اِسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِي الْمَسْأَلَة لَاحْتَمَلَتْ سَفَرًا كَبِيرًا فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى فَوَائِد الْحَدِيث
قَالَ الْمُوَقِّعُونَ
وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الرَّجْعَة يَسْتَقِلّ بِهَا الزَّوْج دُون الْوَلِيّ وَرِضَا الْمَرْأَة لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ دُون غَيْره وَدَلَالَة الْقُرْآن عَلَى هَذَا أَظْهَر مِنْ هَذِهِ الدَّلَالَة
قَالَ تَعَالَى {وَبُعُولَتهنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} فَجَعَلَ الْأَزْوَاج أَحَقَّ بِالرَّجْعَةِ مِنْ الْمَرْأَة وَالْوَلِيّ
وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْله مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا هَلْ الْأَمْر بِالرَّجْعَةِ عَلَى الْوُجُوب أَوْ الِاسْتِحْبَاب فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالْأَوْزَاعِيُّ وبن أَبِي لَيْلَى وَسُفْيَان الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ أَشْهَرهمَا عَنْهُ الْأَمْر بِالرَّجْعَةِ اِسْتِحْبَاب
قَالَ بَعْضهمْ لِأَنَّ اِبْتِدَاء النِّكَاح إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَاسْتِدَامَته كَذَلِكَ وَقَالَ مَالِك فِي الْأَشْهَر عَنْهُ وَدَاوُد وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى الرَّجْعَة وَاجِبَة الْأَمْر بِهَا وَلِأَنَّ الطَّلَاق لَمَّا كَانَ مُحَرَّمًا فِي هَذَا الزَّمَن كَانَ بَقَاء النِّكَاح وَاسْتِدَامَته فِيهِ وَاجِبًا وَبِهَذَا يَبْطُل قَوْلهمْ إِذَا لَمْ يَجِب اِبْتِدَاء النِّكَاح لَمْ تَجِب اِسْتِدَامَته فَإِنَّ الِاسْتِدَامَة هَا هُنَا وَاجِبَة لِأَجْلِ الْوَقْت فَإِنَّهُ لَا يَجُوز فِيهِ الطَّلَاق
قَالُوا وَلِأَنَّ الرَّجْعَة إِمْسَاك بِدَلِيلِ قَوْله {الطَّلَاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاك بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيح بِإِحْسَانٍ} فَالْإِمْسَاك مُرَاجَعَتهَا فِي الْعِدَّة وَالتَّسْرِيح تَرْكهَا حَتَّى(6/172)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
تَنْقَضِي عِدَّتهَا
وَإِذَا كَانَتْ الرَّجْعَة إِمْسَاكًا فَلَا رَيْب فِي وُجُوب إِمْسَاكهَا فِي زَمَن الْحَيْض وَتَحْرِيم طَلَاقهَا فَتَكُون وَاجِبَة
ثُمَّ اِخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ لِلرَّجْعَةِ فِي عِلَّة ذَلِكَ فَقَالَتْ طَائِفَة
إِنَّمَا أَمَرَهُ بِرَجْعَتِهَا لِيَقَع الطَّلَاق الَّذِي أَرَادَهُ فِي زَمَن الْإِبَاحَة وَهُوَ الطُّهْر الَّذِي لَمْ يَمَسّهَا فِيهِ فَلَوْ لَمْ يَرْتَجِعهَا لَكَانَ الطَّلَاق الَّذِي تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ الْأَحْكَام هُوَ الطَّلَاق الْمُحَرَّم وَالشَّارِع لَا يُرَتِّب الْأَحْكَام عَلَى طَلَاق مُحَرَّم فَأَمَرَ بِرَجْعَتِهَا لِيُطَلِّقهَا طَلَاقًا مُبَاحًا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام الطَّلَاق
وَقَالَتْ طَائِفَة بَلْ أَمَرَهُ بِرَجْعَتِهَا عُقُوبَة لَهُ عَلَى طَلَاقهَا فِي زَمَن الْحَيْض فَعَاقَبَهُ بِنَقِيضِ قَصْده وَأَمَرَهُ بِارْتِجَاعِهَا عَكْس مَقْصُوده
وَقَالَتْ طَائِفَة بَلْ الْعِلَّة فِي ذَلِكَ أَنَّ تَحْرِيم الطَّلَاق فِي زَمَن الْحَيْض مُعَلَّل بِتَطْوِيلِ الْعِدَّة فَأَمَرَهُ بِرَجْعَتِهَا لِيَزُولَ الْمَعْنَى الَّذِي حَرُمَ الطَّلَاق فِي الْحَيْض لِأَجْلِهِ
وَقَالَ بَعْض الْمُوجِبِينَ إِنَّ أَبَى رَجْعَتهَا أُجْبِرَ عَلَيْهَا
فَإِنْ اِمْتَنَعَ ضُرِبَ وَحُبِسَ فَإِنْ أَصَرَّ حُكِمَ عَلَيْهِ بِرَجْعَتِهَا وَأَشْهَدَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا عَلَيْهِ فَتَكُون اِمْرَأَته يَتَوَارَثَانِ وَيَلْزَمهُ جَمِيع حُقُوقهَا حَتَّى يُفَارِقهَا فِرَاقًا ثَانِيًا قَالَهُ أَصْبَغُ وَغَيْره مِنْ الْمَالِكِيَّة
ثُمَّ اِخْتَلَفُوا
فَقَالَ مَالِك يُجْبَر عَلَى الرَّجْعَة إِنْ طَهُرَتْ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّة لِأَنَّهُ وَقْت لِلرَّجْعَةِ
وَقَالَ أَشْهَب إِذَا طَهُرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ لَمْ تَجِب رَجْعَتهَا فِي هَذِهِ الْحَال وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّة لِأَنَّهُ لَا يَجِب عَلَيْهِ إِمْسَاكهَا فِي هَذِهِ الْحَال لِجَوَازِ طَلَاقهَا فِيهِ فَلَا يَجِب عَلَيْهِ رَجْعَتهَا فِيهِ إِذْ لَوْ وَجَبَتْ الرَّجْعَة فِي هَذَا الْوَقْت لَحَرُمَ الطلاق فيه
وقوله حَتَّى تَطْهُر ثُمَّ تَحِيض ثُمَّ تَطْهُر ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْد ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ طلق قال البيهقي أكثر الروايات عن بن عمر أن النبي أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعهَا حَتَّى تَطْهُر ثُمَّ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ فَإِنْ كَانَتْ الرواية عن سالم ونافع وبن دِينَار فِي أَمْره بِأَنْ يُرَاجِعهَا حَتَّى تَطْهُر ثُمَّ تَحِيض ثُمَّ تَطْهُر مَحْفُوظَة فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيّ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الِاسْتِبْرَاء أَنْ يَسْتَبْرِئهَا بَعْد الْحَيْضَة الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا بِطُهْرٍ تَامّ ثُمَّ حَيْض تَامّ لِيَكُونَ تَطْلِيقهَا وَهِيَ تَعْلَم عِدَّتهَا أَبِالْحَمْلِ هِيَ أَمْ بِالْحَيْضِ أَوْ لِيَكُونَ تَطْلِيقهَا بَعْد عِلْمه بِالْحَمْلِ وهو(6/173)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
غَيْر جَاهِل مَا صَنَعَ أَوْ يُرَغِّب فَيُمْسِك لِلْحَمْلِ أَوْ لِيَكُونَ إِنْ كَانَتْ سَأَلَتْ الطَّلَاق غَيْر حَامِل أَنْ تَكُفّ عَنْهُ حَامِلًا
آخِر كلامه
وأكثر الروايات في حديث بن عُمَر مُصَرِّحَة بِأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ فِي طَلَاقهَا بَعْد أَنْ تَطْهُر مِنْ تِلْكَ الْحَيْضَة ثُمَّ تَحِيض ثُمَّ تَطْهُر هَكَذَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَة نَافِع عَنْهُ وَمِنْ رِوَايَة اِبْنه سَالِم عَنْهُ
وَفِي لَفْظ مُتَّفَق عَلَيْهِ ثُمَّ يُمْسِكهَا حَتَّى تَطْهُر ثُمَّ تَحِيض عِنْده حَيْضَة أُخْرَى ثُمَّ يُمْهِلهَا حَتَّى تَطْهُر مِنْ حَيْضهَا وَفِي لَفْظ آخَر مُتَّفَق عَلَيْهِ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَحِيض حَيْضَة مُسْتَقْبَلَة سِوَى حَيْضَتهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا فَفِي تَعَدُّد الْحَيْض وَالطُّهْر ثَلَاثَة أَلْفَاظ مَحْفُوظَة مُتَّفَق عَلَيْهَا مِنْ رِوَايَة اِبْنه سَالِم وَمَوْلَاهُ نَافِع وَعَبْد اللَّه بْن دِينَار وَغَيْرهمْ وَاَلَّذِينَ زَادُوا قَدْ حَفِظُوا مَا لَمْ يَحْفَظهُ هَؤُلَاءِ
وَلَوْ قُدِّرَ التَّعَارُض فَالزَّائِدُونَ أَكْثَر وأثبت في بن عُمَر وَأَخَصُّ بِهِ فَرِوَايَاتهمْ أَوْلَى لِأَنَّ نَافِعًا مَوْلَاهُ أَعْلَم النَّاس بِحَدِيثِهِ وَسَالِم اِبْنه كَذَلِكَ وَعَبْد اللَّه بْن دِينَار مِنْ أَثْبَت النَّاس فِيهِ وَأَرْوَاهُمْ عَنْهُ فَكَيْف يُقَدَّم اِخْتِصَار أَبِي الزُّبَيْر وَيُونُس بْن جُبَيْر عَلَى هَؤُلَاءِ وَمِنْ الْعَجَب تَعْلِيل حَدِيث أَبِي الزُّبَيْر فِي رَدّهَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْر اِحْتِسَاب بِالطَّلْقَةِ بِمُخَالَفَةِ غَيْره لَهُ ثُمَّ تَقَدَّمَ رِوَايَته الَّتِي سَكَتَ فِيهَا عَنْ تَعَدُّد الْحَيْض وَالطُّهْر عَلَى رِوَايَة نَافِع وبن دِينَار وَسَالِم فَالصَّوَاب الَّذِي لَا يُشَكّ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَة ثَابِتَة مَحْفُوظَة وَلِذَلِكَ أَخْرَجَهَا أَصْحَاب الصَّحِيحَيْنِ
وَاخْتُلِفَ فِي جَوَاز طَلَاقهَا فِي الطُّهْر الْمُتَعَقِّب لِلْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَمَالِك أَشْهَرهمَا عِنْد أَصْحَاب مَالِك الْمَنْع حَتَّى تَحِيض حَيْضَة مُسْتَقْبَلَة سِوَى تَلِك الْحَيْضَة ثُمَّ تَطْهُر كَمَا أمر به النبي
وَالثَّانِي يَجُوز طَلَاقهَا فِي الطُّهْر الْمُتَعَقِّب لِتِلْكَ الْحَيْضَة وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى
وَوَجْهه أَنَّ التَّحْرِيم إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْحَيْض فَإِذَا طَهُرَتْ زَالَ مُوجِب التَّحْرِيم فَجَازَ طَلَاقهَا فِي هَذَا الطُّهْر كَمَا يَجُوز فِي الطُّهْر الَّذِي بَعْده وَكَمَا يَجُوز أَيْضًا طَلَاقهَا فِيهِ لَوْ لَمْ يَتَقَدَّم طَلَاق فِي الْحَيْض وَلِأَنَّ فِي بَعْض طُرُق حَدِيث بن عُمَر فِي الصَّحِيح ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا وَفِي لَفْظ ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْر جِمَاع فِي قُبُل عِدَّتهَا وَفِي لَفْظ فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا لِطُهْرِهَا قَالَ فَرَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لِطُهْرِهَا وَفِي حَدِيث أَبِي الزُّبَيْر وَقَالَ إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِك وَكُلّ هَذِهِ الْأَلْفَاظ فِي الصَّحِيح
وَأَمَّا أَصْحَاب الْقَوْل الثَّانِي فاحتجوا بما تقدم من أمره بِإِمْسَاكِهَا حَتَّى تَحِيض ثُمَّ تَطْهُر ثُمَّ تَحِيض ثُمَّ تَطْهُر
وَقَدْ تَقَدَّمَ
قَالُوا وَحِكْمَة ذَلِكَ من وجوه(6/174)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
أَحَدهَا أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا عَقِب تَلِك الْحَيْضَة كَانَ قَدْ رَاجَعَهَا لِيُطَلِّقهَا
وَهَذَا عَكْس مَقْصُود الرَّجْعَة فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانه إِنَّمَا شُرِعَ الرَّجْعَة لِإِمْسَاكِ الْمَرْأَة وَإِيوَائِهَا وَلَمّ شَعَث النِّكَاح وَقَطْع سَبَب الْفُرْقَة وَلِهَذَا سَمَّاهُ إِمْسَاكًا فَأَمَرَهُ الشَّارِع أَنْ يُمْسِكهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْر وَأَنْ لَا يُطَلِّق فِيهِ حَتَّى تَحِيض حَيْضَة أُخْرَى ثُمَّ تَطْهُر لِتَكُونَ الرَّجْعَة لِلْإِمْسَاكِ لَا لِلطَّلَاقِ
قَالُوا وَقَدْ أَكَّدَ الشَّارِع هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى إِنَّهُ أَمَرَ فِي بَعْض طُرُق هَذَا الْحَدِيث بِأَنْ يُمْسِكهَا فِي الطُّهْر الْمُتَعَقِّب لِتِلْكَ الْحَيْضَة فَإِذَا حَاضَتْ بَعْده وَطَهُرَتْ فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْل أَنْ يَمَسّهَا فَإِنَّهُ قَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا فَإِذَا طَهُرَتْ مَسَّهَا حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ أُخْرَى فَإِنْ شاء طلقها وإن شاء أمسكها ذكره بن عَبْد الْبَرّ وَقَالَ الرَّجْعَة لَا تَكَاد تُعْلَم صِحَّتهَا إِلَّا بِالْوَطْءِ لِأَنَّهُ الْمُبْتَغَى مِنْ النِّكَاح وَلَا يَحْصُل الْوَطْء إِلَّا فِي الطُّهْر فَإِذَا وَطِئَهَا حَرُمَ طَلَاقهَا فِيهِ حَتَّى تَحِيض
ثُمَّ تَطْهُر فَاعْتَبَرْنَا مَظِنَّة الْوَطْء وَمَحِلّه وَلَمْ يَجْعَلهُ مَحِلًّا لِلطَّلَاقِ
الثَّانِي أَنَّ الطَّلَاق حَرُمَ فِي الْحَيْض لِتَطْوِيلِ الْعِدَّة عَلَيْهَا فَلَوْ طَلَّقَهَا عَقِب الرَّجْعَة مِنْ غَيْر وَطْء لَمْ تَكُنْ قَدْ اِسْتَفَادَتْ بِالرَّجْعَةِ فَائِدَة فَإِنَّ تِلْكَ الْحَيْضَة الَّتِي طَلُقَتْ فِيهَا لَمْ تَكُنْ تُحْتَسَب عَلَيْهَا مِنْ الْعِدَّة وَإِنَّمَا تُسْتَقْبَل الْعِدَّة مِنْ الطُّهْر الَّذِي يَلِيهَا أَوْ مِنْ الْحَيْضَة الْأُخْرَى عَلَى الِاخْتِلَاف فِي الْأَقْرَاء فَإِذَا طَلَّقَهَا عَقِب تَلِك الْحَيْضَة كَانَتْ فِي مَعْنَى مِمَّنْ طَلُقَتْ ثُمَّ رَاجَعَهَا وَلَمْ يَمَسّهَا حَتَّى طَلَّقَهَا فَإِنَّهَا تُبْنَى عَلَى عِدَّتهَا فِي أَحَد الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْقَطِع بِوَطْءٍ فَالْمَعْنَى الْمَقْصُود إِعْدَامه مِنْ تَطْوِيل الْعِدَّة مَوْجُود بِعَيْنِهِ هُنَا لَمْ يَزَلْ بِطَلَاقِهَا عَقِب الحيضة فأراد رسول الله قَطْع حُكْم الطَّلَاق جُمْلَة بِالْوَطْءِ فَاعْتُبِرَ الطُّهْر الذي هو موضع الوطء فإذا وطىء حَرُمَ طَلَاقهَا حَتَّى تَحِيض ثُمَّ تَطْهُر
وَمِنْهَا أَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ حَامِلًا وَهُوَ لَا يَشْعُر فَإِنَّ الْحَامِل قَدْ تَرَى الدَّم بِلَا رَيْب وَهَلْ حُكْمه حُكْم الْحَيْض أَوْ دَم فَسَاد عَلَى الْخِلَاف فِيهِ فَأَرَادَ الشَّارِع أَنْ يَسْتَبْرِئهَا بَعْد تِلْكَ الْحَيْضَة بِطُهْرٍ تَامّ ثُمَّ بِحَيْضٍ تَامّ فَحِينَئِذٍ تَعْلَم هَلْ هِيَ حَامِل أَوْ حَائِل فَإِنَّهُ رُبَّمَا يُمْسِكهَا إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا حَامِل مِنْهُ وَرُبَّمَا تَكُفّ هِيَ عَنْ الرَّغْبَة فِي الطَّلَاق إِذَا عَلِمَتْ أَنَّهَا حَامِل وَرُبَّمَا يَزُول الشَّرّ الْمُوجِب لِلطَّلَاقِ بِظُهُورِ الْحَمْل فَأَرَادَ الشارع تحيق عِلْمهَا بِذَلِكَ نَظَرًا لِلزَّوْجَيْنِ وَمُرَاعَاة لِمَصْلَحَتِهِمَا وَحَسْمًا لِبَابِ النَّدَم وَهَذَا مِنْ أَحْسَن مَحَاسِن الشَّرِيعَة
وَقِيلَ الْحِكْمَة فِيهِ أَنَّهُ عَاقَبَهُ بِأَمْرِهِ بِتَأْخِيرِ الطَّلَاق جَزَاء لَهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ إِيقَاعه عَلَى الْوَجْه الْمُحَرَّم
وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ بن عُمَر لَمْ يَكُنْ يَعْلَم التَّحْرِيم
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا حُكْم شَامِل لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأُمَّة وَكَوْنه رَضِيَ اللَّه عَنْهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ يُفِيد نَفْي الْإِثْم لَا عَدَم تَرَتُّب هَذِهِ الْمَصْلَحَة عَلَى الطَّلَاق الْمُحَرَّم فِي نفسه(6/175)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقِيلَ حِكْمَته أَنَّ الطُّهْر الَّذِي بَعْد تِلْكَ الْحَيْضَة هُوَ مِنْ حَرِيم تَلِك الْحَيْضَة فَهُمَا كَالْقُرْءِ الْوَاحِد فَلَوْ شُرِعَ الطَّلَاق فِيهِ لَصَارَ كَمَوْقِعِ طَلْقَتَيْنِ فِي قُرْء وَاحِد وَلَيْسَ هَذَا بِطَلَاقِ السُّنَّة
وَقِيلَ حِكْمَته أَنَّهُ نَهَى عَنْ الطَّلَاق فِي الطُّهْر لِيَطُولَ مَقَامه مَعَهَا وَلَعَلَّهُ تَدْعُوهُ نَفْسه إِلَى وَطْئِهَا وَذَهَاب مَا فِي نَفْسه مِنْ الْكَرَاهَة لَهَا فَيَكُون ذَلِكَ حِرْصًا عَلَى اِرْتِفَاع الطَّلَاق الْبَغِيض إِلَى اللَّه الْمَحْبُوب إِلَى الشَّيْطَان وَحَضًّا عَلَى بَقَاء النِّكَاح وَدَوَام المودة والرحمة والله أعلم
وقوله ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا وَفِي اللَّفْظ الْآخَر فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا إِنْ شَاءَ هَلْ الْمُرَاد بِهِ اِنْقِطَاع الدَّم أَوْ التَّطَهُّر بِالْغُسْلِ أَوْ مَا يَقُوم مَقَامه مِنْ التَّيَمُّم عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ اِنْقِطَاع الدَّم وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ
وَالثَّانِيَة أَنَّهُ الِاغْتِسَال وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة إِنْ طَهُرَتْ لِأَكْثَر الْحَيْض حَلَّ طَلَاقهَا بِانْقِطَاعِ الدَّم وَإِنْ طَهُرَتْ لِدُونِ أَكْثَره لَمْ يَحِلّ طَلَاقهَا حَتَّى تَصِير فِي حُكْم الطَّاهِرَات بِأَحَدِ ثَلَاثَة أَشْيَاء إِمَّا أَنْ تَغْتَسِل وَإِمَّا أَنْ تَتَيَمَّم عِنْد الْعَجْز وَتُصَلِّي وَإِمَّا أَنْ يَخْرُج عَنْهَا وَقْت صَلَاة لِأَنَّهُ مَتَى وُجِدَ أَحَد هَذِهِ الْأَشْيَاء حَكَمْنَا بِانْقِطَاعِ حَيْضهَا
وَسِرّ الْمَسْأَلَة أَنَّ الْأَحْكَام الْمُتَرَتِّبَة عَلَى الْحَيْض نَوْعَانِ مِنْهَا مَا يَزُول بِنَفْسِ اِنْقِطَاعه كَصِحَّةِ الْغُسْل وَالصَّوْم وَوُجُوب الصَّلَاة فِي ذِمَّتهَا
وَمِنْهَا مَا لَا يَزُول إِلَّا بِالْغُسْلِ كَحِلِّ الْوَطْء وصحة الصلاة وجواز الليث فِي الْمَسْجِد وَصِحَّة الطَّوَاف وَقِرَاءَة الْقُرْآن عَلَى أَحَد الْأَقْوَال فَهَلْ يُقَال الطَّلَاق مِنْ النَّوْع الْأَوَّل أَوْ مِنْ الثَّانِي وَلِمَنْ رَجَّحَ إِبَاحَته قَبْل الْغُسْل أَنْ يَقُول الْحَائِض إِذَا اِنْقَطَعَ دَمهَا صَارَتْ كَالْجُنُبِ يَحْرُم عَلَيْهَا مَا يَحْرُم عَلَيْهِ وَيَصِحّ مِنْهَا مَا يَصِحّ مِنْهُ وَمَعْلُوم أَنَّ الْمَرْأَة الْجُنُب لَا يَحْرُم طَلَاقهَا
وَلِمَنْ رَجَّحَ الثَّانِي أَنْ يُجِيب عَنْ هَذَا بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَالْجُنُبِ لَحَلَّ وَطْؤُهَا وَيُحْتَجّ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنه مِنْ حَدِيث الْمُعْتَمِر بْن سُلَيْمَان قَالَ سَمِعْت عُبَيْد اللَّه عَنْ نَافِع عَنْ عَبْد اللَّه أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته وَهِيَ حَائِض تَطْلِيقَة فَانْطَلَقَ عُمَر فَأَخْبَرَ النَّبِيّ بذلك فقال النبي مُرْ عَبْد اللَّه فَلْيُرَاجِعْهَا فَإِذَا اِغْتَسَلَتْ مِنْ حَيْضَتهَا الْأُخْرَى فَلَا يَمَسّهَا حَتَّى يُطَلِّقهَا فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكهَا فَلْيُمْسِكْهَا فَإِنَّهَا الْعِدَّة الَّتِي أَمَرَ اللَّه أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء
وَهَذَا عَلَى شَرْط الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ مُفَسِّر لِقَوْلِهِ فَإِذَا طَهُرَتْ فَيَجِب حَمْله عَلَيْهِ
وَتَمَام هَذِهِ الْمَسْأَلَة أَنَّ الْعِدَّة هَلْ تَنْقَضِي بِنَفْسِ اِنْقِطَاع الدَّم وَتَنْقَطِع الرَّجْعَة أَمْ لَا تَنْقَطِع إِلَّا بِالْغُسْلِ وَفِيهِ خِلَاف بَيْن السَّلَف وَالْخَلَف يَأْتِي فِي موضعه إن شاء الله تعالى(6/176)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وقوله ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا قَبْل أَنْ يَمَسّ دَلِيل عَلَى أَنَّ طَلَاقهَا فِي الطُّهْر الَّذِي مَسَّ فِيهِ مَمْنُوع مِنْهُ وَهُوَ طَلَاق بِدْعَة وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ فَلَوْ طَلَّقَ فِيهِ
قَالُوا لَمْ يجب عليه رجعتها قال بن عَبْد الْبَرّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجْعَة لَا تَجِب فِي هَذِهِ الصُّورَة وَلَيْسَ هَذَا الْإِجْمَاع ثَابِتًا وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَاهُ صَاحِب الْمُغْنِي أَيْضًا فَإِنَّ أَحَد الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَب أَحْمَد وُجُوب الرَّجْعَة فِي هَذَا الطَّلَاق حَكَاهُ فِي الرِّعَايَة وَهُوَ الْقِيَاس لِأَنَّهُ طَلَاق مُحَرَّم فَتَجِب الرَّجْعَة فِيهِ كَمَا تَجِب فِي الطَّلَاق فِي زَمَن الْحَيْض
وَلِمَنْ فَرَّقَ بَيْنهمَا أَنْ يَقُول زَمَن الطُّهْر وَقْت لِلْوَطْءِ وَلِلطَّلَاقِ وَزَمَن الْحَيْض لَيْسَ وَقْتًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَظَهَرَ الْفَرْق بَيْنهمَا فَلَا يَلْزَم مِنْ الْأَمْر بِالرَّجْعَةِ فِي غَيْر زَمَن الطَّلَاق الْأَمْر بِهَا فِي زَمَنه وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْق ضَعِيف جِدًّا فَإِنَّ زَمَن الطُّهْر مَتَى اِتَّصَلَ بِهِ الْمَسِيس صَارَ كَزَمَنِ الْحَيْض فِي تَحْرِيم الطَّلَاق سَوَاء وَلَا فَرْق بَيْنهمَا بَلْ الْفَرْق الْمُؤَثِّر عِنْد النَّاس أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتْ لِأَجْلِهِ الرَّجْعَة إِذَا طَلَّقَهَا حَائِضًا مُنْتَفٍ فِي صُورَة الطَّلَاق فِي الطُّهْر الَّذِي مَسَّهَا فِيهِ فَإِنَّهَا إِنَّمَا حَرُمَ طَلَاقهَا فِي زَمَن الْحَيْض لِتَطْوِيلِ الْعِدَّة عَلَيْهَا فَإِنَّهَا لَا تَحْتَسِب بِبَقِيَّةِ الْحَيْضَة قُرْءًا اِتِّفَاقًا
فَتَحْتَاج إِلَى اِسْتِئْنَاف ثَلَاثَة قُرُوء كَوَامِل وَأَمَّا الطُّهْر فَإِنَّهَا تَعْتَدّ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ قُرْءًا وَلَوْ كَانَ لَحْظَة فَلَا حَاجَة بِهَا إِلَى أَنْ يُرَاجِعهَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ الْأَقْرَاء الْأَطْهَار كَانَتْ أَوَّل عِدَّتهَا عِنْده عَقِب طَلَاقهَا وَمَنْ قَالَ هِيَ الْحَيْض اِسْتَأْنَفَ بِهَا بَعْد الطُّهْر وَهُوَ لَوْ رَاجَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقهَا لَمْ يُطَلِّقهَا إِلَّا فِي طُهْر فَلَا فَائِدَة فِي الرَّجْعَة
هَذَا هُوَ الْفَرْق الْمُؤَثِّر بَيْن الصُّورَتَيْنِ
وَبَعْد فَفِيهِ إِشْكَال لَا يُنْتَبَهُ لَهُ إِلَّا مَنْ بِهِ خِبْرَة بِمَأْخَذِ الشَّرْع وَأَسْرَاره وَجَمْعه وَفَرْقه
وذلك أن النبي أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقهَا إِذَا شَاءَ قَبْل أَنْ يَمَسّهَا وَقَالَ فَتِلْكَ الْعِدَّة الَّتِي أَمَرَ بِهَا اللَّه أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء وَهَذَا ظَاهِر فِي أَنَّ الْعِدَّة إِنَّمَا يَكُون اِسْتِقْبَالهَا مِنْ طُهْر لَمْ يَمَسّهَا فِيهِ إِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا بِالْأَطْهَارِ وَأَمَّا طُهْر قَدْ أَصَابَهَا فِيهِ فلم يجعله النبي مِنْ الْعِدَّة الَّتِي أَمَرَ اللَّه أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء فَكَمَا لَا تَكُون عِدَّتهَا مُتَّصِلَة بِالْحَيْضَةِ الَّتِي طَلَّقَ فِيهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُون مُتَّصِلَة بِالطُّهْرِ الَّذِي مَسَّهَا فِيهِ
لِأَنَّ النبي سَوَّى بَيْنهمَا فِي الْمَنْع مِنْ الطَّلَاق فِيهِمَا وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِدَّة الَّتِي أَمَرَ بِهَا اللَّه أَنْ يُطَلَّق لَهَا النِّسَاء هِيَ مِنْ وَقْت الطُّهْر الَّذِي لَمْ يَمَسّهَا فِيهِ فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ الطُّهْر الَّذِي مَسَّهَا فِيهِ هُوَ أَوَّل الْعِدَّة الَّتِي أَمَرَ اللَّه أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء وَهَذَا مَذْهَب أَبِي عُبَيْد وَهُوَ فِي الظُّهُور وَالْحُجَّة كَمَا تَرَى وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد وَالشَّافِعِيّ وَمَالِك وَأَصْحَابهمْ لَوْ بَقِيَ مِنْ الطُّهْر لَحْظَة حُسِبَتْ لَهَا قُرْءًا وَإِنْ كَانَ قَدْ جَامَعَ فِيهِ إِذَا قُلْنَا الْأَقْرَاء الْأَطْهَار
قَالَ الْمُنْتَصِرُونَ لِهَذَا الْقَوْل إِنَّمَا حَرُمَ الطَّلَاق فِي زَمَن الْحَيْض دَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيل الْعِدَّة عَلَيْهَا فَلَوْ لَمْ تُحْتَسَب بِبَقِيَّةِ الطُّهْر قُرْءًا كَانَ الطَّلَاق فِي زَمَن الطُّهْر أَضَرَّ بِهَا وَأَطْوَل عَلَيْهَا
وَهَذَا ضَعِيف جِدًّا فَإِنَّهَا إِذْ طَلُقَتْ فِيهِ قَبْل الْمَسِيس اُحْتُسِبَ بِهِ وَأَمَّا إِذَا طَلُقَتْ بَعْد الْمَسِيس كَانَ حُكْمهَا حُكْم الْمُطَلَّقَة فِي زَمَن الْحَيْض فَكَمَا لَا تُحْتَسَب بِبَقِيَّةِ الْحَيْضَة لَا تُحْتَسَب بِبَقِيَّةِ هَذَا الطُّهْر المسوسة فيه(6/177)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالُوا وَلَمْ يَحْرُم الطَّلَاق فِي الطُّهْر لِأَجْلِ التَّطْوِيل الْمَوْجُود فِي الْحَيْض بَلْ إِنَّمَا حَرُمَ لِكَوْنِهَا مُرْتَابَة فَلَعَلَّهَا قَدْ حَمَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَطْء فَيَشْتَدّ نَدَمه إِذَا تَحَقَّقَ الْحَمْل وَيَكْثُر الضَّرَر
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقهَا طَلَّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْر جِمَاع لِأَنَّهُمَا قَدْ تَيَقَّنَا عَدَم الرِّيبَة وَأَمَّا إِذَا ظَهَرَ الْحَمْل فَقَدْ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَة وَأَقْدَم عَلَى فِرَاقهَا حَامِلًا
قَالُوا فَهَذَا الْفَرْق بَيْن الطَّلَاق فِي الْحَيْض وَالطُّهْر الْمُجَامَع فِيهِ
قَالُوا وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَة إِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْ هَذَا الْوَطْء فَعِدَّتهَا بِوَضْعِ الْحَمْل وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ حَمَلَتْ مِنْهُ فَهُوَ قُرْء صَحِيح فَلَا ضَرَر عَلَيْهَا فِي طَلَاقهَا فِيهِ
وَلِمَنْ نَصَرَ قَوْل أَبِي عُبَيْد أَنْ يَقُول الشَّارِع إِنَّمَا جَعَلَ اِسْتِقْبَال عِدَّة الْمُطَلَّقَة مِنْ طُهْر لَمْ يَمَسّهَا فِيهِ لِيَكُونَ الْمُطَلِّق عَلَى بَصِيرَة مِنْ أَمْره وَالْمُطَلَّقَة عَلَى بَصِيرَة مِنْ عِدَّتهَا أَنَّهَا بِالْأَقْرَاءِ
فَأَمَّا إِذَا مَسَّهَا فِي الطُّهْر ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَدْرِ أَحَامِلًا أَمْ حَائِلًا وَلَمْ تَدْرِ الْمَرْأَة أَعِدَّتهَا بِالْحَمْلِ أَمْ بِالْأَقْرَاءِ فَكَانَ الضَّرَر عَلَيْهِمَا فِي هَذَا الطَّلَاق أَشَدَّ مِنْ الضَّرَر فِي طَلَاقهَا وَهِيَ حَائِض فَلَا تُحْتَسَب بِبَقِيَّةِ ذَلِكَ الطُّهْر قُرْءًا كَمَا لَمْ يَحْتَسِب الشَّارِع بِهِ فِي جَوَاز إِيقَاع الطَّلَاق فِيهِ
وَهَذَا التَّفْرِيع كُلّه عَلَى أَقْوَال الْأَئِمَّة وَالْجُمْهُور
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُوقِع الطَّلَاق الْبِدْعِيّ فَلَا يَحْتَاج إِلَى شَيْء مِنْ هَذَا
وَقَوْله لِيُطَلِّقهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْحَامِل طَلَاقهَا سُنِّيّ قال بن عَبْد الْبَرّ لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ الْحَامِل طَلَاقهَا لِلسُّنَّةِ قَالَ الْإِمَام أَحْمَد أَذْهَب إِلَى حَدِيث سَالِم عَنْ أَبِيهِ ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَة أُخْرَى أَنَّ طَلَاق الْحَامِل لَيْسَ بِسُنِّيٍّ وَلَا بِدْعِيّ وَإِنَّمَا يَثْبُت لَهَا ذَلِكَ مِنْ جِهَة الْعَدَد لامن جهة الوقت ولفظه الحمل في حديث بن عُمَر اِنْفَرَدَ بِهَا مُسْلِم وَحْده فِي بَعْض طُرُق الْحَدِيث
وَلَمْ يَذْكُرهَا الْبُخَارِيّ
فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ طَلَاقهَا سُنِّيًّا وَلَا بِدْعِيًّا لِأَنَّ الشَّارِع لَمْ يَمْنَع مِنْهُ
فَإِنْ قِيلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ سُنِّيًّا كَانَ طَلَاقهَا بِدْعِيًّا لِأَنَّ النَّبِيّ إِنَّمَا أَبَاحَ طَلَاقهَا فِي طُهْر لَمْ يَمَسّهَا فِيهِ فَإِذَا مَسَّهَا فِي الطُّهْر وَحَمَلَتْ وَاسْتَمَرَّ حَمْلهَا اِسْتَمَرَّ الْمَنْع مِنْ الطَّلَاق فَكَيْف يُبِيحهُ تَجَدُّد ظُهُور الْحَمْل فَإِذَا لَمْ يَثْبُتُوا هَذِهِ اللَّفْظَة لَمْ يَكُنْ طَلَاق الْحَامِل جَائِزًا
فَالْجَوَاب أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ حَرُمَ الطَّلَاق بَعْد الْمَسِيس مَعْدُوم عِنْد ظُهُور الْحَمْل لِأَنَّ الْمُطَلِّق عِنْد ظُهُور الْحَمْل قَدْ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَة فَلَا يَخَاف ظُهُور أَمْر يَتَجَدَّد بِهِ النَّدَم وَلَيْسَتْ الْمَرْأَة مُرْتَابَة لِعَدَمِ اِشْتِبَاه الْأَمْر عَلَيْهَا بِخِلَافِ طَلَاقهَا مَعَ الشَّكّ فِي حَمْلهَا
وَاَللَّه أَعْلَم
وَقَوْله طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا اِحْتَجَّ بِهِ من قال الحامل لا تحيض لأنه حَرَّمَ الطَّلَاق فِي زَمَن الْحَيْض وَأَبَاحَهُ فِي وَقْت الطُّهْر وَالْحَمْل فَلَوْ كَانَتْ الْحَامِل تَحِيض لَمْ يُبَحْ طَلَاقهَا حَامِلًا إِذَا رَأَتْ الدَّم وَهُوَ خِلَاف الْحَدِيث(6/178)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَلِأَصْحَابِ الْقَوْل الْآخَر أَنْ يُجِيبُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ حَيْض الْحَامِل لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِير فِي الْعِدَّة بِحَالٍ لَا فِي تَطْوِيلهَا وَلَا تَخْفِيفهَا إِذَا عِدَّتهَا بِوَضْعِ الْحَمْل أَبَاحَ الشَّارِع طَلَاقهَا حَامِلًا مُطْلَقًا وَغَيْر الْحَامِل لَمْ يُبَحْ طَلَاقهَا إِلَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَائِضًا لِأَنَّ الْحَيْض يُؤَثِّر فِي الْعِدَّة لِأَنَّ عِدَّتهَا بِالْأَقْرَاءِ فَالْحَدِيث دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَة لَهَا حَالَتَانِ أَحَدهمَا أَنْ تَكُون حَائِلًا فَلَا تُطَلَّق إِلَّا فِي طُهْر لَمْ يَمَسّهَا فِيهِ
وَالثَّانِيَة أَنْ تَكُون حَامِلًا فَيَجُوز طَلَاقهَا
وَالْفَرْق بَيْن الْحَامِل وغيرها في الطلاق إنما هُوَ بِسَبَبِ الْحَمْل وَعَدَمه لَا بِسَبَبِ حَيْض وَلَا طُهْر وَلِهَذَا يَجُوز طَلَاق الْحَامِل بَعْد الْمَسِيس دُون الْحَائِل وَهَذَا جَوَاب سَدِيد وَاَللَّه أَعْلَم
وَقَدْ أَفْرَدْت لِمَسْأَلَةِ الْحَامِل هَلْ تَحِيض أَمْ لَا مُصَنَّفًا مُفْرَدًا
وَقَدْ اِحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ مَنْ يَرَى أَنَّ السُّنَّة تَفْرِيق الطَّلْقَات عَلَى الْأَقْرَاء فَيُطَلِّق لِكُلِّ قُرْء طَلْقَة وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَة وَسَائِر الْكُوفِيِّينَ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَة كقولهم
قالوا وذلك لأن النبي إِنَّمَا أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِهَا فِي الطُّهْر الْمُتَعَقِّب لِلْحَيْضِ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِل بَيْنه وَبَيْن الطَّلَاق طُهْر كَامِل وَالسُّنَّة أَنْ يَفْصِل بَيْن الطَّلْقَة وَالطَّلْقَة قُرْء كَامِل فَإِذَا طَهُرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ ثُمَّ طَهُرَتْ
طَلَّقَهَا طَلْقَة بَائِنَة لِحُصُولِ الْفَصْل بَيْن الطَّلْقَتَيْنِ بِطُهْرٍ كَامِل
قَالُوا فَلِهَذَا الْمَعْنَى اُعْتُبِرَ الشَّارِع الْفَصْل بَيْن الطَّلَاق الْأَوَّل وَالثَّانِي
قَالُوا وفي بعض حديث بن عُمَر السُّنَّة أَنْ يَسْتَقْبِل الطُّهْر فَيُطَلِّق لِكُلِّ قرء وروى النسائي في سننه عن بن مَسْعُود قَالَ طَلَاق السُّنَّة أَنْ يُطَلِّقهَا تَطْلِيقَة وَهِيَ طَاهِر فِي غَيْر جِمَاع فَإِذَا حَاضَتْ فَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى ثُمَّ تَعْتَدّ بَعْد ذَلِكَ بِحَيْضَةٍ
وَهَذَا الاستدلال ضعيف فإن النبي لَمْ يَأْمُرهُ بِإِمْسَاكِهَا فِي الطُّهْر الثَّانِي لِيُفَرِّق الطَّلْقَات الثَّلَاث عَلَى الْأَقْرَاء وَلَا فِي الْحَدِيث مَا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا طَاهِرًا قَبْل أَنْ يَمَسّهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا حِكْمَة إِمْسَاكهَا فِي الطُّهْر الْأَوَّل
وَأَمَّا قَوْله وَالسُّنَّة أَنْ يَسْتَقْبِل الطُّهْر فَيُطَلِّق لِكُلِّ قُرْء فَهُوَ حَدِيث قَدْ تَكَلَّمَ النَّاس فِيهِ وَأَنْكَرُوهُ عَلَى عطاء الخرساني فَإِنَّهُ اِنْفَرَدَ بِهَذِهِ اللَّفْظَة دُون سَائِر الرُّوَاة قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَأَمَّا الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَطَاء الخرساني عن بن عمر في هذه القصة أن النبي قَالَ السُّنَّة أَنْ يَسْتَقْبِل الطُّهْر فَيُطَلِّق لِكُلِّ قُرْء فَإِنَّهُ أَتَى فِي هَذَا الْحَدِيث بِزِيَادَاتٍ لَمْ يُتَابَع عَلَيْهَا وَهُوَ ضَعِيف فِي الْحَدِيث لَا يُقْبَل مِنْهُ مَا يَنْفَرِد بِهِ
وَأَمَّا حديث بن مَسْعُود فَمَعَ أَنَّهُ مَوْقُوف عَلَيْهِ فَهُوَ حَدِيث يَرْوِيه أَبُو إِسْحَاق عَنْ أَبِي الْأَحْوَص عَنْ عَبْد اللَّه وَاخْتُلِفَ عَلَى أَبِي إِسْحَاق فِيهِ فَقَالَ الْأَعْمَش عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ أَبِي الْأَحْوَص عَنْهُ طَلَاق السُّنَّة أَنْ يُطَلِّقهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْر جِمَاع وَلَعَلَّ هَذَا حَدِيثَانِ(6/179)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَاَلَّذِي يَدُلّ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَعْمَش قَالَ سَأَلْت إِبْرَاهِيم فَقَالَ لِي مِثْل ذَلِكَ
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا غايته أن يكون قول بن مَسْعُود وَقَدْ خَالَفَهُ عَلِيّ وَغَيْره
وَقَدْ رُوِيَ عن بن مَسْعُود رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا التَّفْرِيق وَالثَّانِيَة إِفْرَاد الطَّلْقَة وَتَرْكهَا حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهَا
قَالَ طَلَاق السُّنَّة أَنْ يُطَلِّقهَا وَهِيَ طَاهِر ثُمَّ يَدَعهَا حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتهَا أَوْ يُرَاجِعهَا إِنْ شَاءَ ذَكَرَهُ بن عَبْد الْبَرّ عَنْهُ
وَلِأَنَّ هَذَا أَرْدَأ طَلَاق لِأَنَّهُ طَلَاق مِنْ غَيْر حَاجَة إِلَيْهِ وَتَعْرِيض لِتَحْرِيمِ الْمَرْأَة عَلَيْهِ إِلَّا بَعْد زَوْج وَإِصَابَة وَالشَّارِع لَا غَرَض لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا مَصْلَحَة لِلْمُطَلِّقِ فَكَانَ بِدْعِيًّا
وَاَللَّه أَعْلَم
وَقَوْله فَتِلْكَ الْعِدَّة الَّتِي أَمَرَ اللَّه أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء اِحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى الْأَقْرَاء هِيَ الْأَطْهَار
قَالُوا وَاللَّام بِمَعْنَى الْوَقْت كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمْ الصَّلَاة لِدُلُوكِ الشَّمْس} وَقَوْل الْعَرَب كَتَبَ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ وَلِثَلَاثٍ بَقَيْنَ
وَفِي الْحَدِيث فَلْيُصَلِّهَا حِين ذَكَرَهَا وَمِنْ الْغَد لِلْوَقْتِ قَالُوا فَهَذِهِ اللَّام الْوَقْتِيَّة بِمَعْنَى (فِيهِ)
وَأَجَابَ الْآخَرُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللَّام فِي قَوْله تَعَالَى {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} هِيَ اللَّام الْمَذْكُورَة فِي قَوْله أَنْ تُطَلَّق لَهَا النِّسَاء وَلَا يَصِحّ أَنْ تَكُون وَقْتِيَّة وَلَا ذَكَرَ أَحَد مِنْ أَهْل الْعَرَبِيَّة أَنَّ اللَّام تَأْتِي بِمَعْنَى فِي أَصْلًا
ولا يصح أن تكون هنا بِمَعْنَى فِي وَلَوْ صَحَّ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع لِأَنَّ الطَّلَاق لَا يَكُون فِي نَفْس الْعِدَّة وَلَا تَكُون عِدَّة الطَّلَاق ظَرْفًا لَهُ قَطّ وَإِنَّمَا اللَّام هُنَا عَلَى بَابهَا لِلِاخْتِصَاصِ
وَالْمَعْنَى طَلِّقُوهُنَّ مُسْتَقْبِلَات عِدَّتِهِنَّ وَيُفَسِّر هَذَا قِرَاءَة النبي في حديث بن عُمَر فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُل عِدَّتِهِنَّ أَيْ فِي الوقت الذي تستقبل فِيهِ الْعِدَّة
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرهَا اِسْتَقْبَلَتْ الْعِدَّة مِنْ الْحَيْضَة الَّتِي تَلِيه فَقَدْ طَلَّقَهَا فِي قُبُل عِدَّتهَا بِخِلَافِ مَا إِذَا طَلَّقَهَا حَائِضًا فَإِنَّهَا لَا تَعْتَدّ بِتِلْكَ الْحَيْضَة وَيُنْتَظَر فَرَاغهَا وَانْقِضَاء الطُّهْر الَّذِي يَلِيهَا ثُمَّ تَشْرَع فِي الْعِدَّة فَلَا يَكُون طَلَاقهَا حَائِضًا طَلَاقًا فِي قُبُل عِدَّتهَا وَقَدْ أَفْرَدْت لِهَذِهِ الْمَسْأَلَة مُصَنَّفًا مُسْتَقِلًّا ذَكَرْت فِيهِ مَذَاهِب النَّاس وَمَآخِذهمْ وَتَرْجِيح الْقَوْل الرَّاجِح وَالْجَوَاب عَمَّا اِحْتَجَّ بِهِ أَصْحَاب الْقَوْل الْآخَر
وَقَوْله مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْأَمْر بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ أَمْر بِهِ
وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس فِي ذَلِكَ وَفَصْل النِّزَاع أَنَّ الْمَأْمُور الْأَوَّل إِنْ كَانَ مبلغا محضا كأمر النبي آحاد الصحابة أن يأمر الغائب عنه يأمره فَهَذَا أَمْر بِهِ مِنْ جِهَة الشَّارِع قَطْعًا وَلَا يَقْبَل ذَلِكَ نِزَاعًا أَصْلًا وَمِنْهُ قَوْله مُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ وَقَوْله مُرُوهُمْ بِصَلَاةٍ كَذَا فِي حِين كَذَا وَنَظَائِره فَهَذَا الثَّانِي مَأْمُور به من جهة الرسول فَإِذَا عَصَاهُ الْمُبَلَّغ إِلَيْهِ فَقَدْ عَصَى أَمْر الرَّسُول صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ وَالْمَأْمُور الْأَوَّل مُبَلِّغ مَحْض وَإِنْ كَانَ الْأَمْر مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَأْمُور الْأَوَّل تَوَجُّه التَّكْلِيفِ وَالثَّانِي غَيْر مُكَلَّف لَمْ يَكُنْ أَمْرًا لِلثَّانِي مِنْ جِهَة الشَّارِع كقوله مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ
فَهَذَا الْأَمْر خِطَاب لِلْأَوْلِيَاءِ بِأَمْرِ الصِّبْيَان بِالصَّلَاةِ فَهَذَا فَصْل الْخِطَاب فِي هَذَا الْبَاب
وَاَللَّه أَعْلَم بِالصَّوَابِ
فَهَذِهِ كَانَتْ نبهنا بها على بعض فوائد حديث بن عُمَر فَلَا تَسْتَطِلْهَا فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى فَوَائِد(6/180)
5 - (بَاب الرَّجُلِ يُرَاجِعُ وَلَا يُشْهِدُ)
(عَنْ يَزِيدَ الرشك) بكسر المهملة وإسكان المعجمة هو بن أَبِي يَزِيدَ الضُّبَعِيُّ (ثُمَّ يَقَعُ بِهَا) أَيْ يُجَامِعُهَا لِلرَّجْعَةِ (وَلَا تَعُدْ) نَهَى عَنِ الْعَوْدِ إِلَى تَرْكِ الْإِشْهَادِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَالْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى الرَّاجِعَةِ
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِي الرَّجْعَةِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ
وَاسْتُدِلَّ لهم بحديث بن عُمَرَ السَّالِفِ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيُرَاجِعْهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِشْهَادَ
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِنَّهُ يَجِبُ الْإِشْهَادُ فِي الرَّجْعَةِ
وَالِاحْتِجَاجُ بِحَدِيثِ الْبَابِ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ فِي أَمْرٍ مِنْ مَسَارِحِ الِاجْتِهَادِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لَوْلَا مَا وَقَعَ مِنْ قَوْلِهِ طَلَّقْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ وَرَاجَعْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ
هَذَا تَلْخِيصُ مَا فِي النيل
قال المنذري وأخرجه بن ماجه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
جَمَّة وَقَوَاعِد مُهِمَّة وَمَبَاحِث لِمَنْ قَصْدُهُ الظُّفْرُ بِالْحَقِّ وَإِعْطَاءُ كُلّ ذِي حَقّ حَقّه مِنْ غَيْر مَيْل مَعَ ذِي مَذْهَبه وَلَا خِدْمَة لإمامة وأصحابه بحديث رسول الله بل تابع للدليل حريص على المظفر بِالسُّنَّةِ وَالسَّبِيل يَدُور مَعَ الْحَقِّ أَنَّى تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ وَيَسْتَقِرّ مَعَهُ حَيْثُ اِسْتَقَرَّتْ مَضَارِبه وَلَا يَعْرِف قَدْر هَذَا السَّيْر إِلَّا مَنْ عَلَتْ هِمَّته وَتَطَلَّعَتْ نَوَازِع قَلْبه وَاسْتَشْرَفَتْ نَفْسه إِلَى الِارْتِضَاع مِنْ ثَدْيِ الرِّسَالَةِ وَالْوُرُود مِنْ عَيْن حَوْض النُّبُوَّة وَالْخَلَاص مِنْ شِبَاك الْأَقْوَال الْمُتَعَارِضَة وَالْآرَاء الْمُتَنَاقِضَة إِلَى فَضَاء الْعِلْم الْمَوْرُوث عَمَّنْ لَا يَنْطِق عَنْ الْهَوَى وَلَا يَتَجَاوَز نُطْقه الْبَيَان وَالرَّشَاد وَالْهُدَى وَبَيْدَاء الْيَقِين الَّتِي مَنْ حَلَّهَا حُشِدَ فِي زُمْرَة الْعُلَمَاء وَعُدَّ مِنْ وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وَمَا هِيَ إِلَّا أَوْقَات مَحْدُودَة وَأَنْفَاس عَلَى الْعَبْد مَعْدُودَة فَلْيُنْفِقْهَا فِيمَا شَاءَ
أَنْتَ الْقَتِيل لِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْته فَانْظُرْ لِنَفْسِك فِي الْهَوَى مَنْ تَصْطَفِي(6/181)
6 - (بَاب فِي سُنَّةِ طَلَاقِ الْعَبْدِ)
(أَنَّهُ اسْتَفْتَى بن عباس) أي أنه طلب الفتوى من بن عَبَّاسٍ (فِي مَمْلُوكٍ كَانَتْ تَحْتَهُ مَمْلُوكَةٌ) أَيْ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ (فَطَلَّقَهَا) أَيْ طَلَّقَ الْمَمْلُوكُ الْمَمْلُوكَةَ (ثُمَّ عُتِقَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ الطَّلَاقِ (هَلْ يَصْلُحُ لَهُ) أَيْ هَلْ يَجُوزُ لِلْمَمْلُوكِ (أَنْ يَخْطُبَهَا) مِنَ الْخِطْبَةِ بالكسر (قال) أي بن عَبَّاسٍ (نَعَمْ) أَيْ يَجُوزُ لَهُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ لَمْ يَذْهَبْ إِلَى هَذَا أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِيمَا أَعْلَمُ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ
وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمَمْلُوكَةَ إِذَا كَانَتْ تَحْتَ مَمْلُوكٍ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لَهُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النسائي وبن مَاجَهْ
وَأَبُو الْحَسَنِ هَذَا قَدْ ذُكِرَ بِخَيْرٍ وَصَلَاحٍ وَقَدْ وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيَّانِ غَيْرَ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ عُمَرُ بْنُ مُعَتِّبٍ وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ عُمَرُ بْنُ الْمُعَتِّبِ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَسُئِلَ أَيْضًا عَنْهُ فَقَالَ مَجْهُولٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ يَحْيَى يعني بن أَبِي كَثِيرٍ
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ عُمَرُ بْنُ مُعَتِّبٍ لَيْسَ بَالْقَوِيِّ
وَقَالَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَمُعَتِّبٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ ثَالِثِ الْحُرُوفِ وَكَسْرِهَا وَبَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ
انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
(بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ بِلَا إِخْبَارٍ) أَيْ بِإِسْنَادِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَمَعْنَاهُ لَكِنْ بِصِيغَةِ الْعَنْعَنَةِ دُونَ صِيغَةِ الْإِخْبَارِ (بَقِيَتْ لَكَ وَاحِدَةٌ) أَيْ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا صَارَتْ حُرَّةً وَطَلَاقُهَا ثلاثة (قال بن(6/182)
الْمُبَارَكِ لِمَعْمَرٍ مَنْ أَبُو الْحَسَنِ هَذَا لَقَدْ تَحَمَّلَ صَخْرَةً عَظِيمَةً إِلَخْ) لَيْسَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُنْذِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَهَا الْخَطَّابِيُّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ يُرِيدُ بِذَلِكَ إِنْكَارَ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
(طَلَاقُ الْأَمَةِ) مَصْدَرٌ مُضَافٌ لمفعوله أي تطليقها (تطليقتان وقروؤها حَيْضَتَانِ) وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَة إِجْمَاع فَإِنَّ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَام أَحْمَد الْقَوْل بِهَذَا الْحَدِيث قال ولا أرى شيئا يدفعه وَغَيْر وَاحِد يَقُول بِهِ أَبُو سَلَمَة وَجَابِر وَسَعِيد بْن الْمُسَيَّب هَذَا آخِر كَلَامه
وَقَالَ مَرَّة حَدِيث عُثْمَان وَزَيْد فِي تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ جيد وحديث بن عباس يرويه عمر بن معتب ولا أعرفه ثم ذكر كلام بن الْمُبَارَك
قَالَ أَحْمَد أَمَّا أَبُو حَسَن فَهُوَ عِنْدِي مَعْرُوف وَلَكِنْ لَا أَعْرِف عُمَر بْن معتب
وقال الإمام أحمد في رواية بن مَنْصُور فِي عَبْدٍ تَحْتَهُ مَمْلُوكَة وَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ عُتِقَا يَتَزَوَّجهَا وَتَكُون عَلَى وَاحِدَة عَلَى حَدِيث عُمَر بْن مُعَتِّب
وَقَالَ فِي رِوَايَة أَبِي طَالِب فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة يَتَزَوَّجهَا وَلَا يُبَالِي عُتِقَا أَوْ بَعْد الْعِدَّة وَهُوَ قَوْل بن عَبَّاس وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَأَبِي سَلَمَة وَقَتَادَة
قَالَ أَبُو بَكْر عَبْد الْعَزِيز إِنْ صَحَّ الْحَدِيث فَالْعَمَل عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَصِحّ فَالْعَمَل عَلَى حَدِيث عُثْمَان وَزَيْد
وَحَدِيث عُثْمَان وَزَيْد الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ مَا رَوَاهُ الْأَثْرَم فِي سُنَنه عَنْ سُلَيْمَان بْن يَسَار أَنَّ نُفَيْعًا مُكَاتِب أُمّ سَلَمَة طَلَّقَ اِمْرَأَته حُرَّة بِتَطْلِيقَتَيْنِ فَسَأَلَ عُثْمَان وَزَيْد بْن ثَابِت عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا حُرِّمَتْ عَلَيْك(6/183)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ الطَّلَاقُ بَالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بَالنِّسَاءِ روي ذلك عن بن عمر وزيد بن ثابت وبن عَبَّاسٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ فَإِذَا كَانَتْ أَمَةٌ تَحْتَ حُرٍّ فَطَلَاقُهَا ثَلَاثٌ وَعِدَّتُهَا قراءان وإن كانت حرة تحت عبد فطلاقها اثنتان وَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ فِي قَوْلِ هَؤُلَاءِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْحُرَّةُ تَعْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ وطلاقها ثلاث كالعدة والأمة تعتد قرءين وتطلق تَطْلِيقَتَيْنِ سَوَاءً كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ إِنْ ثَبَتَ وَلَكِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ ضَعَّفُوهُ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عَبْدًا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ هُوَ حَدِيثٌ مَجْهُولٌ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ وَمُظَاهِرٌ لَا يُعْلَمُ لَهُ فِي الْعِلْمِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ حَدِيثًا آخَرَ رَوَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ آلِ عِمْرَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَلِلْحَدِيثِ بَعْدُ عِلَّةٌ عَجِيبَةٌ ذَكَرهَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخه الْكَبِير قَالَ مُظَاهِر بْن أَسْلَمَ عَنْ الْقَاسِم عَنْ عَائِشَة رَفَعَهُ طَلَاق الْأَمَة تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتهَا حَيْضَتَانِ قَالَ أَبُو عَاصِم حَدَّثَنَا بن جُرَيْج عَنْ مُظَاهِر ثُمَّ لَقِيت مُظَاهِرًا فَحَدَّثَنَا بِهِ وَكَانَ أَبُو عَاصِم يُضَعَّف مُظَاهِرًا وَقَالَ يحيى بن سليمان حدثنا بن وَهْب قَالَ حَدَّثَنِي أُسَامَة بْن زَيْد بْن أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْد أَبِيهِ فَأَتَاهُ رَسُول الْأَمِير فَقَالَ إِنَّ الْأَمِير يَقُول لَك كَمْ عِدَّة الْأَمَة قَالَ عِدَّة الْأَمَة حَيْضَتَانِ وَطَلَاق الْحُرّ الْأَمَة ثَلَاث وَطَلَاق الْعَبْد الْحُرَّة تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّة الْحُرَّة ثَلَاث حِيَض ثُمَّ قَالَ لِلرَّسُولِ أَيْنَ تَذْهَب قَالَ أَمَرَنِي أَنْ أَسْأَل الْقَاسِم بْن مُحَمَّد وَسَالِم بْن عَبْد اللَّه قَالَ فَأُقْسِم عَلَيْك إِلَّا رَجَعْت إِلَيَّ فَأَخْبَرْتنِي مَا يَقُولَانِ فَذَهَبَ وَرَجَعَ إِلَى أَبِي فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمَا قَالَا كَمَا قَالَ وَقَالَا لَهُ قُلْ إِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي كِتَاب اللَّه وَلَا فِي سُنَّة رَسُول اللَّه وَلَكِنْ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ(6/184)
قُلْتُ وَمُظَاهِرٌ هَذَا مَخْزُومِيٌّ مَكِّيٌّ ضَعَّفَهُ أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثٍ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ إِنْ ثَبَتَ وَلَكِنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ ضَعَّفُوهُ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ عَبْدًا
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ لَوْ كَانَ ثَابِتًا قُلْنَا بِهِ إِلَّا أَنَّا لَا نُثْبِتُ حَدِيثًا يَرْوِيهِ مَنْ تُجْهَلُ عَدَالَتُهُ وَبَاللَّهِ التَّوْفِيقُ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَمُظَاهِرٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الْأَلِفِ هَاءٌ مَكْسُورَةٌ وَرَاءٌ مُهْمَلَةٌ
(بَاب فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ)
(لَا طَلَاقَ إِلَّا فِيمَا تَمْلِكُ) أَيْ لَا صِحَّةَ لَهُ وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ النَّاجِزُ عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَأَمَّا التَّعْلِيقُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّعْلِيقُ مُطْلَقًا
وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَرَبِيعَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ والأوزاعي وبن أَبِي لَيْلَى إِلَى التَّفْصِيلِ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ جَاءَ بِحَاصِرٍ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ بَلَدِ كَذَا فَهِيَ طَالِقٌ صَحَّ الطَّلَاقُ وَوَقَعَ وَإِنْ عَمَّمَ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ
وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الِاسْتِحْسَانِ كَمَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِإِطْلَاقِ الصِّحَّةِ
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ قَبْلَ النِّكَاحِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَذَكَر الدَّارَقُطْنِيُّ حَدِيث مُظَاهَر ثُمَّ قَالَ وَالصَّحِيح عَنْ الْقَاسِم خِلَاف هَذَا وَذَكَر عَنْ الْقَاسِم أَنَّهُ قِيلَ لَهُ بَلَغَك فِي هَذَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا
وذكره الدارقطني أيضا من حديث بن عُمَر مَرْفُوعًا وَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ عُمَر بْن شبيب والصحيح أنه من قول بن عمر(6/185)
مطلقا
كذا في النيل (زاد بن الصَّبَّاحِ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (وَلَا وَفَاءَ نَذْرٍ إِلَّا فِيمَا تَمْلِكُ) فَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ هَذَا الْعَبْدَ وَلَمْ يَكُنْ مَلَكَهُ وَقْتَ النَّذْرِ لَمْ يَصِحَّ النَّذْرُ فَلَوْ مَلَكَهُ بَعْدَ هَذَا لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وبن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ
وَقَالَ أَيْضًا سَأَلْتَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ فَقُلْتُ أَيُّ شَيْءٍ أَصَحُّ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ فَقَالَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ بِظَاهِرِهِ وَأَجْرَاهُ عَلَى عُمُومِهِ إِذْ لَا حُجَّةَ مَعَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ وَالْحَدِيثُ حَسَنٌ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
(مَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلَا يَمِينَ لَهُ وَمَنْ حَلَفَ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمٍ فَلَا يَمِينَ لَهُ) وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ كَالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْكَلَامِ مَعَ أَخِيهِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ الْمُطْلَقَةَ مِنَ الْأَيْمَانِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَمِينَ لَهُ أَيْ لَا يَبَرُّ بِيَمِينِهِ لَكِنْ يَحْنَثُ وَيُكَفِّرُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ النَّذْرُ الَّذِي مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ إِنْ فَعَلْتُ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَدِي فَإِنَّ هَذِهِ يَمِينٌ بَاطِلَةٌ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا وَلَا يَلْزَمُهُ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَلَا فِدْيَةٌ وَكَذَلِكَ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّرِ وَالتَّقَرُّبِ
فَالنَّذْرُ لَا يَنْعَقِدُ فِيهِ وَالْوَفَاءُ بِهِ لَا يَلْزَمُ بِهِ وَلَيْسَ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(وَلَا نَذْرَ إِلَّا فِيمَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ فِي الطَّاعَةِ لَا فِي الْمَعْصِيَةِ(6/186)
8 - (بَاب فِي الطَّلَاقِ)
عَلَى غَلَطٍ قَالَ فِي فَتْحِ الْوَدُودِ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى غَيْظٍ بَدَلُ قَوْلِهِ عَلَى غَلَطٍ أَيْ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَهَكَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا عَلَى غَلَطٍ فَالْمَعْنَى فِي حَالَةٍ يَخَافُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ وَهِيَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ غَيْظٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
ثُمَّ الطَّلَاقُ فِي غَيْظٍ وَاقِعٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى
قُلْتُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدِي عَلَى غَضَبٍ بَدَلُ قَوْلِهِ عَلَى غَلَطٍ وَفِي نُسْخَةِ الْخَطَّابِيِّ عَلَى إِغْلَاقٍ
(كَانَ يَسْكُنُ إِيلِيَّا) قَالَ فِي الْمَجْمَعِ هُوَ بَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ مَدِينَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ (لَا طَلَاقَ وَلَا عِتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي غِلَاقٍ
(قَالَ أَبُو دَاوُدَ الْغِلَاقُ أَظُنُّهُ فِي الْغَضَبِ) فَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَى الْإِغْلَاقِ الْغَضَبُ وَفَسَّرَهُ عُلَمَاءُ الغريب بالإكراه وهو قول بن قتيبة والخطابي وبن السَّيِّدِ وَغَيْرِهِمْ وَقِيلَ الْجُنُونُ وَاسْتَبْعَدَهُ الْمُطَرِّزِيُّ وَقِيلَ الغضب وكذا فسره أحمد ورده بن السَّيِّدِ فَقَالَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ طَلَاقٌ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُطَلِّقُ حَتَّى يَغْضَبَ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْإِغْلَاقُ التَّضْيِيقُ
كَذَا فِي التَّلْخِيصِ
وَالْحَدِيثُ أَخَذَ بِهِ مَنْ لَمْ يُوقِعِ الطَّلَاقَ وَالْعِتَاقَ مِنَ الْمُكْرَهِ وَهُوَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَالَ شَيْخُنَا وَالْإِغْلَاق اِنْسِدَاد
بَاب الْعِلْم وَالْقَصْد عَلَيْهِ
يَدْخُل فِيهِ طَلَاق الْمَعْتُوه وَالْمَجْنُون وَالسَّكْرَان وَالْمُكْرَه وَالْغَضْبَان الَّذِي لَا يَعْقِل مَا يَقُول لِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَاب الْعِلْم وَالْقَصْد وَالطَّلَاق إِنَّمَا يَقَع مِنْ قَاصِدٍ لَهُ عَالِم بِهِ
وَاَللَّه أَعْلَم(6/187)
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَصِحُّ طَلَاقُهُ وعتاقه
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ
وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ صَالِحٍ الْمَكِّيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ
وَالْمَحْفُوظُ فِيهِ إِغْلَاقٌ وَفَسَّرُوهُ بَالْإِكْرَاهِ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُغْلَقُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَتَصَرُّفُهُ وَقِيلَ كَأَنَّهُ يُغْلَقُ عَلَيْهِ وَيُحْبَسُ وَيُضَيَّقُ عليه حتى يطلق وقيل الإغلاق ها هنا الْغَضَبُ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنْ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ كُلِّهِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَلَكِنْ لِيُطَلِّقْ لِلسُّنَّةِ كَمَا أُمِرَ انْتَهَى
(بَاب فِي الطلاق على الهزل)
(عن بن مَاهَكَ) بِفَتْحِ الْهَاءِ هُوَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ الْفَارِسِيُّ الْمَكِّيُّ (ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ) الْهَزْلُ أَنْ يُرَادَ بَالشَّيْءِ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ بِغَيْرِ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا وَالْجِدُّ مَا يُرَادُ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوْ مَا صَلُحَ لَهُ اللَّفْظُ مَجَازًا (النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرِّجْعَةُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا فَفِي الْقَامُوسِ بَالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ عَوْدُ الْمُطَلِّقِ إِلَى طَلِيقَتِهِ
وَفِي الْمَشَارِقِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ وَرَجْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ فِيهَا الْوَجْهَانِ وَالْكَسْرُ أَكْثَرُ وَأَنْكَرَ بن مَكِّيٍّ الْكَسْرَ وَلَمْ يُصِبْ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ اتَّفَقَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ صَرِيحَ لَفْظِ الطلاق إذا جرى على لسان انسان الْبَالِغِ الْعَاقِلِ فَإِنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ وَلَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَقُولَ كُنْتُ لَاعِبًا أَوْ هَازِلًا أَوْ لَمْ أَنْوِهِ طَلَاقًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ
وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ الله هزوا وَقَالَ لَوْ أُطْلِقَ لِلنَّاسِ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَتِ الْأَحْكَامُ وَلَمْ يُؤْمَنْ مُطَلِّقٌ أَوْ نَاكِحٌ أَوْ مُعْتِقٌ أَنْ يَقُولُ كُنْتُ فِي قَوْلِي هَازِلًا فَيَكُونُ في ذلك
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ اِحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَرَى طَلَاق الْمُكْرَه لَازِمًا قَالَ لِأَنَّهُ أَكْثَر مَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدهُ وَالْقَصْد لَا يُعْتَبَر فِي الصَّرِيح بِدَلِيلِ وُقُوعه مِنْ الْهَازِل وَاللَّاعِب وَهَذَا قِيَاس فَاسِدٌ فَإِنَّ الْمُكْرَه غَيْر قَاصِد لِلْقَوْلِ وَلَا لِمُوجِبِهِ وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَيْهِ وَأُكْرِه عَلَى التَّكَلُّم بِهِ وَلَمْ يُكْرَه عَلَى الْقَصْد
وَأَمَّا الْهَازِل فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ اِخْتِيَارًا وَقَصَدَ بِهِ غَيْر مُوجِبه وَهَذَا لَيْسَ إِلَيْهِ بَلْ إِلَى الشَّارِع فَهُوَ أَرَادَ اللَّفْظ الَّذِي إِلَيْهِ وَأَرَادَ أَنْ لَا يَكُون مُوجِبه وَلَيْسَ إِلَيْهِ فَإِنَّ من باشر سبب لكم بِاخْتِيَارِهِ لَزِمَهُ مُسَبَّبه وَمُقْتَضَاهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ
وَأَمَّا الْمُكْرَه فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَقِيَاسه عَلَى الْهَازِل غَيْرُ صَحِيحٍ(6/188)
إِبْطَالُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ أَنَّ الْمُدَّعَى خِلَافُهُ وَذَلِكَ تَأْكِيدٌ لِأَمْرِ الْفُرُوجِ وَاحْتِيَاطٌ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَعَافِرِيُّ رُوِيَ فِيهِ وَالْعِتْقُ وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ فَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ يُحَسَّنُ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ
(بَاب نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ)
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يتربصن) أي ينتظرن (ثلاثة قروء) جَمْعُ قَرْءٍ بَالْفَتْحِ وَهُوَ الطُّهْرُ أَوِ الْحَيْضُ قَوْلَانِ (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خلق الله في أرحامهن) من الولد أو الحيض (اية) بالغصب أَيْ أَتِمَّ الْآيَةَ وَتَمَامُ الْآيَةِ (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والله عزيز حكيم) فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا كَلِمَةُ إِنْ وَصْلِيَّةٌ (فَنُسِخَ ذَلِكَ) أَيْ كَوْنُ الرَّجُلِ أَحَقَّ بِرَجْعَةِ امْرَأَتِهِ وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا (فَقَالَ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ) أَيِ التَّطْلِيقُ الشَّرْعِيُّ مَرَّةٌ بَعْدَ مَرَّةٍ عَلَى التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ وَالْإِرْسَالِ دَفْعَةً
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان) أَيْ فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكُهُنَّ بَعْدَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه لَمْ يَذْكُر أَبُو دَاوُدَ فِي النُّسَخ غَيْر هَذَيْنَ
وَفِيهِ أَحَادِيث أَصَحّ وَأَصْرَح مِنْهَا مِنْهَا حَدِيث مَالِك عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ الرَّجُل إِذَا طَلَّقَ اِمْرَأَته ثُمَّ اِرْتَجَعَهَا قَبْل أَنْ تَنْقَضِي عِدَّتهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْف مَرَّة فَعَمَد رَجُل إِلَى اِمْرَأَةٍ لَهُ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ أَمْهَلَهَا حَتَّى إِذَا شَارَفَتْ اِنْقِضَاء عِدَّتهَا اِرْتَجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَالَ وَاَللَّه لَا آوِيك إِلَيَّ
وَلَا تَحِلِّينَ أَبَدًا فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ(6/189)
التَّطْلِيقَتَيْنِ بِأَنْ تُرَاجِعُوهُنَّ مِنْ غَيْرِ ضِرَارٍ أَوْ إِرْسَالَهُنَّ بِإِحْسَانٍ
قَالَ فِي مَعَالِمِ التَّنْزِيلِ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ كَانَ النَّاسُ فِي الِابْتِدَاءِ يُطَلِّقُونَ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ وَلَا عَدٍّ وَكَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَإِذَا قَارَبَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا كَذَلِكَ ثُمَّ راجعها يقصد مضارتها فنزلت الطلاق مرتان يَعْنِي الطَّلَاقُ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ عَقِيبَهُ مَرَّتَانِ فَإِذَا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَلَا تَحِلُّ لَهُ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ انْتَهَى
وَاعْلَمْ أَنَّ نَسْخَ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَتْ مُفَرَّقَةً فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ لحديث بن عَبَّاسٍ كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا
فَيَجُوزُ للرجل أن يراجع امرأته بعد ما طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَمَا يَجُوزُ له الرجعة بعد ما طَلَّقَهَا وَاحِدَةً
فَإِنْ قُلْتَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يدعي أن حديث بن عَبَّاسٍ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ الْمُرْسَلَةِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً مَنْسُوخٌ أَيْضًا بِحَدِيثِ الْبَابٌ فَمَا الْجَوَابُ قُلْتُ دَعْوَى نَسْخِ حديث بن عَبَّاسٍ مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ مُقَاوِمٍ مُتَرَاخٍ فَأَيْنَ هَذَا
وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ فَإِنَّهُ إِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَيُرَاجِعُهَا بِغَيْرِ عَدَدٍ فَنُسِخَ ذَلِكَ وَقُصِرَ عَلَى ثَلَاثٍ فِيهَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ فَأَيْنَ فِي ذَلِكَ الْإِلْزَامُ بَالثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَمِرُّ الْمَنْسُوخُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَعْلَمُ بِهِ الْأُمَّةُ وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحِلِّ الْفُرُوجِ ثُمَّ كَيْفَ يَقُولُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ وَهَلْ لِلْأُمَّةِ أَنَاةٌ فِي الْمَنْسُوخِ بِوَجْهٍ مَا ثُمَّ كَيْفَ يُعَارَضُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِحَدِيثِ الْبَابِ الَّذِي فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ وَفِيهِ مَقَالٌ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَجَلَّ (الطَّلَاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَاسْتَقْبَلَ النَّاس الطَّلَاق جَدِيدًا مِنْ يَوْمئِذٍ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ طَلَّقَ أَوْ لَمْ يُطَلِّق ورواه الترمذي متصلا عن عائشة ثم قال وَالْمُرْسَل أَصَحّ
وَفِيهِ حَدِيث عَائِشَة فِي اِمْرَأَة رِفَاعَة وَقَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ صَرِيح فِي تَحْرِيمهَا عَلَيْهِ بَعْد الطَّلْقَة الثَّالِثَة(6/190)
(وَإِخْوَتِهِ) بَالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى رُكَانَةَ أَيْ وَأَبُو إِخْوَةِ رُكَانَةَ (أُمَّ رُكَانَةَ) بَالنَّصْبِ مَفْعُولُ طَلَّقَ (فَقَالَتْ مَا يُغْنِي) أَيْ أَبُو رُكَانَةَ (إِلَّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ) تُرِيدُ أَنَّهُ عِنِّينٌ (فأخذت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِيَّةٌ) بَالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ أَيْ غَيْرَةٌ وَغَضَبٌ (أَتَرَوْنَ فُلَانًا يشبه منه كذا وكذا من عبديزيد) أَيْ أَنَّ رُكَانَةَ وَإِخْوَتَهُ مُتَشَابِهُونَ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ فَهُمْ أَوْلَادُهُ وَلَا شَكَّ فِي رُجُولِيَّتِهِ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَتِ امْرَأَتُهُ الْمُزَنِيَّةُ (فَفَعَلَ) أَيْ فَطَلَّقَهَا (أُمَّ رُكَانَةَ) بَالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنَ امْرَأَتِكَ (وَإِخْوَتِهِ) بَالْجَرِّ أَيْ وَأُمَّ إِخْوَتِهِ (طَلَّقَهَا ثَلَاثًا) أَيْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ (قَدْ عَلِمْتُ رَاجِعْهَا) أَيْ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةٌ فَرَاجِعْهَا
وَلَفْظُ أَحْمَدَ طَلَّقَ رُكَانَةَ امْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا فَحَزِنَ عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَقَعُ وَاحِدَةً وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا وَهُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَيَجِيءُ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى ياأيها النبي إذا طلقتم النساء
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله والحديث الذي رححه أَبُو دَاوُدَ هُوَ حَدِيث نَافِع بْن عُجَيْر أَنَّ رُكَانَة بْن عُبَيْد طَلَّقَ اِمْرَأَته سُهْمَةِ الْبَتَّة فَأُخْبِر بِذَلِكَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة فَقَالَ رُكَانَة وَاَللَّه مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَّقَهَا الثَّانِيَة فِي زَمَن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَالثَّالِثَة فِي زَمَن عُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ أبو داود وهذا أصح من حديث بن جُرَيْج يَعْنِي الْحَدِيث الَّذِي قَبْل هَذَا
تَمَّ كَلَامه
وَهَذَا هُوَ الْحَدِيث الَّذِي ضَعَّفَهُ الْإِمَام أَحْمَد وَالنَّاس فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَة عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن السَّائِب عَنْ نَافِع بْن عُجَيْر عَنْ رُكَانَة وَمِنْ رِوَايَة الزُّبَيْر بْن سَعِيد عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَلِيّ بْن يَزِيد بْن رُكَانَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه وَكُلّهمْ ضُعَفَاء وَالزُّبَيْر أَضْعَفهمْ وَضَعَّفَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيث قَالَ عَلِيّ بْن يَزِيد بْن رُكَانَة عَنْ أَبِيهِ لَمْ يَصِحّ حَدِيثه(6/191)
الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ بِلَفْظِ الْجَمْعِ أَوْ عَلَى إِرَادَةِ ضم أمته إليه والتقدير ياأيها النبي وَأُمَّتَهُ وَقِيلَ هُوَ عَلَى إِضْمَارِ قُلْ أَيْ قل لأمتك
والثاني أليق فخص النبي عليه الصلاة والسلام بَالنِّدَاءِ لِأَنَّهُ إِمَامُ أُمَّتِهِ اعْتِبَارًا بِتَقَدُّمِهِ وَعَمَّمَ بالخطاب كما يقال لأمير القوم يافلان افْعَلُوا كَذَا
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فَطَلِّقُوهُنَّ لعدتهن أَيْ عِنْدَ ابْتِدَاءِ شُرُوعِهِنَّ فِي الْعِدَّةِ وَاللَّامُ لِلتَّوْقِيتِ كَمَا يُقَالُ لَقِيتُهُ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنَ الشَّهْرِ
قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَطَلِّقُوهُنَّ لعدتهن قال بن عَبَّاسٍ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ
أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ
قَالَهُ الْحَافِظُ (وَحَدِيثُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ أَصَحُّ وَحَدِيثُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ يَأْتِي فِي بَابِ فِي الْبَتَّةَ (وَعَبْدُ الله بن علي بن يزيد بن ركانة) بَالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى نَافِعٍ أَيْ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ
وَحَدِيثُهُ أَيْضًا يَأْتِي فِي الباب المذكور (أصح) أي من حديث بن عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ وَالْحَاصِلُ أَنْ حَدِيثَ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ وَحَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْآتِيَيْنِ أصح من حديث بن عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ
وَبَيْنَ وَجْهِ كَوْنِهِمَا أَصَحَّ مِنْهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُمْ وَلَدُ الرَّجُلِ إِلَخْ) وَحَاصِلُهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عُجَيْرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلَيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ مِنْ أَوْلَادِ رُكَانَةَ وهما
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَأَمَّا قَوْل أَبِي دَاوُدَ إِنَّهُ أَصَحّ مِنْ حديث بن جريج فلأن بن جُرَيْج رَوَاهُ عَنْ بَعْض بَنِي رَافِع مَوْلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عِكْرِمَة عن بن عَبَّاس وَلِأَبِي رَافِع بَنُونَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُحْتَجّ بِهِ إِلَّا عُبَيْد اللَّه بْن رَافِع وَلَا نَعْلَم هَلْ هُوَ هَذَا أَوْ غَيْره وَلِهَذَا وَاَللَّه أَعْلَم رَجَّحَ أَبُو دَاوُدَ حَدِيث نافع بن عُجَيْر عَلَيْهِ وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد في مسنده من حديث بن إِسْحَاق حَدَّثَنِي دَاوُدَ بْن الْحُصَيْن عَنْ عِكْرِمَة عن بن عَبَّاس
وَهَذَا أَصَحّ مِنْ حَدِيث نَافِع بْن عجير ومن حديث بن جُرَيْج
وَقَدْ صَحَّحَ الْإِمَام أَحْمَد هَذَا السَّنَد فِي قِصَّة رَدّ زَيْنَب اِبْنَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بن الربيع وقال الصحيح حديث بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ رَدَّهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّل وهو بهذا الإسناد بعينه من رواية بن إِسْحَاق عَنْ دَاوُدَ بْن الحصين عَنْ عِكْرِمَة عن بن عَبَّاس
وَهَكَذَا ذَكَر الثَّوْرِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ أَنَّ رِوَايَة بن إِسْحَاق هِيَ الصَّوَاب
وَحَكَمُوا لَهُ عَلَى رِوَايَة حَجَّاج بْن أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَحَجَّاج بْن أَرْطَاةَ أَعْرَف مِنْ نَافِع بْن عُجَيْر وَمَنْ مَعَهُ
وَبِالْجُمْلَةِ فَأَبُو دَاوُدَ لَمْ يَتَعَرَّض لِحَدِيثِ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق وَلَا ذَكَره
والله أعلم(6/192)
قَدْ بَيَّنَا فِي حَدِيثِهِمَا أَنَّ رُكَانَةَ إِنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَحَدِيثُهُمَا أَصَحُّ لِأَنَّ أَوْلَادَ الرَّجُلِ أَعْلَمُ بِمَا جَرَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ
وَالْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعِيدُ كَلَامَهُ هَذَا بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِهِمَا فِي بَابِ فِي الْبَتَّةَ وَهُنَاكَ يَظْهَرُ لَكَ مَا فِيهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مَقَالٌ لِأَنَّ بن جُرَيْجٍ إِنَّمَا رَوَاهُ عَنْ بَعْضِ بَنِي أَبِي رَافِعٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ وَالْمَجْهُولُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ
وَحُكِيَ أَيْضًا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ يُضَعِّفُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ كُلَّهَا انْتَهَى
حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ رَادُّهَا إِلَيْهِ) أَيْ حتى ظننت أن بن عَبَّاسٍ يَرُدُّ الْمَرْأَةَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ (فَيَرْكَبُ الْحَمُوقَةَ) أَيْ يَفْعَلُ فِعْلَ الْأَحْمَقِ (عَصَيْتَ رَبَّكَ) أَيْ بِتَطْلِيقِكَ الثَّلَاثَ دَفْعَةً (فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عدتهن) قال النووي هذه قراءة بن عباس وبن عُمَرَ وَهِيَ شَاذَّةٌ لَا يَثْبُتُ قُرْآنًا بَالْإِجْمَاعِ وَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ خَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدنَا وَعِنْدَ مُحَقِّقِي الْأُصُولِيِّينَ انْتَهَى
وَقَالَ الْحَافِظُ نُقِلَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَيْضًا عَنْ أُبَيٍّ وَعُثْمَانَ وَجَابِرٍ وعلي بن الحسين وغيرهم انتهى
وفتوى بن عَبَّاسٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا مَجْمُوعَةً بَانَتْ مِنْهُ لَكِنْ هَذَا رَأْيُهُ وَرِوَايَتُهُ الْمَرْفُوعَةُ الصَّحِيحَةُ الْآتِيَةُ فِي هَذَا الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَبِينُ مِنْهُ بَلْ تَكُونُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ الْمَجْمُوعَةُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ رِوَايَةُ الرَّاوِي لَا رَأْيُهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَقَرِّهِ
وَأَيْضًا سَيَأْتِي عَنِ بن عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثلاثا بفم واحد فهي واحدة
ففتوى بن عَبَّاسٍ هَذَا يُنَاقِضُ فَتْوَاهُ الْأَوَّلُ فَإِذَنْ لَمْ يَبْقَ الِاعْتِبَارُ إِلَّا عَلَى رِوَايَتِهِ
ثُمَّ أَوْرَدَ أبو داود عدة متابعات لفتوى بن عَبَّاسٍ وَقَالَ (قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَى هَذَا الحديث(6/193)
حميد الأعرج وغيره عن مجاهد عن بن عَبَّاسٍ) هَذَا هُوَ الْمُتَابِعُ الْأَوَّلُ (وَرَوَاهُ شُعْبَةُ إلى قوله عن بن عباس) هو المتابع الثاني (وأيوب وبن جريج إلى عن بن عباس) أي روى هذا الحديث أيوب وبن جريج الخ وهو الثالث من المتابعات (وبن جريج عن عبد الحميد إلى عن بن عباس) أي روى هذا الحديث بن جُرَيْجٍ إِلَخْ وَهُوَ الرَّابِعُ مِنَ الْمُتَابِعَاتِ (وَرَوَاهُ الأعمش إلى عن بن عباس) هو الخامس من المتابعات (وبن جريج عن عمرو بن دينار عن بن عَبَّاسٍ) هُوَ السَّادِسُ مِنَ الْمُتَابِعَاتِ (كُلُّهُمْ قَالُوا فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ إِنَّهُ أَجَازَهَا) أَيْ أَمْضَاهَا وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهَا وَاحِدَةٌ (قَالَ وَبَانَتْ مِنْكَ) هَذَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ أَجَازَهَا (نَحْوَ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ) بَالنَّصْبِ أَيْ كُلَّهُمْ قَالُوا نَحْوَ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ (بِفَمٍ وَاحِدٍ) أَيْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ (فَهِيَ وَاحِدَةٌ) فتوى بن عَبَّاسٍ هَذَا يُوَافِقُ رِوَايَتَهُ الْآتِيَةَ وَإِسْنَادَهُ عَلَى ما قال بن الْقَيِّمِ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ (وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ هَذَا) أَيْ كَوْنُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةٌ (قَوْلُهُ) أَيْ قَوْلُ عِكْرِمَةَ (وَلَمْ يَذْكُرْ) أَيْ إِسْمَاعِيلُ بن إبراهيم (بن عباس) بالنصب على المفعولية
واعلم أن بن عَبَّاسٍ كَمَا كَانَ يُفْتِي بِأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ كَانَ يُفْتِي بِهِ صَاحِبُهُ عِكْرِمَةُ أَيْضًا فَحَدَّثَ أَيُّوبُ عَنْهُ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَتْوَى بن عَبَّاسٍ وَحَدَّثَ بَعْضَهُمْ فَتْوَاهُ نَفْسُهُ (وَصَارَ قَوْلُ بن عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلِهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
وَغَرَضُ الْمُؤَلِّفِ أَنَّ بن عَبَّاسٍ تَرَكَ الْإِفْتَاءَ بِكَوْنِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً وَصَارَ قَائِلًا بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَحِلُّ(6/194)
بَعْدَ الثَّلَاثِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَلَكِنْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ دَخَلَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى الزُّهْرِيِّ وَأَنَا مَعَهُمْ فَسَأَلُوهُ عَنِ الْبِكْرِ تُطَلَّقُ ثَلَاثًا فقال سئل عن ذلك بن عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَكُلُّهُمْ قَالُوا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زوجا غيره قال فخرج الحكم فأتى طاؤسا وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ قول بن عَبَّاسٍ فِيهَا وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ قَالَ فَرَأَيْتُ طاؤسا رَفَعَ يَدَيْهِ تَعَجُّبًا مِنْ ذَلِكَ
وَقَالَ وَاللَّهِ ما كان بن عَبَّاسٍ يَجْعَلُهَا إِلَّا وَاحِدَةً (وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى) وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَفْظُهُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ قَالَ فَجَاءَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ فَقَالَ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَمَاذَا تَرَيَانِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا بَلَغَ لَنَا فِيهِ قَوْلٌ فَاذْهَبْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنِّي تَرَكْتُهُمَا عِنْدَ عَائِشَةَ فَاسْأَلْهُمَا ثُمَّ آتِنَا فَأَخْبِرْنَا فَذَهَبَ فَسَأَلَهُمَا فقال بن عباس لأبي هريرة أفته ياأبا هُرَيْرَةَ فَقَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ الْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا وَالثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيره وقال بن عَبَّاسٍ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا
قَالَ مَالِكٌ وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا
قَالَ مَالِكٌ وَالثَّيِّبُ إِذَا مَلَكَهَا الرَّجُلُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا إِنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْبِكْرِ الْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا وَالثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ انْتَهَى
(قَالَ أَبُو دَاوُدَ وقول بن عَبَّاسٍ إِلَى قَوْلِهِ هَذَا مِثْلُ خَبَرُ الصَّرْفِ قَالَ فِيهِ ثُمَّ إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ(6/195)
الصَّرْفُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ دَفْعُ ذَهَبٍ وَأَخْذُ فِضَّةٍ وَعَكْسُهُ
قَالَهُ الْحَافِظُ وَالْأَوْلَى فِي تَعْرِيفِ الصَّرْفِ أَنْ يُقَالَ هُوَ بَيْعُ النُّقُودِ وَالْأَثْمَانِ بِجِنْسِهَا
واعلم أن بن عَبَّاسٍ كَانَ يَعْتَقِدُ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارٍ بِدِينَارَيْنِ وَصَاعِ تَمْرٍ بِصَاعَيْ تَمْرٍ وَكَذَا الْحِنْطَةُ وَسَائِرُ الرِّبَوِيَّاتِ وَكَانَ مُعْتَمَدُهُ حَدِيثَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْجِنْسِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ حِينَ بَلَغَهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ كَمَا ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَيَّانَ الْعَدَوِيِّ سَأَلْتُ أَبَا مِجْلَزَ عَنِ الصَّرْفِ فَقَالَ كَانَ بن عَبَّاسٍ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ وَكَانَ يَقُولُ إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَالْحَدِيثَ وَفِيهِ التَّمْرُ بَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةُ بَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بَالشَّعِيرِ وَالذَّهَبُ بَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بَالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ فمن زاد فهو ربا
فقال بن عَبَّاسٍ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فَكَانَ يَنْهَى عَنْهُ أَشَدَّ النَّهْيِ
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أن المؤلف يقول إن بن عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا بِجَعْلِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ
وَقَالَ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ كَمَا كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا فِي الصَّرْفِ مِنْ أَنَّهُ لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ بِرِبَا الْفَضْلِ
قُلْتُ رُجُوعُهُ فِي مَسْأَلَةِ الصَّرْفِ بِبَلُوغِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ واستغفاره عما أفتى أولا ونهيه عند أَشَدَّ النَّهْيِ ظَاهِرةٌ لَا سُتْرَةَ فِيهِ وَأَمَّا رُجُوعُهُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ فَفِيهِ خَفَاءٌ كَيْفَ وَلَمْ يَثْبُتْ لَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ رِوَايَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسِخَةٌ لِرِوَايَتِهِ الْآتِيَةِ مُوجِبَةٌ لِرُجُوعِهِ عَنْهَا وَكَذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ عَنْ جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً أَوْ نَهَى عَنْهُ أَحَدًا وَأَمْرُ الطَّلَاقِ أَشَدُّ من أمر الربا
وإفتائه بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ لِرِوَايَتِهِ
وَسَيَأْتِي وَجْهٌ وَجِيهٌ لِإِفْتَائِهِ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ في كلام الإمام بن القيم إن شاء الله تعالى
(قال بن عَبَّاسٍ بَلَى كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا إِلَى قَوْلِهِ قَدْ تَتَابَعُوا فِيهَا) أَيْ فِي التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً وَقَوْلُهُ تَتَابَعُوا بَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفِي بَعْضِ النسخ(6/196)
تَتَايَعُوا بِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتٍ وَهُمَا بِمَعْنًى أَيْ أَسْرَعُوا فِي التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ بِأَنْ أَوْقَعُوهَا دَفْعَةً (قَالَ أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ) أَيْ أَمْضُوا الثَّلَاثَ عَلَيْهِمْ
وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنْ ذَهَبَ إن أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ إِنْ كَانَتْ مَدْخُولَةً وَقَعَتِ الثَّلَاثُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولَةً فَوَاحِدَةٌ
وَيُجَابُ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِقَبْلِ الدُّخُولِ لَا يُنَافِي صِدْقَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَغَايَةُ مَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا التَّنْصِيصُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ مَدْلُولِ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بَالْبَعْضِ الَّذِي وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ضَعِيفَةٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ الرُّوَاةُ عن طاؤس مَجَاهِيلُ التَّتَايُعُ التَّهَافُتُ فِي الشَّيْءِ وَاللِّجَاجِ وَلَا يَكُونُ التَّتَايُعُ بَالْيَاءِ إِلَّا بَالشَّرِّ وَوَقَعَ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ بَالْبَاءِ بِوَاحِدَةٍ وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْأَوَّلِ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
(أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَتَعْلَمُ إِلَخْ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عن بن عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ فلو أمضيناه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا الْحَدِيث أَحَد مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فَأَخْرَجَهُ مُسْلِم وَتَرَكَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَظُنّهُ إِنَّمَا تَرَكَهُ لِمُخَالَفَتِهِ سَائِر الرِّوَايَات عن بن عَبَّاس وَسَاقَ الرِّوَايَات عَنْهُ ثُمَّ قَالَ فَهَذِهِ رِوَايَة سَعِيد بْن جُبَيْر وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَمُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَعُمَر بْن دِينَار وَمَالِك بْن الْحَارِث وَمُحَمَّد بْن إِيَاس بْن الْبُكَيْر وَرَوَيْنَاهُ عَنْ مُعَاوِيَة بْن أَبِي عَيَّاش الْأَنْصَارِيّ كلهم عن بن عباس أنه أجاز الثلاث وأمضاهن قال بن الْمُنْذَر فَغَيْر جَائِز أَنْ نَظُنّ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَحْفَظ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ثُمَّ يُفْتِي بِخِلَافِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فإن كان يعني قول بن عَبَّاس إِنَّ الثَّلَاث كَانَتْ تُحْتَسَب عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاَلَّذِي يُشْبِه وَاَللَّه أَعْلَم أَنْ يَكُون بن عَبَّاس قَدْ عَلِمَ أَنْ كَانَ شَيْءٌ فَنُسِخَ
قال البيهقي
ورواية عكرمة عن بن عَبَّاس فِيهَا تَأْكِيد لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيل يُرِيد الْبَيْهَقِيّ الْحَدِيث الَّذِي ذَكَره أَبُو دَاوُدَ فِي بَاب نَسْخ الْمُرَاجَعَة وَقَدْ تَقَدَّمَ(6/197)
عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ
وَقَوْلُهُ أَنَاةٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ مُهْلَةٌ وَبَقِيَّةُ اسْتِمْتَاعٍ لِانْتِظَارِ الْمُرَاجَعَةِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ
وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ إِذَا أُوقِعَتْ مَجْمُوعَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةً قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ علي وبن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ نَقَلَ ذلك بن مُغِيثٍ فِي كِتَابِ الْوَثَائِقِ لَهُ وَعَزَاهُ لِمُحَمَّدِ بن وضاح ونقل الغنوي ذلك عن جماعة مِنْ مَشَايِخِ قُرْطُبَةَ كَمُحَمَّدِ بْنِ تَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيِّ وَغَيْرِهِمَا ونقله بن المنذر عن أصحاب بن عَبَّاسٍ كَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَيَتَعَجَّبُ من بن التِّينِ حَيْثُ جَزَمَ بِأَنَّ لُزُومَ الثَّلَاثِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي التَّحْرِيمِ مَعَ ثُبُوتِ الِاخْتِلَافِ كَمَا تَرَى انْتَهَى
وَقَالَ الْحَافِظُ بن الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ وَهَذَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ مَعَهُ فِي عَصْرِهِ وَثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ عَصْرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَلَوْ عَدَّهُمُ الْعَادُّ بِأَسْمَائِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ إِمَّا بِفَتْوَى وَإِمَّا بِإِقْرَارٍ عَلَيْهَا وَلَوْ فُرِضَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُنْكِرًا لِلْفَتْوَى بِهِ بَلْ كَانُوا مَا بَيْنَ مُفْتٍ وَمُقِرٍّ بِفُتْيَا وَسَاكِتٍ غَيْرِ مُنْكِرٍ وَهَذَا حَالُ كُلِّ صَحَابِيٍّ مِنْ عَهْدِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى الْأَلْفِ قَطْعًا كَمَا ذَكَرَ يونس بن بكير عن بن إِسْحَاقَ وَكُلُّ صَحَابِيٍّ مِنْ لَدُنْ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ إِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس بْن سُرَيْج يُمْكِن أَنْ يَكُون ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ الطَّلَاق الثَّلَاث وَهُوَ أَنْ يُفَرِّق بَيْن اللَّفْظ
كَأَنْ يَقُول أَنْتِ طَالِق أَنْتِ طَالِق أَنْتِ طَالِق وَكَانَ فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْد أَبِي بَكْر وَالنَّاس عَلَى صِدْقهمْ وَسَلَامَتهمْ لَمْ يَكُنْ ظَهَرَ فِيهِمْ الْخِبّ وَالْخِدَاع فَكَانُوا يَصْدُقُونَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ التَّوْكِيد وَلَا يُرِيدُونَ الثَّلَاث
وَلَمَّا رَأَى عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي زَمَانه أُمُورًا ظَهَرَتْ وَأَحْوَالًا تَغَيَّرَتْ مَنَعَ مِنْ حَمْل اللَّفْظ عَلَى التَّكْرَار فَأَلْزَمهُمْ الثَّلَاث
وَقَالَ بَعْضهمْ إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ فِي غَيْر الْمَدْخُول بِهَا وَذَهَبَ إلى هذا جماعة من أصحاب بن عَبَّاسٍ وَرَوَوْا أَنَّ الثَّلَاث لَا تَقَع عَلَى غَيْر الْمَدْخُول بِهَا لِأَنَّهَا بِالْوَاحِدَةِ تَبِين فَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِق بَانَتْ وَقَوْله ثَلَاثًا وَقَعَ بَعْد الْبَيْنُونَة وَلَا يُعْتَدّ بِهِ وَهَذَا مَذْهَب إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ
وَقَالَ بَعْضهمْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ فَاطِمَة بِنْت قَيْسٍ أَنَّ أَبَا حَفْص بْن الْمُغِيرَة طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَأَبَانَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْعَل لَهَا نَفَقَة ولا سكنى وفي حديث بن عُمَر أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُول اللَّه أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا قَالَ إِذْن عَصَيْت رَبّك وَبَانَتْ مِنْك اِمْرَأَتك رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَعَنْ عَلِيّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا طَلَّقَ اِمْرَأَته الْبَتَّة فَغَضِبَ وَقَالَ يَتَّخِذُونَ آيَات اللَّه هُزُوًا أَوْ دِين اللَّه هُزُوًا وَلَعِبًا مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّة أَلْزَمْنَاهُ ثَلَاثًا لَا تَحِلّ لَهُ حَتَّى تَنْكِح زَوْجًا غَيْره رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا(6/198)
فَتْوَى أَوْ إِقْرَارٌ أَوْ سُكُوتٌ وَلِهَذَا ادَّعَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ قَدِيمٌ وَلَمْ تَجْتَمِعِ الْأُمَّةُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى خِلَافِهِ بَلْ لَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مَنْ يُفْتِي بِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَإِلَى يَوْمِنَا هَذَا فَأَفْتَى بِهِ حَبْرُ الْأُمَّةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَأَفْتَى أَيْضًا بَالثَّلَاثِ أَفْتَى بِهَذَا وَهَذَا وَأَفْتَى بِأَنَّهَا وَاحِدَةٌ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عوف حكاه عنهما بن وضاح وعن علي وبن مسعود روايتان كما عن بن عَبَّاسٍ
وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَأَفْتَى بِهِ عِكْرِمَةُ وَأَفْتَى به طاؤس
وَأَمَّا تَابِعُو التَّابِعِينَ فَأَفْتَى بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَكَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْهُ وَأَفْتَى بِهِ خِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ
وَأَمَّا أَتْبَاعُ تَابِعِي التَّابِعِينَ فَأَفْتَى بِهِ دَاوُدُ بْنُ علي وأكثر أصحابه حكاه عنهم بن المغلس وبن حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ حَكَاهُ التِّلِمْسَانِيُّ فِي شَرْحِ التَّفْرِيعِ لِابْنِ حَلَّابٍ قَوْلًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ حَكَاهُ شيخ الإسلام بن تَيْمِيَةَ عَنْهُ قَالَ وَكَانَ الْجَدُّ يُفْتِي بِهِ أَحْيَانًا انْتَهَى كَلَامُهُ
وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الثَّلَاثَ تَقَعُ ثَلَاثًا وَحَدِيثُ بن عَبَّاسٍ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ فِي عَدَمِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ
وَأُجِيبَ مَنْ قَبْلَهُمْ عَنْ حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ بِأَجْوِبَةٍ لَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهَا عَنِ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ وَمَحَلُّ بَسْطِهَا وَالْكَشْفِ عَمَّا فِيهَا هُوَ غَايَةُ الْمَقْصُودِ
وَلِلْقَائِلِينَ بِأَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ حَدِيثٌ آخَرُ صَحِيحٌ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ مولى بن عباس عن بن عباس قال طلق ركانة بن عبديزيد أَخُو بَنِي الْمُطَّلِبِ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا قَالَ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ طلقتها
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالُوا وَهَذِهِ الْأَحَادِيث أَكْثَر وَأَشْهَر مِنْ حَدِيث أَبِي الصَّهْبَاء وَقَدْ عَمِلَ بِهَا الْأَئِمَّة فَالْأَخْذ بِهَا أَوْلَى
وَقَالَ بَعْضهمْ الْمُرَاد أَنَّهُ كَانَ الْمُعْتَاد فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْلِيقَة وَاحِدَة وَقَدْ اِعْتَادَ النَّاس الْآن التَّطْلِيقَات الثَّلَاث وَالْمَعْنَى كَانَ الطَّلَاق الْمُوَقَّع الْآن ثَلَاثًا مُوَقَّعًا فِي عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْر وَاحِدَة
وَقَالَ بَعْضهمْ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَلَغَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقِرّ عَلَيْهِ وَالْحُجَّة إِنَّمَا هِيَ فِي إِقْرَاره بَعْد بُلُوغه وَلَمَّا بَلَغَهُ طَلَاق رُكَانَة اِمْرَأَته الْبَتَّة اِسْتَحْلَفَهُ مَا أَرَدْت بِهَا إِلَّا وَاحِدَة وَلَوْ كَانَ الثَّلَاث وَاحِدَة لَمْ يَكُنْ لِاسْتِحْلَافِهِ مَعْنَى وَأَنَّهَا وَاحِدَة سَوَاء أَرَادَ بِهَا الثَّلَاث أَوْ الواحدة(6/199)
قَالَ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا قَالَ فَقَالَ فِي مَجْلِسٍ واحد قال نعم قال فإنما تملك وَاحِدَةٌ فَأَرْجِعْهَا إِنْ شِئْتَ
قَالَ فَرَاجَعَهَا
فَكَانَ بن عَبَّاسٍ يَرَى إِنَّمَا الطَّلَاقُ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ
قال بن الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ وَقَدْ صَحَّحَ الْإِمَامُ هَذَا الْإِسْنَادَ وَحَسَّنَهُ
قَالَ الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ الَّذِي فِي غَيْرِهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ
وَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءٍ أَحَدُهَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ وَشَيْخَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمُ احْتَجُّوا فِي عِدَّةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ بِمِثْلِ هَذَا الْإِسْنَادِ كَحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ بَالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ كُلُّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مَرْدُودٌ
الثاني معارضته بفتوى بن عَبَّاسٍ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يُظَنُّ بَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ هَذَا الْحُكْمُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُفْتِي بِخِلَافِهِ إِلَّا بِمُرَجِّحٍ ظَهَرَ لَهُ وَرَاوِي الْخَبَرِ أَخْبَرُ مِنْ غَيْرِهِ بِمَا رَوَى
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَةِ الرَّاوِي لَا بِرَأْيِهِ لِمَا يَطْرُقُ رَأْيُهُ مِنَ احْتِمَالِ النِّسْيَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَأَمَّا كَوْنُهُ تَمَسَّكَ بِمُرَجِّحٍ فَلَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْمَرْفُوعِ لِاحْتِمَالِ التَّمَسُّكِ بِتَخْصِيصٍ أَوْ تَقْيِيدٍ أَوْ تَأْوِيلٍ وَلَيْسَ قَوْلُ مُجْتَهِدٍ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ آخَرَ
الثَّالِثُ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَجَّحَ أَنَّ رُكَانَةَ إِنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ كَمَا أَخْرَجَهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ آلِ بَيْتِ رُكَانَةَ وَهُوَ تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ حَمَلَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ فَقَالَ طَلِّقْهَا ثَلَاثًا فَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ يَقِفُ الاستدلال بحديث بن عَبَّاسٍ الرَّابِعُ أَنَّهُ مَذْهَبٌ شَاذٌّ فَلَا يُعْمَلُ به
وأجيب بأنه نقل عن علي وبن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ مِثْلُهُ نقل ذلك بن مُغِيثٍ فِي كِتَابِ الْوَثَائِقِ لَهُ وَعَزَاهُ لِمُحَمَّدِ بن وضاح ونقل الغنوي ذلك عن جماعة مِنْ مَشَايِخِ قُرْطُبَةَ كَمُحَمَّدِ بْنِ تَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْخُشَنِيِّ وَغَيْرِهِمَا ونقله بن المنذر عن أصحاب بن عباس كعطاء وطاؤس وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَالَ بَعْضهمْ الْإِجْمَاع مُنْعَقِد عَلَى خِلَاف هَذَا الْحَدِيث وَالْإِجْمَاع مَعْصُوم مِنْ الْغَلَط وَالْخَطَأ دُون خَبَر الْوَاحِد
وَقَالَ بَعْضهمْ إِنَّمَا هَذَا فِي طَلَاق السُّنَّة
فَإِنَّهَا كَانَتْ عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاد بِهَا الواحدة كما أراد بها ركانة ثم تتايع النَّاس فِيهَا فَأَرَادُوا بِهَا الثَّلَاث فَأَلْزَمهُمْ عُمَر إِيَّاهَا
فَهَذِهِ عَشْرَة مَسَالِك لِلنَّاسِ فِي رَدّ هَذَا الْحَدِيث
وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ الْمَعَافِرِيّ فِي كِتَابه النَّاسِخ وَالْمَنْسُوخ (غَائِلَة) قَالَ تَعَالَى (الطَّلَاق مَرَّتَانِ) زَلَّ قَوْم فِي آخِر الزَّمَان فَقَالُوا إِنَّ الطَّلَاق الثَّلَاث فِي كَلِمَةٍ لَا يَلْزَم وَجَعَلُوهُ وَاحِدَة وَنَسَبُوهُ(6/200)
قُلْتُ قَدْ أَجَابَ الْحَافِظُ عَنِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالرَّابِعِ وَلَمْ يُجِبْ عَنِ الثَّالِثِ بَلْ قواه وجوابه ظاهر من كلام بن الْقَيِّمِ فِي الْإِغَاثَةِ حَيْثُ قَالَ إِنَّ أَبَا دَاوُدَ إِنَّمَا رَجَّحَ حَدِيثَ الْبَتَّةَ عَلَى حَدِيثِ بن جريج لأنه روى حديث بن جُرَيْجٍ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا مَجْهُولٌ وَلَمْ يَرْوِ أَبُو دَاوُدَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَلِذَا رَجَّحَ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثَ الْبَتَّةَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَا رَوَاهُ فِي سُنَنِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ
وَحَدِيثُ بن جُرَيْجٍ شَاهِدٌ لَهُ وَعَاضِدٌ فَإِذَا انْضَمَّ حَدِيثُ أبي الصهباء إلى حديث بن إسحاق وإلى حديث بن جُرَيْجٍ مَعَ اخْتِلَافِ مَخَارِجِهَا وَتَعَدُّدِ طُرُقِهَا أَفَادَ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا أَقْوَى مِنَ الْبَتَّةَ بِلَا شَكٍّ
وَلَا يُمْكِنُ مَنْ شَمَّ رَوَائِحَ الْحَدِيثِ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَرْتَابَ فِي ذَلِكَ فَكَيْفَ يُقَدِّمُ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ الَّذِي ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ وَرُوَاتُهُ مجاهيل على هذه الأحاديث انتهى كلام بن الْقَيِّمِ
فَإِنْ قُلْتَ قَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدَةٌ فَكَيْفَ خَالَفَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ أَمْضَاهَا عَلَيْهِمْ
قُلْتُ لَمْ يُخَالِفْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِجْمَاعَ مَنْ تَقَدَّمَهُ بَلْ رَأَى إِلْزَامَهُمْ بَالثَّلَاثِ عُقُوبَةً لَهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ حَرَامٌ وَتَتَابَعُوا فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا سَائِغٌ لِلْأُمَّةِ أَنْ يُلْزِمُوا النَّاسَ مَا ضَيَّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا فِيهِ رُخْصَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَسْهِيلَهُ وَرُخْصَتَهُ بَلِ اخْتَارُوا الشِّدَّةَ وَالْعُسْرَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
إِلَى السَّلَف الْأَوَّل فَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيّ وَالزُّبَيْر وعبد الرحمن بن عوف وبن مسعود وبن عَبَّاس وَعَزَوْهُ إِلَى الْحَجَّاج بْن أَرْطَاةَ الضَّعِيف الْمَنْزِلَة الْمَغْمُوز الْمَرْتَبَة وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَيْسَ لَهُ أَصْل وَغَوَى قَوْم مِنْ أَهْل الْمَسَائِل
فَتَتَبَّعُوا الْأَهْوَاء الْمُبْتَدَعَة فِيهِ وَقَالُوا إِنَّ قَوْله أَنْتِ طَالِق ثَلَاثًا كَذِب لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّق ثَلَاثًا كَمَا لَوْ قَالَ طَلَّقْت ثَلَاثًا وَلَمْ يُطَلِّق إِلَّا وَاحِدَة وَكَمَا لَوْ قَالَ أَحْلِف ثَلَاثًا كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَة
(مُنْبِهَة) لَقَدْ طَوَّفْت فِي الْآفَاق وَلَقِيت مِنْ عُلَمَاء الْإِسْلَام وَأَرْبَاب الْمَذَاهِب كُلّ صَادِق فَمَا سَمِعْت لِهَذِهِ الْمَقَالَة بِخَبَرٍ وَلَا أَحْسَسْت لَهَا بِأَثَرِ إِلَّا الشِّيعَة الَّذِينَ يَرَوْنَ نِكَاح الْمُتْعَة جَائِزًا وَلَا يرون الطلاق واقعا
ولذلك قال فيهم بن سَكْرَة الْهَاشِمِيُّ يَا مَنْ يَرَى الْمُتْعَة فِي دِينه حِلًّا وَإِنْ كَانَتْ بِلَا مَهْر وَلَا يَرَى تِسْعِينَ تَطْلِيقَة تَبِين مِنْهُ رَبَّة الْخِدْر من ها هنا طابت مواليدكم فاغتنموها يابني الْقَطْر وَقَدْ اِتَّفَقَ عُلَمَاء الْإِسْلَام وَأَرْبَاب الْحَلّ وَالْعَقْد فِي الْأَحْكَام عَلَى أَنَّ الطَّلَاق الثَّلَاث في كلمة(6/201)
فَكَيْفَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَمَالِ نَظَرِهِ لِلْأُمَّةِ وَتَأْدِيبِهِ لَهُمْ وَلَكِنَّ الْعُقُوبَةَ تَخْتَلِفُ بَاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ وَخَفَائِهِ وأمير المؤمنين رضي الله عنهم لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إِنَّ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْأُمَّةِ يَكُفُّهُمْ بِهَا التَّسَارُعَ إِلَى إِيقَاعِ الثَّلَاثِ وَلِهَذَا قَالَ فَلَوْ أَنَّا أَمْضَيْنَاهُ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ فَأَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ أَفَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا رَأْيٌ مِنْهُ رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ لَا إِخْبَارٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا عَلِمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَنَاةَ وَالرُّخْصَةَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُطَلِّقِ وَرَحْمَةٌ بِهِ وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ قَابَلَهَا بِضِدِّهَا وَلَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللَّهِ وَمَا جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الْأَنَاةِ عَاقَبَهُ بِأَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَأَلْزَمَهُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي قَوْل بَعْضهمْ وَبِدْعَة فِي قَوْل الْآخَرِينَ لَازِمٌ وَأَيْنَ هَؤُلَاءِ الْبُؤَسَاء مِنْ عَالِم الدِّين وَعَلَم الْإِسْلَام مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الْبُخَارِيّ وَقَدْ قَالَ فِي صَحِيحه بَاب جَوَاز الثَّلَاث لِقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} وَذَكَر حَدِيث اللِّعَان فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْل أَنْ يَأْمُرهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُغَيِّر عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُقِرّ عَلَى الْبَاطِل وَلِأَنَّهُ جَمَعَ مَا فُسِحَ لَهُ فِي تَفْرِيقه فَأَلْزَمَتْهُ الشَّرِيعَة حُكْمه وَمَا نَسَبُوهُ إِلَى الصَّحَابَة كَذِب بَحْت لَا أَصْل لَهُ فِي كِتَابٍ وَلَا رِوَايَة لَهُ عَنْ أَحَد
وَقَدْ أَدْخَلَ مَالك فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَلِيّ أَنَّ الْحَرَام ثَلَاث لَازِمَةٌ فِي كَلِمَةٍ فَهَذَا فِي مَعْنَاهَا
فَكَيْف إِذَا صَرَّحَ بِهَا وَأَمَّا حَدِيث الْحَجَّاج بْن أَرْطَاةَ فَغَيْر مَقْبُول فِي الْمِلَّة وَلَا عِنْد أَحَد مِنْ الْأَئِمَّة
فَإِنَّ قِيلَ فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ بن عَبَّاس وَذَكَر حَدِيث أَبِي الصَّهْبَاء هَذَا
قُلْنَا هَذَا لَا مُتَعَلَّق فِيهِ مِنْ خَمْسَة أَوْجُه الْأَوَّل أَنَّهُ حَدِيث مُخْتَلَف فِي صِحَّته فَكَيْف يُقَدَّم عَلَى إِجْمَاع الْأُمَّة وَلَمْ يُعْرَف لَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة خِلَاف إِلَّا عَنْ قَوْم اِنْحَطُّوا عَنْ رُتْبَة التَّابِعِينَ وَقَدْ سَبَقَ الْعَصْرَانِ الْكَرِيمَانِ وَالِاتِّفَاق عَلَى لُزُوم الثَّلَاث فَإِنْ رَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَحَد مِنْهُمْ فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَقْبَلُونَ مِنْكُمْ نَقْل الْعَدْل عَنْ الْعَدْل وَلَا تَجِد هَذِهِ الْمَسْأَلَة مَنْسُوبَة إِلَى أَحَد مِنْ السَّلَف أَبَدًا
الثَّانِي إِنَّ هَذَا الحديث لم يرو إلا عن بن عَبَّاس وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ إِلَّا مِنْ طَرِيق طَاوُسٍ
فَكَيْف يُقْبَل مَا لَمْ يَرْوِهِ مِنْ الصَّحَابَة إِلَّا وَاحِد وَمَا لَمْ يَرْوِهِ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيّ إِلَّا وَاحِد وَكَيْف خَفِيَ عَلَى جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا بن عباس وكيف خفي على أصحاب بن عَبَّاس إِلَّا طَاوُس الثَّالِث يُحْتَمَل أَنْ يُرَاد بِهِ قَبْل الدُّخُول
وَكَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ النَّسَائِيّ فَقَالَ
بَاب طَلَاق الثَّلَاث الْمُتَفَرِّقَة قَبْل الدُّخُول
بِالزَّوْجَةِ
وَذَكَر هَذَا الْحَدِيث بِنَصِّهِ
الرَّابِع أَنَّهُ يُعَارِضهُ حَدِيث مَحْمُود بْن لَبِيَدٍ قَالَ أُخْبِر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُل طلق امرأته(6/202)
مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالِاسْتِعْجَالِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ قَدَرًا وَشَرْعًا فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا تَعَدَّوْا حُدُودَهُ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَهَا ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ مَا جَعَلَهُ لِمَنِ اتَّقَاهُ مِنَ الْمَخْرَجِ
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ
مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا إِنَّكَ لَوِ اتَّقَيْتَ اللَّهَ لَجَعَلَ لَكَ مخرجا كما قاله بن مسعود وبن عَبَّاسٍ فَهَذَا نَظَرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ لَا أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ غَيَّرَ أَحْكَامَ اللَّهِ وَجَعَلَ حَلَالَهَا حَرَامًا
فَهَذَا غَايَةُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ النُّصُوصِ وَفِعْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ مَعَهُ كَذَا فِي زَادِ الْمَعَادِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
1 - (بَاب فِي ما عُنِيَ بِهِ الطَّلَاقُ وَالنِّيَّاتُ)
(إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بَالنِّيَّةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَالنِّيَّاتِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ صِحَّةَ الْأَعْمَالِ وَوُجُوبَ أَحْكَامِهَا إِنَّمَا تَكُونُ بَالنِّيَّةِ وَأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْمُصْرِفَةُ لَهَا إِلَى جِهَاتِهَا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَعْيَانَ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ أعيانها حاصلة بغير نية (وإنما لامرىء مَا نَوَى) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَنَّ تَعْيِينَ الْمَنْوِيِّ شَرْطٌ فَلَوْ كَانَ عَلَى إِنْسَانٍ صَلَوَاتٌ لَا يَكْفِيهِ أَنْ يَنْوِيَ الصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ بَلْ شَرْطٌ أَنْ يَنْوِيَ كَوْنَهَا ظُهْرًا أَوْ غَيْرَهُ فَلَوْلَا هَذَا الْقَوْلُ لَاقْتَضَى الْكَلَامُ الْأَوَّلُ أَنْ تصح الفائتة بلا تعيين
كذا قال بن
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
ثَلَاث تَطْلِيقَات جَمِيعًا فَقَامَ غَضْبَان ثُمَّ قَالَ أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّه وَأَنَا بَيْن أَظْهُركُمْ حَتَّى قَامَ رَجُل فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه أَلَا أَقْتُلهُ رَوَاهُ النَّسَائِيّ
فَلَمْ يُرِدْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَمْضَاهُ وَكَمَا فِي حَدِيث عُوَيْمِر الْعِجْلَانِيّ فِي اللِّعَان حَيْثُ أَمْضَى طَلَاقه الثَّلَاث وَلَمْ يَرُدّهُ
الْخَامِس وَهُوَ قَوِيٌّ فِي النَّظَر وَالتَّأْوِيل أَنَّهُ قَالَ كَانَ الطَّلَاق الثَّلَاث عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَة يُحْتَمَل أَنْ يُرِيد بِهِ كَانَ حُكْم الثَّلَاث إِذَا وَقَعَتْ أَنْ تُجْعَل وَاحِدَةً وَأَنْ يُرِيد بِهِ كَانَتْ عِبَارَة الثَّلَاث عَلَى عَهْده أَنْ تُذْكَر وَاحِدَة فَلَمَّا تَتَابَعَ النَّاس فِي الطَّلَاق وَذَكَرُوا الثَّلَاث بَدَل الْوَاحِدَة أَمْضَى ذَلِكَ عُمَر كَمَا أَمْضَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُوَيْمِر حِين طَلَّقَ ثَلَاثًا
فَلَا يَبْقَى فِي الْمَسْأَلَة إِشْكَال
فَهَذَا أَقْصَى مَا يُرَدُّ بِهِ هَذَا الْحَدِيث(6/203)
الْمَلَكِ وَالْعَلْقَمِيُّ (فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَيِ انْتِقَالُهُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَصْدًا وَعَزْمًا (فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فَإِنْ قُلْتَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ قَدِ اتَّحَدَا قُلْنَا لَا اتِّحَادَ لِأَنَّ التَّكْرَارَ قَدْ يُفِيدُ الْكَمَالَ كَمَا قَالَ أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي أَيْ شِعْرٌ كَامِلٌ وَالْمَعْنَى فَهِجْرَتُهُ كَامِلَةٌ (وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا) اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَوْ بِمَعْنَى إِلَى وَدُنْيَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ لِأَنَّهَا تَأْنِيثٌ أَدْنَى وَجَمْعُهَا دُنَى كَكُبْرَى وَكُبَرُ (يُصِيبُهَا) أَيْ يُحَصِّلُهَا (أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا) إِنَّمَا ذَكَرَهَا مَعَ كَوْنِهَا مُنْدَرِجَةً تَحْتَ دُنْيَا تَعْرِيضًا لِمَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي نِكَاحِ مُهَاجِرَةٍ فَقِيلَ لَهُ مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ أَوْ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِمَزِيَّتِهِ (فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) يَعْنِي لَا يُثَابُ عَلَى هِجْرَتِهِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُطَلِّقَ إِذَا طَلَّقَ بِصَرِيحِ لَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ بِبَعْضِ الْكِنَائِيِّ الَّتِي يُطَلَّقُ بِهَا وَنَوَى عَدَدًا مِنْ أَعْدَادِ الطَّلَاقِ كَانَ مَا نَوَاهُ مِنَ الْعَدَدِ وَاقِعًا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَإِلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَصَرْفَ الْأَلْفَاظَ عَلَى مَصَارِفِ النِّيَّاتِ وَقَالَ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى ثَلَاثًا أَنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ هِيَ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَحَقٌّ بِهَا وَكَذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ
(أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ) خَبَرُ إِنَّ قَوْلُهُ قَالَ سَمِعْتُ (وَكَانَ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ (قَائِدَ كَعْبٍ) مِنَ الْقَوْدِ نَقِيضُ السَّوْقِ فَهُوَ مِنْ أَمَامٍ وَذَاكَ مِنْ خَلْفٍ (مِنْ بَنِيهِ) أَيْ مِنْ بَنِيهِمْ
وَكَانَ أَبْنَاؤُهُ أَرْبَعَةً عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدٌ وَعُبَيْدَ اللَّهِ (قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ) وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ (فَسَاقَ قِصَّتَهُ) وَقِصَّتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ (حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ) أَيْ يَوْمًا (مِنَ الْخَمْسِينَ) أَيِ الَّتِي مَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا مَعَ هَؤُلَاءِ (إذا(6/204)
رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الْوَاقِدِيُّ هُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ (يَأْتِي) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَأْتِينِي (يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ) الِاعْتِزَالُ بَالْفَارِسِيَّةِ بيكسو شدن (فَقُلْتُ أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ) أَيْ مَا الْمُرَادُ بَالِاعْتِزَالِ الطَّلَاقُ أَوْ غَيْرُهُ (قَالَ لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلَا تَقْرَبَنَّهَا) أَيْ لَيْسَ الْمُرَادُ بَالِاعْتِزَالِ الطَّلَاقُ بَلْ عَدَمُ الْقُرْبَانِ (فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهَا الْحَقِي بِأَهْلِكِ وَلَمْ يُرِدْهُ طَلَاقًا أَنَّهُ لَا يَكُونُ طَلَاقًا وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكِنَايَاتِ كُلِّهَا عَلَى قِيَاسِهِ
وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ إِنَّهَا تَطْلِيقَةٌ يَكُونُ فِيهَا الْعَبْدُ مَالِكًا لِلرَّجْعَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ثَلَاثًا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا
2 - (بَاب فِي الْخِيَارِ)
(عَنْ أَبِي الضُّحَى) هُوَ مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ بَالتَّصْغِيرِ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ أَكْثَرُ مِنَ اسْمِهِ (خَيَّرَنَا) أَيْ مَعْشَرَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ بعد نزول قوله تعالى ياأيها النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (فَاخْتَرْنَاهُ) أَيْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا (فَلَمْ يَعُدَّ) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذَلِكَ) أَيِ التَّخْيِيرَ (شَيْئًا) أَيْ مِنَ الطَّلَاقِ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا وَفِي أُخْرَى لَهُ فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا
وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ خَيَّرَ زَوْجَتَهُ فَاخْتَارَتْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا وَلَا يَقَعُ بِهِ فُرْقَةٌ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْحَسَنِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ نَفْسَ التَّخْيِيرِ يَقَعُ بِهِ بَائِنَةً سَوَاءً اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَمْ لَا
وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَالنَّقَّاشُ عَنْ مَالِكٍ
قَالَ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ هَذَا عَنْ مَالِكٍ ثُمَّ هُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ بِحَدِيثِ الْبَابِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ وَلَعَلَّ الْقَائِلِينَ بِهِ لَمْ يَبْلُغْهُمْ(6/205)
هَذَا الْحَدِيثُ
كَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
3 - (بَاب فِي أَمْرُكِ بِيَدِكِ)
(هَلْ تَعْلَمُ أحدا قال يقول الْحَسَنِ فِي أَمْرُكِ بِيَدِكِ) أَيْ أَنَّهَا ثَلَاثٌ (قَالَ) أَيْ أَيُّوبُ (لَا) أَيْ لَا أَعْلَمُ أحدا قال يقول الْحَسَنِ إِلَخْ (إِلَّا شَيْءٌ حَدَّثَنَاهُ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ) أَيْ قَالَ إِنَّهَا ثَلَاثٌ
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ قُلْتُ لِأَيُّوبَ هَلْ عَلِمْتَ أَحَدًا قَالَ فِي أَمْرُكِ بِيَدِكِ أَنَّهَا ثَلَاثٌ إِلَّا الْحَسَنَ قَالَ لَا إِلَّا الْحَسَنَ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ غُفْرًا إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى بَنِي سَمُرَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثَلَاثٌ
وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ
فَعُلِمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْمُؤَلِّفِ حَذْفًا وَاخْتِصَارًا (فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مَا حَدَّثْتُ بِهَذَا قَطُّ) وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ (فَقَالَ بَلَى) أَيْ قَدْ حَدَّثَ (وَلَكِنَّهُ نَسِيَ) أَيْ عَنِ التَّحْدِيثِ
وَاعْلَمْ أَنَّ إِنْكَارَ الشَّيْخِ أَنَّهُ حَدَّثَ بِذَلِكَ إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَزْمِ كَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمُؤَلِّفِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ عِلَّةٌ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه هَكَذَا وَقَعَ فِي السُّنَن لِأَبِي دَاوُدَ وَلَمْ يُفَسِّر قَوْل الْحَسَن فِي حَدِيثه
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُفَسَّرًا عَنْ حَمَّاد بْن زَيْد قَالَ قُلْت لِأَيُّوبَ هَلْ عَلِمْت أَحَدًا قَالَ أَمْرك بِيَدِك ثَلَاثًا إِلَّا الْحَسَن قَالَ لَا ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ غَفْرًا إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَة عَنْ كَثِير مَوْلَى بَنِي سَمُرَة عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ثَلَاث ثُمَّ ذَكَر التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّمَا هُوَ مَوْقُوف
قَالَ أَبُو مُحَمَّد بْن حَزْم وَكَثِير مَوْلَى بَنِي سَلَمَة مَجْهُول وَعَنْ الْحَسَن فِي أَمْرك بِيَدِك قال ثلاث(6/206)
قَادِحَةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَزْمِ بَلْ عَدَمُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَعَدَمُ ذِكْرِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ بِدُونِ تَصْرِيحٍ بَالْإِنْكَارِ كَمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ قَادِحًا فِي الْحَدِيثِ وَقَدْ بُيِّنَ هَذَا فِي عِلْمِ اصْطِلَاحِ الْحَدِيثِ
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ كَانَ ذَلِكَ ثَلَاثًا
قَالَ التِّرْمِذِيُّ قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ هِيَ وَاحِدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَيْدُ بْنُ ثابت القضاء ما قضت
وقال بن عُمَرَ إِذَا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا وَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ وَقَالَ لَمْ أَجْعَلْ أَمْرَهَا بِيَدِهَا إِلَّا فِي وَاحِدَةٍ اسْتُحْلِفَ الزَّوْجُ وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ
وَذَهَبَ سُفْيَانُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَى قَوْلِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ
وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَقَالَ الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ
وَأَمَّا إِسْحَاقُ فَذَهَبَ إِلَى قول بن عُمَرَ انْتَهَى كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ
وَقَوْلُهُ الْقَضَاءُ مَا قَضَتْ مَعْنَاهُ الْحُكْمُ مَا نَوَتْ مِنْ رَجْعِيَّةٍ أَوْ بَائِنَةٍ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ
وَذُكِرَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفٌ وَلَمْ يُعْرَفْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا
وَقَالَ النَّسَائِيُّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ
(عَنِ الْحَسَنِ فِي أَمْرُكِ بِيَدِكِ قَالَ ثَلَاثٌ) يَعْنِي إِذَا قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ ثَلَاثًا فَتَقَعُ الثَّلَاثُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
4 - (بَاب فِي الْبَتَّةِ)
(أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ) هُوَ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ (طَلَّقَ امرأته(6/207)
سُهَيْمَةَ) بَالتَّصْغِيرِ (الْبَتَّةَ) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ أَيْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ (فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم) المختار بناءه للفاعل قاله القارىء (وَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً) عَطْفٌ عَلَى فَأَخْبَرَ (فَرَدَّهَا إِلَيْهِ)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ طَلَاقَ الْبَتَّةَ وَاحِدَةٌ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَأَنَّهَا رَجْعِيَّةٌ غير بائن انتهى
وقال القارىء طَلَاقُ الْبَتَّةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ نَوَى بِهَا اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَهُوَ مَا نَوَى
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ
وَعِنْدَ مَالِكٍ ثَلَاثٌ
وَاسْتُدِلَّ بَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ مَجْمُوعَةً تَقَعُ ثَلَاثًا وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْلَفَهُ أَنَّهُ أَرَادَ بَالْبَتَّةَ وَاحِدَةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهَا أَكْثَرَ لَوَقَعَ مَا أَرَادَهُ وَلَوْ لَمْ يَفْتَرِقِ الْحَالُ لَمْ يُحَلِّفْهُ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ وَمَعَ ضَعْفِهِ مضطرب ومع اضطرابه معارض بحديث بن عَبَّاسٍ أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدَةً فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ
وَإِنْ شِئْتَ الْوُقُوفَ عَلَى ضَعْفِهِ وَاضْطِرَابِهِ فَرَاجِعِ التَّعْلِيقَ الْمُغْنِيَ شَرْحَ الدَّارَقُطْنِيِّ فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَخُونَا الْمُعَظَّمُ أَبُو الطَّيِّبِ ضَعْفَ الْحَدِيثِ وَاضْطِرَابَهُ بَالْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ طَلَّقَ الحديث) قال
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَفِي تَارِيخ الْبُخَارِيِّ عَلِيّ بْن يَزِيد بْن رُكَانَة الْقُرَشِيّ عَنْ أَبِيهِ لَمْ يَصِحّ حديثه هذا لفظه
وقال(6/208)
المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ فِيهِ اضْطِرَابٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَاشِمِيُّ فَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُضْطَرَبٌ فِيهِ تَارَةً قِيلَ فِيهِ ثَلَاثًا وَتَارَةً قِيلَ فِيهِ وَاحِدَةً وَأَصَحُّهُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ وَأَنَّ الثَّلَاثَ ذُكِرَتْ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ طُرُقَهُ ضَعِيفَةٌ وَضَعَّفَهُ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ وَقَدْ وَقَعَ الِاضْطِرَابُ فِي إِسْنَادِهِ وَفِي مَتْنِهِ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
(قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَهَذَا أَصَحُّ من حديث بن جُرَيْجٍ أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلَخْ) قَالَ بن الْقَيِّمِ فِي حَاشِيَةِ السُّنَنِ إِنَّ أَبَا دَاوُدَ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ وَإِنَّمَا قَالَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ هذا أصح من حديث بن جُرَيْجٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ فَإِنَّ حديث بن جُرَيْجٍ ضَعِيفٌ وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا فَهُوَ أَصَحُّ الضَّعِيفَيْنِ عِنْدَهُ وَكَثِيرًا مَا يُطْلِقُ أَهْلُ الْحَدِيثِ هَذِهِ الْعِبَارَةَ عَلَى أَرْجَحِ الْحَدِيثَيْنِ الضَّعِيفَيْنِ وَهُوَ كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
عَبْد الْحَقّ الْإِشْبِيلِيّ فِي سَنَده كُلّهمْ ضَعِيف وَالزُّبَيْر أَضْعَفهمْ
وَذَكَر التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَاب الْعِلَل عَنْ الْبُخَارِيّ أَنَّهُ مُضْطَرَب فِيهِ تَارَة قِيلَ فِيهِ ثَلَاثًا وَتَارَة قِيلَ فِيهِ وَاحِدَة
ثُمَّ ذكر الشيخ بن الْقَيِّم كَلَام الْحَافِظ الْمُنْذِرِيّ وَاعْتِرَاضه عَلَى أَبِي دَاوُدَ فِي تَصْحِيحه ثُمَّ قَالَ الشَّيْخ وَفِيمَا قَالَهُ الْمُنْذِرِيّ نَظَرٌ فَإِنَّ أَبَا دَاوُدَ لَمْ يَحْكُم بِصِحَّتِهِ وَإِنَّمَا قَالَ بَعْد رِوَايَته هَذَا أصح من حديث بن جُرَيْج أَنَّهُ طَلَّقَ اِمْرَأَته ثَلَاثًا لِأَنَّهُمْ أَهْل بَيْته وَهُمْ أَعْلَم بِقَضِيَّتِهِمْ وَحَدِيثهمْ وَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيث عِنْده صَحِيح فَإِنَّ حديث بن جُرَيْج ضَعِيف وَهَذَا ضَعِيف أَيْضًا فَهُوَ أَصَحّ الضَّعِيفَيْنِ عِنْده وَكَثِيرًا مَا يُطْلِق أَهْل الْحَدِيث هَذِهِ الْعِبَارَة عَلَى أَرْجَح الْحَدِيثَيْنِ الضَّعِيفَيْنِ
وَهُوَ كَثِير فِي كَلَام الْمُتَقَدِّمِينَ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ اِصْطِلَاحًا لَهُمْ لَمْ تَدُلّ اللُّغَة عَلَى إِطْلَاق الصِّحَّة عَلَيْهِ فَإِنَّك تَقُول لِأَحَدِ الْمَرِيضَيْنِ هَذَا أَصَحّ مِنْ هَذَا وَلَا يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ صَحِيح مُطْلَقًا
وَاَللَّه أَعْلَم(6/209)
الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اصْطِلَاحًا لَهُمْ لَمْ تَدُلَّ اللُّغَةُ عَلَى إِطْلَاقِ الصِّحَّةِ عَلَيْهِ فَإِنَّكَ تَقُولُ لِأَحَدِ الْمَرِيضَيْنِ هَذَا أَصَحُّ مِنْ هَذَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَحِيحٌ مُطْلَقًا انْتَهَى كلامه
وقال بن الْقَيِّمِ فِي الْإِغَاثَةِ إِنَّ أَبَا دَاوُدَ إِنَّمَا رجح حديث البتة على حديث بن جريج لأنه روى حديث بن جُرَيْجٍ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا مَجْهُولٌ وَلَمْ يَرْوِ أَبُو دَاوُدَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَلِذَا رَجَّحَ أَبُو دَاوُدَ حَدِيثَ الْبَتَّةَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَا رَوَاهُ فِي سُنَنِهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ وَحَدِيثُ بن جُرَيْجٍ شَاهِدٌ لَهُ انْتَهَى بِقَدْرِ الْحَاجَةِ
وَقَدْ نَقَلْنَاهُ فِيمَا قَبْلُ بِأَزْيَدَ مِنْ هَذَا
5 - (بَاب فِي الْوَسْوَسَةِ بِالطَّلَاقِ)
قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْوَسْوَسَةُ حَدِيثُ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ بِمَا لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا خَيْرَ كَالْوِسْوَاسِ بَالْكَسْرِ وَالِاسْمُ بَالْفَتْحِ وَقَدْ وَسْوَسَ لَهُ وَإِلَيْهِ
(إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمَّتِي أَيْ عَفَا عَنْهُمْ (عَمَّا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ) إِنْ كَانَ قَوْلِيًّا (أَوْ تَعْمَلْ بِهِ) إِنْ كَانَ فِعْلِيًّا (وَبِمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا) بَالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ يُقَالُ حَدَّثْتُ نَفْسِي بِكَذَا أَوْ بَالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ يُقَالُ حَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِكَذَا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِلِسَانِهِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ بْنُ رَبَاحٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ إِذَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ لَفَظَ بِهِ أَوْ لَمْ يَلْفِظْ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ انْتَهَى
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ كَتَبَ الطَّلَاقَ طَلُقَتِ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهُ عَزَمَ بِقَلْبِهِ وَعَمِلَ بِكِتَابَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَشَرَطَ مَالِكٌ فِيهِ الْإِشْهَادَ عَلَى ذَلِكَ
قَالَهُ الْحَافِظُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه بنحوه(6/210)
16 - (بَاب فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ يَا أُخْتِي)
(عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ) هُوَ طَرِيفُ بْنُ مُجَالِدٍ (الهجيمي) بضم الهاء وفتح الجيم (ياأخية) تَصْغِيرُ أُخْتٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ عَلَى الْإِنْكَارِ (فَكَرِهَ ذَلِكَ) أي قوله لامرأته ياأخية (وَنَهَى عَنْهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ مَظَنَّةٌ لِلتَّحْرِيمِ وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ كَأُخْتِي وَأَرَادَ بِهِ الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا كَمَا يَقُولُ أَنْتِ كَأُمِّي وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ
وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَكْثَرُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهَذَا الْكَلَامِ الْكَرَامَةَ فَلَا يَلْزَمُهُ الظِّهَارُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ تَحْرِيمٌ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ هُوَ ظِهَارٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَكَرِهَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْقَوْلَ لِئَلَّا يَلْحَقَهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ فِي أَهْلٍ أَوْ يَلْزَمَهُ كَفَّارَةٌ فِي مَالٍ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ هَذَا مُرْسَلٌ
(سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ ياأخية فنهاه) قال بن بَطَّالٍ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَصِيرُ بِذَلِكَ مُظَاهِرًا إِذَا قَصَدَ ذَلِكَ فَأَرْشَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اجْتِنَابِ اللَّفْظِ الْمُشْكِلِ كَذَا فِي الْفَتْحِ (قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ) أَيْ حَدِيثَ أَبِي تَمِيمَةَ (عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ عَنْ خَالِدٍ) هُوَ الْحَذَّاءُ (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ) فَزَادَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بَيْنَ خَالِدٍ وَأَبِي تَمِيمَةَ أَبَا عُثْمَانَ وَرَوَاهُ مُرْسَلًا وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ هُوَ الْحَذَّاءُ (عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ) فَزَادَ شُعْبَةُ بَيْنَهُمَا رَجُلًا وَرَوَاهُ مُرْسَلًا وَأَمَّا خَالِدٌ الطَّحَّانُ فِي الطَّرِيقَةِ الْأُولَى فَلَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ وَكَذَا عَبْدُ السَّلَامِ فِي(6/211)
الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ إِلَّا أَنَّ الطَّحَّانَ رَوَاهُ مُرْسَلًا وَعَبْدَ السَّلَامِ رَوَاهُ مُتَّصِلًا فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ الْمُوجِبُ لاضطراب الحديث
(اثنتان فِي ذَاتِ اللَّهِ) أَيْ فِي طَلَبِ رِضَاهُ
اعْلَمْ أَنَّ الثَّالِثَةَ كَانَتْ لِدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ سَارَةَ وَفِيهَا رِضَا اللَّهِ أَيْضًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ لَهُ نَفْعٌ طَبِيعِيٌّ فِيهَا خَصَّصَ اثْنَتَيْنِ بِذَاتِ اللَّهِ دُونَهَا (قَوْلُهُ إِنِّي سَقِيمٌ) بَالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ أَحَدُ تِلْكَ الْكَذِبَتَيْنِ قَوْلُهُ إِنِّي سَقِيمٌ بَيَانُهُ مَا رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَهُ أَبُوهُ لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا لَأَعْجَبَكَ دِينُنَا فَخَرَجَ مَعَهُمْ وَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ وَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ تَأْوِيلُهُ إِنَّ قَلْبِيَ سَقِيمٌ بِكُفْرِكُمْ أَوْ مُرَادُهُ الِاسْتِقْبَالَ (وَقَوْلُهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) بيانه ما روي أنه عليه السلام بعد ما أَلْقَى نَفْسَهُ وَذَهَبُوا رَجَعَ وَكَسَّرَ أَصْنَامَهُمْ وَعَلَّقَ الْفَأْسَ عَلَى كَبِيرِهِمْ فَلَمَّا رَجَعُوا رَأَوْا أَحْوَالَهُمْ فقالوا أنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ
تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى سَبَبِهِ إِذْ كَبِيرُهُمْ كَانَ حَامِلًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ
وَقِيلَ أَرَادَ بِكَبِيرِهِمْ نَفْسَهُ أَيْ مُتَكَبِّرُهُمْ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْإِسْنَادُ حَقِيقِيًّا (فِي أَرْضِ جَبَّارٍ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إِنَّهَا أُخْتِي أَوْ أُمِّي عَلَى سَبِيل الْكَرَامَة وَالتَّوْقِير لَا يَكُون مُظَاهِرًا
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ هُوَ حُرّ يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاجِرٍ لَمْ يَعْتِق وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْتَى بِخِلَافِهِ فَإِنَّ السَّيِّد إِذَا قِيلَ لَهُ عَبْدك فَاجِرٌ زَانٍ فَقَالَ مَا هُوَ إِلَّا حُرٌّ قَطَعَ سَامِعه أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الصِّفَة لَا الْعَيْن وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ لَهُ جَارِيَتك تَبْغِي فَقَالَ إِنَّمَا هِيَ حُرَّة
وَسُمِّيَ قَوْل إِبْرَاهِيم هَذَا كَذِبًا لِأَنَّهَا تَوْرِيَة
وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى النَّاس تَسْمِيَتهَا كِذْبَة لِكَوْنِ الْمُتَكَلِّم إِنَّمَا أَرَادَ بِاللَّفْظِ الْمَعْنَى الَّذِي قَصْده فَكَيْف يَكُون كَذِبًا وَالتَّحْقِيق فِي ذَلِكَ أَنَّهَا كَذِب بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِفْهَام الْمُخَاطَب لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَايَة الْمُتَكَلِّم فَإِنَّ الْكَلَام لَهُ نِسْبَتَانِ نِسْبَة إِلَى الْمُتَكَلِّم وَنِسْبَة إِلَى الْمُخَاطَب فَلَمَّا أَرَادَ الْمُورِي أَنْ يُفْهِم الْمُخَاطَب خِلَاف مَا قَصَدَهُ بِلَفْظِهِ أُطْلِق الْكَذِب عَلَيْهِ بِهَذَا الِاعْتِبَار وَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّم صَادِقًا بِاعْتِبَارِ قصده ومراده(6/212)
اسْمُهُ عَمْرُو بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَانَ عَلَى مِصْرَ وَقِيلَ اسْمُهُ صَادِقٌ وَكَانَ عَلَى الْأُرْدُنِّ وَقِيلَ سِنَانُ بْنُ عُلْوَانَ (فَأُتِيَ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (هِيَ أَحْسَنُ النَّاسِ) فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ شَطْرَ الْحُسْنِ يَعْنِي سَارَةَ (وَإِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (لَيْسَ الْيَوْمَ مُسْلِمٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ) يُشْكِلُ عَلَيْهِ كَوْنُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مهاجر إلى ربي وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ مُرَادَهُ لَيْسَ مُسْلِمٌ بِتِلْكَ الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا مَا وَقَعَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ ذَاكَ
كَذَا فِي الْفَتْحِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
7 - (بَاب فِي الظِّهَارِ)
بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي
قَالَ الْحَافِظُ وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا لَمْ يُعَيِّنِ الْأُمَّ كَأَنْ قَالَ كَظَهْرِ أُخْتِي مَثَلًا فَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لَا يَكُونُ ظِهَارًا بَلْ يَخْتَصُّ بَالْأُمِّ كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَا فِي حَدِيثِ خَوْلَةَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا أَوْسٌ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ يَكُونُ ظهارا وهو قول الجمهور انتهى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَة أَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِطْعَامِ وَسْق وَالْوَسْق سِتُّونَ صَاعًا وَهُوَ أَكْثَر مَا قِيلَ فِيهِ وَذَهَبَ إِلَيْهِ سُفْيَان الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَاب الرَّأْي مَعَ قَوْلهمْ إِنَّ الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال بِالْعِرَاقِيِّ وَوَرَدَ فِيهَا أَنَّهُ أَمَرَ اِمْرَأَة أَوْس بْن الصَّامِت أَنْ تُكَفِّر عَنْهُ بِالْعِرْقِ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَيْهَا وَالْعِرْق الَّذِي أَعَانَتْهُ بِهِ
وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَار ذَلِكَ الْعِرْق فَقِيلَ سِتُّونَ صَاعًا وَهُوَ وَهْم وَقِيلَ ثَلَاثُونَ هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ أَبُو(6/213)
(قال بن الْعَلَاءِ بْنُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَيَّاشٍ) أَيْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عياش بزيادة بن علقمة بن عياش (قال بن الْعَلَاءِ الْبَيَاضِيُّ) أَيْ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ (قَالَ كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي) كِنَايَةً عَنْ كَثْرَةِ شَهْوَتِهِ وَوُفُورِ قُوَّتِهِ (يُتَايَعُ بِي) أَيْ يُلَازِمُنِي مُلَازَمَةَ الشَّرِّ وَفِي نُسْخَةٍ يُتَتَايَعُ وَالتَّتَايُعُ الْوُقُوعُ فِي الشَّرِّ مِنْ غَيْرِ فِكْرَةٍ وَرَوِيَّةٍ وَالْمُتَابَعَةُ عَلَيْهِ (حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ الْمُؤَقَّتَ ظِهَارٌ كَالْمُطْلَقِ مِنْهُ وَهُوَ إِذَا ظَاهَرَ مِنَ امْرَأَتِهِ إِلَى مُدَّةٍ ثُمَّ أَصَابَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إِذَا بَرَّ وَلَمْ يحنث فقال مالك وبن وأبي ليلى إذ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِلَى اللَّيْلِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا
وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَقْرَبْهَا
وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ فِي الظِّهَارِ الْمُؤَقَّتِ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِظِهَارٍ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ (فَلَمْ أَلْبَثْ) أَيْ لَمْ أَتَأَخَّرْ
وَاللُّبْثُ فِي الْفَارِسِيَّةِ درنك كردن (أَنْ نَزَوْتُ) أي وقعت (أنت بذاك ياسلمة) أَيْ أَنْتَ الْمُلِمُّ بِذَلِكَ أَوْ أَنْتَ الْمُرْتَكِبُ لَهُ
كَذَا فِي الْمَعَالِمِ (قَالَ حَرِّرْ رَقَبَةً) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ رَقَبَةً مَا كَانَتْ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
دَاوُدَ عَلَى حَدِيث يَحْيَى بْن آدَم وَقِيلَ خَمْسَة عَشْر فَيَكُون الْعِرْقَانِ ثَلَاثِينَ صَاعًا لِكُلِّ مِسْكَيْنِ نِصْف صَاع وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَام أَحْمَد وَمَالِك
وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنَّ التَّمْر الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّق بِهِ كَانَ قَرِيبًا مِنْ خَمْسَة عَشْر صَاعًا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَعَطَاء وَالْأَوْزاَعِيّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة فَيَكُون لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ وَهُوَ مِقْدَار لَا شَيْء بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُوجِبهُ أَهْل الرَّأْي فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ صَاعًا وَهُوَ ثَمَانِيَة أَرْطَال فَيُوجِبُونَ زِيَادَة عَلَى مَا يُوجِبهُ هَؤُلَاءِ سِتّ مَرَّات
وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ مِنْ حَدِيث الْمُجَامِع فِي رَمَضَان فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِعِرْقٍ فِيهِ خَمْسَة عَشْر صَاعًا فَقَالَ خُذْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تعالى(6/214)
كَبِيرٍ أَعْوَرَ كَانَ أَوْ أَعْرَجَ فَإِنَّهُ يَجْزِيهِ إِلَّا مَا يَمْنَعُ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ مِنْهُ وَهُوَ الزَّمِنُ الَّذِي لَا حَرَاكَ بِهِ انْتَهَى (مَا أَمْلِكُ رَقَبَةً غَيْرَهَا) أَيْ غَيْرَ رَقَبَتِي هَذِهِ (وَضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِي) زَادَ أَحْمَدُ بِيَدِي
قَالَ فِي الْقَامُوسِ الصَّفْحُ الْجَانِبُ وَمِنْكَ جَنْبُكَ وَمِنَ الْوَجْهِ وَالسَّيْفِ عَرْضُهُ (وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ) الْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا (بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَلَا يُجْزِئُ إِطْعَامُ دُونِهِمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنَّهُ يُجْزِئُ إِطْعَامُ وَاحِدٍ سِتِّينَ يَوْمًا (لَقَدْ بِتْنَا وَحْشَيْنِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ يُقَالُ رَجُلٌ وَحْشٌ بَالسُّكُونِ إِذَا كَانَ جَائِعًا لَا طَعَامَ لَهُ وَقَدْ أَوْحَشَ إِذَا جَاعَ (بَنِي زُرَيْقٍ) بِتَقْدِيمِ الزَّاي عَلَى الرَّاءِ (فَلْيَدْفَعْهَا) أَيِ التَّمْرَ (فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ) أَخَذَ بِظَاهِرِهِ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَالُوا الْوَاجِبُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ ذُرَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنَّ الْوَاجِبَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ وَتَمَسَّكَ بَالرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعَرَقِ وَتَقْدِيرُهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَسْقُطُ بَالْعَجْزِ عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَانَهُ بِمَا يُكَفِّرُ بِهِ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَا يَجِدُ رَقَبَةً وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِطْعَامٍ وَلَا يُطِيقُ الصَّوْمَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى السُّقُوطِ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالُوا تَسْقُطُ كَفَّارَةُ صَوْمِ رَمَضَانَ لَا غَيْرَهَا مِنَ الْكَفَّارَاتِ كَذَا فِي النَّيْلِ (وَكُلْ أَنْتَ وَعِيَالَكَ بَقِيَّتَهَا) أَيْ بَقِيَّةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي بَقِيَتْ بَعْدَ إِطْعَامِ سِتِّينَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِي الْبُرّ هَلْ هُوَ عَلَى النِّصْف مِنْ ذَلِكَ أَمْ هُوَ وَغَيْره سَوَاء فَقَالَ الشَّافِعِيُّ مُدٌّ مِنْ الْجَمِيع وَقَالَ مَالِك مُدَّانِ مِنْ الْجَمِيع وَقَالَ أَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَة الْبُرّ عَلَى النِّصْف مِنْ غَيْره عَلَى أَصْلهمَا فَعِنْد أَحْمَد مُدّ مِنْ بُرّ أَوْ نِصْف صَاع مِنْ غَيْره وَعِنْد أَبِي حَنِيفَة مُدَّانِ مِنْ بُرّ أَوْ نِصْف صَاع مِنْ غَيْره عَلَى اِخْتِلَافهمَا فِي الصَّاع(6/215)
مِسْكِينًا (وَبَيَاضَةُ بَطْنٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ) وَهُوَ بياضة بن عامر بن زريق بن عبدحارثة بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ مِنْ وَلَدِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ كَذَا فِي تَاجِ الْعَرُوسِ
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي الْبُخَارِيَّ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ عِنْدِي مِنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا هُوَ مُرْسَلٌ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَدْرِكْ سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عليه
(تجادلك في زوجها) هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ نَزَلَتْ فِي خَوْلَةَ وَيُقَالُ لَهَا خُوَيْلَةُ بَالتَّصْغِيرِ ظَاهَرَ مِنْهَا زَوْجُهَا وَكَانَ الظِّهَارُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاسْتَفْتَتْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ حَرُمْتِ عَلَيْهِ فَحَلَفَتْ أَنَّهُ مَا ذَكَرَ طَلَاقًا فَقَالَ حَرُمْتِ عَلَيْهِ فَقَالَتْ أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَجَعَلَتْ تُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْفَعُ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَتَشْكُو إِلَى اللَّهِ (إِلَى الْفَرْضِ) أَيْ إِلَى مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْكَفَّارَةِ وَتَمَامُ الْآيَةِ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ
إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لم يستطع فإطعام ستين مسكينا (ما به من صيام أي) أَيْ لَيْسَ فِيهِ قُوَّةُ صِيَامٍ (بِعَرَقٍ) بِفَتْحَتَيْنِ هُوَ السَّفِيفَةُ الْمَنْسُوجَةُ مِنَ الْخُوصِ قَبْلَ أَنْ يجعل منها(6/216)
الزِّنْبِيلُ أَوِ الزِّنْبِيلُ نَفْسُهُ (قَالَ وَالْعَرَقُ سِتُّونَ صَاعًا) قَالَ فِي النَّيْلِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَفَرَّدَ بِهَا مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ
قال الذهبي لا يعرف ووثقه بن حِبَّانَ وَفِيهَا أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ عَنْعَنَ وَالْمَشْهُورُ عُرْفًا أَنَّ الْعَرَقَ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا كَمَا رَوَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ نَفْسِهِ
انْتَهَى
(قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي هَذَا) أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا (إِنَّمَا كَفَّرَتْ) خُوَيْلَةُ (عَنْهُ) عَنْ زَوْجَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ (مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتَأْمِرَهُ) فِي أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ وَأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أجازها وأمضاها
(وَالْعَرَقُ مِكْتَلٌ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْمِكْتَلُ كَمِنْبَرٍ زِنْبِيلٌ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا (هَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ) يَعْنِي الْحَدِيثُ الَّذِي قَبْلَهُ
(قَالَ يَعْنِي الْعَرَقَ زِنْبِيلًا يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا) مَعْنَى يَأْخُذُ يَسْعُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي تَفْسِيرِ الْعَرَقِ فَفِي رواية يحيى بن آدم عن بن إدريس عن بن إِسْحَاقَ أَنَّهُ سِتُّونَ صَاعًا وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بن سلمة عن بن إِسْحَاقَ أَنَّهُ مِكْتَلُ يَسَعُ ثَلَاثِينَ صَاعًا وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ زِنْبِيلٌ يَسَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَدَلَّ أَنَّ الْعَرَقَ قَدْ يَخْتَلِفُ فِي السَّعَةِ وَالضِّيقِ فَيَكُونُ بَعْضُ الْأَعْرَاقِ أَكْبَرَ وَبَعْضُهَا أَصْغَرَ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ مِنْهَا إِلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي جَاءَ فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فِي كَفَّارَةِ الْمُجَامِعِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بِمُدِّ هُشَامٍ وَهُوَ مُدٌّ وَثُلُثٌ وَذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ وَهُوَ أَحْوَطُ الْأَمْرَيْنِ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ سِتِّينَ صَاعًا ثم يؤتي(6/217)
بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا فَيَقُولُ تَصَدَّقْ بِهَا وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ أَنَّهَا تُجْزِئُهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَفَّارَةِ وَلَكِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهَا فِي الْوَقْتِ وَيَكُونُ الْبَاقِي دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى يَجِدَهُ إِلَّا أَنَّ إِسْنَادَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَجْوَدُ وَأَحْسَنُ اتِّصَالًا مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ كَذَا فِي الْمَعَالِمِ بِأَدْنَى تَغْيِيرٍ وَاخْتِصَارٍ
(عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِذِكْرِهَا (قُلْتُ لَهُ) أَيْ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْوَزِيرِ وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِقَرَأْتُ (وَهُوَ) أَيْ أَوْسٌ (مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قديم الموت) قال بن حِبَّانَ مَاتَ أَيَّامَ عُثْمَانَ
قَالَهُ الْحَافِظُ (وَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ) أَيْ مُنْقَطِعٌ وَقَدْ يَجِيءُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ الْمُرْسَلُ وَالْمُنْقَطِعُ بِمَعْنًى
(أَنَّ جَمِيلَةَ كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ) وَفِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ اسْمَ زَوْجَةِ أَوْسٍ خُوَيْلَةُ فَلَعَلَّهَا كَانَتْ تُدْعَى بَالِاسْمَيْنِ أَوْ جَمِيلَةُ صِفَتُهَا أَيِ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ كَانَتْ تَحْتَ أَوْسٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَكَانَ رَجُلًا بِهِ لَمَمٌ) قَالَ الخطابي في المعالم معنى اللمم ها هنا شِدَّةُ الْإِلْمَامِ بَالنِّسَاءِ وَشِدَّةُ الْحِرْصِ وَالتَّوَقَانِ إِلَيْهِنَّ
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الرِّوَايَةِ الْأُولَى كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النساء مالا يصيب غيري وليس معنى اللمم ها هنا الخبل(6/218)
وَالْجُنُونُ وَلَوْ كَانَ بِهِ ذَاكَ ثُمَّ ظَاهَرَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلَا غَيْرُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
انْتَهَى
(ثُمَّ وَاقَعَهَا) أَيْ جَامَعَهَا (فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ عَنْكَ) أَيْ عَنْ ظِهَارِكَ
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ وَطْءِ الزَّوْجَةِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَبْلِ أن يتماسا فلو وطىء لَمْ يَسْقُطِ التَّكْفِيرُ وَلَا يَتَضَاعَفُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُكَفِّرَ عَنْكَ قَالَ الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ سَأَلْتُ عَشَرَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمُظَاهِرِ يُجَامِعُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَقَالُوا كَفَّارةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ يَجِبُ على من وطىء قَبْلَ التَّكْفِيرِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ
وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بَالْوَطْءِ
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ
وَاخْتُلِفَ فِي مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ هَلْ تَحْرُمُ مِثْلُ الْوَطْءِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ أَمْ لَا فَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْوَطْءُ وَحْدَهُ لَا الْمُقَدِّمَاتُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا تَحْرُمُ كَمَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ كَذَا فِي النَّيْلِ وَالسُّبُلِ
قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثٍ غَرِيبٍ صَحِيحٍ
وَقَالَ النَّسَائِيُّ الْمُرْسَلُ أَوْلَى بَالصَّوَابِ مِنَ الْمُسْنَدِ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَعَافِرِيُّ لَيْسَ فِي الظِّهَارِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فَقَدْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ كَمَا تَرَى وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ وَسَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَشْهُورٌ وَتَرْجَمَةُ عكرمة عن بن عَبَّاسٍ احْتَجَّ بِهَا الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
(حَدَّثَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ إِلَخْ) هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (بَرِيقَ سَاقِهَا) أَيْ لَمَعَانِهَا وَحُسْنِهَا (فِي الْقَمَرِ) أَيْ فِي ضَوْئِهِ(6/219)
18 - (بَاب فِي الْخُلْعِ)
الْخُلْعُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ هُوَ فِرَاقُ الزَّوْجَةِ عَلَى مَالٍ مَأْخُوذٌ مِنْ خَلَعَ الثَّوْبَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لِبَاسُ الرَّجُلِ مَجَازًا وَضُمَّ الْمَصْدَرُ تَفْرِقَةً بَيْنَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ والمجازي والأصل قوله تعالى فإن خفتم أن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت به كَذَا فِي السُّبُلِ
(فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ) وفي رواية من غير ما بأس أي لِغَيْرِ شِدَّةٍ تُلْجِئُهَا إِلَى سُؤَالِ الْمُفَارَقَةِ وَمَا زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ (فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ) أَيْ مَمْنُوعٌ عَنْهَا وَذَلِكَ عَلَى نَهْجِ الْوَعِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّهْدِيدِ أَوْ وُقُوعُ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ أَيْ لَا تَجِدُ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ أَوَّلَ مَا وَجَدَهَا الْمُحْسِنُونَ أَوْ لَا تَجِدُ أَصْلًا وَهَذَا مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّهْدِيدِ
وَنَظِيرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ
قَالَهُ الْقَاضِي
وَلَا بِدْعَ أَنَّهَا تُحْرَمُ لَذَّةَ الرَّائِحَةِ وَلَوْ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ
قَالَهُ القارىء
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ(6/220)
(إِلَى الصُّبْحِ) أَيْ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ (عِنْدَ بَابِهِ) أَيْ بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي الْغَلَسِ) هُوَ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ اخْتَلَطَ بِضَوْءِ الصَّبَاحِ (لَا أَنَا وَلَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ) أَيْ لَا يُمْكِنُ الِاجْتِمَاعُ بَيْنَنَا (كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ كُلُّ مَا أَعْطَانِي مِنَ الْمَهْرِ مَوْجُودٌ عِنْدِي (خُذْ مِنْهَا فَأَخَذَ مِنْهَا) فِيهِ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا جَمِيعَ مَا كَانَ أَعْطَاهَا
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ لَا يَأْخُذُ مِنْهَا جَمِيعَ مَا أَعْطَاهَا وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا سَاقَ إِلَيْهَا شَيْئًا وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ (وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا سُكْنَى لِلْمُخْتَلِعَةِ عَلَى الزَّوْجِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ
وَقَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَلَوْ كَانَ طَلَاقًا لَاقْتُضِيَ فِيهِ شَرَائِطُ الطَّلَاقِ مِنْ وُقُوعِهِ فِي طُهْرٍ لَمْ تُمْسَسْ فِيهِ الْمُطَلَّقَةُ وَمِنْ كَوْنِهِ صَادِرًا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاضَاةِ الْمَرْأَةِ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَرَّفِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَالَ فِي ذَلِكَ وَأَذِنَ لَهُ فِي مُخَالَعَتِهَا فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فسخ وليس بطلاق
وإلى هذا ذهب بن عَبَّاسٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بمعروف الْآيَةَ قَالَ ثُمَّ ذَكَرَ الْخُلْعَ فَقَالَ فَإِنْ خفتم أن لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت به ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلَاقَ فَقَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غيره فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا
وإلى هذا ذهب طاؤس وَعِكْرِمَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وعثمان وبن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ وبن الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَمَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَهُوَ أَصَحُّهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى بَاخْتِصَارٍ يَسِيرٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ(6/221)
(فَضَرَبَهَا فَكَسَرَ بَعْضَهَا) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ فَكَسَرَ يَدَهَا (فَاشْتَكَتْهُ إِلَيْهِ) ظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا اشْتَكَتْ لِلضَّرْبِ فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ إِنِّي مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا لَمْ تَشْكُهُ لِلضَّرْبِ بَلْ لِسَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ دَمِيمَ الْخِلْقَةِ فَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده عند بن مَاجَهْ كَانَتْ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَكَانَ رَجُلًا دَمِيمًا فَقَالَتْ وَاللَّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ لَبَصَقْتُ فِي وَجْهِهِ وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قال بلغني أنها قالت يارسول اللَّهِ بِي مِنَ الْجَمَالِ مَا تَرَى وَثَابِتٌ رَجُلٌ دَمِيمٌ (فَقَالَ وَيَصْلُحُ ذَلِكَ) أَيْ هَلْ يَجُوزُ أَنْ آخُذَ بَعْضَ مَالِهَا وَأُفَارِقَهَا (فَإِنِّي أَصْدَقْتُهَا) أَيْ جَعَلْتُ صَدَاقَهَا (حَدِيقَتَيْنِ) الْحَدِيقَةُ الْبُسْتَانُ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
(فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ هَذَا أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ مُطَلَّقَةً لَمْ يَقْتَصِرْ لَهَا عَلَى قُرْءٍ وَاحِدٍ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ المنذري
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَرَوَى النَّسَائِيّ حَدِيث اِمْرَأَة ثَابِت بْن قَيْس مَوْصُولًا مُطَوَّلًا عَنْ الرُّبَيِّع بِنْت مُعَوِّذ أَنَّ ثَابِت بْن قَيْس بْن شَمَّاس ضَرَبَ اِمْرَأَته فَكَسَرَ يَدهَا وَهِيَ جَمِيلَة بِنْت عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ وَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِيه إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ثَابِت فَقَالَ لَهُ خُذْ الَّذِي لَهَا عَلَيْك وَخَلّ سَبِيلهَا قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ بِهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَتَرَبَّص حَيْضَة وَاحِدَة وَتَلْحَق بِأَهْلِهَا(6/222)
(عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا) أَيْ لَمْ يَذْكُرِ الصَّحَابِيَّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُسْنَدًا وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حسن غريب
(عن بن عُمَرَ قَالَ عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ فَقَالَ أكثر أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ قَالَ إِسْحَاقُ وَإِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى هَذَا فَهُوَ مَذْهَبٌ قوي انتهى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعه الصَّحِيح فِي حَدِيث الرُّبَيِّع أَنَّهَا أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ وَهَذَا مَرْفُوع وَقَدْ صَرَّحَ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى أَنَّ الَّذِي أَمَرَهَا بِذَلِكَ هُوَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسلم ثم ذكر الترمذي حديث بن عَبَّاس أَنَّ اِمْرَأَة ثَابِت بْن قَيْسٍ اِخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى عَهْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ وَقَالَ هَذَا حَدِيث حَسَن غَرِيب
وَالْمَعْرُوف عَنْ إِسْحَاق أَنَّ عِدَّتهَا حَيْضَة وَهِيَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَام أَحْمَد نَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو الْقَاسِم وَهُوَ قَوْل عُثْمَان بن عفان وعبد الله بن عباس وعن بن عُمَر رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَنَّ عِدَّتهَا عِدَّة الْمُطَلَّقَة ذَكَره مَالِك فِي الْمُوَطَّأ عَنْ نَافِع عَنْهُ
والثانية حيضة نقلها بن الْمُنْذِر عَنْهُ وَهِيَ رِوَايَة الْقَعْنَبِيّ عَنْهُ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ الْقَعْنَبِيّ عَنْ مَالِك عَنْ نافع عن بن عمر قال عدة المختلعة حيضة اختار بن الْمُنْذِر أَنَّ عِدَّتهَا حَيْضَة
وَقَدْ ذَكَر اللَّه تَعَالَى فِي آيَة الطَّلَاق ثَلَاثَة أَحْكَام أَحَدهَا أَنَّ التَّرَبُّص فِيهِ ثَلَاثَة قُرُوء الثَّانِي أَنَّهُ مَرَّتَانِ الثَّالِث أَنَّ الزَّوْج أَحَقّ بِرَدِّ اِمْرَأَته فِي الْمَرَّتَيْنِ
فَالْخُلْع لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْحُكْم الثَّالِث اِتِّفَاقًا وَقَدْ دَلَّتْ السُّنَّة أَنَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْحُكْم الْأَوَّل وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى عَدَم دُخُوله فِي حُكْم الْعَدَد فَيَكُون فَسْخًا
وَهَذَا مِنْ أَحْسَن مَا يُحْتَجّ بِهِ عَلَى ذلك(6/223)
19 - (بَاب فِي الْمَمْلُوكَةِ تُعْتَقُ وَهِيَ تَحْتَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ)
أَيْ حَالَ كَوْنِهَا تَحْتَ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ
قَالَ النَّوَوِيُّ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا أُعْتِقَتْ تَحْتَ زَوْجِهَا وَهُوَ عَبْدٌ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ حُرًّا فَلَا خِيَارَ لَهَا عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُ الْخِيَارُ وَاحْتُجَّ بِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا وَقَدْ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ لَكِنْ قَالَ شُعْبَةُ ثُمَّ سَأَلَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا فَقَالَ لَا أَدْرِي
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهَا قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ
وَالرِّوَايَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا
قَالَ الْحَافِظُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ حُرًّا غَلَطٌ وَشَاذَّةٌ مَرْدُودَةٌ لِمُخَالَفَتِهَا الْمَعْرُوفَ فِي رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ انْتَهَى
(أَنَّ مُغِيثًا) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ اسْمُ زَوْجِ بَرِيرَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (كَانَ عَبْدًا) وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ وَقَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عن بن عباس أن زوج بريرة كان عبدأسود لِبَنِي الْمُغِيرَةِ يَوْمَ أُعْتِقَتْ بَرِيرَةُ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا قَبْلَ الْعِتْقِ حُرًّا بَعْدَهُ (اشْفَعْ لِي إِلَيْهَا) أَيْ إِلَى بَرِيرَةَ لِتَرْجِعَ إِلَى عِصْمَتِي (أَتَأْمُرُنِي بِذَاكَ) أَيْ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه هَكَذَا الرِّوَايَة وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدّ وَزَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ عِدَّة الْحُرَّة وَلَعَلَّهُ مُدْرَج مِنْ تَفْسِير بعض الرواة
وقد روى بن مَاجَةَ فِي سُنَنه أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ سُفْيَان عَنْ مَنْصُور عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ الْأَسْوَد عَنْ عَائِشَة قَالَتْ أُمِرَتْ بريرة أن يعتد بِثَلَاثِ حَيْض وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ إِسْنَاد الصَّحِيحَيْنِ فَلَمْ يَرَوْهُ أَحَد مِنْ أَهْل الْكُتُب السِّتَّة إلا بن مَاجَةَ وَيَبْعُد أَنْ تَكُون الثَّلَاث حِيَض مَحْفُوظَة
فَإِنَّ مَذْهَب عَائِشَة أَنَّ الْأَقْرَاء الْأَطْهَار وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخْتَلِعَة أن تستبرىء بِحَيْضَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَهَذِهِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْأَقْرَاء الثَّلَاث إِنَّمَا جُعِلَتْ فِي حَقّ الْمُطَلَّقَة لِيَطُولَ زَمَن الرَّجْعَة فَيَتَمَكَّن زَوْجهَا مِنْ رَجْعَتهَا مَتَى شَاءَ ثُمَّ أَجْرَى الطَّلَاق كُلّه مُجْرًى وَاحِدًا
وَطَرْد هَذَا أَنَّ الْمَزْنِيَّ بِهَا تُسْتَبْرَأ بِحَيْضَةٍ وقد نص عليه أحمد
وبالجملة فالأمر بالتريص ثَلَاثَة قُرُوء إِنَّمَا هُوَ لِلْمُطَلَّقَةِ وَالْمُعْتَقَة إِذَا فُسِخَتْ فَهِيَ بِالْمُخْتَلِعَةِ(6/224)
على سبيل الحتم
وعند بن مسعود من مرسل بن سيرين بسند صحيح فقالت يارسول الله أشيء واجب علي قال لا (قَالَ لَا) أَيْ لَا آمُرُ حَتْمًا
قَالَ الخطابي في قول بريرة أتأمرني بذلك يارسول اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَتْمِ وَالْوُجُوبِ (إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ) أَيْ أَقُولُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الشَّفَاعَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَتْمِ عَلَيْكِ (فَكَانَ دُمُوعُهُ) أَيْ دُمُوعُ مُغِيثٍ (تَسِيلُ) أَيْ تَجْرِي لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهَا (عَلَى خَدِّهِ) وَفِي رِوَايَةِ البخاري على لحيته (للعباس) هو بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالِدُ رَاوِي الْحَدِيثِ (أَلَا تَعْجَبَ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ إِلَخْ) قِيلَ إِنَّمَا كَانَ التَّعَجُّبُ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الْمُحِبَّ لَا يَكُونُ إِلَّا مَحْبُوبًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ
(فَخَيَّرَهَا) أَيْ بَيْنَ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ وَاخْتِيَارِ الْفَسْخِ (وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ) أَيْ بِثَلَاثِ حيض كما أخرج بن مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه البخاري مختصرا وأخرجه الترمذي والنسائي وبن ماجه بمعناه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَالْأَمَة الْمُسْتَبْرَأَة أَشْبَهَ إِذْ الْمَقْصُود بَرَاءَة رَحِمهَا فَالِاسْتِدْلَال عَلَى تَعَدُّد الْأَقْرَاء فِي حَقّهَا بِالْآيَةِ غَيْر صَحِيح لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُطَلَّقَة وَلَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَة لَثَبَتَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَة
وَأَمَّا الْأَحَادِيث فِي هَذِهِ اللَّفْظَة فَفِي صِحَّتهَا نَظَر وَحَدِيث الدَّارَقُطْنِيِّ الْمَعْرُوف أَنَّ الْحَسَن رَوَاهُ مُرْسَلًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بَرِيرَة أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّة الْحُرَّة وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سننه من حديث عكرمة عن بن عَبَّاس
وَفِيهِ وَجْه رَابِع وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ عِدَّتهَا عِدَّة الْمُطَلَّقَة رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي مَعْشَر عَنْ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ عَنْ مُحَمَّد بْن بَكَّارٍ عَنْ أَبِي مَعْشَر
فَهَذِهِ أَرْبَعَة أَوْجُه أَحَدهَا أَنْ تَعْتَدّ
الثَّانِي عِدَّة الْحُرَّة
الثَّالِث عِدَّة الْمُطَلَّقَة
الرَّابِع بِثَلَاثِ حيض(6/225)
(وَلَوْ كَانَ) أَيْ زَوْجُ بَرِيرَةَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا أَيْ بَرِيرَةَ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ عَلَى كَوْنِ زَوْجِ بَرِيرَةَ عَبْدًا أَحَدُهُمَا إِخْبَارُ عَائِشَةَ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا وَهِيَ صَاحِبَةُ الْقَضِيَّةِ والثاني قولها لو كان حرا لم يخبرها وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكَادُ وَاحِدٌ يَقُولُهُ إِلَّا تَوْقِيفًا
قَالَهُ النَّوَوِيِّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ) أَيِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أبي بكر بن أَخِي عَائِشَةَ (وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا) الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
0 - (بَاب مَنْ قَالَ كَانَ حُرًّا)
(عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا حِينَ أُعْتِقَتْ) اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ لِلْأَمَةِ الْمُعْتَقَةِ الْخِيَارَ إِذَا كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا وَلَكِنْ فِي كَوْنِ قَوْلِهِ كَانَ حُرًّا مَوْصُولًا كَلَامٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَوْلُهُ كَانَ حُرًّا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا وَإِنَّمَا وَقَعَ مُدْرَجًا فِي الْحَدِيثِ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ قَوْلُ الأسود منقطع وقول بن عَبَّاسٍ رَأَيْتُهُ عَبْدًا أَصَحُّ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا فَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الْأَسْوَدِ ولم تختلف عن بن عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا وَقَدْ جَاءَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ(6/226)
وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ
قَالَ الْبُخَارِيُّ وَقَوْلُ الْحَكَمِ مُرْسَلٌ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كُلُّهُمْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عبدا والقاسم هو بن أخي عائشة وعروة هو بن أُخْتِهَا وَكَانَا يَدْخُلَانِ عَلَيْهَا بِلَا حِجَابٍ وَعَمْرَةُ كَانَتْ فِي حَجْرِ عَائِشَةَ وَهَؤُلَاءِ أَخَصُّ النَّاسِ بِهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَذْهَبُ إِلَى خِلَافِ مَا رُوِيَ عَنْهَا وَكَانَ رَأْيُهَا لَا يُثْبِتُ لَهَا الْخِيَارَ تَحْتَ الْحُرِّ
وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَالَفَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّاسَ فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ فَقَالَ إِنَّهُ حُرٌّ وَقَالَ النَّاسُ إِنَّهُ عَبْدٌ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَحَاوَلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ تَرْجِيحَ رِوَايَةِ مَنْ قَالَ كَانَ حُرًّا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ قَالَ كَانَ عَبْدًا فَقَالَ الرِّقُّ تَعْقُبُهُ الْحُرِّيَّةُ بِلَا عَكْسٍ وَهُوَ كَمَا قَالَ لَكِنْ مَحَلُّ طَرِيقِ الْجَمْعِ إِذَا تَسَاوَتِ الرِّوَايَاتُ فِي الْقُوَّةِ أَمَّا مَعَ التَّفَرُّدِ فِي مُقَابَلَةِ الِاجْتِمَاعِ فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ الْمُنْفَرِدَةُ شَاذَّةً وَالشَّاذُّ مَرْدُودٌ وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَبِرِ الْجُمْهُورُ طَرِيقَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى التَّرْجِيحِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ
وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِ مُحَقِّقِيهِمْ وَقَدْ أَكْثَرَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّ مَحَلَّ الْجَمْعِ إِذَا لَمْ يَظْهَرِ الْغَلَطُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ التَّسَاوِيَ فِي الْقُوَّةِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه بنحوه
1 - (باب حتى يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ)
أَيْ إِلَى مَتَى
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ إِلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بِإِسْنَادَيْنِ مُرْسَلًا وَمُتَّصِلًا أَحَدُهُمَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَعَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ كِلَاهُمَا عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ أَنَّ بَرِيرَةَ أَعْتَقَتْ مُرْسَلًا وَثَانِيهِمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مُتَّصِلًا هَكَذَا قَالَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فَإِنَّهُ أَوْرَدَ رِوَايَةَ مُجَاهِدٍ هَذِهِ فِي الْمَرَاسِيلِ فِي تَرْجَمَةِ أَبَانَ بْنِ صَالِحِ بْنِ عُمَيْرٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمَكِّيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ عَنْ عَائِشَةَ
وَكَذَا أَوْرَدَ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ(6/227)
إِسْحَاقَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ (عَبْدٍ لِآلِ أَبِي أَحْمَدَ) بَالْجَرِّ بَدَلٌ مِنْ مُغِيثٍ (إِنْ قَرِبَكِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ جَامَعَكِ (فَلَا خِيَارَ لَكِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خِيَارَ مَنْ عَتَقَتْ عَلَى التَّرَاخِي وَأَنَّهُ يَبْطُلُ إِذَا مَكَّنَتِ الزَّوْجَ مِنْ نَفْسِهَا وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَقِيلَ بِقِيَامِهَا مِنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ وَقِيلَ مِنْ مَجْلِسِهَا وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ لإطلاق التخيير لها إلى غاية هي تمكينها مِنْ نَفْسِهَا وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ إِذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ فَهِيَ بَالْخِيَارِ مَا لَمْ يطأها إن تشأ فارقته وإن وطىء لَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَا تَسْتَطِيعَ فِرَاقُهُ
وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ إِنْ وَطِئَكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ كَذَا فِي النَّيْلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
2 - (باب في المملوكين)
أَيِ الَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ يُعْتَقَانِ مَعًا هَلْ تُخَيَّرُ امْرَأَتُهُ أَيْ زَوْجَةُ الْمَمْلُوكِ الْمَفْهُومِ مِنَ الْمَمْلُوكَيْنِ
(مَمْلُوكَيْنِ لَهَا) أَيْ كَائِنَيْنِ ثَابِتَيْنِ لِعَائِشَةَ (زَوْجُ) أَيْ هُمَا زَوْجُ أَيْ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ فِي الْأَصْلِ يُطْلَقُ عَلَى شَيْئَيْنِ بَيْنَهُمَا ازْدِوَاجٌ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى فَرْدٍ مِنْهُمَا
قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ لَهَا زَوْجُ كَذَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَفِي إِعْرَابِهِ إِشْكَالٌ إِلَّا أَنْ يُقَدَّرَ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ أَوْ بينهما
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُول إِنَّ التَّخْيِير إِنَّمَا يَكُون لِلْمُعْتَقَةِ تَحْت عَبْد وَلَوْ كَانَ لها خيار إذ كَانَتْ تَحْت حُرّ لَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيمِ عِتْق الزَّوْج عَلَيْهَا مَعْنَى وَلَا فَائِدَة
وَفِيهِ نَظَر(6/228)
ازْدِوَاجٌ وَفِي أَكْثَرِ النُّسَخِ لِلْمَصَابِيحِ وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ زَوْجَيْنِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَمْلُوكَيْنِ وَالضَّمِيرُ فِي لَهَا لِعَائِشَةَ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مَمْلُوكَةٌ لَهَا فَالضَّمِيرُ لِلْجَارِيَةِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قُلْتُ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي دَاوُدَ الْمَوْجُودَةِ بِأَيْدِينَا زَوْجَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا زَوْجًا وَامْرَأَتَهُ وَفِي الْأَكْثَرِ زَوْجٌ (فَسَأَلَتْ) أَيْ عَائِشَةُ (فَأَمَرَهَا أَنْ تَبْدَأَ بَالرَّجُلِ) أَيْ بِإِعْتَاقِ الرَّجُلِ قَبْلَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ إِعْتَاقَهُ لَا يُوجِبُ فَسْخَ النِّكَاحِ وَإِعْتَاقَ الْمَرْأَةِ يُوجِبُهُ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بَالِابْتِدَاءِ لِئَلَّا يَنْفَسِخَ النكاح إن بدىء به
هذا حاصل كلام المظهر قال القارىء والأظهر أنه إنما بدىء بِهِ لِأَنَّهُ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ أَوْ لِأَنَّ الْغَالِبَ اسْتِنْكَافُ الْمَرْأَةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا عَبْدًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ انْتَهَى
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ بَالْعِتْقِ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْأَمَةِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ وَلَوْ كَانَ لَهَا خِيَارٌ إِذَا كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ لَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيمِ عِتْقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا مَعْنًى وَلَا فِيهِ فَائِدَةٌ قال المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَوْهِبٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَقَالَ مُرَّةً ثِقَةٌ وَقَالَ النَّسَائِيُّ لَيْسَ بِذَلِكَ الْقَوِيِّ
3 - (بَاب إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ)
(فَرَدَّهَا عَلَيْهِ) فِيهِ الْتِفَاتٌ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَيَّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزوجين إذا أسلما معافهما عَلَى نِكَاحِهِمَا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ هَلْ وَقَعَ صَحِيحًا أَمْ لَا مَا لَمْ يَكُنِ الْمُبْطِلُ قَائِمًا كَمَا إِذَا أسلمنا وَقَدْ نَكَحَهَا وَكَانَتْ هِيَ مَحْرَمًا لَهُ بِنَسَبِ إِرْضَاعٍ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ(6/229)
(فَجَاءَ زَوْجُهَا) أَيْ زَوْجُهَا الْأَوَّلُ (وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي) أَيْ وَمَعَ هَذَا تَزَوَّجَتْ (مِنْ زَوْجِهَا الْآخِرِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَعَلِمَتِ امْرَأَتُهُ بِإِسْلَامِهِ فَهِيَ فِي عَقْدِ نِكَاحِهِ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَهُوَ تَزَوُّجٌ بَاطِلٌ تنتزع من الزوج الآخر
قال القارىء نَاقِلًا عَنِ الْمُظْهِرِ إِذَا أَسْلَمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثَبَتَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا سَوَاءً كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ كَالْكِتَابِيَّيْنِ وَالْوَثَنِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا كَانَ عَلَى دِينٍ وَالْآخَرُ عَلَى دِينٍ وَسَوَاءً كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ فِي الْآخَرِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ أَوْ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ مَعَ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ أَوْ بِنَقْلِ أَحَدِهِمَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَالْعَكْسِ وَسَوَاءً عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ انْتَهَى
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ
4 - (بَاب إِلَى مَتَى تُرَدُّ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ إِذَا أَسْلَمَ بَعْدَهَا)
(وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا) وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَلَمْ يُحْدِثْ شَهَادَةً وَلَا صَدَاقًا (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال الإمام أحمد حديث بن عَبَّاس فِي هَذَا أَصَحُّ قِيلَ لَهُ
أَلَيْسَ يَرْوِي أَنَّهُ رَدَّهَا بِنِكَاحٍ مُسْتَأْنَفٍ قَالَ لَيْسَ لذلك أصل
وقال بن عَبْد الْبَرّ قِصَّة أَبِي الْعَاصِ مَعَ اِمْرَأَته لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُون قَبْل نُزُول تَحْرِيم الْمُسْلِمَات عَلَى الْكُفَّار فَتَكُون مَنْسُوخَة بِمَا جَاءَ بَعْدهَا أَوْ تَكُون حَامِلًا وَاسْتَمَرَّ حَمْلهَا حَتَّى أَسْلَمَ زَوْجهَا أَوْ(6/230)
عَمْرٍو فِي حَدِيثِهِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بَعْدَ سَنَتَيْنِ) وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ وَأَشَارَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ إِلَى الْجَمْعِ فَقَالَ الْمُرَادُ بَالسِّتِّ مَا بَيْنَ هِجْرَةِ زَيْنَبَ وَإِسْلَامِهِ وَبَالسَّنَتَيْنِ أَوِ الثَّلَاثِ ما بين نزول قوله تعالى لاهن حل لهم وَقُدُومِهِ مُسْلِمًا فَإِنَّ بَيْنَهُمَا سَنَتَيْنِ وَأَشْهُرًا
قَالَ المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ وفي حديث بن مَاجَهْ بَعْدِ سَنَتَيْنِ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُ وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَعَلَّهُ قَدْ جَاءَ هَذَا مِنْ قِبَلِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ
وَحُكِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ ونكاح جديد وقال حديث بن عَبَّاسٍ أَجْوَدُ إِسْنَادًا وَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا أَصَحُّ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عِدَّتُهَا قَدْ تَطَاوَلَتْ لِاعْتِرَاضِ سَبَبٍ حَتَّى بَلَغَتِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ
إِمَّا الطُّولَى مِنْهَا وَإِمَّا الْقُصْرَى إِلَّا أَنَّ حَدِيثَ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ بن عَبَّاسٍ نَسَخَهُ وَقَدْ ضَعَّفَ أَمْرَهَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى رَدَّهَا عَلَيْهِ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَيْ عَلَى مِثْلِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فِي
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
مَرِيضَة لَمْ تَحِضْ ثَلَاث حَيْضَات حَتَّى أَسْلَمَ أَوْ تَكُون رُدَّتْ إِلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ ثُمَّ ذَكَر حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب تَمَّ كَلَامُهُ
وللناس في حديث بن عَبَّاس عِدَّة طُرُق أَحَدهَا رَدّه بِاسْتِمْرَارِ الْعَمَل عَلَى خِلَافه قَالَ التِّرْمِذِيُّ سَمِعْت عَبْد بْن حُمَيْد يَقُول سَمِعْت يَزِيد بْن هَارُون يَقُول حديث بن عَبَّاس أَجْوَد إِسْنَادًا وَالْعَمَل عَلَى حَدِيث عَمْرو بن شعيب
وقال بن عَبْد الْبَرّ لَمْ يَخْتَلِف الْعُلَمَاء أَنَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّة يَنْفَسِخ النِّكَاح إِلَّا شَيْء رُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ شَذَّ فِيهِ عَنْ جَمَاعَة الْعُلَمَاء فَلَمْ يَتْبَعهُ عَلَيْهِ أَحَد زَعَمَ أَنَّهَا تُرَدّ إِلَى زَوْجهَا وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّة
الثَّانِي مُعَارَضَته بِحَدِيثِ عَمْرو بْن شُعَيْب
الثَّالِث تَضْعِيف دَاوُدَ بْن الْحَصِين عَنْ عِكْرِمَة
الرَّابِع حَمْله عَلَى رَدّهَا بِنِكَاحٍ مِثْل الْأَوَّل لَمْ يُحْدِث فِيهِ شَيْئًا
الْخَامِس حَمْله عَلَى تَطَاوُل زَمَن الْعِدَّة
السَّادِس الْقَوْل بِمُوجِبِهِ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ وَغَيْرهمَا(6/231)
الصَّدَاقِ وَالْحِبَاءِ لَمْ يُحْدِثْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ مِنْ شَرْطٍ وَلَا غَيْرِهِ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثُ بن عَبَّاسٍ أَصَحُّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا لَا يَثْبُتُ وَالصَّوَابُ حديث بن عَبَّاسٍ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا ضَعَّفُوا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مِنْ قِبَلِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بَالتَّدْلِيسِ وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلٍ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ لَمْ يَسْمَعْهُ حَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو
انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
وَقَالَ الْحَافِظُ وَأَحْسَنُ الْمَسَالِكِ فِي تَقْرِيرِ الْحَدِيثَيْنِ تَرْجِيحُ حديث بن عَبَّاسٍ كَمَا رَجَّحَهُ الْأَئِمَّةُ وَحَمَلَهُ عَلَى تَطَاوُلِ الْعِدَّةِ فِيمَا بَيْنَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ وَإِسْلَامِ أَبِي الْعَاصِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى
وقال بن الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ مَا مُحَصِّلُهُ إِنَّ اعْتِبَارَ الْعِدَّةِ لَمْ يُعْرَفْ فِي
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
السَّابِع أَنَّ تَحْرِيم نِكَاح الْكُفَّار إِنَّمَا كَانَ فِي سُورَة الْمُمْتَحَنَة وَهِيَ نَزَلَتْ بَعْد الْحُدَيْبِيَة فَلَمْ يَكُنْ نِكَاح الْكَافِر الْمُسْلِمَة قَبْل ذَلِكَ حَرَامًا وَلِهَذَا فِي قِصَّة الْمُمْتَحَنَة لَمَّا نَزَلَتْ {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} عَمَد عُمَر إِلَى اِمْرَأَتَيْنِ لَهُ فَطَلَّقَهُمَا ذَكَره الْبُخَارِيُّ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيم كَانَ مِنْ يَوْمئِذٍ
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَأَبُو الْعَاصِ بْن الرَّبِيع إِنَّمَا أَسْلَمَ فِي زَمَن الْهُدْنَة بَعْد مَا أَخَذَتْ سَرِيَّة زَيْد بْن حَارِثَة مَا مَعَهُ فَأَتَى الْمَدِينَة فَأَجَارَتْهُ زَيْنَب فَأَنْفَذ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِوَارهَا وَدَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ أَيْ بُنَيَّة أَكْرَمِي مَثْوَاهُ وَلَا يَخْلُص إِلَيْك فَإِنَّك لَا تَحِلِّينَ لَهُ وَكَانَ هَذَا بَعْد نُزُول آيَة التَّحْرِيم فِي الْمُمْتَحَنَة ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْعَاصِ رَجَعَ إِلَى مَكَّة فَأَدَّى مَا كَانَ عِنْده مِنْ بَضَائِع أَهْل مَكَّة ثُمَّ أَسْلَمَ وَخَرَجَ إِلَى الْمَدِينَة فَلَمْ يَطُلْ الزَّمَان بَيْن إِسْلَامه وَنُزُول آيَة التَّحْرِيم فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الأول
الثامن أن حديث بن عَبَّاس فِي قِصَّته مَنْسُوخ وَسَلَكَ ذَلِكَ الطَّحَاوِيّ وَادَّعَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا إِلَيْهِ بَعْد رُجُوعه مِنْ بَدْر حِين أُسِرَ وَرَوَى فِي ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيّ أَنَّهُ أُخِذَ أَسِيرًا يَوْم بَدْر فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ اِبْنَته ثُمَّ إِنَّ اللَّه سُبْحَانه حَرَّمَ نِكَاح الْكُفَّار فِي قَضِيَّة الْمُمْتَحَنَة
التَّاسِع مَا حَكَاهُ عَنْ بَعْض أَصْحَابهمْ فِي الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثِينَ بِأَنَّ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو عَلِمَ تَحْرِيم نِكَاح الْكَافِر فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْده إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيد فَقَالَ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحٍ جَدِيد وَلَمْ يعلم بن عَبَّاس بِالتَّحْرِيمِ فَقَالَ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّل لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْده بَيْنهمَا فَسْخ نِكَاح
فَهَذِهِ مَجَامِع طُرُق النَّاس فِي هَذَا الْحَدِيث
أَفْسَدُهَا هَذَانِ الْآخَرَانِ فَإِنَّهُمَا غَلَط مَحْض وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرُدّهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ يَوْم بَدْر قَطّ وَإِنَّمَا الْحَدِيث فِي قصة بدر
أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلقه(6/232)
شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَإِلَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ الْمَرْأَةَ هَلِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَمْ لَا وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ بِمُجَرَّدِ فُرْقَةٍ لَكَانَتْ طَلْقَةً بَائِنَةً وَلَا رَجْعَةَ فِيهَا فَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ أَحَقَّ بِهَا إِذَا أَسْلَمَ وَقَدْ دَلَّ حُكْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النِّكَاحَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ زَوْجَتُهُ وَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَهَا أَنْ تَنْكِحَ مَنْ شَاءَتْ وَإِنْ أَحَبَّتِ انْتَظَرَتْهُ وَإِذَا أَسْلَمَ كَانَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَجْدِيدِ نِكَاحٍ
قَالَ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا جَدَّدَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ نِكَاحَهُ الْبَتَّةَ بَلِ الْوَاقِعُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا افْتِرَاقُهُمَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِ اِبْنَته لِأَنَّهَا كَانَتْ بِمَكَّة فَلَمَّا أُسِرَ أَبُو الْعَاصِ أَطْلَقَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُرْسِلهَا إِلَى أَبِيهَا فَفَعَلَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْد ذَلِكَ بِزَمَانٍ فِي الْهُدْنَة هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ لَهُ عِلْم بِالْمَغَازِي وَالسِّيَر وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَة فَمُنْقَطِع لَا يَثْبُت
وَأَمَّا الْمَسْلَك التَّاسِع فَمَعَاذ اللَّه أَنْ يُظَنّ بِالصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ يَرْوُونَ أَخْبَارًا عَنْ الشَّيْء الْوَاقِع وَالْأَمْر بِخِلَافِهِ بِظَنِّهِمْ وَاعْتِقَادهمْ وَهَذَا لَا يَدْخُلهُ إِلَّا الصِّدْق وَالْكَذِب فَإِنَّهُ إِخْبَار عَنْ أَمْر وَاقِع مُشَاهَد هَذَا يَقُول رَدَّهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ فَهَلْ يَسُوغ أَنْ يُخْبِر بِذَلِكَ بِنَاء عَلَى اِعْتِقَاده مِنْ غَيْر أَنْ يَشْهَد الْقِصَّة أَوْ تُرْوَى لَهُ وَكَذَا مَنْ قَالَ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّل
وَكَيْف يُظَنّ بِعَبْدِ اللَّه بْن عَمْرو أَنَّهُ يَرْوِي عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْد نِكَاح لَمْ يُثْبِتهُ وَلَمْ يَشْهَدهُ وَلَا حُكِيَ لَهُ وَكَيْف يُظَنّ بِابْنِ عَبَّاس أَنْ يَقُول رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّل وَلَمْ يُحْدِث شَيْئًا وَهُوَ لَا يُحِيط عِلْمًا بِذَلِكَ ثُمَّ كَيْف يُشْتَبَه عَلَى مِثْله نُزُول آيَة الْمُمْتَحَنَة وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ التَّحْرِيم قَبْل رَدّ زَيْنَب عَلَى أَبَى الْعَاصِ وَلَوْ قُدِّرَ اِشْتِبَاهه عَلَيْهِ فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدَاثَةِ سِنّه أَفَتَرَى دَامَ هَذَا الِاشْتِبَاه عَلَيْهِ وَاسْتَمَرَّ حَتَّى يَرْوِيه كَبِيرًا وَهُوَ شَيْخ الْإِسْلَام وَمِثْل هَذِهِ الطُّرُق لَا يَسْلُكهَا الْأَئِمَّة وَلَا يَرْضَى بِهَا الْحُذَّاق
وَأَمَّا تَضْعِيف حَدِيث دَاوُدَ بْن الْحَصِين عَنْ عِكْرِمَة فَمِمَّا لَا يُلْتَفَت إِلَيْهِ
فَإِنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَة صَحِيحَة عِنْد أَئِمَّة الْحَدِيث لَا مَطْعَن فِيهَا وَقَدْ صَحَّحَ الْإِمَام أَحْمَد وَالْبُخَارِيُّ والناس حديث بن عَبَّاس وَحَكَمُوا لَهُ عَلَى حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب وَأَمَّا حَمْلهَا عَلَى تَطَاوُل الْعِدَّة فَلَا يَخْفَى بُعْده
وَأَمَّا حَمْله عَلَى أَنَّهُ رَدَّهَا بِنِكَاحٍ جَدِيد مِثْل الْأَوَّل فَفِي غَايَة الْبُعْد وَاللَّفْظ يَنْبُو عَنْهُ
وَأَمَّا رَدّه بِكَوْنِهِ خِلَاف الْإِجْمَاع فَفَاسِدٌ إِذْ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَة إِجْمَاع وَالْخِلَاف فِيهَا أَشْهَر وَالْحُجَّة تَفْصِل بَيْن النَّاس
وَلَيْسَ الْقَوْل فِي الْحَدِيث إِلَّا أَحَد قَوْلَيْنِ إِمَّا قَوْل إِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ وَإِمَّا قَوْل مَنْ يَقُول إِنَّ التَّحْرِيم لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا إِلَى حِين نُزُول الْمُمْتَحَنَة فَكَانَتْ الزَّوْجِيَّة مُسْتَمِرَّة قَبْل ذَلِكَ
فَهَذَانِ الْمَسْلَكَانِ أَجْوَد مَا سُلِكَ فِي الْحَدِيث
وَاَللَّه أَعْلَم(6/233)
وَنِكَاحُهَا غَيْرَهُ وَإِمَّا بَقَاؤُهُمَا عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَإِمَّا تَنْجِيزًا لِفُرْقَةٍ أَوْ مُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ فَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ أَسْلَمَ فِي عَهْدِهِ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ هَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْمَتَانَةِ
5 - (باب فيمن أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ)
أَوْ أُخْتَانِ (عَنْ حُمَيْضَةَ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (بن الشمردل) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وفتح الدال الْمُعْجَمَةِ آخِرُهُ لَامٌ بِوَزْنِ سَفَرْجَلَ
قَالَ الْحَافِظُ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ (قَالَ مُسَدَّدُ) أَيْ فِي روايته (بن عُمَيْرَةَ) أَنَّ نَسَبَ مُسَدَّدٌ قَيْسًا إِلَى أَبِيهِ وَقَالَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُمَيْرَةَ وَقَالَ وَهْبٌ فِي رِوَايَتِهِ أَيْ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ الْأَسَدِيُّ (اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا) ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ فِي ذَلِكَ إِلَيْهِ يُمْسِكُ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ سَوَاءً كَانَ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ كُلَّهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ فُوِّضَ إِلَيْهِ مِنَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ اِخْتَصَرَ كَلَام الْبُخَارِيِّ وَنَحْنُ نَذْكُرهُ لِكَمَالِ الْفَائِدَة قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدِيث غَيْلَان بْن سَلَمَة يَعْنِي مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عُمَر غَيْر مَحْفُوظ وَالصَّحِيح مَا رَوَاهُ شُعَيْب وَغَيْره عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن سُوِيد الثَّقَفِيّ أَنَّ غيلان أَسْلَمَ قَالَ الْبُخَارِيّ وَأَمَّا حَدِيث الزَّهْرِيّ عَنْ سَالَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ ثَقِيف طَلَّقَ نِسَاءَهُ فَقَالَ عُمَر رضي الله عنه لَتُرَاجِعَنَّ نِسَاءَك أَوْ لَأَرْجُمَنَّ قَبْرَك كَمَا رُجِمَ قبر أبي رغال
وقال بن عَبْد الْبَرّ الْأَحَادِيث فِي تَحْرِيم مَا زَادَ على الأربع كلها معلولة
وقال بن الْقَطَّانِ هَذَا حَدِيث مُخْتَلَف فِيهِ عَلَى الزُّهْرِيّ وَمَالِك وَمَعْمَر يَقُولَانِ عَنْهُ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ثَقِيف وَيُونُس فِي رِوَايَته عَنْهُ يَقُول عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عُثْمَان بْن مُحَمَّد بْن أَبِي سُوِيد أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِغَيْلَان حِين أَسْلَمَ ذَكَره بن وَهْب عَنْ يُونُس وَرَوَى اللَّيْث عَنْ يُونُس(6/234)
الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِنْ نَكَحَهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ وَإِنْ كَانَ نَكَحَ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى حَبَسَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ الْأُولَى فَالْأُولَى وَيَتْرُكُ سَائِرَهُنَّ
هَذَا تَلْخِيصُ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ في المعالم
وقال علي القارىء فِي الْمِرْقَاةِ قَالَ الْمُظْهِرُ فِيهِ أَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ حَتَّى إِذَا أَسْلَمُوا لَمْ يُؤْمَرُوا بِتَجْدِيدِ النِّكَاحِ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي نِكَاحِهِمْ مَنْ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَأَنَّهُ إِذَا قَالَ اخْتَرْتُ فُلَانَةً وَفُلَانَةً لِلنِّكَاحِ ثَبَتَ نِكَاحَهُنَّ وَحَصَلَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سِوَى الْأَرْبَعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ
وَقَالَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي مُوَطَّئِهِ بِهَذَا نَأْخُذُ يَخْتَارُ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا أَيَّتَهُنَّ شَاءَ وَيُفَارِقُ مَا بَقِيَ
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ الْأَرْبَعُ الْأُوَلُ جَائِزٌ وَنِكَاحُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ بَاطِلٌ وهو قول إبراهيم النخعي
قال بن الْهُمَامِ وَالْأَوْجَهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ
انْتَهَى
(قَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ يَعْنِي قَيْسَ بْنَ الْحَارِثِ) قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ قَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ الْأَسَدِيُّ وَيُقَالُ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي رِوَايَتِهِ قَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ وَضَعَّفَهُ بَعْضُهُمْ وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ ضَعَّفَهُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
عن بن شِهَاب بَلَغَنِي عَنْ عُثْمَان بْن أَبِي سُوِيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الْحَدِيث
وَرَوَى شُعَيْب بْن أَبِي حَمْزَة وَغَيْر وَاحِد عَنْ الزُّهْرِيّ حَدِيث عَنْ مُحَمَّد بْن سُوِيد الثَّقَفِيّ أَنَّ غيلان أَسْلَمَ ذَكَره الْبُخَارِيّ وَالنَّاس وَقَالَ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَالِم عَنْ أَبِيهِ أَنَّ غيلان أَسْلَمَ ذَكَره الْإِمَام أَحْمَد بْن حَنْبَل وَغَيْره
فَهَذِهِ خَمْس وُجُوه
آخِر كَلَامه
وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيث سَيْف بْن عَبْد اللَّه الْجِرْمِيّ أَخْبَرَنَا سَرَّار بْن مُجَشِّر عَنْ أَيُّوب عَنْ نَافِع وَسَالِم عن بن عُمَرَ أَنَّ غَيْلَان بْن سَلَمَة أَسْلَمَ وَعِنْده عشر نسوة فَأَمَرَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمْسِك مِنْهُنَّ أَرْبَعًا فَلَمَّا كَانَ زَمَن عُمَر طَلَّقَهُنَّ فَقَالَ لَهُ عُمَر رَاجِعْهُنَّ وَإِلَّا وَرَّثْتهنَّ مَالَك وَأَمَرْت بِقَبْرِك يُرْجَم
وَلَكِنْ سَيْف وَسَرَّار لَيْسَا بِمَعْرُوفَيْنِ بِحَمْلِ الْحَدِيث وَحِفْظه وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَاب الْعِلَل وَقَدْ ذَكَر هَذَا الْحَدِيث تَفَرَّدَ بِهِ سَيْف بْن عَبْد اللَّه الْجِرْمِيّ عَنْ سَرَّار وَسَرَّار ثِقَة مِنْ أَهْل الْبَصْرَة
وَمَعْلُوم أَنَّ تَفَرُّد سَيْف بِهَذَا مَانِع مِنْ الْحُكْم بِصِحَّتِهِ بَلْ لَوْ تَفَرَّدَ بِهِ مَنْ هُوَ أَجَلّ مِنْ سَيْف لَكَانَ تَفَرُّده عِلَّة
والله أعلم(6/235)
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ وَلَا أَعْلَمُ لِلْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ لَيْسَ لَهُ إِلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَلَمْ يَأْتِ مِنْ وجه صحيح
وقد أخرج الترمذي وبن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَخَيَّرَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ
قَالَ الْبُخَارِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ يَعْنِي أَنَّ الصَّحِيحَ إِرْسَالُهُ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَهْلُ الْيَمَنِ أَعْرَفُ بِحَدِيثِ مَعْمَرٍ فَإِنْ حَدَّثَ بِهِ ثِقَةٌ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَوْصُولًا (هَكَذَا فِي نُسْخَةِ الْمُنْذِرِيِّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْجَزَاءِ أَيْ فَأَخَذَ بِهِ) وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ
(عَنْ أَبِي وَهْبٍ الْجَيْشَانِيِّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ قِيلَ اسْمُهُ دَيْلَمُ بْنُ هَوْشَعَ وقال بن يُونُسَ هُوَ عُبَيْدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ
كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ) بِفَتْحِ فَائِهِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعُجْمَةِ وَالْعَلَمِيَّةِ (عَنْ أَبِيهِ) هُوَ فَيْرُوزُ وَهُوَ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسٍ مِنْ فُرْسِ صَنْعَاءَ وَكَانَ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَاتِلُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ الْكَذَّابِ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَالْيَمَنِ قُتِلَ فِي آخِرِ أَيَّامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَلَهُ خَبَرُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ (طَلِّقْ أَيَّتُهُمَا شِئْتَ) ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ وَأَسْلَمَتَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه هَذَا الْحَدِيث يَرْوِيه أَبُو وَهْب الْجَيْشَانِيُّ عَنْ الضَّحَّاك بْن فَيْرُوز عَنْ أَبِيهِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي إِسْنَاد هَذَا الْحَدِيث نَظَر
وَوَجْه قَوْله أَنَّ أَبَا وَهْب وَالضَّحَّاك مَجْهُولٌ حَالُهُمَا وفيه يحيى بن أَيُّوب ضَعِيف
وَقَوْله طَلِّقْ أَيَّتهمَا شِئْت دَلِيل على أنه طَلَّقَ وَاحِدَة لَمْ يَكُنْ اِخْتِيَارًا لَهَا كَمَا قَالَ أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب الشَّافِعِيّ قَالُوا لِأَنَّ الطَّلَاق إِنَّمَا يَكُون لِلزَّوْجَةِ لَا لِلْأَجْنَبِيَّةِ فَإِذَا طَلَّقَهَا كَانَ دَلِيلًا عَلَى اِسْتِبْقَاء نِكَاحهَا وَهَذَا ضَعِيف جِدًّا فَإِنَّ طَلَاقه لَهَا إِنَّمَا هُوَ رَغْبَة عَنْهَا وَقَطْع لِنِكَاحِهَا فَكَيْف يَكُون(6/236)
مَعَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إِحْدَاهُمَا سَوَاءً كَانَتِ الْمُخْتَارَةُ تَزَوَّجَهَا أَوَّلًا أَوْ آخِرًا
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ تَزَوَّجَهُمَا مَعًا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا مُتَعَاقِبَتَيْنِ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْأُولَى مِنْهُمَا دُونَ الْأَخِيرَةِ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قُلْتُ وَالظَّاهِرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ لِتَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلِاسْتِفْصَالِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ اخْتِيَارَهُ إِحْدَاهَا لَا يَكُونُ فَسْخًا لِنِكَاحِ الْأُخْرَى حَتَّى يُطَلِّقَهَا
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَفِي لَفْظِ الترمذي اختر أيتهما شئت
ولفظ بن مَاجَهْ طَلِّقْ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
اِخْتِيَارًا لَهَا وَهُوَ لَوْ قَالَ طَلَّقْت هَذِهِ وَأَمْسَكْت هَذِهِ أَوْ اِخْتَرْت هَذِهِ جَعَلْتُمْ الَّتِي اِخْتَارَ إِمْسَاكهَا مُفَارَقَة وَاَلَّتِي اِخْتَارَ طَلَاقهَا مُخْتَارَة وَهَذَا مَعْلُوم أَنَّهُ ضِدّ مَقْصُوده
وَأَقْصَى مَا فِي الْبَاب أَنَّهُ اِسْتَعْمَلَ لَفْظ الطَّلَاق فِي مُفَارَقَتهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ فَارِقْ سَائِرهنَّ وَالْمُفَارَقَة أَيْضًا مِنْ سَرَائِح الطَّلَاق عِنْدكُمْ فَإِذَا قَالَ فَارَقْت هَذِهِ كَانَ اِخْتِيَارًا لَهَا وَهَذَا أَحَد الْوَجْهَيْنِ لَهُمْ
وَإِنَّمَا يَكُون مُفَارِقًا لَهَا إِذَا قَالَ فَسَخْت نِكَاح هَؤُلَاءِ أَوْ اِخْتَرْت هَؤُلَاءِ وَنَحْوه وَصَاحِب الشَّرْع قَدْ أَمَرَهُ بِالْفِرَاقِ
وَإِذَا أَتَى بِاللَّفْظِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ كَانَ ذَلِكَ فِرَاقًا لَا اِخْتِيَارًا
وَأَمَّا قَوْلهمْ إِنَّ الطَّلَاق لَا يَكُون فِي زَوْجَة
قُلْنَا هَذَا يُنْتَقَض بِالْفَسْخِ وَإِنَّكُمْ قَدْ قُلْتُمْ لَوْ فَسَخَ نِكَاح إِحْدَاهُنَّ كَانَ اِخْتِيَارًا لِلْبَاقِيَاتِ وَمَعْلُوم أَنَّ الْفَسْخ لَا يَكُون إِلَّا فِي زَوْجَة فَمَا هُوَ جَوَابكُمْ فِي الْفَسْخ هُوَ الْجَوَاب فِي الطَّلَاق
وَأَيْضًا فَالطَّلَاق جُعِلَ عِبَارَة عَنْ الْفَسْخ وَإِخْرَاجًا لِلْمُطَلَّقَةِ وَاسْتِبْقَاء لِلْأُخْرَى فَكَأَنَّهُ قَالَ أَرْسَلْت هَذِهِ وَسَيَّبْتهَا وَنَحْوه وَأَمْسَكْت هَذِهِ
وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاح لَمْ تَزُلْ أَحْكَامه كُلّهَا بِالْإِسْلَامِ وَلِهَذَا قُلْتُمْ إِنَّ عِدَّة الْمُفَارَقَات مِنْ حِين الِاخْتِيَار لَا مِنْ حِين الْإِسْلَام عَلَى الصَّحِيح وَعَلَّلْتُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُنَّ إِنَّمَا بِنَّ مِنْهُ بِالِاخْتِيَارِ لَا بِالْإِسْلَامِ فَالطَّلَاق أَثَرٌ فِي قَطْع أَحْكَام النِّكَاح وَإِزَالَتهَا
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعِبْرَة بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّة وَهُوَ لَمْ يُرِدْ قَطّ بِقَوْلِهِ طَلَّقْت هَذِهِ اِخْتِيَارهَا بَلْ هَذَا قَلْب لِلْحَقَائِقِ وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظ الطَّلَاق لَمْ يُوضَع لِلِاخْتِيَارِ لُغَة وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا وَلَا هُوَ اِصْطِلَاحٌ خَاصّ لَهُ يُرِيدهُ بِكَلَامِهِ فَحَمْله عَلَى الاختيار ممتنع(6/237)
26 - (باب إذا أسلم أحد الأبوين لمن يَكُونُ الْوَلَدُ)
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مَعَ مَنْ يَكُونُ
(وَهِيَ فَطِيمٌ) أَيْ مَفْطُومَةٌ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ فَطَمَ الصَّبِيَّ فَصَلَهُ عَنْ الرَّضَاعِ فَهُوَ مَفْطُومٌ وَفَطِيمُ (أَوْ شَبَهُهُ) أَيْ شَبَهُ الْفَطِيمِ (فَقَالَ لَهُ) أَيْ لِرَافِعٍ (اقْعُدْ نَاحِيَةَ) أَيْ فِي نَاحِيَةِ (وَقَالَ لَهَا) أَيْ لِامْرَأَةِ رَافِعٍ (اللهم اهداها) أَيِ الصَّبِيَّةَ (فَمَالَتِ الصَّبِيَّةُ إِلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ أَحَقُّ بِهِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِي الزَّوْجَيْنِ يَفْتَرِقَانِ بِطَلَاقٍ وَالزَّوْجَةُ ذِمِّيَّةٌ أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
7 - (بَاب فِي اللِّعَانِ)
قَالَ فِي الْفَتْحِ اللِّعَانُ مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّعْنِ لِأَنَّ الْمُلَاعِنَ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
وَاخْتِيرَ لَفْظُ اللَّعْنِ دُونَ الْغَضَبِ فِي التَّسْمِيَةِ لِأَنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ وَهُوَ الَّذِي بَدَأَ بِهِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ أَيْضًا يَبْدَأُ بِهِ وَقِيلَ سُمِّيَ لِعَانًا لِأَنَّ اللَّعْنَ الطَّرْدَ وَالْإِبْعَادَ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْمَرْأَةُ بِلَفْظِ الْغَضَبِ لِعِظَمِ الذَّنْبِ بَالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا
ثُمَّ قَالَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ مَشْرُوعٌ وَعَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ التَّحَقُّقِ
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجِ لَكِنْ لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ قَوِيَ الْوُجُوبُ(6/238)
(أَنَّ عُوَيْمِرَ بْنَ أَشْقَرَ) بِمُعْجَمَةٍ فَقَافٍ (الْعَجْلَانِيَّ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْجِيمِ (أَرَأَيْتَ رَجُلًا) أَيْ أَخْبِرْنِي عَنْ حُكْمِ رَجُلٍ (وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا) أَيْ وَجَزَمَ أَنَّهُ زَنَى بِهَا (أَيَقْتُلُهُ فيقتلونه) أَيْ قِصَاصًا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَيَقْتُلُونَهُ بَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ أَيْ يَقْتُلُهُ أَهْلُ الْقَتِيلِ (أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ) يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ أَمْ مُتَّصِلَةً وَالتَّقْدِيرُ أَمْ يَصْبِرُ عَلَى مَا بِهِ مِنَ الْمَضَضِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً بِمَعْنَى الْإِضْرَابِ أَيْ بَلْ هُنَاكَ حُكْمٌ آخَرُ لَا نَعْرِفُهُ وَيُرِيدُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ قَالَ سل لي ياعاصم
قَالَ النَّوَوِيُّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَتَلَ رَجُلًا قَدْ جَزَمَ أَنَّهُ زَنَى بَامْرَأَتِهِ فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ وَرَثَةُ الْقَتِيلِ وَيَكُونُ الْقَتِيلُ مُحْصَنًا وَالْبَيِّنَةُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعُدُولِ مِنَ الرِّجَالِ يَشْهَدُونَ عَلَى نفس الزنى
أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ (فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا) لِمَا فِيهَا مِنَ الْبَشَاعَةِ وَغَيْرِهَا
قَالَ النَّوَوِيُّ الْمُرَادُ كَرَاهَةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لاسيما مَا كَانَ فِيهِ هَتْكُ سِتْرِ مُسْلِمٍ أَوْ إِشَاعَةُ فَاحِشَةٍ أَوْ شَنَاعَةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَسَائِلَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا إِذَا وَقَعَتْ فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ عَنِ النَّوَازِلِ فَيُجِيبُهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغَيْرِ كَرَاهَةٍ (حَتَّى كَبُرَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ عَظُمَ وَزْنًا وَمَعْنًى (لَا أَنْتَهِيَ حَتَّى أَسْأَلَهُ عَنْهَا) أَيْ لَا أَمْتَنِعُ عَنِ السُّؤَالِ (وَهُوَ وَسَطَ النَّاسِ بِفَتْحِ السين وسكونها (فقال يارسول اللَّهِ أَرَأَيْتَ) أَيْ أَخْبِرْنِي وَعَبَّرَ بَالْإِبْصَارِ عَنِ الْإِخْبَارِ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ سَبَبُ الْعِلْمِ وَبِهِ يَحْصُلُ الإعلام
فالمعنى أعلمت فأعلمني (أيقتله فيقتلونه) الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَيَقْتُلُونَهُ أَيْ يَقْتُلُهُ أَهْلُ الْقَتِيلِ (قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي(6/239)
صَاحِبَتِكَ قُرْآنٌ) أَيْ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ (فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا) يَعْنِي فَذَهَبَ فَأَتَى بِهَا (فَلَمَّا فَرَغَا) أَيْ عُوَيْمِرٌ وزوجته عن التلاعن (كذبت عليها يارسول اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا) أَيْ فِي نِكَاحِي وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ (فَطَلَّقَهَا عُوَيْمِرٌ ثَلَاثًا) كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُمْسِكُهَا وَإِنَّمَا طَلَّقَهَا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ فَأَرَادَ تَحْرِيمَهَا بَالطَّلَاقِ
قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ قَوْلُهُ كَذَبْتُ عَلَيْهَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ تَوْطِئَةً لِتَطْلِيقِهَا ثَلَاثًا يَعْنِي إِنْ أَمْسَكْتُ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فِي نِكَاحِي وَلَمْ أُطَلِّقْهَا يَلْزَمُ كَأَنِّي كَذَبْتُ فِيمَا قَذَفْتُهَا لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ يُنَافِي كَوْنَهَا زَانِيَةً فَلَوْ أَمْسَكْتُ فَكَأَنِّي قُلْتُ هِيَ عَفِيفَةٌ لَمْ تَزْنِ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لِقَوْلِهِ إِنَّهُ لا يمسكها انتهى (قال بن شِهَابٍ) هُوَ الزُّهْرِيُّ (فَكَانَتْ تِلْكَ) أَيِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وبن مَاجَهْ
(أَمْسِكِ الْمَرْأَةَ عِنْدَكَ حَتَّى تَلِدَ) هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللِّعَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا وَهِيَ حَامِلٌ وَفِيهِ جَوَازُ لِعَانِ الْحَامِلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
(حَضَرْتُ لِعَانَهُمَا) أَيْ لِعَانَ عُوَيْمِرٍ وَامْرَأَتِهِ (ثُمَّ خَرَجَتْ) أَيْ امْرَأَةُ عُوَيْمِرٍ (فَكَانَ الْوَلَدُ يُدْعَى إِلَى أُمِّهِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ(6/240)
(أَبْصِرُوهَا) أَيِ انْظُرُوا الْمَرْأَةَ الْمُلَاعَنَةَ (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ) أَيْ بَالْوَلَدِ (أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ) فِي النِّهَايَةِ الدَّعَجُ السَّوَادُ فِي الْعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَقِيلَ الدَّعَجُ شِدَّةُ سَوَادِ الْعَيْنِ فِي شِدَّةِ بَيَاضِهَا (عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْأَلْيَةُ الْعَجِيزَةُ وَكَانَ الرَّجُلُ الذي نسب إليه الزنى مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ (فَلَا أُرَاهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ لَا أَظُنُّ عُوَيْمِرًا (إِلَّا قَدْ صَدَقَ) بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ تَكَلَّمَ بَالصِّدْقِ (وَإِنْ جَاءَتْ به أحيمر) تَصْغِيرُ أَحْمَرَ (كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ) بِفَتَحَاتٍ دُوَيْبَّةٌ حَمْرَاءُ تَلْتَزِقُ بَالْأَرْضِ (فَلَا أُرَاهُ إِلَّا كَاذِبًا) فَإِنَّ عُوَيْمِرًا كَانَ أَحْمَرَ (فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ) وَهُوَ شَبَهُهُ بِمَنْ رُمِيَتْ بِهِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
(فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إِيقَاعُ الطَّلَاقِ وَإِنْفَاذِهِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَأَنَّ فِرَاقَ الْعَجْلَانِيِّ امْرَأَتَهُ إِنَّمَا كَانَ بَالطَّلَاقِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِنْفَاذَ الْفُرْقَةِ الدَّائِمَةِ الْمُتَأَبِّدَةِ وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَاهَا تَصْلُحُ لِلزَّوْجِ بحال وإن أكذب نَفْسَهُ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَيَعْقُوبُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً فَلَاعَنَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ إِصَابَتُهَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ مُتَأَبِّدَةً فَصَارَتْ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ إذا أكذب نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ ارْتَفَعَ تَحْرِيمُ الْعَقْدِ وَكَانَ لِلزَّوْجِ نِكَاحُهَا كَمَا إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ ثَبَتَ النَّسَبُ وَلَحِقَهُ الْوَلَدُ
(ثُمَّ لَا يجتمعان أبدا) فيه دليل على تأييد الْفُرْقَةِ
قَالَ فِي النَّيْلِ وَالْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ(6/241)
الصَّرِيحَةُ قَاضِيَةٌ بَالتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ وَكَذَلِكَ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ حُكْمُ اللِّعَانِ وَلَا يَقْتَضِي سِوَاهُ فَإِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ قَدْ حَلَّتْ بِأَحَدِهِمَا
وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ هَلِ اللِّعَانُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَرِوَايَةً عَنْ مُحَمَّدٍ إِلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
(قَالَ مُسَدَّدٌ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (قَالَ) أَيْ سَهْلٌ (وَتَمَّ حَدِيثُ مُسَدَّدٍ) أَيْ إِلَى قَوْلِهِ حِينَ تَلَاعَنَا (وَقَالَ الْآخَرُونَ) أَيْ وَهْبُ بْنُ بَيَانٍ وَأَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو وَعَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ (لَمْ يَقُلْ عَلَيْهَا) أَيْ لَفْظَةَ عَلَيْهَا (لَمْ يتابع بن عُيَيْنَةَ) بَالنَّصْبِ مَفْعُولُ لَمْ يُتَابِعْ وَالْمُرَادُ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَدْ تَفَرَّدَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ بِلَفْظَةِ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهَا أَحَدٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَيَعْنِي بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ لَا مَا رَوَيْنَاهُ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزهري يريد أن بن عُيَيْنَةَ لَمْ يَنْفَرِدْ وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا الزُّبَيْدِيُّ
وذكر البيهقي بعد هذا حديث بن عُمَرَ فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي عَجْلَانَ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ يَقَعْ بَالطَّلَاقِ وَمَعْنَى التَّفْرِيقِ تَبْيِينُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ لِإِيقَاعِ الْفِرَاقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ
(وَكَانَتْ) أَيِ الْمَرْأَةُ (حَامِلًا) حِينَ وَقَعَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا (فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا) أَيْ أَنْكَرَ الرَّجُلُ الْمُلَاعَنُ حَمْلَ الْمَرْأَةَ مِنْهُ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الملاعنة بالحمل وإليه ذهب بن أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ فَإِنَّهُمْ قَالُوا مَنْ نَفَى حَمْلَ امْرَأَتِهِ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا الْقَاضِي وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لَا يُلَاعَنُ بَالْحَمْلِ وَأَجَابُوا بِأَنَّ اللِّعَانَ كَانَ بَالْقَذْفِ لَا بَالْحَمْلِ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ (فَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَيْهَا) لَا إلى زوجها(6/242)
الْمُلَاعَنِ إِذِ اللِّعَانُ يَنْتَفِي بِهِ النَّسَبُ عَنْهُ إِنْ نَفَاهُ فِي لِعَانِهِ وَإِذَا انْتَفَى مِنْهُ أُلْحِقَ بِهَا لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ مِنْهَا (أَنْ يَرِثَهَا) أَيْ يَرِثُ الْوَلَدُ الَّذِي نَفَاهُ الرَّجُلُ الْمُلَاعِنُ مِنَ الْمَرْأَةِ الْمُلَاعَنَةِ (وَتَرِثَ مِنْهُ) أَيْ تَرِثُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْوَلَدِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
(جَلَدْتُمُوهُ) أَيْ بِحَدِّ الْقَذْفِ (أَوْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ) أَيْ بَالْقِصَاصِ فَقَالَ اللَّهُمَّ افْتَحْ) أَيِ احْكُمْ أَوْ بَيِّنْ لَنَا الْحُكْمَ فِي هَذَا وَالْفَتَّاحُ الْحَاكِمُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق وهو الفتاح العليم (ثُمَّ لَعَنَ) أَيِ الرَّجُلُ (الْخَامِسَةَ) أَيْ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى نَفْسِهِ (قَالَ فَذَهَبَتْ) أَيِ الْمَرْأَةُ (لِتَلْتَعِنَ) أَيْ لِتُلَاعِنَ وَاللِّعَانُ وَالِالْتِعَانُ بِمَعْنًى (مَهْ) كَلِمَةُ زَجْرٍ (فَأَبَتْ) أَيْ عَنْ أَنْ تَنْزَجِرَ (لَعَلَّهَا أَنْ تَجِيءَ بِهِ) أَيْ بَالْوَلَدِ (أَسْوَدَ جَعْدًا) أَيْ لَيْسَ سَبْطَ الشَّعْرِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ قَوْلُهُ لَعَلَّهَا أَنْ تَجِيءَ بِهِ إِلَخْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ حَامِلًا وَأَنَّ اللِّعَانَ وَقَعَ عَلَى الْحَمْلِ
وَمِمَّنْ رَأَى اللِّعَانَ عَلَى نَفْيِ الحمل مالك والأوزاعي وبن أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَلَاعُنُ بَالْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ رِيحٌ انتهى
قال المنذري وأخرجه مسلم وبن ماجه(6/243)
(أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ) بِضَمِّ هَمْزٍ وَفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (قَذَفَ امْرَأَتَهُ) أَيْ نَسَبَهَا إلى الزنى (بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (الْبَيِّنَةَ) بَالنَّصْبِ أي أحضر البينة (أوحد) بَالرَّفْعِ أَيْ أَتُحْضِرُ الْبَينَةَ أَوْ يَقَعُ حَدٌّ (فِي ظَهْرِكَ) أَيْ عَلَى ظَهْرِكَ (يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ) جَوَابُ إِذَا بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ وَالِالْتِمَاسُ الطَّلَبُ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ (وَلَيُنْزِلَنَّ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ النُّونِ وَكَسْرِ الزَّاي الْمُخَفَّفَةِ وَفِي آخِرِهِ نُونٌ مشددة القذف (ما يبريء) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ مَا يَدْفَعُ وَيَمْنَعُ (مِنَ الْحَدِّ) أَيْ مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ (وَالَّذِينَ يرمون أزواجهم) أَيْ يَقْذِفُونَ زَوْجَاتِهِمْ (قَرَأَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَقَرَأَ أَيْ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا) أَيْ إِلَى هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَتِهِ (فَجَاءَا) بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ (فَشَهِدَ) أَيْ لَاعَنَ (اللَّهُ يَعْلَمُ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ (أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ) قَالَ عِيَاضٌ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنَ اللِّعَانِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَرْضُ التَّوْبَةِ عَلَى الْمُذْنِبِ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَذِبِهِ التَّوْبَةُ مِنْ ذَلِكَ
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ اللِّعَانِ تَحْذِيرًا لَهُمَا مِنْهُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَوْلَى بِسِيَاقِ الْكَلَامِ
قَالَ الْحَافِظُ وَالَّذِي قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ أَوْلَى مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ مَشْرُوعِيَّةُ الْمَوْعِظَةِ قَبْلَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ بَلْ هُوَ أَحْرَى مِمَّا بَعْدَ الْوُقُوعِ انْتَهَى
قُلْتُ وَسِيَاقُ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ فِيمَا قَالَ الدَّاوُدِيُّ (إِنَّهَا مُوجِبَةٌ) أَيْ لِلْعَذَابِ الْأَلِيمِ إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً (فَتَلَكَّأَتْ) بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ تَوَقَّفَتْ يُقَالُ تَلَكَّأَ فِي الْأَمْرِ إِذَا تَبَطَّأَ عَنْهُ وَتَوَقَّفَ فِيهِ (وَنَكَصَتْ) أَيْ رَجَعَتْ وَتَأَخَّرَتْ وفي القرآن نكص على عقبيه وَالْمَعْنَى أَنَّهَا سَكَتَتْ بَعْدَ الْكَلِمَةِ الرَّابِعَةِ (أَنَّهَا سَتَرْجِعُ) أَيْ عَنْ مَقَالِهَا فِي تَكْذِيبِ الزَّوْجِ وَدَعْوَى الْبَرَاءَةِ عَمَّا رَمَاهَا بِهِ (سَائِرِ الْيَوْمِ) أي في(6/244)
جَمِيعِ الْأَيَّامِ وَأَبَدِ الدَّهْرِ أَوْ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْأَيَّامِ بَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللِّعَانِ وَالرُّجُوعِ إِلَى تَصْدِيقِ الزَّوْجِ وَأُرِيدَ بَالْيَوْمِ الْجِنْسُ وَلِذَلِكَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَامِّ وَالسَّائِرِ كَمَا يُطْلَقُ لِلْبَاقِي يُطْلَقُ لِلْجَمِيعِ (فَمَضَتْ) أَيْ فِي الْخَامِسَةِ (أَبْصِرُوهَا) أَيِ انْظُرُوا وَتَأَمَّلُوا فِيمَا تَأْتِي بِهِ مِنْ وَلَدِهَا (أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ) أَيِ الَّذِي يَعْلُو جُفُونَ عَيْنَيْهِ سَوَادٌ مِثْلُ الْكُحْلِ مِنْ غَيْرِ اكْتِحَالٍ (سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ) أَيْ عَظِيمَهُمَا (خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ) أَيْ سَمِينَهُمَا (فَهُوَ) أَيِ الْوَلَدُ (لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) مِنْ بَيَانٍ لِمَا أَيْ لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِهِ بِدَرْءِ الْحَدِّ عَنِ الْمَرْأَةِ بِلِعَانِهَا (لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ) أَيْ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا أَوِ الْمَعْنَى لَوْلَا أَنَّ الْقُرْآنَ حَكَمَ بِعَدَمِ الْحَدِّ عَلَى الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَعَدَمِ التَّعْزِيرِ لَفَعَلْتُ بِهَا مَا يَكُونُ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِينَ وَتَذْكِرَةً لِلسَّامِعِينَ
فَإِنْ قُلْتَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مِنَ الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُوَيْمِرًا هُوَ الْمُلَاعِنُ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ وَالْوَلَدُ شَابَهَهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هِلَالًا هُوَ الْمُلَاعِنُ وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ وَالْوَلَدُ شَابَهَهُ وَيُجَابُ بِأَنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ اخْتَلَفُوا فِي نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ هَلْ هُوَ بِسَبَبِ عُوَيْمِرٍ أَمْ بِسَبَبِ هِلَالٍ وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي هِلَالٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعُوَيْمِرٍ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ فَقَالُوا مَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا نَزَلَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمَا جَمِيعًا فَلَعَلَّهُمَا سَأَلَا فِي وَقْتَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمَا وَسَبَقَ هِلَالٌ بَاللِّعَانِ انْتَهَى
كَذَا فِي الْقَسْطَلَّانِيِّ (قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَهَذَا) أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ قِصَّةُ اللِّعَانِ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ (تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ المدينة) كعكرمة عن بن عَبَّاسٍ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا رَوَى هذه القصة غير أهل المدينة (حديث بن بَشَّارٍ) بَيَانٌ لِهَذَا (حَدِيثُ هِلَالٍ) بَدَلٌ مِنْ حديث بن بشار
قال المنذري وأخرجه البخاري والترمذي وبن مَاجَهْ
(أَنْ يَضَعَ) أَيِ الرَّجُلُ (يَدَهُ) الضَّمِيرُ لِلرَّجُلِ (عَلَى فِيهِ) أَيْ عَلَى فَمِ الرَّجُلِ الْمُلَاعِنِ (يَقُولُ) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَضَعَ (إِنَّهَا) أَيِ الشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ (مُوجِبَةٌ) أَيْ لِغَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ(6/245)
(أَحَدُ الثَّلَاثَةِ) هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ (فَلَمْ يَهِجْهُ) مِنْ هَاجَ أَيْ لَمْ يُزْعِجْ هِلَالٌ ذَلِكَ الرَّجُلَ وَلَمْ يُنَفِّرْهُ وَمَعْنَاهُ بَالْفَارِسِيَّةِ تنبيه وسرزنش نكرداورا (الْآيَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا) أَيْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا (فَسُرِّيَ) أَيْ كُشِفَ الْوَحْيُ (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالرَّاءِ بَالْفَارِسِيَّةِ كشايش (وَذَكَّرَهُمَا) مِنَ التَّذْكِيرِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أي لِأَصْحَابِهِ (فَتَلَكَّأَتْ) أَيْ تَوَقَّفَتْ (وَلَا تُرْمَى) أَيْ لا تقذف المرأة بالزنى (وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا) أَيْ لَا يُقَالُ لِوَلَدِهَا إِنَّهُ وَلَدُ زِنَا (وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ(6/246)
رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ رَمَى الْمَرْأَةَ الَّتِي لَاعَنَهَا زَوْجُهَا بَالرَّجُلِ الَّذِي اتَّهَمَهَا بِهِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَالَ لِوَلَدِهَا إِنَّهُ وَلَدُ زِنًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ صِدْقَ مَا قَالَهُ الزَّوْجُ
وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ وَمُجَرَّدُ وُقُوعِ اللِّعَانِ لَا يُخْرِجُهَا عَنِ الْعَفَافِ وَالْأَعْرَاضُ مَحْمِيَّةٌ عَنِ الثَّلْبِ ثَلْبٌ بَالْفَتْحِ عيب ثلاب جمع منتهى الأرب مالم يَحْصُلِ الْيَقِينُ (وَقَضَى أَنْ لَا بَيْتَ) أَيْ لَا مَسْكَنَ (لَهَا) أَيْ لِامْرَأَةِ هِلَالٍ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى هِلَالٍ (وَلَا قُوتَ) أَيْ وَلَا نَفَقَةَ (مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَتَفَرَّقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ أَنَّ اللِّعَانَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُلَاعَنَةِ عَلَى زَوْجِهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ اللِّعَانُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ انْتَهَى (إِنْ جَاءَتْ بِهِ) أَيْ بَالْوَلَدِ (أُصَيْهِبَ) تَصْغِيرُ الْأَصْهَبِ وَهُوَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَشْقَرُ وَمِنَ الْإِبِلِ الَّذِي يُخَالِطُ بَيَاضَهُ حُمْرَةٌ (أُرَيْصِحَ) تَصْغِيرُ الْأَرْصَحِ وَهُوَ خَفِيفُ الْأَلْيَتَيْنِ أُبْدِلَتِ السِّينُ مِنْهُ صَادًا وَقَدْ يَكُونُ تَصْغِيرَ الْأَرْسَعِ أُبْدِلَتْ عَيْنُهُ حَاءً (أُثَيْبِجَ) تَصْغِيرُ الْأَثْبَجِ وَهُوَ النَّاتِئُ الثَّبَجِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْكَاهِلِ وَوَسَطِ الظَّهْرِ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ
وَفِي الْمِصْبَاحِ الثَّبَجُ بِفَتْحَتَيْنِ مَا بَيْنَ الْكَاهِلِ إِلَى الظَّهْرِ وَالْأَثْبَجُ عَلَى وزن احمر الناتىء الثَّبَجِ وَقِيلَ الْعَرِيضُ الثَّبَجِ وَيُصَغَّرُ عَلَى الْقِيَاسِ فَيُقَالُ أُثَيْبِجُ انْتَهَى (حَمْشَ السَّاقَيْنِ) بِمَفْتُوحَةٍ فَسَاكِنَةٍ فَمُعْجَمَةٍ أَيْ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ (أَوْرَقَ) هُوَ الْأَسْمَرُ (جَعْدًا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدهَا دَالٌ مُهْمَلَةٌ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْجَعْدُ مِنَ الشَّعْرِ خِلَافُ السَّبْطِ أَوِ الْقَصِيرِ مِنْهُ (جُمَّالِيًّا) قَالَ فِي الْمَجْمَعِ هُوَ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الضَّخْمُ الْأَعْضَاءِ التَّامُّ الْأَوْصَالِ كَأَنَّهُ الْجَمَلُ (خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ) بِفَتْحِ الخاء والدال المهملة وتشديد اللام أي ممتلىء السَّاقَيْنِ وَعَظِيمُهُمَا (سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ) أَيْ تَامَّهُمَا وَعَظِيمَهُمَا (لَوْلَا الْأَيْمَانُ) أَيِ الشَّهَادَاتُ
وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ اللِّعَانَ يَمِينٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ أَنَّهُ شَهَادَةٌ وَفِيهِ مَذَاهِبُ أُخَرُ ذَكَرَهَا الْحَافِظُ فِي فَتْحِ الْبَارِي (فَكَانَ) أَيِ الْوَلَدُ (أميرا على(6/247)
مُضَرَ) قَبِيلَةٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَكَانَ قَدَرِيًّا دَاعِيَةً
(حِسَابُكُمَا) أَيْ مُحَاسَبَتُكُمَا وَتَحْقِيقُ أَمْرِكُمَا وَمُجَازَاتُهُ (عَلَى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ) أَيْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَنَحْنُ نَحْكُمُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ (لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا) أَيْ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَكُونَ مَعَهَا بَلْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ أَبَدًا
وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهِ (قَالَ يارسول اللَّهِ مَالِي) هُوَ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ أَيَذْهَبُ مَالِي وَأَيْنَ يَذْهَبُ مَالِي الَّذِي أَعْطَيْتُهَا مَهْرًا (قَالَ لَا مَالَ لَكَ) أَيْ بَاقٍ عِنْدَهَا (فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا) أَيْ فَمَالُكَ فِي مُقَابَلَةِ وَطْئِكَ إِيَّاهَا
وَفِيهِ أَنَّ الْمُلَاعَنَ لَا يَرْجِعُ بَالْمَهْرِ عَلَيْهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَقِيلَ لَهَا الْكُلُّ وَقِيلَ لَا صَدَاقَ لَهَا (فَذَلِكَ) أَيْ عَوْدُ الْمَهْرِ إِلَيْكَ (أَبْعَدُ لَكَ) لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعُدْ إِلَيْكَ حَالَةَ الصِّدْقِ فَلَأَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْكَ حَالَةَ الْكَذِبِ أَوْلَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ) أَيْ مَا الْحُكْمُ فِيهِ (قَالَ) أَيِ بن عُمَرَ (بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ) يَعْنِي عُوَيْمِرًا وَامْرَأَتَهُ وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ حَيْثُ جَعَلَ الْأُخْتَ كَالْأَخِ وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْأُخُوَّةِ فَبَالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ أَوْ إِلَى الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ قَبِيلَةِ عَجْلَانَ (يُرَدِّدُهَا) أَيْ كَلِمَةُ اللَّهُ يَعْلَمُ إِلَى تَائِبٍ (فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ إِلَّا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ(6/248)
(أَنَّ رَجُلًا) هُوَ عُوَيْمِرٌ (وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا) أَيْ أَنْكَرَ الرَّجُلُ انْتِسَابَ الْوَلَدِ إِلَيْهِ (وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بَالْمَرْأَةِ) أَيْ فِي النَّسَبِ وَالْوِرَاثَةِ فَيَرِثُ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ مِنْهَا وَتَرِثُ مِنْهُ وَلَا وِرَاثَةَ بَيْنَ الْمُلَاعِنِ وَبَيْنَهُ
وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
(قَالَ أَبُو دَاوُدَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ إِلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ أَيْ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بَالْمَرْأَةِ فِي حديث بن عُمَرَ
وَقَدْ جَاءَتْ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ ثُمَّ خَرَجَتْ حَامِلًا فَكَانَ الْوَلَدُ يُدْعَى إِلَى أُمِّهِ
وَمَنْ رِوَايَةِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ فَكَانَ يُدْعَى يَعْنِي الْوَلَدَ لِأُمِّهِ وَمِنْ رِوَايَةِ فُلَيْحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ وَكَانَتْ حَامِلًا فَأَنْكَرَ حَمْلَهَا فَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَيْهَا
وَقَوْلُهُ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ مَالِكٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بَالْمَرْأَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ قَالَ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ إِلَخْ فَفِيهِ أَنَّ يُونُسَ لَمْ يَقُلْ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ لَفْظُهُ وَأَنْكَرَ حَمْلَهَا فَكَانَ ابْنُهَا يُدْعَى إِلَيْهَا وَإِنَّمَا قَالَهَا فُلَيْحٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
8 - (بَاب إِذَا شَكَّ فِي الْوَلَدِ)
(يولد أَسْوَدَ) زَادَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ أَيْ لِسَوَادِ الْوَلَدِ مُخَالِفًا لِلَوْنِ(6/249)
أَبَوَيْهِ وَأَرَادَ نَفْيَهُ عَنْهُ (مَا أَلْوَانُهَا) أَيْ مَا أَلْوَانُ تِلْكَ الْإِبِلِ (حُمْرٌ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَحْمَرَ (مِنْ أَوْرَقَ) غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْوَصْفِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ مَا فِي لَوْنِهِ بَيَاضٌ إِلَى سَوَادٍ
وَقَالَ غَيْرُهُ الَّذِي فِيهِ سَوَادٌ لَيْسَ بِحَالِكٍ بِأَنْ يَمِيلَ إِلَى الْغُبْرَةِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَمَامَةِ وَرْقَاءُ (إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَوْرَقَ وَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى جَمْعِهِ مُبَالَغَةً فِي وُجُودِهِ (فَأَنَّى تُرَاهُ) بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ فَمِنْ أَيْنَ تَظُنُّ الْوُرْقَ (عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ والمراد بالعرق ها هنا الْأَصْلُ مِنَ النَّسَبِ وَأَصْلُ النَّزْعِ الْجَذْبُ أَيْ قَلَعَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَلْوَانِ فَحْلِهِ وَلِقَاحِهِ وَفِي الْمَثَلِ الْعِرْقُ نَزَّاعٌ وَالْعِرْقُ الْأَصْلُ مَأْخُوذٌ مِنْ عِرْقِ الشَّجَرَةِ يَعْنِي أَنَّ لَوْنَهُ إِنَّمَا جَاءَ لِأَنَّهُ فِي أُصُولِهِ الْبَعِيدَةِ مَا كَانَ فِي هَذَا اللَّوْنِ (قَالَ وَهَذَا) أَيِ الْوَلَدُ الْأَسْوَدُ (عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ) أَيْ عَسَى أي يَكُونَ فِي أُصُولِكَ أَوْ فِي أُصُولِ امْرَأَتِكَ مَنْ يَكُونُ فِي لَوْنِهِ سَوَادٌ فَأَشْبَهَهُ وَاجْتَذَبَهُ إِلَيْهِ وَأَظْهَرَ لَوْنَهُ عَلَيْهِ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ الزَّوْجَ وَإِنْ خَالَفَ لَوْنُهُ لَوْنَهُ حَتَّى لَوْ كَانَ الْأَبُ أَبْيَضَ وَالْوَلَدُ أَسْوَدَ أَوْ عَكْسُهُ لَحِقَهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ نَفْيُهُ بِمُجَرَّدِ الْمُخَالَفَةِ فِي اللَّوْنِ وَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجَانِ أَبْيَضَيْنِ فَجَاءَ الْوَلَدُ أَسْوَدَ أَوْ عَكْسُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ مِنْ أَسْلَافِهِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وبن مَاجَهْ
وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ ضَمْضَمُ بْنُ قَتَادَةَ
(وَهُوَ) أَيِ الرَّجُلُ الْفَزَارِيُّ (يُعَرِّضُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مِنَ التَّعْرِيضِ وَهُوَ ذِكْرُ شَيْءٍ يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ آخَرُ لَمْ يُذْكَرْ وَيُفَارِقُ الْكِنَايَةَ بِأَنَّهَا ذِكْرُ شَيْءٍ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ يَقُومُ مَقَامَهُ (بِأَنْ يَنْفِيَهُ) أَيِ الْوَلَدَ
وَفِيهِ أَنَّ التَّعْرِيضَ ينفي الْوَلَدِ لَيْسَ نَفْيًا وَأَنَّ التَّعْرِيضَ بَالْقَذْفِ لَيْسَ قَذْفًا
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ
كَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ
(وَإِنِّي أُنْكِرُهُ) أَيْ أَسْتَغْرِبُهُ بِقَلْبِي أَنْ يَكُونَ مِنِّي لَا أَنَّهُ نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ بلفظه
قاله النووي(6/250)
29 - (باب في التَّغْلِيظِ فِي الِانْتِفَاءِ)
(أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ) أَيْ بَالِانْتِسَابِ الْبَاطِلِ (مَنْ) مَفْعُولُ أَدْخَلَتْ (لَيْسَ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْمِ (فَلَيْسَتْ) أَيِ الْمَرْأَةُ (مِنَ اللَّهِ) أَيْ مِنْ دِينِهِ أَوْ رَحْمَتِهِ (فِي شَيْءٍ) أَيْ شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ (وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ) أَيْ مَعَ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلْ يُؤَخِّرُهَا أَوْ يُعَذِّبُهَا مَا شَاءَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْخُلُودُ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (جَحَدَ وَلَدَهُ) أَيْ أَنْكَرَهُ وَنَفَاهُ (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ) أَيِ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى الْوَلَدِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ وَلَدُهُ أَوِ الْوَلَدُ يَنْظُرُ إِلَى الرَّجُلِ فَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى قِلَّةِ شَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكَثْرَةِ قَسَاوَةِ قَلْبِهِ وَغِلْظَتِهِ (احْتَجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ) أَيْ حَجَبَهُ وَأَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ (وفضحه) أي أخزاه (على رؤوس الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) أَيْ عِنْدَهُمْ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ رَوَى عَنْهُ يَزِيدُ بْنُ الهاد يعرف بحديث واحد
وقال بن أَبِي حَاتِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ يُعْرَفُ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَى عَنْهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ ذَلِكَ
0 - (باب في ادعاء ولد الزنى)
(عن سلم يعني بن أَبِي الذَّيَّالِ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالتَّحْتَانِيَّةِ الثَّقِيلَةِ
قَالَ الْحَافِظُ ثِقَةٌ قَلِيلُ(6/251)
الْحَدِيثِ (لَا مُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ) قَالَ فِي النهاية المساعاة الزنى وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يَجْعَلُهَا فِي الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ لِأَنَّهُنَّ كُنَّ يَسْعَيْنَ لِمَوَالِيهِنَّ فَيَكْسِبْنَ لَهُمْ بِضَرَائِبَ كَانَتْ عَلَيْهِنَّ
سَاعَتِ الْأَمَةُ إِذَا فَجَرَتْ وَسَاعَاهَا فُلَانٌ إِذَا فَجَرَ بِهَا مُفَاعَلَةً مِنَ السَّعْيِ كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْعَى لِصَاحِبِهِ فِي حُصُولِ غَرَضِهِ فَأَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يَلْحَقِ النَّسَبَ بِهَا وَعَفَا عَمَّا كَانَ مِنْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّنْ ألحق بها (من ساعي) أي زنى أمة الرَّجُلِ وَفَجَرَ بِهَا عَلَى نَهْجِ الْمَعْرُوفِ (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) فَحَصَلَ بِهِ وَلَدٌ (فَقَدْ لَحِقَ) الْوَلَدُ المتولد من الزنى (بِعَصَبَتِهِ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَيْ بِمَوْلَاهُ وَسَيِّدِهِ وَهُوَ مَوْلَى الْأَمَةِ الْفَاجِرَةِ
قَالَ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ لَهُمْ إِمَاءٌ يُسَاعِينَ وَهُنَّ الْبَغَايَا اللَّوَاتِي ذَكَرَهُنَّ اللَّهُ تعالى في قوله عزوجل ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إِذَا كَانَ سَادَتَهُنَّ يُلِمُّونَ بِهِنَّ وَلَا يَجْتَنِبُوهُنَّ فَإِذَا جَاءَتْ إِحْدَاهُنَّ بِوَلَدٍ وَكَانَ سَيِّدُهَا يَطَؤُهَا وقد وطئها غيره بالزنى فَرُبَّمَا ادَّعَاهُ الزَّانِي وَادَّعَاهُ السَّيِّدُ فَحَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالْوَلَدِ لِسَيِّدِهَا لِأَنَّ الْأَمَةَ فِرَاشُ السَّيِّدِ كَالْحُرَّةِ وَنَفَاهُ عَنِ الزَّانِي انْتَهَى (وَلَدًا مِنْ غَيْرِ رِشْدَةٍ) يُقَالُ هَذَا وَلَدُ رِشْدَةٍ بَالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ مَنْ كَانَ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ وَوَلَدُ زِنْيَةٍ مَنْ كَانَ بِضِدِّهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ
(وَهُوَ أَشْبَعُ) أَيْ حَدِيثُ الْحَسَنِ أَتَمُّ مِنْ حَدِيثِ شَيْبَانَ (قَضَى) أَيْ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ (أَنَّ كُلَّ مُسْتَلْحَقٍ) هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الَّذِي طَلَبَ الْوَرَثَةُ أَنْ يُلْحِقُوهُ بِهِمْ وَاسْتَلْحَقَهُ أَيِ ادَّعَاهُ (اسْتُلْحِقَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَالَ بَعْضهمْ هَذِهِ أَحْكَام وَقَعَتْ فِي أول زمن الشريعة إلى أن أَنْ قَالَ ثُمَّ ذَكَر الِاسْتِلْحَاق قَالَ الشَّيْخ شَمْس الدِّين وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ هَذَا الْقَضَاء إِنَّمَا وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَة بَعْد قِيَام الْإِسْلَام وَمَصِيرهَا دَار هِجْرَة
وَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صُوَر الصُّورَة الْأُولَى أَنْ يَكُون الْوَلَد مِنْ أَمَته الَّتِي فِي مِلْكه وَقْت الْإِصَابَة فَإِذَا اِسْتَلْحَقَهُ لَحِقَ به من(6/252)
بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ مُسْتَلْحَقٌ (بَعْدَ أَبِيهِ) أَيْ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْمُسْتَلْحَقِ (الَّذِي يُدْعَى) بَالتَّخْفِيفِ أَيِ الْمُسْتَلْحَقُ (لَهُ) أَيْ لِأَبِيهِ يَعْنِي يَنْسِبُهُ إِلَيْهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِ تِلْكَ الْأَمَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَبُوهُ حَتَّى مَاتَ (ادَّعَاهُ وَرَثَتُهُ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ وَقِيلَ إِنَّهَا صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِمُسْتَلْحَقٍ وَخَبَرُ إِنَّ مَحْذُوفٌ أَيْ مَنْ كَانَ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ (فَقَضَى) الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ أَيْ أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْضِيَ فَقَضَى كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أنفسكم (أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ) أَيْ كُلُّ وَلَدٍ حَصَلَ مِنْ جَارِيَةٍ (يَمْلِكُهَا) أَيْ سَيِّدُهَا (يَوْمَ أَصَابَهَا) أَيْ فِي وَقْتٍ جَامَعَهَا (فَقَدْ لَحِقَ بِمَنِ اسْتَلْحَقَهُ) يَعْنِي إِنْ لَمْ يُنْكِرْ نَسَبَهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (وَلَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْوَلَدِ (مِمَّا قُسِمَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ (قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ (مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ) لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِيرَاثَ وَقَعَتْ قِسْمَتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ يَعْفُو عَمَّا وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (وَمَا أَدْرَكَ) أَيِ الْوَلَدُ (مِنْ مِيرَاثٍ لَمْ يُقْسَمْ فَلَهُ نَصِيبُهُ) أَيْ فَلِلْوَلَدِ حِصَّتُهُ (وَلَا يَلْحَقُ) قال القارىء فِي الْمِرْقَاةِ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهِ أَيْ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ (إِذَا كَانَ أَبُوهُ الَّذِي يُدْعَى لَهُ) أَيْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ (أَنْكَرَهُ) أَيْ أَبُوهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْتَفَى عَنْهُ بِإِنْكَارِهِ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ بِأَنْ يقول مضى عليها حيض بعد ما أصابها وما وطىء بَعْدَ مُضِيِّ الْحَيْضِ حَتَّى وَلَدَتْ وَحَلَفَ عَلَى الاستبراء
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
حِين اِسْتَلْحَقَهُ وَمَا قُسِمَ مِنْ مِيرَاثه قَبْل اِسْتِلْحَاقه لَمْ يُنْقَض وَيُورَث مِنْ الْمُسْتَلْحَق وَمَا كَانَ بَعْد اِسْتِلْحَاقه مِنْ مِيرَاث لَمْ يُقْسَم وَرِثَ مِنْهُ نَصِيبه فَإِنَّهُ إِنَّمَا تَثْبُت بُنُوَّته مِنْ حِين اِسْتَلْحَقَهُ فَلَا تَنْعَطِف عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِسْمَة الْمَوَارِيث وَإِنْ أَنْكَرَهُ لَمْ يَلْحَق بِهِ وَسَمَّاهُ أَبَاهُ عَلَى كَوْنه يُدْعَى لَهُ وَيُقَال إِنَّهُ مِنْهُ لَا أَنَّهُ أَبُوهُ فِي حُكْم الشَّرْع إِذْ لَوْ كَانَ حُكْمًا لَمْ يُقْبَل إِنْكَاره لَهُ وَلَحِقَ بِهِ
الصُّورَة الثَّانِيَة أَنْ يَكُون الْوَلَد مِنْ أَمَة لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكه وَقَّتَ الْإِصَابَة فَهَذَا وَلَدُ زِنًا لَا يَلْحَق بِهِ وَلَا يَرِثهُ بَلْ نَسَبه مُنْقَطِع مِنْهُ
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْ حُرَّة قَدْ زَنَى بِهَا فَالْوَلَد غَيْر لَاحِق بِهِ وَلَا يَرِث مِنْهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا الزَّانِي الَّذِي يُدْعَى الْوَلَد لَهُ يَعْنِي أَنَّهُ مِنْهُ قَدْ اِدَّعَاهُ لَمْ تُفِدْ دَعْوَاهُ شَيْئًا بَلْ الْوَلَد وَلَد زِنًا وَهُوَ لِأَهْلِ أُمّه إِنْ كَانَتْ أَمَة فَمَمْلُوكَة لِمَالِكِهَا وَإِنْ كَانَتْ حُرَّة فَنَسَبه إِلَى أُمّه وَأَهْلهَا دُون هَذَا الزَّانِي الَّذِي هُوَ مِنْهُ
وَقَوْله فِي أَوَّل الْحَدِيث اُسْتُلْحِقَ بَعْد أَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ اِدَّعَاهُ وَرَثَة الْأَب هَا هُنَا هُوَ الزَّانِي الَّذِي مِنْهُ الْوَلَد وَسَمَّاهُ أَبًا تَسْمِيَة مُقَيَّدَة بِكَوْنِ الْوَلَد مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ الَّذِي يُدْعَى لَهُ يَعْنِي يُقَال إِنَّهُ مِنْهُ(6/253)
فَحِينَئِذٍ يَنْتَفِي عَنْهُ الْوَلَدُ (وَإِنْ كَانَ) أَيِ الْوَلَدُ عَاهَرَ (بِهَا) أَيْ زَنَى بِهَا (فَإِنَّهُ) أَيِ الْوَلَدُ (لَا يَلْحَقُ) بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَجْهُولِ (وَلَا يَرِثُ) أَيْ وَلَا يَأْخُذُ الْإِرْثَ (وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُدْعَى لَهُ) وَصْلِيَّةُ تَأْكِيدٍ وَمُبَالَغَةٌ لِمَا قَبْلَهُ (هُوَ ادَّعَاهُ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيِ انْتَسَبَهُ (فَهُوَ وَلَدُ زِنْيَةٍ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (مِنْ حُرَّةٍ كَانَ) أَيِ الْوَلَدُ (أَوْ أَمَةٍ) أَيْ مِنْ جَارِيَةٍ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذِهِ أَحْكَامٌ قَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوائل الإسلام ومبادىء الشَّرْعِ وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَاسْتَلْحَقَ لَهُ وَرَثَتُهُ وَلَدًا فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي يُدْعَى الْوَلَدُ لَهُ وَرَثَتُهُ قَدْ أَنْكَرَ أَنَّهُ مِنْهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ وَلَمْ يَرِثْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْكَرَهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَتِهِ لَحِقَهُ وَوَرِثَ مِنْهُ مَا لَمْ يُقْسَمْ بَعْدُ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَرِثْ مَا قُسِمَ قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةِ غَيْرِهِ كَابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ أَوْ مِنْ حُرَّةٍ زَنَى بِهَا لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَا يَرِثُ بَلْ لو استلحقه الواطىء لم يلحق به فإن الزنى لَا يُثْبِتُ النَّسَبَ
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ أَوْ مَمْلُوكَةٌ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَيُدْعَى لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة أَنَّهُ أَبُوهُ فَإِذَا اِدَّعَاهُ وَرَثَة هَذَا الزَّانِي فَالْحُكْم مَا ذُكِرَ
وَنَظِير هَذَا الْقَضَاء قِصَّة سَعْد بْن أَبِي وقاص وعبد بن زمعة في بن أَمَة زَمْعَة فَإِنَّ وَرَثَة عُتْبَة وَهُوَ سَعْد اِدَّعَى الْوَلَد أَنَّهُ مِنْ أَخِيهِ وَادَّعَى عَبْد أَنَّهُ أَخُوهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاش أَبِيهِ فَأَلْحَقهُ النبي صلى الله عليه وسلم بِمَالِك الْأَمَة دُون عُتْبَة
وَهُوَ تَفْسِير قَوْله وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَة لَمْ يَمْلِكهَا أَوْ مِنْ حُرَّة عَاهَرَ بِهَا فَإِنَّهُ لَا يَلْحَق بِهِ وَلَا يَرِث وَسَيَأْتِي بَعْد هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى
وَقَدْ يَتَمَسَّك بِهِ مِنْ يَقُول الْأَمَة لَا تَكُون فِرَاشًا وَإِنَّمَا يَلْحَق الْوَلَد لِلسَّيِّدِ بِالدَّعْوَى لَا بِالْفِرَاشِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَة لِقَوْلِهِ مَنْ كَانَ مِنْ أَمَة يَمْلِكهَا يَوْم أَصَابَهَا فَقَدْ لَحِقَ بِمِنْ اِسْتَلْحَقَهُ فَإِنَّمَا جَعَلَهُ لَاحِقًا بِهِ بِالِاسْتِلْحَاقِ لَا بِالْإِصَابَةِ وَلَكِنَّ قِصَّة عَبْد بْن زَمْعَة أَصَحّ مِنْ هَذَا وَأَصْرَح فِي كَوْن الْأَمَة تَصِير فِرَاشًا كَمَا تَكُون الْحُرَّة يَلْحَق الْوَلَد بِسَيِّدِهَا بِحُكْمِ الْفِرَاش كَمَا يَلْحَق بِالْحُرَّةِ كَمَا سَيَأْتِي
وَلَيْسَ فِي حَدِيث عَمْرو بْن شُعَيْب أَنَّهُ لَا يَلْحَق وَلَده مِنْ أَمَته إِلَّا بِالِاسْتِلْحَاقِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ عِنْد تَنَازُع سَيِّدهَا وَالزَّانِي فِي وَلَدهَا يَلْحَق بِسَيِّدِهَا الَّذِي اِسْتَلْحَقَهُ دُون الزَّانِي وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاع فِيهِ فَالْحَدِيثَانِ مُتَّفِقَانِ
وَاَللَّه أعلم(6/254)
الْإِمْكَانِ لَحِقَهُ وَصَارَ وَلَدًا لَهُ يَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّوَارُثُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ سَوَاءً كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الشَّبَهِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ
نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَرَوَى عَنْ عَمْرٍو هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدِ بْنِ الْمَكْحُولِ وَفِيهِ مَقَالٌ
1 - (بَاب فِي الْقَافَةِ)
جَمْعُ قَائِفٍ هُوَ مَنْ يَتْبَعُ الْآثَارَ وَيَعْرِفُهَا وَيَعْرِفُ شَبَهَ الرَّجُلِ بِأَخِيهِ وأبيه قاله في المجمع
(قال مسدد وبن السَّرْحِ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِمَا بَعْدَ قَوْلِهِ دَخَلَ عَلَيَّ (يَوْمًا مَسْرُورًا) يَوْمًا ظَرْفٌ لِدَخَلَ وَمَسْرُورًا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ دَخَلَ (وَقَالَ عُثْمَانُ) أَيْ فِي رِوَايَتِهِ (تُعْرَفُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَتُعْرَفُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْأَسَارِيرُ هِيَ الْخُطُوطُ الَّتِي فِي الْجَبْهَةِ وَاحِدُهَا سِرٌّ وَسَرَرٌ وَجَمْعُهُ أَسْرَارٌ وجمع الجمع أسارير (أي عائشة) أي ياعائشة فَأَيْ نِدَاءٌ لِلْقَرِيبِ (أَلَمْ تَرَيْ) بِحَذْفِ النُّونِ أَيْ أَلَمْ تَعْلَمِي (أَنَّ مُجَزِّزًا) بِكَسْرِ الزَّاي الأولى مشددة بضم الجيم (الْمُدْلِجِيَّ) نِسْبَةً إِلَى مُدْلِجٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَكَانَ الْقِيَافَةُ فِيهِمْ وَفِي بَنِي أَسَدٍ يَعْتَرِفُ لَهُمُ الْعَرَبُ (رَأَى زيدا) أي بن حارثة (وأسامة) أي بن زَيْدٍ مُتَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَدْ غَطَّيَا) أَيْ سَتَرَا (بِقَطِيفَةٍ) أَيْ كِسَاءٍ غَلِيظٍ (وَبَدَتْ) أَيْ ظَهَرَتْ (كَانَ أُسَامَةُ أَسْوَدَ) كَانَتْ أُمُّهُ حَبَشِيَّةً سَوْدَاءَ اسْمُهَا بَرَكَةُ وَكُنْيَتُهَا أُمُّ أَيْمَنَ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ أَمْرِ الْقَافَةِ وَصِحَّةِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِمْ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ وَذَلِكَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُظْهِرُ السُّرُورَ إِلَّا بِمَا هُوَ حَقٌّ عِنْدَهُ وَكَانَ النَّاسُ قَدِ ارْتَابُوا فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَابْنِهِ أُسَامَةَ وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ وَأُسَامَةُ أَسْوَدَ فَتَمَارَى النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا بِقَوْلٍ كَانَ يَسُوءُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَاعَهُ فَلَمَّا سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ مُجَزِّزٍ فَرِحَ بِهِ وَسُرِّيَ(6/255)
عَنْهُ
وَمِمَّنْ أَثْبَتَ الْحُكْمَ بَالْقَافَةِ عُمَرُ بْنُ الخطاب وبن عَبَّاسٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِي الْوَلَدِ الْمُشْكِلِ يَدَّعِيهِ اثْنَانِ يُقْضَى بِهِ لَهُمَا وَأُبْطِلَ الْحُكْمُ بَالْقَافَةِ
انْتَهَى
(بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ) أَيْ بِإِسْنَادِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَمَعْنَاهُ (قَالَ) أَيِ اللَّيْثُ فِي رِوَايَتِهِ (تَبْرُقُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ أَيْ تُضِيءُ وَتَسْتَنِيرُ مِنَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
2 - (بَاب مَنْ قَالَ بِالْقُرْعَةِ إِذَا تَنَازَعُوا فِي الْوَلَدِ)
(عَنِ الْأَجْلَحِ) بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ (يَخْتَصِمُونَ إِلَيْهِ فِي وَلَدٍ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (لِاثْنَيْنِ) قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بَعْدَ قَوْلِهِ لِاثْنَيْنِ لَفْظٌ مِنْهُمَا وَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ (طِيِبا بَالْوَلَدِ) مِنْ طَابَتْ نَفْسُهُ بَالشَّيْءِ
إِذَا سَمَحَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَلَا غَضَبٍ (لِهَذَا) أَيِ الثَّالِثِ (فَغَلَيَا) بَالتَّحْتَانِيَّةِ مِنْ(6/256)
غَلَتِ الْقِدْرُ أَيْ صَاحَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ غَلَبَا بَالْمُوَحَّدَةِ (مُتَشَاكِسُونَ) أَيْ مُتَنَازِعُونَ (فَمَنْ قُرِعَ) أَيْ فَمَنْ خَرَجَ الْقُرْعَةُ بَاسْمِهِ (وَعَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَنْ خَرَجَ بَاسْمِهِ الْقُرْعَةُ (ثُلُثَا الدِّيَةِ) أَيْ ثُلُثَا الْقِيمَةِ وَالْمُرَادُ قِيمَةُ الْأُمِّ فَإِنَّهَا انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ مِنْ يَوْمِ وَقَعَ عَلَيْهَا بَالْقِيمَةِ
كَذَا فِي فَتْحِ الْوَدُودِ
وَرَوَى الْحَدِيثَ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَقَالَ فِيهِ فَأَغْرَمَهُ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِصَاحِبَيْهِ (حَتَّى بَدَتْ) أَيْ ظَهَرَتْ (أَضْرَاسُهُ) الْأَضْرَاسُ الْأَسْنَانُ سِوَى الثَّنَايَا الْأَرْبَعَةِ (أَوْ) لِلشَّكِّ (نَوَاجِذُهُ) هِيَ مِنَ الْأَسْنَانِ الضَّوَاحِكِ الَّتِي تَبْدُو عِنْدَ الضَّحِكِ وَالْأَكْثَرُ الْأَشْهَرُ أَنَّهَا أَقْصَى الْأَسْنَانِ وَالْمُرَادُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَبْلُغُ بِهِ الضَّحِكُ حَتَّى يَبْدُو آخِرُ أَضْرَاسِهِ فَوَرَدَ كُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْأَوَاخِرُ لِاشْتِهَارِهَا بِهَا فَوَجْهُهُ أَنْ يُرَادَ مُبَالَغَةُ مِثْلِهِ فِي ضَحِكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَادَ ظُهُورُ نَوَاجِذِهِ
كذا في المجتمع
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقُرْعَةُ فِي أَمْرٍ وَإِحْقَاقِ الْقَارِعِ
وَلِلْقُرْعَةِ مَوَاضِعُ غَيْرُ هَذَا فِي الْعِتْقِ وَتَسَاوِي الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الشَّيْءِ يَتَدَاعَاهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَفِي الْخُرُوجِ بَالنِّسَاءِ فِي الْأَسْفَارِ وَفِي قَسْمِ الْمَوَارِيثِ وَإِفْرَازِ الْحِصَصِ بِهَا وَقَدْ قَالَ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا نَفَرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِهَا فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَلَمْ يَقُلْ بِهَا فِي بَعْضٍ
وَمِمَّنْ قَالَ بِظَاهِرِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَقَالَ هُوَ السُّنَّةُ فِي دَعْوَى الْوَلَدِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِهِ فِي الْقَدِيمِ
وَقِيلَ لِأَحْمَدَ فِي حَدِيثِ زَيْدٍ هَذَا فَقَالَ حَدِيثُ الْقَافَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ
وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ مَنْسُوخٌ
انْتَهَى
وَقَالَ فِي النَّيْلِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ حَدِيثِ الْعَمَلِ بَالْقَافَةِ وَحَدِيثِ الْعَمَلِ بَالْقُرْعَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا اسْتُعْمِلَ عَلَيْهِ طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ فَأَيُّمَا حَصَلَ وَقَعَ بِهِ الْإِلْحَاقُ فَإِنْ حَصَلَا معا فمع الاتفاق لا إشكال ومع الِاخْتِلَافِ الظَّاهِرِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بَالْأَوَّلِ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ طريق شرعي يثبت به الحكم ولا ينقصه طَرِيقٌ آخَرُ يَحْصُلُ بَعْدَهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ الْأَجْلَحُ وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ(6/257)
(حَدَّثَنَا خُشَيْشٌ) بِمُعْجَمَاتٍ مُصَغَّرًا (بِثَلَاثَةٍ) أَيْ بِثَلَاثَةِ رِجَالٍ (وَهُوَ) أَيْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَتُقِرَّانِ) بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ (لِهَذَا) أَيْ لِهَذَا الثَّالِثِ (بَالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ) أَيْ بَالَّذِي خَرَجَتْ باسمه القرعة
قال المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مُرْسَلًا
وَقَالَ النَّسَائِيُّ هَذَا صَوَابٌ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ خَيْرٍ فَرِجَالُ إِسْنَادِهِ ثِقَاتٌ غَيْرَ أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ الْإِرْسَالُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بْن حَزْم هَذَا الْحَدِيث إِسْنَاده صَحِيح كُلّهمْ ثِقَات قَالَ فَإِنْ قِيلَ
إِنَّهُ خَبَر قَدْ اُضْطُرِبَ فِيهِ فَأَرْسَلَهُ شُعْبَة عَنْ سَلَمَة بْن كُهَيْل عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ مَجْهُول وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ عَنْ رَجُل مِنْ حَضْرَمَوْت عَنْ زَيْد بْن أَرْقَم قُلْنَا قَدْ وَصَلَهُ سُفْيَان وَلَيْسَ هُوَ بِدُونِ شُعْبَة عَنْ صَالِح بْن حَيّ وَهُوَ ثِقَة عَنْ عَبْد خَيْر وَهُوَ ثِقَة عَنْ زَيْد بْن أرقم
هَذَا آخِر كَلَامه
وَهَذَا الْحَدِيث قَدْ اِشْتَمَلَ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدهمَا إِلْحَاق الْمُتَنَازَع فِيهِ بِالْقُرْعَةِ وَهُوَ مَذْهَب إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ قَالَ هُوَ السُّنَّة فِي دَعْوَى الْوَلَد وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُول بِهِ فِي الْقَدِيم
وَذَهَبَ أَحْمَد وَمَالِك إِلَى تَقْدِيم حَدِيث الْقَافَة عَلَيْهِ فَقِيلَ لِأَحْمَد فِي حَدِيث زَيْد هَذَا فَقَالَ حَدِيث الْقَافَة أَحَبّ إِلَيَّ
وَلَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَة بِوَاحِدٍ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ لَا بِالْقُرْعَةِ وَلَا بِالْقَافَةِ
الْأَمْر الثَّانِي جَعْله ثُلُثَيْ الدِّيَة عَلَى مَنْ وَقَعَتْ لَهُ الْقُرْعَة وَهَذَا مِمَّا أَشْكَلَ عَلَى النَّاس وَلَمْ يُعْرَف لَهُ وَجْه
وَسَأَلْت عَنْهُ شَيْخنَا فَقَالَ لَهُ وَجْه وَلَمْ يَزِدْ(6/258)
(عن الخليل أو بن الْخَلِيلِ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْخَلِيلِ أَوِ بن أَبِي الْخَلِيلِ الْحَضْرَمِيُّ أَبُو الْخَلِيلِ الْكُوفِيُّ مَقْبُولٌ من الثانية
وفرق البخاري وبن حِبَّانَ بَيْنَ الرَّاوِي عَنْ عَلِيٍّ فَقَالَ فِيهِ بن أَبِي الْخَلِيلِ وَالرَّاوِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فقال فيه بن الْخَلِيلِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ
(بَاب فِي وُجُوهِ النِّكَاحِ الَّتِي كَانَ يَتَنَاكَحُ بِهَا أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ)
(مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ) هُوَ الزُّهْرِيُّ (أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ (عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ) بَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ نَحْوٍ بِمَعْنَى النَّوْعِ أَيْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ (فَنِكَاحٌ مِنْهَا) وَهُوَ الْأَوَّلُ (يَخْطُبُ) الْخُطْبَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا بَاخْتِلَافِ مَعْنَيَيْنِ فَيُقَالُ فِي الْمَوْعِظَةِ خَطَبَ الْقَوْمَ وَعَلَيْهِمْ مِنْ بَابِ قَتَلَ خُطْبَةً بَالضَّمِّ وَخَطَبَ الْمَرْأَةَ إِلَى الْقَوْمِ إِذَا طَلَبَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ وَاخْتَطَبَهَا وَالِاسْمُ الْخِطْبَةُ بَالْكَسْرِ كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ (وَلِيَّتُهُ) كَابْنَةِ أَخِيهِ (فيصدقها) بضم أوله أي يعين صداقها ويسقي مِقْدَارَهُ (ثُمَّ يُنْكِحُهَا) أَيْ يَعْقِدُ عَلَيْهَا (وَنِكَاحٌ آخر) وهو
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَلَكِنْ قَدْ رَوَاهُ الْحُمَيْدِيّ فِي مُسْنَده بِلَفْظٍ آخَر يَدْفَع الْإِشْكَال جُمْلَة قَالَ وَأُغَرِّمهُ ثُلُثَيْ قِيمَة الْجَارِيَة لِصَاحِبَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَد لَمَّا لَحِقَ بِهِ صَارَتْ أُمّ وَلَد وَلَهُ فِيهَا ثُلُثهَا فَغَرَّمَهُ قِيمَة ثُلُثَيْهَا اللَّذَيْنِ أَفْسَدَهُمَا عَلَى الشَّرِيكَيْنِ بِالِاسْتِيلَادِ فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ وَذِكْر ثُلُثَيْ دِيَة الْوَلَد وَهْم أَوْ يَكُون عَبَّرَ عَنْ قِيمَة الْجَارِيَة بِالدِّيَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي يودي بِهَا فَلَا يَكُون بَيْنهمَا تَنَاقُض
وَاَللَّه أَعْلَم(6/259)
الثَّانِي (إِذَا طَهُرَتْ) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْهَاءِ (مِنْ طَمْثِهَا) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ وَكَانَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُسْرِعَ عُلُوقَهَا مِنْهُ (أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ) أَيْ رَجُلٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ (فَاسْتَبْضِعِي) بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا ضَادٌ مُعْجَمَةٌ أَيِ اطْلُبِي مِنْهُ الْمُبَاضَعَةَ وَهِيَ الْجِمَاعُ لِتَحْمِلِي مِنْهُ (أَصَابَهَا زَوْجُهَا) أَيْ جَامَعَهَا (وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ) أَيِ اكْتِسَابًا مِنْ مَاءِ الْفَحْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ فِي الشَّجَاعَةِ أو الكرام أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (وَنِكَاحٌ آخَرُ) وَهُوَ الثَّالِثُ (يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ) أَيِ الْجَمَاعَةُ (كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا) أَيْ يَطَؤُهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عَنْ رِضًى مِنْهَا وَتَوَاطُؤٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا (وَقَدْ وَلَدْتُ) بضم التاء لأنه كلامها (وهو ابنك يافلان) أَيْ إِنْ كَانَ ذَكَرًا فَلَوْ كَانَتْ أُنْثَى لَقَالَتْ هِيَ ابْنَتُكَ لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ ذَكَرًا لِمَا عُرِفَ مِنْ كَرَاهَتِهِمْ فِي الْبِنْتِ وَقَدْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقْتُلُ بِنْتَهُ الَّتِي يَتَحَقَّقُ أَنَّهَا بِنْتٌ فَضْلًا عَمَّنْ تَجِيءُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَذَا فِي الْفَتْحِ (فَتُسَمِّي) أَيِ الْمَرْأَةُ (فَيَلْحَقُ بِهِ) أَيْ بَالرَّجُلِ الَّذِي تُسَمِّيهِ (وَهُنَّ الْبَغَايَا) جَمْعُ بَغِيَّةٍ وَهِيَ الزَّانِيَةُ (كُنَّ يَنْصِبْنَ) بِكَسْرِ الصَّادِ أَيْ يَرْفَعْنَ (تَكُنْ عَلَمًا) بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ عَلَامَةً (جُمِعُوا لَهَا) ضَبَطَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَقَالَ أَيْ جَمَعُوا لَهَا النَّاسَ (الْقَافَةُ) بَالْقَافِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ جَمْعُ قَائِفٍ وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ شَبَهَ الْوَلَدِ بَالْوَالِدِ بَالْآثَارِ الْخَفِيَّةِ (فَالْتَاطَهُ) أَيِ الْتَصَقَ بِهِ
وَأَصْلُ اللَّوْطِ بِفَتْحِ اللَّامِ اللُّصُوقُ(6/260)
(كُلَّهُ) دَخَلَ فِيهِ مَا ذَكَرْتُ وَمَا اسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا (إِلَّا نِكَاحَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ) أَيِ الَّذِي بَدَأَتْ بِذِكْرِهِ وَهُوَ أَنْ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيُزَوِّجُهُ كَمَا سَبَقَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ
4 - (بَاب الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ)
(اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ) بِفَتْحِ الزَّاي وَالْمِيمِ وَقَدْ تسكن الميم (في بن أمة زمعة) بالإضافة أي بن أَمَتِهِ وَهِيَ جَارِيَةٌ زَانِيَةٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لزمته (أخي عتبة) يضم أوله وسكون فوقية بن أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ الَّذِي كَسَرَ رَبَاعِيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَاتَ كَافِرًا (فَأَقْبِضُهُ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ أَمْسِكُهُ (فَإِنَّهُ ابنه) أي فإن بن أمة زمعة بن أَخِي عُتْبَةَ (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) قَالَ فِي النَّيْلِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْفِرَاشِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلْمَرْأَةِ وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ حَالَةِ الِافْتِرَاشِ
وَقِيلَ إِنَّهُ اسْمٌ لِلزَّوْجِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّ الْفِرَاشَ زَوْجَةُ الرَّجُلِ انْتَهَى مُخْتَصَرًا
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ أَوْ مَمْلُوكَةٌ صَارَتْ فِرَاشًا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى كَثِير مِنْ النَّاس مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ سَوْدَة بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ وَقَدْ أَلْحَقهُ بِزَمْعَة فَهُوَ أَخُوهَا وَلِهَذَا قَالَ الْوَلَد لِلْفِرَاشِ قَالُوا فَكَيْف يَكُون أَخَاهَا فِي الْحُكْم وَتُؤْمَر بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ فَقَالَ بَعْضهمْ هَذَا عَلَى سَبِيل الْوَرَع لِأَجْلِ الشَّبَه الَّذِي رَآهُ بِعَيْنِهِ وَقَالَ بَعْضهمْ إِنَّمَا جَعَلَهُ عَبْدًا لِزَمْعَة قَالَ وَالرِّوَايَة هُوَ لَك عَبْد فَإِنَّمَا جَعَلَهُ عَبْدًا لِعَبْدِ بْن زَمْعَة لِكَوْنِهِ رَأَى شَبَهه بعتبة فيكون منه غير لاحق بواحد منهما فيكون عبدا لعبد بن زَمْعَة إِذْ هُوَ وَلَد زِنَا مِنْ جَارِيَة زَمْعَة وَهَذَا تَصْحِيف مِنْهُ وَغَلَط فِي الرِّوَايَة وَالْمَعْنَى فَإِنَّ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة هُوَ لَك يَا عبد بن زمعة ولو صحت(6/261)
لَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ مِنْهُ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَصَارَ وَلَدًا يَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّوَارُثُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ سَوَاءً كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الشَّبَهِ أَمْ مُخَالِفًا وَمُدَّةُ إِمْكَانِ كَوْنِهِ منه ست أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُمَا
وَأَمَّا مَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَةً صَارَتْ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَنَقَلُوا فِي هَذَا الْإِجْمَاعَ وَشَرَطُوا إِمْكَانَ الْوَطْءِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْفِرَاشِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ نَكَحَ الْمَغْرِبِيُّ مَشْرِقِيَّةً وَلَمْ يُفَارِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَطَنَهُ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَلْحَقْهُ لِعَدَمِ إِمْكَانِ كَوْنِهِ مِنْهُ
هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ فَلَمْ يَشْتَرِطِ الْإِمْكَانَ بَلِ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ قَالَ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ عَقِبَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ إِمْكَانِ وَطْءٍ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنَ الْعَقْدِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ
وَهَذَا ضَعِيفٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ وَهُوَ حُصُولُ الْإِمْكَانِ عِنْدَ الْعَقْدِ
هَذَا حُكْمُ الزَّوْجَةِ وَأَمَّا الْأَمَةُ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ تَصِيرُ فِرَاشًا بَالْوَطْءِ وَلَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ فِي مِلْكِهِ سِنِينَ وَأَتَتْ بِأَوْلَادٍ وَلَمْ يَطَأْهَا وَلَمْ يُقِرَّ بِوَطْئِهَا لَا يَلْحَقُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَإِذَا وَطِئَهَا صَارَتْ فِرَاشًا فَإِذَا أَتَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ بِوَلَدٍ أَوْ أَوْلَادٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ لَحِقُوهُ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إِلَّا إِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا وَاسْتَلْحَقَهُ فَمَا تَأْتِي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْحَقُهُ إِلَّا إِنْ نَفِيَهُ انْتَهَى (وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) الْعَاهِرُ الزَّانِي وَعَهَرَ زَنَى وَعَهَرَتْ زَنَتْ والعهر الزنى أَيْ وَلِلزَّانِي الْخَيْبَةُ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ
وَعَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَقُولَ لَهُ الْحَجَرُ وَبِفِيهِ الْأَثْلَبُ وَهُوَ التُّرَابُ وَنَحْوَ ذَلِكَ يُرِيدُونَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْخَيْبَةُ
وَقِيلَ الْمُرَادُ بَالْحَجَرِ هُنَا أَنَّهُ يُرْجَمُ بَالْحِجَارَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ زَانٍ يُرْجَمُ وَإِنَّمَا يُرْجَمُ الْمُحْصَنُ خَاصَّةً وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَجْمِهِ نَفْيُ الْوَلَدِ عَنْهُ
وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي نَفْيِ الولد عنه (واحتجبي منه) أي من بن أمة زمعة (ياسودة) هِيَ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
رِوَايَة هُوَ لَك عَبْد فَإِنَّمَا هِيَ عَلَى إِسْقَاط حَرْف النِّدَاء كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يُوسُف أَعْرِض عَنْ هَذَا} وَلَا يُتَصَوَّر أَنْ يَجْعَلهُ عَبْدًا لَهُ وَقَدْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاش أَبِيهِ وَيَحْكُم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْوَلَد لِلْفِرَاشِ
وَهَذِهِ الزِّيَادَة الَّتِي ذَكَرهَا أَبُو دَاوُدَ وَهِيَ قَوْله هُوَ أَخُوك يَا عَبْد تَرْفَع الْإِشْكَال وَرِجَال إِسْنَادهَا ثِقَات
وَلَوْ لَمْ تَأْتِ فَالْحَدِيث إِنَّمَا يَدُلّ عَلَى إِلْحَاقه بِعَبْدِ أَخًا لَهُ
وَأَمَّا أَمْره سَوْدَة وَهِيَ أُخْته بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ تَبْعِيض أَحْكَام النَّسَبِ فَيَكُون أَخَاهَا فِي التَّحْرِيم وَالْمِيرَاث وَغَيْره وَلَا يَكُون أَخَاهَا فِي الْمَحْرَمِيَّة وَالْخَلْوَة وَالنَّظَر إِلَيْهَا لِمُعَارَضَةِ الشَّبَه لِلْفِرَاشِ فَأَعْطَى الْفِرَاش حُكْمه مِنْ ثُبُوت الْحُرْمَة وَغَيْرهَا وَأَعْطَى الشَّبَه حُكْمه مِنْ عَدَم ثُبُوت الْمَحْرَمِيَّة لِسَوْدَة
وَهَذَا بَاب مِنْ دَقِيق الْعِلْم وَسِرُّهُ لَا يَلْحَظُهُ إِلَّا الْأَئِمَّةُ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى أَغْوَاره الْمَعْنِيُّونَ بِالنَّظَرِ فِي(6/262)
قَالَ النَّوَوِيُّ أَمَرَهَا بِهِ نَدْبًا وَاحْتِيَاطًا لِأَنَّهُ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ أَخُوهَا لِأَنَّهُ أُلْحِقَ بِأَبِيهَا لَكِنْ لَمَّا رَأَى الشَّبَهَ الْبَيِّنَ بِعُتْبَةَ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَائِهِ فَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهَا فَأَمَرَهَا بَالِاحْتِجَابِ مِنْهُ احْتِيَاطًا
قَالَ الْمَازِرِيُّ وَزَعَمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهَا بَالِاحْتِجَابِ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ احْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَخٍ لَكِ وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِأَخٍ لَكِ لَا يُعْرَفُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ هِيَ زِيَادَةٌ بَاطِلَةٌ مَرْدُودَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى (فَقَالَ هُوَ أخوك ياعبد) وَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَوَقَعَ فِي أخرى له ولغيره بلفظ هو لك ياعبد بْنُ زَمْعَةَ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَكَ لِلِاخْتِصَاصِ لَا لِلتَّمْلِيكِ كَمَا قِيلَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(ابْنِي) خَبَرُ إِنَّ (عَاهَرْتُ) أَيْ زَنَيْتُ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِثْبَاتِ الدَّعْوَةِ (لَا دِعْوَةَ) بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ لَا دَعْوَى نَسَبٍ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الدِّعْوَةُ بَالْكَسْرِ فِي النَّسَبِ وَهُوَ أَنْ يَنْتَسِبَ الْإِنْسَانُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَعَشِيرَتِهِ وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فَنُهِيَ عَنْهُ وَجُعِلَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ إِلَخْ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
مَأْخَذ الشَّرْع وَأَسْرَاره وَمَنْ نَبَا فَهْمه عَنْ هَذَا وَغَلُظَ عَنْهُ طَبْعه فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْوَلَد من الرضاعة كيف هو بن فِي التَّحْرِيم لَا فِي الْمِيرَاث وَلَا فِي النَّفَقَة وَلَا فِي الْوِلَايَة وَهَذَا يَنْفَع فِي مَسْأَلَة الْبِنْت الْمَخْلُوقَة مِنْ مَاء الزَّانِي فَإِنَّهَا بِنْته فِي تَحْرِيم النِّكَاح عَلَيْهِ عِنْد الْجُمْهُور وَلَيْسَتْ بِنْته فِي الْمِيرَاث وَلَا فِي النَّفَقَة وَلَا فِي الْمَحْرَمِيَّة
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا مِنْ أَسْرَار الْفِقْه وَمُرَاعَاة الْأَوْصَاف الَّتِي تَتَرَتَّب عَلَيْهَا الْأَحْكَام وَتَرْتِيب مُقْتَضَى كُلّ وَصْف عَلَيْهِ
وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَة أَطْلَعَتْهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَسْرَارٍ وَحِكَم تُبْهِر النَّاظِر فِيهَا
وَنَظِير هَذَا مَا لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا وَحَلَفَ مَعَهُ عَلَى سَارِقٍ أَنَّهُ سَرَقَ مَتَاعه ثَبَتَ حُكْم السَّرِقَة فِي ضَمَان الْمَال عَلَى الصَّحِيح وَلَمْ يَثْبُت حُكْمهَا فِي وُجُوب الْقَطْع اِتِّفَاقًا فَهَذَا سَارِق مِنْ وَجْه دُون وَجْه وَنَظَائِره كَثِيرَة
فَإِنْ قِيلَ فَكَيْف تَصْنَعُونَ فِي الرِّوَايَة الَّتِي جَاءَتْ فِي هذا الحديث واحتجبي منه ياسودة فَإِنَّهُ لَيْسَ لَك بِأَخٍ(6/263)
(عَنْ رَبَاحٍ) قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ رَبَاحٌ الْكُوفِيُّ عَنْ عُثْمَانَ وَعَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ سَعْدٍ مَجْهُولٌ وقال في هامشه وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ (رُومِيَّةَ) بَالنَّصْبِ صِفَةُ أُمِّهِ (ثُمَّ طَبِنَ لَهَا) بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ أَفْسَدَهَا وبكسرها من الطبانة بمعنى الْفِطْنَةِ أَيْ هَجَمَ عَلَى بَاطِنِهَا وَهِيَ وَافَقَتْهُ عَلَى الْمُرَاوَدَةِ
كَذَا فِي فَتْحِ الْوَدُودِ
وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ أَصْلُ الطَّبَانَةِ الْفِطْنَةُ طَبِنَ لِكَذَا أَيْ هَجَمَ عَلَى بَاطِنِهَا وَخَبَرَ أَمْرَهَا وَإِنَّهَا مِمَّنْ تُوَاتِيهِ عَلَى الْمُرَاوَدَةِ
هَذَا إِنْ رُوِيَ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَعَلَى فَتْحِهَا بِمَعْنَى خَيَّبَهَا وَأَفْسَدَهَا انْتَهَى (رُومِيٌّ) بَالرَّفْعِ صِفَةُ غُلَامٍ (يُوحَنَّةَ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَسُكُونِ وَاوٍ وَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ نُونٍ (فَرَاطَنَهَا) أَيْ كَلَّمَهَا كَلَامًا لَا يَفْهَمُهُ غَيْرُهَا (كَأَنَّهُ وَزَغَةٌ) بِفَتَحَاتٍ وَهِيَ مَا يُقَالُ لَهُ سَامٌّ أَبْرَصُ (أَحْسِبُهُ) قَائِلُهُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ شَيْخُ أَبَى دَاوُدَ (قَالَ مَهْدِيٌّ) أي بن مَيْمُونٍ فِي رِوَايَتِهِ (فَسَأَلَهُمَا) أَيْ فَسَأَلَ عُثْمَانُ الْعَبْدَ الرُّومِيَّ وَالْأَمَةَ الرُّومِيَّةَ (وَأَحْسِبُهُ قَالَ) أَيْ مَهْدِيٌّ (فَجَلَدَهَا) أَيِ الْأَمَةَ (وَجَلَدَهُ) أَيِ الْعَبْدَ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قِيلَ هَذِهِ الزِّيَادَة لَا نَعْلَم ثُبُوتهَا وَلَا صِحَّتهَا وَلَا يُعَارَض بِهَا مَا قَدْ عُلِمَتْ صِحَّته وَلَوْ صَحَّتْ لَكَانَ وَجْههَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا بِأَخٍ فِي الْخَلْوَة وَالنَّظَر وَتَكُون مُفَسِّرَة لِقَوْلِهِ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ وَاَللَّه أَعْلَم
وَهَذَا الْوَلَد الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِصَام هُوَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَمْعَة مَذْكُور فِي كِتَاب الصَّحَابَة
وَهُوَ حُجَّة عَلَى مَنْ يَقُول إِنَّ الْأَمَة لَا تَكُون فِرَاشًا وَيُحْمَل قَوْله الْوَلَد لِلْفِرَاشِ عَلَى الْحُرَّة فَإِنَّ سَبَب الْحَدِيث فِي الْأَمَة فَلَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِ تَخْصِيصٌ لِأَنَّ مَحَلّ السَّبَب فِيهِ كَالنَّصِّ وَمَا عَدَاهُ فِي حُكْم الظَّاهِر
وَاَللَّه أَعْلَم(6/264)
35 - (بَاب مَنْ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ)
(كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ ظَرْفًا حَالَ حَمْلِهِ (وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ حَالَ رَضَاعِهِ (وَحِجْرِي) قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْحِجْرُ مُثَلَّثٌ الْمَنْعُ وَحِضْنُ الْإِنْسَانِ (حِوَاءً) بَالْكَسْرِ أَيْ مَكَانًا يَحْوِيهِ وَيَحْفَظُهُ وَيَحْرُسُهُ وَمُرَادُ الْأُمِّ بِذَلِكَ أَنَّهَا أَحَقُّ بِهِ لِاخْتِصَاصِهَا بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ دُونَ الْأَبِ (أَنْ يَنْتَزِعَهُ) أَيْ يَأْخُذَهُ (أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ) أي بولدك (ما لم تنكح) بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي
قَالَ فِي النَّيْلِ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَوْلَى بَالْوَلَدِ مِنَ الْأَبِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ كَالنِّكَاحِ لِتَقْيِيدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَحَقِّيَّةِ بِقَوْلِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ والشافعية والحنفية
وقد حكى بن الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ إِذَا كَانَ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِلْمَحْضُونِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ حَقُّ حَضَانَتِهَا
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَبْطُلُ مُطْلَقًا لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يُفَصِّلْ وَهُوَ الظَّاهِرُ انْتَهَى مُلَخَّصًا
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
(أَنَّ أَبَا مَيْمُونَةَ سَلْمَى) قَالَ في التقريب أو مَيْمُونَةَ الْفَارِسِيُّ الْمَدَنِيُّ الْأَبَّارُ قِيلَ اسْمُهُ سُلَيْمٌ أو سلمان أَوْ سَلْمَى وَقِيلَ أُسَامَةُ ثِقَةٌ مِنَ الثَّالِثَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْفَارِسِيِّ وَالْأَبَّارِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَدَنِيٌّ يَرْوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى (فَادَّعَيَاهُ) أَيْ فَادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا الِابْنَ (رَطَنَتْ لَهُ بَالْفَارِسِيَّةِ) فِي النِّهَايَةِ الرَّطَانَةُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا وَالتَّرَاطُنُ كَلَامٌ لَا يَفْهَمُهُ الْجُمْهُورُ وَإِنَّمَا هُوَ مُوَاضَعَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٌ وَالْعَرَبُ تَخُصُّ بَالرَّطَانَةِ غَالِبَ كَلَامِ الْعَجَمِ وفي(6/265)
الصِّحَاحِ رَطَنْتُ لَهُ إِذَا كَلَّمْتُهُ بَالْعَجَمِيَّةِ فَالْمَعْنَى تَكَلَّمَتْ بَالْفَارِسِيَّةِ (اسْتَهِمَا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الِابْنِ وَالْمَعْنَى اقْتَرِعِي أَنْتِ وَأَبُوهُ فَفِيهِ تَغْلِيبُ الْحَاضِرِ عَلَى الْغَائِبِ (وَرَطَنَ) أَبُو هُرَيْرَةَ (لَهَا) أَيْ لِلْمَرْأَةِ (مَنْ يُحَاقُّنِي) بَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ مَنْ يُنَازِعُنِي (إِنِّي لَا أَقُولُ هَذَا) أَيْ هَذَا الْقَوْلَ أَوْ هَذَا الْحُكْمَ (إِلَّا أَنِّي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ لِأَنِّي (مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ) بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَكْسُورَةٍ فَنُونٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ أَظْهَرَتْ حَاجَتَهَا إِلَى الْوَلَدِ وَلَعَلَّ مَحْمَلَ الحديث تعد مُدَّةِ الْحَضَانَةِ مَعَ ظُهُورِ حَاجَةِ الْأُمِّ إِلَى الْوَلَدِ وَاسْتِغْنَاءِ الْأَبِ عَنْهُ مَعَ إِرَادَتِهِ إِصْلَاحَ الْوَلَدِ
قَالَهُ السِّنْدِيُّ (اسْتَهِمَا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الِابْنِ
قَالَ فِي النَّيْلِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْعَةَ طَرِيقٌ شَرْعِيَّةٌ عِنْدَ تَسَاوِي الْأَمْرَيْنِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا كَمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى التَّخْيِيرِ وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ يُقَدِّمُ التَّخْيِيرُ عَلَيْهَا وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ رُبَّمَا دَلَّ عَلَى عَكْسِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمَا أَوَّلًا بَالِاسْتِهَامِ ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَفْعَلَا خَيَّرَ الْوَلَدَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ التَّخْيِيرَ أَوْلَى لَاتِّفَاقِ أَلْفَاظِ الْأَحَادِيثِ عَلَيْهِ وَعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِهِ انْتَهَى (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ لِلْوَلَدِ (فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ هَذَا فِي الْغُلَامِ الَّذِي قَدْ عَقَلَ وَاسْتَغْنَى عَنِ الْحَضَانَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ خُيِّرَ بَيْنَ وَالِدَيْهِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِذَا صار بن سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِي سِنِينَ خُيِّرَ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ
وَقَالَ أَحْمَدُ يُخَيَّرُ إِذَا كَبِرَ وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْأُمُّ أَحَقُّ بَالْغُلَامِ حَتَّى يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ وَبَالْجَارِيَةِ حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ الْأَبُ أَحَقُّ الْوَالِدَيْنِ
وَقَالَ مَالِكٌ الْأُمُّ أَحَقُّ بَالْجَوَارِي وَإِنْ حِضْنَ حَتَّى يَنْكِحْنَ وَأَمَّا الْغِلْمَانُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِمْ حَتَّى يَحْتَلِمُوا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَرْكِ التَّخْيِيرِ وَصَارَ إِلَى أَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ بَالْوَلَدِ إِذَا اسْتَغْنَى عَنِ الْحَضَانَةِ إِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْأُمَّ إِنَّمَا حَظُّهَا الْحَضَانَةُ لِأَنَّهَا أَرْفَقُ بِذَلِكَ وَأَحْسَنُ تَأَتِّيًا لَهُ فَإِذَا جَاوَزَ الْوَلَدُ حَدَّ الْحَضَانَةِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْأَدَبِ والمعاش والأب أبصر بأسبابهما وأوقى لَهُ مِنَ الْأُمِّ وَلَوْ تُرِكَ الصَّبِيُّ وَاخْتِيَارُهُ لَمَالَ إِلَى الْبَطَالَةِ وَاللَّعِبِ قَالَ وَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا مَذْهَبَ عَنْهُ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه الترمذي والنسائي وبن ماجه مختصرا(6/266)
وَمُطَوَّلًا وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا مَيْمُونَةَ اسْمُهُ سُلَيْمٌ وَقَالَ غَيْرُهُ اسْمُهُ سَلْمَانُ وَوَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا سَلْمَى كَمَا ذَكَرْنَا
(زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ) أَيْ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بَابْنَةِ حمزة) أي بن عَبْدِ الْمَطْلَبِ وَكَانَ قَدِ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَهِيَ يتيمة (فقال جعفر) أي بن أبي طالب يكنى أبا عَبْدُ اللَّهِ وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سنين (وعندي خالتها) هِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ (فَذَكَرَ) أَيْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (قَالَ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَمَّا الْجَارِيَةُ) أَيِ ابْنَةُ حَمْزَةَ (وَإِنَّمَا الْخَالَةُ أُمٌّ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَالَةَ فِي الْحَضَانَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ
وَقَدْ ثَبَتَ بَالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْأُمَّ أَقْدَمُ الْحَوَاضِنِ فَمُقْتَضَى التَّشْبِيهِ أَنْ تَكُونَ الْخَالَةُ أَقْدَمَ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْأُمِّ وَأَقْدَمَ مِنَ الْأَبِ وَالْعَمَّاتِ لَكِنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ النَّيْلِ وَقَالَ وَالْأَوْلَى تَقْدِيمُ الْخَالَةِ بَعْدَ الْأُمِّ عَلَى سَائِرٍ الْحَوَاضِنِ لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَفَاءً بِحَقِّ التَّشْبِيهِ الْمَذْكُورِ وَإِلَّا كَانَ لَغْوًا
قَالَ وَاسْتَشْكَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وُقُوعَ الْقَضَاءِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَعْفَرٍ وَقَالُوا إِنْ كَانَ الْقَضَاءُ لَهُ فَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا وَهُوَ وَعَلِيٌّ سَوَاءٌ فِي قَرَابَتِهَا وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ لِلْخَالَةِ فَهِيَ مُزَوَّجَةٌ وَتَقَدَّمَ أَنَّ زَوَاجَ الْأُمِّ مُسْقِطٌ لِحَقِّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ فَسُقُوطُ حَقِّ الْخَالَةِ بَالزَّوَاجِ أَوْلَى
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلْخَالَةِ وَالزَّوَاجَ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ مَعَ رِضَا الزَّوْجِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ وَالْحَسَنُ البصري وبن حَزْمٍ
وَقِيلَ إِنَّ النِّكَاحَ إِنَّمَا يُسْقِطُ حَضَانَةَ الْأُمِّ وَحْدَهَا حَيْثُ كَانَ الْمُنَازِعُ لَهَا الْأَبُ وَلَا يُسْقِطُ حَقَّ غَيْرِهَا وَلَا حَقَّ الْأُمِّ حَيْثُ كَانَ الْمُنَازِعُ لَهَا غَيْرَ الْأَبِ وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ حَدِيثِ عَلِيٍّ هَذَا وَحَدِيثِ أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بن جُرَيْجٍ
انْتَهَى بِتَغَيُّرِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ(6/267)
وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ
وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ
هَذَا آخَرُ كَلَامِهِ
وَبِنْتُ حَمْزَةَ هَذِهِ عُمَارَةُ وَقِيلَ هِيَ أُمَامَةُ تُكَنَّى أُمَّ الْفَضْلِ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ
(عن هانيء وَهُبَيْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ
عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ وَهُبَيْرَةَ بْنِ يَرِيمَ عَنْ عَلِيٍّ
قُلْتُ هَانِئُ بْنُ هَانِئٍ الْكُوفِيُّ قَالَ بن الْمَدِينِيِّ مَجْهُولٌ وَقَالَ النَّسَائِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ
وَهُبَيْرَةُ بْنُ يَرِيمَ الْكُوفِيُّ قَالَ أَحْمَدُ لَا بأس به ووثقه بن حبان
وقال النسائي ليس بالقوي (تنادي ياعم ياعم) مكررا للتأكيد وأصله ياعمي فَحُذِفَتِ الْيَاءُ اكْتِفَاءً بَالْكَسْرَةِ (وَقَالَ) أَيْ لِفَاطِمَةَ رضي الله عنها (دُونَكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ خُذِي (بِنْتَ عَمِّكِ) بَالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (فَحَمَلَتْهَا) أَيْ فَحَمَلَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها بِنْتَ حَمْزَةَ (وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمِّي) أَيْ هِيَ ابْنَةُ عَمِّي
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
6 - (بَاب فِي عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ)
(فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ طَلُقَتْ أَسْمَاءُ بَالْعِدَّةِ لِلطَّلَاقِ) وَالْمُنَزَّلُ قوله تعالى(6/268)
والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء (فإن كانت) أَيْ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ (أَوَّلَ مَنْ أُنْزِلَتْ فِيهَا) بَالنَّصْبِ خَبَرُ كَانَتْ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ انْتَهَى
7 - (بَاب فِي نَسْخِ مَا اسْتَثْنَى بِهِ مِنْ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَاتِ)
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) أَيْ يَنْتَظِرْنَ (مِنَ الْمَحِيضِ) أَيِ الْحَيْضِ (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أَيْ شَكَكْتُمْ فِي عِدَّتِهِنَّ (فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ) أَيِ الْكَلَامُ الثَّانِي نَسَخَ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بَعْضَ صُوَرِ الْمُطَلَّقَاتِ وَهِيَ صُورَةُ الْإِيَاسِ وَأَوْجَبَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مَكَانَ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ (وَقَالَ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ إِلَخْ) أَيْ قَالَ نَاسِخًا مِنَ الْأَوَّلِ بَعْضَ الصُّوَرِ أَيْضًا وَهِيَ مَا إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا عِدَّةَ هُنَاكَ أَصْلًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ
8 - (بَاب فِي الْمُرَاجَعَةِ)
(طَلَّقَ حَفْصَةَ) هِيَ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَ الشَّيْخُ الدِّهْلَوِيُّ فِي(6/269)
الْمَدَارِجِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ وَاحِدَةً فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْخَبَرُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاهْتَمَّ لَهُ فَأُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَهِيَ زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ
كَذَا فِي إِنْجَاحِ الْحَاجَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النسائي وبن مَاجَهْ
9 - (بَاب فِي نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ)
(طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ) وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْآتِيَةِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَفِي بَعْضِهَا طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَفِي بَعْضِهَا فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا
وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ هَذَا طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا هَذِهِ الْمَرَّةَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَمَنْ رَوَى أَنَّهُ طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا فَهُوَ ظَاهِرٌ وَمَنْ رَوَى الْبَتَّةَ فَمُرَادُهُ طَلَّقَهَا طَلَاقًا صَارَتْ بِهِ مَبْتُوتَةً بَالثَّلَاثِ وَمَنْ رَوَى ثَلَاثًا أَرَادَ تَمَامَ الثَّلَاثِ
كَذَا أَفَادَ النَّوَوِيُّ (وَهُوَ) أَيْ أَبُو عَمْرٍو (فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرٍ) أَيْ لِلنَّفَقَةِ (فَتَسَخَّطَتْهُ) مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ أَيِ اسْتَقَلَّتْهُ يُقَالُ سَخِطَ عَطَاءَهُ أَيِ اسْتَقَلَّهُ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فسخطته
قال القارىء وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيلِ أَيْ غَضِبَتْ عَلَى الْوَكِيلِ بِإِرْسَالِهِ الشَّعِيرَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا (وَاللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ) أَيْ لِأَنَّكِ بَائِنَةٌ أَوْ مِنْ شَيْءٍ غَيْرِ الشَّعِيرِ (لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ) أَيْ وَلَا سُكْنَى كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْآتِيَةِ (إِنَّ تِلْكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ هِيَ (يَغْشَاهَا) أَيْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا (تَضَعِينَ ثِيَابَكِ) أَيْ لَا تَخَافِينَ مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إِلَيْكِ
قَالَ النَّوَوِيُّ أَمَرَهَا بَالِانْتِقَالِ إِلَى بيت بن أُمِّ مَكْتُومٍ لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُهَا وَلَا يَتَرَدَّدُ إِلَى بَيْتِهِ مَنْ يَتَرَدَّدُ إِلَى بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ حَتَّى إِذَا وَضَعَتْ ثِيَابَهَا لِلتَّبَرُّزِ نَظَرُوا إِلَيْهَا
وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ بِخِلَافِ نَظَرِهِ إِلَيْهَا وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ النَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ(6/270)
النَّظَرَ إِلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا من أبصارهم الْآيَةَ وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا وَأَيْضًا لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رُخْصَةٌ لَهَا فِي النَّظَرِ إِلَيْهِ بَلْ فِيهِ أَنَّهَا آمِنَةٌ عِنْدَهُ من نظير غَيْرِهِ وَهِيَ مَأْمُورَةٌ بِغَضِّ بَصَرِهَا عَنْهُ انْتَهَى (فَإِذَا حَلَلْتِ) أَيْ خَرَجْتِ مِنَ الْعِدَّةِ (فَآذِنِينِي) بَالْمَدِّ وَكَسْرِ الذَّالِ أَيْ فَأَعْلِمِينِي (وَأَبَا جَهْمٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ هُوَ عَامِرُ بْنُ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيُّ الْقُرَشِيُّ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَهُوَ الَّذِي طَلَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْبِجَانِيَّتَهُ فِي الصَّلَاةِ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ غَيْرُ أَبِي جَهْمٍ الْمَذْكُورِ فِي التَّيَمُّمِ وَفِي الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي (فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ) بِكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ مَنْكِبِهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ الْأَسْفَارِ أَوْ عَنْ كَثْرَةِ الضَّرْبِ وَهُوَ الْأَصَحُّ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِمَا فِيهِ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ وَطَلَبِ النَّصِيحَةِ وَلَا يَكُونُ هَذَا فِي الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ بَلْ مِنَ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ (فَصُعْلُوكٌ) بِضَمِّ الصَّادِ أَيْ فَقِيرٌ (لَا مَالَ لَهُ) صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (انْكِحِي) بِهَمْزِ وَصْلٍ وَكَسْرِ الْكَافِ أَيْ تَزَوَّجِي (فَكَرِهَتْهُ أَيِ) ابْتِدَاءً لِكَوْنِهِ مَوْلًى أَسْوَدَ جِدًّا
وَإِنَّمَا أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِكَاحِ أُسَامَةَ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ دِينِهِ وَفَضْلِهِ وَحُسْنِ طَرَائِقِهِ وَكَرَمِ شَمَائِلِهِ فَنَصَحَهَا بِذَلِكَ (ثُمَّ قَالَ انْكِحِي) إِنَّمَا كَرَّرَ عَلَيْهَا الْحَثَّ عَلَى زَوَاجِهِ لِمَا عَلِمَ مِنْ مَصْلَحَتِهَا فِي ذَلِكَ وَكَانَ كَذَلِكَ وَلِذَا قَالَتْ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَخْ (وَاغْتَبَطْتُ بِهِ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْبَاءِ أَيْ صِرْتُ ذَاتَ غِبْطَةٍ بِحَيْثُ اغْتَبَطَتْنِي النِّسَاءُ لِحَظٍّ كَانَ لِي منه قاله القارىء وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْغِبْطَةُ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَ حَالِ الْمَغْبُوطِ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةِ زَوَالِهَا عَنْهُ وَلَيْسَ هُوَ الْحَسَدُ تَقُولُ مِنْهُ غَبَطْتُهُ بِمَا نَالَ أَغْبِطُهُ بِكَسْرِ الْبَاءِ غَبْطًا وَغِبْطَةً فَاغْتَبَطَ هُوَ كَمَنَعْتُهُ فَامْتَنَعَ وَحَبَسْتُهُ فَاحْتَبَسَ انْتَهَى
وَفِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى
قَالَ النَّوَوِيُّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنِ الْحَائِلِ (أَيْ غَيْرِ الْحَامِلِ) هَلْ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى أَمْ لَا فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ
وَقَالَ بن عَبَّاسٍ وَأَحْمَدُ لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ يَجِبُ لَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا
وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُمَا جَمِيعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وجدكم فَهَذَا أَمْرٌ بَالسُّكْنَى
وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ جَهِلَتْ أَوْ نَسِيَتْ
قَالَ الْعُلَمَاءُ الَّذِي فِي كِتَابِ رَبِّنَا إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ(6/271)
السُّكْنَى
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ قَوْلُهُ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا هَذِهِ زِيَادَةٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ لَمْ يَذْكُرْهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْ نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ لِوُجُوبِ السُّكْنَى بِظَاهِرِ قوله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم وَلِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ مَعَ ظَاهِرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُنَّ إِذَا لَمْ يَكُنَّ حَوَامِلَ لَا ينفق عَلَيْهِنَّ
وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ فِي سُقُوطِ النَّفَقَةِ بِمَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا كَانَتِ امْرَأَةً لَسِنَةً وَاسْتَطَالَتْ عَلَى أحمائها فأمرها بالانتقال فتكون عند بن أُمِّ مَكْتُومٍ
وَقِيلَ لِأَنَّهَا خَافَتْ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ قَوْلِهَا أَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ وَلَا يُمْكِنُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبَائِنُ الْحَامِلُ فَتَجِبُ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ
وَأَمَّا الرَّجْعِيَّةُ فَتَجِبَانِ لَهَا بَالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا بَالْإِجْمَاعِ
وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا وُجُوبُ السُّكْنَى لَهَا فَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ كَمَا لَوْ كَانَتْ حَائِلًا
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا تَجِبُ وَهُوَ غَلَطٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(أَبَا حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ اسْمَ زَوْجِهَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصٍ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَكَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصٍ وَقِيلَ أَبُو حَفْصِ بْنُ عَمْرٍو وَقِيلَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْمُغِيرَةِ (فِيهِ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ (وَحَدِيثِ مَالِكٍ) أَيِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا
(وَخَبَرَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ) بَالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الْحَدِيثِ أَيْ وَسَاقَ الْحَدِيثَ مَعَ ذِكْرِ خَبَرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وهو إتيانه(6/272)
مَعَ نَفَرٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ (أَنْ لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ) هُوَ مِنَ التَّعْرِيضِ بَالْخِطْبَةِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَكَذَا فِي عِدَّةِ الْبَائِنِ بَالثَّلَاثِ
وَفِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي عِدَّةِ الْبَائِنِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ لِهَذَا الْحَدِيثِ
(وَلَا تَفُوتِينِي بِنَفْسِكِ) تَعْرِيضٌ بَالْخِطْبَةِ (قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَكَذَلِكَ) أَيْ بِلَفْظِ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا (رَوَاهُ الشَّعْبِيُّ) رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ أَخْرَجَهَا الْمُؤَلِّفُ (وَالْبَهِيُّ) رِوَايَتُهُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ (وَعَطَاءٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَاصِمٍ) رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ (وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ) رِوَايَتُهُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ (كُلُّهُمْ) أَيِ الشَّعْبِيُّ وَالْبَهِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَاصِمٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ
(عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ زَوْجَهَا إِلَخْ) قَالَ المنذري وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
(طَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ) أَيِ الَّتِي كَانَتْ بَاقِيَةً لَهَا وَقَدْ كَانَ طلقها تطلقتين قبل (قال(6/273)
أَبُو دَاوُدَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ) أي مثل رواية عقيل عن بن شهاب
ورواية صالح عند مسلم (وبن جُرَيْجٍ) رِوَايَتُهُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ (وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ) رِوَايَةُ شُعَيْبٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ (وَاسْمُ أَبِي حَمْزَةَ دِينَارٌ وَهُوَ) أَيْ أَبُو حَمْزَةَ
قَالَ فِي التَّقْرِيبِ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ وَاسْمُ أَبِيهِ دِينَارٌ أَبُو بِشْرٍ الْحِمْصِيُّ ثقة عابد
قال بن مَعِينٍ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ فِي الزُّهْرِيِّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(أَرْسَلَ مَرْوَانَ) أَيْ قبيصة (أمر) بتشديد الميم أي جعله أَمِيرًا (فَخَرَجَ مَعَهُ) أَيْ مَعَ عَلِيٍّ زَوْجُهَا (أَيْ زَوْجُ فَاطِمَةَ) (فَبَعَثَ) أَيْ زَوْجُ فَاطِمَةَ (إِلَيْهَا) أَيْ إِلَى فَاطِمَةَ (بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ لَهَا) وَقَدْ كَانَ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ قَبْلُ (إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ النَّفَقَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ بَائِنًا إِذَا كَانَتْ حَامِلًا وَيَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ لِغَيْرِهَا مِمَّنْ كَانَ عَلَى صِفَتِهَا فِي الْبَيْنَونَةِ فَلَا يَرِدُ مَا قِيلَ إِنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْمَفْهُومِ الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَلَوْ سُلِّمَ الدُّخُولُ لَكَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الرَّجْعِيَّةِ مُطْلَقًا مُخَصِّصًا لِعُمُومِ ذَلِكَ الْمَفْهُومِ (فَأَذِنَ لَهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُطَلَّقَةِ بَائِنًا الِانْتِقَالُ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهَا الطلاق البائن(6/274)
وَهِيَ فِيهِ فَيَكُونُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا يَخْرُجْنَ كَذَا فِي النَّيْلِ (فَسَنَأْخُذُ بَالْعِصْمَةِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ بَالثِّقَةِ وَالْأَمْرِ الْقَوِيِّ الصَّحِيحِ
قاله النووي (فطلقوهن لعدتهن) تَمَامُ الْآيَةِ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمرا (حَتَّى لَا تَدْرِي) أَيْ قَرَأتُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلك أمرا
(قَالَتْ) أَيْ فَاطِمَةُ (فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ) أَيْ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلِ الْمُطَلَّقَةَ الْبَائِنَ وَإِنَّمَا هِيَ لِمَنْ كَانَتْ لَهُ مُرَاجَعَةٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يُرْجَى إِحْدَاثُهُ هُوَ الرَّجْعَةُ لَا سِوَاهُ فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ مِنَ الطَّلَاقِ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَقَدْ وَافَقَ فَاطِمَةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يحدث بعد ذلك أمرا الْمُرَاجَعَةُ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمْ وَلَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُ
وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بَالْأَمْرِ مَا يَأْتِي مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ نَسْخٍ أَوْ تَخْصِيصٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْحَصِرْ ذَلِكَ فِي الْمُرَاجَعَةِ
انْتَهَى
(وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ) أَيْ مِثْلَ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ الْمَذْكُورَةِ (وَأَمَّا الزُّبَيْدِيُّ) بَالزَّايِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرًا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَامِرٍ أَبُو الْهُذَيْلِ الْحِمْصِيُّ الْقَاضِي ثِقَةٌ ثَبْتٌ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ (فَرَوَى الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ) وَلَفْظُ حَدِيثٍ مَنْصُوبٌ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ الْحَدِيثَيْنِ
وعبيد الله هذا هو بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ (بِمَعْنَى مَعْمَرٍ) أَيْ كَمَا رَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (وَحَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ (بِمَعْنَى عُقَيْلٍ) أَيْ كَمَا رَوَى عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الزُّبَيْدِيَّ رَوَى حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورَ آنِفًا بِمَعْنَى مَعْمَرٍ لَا بِلَفْظِهِ وَرَوَى أَيْضًا حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ الْمَذْكُورَ قَبْلَ حَدِيثِ عبيد الله بمعنى عقيل الراوي عن بن شهاب(6/275)
(وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ) وَحَدِيثُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ وَلَفْظُهُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ وهو بن إبراهيم حدثنا أبي عن بن إِسْحَاقَ قَالَ وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ أَنَّ قَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ حَدَّثَهُ أَنَّ بِنْتَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وكانت فاطمة بنت قيس خالتها وَكَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَبَعَثَ إِلَيْهَا خَالَتَهَا فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فَنَقَلَتْهَا إِلَى بَيْتِهَا وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عَلَى الْمَدِينَةِ
قَالَ قَبِيصَةُ فَبَعَثَنِي إِلَيْهَا مَرْوَانُ فَسَأَلْتُهَا مَا حَمَلَهَا عَلَى أَنْ تُخْرِجَ امْرَأَةً مِنْ بَيْتِهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا قَالَ فَقَالَتْ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِذَلِكَ
قَالَ ثُمَّ قَصَّتْ عَلَيَّ حَدِيثَهَا ثُمَّ قَالَتْ وَأَنَا أخاصمكم بكتاب الله يقول الله عزوجل فِي كِتَابِهِ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بفاحشة مبينة إِلَى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ثم قال عزوجل فإذا بلغن أجلهن الثالثة فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف وَاللَّهِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ حَبْسًا مَعَ مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى مَرْوَانَ فأخبرته خبرها فقال حديث امرأة حَدِيثُ امْرَأَةٍ قَالَ ثُمَّ أَمَرَ بَالْمَرْأَةِ فَرُدَّتْ إِلَى بَيْتِهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا انْتَهَى (بِمَعْنَى) أَيْ بَالْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى (عَلَى خَبَرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ رِوَايَةُ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَيَدُلُّ عَلَى رِوَايَتِهِ لِذَلِكَ عَنْهَا قَوْلُهُ (حِينَ قَالَ فَرَجَعَ قَبِيصَةُ إِلَى مَرْوَانَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ) فَمُرَاجَعَةُ قَبِيصَةَ مِنْ فَاطِمَةَ إِلَى مَرْوَانَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبِيصَةَ رَوَاهُ عَنْ فَاطِمَةَ مُشَافَهَةً
فَشَبَهٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُؤَلِّفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ لَيْسَتْ بِمُسْتَبْعَدَةٍ وَإِنْ كَانَ رَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَرَوَى عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ فَاطِمَةَ
قُلْتُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ أَدْرَكَ عَصْرَ قَبِيصَةَ فَكَيْفَ يُنْكِرُ لِقَاءَهُ عَنْ قَبِيصَةَ وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَشْبَهُ إِلَى الصَّوَابِ
وَفِيهِ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ أي وروى الزُّهْرِيُّ عَنْ قَبِيصَةَ لَا مِنْ صَرِيحِ لَفْظِ قَبِيصَةَ حَيْثُ شَافَهَ قَبِيصَةُ الزُّهْرِيَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَلْ رَوَاهُ بَالْمَعْنَى وَبَالِاسْتِنْبَاطِ حَيْثُ دَلَّ وَأَرْشَدَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَأْخُوذِ وَعَلَى ذَلِكَ الِاسْتِنْبَاطِ خَبَرُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَفِيهِ قَوْلُهُ فَرَجَعَ قَبِيصَةُ إِلَى مَرْوَانَ(6/276)