يُسْتَحَبُّ (رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ وُفِّقَتْ بِالسَّبْقِ (فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا) وَالْوَاوُ لمطلق الجمع وفي الترتيب الذكري إشارة لطيفة لَا تَخْفَى وَفِيهِ بَيَانُ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَكَمَالُ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمُوَافَقَةِ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ وَقَدْ وَثَّقَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَةِ وَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ
[1309] (إِذَا أيقظ الرجل أهله) أي امرأته أو نسائه وَأَوْلَادَهُ وَأَقَارِبَهُ وَعَبِيدَهُ وَإِمَاءَهُ (مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ (فَصَلَّيَا) أَيِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ أَوِ الرَّجُلُ وَأَهْلُهُ (أَوْ صَلَّى) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا) قَالَ الطِّيبِيُّ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ مِنْ فَاعِلِ فَصَلَّيَا عَلَى التَّثْنِيَةِ لَا الْإِفْرَادِ لِأَنَّهُ تَرْدِيدٌ مِنَ الرَّاوِي فَالتَّقْدِيرُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا ثُمَّ أَدْخَلَ أَوْ صَلَّى فِي الْبَيْنِ فَإِذَا أُرِيدَ تَقْيِيدُهُ بِفَاعِلِهِ يُقَدَّرُ فَصَلَّى وَصَلَّتْ جَمِيعًا فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ التَّنَازُعِ انْتَهَى
وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ جَمِيعًا لَيْسَ بِقَيْدٍ لِقَوْلِهِ فَصَلَّى مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ فَصَلَّيَا جَمِيعًا أَوْ صَلَّى فَالصَّحِيحُ أَنَّ الشَّكَّ إِنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْإِفْرَادِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْبَقِيَّةُ عَلَى حَالِهَا فَيُقَالُ حِينَئِذٍ إِنَّ جَمِيعًا حَالٌ مِنْ مَعْنَى ضَمِيرِ فَصَلَّى وَهُوَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جميعا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (كُتِبَا) أَيِ الصِّنْفَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ كُتِبَ (فِي الذَّاكِرِينَ) أَيِ اللَّهَ كَثِيرًا أَيْ فِي جُمْلَتِهِمْ (وَالذَّاكِرَاتِ) كَذَلِكَ
وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (ولم يرفعه بن كَثِيرٍ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ حَاتِمٍ رَفَعَهُ وَجَعَلَ مِنْ مُسْنَدَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ
فَلَمْ يَرْفَعِ الْحَدِيثَ وَلَا ذَكَرَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَلْ جَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي سَعِيدٍ مَوْقُوفًا عليه وأما(4/136)
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ فَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ وَأَرَاهُ أَيْ أَظُنُّ أَنَّ سُفْيَانَ ذَكَرَ أَبَا هُرَيْرَةَ
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ عَنْ مِسْعَرٍ مَوْقُوفٌ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَمِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قال المنذري وأخرجه النسائي وبن ماجه مسندا
(بَاب النُّعَاسِ فِي الصَّلَاةِ)
[1310] (قَالَ إِذَا نَعَسَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِكَسْرٍ وَالنُّعَاسُ أَوَّلُ النَّوْمِ وَمُقَدِّمَتُهُ (فَلْيَرْقُدْ) الْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ (فَإِنَّ أَحَدُكُمْ) عِلَّةٌ لِلرُّقَادِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ (لَعَلَّهُ) اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِمَا قَبْلَهُ (يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ) أَيْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ (فَيَسُبَّ) بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ قَالَهُ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ (نَفْسَهُ) أي من حيث لا يدري قال بن الْمَلَكِ أَيْ يَقْصِدُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِنَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ بِأَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اعْفِرْ وَالْعَفْرُ هُوَ التُّرَابُ فَيَكُونُ دُعَاءً عَلَيْهِ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَهُوَ تَصْوِيرُ مِثَالٍ مِنَ الْأَمْثِلَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ إِلَيْهِ التَّصْحِيفُ وَالتَّحْرِيفُ
وَقَالَ بن حَجَرٍ الْمَكِّيُّ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى يَسْتَغْفِرُ وَبِالنَّصْبِ جَوَابًا لِلتَّرَجِّي ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ بِخُشُوعٍ وَفَرَاغِ قَلْبٍ وَنَشَاطٍ وَفِيهِ أَمْرُ النَّاعِسِ بِالنَّوْمِ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يُذْهِبُ عَنْهُ النُّعَاسَ وَهَذَا عَامٌّ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ لَكِنْ لَا يُخْرِجُ فَرِيضَةً عَنْ وَقْتِهَا
قَالَ الْقَاضِي وَحَمَلَهُ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ عَلَى نَفْلِ اللَّيْلِ لِأَنَّهَا مَحَلُّ النَّوْمِ غَالِبًا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ
[1311] (فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنَ) أَيِ اسْتَغْلَقَ وَلَمْ يَنْطَلِقْ بِهِ لِسَانُهُ لِغَلَبَةِ النُّعَاسِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ
وَفِي النِّهَايَةِ أَيِ ارْتَجَّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقْرَأَ كَأَنَّهُ صَارَ بِهِ عُجْمَةٌ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ(4/137)
[1312] (وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ) أَيِ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ الْمَعْهُودَتَيْنِ (فَإِذَا أَعْيَتْ) أَيْ فَتَرَتْ عَنِ الْقِيَامِ (لِيُصَلِّ) بِكَسْرِ اللَّامِ (نَشَاطَهُ) بِفَتْحِ النُّونِ أَيْ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ وَقْتَ نَشَاطِهِ أَوِ الصَّلَاةَ الَّتِي نَشِطَ لَهَا (أَوْ فَتَرَ) فِي أَثْنَاءِ الْقِيَامِ (فَلْيَقْعُدْ) وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ قَاعِدًا أَوْ إِذَا فَتَرَ بَعْدَ فَرَاغِ بَعْضِ التَّسْلِيمَاتِ فَلْيَقْعُدْ لِإِيقَاعِ مَا بَقِيَ مِنْ نَوَافِلِهِ قَاعِدًا أَوْ إِذَا فَتَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْبَعْضِ فَلْيَتْرُكْ بَقِيَّةَ النَّوَافِلِ جُمْلَةً إِلَى أَنْ يَحْدُثَ لَهُ نَشَاطٌ أَوْ إِذَا فَتَرَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فَلْيَقْطَعْهَا
كَذَا فِي إِرْشَادِ السَّارِي
قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْحَدِيثُ فِيهِ الْحَثُّ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالنَّهْيُ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالْأَمْرُ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِنَشَاطٍ وَأَنَّهُ إِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ حَتَّى يَذْهَبَ الْفُتُورُ وَفِيهِ إِزَالَةُ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ لِمَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَفِيهِ جَوَازُ التَّنَفُّلِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهَا كَانَتْ تُصَلِّي النَّافِلَةَ فِيهِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(بَاب مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ)
[1313] الْحِزْبُ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الزَّايِ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ الْوِرْدُ وَالْمُرَادُ هُنَا الْوِرْدُ مِنَ الْقُرْآنِ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَا كَانَ مُعْتَادُهُ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ
(أَبُو صَفْوَانَ) هُوَ يَرْوِي عَنْ يُونُسَ (قَالَا) أَيْ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَمُحَمَّدُ بن سلمة المرادي (أخبرنا بن وَهْبٍ) وَأَبُو صَفْوَانَ كِلَاهُمَا يَرْوِيَانِ عَنْ يُونُسَ (قالا) أي سليمان ومحمد (عن بن وَهْبٍ) فِي حَدِيثِهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عبد(4/138)
القارىء وَأَمَّا أَبُو صَفْوَانَ فَقَالَ عَنْ يُونُسَ إِنَّ عبد الرحمن بن عبد بإسقاط لفظ القارىء وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ رِوَايَتِهِمَا
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هذا هو بن عَبْدٍ بِغَيْرِ إِضَافَةٍ وَالْقَارِيُّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَارَّةِ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ بِجَوْدَةِ الرَّمْيِ (أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْحِزْبِ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اتِّخَاذِ وِرْدٍ فِي اللَّيْلِ وَعَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَضَائِهِ إِذَا فَاتَ لِنَوْمٍ أَوْ عُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَارِ وَأَنَّ مَنْ فَعَلَهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ كَانَ كَمَنْ فَعَلَهُ فِي اللَّيْلِ
وَفِي اسْتِحْبَابِ قَضَاءِ التَّهَجُّدِ إِذَا فَاتَهُ مِنَ اللَّيْلِ
وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أصحاب الشافعي قضاءه
إنما يستحبوا قَضَاءَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ (كَتَبَ لَهُ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ لِمَنْ غَلَبَهُ نَوْمٌ أَوْ عُذْرٌ مَنَعَهُ مِنَ الْقِيَامِ مَعَ أَنَّ نِيَّتَهُ الْقِيَامُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن ماجه
(بَابُ مَنْ نَوَى الْقِيَامَ فَنَامَ)
[1314] (عَنْ رَجُلٍ عِنْدَهُ رَضِيٍّ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ (يَغْلِبُهُ) الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ إِلَى امْرِئٍ (عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الصَّلَاةِ (نَوْمٌ) فَاعِلُ يَغْلِبُهُ (إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ) يُفِيدُ أَنَّهُ يُكْتُبُ لَهُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ يَقْضِ فَمَا جَاءَ مِنَ الْقَضَاءِ فَلِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَادَةِ وَلِمُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
وَالرَّجُلُ الرَّضِيُّ هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ(4/139)
6 - (بَاب أَيِّ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ)
[1315] (يَنْزِلُ رَبُّنَا) أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيِّ يَقُولُ حَدِيثُ النُّزُولِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ وَوَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ مَا يُصَدِّقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا وَالْمَجِيءُ وَالنُّزُولُ صِفَتَانِ مَنْفِيَّتَانِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ بَلْ هُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا تَشْبِيهٍ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِهِ وَالْمُشَبِّهَةُ بِهَا عُلُوًّا كَبِيرًا
وَفِي كِتَابِ الدَّعَوَاتِ لِأَبِي عُثْمَانَ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ يَنْزِلُ اللَّهُ فَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ يَنْزِلُ بِلَا كَيْفٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْزِلُ نُزُولًا يَلِيقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ بِلَا كَيْفٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهُ مِثْلَ نُزُولِ الْخَلْقِ بِالتَّجَلِّي وَالتَّمَلِّي لِأَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مِثْلَ صِفَاتِ الْخَلْقِ كَمَا كَانَ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مِثْلَ ذَاتِ الْغَيْرِ فَمَجِيئُهُ وَإِتْيَانُهُ وَنُزُولُهُ عَلَى حَسْبِ مَا يَلِيقُ بِصِفَاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَكَيْفِيَّةٍ انْتَهَى
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزَّهَوِيِّ وَمَكْحُولٍ قَالَا أَمْضُوا الْأَحَادِيثَ عَلَى مَا جَاءَتْ
وَمِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ سُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ فِي التَّشْبِيهِ فَقَالُوا أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفِيَّةٍ
وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ يَقُولُ دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فقال لي ياأبا يَعْقُوبَ تَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ فَقُلْتُ أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا نبيا نقل إلينا عنه أخبار بِهَا نُحَلِّلُ الدِّمَاءَ وَبِهَا نُحَرِّمُ
وَبِهَا نُحَلِّلُ الْفُرُوجَ وَبِهَا نُحَرِّمُ وَبِهَا نُبِيحُ الْأَمْوَالَ وَبِهَا نُحَرِّمُ فَإِنْ صَحَّ ذَا صَحَّ ذَاكَ وَإِنْ بَطَلَ ذَا بَطَلَ ذَاكَ
قَالَ فَأَمْسَكَ عَبْدُ اللَّهِ انْتَهَى
مُلَخَّصًا مُحَرَّرًا
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي الصِّفَاتِ كَانَ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِيهَا الْإِيمَانُ بِهَا وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَنَفْيُ الْكَيْفِيَّةِ عَنْهَا
وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ أَحَادِيثِ الصفات حفاظ الإسلام كابن تيمية وبن الْقَيِّمِ وَالذَّهَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ فَعَلَيْكَ مُطَالَعَةَ كُتُبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن ماجه(4/140)
(7 باب وقت قيام النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلِ)
[1316] (إِنْ كَانَ) مُخَفَّفَةٌ مِنْ مُثَقَّلَةٍ (فَمَا يَجِيءُ السَّحَرُ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيِ السُّدُسُ الْأَخِيرُ قَالَهُ السِّنْدِيُّ
وَذَلِكَ أَرْفَقُ لِأَنَّ النَّوْمَ بَعْدَ الْقِيَامِ يُرِيحُ الْبَدَنَ وَيُذْهِبُ ضَرَرَ السَّهَرِ وَذُبُولَ الْجِسْمِ بِخِلَافِ السَّهَرِ إِلَى الصَّبَاحِ قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1317] (إِذَا سَمِعَ الصُّرَاخَ) بِضَمِّ الصَّادِ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ وَصَوْتُ الصَّارِخِ يَعْنِي الدِّيكَ لِأَنَّهُ كَثِيرُ الصِّيَاحِ فِي اللَّيْلِ كَذَا فِي اللِّسَانِ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ (إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ) وَقَالَ الْحَافِظُ وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ الطَّيَالِسِيِّ فِي حَدِيثِ مَسْرُوقٍ الصَّارِخُ الدِّيكُ وَالصَّرْخَةُ الصَّيْحَةُ الشَّدِيدَةُ وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الدِّيكَ يَصِيحُ عِنْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ غَالِبًا قَالَهُ مُحَمَّدُ بن ناصر
قال بن التين وهو موافق لقول بن عَبَّاسٍ نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بعده بقليل
وقال بن بَطَّالٍ الصَّارِخُ يَصْرُخُ عِنْدَ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَكَانَ دَاوُدُ يَتَحَرَّى الْوَقْتَ الَّذِي يُنَادِي اللَّهُ فِيهِ هَلْ مِنْ سَائِلٍ كَذَا قَالَ
وَالْمُرَادُ بِالدَّوَامِ قِيَامُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا الدَّوَامُ الْمُطْلَقُ انْتَهَى (قَامَ فَصَلَّى) لِأَنَّهُ وَقْتُ نُزُولِ الرَّحْمَةِ وَالسُّكُونِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَتَمَّ مِنْهُ
[1318] (مَا أَلْفَاهُ) بِالْفَاءِ أَيْ وَجَدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (السَّحَرُ) بِالرَّفْعِ فَاعِلُ أَلْفَى (عِنْدِي إِلَّا نَائِمًا) بَعْدَ الْقِيَامِ الَّذِي مَبْدَؤُهُ عِنْدَ سَمَاعِ الصَّارِخِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ السَّابِقَةِ وَهَلِ الْمُرَادُ حَقِيقَةُ النَّوْمِ أَوِ اضْطِجَاعُهُ عَلَى جَنْبِهِ لِقَوْلِهَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَإِنْ كُنْتُ يَقْظَى حَدَّثَنِي وَإِلَّا اضطجع أو(4/141)
كَانَ نَوْمُهُ خَاصًّا بِاللَّيَالِي الطِّوَالِ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ دُونَ الْقِصَارِ لَكِنْ يَحْتَاجُ إِخْرَاجُهَا إِلَى دَلِيلٍ قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وبن مَاجَهْ
[1319] (إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الزَّايِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ مُهِمٌّ أَوْ أَصَابَهُ غَمٌّ وَرُوِيَ بِالنُّونِ مِنَ الْحُزْنِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ لَيْسَ لَهُ تَعْلِيقٌ بِالْبَابِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى فِي آخِرِ اللَّيْلِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1320] (آتِيهِ بِوَضُوئِهِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ أَيْ مَاءِ الْوُضُوءِ (فَقُلْتُ مُرَافَقَتَكَ) أَيْ أَسْأَلُ صُحْبَتَكَ وَقُرْبَكَ فِي الْجَنَّةِ (أو غير ذَلِكَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ (هُوَ ذَاكَ) أَيْ سُؤَالِي هَذَا لَا غَيْرُ (فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكِ) مَعْنَاهُ كُنْ لِي عَوْنًا فِي إِصْلَاحِ نَفْسِكِ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ وَنَحْوِهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه مسلم والنسائي
وأخرج الترمذي وبن مَاجَهْ طَرَفًا مِنْهُ وَلَيْسَ لِرَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ فِي كُتُبِهِمْ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ
[1321] (كَانُوا يَتَيَقَّظُونَ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا يَتَنَفَّلُونَ
وأخرج بن مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ قوله تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع فَقَالَ كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ مِنْ صَلَاةِ المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فأنزل لله فيهم تتجافى جنوبهم وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ(4/142)
رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ بِلَالٌ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَتَجَافَى كُنَّا نَجْلِسُ فِي الْمَجْلِسِ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُصَلُّونَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إلى العشاء
وروى بن أبي شبية فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ يُصَلِّي مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَيَقُولُ هِيَ نَاشِئَةُ اللَّيْلِ
وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنَ التَّابِعِينَ أَبُو حَازِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْنُ الْعَابِدِينَ ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّ كَذَا فِي النَّيْلِ
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَامَ يُصَلِّي فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ خَرَجَ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَحَدِيثُ الْبَابِ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1322] (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) وَرَوَى أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى كَانُوا قَلِيلًا من الليل ما يهجعون نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يُصَلِّي مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ
قَالَ الْعِرَاقِيُّ سَنَدُهُ صَحِيحٌ
وَقَالَ وَمِمَّنْ كَانَ يُصَلِّي مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ عمرو وسلمان الفارسي وبن عُمَرَ وَأَنَسٌ فِي نَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
(بَابُ افْتِتَاحِ صَلَاةِ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ)
[1323] (فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ افْتِتَاحِ صَلَاةِ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ لِيَنْشَطَ بِهِمَا لِمَا بَعْدَهُمَا
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ(4/143)
مِنَ اللَّيْلِ لَيُصَلِّيَ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ رِوَايَاتِ عَائِشَةَ الْمُخْتَلِفَةِ فِي حِكَايَتِهَا لِصَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَارَةً وَأَنَّهَا إِحْدَى عَشْرَةَ أُخْرَى بِأَنَّهَا ضَمَّتْ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَقَالَتْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَلَمْ تَضُمَّهُمَا فَقَالَتْ إِحْدَى عَشْرَةَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهَا فِي صِفَةِ صَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ لِأنَّ الْمُرَادَ صَلَّى أَرْبَعًا بَعْدَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ مَوْقُوفَةٍ ثُمَّ لِيُطَوِّلَ بَعْدُ مَا شَاءَ وَفِي أُخْرَى فِيهِمَا تَجَوُّزٌ انْتَهَى
قَالَ فِي الْأَزْهَارِ الْمُرَادُ بِهِمَا رَكْعَتَا الْوُضُوءِ وَيُسْتَحَبُّ فِيهِمَا التَّخْفِيفُ لِوُرُودِ الرِّوَايَاتِ بِتَخْفِيفِهِمَا قَوْلًا وَفِعْلًا وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ التَّهَجُّدِ يَقُومَانِ مَقَامَ تَحِيَّةِ الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ لَهُ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَيَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَمْرًا يَشْرَعُ فِيهِ قَلِيلًا لِيَتَدَرَّجَ
قَالَ الطِّيبِيُّ لِيَحْصُلَ بِهِمَا نَشَاطُ الصَّلَاةِ وَيَعْتَادَ بِهِمَا ثُمَّ يَزِيدَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ
ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
[1324] (عَنْ أبي هريرة قال إذا بمعناه) أي إذ قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ (وَزَادَ) هَذِهِ الْجُمْلَةَ (ثُمَّ لِيُطَوِّلَ بَعْدُ) أَيْ بَعْدَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ (عَنْ مُحَمَّدِ) بْنِ سِيرِينَ (قَالَ فِيهِمَا) أَيْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (تَجَوَّزْ) أَيْ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ روى عن هشام بن حسان عن بن سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَزُهَيْرٌ وَجَمَاعَةٌ فَرَوَوْهُ عَنْ هشام بن حسان عن بن سِيرِينَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَذَلِكَ رَوَى أيوب وبن عَوْنٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ
فَسُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ تَفَرَّدَ بِرَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ رِوَايَةِ بن عَوْنٍ وَأَيُّوبَ أَنَّ أَيُّوبَ قَالَ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ خفيفتين وقال بن عَوْنٍ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزَ فِيهِمَا
قَالَ فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ لَيْسَ بِمُنْفَرِدٍ عَنْ هِشَامٍ بَلْ تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ قَالَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ لِيُصَلِّيَ بِاللَّيْلِ فَلْيَبْدَأْ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ انْتَهَى(4/144)
[1325] (أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ طُولُ الْقِيَامِ) قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا مُشْكِلٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا السُّجُودُ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ لِأَنَّ قُرْبَ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى رَاجِعٌ إِلَى إِحْسَانٍ إِلَيْهِ وَذَلِكَ بِكَثْرَةِ الثَّوَابِ وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ طُولِ الْقِيَامِ أَفْضَلُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ رُكْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ السُّجُودَ أَفْضَلُ مِنَ الْقِيَامِ وَاجِبِهِ وَنَفْلِهِ لِأنَّ الشَّرْعَ سَامَحَ فِي الْقِيَامِ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ وَلَمْ يُسَامِحْ فِي السُّجُودِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ السُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ وَاجِبِ الْقِيَامِ وَآكَدُ وَكُلُّ مَا كَانَ وَاجِبُهُ أَفْضَلُ كَانَ نَفْلُهُ أَفْضَلُ فَيُرَجَّحُ فَرْضُ السُّجُودِ وَنَفْلُهُ عَلَى الْقِيَامِ
قَالَ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثَيْنِ سُنَّةُ الْقِيَامِ وَسُنَّةُ السُّجُودِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ وَطُولُ الْقِيَامِ وَطُولُهُ لَيْسَ وَاجِبًا بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِقَوْلِهِ فَأَكْثِرُوا فِيهِ مِنَ الدُّعَاءِ وَالْوَاجِبُ مِنَ السُّجُودِ لَا يَسَعُ دُعَاءً فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ فِي قَوْلِ السَّائِلِ أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْعُمُومِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَيُّ سُنَنِ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ انْتَهَى
قَالَ السُّيُوطِيُّ وَالْإِشْكَالُ بَاقٍ
(بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ مثنى مثنى)
[1326] لا اختلاف في مشروعية لِأَحَدٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنَّ الْأَفْضَلَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَفْضَلُ فيهما أربع أربع وقال صَاحِبَاهُ فِي اللَّيْلِ مَثْنَى وَفِي النَّهَارِ رُبَاعٌ
وَالْأَخْبَارُ وَرَدَتْ عَلَى أَنْحَاءٍ فَكُلٌّ أَخَذَ بِمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ
وَمِمَّا يُوَافِقُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِسَلَامٍ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذَةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ كَمْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى قَالَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ الْحَدِيثَ وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي بَيَانِ صَلَاةِ اللَّيْلِ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ الْحَدِيثَ
فَهَذَا الفصل(4/145)
يُفِيدُ الْمُرَادَ وَإِلَّا لَقَالَتْ ثَمَانِيًا فَلَا تَسْأَلْ
كذا ذكره بن الْهُمَامِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ
وَفِي رواية الشيخين قام رجل فقال يارسول اللَّهِ كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ وَقَعَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَصْلِ وَالْفَصْلِ لَا عَنْ مُطْلَقِ الْكَيْفِيَّةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ مَثْنَى مَثْنَى أَيِ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ وَتَكْرَارُ لَفْظِ مثنى مثنى للمبالغة وقد فسر ذلك بن عُمَرَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْهُ
(فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى خُرُوجِ وَقْتِ الْوِتْرِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الإيثار بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ مَخَافَةِ هُجُومِ الصُّبْحِ وَيَدُلُّ أكثر الأحاديث الصحيحة الصريحة على مشروعية الإيثار بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ (تُوتِرُ لَهُ) أَيْ تَجْعَلُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ صَلَاتَهُ وِتْرًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
(بَابُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ)
[1327] (عَلَى قَدْرِ مَا يَسْمَعُهُ) أَيْ مِقْدَارُ قِرَاءَةٍ يَسْمَعُهَا (مَنْ فِي الْحُجْرَةِ) الْمُرَادُ صَحْنُ الْحُجْرَةِ قَالَهُ السِّنْدِيُّ (وَهُوَ فِي الْبَيْتِ) أَيْ في بيته
قال القارىء
قِيلَ الْمُرَادُ بِالْحُجْرَةِ أَخَصُّ مِنَ الْبَيْتِ يَعْنِي كَانَ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ كَثِيرًا وَلَا يُسِرُّ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ وَهَذَا إِذَا كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ يَرْفَعُ صوته فيها كثيرا ذكره بن الملك
قال المنذري في إسناده بن أَبِي الزِّنَادِ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ وَفِيهِ مَقَالٌ وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ
(كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ) فِي الْأَزْهَارِ يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ وَيُحْتَمَلُ فِي غَيْرِهَا أَيْضًا وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ مُخْتَلِفَةٌ (يَرْفَعُ) أَيْ صَوْتَهُ رَفْعًا مُتَوَسِّطًا (طَوْرًا) أَيْ مَرَّةً أَوْ حَالَةً إن كان(4/146)
خَالِيًا (وَيَخْفِضُ طَوْرًا) إِنْ كَانَ هُنَاكَ نَائِمٌ أَوْ بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُنَاسِبِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا
وَقَالَ الطِّيبِيُّ يَرْفَعُ خَبَرُ كَانَ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ يَرْفَعُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا طَوْرًا صَوْتَهُ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1329] (فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ مَارٌّ بِأَبِي بَكْرٍ (يُصَلِّي) حَالٌ عَنْهُ (يَخْفِضُ) حَالٌ عَنْ ضَمِيرِ يُصَلِّي (تَخْفِضُ صَوْتَكَ) بَدَلٌ أَوْ حَالٌ (قَدْ أسمعت من ناجيت يارسول اللَّهِ) جَوَابٌ مُتَضَمِّنٌ لِعِلَّةِ الْخَفْضِ أَيْ أَنَا أُنَاجِي رَبِّي وَهُوَ يَسْمَعُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَفْعِ الصَّوْتِ (أُوقِظُ) أَيْ أُنَبِّهُ (الْوَسْنَانَ) أَيِ النَّائِمَ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَغْرِقٍ فِي نَوْمِهِ (وَأَطْرُدُ) أَيْ أُبْعِدُ (الشَّيْطَانَ) وَوَسْوَسَتَهُ بِالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ
وَتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَرْتَبَتِهِمَا وَمَقَامِهِمَا وَإِنْ كَانَ لِكُلٍّ نِيَّةٌ حَسَنَةٌ فِي فِعْلَيْهِمَا وَحَالَيْهِمَا مِنْ مَرْتَبَةِ الْجَمْعِ لِلْأَوَّلِ وَحَالَةِ الْفَرْقِ لِلثَّانِي وَالْأَكْمَلُ هُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ الَّذِي كَانَ حَالَةَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَدَلَّهُمَا عَلَيْهِ وَأَشَارَ لَهُمَا إليه (ياأبا بَكْرٍ ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ شَيْئًا) أَيْ قَلِيلًا لِيَنْتَفِعَ بِكَ سَامِعٌ وَيَتَّعِظَ مُهْتَدٍ (وَقَالَ لِعُمَرَ اخْفِضْ مِنْ صَوْتِكِ شَيْئًا) أَيْ قَلِيلًا لِئَلَّا يَتَشَوَّشَ بِكَ نَحْوُ مُصَلٍّ أَوْ نَائِمٍ مَعْذُورٍ
قَالَ الطِّيبِيُّ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سبيلا كَأَنَّهُ قَالَ لِلصِّدِّيقِ انْزِلْ مِنْ مُنَاجَاتِكِ رَبَّكَ شَيْئًا قَلِيلًا وَاجْعَلْ لِلْخَلْقِ مِنْ قِرَاءَتِكَ نَصِيبًا وَقَالَ لِعُمَرَ ارْتَفِعْ مِنَ الْخَلْقِ هَوْنًا وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ مِنْ مُنَاجَاةِ رَبِّكَ نَصِيبًا
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ(4/147)
وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
وَأَكْثَرُ النَّاسِ إِنَّمَا رَوَوْا هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ مُرْسَلًا
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَيَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ هَذَا هُوَ الْبَجَلِيُّ السَّيْلَحِينِيُّ وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ
[1330] (وَأَنْتَ تَقْرَأُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ) مِنْ تَبْعِيضِيَّةٍ أَيْ تَقْرَأُ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَآيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَا تَقْرَأُ سُورَةً كَامِلَةً (قَالَ) بِلَالٌ (كَلَامٌ طَيِّبٌ) أَيْ كُلُّ الْقُرْآنِ كَلَامٌ طَيِّبٌ (يَجْمَعُهُ) الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ يَرْجِعُ إِلَى الْكَلَامِ وَالْمُرَادُ بَعْضُ الْكَلَامِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (بَعْضُهُ) بَعْضُ الْكَلَامِ (إِلَى بَعْضٍ) وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ الْقُرْآنِ كَلَامٌ طَيِّبٌ تَشْتَهِي إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَيَرْغَبُ فِيهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَ الْكَلَامِ وَضَمَّهُ إِلَى بَعْضٍ وَوَضَعَ بَعْضًا مَعَ بَعْضٍ لِأَجْلِ مَا تَقْتَضِي إِلَيْهِ الْحَاجَةُ وَإِنِّي أَقْرَأُ مِنْهُ مَا أُحِبُّهُ وَمَا أَشْتَهِي إِلَيْهِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1331] (أَنَّ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَقَرَأَ فَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذَكَرَنِي آيَةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْتُ أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا (كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) أَيْ كَمْ مِنْ آيَةٍ (أَذْكَرَنِيهَا اللَّيْلَةَ) مَفْعُولُ أَذَكَرَنِي وَفَاعِلُهُ فُلَانٌ وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آية في السماوات والأرض قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِي الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا جَوَازُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ فِي اللَّيْلِ وَفِي الْمَسْجِدِ وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ إِذَا لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا وَلَا تَعَرَّضَ لِلرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَفِيهِ الدُّعَاءُ لِمَنْ أَصَابَ الْإِنْسَانُ مِنْ جِهَتِهِ خَيْرًا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ وَفِيهِ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ لِلْقِرَاءَةِ سُنَّةٌ وَفِيهِ جَوَازُ قَوْلِ سُورَةِ كَذَا كَسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَنَحْوِهَا وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ(4/148)
انْتَهَى (قَدْ أَسْقَطْتُهَا) أَيْ تَرَكْتُهَا فِي الْقِرَاءَةِ نِسْيَانًا (عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ) غَرَضُهُ أَنَّ هَارُونَ النَّحْوِيَّ قَالَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ يَرْحَمُ اللَّهُ فُلَانًا أَذْكَرَنِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ حُرُوفًا أَيْ كَلِمَاتٍ أَسْقَطْتُهَا وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كثير قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ
[1332] (وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) وَهُوَ الْخُدْرِيُّ (وَلَا يَرْفَعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ) أَيْ صَوْتَهُ (أَوْ قَالَ فِي الصَّلَاةِ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1333] (الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَفِيهِ مَقَالٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَحِّحُ حَدِيثَهُ عَنِ الشَّامِيِّينَ
وَهَذَا الْحَدِيثُ شَامِيُّ الْإِسْنَادِ
1 - (بَاب فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ)
[1334] (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ) فِي السُّبُلِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ لَا(4/149)
قُعُودَ فِيهَا انْتَهَى
قُلْتُ هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ (وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ) أَيْ رَكْعَةٍ (وَيَسْجُدُ سَجْدَتِي الْفَجْرِ) أَيْ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بَعْدَ طُلُوعِهِ (فَذَلِكَ) أَيْ مَا ذَكَرَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي اللَّيْلِ مَعَ تَغْلِيبِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوِ الصَّلَاةِ جَمِيعًا (ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ فَكَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَعَمَ الْبَعْضُ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الرِّوَايَاتُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ النَّشَاطِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ فَالْأَحْسَنُ أَنَّهُ يُقَالُ أَنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنِ الْأَغْلَبِ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُنَافِيهِ مَا خَالَفَهُ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ النَّادِرِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1335] (كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) هِيَ أَكْثَرُ الْوِتْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِهَذَا الحديث ولقولها ما كان يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَلَا يَصِحُّ زِيَادَةٌ عَلَيْهَا فَلَوْ زَادَ عَلَيْهَا لَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَصِحَّ وِتْرُهُ
قال السبكي وأنا أقطع بحل الإيثار بِذَلِكَ
وَصِحَّتِهِ لَكِنِّي أُحِبُّ الِاقْتِصَارَ عَلَى إِحْدَى عشرة فأقل لأنه غالب أحواله (اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حِكْمَتُهُ أَنْ لَا يَسْتَغْرِقَ فِي النَّوْمِ لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي الْيَسَارِ فَفِي النَّوْمِ عَلَيْهِ رَاحَةٌ لَهُ فَيَسْتَغْرِقُ فِيهِ وَفِيهِ كَلَامٌ لِأَنَّهُ صَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ تَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ لِإِرْشَادِ أُمَّتِهِ وَتَعْلِيمِهِمْ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[1336] (إِلَى أَنْ يَنْصَدِعَ) أَيْ يَنْشَقَّ (الْفَجْرُ) وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَ بَعْدَ نَوْمٍ أَمْ لَا (وَيُوتِرُ(4/150)
بِوَاحِدَةٍ) فِيهِ أَنَّ أَقَلَّ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ فَرْدَةٌ وَالتَّسْلِيمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَبِهِمَا قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ (وَيَمْكُثُ فِي سُجُودِهِ) يَعْنِي يَمْكُثُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ سَجَدَاتِ تِلْكَ الرَّكَعَاتِ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةٍ (فَإِذَا سَكَتَ) بِالتَّاءِ
(الْمُؤَذِّنُ) أَيْ فَرَغَ
قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ هَكَذَا فِي الرِّوَايَاتِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَرَوَى سَكَبَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَمَعْنَاهُ صَبَّ الْأَذَانَ وَالرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ لَمْ تَثْبُتْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ انْتَهَى
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَجُوزُ فِيهِ التَّاءُ الْمُثَنَّاةُ مِنْ فَوْقُ وَلَكِنْ قَيَّدُوهُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ كَذَا فِي الْفَائِقِ لِلزَّمَخْشَرِيِّ وَالنِّهَايَةِ لِلْجَزْرِيِّ وقالا أردات عَائِشَةُ إِذَا أَذَّنَ فَاسْتَعَارَتِ السَّكْبَ لِلْإِفَاضَةِ فِي الْكَلَامِ كَمَا يُقَالُ أَفْرَغَ فِي أُذُنِي حَدِيثًا أَيْ أَلْقَى وَصَبَّ
وَقَالَ فِي الْفَائِقِ كَمَا يُقَالُ هَضَبَ فِي الْحَدِيثِ وَأَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ (بِالْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ) أَيْ بِالنِّدَاءِ الْأُولَى وَهِيَ الْأَذَانُ وَالثَّانِيَةُ الْإِقَامَةُ (قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ) هُمَا سُنَّةُ الْفَجْرِ (خَفِيفَتَيْنِ) يَقْرَأُ فِيهِمَا الْكَافِرُونَ وَالْإِخْلَاصَ (ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) أَيْ لِلِاسْتِرَاحَةِ مِنْ تَعَبِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ فَرْضَهُ عَلَى نشاط
كذا قاله بن الْمَلَكِ وَغَيْرُهُ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ يُسْتَحَبُّ الِاضْطِجَاعُ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ انْتَهَى (حَتَّى يَأْتِيَهِ الْمُؤَذِّنُ) أَيْ يَسْتَأْذِنَهُ لِلْإِقَامَةِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجة
[1338] (ثلاث عشرة ركعة) قال بن الملك ثمان ركعات منها بتسليمتين وقال بن حَجَرٍ الْمَكِّيُّ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ بِأَرْبَعِ تَسْلِيمَاتٍ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ وَأَرْبَعًا بِتَسْلِيمَتَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْقَضِيَّتَيْنِ وَإِحَاطَةً بالفضيلتين كذا(4/151)
فِي الْمِرْقَاةِ (يُوتِرُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ (بِخَمْسٍ) أَيْ يُصَلِّي خَمْسَ رَكَعَاتٍ بِنِيَّةِ الْوِتْرِ لَا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ أَيْ لِلتَّشَهُّدِ حَتَّى يَجْلِسَ فِي الْآخِرَةِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الإيثار بِخَمْسِ رَكَعَاتٍ وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ قَالَ بتعيين الثلاث (رواه بن نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ) فَوُهَيْبٌ لَيْسَ بِمُتَفَرِّدٍ فِي هذه الرواية عن هشام بل تابعه بن نُمَيْرٍ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَتَابَعَهُ أَيْضًا وَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ [1339] (يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) مِنْهَا الرَّكْعَتَانِ الْخَفِيفَتَانِ اللَّتَانِ يَفْتَتِحُ بِهِمَا صَلَاتَهُ (ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ) سُنَّةً (رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) يقرأ بقل ياأيها الكافرون وقل هو الله أحد رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَبِي دَاوُدَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وما أنزل علينا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ رَبَّنَا آمَنَّا بما أنزلت واتبعنا الرسول قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَهُوَ طَرَفٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ
[1340] (كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً) قال بن الْمَلَكِ إِنَّمَا أَعَدْتُ الْوِتْرَ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بِالتَّهَجُّدِ لأن الظاهر أنه كَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ آخِرَ اللَّيْلِ وَيَبْقَى مُسْتَيْقِظًا إِلَى الْفَجْرِ وَيُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ أَيْ سُنَّةَ الْفَجْرِ مُتَّصِلًا بِتَهَجُّدِهِ وَوِتْرِهِ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ السِّنْدِيُّ ظَاهِرُ هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَعَ سُنَّةِ الْفَجْرِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والنسائي(4/152)
[1341] (كيف كانت صلاة رسول الله فِي) لَيَالِي (رَمَضَانَ فَقَالَتْ مَا كَانَ رَسُولُ الله يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً) أَيْ غَيْرَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وأما ما رواه بن أبي شيبة عن بن عباس كان رسول الله يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرَ فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَعَ كَوْنِهَا أَعْلَمُ بِحَالِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلًا مِنْ غَيْرِهَا (يُصَلِّي أَرْبَعًا) أَيْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ
وَأَمَّا مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى ثُمَّ وَاحِدَةً فَمَحْمُولٌ عَلَى وَقْتٍ آخَرَ فَالْأَمْرَانِ جَائِزَانِ (فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ) لِأَنَّهُنَّ فِي نِهَايَةٍ مِنْ كَمَالِ الْحُسْنِ وَالطُّولِ مُسْتَغْنِيَاتٌ لِظُهُورِ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ عَنِ السُّؤَالِ عَنْهُ وَالْوَصْفِ (فَقُلْتُ) بِفَاءِ الْعَطْفِ على السابق (يارسول اللَّهِ أَتَنَامُ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الِاسْتِخْبَارِيِّ (وَلَا يَنَامُ قَلْبِي) وَلَا يُعَارِضُ بِنَوْمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْوَادِي لِأَنَّ طُلُوعَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ لَا بِالْقَلْبِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَرَاهَةِ النَّوْمِ قَبْلَ الْوِتْرِ لِاسْتِفْهَامِ عَائِشَةَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهَا منع ذلك فأجابها بأنه لَيْسَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[1342] (لِأَبِيعَ عَقَارًا) عَلَى وَزْنِ سَلَامٍ كُلُّ مِلْكٍ ثَابِتٍ لَهُ أَصْلٌ كَالدَّارِ وَالنَّخْلِ
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ رُبَّمَا أُطْلِقَ عَلَى الْمَتَاعِ (فَأَشْتَرِي بِهِ) أَيْ بِثَمَنِ الْعَقَارِ (مِنَّا سِتَّةً) بَدَلٌ مِنْ نَفَرٍ (أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ) أَيْ تَطْلِيقَ النِّسَاءِ وَبَيْعَ الْمَتَاعِ لِإِرَادَةِ الْغَزْوِ (وَقَالَ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ لَقِيتُ بِهِمْ (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أَيِ اقْتِدَاءٌ وَمُتَابَعَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ (فَقَالَ أَدُلُّكُ عَلَى أَعْلَمِ النَّاسِ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ(4/153)
لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَيَعْرِفُ أَنَّ غَيْرَهُ أَعْلَمُ مِنْهُ بِهِ أَنْ يُرْشِدَ السَّائِلَ إِلَيْهِ فَإِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ وَيَتَضَمَّنُ مَعَ ذَلِكَ الْإِنْصَافَ وَالِاعْتِرَافَ بِالْفَضْلِ لِأَهْلِهِ وَالتَّوَاضُعَ (فَاسْتَتْبَعْتُ) أَيِ اسْتَصْحَبْتُ وَطَلَبْتُ مِنْهُ الْمُصَاحَبَةَ وَسَأَلْتُ مِنْهُ أَنْ يَتَّبِعَنِي فِي الذَّهَابِ إِلَى عَائِشَةَ (عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَاللَّامِ وَيُسَكَّنُ أَيْ أَخْلَاقِهِ وَشَمَائِلِهِ (كَانَ الْقُرْآنُ) أَيْ كَانَ خُلُقُهُ جَمِيعُ مَا فُصِّلَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَكَارِمِ الأخلاق فإن النبي كَانَ مُتَحَلِّيًا بِهِ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ الْعَمَلُ بِهِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِهِ والتَّأْدِيبُ بِآدَابِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِأَمْثَالِهِ وَقَصَصِهِ وَتَدَبُّرُهُ وَحُسْنُ تِلَاوَتِهِ (فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ فَرِيضَةٍ) هَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ صار تطوعا في حق رسول الله وَالْأُمَّةِ فَأَمَّا الْأُمَّةُ فَهُوَ تَطَوُّعٌ فِي حَقِّهِمْ بالإجماع وأما النبي فَاخْتَلَفُوا فِي نَسْخِهِ فِي حَقِّهِ وَالْأَصَحُّ نَسْخُهُ قَالَهُ النَّوَوِيُّ (وَلَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي التَّاسِعَةِ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الْإِيتَارِ بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ مُتَّصِلَةٍ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهَا وَيَقْعُدُ فِي الثَّامِنَةِ وَلَا يُسَلِّمُ (فَلَمَّا أَسَنَّ وَأَخَذَ اللَّحْمَ) أَيْ كَبِرَ عُمْرُهُ وَبَدُنَ (أَوْتَرَ بِسَبْعِ رَكَعَاتٍ لَمْ يَجْلِسْ إِلَّا فِي السَّادِسَةِ وَالسَّابِعَةِ) وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ صَلَّى سَبْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ فَرِوَايَةُ الْمُؤَلِّفِ تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُعُودِ فِي السَّادِسَةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ النَّفْيِ لِلْقُعُودِ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَلَى الْقُعُودِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ التسليم(4/154)
وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النبي مَا كَانَ يُوتِرُ بِدُونِ سَبْعِ رَكَعَاتٍ وَقَالَ بن حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى إِنَّ الْوِتْرَ وَتَهَجُّدَ اللَّيْلِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا أَيُّهَا فَعَلَ أَجْزَأَهُ ثُمَّ ذَكَرَهَا وَاسْتَدَلَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ وَأَحَبُّهَا إِلَيْنَا وَأَفْضَلُهَا أَنْ يُصَلِّيَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً وَاحِدَةً وَيُسَلِّمُ انْتَهَى
(ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ) أَخَذَ بِظَاهِرِهِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبَاحَا رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ جَالِسًا وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ قَالَ النَّوَوِيُّ الصَّوَابُ أَنَّ فِعْلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَى ذَلِكَ بَلْ فَعَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ قَلِيلَةً وَلَفْظُ كَانَ لَا يُلَازِمُ مِنْهَا الدَّوَامَ وَلَا التَّكْرَارَ
قَالَ وَإِنَّمَا تَأَوَّلْنَا حَدِيثَ الرَّكْعَتَيْنِ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةَ في الصحيحين بأن آخر صلاته فِي اللَّيْلِ كَانَتْ وِتْرًا
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَحَادِيثُ كثيرة مشهورة بالأمر بجعل آخِرَ صَلَاةِ اللَّيْلِ وِتْرًا فَكَيْفَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُدَاوِمُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ مِنْ رَدِّ رِوَايَةِ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَيْسَ بِصَوَابٍ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ إِذَا صَحَّتْ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا تَعَيَّنَ انْتَهَى مُلَخَّصًا
(وَلَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ) أَيْ كَامِلًا بِتَمَامِهِ (وَكَانَ إِذَا غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَوْرَادِ وَأَنَّهَا إِذَا فَاتَتْ تُقْضَى (وَاللَّهِ هُوَ الْحَدِيثُ) الَّذِي أُرِيدُهُ (أُكَلِّمُهَا) أَيْ عَائِشَةَ (حَتَّى أُشَافِهَهَا بِهِ) أَيْ بِالْحَدِيثِ (مُشَافَهَةً) أَيْ أَسْمَعُ مِنْهَا مُوَاجَهَةً وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَرَكُ الْكَلَامِ مَعَهَا لِأَجْلِ الْمُنَازَعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَبَيْنَهَا أَوْ لأمر آخر لكن هذا فعل بن عَبَّاسٍ لَيْسَ بِهِ حُجَّةٌ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مَا حَدَّثْتُكَ) أَيْ لِتَذْهَبَ إِلَيْهَا لِلْحَدِيثِ فَتُكَلِّمَهَا أَوِ الْمُرَادُ أَنَّكَ لَا تُكَلِّمُهَا فَإِنْ عَلِمْتُ هَذَا قَبْلَ ذَلِكَ مَا حَدَّثْتُكَ حَدِيثَهَا أَيْضًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والنسائي(4/155)
[1343] (يُسْمِعُنَا) مِنَ الْإِسْمَاعِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْجَهْرِ بِالتَّسْلِيمِ فَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ صَلَاتِهِ مُغَايِرٌ لِمَا تقدم فيه أنه صلى ثمان رَكَعَاتٍ وَلَمْ يَجْلِسْ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً فَهَذِهِ رِوَايَةُ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالَّتِي تَقَدَّمَتْ هِيَ رِوَايَةُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ
[1346] (حَتَّى بَدَّنَ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ التَّبْدِينِ وَهُوَ الْكِبَرُ وَالضَّعْفُ أَيْ مَسَّهُ الْكِبَرُ (فَنَقَصَ مِنَ التِّسْعِ) الَّذِي كَانَ يُصَلِّي مُتَّصِلًا بِتَشَهُّدٍ أَوْ تَشَهُّدَيْنِ (ثِنْتَيْنِ) مَفْعُولُ نَقَصَ (فَجَعَلَهَا) أَيِ الصَّلَاةَ(4/156)
التي نقصت من التسع (إلى ست) فَجَعَلَهَا إِلَى سِتِّ رَكَعَاتٍ بِغَيْرِ الْوِتْرِ (وَالسَّبْعِ) أَيْ إِلَى السَّبْعِ رَكَعَاتٍ مَعَ الْوِتْرِ (وَرَكْعَتَيْهِ) أَيْ إِلَى السِّتِّ وَرَكْعَتَيْهِ وَإِلَى السَّبْعِ وَرَكْعَتَيْهِ
فَالسِّتُّ وَالسَّبْعُ بِاعْتِبَارِ ضَمِّ الْوِتْرِ وَحَذْفِهِ
[1349] (وَلَيْسَ) هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ بَهْزٌ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ سَعْدٍ (فِي تَمَامِ حَدِيثِهِمْ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَيْ مِنْ جَيِّدِ أَحَادِيثِهِمْ مِنْ جهة الإسناد لأن بن أَبِي عَدِيٍّ وَيَزِيدَ بْنَ هَارُونَ وَمَرْوَانَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كُلَّهُمْ قَالُوهُ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِحَذْفِ وَاسِطَةِ سَعْدٍ وَأَمَّا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فَقَالَ عَنْ بَهْزٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ وَهَذَا الْبَحْثُ فِي حَدِيثِ بَهْزٍ دُونَ قَتَادَةَ لَكِنْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ(4/157)
لَيْسَ فِي تَمَامِ حَدِيثِهِمْ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَرِوَايَةُ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ هِيَ الْمَحْفُوظَةُ وَعِنْدِي فِي سَمَاعِ زُرَارَةَ مِنْ عَائِشَةَ نَظَرٌ فَإِنَّ أَبَا حَاتِمٍ الرَّازِيَّ قَالَ قَدْ سَمِعَ زُرَارَةُ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَمِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنِ بن عَبَّاسٍ
قُلْتُ أَيْضًا قَالَ هَذَا مَا صَحَّ لَهُ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ عِنْدَهُ مِنْ عَائِشَةَ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْقَاضِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ رِوَايَةِ سعد بن هشام قيام النبي بِتِسْعِ رَكَعَاتٍ وَحَدِيثُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ مِنْهُنَّ الْوِتْرُ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ يَرْكَعُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَمِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَغَيْرِهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَعَنْهَا كَانَ لَا يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَرْبَعًا أَرْبَعًا وَثَلَاثًا وَعَنْهَا كَانَ يُصَلِّي ثلاث عشرة ثانيا ثُمَّ يُوتِرُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَقَدْ فَسَّرْتُهَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ هَذِهِ رِوَايَاتُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ
وَعَنْهَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ صَلَاتَهُ بِاللَّيْلِ سَبْعٌ وَتِسْعٌ
وَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ بن عباس أن صلاته مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ سُنَّةَ الصُّبْحِ وَفِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خالد أنه صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ طَوِيلَتَيْنِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِخْبَارُ كُلِّ وَاحِدٍ من بن عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ وَعَائِشَةَ بِمَا شَاهَدَ
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فَقِيلَ هُوَ مِنْهَا وَقِيلَ مِنَ الرُّوَاةِ عَنْهَا فَيَحْتَمِلُ أَنَّ إِخْبَارَهَا بِإِحْدَى عَشْرَةَ هُوَ الْأَغْلَبُ وَبَاقِي رِوَايَاتِهَا إِخْبَارٌ مِنْهَا بِمَا كَانَ يَقَعُ نَادِرًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَأَكْثَرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَأَقَلُّهُ سَبْعٌ وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا كَانَ يَحْصُلُ مِنَ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ أَوْ ضِيقِهِ بِطُولِ قِرَاءَةٍ أَوْ لِنَوْمٍ أَوْ عُذْرِ مَرَضٍ وَغَيْرِهِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عِنْدَ كِبَرِ السِّنِّ أَوْ تَارَةً تَعُدُّ الرَّكْعَتَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ فِي أَوَّلِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَتَعُدُّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ تَارَةً وَتَحْذِفُهُمَا تَارَةً أَوْ تَعُدُّ أَحَدَهُمَا وَقَدْ تَكُونُ عَدَّتْ رَاتِبَةَ الْعِشَاءِ مَعَ ذَلِكَ تَارَةً وَحَذَفَتْهَا تَارَةً
قَالَ الْقَاضِي وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ وَإِنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ مِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي كُلَّمَا زَادَ فِيهَا زَادَ الْأَجْرُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي فِعْلِ النَّبِيِّ وَمَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا
[1350] (أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْآتِيَةِ مِنْ(4/158)
كَلَامِ الْقَاضِي النَّوَوِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1351] (عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ طَرَفًا مِنْهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ (رَوَى هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ) أَيْ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ (خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ) ثِقَةٌ ثَبْتٌ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو مِثْلَهُ) أَيْ مِثْلَ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ لَكِنْ فِيهِ بَعْضُ الزِّيَادَةِ كَمَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ (قَالَ) أَيْ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ (كَانَ يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ) أَيْ بَعْدَ الْوِتْرِ
[1352] (عَنْ خَالِدِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانِ الْوَاسِطِيِّ وَهُوَ يَرْوِي عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ كَمَا يَرْوِي عَنْهُ عَبْدُ الْأَعْلَى
قَالَ فِي الشَّرْحِ رِوَايَةُ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ عَنْ خَالِدٍ عَنْ هِشَامٍ مَا وَجَدْنَاهَا فِي أَطْرَافِ الْمِزِّيِّ وَأَمَّا رواية بن الْمُثَنَّى عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى فَثَابِتَةٌ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (دَخَلَ الْمَسْجِدَ) أَيِ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُصَلَّى فِي الْبَيْتِ (يُخَيَّلُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (إِلَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (فَآذَنَهُ) بِهَمْزَةٍ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ رَوَى أَبُو حَاتِم فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث جَعْفَر بْن غِيَاث عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيل عَنْ عَبْد اللَّه بْن شَقِيق عَنْ عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى مُتَرَبِّعًا
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ أَفْضَل هَيْئَات الْمُصَلِّي جَالِسًا التَّرْبِيع وَاَللَّه أَعْلَم(4/159)
مَمْدُودَةٍ مِنَ الْإِيذَانِ أَيْ أَعْلَمَهُ (ثُمَّ يُغْفِي) مِنَ الْإِغْفَاءِ أَيْ يَنَامُ نَوْمًا خَفِيفًا
قَالَتْ عائشة (وربما شككت) في نومه (هَلْ أَغْفَا أَوْ لَا) قَالَ فِي النِّهَايَةِ غَفَوْتُ غَفْوَةً أَيْ نِمْتُ نَوْمَةً خَفِيفَةً وَيُقَالُ أَغْفَا إِغْفَاءً وَإِغْفَاءَةً إِذَا نَامَ وَقَلَّمَا يُقَالُ غَفَا انْتَهَى
(أَسَنَّ) بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ هَكَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْكِتَابِ وَفِي بَعْضِهَا سَنَّ بِدُونِ الْهَمْزَةِ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَكَذَا فِي مُعْظَمِ الْأُصُولِ لِصَحِيحِ مُسْلِمٍ سَنَّ وَفِي بَعْضِهَا أَسَنَّ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَالْحَسَنُ هُوَ الْبَصْرِيُّ وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
(عَنْ عَائِشَةَ) تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ سَنَدًا وَمَتْنًا وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا فِي نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي دَاوُدَ
إِنَّمَا كَرَّرَتْ إِلَخْ وَكَانَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ صَحَّ لِابْنِ دُحَيْمٍ عَنِ الرَّمْلِيِّ انْتَهَى
يَعْنِي مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ دُحَيْمٍ عَنِ الرَّمْلِيِّ لَكِنْ لَمْ يُّنَبِّهِ الْمِزِّيُّ عَلَى ذَلِكَ وَكَذَا لَيْسَ فِي الْمُنْذِرِيِّ فِي هَذَا الْمَحَلِّ (لِأَنَّهُمُ اضْطَرَبُوا فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فَرَوَى وهيب وبن نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ هَكَذَا أَيْ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَرَوَى مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ عَنْ هِشَامٍ خِلَافَ ذَلِكَ وَتَقَّدَمَ بَعْضُ بَيَانِ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ أَحَادِيثَ الْفَصْلِ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ أَثْبَتُ وَأَكْثَرُ طُرُقًا إِذْ هُوَ الَّذِي رَوَاهُ أَكْثَرُ الْحُفَّاظِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَرِوَايَةُ أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ انْفَرَدَ بِهَا بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ هِشَامٍ وَقَدْ أَنْكَرَهَا مَالِكٌ وَقَالَ مُنْذُ صَارَ هِشَامٌ بِالْعِرَاقِ أَتَانَا عنه ما لم نعرف
وقال بن عَبْدِ الْبَرِّ مَا حَدَّثَ بِهِ هِشَامٌ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْعِرَاقِ أَصَحُّ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ
قَالَهُ الزَّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَوَاهِبِ
وَقَدْ أُجِيبَ عن كلام مالك وبن عَبْدِ الْبَرِّ وَفِيهِ بَحْثٌ طَوِيلٌ إِنْ شِئْتَ فَارْجِعْ إِلَى الشَّرْحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(4/160)
(أَصْحَابُنَا) أَيْ شُيُوخُنَا فِي الْحَدِيثِ (لَا يَرَوْنَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوَتْرِ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ
[1353] (عَنِ بن عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَقَدَ) أَيْ نَامَ
وَفِي الشَّمَائِلِ وَغَيْرِهِ قَالَ فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ أَيِ المخدة أو الفراش واضطجع رسول الله فِي طُولِهَا (فَتَسَوَّكَ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ السِّوَاكِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ (وَهُوَ يَقُولُ إِنَّ فِي خلق السماوات والأرض) أَيْ مِنْ آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ) فَإِنَّ فِيهَا لَطَائِفَ عَظِيمَةً لِمَنْ تَأَمَّلَ فِي مَبَانِيهَا (فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ) أَيْ تَنَفَّسَ بِصَوْتٍ حَتَّى يُسْمَعَ مِنْهُ صَوْتُ النَّفْخِ بِالْفَمِ كَمَا يُسْمَعُ مِنَ النَّائِمِ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِبَاقِي الرِّوَايَاتِ فِي تَخْلِيلِ النَّوْمِ بَيْنَ الرَّكَعَاتِ وَفِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ تَخَلُّلَ النَّوْمِ وَذَكَرَ الرَّكَعَاتِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ حُصَيْنٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ مِمَّا اسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مسلم لا ضطرابها وَاخْتِلَافِ الرُّوَاةِ
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ وَخَالَفَ فِيهِ الْجُمْهُورَ
قَالَ الْقَاضِي وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الْخَفِيفَتَيْنِ
وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَطَالَ فِيهِمَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا بَعْدَ الْخَفِيفَتَيْنِ فَتَكُونُ الْخَفِيفَتَانِ ثُمَّ الطَّوِيلَتَانِ ثُمَّ السِّتُّ الْمَذْكُورَاتُ ثُمَّ ثَلَاثٌ بَعْدَهَا كَمَا ذَكَرَ فَصَارَتِ الْجُمْلَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ كَمَا فِي بَاقِي الرِّوَايَاتِ انْتَهَى (فَعَلَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ قَوْلِهِ فَتَسَوَّكَ إِلَى قَوْلِهِ حَتَّى نَفَخَ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ بَدَلٌ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي سِتِّ رَكَعَاتٍ (كُلَّ ذَلِكَ) بِالنَّصْبِ بَيَانٌ لِثَلَاثٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ (يَسْتَاكُ) وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ (وَهُوَ يَقُولُ) الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي(4/161)
خَرَجَ (فِي قَلْبِي نُورًا) قِيلَ هُوَ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الشَّيْءُ وَيَظْهَرُ
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ أَيْ نُورًا عَظِيمًا وَقَدَّمَ الْقَلْبَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَلِكِ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ هَذِهِ الْأَنْوَارُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا فَيَكُونُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ نُورًا يَسْتَضِيءُ بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ هُوَ وَمَنْ يَتْبَعُهُ أَوْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ
قَالَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هِيَ مُسْتَعَارَةٌ لِلْعِلْمِ وَالْهِدَايَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فهو على نور من ربه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
قُلْتُ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ لَا مَنْعَ ثُمَّ قَالَ وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ النُّورَ يُظْهِرُ مَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِهِ فَنُورُ السَّمْعِ مُظْهِرٌ لِلْمَسْمُوعَاتِ وَنُورُ الْبَصَرِ كَاشِفٌ لِلْمُبْصِرَاتِ وَنُورُ الْقَلْبِ كَاشِفٌ عَنِ الْمَعْلُومَاتِ وَنُورُ الْجَوَارِحِ مَا يَبْدُو عَلَيْهَا مِنْ أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ
قَالَ النَّوَوِيُّ سَأَلَ النُّورَ فِي أَعْضَائِهِ وَجِهَاتِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ الْحَقِّ وَضِيَاؤُهُ وَالْهِدَايَةُ إِلَيْهِ فَسَأَلَ النُّورَ فِي جَمِيعِ أَعْضَائِهِ وَجِسْمِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ وَحَالَاتِهِ وَجُمْلَتِهِ فِي جِهَاتِهِ السِّتِّ حَتَّى لَا يَزِيغَ شَيْءٌ مِنْهَا انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ من حديث كريب عن بن عَبَّاسٍ وَسَيَأْتِي
[1354] (قَالَ وَأَعْظِمْ لِي نُورًا) وَالْحَاصِلُ أَنَّ وَهْبَ بْنَ بَقِيَّةَ عَنْ خَالِدٍ الطَّحَّانِ عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ وَأَعْظِمْ لِي نُورًا بِحَذْفِ اللَّهُمَّ وَمَا قَالَ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي نُورًا كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَأَمَّا هُشَيْمٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ كِلَاهُمَا عَنْ حُصَيْنٍ فَبِلَفْظِ أَعْظِمْ لِي نُورًا وَإِثْبَاتِ اللَّهُمَّ
وَأَمَّا أَبُو خَالِدٍ عَنْ حَبِيبٍ وَكَذَا سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِي رِشْدِينَ فَقَالَا كَمَا رَوَاهُ وَهْبٌ أَيْ بِلَفْظِ أَعْظِمْ لِي نُورًا وَبِحَذْفِ اللَّهُمَّ
وَحَدِيثُ أَبِي رِشْدِينَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ(4/162)
[1355] (قَالَ بِتُّ) مَاضٍ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ (وَاسْتَنَّ) أَيِ استاك (إن في خلق السماوات والأرض) أَيْ فِي خَلْقِ الْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَاتِ (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ والنهار) أي طولا وقصرا أو ظلمة ونورا أو حرا وبردا (فأوتر بها) أي بتلك الركعة (بعد ما سَكَتَ) أَيْ فَرَغَ مِنَ الْأَذَانِ (خَفِيَ عَلَيَّ) ولم يظهر لي (من بن بَشَّارٍ) هُوَ مُحَمَّدٌ (بَعْضُهُ) أَيْ بَعْضُ الْحَدِيثِ يُشْتَبَهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَيْ سَمِعْتُ مِنْهُ هَذَا الْقَدْرَ الَّذِي رُوِّينَاهُ لَكِنْ عِنْدَهُ بَعْضُ الزِّيَادَاتِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ لَكِنْ لَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ وَخَفِيَ عَلَيَّ كَذَا فِي الشَّرْحِ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1356] (صَلَّى سَبْعًا أَوْ خمسا) هذا شك من بن عَبَّاسٍ أَوْ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَالْآخَرُ هُوَ الظَّاهِرُ وَفِيهِ الْإِيتَارُ بِسَبْعٍ أَوْ بِخَمْسٍ مُتَّصِلَةٍ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَالتَّسْلِيمُ فِي آخِرِهِنَّ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ(4/163)
(فَصَلَّى أَرْبَعًا) هِيَ رَاتِبَةُ الْعِشَاءِ (ثُمَّ قَامَ يصلي) لم يذكر بن عَبَّاسٍ عَدَدَهَا (فَأَدَارَنِي فَأَقَامَنِي [1357] عَنْ يَمِينِهِ) عَنْ ها هنا بِمَعْنَى الْجَانِبِ أَيْ أَدَارَنِي عَنْ جَانِبِ يَسَارِهِ إِلَى جَانِبِ يَمِينِهِ (فَصَلَّى خَمْسًا) أَوْتَرَ بِهَا (غَطِيطَهُ) فِي النِّهَايَةِ الْغَطِيطُ الصَّوْتُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ نَفَسِ النَّائِمِ وَهُوَ تَرْدِيدُهُ حَيْثُ لَا يَجِدُ مَسَاغًا (أَوْ خَطِيطَهُ) وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْغَطِيطِ وَهُوَ صَوْتُ النَّائِمِ (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) هُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[1358] (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ) قَدْ ذَكَرَ الرَّاوِي فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَدَدَ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّى قَبْلَ الْإِيتَارِ بِخَمْسٍ وَبَعْدَ الْأَرْبَعِ مِنْ رَاتِبَةِ الْعِشَاءِ وَأَبْهَمَ ذِكْرَ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1359] (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ) وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1360] (بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه مسلم(4/164)
[1361] (صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ) وَتَرَكَ الرَّاوِي ذَكَرَ الْوِتْرَ
وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ قالت صلى النبي العشاء ثم صلى ثمان رَكَعَاتٍ وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَائَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ يَدَعْهُمَا أَبَدًا (بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ) أَيِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ (قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ فِي حَدِيثِهِ وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ) وَلَمْ يَقُلْ لَفْظَ جَالِسًا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ وَكَذَا لَمْ يَقُلِ الْبُخَارِيُّ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ جَعْفَرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1362] (بكم كان رسول الله يُوتِرُ) أَيْ بِكَمْ رَكْعَةٍ كَانَ يَجْعَلُ صَلَاتَهُ وِتْرًا أَوْ بِكَمْ كَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ (كَانَ يُوتِرُ بِأَرْبَعٍ) بِتَسْلِيمَةٍ أَوْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ (وَثَلَاثٍ) أَيْ بِتَسْلِيمَةٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَيَكُونُ سَبْعًا (وَسِتٍّ وَثَلَاثٍ) فَيَكُونُ تِسْعًا مَعَ الْوِتْرِ (وَثَمَانٍ وَثَلَاثٍ) فَيَكُونُ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً (وَعَشْرٍ وَثَلَاثٍ) فَيَكُونُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَفِي إِتْيَانِهَا بِثَلَاثٍ فِي كُلِّ عَدَدٍ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ بِأَنَّ الْوِتْرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الثَّلَاثُ وَمَا وَقَعَ قَبْلَهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ الْمُسَمَّاةِ بِصَلَاةِ التَّهَجُّدِ فَإِطْلَاقُ الْوِتْرِ عَلَى الْكُلِّ مَجَازٌ وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (وَلَمْ يَكُنْ يُوتِرُ بِأَنْقَصَ مِنْ سَبْعٍ وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ) أَيْ غَالِبًا وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ مَا كَانَ يَحْصُلُ مِنَ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ أَوْ طُولِ الْقِرَاءَةِ كَمَا جاء في حديث حذيفة وبن مَسْعُودٍ أَوْ مِنْ نَوْمٍ أَوْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ كِبَرِ السِّنِّ
قَالَتْ فَلَمَّا أَسَنَّ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ غَيْرَهَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ(4/165)
6 -[1363] (عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ طَرَفًا مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ كَانَ رسول الله يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى يَكُونَ آخِرَ صَلَاتِهِ الْوِتْرُ
(قَامَ إِلَى شَنٍّ) قَالَ النَّوَوِيُّ الشَّنُّ الْقِرْبَةُ الْخَلَقُ وَجَمْعُهُ شِنَانٌ [1364] (فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَلَى يَمِينِهِ) فِيهِ أَنَّ مَوْقِفَ الْمَأْمُومِ الْوَاحِدِ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَأَنَّهُ إِذَا وَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ يَتَحَوَّلُ إِلَى يَمِينِهِ وَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَحَوَّلْ حَوَّلَهُ الْإِمَامُ وَأَنَّ الْفِعْلَ الْقَلِيلَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَأَنَّ صَلَاةَ الصَّبِيِّ صَحِيحَةٌ وَأَنَّ لَهُ مَوْقِفًا مِنَ الْإِمَامِ كَالْبَالِغِ وَأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي غَيْرِ الْمَكْتُوبَاتِ صَحِيحَةٌ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا(4/166)
[1365] (حَزَرْتُ قِيَامَهُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الزَّاءِ ثُمَّ الرَّاءِ أَيْ قَدَّرْتُ وَفَرَضْتُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1366] (أَنَّهُ قَالَ لَأَرْمُقَنَّ) بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ لأنظرن وأتأملن وأرقبن
قال الطيبي وعدل ها هنا عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ لِتَقَرُّرِهَا فِي ذِهْنِ السَّامِعِ (اللَّيْلَةَ) أَيْ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ حَتَّى أَرَى كَمْ يُصَلِّي وَلَعَلَّهُ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْحُجُرَاتِ (فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ) بِفَتَحَاتٍ أَيْ وَضَعْتُ رَأْسِي عَلَيْهَا وَالْمُرَادُ رَقَدْتُ عِنْدَ بَابِهِ قَالَهُ السِّنْدِيُّ
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْعَتَبَةُ هِيَ إِسْكَفَةُ الْبَابِ (أَوْ فُسْطَاطُهُ) وَهُوَ الْخَيْمَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ تَوَسَّدَ الْفُسْطَاطَ
تَوَسَّدَ عَتَبَتَهُ فَيَكُونُ شَكًّا من الراوي قاله القارىء (فصلى رسول الله رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ) افْتَتَحَ بِهِمَا صَلَاةَ اللَّيْلِ (طَوِيلَتَيْنِ) كَرَّرَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلْمُبَالَغَةِ فِي طُولِهِمَا (ثُمَّ أَوْتَرَ) أَيْ بِوَاحِدَةٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
[1367] (فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ) عَرَضَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ هَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ قَالَ وَرَوَاهُ الدَّاوُدِيُّ بِالضَّمِّ وَهُوَ الْجَانِبُ وَالصَّحِيحُ الْفَتْحُ وَالْمُرَادُ بِالْوِسَادَةِ الْوِسَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي تَكُونُ تَحْتَ الرُّؤُوسِ
وَقَالَ الْبَاجِيُّ وَالْأَصِيلِيُّ وَغَيْرُهُمَا إِنَّ الْوِسَادَةَ هُنَا(4/167)
الْفِرَاشُ لِقَوْلِهِ اضْطَجَعَ فِي طُولِهَا وَهَذَا ضَعِيفٌ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَوْمِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِ مُوَاقَعَةٍ بِحَضْرَةِ بَعْضِ مَحَارِمِهَا وَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ روايات هذا الحديث قال بن عَبَّاسٍ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي فِي لَيْلَةٍ كَانَتْ فِيهَا حَائِضًا وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ طَرِيقًا فَهِيَ حَسَنَةُ الْمَعْنَى جِدًّا إِذَا لَمْ يكن بن عباس يطلب المبيت في ليلة للنبي فِيهَا حَاجَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَلَا يُرْسِلُهُ أَبُوهُ إِلَّا إِذَا عَلِمَ عَدَمَ حَاجَتِهِ إِلَى أَهْلِهِ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ حَاجَتَهُ مَعَ حضرة بن عَبَّاسٍ مَعَهُمَا فِي الْوِسَادَةِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مراقبا لأفعال النبي مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنَمْ أَوْ نَامَ قَلِيلًا جِدًّا
قَالَهُ النَّوَوِيُّ (فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ) مَعْنَاهُ أَثَرَ النَّوْمَ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ هَذَا وَاسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ (ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) فِيهِ جَوَازُ الْقِرَاءَةِ لِلْمُحَدِثِ وَهَذَا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا تَحْرُمُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ قِرَاءَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ وَفِيهِ جَوَازُ قَوْلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ النِّسَاءِ وَنَحْوِهَا وَكَرِهَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ (إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ) إِنَّمَا أَنَّثَهَا عَلَى إِرَادَةِ الْقِرْبَةِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ عَلَى إِرَادَةِ السِّقَاءِ وَالْوِعَاءِ (فَأَخَذَ بِأُذُنِي يَفْتِلُهَا إِنَّمَا فَتَلَهَا تَنْبِيهًا مِنَ النُّعَاسِ لِقَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ لِمُسْلِمٍ فَجَعَلْتُ إِذَا أَغْفَيْتُ يَأْخُذُ بِشَحْمَةِ أُذُنِي (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ إِلَخْ) فِيهِ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي الْوِتْرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَأَنَّ الْوِتْرَ يَكُونُ آخِرُهُ رَكْعَةً مَفْصُولَةً وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَكْعَةٌ مَوْصُولَةٌ بِرَكْعَتَيْنِ كَالْمَغْرِبِ وَفِيهِ جَوَازُ إِتْيَانِ الْمُؤَذِّنِ إِلَى الْإِمَامِ لِيَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَتَخْفِيفُ سُنَّةِ الصُّبْحِ وَأَنَّ الإيثار بِثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً أَكْمَلُ وَفِيهِ خِلَافٌ لِلشَّافِعِيَّةِ
قَالَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرُ الْوِتْرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ أَكْثَرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ وتأولوا حديث بن عباس أنه صلى منها ركعتي(4/168)
سُنَّةَ الْعِشَاءِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ مُبَاعِدٌ لِلْحَدِيثِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
2 - (بَابُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الْقَصْدِ فِي الصَّلَاةِ)
[1368] أَصْلُ الْقَصْدِ الِاسْتِعَانَةُ فِي الطَّرِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّوَسُّطِ فِي الْأُمُورِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ
(قَالَ اكْلَفُوا) بِفَتْحِ اللَّامِ مِنْ بَابِ سَمِعَ أَيْ تَحَمَّلُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَهُ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ لَا يَقْطَعُ الْإِقْبَالَ عَلَيْكُمْ بِالْإِحْسَانِ (حَتَّى تَمَلُّوا) فِي عِبَادَتِهِ
وَالْإِمْلَالُ هُوَ اسْتِثْقَالُ النَّفْسِ مِنَ الشَّيْءِ وَنُفُورُهَا عَنْهُ بَعْدَ مَحَبَّتِهِ
وَإِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ اعْمَلُوا حَسَبَ وُسْعِكُمْ وَطَاقَتِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعْرِضُ عَنْكُمْ إِعْرَاضَ الْمَلُولِ وَلَا يَنْقُصُ ثَوَابَ أَعْمَالِكُمْ مَا بَقِيَ لَكُمْ نَشَاطٌ فَإِذَا فَتَرْتُمْ فَاقْعُدُوا فَإِنَّكُمْ إِذَا مَلِلْتُمْ مِنَ الْعِبَادَةِ وَآتَيْتُمْ بِهَا عَلَى كَلَالٍ وَفُتُورٍ كَانَتْ مُعَامَلَةُ اللَّهِ مَعَكُمْ حِينَئِذٍ مُعَامَلَةَ الْمَلُولِ
وَقَالَ التُّورْبَشْتِيُّ إِسْنَادُ الْمَلَالِ إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِازْدِوَاجِ وَالْمُشَاكَلَةِ وَالْعَرَبُ تَذْكُرُ إِحْدَى اللَّفْظَتَيْنِ مُوَافَقَةً لِلْأُخْرَى وَإِنْ خَالَفَتْهَا مَعْنًى
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وجزاء سيئة سيئة مثلها وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ أَبَدًا وَإِنْ مَلِلْتُمْ
وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ مَا لَمْ تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ
وَمَعْنَى تَمَلُّ تَتْرُكُ لِأَنَّ مَنْ مَلَّ شَيْئًا تَرَكَهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ انْتَهَى (وَكَانَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَثْبَتَهُ) أَيْ دَاوَمَ عَلَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه(4/169)
[1369] (أَرَغِبْتَ) أَيْ أَعْرَضْتَ (فَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ أَنَّهُ إِذَا أَذَابَ نَفْسَهُ وجهدها ضعفت قوته فلم يستطع لقضاء أَهْلِهِ (وَإِنَّ لِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَطَوِّعَ بِالصَّوْمِ إِذَا أَضَافَهُ ضَيْفٌ كَانَ الْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَأْكُلَ مَعَهُ لِيَنْبَسِطَ بِذَلِكَ مِنْهُ وَيَزِيدَ فِي مَحَبَّتِهِ لِمُوَاكَلَتِهِ إِيَّاهُ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ إِكْرَامِهِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ انْتَهَى (وَصَلِّ وَنَمْ) أَيْ صَلِّ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي وَنَمْ فِي بَعْضِهَا وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1370] (مِنَ الْأَيَّامِ) أَيْ لِعَمَلٍ فِيهِ (كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً) هُوَ بِكَسْرِ الدَّالِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ أَيْ يَدُومُ عَلَيْهِ وَلَا يَقْطَعُهُ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الدِّيمَةُ الْمَطَرُ الدَّائِمُ فِي سُكُونٍ شَبَّهَتْ عَمَلَهُ فِي دَوَامِهِ مَعَ الِاقْتِصَارِ بِدِيمَةِ الْمَطَرِ وَأَصْلُهُ الْوَاوُ فَانْقَلَبَتْ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه ومسلم والترمذي
3(4/170)
(بَابٌ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ)
[1371] (قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ) أَيْ فَمَعْمَرٌ وَمَالِكٌ كِلَاهُمَا يَرْوِيَانِ عَنِ الزُّهْرِيِّ (مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِعَزِيمَةٍ) مَعْنَاهُ لَا يَأْمُرُهُمْ أَمْرَ إِيجَابٍ وَتَحْتِيمٍ بَلْ أَمْرَ نَدْبٍ وَتَرْغِيبٍ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ (ثُمَّ يَقُولُ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ) وَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَقْتَضِي التَّرْغِيبَ وَالنَّدْبَ دُونَ الْإِيجَابِ وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ (إِيمَانًا) أَيْ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَمُصَدِّقًا بِأَنَّهُ تَقَرُّبٌ إِلَيْهِ (وَاحْتِسَابًا) أَيْ مُحْتَسِبًا بِمَا فَعَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ أَجْرًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ غَيْرَهُ يُقَالُ احْتُسِبَ بِالشَّيْءِ أَيِ اعْتُدَّ بِهِ فَنَصْبُهُمَا عَلَى الْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ تَصْدِيقًا بِاللَّهِ وَإِخْلَاصًا وَطَلَبًا لِلثَّوَابِ (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) زَادَ أَحْمَدُ وَمَا تَأَخَّرَ أَيْ مِنَ الصَّغَائِرِ وَيُرْجَى غُفْرَانُ الْكَبَائِرِ (فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ) مَعْنَاهُ اسْتَمَرَّ الْأَمْرُ هَذِهِ الْمُدَّةَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَقُومُ رَمَضَانَ فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا حَتَّى انْقَضَى صَدْرٌ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ثُمَّ جَمَعَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ عَلَى فِعْلِهَا جَمَاعَةً وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي(4/171)
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ (وَكَذَا رَوَاهُ عُقَيْلٌ وَيُونُسُ وَأَبُو أُوَيْسٍ) أَيْ كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ مَنْ قَامَ بِالْقَافِ وَرَوَى سُفْيَانُ بِالصَّادِ أَيْ مَنْ صَامَ وَتَجِيءُ رِوَايَتُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَكَذَا رَوَاهُ عُقَيْلٌ وَيُونُسُ وَأَبُو أُوَيْسٍ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ وَرَوَى عُقَيْلٌ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ الْقِيَامِ
[1372] (مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ) هَذَا مَعَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ قَدْ يُقَالُ إِنَّ أَحَدَهُمَا يُغْنِي عَنِ الْآخَرَ وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ قِيَامُ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَعْرِفَتِهَا سَبَبٌ لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَقِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِمَنْ وَافَقَهَا وَعَرَفَهَا سَبَبٌ لِلْغُفْرَانِ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ غَيْرَهَا
قَالَهُ النَّوَوِيُّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ والنسائي وأخرجه بن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا فِي ذِكْرِ الصَّوْمِ انْتَهَى
[1373] (صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ خَرَجَ لَيْلَةً مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ (بِصَلَاتِهِ نَاسٌ) مُقْتَدِينَ بِهِ
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا (ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ) أَيِ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ (ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ) وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عجز(4/172)
الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ (أَنْ تُفْرَضَ) صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ (عَلَيْكُمْ) وَظَاهِرُ قَوْلِهِ خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَقَّعَ تَرَتُّبَ افْتِرَاضِ قِيَامِ رَمَضَانَ فِي جَمَاعَةٍ عَلَى مُوَاظَبَتِهِمْ عَلَيْهِ
فَقِيلَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حُكْمُهُ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْقُرَبِ وَاقْتَدَى النَّاسُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلُ فُرِضَ عَلَيْهِمْ وَلِذَا قَالَ خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ
وَقَالَ فِي الْفَتْحِ إِنَّ الْمَخُوفَ افْتِرَاضُ قِيَامِ اللَّيْلِ بِمَعْنَى جَعْلِ التَّهَجُّدِ فِي الْمَسْجِدِ جماعة شرطا في صحة التنفل بالليل ويومىء إِلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ فَصَلُّوا أَيّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّجْمِيعِ فِي الْمَسْجِدِ إِشْفَاقًا عَلَيْهِمْ مِنَ اشْتِرَاطِهِ وَأَمِنَ مَعَ إِذْنِهِ فِي الْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ مِنَ افْتِرَاضِهِ عَلَيْهِمُ انْتَهَى
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي جَمْعِهِ النَّاسَ عَلَى جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هِيَ وَإِنَّمَا سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا فَإِنَّ هَذَا الِاجْتِمَاعَ مُحْدَثٌ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِصَلَاتِهَا فِي بُيُوتِهِمْ لِعِلَّةٍ هِيَ خَشْيَةُ الِافْتِرَاضِ وَقَدْ زَالَتْ بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
[1374] (يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ أَوْزَاعًا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ تريد مُتَفَرِّقِينَ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ وَزَّعْتُ الشَّيْءَ إِذَا فَرَّقْتُهُ فَفِي هَذَا إِثْبَاتُ الْجَمَاعَةِ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِيهِ إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ (فَضُرِبَتْ) أَيْ بُسِطَتْ (بِحَمْدِ اللَّهِ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ (غَافِلًا) حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ مَا بِتُّ (وَلَا خَفِيَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ) وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ أَخْرُجْ إِلَيْكُمْ خَشْيَةَ الِافْتِرَاضِ عَلَيْكُمْ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ(4/173)
[1375] (فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ) أَيْ لَمْ يُصَلِّ بِنَا غَيْرَ الْفَرِيضَةِ مِنْ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْفَرْضَ دَخَلَ حُجْرَتَهُ (حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ) أَيْ مِنَ الشَّهْرِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ وَمَضَى اثْنَانِ وَعِشْرُونَ
قَالَ الطيبي أي سبع ليال نظر إِلَى الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ أَنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَيَكُونُ الْقِيَامُ فِي قَوْلِهِ (فَقَامَ بِنَا) لَيْلَةَ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ (حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ) فَصَلَّى وَذَكَرَ اللَّهَ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ (فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ) أَيْ مِمَّا بَقِيَ وَهِيَ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ (فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ) وَهِيَ اللَّيْلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ
قَالَ صَاحِبُ الْمَفَاتِيحِ فَحَسَبَ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ وَهُوَ لَيْلَةُ الثَّلَاثِينَ إِلَى آخِرِ سَبْعِ لَيَالٍ وَهُوَ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ (حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ) أَيْ نِصْفُهُ (لَوْ نَفَّلْتَنَا) بِالتَّشْدِيدِ (قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا أَيْ لَوْ جَعَلْتَ بَقِيَّةَ اللَّيْلِ زِيَادَةً لَنَا عَلَى قِيَامِ الشَّطْرِ
وَفِي النِّهَايَةِ لَوْ زِدْتَنَا مِنَ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ سُمِّيَتْ بِهَا النَّوَافِلُ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ
وَقَالَ الْمُظْهِرُ تَقْدِيرُهُ لَوْ زِدْتَ قِيَامَ اللَّيْلِ عَلَى نِصْفِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَنَا وَلَوْ لِلتَّمَنِّي (حَتَّى يَنْصَرِفَ) أَيِ الْإِمَامُ (حُسِبَ لَهُ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيِ اعْتُبِرَ وَعُدَّ (قِيَامُ اللَّيْلَةِ) أَيْ حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ قِيَامِ لَيْلَةٍ تَامَّةٍ يَعْنِي الْأَجْرَ حَاصِلٌ بِالْفَرْضِ وَزِيَادَةُ النَّوَافِلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَدْرِ النَّشَاطِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا
قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرْضِ الْعِشَاءُ وَالصُّبْحُ (فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ) أَيْ مِنَ الْبَاقِيَةِ وَهِيَ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ (فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ) أَيْ مِنَ الْبَاقِيَةِ وَهِيَ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ (جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ) أَيِ الْخَوَاصَّ مِنْهُمْ (حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَصْلُ الْفَلَاحِ الْبَقَاءُ وَسُمِّيَ السُّحُورُ فَلَاحًا إِذْ كَانَ سَبَبًا لِبَقَاءِ الصَّوْمِ وَمُعِينًا عَلَيْهِ وَمِنْ ذَلِكَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ أَيِ الْعَمَلِ الَّذِي يُخَلِّدُكُمْ فِي الْجَنَّةِ
وَقِيلَ لِأَنَّهُ مُعِينٌ عَلَى إِتْمَامِ الصَّوْمِ الْمُفْضِي إِلَى الْفَلَاحِ وَهُوَ الْفَوْزُ بِالزُّلْفَى وَالْبَقَاءِ فِي الْعُقْبَى (قُلْتُ) قَالَهُ الرَّاوِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ (قَالَ) أَبُو ذَرٍّ (السُّحُورُ) بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ
قَالَ بن الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ هُوَ بِالْفَتْحِ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ وَالْفِعْلُ نَفْسُهُ وَأَكْثَرُ مَا يُرْوَى بِالْفَتْحِ
وَقِيلَ الصَّوَابُ بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ بِالْفَتْحِ الطَّعَامُ وَالْبَرَكَةُ وَالْأَجْرُ وَالصَّوَابُ فِي الْفِعْلِ لَا فِي الطَّعَامِ انْتَهَى(4/174)
قال علي القارىء وَبِهِ يَظْهَرُ خَشْيَتُهُمْ مِنْ فَوْتِهِ (بَقِيَّةَ الشَّهْرِ) أَيِ الثَّامِنَةَ وَالْعِشْرِينَ وَالتَّاسِعَةَ وَالْعِشْرِينَ
وَأَمَّا عَدَدُ الرَّكَعَاتِ الَّتِي صَلَّى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي فَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ جَارِيَةَ عَنْ جَابِرٍ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في شهر رمضان ثمان رَكَعَاتٍ وَأَوْتَرَ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الْقَابِلَةُ اجْتَمَعْنَا فِي الْمَسْجِدِ وَرَجَوْنَا أَنْ يَخْرُجَ فَيُصَلِّيَ بِنَا فأقمنا فيه حتى أصبحنا فقلنا يارسول اللَّهِ رَجَوْنَا أَنْ تَخْرُجَ فَتُصَلِّي بِنَا فَقَالَ إِنِّي كَرِهْتُ أَوْ خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الْوِتْرُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ جَارِيَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ لَيْلَةً ثمان رَكَعَاتٍ وَالْوِتْرَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ فَرَكَعَ فَقَالَ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رِبِّيَّ الْعَظِيمِ مِثْلَ مَا كَانَ قَائِمًا ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ فِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رِبِّيَّ الْأَعْلَى مِثْلَ مَا كَانَ قَائِمًا ثُمَّ جَلَسَ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِي مِثْلَ مَا كَانَ قَائِمًا ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ سُبْحَانَ رِبِّيَّ الْأَعْلَى مِثْلَ مَا كَانَ قَائِمًا فَمَا صَلَّى إِلَّا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ حَتَّى جَاءَ بِلَالٌ إِلَى الْغَدَاةِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ جَارِيَةَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ جَاءَ أبي بن كعب في رمضان فقال يارسول اللَّهِ كَانَ مِنِّي اللَّيْلَةَ شَيْءٌ
قَالَ وَمَا ذاك ياأبي قَالَ نِسْوَةُ دَارِي قُلْنَ إِنَّا لَا نَقْرَأُ القرآن فنصلي خلفك بصلاتك فصليت بهن ثمان رَكَعَاتٍ وَالْوِتْرَ فَسَكَتَ عَنْهُ وَكَانَ شِبْهَ الرِّضَا وَأَخْرَجَ مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً وَقَالَ الْإِمَامُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ كُنَّا نَقُومُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةٍ وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ جَدِّهِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي فِي زَمَنِ عُمَرَ فِي رَمَضَانَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَمَّا مَا قَالَ بَعْضُ مَنِ اشْتُهِرَ فِي رِسَالَتِهِ تُحْفَةِ الْأَخْيَارِ بِإِحْيَاءِ سُنَّةِ سَيِّدِ الْأَبْرَارِ إِنَّ التَّرَاوِيحَ عِشْرُونَ رَكْعَةً سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَاظَبَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فَغَلَطٌ بَيِّنٌ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ قَطُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ صَلَّيَا عِشْرِينَ رَكْعَةً مَرَّةً وَاحِدَةً أَيْضًا فَضْلًا عَنِ الْمُوَاظَبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
كَذَا في غلبة الْمَقْصُودِ مُلَخَّصًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ(4/175)
[1376] (وَقَالَ دَاوُدُ) بْنُ أُمَيَّةَ فِي حَدِيثِهِ (عَنِ بن عُبَيْدِ بْنِ نَسْطَاسٍ) وَقَالَ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي يَعْفُورَ وَكِلَاهُمَا وَاحِدٌ لِأَنَّ أَبَا يعفور هو بن عُبَيْدٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ أَبُو دَاوُدَ (إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ) أَيِ الْأُخَرُ فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ التَّصْرِيحُ بِالْأَخِيرِ (أَحْيَا اللَّيْلَ) أَيْ غَالِبَهُ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ
قَالَ النَّوَوِيُّ أَيِ اسْتَغْرَقَ بِالسَّهَرِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا
قَالَ فِي الشَّرْحِ وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ شُيُوخِنَا الْمُحَقِّقِينَ بِكَرَاهَةِ قِيَامِ كُلِّ اللَّيْلِ فَمَعْنَاهُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْهَبْ بِكَرَاهَةِ لَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ عَشْرٍ انْتَهَى (وَشَدَّ الْمِئْزَرَ) بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ إِزَارَهُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى فِعْلٍ شَاقٍّ مُهِمٍّ كَتَشْمِيرِ الثَّوْبِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ شَدُّ الْمِئْزَرِ يُتَأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا هِجْرَانُ النِّسَاءِ وَتَرْكُ غَشَيَانِهِنَّ وَقِيلَ الْجِدُّ وَالتَّشْمِيرُ فِي الْعَمَلِ (وَأَيْقَظَ أهله) أي أمر بإيقاظهم للعبادة وطلب لَيْلَةِ الْقَدْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وبن مَاجَهْ
[1377] (لَيْسَ مَعَهُمْ قُرْآنٌ) أَيْ لَا يَحْفَظُونَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ (مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ ضَعِيفٌ) فَقِيهٌ صَدُوقٌ كَثِيرُ الْأَوْهَامِ
كَذَا فِي التَّقْرِيبِ
وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ وَالتَّهْذِيبِ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الْمَكِّيُّ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْمَعْرُوفُ بِالزِّنْجِيِّ رَوَى عنه الشافعي وبن وهب والحميدي وطائفة
قال بن معين ثقة وضعفه أبو داود وقال بن عَدِيٍّ حَسَنُ الْحَدِيثِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ إِمَامٌ فِي الْفِقْهِ تَعْرِفُ وَتُنْكِرُ لَيْسَ بِذَاكَ الْقَوِيِّ يَكْتُبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ
وَقَالَ النَّسَائِيُّ ليس بالقوي(4/176)
2 - (بَاب فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)
[1378] (عَنْ زِرٍّ) بِكَسْرِ الزاي وتشديد الراء بن حبيش مصغرا (ياأبا الْمُنْذِرِ) هَذَا كُنْيَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (فَإِنَّ صَاحِبَنَا) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ (فَقَالَ) أي بن مَسْعُودٍ (مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ) أَيْ تَمَامَ الْحَوْلِ لِأَنَّهَا تَدُورُ فِي تَمَامِ السَّنَةِ (أَبَا عَبْدِ الرحمن) هذا كنية بن مَسْعُودٍ (أَوْ أَحَبَّ) شَكٌّ مَنِ الرَّاوِي (ثُمَّ اتَّفَقَا) أَيْ سُلَيْمَانُ وَمُسَدَّدٌ (لَا يَسْتَثْنِي) حَالٌ أَيْ حَلَفَ حَلِفًا جَازِمًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ عُقَيْبَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ لَأَفْعَلَنَّ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ وَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ جَزْمُ الْحَالِفِ (مَا الْآيَةُ) أَيِ الْعَلَامَةُ وَالْأَمَارَةُ (مِثْلُ الطَّسْتِ) مَعْنَاهُ بِالْفَارِسِيَّةِ تشت وَأَصْلُهُ طَسٌّ أَبْدَلَ إِحْدَى السِّينَيْنِ تَاءً لِلِاسْتِثْقَالِ فَإِذَا جَمَعْتَ أَوْ صَغَّرْتَ رَدَدْتَ السِّينَ لِأَنَّكَ فَصَلْتَ بَيْنَهُمَا بِوَاوٍ أَوْ أَلْفٍ أَوْ يَاءٍ فَقُلْتَ طُسُوسٌ وَطِسَاسٌ وَطُسَيْسٌ وَحُكِيَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ لَفْظَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ (لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ حَتَّى تَرْتَفِعَ) قَالَ الطِّيبِيُّ وَالشُّعَاعُ هُوَ مَا يُرَى مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ عِنْدَ حُدُورِهَا مثل الحبال والقضبان مقبلة إليك كما نَظَرْتَ إِلَيْهَا انْتَهَى
قِيلَ وَفَائِدَةُ كَوْنِ هَذَا عَلَامَةً مَعَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ اللَّيْلَةِ لِأَنَّهُ يُسَنُّ إِحْيَاءُ يَوْمِهَا كَمَا يُسَنُّ إحياء ليلها
انتهى
قال القارىء وَفِي قَوْلِهِ يُسَنُّ إِحْيَاءُ يَوْمِهَا نَظَرٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَثَرٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فَائِدَةَ الْعَلَامَةِ أَنْ يَشْكُرَ عَلَى حُصُولِ تِلْكَ النِّعْمَةِ إِنْ قَامَ بِخِدْمَةِ اللَّيْلَةِ وَإِلَّا فَيَتَأَسَّفُ عَلَى مَا فَاتَهُ من الكرامة(4/177)
وَيَتَدَارَكُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ عَلَامَةً فِي أَوَّلِ لَيْلِهَا إِبْقَاءً لَهَا عَلَى إِبْهَامِهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[1379] (عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ) إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّهُ يُقَدِّرُ فِيهَا الْأَرْزَاقَ وَيَقْضِي وَيَكْتُبُ الْآجَالَ وَالْأَحْكَامَ الَّتِي تَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فيها يفرق كل أمر حكيم وَقَوْلُهُ تَعَالَى تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ ربهم من كل أمر وَالْقَدْرُ بِهَذَا الْمَعْنَى يَجُوزُ فِيهِ تَسْكِينُ اللَّامِ وَالْمَشْهُورُ التَّحْرِيكُ
وَقِيلَ سُمِّيَ بِهَا لِعِظَمِ قَدْرِهَا وَشَرَفِهَا وَالْإِضَافَةُ عَلَى هَذَا مِنْ قَبِيلِ حَاتِمِ الْجُودِ
كَذَا فِي اللُّمَعَاتِ وَالْمِرْقَاةِ (وَذَلِكَ) أَيِ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَعَزْمُهُمْ عَلَى سُؤَالِ هَذَا الْأَمْرَ (صَبِيحَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ) أَيْ بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ اللَّيْلَةِ (فَوَافَيْتُ) أَيْ لَقِيتُ مَعَهُ
وَاجْتَمَعْتُ بِهِ وَقْتَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ (فَأُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِعَشَائِهِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ طَعَامِ اللَّيْلِ (أَكُفُّ عَنْهُ) أَيْ عَنِ الطَّعَامِ يَدَيَّ (مِنْ قِلَّتِهِ) أَيِ الطَّعَامِ وَمَا آكُلُ إِلَّا الْقَلِيلَ (رَهْطٌ) أَيْ جَمَاعَةٌ (مِنْ بَنِي سَلِمَةَ) بِكَسْرِ اللَّامِ (فَقَالَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَمِ اللَّيْلَةُ) الَّتِي أَنْتَ فِيهَا مَوْجُودَةٌ تَسْأَلُنِي عَنْهَا (فَقُلْتُ) هَذِهِ اللَّيْلَةُ الْحَاضِرَةُ (اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ) وَقَدْ مَضَتْ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ (قَالَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هِيَ اللَّيْلَةُ) أَيْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ الْحَاضِرَةُ وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّهَا لَيْلَةُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ (أَوِ الْقَابِلَةُ) أَيِ الْآتِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَعَنْهُ لَمْ يَرْوِ الزُّهْرِيُّ عَنْ ضَمْرَةَ غَيْرَ هذا الحديث(4/178)
[1380] (إِنَّ لِي بَادِيَةً أَكُونُ) أَيْ سَاكِنًا (فِيهَا) الْمُرَادُ بِالْبَادِيَةِ دَارُ إِقَامَةٍ بِهَا
فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي بَادِيَةً أَيْ إِنَّ لِي دَارًا بِبَادِيَةٍ أَوْ بَيْتًا أَوْ خَيْمَةً هُنَاكَ وَاسْمُ تِلْكَ البادية الوطاءة قاله القارىء (وَأَنَا أُصَلِّي فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ) وَلَكِنْ أُرِيدُ أَنْ أَعْتَكِفَ وَأُرِيدُ إِدْرَاكَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ (فَمُرْنِي) أَمْرٌ مِنْ أَمَرَ مُخَفَّفًا (بِلَيْلَةٍ) زَادَ فِي الْمَصَابِيحِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ (أَنْزِلُهَا) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ وَقِيلَ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ أَنْزِلُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ النُّزُولِ بِمَعْنَى الْحُلُولِ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ أَنْزِلُ فِيهَا قَاصِدًا أَوْ مُنْتَهِيًا (إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ) إِشَارَةٌ إِلَى الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَقَصَدَ حِيَازَةَ فَضِيلَتَيِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ (فَقَالَ انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ) فَتُدْرِكَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ (فَقُلْتُ) هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّاوِي عَنْ ضَمْرَةَ (لِابْنِهِ) أَيْ لِابْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ ضَمْرَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ (فَكَيْفَ كَانَ أَبُوكَ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ (يَصْنَعُ) أَيْ فِي قَوْلِهِ (إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ) أَيْ يَوْمَ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ (فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِحَاجَةٍ) أَيْ مِنَ الْحَاجَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ اغْتِنَامًا لِلْخَيْرَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ أَوْ لِحَاجَةٍ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ (حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ) يُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَانِي صَبِيحَتَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ قَالَ فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ الْحَدِيثَ انْتَهَى
[1381] (فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَتَبْقَى صِفَةٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْعَدَدِ أَيْ يُرْجَى بَقَاؤُهَا (وَفِي سَابِعَةٍ تَبْقَى وَفِي خَامِسَةٍ تَبْقَى) الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّاسِعَةَ وَالْعِشْرِينَ وَالسَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ وَالْخَامِسَةَ وَالْعِشْرِينَ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ تَاسِعَةٌ مِنَ الْأَعْدَادِ الْبَاقِيَةِ وَالرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ سَابِعَةٌ مِنْهَا وَالسَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ خامسة منها(4/179)
وقال الزركشي تبقى الأولى هي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَالثَّانِيَةُ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَالثَّالِثَةُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ هَكَذَا قَالَهُ مَالِكٌ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا يَصِحُّ مَعْنَاهُ وَيُوَافِقُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وِتْرًا مِنَ اللَّيَالِي إِذَا كَانَ الشَّهْرُ نَاقِصًا فَإِنْ كَانَ كَامِلًا فَلَا يَكُونُ إِلَّا فِي شَفْعٍ فَتَكُونُ التَّاسِعَةُ الْبَاقِيَةُ لَيْلَةَ اثْنَتَيْ وَعِشْرِينَ وَالْخَامِسَةُ الْبَاقِيَةُ لَيْلَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَالسَّابِعَةُ الْبَاقِيَةُ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ البخاري بعد عن بن عَبَّاسٍ وَلَا يُصَادِفُ وَاحِدٌ مِنْهُنَّ وِتْرًا وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي التَّارِيخِ إِذَا جَاوَزُوا نِصْفَ الشَّهْرِ فَإِنَّمَا يُؤَرِّخُونَ بِالْبَاقِي مِنْهُ لَا بِالْمَاضِي كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وذكر متابعته عن عكرمة عن بن عَبَّاسٍ الْتَمِسُوهَا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ انْتَهَى
قَالَ النَّوَوِيُّ اخْتَلَفُوا فِي مَحِلِّهَا فَقَالَ جَمَاعَةٌ هِيَ مُتَنَقِّلَةٌ تَكُونُ فِي سَنَةٍ فِي لَيْلَةٍ وَفِي سَنَةٍ أُخْرَى فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى وَهَكَذَا وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَيُقَالُ كُلُّ حَدِيثٍ جَاءَ بِأَحَدِ أَوْقَاتِهَا وَلَا تَعَارُضَ فِيهَا
قَالَ وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا وَإِنَّمَا تَنْتَقِلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَقِيلَ بَلْ فِي كُلِّهِ وَقِيلَ إِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ فَلَا تَنْتَقِلُ أَبَدًا بَلْ هِيَ لَيْلَةٌ مُعَيَّنَةٌ فِي جَمِيعِ السِّنِينَ لَا تُفَارِقُهَا وَعَلَى هَذَا قِيلَ هِيَ فِي السَّنَةِ كلها وهو قول بن مَسْعُودٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَقِيلَ بَلْ فِي شهر رمضان كله وهو قول بن عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقِيلَ بَلْ فِي الْعَشْرِ الْوَسَطِ وَالْأَوَاخِرِ وَقِيلَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَقِيلَ تَخْتَصُّ بِأَوْتَارِ الْعَشْرِ وَقِيلَ بِأَشْفَاعِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَقِيلَ بَلْ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ قَوْلُ بن عَبَّاسٍ وَقِيلَ تُطْلَبُ فِي لَيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَحُكِيَ عن علي وبن مَسْعُودٍ وَقِيلَ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقِيلَ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وعشرين وهو محكي عن بلال وبن عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَقِيلَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَقِيلَ لَيْلَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرقم وبن مَسْعُودٍ أَيْضًا وَقِيلَ لَيْلَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَحُكِيَ عن بن مَسْعُودٍ أَيْضًا وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا وَقِيلَ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ
انْتَهَى مُخْتَصَرًا وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِيهِ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ
(بَاب فِيمَنْ قَالَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ)
[1382] (مِنْ رَمَضَانَ) فِيهِ مُدَاوَمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ سُنَّةٌ لمواظبته صلى الله عليه وسلم
قاله(4/180)
بن عَبْدِ الْبَرِّ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ رَمَضَانَ لَا يُقَيِّدُ وَسَطَهُ إِذْ هُوَ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ (فَاعْتَكَفَ عَامًا) أَيِ اعْتَكَفَ فِي رَمَضَانَ فِي عَامٍ (يَخْرُجُ فِيهَا) وَلَفْظُ الْمُوَطَّأِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ فِيهَا مِنْ صُبْحِهَا مِنِ اعْتِكَافِهِ (مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي) الْعَشْرَ الْوَسَطَ (فَلْيَعْتَكِفِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ فَخَطَبَنَا صَبِيحَةَ عِشْرِينَ وَفِي أُخْرَى لَهُمَا فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذَا الْعَشْرَ ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُجَاوِرَ هَذَا الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَثْبُتْ فِي مُعْتَكَفِهِ
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ فَأَخَذَهُ فَنَحَّاهُ فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ثُمَّ كَلَّمَ النَّاسَ فَقَالَ إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ ثُمَّ أُوتِيتُ فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ فَقَالَ لَهُ إِنِ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ أَيْ قُدَّامَكَ (وَقَدْ رَأَيْتُ) وَفِي رِوَايَةٍ أُرِيتُ بِهَمْزَةٍ أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ أَيْ أُعْلِمْتُ (هَذِهِ الليلة نصب مفعول به لا طرف أَيْ أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ
وَجَوَّزَ الْبَاجِيُّ أَنَّ الرُّؤْيَةَ بِمَعْنَى الْبَصَرِ أَيْ رَأَى عَلَامَتَهَا الَّتِي أُعْلِمَتْ لَهُ بِهَا وَهِيَ السُّجُودُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ (ثُمَّ أُنْسِيتُهَا) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ
قَالَ الْقَفَّالُ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْوَارَ عِيَانًا ثم نسي في أول لَيْلَةٍ رَأَى ذَلِكَ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا قَلَّ أَنْ يُنْسَى وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ كَذَا وَكَذَا فَنَسِيَ كَيْفَ قِيلَ لَهُ (وَقَدْ رَأَيْتُنِي) بِضَمِّ التَّاءِ وَفِيهِ عَمِلَ الْفِعْلُ فِي ضَمِيرَيِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَيْ رَأَيْتُ نَفْسِي (أَسْجُدُ مِنْ صَبِيحَتِهَا) بِمَعْنَى فِي كقوله تعالى من يوم الجمعة أَوْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ الزَّمَانِيَّةِ (فِي مَاءٍ وَطِينٍ) عَلَامَةٌ جُعِلَتْ لَهُ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا ثُمَّ الْمُرَادُ أَنَّهُ نَسِيَ عِلْمَ تَعْيِينِهَا تِلْكَ السَّنَةَ لَا رَفْعَ وُجُودِهَا لِأَمْرِهِ بِطَلَبِهَا بِقَوْلِهِ (فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ) مِنْ رَمَضَانَ (وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ) مِنْهُ أَيْ أَوْتَارِ لَيَالِيهِ وَأَوَّلُهَا لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ إِلَى آخِرِ لَيْلَةِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ وَهَذَا لَا يُقَالُ قَوْلُهُ الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَدِّثْ بِمَا هُنَا جَازِمًا بِهِ(4/181)
قَالَ الْبَاجِيُّ يُحْتَمَلُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الْأَغْلَبُ فِي كُلِّ عَامٍ
قَالَهُ الزُّرْقَانِيُّ
(قال أبو سعيد فمطرت) بفتحتين (السَّمَاءُ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ) أَيِ الَّتِي أُرِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ (وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ) أَيْ عَلَى مِثْلِ الْعَرِيشِ وَإِلَّا فَالْعَرِيشُ هُوَ السَّقْفُ أَيْ أَنَّهُ كَانَ مُظَلَّلًا بِالْخُوصِ وَالْجَرِيدِ وَلَمْ يَكُنْ مُحْكَمَ الْبِنَاءِ بِحَيْثُ يُكَنُّ مِنَ الْمَطَرِ
وَفِي رِوَايَةٍ وَكَانَ السَّقْفُ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ (فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ) أَيْ سَالَ مَاءُ الْمَطَرِ مِنْ سَقْفِهِ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ (فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ) تَوْكِيدٌ (مِنْ صَبِيحَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ)
قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ يَعْنِي اللَّيْلَةَ الَّتِي رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ هِيَ لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ
كَذَا قِيلَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مِنْ بِمَعْنَى فِي وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ فَأَبْصَرَتِ انْتَهَى
وَلَفْظُ الْمُوَطَّأِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ وَعَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ قَالَ الزَّرْقَانِيُّ قَوْلُهُ مِنْ صُبْحِ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ انْصَرَفَ وَفِي رِوَايَةٍ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَقَدِ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ وَأَنْفُهُ فِيهِمَا الْمَاءُ وَالطِّينُ تَصْدِيقُ رُؤْيَاهُ وَفِيهِ السُّجُودُ عَلَى الطِّينِ وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْخَفِيفِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[1383] (فَالَّتِي تَلِيهَا التَّاسِعَةُ) وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ الْتَمِسُوهَا فِي التاسعة والسابعة والخامسة
قال قلت ياأبا سَعِيدٍ إِنَّكُمْ أَعْلَمُ بِالْعَدَدِ مِنَّا فَقَالَ أَجَلْ نَحْنُ أَحَقُّ بِذَاكَ مِنْكُمْ
قَالَ قُلْتُ مَا التَّاسِعَةُ وَالسَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ قَالَ إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وعشرون فالتي(4/182)
تَلِيهَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ فَإِذَا مَضَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ فَالَّتِي تَلِيهَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ وَفِي أَكْثَرِهَا ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ بِالْيَاءِ وَهِيَ أَصْوَبُ
انْتَهَى قَالَ السِّنْدِيُّ حَاصِلُ الْحَدِيثِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا بَقِيَ لَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا مَضَى لَكِنْ بَقِيَ الْإِشْكَالُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ فَوَاتِ الْوَتْرِ وَأَيْضًا هَذَا الْعَدَدُ يُخْرِجُ اللَّيْلَةَ الَّتِي قَدْ تَحَقَّقَتْ مَرَّةً أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَهِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
إِلَّا أَنْ يُجَابَ عَنِ الْأَوَّلِ أنها أوتار بالنظر إلى مابقي وَهُوَ يَكْفِي
وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنْ تُعْتَبَرَ الْأَوْتَارُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا مَضَى فَيَلْزَمُ أَنْ يَسْعَى كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ لِإِدْرَاكِهِ مُرَاعَاةً لِلْأَوْتَارِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا مَضَى وَإِلَى مَا بَقِيَ فَتَأَمَّلْ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
كَذَا فِي فَتْحِ الْوَدُودِ
وَفِي النَّيْلِ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ يُرْجَى وُجُودُهَا فِي تِلْكَ الثَّلَاثِ اللَّيَالِي انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(بَاب مَنْ رَوَى أَنَّهَا ليلة سبع عشرة)
[1384] (عن بن مسعود) وكذا أخرجه بن أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ بِلَا شَكٍّ وَلَا امْتِرَاءٍ إِنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَنْ رَمَضَانَ لَيْلَةُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ حَكِيمُ بْنُ سَيْفٍ وَفِيهِ مَقَالٌ
(بَابُ مَنْ رَوَى فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ)
[1385] (تَحَرُّوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ) التَّحَرِّي الْقَصْدُ وَالِاجْتِهَادُ فِي الطَّلَبِ ثُمَّ إِنَّ هَذَا(4/183)
الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَرَوَى عبد الرزاق عن بن عَبَّاسٍ قَالَ دَعَا عُمَرُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ
قال بن عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لِعُمَرَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَوْ أَظُنُّ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ قَالَ عُمَرُ أَيُّ لَيْلَةٍ هِيَ فَقُلْتُ سَابِعَةٌ تَمْضِي أَوْ سَابِعَةٌ تَبْقَى مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ ذَلِكَ فَقُلْتُ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعَ أَرْضِينَ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ وَالدَّهْرُ يَدُورُ فِي سَبْعٍ وَالْإِنْسَانُ خُلِقَ مِنْ سَبْعٍ وَيَأْكُلُ مِنْ سَبْعٍ وَيَسْجُدُ عَلَى سَبْعٍ وَالطَّوَافُ وَالْجِمَارُ وَأَشْيَاءُ ذَكَرَهَا فَقَالَ عُمَرُ لَقَدْ فَطِنْتَ لِأَمْرٍ مَا فَطِنَّا لَهُ وَقَدْ أَخْرَجَ نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ الْحَاكِمُ وَإِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ ذَكَرَ مِنْهَا فِي فَتْحِ الْبَارِي مَا لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ
وَفِي التَّوْشِيحِ وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِينَ قَوْلًا وَأَرْجَاهَا أَوْتَارُ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(بَاب مَنْ قَالَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ)
[1386] وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ في مسنده عن بْنُ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيهَا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ قَالَ فِي الْمُنْتَقَى إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
قَالَ الْعَيْنِيُّ فَإِنْ قُلْتَ مَا وَجْهُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قُلْتُ لَا مُنَافَاةَ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجِيبُ عَلَى نَحْوِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يُقَالُ لَهُ نَلْتَمِسُهَا فِي كَذَا فَيَقُولُ الْتَمِسُوهَا فِي لَيْلَةِ كَذَا وَقِيلَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَدِّثْ بِمِيقَاتِهَا جَزْمًا فَذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَا سَمِعَهُ وَالذَّاهِبُونَ إِلَى سَبْعٍ وَعِشْرِينَ هُمُ الْأَكْثَرُونَ(4/184)
7 - (باب من قال هي في كل رمضان)
[1387] (عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أَهِيَ فِي كُلِّ السَّنَةِ أَوْ فِي كُلِّ رَمَضَانَ (فَقَالَ هِيَ فِي كل رمضان) قال بن الْمَلَكِ أَيْ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بَلْ كُلُّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ أَحَدٌ لِامْرَأَتِهِ فِي نِصْفِ رَمَضَانَ أَوْ أَقَلَّ أَنْتِ طَالِقٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَأْتِيَ رَمَضَانُ السَّنَةِ الْقَابِلَةِ فَتَطْلُقُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي علق فيها الطلاق
قاله علي القارىء
وَفِي النَّيْلِ الْقَوْلُ الْخَامِسُ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُخْتَصَّةٌ بِرَمَضَانَ مُمْكِنَةٌ فِي جَمِيعِ لَيَالِيهِ
وَرُوِيَ عن بن عمر وأبي حنيفة وبه قال بن الْمُنْذِرِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَرَجَّحَهُ السُّبْكِيُّ
4(4/185)
(بَاب فِي كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ)
[1388] (قَالَ اقْرَأْ فِي سَبْعٍ وَلَا تَزِيدَنَّ عَلَى ذَلِكَ) قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا مِنْ نَحْوِ مَا سَبَقَ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى الِاقْتِصَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ
وَقَدْ كَانَتْ لِلسَّلَفِ عَادَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فِيمَا يَقْرَؤُونَ كُلَّ يَوْمٍ بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْهَامِهِمْ وَوَظَائِفِهِمْ فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَبَعْضُهُمْ فِي عِشْرِينَ يَوْمًا وَبَعْضُهُمْ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ وَبَعْضُهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِي سَبْعَةٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي ثَلَاثَةٍ وَكَثِيرٌ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَبَعْضُهُمْ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ وَبَعْضُهُمْ فِي اليوم والليلة ثلاث ختمات وبعضهم ثمان خَتَمَاتٍ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَسْتَكْثِرُ مِنْهُ مَا يُمْكِنُهُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ وَلَا يَعْتَادُ إِلَّا مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الدَّوَامُ عَلَيْهِ فِي حَالِ نَشَاطِهِ وَغَيْرِهِ هَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ وَظَائِفُ عَامَّةٌ أَوْ خَاصَّةٌ يَتَعَطَّلُ بِإِكْثَارِ الْقُرْآنِ عَنْهَا فَإِنْ كَانَتْ لَهُ وَظِيفَةٌ عَامَّةٌ كَوِلَايَةٍ وَتَعْلِيمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلْيُوَظِّفْ لِنَفْسِهِ قِرَاءَةً يُمْكِنُهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا مَعَ نَشَاطِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْ كَمَالِ تِلْكَ الْوَظِيفَةِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ
انْتَهَى
وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْخُنَا الْمُحَدِّثُ السَّيِّدُ نَذِيرٌ حُسَيْنُ الدَّهْلَوِيُّ فِي كِتَابِهِ مِعْيَارِ الْحَقِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ(4/186)
[1389] (فَنَاقَصَنِي وَنَاقَصْتُهُ) قَالَ فِي فَتْحِ الْوَدُودِ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُرَاجَعَةٌ فِي النُّقْصَانِ فَيَرَى مَا أَذْكُرُهُ نَاقِصًا فَيَرُدُّنِي عَنْهُ وَأَنَا أَعُدُّ مَا ذَكَرَهُ نَاقِصًا فَأَرُدُّهُ عَنْهُ كَمَا هُوَ شَأْنُ مَنْ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْمُرَاجَعَةُ وَلَوْ جَعَلَ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَقَدْ ضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ كَذَلِكَ أَيْ يَنْقُضُ قَوْلِي وَأَنْقُصُ قَوْلَهُ
انْتَهَى (قَالَ عَطَاءُ) بْنُ السَّائِبِ (وَاخْتَلَفْنَا) أَيْ أَنَا وَمَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ (عَنْ أَبِي) هُوَ السَّائِبُ (فَقَالَ بَعْضُنَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ) أَيْ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا أَمَرَ فِي لَفْظِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ الَّذِي هُوَ أَتَمُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ فِيهِ مَقَالٌ وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ مَقْرُونًا وَأَبُوهُ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ
قَالَ يَحْيَى بن معين ثقة
[1390] (بن الْمُثَنَّى) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى كُنْيَتُهُ أَبُو مُوسَى (رَدَّدَ أَبُو مُوسَى) مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى (هَذَا الْكَلَامَ) أَيْ إِنِّي أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ (وَتَنَاقَصَهُ) كَمَا فِي حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ (حَتَّى قَالَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ) أَيْ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ (قَالَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يَفْقَهُ) أَيْ لَا يَفْهَمُ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ وَلَا يَتَدَبَّرُ فِيهَا وَلَا يَتَفَكَّرُ (مَنْ قَرَأَهُ) أَيِ الْقُرْآنَ (فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ) أَيْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ(4/187)
[1391] (قَالَ أَبُو عَلِيٌّ) مُحَمَّدُ اللُّؤْلُؤِيُّ رَاوِي السُّنَنِ (كَيِّسٌ) بِالتَّثْقِيلِ عَلَى وَزْنِ جَيِّدٍ بِمَعْنَى الْفِطْنَةِ وَالْعَقْلِ أَيْ عَاقِلٌ فَطِينٌ وَهَذَا تَوْثِيقٌ لِعِيسَى من أحمد بن حنبل
وقال بن حِبَّانَ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ
(بَابُ تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ)
[1392] (فِي كَمْ) أَيْ فِي كَمْ مُدَّةٍ (فَقُلْتُ ما) نافية (أحزبه) بتشديد الزاء الْمُعْجَمَةِ وَالْحِزْبُ مَا يُجْعَلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قِرَاءَةٍ أَوْ صَلَاةٍ كَالْوِرْدِ
وَالْحِزْبُ النَّوْبَةُ فِي وُرُودِ الْمَاءِ وَتَحْزِيبِ الْقُرْآنِ تَجْزِئَتُهُ وَاتِّخَاذُ كُلِّ جُزْءٍ حِزْبًا لَهُ
كَذَا فِي فَتْحِ الْوَدُودِ (لَا تَقُلْ مَا أُحَزِّبُهُ) أَيْ لَا تُنْكِرْ مِنَ التَّحْزِيبِ وَاتِّخَاذِ كُلِّ جُزْءٍ حِزْبًا لَهُ (قَرَأْتُ جُزْءًا) وَهُوَ الْمَعْنَى مِنَ الْحِزْبِ (أَنَّهُ) أَيْ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ (ذَكَرَهُ) أَيِ الْحَدِيثَ (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مُتَّصِلًا
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1393] (أَبُو خَالِدٍ) هُوَ الْأَحْمَرُ (وَهَذَا لَفْظُهُ) أَيْ لَفْظُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْكِنْدِيِّ الْكُوفِيِّ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أَيْ قُرَّانُ بْنُ تَمَامٍ وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ كِلَاهُمَا يَرْوِيَانِ عَنْ عَبْدِ الله (أوس بن حذيفة) قال بن مَنْدَهْ وَمِمَّنْ نَزَلَ الطَّائِفَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْسُ بْنُ حُذَيْفَةَ الثَّقَفِيُّ كَانَ فِي ثَقِيفٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ بن عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ جَدُّ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بَنِي مَالِكٍ فَأَنْزَلَهُمْ فِي قُبَّةٍ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وبين أهله
قال بن مَعِينٍ إِسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ صَالِحٌ وَحَدِيثُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ لَيْسَ بِالْقَائِمِ فِي تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ(4/188)
انْتَهَى
كَذَا فِي أُسْدِ الْغَابَةِ (فَنَزَلَتِ الْأَحْلَافُ) جَمْعُ حَلِيفٍ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ فَنَزَلَ الْأَحْلَافِيُّونَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْحَلِيفُ الْمُعَاهِدُ يُقَالُ مِنْهُ تَحَالَفَا إِذَا تَحَالَفَا وَتَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُمَا وَاحِدًا فِي النُّصْرَةِ وَالْحِمَايَةِ انْتَهَى (كَانَ) أَيْ أَوْسُ بْنُ حُذَيْفَةَ (قَالَ) أَيْ أَوْسُ بْنُ حُذَيْفَةَ (كَانَ) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ كُنْيَتُهُ (حَتَّى يُرَاوِحَ) أَيْ يَعْتَمِدَ عَلَى إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ مَرَّةً وَعَلَى الْأُخْرَى مَرَّةً لِلِاسْتِرَاحَةِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ هُوَ أَنَّهُ يَطُولُ قِيَامُ الْإِنْسَانِ حَتَّى يُعَيِّنَ فَيَعْتَمِدُ عَلَى إِحْدَى رِجْلَيْهِ مَرَّةً على رِجْلِهِ الْأُخْرَى مَرَّةً
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ يَعْتَمِدُ عَلَى إِحْدَاهُمَا مَرَّةً وَعَلَى الْأُخْرَى مَرَّةً لِيُوَاصِلَ الرَّاحَةَ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا (وَأَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا مَا) مَوْصُولَةٌ (لَقِيَ) وَهُوَ الْأَذَى (مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ) بَدَلٌ مِنْ قَوْمِهِ
وَلَفْظُ الطَّيَالِسِيِّ وَكَانَ أَكْثَرُ مَا يُحَدِّثُنَا اشْتِكَاءُ قُرَيْشٍ (لَا سَوَاءٌ) هَكَذَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ لَا نَحْنُ سَوَاءٌ فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأُ وَجُعِلَتْ لَا عِوَضًا عَنِ الْمَحْذُوفِ وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْمَعْنَى حَالُنَا الْآنَ غَيْرُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ انْتَهَى
وَقَالَ السِّنْدِيُّ أَيْ مَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُسَاوَاةٌ بَلْ إِنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلًا أَعَزَّ ثُمَّ أَذَلَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْكِتَابِ لَا أَنْسَى وَهَكَذَا فِي نُسْخَتَيْنِ مِنَ الْمُنْذِرِيِّ وَالْمَعْنَى لَا أَنْسَى أَذِيَّتَهُمْ وَعَدَاوَتَهُمْ مَعَنَا (فَلَمَّا خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ) وَلَفْظُ الطَّيَالِسِيِّ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ انْتَصَفْنَا مِنَ الْقَوْمِ فَكَانَتْ سِجَالُ الْحَرْبِ لَنَا وَعَلَيْنَا (كَانَتْ سِجَالُ الْحَرَبِ) أَيْ ذَنُوبُهَا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهِيَ جَمْعُ سَجْلٍ وَهِيَ الدَّلْوُ الْكَبِيرَةُ وَقَدْ يَكُونُ السِّجَالُ مَصْدَرُ سَاجَلْتُ الرَّجُلَ مُسَاجَلَةً وَسِجَالًا وَهُوَ أَنْ يَسْتَقِيَ الرَّجُلَانِ مِنْ بِئْرٍ أَوْ رَكِيَّةٍ فَيَنْزِعُ هَذَا سَجْلًا وَهَذَا سَجْلًا يَتَنَاوَبَانِ السَّقْيَ بَيْنَهُمَا انْتَهَى (نُدَالُ عَلَيْهِمْ) أَيْ مَرَّةً تَكُونُ لَنَا عَلَيْهِمْ دَوْلَةٌ وَغَلَبَةٌ وَلَهُمْ عَلَيْنَا دَوْلَةٌ فَهُوَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ سِجَالُ الْحَرْبِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ (فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةٌ أَبْطَأَ) أَيْ تَأَخَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُ الطَّيَالِسِيِّ وَاحْتُبِسَ عَنَّا لَيْلَةً عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ يَأْتِينَا فيه(4/189)
(طَرَأَ عَلَيَّ جُزْئِي) هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حِزْبِي
قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ كَأَنَّهُ أَغْفَلَهُ عَنْ وَقْتِهِ ثُمَّ ذَكَرَهُ فَقَرَأَهُ
وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِكَ طَرَأَ عَلَيْكَ الرَّجُلُ إِذَا خَرَجَ عَلَيْكَ فُجَاءَةً طُرُوًّا فَهُوَ طَارٍ
وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ وَرَدَ وَأَقْبَلَ يُقَالُ طَرَأَ يَطْرَأُ مَهْمُوزًا إِذَا جَاءَ مُفَاجَأَةً كَأَنَّهُ فَجَأَهُ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يُؤَدِّي فِيهِ وِرْدَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ انْتَهَى (كَيْفَ تُحَزِّبُونَ الْقُرْآنَ) وَكَيْفَ تَجْعَلُونَهُ الْمَنَازِلَ
وَالْحِزْبُ هُوَ مَا يَجْعَلُهُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قِرَاءَةٍ (قَالُوا ثَلَاثٌ) أَيِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ فَهَذِهِ السُّوَرُ الثَّلَاثَةُ مَنْزِلٌ وَاحِدٌ مِنْ سَبْعِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ (وَخَمْسٌ) مِنَ الْمَائِدَةِ إِلَى الْبَرَاءَةِ (وَسَبْعٌ) مِنْ يُونُسَ إِلَى النَّحْلِ (وَتِسْعٌ) مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الْفُرْقَانِ (وَإِحْدَى عَشْرَةَ) مِنَ الشُّعَرَاءِ إِلَى يس (وَثَلَاثَ عَشْرَةَ) مِنَ الصَّافَّاتِ إِلَى الْحُجُرَاتِ (وَحِزْبُ الْمُفَصَّلِ وَحْدَهُ) مِنْ قَافْ إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ كَانَ تَرْتِيبُ الْقُرْآنِ مَشْهُورًا عَلَى هَذَا النَّمَطِ الْمَعْرُوفِ الْآنَ
قال المنذري والحديث أخرجه بن مَاجَهْ
[1394] (لَا يَفْقَهُ) بِفَتْحِ الْقَافِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[1395] (فِي كَمْ يُقْرَأُ) أَيْ فِي كَمْ مُدَّةٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مُرْسَلًا(4/190)
[1396] (فقال أهذا كهذا الشِّعْرِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْهَذُّ سُرْعَةُ الْقِرَاءَةِ وَإِنَّمَا عَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذَا أَسْرَعَ الْقُرْآنَ وَلَمْ يُرَتِّلْ فَاتَهُ فَهْمُ الْقُرْآنِ وَإِدْرَاكُ مَعَانِيهِ انْتَهَى
وَفِي النِّهَايَةِ أَرَادَ أَتَهُذُّ الْقُرْآنَ هَذًّا فَتُسْرِعَ فِيهِ كَمَا تُسْرِعُ فِي قِرَاءَةِ الشِّعْرِ وَالْهَذُّ سُرْعَةُ الْقَطْعِ وَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ (وَنَثْرًا كَنَثْرِ الدَّقَلِ) أَيْ كَمَا يَتَسَاقَطُ الرُّطَبُ الْيَابِسُ من العذق إذ هز
والدقل ردي التَّمْرِ وَيَابِسُهُ وَمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ فَتَرَاهُ لِيُبْسِهِ وَرَدَاءَتِهِ لَا يَجْتَمِعُ وَيَكُونُ مَنْثُورًا
قَالَ فِي النِّهَايَةِ (كَانَ يَقْرَأُ النَّظَائِرَ) هِيَ السُّوَرُ الْمُتَقَارِبَةُ فِي الطُّولِ
قَالَ الْقَاضِي هَذَا صحيح موافق لرواية عائشة وبن عَبَّاسٍ أَنَّ قِيَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ وَأَنَّ هَذَا كَانَ قَدْرَ قِرَاءَتِهِ غَالِبًا وَأَنَّ تَطْوِيلَهُ الْوارِدَ إِنَّمَا كَانَ فِي التَّدَبُّرِ وَالتَّرْتِيلِ وَمَا وَرَدَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فِي قِرَاءَتِهِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَآلِ عِمْرَانَ كَانَ فِي نَادِرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ
قَالَهُ النَّوَوِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي ذِكْرِ الْهَذِّ وَالنَّظَائِرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (هذا تأليف بن مَسْعُودٍ) فَبِهَذَا التَّرْتِيبِ كَانَتِ السُّوَرُ فِي مُصْحَفِهِ
[1397] (كَفَتَاهُ) أَيْ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَقِيلَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَقِيلَ مِنَ الْآفَاتِ وَيُحْتَمَلُ مِنَ الْجَمِيعِ(4/191)
قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ أَغْنَتَاهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَقِيلَ أَرَادَ أَنَّهُمَا أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَقِيلَ تَكْفِيَانِ السُّوءَ وَتَقِيَانِ مِنَ الْمَكْرُوهِ قَالَ السُّيُوطِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[1398] (مِنَ الْقَانِتِينَ) يَرِدُ بِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالطَّاعَةِ وَالْخُشُوعِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ وَالْقِيَامِ وَالسُّكُوتِ فَيُصْرَفُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي إِلَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ كَذَا في النهاية والمراد ها هنا الْقِيَامُ فِي اللَّيْلِ (كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ) بِكَسْرِ الطَّاءِ مِنَ الْمَالِكِينَ مَالًا كَثِيرًا وَالْمُرَادُ كَثْرَةُ الْأَجْرِ وَقِيلَ أَيْ مِمَّنْ أُعْطِيَ مِنَ الْأَجْرِ أَيْ أَجْرًا عَظِيمًا قَالَهُ السِّنْدِيُّ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عنه المنذري (بن حجيرة الأصغر عبد الله) وأما بن حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرُ فَهُوَ أَبُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُجَيْرَةَ الْقَاضِي وَكِلَاهُمَا مَشْهُورَانِ بِابْنِ حُجَيْرَةَ لَكِنْ عَبْدُ اللَّهِ بِابْنِ حُجَيْرَةَ الْأَصْغَرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بِابْنِ حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1399] (فَقَالَ أَقْرِئْنِي) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ عَلِّمْنِي (فَقَالَ اقْرَأْ ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَ سُوَرٍ (مِنْ ذَوَاتِ الرَّاءِ) بِالْمَدِّ وَالْهَمْزَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ مِنَ السُّوَرِ الَّتِي صُدِّرَتْ بِالرَّاءِ (فَقَالَ كَبُرَتْ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَتُكْسَرُ (سِنِّي) أَيْ كَثُرَ عُمُرِي (وَاشْتَدَّ قَلْبِي) أَيْ غَلَبَ عَلَيْهِ قِلَّةُ الْحِفْظِ وَكَثْرَةُ النِّسْيَانِ (وَغَلُظَ لِسَانِي) أَيْ ثَقُلَ بِحَيْثُ لَمْ يُطَاوِعْنِي فِي تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَلَا تَعَلُّمِ السُّوَرِ الطِّوَالِ (قَالَ) أَيْ فَإِنْ كُنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ قِرَاءَتَهُنَّ (فَاقْرَأْ ثَلَاثًا مِنْ ذَوَاتِ حم) فَإِنَّ أَقْصَرَ (ذَوَاتِ حم) أَقْصَرُ مِنْ أَقْصَرِ ذَوَاتِ الراء(4/192)
(مِنَ الْمُسَبِّحَاتِ) أَيْ مَا فِي أَوَّلِهِ سَبِّحْ وَيُسَبِّحُ (فَأَقْرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا زلزلت الأرض حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ الرَّجُلُ قَالَ الطِّيبِيُّ كَأَنَّهُ طَلَبَهُ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَلَاحُ إِذَا عَمِلَ بِهِ فَلِذَلِكَ قَالَ سُورَةٌ جَامِعَةٌ وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ آيَةٌ زَائِدَةٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا فَمَنْ يعمل مثقال ذرة خيرا يره وَلِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الَّذِي لَا حَدَّ لَهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَذِهِ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذرة شرا يره قَالَ الطِّيبِيُّ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهَا وَرَدَتْ لِبَيَانِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي عَرْضِ الْأَعْمَالِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (لَا أَزِيدُ عَلَيْهِ أَبَدًا) أَيْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَقْرَأْتَنِيهِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَلَعَلَّ الْقَصْدَ بِالْحَلِفِ تَأْكِيدُ الْعَزْمِ لَا سِيَّمَا بِحُضُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بِمَنْزِلَةِ الْمُبَايَعَةِ وَالْعَهْدِ (ثُمَّ أَدْبَرَ) أَيْ وَلَّى دُبُرَهُ وَذَهَبَ (أَفْلَحَ) أَيْ فَازَ بِالْمَطْلُوبِ (الرُّوَيْجِلُ) قَالَ الطِّيبِيُّ تَصْغِيرُ تَعْظِيمٍ لِبُعْدِ غَوْرِهِ وَقُوَّةِ إِدْرَاكِهِ وَهُوَ تَصْغِيرٌ شَاذٌّ إِذْ قِيَاسُهُ رُجَيْلٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرُ رَاجِلٍ بِالْأَلِفِ بِمَعْنَى الْمَاشِي (مَرَّتَيْنِ) إِمَّا لِلتَّأْكِيدِ أَوْ مَرَّةً لِلدُّنْيَا وَمَرَّةً لِلْأُخْرَى وَقِيلَ لِشِدَّةِ إِعْجَابِهِ عليه الصلاة والسلام منه قاله علي القارىء
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَابٌ فِي عَدَدِ الْآيِ (ثَلَاثُونَ آيَةً))
[1400] خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ ثَلَاثُونَ وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ لَهَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ
قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثُونَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ وَتَشْفَعُ الْخَبَرُ الثَّانِي
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ الْبَسْمَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ السُّورَةِ وَآيَةٌ تَامَّةٌ مِنْهَا لِأَنَّ كَوْنَهَا ثَلَاثِينَ آيَةً إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً مِنْهَا وَالْحَالُ أَنَّهَا ثَلَاثُونَ مِنْ غَيْرِ كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً فَهِيَ إِمَّا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ(4/193)
وَمَالِكٍ وَالْأَكْثَرِينَ وَإِمَّا لَيْسَتْ بِآيَةٍ تَامَّةٍ بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى كَرِوَايَةٍ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ (تَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا) أَيْ لِمَنْ يَقْرَؤُهَا فِي الْقَبْرِ أَوْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ مِنْ رِوَايَةِ عَبَّاسٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ وَقَالَ لَمْ يُذْكَرْ سَمَاعًا مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عَبَّاسَ الْجُشَمِيَّ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أبي هريرة
5(4/194)
(بَاب تَفْرِيعِ أَبْوَابِ السُّجُودِ وَكَمْ سَجْدَةً فِي القرآن)
[1401] (الْعُتَقِيُّ) عَلَى وَزْنِ زُفَرَ نِسْبَةً إِلَى الْعُتَقَاءِ وَهُمْ كَثِيرُونَ (أَقْرَأَهُ) أَيْ عَمْرًا (خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً) قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ حَمَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ فِي قِرَاءَتِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً (فِي الْقُرْآنِ) فِي النِّهَايَةِ إِذَا قَرَأَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ أَوِ الْحَدِيثَ عَلَى الشَّيْخِ يَقُولُ أَقْرَأَنِي فُلَانٌ أَيْ حَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ (مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ) وَهِيَ النَّجْمُ وَانْشَقَّتْ وَقَدْ عُلِمَ محالها وبهذا الحديث قال أحمد وبن الْمُبَارَكِ
وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ سَجْدَةَ ص وَأَبُو حَنِيفَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْحَجِّ وَأَخْرَجَ مَالِكٌ الْمُفَصَّلَ (وَإِسْنَادُهُ واه) أي ضعيف قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ
وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا الَّذِي أَشَارَ إليه أبو داود وأخرجه الترمذي وبن ماجه وقال الترمذي غريب
[1402] (ومن لم يسجدها فلا يقرأها) قَالَ فِي السُّبُلِ وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ(4/195)
مِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ إِلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْأَخِيرَةِ مِنْهَا
وَفِي قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا تَأْكِيدٌ لِشَرْعِيَّةِ السُّجُودِ فِيهَا وَمَنْ قَالَ بِإِيجَابِهِ فَهُوَ مِنْ أَدِلَّتِهِ وَمَنْ قَالَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ قَالَ لَمَّا تَرَكَ السُّنَّةَ وَهُوَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ بِفِعْلِ المندوب وهو القرآن كان الأليق الاعتناء بالسنون وَأَنْ لَا يَتْرُكَهُ فَإِذَا تَرَكَهُ فَالْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَ السُّورَةَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ وَمِشْرَحُ بْنُ هَاعَانِ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
وَفِي الْمِرْقَاةِ قَالَ مَيْرَكُ لَكِنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِمَا وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ انْتَهَى
(بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ السُّجُودَ فِي الْمُفَصَّلِ)
[1403] (قَالَ مُحَمَّدُ) بْنُ رَافِعٍ (رَأَيْتُهُ) أَيْ هَذَا الشَّيْخَ وَهُوَ أَزْهَرُ بْنُ الْقَاسِمِ (لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ) قَالَ التُّورْبَشْتِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ إِنْ صَحَّ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ حُجَّةٌ لِمَا صَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إذا السماء انشقت وفي اقرأ باسم ربك وأبو هريرة متأخر
قال بن الْمَلَكِ وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ يَرْوُونَهَا فِيهِ فَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا حَدِيثٌ ضعيف الإسناد ومع كونه ضعيفا مناف لِلْمُثْبَتِ الْمُقَدَّمِ عَلَيْهِ فَإِنَّ إِسْلَامَ أَبِي هُرَيْرَةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ سَجَدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِانْشِقَاقِ واقرأوهما مِنَ الْمُفَصَّلِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إسناده
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال بْن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد أَبُو قَدَامَة مُضْطَرِب الْحَدِيث
وَقَالَ يَحْيَى بْن مَعِين ضَعِيف وَقَالَ النَّسَائِيُّ
صَدُوق عِنْده مَنَاكِير
وَقَالَ الْبُسْتِيّ كَانَ شَيْخًا صَالِحًا مِمَّنْ كَثُرَ وهمه
وعلله بن الْقَطَّانِ بِمَطَرٍ الْوَرَّاق وَقَالَ كَانَ يُشْبِه فِي سُوء الْحِفْظ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي لَيْلَى وَقَدْ عِيبَ عَلَى مُسْلِم إِخْرَاج حَدِيثه وَضَعَّفَ عَبْد الْحَقّ هَذَا الْحَدِيث(4/196)
أَبُو قُدَامَةَ وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ أَيَادِيٌّ بَصْرِيٌّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَجَدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِذَا السماء انشقت وفي اقرأ باسم ربك على ما سيأتي وأبو هُرَيْرَةَ إِنَّمَا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ
[1404] (فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا) قَالَ فِي النَّيْلِ الْحَدِيثُ احْتَجَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُفَصَّلَ لَا يُشْرَعُ فِيهِ سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَاحْتَجَّ بِهِ أَيْضًا مَنْ خَصَّ سُورَةَ النَّجْمِ بِعَدَمِ السُّجُودِ وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ تَرْكَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسُّجُودِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي التَّرْكِ إِذْ ذَاكَ إِمَّا لِكَوْنِهِ كَانَ بِلَا وُضُوءٍ أَوْ لِكَوْنِ الوقت كان وقت كراهة أو لكون القارىء لَمْ يَسْجُدْ أَوْ كَانَ التَّرْكُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ
قَالَ فِي الْفَتْحِ
وَهَذَا أَرْجَحُ الِاحْتِمَالَاتِ وَبِهِ جَزَمَ الشَّافِعِيُّ
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَرَوَى الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَسَجَدْنَا مَعَهُ
قال في الفتح ورجاله ثقات
وروى بن مَرْدَوَيْهِ بِإِسْنَادٍ حَسَّنَهُ الْحَافِظُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَجَدَ فِي خَاتِمَةِ النَّجْمِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[1405] (قَالَ أَبُو دَاوُدَ كَانَ زَيْدٌ الْإِمَامَ فلم يسجد فيها) يريد أن القارىء إِمَامٌ لِلسَّامِعِ فَيَجُوزُ أَنَّ زَيْدًا تَرَكَ السُّجُودَ فَتَرَكَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّبَاعًا لِزَيْدٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب مَنْ رَأَى فِيهَا سُجُودًا)
[1406] (قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ فَسَجَدَ بِهَا) وَفِي نُسْخَةٍ فَسَجَدَ فِيهَا أَيْ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهَا (وَمَا بَقِيَ(4/197)
أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ) الَّذِينَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ (إِلَّا سَجَدَ) مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ أَيْ مَنْ كَانَ حَاضِرًا قِرَاءَتَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ قاله بن عَبَّاسٍ حَتَّى شَاعَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَسْلَمُوا (فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) الْحَاضِرِينَ هُوَ أُمَيَّةُ بن خلف (كفا من حصا) أَيْ حِجَارَةٍ صِغَارٍ (أَوْ تُرَابٍ) شَكٌّ مَنَ الرَّاوِي (يَكْفِينِي هَذَا) كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ السُّجُودِ التَّوَاضُعَ وَالِانْقِيَادَ وَالْمَذَلَّةَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِبَادِ وَوَضْعَ أَشْرَفِ الْأَعْضَاءِ فِي أَخَسِّ الْأَشْيَاءِ رُجُوعًا إِلَى أَصْلِهِ مِنَ الْغَنَاءِ وَهَذَا لِمَا فِي رَأْسِهِ مِنْ تَوَهُّمِ الْكِبْرِيَاءِ وَعَدَمِ وُصُولِهِ إِلَى مقام الأصفياء (قال عبد الله) أي بن مَسْعُودٍ (بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ (قُتِلَ) أَيْ يَوْمَ بَدْرٍ (كَافِرًا) قَالَ الطِّيبِيُّ فِيهِ أَنَّ مَنْ سَجَدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَسْلَمُوا وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ السُّجُودِ لِمَنْ حَضَرَ عِنْدَ القارىء لِلْآيَةِ الَّتِي فِيهَا السَّجْدَةُ
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وكان سبب سجودهم فيما قال بن مَسْعُودٍ أَنَّهَا أَوَّلُ سَجْدَةٍ نَزَلَتْ وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ الْإِخْبَارِيُّونَ وَالْمُفَسِّرُونَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مَا جَرَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ فَبَاطِلٌ لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا
وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَقِيلَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَقِيلَ هُوَ عُبَيْدُ بْنُ رَبِيعَةَ وَقِيلَ إِنَّهُ أَبُو أُحَيْحَةَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ
(بَاب السُّجُودِ فِي إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)
وَاقْرَأْ [1407] (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَجَدْنَا) قَالَ فِي السُّبُلِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْوُجُوبِ وَفِي مَوَاضِعِ السُّجُودِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاجِبٌ غَيْرُ فَرْضٍ ثُمَّ هُوَ سُنَّةٌ فِي حق التالي(4/198)
وَالْمُسْتَمِعِ إِنْ سَجَدَ التَّالِي وَقِيلَ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْ وَأَمَّا مَوَاضِعُ السُّجُودِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَسْجُدُ فِيمَا عَدَا الْمُفَصَّلِ فَيَكُونُ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَحِلًّا إِلَّا أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَا يَعُدُّونَ فِي الْحَجِّ إِلَّا سَجْدَةً وَاعْتُبِرُوا بِسَجْدَةِ سُورَةِ ص
وَقَالَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ يُسْجَدُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا عَدُّوا سَجْدَتَيِ الْحَجِّ وَسَجْدَةَ ص وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا فَاشْتَرَطَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ وَقَالَ قَوْمٌ لا يشترط وقال البخاري كان بن عُمَرَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ
وَفِي مُسْنَدِ بن أبي شيبة كان بن عُمَرَ يَنْزِلُ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَيُهْرِيقُ الْمَاءَ ثُمَّ يَرْكَبُ فَيَقْرَأُ السَّجْدَةَ فَيَسْجُدُ وَمَا يَتَوَضَّأُ وَوَافَقَهُ الشعبي على ذلك
وروى عن بن عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَا يَسْجُدُ الرَّجُلُ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ وَجُمِعَ بَيْنَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ
وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى السُّجُودِ لِلتِّلَاوَةِ فِي الْمُفَصَّلِ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
(قَالَ أَبُو دَاوُدَ أَسْلَمَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هَذِهِ الْعِبَارَةُ لَيْسَتْ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ
وَكَذَا لَيْسَتْ فِي مُخْتَصَرِ الْمُنْذِرِيِّ
[1408] (فَقُلْتُ مَا هَذِهِ السَّجْدَةُ) هُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَبِذَلِكَ تَمَسَّكَ مَنْ رَأَى تَرْكَ السُّجُودِ لِلتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ وَمَنْ رَأَى تَرْكَهُ فِي الْمُفَصَّلِ وَيُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ أَبَا رَافِعٍ وَكَذَا أَبُو سَلَمَةَ كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ أَنْ أَعْلَمَهُمَا بِالسُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا احْتَجَّا عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ
قال بن عَبْدِ الْبَرِّ وَأَيُّ عَمَلٍ يُدَّعَى مَعَ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ أَنَّ سُجُودَهُ صلى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ
وَفِي الْفَتْحِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْأَشْعَثِ عَنْ مَعْمَرٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سُجُودَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا كَانَ دَاخِلَ الصَّلَاةِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ(4/199)
5 - (بَاب السُّجُودِ فِي ص)
[1409] (لَيْسَ ص مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ) قَالَ فِي الْفَتْحِ وَالْمُرَادُ بِالْعَزَائِمِ مَا وَرَدَتِ الْعَزِيمَةُ عَلَى فِعْلِهِ كَصِيغَةِ الْأَمْرِ مَثَلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ آكَدُ مِنْ بَعْضٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْوُجُوبِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَسَجَدْنَا شُكْرًا وَقَدْ روى بن الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ الْعَزَائِمَ حم وَالنَّجْمُ وَاقْرَأْ وألم تنزيل وكذا ثبت عن بن عَبَّاسٍ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُخَرِ وَقِيلَ الْأَعْرَافُ وَسُبْحَانَ وحم وألم أخرجه بن أَبِي شَيْبَةَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي
[1410] (تشزن الناس) بفتح الشين المعجمة والزاء الْمُشَدَّدَةِ وَالنُّونِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ اسْتَوْفَرُوا وَتَأَهَّبُوا له وتهيؤوا وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّزَنِ وَهُوَ الْقَلَقُ يُقَالُ بَاتَ فُلَانٌ عَلَى شَزَنٍ إِذَا بَاتَ قَلِقًا يَنْقَلِبُ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ انْتَهَى وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ في مذاهب العلماء (إنما تَوْبَةُ نَبِيٍّ) أَيْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وأناب (تشزنتم) أي تأهبتم وتهيأتم
والحديث سكت(4/200)
(باب في الرجل يسمع السجدة وهو راكب)
[1411] (قَرَأَ عَامَ الْفَتْحِ) أَيْ فَتْحِ مَكَّةَ (سَجْدَةً) أَيْ آيَةَ سَجْدَةٍ بِانْضِمَامِ مَا قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا أَوْ مُنْفَرِدَةً لِبَيَانِ الْجَوَازِ (فِي الْأَرْضِ) مُتَعَلِّقٌ بِالسَّاجِدِ
وَلَمَّا كَانَ الرَّاكِبُ لَا يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ جُعِلَ غَيْرُ السَّاجِدِ عَلَيْهَا قَسِيمًا لَهُ فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الرَّاكِبَ لَا يَلْزَمُهُ النُّزُولُ لِلسُّجُودِ بِالْأَرْضِ (حَتَّى إِنَّ الرَّاكِبَ) بِكَسْرِ إِنَّ وَتُفْتَحُ (يَسْجُدُ عَلَى يَدِهِ) أَيِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى السَّرْجِ أَوْ غَيْرِهِ لِيَجِدَ الْحَجْمَ حالة السجدة قال بن الْمَلَكِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْجُدُ على يده يصح إذا أنحى عُنُقَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
قال بن همام إذا تلا راكبا أو مريضا لَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ أَجْزَأَهُ الْإِيمَاءُ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
[1412] (الْمَعْنَى) أَيْ وَاحِدٌ وَكِلَاهُمَا أَيْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وبن نُمَيْرٍ يَرْوِيَانِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (ثُمَّ اتَّفَقَا) أي يحيى بن سعيد وبن نُمَيْرٍ (لَا يَجِدُ أَحَدُنَا مَكَانًا) لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ وَاخْتِلَاطِ النَّاسِ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إِذَا اشْتَدَّ الزِّحَامُ فَلْيَسْجُدْ أَحَدُكُمْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ
أَيْ وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ يَسِيرٌ وَلَا بُدَّ مِنْ إِمْكَانِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى رِعَايَةِ هَيْئَةِ السَّاجِدِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى مُرْتَفِعٍ وَالْمَسْجُودُ عَلَيْهِ فِي مُنْخَفَضٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالْكُوفِيُّونَ
وَقَالَ مَالِكٌ يُمْسِكُ فَإِذَا رَفَعُوا سَجَدَ وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ السُّجُودِ فِي الْفَرْضِ فَهُوَ أَجْوَزُ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ(4/201)
لِأَنَّهُ سُنَّةٌ وَذَاكَ فَرْضٌ قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
قَالَ النَّوَوِيُّ إِذَا سَجَدَ الْمُسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ وَهُمَا فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لَمْ تَرْتَبِطْ بِهِ
بَلْ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ قَبْلَهُ وَلَهُ أَنْ يُطَوِّلَ السُّجُودَ بَعْدَهُ وَلَهُ أَنْ يَسْجُدَ وَإِنْ لَمْ يسجد القارىء سواء كان القارىء مُتَطَهِّرًا أَوْ مُحْدِثًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ غَيْرَهُمْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
(إِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِلْقُرْآنِ إذا قرئ بحضرته السجدة سجد مع القارىء
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَعَدَ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ فَإِنْ شَاءَ سَجَدَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَسْجُدْ
وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُكَبِّرَ لِلسَّجْدَةِ وَعَلَى هَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَذَلِكَ يُكَبِّرُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ
وَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ يَقُولَانِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يسجد
وعن عطاء وبن سِيرِينَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ سَلَّمَ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَاحْتَجَّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ وَكَانَ أَحْمَدُ لَا يَرَى التَّسْلِيمَ فِي هَذَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا بِأَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (لِأَنَّهُ كَبَّرَ) أَيْ لِأَنَّهُ فِيهِ ذِكْرُ التَّكْبِيرِ وَمَا جَاءَ ذِكْرُ التَّكْبِيرِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ الْعَمْرِيِّ أَيْضًا لَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ مُصَغَّرًا وَالْمُصَغَّرُ ثِقَةٌ
وَلِهَذَا قَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ
قَالَ الْحَافِظُ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حديث بن عُمَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ
(بَابُ مَا يَقُولُ إِذَا سَجَدَ)
[1414] (سَجَدَ وَجْهِي) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا وَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ أَوِ الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الذَّاتُ (لِلَّذِي خَلَقَهُ(4/202)
وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ) تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ أَيْ فَتَحَهُمَا وَأَعْطَاهُمَا الْإِدْرَاكَ وَأَثْبَتَ لَهُمَا الْإِمْدَادَ بَعْدَ الْإِيجَادِ (بِحَوْلِهِ) أَيْ بِصَرْفِهِ الْآفَاتِ عَنْهُمَا (وَقُوَّتِه) أَيْ قُدْرَتِهِ بِالثَّبَاتِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِمَا
وَهَذَا الْحَدِيثُ أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه بن السَّكَنِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ ثَلَاثًا وَزَادَ الْحَاكِمُ فتبارك الله أحسن الخالقين وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ وَصَوَّرَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ خَلَقَهُ
وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ وَلِلنَّسَائِيِّ أَيْضًا نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ أَيْضًا وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الذِّكْرِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
فَائِدَةٌ لَيْسَ فِي أَحَادِيثِ سُجُودِ التِّلَاوَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ الساجد متوضأ وَقَدْ كَانَ يَسْجُدُ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَضَرَ تِلَاوَتَهُ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْوُضُوءِ وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا جميعا متوضئين
وقد روى البخاري عن بن عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ
قال في الفتح لم يوافق بن عُمَرَ أَحَدٌ عَلَى جَوَازِ السُّجُودِ بِلَا وُضُوءٍ إلا الشعبي أخرجه بن أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ ثُمَّ يَسْجُدُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَتَقَدَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب فِيمَنْ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ)
[1415] (الرَّكْبَ) أَيْ جَمَاعَةً مِنَ الرُّكْبَانِ (كُنْتُ أَقُصُّ) أَيْ كُنْتُ أَعِظُ النَّاسَ وَأُذَكِّرُهُمْ فَأَقْرَأُ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِيهَا السَّجْدَةُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ لَا يَقُصُّ إِلَّا أَمِيرٌ أَوْ مَأْمُورٌ أَوْ مُحْتَالٌ أَيْ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ إِلَّا لِأَمِيرٍ يَعِظُ النَّاسَ وَيُخْبِرُهُمْ بِمَا مَضَى لِيَعْتَبِرُوا أَوْ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَمِيرِ وَلَا يَقُصُّ تَكَسُّبًا كذا في النهاية (فنهاني بن عُمَرَ) عَنْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ (فَلَمْ أَنْتَهِ) عَنْ هَذَا الْفِعْلِ بَلْ كُنْتُ أَفْعَلُهَا (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) ظَرْفٌ فنهاني أي نهاني ثلاث(4/203)
مرار (ثم عاد) بن عُمَرَ لِلْمَنْعِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ بِقَوْلِهِ (فَقَالَ) بن عُمَرَ (حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) قَالَ الشَّوْكَانِيُّ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ سُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ لِأَنَّ السُّجُودَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِصَلَاةٍ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِالنَّهْيِ مُخْتَصَّةٌ بِالصَّلَاةِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ أَبُو بَحْرٍ الْبَكْرَاوِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ بن أمية ولا يحتج بحديثه(4/204)
(كتاب الوتر)
(باب استحباب الوتر)
[1416] (ياأهل الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا) قَالَ الطِّيبِيُّ يُرِيدُ بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ فَإِنَّ الْوِتْرَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَمَا يُفْهَمُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَلِذَلِكَ خَصَّ الْخِطَابَ لِأَهْلِ الْقُرْآنِ (فإنه اللَّهَ وِتْرٌ) أَيْ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ فَلَا شِبْهَ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ فَلَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا مُعِينَ (يُحِبُّ الْوِتْرَ) أَيْ يُثِيبُ عَلَيْهِ وَيَقْبَلُهُ مِنْ عَامِلِهِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ تَخْصِيصُهُ أَهْلَ الْقُرْآنِ بِالْأَمْرِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ عَامًّا وَأَهْلُ الْقُرْآنِ فِي عُرْفِ النَّاسِ الْقُرَّاءُ وَالْحُفَّاظُ دُونَ الْعَوَامِّ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ لِلْأَعْرَابِيِّ لَيْسَ لَكَ وَلَا لِأَصْحَابِكَ قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَفِي حَدِيثِهِمْ عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْوِتْرُ لَيْسَ بِحَتْمٍ كَصَلَاتِكُمُ الْمَكْتُوبَةِ وَفِي بَعْضِهَا وَلَكِنَّهُ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ ضَمْرَةَ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
[1417] (عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ الله الخ) قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا(4/205)
عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ (لَيْسَ لَكَ وَلَا لِأَصْحَابِكَ) بَلْ إِنَّهُ خَاصٌّ بِالْقُرَّاءِ وَالْحُفَّاظِ
[1418] (الزَّوْفِيِّ) بِفَتْحِ الزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ ثُمَّ الْفَاءِ (قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ) الطَّيَالِسِيُّ (الْعَدَوِيَّ) صِفَةُ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَدَّكُمْ) أَيْ جَعَلَهَا زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ مِنْ مَدَّ الْجَيْشَ وَأَمَدَّهُ أَيْ زَادَهُ
وَقَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ الْإِمْدَادُ إِتْبَاعُ الثَّانِي الْأَوَّلَ تَقْوِيَةً لَهُ وَتَأْكِيدًا لَهُ مِنَ الْمَدَدِ (مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ إِلَخْ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ جَمْعُ الْأَحْمَرِ وَالنَّعَمُ هُنَا الْإِبِل إِضَافَةُ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِهَا لِأَنَّهَا أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ مِنَ السُّودِ وَحُمْرُ النَّعَمِ أَعَزُّ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ لَهُمْ وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى صِيغَةِ لَفْظِ الْإِلْزَامِ فَيَقُولُ فَرَضَ عَلَيْكُمْ وَأَلْزَمَكُمْ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ وَقَدْ رَوَى أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَادَكُمْ صَلَاةً وَالزِّيَادَةُ فِي النَّوَافِلِ وَذَلِكَ أَنَّ نَوَافِلَ الصَّلَاةِ شَفْعٌ لَا وِتْرَ فِيهَا
فَقِيلَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ وَزَادَكُمْ صَلَاةً لَمْ تَكُونُوا تُصَلُّونَهَا قَبْلُ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ وَالصُّورَةِ وَهِيَ الْوِتْرُ وَالْقَوْلُ فَجَعَلَهَا لَكُمْ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَا يُقْضَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَقْضِي الْوِتْرَ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى الْفَجْرَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يُعْرَفُ لإسناده يعني لإسناد هَذَا الْحَدِيثَ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ
انْتَهَى
قَالَ السُّيُوطِيُّ لَيْسَ لِعَبْدِ اللَّهِ الزَّوْفِيِّ وَلَا لِشَيْخِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُرَّةَ وَلِشَيْخِهِ خارجة بن حذافة عند المؤلف والترمذي وبن مَاجَهْ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ الْوَاحِدَ وَلَيْسَ لَهُمْ رِوَايَةٌ فِي بَقِيَّةِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ انْتَهَى(4/206)
2 - (بَابٌ فِي مَنْ لَمْ يُوتِرْ)
[1419] (الْوِتْرُ حَقٌّ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْوِتْرِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ (فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا) مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يُوتِرْ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ فَلَيْسَ مِنَّا وَقَدْ دَلَّتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْحَقِّ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَسَعُ غَيْرَهُ مِنْهَا خَبَرُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَقُولُ إِنَّ الْوِتْرَ حَقٌّ فَقَالَ كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ ثُمَّ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَدَدِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَمِنْهَا خَبَرُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي سُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ وَمِنْهَا خَبَرُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي فَرْضِ الصَّلَوَاتِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ
وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ هُوَ فَرِيضَةٌ وَأَصْحَابُهُ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أبو المنيب العتكي المروزي وقد وثقه بن مَعِينٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ صَالِحُ الْحَدِيثِ وتكلم فيه البخاري والنسائي وغيرهما
[1420] (عن بن مُحَيْرِيزٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ) قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
قَالَ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْ مَالِكٍ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ صَحِيحٌ ثَابِتٌ وَالْمُخْدِجِيُّ(4/207)
فِلَسْطِينِيٌّ اسْمُهُ رَفِيعٌ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَقَدْ فَتَحَهَا بَعْضُهُمْ وَبَعْدَهَا جِيمٌ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ لَقَبٌ لَهُ وَقِيلَ هُوَ نَسَبٌ لَهُ وَمُخْدِجٌ بَطْنٌ مِنْ كِنَانَةَ
وَأَبُو مُحَمَّدٍ أَنْصَارِيٌّ اسْمُهُ مَسْعُودٌ وَلَهُ صُحْبَةٌ وَقِيلَ اسْمُهُ سَعْدُ بْنُ أَوْسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ وَكَانَ بَدْرِيًّا
وَقَوْلُهُ كَذَبَ أَيْ أَخْطَأَ وَسَمَّاهُ كَذِبًا لِأَنَّهُ يُشْبِهُهُ فِي كَوْنِهِ ضِدَّ الصَّوَابِ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ ضِدُّ الصِّدْقِ وَهَذَا الرَّجُلُ لَيْسَ بِمُخْبِرٍ وَإِنَّمَا قَالَهُ بِاجْتِهَادٍ أَدَّاهُ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ وَالِاجْتِهَادُ لَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ وَإِنَّمَا يَدْخُلُهُ الْخَطَأُ
وَقَدْ جَاءَ كَذَبَ بِمَعْنَى أَخْطَأَ فِي غير موضع
انتهى
(بَاب كَمْ الْوِتْرُ)
[1421] (وَالْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَانَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَزَيْدُ بن ثابت وأبي موسى الأشعري وبن عباس وعائشة وبن الزبير وهو مذهب بن الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرَ بِرَكْعَةٍ وَإِنْ أَفْرَدَ الرَّكْعَةَ جَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الْوِتْرُ ثَلَاثٌ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِتَسْلِيمَةٍ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَخَمْسٌ وَسَبْعٌ وَتِسْعٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إِنْ فَصَلَ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالثَّالِثَةِ فَحَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَفْصِلْ فَحَسَنٌ وَقَالَ مَالِكٌ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ لَمْ يَفْصِلْ وَنَسِيَ إِلَى أَنْ قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ
انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والنسائي
[1422] (الوتر حق على مُسْلِمٍ) وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ واجب بل سنة وخالفهم أبو حنيفة فَقَالَ إِنَّهُ وَاجِبٌ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَرْضٌ
قال بن(4/208)
الْمُنْذِرِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ في هذا
وأورد صاحب المنتقى حديث بن عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْتَرَ عَلَى بَعِيرِهِ رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْفَرِيضَةَ لَا تُصَلَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ وَكَذَلِكَ إِيرَادُهُ حَدِيثَ أَبِي أَيُّوبَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّخْيِيرِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوِتْرِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ وَرَوَى الشَّيْخَانِ أيضا من حديث بن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِأَنَّ بَعْثَ مُعَاذٍ كَانَ قَبْلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا عَنِ الْأَحَادِيثِ الْمُشْعِرَةِ بِالْوُجُوبِ بِأَنَّ أَكْثَرَهَا ضَعِيفٌ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عمر وبريدة وسليمان بن صرد وبن عباس وبن عمر وبن مسعود وبن أَبِي أَوْفَى وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ كَذَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَبَقِيَّتُهَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَطْلُوبُ لَا سِيَّمَا مَعَ قِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ كَذَا فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النسائي وبن مَاجَهْ وَقَدْ وَقَفَهُ بَعْضُهُمْ وَلَمْ يَرْفَعْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجَهُ أبو داود والنسائي وبن مَاجَهْ مَرْفُوعًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ
وَتَابَعَهُ عَلَى رَفْعِهِ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَغَيْرُهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَرْوِيهِ مَرَّةً مِنْ فُتْيَاهُ وَمَرَّةً مِنْ روايته
(بَابُ مَا يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ)
[1423] (عَنْ أَبِيهِ) وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى الْخُزَاعِيُّ صَحَابِيٌّ صغير (يوتر) أي يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ (بِسَبِّحِ اسْمِ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أَيْ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ قِرَاءَةِ الفاتحة (وقل للذين كفروا) أي(4/209)
قل ياأيها الكافرون فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (وَاللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ) أَيْ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَهَا
وَزَادَ النَّسَائِيُّ وَلَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ وَجَاءَ فِي عِدَّةِ طُرُقٍ أَنَّ السُّوَرَ الثَّلَاثَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ
وَالْحَدِيثُ فيه دليل على الإيثار بِثَلَاثٍ
وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ تَعْيِينِ الْوَصْلِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى ثَلَاثٍ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ بِثَلَاثٍ مَوْصُولَةٍ حَسَنٌ جَائِزٌ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا أَوْ نَقَصَ عَنْهَا
قَالَ فَأَخَذْنَا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَتَرَكْنَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَتَعَقَّبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقٍ وَمَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ تُشْبِهُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَقَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَبِمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وإسناده على شرط الشيخين وقد صححه بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِرُوَاةٍ ثِقَاتٍ لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثٍ وَلَا تُشْبِهُوا الْوِتْرَ بِثَلَاثٍ وَأَخْرَجَ بن نَصْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ كَرِهَ الثَّلَاثَ فِي الْوِتْرِ وَقَالَ لَا يُشْبِهُ التَّطَوُّعُ الْفَرِيضَةَ
فَهَذَا كُلُّهُ يَقْدَحُ فِي الْإِجْمَاعِ الَّذِي زَعَمَهُ لَكِنْ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ لَمْ نَجِدْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرًا ثَابِتًا صَرِيحًا أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ مَوْصُولَةٍ
نَعَمْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنِ الرَّاوِي هَلْ هِيَ مَوْصُولَةٌ أَوْ مَفْصُولَةٌ انْتَهَى
يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثَ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَقْعُدُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ أَيْ فَيُصَلِّيهِنَّ بِتَشَهُّدٍ وَاحِدٍ
قَالَ الْحَافِظُ وَيُجَابُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ بِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدِيثَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الْمَرْوِيَّ فِي السُّنَنِ وَحَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا لَمْ يَثْبُتَا عِنْدَهُ
قُلْتُ هَذَا احْتِمَالٌ ضَعِيفٌ وَالْجَمْعُ بين حديث الايثار بِثَلَاثٍ
وَحَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ التَّشْبِيهِ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى صَلَاةِ الثَّلَاثِ بِتَشَهُّدَيْنِ
وَقَدْ فَعَلَهُ السَّلَفُ أَيْضًا فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْهَضُ فِي الثَّالِثَةِ مِنَ الْوِتْرِ بِالتَّكْبِيرِ يَعْنِي إِذَا قَامَ مِنْ سُجُودِهِ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ قَامَ مُكَبِّرًا مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ لِلتَّشَهُّدِ
وَمِنْ طَرِيقِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ عُمَرَ أَوْتَرَ بِثَلَاثٍ لَمْ يُسَلِّمْ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ ومن طريق عبد الله بن طاووس عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَقْعُدُ بَيْنَهُنَّ وَمَنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَطَاءٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ مثله
وروى محمد بن نصر عن بن مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُمْ أَوْتَرُوا بِثَلَاثٍ كَالْمَغْرِبِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُمُ النَّهْيُ الْمَذْكُورُ
قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن ماجه وفي حديثهما قل ياأيها الكافرون وقل هو الله أحد انتهى(4/210)
[1424] (وفي الثالثة بقل هو الله أحد) الحديث
فيه لين كما سيجيء
ورواه بن حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ
قَالَ الْعُقَيْلِيُّ إِسْنَادُهُ صالح
وقال بن الْجَوْزِيِّ أَنْكَرَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ زِيَادَةَ المعوذتين وروى بن السَّكَنِ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ كَذَا فِي السُّبُلِ
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَعَبْدُ العزيز هذا والد بن جُرَيْجٍ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ خُصَيْفٌ وَهُوَ أَبُو عَوْنٍ خُصَيْفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
(بَاب الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ)
[1425] (عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ) بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ وَالرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَهُوَ غَيْرُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الشَّامِيِّ الَّذِي خَرَّجَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَحَدِيثُهُ مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالزَّايِ الْمَكْسُورَةِ وَلَمْ يُخَرِّجَا لِبُرَيْدٍ هَذَا شَيْئًا
وَاسْمُ أَبِي مَرْيَمَ وَالِدُ هَذَا مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّلُولِيُّ وَاسْمُ وَالِدِ ذَاكَ عَبْدُ اللَّهِ (أَقُولُهُنَّ) أَيْ أَدْعُو بِهِنَّ (فِي الْوِتْرِ) وَفِي رِوَايَةٍ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ وَظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيُقَيِّدُونَ الْقُنُوتَ فِي الْوِتْرِ بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (اللَّهُمَّ اهْدِنِي) أَيْ ثَبِّتْنِي عَلَى الْهِدَايَةِ أَوْ زِدْنِي مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْوُصُولِ بِأَعْلَى مَرَاتِبِ النِّهَايَةِ (فِيمَنْ هَدَيْتَ) أَيْ فِي جُمْلَةِ مَنْ هَدَيْتُمْ أَوْ هَدَيْتَهُ مِنَ الأنبياء والأولياء كما قال سيلمان وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ) أَيْ مِنْ أَسْوَأِ الْأَدْوَاءِ والأخلاق والأهواء
وقال بن الْمَلَكِ مِنَ الْمُعَافَاةِ الَّتِي هِيَ دَفْعُ السُّوءِ (وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ) أَيْ تَوَلَّ أَمْرِي(4/211)
وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي فِي جُمْلَةِ مَنْ تَفَضَّلْتَ عَلَيْهِمْ
قَالَ الْمُظْهِرُ أَمْرُ مُخَاطَبٍ مِنْ تَوَلَّى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا وَقَامَ بِحِفْظِهِ وَحِفْظِ أَمْرِهِ (وَبَارِكْ) أَيْ أَكْثِرِ الْخَيْرَ (لِي) أَيْ لِمَنْفَعَتِي (فِيمَا أَعْطَيْتَ) أَيْ فِيمَا أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعُمُرِ وَالْمَالِ وَالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ (وَقِنِي) أَيِ احْفَظْنِي (شَرَّ مَا قَضَيْتَ) أَوْ مَا قَدَّرْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ وَقَدَرٍ فَسَلِّمْ لِيَ الْعَقْلَ وَالدِّينَ (تَقْضِي) أَيْ تَقْدُرُ أَوْ تَحْكُمُ بِكُلِّ مَا أَرَدْتَ (وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ) فَإِنَّهُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِكَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْكَ شَيْءٌ (إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (لَا يَذِلُّ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ لَا يَصِيرُ ذَلِيلًا أَيْ حَقِيقَةً وَلَا عِبْرَةَ بِالصُّورَةِ (مَنْ وَالَيْتَ) الْمُوَالَاةُ ضِدُّ الْمُعَادَاةِ (وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ) هَذِهِ الْجُمْلَةُ لَيْسَتْ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ إِنَّمَا وُجِدَتْ فِي بَعْضِهَا نَعَمْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ (تَبَارَكْتَ) أَيْ تَكَاثَرَ خَيْرُكَ في الدارين (ربنا) بالنصب أي ياربنا (وَتَعَالَيْتَ) أَيِ ارْتَفَعَتْ عَظَمَتُكَ وَظَهَرَ قَهْرُكَ وَقُدْرَتُكَ على من في الكونين وقال بن الْمَلَكِ أَيِ ارْتَفَعْتَ عَنْ مُشَابَهَةِ كُلِّ شَيْءٍ
قاله علي القارىء
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ التَّصْرِيحُ بِكَوْنِهِ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَقَالَ تَفَرَّدَ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ شَيْبَةَ الْحِزَامِيُّ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ فَلَا يَضُرُّ تَفَرُّدُهُ وَأَمَّا الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَهُوَ ثَابِتٌ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى وَضَعَّفَ أَبُو دَاوُدَ ذِكْرَ الْقُنُوتِ فيه وثابت أيضا في حديث بن مسعود عند بن أَبِي شَيْبَةَ قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَ ويعضد كونه بعد الركوع أولى فِعْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِذَلِكَ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الصُّبْحِ
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ بَعْدَ الرَّكْعَةِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ حَتَّى كَانَ عُثْمَانُ فَقَنَتَ قَبْلَ الرَّكْعَةِ لِيُدْرِكَ النَّاسُ قَالَ الْعِرَاقِيُّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ هَذَا يَقُولُ فِي الوتر في القنوت
وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ شَيْبَانَ وَلَا نَعْرِفُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُنُوتِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قُنُوتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَفِي مَوْضِعِ الْقُنُوتِ مِنْهَا فَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا قُنُوتَ إِلَّا فِي الْوِتْرِ وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْقُنُوتُ بعد الركوع(4/212)
وَقَدْ رُوِيَ الْقُنُوتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَمَذْهَبُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَإِسْحَاقَ أَنْ يَقْنُتَ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وإسحاق لا يقنت إلا في النصف الآخر مِنْهُ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِفِعْلِ أُبَيِّ بْنِ كعب وبن عمر ومعاذ القارىء
انْتَهَى
[1427] (يَقُولُ فِي آخِرِ وِتْرِهِ) أَيْ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْهُ كَمَا فِي رِوَايَةٍ قَالَ مَيْرَكُ وَفِي إِحْدَى رِوَايَاتِ النَّسَائِيِّ كَانَ يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَتَبَوَّأَ مَضْجَعَهُ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ) أَيْ مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ جَمَالِكَ (مِنْ سَخَطِكَ) أَيْ مِنْ بَقِيَّةِ صِفَاتِ جَلَالِكَ (وَبِمُعَافَاتِكَ) مِنْ أَفْعَالِ الْإِكْرَامِ وَالْإِنْعَامِ (مِنْ عُقُوبَتِكَ) مِنْ أَفْعَالِ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ) أَيْ بِذَاتِكَ مِنْ آثَارِ صِفَاتِكَ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إلى قوله تعالى ويحذركم الله نفسه وَإِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ (لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ) أَيْ لَا أُطِيقُهُ وَلَا أَبْلُغُهُ حَصْرًا وَعَدَدًا (أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) أَيْ ذَاتِكَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ هِشَامٌ أَقْدَمُ شَيْخٍ لِحَمَّادٍ وَبَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ قِيلَ لِأَبِي جَعْفَرٍ الدَّارِمِيِّ رَوَى عَنْ هَذَا الشَّيْخِ غَيْرُ حَمَّادٍ فَقَالَ لَا أَعْلَمُ وَلَيْسَ لِحَمَّادٍ عَنْهُ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو الْفَزَارِيُّ مِنَ الثِّقَاتِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ شَيْخٌ قَدِيمٌ ثِقَةٌ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ فَقَدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدَيْ عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ في الصلاة وبن مَاجَهْ فِي الدُّعَاءِ انْتَهَى(4/213)
(قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَى عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ مُعَلِّقًا مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ هُوَ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ
وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ بِطُولِهِ وَذَكَرَ الْقُنُوتَ فِيهِ (عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ) فَفِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ تَابَعَ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ (وَرُوِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) وَهَذَا مُتَابِعٌ لِعِيسَى بْنِ يُونُسَ (عَنْ مِسْعَرٍ) وَهَذَا مُتَابِعٌ لِفِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ (وَحَدِيثُ سَعِيدٍ) بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ (رَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) فَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ خَالَفَ عِيسَى بْنَ يُونُسَ (وَكَذَلِكَ) أَيْ بِعَدَمِ ذِكْرِ الْقُنُوتِ فِي الْمَتْنِ وَإِسْقَاطِ اسْمِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي الْإِسْنَادِ (وَسَمَاعُهُ) أَيْ سَمَاعُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ (مَعَ عِيسَى بْنِ يُونُسَ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْقُنُوتَ) فَدَلَّ عَلَى وَهْمِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ (وَقَدْ رَوَاهُ(4/214)
أَيْضًا هِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ وَشُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْقُنُوتَ) فَكَيْفَ يَذْكُرُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ هَذَا اللَّفْظَ عَنْ قَتَادَةَ
وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى وَهْمِ عِيسَى
قُلْتُ بَلْ عِيسَى بْنُ يُونُسَ نَفْسُهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عِيسَى بن يونس عن سعيد بن أبي عروبة وَحَدِيثُهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ (وَحَدِيثُ زُبَيْدٍ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ وَشُعْبَةُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ) وَرِوَايَةُ هَؤُلَاءِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ (كُلُّهُمْ عَنْ زُبَيْدٍ لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْقُنُوتَ) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْقُنُوتِ مِنْ حَدِيثِ زُبَيْدٍ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ (وَلَيْسَ هُوَ) أَيْ ذكر القنوت (بالمشهور) عند الْمُحَدِّثِينَ (مِنْ حَدِيثِ حَفْصٍ) بْنِ غِيَاثٍ بَلْ (نَخَافُ أَنْ يَكُونَ) هَذَا الْوَهْمُ (عَنْ حَفْصٍ عَنْ غَيْرِ مِسْعَرٍ) فَنَسَبَهُ الرَّاوِي إِلَى مِسْعَرٍ (يُرْوَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (أَنَّ أُبَيًّا كَانَ يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ) فَكَيْفَ يَتْرُكُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ قِرَاءَةِ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ فِي بَاقِي السَّنَةِ
فَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرِ الْقُنُوتَ وَلَا ذَكَرَ أُبَيًّا وَلَا جَمَاعَةً رَوَوْهُ أَيْضًا لَمْ يَذْكُرُوا الْقُنُوتَ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَلَيْسَ هُوَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِ حَفْصٍ انْتَهَى
[1428] (عَنْ مُحَمَّدٍ) هُوَ بن سِيرِينَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ(4/215)
[1429] (عَنِ الْحَسَنِ) هُوَ الْبَصْرِيُّ (جَمَعَ النَّاسَ) أَيِ الرِّجَالَ وَأَمَّا النِّسَاءُ فَجَمَعَهُنَّ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (فَكَانَ) أُبَيٌّ (يُصَلِّي لَهُمْ عِشْرِينَ لَيْلَةً) يَعْنِي مِنْ رَمَضَانَ (وَلَا يَقْنُتُ بِهِمْ) فِي الْوِتْرِ (إِلَّا فِي النِّصْفِ الْبَاقِي) أَيِ الْأَخِيرِ (فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ) هِيَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ (فَكَانُوا يَقُولُونَ أَبَقَ أُبَيٌّ) أَيْ هَرَبَ عَنَّا
قَالَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِمْ أَبَقَ إِظْهَارُ كَرَاهِيَةِ تَخَلُّفِهِ فَشَبَّهُوهُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِذْ أَبَقَ إلى الفلك المشحون سَمَّى هَرَبَ يُونُسَ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّهِ إِبَاقًا مَجَازًا وَلَعَلَّ تَخَلُّفَ أُبَيٍّ كَانَ تَأَسِّيًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ صَلَّاهَا بِالْقَوْمِ ثُمَّ تَخَلَّفَ انْتَهَى
أَوْ يُحْمَلُ عَلَى عذر من الأعذار
قال بن حَجَرٍ الْمَكِّيُّ وَكَانَ عُذْرُهُ أَنَّهُ يُؤْثِرُ التَّخَلِّي فِي هَذَا الْعَشْرِ الَّذِي لَا أَفْضَلَ مِنْهُ لِيَعُودَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ فِي خَلْوَتِهِ فِيهِ مَا لَا يَعُودُ عَلَيْهِ فِي جَلْوَتِهِ
ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَالْحَسَنُ وُلِدَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمَاتَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فِي أَوَائِلِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ انْتَهَى
وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ إِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يُدْرِكْ عمر وضعفه النووي في الخلاصة
وأخرج بن عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاتِكَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى آخِرِهِ وَأَبُو عَاتِكَةَ ضَعِيفٌ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ
وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل بَابُ تَرْكِ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ رَمَضَانَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَمَّ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ فَكَانَ لَا يَقْنُتُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَيَقْنُتُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَلَمَّا دَخَلَ الْعَشْرُ أَبَقَ وخلا عنهم فصلى بهم معاذ القارىء
وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ بُدُوِّ الْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ فَقَالَ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشًا فَوَرَطُوا مُتَوَرَّطًا خَافَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا كَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ مِنْ رَمَضَانَ قَنَتَ يَدْعُو لَهُمْ وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيُّ إِذَا انْتَصَفَ رمضان لعن الكفرة
وكان بن عُمَرَ لَا يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَلَا فِي الوتر إلا في النصف الأواخر مِنْ رَمَضَانَ
وَعَنِ الْحَسَنِ كَانُوا يَقْنُتُونَ فِي النصف الآخر مِنْ رَمَضَانَ
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ وَكُنَّا نَحْنُ بِالْمَدِينَةِ نَقْنُتُ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَ مِنْ رَمَضَانَ
وَكَانَ الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ وَقَتَادَةُ يَقُولُونَ الْقُنُوتُ فِي النِّصْفِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَسَرَدَ آثَارًا أُخَرَ بِأَسَانِيدِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ(4/216)
6 - (باب في الدعاء بعد الوت)
ر [1430] (قَالَ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) أَيِ الْبَالِغِ أَقْصَى النَّزَاهَةِ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ لَيْسَ فِيهِ غَايَةُ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ
قَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ الطَّاهِرُ الْمُنَزَّهُ عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ وَفُعُولٌ بِالضَّمِّ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُبَالَغَةِ انْتَهَى
وَزَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى وَفِي آخِرِهِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ فِي الْآخِرَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1431] (مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ) وَالْحَدِيثُ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْبَابِ وَلَعَلَّهُ سَقَطَ لَفْظُ الْبَابِ قَبْلَ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَضَاءِ الْوِتْرِ إِذَا فَاتَ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ كَذَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ
قَالَ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ وَعُبَيْدٌ السَّلْمَانِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْتَشِرِ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمِنَ الْأَئِمَّةِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَتَى يُقْضَى عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا مَا لَمْ يُصَلِّ الصُّبْحَ وَهُوَ قول بن عَبَّاسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمَكْحُولٍ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَأَبِي خَيْثَمَةَ حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ ثَانِيهَا أَنَّهُ يَقْضِي الْوِتْرَ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ وَلَوْ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ ثَالِثُهَا أَنَّهُ يُقْضَى بَعْدَ الصُّبْحِ وَبَعْدَ طُلُوعِ(4/217)
الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وعطاء والحسن وطاووس وَمُجَاهِدٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَرُوِيَ أَيْضًا عن بن عُمَرَ ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِيَ الْأَقْوَالِ لَا نُطِيلُ الْكَلَامَ بِذِكْرِهَا
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِالْأَمْرِ بِقَضَاءِ الْوِتْرِ عَلَى وُجُوبِهِ وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى النَّدْبِ قَالَ المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مُرْسَلًا وَقَالَ وَهَذَا أَصَحُّ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ
(بَاب فِي الْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ)
[1432] (أَوْصَانِي خَلِيلِي) قَالَ النَّوَوِيُّ لَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ أَنْ يَتَّخِذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهُ خَلِيلًا وَلَا يَمْتَنِعُ اتِّخَاذُ الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلِيلًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ الْحَثُّ عَلَى الضُّحَى وَصِحَّتُهَا رَكْعَتَيْنِ وَالْحَثُّ عَلَى صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَعَلَى الْوِتْرِ وَتَقْدِيمِهِ على النوم لمن خاف أن يَسْتَيْقِظَ آخِرَ اللَّيْلِ (وَأَنْ لَا أَنَامَ إِلَّا عَلَى وِتْرٍ) إِنَّمَا أَمَرَهُ بِتَقْدِيمِ الْوِتْرِ عَلَى النَّوْمِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَثِقُ عَلَى الِانْتِبَاهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ الصَّائِغِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ
[1433] (لَا أَدَعُهُنَّ) أَيْ أَتْرُكُهُنَّ (مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) يَعْنِي أَيَّامَ الْبِيضِ وَقِيلَ يَوْمًا مِنْ أَوَّلِهِ وَيَوْمًا مِنْ وَسَطِهِ وَيَوْمًا مِنْ آخِرِهِ وَقِيلَ كُلُّ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ عَشَرٍ وَقِيلَ مُطْلَقًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِنَحْوِهِ وَلَيْسَ فِيهِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ(4/218)
[1434] (بِالْحَزْمِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الزَّايِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْحَزْمُ ضَبْطُ الرَّجُلِ أَمْرَهُ وَالْحَذَرُ مِنْ فَوَاتِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ حَزَمْتُ الشَّيْءَ أَيْ شَدَدْتُهُ وَمِنْهُ حَدِيثُ الْوِتْرِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ أَخَذْتَ بِالْحَزْمِ انْتَهَى
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَخَذَ هَذَا بِالْحَذَرِ أَيْ حَذَرًا مِنَ الْفَوَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (بِالْقُوَّةِ) أَيْ بِالْعَمَلِ الْقَوِيِّ وَبِثَبْتِ الْعَزِيمَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
(بَاب فِي وَقْتِ الْوِتْرِ)
[1435] (أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَوَسَطَهُ وَآخِرَهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ جَوَازُ الْإِيتَارِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِ اللَّيْلِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ وَقْتِهِ فَالصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَقْتُهُ بِالْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَيَمْتَدُّ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي (وَلَكِنِ انْتَهَى وِتْرُهُ حِينَ مَاتَ إِلَى السَّحَرِ) بِفَتْحِ السِّينِ وَالْحَاءِ مَعْنَاهُ كَانَ آخِرَ الْإِيتَارِ فِي السَّحَرِ وَالْمُرَادُ بِهِ آخِرُ اللَّيْلِ كَمَا قَالَتْ في الروايات
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَحَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ هُوَ مِنْ رِوَايَة أَبِي إِدْرِيس السَّكُونِيّ عَنْ جُبَيْر بْنِ نُفَيْر
قَالَ الْبَزَّار هُوَ حَدِيث حَسَن الْإِسْنَاد وَقَالَ غَيْره أَبُو إِدْرِيس لَيْسَ بِالْخَوْلَانِيِّ فَحَاله مَجْهُول وَلَعَلَّ الْبَزَّار حَسَّنَهُ قبولا منه لرواية المسانيد(4/219)
الْأُخْرَى فَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِيتَارِ آخِرَ اللَّيْلِ وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[1436] (قَالَ بَادِرُوا الصُّبْحَ بِالْوِتْرِ) قَالَ عَلِيٌّ القارىء أَيْ أَسْرِعُوا بِأَدَاءِ الْوِتْرِ قَبْلَ الصُّبْحِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قِيلَ لَا وِتْرَ بَعْدَ الصُّبْحِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَمَالِكٌ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ يَقْضِيهِ مَتَى كَانَ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرٍ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ
وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ الْوِتْرِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُصَلِّي صَاحِبَ تَرْتِيبٍ وَصَلَّى الصُّبْحَ قَبْلَ الْوِتْرِ ذَاكِرًا لَمْ يَصِحَّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[1437] (قَالَتْ رُبَّمَا أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ) وَهُوَ الْقَلِيلُ الْأَسْهَلُ (وَرُبَّمَا أَوْتَرَ مِنْ آخِرِهِ) وَهُوَ الْكَبِيرُ الْأَفْضَلُ بِحَسَبِ مَا رَأَى فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَقْتِ (رُبَّمَا أَسَرَّ وَرُبَّمَا جَهَرَ) أَيْ فِي اللَّيْلِ بِحَسَبِ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ وَالْحَالَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَفِي حَدِيثِهِمَا فَقُلْتُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً
[1438] (قَالَ اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا) فِي فَتْحِ الْبَارِي أَنَّهُ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي مَشْرُوعِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ مِنْ جُلُوسِ وَالثَّانِي مَنْ أَوْتَرَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ مِنَ اللَّيْلِ هَلْ يَكْتَفِي بِوِتْرِهِ الْأَوَّلِ وَيَتَنَفَّلُ مَا شَاءَ أَوْ يَشْفَعُ وِتْرَهُ بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يَتَنَفَّلُ ثُمَّ إِذَا فَعَلَ هَذَا هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى وِتْرٍ آخَرَ أَوْ لَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا(4/220)
مُخْتَصَّةً بِمَنْ أَوْتَرَ آخِرَ اللَّيْلِ
وَأَجَابَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ بِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَحَمَلَهُ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ لِبَيَانِ جَوَازِ النَّفْلِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَجَوَازِ التَّنَفُّلِ جَالِسًا
وَأَمَّا الثَّانِي فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي شَفْعًا مَا أَرَادَ وَلَا يَنْقُضُ وِتْرَهُ الْأَوَّلَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
(بَابٌ فِي نَقْضِ الْوِتْرِ)
[1439] (لَا وَتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ) قَالَ السُّيُوطِيُّ هَذَا جَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ الَّذِينَ يَنْصِبُونَ الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ فَإِنَّهُ لَا يُبْنَى الِاسْمُ مَعَهَا عَلَى مَا يُنْصَبُ بِهِ فَيُقَالُ فِي الْمُثَنَّى لَا رَجُلَيْنِ فِي الدَّارِ فَجِيءَ لَا وَتْرَانِ بِالْأَلِفِ عَلَى غَيْرِ لُغَةِ الْحِجَازِ عَلَى حد من قرأ إن هذان لساحران انْتَهَى
قَالَ فِي النَّيْلِ وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْوِتْرِ
وَمَنْ جُمْلَةِ الْمُحْتَجِّينَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ طَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ قَالَ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَقَالُوا إِنَّ مَنْ أَوْتَرَ وَأَرَادَ الصَّلَاةَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْقُضُ وِتْرَهُ وَيُصَلِّي شَفْعًا حَتَّى يُصْبِحَ
قَالَ فَمِنَ الصَّحَابَةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَعَائِذُ بْنُ عَمْرٍو وَطَلْقُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ وَرَوَاهُ بن أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أبي وقاص وبن عمر وبن عَبَّاسٍ
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ وَالشُّعَبِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَكْحُولٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَوَى ذَلِكَ بن أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمْ فِي الْمُصَنَّفِ أَيْضًا
وَقَالَ به من التابعين طاووس وَأَبُو مِجْلَزٍ وَمِنَ الْأَئِمَّةِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وبن الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ رَوَى ذَلِكَ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُمْ فِي سُنَنِهِ وَقَالَ إِنَّهُ أَصَحُّ وَرَوَاهُ الْعِرَاقِيُّ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عن كافة أَهْلِ الْفُتْيَا
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ جَوَازَ نَقْضِ الْوِتْرِ وَقَالُوا يُضِيفُ إِلَيْهَا أُخْرَى وَيُصَلِّي مَا بَدَا لَهُ ثُمَّ يُوتِرُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ
قَالَ وَذَهَبَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ انتهى
قال(4/221)
الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَيْسُ بْنُ طَلْقٍ قَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ انْتَهَى
(باب القنوت في الصلاة)
[1440] (فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ) قَالَ النَّوَوِيُّ يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ إِذَا نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّ الْقُنُوتَ مَسْنُونٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ دَائِمًا وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلَهُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ إِنْ نَزَلَتْ نَازِلَةٌ كَعَدُوٍّ وَقَحْطٍ وَوَبَاءٍ وَعَطَشٍ وَضَرَرٍ ظَاهِرٍ فِي الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَنَتُوا فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَإِلَّا فَلَا
وَمَحِلُّ الْقُنُوتِ بَعْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ وَفِي اسْتِحْبَابِ الْجَهْرِ بِالْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُ مَا يُجْهَرُ وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِيهِ وَلَا يَمْسَحُ الْوَجْهَ وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ مَسْحُهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ بَلْ يَحْصُلُ بِكُلِّ دُعَاءٍ وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُورِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ إِلَخْ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ لَا شَرْطٌ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَآخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا قُنُوتَ فِي الصُّبْحِ
وَقَالَ مَالِكٌ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَدَلَائِلُ الْجَمِيعِ مَعْرُوفَةٌ وَقَدْ أَوْضَحْتُهَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1441] (كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصبح
زاد بن مُعَاذٍ وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ) وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ(4/222)
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ الْقُنُوتُ فِي الْمَغْرِبِ وَالْفَجْرِ قَالَ فِي النَّيْلِ تَمَسَّكَ بِهَذَا الطَّحَاوِيُّ فِي تَرْكِ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ قَالَ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى نَسْخِهِ فِي الْمَغْرِبِ فَيَكُونُ فِي الصُّبْحِ كَذَلِكَ وَقَدْ عَارَضَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي الصُّبْحِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ تَرَكَ أَمْ لَا فَيُتَمَسَّكُ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
قال بن الْقَيِّمِ صَحَّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ وَاللَّهِ لَأَنَا أَقْرَبُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَأَحَبَّ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقُنُوتِ سُنَّةٌ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الَّذِينَ يَكْرَهُونَ الْقُنُوتَ فِي الْفَجْرِ مطلقا عند النَّوَازِلِ وَغَيْرِهَا وَيَقُولُونَ هُوَ مَنْسُوخٌ فَأَهْلُ الْحَدِيثِ مُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ مَنِ اسْتَحَبَّهُ عِنْدَ النَّوَازِلِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ يَقْنُتُونَ حَيْثُ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتْرُكُونَهُ حَيْثُ تَرَكَهُ فَيَقْتَدُونَ بِهِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ
انْتَهَى مُلَخَّصًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مُشْتَمِلًا عَلَى الصَّلَاتَيْنِ
[1442] (الْوَلِيدُ) قَالَ السُّيُوطِيُّ صَوَابُهُ أَبُو الوليد كما في رواية بن داسة وبن الْأَعْرَابِيِّ وَاسْمُهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الطَّيَالِسِيُّ انْتَهَى (اللَّهُمَّ نَجِّ) أَيْ خَلِّصْ (اللَّهُمَّ اشْدُدْ) أَيْ خُذْهُمْ أَخْذًا شَدِيدًا (وَطْأَتَكَ) الْوَطْأَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ أَيْ شِدَّتَكَ وعقوبتك
قال الطيبي إن الوطأ فِي الْأَصْلِ الدَّوْسُ بِالْقَدَمِ فَسَمَّى بِهِ الْغَزْوَ وَالْقَتْلَ لِأَنَّ مَنْ يَطَأُ عَلَى الشَّيْءِ بِرِجْلِهِ فَقَدِ اسْتَقْصَى فِي إِهْلَاكِهِ وَإِمَاتَتِهِ انْتَهَى (اجْعَلْهَا) أَيْ وَطْأَتَكَ (سِنِينَ) جَمْعُ سَنَةٍ وَهُوَ الْقَحْطُ أَيِ اجْعَلْ عَذَابَكَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ تُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ قَحْطًا عَظِيمًا سَبْعَ سِنِينَ (كَسِنِي يُوسُفَ) بِكَسْرِ السِّينِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ أَيْ كَسِنِي أَيَّامِ يُوسُفَ مِنَ الْقَحْطِ الْعَامِ فِي سَبْعَةِ أَعْوَامٍ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَمَعْنَى الْوَطْأَةِ الْعُقُوبَةُ لَهُمْ وَالْإِيقَاعُ بِهِمْ وَمَعْنَى سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ الْقَحْطُ(4/223)
وَهِيَ السَّبْعُ الشِّدَادُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ (قَدْ قَدِمُوا) أَيِ الْوَلِيدُ وَسَلَمَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ نَجَّاهُمُ اللَّهُ مِنْ دَارِ الْكُفَّارِ وَكَانَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ لَهُمْ لِأَجْلِ تَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَقَدْ خَلَصُوا مِنْهُمْ وجاؤوا بِالْمَدِينَةِ فَمَا بَقِيَ حَاجَةٌ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِذَلِكَ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ إِثْبَاتُ الْقُنُوتِ فِي غَيْرِ الْوِتْرِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لِقَوْمٍ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ وَأَنَّ الدُّعَاءَ عَلَى الْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ لَا يُفْسِدُهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
[1443] (شَهْرًا متتابعا) أي مواليا فِي أَيَّامِهِ أَوْ فِي صَلَاتِهِ (فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) فِيهِ أَنَّ الْقُنُوتَ لِلنَّوَازِلِ لَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ فَهُوَ يَرُدُّ عَلَى مَنْ خَصَّصَهُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ عِنْدَهَا (إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَوْضِعَ الْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوعِ لَا قَبْلَهُ وَهُوَ الثَّابِتُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ (عَلَى أَحْيَاءَ) أَيْ قَبَائِلَ (مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ (عَلَى رِعْلٍ) بِرَاءٍ مَكْسُورَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ قَبِيلَةٌ مِنْ سُلَيْمٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ وَهُوَ مَا بَعْدَهُ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ (وَذَكْوَانَ) هُمْ قَبِيلَةٌ أَيْضًا مِنْ سُلَيْمٍ (وَعُصَيَّةٍ) تَصْغِيرُ عَصَا سُمِّيَتْ بِهِ قَبِيلَةٌ مِنْ سُلَيْمٍ أَيْضًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ أَبُو الْعَلَاءِ العبدي مولاهم الكوفي نزل المداين وَقَدْ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَكَانَ يُقَالُ تَغَيَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ
وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ فِي حَدِيثِهِ وَهْمٌ وَتَغَيَّرَ بأخرة
وزان قصبة بمعنى الأخير
وقال بن حِبَّانَ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ إِذَا انْفَرَدَ(4/224)
[1444] (فَقَالَ نَعَمْ) قَنَتَ فِيهَا (قَالَ مُسَدَّدٌ بِيَسِيرٍ) أَيْ زَمَانٍ يَسِيرٍ وَهُوَ شَهْرٌ كَمَا فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُسَدَّدٍ
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
[1445] (قَنَتَ شَهْرًا ثُمَّ تَرَكَهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَمَعْنَى قَوْلِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ أَيْ تَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَى هَذِهِ الْقَبَائِلِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ تَرَكَ الْقُنُوتَ فِي الصَّلَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَلَمْ يَتْرُكْهُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَلَا تَرَكَ الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ قَوْلُهُ اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي قُنُوتِهِ إِلَى حَيَاتِهِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قُنُوتِهِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَفِي مَوْضِعِ الْقُنُوتِ مِنْهَا فَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ لَا قُنُوتَ إِلَّا فِي الْوِتْرِ وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْقُنُوتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ
وَقَدْ رُوِيَ الْقُنُوتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
فَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَمَذْهَبُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَإِسْحَاقَ لَا يَقْنُتُ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ مِنْهُ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِفِعْلِ أبي بن كعب وبن عمر ومعاذ القارىء
انْتَهَى
وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنْ لَا يَقْنُتَ فِي الصَّلَوَاتِ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَحَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ حَتَّى قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ نزلت نازلة بالمسلمين قنت فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ وَتَأَوَّلَ قَوْلَهُ تَرَكَهُ أَيْ تَرَكَ اللَّعْنَ وَالدُّعَاءَ عَلَى الْقَبَائِلِ أَوْ تَرَكَهُ فِي الْأَرْبَعِ دُونَ الصُّبْحِ بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ مَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَتَمَّ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهِ ثُمَّ تَرَكَهُ
[1446] (قَامَ هُنَيَّةً) أَيْ قَدْرًا يَسِيرًا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ(4/225)
11 - (باب فَضْلِ التَّطَوُّعِ فِي الْبَيْتِ)
[1447] (احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ حُجْرَةً) أَيْ حَوَّطَ مَوْضِعًا مِنَ الْمَسْجِدِ بِحَصِيرٍ لِيَسْتُرَهُ لِيُصَلِّيَ فِيهِ وَلَا يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ مَارٌّ وَلَا يَتَهَوَّشَ بِغَيْرِهِ وَيَتَوَفَّرَ خُشُوعُهُ وَفَرَاغُ قَلْبِهِ
وَفِيهِ جَوَازُ مِثْلِ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَضْيِيقٌ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَنَحْوِهِمْ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ دَائِمًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُهَا بِاللَّيْلِ يُصَلِّي فِيهَا وَيَبْسُطُهَا فِي النَّهَارِ كَمَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ لَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَعَادَ إِلَى الصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ (فَتَنَحْنَحُوا) وَالتَّنَحْنُحُ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِعْلَامِ بِوُجُودِ الْمُتَنَحْنِحِ بِالْبَابِ أَوْ بِطَلَبِهِ خُرُوجَ مَنْ قَصَدَهُ إِلَيْهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ (وَحَصَّبُوا بَابَهُ) أَيْ رَمَوْهُ بِالْحَصْبَاءِ وهي الحصاء الصِّغَارُ تَنْبِيهًا لَهُ وَظَنُّوا أَنَّهُ نَسِيَ (صَنِيعُكُمْ) أَيْ شِدَّةُ حِرْصِكُمْ فِي إِقَامَةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بِالْجَمَاعَةِ (فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ) هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّوَافِلِ الْمُرَتَّبَةِ مَعَ الْفَرَائِضِ وَالْمُطْلَقَةِ إِلَّا فِي النَّوَافِلِ الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ الْعِيدُ وَالْكُسُوفُ وَالِاسْتِسْقَاءُ
قَالَهُ النَّوَوِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
[1448] (اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ) مَعْنَاهُ صَلُّوا فِيهَا وَلَا تَجْعَلُوهَا كَالْقُبُورِ مَهْجُورَةً مِنَ الصَّلَاةِ
وَالْمُرَادُ بِهِ صَلَاةُ النَّافِلَةِ أَيْ صَلُّوا النَّوَافِلَ فِي بُيُوتِكُمْ
وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْفَرِيضَةِ وَإِنَّمَا حَثَّ عَلَى النَّافِلَةِ فِي البيت لكونه أخفى وأبعد من الريا وَأَصْوَنَ مِنَ الْمُحْبِطَاتِ وَلِيَتَبَرَّكَ الْبَيْتُ بِذَلِكَ(4/226)
وَتَتَنَزَّلَ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَالْمَلَائِكَةُ وَيَنْفِرَ عَنْهُ الشَّيْطَانُ
ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه بنحوه
2 - (باب [1449] (طول القيام) فِي الصَّلَاةِ)
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ (جُهْدُ الْمُقِلِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ
قَالَ الطِّيبِيُّ الْجُهْدُ بِالضَّمِّ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ
انْتَهَى
قَالَ فِي النِّهَايَةِ فَأَمَّا فِي الْمَشَقَّةِ وَالْغَايَةِ فَالْفَتْحُ لَا غَيْرُ
انْتَهَى
أَيْ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ قَدْرُ مَا يَحْتَمِلُهُ حَالُ الْقَلِيلِ الْمَالِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قوله أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى أَنَّ الْفَضِيلَةَ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ وَقُوَّةِ التَّوَكُّلِ وَضَعْفِ الْيَقِينِ
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمُقِلِّ الْغَنِيُّ الْقَلْبِ لِيُوَافِقَ قَوْلَهُ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمُقِلِّ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ عَلَى الْجُوعِ وَبِالْغَنِيِّ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مَنْ لَا يَصْبِرُ عَلَى الْجُوعِ وَالشِّدَّةِ (وَعَقَرَ جَوَادَهُ) وَأَصْلُ الْعَقْرِ ضَرْبُ قَوَائِمِ الْحَيَوَانِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ قَائِمٌ وَالْجَوَادُ هُوَ الْفَرَسُ السَّابِقُ الْجَيِّدُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُخْتَصَرًا فِي بَابِ افْتِتَاحِ صَلَاةِ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ
3 - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ)
[1450] (قَامَ مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ بَعْضَهُ (فَصَلَّى) أَيِ التَّهَجُّدَ (وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ) بِالتَّنْبِيهِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ وَفِي(4/227)
مَعْنَاهَا مَحَارِمُهُ (فَصَلَّتْ) مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهَا وَلَوْ رَكْعَةً وَاحِدَةً (فَإِنْ أَبَتْ) أَيِ امْتَنَعَتْ لِغَلَبَةِ النَّوْمِ وَكَثْرَةِ الْكَسَلِ (نَضَحَ) أَيْ رَشَّ (فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ) وَالْمُرَادُ التَّلَطُّفُ مَعَهَا وَالسَّعْيُ فِي قِيَامِهَا لِطَاعَةِ رَبِّهَا مَهْمَا أَمْكَنَ
قَالَ تعالى وتعاونوا على البر والتقوى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِكْرَاهَ أَحَدٍ عَلَى الْخَيْرِ يَجُوزُ بَلْ يُسْتَحَبُّ (قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ) أَيْ وُفِّقَتْ بِالسَّبْقِ (فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا) وَالْوَاوُ لمطلق الجمع
وفي الترتيب الذكري إشارة لطيفة لَا تَخْفَى (فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ) وَفِيهِ بَيَانُ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَكَمَالُ الْمُلَاطَفَةِ والموافقة
قال المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
[1451] (كُتِبَا) أَيِ الصِّنْفَانِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ (مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا) أَيْ فِي جُمْلَتِهِمْ (وَالذَّاكِرَاتِ) كَذَلِكَ
وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا قال المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْجُزْءِ قَبْلَهُ أَيْ فِي بَابِ قِيَامِ اللَّيْلِ
4 - (بَابٌ في ثواب قراءة القرآن)
[1452] (خيركم) أي يامعشر القراء أو ياأيها الْأُمَّةُ أَيْ أَفْضَلُكُمْ كَمَا فِي رِوَايَةِ (مَنْ تعلم(4/228)
الْقُرْآنَ) أَيْ حَقَّ تَعَلُّمَهُ (وَعَلَّمَهُ) أَيْ حَقَّ تَعْلِيمِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ هَذَا إِلَّا بِالْإِحَاطَةِ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا وَمِثْلُ هَذَا الشَّخْصِ يُعَدُّ كَامِلًا لِنَفْسِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا وَلِذَا وَرَدَ عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلَّمَ يُدْعَى فِي الْمَلَكُوتِ عَظِيمًا وَالْفَرْدُ الْأَكْمَلُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْأَشْبَهُ فَالْأَشْبَهُ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ خَيْرُ النَّاسِ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[1453] (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ) أَيْ فَأَحْكَمَهُ كَمَا في رواية أي فأتقنه
وقال بن حَجَرٍ الْمَكِّيُّ أَيْ حَفِظَهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ (تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُلْكِ وَالسَّعَادَةِ
انْتَهَى
وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ (ضَوْؤُهُ أَحْسَنُ) اخْتَارَهُ عَلَى أَنْوَرَ وَأَشْرَقَ إِعْلَامًا بِأَنَّ تَشْبِيهَ التَّاجِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ نَفَائِسِ الْجَوَاهِرِ بِالشَّمْسِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الْإِشْرَاقِ وَالضَّوْءِ بَلْ مَعَ رِعَايَةٍ مِنَ الزِّينَةِ وَالْحُسْنِ (مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ) حَالَ كَوْنِهَا (فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا) فِيهِ تَتْمِيمُ صِيَانَةٍ مِنَ الْإِحْرَاقِ وِكِلَالِ النَّظَرِ بِسَبَبِ أَشِعَّتِهَا كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ (لَوْ كَانَتْ) أَيِ الشَّمْسُ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ (فِيكُمْ) أَيْ فِي بُيُوتِكُمْ تَتْمِيمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ الشَّمْسَ مَعَ ضَوْئِهَا وَحُسْنِهَا لَوْ كَانَتْ دَاخِلَةً فِي بُيُوتِنَا كَانَتْ آنَسَ وَأَتَمَّ مِمَّا لَوْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْهَا
وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ فِي دَاخِلِ بُيُوتِكُمْ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (فَمَا ظَنُّكُمْ) أَيْ إِذَا كَانَ هَذَا جَزَاءَ وَالِدَيْهِ لِكَوْنِهِمَا سَبَبًا بِوُجُودِهِ (بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا) أَيِ الْقُرْآنِ
قَالَ الطِّيبِيُّ اسْتِقْصَارٌ لِلظَّنِّ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَةِ مَا يُعْطَى لِلْقَارِئِ الْعَامِلِ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُلْكِ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ كَمَا أَفَادَتْهُ مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ الْمُؤَكِّدَةُ لِمَعْنَى تَحَيُّرِ الظَّانِّ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ سَهْلُ بْنُ مُعَاذٍ الْجُهَنِيُّ ضَعِيفٌ وَرَوَاهُ عَنْهُ زَبَّانُ بْنُ فَائِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا
[1454] (الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ) الْمَاهِرُ مِنَ الْمَهَارَةِ وَهِيَ الْحِذْقُ جَازَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ جَوْدَةَ(4/229)
الْحِفْظِ أَوْ جَوْدَةَ اللَّفْظِ وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ ما هو أعم مِنْهُمَا وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ كِلَاهُمَا (مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ) قَالَ النَّوَوِيُّ السَّفَرَةُ جَمْعُ سَافِرٍ كَكَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ وَالسَّافِرُ الرَّسُولُ وَالسَّفَرَةُ الرُّسُلُ لِأَنَّهُمْ يُسْفِرُونَ إِلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِ اللَّهِ وَقِيلَ السَّفَرَةُ الْكَتَبَةُ وَالْبَرَرَةُ الْمُطِيعُونَ مِنَ الْبِرِّ وَهُوَ الطَّاعَةُ وَالْمَاهِرُ الْحَاذِقُ الْكَامِلُ الْحِفْظِ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ لِجَوْدَةِ حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ
قَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنَازِلَ يَكُونُ فيها رفيقا للملائكة السفرة لا تصافه بِصِفَتِهِمْ مِنْ حَمْلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ عَامِلٌ بِعَمَلِهِمْ وَسَالِكٌ مسلكهم (والذي يقرأه وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ فَلَهُ أَجْرَانِ) فَهُوَ الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي تِلَاوَتِهِ لِضَعْفِ حِفْظِهِ فَلَهُ أَجْرَانِ أَجْرٌ بِالْقِرَاءَةِ وَأَجْرٌ لِتَشَدُّدِهِ وَتَرَدُّدِهِ فِي تِلَاوَتِهِ
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي يَتَتَعْتَعُ عَلَيْهِ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاهِرِ بِهِ بَلِ الْمَاهِرُ أَفْضَلُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا لِأَنَّهُ مَعَ السَّفَرَةِ وَلَهُ أُجُورٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ لِغَيْرِهِ وَكَيْفَ يَلْحَقُ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْتَنِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ وَكَثْرَةِ تِلَاوَتِهِ وَدِرَايَتِهِ كَاعْتِنَائِهِ حَتَّى مَهَرَ فِيهِ
انْتَهَى
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ لِلْمَاهِرٍ لَا تُحْصَى فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ وَأَكْثَرَ وَالْأَجْرُ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ وَهَذَا لَهُ أَجْرَانِ مِنْ تِلْكَ الْمُضَاعَفَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
[1455] (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ) أَيِ الْمَسْجِدِ وَأُلْحِقَ بِهِ نَحْوُ مَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ (يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ) أَيْ يَشْتَرِكُونَ فِي قِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَتَعَهَّدُونَهُ خَوْفَ النِّسْيَانِ (إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ) فَعِيلَةٌ مِنَ السُّكُونِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْوَقَارُ وَالرَّحْمَةُ أَوِ الطُّمَأْنِينَةُ (وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ) أَيْ أَحَاطَتْ بِهِمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ (وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ) أَثْنَى عَلَيْهِمْ أَوْ أَثَابَهُمْ (فِيمَنْ عِنْدَهُ) مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَكِرَامِ الْمَلَائِكَةِ
قَالَهُ عَبْدُ الرَّؤُوفِ الْمُنَاوِيُّ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ المنذري(4/230)
[1456] (وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ) أَهْلُ الصُّفَّةِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا يَأْوُونَ إِلَى مَوْضِعٍ مُظَلَّلٍ فِي الْمَسْجِدِ
وَفِي الْقَامُوسِ أَهْلُ الصُّفَّةِ كَانُوا أَضْيَافَ الْإِسْلَامِ يَبِيتُونَ فِي صُفَّةِ مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَفِي حَاشِيَةِ السُّيُوطِيِّ عَلَى الْبُخَارِيِّ عَدَّهُمْ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ وَالصُّفَّةُ مَكَانٌ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ أُعِدَّ لِنُزُولِ الْغُرَبَاءِ فِيهِ مَنْ لَا مَأْوَى لَهُ وَلَا أَهْلَ (فَقَالَ أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ) أَيْ يَذْهَبَ فِي الْغَدْوَةِ
وَهِيَ أَوَّلُ النَّهَارِ (إِلَى بُطْحَانَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الطَّاءِ اسْمُ وَادٍ بِالْمَدِينَةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسَعَتِهِ وَانْبِسَاطِهِ مِنَ الْبَطْحِ وَهُوَ البسط وضبطه بن الْأَثِيرِ بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْضًا (أَوِ الْعَقِيقِ) قِيلَ أَرَادَ الْعَقِيقَ الْأَصْغَرَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُقَامُ فِيهَا أَسْوَاقُ الْإِبِلِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَكِنْ فِي جَامِعِ الْأُصُولِ أَوْ قَالَ إِلَى الْعَقِيقِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ شَكٌّ مَنَ الرَّاوِي (كَوْمَاوَيْنِ) تَثْنِيَةُ كَوْمَاءَ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ وَاوًا وَأَصْلُ الْكَوْمِ الْعُلُوُّ أَيْ فَيَحْصُلُ نَاقَتَيْنِ عَظِيمَتَيِ السَّنَامِ وَهِيَ مِنْ خِيَارِ مَالِ الْعَرَبِ (زَهْرَاوَيْنِ) أَيْ سَمِينَتَيْنِ مَائِلَتَيْنِ إِلَى الْبَيَاضِ مِنْ كَثْرَةِ السِّمَنِ (بِغَيْرِ إِثْمٍ) كَسَرِقَةٍ وَغَصْبٍ سَمَّى مُوجِبَ الْإِثْمِ إِثْمًا مَجَازًا (وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ) أَيْ بِغَيْرِ مَا يُوجِبُهُ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (قَالُوا كُلُّنَا) أَيْ يُحِبُّ ذَلِكَ (خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَإِنْ ثَلَاثٌ فَثَلَاثٌ) وَلَفْظُ مُسْلِمٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلَاثٌ مِنَ الْآيَاتِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ مِنَ الْإِبِلِ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ مِنَ الْإِبِلِ (مِثْلَ أَعْدَادِهِنَّ) جَمْعُ عَدَدٍ (مِنَ الْإِبِلِ) بَيَانٌ لِلْأَعْدَادِ فَخَمْسُ آيَاتٍ خَيْرٌ مِنْ خَمْسِ إِبِلٍ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ من الإبل فيحتمل أن يراد أن الآيتين خَيْرٌ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَمِنْ أَعْدَادِهِمَا مِنَ الْإِبِلِ وَثَلَاثٌ خَيْرٌ مِنْ ثَلَاثٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ وَكَذَا أَرْبَعٌ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْآيَاتِ تُفَضَّلُ عَلَى أَعْدَادِهِنَّ مِنَ النُّوقِ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ
كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ تَرْغِيبَهُمْ فِي الْبَاقِيَاتِ وَتَزْهِيدَهُمْ عَنِ الْفَانِيَاتِ فَذِكْرُهُ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّقْرِيبِ إِلَى فَهْمِ الْعَلِيلِ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الدُّنْيَا أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُقَابَلَ بِمَعْرِفَةِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِثَوَابِهَا مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ(4/231)
15 - (بَاب فَاتِحَةِ الْكِتَابِ)
[1457] (وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي) قَالَ فِي النِّهَايَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَيْ تُعَادُ وَقِيلَ الْمَثَانِي السُّوَرُ الَّتِي تَقْصُرُ عَنِ الْمِئِينَ وَتَزِيدُ عَنِ الْمُفَصَّلِ كَأَنَّ الْمَئِينَ جُعِلَتْ مَبَادِيَ وَالَّتِي تَلِيهَا مَثَانِيَ انْتَهَى
وقال علي القارىء سُمِّيَتِ السَّبْعُ لِأَنَّهُمَا سَبْعُ آيَاتٍ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْكُوفِيِّ وَالْبَصْرِيِّ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَقِيلَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى بِسُورَةٍ أُخْرَى أَوْ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّةً بِمَكَّةَ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ تَعْظِيمًا لَهَا وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهَا
وَقِيلَ لِأَنَّهَا اسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لَمْ تَنْزِلْ عَلَى مَنْ قَبْلَهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ
[1458] (عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ (قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي) قال بن الْمَلَكِ وَقِصَّتُهُ أَنَّهُ قَالَ مَرَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقُلْتُ لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ فَجَلَسْتُ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَقُلْتُ لِصَاحِبِي تَعَالَ حَتَّى نَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَنْزِلِ فَنَكُونَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فَكُنْتُ أُصَلِّي فَدَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ حَتَّى صَلَّيْتُ قَالَ أَلَمْ يقل الله تعالى ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) بالطاعة (إذا دعاكم) وَحَّدَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ دَعْوَةَ اللَّهِ تُسْمَعُ مِنْ رسوله (لما يحييكم) أَيِ الْإِيمَانُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ أَوِ الْقُرْآنُ فِيهِ الْحَيَاةُ وَالنَّجَاةُ أَوِ الشَّهَادَةُ فَإِنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ يُرْزَقُونَ أَوِ الْجِهَادُ فَإِنَّهُ سَبَبُ بَقَائِكُمْ كَذَا فِي جَامِعِ الْبَيَانِ
وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ إِجَابَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَمَا أَنَّ خِطَابَهُ بِقَوْلِكَ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ لَا يُبْطِلُهَا
وَقِيلَ إِنَّ دُعَاءَهُ كَانَ لِأَمْرٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ وَلِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْطَعَ الصَّلَاةَ بِمِثْلِهِ (أَعْظَمَ سُورَةٍ) أَيْ أَفْضَلَ(4/232)
وَقِيلَ أَكْثَرَ أَجْرًا
قَالَ الطِّيبِيُّ وَإِنَّمَا قَالَ أعظم سورة اعتبار بِعَظِيمِ قَدْرِهَا وَتَفَرُّدِهَا بِالْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لَمْ يُشَارِكْهَا فِيهَا غَيْرُهَا مِنَ السُّوَرِ وَلِاشْتِمَالِهَا عَلَى فَوَائِدَ ومعان كثيرة مع وجازة ألفاظها (يارسول اللَّهِ قَوْلُكَ) أَيْ رَاعِ قَوْلَكُ وَاحْفَظْهُ (هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي) قِيلَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ العظيم الآية (والقرآن العظيم) عَطْفٌ عَلَى السَّبْعِ عَطْفَ صِفَةٍ عَلَى صِفَةٍ وَقِيلَ هُوَ عَطْفُ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ العظيم قال المنذري وأخرجه البخاري والنسائي وبن مَاجَهْ
وَأَبُو سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى أَنْصَارِيٌّ مَدَنِيٌّ وَقِيلَ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ وَقِيلَ اسْمُهُ رَافِعٌ وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ انْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ بِإِخْرَاجِ حَدِيثِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ فِي كِتَابِهِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ
6 - (باب من قال هي أَيِ الْفَاتِحَةِ)
[1459] (مِنَ الطُّوَلِ) بِضَمِّ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ جَمْعُ الطُّولَى مِثْلُ الْكُبَرِ فِي الْكُبْرَى وَأَمَّا عَدُّ الْفَاتِحَةِ مِنَ الطُّوَلِ فَمُشْكِلٌ جِدًّا وَالْحَدِيثُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بِهَذَا بَلْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ وَسَيَجِيءُ
أُوتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي (الطُّوَلِ) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أخرج بن مردوية عن بن عباس قال أُوتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبْعَ الْمَثَانِي وَهِيَ الطُّوَلُ وَأُوتِيَ مُوسَى سِتًّا فَلَمَّا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ رُفِعَتِ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتْ أَرْبَعٌ انْتَهَى
وَفِي فَتْحِ الْبَارِي
وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بإسناد صحيح عن بن عَبَّاسٍ أَنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِي هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ أَيِ السُّوَرُ مِنْ أَوَّلِ الْبَقَرَةِ إِلَى آخِرِ الْأَعْرَافِ ثُمَّ بَرَاءَةٌ وَقِيلَ يُونُسَ
قَالَ الْحَافِظُ وفي لفظ للطبري أي من حديث بن عَبَّاسٍ أَيْضًا الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ قَالَ الرَّاوِي وَذَكَرَ السَّابِعَةَ فَنَسِيتُهَا
وفي(4/233)
رواية صحيحة عند بن أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا يُونُسَ وَعِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهَا الْكَهْفِ وَزَادَ قِيلَ لَهُ مَا الْمَثَانِي قَالَ تُثَنَّى فِيهِنَّ الْقَصَصُ
وَمِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الْفَاتِحَةِ لِتَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِذَلِكَ وَالْمُرَادُ بِالسَّبْعِ الْمَثَانِي الطُّوَلِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ سَبْعُ سُوَرٍ مِنَ الْبَقَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَهُ فِي الشَّرْحِ
(وَأُوتِيَ مُوسَى) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سِتًّا) مِنَ الْأَلْوَاحِ كُتِبَتْ فِيهَا التوراة
قال السيوطي وأخرج بن أبي حاتم عن بن عَبَّاسٍ قَالَ أُعْطِيَ مُوسَى التَّوْرَاةَ فِي سَبْعَةِ أَلْوَاحٍ مِنْ زَبَرْجَدٍ فِيهَا تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَوْعِظَةٌ فَلَمَّا جَاءَ بِهَا فَرَأَى بَنِي إِسْرَائِيلَ عُكُوفًا عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ رَمَى بِالتَّوْرَاةِ مِنْ يَدِهِ فَتَحَطَّمَتْ فَرَفَعَ اللَّهُ مِنْهَا سِتَّةَ أَسْبَاعٍ وَبَقِيَ سُبْعٌ (فَلَمَّا أَلْقَى) مُوسَى (الْأَلْوَاحَ) أَيْ طرحها غضبا (رفعت اثنتان وَبَقِينَ أَرْبَعٌ) وَفِي الْحِلْيَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زُمُرُّدٍ فَلَمَّا أَلْقَاهَا مُوسَى ذَهَبَ التَّفْصِيلُ يَعْنِي أَخْبَارُ الْغَيْبِ وَبَقِيَ الْهُدَى أَيْ مَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْكَامِ
وَعِنْدَ بن المنذر عن بن جُرَيْجٍ قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّ أَلْوَاحَ مُوسَى كَانَتْ تِسْعَةً فَرُفِعَ مِنْهَا لَوْحَانِ وَبَقِيَ سَبْعَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
7 - (بَاب مَا جَاءَ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ)
[1460] (أَبَا الْمُنْذِرِ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ كُنْيَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (أَيُّ آيَةٍ مَعَكَ) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُصَاحِبًا لَكَ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَقَعَ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمَا كَانَ يَحْفَظُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لِأَنَّ مَعَ كَلِمَةٌ تَدُلُّ على المصاحبة انتهى
قال القارىء وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا ثَلَاثَةٌ مِنْ بَنِي عَمِّهِ (أَعْظَمُ) قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرُهُ الْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ أَيْ أَعْظَمُ ثَوَابًا وَأَجْرًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) فَوَّضَ الْجَوَابَ أَوَّلًا وَلَمَّا كَرَّرَ عَلَيْهِ السُّؤَالَ وَظَنَّ أَنَّ مُرَادَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَلَبُ الْإِخْبَارِ عَمَّا عِنْدَهُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِ (قُلْتُ الله لا إله(4/234)
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فَوَّضَ أَوَّلًا أَدَبًا وَأَجَابَ ثَانِيًا طَلَبًا فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَدَبِ وَالِامْتِثَالِ كَمَا هُوَ دَأْبُ أَرْبَابِ الْكَمَالِ (فَضَرَبَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي صَدْرِي) أَيْ مَحَبَّةً وَتَعْدِيَتُهُ بِفِي نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أَيْ أَوْقِعِ الصَّلَاحَ فِيهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مَحِلًّا له (ليهن لك) وفي نسخة ليهنئ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ النُّونِ عَلَى الْأَصْلِ فَحَذَفَ تَخْفِيفًا أَيْ لِيَكُنِ الْعِلْمُ هَنِيئًا لَكَ
قَالَ الطِّيبِيُّ يقال هنأني الطعام يهنأني ويهنئني وَهَنَأْتُ أَيْ تَهَنَّأْتُ بِهِ وَكُلُّ أَمْرٍ أَتَاكَ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ فَهُوَ هَنِيءٌ وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ بِتَيْسِيرِ الْعِلْمِ وَرُسُوخِهِ فِيهِ وَيَلْزَمُهُ الْإِخْبَارُ بِكَوْنِهِ عَالِمًا وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَبِي الْمُنْذِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
8 - (بَاب فِي سُورَةِ الصَّمَدِ)
[1461] (وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَالُّهَا) أَيْ يَعُدُّهَا قَلِيلَةً (إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ) قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِنَّ اللَّهَ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجَعَلَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد جزأ مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ قَالَ الْقَاضِي قَالَ الْمَازِرِيُّ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ قَصَصٌ وَأَحْكَامٌ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مُتَمَحِّضَةٌ لِلصِّفَاتِ فَهِيَ ثُلُثٌ وَجُزْءٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ ثَوَابَ قِرَاءَتِهَا يُضَاعَفُ بِقَدْرِ ثَوَابِ قِرَاءَةِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ تَضْعِيفٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ كَذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تعليقا(4/235)
19 - (بَاب فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ)
[1462] (أَلَا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ سُورَتَيْنِ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ حُجَّةٌ لِلْقَوْلِ بِجَوَازِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ
قَالَ وَفِيهِ خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ فَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَجَمَاعَةٌ لِأَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِهِ يَقْتَضِي نَقْصَ الْمَفْضُولِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّهِ نَقْصٌ وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ مَا وَرَدَ مِنْ إِطْلَاقِ أَعْظَمَ وَأَفْضَلَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَالسُّوَرِ بِمَعْنَى عَظِيمٍ وَفَاضِلٍ وَأَجَازَ ذَلِكَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرُهُ قَالُوا وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ أَجْرِ قَارِئِ ذَلِكَ وَجَزِيلِ ثَوَابِهِ وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ قَوْلِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوِ السُّورَةِ أَعْظَمُ أَوْ أَفْضَلُ بِمَعْنَى أَنَّ الثَّوَابَ الْمُتَعَلِّقَ بِهَا أَكْثَرُ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَلَمْ يَرَنِي) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سُرِرْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِهِمَا) بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ (جِدًّا) لَعَلَّهُ لِكَوْنِهِمَا قَصِيرَةً لَا كَبِيرَةً وَأَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةً كَبِيرَةً (صَلَّى بِهِمَا) أَيِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ (كَيْفَ رَأَيْتَ) هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْمُشْتَمِلَتَيْنِ عَلَى التَّعَوُّذِ مِنَ الشُّرُورِ كُلِّهَا فَمَنْ حَفِظَهُمَا فَقَدْ وُقِيَ مِنَ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
وَالْقَاسِمُ هُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمُ الشَّامِيُّ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعِدَّةٌ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
[1463] (بَيْنَ الْجُحْفَةِ) وَهِيَ مِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ قَدِيمًا وَأَهْلِ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وتسمى في هذا الزمان رابغ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ السُّيُولَ أَجْحَفَتْهَا وَهِيَ الَّتِي دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَقْلِ حُمَّى الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا فَانْتَقَلَتْ إِلَيْهَا وَكَانَ لَا يمر بها طائر إلاحم (وَالْأَبْوَاءَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَالْمَدِّ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَقِيلَ قَرْيَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْفَرْعِ وَبِهِ تُوُفِّيَتْ أُمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُحْفَةِ عِشْرُونَ أَوْ(4/236)
ثَلَاثُونَ مِيلًا (فَجَعَلَ) أَيْ طَفِقَ وَشَرَعَ (يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أَيِ الْخَلْقِ أَوْ بِئْرٍ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ (وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أَيْ بهاتين السورتين المشتملتين على ذلك (ياعقبة تَعَوَّذْ بِهِمَا) أَيْ بَلْ هُمَا أَفْضَلُ التَّعَاوِيذِ وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سُحِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكَثَ مَسْحُورًا سَنَةً حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكَيْنِ يُعَلِّمَانِهِ أَنَّهُ يَتَعَوَّذُ بِهِمَا فَفَعَلَ فَزَالَ مَا يَجِدُهُ مِنَ السِّحْرِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عليه
0 - (بَابُ كَيْفَ يُسْتَحَبُّ التَّرْتِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ)
[1464] (يُقَالُ) أَيْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ (لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ) أَيْ مَنْ يُلَازِمُهُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ لَا مَنْ يَقْرَؤُهُ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ (اقْرَأْ وَارْتَقِ) أَيْ إِلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ أَوْ مَرَاتِبِ الْقُرَبِ (وَرَتِّلْ) أَيْ لَا تَسْتَعْجِلْ فِي قِرَاءَتِكَ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ لِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ وَالشُّهُودِ الْأَكْبَرِ كَعِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ (كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ) أَيْ فِي قِرَاءَتِكَ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى وَفْقِ الْأَعْمَالِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (فِي الدُّنْيَا) مِنْ تَجْوِيدِ الْحُرُوفِ وَمَعْرِفَةِ الْوُقُوفِ (فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا) وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ عَلَى عَدَدِ آيَاتٍ الْقُرْآنِ وَجَاءَ فِي حَدِيثِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ دَرَجَةٌ فَالْقُرَّاءُ يَتَصَاعَدُونَ بِقَدْرِهَا
قَالَ الدَّانِيُّ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَدَدَ آيِ الْقُرْآنِ سِتَّةُ آلَافِ آيَةٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ فَقِيلَ وَمِائَتَا آيَةٍ وَأَرْبَعُ آيَاتٍ وَقِيلَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَقِيلَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَقِيلَ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ وَقِيلَ وَسِتٌّ وَثَلَاثُونَ انْتَهَى
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُنَالُ هَذَا الثَّوَابُ الْأَعْظَمُ إِلَّا مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَأَتْقَنَ أَدَاءَهُ وَقِرَاءَتَهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ جَاءَ فِي الْأَثَرِ عِدَادُ آيِ الْقُرْآنِ على قدر درج الجنة يقال للقارىء اقْرَأْ وَارْتَقِ الدَّرَجَ عَلَى قَدْرِ مَا تَقْرَأُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ فَمَنِ اسْتَوْفَى قِرَاءَةَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ اسْتَوْلَى عَلَى أَقْصَى دَرَجِ الْجَنَّةِ وَمَنْ قرأ جزء مِنْهَا كَانَ رُقِيُّهُ مِنَ الدَّرَجِ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُنْتَهَى الثَّوَابِ عِنْدَ مُنْتَهَى الْقِرَاءَةِ انْتَهَى
وَقَالَ الطِّيبِيُّ إِنَّ التَّرَقِّي يَكُونُ دَائِمًا فَكَمَا أَنَّ قِرَاءَتَهُ فِي حَالِ الِاخْتِتَامِ اسْتَدْعَتِ الِافْتِتَاحَ الَّذِي لَا انْقِطَاعَ لَهُ كَذَلِكَ هَذِهِ(4/237)
الْقِرَاءَةُ وَالتَّرَقِّي فِي الْمَنَازِلِ الَّتِي لَا تَتَنَاهَى وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَهُمْ كَالتَّسْبِيحِ لِلْمَلَائِكَةِ لَا تَشْغَلُهُمْ مِنْ مُسْتَلَذَّاتِهِمْ بَلْ هِيَ أَعْظَمُهَا انْتَهَى
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ مَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ يَقْرَؤُهُ دَائِمًا وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالْقُرْآنِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْهُ وَإِنْ قَرَأَهُ دَائِمًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ فَمُجَرَّدُ التِّلَاوَةِ وَالْحِفْظِ لَا يُعْتَبَرُ اعْتِبَارًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَرَاتِبُ الْعَلِيَّةُ فِي الْجَنَّةِ الْعَالِيَةِ
قَالَ المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[1465] (كَانَ يَمُدُّ مَدًّا) الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَمُدُّ مَا كَانَ فِي كَلَامِهِ مِنْ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ بِالْقَدْرِ الْمَعْرُوفِ وَبِالشَّرْطِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْوُقُوفِ
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَتْ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُدُّ قِرَاءَتَهُ فِي الْبَسْمَلَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِاسْتِحْبَابِ الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ كَوْنَ قِرَاءَتِهِ كَانَتْ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهَا أَنَسٌ تَسْتَلْزِمُ سَمَاعَ أَنَسٍ لَهَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا سُمِعَ مَجْهُورٌ بِهِ وَلَمْ يَقْصِرْ أَنَسٌ هَذِهِ الصِّفَةَ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مُطْلَقِ قِرَاءَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ
[1466] (عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ) بِمِيمَيْنِ عَلَى وَزْنِ جَعْفَرٍ مَقْبُولٌ مِنَ الثَّالِثَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (وَصَلَاتُهُ) أَيْ فِي اللَّيْلِ (فَقَالَتْ وَمَا لَكُمْ وَصَلَاتَهُ) مَعْنَاهُ أَيُّ شَيْءٍ يَحْصُلُ لَكُمْ مَعَ وَصْفِ قِرَاءَتِهِ وَأَنْتُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَفْعَلُوا مِثْلَهُ فَفِيهِ نَوْعُ تَعَجُّبٍ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطِيقُ (كَانَ يُصَلِّي وَيَنَامُ قَدْرَ مَا صَلَّى إِلَخْ) أَيْ كَانَ صَلَاتُهُ فِي أَوْقَاتٍ ثَلَاثٍ إِلَى الصُّبْحِ أَوْ كَانَ يَسْتَمِرُّ حَالُهُ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ وَالنِّيَامِ إِلَى أَنْ يُصْبِحَ (وَنَعَتَتْ) أَيْ وَصَفَتْ (حَرْفًا حَرْفًا) أَيْ مُرَتَّلَةً وَمُجَوَّدَةً مُمَيَّزَةً غَيْرَ مُخَالِطَةٍ بَلْ كَانَ يَقْرَأُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ عَدُّ حُرُوفِ ما يقرأ(4/238)
وَالْمُرَادُ حُسْنُ التَّرْتِيلِ وَالتِّلَاوَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَقُولَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ وَثَانِيهِمَا أَنْ تُقْرَأَ مُرَتِّلَةً مُبَيِّنَةً كَقِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ عن بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ
[1467] (وَهُوَ يَرْجِعُ) قَالَ النَّوَوِيُّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ وَرَجَّعَ فِي قِرَاءَتِهِ
قَالَ الْقَاضِي أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ وَتَرْتِيلِهَا
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّشْوِيقِ
قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ فَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ لِخُرُوجِهَا عَمَّا جَاءَ الْقُرْآنُ لَهُ مِنَ الْخُشُوعِ وَالْتَفَّهُمِ وَأَبَاحَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ لِلْأَحَادِيثِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلرِّقَّةِ وَإِثَارَةِ الْخَشْيَةِ وَإِقْبَالِ النُّفُوسِ عَلَى اسْتِمَاعِهِ
قُلْتُ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ أَكْرَهُ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ لَا أَكْرَهُهَا
قَالَ أَصْحَابُنَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا خِلَافٌ وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُ حَالَيْنِ فَحَيْثُ كَرِهَهَا أَرَادَ إِذَا مَطَّطَ وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ عَنْ مَوْضِعِهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ مَدِّ غَيْرِ مَمْدُودٍ أَوْ إِدْغَامِ مَا لَا يَجُوزُ إِدْغَامُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَحَيْثُ أَبَاحَهَا أَرَادَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَغَيُّرٌ لِمَوْضُوعِ الْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَمُغَفَّلٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا فَاءٌ مُشَدَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَلَامٌ
[1468] (زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ هَكَذَا فَسَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَقْلُوبِ كَمَا يُقَالُ عَرَضْتُ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ قَالَ وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ فَقَدَّمَ الْأَصْوَاتَ عَلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ثُمَّ أَسْنَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّازِقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ وَالْمَعْنَى اشْغَلُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ وَالْهَجُوا بِقِرَاءَتِهِ وَاتَّخِذُوهُ شِعَارًا وَزِينَةً
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ طَرِيقِ منصور أن(4/239)
المسموع من قراءة القارىء هُوَ الْقُرْآنُ وَلَيْسَ بِحِكَايَةٍ لِلْقُرْآنِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه النسائي وبن ماجه
[1469] (قال يزيد) بن خالد (عن بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) مَكَانَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَهِيكٍ
فَالْحَاصِلُ أن أبا الوليد يقول عن بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَهِيكٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
وَأَمَّا قتيبة ويزيد فيقولان عن بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا يُتَأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا تَحْسِينُ الصَّوْتِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَيُقَالُ تَغَنَّى الرَّجُلُ بِمَعْنَى استغنى وفيه وجه ثالث قاله بن الْأَعْرَابِيِّ
أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ فِرَاسٍ قَالَ سَأَلْتُ بن الْأَعْرَابِيِّ عَنْ هَذَا فَقَالَ إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَغَنَّى بِالرَّكْبَانِيِّ إِذَا رَكِبَتِ الْإِبِلُ وَإِذَا جَلَسَتْ فِي الْأَفْنِيَةِ وَعَلَى أَكْثَرِ أَحْوَالِهَا فَلَمَّا نَزَلَ القرآن أحب النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ هَجِيرَاهُمْ مَكَانَ التَّغَنِّي بِالرَّكْبَانِيِّ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1471] (رَثُّ الْبَيْتِ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الرَّثُّ الشَّيْءُ الْبَالِي وَفُلَانٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ وَفِي هَيْئَتِهِ رَثَاثَةٌ أَيْ بَذَاذَةٌ وَأَرَثَّ الثَّوْبُ أَيْ أَخْلَقَ انْتَهَى (قَالَ يُحَسِّنُهُ) مِنَ التَّحْسِينِ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ(4/240)
[1472] (يَعْنِي يَسْتَغْنِي بِهِ) كَذَا قَالَ وَكِيعٌ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنَ بِالْقُرْآنِ عَمَّنْ سِوَاهُ
[1473] (مَا أَذِنَ اللَّهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ اسْتَمَعَ يُقَالُ أَذِنْتُ لِشَيْءٍ أَذِنَ لَهُ أَذَنًا مَفْتُوحَةُ الْأَلِفِ وَالذَّالِ
قَالَ الشَّاعِرُ إِنَّ هَمِّي فِي سَمَاعٍ وَأَذَنْ
انْتَهَى
قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَاسْتِمَاعِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ أَيْ يَتْلُوهُ وَيَجْهَرُ بِهِ يُقَالُ مِنْهُ أَذِنَ يَأْذَنُ أَذَنًا بِالتَّحْرِيكِ انْتَهَى
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَوْلُهُ يَجْهَرُ بِهِ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ يَتَغَنَّى بِهِ قَالَ وَكُلُّ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِشَيْءٍ مُعْلِنًا بِهِ فَقَدْ تَغَنَّى بِهِ وَهَذَا وَجْهٌ رَابِعٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَى أَذِنَ فِي اللُّغَةِ الاستماع ومنه قوله تعالى وأذنت لربها قالوا ولا يجوز أن تحمل ها هنا عَلَى الِاسْتِمَاعِ بِمَعْنَى الْإِصْغَاءِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ هُوَ مَجَازٌ وَمَعْنَاهُ الْكِنَايَةُ عن تقريبه للقارىء وَإِجْزَالِ ثَوَابِهِ لِأَنَّ سَمَاعَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَخْتَلِفُ فَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ
وَقَوْلُهُ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ مَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الطَّوَائِفِ وَأَصْحَابِ الْفُنُونِ يُحَسِّنُ صَوْتَهُ بِهِ وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
1 - (بَاب التَّشْدِيدِ فِيمَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ)
[1474] (مَا مِنِ امْرِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَنْسَاهُ) أَيْ بِالنَّظَرِ أَوْ بِالْغَيْبِ أَوِ الْمَعْنَى ثُمَّ يَتْرُكُ قِرَاءَتَهُ نَسِيَ(4/241)
أَوْ مَا نَسِيَ (إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَجْذَمَ) أَيْ سَاقِطَ الْأَسْنَانِ أَوْ عَلَى هيئة المجذوم أو ليست له يدا أَوْ لَا يَجِدُ شَيْئًا يَتَمَسَّكُ بِهِ فِي عُذْرِ النِّسْيَانِ أَوْ يَنْكَسِرُ رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ حَيَاءً وَخَجَالَةً مِنْ نِسْيَانِ كَلَامِهِ الْكَرِيمِ وَكِتَابِهِ الْعَظِيمِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ مَقْطُوعَ الْيَدِ مِنَ الْجَذْمِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَقِيلَ مَقْطُوعُ الْأَعْضَاءِ يُقَالُ رَجُلٌ أَجْذَمُ إِذَا تَسَاقَطَتْ أَعْضَاؤُهُ مِنَ الْجُذَامِ وَقِيلَ أَجْذَمُ الْحُجَّةِ أَيْ لَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا لِسَانَ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَقِيلَ خَالِي اليد عن الخير
قاله القارىء وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْهَاشِمِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِيسَى بْنُ فَائِدٍ رَوَاهُ عَمَّنْ سَمِعَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَهُوَ عَلَى هَذَا مُنْقَطِعٌ أَيْضًا
2 - (بَابُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ)
[1475] (هُشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ قَبْلَ الزَّايِ قَالَ الطِّيبِيُّ حَكِيمُ بن حزام قرشي وهو بن أَخِي خَدِيجَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ إِلَى عَامِ الْفَتْحِ وَأَوْلَادُهُ صَحِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا) أَيْ مِنَ الْقِرَاءَةِ (أَقْرَأَنِيهَا) أَيْ سُورَةَ الْفُرْقَانِ (فَكِدْتُ أَنْ أَعْجَلَ عَلَيْهِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْجِيمِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَارَبْتُ أَنْ أُخَاصِمَهُ وَأُظْهِرَ بَوَادِرَ غَضَبِي عَلَيْهِ بِالْعَجَلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْقِرَاءَةِ (ثُمَّ أَمْهَلْتُهُ حَتَّى انْصَرَفَ) أَيْ عَنِ الْقِرَاءَةِ (ثُمَّ لَبَّبْتُهُ) بِالتَّشْدِيدِ (بِرِدَائِي) أَيْ جَعَلْتُهُ فِي عُنُقِهِ وَجَرَرْتُهُ
قَالَ الطِّيبِيُّ لَبَّبْتُ الرَّجُلَ تَلْبِيبًا إِذَا جَمَعَتْ ثِيَابَهُ عِنْدَ صَدْرِهِ فِي الْخُصُومَةِ ثُمَّ جَرَرْتُهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِنَائِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى لَفْظِهِ كَمَا سَمِعَهُ بِلَا عُدُولٍ إِلَى مَا تُجَوِّزُهُ الْعَرَبِيَّةُ (هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتَنِيهَا) قِيلَ نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ فَلَمَّا عَسُرَ عَلَى غَيْرِهِمْ أُذِنَ فِي الْقِرَاءَةِ بِسَبْعِ لُغَاتٍ لِلْقَبَائِلِ الْمَشْهُورَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي زِيَادَةَ الْقِرَاءَاتِ عَلَى سَبْعٍ(4/242)
لِلِاخْتِلَافِ فِي لُغَةِ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَلِلتَّمَكُّنِ بَيْنَ الِاخْتِلَافِ فِي اللُّغَاتِ (اقْرَأْ فَقَرَأَ) أَيْ هِشَامٌ (الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ) أَيْ سَمِعْتُ هِشَامًا إِيَّاهَا عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي (هَكَذَا أُنْزِلَتْ) أَيِ السُّورَةُ أَوِ الْقِرَاءَةُ (فَقَالَ هكذا أنزلت) أي على لسان جبرائيل كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ أَوْ هَكَذَا عَلَى التَّخْيِيرِ أُنْزِلَتْ (أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) أَيْ لُغَاتٍ أَوْ قِرَاءَاتٍ أَوْ أَنْوَاعٍ قِيلَ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَحَدٍ وَأَرْبَعِينَ قَوْلًا مِنْهَا أَنَّهُ مِمَّا لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْحَرْفَ يَصْدُقُ لُغَةً عَلَى حَرْفِ الْهِجَاءِ وَعَلَى الْكَلِمَةِ وَعَلَى الْمَعْنَى وَعَلَى الْجِهَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّ الْقِرَاءَاتِ وَإِنْ زَادَتْ عَلَى سَبْعٍ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ الْأَوَّلُ اخْتِلَافُ الْكَلِمَةِ فِي نَفْسِهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى نُنْشِزُهَا ننشرها
الأول بالزاي المعجمة والثاني بالراء المهلمة وَقَوْلُهُ سَارِعُوا وَسَارِعُوا
فَالْأَوَّلُ بِحَذْفِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ قَبْلَ السِّينِ وَالثَّانِي بِإِثْبَاتِهَا
الثَّانِي التَّغْيِيرُ بِالْجَمْعِ وَالتَّوْحِيدِ كَكُتُبِهِ وَكِتَابِهِ
الثَّالِثُ بِالِاخْتِلَافِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ كَمَا فِي يَكُنْ وَتَكُنْ
الرَّابِعُ الِاخْتِلَافُ التَّصْرِيفِيُّ كَالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ نَحْوُ يَكْذِبُونَ وَيُكَذِّبُونَ وَالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ نَحْوُ يَقْنَطُ وَيَقْنِطُ
الْخَامِسُ الِاخْتِلَافُ الْإِعْرَابِيُّ كقوله تعالى ذو العرش المجيد برفع الدال وجرها
السادس اختلاف الأداة نحو لكن الشياطين بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهَا
السَّابِعُ اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ كَالتَّفْخِيمِ وَالْإِمَالَةِ وَإِلَّا فَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةٍ أَوْجُهٍ إِلَّا الْقَلِيلُ مِثْلُ عبد الطاغوت ولا تقل أف لهما وَهَذَا كُلُّهُ تَيْسِيرٌ عَلَى الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ وَلِذَا قال صلى الله عليه وسلم (فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِرَاءَاتِ بخلاف قوله تعالى فاقرأوا ما تيسر منه فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَعَمُّ مِنَ الْمِقْدَارِ وَالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أَجَازَ بِأَنْ يَقْرَؤوا مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوَاتُرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعَةِ التَّكْثِيرُ لَا التَّحْدِيدُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلٍ مِنَ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ قَوْلُ مَنْ قَالَ هِيَ كَيْفِيَّةُ النُّطْقِ بِكَلِمَاتِهَا مِنْ إِدْغَامٍ وَإِظْهَارٍ(4/243)
وَتَفْخِيمٍ وَتَرْقِيقٍ وَإِمَالَةٍ وَمَدٍّ وَقَصْرٍ وَتَلْيِينٍ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ اللُّغَاتِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِيَقْرَأَ كُلٌّ بِمَا يُوَافِقُ لُغَتَهُ وَيَسْهُلُ عَلَى لِسَانِهِ
انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ
قال القارىء وَفِيهِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَإِنَّ الْإِدْغَامَ مَثَلًا فِي مَوَاضِعَ لَا يَجُوزُ الْإِظْهَارُ فِيهَا وَفِي مَوَاضِعَ لَا يَجُوزُ الْإِدْغَامُ فِيهَا وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي
وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ اخْتِلَافَ اللُّغَاتِ لَيْسَ مُنْحَصِرًا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِوُجُوهِ إِشْبَاعِ مِيمِ الْجَمْعِ وَقَصْرِهِ وَإِشْبَاعِ هَاءِ الضَّمِيرِ وَتَرْكِهِ مِمَّا هُوَ مُتَّفِقٌ عَلَى بَعْضِهِ وَمُخْتَلِفٌ فِي بعضه وقال بن عَبْدِ الْبَرِّ إِنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ نَحْوِ أَقْبِلْ وَتَعَالَ وَعَجِّلْ وَهَلُمَّ وَأَسْرِعْ فَيَجُوزُ إِبْدَالُ اللَّفْظِ بِمُرَادِفِهِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ لَا بِضِدِّهِ وَحَدِيثُ أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ صَرِيحٍ فِيهِ وَعِنْدَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ عَلِيمًا حَكِيمًا غَفُورًا رَحِيمًا وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَيْضًا الْقُرْآنُ كُلُّهُ صَوَابٌ مَا لَمْ يَجْعَلْ مَغْفِرَةً عَذَابًا أَوْ عَذَابًا مَغْفِرَةً وَلِهَذَا كَانَ أُبَيٌّ يَقْرَأُ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ سَعَوْا فِيهِ بَدَلَ مشوا فيه وبن مسعود أمهلونا أخرونا بدل أنظرونا
قال القارىء إِنَّهُ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا مِنَ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا مِنْ أبي وبن مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا يُبَدِّلَانِ لَفْظًا مِنْ عِنْدَهُمَا بَدَلًا مِمَّا سَمِعَاهُ مِنْ لَفْظِ النُّبُوَّةِ وَأَقَامَاهُ مَقَامَهُ مِنَ التِّلَاوَةِ فَالصَّوَابُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ مِنْهُمَا أَوْ سَمِعَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُجُوهَ فَقَرَأَ مَرَّةً كَذَا وَمَرَّةً كَذَا كَمَا هُوَ الْآنَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَرْبَابِ الشَّأْنِ وَكَذَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ
وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً لِمَا كَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمُ التِّلَاوَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْكِتَابَةِ وَالضَّبْطِ وَإِتْقَانِ الْحِفْظِ ثُمَّ نُسِخَ بِزَوَالِ الْعُذْرِ وَتَيْسِيرِ الْكِتَابَةِ وَالْحِفْظِ قَالَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ الْحَافِظُ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى الْحُرُوفِ اللُّغَاتُ يُرِيدُ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ هِيَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَعْلَاهَا فِي كَلَامِهِمْ
قَالُوا وَهَذِهِ اللُّغَاتُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْقُرْآنِ غَيْرُ مُجْتَمِعَةٍ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا أَشَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ لَا نَعْرِفُ فِي الْقُرْآنِ حَرْفًا يقرأ على سبعة أحرف
قال بن الْأَنْبَارِيِّ هَذَا غَلَطٌ وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ حُرُوفٌ يَصِحُّ أَنْ تُقْرَأَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ منها قوله تعالى وعبد الطاغوت وَقَوْلُهُ تَعَالَى أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَذَكَرَ وُجُوهًا كَأَنَّهُ يَذْهَبُ فِي تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ لَا كُلَّهُ
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ وُجُوهًا أُخَرَ قال وهو أن القرآن أنزل مرخصا للقارىء وَمُوَسِّعًا عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ أَيْ يَقْرَأَ عَلَى أَيِّ حَرْفٍ شَاءَ مِنْهَا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ صَاحِبِهِ وَلَوْ كَانَ مَعْنَى(4/244)
ما قاله بن الْأَنْبَارِيِّ لَقِيلَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِسَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَإِنَّمَا قِيلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى أَيْ كَأَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى هَذَا مِنَ الشَّرْطِ أَوْ عَلَى هَذَا مِنَ الرُّخْصَةِ وَالتَّوْسِعَةِ وَذَلِكَ لِتَسْهِيلِ قِرَاءَتِهِ عَلَى النَّاسِ
وَلَوْ أَخَذُوا بِأَنْ يَقْرَؤُوهُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٌ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ وَلَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا إِلَى الزَّهَادَةِ فِيهِ وَسَبَبًا لِلْفُتُورِ عَنْهُ
وَقِيلَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّوْسِعَةُ لَيْسَ حَصْرُ الْعَدَدِ انْتَهَى
وَقَالَ السِّنْدِيُّ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ أَيْ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مَشْهُورَةٍ بِالْفَصَاحَةِ وَكَانَ ذَاكَ رُخْصَةً أَوَّلًا تَسْهِيلًا عَلَيْهِمْ ثُمَّ جَمَعَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ خَافَ الِاخْتِلَافَ عَلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَتَكْذِيبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى لُغَةِ قُرَيْشٍ الَّتِي أُنْزِلَ عَلَيْهَا أَوَّلًا انْتَهَى
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ الْمُخْتَارُ أَنَّ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُدْرَى تَأْوِيلُهُ وَفِيهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ قَوْلًا أَوْرَدْتُهَا فِي الْإِتْقَانِ
انْتَهَى
قُلْتُ سَبْعُ اللُّغَاتِ الْمَشْهُورَةِ هِيَ لُغَةُ الْحِجَازِ والهذيل والهوازن واليمن والطي وَالثَّقِيفِ وَبَنِي تَمِيمٍ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[1476] (هَذِهِ الْأَحْرُفُ) أَيِ الْقِرَاءَةُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ (فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ) مِنَ الْإِبَاحَةِ وَالْحَلَالِ أَوِ النَّهْيِ وَالْحَرَامِ (لَيْسَ يَخْتَلِفُ) حُكْمُهُ (فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ) وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنِ اخْتِلَافِ الْقِرَاءَةِ لَا يُبْدِلُ الْمَعْنَى فَلَا يَصِيرُ حُكْمُ وَاحِدٍ مِنْ بَعْضِ الْقِرَاءَةِ حَلَالًا وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِعَيْنِهِ مِنْ قِرَاءَةٍ أُخْرَى حَرَامًا مَثَلًا بَلْ يَبْقَى حُكْمٌ وَاحِدٌ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْقِرَاءَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1477] (أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَمَّ (فَقِيلَ لِي) الْقَائِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى على لسان الملائكة أتقرأ يامحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَى حَرْفٍ) وَاحِدٍ (أَوْ) لِلتَّخْيِيرِ أَيْ أَوْ تَقْرَأُ عَلَى (حَرْفَيْنِ) تسهيلا للأمة (قل) يامحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي أَقْرَأُ (عَلَى حَرْفَيْنِ قُلْتُ عَلَى حَرْفَيْنِ) أَيْ أَقْرَأُ عَلَى(4/245)
حَرْفَيْنِ (حَتَّى بَلَغَ) ذَلِكَ الْقَائِلُ الْمَفْهُومُ مِنْ قبل أو جبرائيل أَوِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَبْعَةَ أَحْرُفٍ) أَيْ إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ (ثُمَّ قَالَ) ذَلِكَ الْقَائِلُ (لَيْسَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ سَبْعَةِ أَحْرُفٍ (إِلَّا شَافٍ) أَيْ لِلْعَلِيلِ فِي فَهْمِ الْمَقْصُودِ (كَافٍ) لِلْإِعْجَازِ فِي إِظْهَارِ الْبَلَاغَةِ وَقِيلَ أَيْ شَافٍ لِصُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ لِلِاتِّفَاقِ فِي الْمَعْنَى وَكَافٍ فِي الْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الكافرين كذا في المرقاة (قلت) يامحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سَمِيعًا عَلِيمًا) مَكَانَ قَوْلِهِ (عَزِيزًا حَكِيمًا) يَكْفِيكَ وَلَا يَضُرُّكَ (مَا لا تختم) يامحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (آيَةَ عَذَابِ بِرَحْمَةٍ) أَيْ مَكَانَ آيَةِ رَحْمَةٍ (آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ) فَلَا يَجُوزُ لَكَ
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ كَمَا رَخَّصَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللُّغَاتِ السَّبْعِ كَذَلِكَ رَخَّصَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤُوسِ الْآيَاتِ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِبَعْضٍ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ هَذَا التَّغَيُّرُ وَالتَّبَدُّلُ لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي ذَلِكَ عُمُومًا بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1478] (عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَأَضَاةُ بِوَزْنِ الْحَصَاةِ الغدير (أن تقرىء) من الإقراء (أمتك) مفعول تقرىء
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ياأبي أُرْسِلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ حديث بن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال أقرأني جبرائيل عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ من(4/246)
حَدِيثِ أُبَيٍّ قَالَ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبرائيل فقال ياجبرئيل إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يقرأ كتابا قط قال يامحمد إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَفِي رواية للنسائي قال إن جبرائيل وميكائيل أتياني فقعد جبرائيل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبرائيل اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ قَالَ مِيكَائِيلُ اسْتَزِدْهُ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ فَكُلُّ حَرْفٍ شَافٍ كَافٍ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
3 - (بَابُ الدُّعَاءِ)
[1479] (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ) أَيْ هُوَ الْعِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تَسْتَأْهِلُ أَنْ تُسَمَّى عِبَادَةً لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ بِحَيْثُ لَا يَرْجُو وَلَا يَخَافُ إِلَّا إِيَّاهُ قَائِمًا بِوُجُوبِ الْعُبُودِيَّةِ مُعْتَرِفًا بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ عَالِمًا بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ طَالِبًا لِمَدَدِ الْإِمْدَادِ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ وَتَوْفِيقِ الْإِسْعَادِ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعَاتِ الْحَصْرُ لِلْمُبَالَغَةِ وَقِرَاءَةُ الْآيَةِ تَعْلِيلٌ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَكُونُ عِبَادَةً أَقَلُّهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبَّةً وَآخِرُ الْآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وَالْمُرَادُ بِعِبَادَتِي هُوَ الدُّعَاءُ وَلُحُوقُ الْوَعِيدِ يُنْظَرُ إِلَى الْوُجُوبِ لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الدُّعَاءَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالْوَعِيدُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الِاسْتِكْبَارِ
انْتَهَى (قال ربكم ادعوني أستجب لكم) قِيلَ اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ عِبَادَةٌ
وَقَالَ الْقَاضِي اسْتَشْهَدَ بِالْآيَةِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَرْتِيبُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ وَالْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ وَيَكُونُ أَتَمَّ الْعِبَادَاتِ وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ مُخُّ الْعِبَادَةِ أَيْ خَالِصُهَا
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ الْعِبَادَةُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَهُوَ غَايَةُ التَّذَلُّلِ وَالِافْتِقَارِ والاستكانة وما شرعت العبادة إلا للخضوع للبارىء وَإِظْهَارِ الِافْتِقَارِ إِلَيْهِ وَيَنْصُرُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا بَعْدَ الْآيَةِ الْمَتْلُوَّةِ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عبادتي سيدخلون جهنم داخرين حَيْثُ عَبَّرَ عَنْ عَدَمِ الِافْتِقَارِ وَالتَّذَلُّلِ بِالِاسْتِكْبَارِ وَوَضَعَ عِبَادَتِي مَوْضِعَ دُعَائِي وَجَعَلَ جَزَاءَ ذَلِكَ الِاسْتِكْبَارِ الْهَوَانَ وَالصِّغَارَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ(4/247)
[1480] (عَنْ أَبِي نَعَامَةَ) بِفَتْحِ النُّونِ اسْمُهُ عِيسَى بْنُ سِوَادَةَ ثِقَةٌ (وَبَهْجَتُهَا) الْبَهْجَةُ الْحُسْنُ (وَسَلَاسِلُهَا) جَمْعُ سِلْسِلَةٍ (وَأَغْلَالُهَا) جَمْعُ غُلٍّ بِالضَّمِّ يُقَالُ فِي رَقَبَتِهِ غُلٌّ مِنْ حَدِيدٍ (يَعْتَدُّونَ فِي الدُّعَاءِ) أَيْ يَتَجَاوَزُونَ وَيُبَالِغُونَ فِي الدُّعَاءِ (فَإِيَّاكَ) لِلتَّحْذِيرِ (أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ) أَيْ مِنَ الْمُبَالِغِينَ في الدعاء
قال المنذري سعد هو بن أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنُهُ هَذَا لَمْ يُسَمَّ فَإِنْ كَانَ عُمَرَ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ
[1481] (رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ) أَيْ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ أَوْ بَعْدَهَا (عَجِلَ هَذَا) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ الْفَتْحُ وَالتَّشْدِيدُ أَيْ حِينَ تَرْكَ التَّرْتِيبَ فِي الدُّعَاءِ وَعَرَضَ السُّؤَالَ قَبْلَ الْوَسِيلَةِ
قَالَ الْإِمَامُ الزَّاهِدِي فِي تَفْسِيرِهِ
الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسَارَعَةِ وَالْعَجَلَةِ أَنَّ الْمُسَارَعَةَ تُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ أي غالبا وفي الشرأي أَحْيَانًا وَالْعَجَلَةُ لَا تُطْلَقُ إِلَّا فِي الشَّرِّ وَقِيلَ الْمُسَارَعَةُ الْمُبَادَرَةُ فِي وَقْتِهِ وَالْعَجَلَةُ الْمُبَادَرَةُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ (ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنْ حَقِّ السَّائِلِ أن يتقرب إلى المسؤول مِنْهُ بِالْوَسَائِلِ قَبْلَ طَلَبِ الْحَاجَةِ بِمَا يُوجِبُ الزُّلْفَى عِنْدَهُ وَيَتَوَسَّلَ بِشَفِيعٍ لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَكُونَ أَطْمَعَ فِي الْإِسْعَافِ وَأَرْجَى بِالْإِجَابَةِ فَمَنْ عَرَضَ السُّؤَالَ قَبْلَ الْوَسِيلَةِ فَقَدِ اسْتَعْجَلَ وَلِذَا قال مُؤَدِّبًا لِأُمَّتِهِ (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ) أَيْ إِذَا صَلَّى وَفَرَغَ فَقَعَدَ لِلدُّعَاءِ أَوْ إِذَا كَانَ مصليا فقعد للتشهد فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ التَّحِيَّاتُ إِلَخْ
وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ بَعْدُ (فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ) مِنْ كُلِّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ وَيَشْكُرُهُ عَلَى كُلِّ عَطَاءٍ جَزِيلٍ (ثُمَّ يصلي على(4/248)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَإِنَّهُ وَاسِطَةُ عقد المحبة ووسلية الْعِبَادَةِ وَالْمَعْرِفَةِ
كَذَا فِي مِرْقَاةِ الْمَفَاتِيحِ (ثُمَّ يدعو بعد) أي بعد ما ذَكَرَ (بِمَا شَاءَ) مِنْ دِينٍ أَوْ دُنْيَا مما يجوز طلبه
وفي رواية للترمذي بينا رسول الله قَاعِدٌ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ اللَّهُمَّ اغفر لي وارحمني فقال رسول الله عَجِلْتَ أَيّهَا الْمُصَلِّي إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَصَلِّ عَلَيَّ ثُمَّ ادْعُهُ قَالَ ثُمَّ صَلَّى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذلك فحمد الله وصلى على النبي أي ولم يدع فقال له النبي أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تُجَبْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ صَحِيحٌ
[1482] (يُسْتَحَبُّ الْجَوَامِعُ مِنَ الدُّعَاءِ) أَيِ الْجَامِعَةُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ مَا كَانَ لَفْظُهُ قَلِيلًا وَمَعْنَاهُ كَثِيرًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار وَمِثْلُ الدُّعَاءِ بِالْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَقَالَ علي القارىء وَهِيَ الَّتِي تَجْمَعُ الْأَغْرَاضَ الصَّالِحَةَ أَوْ تَجْمَعُ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَآدَابَ الْمَسْأَلَةِ
وَقَالَ الْمُظْهِرُ هِيَ مَا لَفْظُهُ قَلِيلٌ وَمَعْنَاهُ كَثِيرٌ شَامِلٌ لِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ نَحْوُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَذَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى وَنَحْوُ سُؤَالِ الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ (وَيَدَعُ) أَيْ يَتْرُكُ (مَا سِوَى ذَلِكَ) أَيْ مِمَّا لَا يَكُونُ جَامِعًا بِأَنْ يَكُونَ خَالِصًا بِطَلَبِ أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ كَارْزُقْنِي زَوْجَةً حَسَنَةً فَإِنَّ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى مِنْهُ ارْزُقْنِي الرَّاحَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يَعُمُّهَا وَغَيْرَهَا انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1483] (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ) قِيلَ مَنَعَ عَنْ قَوْلِهِ إِنْ شِئْتَ لِأَنَّهُ شَكٌّ فِي الْقَبُولِ وَاللَّهُ تَعَالَى كَرِيمٌ لَا بُخْلَ عِنْدَهُ فَلْيَسْتَيْقِنْ بِالْقَبُولِ (لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ) أَيْ لَيَطْلُبْ جَازِمًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ (فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ) أَيْ لِلَّهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُكْرِهَهُ عَلَى فِعْلٍ أَرَادَ تَرْكَهُ بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إِنْ شِئْتَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقَيُّدِ بِهِ مَعَ أنه موهم(4/249)
لِعَدَمِ الِاعْتِنَاءِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ لِاسْتِعْظَامِهِ عَلَى الْفَاعِلِ عَلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ
ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[1484] (قَالَ يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ) أَيِ الدُّعَاءُ (مَا لَمْ يَعْجَلْ) أَيْ يُسْتَجَابُ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قيل يارسول اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ قَالَ (فَيَقُولُ) الدَّاعِي (قَدْ دَعَوْتُ) أَيْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى يَعْنِي مَرَّاتٍ كَثِيرَةً أَوْ طَلَبْتُ شَيْئًا وَطَلَبْتُ آخَرَ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي وَهُوَ إِمَّا اسْتِبْطَاءٌ أَوْ إِظْهَارُ يَأْسٍ وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِجَابَةَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَمَا وَرَدَ أَنَّ بَيْنَ دُعَاءِ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ الْإِجَابَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَمَّا الْقُنُوطُ فَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ مَعَ أَنَّ الْإِجَابَةَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْهَا تَحْصِيلُ عَيْنِ الْمَطْلُوبِ فِي الْوَقْتِ الْمَطْلُوبِ وَمِنْهَا ادِّخَارُهُ لِيَوْمٍ يَكُونُ أَحْوَجَ إِلَى ثَوَابِهِ وَمِنْهَا وُجُودُهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ تَأْخِيرَهُ وَمِنْهَا دَفْعُ شَرٍّ بَدَلَهُ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ البخاري ومسلم والترمذي وبن مَاجَهْ
[1485] (لَا تَسْتُرُوا الْجُدُرَ) جَمْعُ جِدَارٍ أَيْ لَا تَسْتُرُوا الْجُدُرَ بِثِيَابٍ لِأَنَّ هَذَا مِنْ دَأْبِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَلِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ) قَالَ الخطابي قوله عليه السلام فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ إِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ يَقُولُ كَمَا تَحْذَرُ النَّارَ فَلْتَحْذَرْ هَذَا الصَّنِيعَ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ النَّظَرَ فِي النَّارِ والتحديق إليها يضر البصر وقد يحتمل أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالنَّظَرِ إِلَى النَّارِ الدُّنُوَّ مِنْهَا وَالتَّصَلِّي فِيهَا لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الشَّيْءِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الدُّنُوِّ مِنْهُ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يكون معناه كأنما ينظر إِلَى مَا يُوجِبُ عَلَيْهِ النَّارَ فَأَضْمَرَهُ فِي الْكَلَامِ وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْكِتَابَ الَّذِي فِيهِ أَمَانَةٌ أَوْ سِرٌّ يَكْرَهُ صَاحِبُهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ دُونَ الْكِتَابِ الَّتِي فِيهَا عِلْمٌ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ وَقِيلَ إِنَّهُ عَالِمٌ فِي كُلِّ كِتَابٍ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّيْءِ أَوْلَى بِمَالِهِ وَأَحَقُّ بِمَنْفَعَةِ مِلْكِهِ وَإِنَّمَا يَأْثَمُ بكتمان العلم(4/250)
الَّذِي يُسْأَلُ عَنْهُ فَأَمَّا أَنْ يَأْثَمَ فِي مَنْعِهِ كِتَابًا عِنْدَهُ وَحَبْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا وَجْهَ لَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى (سَلُوا اللَّهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا) لِأَنَّ اللَّائِقَ بِالطَّالِبِ لِشَيْءٍ يَنَالُهُ أَنْ يَمُدَّ كَفَّهُ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَيَبْسُطَهَا مُتَضَرِّعًا لِيَمْلَأَهَا مِنْ عَطَائِهِ الْكَثِيرِ الْمُؤْذِنِ بِهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إِلَيْهِ جَمِيعًا أَمَّا من سأل رفع الشيء وَقَعَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْفَعَ إِلَى السَّمَاءِ ظَهْرَ كَفَّيْهِ اتِّبَاعًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحِكْمَتُهُ التَّفَاؤُلُ فِي الْأَوَّلِ بِحُصُولِ الْمَأْمُولِ وَفِي الثَّانِي بِدَفْعِ الْمَحْذُورِ (فَإِذَا فَرَغْتُمْ) أَيْ مِنَ الدُّعَاءِ (فَامْسَحُوا بِهَا) أَيْ بِأَكُفِّكُمْ (وُجُوهَكُمْ) فَإِنَّهَا تَنْزِلُ عَلَيْهَا آثَارُ الرَّحْمَةِ فَتَصِلُ بَرَكَتُهَا إِلَيْهَا (كُلُّهَا وَاهِيَةٌ) أَيْ ضَعِيفَةٌ (وَهَذَا الطَّرِيقُ) أَيْ طَرِيقُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْقُوبَ (أَمْثَلُهَا) أَيْ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ (وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا) لِأَنَّ فِيهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ بن مَاجَهْ
[1486] (إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ) أَيْ شَيْئًا مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ (فَسَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ) جَمْعُ الْكَفِّ قَالَ الطِّيبِيُّ لِأَنَّ هَذِهِ هَيْئَةُ السَّائِلِ الطَّالِبِ الْمُنْتَظِرِ لِلْأَخْذِ فَيُرَاعَى مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ (وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا) قال الطيبي روي أنه عليه الصلاة والسلام أَشَارَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ رَفَعَ يَدَيْهِ رَفْعًا بَلِيغًا حَتَّى ظَهَرَ بَيَاضُ إِبِطِهِ وَصَارَتْ كَفَّاهُ مُحَاذِيَيْنِ لِرَأْسِهِ مُلْتَمِسًا أَنْ يَغْمُرَهُ بِرَحْمَتِهِ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ لَهُ عِنْدَنَا صُحْبَةٌ يَعْنِي مَالِكَ بن يسار وفي نسخه ماله عِنْدَنَا صُحْبَةٌ
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ وَلَا أَعْلَمُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا أَدْرِي لِمَالِكِ بْنِ يَسَارٍ صُحْبَةً أَمْ لَا
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ رِوَايَتَهُ عَنِ الشَّامِيِّينَ
وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا ضَمْضَمُ بْنُ زُرْعَةَ الْحَضْرَمِيُّ وَهُوَ شَامِيٌّ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ(4/251)
[1487] (وَظَاهِرُهُمَا) أَيْ ظَاهِرُ الْكَفَّيْنِ وَهَذَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عُمَرُ بْنُ نَبْهَانَ الْبَصْرِيُّ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ
[1488] (عَنْ سَلْمَانَ) أَيِ الْفَارِسِيِّ (إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ) فَعِيلٌ أَيْ مُبَالِغٌ فِي الْحَيَاءِ وَفَسَّرَ فِي حَقِّ اللَّهِ بِمَا هُوَ الْغَرَضُ وَالْغَايَةُ وَغَرَضُ الْحَيِيِّ مِنَ الشَّيْءِ تَرْكُهُ وَالْإِبَاءُ مِنْهُ لِأَنَّ الْحَيَاءَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانُ مِنْ تَخَوُّفِ مَا يُعَابُ وَيُذَمُّ بِسَبَبِهِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ غَايَتَهُ فِعْلُ مَا يَسُرُّ وَتَرْكُ مَا يَضُرُّ أَوْ مَعْنَاهُ عَامَلَ مُعَامَلَةَ الْمُسْتَحْيِي (كَرِيمٌ) وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَكَيْفَ بَعْدَهُ (يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ) أَيِ الْمُؤْمِنِ (أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا) بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ الْفَاءِ أَيْ فَارِغَتَيْنِ خَالِيَتَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ
قَالَ الطِّيبِيُّ يَسْتَوِي فِيهِ المذكر والمؤنث والتثنية والجمع قاله القارىء
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَلَمْ يَرْفَعْهُ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ جَعْفَرُ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو عَلِيٍّ بَيَّاعُ الْأَنْمَاطِ
قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ صَالِحٌ وَقَالَ مَرَّةً لَيْسَ بِذَاكَ وَقَالَ مَرَّةً لَيْسَ بِثِقَةٍ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ صَالِحٌ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ
[1489] (قَالَ الْمَسْأَلَةُ) مَصْدَرٌ بِمَعْنَى السُّؤَالِ وَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ لِيَصِحَّ الْحَمْلُ أَيْ آدَابُهَا (أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ) أَيْ قَرِيبًا مِنْهُمَا لَكِنْ إِلَى مَا فَوْقَ (وَالِاسْتِغْفَارُ أَنْ تُشِيرَ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ) قال الطيبي أدب الاستغفار الاشارة بِالسَّبَّابَةِ سَبًّا لِلنَّفْسِ الْأَمَارَةِ وَالشَّيْطَانِ وَالتَّعَوُّذَ مِنْهُمَا وقيده(4/252)
بِوَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِشَارَةُ بِإِصْبَعَيْنِ لِمَا رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام رَأَى رَجُلًا يُشِيرُ بِهِمَا فَقَالَ لَهُ أَحَدٌ أَحَدٌ (وَالِابْتِهَالُ) أَيِ التَّضَرُّعُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الدُّعَاءِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ عَنِ النَّفْسِ أَدَبُهُ (أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا) أَيْ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْكَ
[1490] (قَالَ فِيهِ وَالِابْتِهَالُ هَكَذَا) تَعْلِيمٌ فِعْلِيٌّ وَتَفْسِيرُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ (وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ ظُهُورَهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ) أَيْ رَفَعَ يَدَيْهِ رَفْعًا كُلِّيًّا حَتَّى ظَهَرَ بَيَاضُ الْإِبْطَيْنِ جَمِيعًا وَصَارَتْ كَفَّاهُ مُحَاذِيَيْنِ لِرَأْسِهِ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالِابْتِهَالِ دَفْعَ مَا يَتَصَوَّرُهُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْعَذَابِ فَيَجْعَلُ يَدَيْهِ التُّرْسَ لِيَسْتُرَهُ عَنِ الْمَكْرُوهِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1492] (كَانَ إِذَا دَعَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ) فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ
وَقَوْلُهُ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ خَبَرُ كَانَ وَإِذَا ظَرْفٌ لَهُ
قَالَ الطِّيبِيُّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لم يمسح وهو قيد حسن لأنه كَانَ يَدْعُو كَثِيرًا كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ النَّوْمِ وَبَعْدَ الْأَكْلِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْفَعْ يديه لم يمسح بهما وجهه
قاله على القارىء
[1493] (الْأَحَدُ) أَيْ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ (الصَّمَدُ) أَيِ الْمَطْلُوبُ الْحَقِيقِيُّ (إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا(4/253)
دُعِيَ بِهِ أَجَابَ) السُّؤَالُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ أعطني فيعطي والدعاء أن ينادي ويقول يارب فيجيب الرب تعالى ويقول لبيك ياعبدي فَفِي مُقَابَلَةِ السُّؤَالِ الْإِعْطَاءُ وَفِي مُقَابَلَةِ الدُّعَاءِ الْإِجَابَةُ وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَيُذْكَرُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ أَيْضًا
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَقْوَالٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَقَالَ قَائِلٌ إِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا عَظِيمَةٌ لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَيُنْسَبُ هَذَا إِلَى الْأَشْعَرِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ مَا وَرَدَ فِي ذِكْرِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ عَلَى أن المراد به العظيم
وقال بن حِبَّانَ الْأَعْظَمِيَّةُ الْوَارِدَةُ فِي الْأَخْبَارِ الْمُرَادُ بِهَا مَزِيدُ ثَوَابِ الدَّاعِي بِذَلِكَ
قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ الدَّهْلَوِيُّ فِي اللُّمَعَاتِ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى اسْمًا أَعْظَمَ إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَأَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ ها هنا وَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ كُلُّ اسْمٍ ذُكِرَ بِإِخْلَاصٍ تَامٍّ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ اسْمُ الْأَعْظَمِ إِذْ لَا شَرَفَ لِلْحُرُوفِ
قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ
وَقَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَقْدِسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ إِسْنَادٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ وَلَا أَعْلَمُ أَنَّهُ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ أَجْوَدُ إِسْنَادًا مِنْهُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى نَفْيِ الْقَوْلِ بِأَنَّ لِلَّهِ اسْمًا هُوَ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ
[1495] (ثُمَّ دَعَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ) لَعَلَّهُ حَذَفَ المفعول اكتفاء بعلم المسؤول (بِأَنَّ لَكَ) تَقْدِيمُ الْجَارِّ لِلِاخْتِصَاصِ (الْحَمْدُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ) أَيْ كَثِيرُ الْعَطَاءِ مِنَ الْمِنَّةِ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْمِنَّةُ مَذْمُومَةٌ مِنَ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا
قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ مَنَّ عَلَيْهِ هُنَا أَيْ أَنْعَمَ وَالْمَنَّانُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ الْمَنَّانِ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ أَوْ أَنْتَ وَهُوَ أَظْهَرُ وَالنَّصْبُ عَلَى النِّدَاءِ وَيُقَوِّيهِ رِوَايَةُ الواحدي في كتاب الدعاء له يابديع السَّمَاوَاتِ كَذَا فِي شَرْحِ الْجَزَرِيِّ عَلَى الْمَصَابِيحِ أَيْ مُبْدِعُهُمَا وَقِيلَ بَدِيعُ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ
وَفِي الصِّحَاحِ أَبْدَعْتُ الشَّيْءَ اخْتَرَعْتُهُ لَا(4/254)
على مثال سبق (ياذا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ أَيْ صَاحِبَ الْعَظَمَةِ وَالْمِنَّةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1496] (عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ) أي بن السَّكَنِ ذَكَرَهُ ميركُ (وَفَاتِحَةُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ) بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهَا وَمَا قَبْلَهَا بَدَلَانِ وَجَوَّزَ الرَّفْعَ وَالنَّصْبَ وَوَجْهُهُمَا ظَاهِرٌ الم اللَّهُ لَا إله إلا هو الحي القيوم وَرَوَى الْحَاكِمُ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَعْظَمُ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه قَالَ القاسم بن عبد الرحمن الشامي التابعي رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَقِيتُ مِائَةَ صَحَابِيٍّ فَالْتَمَسْتُهَا أَيِ السُّوَرَ الثَّلَاثَ فَوَجَدْتُ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
قال ميرك وهنا أقوال أخرى فِي تَعْيِينِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ مِنْهَا أَنَّهُ رَبٌّ أخرجه الحاكم من حديث بن عَبَّاسٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُمَا قَالَا اسْمُ اللَّهِ الْأَكْبَرُ رَبٌّ رَبٌّ وَمِنْهَا اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ نُقِلَ هَذَا عَنِ الْإِمَامِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ وَمِنْهَا أَنَّهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لَمْ يُطْلَقْ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَثُمَّ أُضِيفَتْ إِلَيْهِ وَمِنْهَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَقَدِ اسْتَوْعَبَ السُّيُوطِيُّ الْأَقْوَالَ فِي رِسَالَتِهِ ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وبن مَاجَهْ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَدَّاحُ الْمَكِّيُّ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
[1497] (لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ) بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مُشَدَّدَةٍ ثُمَّ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ هُوَ مِثْلُ تُخَفِّفِي وَزْنًا وَمَعْنًى أَيْ لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ بِدُعَائِكِ عَلَيْهِ أَيْ لَا تُخَفِّفِي عَنْهُ الْإِثْمَ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِالسَّرِقَةِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ المنذري(4/255)
[1498] (استأذنت النبي فِي الْعُمْرَةِ) أَيْ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي قَضَاءِ عُمْرَةٍ كَانَ نَذَرَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ (فَأَذِنَ لِي) أي فيها (ياأخي) بِصِيغَةِ التَّصْغِيرِ وَهُوَ تَصْغِيرُ تَلَطُّفٍ وَتَعَطُّفٍ لَا تَحْقِيرٍ وَيُرْوَى بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ (مِنْ دُعَائِكِ) فِيهِ إِظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالْمَسْكَنَةِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالْتِمَاسِ الدُّعَاءِ مِمَّنْ عُرِفَ لَهُ الْهِدَايَةُ وَحَثٌّ لِلْأُمَّةِ عَلَى الرَّغْبَةِ فِي دُعَاءِ الصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْعِبَادَةِ وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يُخْضِعُوا أَنْفُسَهُمْ بِالدُّعَاءِ وَلَا يُشَارِكُوا فِيهِ أَقَارِبَهُمْ وَأَحِبَّاءَهُمْ لَا سِيَّمَا فِي مَظَانِّ الْإِجَابَةِ وَتَفْخِيمٌ لِشَأْنِ عُمَرَ وَإِرْشَادٌ إِلَى مَا يَحْمِي دُعَاءَهُ مِنَ الرَّدِّ (فَقَالَ) عَطْفٌ عَلَى قَالَ لَا تَنْسَنَا لِتَعْقِيبِ الْمُبَيَّنِ بِالْمُبَيِّنِ أَيْ قَالَ عُمَرُ فَقَالَ بِمَعْنَى تكلم النبي (كَلِمَةً) وَهِيَ لَا تَنْسَنَا (مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا) الْبَاءُ لِلْبَدَلِيَّةِ وَمَا نَافِيَةٌ وَأَنَّ مَعَ اسْمِهِ وَخَبَرِهِ فَاعِلُ يَسُرُّنِي أَيْ لايعجبني وَلَا يُفْرِحُنِي كَوْنُ جَمِيعِ الدُّنْيَا لِي بَدَلَهَا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
[1499] (فَقَالَ أَحَدٌ أَحَدٌ) أَيْ أَشِرْ بِوَاحِدَةٍ لِيُوَافِقَ التَّوْحِيدَ الْمَطْلُوبَ بِالْإِشَارَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ وَقَالَ حَدِيثٌ حسن غريب(4/256)
24 - (باب التسبيح بالحصى)
[1500] (على امرأة) قال القارىء أَيْ مَحْرَمٍ لَهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الدُّخُولِ الرُّؤْيَةُ وَلَا مِنْ وُجُودِ الرُّؤْيَةِ حُصُولُ الشَّهْوَةِ (وَبَيْنَ يَدَيْهَا) الْوَاوُ لِلْحَالِ (نَوًى) جَمْعُ نَوَاةٍ وَهِيَ عَظْمُ التَّمْرِ (أَوْ حَصًى) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (تُسَبِّحُ) أَيِ الْمَرْأَةُ (بِهِ) أَيْ بِمَا ذَكَرَ مِنَ النَّوَى أَوِ الْحَصَى وَهَذَا أَصْلٌ صَحِيحٌ لِتَجْوِيزِ السُّبْحَةِ بِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَاهَا إِذْ لَا فرق بين المنظومة والمنثورة فيما بعد بِهِ وَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِ مَنْ عَدَّهَا بِدْعَةً (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِمَا هُوَ أَيْسَرُ) أَيْ أَسْهَلُ وَأَخَفُّ (عَلَيْكِ مِنْ هَذَا) أَيْ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ وَالتَّعْدَادِ (أَوْ أَفْضَلُ) قِيلَ أَوْ لِلشَّكِّ مِنْ سَعْدٍ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ وَقِيلَ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَقِيلَ بمعنى بل وهو الأظهر
قال بن الْمَلَكِ تَبَعًا لِلطِّيبِيِّ وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ بِالْقُصُورِ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُحْصِيَ ثَنَاءَهُ وَفِي الْعَدِّ بِالنَّوَى إِقْدَامٌ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِحْصَاءِ (عَدَدَ مَا خَلَقَ) فِيهِ تَغْلِيبٌ لِكَثْرَةِ غَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ الْمَلْحُوظَةِ فِي الْمَقَامِ (فِي السَّمَاءِ) أَيْ فِي عَالَمٍ الْعُلْوِيَّاتِ جَمِيعِهَا (عَدَدَ مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ فِي عَالَمِ السُّفْلَيَاتِ كُلِّهَا كَذَا قِيلَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ الْمَعْهُودَتَانِ لِقَوْلِهِ (وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا خَلَقَ بَيْنَ ذَلِكَ) أَيْ مَا بَيْنَ مَا ذَكَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (وَسُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ مَا هُوَ خَالِقٌ) أَيْ خَالِقُهُ أَوْ خَالِقٌ لَهُ فِيمَا بَعْدَ ذلك واختاره بن حَجَرٍ الْمَكِّيُّ وَهُوَ أَظْهَرُ لَكِنَّ الْأَدَقَّ الْأَخْفَى مَا قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ مَا هُوَ خَالِقٌ لَهُ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ وَالْمُرَادُ الِاسْتِمْرَارُ فَهُوَ إِجْمَالٌ بَعْدَ التَّفْصِيلِ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ إِذَا أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُفِيدُ الِاسْتِمْرَارَ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ إِلَى الْأَبَدِ كَمَا تَقُولُ اللَّهُ قَادِرٌ عَالِمٌ فَلَا تَقْصِدُ زَمَانًا دُونَ زَمَانٍ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ وَفِي النَّيْلِ
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَدِّ التَّسْبِيحِ بِالنَّوَى وَالْحَصَى وَكَذَا بِالسُّبْحَةِ لِعَدَمِ الْفَارِقِ لِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ إِنْكَارِهِ(4/257)
وَالْإِرْشَادُ إِلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ لَا يُنَافِي الْجَوَازَ وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ
[1501] (عَنْ يُسَيْرَةَ) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينُ وَيُقَالُ أَسِيرَةُ بِالْهَمْزَةِ أُمُّ يَاسِرٍ صَحَابِيَّةٌ مِنَ الْأَنْصَارِيَّاتِ وَيُقَالُ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (وَالتَّقْدِيسِ) أَيْ قَوْلُ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ أَوْ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ
قال بن حَجَرٍ هَذَا عَادَةُ الْعَرَبِ أَنَّ الْكَلِمَةَ إِذَا تَكَرَّرَتْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمُ اخْتَصَرُوهَا لِيَسْهُلَ تَكَرُّرُهَا بِضَمِّ بَعْضِ حُرُوفِ إِحْدَاهَا إِلَى الْأُخْرَى كَالْحَوْقَلَةِ وَالْحَيْعَلَةِ وَالْبَسْمَلَةِ وَكَالتَّهْلِيلِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يُقَالُ هَيْلَلَ الرَّجُلُ وَهَلَّلَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ (فَإِنَّهُنَّ) أَيِ الْأَنَامِلَ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ (مسؤولات) أَيْ يُسْأَلْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا اكْتَسَبْنَ وَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتُعْمِلْنَ (مُسْتَنْطَقَاتٌ) بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْ مُتَكَلِّمَاتٌ بخلق النطق فيها فَيَشْهَدْنَ لِصَاحِبِهِنَّ أَوْ عَلَيْهِ بِمَا اكْتَسَبَهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ هَانِئِ بْنِ عُثْمَانَ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَيُسَيْرَةُ بِضَمِّ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ وَبَعْدَ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ يَاءٌ أَيْضًا وَرَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَتَاءُ التَّأْنِيثِ هِيَ يُسَيْرَةُ بِنْتُ يَاسِرٍ أَنْصَارِيَّةٌ تُكْنَى أُمَّ يَاسِرٍ وَقِيلَ أُمُّ حُمَيْضَةَ لَهَا صُحْبَةٌ وَقِيلَ كَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ
[1502] (يعقد التسبيح قال بن قُدَامَةَ بِيَمِينِهِ) وَقَدْ عَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِأَنَّ الْأَنَامِلَ مسؤولات مُسْتَنْطَقَاتٌ يَعْنِي أَنَّهُنَّ يَشْهَدْنَ بِذَلِكَ فَكَانَ عَقْدُهُنَّ بِالتَّسْبِيحِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَوْلَى مِنَ السُّبْحَةِ وَالْحَصَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ(4/258)
[1503] (فَحَوَّلَ اسْمَهَا) فَسَمَّاهَا جُوَيْرِيَةَ (لَوْ وُزِنَتْ) بِصِيغَةِ الْمُؤَنَّثِ الْمَجْهُولِ (لَوَزَنَتْهُنَّ أَيْ لَتَرَجَّحَتْ تِلْكَ الْكَلِمَاتُ عَلَى جَمِيعِ أَذْكَارِكِ وَزَادَتْ عَلَيْهِنَّ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ يُقَالُ وَازَنَهُ فَوَزَنَهُ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ وَزَادَ فِي الْوَزْنِ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) أَيْ بِحَمْدِهِ أَحْمَدُهُ (عَدَدَ خَلْقِهِ) مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ بِعَدَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ قَدْرَ عَدَدِ خَلْقِهِ (وَرِضَاءَ نَفْسِهِ) أَيْ أَقُولُ لَهُ التَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ بِقَدْرِ مَا يُرْضِيهِ خَالِصًا مُخْلَصًا لَهُ فَالْمُرَادُ بِالنَّفْسِ ذَاتُهُ وَالْمَعْنَى ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ (وَزِنَةَ عَرْشِهِ) أَيْ أُسَبِّحُهُ وَأَحْمَدُهُ بِثِقَلِ عَرْشِهِ أَوْ بِمِقْدَارِ عَرْشِهِ (وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ) الْمِدَادُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ وَالْكَثْرَةُ أَيْ بِمِقْدَارِ مَا يُسَاوِيهَا فِي الْكَثْرَةِ بِمِعْيَارٍ أَوْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ وُجُوهِ الْحَصْرِ وَالتَّقْدِيرِ وَهَذَا تَمْثِيلٌ يُرَادُ بِهِ التَّقْرِيبُ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَدْخُلُ فِي الْكَيْلِ وَكَلِمَاتُهُ تَعَالَى هُوَ كَلَامُهُ وَصِفَتُهُ لَا تُعَدُّ وَلَا تَنْحَصِرُ فَإِذًا الْمُرَادُ الْمَجَازُ مُبَالَغَةً فِي الْكَثْرَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَحْصُرُهُ الْعَدَدُ الْكَثِيرُ مِنْ عَدَدِ الْخَلْقِ ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ أَيْ مَا لَا يُحْصِيهِ عَدٌّ كَمَا لَا تُحْصَى كَلِمَاتُ اللَّهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَ مِنْهُ مُسْلِمٌ تَحْوِيلَ الاسم فقط وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بِتَمَامِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
[1504] (ذَهَبَ أَصْحَابُ الدُّثُورِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ الدُّثُورُ جَمْعُ الدَّثْرِ وَهُوَ الْمَالُ الْكَثِيرُ (وَتَخْتِمُهَا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) قَالَ السُّيُوطِيُّ هَكَذَا فِي نُسَخِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَفِيهِ سَقْطٌ
وَالْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِهِ لَمْ(4/259)
يَرْوِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ غَيْرُهُ
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّعَوَاتِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَقَالَ تَمَامُ الْمِائَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ انْتَهَى
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الطَّوَائِفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدِّيلِيِّ وفيه زيادة ونقص
5 - (باب ما يقال الرَّجُلُ إِذَا سَلَّمَ)
[1505] (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ زَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْمُغِيرَةِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ إِلَى قَدِيرٍ وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ
وَثَبَتَ مِثْلُهُ عِنْدَ الْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ لَكِنْ فِي الْقَوْلِ إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى انْتَهَى (وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) قَالَ النَّوَوِيُّ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَمَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى وَالْحَظِّ مِنْكَ غِنَاهُ وَضَبَطَهُ جَمَاعَةٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ انْتَهَى
قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَاءِ مِنْكَ غِنَاؤُهُ وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ مرة
ووقع عند أحمد والنسائي وبن خُزَيْمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الذِّكْرَ الْمَذْكُورَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَقَدِ اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ فِي الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ(4/260)
زِيَادَةٌ وَلَا رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ وَهُوَ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ لَكِنْ حَذَفَ قَوْلَهُ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ تَامًّا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1506] (أَهْلُ النِّعْمَةِ وَالْفَضْلِ) أَيْ أَنْتَ أَهْلُ النِّعْمَةِ
[1507] (يُهَلِّلُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) هُوَ بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي اللُّغَةِ وَالْمَعْرُوفِ فِي الرِّوَايَاتِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الْمُطَرِّزُ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ دَبْرُ كُلِّ شَيْءٍ بِفَتْحِ الدَّالِ آخِرُ أَوْقَاتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا قَالَ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ وَأَمَّا الْجَارِحَةُ فَبِالضَّمِّ وَقَالَ الداودي عن بن الْأَعْرَابِيِّ دُبَرُ الشَّيْءِ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ آخِرُ أَوْقَاتِهِ وَالصَّحِيحُ الضَّمُّ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَوْهَرِيُّ وَآخَرُونَ غَيْرَهُ
وَفِي الْقَامُوسِ الدُّبُرُ بِضَمَّتَيْنِ نَقِيضُ الْقُبُلِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ عَقِبُهُ وَبِفَتْحَتَيْنِ الصَّلَاةُ فِي آخِرِ وَقْتِهَا
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّكْرَارِ قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ(4/261)
[1508] (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ دَاوُدَ الطُّفَاوِيِّ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْبَجْلِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ دَاوُدُ الطُّفَاوِيُّ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَالطُّفَاوِيُّ فِي قَيْسِ غَيْلَانَ نُسِبُوا إِلَى أُمِّهِمْ طُفَاوَةَ بِنْتِ حَزْمِ بْنِ زِيَادٍ وَهِيَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ وَبَعْدَ الْأَلِفِ وَاوٌ مَفْتُوحَةٌ وَتَاءُ تَأْنِيثٍ
وَفِي الرُّوَاةِ طُفَاوِيٌّ كَانَ يَنْزِلُ طُفَاوَةَ وَهِيَ مَوْضِعٌ بِالْبَصْرَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَنُو طُفَاوَةَ نَزَلُوا هَذَا الْمَوْضِعَ فَسُمِّيَ بِهِمْ كَمَا وَقَعَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا
انْتَهَى
[1509] (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ) أَيْ مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ (وَمَا أَخَّرْتُ) أَيْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَةِ (وَمَا أَسْرَرْتُ) أَيْ أَخْفَيْتُ وَلَوْ مِمَّا خَطَرَ بِالْبَالِ (وَمَا أَعْلَنْتُ) مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَحْوَالِ الرَّدِيَّةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْقُصُورِ الْبَشَرِيَّةِ
(قَالَ مَيْرَكُ) فَإِنْ قُلْتَ إِنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ فَمَا مَعْنَى سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ قُلْتُ سَأَلَهُ تَوَاضُعًا وَهَضْمًا لِنَفْسِهِ وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا لِرَبِّهِ وَتَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ (وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) وَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ) بِكَسْرِ الدال أي لِمَنْ تَشَاءُ (وَالْمُؤَخِّرُ) أَيْ لِمَنْ تَشَاءُ(4/262)
وقال بن بَطَّالٍ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُخِّرَ عَنْ غَيْرِهِ فِي الْبَعْثِ وَقُدِّمَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ نَقَلَهُ مَيْرَكُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
[1510] (يَدْعُو رَبِّ أَعِنِّي) أَيْ وَفِّقْنِي لِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ (وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ) أَيْ لَا تُغَلِّبْ عَلَيَّ مَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ طَاعَتِكَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ) أَيْ أَغْلِبْنِي عَلَى الْكُفَّارِ وَلَا تُغَلِّبْهُمْ عَلَيَّ أَوِ انْصُرْنِي عَلَى نَفْسِي فَإِنَّهَا أَعْدَى أَعْدَائِي وَلَا تَنْصُرِ النَّفْسَ الْأَمَارَةَ عَلَيَّ بِأَنْ أَتَّبِعَ الْهَوَى وَأَتْرُكَ الْهُدَى (وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ إِيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وَقِيلَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أنها مقبولة وهي مردودة
وقال بن الْمَلَكِ الْمَكْرُ الْحِيلَةُ وَالْفِكْرُ فِي دَفْعِ عَدُوٍّ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْعَدُوُّ فَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّايَ عَنْ نَفْسِي (وَاهْدِنِي) أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ أَوْ عَلَى عُيُوبِ نَفْسِهِ (وَيَسِّرْ هُدَايَ إِلَيَّ) أَيْ سَهِّلِ اتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ لِي حَتَّى لَا أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِلَ عَنِ الْعِبَادَةِ (وَانْصُرْنِي) أَيْ بِالْخُصُوصِ (عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ) أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِقَوْلِهِ وَانْصُرْنِي فِي الْأَوَّلِ (لَكَ شَاكِرًا) قَدَّمَ الْمُتَعَلِّقَ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْإِخْلَاصِ أَيْ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ (لَكَ ذَاكِرًا) فِي الْأَوْقَاتِ وَالْآنَاءِ (لَكَ رَاهِبًا) أَيْ خَائِفًا فِي السراء والضراء
وقال بن حَجَرٍ أَيْ مُنْقَطِعًا عَنِ الْخَلْقِ (لَكَ مِطْوَاعًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرَ الطَّوْعِ وهو الانقياد والطاعة وفي رواية بن أَبِي شَيْبَةَ مُطِيعًا أَيْ مُنْقَادًا (إِلَيْكَ مُخْبِتًا) قَالَ السُّيُوطِيُّ هُوَ مِنَ الْإِخْبَاتِ وَهُوَ الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ
انْتَهَى
وَفِي الْمِرْقَاةِ أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنَ الْخَبْتِ وَهُوَ الْمُطَمْئِنُّ مِنَ الْأَرْضِ يُقَالُ أَخْبَتَ الرَّجُلُ إِذَا نَزَلَ الْخَبْتَ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ الْخَبْتَ اسْتِعْمَالَ اللِّينِ وَالتَّوَاضُعِ
قَالَ تَعَالَى وأخبتوا إلى ربهم أَيِ اطْمَأَنُّوا إِلَى ذِكْرِهِ (أَوْ مُنِيبًا) شَكٌّ لِلرَّاوِي قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْإِنَابَةُ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ يُقَالُ أَنَابَ إِذَا أَقْبَلَ وَرَجَعَ أَيْ إِلَيْكَ رَاجِعًا (رَبِّ(4/263)
تَقَبَّلْ تَوْبَتِي) بِجَعْلِهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ
قَالَ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ (وَاغْسِلْ حَوْبَتِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيُضَمُّ أَيِ امْحُ ذَنْبِي وَالْحُوبُ بِالضَّمِّ مَصْدَرٌ وَالْحَابُ الْإِثْمُ سُمِّيَ بذلك لكونه مزجورا عنه لحوب فِي الْأَصْلِ لِزَجْرِ الْإِبِلِ وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ دُونَ الإثم وهو إذالحوب لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مِنْ فِعْلِ الذَّنْبِ أَبْلَغُ مِنْهُ مِنْ نَفْسِ الذَّنْبِ (وَأَجِبْ دَعْوَتِي) أَيْ دُعَائِي وأما قول بن حَجَرٍ الْمَكِّيِّ ذُكِرَ لِأَنَّهُ مِنْ فَوَائِدِ قَبُولِ التَّوْبَةِ فَمُوهِمٌ أَنَّهُ لَا تُجَابُ دَعْوَةُ غَيْرِ التَّائِبِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا وَفِي رِوَايَةٍ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا (وَثَبِّتْ حُجَّتِي) أَيْ عَلَى أَعْدَائِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى (وَاهْدِ قَلْبِي) أَيْ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّي (وَسَدِّدْ) أَيْ صَوِّبْ وَقَوِّمْ (لِسَانِي) حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ (وَاسْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى أَيْ أَخْرِجْ (سَخِيمَةَ قَلْبِي) أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ وَحَسَدَهُ وَنَحْوَهَا مِمَّا يَنْشَأُ من الصدر ويسكن في القلب من مساوىء الأخلاق قاله علي القارىء قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[1512] (إِذَا سَلَّمَ) أَيْ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ (اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ) أي من المعائب وَالْحَوَادِثِ وَالتَّغَيُّرِ وَالْآفَاتِ (وَمِنْكَ السَّلَامُ) أَيْ مِنْكَ يُرْجَى وَيُسْتَوْهَبُ وَيُسْتَفَادُ (تَبَارَكْتَ) أَيْ تَعَالَيْتَ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا أَوْ تَعَالَى صِفَاتُكَ عن صفات المخلوقين (ياذا الجلال والإكرام) أي يامستحق الْجَلَالِ وَهُوَ الْعَظَمَةُ وَقِيلَ الْجَلَالُ التَّنَزُّهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ وَقِيلَ الْجَلَالُ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا لِلَّهِ وَالْإِكْرَامُ وَالْإِحْسَانُ وَقِيلَ الْمُكْرِمُ لِأَوْلِيَائِهِ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والترمذي والنسائي وبن ماجه(4/264)
[1513] (أَنْ يَنْصَرِفَ) أَيْ يَفْرُغَ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مسلم والترمذي والنسائي وبن ماجه
6 - (بَابٌ فِي الِاسْتِغْفَارِ)
[1514] (مَا أَصَرَّ) مَا نَافِيَةٌ أَيْ مَا دَامَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ (مَنِ اسْتَغْفَرَ) أَيْ مِنْ كُلِّ سَيِّئَةٍ (وَإِنْ عَادَ) أَيْ وَلَوْ رَجَعَ إِلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ أَوْ غَيْرِهِ (فِي الْيَوْمِ) أَوِ اللَّيْلَةِ (سَبْعِينَ مَرَّةً) ظَاهِرُهُ التَّكْثِيرُ وَالتَّكْرِيرُ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُصِرُّ هُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْفِرْ وَلَمْ يَنْدَمْ عَلَى الذَّنْبِ والإصرار على الذنب إكثاره
وقال بن الْمَلَكِ الْإِصْرَارُ الثَّبَاتُ وَالدَّوَامُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يَعْنِي مَنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً ثُمَّ اسْتَغْفَرَ فَنَدِمَ عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُصِرًّا
ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُصَيْرَةَ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ وَبَعْدَهَا رَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَتَاءُ تَأْنِيثٍ
[1515] (عَنِ الْأَغَرِّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (الْمُزَنِيِّ) نِسْبَةٌ إِلَى قَبِيلَةِ مُزَيْنَةَ مُصَغَّرًا وَقِيلَ الْجُهَنِيِّ لَهُ صُحْبَةٌ وَلَيْسَ لَهُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ ذَكَرَهُ مَيْرَكُ (لَيُغَانُ) بِضَمِّ الْيَاءِ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْغَيْنِ وَأَصْلُهُ الْغَيْمُ لُغَةٌ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَغِينَتِ السَّمَاءُ تُغَانُ إِذَا أَطْبَقَ عَلَيْهَا الْغَيْمُ وَقِيلَ الْغَيْنُ شَجَرٌ مُلْتَفٌّ أَرَادَ مَا يَغْشَاهُ مِنَ السَّهْوِ الَّذِي لَا يَخْلُو مِنْهُ الْبَشَرُ لِأَنَّ قَلْبَهُ أَبَدًا كَانَ مَشْغُولًا بِاللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ عَرَضَ لَهُ وَقْتًا مَا عَارِضٌ بَشَرِيٌّ يَشْغَلُهُ عَنْ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَالْمِلَّةِ وَمَصَالِحِهِمَا عُدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا وَتَقْصِيرًا فَيَفْرُغُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ انْتَهَى
وَقَالَ فِي الْمِرْقَاةِ أَيْ(4/265)
يُطْبَقُ وَيُغْشَى أَوْ يُسْتَرُ وَيُغَطَّي عَلَى قَلْبِي عِنْدَ إِرَادَةِ رَبِّي انْتَهَى
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ هَذَا مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ مَعْنَاهُ
وَقَدْ وَقَفَ الْأَصْمَعِيُّ إِمَامُ اللُّغَةِ عَلَى تَفْسِيرِهِ وَقَالَ لَوْ كَانَ قَلْبُ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَكَلَّمْتُ عَلَيْهِ انْتَهَى
قَالَ السِّنْدِيُّ وَحَقِيقَتُهُ بِالنَّظَرِ إِلَى قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُدْرَى وَإِنَّ قَدْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِمَّا يَخْطِرُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْهَامِ فَالتَّفْوِيضُ فِي مِثْلِهِ أَحْسَنُ نَعَمُ الْقَدْرُ الْمَقْصُودُ بِالْإِفْهَامِ مَفْهُومٌ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْصُلُ لَهُ حَالَةٌ دَاعِيَةٌ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ فَيَسْتَغْفِرُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ فَكَيْفَ غَيْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قال المنذري وأخرجه مسلم
[1516] (عن بن عُمَرَ قَالَ إِنْ) مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ (كُنَّا لَنَعُدُّ) اللَّامُ فَارِقَةٌ (لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مُتَعَلِّقٌ بِنَعُدُّ (مِائَةَ مَرَّةٍ) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِنَعُدُّ (وَتُبْ عَلَيَّ) أَيِ ارْجِعْ عَلَيَّ بِالرَّحْمَةِ أَوْ وَفِّقْنِي لِلتَّوْبَةِ أَوِ اقْبَلْ تَوْبَتِي
قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ
[1517] (حَفْصُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُرَّةَ الشَّنِّيُّ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّنِّ بَطْنٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ
كَذَا فِي تَاجِ الْعَرُوسِ (حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ مُرَّةَ) بَدَلٌ مِنْ أَبِي أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ (قَالَ) أَيْ هِلَالٌ (سمعت أبي) أي يسار (عَنْ جَدِّي) أَيْ زَيْدٍ (مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) رُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْوَصْفِ لِلَفْظِ اللَّهِ وَبِالرَّفْعِ لِكَوْنِهِمَا بَدَلَيْنِ أَوْ بَيَانَيْنِ لِقَوْلِهِ هُوَ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَكْثَرُ وَالْأَشْهَرُ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ يَجُوزُ فِي الْحَيِّ الْقَيُّومِ النَّصْبُ صِفَةً لِلَّهِ أَوْ مَدْحًا وَالرَّفْعُ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ أَوْ عَلَى الْمَدْحِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ (وَأَتُوبُ إِلَيْهِ) يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَلَفَّظَ بِذَلِكَ إِلَّا إِنْ كَانَ صَادِقًا وَإِلَّا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَاذِبًا مُنَافِقًا
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِنَّ الْمُسْتَغْفِرَ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كالمستهزىء بِرَبِّهِ (غُفِرَ لَهُ(4/266)
وَإِنْ كَانَ فَرَّ) وَفِي نُسْخَةٍ قَدْ فَرَّ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الْحِصْنِ أَيْ هَرَبَ (مِنَ الزَّحْفِ) قَالَ الطِّيبِيُّ الزَّحْفُ الْجَيْشُ الْكَثِيرُ الَّذِي يُرَى لِكَثْرَتِهِ كَأَنَّهُ يَزْحَفُ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ مِنْ زَحَفَ الصَّبِيُّ إِذَا دَبَّ عَلَى اسْتِهِ قَلِيلًا قَلِيلًا
وَقَالَ الْمُظْهِرُ هُوَ اجْتِمَاعُ الْجَيْشِ فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ أَيْ مِنْ حَرْبِ الْكُفَّارِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْفِرَارُ بِأَنْ لَا يَزِيدَ الْكُفَّارُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَوَى التَّحَرُّفَ وَالتَّحَيُّزَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَوَقَعَ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ هِلَالُ بْنُ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِالْهَاءِ وَوَقَعَ فِي كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِلَالُ بْنِ يَسَارٍ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ أَشَارَ النَّاسُ إِلَى الْخِلَافِ فِيهِ وذكره البغوي في معجم الصحابة بالباء وَقَالَ لَا أَعْلَمُ لِزَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ وَذَكَرَ أَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو يَسَارٍ بِالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ وَأَنَّهُ سَكَنَ الْمَدِينَةَ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ أَيْضًا بِالْبَاءِ وَذَكَرَ أَنَّ بِلَالًا سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ يَسَارٍ وَأَنَّ يَسَارًا سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ زَيْدٍ
[1518] (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ) أَيْ عِنْدَ صُدُورِ مَعْصِيَةٍ وَظُهُورِ بَلِيَّةٍ أَوْ مَنْ دَاوَمَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي كُلِّ نَفَسٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُوبَى لِمَنْ وُجِدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كثيرا رواه بن مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ صَحِيحٍ (مِنْ كُلِّ ضِيقٍ) أَيْ شِدَّةٍ وَمِحْنَةٍ (مَخْرَجًا) أَيْ طَرِيقًا وَسَبَبًا يَخْرُجُ إِلَى سَعَةٍ وَمِنْحَةٍ وَالْجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وقدم عليه الاهتمام وَكَذَا (وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ) أَيْ غَمٍّ يَهُمُّهُ (فَرَجًا) أَيْ خَلَاصًا (وَرَزَقَهُ) حَلَالًا طَيِّبًا (مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) أَيْ لَا يَظُنُّ وَلَا يَرْجُو وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ
وَالْحَدِيثُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قدرا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَكَمُ بْنُ مُصْعَبٍ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ
[1519] (كَانَ أَكْثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا) أَيْ لِكَوْنِهِ دُعَاءً جَامِعًا وَلِكَوْنِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مُقْتَبَسًا وَجَعَلَ اللَّهُ(4/267)
دَاعِيَهُ مَمْدُوحًا (اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا) أَيْ قَبْلَ الْمَوْتِ (حَسَنَةً) أَيْ كُلَّ مَا يُسَمَّى نِعْمَةً وَمِنْحَةً عَظِيمَةً وَحَالَةً مُرْضِيَةً (وَفِي الْآخِرَةِ) أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ (حَسَنَةً) أَيْ مَرْتَبَةً مُسْتَحْسَنَةً (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أَيِ احْفَظْنَا مِنْهُ وَمَا يَقْرَبُ إِلَيْهِ وَقِيلَ حَسَنَةُ الدُّنْيَا اتِّبَاعُ الْهُدَى وحسنة الآخرة موافقة الرفيق الأعلى وعذاب النَّارِ حِجَابُ الْمَوْلَى (أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ) أَيْ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْفَعْلَةَ لِلْمَرَّةِ (أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ) أَيْ كَثِيرٍ (دَعَا بِهَا) أَيْ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ (فِيهَا) أَيْ فِي هَذَا الدُّعَاءِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ
[1520] (مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ) أَيِ الْمَوْتَ شَهِيدًا (بِصِدْقٍ) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ مِعْيَارُ الْأَعْمَالِ وَمِفْتَاحُ بَرَكَاتِهَا (بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ) مُجَازَاةً لَهُ عَلَى صِدْقِ الطَّلَبِ (وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَوَى خَيْرًا وَفَعَلَ مَقْدُورَهُ فَاسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الْأَجْرِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ
[1521] (نَفَعَنِي اللَّهُ) بِالْعَمَلِ بِهِ (فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ) عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَإِنْ كَانَ الْقَبُولُ الْمُوجِبُ لِلْعَمَلِ حَاصِلًا بِدُونِهِ (وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ عَلِمْتُ صِدْقَهُ بِلَا حَلِفٍ (فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ) أَيِ الْوُضُوءَ (ثُمَّ قَرَأَ) أَيْ أَبُو بَكْرٍ (إِلَى آخِرِ الْآيَةِ) وَتَمَامُ الْآيَةِ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ(4/268)
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خالدين فيها ونعم أجر العاملين قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ فَوَقَفَهُ
[1522] (أَخَذَ بِيَدِهِ) كَأَنَّهُ عَقَدُ مَحَبَّةٍ وَبَيْعَةُ مَوَدَّةٍ (وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ) لَامُهُ لِلِابْتِدَاءِ وَقِيلَ لِلْقَسَمِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ أَحَدًا يُسْتَحَبُّ لَهُ إِظْهَارُ الْمَحَبَّةِ لَهُ (فَقَالَ أُوصِيكَ يامعاذ لَا تَدَعَنَّ) إِذَا أَرَدْتَ ثَبَاتَ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ فَلَا تَتْرُكَنَّ (فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ) أَيْ عَقِبَهَا وَخَلْفَهَا أَوْ فِي آخِرِهَا (تَقُولُ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ) مِنْ طَاعَةِ اللِّسَانِ (وَشُكْرِكَ) مِنْ طَاعَةِ الْجَنَانِ (وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) مِنْ طَاعَةِ الْأَرْكَانِ
قَالَ الطِّيبِيُّ ذِكْرُ اللَّهِ مُقَدِّمَةُ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَشُكْرُهُ وَسِيلَةُ النِّعَمِ الْمُسْتَجَابَةِ وَحُسْنُ العِبَادَةِ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ التَّجَرُّدُ عَمَّا يَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى
قَالَ النَّوَوِيُّ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَصِيَّةَ
[1523] (أَنِ اقْرَأْ بِالْمُعَوِّذَاتِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَتُفْتَحُ (دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ) قَالَ مَيْرَكُ رَوَاهُ أَبُو داود والنسائي وبن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ بِلَفْظِ الْمُعَوِّذَاتِ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَلَفْظُهُ أَنِ اقْرَأْ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ الْكَبِير وَلَمْ يَرْوِ عَنْ بن أَبِي الْحُرّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيث الْوَاحِد وَحَدِيث آخَر وَلَمْ يُتَابَع وَقَدْ رَوَى أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضهمْ عَنْ بَعْض فَلَمْ يُحَلِّف بَعْضهمْ بَعْضًا(4/269)
بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ فَعَلَى الْأَوَّلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ وَالْكَافِرُونَ إِمَّا تَغْلِيبًا يَعْنِي لِأَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ أَكْثَرُ أَوْ لِأَنَّ فِي كِلْتَيْهِمَا يَعْنِي الْإِخْلَاصَ وَالْكَافِرُونَ بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ وَالْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي فَفِيهِمَا مَعْنَى التَّعَوُّذِ أَيْضًا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ
[1524] (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ هو بن مسعود انتهى
وكلما كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بِغَيْرِ اسْمِ أَبِيهِ فَهُوَ بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (يُعْجِبُهُ) أَيْ يُحَسِّنُهُ (أَنْ يَدْعُوَ) أَيْ يَقُولَ اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أَوْ غَيْرَهُ (وَيَسْتَغْفِرَ ثَلَاثًا) أَيْ يَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1525] (عِنْدَ الْكَرْبِ) أَيِ الْمِحْنَةِ وَالْمَشَقَّةِ (أَوْ فِي الْكَرْبِ) شَكَّ الرَّاوِي
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا
وَأَخْرَجَهُ بن مَاجَهْ
[1526] (وَعَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ) بْنِ جُدْعَانَ (وَسَعِيدٍ) بن إِيَاسٍ (الْجَرِيرِيُّ) فَحَمَّادٌ يَرْوِي عَنْ ثَلَاثَةِ شُيُوخٍ عَنْ ثَابِتٍ وَعَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ وَكُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ (إِنَّكُمْ لَا تدعون) الله(4/270)
بِالتَّكْبِيرِ أَوْ لَا تَذْكُرُونَ (أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا) الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ إِلَى الْجَهْرِ الْبَلِيغِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ كَثِيرًا فَإِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْنَاقِ رِكَابِكُمْ) بَلْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فَهُوَ بِحَسَبِ مُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ إِلَى فَهْمِ اللَّبِيبِ وَالْمَعْنَى قُرْبُ التَّقْرِيبِ وَكِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ قُرْبِهِ إِلَى الْعَبْدِ (عَلَى كَنْزٍ) أَيْ عَظِيمٍ (مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ) سَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْآتِيَةَ كَنْزًا لِأَنَّهَا كالكنز في نفاسته وصيانيه مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ أَوْ أَنَّهَا مِنْ ذَخَائِرِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ مُحَصِّلَاتِ نَفَائِسِ الْجَنَّةِ
قَالَ النَّوَوِيُّ الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهَا يُحَصِّلُ ثَوَابًا نَفِيسًا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْجَنَّةِ (قَالَ لَا حَوْلَ) أَيْ لَا حَرَكَةَ فِي الظَّاهِرِ (وَلَا قُوَّةَ) أَيْ لَا اسْتِطَاعَةَ فِي الْبَاطِنِ (إِلَّا بِاللَّهِ) أَوْ لَا تَحْوِيلَ عَنْ شَيْءٍ وَلَا قُوَّةَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَقُوَّتِهِ
وَقِيلَ الْحَوْلُ الْحِيلَةُ إِذْ لَا دَفْعَ وَلَا مَنْعَ إِلَّا بِاللَّهِ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ هِيَ كَلِمَةُ اسْتِسْلَامٍ وَتَفْوِيضٍ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا وَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا قُوَّةٌ فِي جَلْبِ خَيْرٍ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تعالى انتهى
قال القارىء والأحسن ما ورد فيه عن بن مَسْعُودٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُهَا فَقَالَ تَدْرِي مَا تَفْسِيرُهَا قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ
وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُمَا أَمْرَانِ مُهِمَّانِ فِي الدِّينِ
[1527] (وَهُمْ يَتَصَعَّدُونَ فِي ثَنِيَّةٍ) هُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ (يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ) اسْمُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
[1528] (ارْبَعُوا) بِفَتْحِ الْبَاءِ (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَيِ ارْفُقُوا بِهَا وَأَمْسِكُوا عَنِ الْجَهْرِ الَّذِي يَضُرُّكُمْ ذَكَرَهُ(4/271)
فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
بِنَحْوِهِ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
[1529] (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أبي عبد الرحمن الحبلي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَتَمَّ مِنْهُ
[1530] (مَنْ صَلَّى عَلَيَّ) صَلَاةً (وَاحِدَةً فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَفِي حَدِيثِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا انْتَهَى
[1531] (فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ) قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً
وَإِنَّمَا خَصَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَيِّدُ الْأَيَّامِ وَالْمُصْطَفَى سَيِّدُ الْأَنَامِ فَلِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِيهِ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ (وَقَدْ أَرَمْتَ) عَلَى وَزْنِ ضَرَبْتَ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ قَالَ الْحَرْبِيُّ هَكَذَا يَرْوِيهِ الْمُحَدِّثُونَ وَلَا أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَالصَّوَابُ أَرَمَتْ فَتَكُونُ التَّاءُ لِتَأْنِيثِ الْعِظَامِ أَوْ رَمَمْتَ أَيْ صِرْتَ رَمِيمًا
وَقَالَ غَيْرُهُ إِنَّمَا هُوَ أَرَمْتَ بِوَزْنِ ضَرَبْتَ وَأَصْلُهُ أَرْمَمْتَ أَيْ بَلِيتَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ عَلَى أَنَّهُ أَدْغَمَ إِحْدَى الْمِيمَيْنِ فِي التَّاءِ وَهَذَا قَوْلٌ سَاقِطٌ لِأَنَّ الْمِيمَ لَا تُدْغَمُ(4/272)
فِي التَّاءِ أَبَدًا
وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِمْتَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِوَزْنِ أُمِرْتَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَرَمَتِ الْإِبِلُ تَأْرَمُ إِذَا تَنَاوَلَتِ الْعَلَفَ وَقَلَعَتْهُ مِنَ الْأَرْضِ
(قُلْتُ) أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ رَمَّ الْمَيِّتُ وَأَرَمَ إِذَا بَلِيَ وَالرِّمَّةُ الْعَظْمُ الْبَالِي وَالْفِعْلُ الْمَاضِي مِنْ أُرَمِّمُ لِلْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ أَرَمَمْتَ وَأَرْمَمْتَ بِإِظْهَارِ التَّضْعِيفِ وَكَذَلِكَ كُلُّ فِعْلٍ مُضَعَّفٍ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِيهِ التَّضْعِيفُ مَعَهُمَا تَقُولُ فِي شَدَّدَ شَدَدْتُ وَفِي أَعَدَّ أَعْدَدْتُ وَإِنَّمَا ظَهَرَ التَّضْعِيفُ لِأَنَّ تَاءَ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ مُتَحَرِّكَةٌ وَلَا يَكُونُ مَا قَبْلَهُمَا إِلَّا سَاكِنًا فَإِذَا سَكَنَ مَا قَبْلَهَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ غَلِطَ فِي هَذَا الْحَدِيث فَرِيقَانِ فَرِيق فِي لَفْظه وَفَرِيق فِي تَضْعِيفه فَأَمَّا الْفَرِيق الْأَوَّل فَقَالُوا اللَّفْظ بِهِ أَرَمَّتْ بِفَتْحِ الرَّاء وَتَشْدِيد الْمِيم وَفَتْحهَا وَفَتْح التَّاء قَالُوا وَأَصْله أَرْمَمْت أَيْ صِرْت رَمِيمًا فَنَقَلُوا حَرَكَة الْمِيم إِلَى الرَّاء قَبْلهَا ثُمَّ أَدْغَمُوا إِحْدَى الْمِيمَيْنِ فِي الْأُخْرَى وَأَبْقَوْا تَاء الْخِطَاب عَلَى حَالهَا فَصَارَ أَرَمَّتْ وَهَذَا غَلَط إِنَّمَا يَجُوز إِدْغَام مِثْل هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ آخِر الْفِعْل مُلْتَزِم السُّكُون لِاتِّصَالِ ضَمِير الْمُتَكَلِّم وَالْمُخَاطَب وَنُون النِّسْوَة بِهِ كَقَوْلِك أَرَمَّ وَأَرَمَّا وَأَرَمُّوا وَأَمَّا إِذَا اِتَّصَلَ بِهِ ضَمِير يُوجِب سُكُونه لَمْ يَجُزْ الْإِدْغَام لِإِفْضَائِهِ إِلَى اِلْتِقَاء السَّاكِنَيْنِ عَلَى غَيْر أَحَدهمَا أَوْ إِلَى تَحْرِيك آخِره وَقَدْ اِتَّصَلَ بِهِ مَا يُوجِب سُكُونه
وَلِهَذَا لَا نَقُول أَمَّدَتْ وَأُمِدْت وَأَمَّدْنَ فِي أَمْدَدْت وَأَمْدَدْت وَأَمْدَدْنَ لِمَا ذُكِرَ وَهَؤُلَاءِ لَمَّا رَأَوْا الْفِعْل يُدْغَم إِذَا لَمْ يَكُنْ آخِره سَاكِنًا نَحْو أَرَمَّ ظَنُّوا أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي أَرْمَمْت وَغَفَلُوا عَنْ الْفَرْق
وَالصَّوَاب فِيهِ أَرَمَتْ بِوَزْنِ ضَرَبَتْ فَحَذَفُوا إِحْدَى الْمِيمَيْنِ تَخْفِيفًا وَهِيَ لُغَة فَصَيْحَة مَشْهُورَة جَاءَ بِهَا الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى {ظَلْت عَلَيْهِ عَاكِفًا} وَقَوْله {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} وَأَصْله ظَلِلْت عَلَيْهِ وَظَلِلْتُمْ تَفَكَّهُونَ وَنَظَائِره كَثِيرَة
وَأَمَّا الْفَرِيق الثَّانِي الَّذِينَ ضَعَّفُوهُ فَقَالُوا هَذَا الْحَدِيث مَعْرُوف بِحُسَيْنِ بْن عَلِيّ الْجُعْفِيِّ حَدَّثَ بِهِ عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن جَابِر عَنْ أَبِي الْأَشْعَث الصَّنْعَانِيِّ عَنْ أَوْس بْن أَوْس قَالُوا وَمَنْ نَظَرَ ظَاهِر هَذَا الْإِسْنَاد لَمْ يَرْتَبْ فِي صِحَّته لِثِقَةِ رُوَاته وَشُهْرَتهمْ وَقَبُول الْأَئِمَّة أَحَادِيثهمْ وَاحْتِجَاجهمْ بِهَا وَحَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيث عَنْ حُسَيْن الْجُعْفِيِّ جَمَاعَة مِنْ النُّبَلَاء قَالُوا وَعِلَّته أَنَّ حُسَيْن بْن عَلِيّ الْجُعْفِيَّ لَمْ يَسْمَع مِنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن جَابِر وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن تَمِيم وَعَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن تَمِيم لَا يُحْتَجّ بِهِ فَلَمَّا حَدَّثَ بِهِ حُسَيْن الْجُعْفِيُّ غَلِطَ فِي اسم الجد فقال بن جَابِر وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْحُفَّاظ وَنَبَّهُوا عَلَيْهِ(4/273)
وَهِيَ الْمِيمُ الثَّانِيَةُ الْتَقَى سَاكِنَانِ فَإِنَّ الْمِيمَ الْأُولَى سَكَنَتْ لِأَجْلِ الْإِدْغَامِ وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَلَا يَجُوزُ تَحْرِيكُ الثَّانِي لِأَنَّهُ وَجَبَ سُكُونُهُ لِأَجْلِ تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَحْرِيكُ الْأَوَّلِ وَحَيْثُ حُرِّكَ ظَهَرَ التَّضْعِيفُ
وَالَّذِي جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْإِدْغَامِ وَحَيْثُ لَمْ يَظْهَرِ التَّضْعِيفُ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ احْتَاجُوا أَنْ يُشَدِّدُوا التَّاءَ لِيَكُونَ مَا قَبْلَهَا سَاكِنًا حَيْثُ تَعَذَّرَ تَحْرِيكُ الْمِيمِ الثَّانِيَةِ أَوْ يَتْرُكُوا الْقِيَاسَ فِي الْتِزَامِ مَا قَبْلَ تَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخَاطَبِ فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ وَلَمْ تَكُنْ مُحَرَّفَةً فَلَا يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ إِلَّا عَلَى لُغَةِ بَعْضِ الْعَرَبِ فَإِنَّ الْخَلِيلَ زَعَمَ أَنَّ نَاسًا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يَقُولُونَ رَدَّتُ وَرَدَتُ وَكَذَلِكَ مَعَ جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ يقولون ردن ومرن يريدون رددت ورددت وأردون وَامْرُرْنَ قَالَ كَأَنَّهُمْ قَدَّرُوا الْإِدْغَامَ قَبْلَ دُخُولِ التَّاءِ وَالنُّونِ فَيَكُونُ لَفْظُ الْحَدِيثِ أَرَمَّتَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَفَتْحِ التَّاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى كَلَامُهُ
قال المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ وَلَهُ عِلَّةٌ وَقَدْ جَمَعْتُ طُرُقَهُ فِي جزء مفرد انتهى
7 - (باب النهي أَنْ يَدْعُوَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ)
[1532] (أَبُو حَزْرَةَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ زَاءٍ مُعْجَمَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مُهْمَلَةٍ (لَا تَدْعُوا) أَيْ دعاء
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالَ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ الْكَبِير عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن تَمِيم السَّلَمِيّ الشَّامِيّ عَنْ مَكْحُول سَمِعَ مِنْهُ الْوَلِيد بْن مُسْلِم عِنْده مَنَاكِير وَيُقَال هُوَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ أَهْل الْكُوفَة أَبُو أُسَامَة وَحُسَيْن فَقَالُوا عَبْد الرَّحْمَن بن يزيد بن جابر وبن تَمِيم أَصَحّ وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي حَاتِم سَأَلْت أَبِي عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن تَمِيم فَقَالَ عِنْده مَنَاكِير يُقَال هُوَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ أَبُو أُسَامَة وَحُسَيْن الجعفي وقالا هو بن يَزِيد بْن جَابِر وَغَلِطَا فِي نَسَبه وَيَزِيد بْن تَمِيم أَصَحّ وَهُوَ ضَعِيف الْحَدِيث
وَقَالَ أَبُو بَكْر الْخَطِيب رَوَى الْكُوفِيُّونَ أَحَادِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن تَمِيم عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن جَابِر وَوَهَمُوا فِي ذَلِكَ وَالْحَمْل عَلَيْهِمْ فِي تَلِك الْأَحَادِيث
وَقَالَ مُوسَى بْن هَارُون الْحَافِظ رَوَى أَبُو أُسَامَة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وَكَانَ ذَلِكَ وَهْمًا مِنْهُ هُوَ لَمْ يَلْقَ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن جَابِر وَإِنَّمَا لَقِيَ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن تَمِيم فظن أنه بن جابر وبن جابر ثقة وبن تَمِيم ضَعِيف قَالُوا وَقَدْ أَشَارَ غَيْر وَاحِد مِنْ الْحُفَّاظ إِلَى مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة(4/274)
سُوءٍ (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَيْ بِالْهَلَاكِ وَمِثْلِهِ (وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ) أَيْ بِالْعَمَى وَنَحْوِهِ (وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ) أَيْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ (لَا تُوَافِقُوا) نَهْيٌ لِلدَّاعِي وَعِلَّةُ النَّهْيِ أَيْ لَا تَدْعُوا عَلَى مَنْ ذُكِرَ لِئَلَّا تُوَافِقُوا (مِنَ اللَّهِ سَاعَةَ نَيْلٍ) أَيْ عَطَاءٍ (فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ) أَيْ لِئَلَّا تُصَادِفُوا سَاعَةَ إِجَابَةٍ وَنَيْلٍ فَتُسْتَجَابَ دَعَوْتُكُمُ السُّوءُ
ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْخَدَمِ
8 - (بَابُ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
[1533] (لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم صل علي) قال بن الْمَلَكِ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالتَّبَرُّكِ قِيلَ يَجُوزُ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُعْطِي الزَّكَاةِ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّكْرِيمِ فَهِيَ خَاصَّةٌ لَهُ انْتَهَى
وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ وَالْخَفَاجِيُّ فِي شَرْحِهِ فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْفَصْلِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
9 - (بَاب الدُّعَاءِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ)
[1534] (إِذَا دَعَا الرَّجُلُ لِأَخِيهِ) أَيِ الْمُؤْمِنِ (بِظَهْرِ الْغَيْبِ) الظَّهْرُ مُقْحَمٌ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ فِي غَيْبَةِ(4/275)
الْمَدْعُوِّ لَهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا مَعَهُ بأن دعاله بِقَلْبِهِ حِينَئِذٍ أَوْ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ (قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ آمِينَ) أَيِ اسْتَجِبْ لَهُ يَا رَبِّ دُعَاءَهُ لِأَخِيهِ
فَقَوْلُهُ (وَلَكَ) فِيهِ الْتِفَاتٌ أَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ فِي حَقِّ أَخِيكَ وَلَكَ (بِمِثْلٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَنْوِينِ اللَّامِ أَيْ أَعْطَى اللَّهُ لَكَ بِمِثْلِ مَا سَأَلْتَ لِأَخِيكَ
قَالَ الطِّيبِيُّ الْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي الْمُبْتَدَأِ كَمَا فِي بِحَسْبِكِ دِرْهَمٌ
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ يَدْعُو لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ لِيَدْعُوَ لَهُ الْمَلَكُ بِمِثْلِهَا فَيَكُونَ أَعْوَنَ لِلِاسْتِجَابَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ
وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ هَذِهِ هِيَ الصُّغْرَى تَابِعِيَّةٌ وَاسْمُهَا هُجَيْمَةُ وَيُقَالُ جُهَيْمَةُ وَيُقَالُ جُمَانَةُ وَالْكُبْرَى اسْمُهَا خَيْرَةُ لَهَا صُحْبَةٌ وَلَيْسَ لَهَا فِي الْكِتَابَيْنِ حَدِيثٌ
وَذَكَرَ خَلَفٌ الْوَاسِطِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِظَاهِرٍ رَآهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رِوَايَتِهَا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1535] (إِنَّ أَسْرَعَ الدُّعَاءِ إِجَابَةً) تُمَيَّزُ (دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبٍ) لِخُلُوصِهِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ وَبُعْدِهِ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْإِفْرِيقِيُّ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الْإِفْرِيقِيُّ
[1536] (ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ) أَيْ فِي اسْتِجَابَتِهِنَّ وَهُوَ آكَدُ مِنْ حَدِيثِ ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ وَإِنَّمَا آكَدَ بِهِ لِالْتِجَاءِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصِدْقِ الطَّلَبِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ وَانْكِسَارِ الْخَاطِرِ (دَعْوَةُ الْوَالِدِ) أَيْ لِوَلَدِهِ أَوْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَالِدَةَ لِأَنَّ حَقَّهَا أَكْثَرُ فَدُعَاؤُهَا أَوْلَى بِالْإِجَابَةِ (وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ دَعَوْتُهُ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَبِالشَّرِّ لِمَنْ أَذَاهُ وَأَسَاءَ إِلَيْهِ لِأَنَّ دُعَاءَهُ لَا يَخْلُو عَنِ الرِّقَّةِ (وَدَعْوَةُ المظلوم) أي لمن يعينه وينصره أو يسليه(4/276)
وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ الَّذِي رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يُقَالُ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ وَلَا نَعْرِفُ اسْمَهُ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ غَيْرَ حَدِيثٍ وَأَخْرَجَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
0 - (بَابُ ما يقول الرجل إذا خاف)
[1537] (اللَّهُمَّ إِنَّا نَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ) يُقَالُ جَعَلْتُ فُلَانًا فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ أَيْ قُبَالَتَهُ وَحِذَاءَهُ لِيُقَاتِلَ مِنْكَ وَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَخَصَّ النَّحْرَ بالذكر لأن العدو به يستقبل عند الْمُنَاهَضَةِ لِلْقِتَالِ
وَالْمَعْنَى نَسْأَلُكَ أَنْ تَصُدَّ صُدُورَهُمْ وَتَدْفَعَ شُرُورَهُمْ وَتَكْفِينَا أُمُورَهُمْ وَتَحُولَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ
قال المنذري وأخرجه النسائي
1 - (بَابُ الِاسْتِخَارَةِ)
[1538] (يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ) أَيْ طَلَبُ تَيَسُّرِ الْخَيْرِ فِي الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَهُوَ ضِدُّ الشَّرِّ فِي الْأُمُورِ الَّتِي نُرِيدُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهَا مُبَاحَةً كَانَتْ أَوْ عِبَادَةً لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِيقَاعِ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ فِعْلِهَا كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ (كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهَذَا الدُّعَاءِ (يَقُولُ) بَدَلٌ أَوْ حَالٌ (إِذَا هَمَّ) أَيْ قَصَدَ(4/277)
(أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ) أَيْ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يُرِيدُ فِعْلَهُ أَوْ تَرْكَهُ
قال بن أَبِي جَمْرَةَ الْوَارِدُ عَلَى الْقَلْبِ عَلَى مَرَاتِبَ الْهِمَّةُ ثُمَّ اللَّمَّةُ ثُمَّ الْخَطْرَةُ ثُمَّ النِّيَّةُ ثُمَّ الْإِرَادَةُ ثُمَّ الْعَزِيمَةُ فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا بِخِلَافِ الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ فَقَوْلُهُ إِذَا هَمَّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَا يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ فَيَسْتَخِيرُ فَيَظْهَرُ لَهُ بِبَرَكَةِ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ مَا هُوَ الْخَيْرُ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَمَكَّنَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ وَقَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِلَيْهِ مَيْلٌ وَحُبٌّ فَيَخْشَى أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ وَجْهُ الْأَرْشَدِيَّةِ لِغَلَبَةِ مَيْلِهِ إِلَيْهِ قَالَ ويحتمل أن يكون المراد بالهم الْعَزِيمَةَ لِأَنَّ الْخَوَاطِرَ لَا تَثْبُتُ فَلَا يَسْتَخِيرُ إلا على ما يقصد التصميم على فِعْلِهِ وَإِلَّا لَوِ اسْتَخَارَ فِي كُلِّ خَاطِرٍ لَاسْتَخَارَ فِيمَا لَا يَعْبَأُ بِهِ فَتَضِيعُ عَلَيْهِ أوقاته
ووقع في حديث بن مَسْعُودٍ بِلَفْظِ إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَمْرًا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (فَلْيَرْكَعْ) أَيْ لِيُصَلِّ أَمْرُ نَدْبٍ (رَكْعَتَيْنِ) بِنِيَّةِ الِاسْتِخَارَةِ وَهُمَا أَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى الْكَافِرُونَ وَفِي الثَّانِيَةِ الْإِخْلَاصَ (مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ) بَيَانٌ لِلْأَكْمَلِ وَنَظِيرُهُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَشُكْرُ الْوُضُوءِ
قَالَ ميرك فيه إشارة إلى أنه لا تجزىء الْفَرِيضَةُ وَمَا عُيِّنَ وَقْتًا فَتَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمْعٌ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا فِي غَيْرِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ (وَلْيَقُلْ) أَيْ بَعْدَ الصَّلَاةِ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ) أَيْ أَطْلُبُ أَصْلَحَ الْأَمْرَيْنِ (بِعِلْمِكَ) أَيْ بِسَبَبِ عِلْمِكَ وَالْمَعْنَى أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَشْرَحَ صَدْرِي لِخَيْرِ الْأَمْرَيْنِ بِسَبَبِ عِلْمِكَ بِكَيْفِيَّاتِ الْأُمُورِ كُلِّهَا
قَالَ الطِّيبِيُّ الْبَاءُ فِيهِ وَفِي قَوْلِهِ (وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ) إِمَّا لِلِاسْتِعَانَةِ كما في قوله تعالى بسم الله مجريها ومرساها أَيْ أَطْلُبُ خَيْرَكَ مُسْتَعِينًا بِعِلْمِكَ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِيمَ خَيْرُكُ وَأَطْلُبُ مِنْكَ الْقُدْرَةَ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ وَإِمَّا لِلِاسْتِعْطَافِ أَيْ بِحَقِّ عِلْمِكَ الشَّامِلِ وَقُدْرَتِكَ الْكَامِلَةِ (وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ) أَيْ تَعْيِينَ الْخَيْرِ وَتَبْيِينَهُ وَإِعْطَاءَ الْقُدْرَةِ لِي عَلَيْهِ (فَإِنَّكَ تَقْدِرُ) بِالْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُمْكِنٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُكَ (وَلَا أَقْدِرُ) عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِقُدْرَتِكَ وَحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ (وَتَعْلَمُ) بِالْعِلْمِ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا (وَلَا أَعْلَمُ) شَيْئًا مِنْهَا إِلَّا بِإِعْلَامِكَ وَإِلْهَامِكَ (اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ) أَيْ إِنْ كَانَ فِي عِلْمِكَ (أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ) أَيِ الَّذِي يُرِيدُهُ (يُسَمِّيهِ) أَيْ يُسَمِّي ذَلِكَ الْأَمْرَ وَيَنْطِقُ بِحَاجَتِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِمُرَادِهِ (بِعَيْنِهِ) أَيْ بِعَيْنِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي يُرِيدُ بِهِ الْمُسْتَخِيرُ
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةُ قَوْلِهِ هَذَا الْأَمْرَ
وَقَوْلُهُ يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ (خَيْرٌ لِي) أَيِ الْأَمْرُ الَّذِي عَزَمْتُ عَلَيْهِ أَصْلَحُ (فِي دِينِي) أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدِينِي أَوَّلًا وَآخِرًا (ومعاشي) في(4/278)
الصَّحَّاحِ الْعَيْشُ الْحَيَاةُ وَقَدْ عَاشَ الرَّجُلُ مَعَاشًا وَمَعِيشًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا وَأَنْ يَكُونَ اسْمًا مِثْلُ مَعَابٌ وَمَعِيبٌ
ولفظ الطبراني في الأوسط من حديث بن مَسْعُودٍ فِي دِينِي وَفِي دُنْيَايَ وَعِنْدَهُ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ فِي دُنْيَايَ وَآخِرَتِي (وَمَعَادِي) أَيْ مَا يَعُودُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ إِمَّا مَصْدَرٌ أَوْ ظَرْفٌ (وَعَاقِبَةِ أَمْرِي) الظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ دِينِي (فَاقْدُرْهُ) بِضَمِّ الدَّالِ وَبِكَسْرٍ (لِي) أَيِ اجْعَلْهُ مَقْدُورًا لِي أَوْ هَيِّئْهُ وَأَنْجِزْهُ لِي
قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْقَدْرُ عِبَارَةٌ عَمَّا قَضَاهُ اللَّهُ وَحَكَمَ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ وَهُوَ مَصْدَرُ قَدَرَ يَقْدِرُ قَدْرًا وَقَدْ تُسَكَّنُ دَالُهُ وَمِنْهُ لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي تُقَدَّرُ فِيهَا الْأَرْزَاقُ وَتُقْضَى وَمِنْهُ حَدِيثُ الِاسْتِخَارَةِ فَاقْدُرْهُ لِي قَالَ مَيْرَكُ رُوِيَ بِضَمِّ الدَّالِ وَكَسْرِهَا وَمَعْنَاهُ أَدْخِلْهُ تَحْتَ قُدْرَتِي وَيَكُونُ قَوْلُهُ (وَيَسِّرْهُ لِي) طَلَبَ التَّيْسِيرِ بَعْدَ التَّقْرِيرِ وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ التَّقْدِيرِ التَّيْسِيرُ فَيَكُونُ وَيَسِّرْهُ عُطِفَتْ تَفْسِيرِيًّا (وَبَارِكْ لِي فِيهِ) أَيْ أَكْثِرِ الْخَيْرَ وَالْبَرَكَةَ فِيمَا أَقَدَرْتَنِي عَلَيْهِ وَيَسَّرْتَهُ لِي (مِثْلَ الْأَوَّلِ) أَيْ يَقُولُ مَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ قَوْلِهِ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَمَعَادِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي (فَاصْرِفْنِي عَنْهُ) أَيِ اصْرِفْ خَاطِرِي عَنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ سَبَبَ اشْتِغَالِ الْبَالِ (وَاصْرِفْهُ عَنِّي) أَيْ لَا تُقَدِّرْنِي عَلَيْهِ (وَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ) أَيْ يَسِّرْهُ عَلَيَّ وَاجْعَلْهُ مَقْدُورًا لِفِعْلِي (حَيْثُ كَانَ) أَيِ الْخَيْرُ مِنْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ حَيْثُ كُنْتُ وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ خَيْرًا فَوَفِّقْنِي لِلْخَيْرِ حَيْثُ كَانَ وَفِي رِوَايَةِ بن حِبَّانَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ خَيْرًا لِي فَاقْدُرْ لِيَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كَانَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْنَمَا كَانَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ (ثُمَّ رَضِّنِي) مِنَ التَّرْضِيَةِ وَهُوَ جَعْلُ الشَّخْصِ رَاضِيًا وَأُرْضِيتُ وَرُضِّيتُ بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنًى (بِهِ) أَيْ بِالْخَيْرِ وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ بِقَضَائِكَ قال بن الْمَلَكِ أَيِ اجْعَلْنِي رَاضِيًا بِخَيْرِكَ الْمَقْدُورِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا قَدَّرَ لَهُ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ فَرَآهُ شَرًّا (أَوْ قَالَ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ) قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فِي دِينِي إِلَخْ
وَقَالَ الْجَزَرِيُّ فِي مِفْتَاحِ الْحِصْنِ أَوْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّخْيِيرِ أَيْ أَنْتَ مُخَيَّرٌ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ أَوْ قُلْتَ مَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي قَالَ الطِّيبِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ شَكٌّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَوْمُ حَيْثُ قَالُوا هِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ خَيْرٌ فِي دِينِهِ دُونَ دُنْيَاهُ وَخَيْرٌ فِي دُنْيَاهُ فَقَطْ وَخَيْرٌ فِي الْعَاجِلِ دُونَ الْآجِلِ وَبِالْعَكْسِ وَهُوَ أَوْلَى وَالْجَمْعُ أَفْضَلُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ بَدَلُ الْأَلْفَاظِ(4/279)
الثَّلَاثَةِ فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ وَلَفْظُ فِي الْمُعَادَةِ فِي قَوْلِهِ فِي عَاجِلِ أَمْرِي رُبَّمَا يُؤَكِّدُ هَذَا وَعَاجِلُ الْأَمْرِ يَشْمَلُ الدِّينِيَّ وَالدُّنْيَوِيَّ وَالْآجِلُ يَشْمَلُهُمَا وَالْعَاقِبَةَ انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه بنحوه
2 - (بَاب فِي الِاسْتِعَاذَةِ)
[1539] (مِنَ الْجُبْنِ) قَالَ الشَّوْكَانِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَتُضَمُّ الْمَهَابَةُ لِلْأَشْيَاءِ وَالتَّأَخُّرُ عَنْ فِعْلِهَا وَإِنَّمَا تَعَوَّذَ مِنْهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ بِفَرْضِ الْجِهَادِ وَالصَّدْعِ بِالْحَقِّ وَإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَيَجُرُّ إِلَى الْإِخْلَالِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ (وَالْبُخْلِ) بِضَمِّ الْبَاءِ الموحدة وإسكان الخاء المعجمة وبفتحهما وبضمهما وَبِفَتْحِ الْبَاءِ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ ضِدُّ الْكَرَمِ ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ فِي الْقَامُوسِ وَقَدْ قَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ بِمَنْعِ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْمَالِ شَرْعًا أَوْ عَادَةً وَلَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الْبُخْلَ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مِنْ غَرَائِرِ النَّقْصِ الْمُضَادَّةِ لِلْكَمَالِ فَالتَّعَوُّذُ مِنْهَا حَسَنٌ بِلَا شَكٍّ فَأَوْلَى تَبْقِيَةُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ وَتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِتَقْيِيدِهِ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ (وَسُوءِ الْعُمْرِ) هُوَ الْبُلُوغُ إِلَى حَدٍّ فِي الْهَرَمِ يَعُودُ مَعَهُ كَالطِّفْلِ فِي سُخْفِ الْعَقْلِ وَقِلَّةِ الفهم وضعف القوة (وفتنة الصدر) قال بن الْجَوْزِيِّ فِي جَامِعِ الْمَسَانِيدِ هِيَ أَنْ يَمُوتَ غَيْرَ تَائِبٍ وَقَالَ الْأَشْرَفِيُّ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ قِيلَ هِيَ مَوْتُهُ وَفَسَادُهُ وَقِيلَ مَا يَنْطَوِي عليه الصدر من غل وحسد وخلق سيىء وَعَقِيدَةٍ غَيْرِ مُرْضِيَةٍ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ الضِّيقُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يضله يجعل صدره ضيقا حرجا (وَعَذَابِ الْقَبْرِ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُنْكَرِينَ لِذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ مُتَوَاتِرَةٌ
قال المنذري وأخرجه النسائي وبن ماجه
[1540] (المعتمر) هو بن سليمان التيمي (إني أعوذ بك) أي ألتجىء إِلَيْكَ (مِنَ الْعَجْزِ) هُوَ ضِدُّ الْقُدْرَةِ (وَالْكَسَلِ) أَيِ التَّثَاقُلُ عَنِ الْأَمْرِ الْمَحْمُودِ (وَالْجُبْنِ) هُوَ ضِدُّ الشُّجَاعَةِ وَهُوَ الْخَوْفُ عِنْدَ(4/280)
الْقِتَالِ (وَالْبُخْلِ) وَهُوَ تَرْكُ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ (والهرم) أي أرذل العمل (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) فِيهِ إِثْبَاتٌ لِعَذَابِ الْقَبْرِ وَتَعْلِيمٌ لِلْأُمَّةِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُعَذَّبُونَ (مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1541] (قَالَ سَعِيدٌ) بْنُ مَنْصُورٍ (الزُّهْرِيُّ) هَذِهِ صِفَةُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَبِفَتْحِهِمَا
قَالَ الطِّيبِيُّ الْهَمُّ فِي الْمُتَوَقَّعِ وَالْحُزْنُ فِيمَا فَاتَ (وَظَلَعِ الدَّيْنِ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ بِفَتْحَتَيْنِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ أَيِ الضَّعْفِ لِحَقٍّ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَفِي بَعْضِهَا بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بِفَتْحَتَيْنِ وَتَسْكِينِ اللَّامِ وَذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ فِي ضَلْعٍ أَيْ ثِقَلِهِ وَشِدَّتِهِ وَذَلِكَ حِينَ لَا يَجِدُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَفَاءَهُ لَا سِيَّمَا مَعَ الْمُطَالَبَةِ
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ مَا دَخَلَ هَمُّ الدَّيْنِ قَلْبًا إِلَّا أَذْهَبَ مِنَ الْعَقْلِ مَا لَا يَعُودُ إِلَيْهِ (وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) أَيْ قَهْرِهِمْ وَشِدَّةِ تَسَلُّطِهِمْ عَلَيْهِ
وَالْمُرَادُ بِالرِّجَالِ الظَّلَمَةُ أَوِ الدَّائِنُونَ وَاسْتَعَاذَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسلام مِنْ أَنْ يَغْلِبَهُ الرِّجَالُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَهَنِ فِي النَّفْسِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (مَا ذَكَرَهُ التَّيْمِيُّ) هُوَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[1542] (كَانَ يُعَلِّمُهُمْ) أَيْ أَصْحَابَهُ أَوْ أَهْلَ بَيْتِهِ (هَذَا الدعاء) الذي يأتي
قال النووي ذهب طاووس إِلَى وُجُوبِهِ وَأَمَرَ ابْنَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ حِينَ لَمْ يَدْعُ بِهَذَا الدُّعَاءِ فِيهَا
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عذاب جهنم) في إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ مِنْ عَذَابِهَا إِلَّا بِالِالْتِجَاءِ إِلَى بَارِئِهَا (مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ لُقِيِّهِ (وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا(4/281)
وَالْمَمَاتِ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ وَكَرَّرَ أَعُوذُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ إِظْهَارًا لِعِظَمِ مَوْقِعِهَا وَأَنَّهَا حَقِيقَةٌ بإعاذة مستقلة
قاله القارىء
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ
[1543] (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ) أَيْ فِتْنَةٍ تُؤَدِّي إِلَى النَّارِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِفِتْنَةِ النَّارِ سُؤَالُ الْخَزَنَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نذير (وَعَذَابِ النَّارِ) أَيْ مِنْ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَهُمُ الْكُفَّارُ فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمُعَذَّبُونَ وَأَمَّا الْمُوَحِّدُونَ فَإِنَّهُمْ مُؤَدَّبُونَ وَمُهَذَّبُونَ بِالنَّارِ لَا مُعَذَّبُونَ بِهَا (وَمِنْ شَرِّ الْغِنَى) وَهُوَ الْبَطَرُ وَالطُّغْيَانُ وَتَحْصِيلُ الْمَالِ مِنَ الْحَرَامِ وَصَرْفُهُ فِي الْعِصْيَانِ وَالتَّفَاخُرُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ (وَالْفَقْرِ) هُوَ الْحَسَدُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالطَّمَعُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَالتَّذَلُّلُ بِمَا يُدَنِّسُ الْعِرْضَ وَيَثْلِمُ الدِّينَ وَعَدَمُ الرِّضَا بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ
وَقِيلَ الْفِتْنَةُ هُنَا الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ أَيْ مِنْ بَلَاءِ الْغِنَى وَبَلَاءِ الْفَقْرِ أَيْ مِنَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ الَّذِي يَكُونُ بَلَاءً وَمَشَقَّةً ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ أَتَمَّ مِنْهُ
[1544] (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ) أَيْ مِنْ قَلْبٍ حَرِيصٍ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ أَوْ مِنَ الَّذِي يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ فِي الْمَالِ وَنِسْيَانِ ذِكْرِ الْمُنْعِمِ الْمُتَعَالِ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَرَادَ فَقْرَ النَّفْسِ أَعْنِي الشَّرَهَ الَّذِي يُقَابِلُ غِنَى النَّفْسِ الَّذِي هُوَ قَنَاعَتُهَا (وَالْقِلَّةِ) الْقِلَّةِ فِي أَبْوَابِ البر وخصال الخير لأنه عليه الصلاة والسلام كَانَ يُؤْثِرُ الْإِقْلَالَ فِي الدُّنْيَا وَيَكْرَهُ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْفَانِيَةِ (وَالذِّلَّةِ) أَيْ مِنْ أَنْ أَكُونَ ذَلِيلًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ بِحَيْثُ يَسْتَخِفُّونَهُ وَيُحَقِّرُونَ شَأْنَهُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الذِّلَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ أَوِ التَّذَلُّلُ لِلْأَغْنِيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْمَسْكَنَةِ وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَدْعِيَةِ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَصْلُ الْفَقْرِ كَسْرُ فَقَارِ الظَّهْرِ وَالْفَقْرُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ وُجُودُ الْحَالَةِ الضَّرُورِيَّةِ وَذَلِكَ عَامٌّ لِلْإِنْسَانِ مَا دَامَ فِي الدُّنْيَا بَلْ عَامٌّ فِي الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وعليه قوله تعالى ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله وَالثَّانِي عَدَمُ الْمُقْتَنَيَاتِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وإنما الصدقات(4/282)
للفقراء
وَالثَّالِثُ فَقْرُ النَّفْسِ وَهُوَ الْمُقَابِلُ بِقَوْلِهِ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ وَالْمَعْنَى بِقَوْلِهِمْ مِنْ عَدَمِ الْقَنَاعَةِ لَمْ يُفِدْهُ الْمَالُ غِنًى
الرَّابِعُ الْفَقْرُ إِلَى اللَّهِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ اغْنَنِي بِالِافْتِقَارِ إِلَيْكَ وَلَا تُفْقِرْنِي بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْكَ وَإِيَّاهُ عَنَى تَعَالَى بِقَوْلِهِ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ من خير فقير وَالْمُسْتَعَاذُ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وإنما استعاذ مِنَ الْفَقْرِ الَّذِي هُوَ فَقْرُ النَّفْسِ لَا قِلَّةُ الْمَالِ (مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ) مَعْلُومٌ وَمَجْهُولٌ وَالظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوِ التَّعَدِّي فِي حَقِّ غَيْرِهِ
قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
[1545] (مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ) أَيْ نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَمِنْحَةِ الْإِحْسَانِ وَالْعِرْفَانِ (وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ) بِضَمِّ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ انْتِقَالُهَا مِنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ
فَإِنْ قُلْتَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّوَالِ وَالتَّحَوُّلِ قُلْتُ الزَّوَالُ يُقَالُ فِي شَيْءٍ كَانَ ثَابِتًا فِي شَيْءٍ ثُمَّ فَارَقَهُ وَالتَّحَوُّلُ تَغَيُّرُ الشَّيْءِ وَانْفِصَالُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَمَعْنَى زَوَالِ النِّعْمَةِ ذَهَابُهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ وَتَحَوُّلُ الْعَافِيَةِ إِبْدَالُ الصِّحَّةِ بِالْمَرَضِ وَالْغِنَى بِالْفَقْرِ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْكِتَابِ وَتَحْوِيلُ عَافِيَتِكَ مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مفعوله (وفجأة نِقْمَتِكَ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَالْمَدِّ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ بِمَعْنَى الْبَغْتَةِ وَالنِّقْمَةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِفَتْحٍ مَعَ سُكُونِ الْقَافِ وَكَفَرْحَةِ الْمُكَافَأَةِ بِالْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ بِالْغَضَبِ وَالْعَذَابِ وَخَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ (وَجَمِيعِ سَخَطِكَ) أَيْ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ أَوْ جَمِيعِ آثَارِ غَضَبِكَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
[1546] (دُوَيْدِ بْنِ نَافِعٍ) بِدَالَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرًا
وَقِيلَ أَوَّلُهُ مُعْجَمَةٌ
كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (أَعُوذُ(4/283)
بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ) أَيْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عزة وشقاق (والنفاق) أي إظهار الإسلام وإبطال الْكُفْرِ وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَنْ تُظْهِرَ لِصَاحِبِكَ خِلَافَ مَا تُضْمِرُهُ وَقِيلَ النِّفَاقُ فِي الْعَمَلِ بِكَثْرَةِ كَذِبِهِ وَخِيَانَةِ أَمَانَتِهِ وَخُلْفِ وَعْدِهِ وَالْفُجُورِ فِي مُخَاصَمَتِهِ (وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ) مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمَذْكُورَيْنِ أَوَّلًا أَعْظَمُ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ لِأَنَّهُ يَسْرِي ضَرَرُهُمَا إِلَى الْغَيْرِ
ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ وَدُوَيْدُ بْنُ نَافِعٍ وَفِيهِمَا مَقَالٌ
[1547] (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ) أَيِ الْأَلَمِ الَّذِي يَنَالُ الْحَيَوَانَ مِنْ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ مِنَ الْغِذَاءِ وَيُؤَدِّي تَارَةً إِلَى الْمَرَضِ وَتَارَةً إِلَى الْمَوْتِ (فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ) أَيِ الْمُضَاجِعُ وَهُوَ مَا يُلَازِمُ صَاحِبَهُ فِي الْمَضْجَعِ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ السِّنْدِيُّ وَالضَّجِيعُ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ مَنْ يَنَامُ فِي فِرَاشِكَ أَيْ بئس الصاحب الْجُوعُ الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنْ وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ كَالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْجُوعُ يُضْعِفُ الْقُوَى وَيُشَوِّشُ الدِّمَاغَ فَيُثِيرُ أَفْكَارًا رَدِيَّةً وَخَيَالَاتٍ فَاسِدَةً فَيُخِلُّ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُرَاقَبَاتِ وَلِذَلِكَ خَصَّ بِالضَّجِيعِ الَّذِي يُلَازِمُهُ لَيْلًا وَمِنْ ثَمَّ حَرَّمَ الْوِصَالَ
وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْجُوعَ الْمُجَرَّدَ لَا ثَوَابَ فِيهِ (وأعوذ بك الْخِيَانَةِ) وَهِيَ ضِدُّ الْأَمَانَةِ
قَالَ الطِّيبِيُّ هِيَ مُخَالَفَةُ الْحَقِّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي السِّرِّ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا يَدُلُّ عليه قوله تعالى إنا عرضنا الأمانة الآية وقوله تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم شامل لجميعها (فإنها بئست البطانة) أي الخصلة الباطنة هي ضد الطهارة وَأَصْلُهَا فِي الثَّوْبِ فَاسْتُعِيرَ لِمَا يَسْتَبْطِنُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِهِ وَيَجْعَلُهُ بِطَانَةَ حَالِهِ
قَالَ فِي المغرب بطانة الشيء أَهْلُهُ أَوْ خَاصَّتُهُ مُسْتَعَارَةٌ مِنْ بِطَانَةِ الثَّوْبِ قَالَهُ فِي الْمِرْقَاةِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ وَفِيهِ مَقَالٌ(4/284)
[1548] (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْأَرْبَعِ) وَهُوَ إِجْمَالٌ وَتَفْصِيلُهُ قَوْلُهُ الْآتِي (مِنْ عِلْمٍ لَا ينفع ومن قلب لايخشع إِلَخْ) أَيْ لَا يُسْتَجَابُ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ يُقَالُ اسْمَعْ دُعَائِي أَيْ أَجِبْ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ السَّمَاعِ هُوَ الْإِجَابَةُ وَالْقَبُولُ قَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ قَدِ اسْتَعَاذَ مِنْ نَوْعٍ مِنَ الْعُلُومِ كَمَا اسْتَعَاذَ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ وَالْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ التَّقْوَى فَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الدُّنْيَا وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْهَوَى وَقَالَ الطِّيبِيُّ اعْلَمْ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنَ الْقَرَائِنِ الْأَرْبَعِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ وُجُودَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى غَايَتِهِ وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ تِلْكَ الْغَايَةُ وَذَلِكَ أَنَّ تَحْصِيلَ الْعُلُومِ إِنَّمَا هُوَ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا فَإِذَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ كَفَافًا بَلْ يَكُونُ وَبَالًا وَلِذَلِكَ اسْتَعَاذَ
وَإِنَّ الْقَلْبَ إِنَّمَا خُلِقَ لِأَنْ يَتَخَشَّعَ لِبَارِئِهِ وَيَنْشَرِحَ لِذَلِكَ الصَّدْرُ وَيُقْذَفَ النُّورُ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ قَاسِيًا فَيَجِبُ أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله وَإِنَّ النَّفْسَ يُعْتَدُّ بِهَا إِذَا تَجَافَتْ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَأَنَابَتْ إِلَى دَارِ الْخُلُودِ وَهِيَ إِذَا كَانَتْ مَنْهُومَةً لَا تَشْبَعُ حَرِيصَةً عَلَى الدُّنْيَا كَانَتْ أَعْدَى عَدُوِّ الْمَرْءِ فَأَوْلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُسْتَعَاذُ مِنْهُ هِيَ أَيِ النَّفْسُ
وَعَدَمُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَلَمْ يَخْشَعْ قَلْبُهُ وَلَمْ تشبع نفسه ذكره علي القارىء قال المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أرقم عن رسول الله بِنَحْوِهِ أَتَمَّ مِنْهُ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رسول الله وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
[1549] (قَالَ أَبُو الْمُعْتَمِرِ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَبُو الْمُعْتَمِرِ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ وَالِدُ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ مِمَّنِ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِسَمَاعِهِ عَنْ أَنَسِ بن مالك(4/285)
[1550] (مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ) أَيْ فَعَلْتُ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ مِنْ شَرِّ عَمَلٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ (وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ) اسْتَعَاذَ مِنْ شَرِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَا يَرْضَاهُ بِأَنْ يَحْفَظَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ شَرِّ أَنْ يَصِيرَ مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ في ترك القبائح فإنه يجب أَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ رَبِّهِ أَوْ لِئَلَّا يُصِيبَهُ شَرُّ عَمَلِ غَيْرِهِ
قَالَ تَعَالَى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصة وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[1551] (الْمَعْنَى) وَاحِدٌ وَأَحْمَدُ وَوَكِيعٌ كِلَاهُمَا يَرْوِيَانِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَوْسٍ (عَنْ شُتَيْرٍ) تَصْغِيرُ شَتْرٍ (بْنِ شَكَلٍ) بِفَتْحَتَيْنِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ شَكَلٍ وَهُوَ صَحَابِيٌّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ (فِي حَدِيثِ أَبِي أَحْمَدَ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْمَذْكُورُ (مِنْ شَرِّ سَمْعِي) حَتَّى لَا أَسْمَعَ بِهِ مَا تَكْرَهُهُ (وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي) حَتَّى لَا أَرَى شَيْئًا لَا تَرْضَاهُ (وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي) حَتَّى لَا أَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِينِي (وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي) حَتَّى لَا أَعْتَقِدَ اعْتِقَادًا فَاسِدًا وَلَا يَكُونَ فِيهِ نَحْوُ حِقْدٍ وَحَسَدٍ وَتَصْمِيمِ فِعْلٍ مَذْمُومٍ أَبَدًا (وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي) وَهُوَ أَنْ يغلب المني عليه حتى يقع في الزنى أَوْ مُقَدَّمَاتِهِ يَعْنِي مِنْ شَرِّ فَرْجِهِ وَغَلَبَةِ المني علي حتى لا أقع في الزنى وَالنَّظَرِ إِلَى الْمَحَارِمِ
وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ الْمَنِيَّةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ مِنْ شَرِّ الْمَوْتِ أَيْ قَبْضِ رُوحِهِ عَلَى عَمَلٍ قَبِيحِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَشَكَلُ بْنُ حُمَيدٍ الْعَبْسِيُّ لَهُ صُحْبَةُ سَكَنَ الْكُوفَةَ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ ابْنِهِ شُتَيْرِ بْنِ شَكَلٍ وَذَكَرَ له بن الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ
وَقَالَ وَلَا أَعْلَمُ له غيره(4/286)
وَشُتَيْرٌ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ التَّاءِ ثَالِثِ الحروف وَسُكُونِ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ وَبَعْدَهَا رَاءٌ مُهْمَلَةٌ
وَشَكَلٌ بِفَتْحِ الشِّينِ وَبَعْدَهَا كَافٌ مَفْتُوحَةٌ أَيْضًا وَلَامٌ
[1552] (صَيْفِيٌّ) بْنُ زِيَادٍ هُوَ مَوْلَى أَفْلَحَ وَأَفْلَحُ هُوَ مُخَضْرَمٌ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ (عَنْ أَبِي الْيَسْرِ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ (مِنَ الْهَدْمِ) بِسُكُونِ الدَّالِ وَهُوَ سُقُوطُ الْبِنَاءِ وَوُقُوعُهُ عَلَى الشَّيْءِ
وَرُوِيَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ اسْمُ مَا انْهَدَمَ مِنْهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (مِنَ التَّرَدِّي) أَيِ السُّقُوطِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ كَالْجَبَلِ وَالسَّطْحِ أَوِ الْوُقُوعِ فِي مَكَانٍ سَافِلٍ كَالْبِئْرِ (مِنَ الْغَرَقِ) بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرُ غَرِقَ فِي الْمَاءِ (وَالْحَرَقِ) بِالتَّحْرِيكِ أَيْضًا أَيْ بِالنَّارِ وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنَ الْهَلَاكِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ نَيْلِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا مِحَنٌ مُجْهِدَةٌ مُقْلِقَةٌ لَا يَكَادُ الْإِنْسَانُ يَصْبِرُ عَلَيْهَا وَيَثْبُتُ عِنْدَهَا (وَالْهَرَمِ) أَيْ سُوءِ الْكِبَرِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْخَرَفِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ لَكَيْلًا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا (أَنْ يَتَخَبَّطَنِيَ الشَّيْطَانُ) أَيْ إِبْلِيسُ أَوْ أَحَدُ أَعْوَانِهِ
قِيلَ التَّخَبُّطُ الْإِفْسَادُ وَالْمُرَادُ إِفْسَادُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَتَخْصِيصُهُ بِقَوْلِهِ (عِنْدَ الْمَوْتِ) لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الْخَاتِمَةِ
وَقَالَ الْقَاضِي أَيْ مِنْ أَنْ يَمَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بنزعاته الَّتِي تَزِلُّ الْأَقْدَامَ وَتُصَارِعُ الْعُقُولَ وَالْأَوْهَامَ
وَأَصْلُ التَّخَبُّطِ أَنْ يَضْرِبَ الْبَعِيرُ الشَّيْءَ بِخُفِّ يَدِهِ فيسقط
قال الخطابي استعاذته عليه السلام مِنْ تَخَبُّطِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ هُوَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ الدُّنْيَا فَيُضِلَّهُ وَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ أَوْ يُعَوِّقَهُ عَنْ إِصْلَاحِ شَأْنِهِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَظْلِمَةٍ تَكُونُ قَبْلَهُ أو يؤسه مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَيَتَأَسَّفُ عَلَى حَيَاةِ الدُّنْيَا فَلَا يَرْضَى بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ مِنَ الْفَنَاءِ وَالنَّقْلَةِ إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِسُوءٍ وَيَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ سَاخِطٌ عَلَيْهِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يكون في حال أشد على بن آدَمَ مِنْهُ فِي حَالِ الْمَوْتِ يَقُولُ لِأَعْوَانِهِ دُونَكُمْ هَذَا فَإِنَّهُ إِنْ فَاتَكُمُ الْيَوْمَ لَمْ تَلْحَقُوهُ بَعْدَ الْيَوْمِ
نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُبَارِكَ لَنَا فِي ذَلِكَ الْمَصْرَعِ وَأَنْ يَخْتِمَ لَنَا وَلِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَجْعَلَ خير أيامنا لِقَائِهِ انْتَهَى
(أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا) أَيْ مُرْتَدًّا أَوْ مُدْبِرًا عَنْ ذِكْرِكَ وَمُقْبِلًا عَلَى غَيْرِكَ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ فَارًّا وَتَبِعَهُ بن حَجَرٍ الْمَكِّيُّ وَقَالَ إِدْبَارًا مُحَرَّمًا أَوْ مُطْلَقًا
قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَعْلِيمِ الْأُمَّةِ وإلا فرسول الله لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّخَبُّطُ وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ (أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا) فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنَ اللَّدْغِ وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَوَاتِ السُّمِّ مِنَ الْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ(4/287)
وَنَحْوِهِمَا
وَقَيَّدَ بِالْمَوْتِ مِنَ اللَّدْغِ فَلَا يُنَافِيهِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ عَنْ عَلِيٍّ أنه لدغت النبي عَقْرَبٌ وَهُوَ يُصَلِّي فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تَدَعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ وَمِلْحٍ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا أي على موضع لدغها ويقرأ قل ياأيها الكافرون وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
وَأَبُو الْيَسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ لَهُ صُحْبَةٌ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ وَبَعْدِهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ مَفْتُوحَةٌ وَرَاءٌ مُهْمَلَةٌ
[1553] (مَوْلًى لِأَبِي أَيُّوبَ) هُوَ صَيْفِيٌّ مَوْلَى أَفْلَحَ وَإِسْنَادُ مَوْلًى إِلَى أَبِي أَيُّوبَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّ الصَّيْفِيَّ مَوْلَى أَفْلَحَ لَا مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ وَإِنَّمَا مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ هُوَ أَفْلَحُ كَمَا فِي كُتُبِ الرِّجَالِ لَكِنْ هَذَا يُخَالِفُ مَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فَإِنَّهُ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ بِلَفْظٍ عَنْ صَيْفِيٍّ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
[1554] (مِنَ الْبَرَصِ) بِفَتْحَتَيْنِ بَيَاضٍ يَحْدُثُ فِي الْأَعْضَاءِ (وَالْجُنُونِ) أَيْ زَوَالِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ مَنْشَأُ الْخَيْرَاتِ (وَالْجُذَامِ) بِضَمِّ الْجِيمِ عِلَّةٌ يَذْهَبُ مَعَهَا شُعُورُ الْأَعْضَاءِ
وَفِي الْقَامُوسِ الْجُذَامُ كَغُرَابٍ عِلَّةٌ تَحْدُثُ مِنَ انْتِشَارِ السَّوْدَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ فَيُفْسِدُ مِزَاجَ الْأَعْضَاءِ وَهَيْئَاتِهَا وَرُبَّمَا انْتَهَى إِلَى تآكل الأعضاء وسقوطها عن تقرح (وسيىء الْأَسْقَامِ) كَالسُّلِّ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْمَرَضِ الْمُزْمِنِ الطَّوِيلِ وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَوَّذْ مِنَ الْأَسْقَامِ مُطْلَقًا فَإِنَّ بَعْضَهَا مِمَّا يَخِفُّ مُؤْنَتُهُ وَتَكْثُرُ مَثُوبَتُهُ عِنْدَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ إِزْمَانِهِ كَالْحُمَّى وَالصُّدَاعِ وَالرَّمَدِ وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَ مِنَ السَّقَمِ الْمُزْمِنِ فَيَنْتَهِي بِصَاحِبِهِ إِلَى حَالَةٍ يَفِرُّ مِنْهَا الْحَمِيمُ وَيَقِلُّ دُونَهَا الْمُؤَانِسُ وَالْمُدَاوِي مَعَ مَا يُورِثُ مِنَ الشَّيْنِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1555] (الْغُدَانِيُّ) بِضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَخِفَّةِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةٌ إِلَى غُدَانَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ (قَالَ) أَيْ(4/288)
أَبُو أُمَامَةَ (هُمُومٌ) جَمْعُ الْهَمِّ وَحَذَفَ الْخَبَرَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ (لَزِمَتْنِي) عَلَيْهِ (وَدُيُونٌ) عَطْفٌ عَلَى هُمُومٍ أَيْ وَدُيُونٌ لَزِمَتْنِي فَلَزِمَتْنِي صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ متخصصة لَهُ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَقُولُ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي مُبْتَدَأٌ وخبر كما في قولهم شراهر ذَا نَابٍ أَيْ هُمُومٌ عَظِيمَةٌ لَا يُقَادَرُ قَدْرَهَا وَدُيُونٌ جَمَّةٌ نَهَضَتْنِي وَأَثْقَلَتْنِي انْتَهَى (قَالَ أَفَلَا أُعَلِّمُكَ) عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ أَيْ أَلَا أُرْشِدُكَ فَلَا أُعَلِّمُكَ وَأَصْلُهُ فَأَلَّا أُعَلِّمُكَ ثُمَّ قُدِّمَتِ الْهَمْزَةُ لِأَنَّ لَهَا صَدْرَ الْكَلَامِ وَهُوَ أَظْهَرُ لِبُعْدِهِ عَنِ التَّكَلُّفِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى لِلْفَاءِ فَائِدَةٌ (كَلَامًا) أَيْ دُعَاءً (قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْوَقْتَانِ وَأَنْ يُرَادَ بِهِمَا الدَّوَامُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (من الهم والحزن) بضم الحاء وسكون الزاء وَبِفَتْحِهِمَا
قَالَ الطِّيبِيُّ الْهَمُّ فِي الْمُتَوَقَّعِ وَالْحُزْنُ فِيمَا فَاتَ (مِنَ الْعَجْزِ) هُوَ ضِدُّ الْقُدْرَةِ وَأَصْلُهُ التَّأَخُّرُ عَنِ الشَّيْءِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَجْزِ وَهُوَ مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي مُقَابِلِهِ فِي مُقَابِلَةِ الْقُدْرَةِ وَاشْتُهِرَ فِيهَا وَالْمُرَادُ هُنَا الْعَجْزُ عَنْ أَدَاءِ الطَّاعَةِ وَعَنْ تَحَمُّلِ الْمُصِيبَةِ (وَالْكَسَلِ) أَيِ التَّثَاقُلِ عَنِ الْأَمْرِ الْمَحْمُودِ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ (مِنَ الْجُبْنِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ضِدُّ الشُّجَاعَةِ وَهُوَ الْخَوْفُ عِنْدَ الْقِتَالِ وَمِنْهُ عَدَمُ الْجَرَاءَةِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ) أَيْ كَثْرَتِهِ وَثِقَلِهِ (وَقَهْرِ الرِّجَالِ) أَيْ غَلَبَتِهِمْ (قَالَ) أَيِ الرَّجُلُ أَوْ أَبُو سَعِيدٍ (فَفَعَلْتُ ذَلِكَ) أَيْ مَا ذَكَرَ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ (فَأَذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي) أَيْ حُزْنِي (وَقَضَى عني ديني) قاله علي القارىء
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ غَسَّانُ بْنُ عَوْفٍ وَهُوَ بَصْرِيٌّ وَقَدْ ضُعِّفَ(4/289)
17 - (كِتَاب الزَّكَاةِ)
[1556] اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ فَرْضِ الزَّكَاةِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَقِيلَ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وجزم بن الْأَثِيرِ فِي التَّارِيخِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي التَّاسِعَةِ
قَالَ الْحَافِظُ وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقِيسِ وَفِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ ذَكَرَ الزَّكَاةَ
وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ
(لَمَّا تُوُفِّيَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ مَاتَ (وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ عَلَى الصَّحِيحِ أَيْ جَعَلَهُ خَلِيفَةً (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ) أَيْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَعَامَلَ مُعَامَلَةَ مَنْ كَفَرَ أَوِ ارْتَدَّ لِإِنْكَارِهِ افْتِرَاضَ الزَّكَاةِ (مِنَ الْعَرَبِ) قَالَ الطِّيبِيُّ يُرِيدُ غَطَفَانَ وَفَزَارَةَ وَبَنِي سُلَيْمٍ وَغَيْرَهُمْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَاعْتَرَضَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ الْآتِي وَقَالَ (كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ) أَيِ الَّذِي يَمْنَعُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ (أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ) الْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْأَوْثَانِ (فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) يَعْنِي كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْقَدُ الْإِسْلَامُ بِتِلْكَ وَحْدَهَا (عَصَمَ) بِفَتْحِ الصَّادِ أَيْ حَفَظَ وَمَنَعَ (مِنِّي) أَيْ مِنْ تَعَرُّضِي أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (إِلَّا بِحَقِّهِ) أَيْ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ(4/290)
لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمَالِهِ وَنَفْسِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلَّا بِحَقِّهِ أَيْ بِحَقِّ هَذَا الْقَوْلِ أَوْ بِحَقِّ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ (حِسَابُهُ) أَيْ جَزَاؤُهُ وَمُحَاسَبَتُهُ (عَلَى اللَّهِ) بِأَنَّهُ مُخْلِصٌ أَمْ لَا قَالَ الطِّيبِيُّ يَعْنِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ نَتْرُكُ مُقَاتَلَتَهُ وَلَا نُفَتِّشُ بَاطِنَهُ هَلْ هُوَ مُخْلِصٌ أَمْ مُنَافِقٌ فَإِنَّ ذَلِكَ مُفَوَّضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحِسَابُهُ عَلَيْهِ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) جَوَابًا وَتَأْكِيدًا (مَنْ فَرَّقَ) بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ دُونَ الزَّكَاةِ (فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ) كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ النَّفْسِ
قَالَهُ الطِّيبِيُّ
وَقَالَ غَيْرُهُ يَعْنِي الْحَقُّ الْمَذْكُوُرُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا بِحَقِّهِ أَعَمَّ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ
قَالَ الطِّيبِيُّ كَأَنَّ عُمَرَ حَمَلَ قَوْلَهُ بِحَقِّهِ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ فَلِذَلِكَ صَحَّ اسْتِدْلَالُهُ بِالْحَدِيثِ فَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ شَامِلٌ لِلزَّكَاةِ أَيْضًا أَوْ تَوَهَّمَ عُمَرُ أَنَّ الْقِتَالَ لِلْكُفْرِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ لَا لِلْكُفْرِ وَلِذَلِكَ رَجَعَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلِمَ أَنَّ فِعْلَهُ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ وَأَنَّهُ قَدْ وُفِّقَ بِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى (عِقَالًا) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْحَبْلَ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الْبَعِيرُ وَلَيْسَ مِنَ الصَّدَقَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْقِتَالُ فَقِيلَ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ بِأَنَّهُمْ لَوْ مَنَعُوا مِنَ الصَّدَقَةِ مَا يُسَاوِي هَذَا الْقَدْرَ يَحِلُّ قِتَالَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا مَنَعُوا الزَّكَاةَ كُلَّهَا
وَقِيلَ قَدْ يُطْلَقُ الْعِقَالُ عَلَى صدقة عام وهو المراد ها هنا كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانُهُ
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنَاقًا مَكَانَ عِقَالًا (فَوَاللَّهِ مَا هُوَ) أَيِ الشَّأْنُ أَوْ سَبَبُ رُجُوعِي إِلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ) أَيْ عَلِمْتُ وَأَيْقَنْتُ (شَرَحَ) أَيْ فَتَحَ وَوَسَّعَ وَلَيَّنَ (لِلْقِتَالِ) مَعْنَاهُ عَلِمْتُ أَنَّهُ جَازِمٌ بِالْقِتَالِ لِمَا أَلْقَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَلْبِهِ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ لِذَلِكَ وَاسْتِصْوَابُهُ ذَلِكَ (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ) أَيْ رَأْيَ أَبِي بَكْرٍ أَوِ الْقِتَالِ (الْحَقُّ) أَيْ بِمَا أَظْهَرَ مِنَ الدَّلِيلِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ فَعَرَفْتُ بِذَلِكَ أَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ الْحَقُّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ آخِرَ كَلَامِهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ قَوْلَهُ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ لِيَعْقِلَ أَنَّ فَرْضَ الزَّكَاةِ قَائِمٌ كَفَرْضِ الصَّلَاةِ وَأَنَّ الْقَائِمَ بِالصَّلَاةِ هُوَ الْقَائِمُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
اسْتِدْلَالًا بِهَذَا مَعَ سَائِرِ مَا عَقَلَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِهَا
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مُقَاتَلِينَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَدْ عُقِلَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُسْقِطُ عَنِ الْمُرْتَدِّ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ فِي أَمْوَالِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ(4/291)
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ (قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ) مِنْ قَوْلِهِ قَالَ أَبُو دَاوُدَ إِلَى قَوْلِهِ سَنَتَيْنِ وُجِدَ فِي نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ
قَالَ النَّوَوِيُّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِيهَا فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِقَالِ زَكَاةُ عَامٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْعِقَالَ يُطْلَقُ عَلَى زَكَاةِ الْعَامِ بِقَوْلِ عَمْرِو بْنِ الْعَدَّاءِ سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَيِّدًا فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ أَرَادَ مُدَّةَ عِقَالٍ فَنَصَبَهُ عَلَى الظَّرْفِ وَعَمْرٌو هَذَا السَّاعِي هُوَ عَمْرُو بْنُ عَقَبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَلَّاهُ عَمُّهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَدَقَاتِ كَلْبٍ فَقَالَ فِيهِ قَائِلُهُمْ ذَلِكَ
قَالُوا وَلِأَنَّ الْعِقَالَ الَّذِي هُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الْبَعِيرُ لَا يَجِبُ دَفْعُهُ فِي الزَّكَاةِ فَلَا يَجُوزُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ
وَذَهَبَ كَثِيرُونَ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِقَالِ الْحَبْلُ الَّذِي يُعْقَلُ بِهِ الْبَعِيرُ وَهَذَا الْقَوْلُ يُحْكَى عن مالك وبن أَبِي ذِئْبٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ التَّحْرِيرِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ حُذَّاقِ الْمُتَأَخِّرِينَ انْتَهَى
(قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ رَبَاحُ بْنُ زَيْدٍ) الْقُرَشِيُّ (وَعَبْدُ الرزاق عن معمر عن الزهري) بن شِهَابٍ (بِإِسْنَادِهِ) أَيْ بِإِسْنَادِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَكِنْ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ فَلَفْظُ النَّسَائِيِّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ أَبُو الْعَوَّامِّ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ عِمْرَانُ الْقَطَّانُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ
وَهَذَا الْحَدِيثُ خَطَأٌ وَالَّذِي قَبْلَهُ الصَّوَابُ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ (قَالَ بَعْضُهُمْ عِقَالًا) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ شُيُوخِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عِقَالًا فَالزُّهْرِيُّ رَوَى عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ عِقَالًا وَرَوَى أَيْضًا بِلَفْظٍ(4/292)
آخَرَ فَفِي رِوَايَةِ رَبَاحِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ هَكَذَا وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي الْيَمَانِ الْحَكَمِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنَاقًا وَهِيَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الزَّكَاةِ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ عَنَاقًا وَهِيَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي اسْتِتَابَةِ الِمُرْتَدِّينَ وَهَكَذَا رَوَى عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ وَالْوَلِيدُ وَبَقِيَّةُ كُلُّهُمْ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا الْوَلِيدَ فَإِنَّهُ رَوَيَ عَنْ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ عَنَاقًا وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي كِتَابِ الْمُحَارَبَةِ وَتَحْرِيمِ الدَّمِ وَكِتَابِ الْجِهَادِ
وَأَمَّا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ فَرَوَى عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ عِقَالًا وَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ
وَأَمَّا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي الِاعْتِصَامِ فَعَنْ قُتَيْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِلَفْظِ لَوْ مَنَعُونِي كَذَا وَكَذَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْعِقَالِ ولا العناق
قال البخاري وقال لي بن بُكَيْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنَاقًا وَهُوَ أَصَحُّ وَرَوَاهُ النَّاسُ عَنَاقًا وَعِقَالًا ها هنا لا يجوز انتهى (ورواه بن وَهْبٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ (عَنْ يُونُسَ) بْنِ يَزِيدَ الْأَيْلِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ (عَنَاقًا) كَمَا رَوَى عن الزهري جماعة كَذَا (قَالَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ وَمَعْمَرٌ وَالزُّبَيْدِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ) بِإِسْنَادِهِ (عَنَاقًا) فَرِوَايَةُ شُعَيْبٍ أَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ فِي الزَّكَاةِ وَأَيْضًا النَّسَائِيُّ كَمَا تَقَدَّمَتْ وَرِوَايَةُ الزُّبَيْدِيِّ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ فِي الْجِهَادِ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عبيد الله عن أبي هريرة كَذَا (رَوَى) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ رَوَاهُ (عَنْبَسَةُ عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ) بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ (عَنَاقًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَبِالنُّونِ وَهِيَ الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ لَمْ تَبْلُغْ سَنَةً فَإِمَّا هُوَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ أَرْبَعِينَ سَخْلَةً تَجِبُ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَأَنَّ حَوْلَ الْأُمَّهَاتِ حَوْلُ النِّتَاجِ وَلَا يُسْتَأْنَفُ لَهَا حَوْلٌ قَالَهُ السِّنْدِيُّ وَيَجِيءُ بَيَانُهُ مُفَصَّلًا مِنْ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ وَالنَّوَوِيِّ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ رَوَى يُونُسُ وَشُعَيْبٌ وَمَعْمَرٌ وَالزُّبَيْدِيُّ كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنَاقًا وَأَمَّا(4/293)
يُونُسُ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ قَالَ عَنْبَسَةُ عَنْ يُونُسَ عناقا وقال بن وهب عن يونس عقالا ومرة قال بن وَهْبٍ عَنَاقًا كَمَا قَالَ الْجَمَاعَةُ
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ ثَلَاثَةِ شُيُوخٍ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَنَسٍ فَحَدِيثُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ غَيْرَ بن مَاجَهْ وَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ النَّسَائِيِّ وَحَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ أَيْضًا وَقَالَ هُوَ خَطَأٌ ثُمَّ رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ ثَمَانِيَةُ أَنْفُسٍ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ وَعُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ وَالزُّبَيْدِيُّ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَسُفْيَانُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَيُونُسُ وَكُلُّهُمْ قَالُوا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنَاقًا غَيْرَ يُونُسَ فَإِنَّهُ قَالَ مَرَّةً عَنَاقًا وَمَرَّةً قَالَ عِقَالًا
وَأَمَّا عُقَيْلٌ فَرَوَى عَنْهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَرَوَى عَنِ اللَّيْثِ اثْنَانِ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ فَيَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ عَنَاقًا كَمَا قَالَ الْجَمَاعَةُ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ مَرَّةً قَالَ عِقَالًا وَمَرَّةً قَالَ لَوْ مَنَعُونِي كَذَا وَكَذَا
فَيُعْلَمُ عِنْدَ التَّعَمُّقِ أَنَّ أَكْثَرَ الرُّوَاةِ قَالُوا عَنَاقًا أَمَّا عِقَالًا فَمَا قَالَ غَيْرُ يُونُسَ فِي طَبَقَةِ رُوَاةِ الزُّهْرِيِّ وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَمَا قَالَ غَيْرُ قُتَيْبَةُ وَلِذَا قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ في صحيحه قال لي بن بُكَيْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عُقَيْلٍ عَنَاقًا وَهُوَ أَصَحُّ وَرَوَاهُ النَّاسُ عَنَاقًا وَعِقَالًا ها هنا لَا يَجُوزُ انْتَهَى
وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ هَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عِقَالًا وَكَذَا فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ وَفِي بَعْضِهَا عَنَاقًا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَرَّرَ الْكَلَامَ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ فِي مَرَّةٍ عِقَالًا وَفِي الْأُخْرَى عَنَاقًا فَرُوِيَ اللَّفْظَانِ فَأَمَّا رِوَايَةُ الْعَنَاقِ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْغَنَمُ صِغَارًا كُلُّهَا بِأَنْ مَاتَتْ أُمَّهَاتُهَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ فَإِذَا حَالَ حَوْلُ الْأُمَّهَاتِ زَكَّى السِّخَالَ الصِّغَارَ بِحَوْلِ الْأُمَّهَاتِ سَوَاءٌ بَقِيَ مِنَ الْأُمَّهَاتِ شَيْءٌ أَمْ لَا
هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الأنماطي
لا تزكى الأولاد بحول الأمهات إلى أَنْ يَبْقَى مِنَ الْأُمَّهَاتِ نِصَابٌ
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَّا أَنْ يَبْقَى مِنَ الْأُمَّهَاتِ شَيْءٌ وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ أَيْضًا فِيمَا إِذَا مَاتَ مُعْظَمُ الْكِبَارِ وَحَدَثَتْ صِغَارٌ فَحَالَ حَوْلُ الْكِبَارِ عَلَى بَقِيَّتِهَا وَعَلَى الصِّغَارِ انْتَهَى
وَقَالَ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ وَفِي قَوْلِهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِي السِّخَالِ وَالْفُصْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ وَأَنَّ واحدة منها تجزىء عَنِ الْوَاجِبِ فِي الْأَرْبَعِينَ مِنْهَا إِذَا كَانَتْ كُلُّهَا صِغَارًا وَلَا يُكَلَّفُ صَاحِبُهَا مُسِنَّةً
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّتَاجَ حَوْلَ الْأُمَّهَاتِ وَلَوْ كَانَ يَسْتَأْنِفُ بِهَا الْحَوْلُ لَمْ يُوجَدِ السَّبِيلُ إِلَى أَخْذِ الْعَنَاقِ انْتَهَى كَلَامُهُ
كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ بِاخْتِصَارٍ(4/294)
(بَاب مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ)
[1558] (سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَصْلٌ فِي بَيَانِ مَقَادِيرِ مَا يَحْتَمِلُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُوَاسَاةَ وَإِيجَابَ الصَّدَقَةِ فِيهَا وَإِسْقَاطَهَا عَنِ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُهَا لِئَلَّا يُجْحَفَ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَلَا يُبْخَسَ الْفُقَرَاءُ حُقُوقَهُمْ
وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْمَقَادِيرُ أُصُولًا وَأَنْصِبَةً إِذَا بَلَغَتْهَا أَنْوَاعُ هَذِهِ الْأَمْوَالِ وَجَبَ فِيهَا الْحَقُّ (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ) الذَّوْدُ بِإِعْجَامِ الْأَوَّلِ وَإِهْمَالِ آخِرِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ هُوَ اسْمٌ لِعَدَدٍ مِنَ الْإِبِلِ غَيْرِ كَثِيرٍ وَيُقَالُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى الْعَشْرِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْوَاحِدِ بَعِيرٌ كَمَا قِيلَ لِلْوَاحِدَةِ مِنَ النِّسَاءِ امْرَأَةٌ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الذَّوْدُ مِنَ الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْحَدِيثُ عَامٌّ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ذُكُورًا كَانَتْ أَوْ إِنَاثًا
وَرُوِيَ بِالْإِضَافَةِ وَرُوِيَ بِتَنْوِينِ خَمْسٍ فَيَكُونُ ذَوْدٌ بَدَلًا عَنْهَا لَكِنِ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ هِيَ الْأُولَى (خَمْسُ أَوَاقٍ) كَجَوَارٍ جَمْعُ أُوقِيَّةٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَيُقَالُ لَهَا الْوَقِيَّةُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةُ أَوَاقٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ (خَمْسَةُ أَوْسُقٍ) جَمْعُ وَسْقٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ وَالْمُدُّ رِطْلٌ وَثُلُثٌ
قَالَ الدَّاوُدِيُّ مِعْيَارُهُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ وَبِكَفَّيِ الرَّجُلِ لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ وَلَا صَغِيرِهِمَا
قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ جَرَّبْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ صَحِيحًا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْخَضْرَاوَاتِ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَا تُوسَقُ وَدَلِيلُ الْخَبَرِ أَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِيمَا يُوسَقُ وَيُكَالُ مِنَ الحبوب والثمار دون مالا يُكَالُ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَالْخَضْرَاوَاتِ وَنَحْوِهَا وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ
قَالَ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا زَادَ مِنَ الْوَرِقِ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُخْرِجُ عَمَّا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِحِسَابِهِ رُبْعَ الْعُشْرِ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ أو كثرت
وروي ذلك عن علي وبن عمر وبه قال النخعي والثوري وبن أَبِي لَيْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وروي عن الحسن وعطاء وطاووس وَالشَّعْبِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى(4/295)
تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ انْتَهَى كَلَامُهُ
(الْجَمَلِيُّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ مَنْسُوبٌ إِلَى جَمَلِ بْنِ كِنَانَةَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النسائي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا [1559] (سِتُّونَ مَخْتُومًا) أَيْ سِتُّونَ صَاعًا وَكَانَ الصَّاعُ مُعَلَّمًا بِعَلَامَةٍ فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ مَخْتُومًا (أَبُو الْبَخْتَرِيِّ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُثَنَّاةِ بَيْنَهُمَا مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ فَيْرُوزٍ
[1560] (مَخْتُومًا بِالْحَجَّاجِيِّ) أَيْ مَخْتُومًا بِعَلَامَةِ الْحَجَّاجِ وَهِيَ سِتُّونَ صَاعًا وَكُلُّ صَاعٍ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ وَكُلُّ مُدٍّ رِطْلٌ وَثُلُثٌ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الطَّهَارَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
[1561] (فَغَضِبَ عِمْرَانُ) بْنُ حُصَيْنٍ وَغَرَضُهُ أَنَّهُ إِنْ وَجَدْنَا فِي الْقُرْآنِ مَسْأَلَةً فَحَسْبُنَا وَإِنْ لَمْ أَجِدْ فِي الْقُرْآنِ أَنْظُرُ إِلَى السُّنَّةِ فَنَأْخُذُ مِنْهَا فَكَمْ مِنَ الْمَسَائِلِ لَيْسَ ذِكْرُهَا فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَخَذْنَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَثَّلَ عِمْرَانُ لِلسَّائِلِ (وَقَالَ) عِمْرَانُ (لِلرَّجُلِ) السَّائِلِ (أَوَجَدْتُمْ) فِي الْقُرْآنِ (فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمَيُّزِ (دِرْهَمًا) مَفْعُولُ وَجَدْتُمْ (وَذَكَرَ أَشْيَاءَ نَحْوَ هذا) لإثبات مدعاه(4/296)
2 - (باب العروض إلخ)
[1562] جَمْعُ عَرْضٍ بِسُكُونِ الرَّاءِ مِثْلُ فَلْسٍ وَفُلُوسٍ هُوَ الْمَتَاعُ
قَالُوا وَالدِّرْهَمُ وَالدَّنَانِيرُ عَيْنٌ وَمَا سِوَاهُمَا عَرْضٌ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْعُرُوضُ الْأَمْتِعَةُ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا كَيْلٌ وَلَا وَزْنٌ وَلَا تَكُونُ حَيَوَانًا وَلَا عَقَارًا كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ
(مِنَ الَّذِي) أَيْ مِنَ الْمَالِ الَّذِي (نُعِدُّ) أَيْ نُهَيِّئُهُ (لِلْبَيْعِ) أَيْ لِلتِّجَارَةِ وَخُصَّ لِأَنَّهُ الْأَغْلَبُ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا يُنْوَى بِهِ الْقِنْيَةُ لَا زَكَاةَ فِيهِ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ ثُمَّ المنذري
وقال بن عَبْدِ الْبَرِّ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ
وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ خُبَيْبٌ هَذَا لَيْسَ بِمَشْهُورٍ وَلَا نَعْلَمُ رَوَى عَنْهُ إِلَّا جَعْفَرُ بْنُ سَعْدٍ وليس جعفر ممن يعتمد عليه
قال بن الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ مُتَعَقِّبًا عَلَى عَبْدِ الْحَقِّ فَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ حَدِيثَ مَنْ كَتَمَ مَالًا فَهُوَ مِثْلُهُ وَسَكَتَ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ سَعْدٍ هَذَا عَنْ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ مِنْهُ تَصْحِيحٌ
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ سمرة بن جندب لو يعرف بن أَبِي حَاتِمٍ بِحَالِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُ رَبِيعَةُ وَابْنُهُ خُبَيْبٌ انْتَهَى
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ الْحَدِيثَ
وَالْبَزُّ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ مَا يَبِيعُهُ الْبَزَّازُونَ
كَذَا ضَبَطَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُهُ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ صَحَّفَهُ بضم الباء وبالراي الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ غَلَطٌ انْتَهَى
وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَمَاسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ كُنْتُ أَبِيعُ الْأُدْمَ فَمَرَّ بِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ لي أد صدقة مالك فقلت ياأمير الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأُدْمِ فَقَالَ قَوِّمْهُ ثم أخرج صدقته
وروى البيهقي عن بن عُمَرَ قَالَ لَيْسَ فِي الْعَرُوضِ زَكَاةٌ إِلَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ بن عُمَرَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْقَاسِمِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِذَلِكَ
وَقَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ
وَاسْتَدَلَّ لِلْوُجُوبِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى أنفقوا من طيبات ما كسبتم الْآيَةَ قَالَ مُجَاهِدٌ نَزَلَتْ فِي التِّجَارَةِ
قَالَ بن الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعُ قَائِمٌ(4/297)
عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ
وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ
قَالَ لَكِنْ لَا يُكَفَّرُ جَاحِدُهَا لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا
(بَابُ الْكَنْزِ مَا هُوَ وَزَكَاةِ الْحُلِيِّ)
[1563] هَذِهِ التَّرْجَمَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ الْكَنْزِ وَالثَّانِي فِي زَكَاةِ الْحُلِيِّ
(أَنَّ امْرَأَةً) هِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ (مَسَكَتَانِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْوَاحِدَةُ مَسَكَةٌ وَهِيَ الْأَسْوِرَةُ وَالْخَلَاخِيلُ (قَالَ أَيَسُرُّكِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَقَالَ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ انْتَهَى كلامه
قال الزيلعي قال بن الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ إِسْنَادُهُ لَا مَقَالَ فِيهِ فَإِنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كَامِلٍ الْجَحْدَرِيِّ وَحُمَيْدِ بْنِ مَسْعَدَةَ وَهُمَا مِنَ الثِّقَاتِ احْتَجَّ بِهِمَا مُسْلِمٌ وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ إِمَامٌ فَقِيهٌ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَكَذَلِكَ حُسَيْنُ بْنُ ذَكْوَانَ الْمُعَلِّمُ احتجابه في الصحيح ووثقه بن المديني وبن مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ فَهُوَ مِمَّنْ قَدْ عُلِمَ وَهَذَا إِسْنَادٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
[1564] (كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا) بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ وَضَحٍ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ هِيَ نَوْعٌ مِنَ الْحُلِيِّ تُعْمَلُ مِنَ الْفِضَّةِ سُمِّيَتْ بِهَا لِبَيَاضِهَا وَاحِدُهَا وَضَحٌ انْتَهَى
وَفِي مُنْتَهَى الْإِرَبِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَضَحَ بِمَعْنَى خَلْخَالٍ أَيْ حَلْقَةٍ طلا ونقره كه درباي كنند وآترا بفارسي باي برنجن نامند انتهى (أكنزهو) أَيِ اسْتِعْمَالُ الْحُلِيِّ كَنْزٌ مِنَ الْكُنُوزِ الَّذِي تُوُعِّدَ عَلَى اقْتِنَائِهِ فِي الْقُرْآنِ أَمْ(4/298)
لَا (فَقَالَ مَا بَلَغَ) أَيِ الَّذِي بَلَغَ (أَنْ تُؤَدَّى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (زَكَاتُهُ) أَيْ بَلَغَ نِصَابًا (فَزُكِّيَ) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْحَرَّانِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ انْتَهَى
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ عَنْ ثَابِتٍ بِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَلَفْظُهُ إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ ثَابِتُ بْنُ عَجْلَانَ
قَالَ فِي التَّنْقِيحِ وَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ ثَابِتَ بن عجلان روى له البخاري ووثقه بن مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَقِّ فِيهِ لَا يُحْتَجُّ بِهِ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ انْتَهَى
وقال بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَقَوْلُ الْعُقَيْلِيِّ فِي ثَابِتِ بْنِ عجلان لا يتابع على حديثه تحامل مِنْهُ انْتَهَى وَأَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَهُوَ يُسْأَلُ عَنِ الْكَنْزِ مَا هُوَ فَقَالَ هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَا تُؤَدَّى مِنْهُ الزَّكَاةُ انْتَهَى أَيْ فَمَا أَدَّيْتَ مِنْهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ بن عُمَرَ مَرْفُوعًا كُلُّ مَا أَدَّيْتَ زَكَاتَهُ وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ سَبْعِ أَرْضِينَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَكُلُّ مالا تُؤَدَّى زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ والمشهور وقفه
قال بن عَبْدِ الْبَرِّ وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وصححه الحاكم
وقال بن عَبْدِ الْبَرِّ وَفِي سَنَدِ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَقَالٌ
وَقَالَ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ سَنَدُهُ جَيِّدٌ
وَرَوَى بن أبي شيبة عن بن عَبَّاسٍ مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَلِلْحَاكِمِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْكَ شَرَّهُ
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مَوْقُوفًا وَرَجَّحَهُ أَبُو زُرْعَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا
[1565] (فَتَخَاتٌ مِنْ وَرَقٍ) أَيِ الْخَوَاتِيمِ الْكِبَارِ كَانَتِ النِّسَاءُ يَتَخَتَّمْنَ بِهَا وَالْوَاحِدَةُ فَتْخَةٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ حِينَ كَانَ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ فَلَمَّا أُبِيحَ ذَلِكَ لَهُنَّ سَقَطَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ حَدِيثِ عَائِشَةَ إِنْ كَانَ ذِكْرُ الْوَرِقِ فِيهِ مَحْفُوظًا غير أن رواية القاسم بن محمد وبن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي تَرْكِ إِخْرَاجِ الزكاة(4/299)
مِنَ الْحُلِيِّ مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهَا إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى يُوقِعُ رَيْبًا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَرْفُوعَةِ وَهِيَ لَا تُخَالِفُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِيمَا عَلِمْتُهُ مَنْسُوخًا انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ بِهِ
وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ فَنَسَبَهُ إِلَى جَدِّهِ دُونَ أَبِيهِ ثُمَّ قَالَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَطَاءٍ مَجْهُولٌ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ لَكِنَّهُ لَمَّا نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ ظَنَّ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى
وَتَبِعَ الدَّارَقُطْنِيَّ فِي تَجْهِيلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ عبد الحق في أحكامه وتعقبه بن الْقَطَّانِ فَقَالَ لَمَّا خَفِيَ عَلَى الدَّارَقُطْنِيِّ أَمْرُهُ جَعَلَهُ مَجْهُولًا وَتَبِعَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَحَدُ الثِّقَاةِ وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ بَيَّنَهُ شَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ وَهُوَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ إِمَامُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ انتهى
قال بن دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْإِمَامِ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ وَالْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ انْتَهَى
أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَلِي بَنَاتِ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا لَهُنَّ الْحُلِيُّ فَلَا تُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ
وَأَخْرَجَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتَهُ وَجَوَارِيهِ الذَّهَبَ ثُمَّ لَا يُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ الْحُلِيِّ فَقَالَ لَيْسَ فِيهِ زَكَاةٌ
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دينار قال سمعت بن خَالِدٍ يَسْأَلُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْحُلِيِّ أَفِيهِ زَكَاةٌ
قَالَ جَابِرٌ لَا فَقَالَ وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ جَابِرٌ أَكْثَرُ انْتَهَى وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلِّي بَنَاتِهَا الذَّهَبَ وَلَا تُزَكِّيهِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفٍ
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا لَا يَرَوْنَ فِي الْحُلِيِّ زكاة أنس بن مالك وجابر وبن عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ انْتَهَى
قَالَ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ فَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر وبن عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِيهِ الزَّكَاةَ وَهُوَ قَوْلُ بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وبن سِيرِينَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَإِلَيْهِ ذهب الثوري وأصحاب الرأي
وروي عن بن عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةَ وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ(4/300)
وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا فِيهِ زَكَاةً وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَهُوَ أَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ الظَّاهِرُ مِنَ الْكِتَابِ يَشْهَدُ لِقَوْلِ مَنْ أَوْجَبَهَا وَالْأَثَرُ يُؤَيِّدُهُ وَمَنْ أَسْقَطَهَا ذَهَبَ إِلَى النَّظَرِ وَمَعَهُ طَرَفٌ مِنَ الْأَثَرِ وَالِاحْتِيَاطِ أَدَاؤُهَا انْتَهَى
وَفِي سُبُلِ السَّلَامِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحِلْيَةِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا نِصَابَ لَهَا لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَزْكِيَةِ هَذِهِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا يَكُونُ خَمْسُ أَوَاقِي فِي الْأَغْلَبِ
وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَأَحَدِ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ عَمَلًا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَالثَّانِي لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ لِآثَارٍ وَرَدَتْ عَنِ السَّلَفِ قَاضِيَةٍ بِعَدَمِ وُجُوبِهَا فِي الْحِلْيَةِ وَلَكِنْ بَعْدَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ لَا أَثَرَ لِلْآثَارِ وَالثَّالِثُ أَنَّ زَكَاةَ الْحِلْيَةِ عَارِيَتُهَا كَمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الرَّابِعُ أَنَّهَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مَرَّةً وَاحِدَةً رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا وُجُوبُهَا لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَقُوَّتِهِ
وَأَمَّا نِصَابُهَا فَعِنْدَ الْمُوجِبِينَ نِصَابُ النَّقْدَيْنِ وَظَاهِرُ حَدِيثِهَا الْإِطْلَاقُ وَكَأَنَّهُمْ قَيَّدُوهُ بِأَحَادِيثِ النَّقْدَيْنِ وَيُقَوِّي الْوُجُوبَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا انْتَهَى مَا فِي سُبُلِ السَّلَامِ
[1566] (سُفْيَانُ) هُوَ الثَّوْرِيُّ (عَنْ عُمَرَ بْنِ يَعْلَى) هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ الْكُوفِيُّ ضعفه بن مَعِينٍ
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وُجِدَ فِي النسختين وهو من رواية بن داسة
قال الحافظ جمال الْحَافِظُ جَمَالُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فِي كِتَابِ الْمَرَاسِيلِ عُمَرُ بْنُ يَعْلَى وَهُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ حَدِيثٌ فِي زَكَاةِ الْخَاتَمِ أَبُو دَاوُدَ فِي الزَّكَاةِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ يَعْلَى نَحْوُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عائشة في رواية بن دَاسَةَ انْتَهَى (نَحْوُ حَدِيثِ الْخَاتَمِ) أَيْ نَحْوُ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي زَكَاةِ الْخَاتَمِ (قِيلَ لِسُفْيَانَ) الثَّوْرِيِّ (كَيْفَ تُزَكِّيهِ) أَيْ خَاتَمًا وَاحِدًا مِنْ وَرِقٍ وَهُوَ لَا يَبْلُغُ النِّصَابَ (قَالَ) سُفْيَانُ (تَضُمُّهُ) أَيِ الْخَاتَمَ (إِلَى غَيْرِهِ) مِنَ الْحُلِيِّ فَتُزَكِّي الْخَاتَمَ مَعَ حُلِيٍّ آخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قلت والحديث أخرجه بن الْجَارُودِ فِي الْمُنْتَقَى حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ عَظِيمٍ فَقَالَ أَتُؤَدِّي زَكَاةَ هَذَا قَالَ وَمَا(4/301)
زَكَاتُهُ قَالَ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ جَمْهَرَةٌ عَظِيمَةٌ
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي هَذَا عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَعْلَى الطَّائِفِيِّ انْتَهَى
(بَابٌ فِي زَكَاةِ السَّائِمَةِ)
[1567] أَيِ الْمَوَاشِي الَّتِي تَرْعَى فِي الصَّحْرَاءِ وَالْمَرْعَى
(قَالَ أَخَذْتُ مِنْ ثُمَامَةَ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ قَالَ الحافظ بن حَجَرٍ صَرَّحَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ بِأَنَّ حَمَّادًا سَمِعَهُ مِنْ ثُمَامَةَ وَأَقْرَأَهُ الْكِتَابَ فَانْتَفَى تَعْلِيلُ مَنْ أَعَلَّهُ بِكَوْنِهِ مُكَاتَبَةً (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَهُ) أَيْ كِتَابًا (لِأَنَسٍ) لِيَعْمَلَ بِهِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْكِتَابِ (حِينَ بَعَثَهُ) أَيْ أَنَسًا (مُصَدِّقًا) هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ أَيْ حِينَ وَجَّهَ أَنَسًا إِلَى الْبَحْرَيْنِ عَامِلًا عَلَى الصَّدَقَةِ (وَكَتَبَهُ) أَيْ كَتَبَ النَّبِيُّ الْكِتَابَ (لَهُ) أَيْ لِأَنَسٍ (فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ أَوْجَبَ أَوْ شَرَعَ أَوْ قَدَّرَ لِأَنَّ إِيجَابَهَا بِالْكِتَابِ إِلَّا أَنَّ التَّحْدِيدَ وَالتَّقْدِيرَ عَرَفْنَاهُ ببيان النبي (الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ) عَطْفٌ عَلَى الَّتِي عَطْفَ تفسير أي الصدقة التي (فمن سألها) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ طُلِبَهَا (عَلَى وَجْهِهَا) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي فِي سُئِلَهَا أَيْ كَائِنَةً عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ بِلَا تَعَدٍّ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْ حَسَبَ مَا بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَقَادِيرِهَا (فَلْيُعْطِهَا) أَيِ الصَّدَقَةَ (وَمَنْ سُئِلَ فَوْقَهَا فَلَا يُعْطِهِ) يُتَنَاوَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ لَا يُعْطِيَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنْ لَا يُعْطِيَ شَيْئًا مِنْهَا لِأَنَّ السَّاعِيَ إِذَا طَلَبَ فَوْقَ الْوَاجِبِ كَانَ خَائِنًا فَإِذَا ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ سَقَطَتْ طَاعَتُهُ
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ وَالْحَاكِمَ إِذَا ظَهَرَ فِسْقُهُمَا بَطَلَ حُكْمُهُمَا
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الْمَرْءِ صَدَقَةَ أَمْوَالِهِ الظَّاهِرَةَ بِنَفْسِهِ دُونَ الْإِمَامِ
وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الْأَوْقَاصِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِبِلَ إِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ لَمْ يَسْتَأْنِفْ لَهَا الْفَرِيضَةَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِغَيْرِ الْفَرْضِ كَالْوَاحِدَةِ بَعْدَ الْخَمْسَةِ وَالثَّلَاثِينَ وَبَعْدَ الْخَمْسَةِ وَالْأَرْبَعِينَ وَبَعْدَ كَمَالِ السِّتِّينَ قَالَهُ الخطابي (في(4/302)
كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ) بِإِضَافَةِ خَمْسٍ إِلَى ذَوْدٍ أَيْ إِبِلٍ وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ (فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ) وَهِيَ الَّتِي مَضَى عَلَيْهَا سِنةٌ وَطَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ وَحَمَلَتْ أُمُّهَا
وَالْمَخَاضُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ الْمُخَفَّفَةِ الْحَامِلُ أَيْ دَخَلَ وَقْتُ حَمْلِهَا وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ (فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ) هُوَ الَّذِي دَخَلَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ
وَقَوْلُهُ ذَكَرٌ تَأْكِيدٌ لقوله بن لَبُونِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعُدُولِ إِلَى بن اللَّبُونِ عِنْدَ عَدَمِ بِنْتِ الْمَخَاضِ (فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ) وَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا حَوْلَانِ وَصَارَتْ أُمُّهَا لَبُونًا بِوَضْعِ الْحَمْلِ (فَفِيهَا حِقَّةٌ) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ هِيَ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ (طَرُوقَةُ الْفَحْلِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ مَطْرُوقَةٌ كَحَلُوبَةٍ بِمَعْنَى مَحْلُوبَةٍ وَالْمُرَادُ أَنَّهَا بَلَغَتْ أَنْ يَطْرُقَهَا الْفَحْلُ وَهِيَ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهَا ثَلَاثُ سِنِينَ وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ (فَفِيهَا جَذَعَةٌ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَطَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ (فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ) أَيْ إِذَا زَادَ يُجْعَلُ الْكُلُّ عَلَى عَدَدِ الْأَرْبَعِينَاتِ وَالْخَمْسِينَاتِ مَثَلًا إِذَا زَادَ وَاحِدٌ عَلَى الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ يُعْتَبَرُ الْكُلُّ ثَلَاثَ أَرْبَعِينَاتٍ وَوَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ لَا شَيْءَ فِيهِ وَثَلَاثُ أَرْبَعِينَاتٍ فِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ إِلَى ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَفِي ثلاثين ومائة حقة لخمسين وبنتا لبون لأربعينين وَهَكَذَا وَلَا يَظْهَرُ التَّغَيُّرُ إِلَّا عِنْدَ زِيَادَةِ عَشْرٍ (فَإِذَا تَبَايَنَ) أَيِ اخْتَلَفَ الْأَسْنَانُ فِي بَابِ الْفَرِيضَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَفْرُوضُ سِنًّا وَالْمَوْجُودُ عِنْدَ صَاحِبِ الْمَالِ سِنًّا آخَرَ (فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ)
وَالْمُرَادُ أَنَّ الْحِقَّةَ تُقْبَلُ مَوْضِعَ الْجَذَعَةِ مَعَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَحَمَلَهُ بَعْضٌ عَلَى أَنَّ ذَاكَ تَفَاوُتُ قِيمَةِ مَا بَيْنَ الْجَذَعَةِ وَالْحِقَّةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ فَالْوَاجِبُ هُوَ تَفَاوُتُ الْقِيمَةِ لَا تَعْيِينُ ذَلِكَ فَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ أَدَاءِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى تَعْيِينِ ذَلِكَ الْقَدْرِ بِرِضَا صَاحِبِ الْمَالِ وَإِلَّا فَلْيَطْلُبِ السِّنَّ الْوَاجِبَ وَلَمْ يُجَوِّزُوا الْقِيمَةَ (اسْتَيْسَرَتَا لَهُ) أَيْ كَانَتَا مَوْجُودَتَيْنِ فِي(4/303)
مَاشِيَتِهِ مَثَلًا (وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ) أَيْ صَاحِبِ الْمَالِ (فَإِنَّهَا تُقْبَلُ) مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ (مِنْهُ) أَيْ صَاحِبِ الْمَالِ (وَيُعْطِيهِ الْمُصَدِّقَ) أَصْلُهُ الْمُتَصَدِّقُ أَيِ الْعَامِلُ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَكَسْرِ الدَّالِ أَيِ الْعَامِلُ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَرْبَابِهَا وهو المراد ها هنا يُقَالُ صَدَقَهُمْ يُصْدِقُهُمْ فَهُوَ مُصْدِقٌ وَأَمَّا الْمُصَّدِّقُ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَالدَّالِ مَعًا وَكَسْرِ الدَّالِ فَهُوَ صَاحِبُ الْمَاشِيَةِ وَأَصْلُهُ الْمُتَصَدِّقُ (عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ) أَوْ لِلتَّخْيِيرِ أَيْ فِيهِ خَيَارٌ لِلْمُصَدِّقِ أَيْ إِنْ شَاءَ أَعْطَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَإِنْ شاء أعطى شاتين (إلى ها هنا) أَيْ لَمْ أَضْبِطْ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَيْ مِنْ قَوْلِهِ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ثُمَّ أَتْقَنْتُ الْبَاقِيَ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا أَحَبَّ (فَإِنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ) أَيْ بَدَلًا مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ قَهْرًا عَلَى السَّاعِي (وَلَيْسَ معه شيء) أي لا يلزمه مع بن لَبُونٍ شَيْءٌ آخَرُ مِنَ الْجُبْرَانِ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَضِيلَةَ الْأُنُوثَةِ تُجْبَرُ بِفَضْلِ السِّنِّ (إِلَّا أَرْبَعٌ) مِنَ الْإِبِلِ (فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغِ النِّصَابَ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) فَيَخْرُجُ عَنْهَا نَفْلًا مِنْهُ وَإِلَّا وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ذُكِرَ لِدَفْعِ تَوَهُّمٍ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِ لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ أَنَّ الْمَنْفِيَّ مُطْلَقُ الصَّدَقَةِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ فَهَذِهِ صَدَقَةُ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةُ فُصِّلَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَظَاهِرُهُ وُجُوبُ أَعْيَانِ مَا ذَكَرَ إِلَّا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَجِدِ الْعَيْنَ الْوَاجِبَةَ أَجْزَأَهُ غَيْرُهَا (وَفِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ) سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ آلَةُ الدِّفَاعِ فَكَانَتْ غَنِيمَةً لِكُلِّ طَالِبٍ ثُمَّ الضَّأْنُ وَالْمَاعِزُ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ
وَالسَّائِمَةُ هِيَ الَّتِي تَرْعَى فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ
قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْغَنَمِ إِذَا كَانَتْ سَائِمَةً فأما(4/304)
الْمَعْلُوفَةُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا وَلِذَلِكَ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَوَامِلِ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةً وَأَوْجَبَهَا مَالِكٌ فِي عَوَامِلِ الْبَقَرِ وَنَوَاضِحِ الْإِبِلِ انْتَهَى (فَإِذَا زَادَتْ) وَلَوْ وَاحِدَةً كَمَا فِي كِتَابِ عَمْروِ بْنِ حَزْمٍ (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ) وَلَوْ وَاحِدَةً (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِ مِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ) فِي النَّيْلِ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الشَّاةُ الرَّابِعَةُ حَتَّى تَفِيَ أَرْبَعَ مِائَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَبَعْضِ الْكُوفِيِّينَ إِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ وَاحِدَةٍ وَجَبَتِ الْأَرْبَعُ انْتَهَى
وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَاهُ أَنْ تَزِيدَ مِائَةً أُخْرَى فَتَصِيرَ أَرْبَعَمِائَةٍ فَيَجِبُ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ وَاحِدَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ انْتَهَى
(هَرِمَةٌ) بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ هِيَ الْكَبِيرَةُ الَّتِي سَقَطَتْ أَسْنَانُهَا (وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّهَا أَيْ مَعِيبَةٍ وَقِيلَ بِالْفَتْحِ الْعَيْبُ وَبِالضَّمِّ الْعَوَرُ (وَلَا تَيْسُ الْغَنَمِ) بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ وَهُوَ فَحْلُ الْغَنَمِ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُصَدِّقُ) اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ بِالتَّشْدِيدِ وَالْمُرَادُ الْمَالِكُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ
وَتَقْدِيرُ الْحَدِيثِ لَا تُؤْخَذُ هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَيْبٍ أَصْلًا وَلَا يُؤْخَذُ التَّيْسُ وَهُوَ فَحْلُ الْغَنَمِ إِلَّا بِرِضَا الْمَالِكِ لِكَوْنِهِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَفِي أَخْذِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ إِضْرَارٌ بِهِ وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ مُخْتَصٌّ بِالثَّالِثِ
وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَهُوَ السَّاعِي وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ لِكَوْنِهِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَكِيلِ فَلَا يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ الْمَصْلَحَةِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَلَفْظُهُ وَلَا تُؤْخَذُ ذَاتُ عَوَارٍ وَلَا تَيْسٌ وَلَا هَرِمَةٌ إِلَّا أَنْ يَرَى الْمُصَدِّقُ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ لِلْمَسَاكِينِ فَيَأْخُذُ عَلَى النَّظَرِ لَهُمْ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي (وَلَا يَجْمَعْ بَيْنَ مُفْتَرَقٍ إِلَخْ) قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مَعْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّفَرُ الثَّلَاثَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ فَيَجْمَعُونَهَا حَتَّى لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ إِلَّا شَاةً وَاحِدَةً أَوْ يَكُونَ لِلْخَلِيطَيْنِ مِائَتَا شَاةٍ وَشَاةٌ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا فِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ فَيُفَرِّقُونَهَا حَتَّى لَا يَكُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَّا شَاةً وَاحِدَةً
قَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ خِطَابٌ لِلْمَالِكِ مِنْ جِهَةٍ وَلِلسَّاعِي مِنْ جِهَةٍ فَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ أَنْ لَا يُحْدِثَ شَيْئًا من الجمع والتفريق خشية الصدقة قرب الْمَالِ يَخْشَى أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ فَيَجْمَعُ أَوْ يُفَرِّقُ لِتَقِلَّ وَالسَّاعِي يَخْشَى أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ فَيَجْمَعُ أَوْ يُفَرِّقُ لِتَكْثُرَ
فَمَعْنَى قَوْلِهِ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ أَيْ خَشْيَةَ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ أَوْ خَشْيَةَ أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ فَلَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا(4/305)
لِلْأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنِ الْحَمْلُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا مَعًا لَكِنَّ الْأَظْهَرَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَالِكِ
ذَكَرَهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي (وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ) أَيْ شَرِيكَيْنِ (فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي الْإِبِلِ يَجِبُ فِيهَا الْغَنَمُ فَتُوجَدُ الْإِبِلُ فِي أَيْدِي أَحَدِهِمَا فَتُؤْخَذُ مِنْهُ صَدَقَتُهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ عَلَى السَّوِيَّةِ
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السَّاعِيَ إِذَا ظَلَمَ فَأَخَذَ زِيَادَةً عَلَى فَرْضِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجَعُ بِهَا عَلَى شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا يَغْرَمُ لَهُ قِيمَةَ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الْوَاجِبِ دُونَ الزِّيَادَةِ الَّتِي هِيَ ظُلْمٌ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ بِالسَّوِيَّةِ
وَقَدْ يَكُونُ تَرَاجُعُهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ قَدْ عَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنَ مَالِهِ فَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْ نُصِيبِ أَحَدِهِمَا شَاةً فَيَرْجِعُ الْمَأْخُوذُ مِنْ مَالِهِ عَلَى شَرِيكِهِ بِقِيمَةِ نِصْفِ شَاتِهِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخُلْطَةَ تَصِحُّ مَعَ تَعَيُّنِ أَعْيَانِ الْأَمْوَالِ
وقد روي عن عطاء وطاووس أَنَّهُمَا قَالَا إِذَا عَرَفَ الْخَلِيطَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَمْوَالَهُمَا فَلَيْسَا بِخَلِيطَيْنِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي شَرْطِ الْخَلِيطَةِ
فَقَالَ مَالِكٌ إِذَا كَانَ الرَّاعِي وَالْمَرَاحُ وَالْفَحْلُ وَاحِدًا فَهُمَا خَلِيطَانِ وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ
وَقَالَ مَالِكٌ فَإِنْ فَرَّقَهُمَا الْمَبِيتُ هَذِهِ فِي قَرْيَةٍ وَهَذِهِ فِي قَرْيَةٍ فَهُمَا خَلِيطَانِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَرَاحِ فَلَيْسَا بِخَلِيطَةٍ وَاشْتَرَطَ فِي الْخُلْطَةِ الْمَرَاحَ وَالْمَسْرَحَ وَالسَّقْيَ وَاخْتِلَاطَ الْفُحُولَةِ وَقَالَ إِذَا افْتَرَقَا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَلَيْسَا بِخَلِيطَيْنِ إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ لَا يَكُونَانِ خَلِيطَيْنِ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمَامُ النصاب
وعند الشافعي إذا تم مالهما نصاب فَهُمَا خَلِيطَانِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا) أَيْ فَيُعْطِي شَيْئًا تَطَوُّعًا (وَفِي الرِّقَةِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْقَافِ الفضة الخالصة مضروبة كانت أولا أَصْلُهُ وَرِقٌ وَهُوَ الْفِضَّةُ حَذَفَ مِنْهُ الْوَاوَ وَعَوَّضَ عَنْهَا التَّاءَ كَمَا فِي عِدَةٍ وَدِيَةٍ (رُبْعُ الْعُشْرِ) بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَسُكُونِ الثَّانِي وَضَمِّهِمَا فِيهِمَا يَعْنِي إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَرُبْعُ الْعُشْرِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ (إِلَّا تِسْعِينَ وَمِائَةً) مِنَ الدَّرَاهِمِ
وَالْمَعْنَى إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ نَاقِصَةً عَنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ
قَالَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ ذَكَرَ عِبَارَة الْمُنْذِرِيِّ بِنَصِّهَا إِلَى قَوْل الشَّافِعِيّ وَبِهِ نَأْخُذ(4/306)
المنذري أخرجه النسائي وأخرجه البخاري وبن مَاجَهْ
[1568] (مَخَافَةَ الصَّدَقَةِ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وَقَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ يَجْمَعُ وَيُفَرِّقُ وَالْمَخَافَةُ مَخَافَتَانِ مَخَافَةُ السَّاعِي أَنْ تَقِلَّ الصَّدَقَةُ وَمَخَافَةُ رَبِّ الْمَالِ أَنْ تَكْثُرَ الصَّدَقَةُ فَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ لَا يُحْدِثَ شَيْئًا مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ مَخَافَةَ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ أَوْ كَثْرَتِهَا إِنْ رَجَعَ لِلْمَالِكِ وَمَخَافَةَ سُقُوطِ الصَّدَقَةِ أَوْ قِلَّتِهَا إِنْ رَجَعَ إِلَى السَّاعِي
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ النَّهْيُ لِلسَّاعِي عَنْ جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِثْلُ أَنْ يَجْمَعَ أَرْبَعِينَ شَاةً لِرَجُلَيْنِ لِأَخْذِ الصَّدَقَةِ وَتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعَةِ مِثْلُ أَنْ يُفَرِّقَ مِائَةً وَعِشْرِينَ لِرَجُلٍ أَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ لِيَأْخُذَ ثَلَاثَ شِيَاهٍ
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالنَّهْيُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَجْمَعَ أَرْبَعِينَهُ مَثَلًا إِلَى أَرْبَعِينَ لِغَيْرِهِ لِتَقْلِيلِ الصَّدَقَةِ وَأَنْ يُفَرِّقَ عِشْرِينَ لَهُ مَخْلُوطَةً بِعِشْرِينَ لِغَيْرِهِ لِسُقُوطِهَا وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ هَذَا نَهْيٌ لِلْمَالِكِ وَالسَّاعِي جَمِيعًا نَهْي رَبَّ الْمَالِ عَنِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ قَصْدًا إِلَى تَكْثِيرِ الصَّدَقَةِ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَيَتَأَتَّى هَذَا فِي صُوَرٍ أَرْبَعٍ أَشَارَ إِلَيْهَا الْقَاضِي بِقَوْلِهِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ نَهْي لِلْمَالِكِ(4/307)
عَنِ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ قَصْدًا إِلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ أَوْ تَقْلِيلِهَا
كَمَا إِذَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَيَخْلِطُهَا بِأَرْبَعِينَ لِغَيْرِهِ لِيَعُودَ وَاجِبُهُ مِنْ شَاةٍ إِلَى نِصْفِهَا وَكَمَا إِذَا كَانَ لَهُ عِشْرُونَ مَخْلُوطَةٌ بِمِثْلِهَا فَفَرَّقَهَا لِئَلَّا يَكُونَ نِصَابًا فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ نُهِيَ السَّاعِي أَنْ يُفَرِّقَ الْمَوَاشِي عَلَى الْمَالِكِ فَيَزِيدَ الْوَاجِبُ كَمَا إِذَا كَانَ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً وَوَاجِبُهَا شَاةٌ فَفَرَّقَهَا السَّاعِي أَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ لِيَأْخُذَ ثَلَاثَ شِيَاهٍ وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ لِتَجِبَ فِيهِ الزَّكَاةُ أَوْ تَزِيدَ كَمَا إِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ أَرْبَعُونَ شَاةً متفرقة فجمعها الساعي ليأخذ شاة أو كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا لِيَصِيرَ الْوَاجِبُ ثَلَاثَ شِيَاهٍ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ الْخُلْطَةَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا تَأْثِيرًا كَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ يُعَضِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ وَقَوْلُهُ بِالسَّوِيَّةِ أَيْ بِالْعَدَالَةِ بِمُقْتَضَى الْحِصَّةِ فَيَشْمَلُ أَنْوَاعَ المشاركة
قال بن الْمَلَكِ مِثْلُ أَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا خَمْسُ إِبِلٍ فَأَخَذَ السَّاعِي وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا شَاةٌ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ عَلَى السَّوِيَّةِ وَبَاقِي بَيَانِهِ تَقَدَّمَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الترمذي وبن مَاجَهْ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَدْ رَوَى يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ وَإِنَّمَا رَفَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ هَذَا كَلَامُهُ وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ إِلَّا أَنَّ حَدِيثَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ فِيهِ مَقَالٌ وَقَدْ تَابَعَ سُفْيَانَ بْنَ حُسَيْنٍ عَلَى رَفْعِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَهُوَ مِمَّنِ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ صَدُوقٌ (وَلَمْ يَذْكُرِ الزُّهْرِيُّ الْبَقَرَ) أَيْ تَقْسِيمَ الْبَقَرِ أَثْلَاثًا كَمَا ذَكَرَ فِي الشَّاةِ
[1569] (بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ) أَيْ بِإِسْنَادِ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ وَمَعْنَى حَدِيثِهِ إِلَّا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ الْوَاسِطِيَّ زَادَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي رِوَايَتِهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنِ ابْنَةُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي رِوَايَةِ عَبَّادٍ عَنْ سُفْيَانَ (وَلَمْ يَذْكُرْ) مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ (كَلَامَ الزُّهْرِيِّ) مِنْ تَقْسِيمِ الشاء أَثْلَاثًا كَمَا ذَكَرَهُ عَبَّادٌ عَنْ سُفْيَانَ وَاللَّهُ أعلم(4/308)
[1570] (الَّذِي كَتَبَهُ) أَيِ الْكِتَابَ (فِي الصَّدَقَةِ وَهِيَ) أَيِ النُّسْخَةُ (فَوَعَيْتُهَا) أَيْ حَفِظْتُ النُّسْخَةَ (وَهِيَ) أَيِ النُّسْخَةُ (فَذَكَرَ) أَيِ الزُّهْرِيُّ (الْحَدِيثَ) مِثْلَ حَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ (فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ وَحِقَّةٌ) الْحِقَّةُ عَنْ خَمْسِينَ وَبِنْتَا اللَّبُونِ عَنْ ثَمَانِينَ وَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ عَنْ مِائَةٍ وَبِنْتِ لَبُونٍ عَنْ أَرْبَعِينَ وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَفِيهِ ثَلَاثُ حِقَاقٍ عَنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَسِتِّينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةٌ وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَسَبْعِينَ فَفِيهَا ثلاث بنات لبون عن مائة وعشرين حقة عَنْ خَمْسِينَ وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَثَمَانِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ عَنْ مِائَةٍ وَابْنَتَا لَبُونٍ عَنْ ثَمَانِينَ وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَتِسْعِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ عَنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَبِنْتُ لَبُونٍ عَنْ أَرْبَعِينَ وَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ عَنْ كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ عَنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةٌ وَهَذَا لَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ مَعْنَاهُ مِثْلُ هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِلَّا أَنَّهُ مُجْمَلٌ وَهَذَا مُفَصَّلٌ قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ هَذِهِ عَنْ سَالِمٍ مُرْسَلَةٌ (ثَلَاثُ حِقَاقٍ) جَمْعُ حِقَّةٍ (فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسُ بَنَاتِ لبون) أو ها هنا لِلتَّخْيِيرِ لِتَوَافُقِ حِسَابِ الْأَرْبَعِينَاتِ(4/309)
وَالْخَمْسِينَاتِ (أَيِ السِّنِينَ) مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ وَالْحِقَاقِ (أَنْ يَشَاءَ الْمُصَدِّقُ) رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِفَتْحِ الدَّالِ وَهُوَ الْمَالِكُ وَجُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ بِكَسْرِهَا فَعَلَى الْأَوَّلِ يَخْتَصُّ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ وَلَا تَيْسٌ إِذْ لَيْسَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَ ذَاتَ عَوَرٍ فِي صَدَقَتِهِ وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَامِلَ يَأْخُذُ مَا شَاءَ مِمَّا يَرَاهُ أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ لِلْمُسْتَحِقِّينَ فَإِنَّهُ وَكَيْلُهُمْ
[1571] (قَوْلُ عُمَرَ) أَيْ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ (هُوَ أَنْ يَكُونَ) خَبَرُهُ (لِكُلِّ رَجُلٍ) مِنَ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ (أَرْبَعُونَ شَاةً) قَدْ وَجَبَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي غَنَمِهِمُ الصَّدَقَةُ (فَإِذَا أَظَلَّهُمْ) بِظَاءٍ مُعْجَمَةٍ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ (إِلَّا شَاةٌ) وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا وَاجِبُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَنُهُوا عَنْ تَقْلِيلِ الصَّدَقَةِ (مِائَةُ شَاةٍ) بِإِضَافَةِ مِائَةٍ إِلَى الشَّاةِ (وَشَاةٌ) وَاحِدَةٌ (إِلَّا شَاةٌ) وَاحِدَةٌ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ (سَمِعْتُ فِي) تَفْسِيرِ (ذَلِكَ) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
[1572] (قَالَ زُهَيْرٌ أَحْسَبُهُ) أَيْ أَظُنُّ أَنَّ أَبَا إِسْحَاقَ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا لَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (هَاتُوا) أَيْ آتُوا فِي كُلِّ حَوْلٍ (رُبُعَ الْعُشُورِ) مِنَ الْفِضَّةِ (دِرْهَمًا) نُصِبَ عَلَى التَّمَيُّزِ (دِرْهَمٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (عَلَيْكُمْ شَيْءٌ) مِنَ الزَّكَاةِ (حَتَّى تَتِمَّ) بِالتَّأْنِيثِ أَيْ تَبْلُغَ الرِّقَةُ أَوِ الدَّرَاهِمُ (مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) نَصَبَهُ عَلَى الْحَالِيَّةِ أَيْ بَالِغَةَ مِائَتَيْنِ (فَإِذَا كَانَتِ(4/310)
الدَّرَاهِمُ (فَفِيهَا) أَيْ حِينَئِذٍ (فَمَا زَادَ) أَيْ عَلَى أَقَلِّ نِصَابٍ (فَعَلَى حِسَابِ ذَلِكَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصَابِ مَحْسُوبٌ عَلَى صَاحِبِهِ ومأخوذ منه الزكاة بحصته
انتهى
قال بن الْمَلَكِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزَّائِدِ عَلَى النِّصَابِ بِقَدْرِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا زَكَاةَ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا انْتَهَى (فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ) إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِنْ زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَشَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ فَإِنْ زَادَتْ فَثَلَاثُ شِيَاهٍ إِلَى ثَلَاثمِائَةٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ) رُوِيَ بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ (إِلَّا تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ) مِنَ الْغَنَمِ (فَلَيْسَ عَلَيْكَ فِيهَا شَيْءٌ) لِأَنَّهَا لم تبلغ النصاب (تبيع) أي ماله سَنَةٌ وَسُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ بَعْدُ وَالْأُنْثَى تَبِيعَةٌ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّ الْعِجْلَ مَا دَامَ يَتْبَعُ أُمَّهُ فَهُوَ تَبِيعٌ إِلَى تَمَامِ سَنَةٍ ثُمَّ هُوَ جَذَعٌ ثُمَّ ثَنِيٌّ ثُمَّ رَبَاعٌ ثُمَّ سُدُسٌ وَسَدِيسٌ ثُمَّ صَالِغٌ وَهُوَ المسن انتهى (مسنة) أي ماله سَنَتَانِ وَطَلَعَ سِنُّهَا
حَكَى فِي النِّهَايَةِ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ أَنَّ الْبَقَرَ وَالشَّاةَ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُسِنِّ إِذَا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْمُسِنَّةِ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْمُسِنُّ
وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ بن عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ أَوْ مُسِنٌّ انْتَهَى (وَلَيْسَ عَلَى الْعَوَامِلِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ فِيهَا الصَّدَقَةَ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَقَرَ إِذَا زَادَتْ عَلَى الْأَرْبَعِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ سِتِّينَ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ أُتِيَ بِوَقْصِ الْبَقَرِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَبِحِسَابِهِ انْتَهَى(4/311)
وَحَدِيثُ مُعَاذٍ فِي الْأَوْقَاصِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ (مَا سَقَتْهُ الْأَنْهَارُ) مَوْصُولَةٌ (وَسَقَتِ السَّمَاءُ) أَيْ مَاءُ الْمَطَرِ (وَمَا سُقِيَ بِالْغَرْبِ نِصْفُ الْعُشْرِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْغَرْبُ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ يُرِيدُ ما سقي بالسواني وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّا سُقِيَ بِالدَّوَالِيبِ لِأَنَّ مَا عَمَّتْ مَنْفَعَتُهُ وَخَفَّتْ مُؤْنَتُهُ كَانَ أَحْمَلَ لِلْمُوَاسَاةِ فَوَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ تَوْسِعَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ وَجَعَلَ فِيمَا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهُ نِصْفَ الْعُشْرِ رِفْقًا بأهل الأموال
انتهى قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ طَرَفًا مِنْهُ
(قَالَ مَرَّةً) أَيْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ سَنَةٍ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله قال بن حزم حديث علي هذا رواه بن وَهْب عَنْ جَرِير بْن حَازِم عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَاصِم بْن ضَمْرَة وَالْحَارِث الْأَعْوَر قرن فيه أبو إسحاق بين عاصم والحرث وَالْحَارِث كَذَّاب وَكَثِير مِنْ الشُّيُوخ يَجُوز عَلَيْهِ مِثْل هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْحَارِث أَسْنَدَهُ وَعَاصِم لَمْ يُسْنِدهُ فَجَمَعَهُمَا جَرِير وَأَدْخَلَ حَدِيث أَحَدهمَا فِي الْآخَر وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَة وَسُفْيَان وَمَعْمَر عن أبي إسحاق عن عاصم من عَلِيّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ كُلّ ثِقَة رَوَاهُ عَنْ عَاصِم إِنَّمَا وَقَفَهُ عَلَى عَلِيّ فَلَوْ أَنَّ جَرِيرًا أَسْنَدَهُ عَنْ عَاصِم وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَخَذْنَا بِهِ
هَذِهِ حِكَايَة عَبْد الْحَقّ الْإِشْبِيلِيّ عن بن حَزْم وَقَدْ رَجَعَ عَنْ هَذَا فِي كِتَابه الْمُحَلَّى فَقَالَ فِي آخِر الْمَسْأَلَة ثُمَّ اِسْتَدْرَكْنَا فَرَأَيْنَا أَنَّ حَدِيث جَرِير بْن حَازِم مُسْنَد صَحِيح لَا يَجُوز خِلَافه وَأَنَّ الِاعْتِلَال فِيهِ بِأَنَّ أَبَا إِسْحَاق أَوْ جَرِيرًا خَلَطَ إِسْنَاد الْحَدِيث بِإِرْسَالِ عَاصِم هُوَ الظَّنّ الْبَاطِل الَّذِي لَا يَجُوز وَمَا عَلَيْنَا فِي مُشَارَكَة الْحَارِث لِعَاصِمٍ وَلَا لِإِرْسَالِ مَنْ أَرْسَلَهُ وَلَا لِشَكِّ زُهَيْر فِيهِ وَجَرِير ثِقَة
فَالْأَخْذ بِمَا أُسْنِدَ لَازِم تَمَّ كَلَامه
وَقَالَ غَيْره هَذَا التَّعْلِيل لَا يَقْدَح فِي الْحَدِيث فَإِنَّ جَرِيرًا ثِقَة وَقَدْ أَسْنَدَهُ عَنْهُمَا وَقَدْ أَسْنَدَهُ أَيْضًا أَبُو عَوَانَة عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ عَاصِم بْن ضَمْرَة عَنْ عَلِيّ وَلَمْ يَذْكُر الْحَوْل ذَكَرَ حَدِيثه التِّرْمِذِيّ وَأَبُو عَوَانَة ثِقَة وَقَدْ رَوَى حَدِيث لَيْسَ فِي مَال زَكَاة حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل مِنْ حَدِيث عَائِشَة بِإِسْنَادٍ صَحِيح
قَالَ مُحَمَّد بْن عُبَيْد اللَّه بْن المنادي حَدَّثْنَا أَبُو زَيْد شُجَاع بْن الْوَلِيد حَدَّثَنَا حَارِثَة بْن مُحَمَّد عَنْ عَمْرَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل رَوَاهُ أَبُو الْحُسَيْن بْن بشران عن عثمان بن السماك عن بن المنادي(4/312)
[1573] (وسمى آخر) أي سمى بن وَهْبٍ مَعَ جَرِيرٍ رَجُلًا آخَرَ (فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ) أَيْ رُبُعُ عُشْرِهَا (إِلَّا أَنَّ جَرِيرًا قال بن وَهْبٍ يَزِيدُ) لَفْظُ جَرِيرٍ اسْمُ إِنَّ وَجُمْلَةُ يزيد خبر إن وقال بن وَهْبٍ هُوَ مُدْرَجٌ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهِ (حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَالَ النَّامِيَ كَالْمَوَاشِي وَالنُّقُودِ لِأَنَّ نَمَاهَا لَا يَظْهَرُ إِلَّا بِمُدَّةِ الْحَوْلِ عَلَيْهَا
فَأَمَّا الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ فَإِنَّهُ لَا يُرَاعَى فِيهَا الْحَوْلَ وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِهَا وَاسْتِحْصَادِهَا فَيُخْرِجُ الْحَقَّ مِنْهُ
وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْفَوَائِدِ وَالْأَرْبَاحِ يُسْتَأْنَفُ بِهَا الْحَوْلُ وَلَا يُبْنَى عَلَى حَوْلِ الْأَصْلِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّصَابَ إِذَا نَقَصَ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ وَلَمْ يُوجَدْ كَامِلًا مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إِلَى آخِرِهِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّصَابَ إِذَا وُجِدَ كَامِلًا فِي طَرَفَيِ الْحَوْلِ وَإِنْ نَقَصَ فِي خِلَالِهِ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الزَّكَاةُ وَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي الْعُرُوضِ الَّتِي هِيَ لِلتِّجَارَةِ أَنَّ الِاعْتِبَارِ إِنَّمَا هُوَ لِنَظَرٍ فِي الْحَوْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ أَمْرِهَا فِي خِلَالِ السَّنَةِ
انْتَهَى
قَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ إِلَّا قَوْلَهُ فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ
قَالَ فَلَا أَدْرِي أَعَلَيَّ يَقُولُ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ أَوْ يَرْفَعُهُ إِلَى النبي وَإِلَّا قَوْلَهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَأَفَادَ كَلَامُ أَبِي دَاوُدَ أَنَّ فِي رَفْعِهِ بِجُمْلَتِهِ اخْتِلَافًا
وَنَبَّهَ الْحَافِظُ بن حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ وَبَيَّنَ عِلَّتَهُ وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْجُمْلَةَ الْآخِرَةَ مِنْ حديث بن عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ لَا زَكَاةَ فِي مَالِ امْرِئٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا لَيْسَ فِي الْمَالِ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ
وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى انتهى(4/313)
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِقَوْلِهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمَهْرِيُّ حَدَّثَنَا بن وَهْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَسَمَّى آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ والحارث عن علي ونبه بن الْمَوَّاقِ عَلَى عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ فِيهِ وَهِيَ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ وَالْحَارِثَ بْنَ نَبْهَانَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عِمَارَةٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَذَكَرَهُ قال بن الْمَوَّاقِ وَالْحَمْلُ فِيهِ عَلَى سُلَيْمَانَ شَيْخِ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ وَهِمَ فِي إِسْقَاطِ رَجُلٍ انْتَهَى
وَقَوْلُهُ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ أَسْنَدَهُ زَيْدُ بْنُ حِبَّانَ الرَّقِّيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَهُوَ إِجْمَاعٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي قَدْرِ الدِّرْهَمِ فَإِنَّ فِيهِ خِلَافًا كَثِيرًا
وَفِي شَرْحِ الدَّمِيرِيِّ أَنَّ كُلَّ دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ وَكُلَّ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ وَالْمِثْقَالُ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ
قَالَ وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ مِنَ الْقُرُوشِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى رَأْيِ بَعْضٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قِرْشًا وَعَلَىِ رَأْي الشَّافِعِيَّةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَعَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ عِشْرُونَ وَتَزِيدُ قَلِيلًا وَإِنَّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِنْدَ بَعْضٍ خَمْسَ عَشَرَ أَحْمَرَ وَعِشْرِينَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ
ثُمَّ قَالَ وَهَذَا تَقْرِيبٌ
قَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ إِنَّ قَدْرَ زَكَاةِ الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ رُبُعُ الْعُشْرِ هُوَ إِجْمَاعٌ
وَقَوْلُهُ فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ فِي رَفْعِهِ خِلَافًا وَعَلَى ثُبُوتِهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الزَّائِدِ وَقَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنِ بن عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَفِيهِ أَيِ الزَّائِدِ رُبُعُ الْعُشْرِ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَأَنَّهُ لَا وَقَصَ فِيهِمَا وَلَعَلَّهُمْ يَحْمِلُونَ حَدِيثَ جَابِرٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ مسلم بلفظ وليس فيما دون خمس أواقي صَدَقَةٌ عَلَى مَا إِذَا انْفَرَدَتْ عَنْ نِصَابٍ مِنْهُمَا لَا إِذَا كَانَتْ مُضَافَةً إِلَى نِصَابٍ مِنْهُمَا
وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَمَّا الْحُبُوبُ فَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إِنَّهُمْ أَجْمَعُوا فِيمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَنَّهَا تَجِبُ زَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ وَأَنَّهُ لَا أَوْقَاصَ فِيهَا انْتَهَى وَحَمَلُوا حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ من تمر ولا حب صدقة على مالم يَنْضَمَّ إِلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَهَذَا يُقَوِّي مَذْهَبَ علي وبن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي قَدَّمْنَا فِي النَّقْدَيْنِ
وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا وَفِيهِ حُكْمُ نِصَابِ الذَّهَبِ وَقَدْرُ زَكَاتِهِ وَأَنَّهُ عِشْرُونَ دِينَارًا وَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ وَهُوَ أَيْضًا رُبُعُ عُشْرِهَا وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ مَضْرُوبَيْنِ أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَفِيهِ لَا يَحِلُّ فِي الْوَرِقِ زَكَاةٌ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ أَوَاقٍ
وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ
وَأَمَّا الذَّهَبُ فَفِيهِ هَذَا الحديث
ونقل الحافظ بن حَجَرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ(4/314)
أَنَّهُ قَالَ فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فِي الْوَرِقِ صَدَقَةً فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ فِي الذَّهَبِ صَدَقَةً إِمَّا بِخَبَرٍ لَمْ يَبْلُغْنَا وإما قياسا
وقال بن عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذَّهَبِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْآحَادِ الثِّقَاتِ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
قَالَ صَاحِبُ السُّبُلِ قُلْتُ لَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله الْآيَةَ مُنَبِّهٌ عَلَى أَنَّ فِي الذَّهَبِ حَقًّا لله
وأخرج البخاري وأبو داود وبن المنذر وبن أبي حاتم وبن مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ما مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُمَا إِلَّا جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ وَأُحْمِيَ عَلَيْهَا الْحَدِيثَ
فَحَقُّهَا هُوَ زَكَاتُهَا
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا سَرَدَهَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ
وَلَا بُدَّ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ أَنْ يَكُونَا خَالِصَيْنِ مِنَ الْغِشِّ
وَفِي شَرْحِ الدَّمِيرِيِّ عَلَى الْمِنْهَاجِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْغِشُّ يُمَاثِلُ أُجْرَةَ الضَّرْبِ وَالتَّخْلِيصِ فَيُتَسَامَحُ بِهِ وَبِهِ عَمِلَ النَّاسُ عَلَى الْإِخْرَاجِ انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ السُّبُلِ
[1574] (قَدْ عَفَوْتُ عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ) أَيْ تَرَكْتُ لَكُمْ أَخْذَ زَكَاتِهَا وَتَجَاوَزْتُ عَنْهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا أَسْقَطَ الزَّكَاةَ عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ إِذَا كَانَتْ لِلرُّكُوبِ وَالْخِدْمَةِ فَأَمَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهَا
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِي الْخَيْلِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا صَدَقَةَ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيهَا صَدَقَةٌ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْخَيْلِ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ الَّتِي يَطْلُبُ مِنْهَا نَسْلُهَا فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ فَإِنْ شِئْتَ قَوَّمْتَهَا دَرَاهِمَ فَجَعَلْتَ فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا
قُلْتُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ تَطَوَّعُوا بِهِ لَمْ يُلْزِمْهُمْ عُمَرُ إِيَّاهُ
رَوَى مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ عَرَضُوهُ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَأَبَى ثُمَّ كَلَّمُوهُ فَأَبَى ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنْ أَحَبُّوا فَخُذْهَا مِنْهُمْ وَارْدُدْهُمْ عَلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ رَقِيقَهُمُ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَفِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ وَتَمَسَّكَ أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ عَامِلَهُ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْخَيْلِ
وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ أَفْعَالَ الصَّحَابَةِ وَأَقْوَالَهُمْ لَا حُجَّةَ فِيهَا لَا سِيَّمَا بَعْدَ إِقْرَارِ عُمَرَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ لَمْ يَأْخُذَا الصَّدَقَةَ مِنَ الْخَيْلِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ عُمَرَ وَجَاءَهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَقَالُوا إِنَّا قَدْ أَصَبْنَا أَمْوَالًا خَيْلًا وَرَقِيقًا نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهَا زَكَاةٌ وَطَهُورٌ
قَالَ مَا فعله(4/315)
صَاحِبَايَ قَبْلِي فَأَفْعَلُهُ وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ الْحَدِيثَ
وَقَدِ احْتَجَّ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْبَابِ الظَّاهِرِيَّةُ فَقَالُوا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ لَا لِتِجَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا وَأُجِيبَ عَنْهُمْ بِأَنَّ زَكَاةَ التجارة ثابتة بالإجماع كما نقله بن الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ فَيَخُصُّ بِهِ عُمُومَ هَذَا الْحَدِيثِ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْفِضَّةِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ذَلِكَ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ زَكَاتَهَا رُبُعُ الْعُشْرِ وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي زَكَاةِ الْفِضَّةِ وَهُوَ إِجْمَاعٌ أَيْضًا وَعَلَى أَنَّهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ (فَهَاتُوا) أَيْ آتُوا (صَدَقَةَ الرِّقَةِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ هِيَ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ أَصْلُهَا الْوَرِقُ حُذِفَتِ الْوَاوُ وَعَوَّضَ مِنْهَا الْهَاءُ كَعِدَةٍ وزنة وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ (كَمَا قَالَ أَبُو عَوَانَةَ) أَيْ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَرَوَاهُ شَيْبَانُ وَإِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ وَأَمَّا زُهَيْرٌ فَجَمَعَ بَيْنَ عَاصِمٍ وَالْحَارِثِ (رَوَى حَدِيثَ النُّفَيْلِيِّ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ وَحَدِيثُهُ قَبْلَ هَذَا بِحَدِيثَيْنِ (شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ وغيرهما رووه عن أبي إسحاق لكنه لَمْ يَرْفَعُوهُ بَلْ جَعَلُوهُ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَأَمَّا زُهَيْرٌ وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ رَفَعُوهُ إِلَى النبي
[1575] (عَنْ بَهْزٍ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْهَاءِ وبالزاي (بن حَكِيمٍ) بْنِ مُعَاوِيَةَ وَبَهْزٌ تَابِعِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ هُوَ شَيْخٌ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه إِنَّمَا أَسْقَطَ الصَّدَقَة مِنْ الْخَيْل وَالرَّقِيق إِذَا كَانَتْ لِلرُّكُوبِ وَالْخِدْمَة فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا لِلتِّجَارَةِ فَفِيهِ الزَّكَاة فِي قِيمَتهَا(4/316)
مَا تَرَكَهُ عَالِمٌ قَطُّ (عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ) هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حَيْدَةَ صَحَابِيٌّ (فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ) تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ بِنْتَ اللَّبُونِ تَجِبُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ هُنَا مُطْرَحٌ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا لِأَنَّهُ عَارَضَهُ الْمَنْطُوقُ الصَّرِيحُ وَهُوَ حَدِيثُ أَنَسٍ (لَا يُفَرِّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا) مَعْنَاهُ أن الملك لَا يُفَرِّقُ مِلْكَهُ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ حَيْثُ كَانَا خَلِيطَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوِ الْمَعْنَى تَحَاسَبَ الْكُلُّ فِي الْأَرْبَعِينَ وَلَا يُتْرَكُ هُزَالٌ وَلَا سَمِينٌ وَلَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ نَعَمُ الْعَامِلُ لَا يَأْخُذُ إِلَّا الْوَسَطَ (مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا) أَيْ قَاصِدًا لِلْأَجْرِ بِإِعْطَائِهَا (وَشَطْرَ مَالِهِ) اخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ لَفْظِ شَطْرٍ وَإِعْرَابِهِ فَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ هُوَ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي آخِذُوهَا وَالْمُرَادُ مِنَ الشَّطْرِ الْبَعْضُ وَظَاهِرُهُ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ بِأَخْذِ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ عَلَى مَنْعِهِ إِخْرَاجَ الزَّكَاةِ
وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ شُطِّرَ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ وَمَعْنَاهُ جُعِلَ مَالُهُ شَطْرَيْنِ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ الصَّدَقَةَ مِنْ أَيِّ الشَّطْرَيْنِ أراد
قال الإمام بن الْأَثِيرِ قَالَ الْحَرْبِيُّ غَلِطَ الرَّاوِي فِي لَفْظِ الرِّوَايَةِ إِنَّمَا هُوَ وَشُطِّرَ مَالُهُ أَيْ يُجْعَلُ مَالُهُ شَطْرَيْنِ وَيَتَخَيَّرُ عَلَيْهِ الْمُصَدِّقُ فَيَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ غَيْرِ النِّصْفَيْنِ عُقُوبَةً لِمَنْعِهِ الزَّكَاةَ فَأَمَّا لَا تَلْزَمُهُ فَلَا
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي قَوْلِ الْحَرْبِيِّ لَا أَعْرِفُ هَذَا الْوَجْهَ وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَقَعُ بَعْضُ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَمْوَالِ ثُمَّ نُسِخَ وَلَهُ فِي الْحَدِيثِ نَظَائِرُ وَقَدْ أَخَذَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَعَمِلَ بِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ مَنْ مَنَعَ زَكَاةَ مَالِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ وَأُخِذَ شَطْرُ مَالِهِ عُقُوبَةً عَلَى مَنْعِهِ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ
وَقَالَ فِيِ الْجَدِيدِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلَّا الزَّكَاةُ لَا غَيْرُ وَجَعَلَ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخًا وَقَالَ كَانَ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ فِي الْمَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ
وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنْ لَا وَاجِبَ عَلَى مُتْلِفِ الشَّيْءِ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ حَدِيثُ بَهْزٍ هَذَا مَنْسُوخٌ وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ الَّذِي ادَّعَوْهُ مِنْ كَوْنِ الْعُقُوبَةِ كَانَتْ بِالْأَمْوَالِ فِي الْأَمْوَالِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَلَا مَعْرُوفٍ وَدَعْوَى النَّسْخِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ مَعَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مَا أَجَابَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي سِيَاقِ هَذَا الْمَتْنِ لَفْظُهُ وَهِمَ فِيهَا الرَّاوِي وَإِنَّمَا هُوَ فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْ شَطْرِ مَالِهِ أَيْ نَجْعَلُ مَالَهُ شَطْرَيْنِ فَيَتَخَيَّرُ عَلَيْهِ الْمُصَدِّقُ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَةَ مِنْ خَيْرِ الشَّطْرَيْنِ عُقُوبَةً لِمَنْعِ الزَّكَاةِ فأما ما لا تلزمه فلا
نقله بن الْجَوْزِيِّ فِي جَامِعِ الْمَسَانِيدِ عَنِ الْحَرْبِيِّ وَاللَّهُ أعلم(4/317)
(عَزْمَةٌ) قَالَ فِي الْبَدْرِ الْمُنِيرِ عَزْمَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ عَزْمَةٌ وَضَبَطَهُ صَاحِبُ إِرْشَادِ الْفِقْهِ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ جَائِزٌ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ
وَمَعْنَى الْعَزْمَةِ فِي اللُّغَةِ الْجَدُّ فِي الْأَمْرِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ مَفْرُوضٌ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْعَزَائِمُ الْفَرَائِضُ كَمَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ كَذَا فِي النَّيْلِ
وَقَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ يَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَنَصَبَهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ مِثْلُ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ اعْتِرَافًا وَالنَّاصِبُ لَهُ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةً فَإِنَّا آخِذُوهَا
وَالْعَزْمَةُ الْجِدُّ وَالْحَقُّ فِي الْأَمْرِ يَعْنِي آخُذُ ذَلِكَ بِجِدٍّ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مَفْرُوضٌ (مِنْ عَزْمَاتِ رَبِّنَا) أَيْ حُقُوقِهِ وَوَاجِبَاتِهِ
وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ الْإِمَامُ الزَّكَاةَ قَهْرًا مِمَّنْ مَنَعَهَا انْتَهَى مَا في السبل
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَوْله فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْر مَاله أَكْثَر الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الْغُلُول فِي الصَّدَقَة وَالْغَنِيمَة لَا يُوجِب غَرَامَة فِي الْمَال وَقَالُوا كَانَ هَذَا فِي أَوَّل الْإِسْلَام ثُمَّ نُسِخَ
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيّ عَلَى نَسْخه بِحَدِيثِ الْبَرَاء بْن عَازِب فِيمَا أَفْسَدَتْ نَاقَته فَلَمْ يُنْقَل عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَضْعَف الْغُرْم بَلْ نُقِلَ فِيهَا حُكْمه بِالضَّمَانِ فَقَطْ
وَقَالَ بَعْضهمْ يُشْبِه أَنْ يَكُون هَذَا عَلَى سَبِيل التَّوَعُّد لِيَنْتَهِيَ فَاعِل ذَلِكَ
وَقَالَ بَعْضهمْ إِنَّ الْحَقّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ غَيْر مَتْرُوك عَلَيْهِ وَإِنْ تَلِفَ شَطْر مَاله كَرَجُلٍ كَانَ لَهُ أَلْف شَاة فَتَلِفَتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا عِشْرُونَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذ مِنْهُ عَشْر شِيَاه لِصَدَقَةِ الْأَلْف وَهُوَ شَطْر مَاله الْبَاقِي أَوْ نِصْفه وَهُوَ بَعِيد لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِنَّا آخِذُوا شَطْر مَاله
وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ إِنَّمَا هُوَ وَشَطْر مَاله أَيْ جَعَلَ مَاله شَطْرَيْنِ وَيَتَخَيَّر عَلَيْهِ الْمُصَدِّق فَيَأْخُذ الصَّدَقَة مِنْ خَيْر النِّصْفَيْنِ عُقُوبَة لِمَنْعِهِ الزَّكَاة
فَأَمَّا مَا لَا يَلْزَمهُ فَلَا
قَالَ الْخَطَّابِيّ وَلَا أَعْرِف هَذَا الْوَجْه
هَذَا آخِر كَلَامه
وَقَالَ بِظَاهِرِ الْحَدِيث الْأَوْزَاعِيُّ وَالْإِمَام أَحْمَد وَإِسْحَاق بْنُ رَاهْوَيْهِ عَلَى مَا فُصِّلَ عَنْهُمْ وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم مَنْ مَنَعَ زَكَاة مَاله أُخِذَتْ مِنْهُ وَأُخِذَ شَطْر مَاله عُقُوبَة عَلَى مَنَعَهُ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيث وَقَالَ فِي الْجَدِيد لَا يُؤْخَذ مِنْهُ إِلَّا الزَّكَاة لَا غَيْر
وَجَعَلَ هَذَا الْحَدِيث مَنْسُوخًا وَقَالَ كَانَ ذَلِكَ حِين كَانَتْ الْعُقُوبَات فِي الْمَال ثُمَّ نُسِخَتْ
هَذَا آخِر كَلَامه
وَمَنْ قَالَ إِنَّ بَهْز بْن حَكِيم ثِقَة اِحْتَاجَ إِلَى الِاعْتِذَار عَنْ هَذَا الْحَدِيث بِمَا تَقَدَّمَ
فَأَمَّا مَنْ قَالَ لَا يَحْتَجّ بِحَدِيثِهِ فَلَا يَحْتَاج إِلَى شَيْء مِنْ ذَلِكَ
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيّ فِي بهز لَيْسَ بِحَجَّةٍ فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْهُ بَعْد اِعْتِذَاره عَنْ الْحَدِيث أَوْ أَجَابَ عَنْهُ عَلَى تَقْدِير الصِّحَّة
وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فِي بهز بْن حَكِيم هُوَ شَيْخ يُكْتَب حَدِيثه وَلَا يحتج به
وقال البستي كان يخطىء كَثِيرًا فَأَمَّا الْإِمَام أَحْمَد وَإِسْحَاق فَهُمَا يَحْتَجَّانِ بِهِ وَيَرْوِيَانِ عَنْهُ وَتَرَكَهُ جَمَاعَة مِنْ أَئِمَّتنَا وَلَوْلَا حَدِيثه إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْر إِبِله عَزْمَة مِنْ عَزَمَات رَبّنَا لَأَدْخَلْنَاهُ فِي الثِّقَات وَهُوَ مِمَّنْ اُسْتُخِيرَ اللَّه فِيهِ
فَجَعَلَ رِوَايَته لِهَذَا الحديث مانعة(4/318)
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْقَوْلِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْغُلُولَ الصدقة وَالْغَنِيمَةَ لَا يُوجِبُ غَرَامَةً فِي الْمَالِ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ فِي الْغَنِيمَةِ إِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُحَرِّقَ رَحْلَهُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَحْمِلُ التَّمْرَةَ فِي أَكْمَامِهَا فِيهِ الْقِيمَةُ مَرَّتَيْنِ وَضَرْبُ النَّكَالِ
وَقَالَ كُلُّ مَنْ دَرَأْنَا عَنْهُ الْحَدَّ أَضْعَفْنَا عَلَيْهِ الْعَزْمَ
وَاحْتَجَّ فِي هَذَا بَعْضُهُمْ بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ الْمَكْتُومَةِ غَرَامَتُهَا وَمِثْلُهَا وَالنَّكَالُ وَفِي الْحَدِيثِ تَأْوِيلٌ آخَرُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَقَّ يُسْتَوْفَى مِنْهُ غَيْرَ مَتْرُوكٍ عَلَيْهِ وَإِنْ تَلِفَ مَالُهُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا شَطْرٌ كَرَجُلٍ كَانَ لَهُ أَلْفُ شَاةٍ فَتَلِفَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا عِشْرُونَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ عَشْرُ شِيَاهٍ لِصَدَقَةِ الْأَلْفِ وَهُوَ شَطْرُ مَالِهِ الْبَاقِي أَيْ نِصْفُهُ وَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَفِي قَوْلِهِ وَمَنْ مَنَعَنَا فَإِنَّا آخِذُوهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ فَرَّطَ فِي إِخْرَاجِ الصَّدَقَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا فَمَنَعَ بَعْدَ الْإِمْكَانِ وَلَمْ يَرُدَّهَا حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ أَنَّ عَلَيْهِ الْغَرَامَةَ انْتَهَى
[1576] (مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً) فِيهِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
مِنْ إِدْخَاله فِي الثِّقَات تَمَّ كَلَامه
وَقَدْ قَالَ عَلَيَّ بْن الْمَدِينِيّ حَدِيث بَهْز بْن حَكِيم عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه صَحِيح
وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد بَهْز بْن حَكِيم عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه صَحِيح وَلَيْسَ لِمَنْ رَدَّ هَذَا الْحَدَث حَجَّة وَدَعْوَى نَسْخه دَعْوَى بَاطِلَة إِذْ هِيَ دَعْوَى مَا لَا دَلِيل عَلَيْهِ وَفِي ثُبُوت شَرْعِيَّة الْعُقُوبَات الْمَالِيَّة عِدَّة أَحَادِيث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَثْبُت نَسْخهَا بِحَجَّةٍ وَعَمِلَ بِهَا الْخُلَفَاء بَعْده وَأَمَّا مُعَارَضَته بِحَدِيثِ الْبَرَاء فِي قِصَّة نَاقَته فَفِي غَايَة الضَّعْف فَإِنَّ الْعُقُوبَة إِنَّمَا تَسُوغ إِذَا كَانَ الْمُعَاقَب مُتَعَدِّيًا بِمَنْعِ وَاجِب أَوْ اِرْتِكَاب مَحْظُور وَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ مِنْ غَيْر جِنَايَته وَقَصْده فَلَا يَسُوغ أَحَد عُقُوبَته عَلَيْهِ وَقَوْل مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الْوَعِيد دُون الْحَقِيقَة فِي غَايَة الْفَسَاد يُنَزَّه عَنْ مِثْله كَلَام النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْل مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَخْذ الشَّطْر الْبَاقِي بَعْد التَّلَف بَاطِل لِشِدَّةِ مُنَافَرَته وَبُعْده عَنْ مَفْهُوم الْكَلَام وَلِقَوْلِهِ فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْر مَاله
وَقَوْل الْحَرْبِيّ إِنَّهُ وَشُطْر بِوَزْنِ شُغْل فِي غَايَة الْفَسَاد وَلَا يَعْرِفهُ أَحَد مِنْ أَهْل الْحَدِيث بل هو من التصحيف وقول بن حِبَّانَ لَوْلَا حَدِيثه هَذَا لَأَدْخَلْنَاهُ فِي الثِّقَات كَلَام سَاقِط جِدًّا فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِضَعْفِهِ سَبَب إِلَّا رِوَايَته هَذَا الْحَدِيث وَهَذَا الْحَدِيث إِنَّمَا رُدَّ لِضَعْفِهِ كَانَ هَذَا دَوْرًا بَاطِلًا وَلَيْسَ فِي رِوَايَته لِهَذَا مَا يُوجِب ضَعْفه فَإِنَّهُ لَمْ يُخَالِف فِيهِ الثِّقَات
وَهَذَا نَظِير رَدّ مَنْ رَدَّ حَدِيث عَبْد الْمَلِك بْن أَبِي سُلَيْمَان بِحَدِيثِ جَابِر فِي شُفْعَة الْجِوَار وَضَعَّفَهُ بِكَوْنِهِ رَوَى هَذَا الْحَدِيث
وَهَذَا غَيْر مُوجِب لِلضَّعْفِ بِحَالٍ
وَاَللَّه أَعْلَم(4/319)
بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ
وَالتَّبِيعُ ذُو الْحَوْلِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى (مُسِنَّةٌ) وَهِيَ ذَاتُ الْحَوْلَيْنِ (وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ) أَرَادَ بِالْحَالِمِ مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ وَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّجَالِ سَوَاءٌ احْتَلَمَ أَمْ لَا كَمَا فَسَّرَهُ الرَّاوِي (دِينَارًا) وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ (أَوْ عَدْلُهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ عَدْلُهُ أَيْ مَا يُعَادِلُ قِيمَتَهُ مِنَ الثِّيَابِ
قَالَ الْفَرَّاءُ هَذَا عِدْلُ الشَّيْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ مِثْلُهُ فِي الصُّورَةِ وَهَذَا عَدْلُهُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ فِي الْقِيمَةِ انْتَهَى
وَفِي النِّهَايَةِ العدل الكسر وَالْفَتْحِ وَهُمَا بِمَعْنَى الْمِثْلِ (الْمَعَافِرُ) وَهَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مَعَافِرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ مَسَاجِدَ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْكِتَابِ الْمَعَافِرِيُّ وَهِيَ بُرُودٌ بِالْيَمَنِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى مَعَافِرَ وَهِيَ قَبِيلَةٌ فِي الْيَمَنِ إِلَيْهِمْ تُنْسَبُ الثِّيَابُ الْمَعَافِرِيَّةُ يُقَالُ ثَوْبٌ مَعَافِرِيٌّ
وَفِي سُبُلِ السَّلَامِ وَالْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْبَقَرِ وَأَنَّ نِصَابَهَا ما ذكر قال بن عَبْدِ الْبَرِّ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ السُّنَّةَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَأَنَّهُ النِّصَابُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِينَ شَيْءٌ وَفِيهِ خِلَافٌ لِلزُّهْرِيِّ فَقَالَ يَجِبُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ قِيَاسًا عَلَى الْإِبِلِ
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ النِّصَابَ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ وَبِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ لَيْسَ فِيمَا دُونَ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ شَيْءٌ وَهُوَ إِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْإِسْنَادِ فَمَفْهُومُ حَدِيثِ مُعَاذٍ يُؤَيِّدُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ مُرْسَلًا
وَقَالَ هَذَا أَصَحُّ
[1577] (قَالَ يَعْلَى وَمَعْمَرٌ عَنْ مُعَاذٍ مِثْلَهُ) مُرَادُ الْمُؤَلِّفِ أَنَّ جَرِيرًا وَشُعْبَةَ وَأَبَا عَوَانَةَ وَيَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ كُلُّهُمْ يَرْوُونَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أبي وائل عن مسروق عن النبي مُرْسَلًا وَيَعْلَى وَمَعْمَرٌ رَوَيَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ مُتَّصِلًا بِذِكْرِ مُعَاذٍ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالرِّوَايَةُ الْمُرْسَلَةُ أَصَحُّ انْتَهَى
وَفِي بُلُوغِ الْمَرَامِ وَالْحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وأشار إلى اختلاف في وصله وصححه بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ انْتَهَى
وَإِنَّمَا رَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ الرِّوَايَةَ الْمُرْسَلَةَ لِأَنَّهَا اعْتَرَضَتْ رِوَايَةَ الِاتِّصَالِ بِأَنَّ مَسْرُوقًا لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَسْرُوقًا هَمَدَانِيُّ النَّسَبِ وَيَمَانِيُّ الدَّارِ وَقَدْ كَانَ فِي أَيَّامِ مُعَاذٍ بِالْيَمَنِ فَاللِّقَاءُ مُمْكِنٌ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مَحْكُومٌ بِاتِّصَالِهِ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ وَكَأَنَّ رَأْيُ التِّرْمِذِيِّ رَأْيَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ اللِّقَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(4/320)
[1579] (مَنْ سَارَ مَعَ مُصَدِّقٍ) فِي الْقَامُوسِ الْمُصَدِّقُ كَمُحَدِّثٍ أَخَذَ الصَّدَقَةَ وَالْمُتَصَدِّقُ مُعْطِيهَا (فِي عَهْدِ رسول الله) يَعْنِي كِتَابَهُ (أَنْ لَا تَأْخُذَ) بِصِيغَةِ الْخِطَابِ (مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ) فِي النِّهَايَةِ أَرَادَ بِالرَّاضِعِ ذَاتَ الدَّرِّ وَاللَّبَنِ وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ذَاتُ رَاضِعٍ فَأَمَّا مِنْ غَيْرِ حَذْفٍ فَالرَّاضِعُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَرْضَعُ
وَنَهْيُهُ عَنْ أَخْذِهَا لِأَنَّهُ خِيَارُ الْمَالِ وَمِنْ زَائِدَةٌ
وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الرَّجُلِ الشَّاةُ الْوَاحِدَةُ وَاللِّقْحَةُ قَدِ اتَّخَذَهَا لِلدَّرِّ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ وقال العلامة السندي أي لا نأخذ صَغِيرًا يَرْضَعُ اللَّبَنَ أَوِ الْمُرَادُ ذَاتُ لَبَنٍ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ ذَاتُ رَاضِعِ لَبَنٍ
وَالنَّهْيُ عَنِ الثَّانِي لِأَنَّهَا مِنْ خِيَارِ الْمَالِ
وَعَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ فِي الْأَوْسَاطِ وَفِي الصِّغَارِ إِخْلَالٌ بِحَقِّهِمْ
وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ مَا أُعِدَّتْ لِلدَّرِّ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ انْتَهَى (يَأْتِي الْمِيَاهَ) جَمْعَ مَاءٍ (تَرِدُ) لِلسَّقْيِ (فَعَمَدَ) قَصَدَ (كَوْمَاءَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْوَاوِ أَيْ مُشْرِفَةَ السَّنَامِ عَالِيَتَهُ (فَأَبَى) الْمُصَدِّقُ (قَالَ) الرَّجُلُ الْمُتَصَدِّقُ (فَخَطَمَ لَهُ أُخْرَى) أَيْ قَادَهَا إِلَيْهِ بِخِطَامِهَا
وَالْإِبِلُ إِذَا أُرْسِلَتْ فِي مَسَارِحِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا تَخَطُّمٌ وَإِنَّمَا خَطَمَ إِذَا أَرَادَ أَوْدَهَا (دُونَهَا أَيْ أَدْنَى قِيمَةٍ مِنَ الْأُولَى أَنْ يَجِدَ) أَيْ يَغْضَبَ (عَمَدَتْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ قال المنذري(4/321)
وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ هِلَالُ بْنُ خَبَّابٍ وَقَدْ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمُ انْتَهَى (إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لَا يُفَرَّقُ) أَيْ بِصِيغَةِ النَّائِبِ الْمَجْهُولِ وَأَمَّا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَبِصِيغَةِ الْحَاضِرِ الْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1580] (فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ) أَيْ أَخَذْتُ السَّنَدَ فِيهِ ذِكْرُ أَخْذِ الصَّدَقَةِ (وَقَرَأْتُ فِي عَهْدِهِ) أَنَّ فِي سَنَدِهِ وَكِتَابِهِ (قَالَ أبو داود) من ها هنا إِلَى قَوْلِهِ حُكْمُ مَا وَجَدَ إِلَّا فِي نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ (بَيْنَ) رِوَايَةِ (لَا تَجْمَعْ) بِصِيغَةِ الْحَاضِرِ وَالْخِطَابُ لِلْمُصَدِّقِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي عوانة عن هلال بن خباب بَيْنَ رِوَايَةِ (لَا يُجْمَعُ) أَيْ بِصِيغَةِ الْغَائِبِ الْمَجْهُولِ كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي لَيْلَى الْكِنْدِيِّ (حُكْمٌ) مُغَايِرٌ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ خَاصٌّ بِالنَّهْيِ لِلْمُصَدِّقِ وَلَا يَدْخُلُ الْمُتَصَدِّقُ تَحْتَ هَذَا النَّهْيِ وَالثَّانِي هُوَ عَامٌّ بِالنَّهْيِ لِلْمُصَدِّقِ وَالْمُتَصَدِّقِ فَإِنَّ الْمُصَدِّقَ يَطْلُبُ مَنْفَعَتَهُ وَالْمُتَصَدِّقَ يُرِيدُ فَائِدَةَ نَفْسِهِ فَأَمَرَ لَهُمَا أَنْ لَا يَجْمَعُوا بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1581] (مُسْلِمُ بْنُ ثَفَنَةَ) قَالَ الذَّهَبِيُّ وبن حَجَرٍ كِلَاهُمَا فِي الْمُشْتَبِهِ بِمُثَلَّثَةٍ وَفَاءٍ وَنُونٍ مَفْتُوحَاتٍ وَالْأَصَحُّ مُسْلِمُ بْنُ شُعْبَةَ
وَقَالَ الْمِزِّيُّ في التهذيب مسلم بن ثفنة ويقال بن شُعْبَةَ الْبَكْرِيُّ وَيُقَالُ الْيَشْكُرِيُّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حنبل أخطأ وكيع في قوله بن ثفنة والصواب بن شُعْبَةَ وَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَقَالَ النَّسَائِيُّ لَا أعلم أحدا تابع وكيعا على قوله بن ثَفَنَةَ
قَالَ السُّيُوطِيُّ (رَوْحٌ) مُبْتَدَأٌ (يَقُولُ مُسْلِمٌ) خَبَرُهُ (اسْتَعْمَلَ نَافِعُ بْنُ عَلْقَمَةَ) هُوَ فَاعِلُ اسْتَعْمَلَ (أَبِي) مَفْعُولُ اسْتَعْمَلَ (عِرَافَةُ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ هُوَ الْقَيِّمُ بِأُمُورِ الْقَبِيلَةِ (أَنْ يُصَدِّقَهُمْ) أَيْ يَأْخُذَ صَدَقَتَهُمْ (سِعْرٌ(4/322)
بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَآخِرُهُ رَاءٌ كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ سِعْرٌ بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَآخِرُهُ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ هُوَ سِعْرٌ الدُّوَلِيُّ ذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً
وَقِيلَ كَانَ فِي زَمَنِ رسول الله عَلَى مَا جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
وَفِي كتاب بن عبد البر بفتح السين المهملة وهو بن دَيْسَمٍ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْكِنَانِيُّ الدِّيلِيُّ رَوَى عَنْهُ ابنه جابر هذا الحديث انتهى (قال بن أَخِي) بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ (إِنَّا نُبَيِّنُ) مِنَ الْبَيَانِ أَيْ نُقَدِّرُ هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ إِنَّا نُبَيِّنُ وَأَمَّا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ إِنَّا نَشْبُرُ أَيْ نَمْسَحُ بِالشِّبْرِ لِنَعْلَمَ جَوْدَتَهَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ نَسْبُرُ بِالنُّونِ ثُمَّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ أَسْبِرُ أَيِ أَخْتَبِرُ وَأَعْتَبِرُ وَأَنْظُرُ انْتَهَى (مَحْضًا) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ قَالَهُ السُّيُوطِيُّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْمَحْضُ اللَّبَنُ
وَقَالَ بن الأثير أي سمينة كثير اللَّبَنِ
وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى اللَّبَنِ مطلقا انتهى (الشاة الشافع) قال بن الْأَثِيرِ هِيَ الَّتِي مَعَهَا وَلَدُهَا سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّ وَلَدَهَا شَفَعَهَا وَشَفَعَتْهُ هِيَ فَصَارَا شَفْعًا وَقِيلَ شَاةٌ شَافِعٌ إِذَا كَانَ فِي بَطْنِهَا وَلَدُهَا وَيَتْلُوهَا آخَرُ
وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ شَاةُ الشَّافِعِ بِالْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِمْ صَلَاةُ الْأُولَى وَمَسْجِدُ الْجَامِعِ انْتَهَى
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ الشَّافِعُ الْحَامِلُ (قَالَا عَنَاقًا) بفتح العين الأنثى من ولد المعزأتى عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَهُوَ جَدْيٌ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَنَمَهُ كَانَتْ مَاعِزَةً وَلَوْ كَانَتْ ضَائِنَةً لَمْ تُجْزِهِ الْعَنَاقُ وَلَا يَكُونُ الْعَنَاقُ إِلَّا الْأُنْثَى مِنَ الْمَعْزِ
وَقَالَ مَالِكٌ الْجَذَعُ يُؤْخَذُ مِنَ الْمَاعِزِ وَالضَّأْنِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُؤْخَذُ مِنَ الضَّأْنِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمَعْزِ إِلَّا الْأُنْثَى
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تُؤْخَذُ الْجَذَعَةُ مِنَ الضَّأْنِ وَلَا مِنَ الْمَاعِزِ انْتَهَى (مُعْتَاطٌ) بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْعَيْنِ وَآخِرَهُ الطَّاءُ الْمُهْمَلَتَيْنِ(4/323)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْمُعْتَاطُ مِنَ الْغَنَمِ هِيَ الَّتِي امْتَنَعَتْ عَنِ الْحَمْلِ لِسِمَنِهَا وَكَثْرَةِ شَحْمِهَا يُقَالُ اعْتَاطَتِ الشَّاةُ وَشَاةٌ مُعْتَاطٌ (أَبُو عَاصِمٍ رَوَاهُ) أَيِ الْحَدِيثَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ مُسْلِمُ بْنُ شُعْبَةَ كَمَا قَالَ رَوْحٌ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ فَاتِّفَاقُ أَبِي عَاصِمٍ وَرَوْحٍ يَدُلُّ عَلَى وَهْمِ وَكِيعٍ فَإِنَّهُ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ ثَفَنَةَ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ
[1582] (وَقَرَأْتُ فِي كِتَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ) الْأَشْعَرِيِّ الْحِمْصِيِّ وَلَمْ يُدْرِكْهُ أَبُو دَاوُدَ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَالِمٍ مِنَ الطَّبَقَةِ السَّابِعَةِ وَهِيَ طَبَقَةُ كِبَارِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ كَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَلِذَا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ الْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ (عَنِ الزُّبَيْدِيِّ) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْقَاضِي الْحِمْصِيُّ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ (قَالَ) الزُّبَيْدِيُّ (وَأَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ) الطَّائِيُّ قَاضِي حِمْصٍ كَمَا أَخْبَرَنِي غَيْرُ يَحْيَى (عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ) هَكَذَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ لَكِنْ قَالَ الحافظ بن حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيَّ حَدَّثَهُمُ انْتَهَى
وَالَّذِي فِي الْإِصَابَةِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ هُوَ الصَّحِيحُ وَالنُّسَخُ الَّتِي بِأَيْدِينَا سَقَطَ مِنْهَا لَفْظُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ بَيْنَ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ وَجِبِّيرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فِي التَّارِيخِ
وَأَيْضًا يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الْحِمْصِيُّ يَرْوِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ لَا عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْغَاضِرِيِّ) صَحَابِيٌّ نَزَلَ حِمْصَ
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرازي وبن حِبَّانَ لَهُ صُحْبَةٌ كَذَا فِي الْإِصَابَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُنْقَطِعًا وَذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِ الصَّحَابَةِ مُسْنَدًا وَذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مُسْنَدًا(4/324)
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ هَذَا لَهُ صُحْبَةٌ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي أَهْلِ حِمْصَ وَقِيلَ إِنَّهُ روى عن النبي حَدِيثًا وَاحِدًا انْتَهَى (مِنْ غَاضِرَةِ قَيْسٍ) غَاضِرَةُ هُوَ أَبُو قَبِيلَةٍ
قَالَ فِي اللِّسَانِ وَالْغَوَاضِرُ آلُ قَيْسٍ وَغَاضِرَةُ قَبِيلَةٌ مِنْ أَسَدٍ وَهُمْ بَنُو غَاضِرَةَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ بْنِ سَعْدٍ
وَغَاضِرَةُ حَيٌّ مِنْ بَنِي غالب بن صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ
وَغَاضِرَةُ أُمُّهُ
وَغَاضِرَةُ بَطْنٌ مِنْ ثَقِيفٍ وَمِنْ بَنِي كِنْدَةَ هَكَذَا فِي تَاجِ الْعَرُوسِ
وَفِي المغني لمحمد طَاهِرُ الْغَاضِرِيُّ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ مَنْسُوبٌ إِلَى غَاضِرَةَ بْنِ مَالِكٍ وَمِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (رَافِدَةٌ عَلَيْهِ) الرَّافِدَةُ فَاعِلَةٌ مِنَ الرَّفْدِ وَهُوَ الْإِعَانَةُ يُقَالُ رَفَدْتُهُ أَرْفِدُهُ إِذَا أَعَنْتُهُ أَيْ تُعِينُهُ نَفْسُهُ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ (وَلَا الدَّرِنَةُ) بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا رَاءٌ مَكْسُورَةٌ ثُمَّ نُونٌ وَهِيَ الْجَرْبَاءُ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ
وَأَصْلُ الدَّرِنِ الْوَسِخُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ (وَلَا الشَّرَطُ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هِيَ صِغَارُ الْمَالِ وَشِرَارُهُ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالشَّرَطُ رَذَالَةُ الْمَالِ (اللَّئِيمَةُ) الْبَخِيلَةُ بِاللَّبَنِ وَيُقَالُ لَئِيمٌ لِلشَّحِيحِ وَالدَّنِيِّ النَّفْسِ وَالْمَهِينِ (وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ مِنْ أَوْسَاطِ الْمَالِ لَا مِنْ شِرَارِهِ وَلَا مِنْ خِيَارِهِ
[1583] (لَمْ أَجِدْ عَلَيْهِ) أَيْ لَمْ أَجِدْ عَلَى ذِمَّتِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ (إِلَّا ابْنَةَ مَخَاضٍ) وَهِيَ الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا حَوْلٌ وَدَخَلَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ (فَقَالَ ذَاكَ) أَيْ بِنْتُ الْمَخَاضِ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا لَا بِلَبَنٍ وَلَا بِرُكُوبٍ (فَتِيَّةٌ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الشَّابَّةُ الْقَوِيَّةُ (أَنْ تأتيه) أي رسول الله (مَا عَرَضْتُ) مَا(4/325)
مَوْصُولَةٌ (فَخَرَجَ) الرَّجُلُ (أَنَّ مَا عَلَيَّ) اسْمُ أَنَّ (فِيهِ) فِي مَالِي (ابْنَةُ مَخَاضٍ) خَبَرُ أَنَّ (وَهَا) لِلتَّنْبِيهِ (هِيَ) النَّاقَةُ (ذِهِ) هَذِهِ مَوْجُودَةٌ (ذَاكَ) أَيْ بِنْتُ مَخَاضٍ (الَّذِي عَلَيْكَ) فرض
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْأَئِمَّةِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ انتهى
قلت محمد بن إسحاق ها هنا صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فَتُقْبَلُ رِوَايَتُهُ لِأَنَّهُ ثِقَةٌ وَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا نُقِمَ عَلَيْهِ التَّدْلِيسُ
[1584] (بَعَثَ مُعَاذًا) بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ أَرْسَلَ وَكَانَ بعثه سنة عشر قبل حج النبي كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَاخِرِ الْمَغَازِي وَفِيهِ أقوال أخرى ذكرها الواقدي وبن سَعْدٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ بِالْيَمَنِ إِلَى أَنْ قَدِمَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى الشَّامِ فَمَاتَ بِهَا (أَهْلُ الْكِتَابِ) الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
قَالَ الطِّيبِيُّ قَيَّدَ قَوْلَهُ قَوْمًا أَهْلَ الْكِتَابِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَفْضِيلًا لَهُمْ أَوْ تَغْلِيبًا عَلَى غَيْرِهِمْ (فَادْعُهُمْ) إِنَّمَا وَقَعَتِ الْبِدَايَةُ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَصِحُّ شَيْءٌ غَيْرُهُمَا إِلَّا بِهِمَا
فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُوَحِّدٍ فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ وَمَنْ كَانَ مُوَحِّدًا فَالْمُطَالَبَةُ بِالْجَمْعِ بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة وإن كانوا مَا يَقْتَضِي الْإِشْرَاكَ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ فَيَكُونُ مُطَالَبَتُهُمْ بِالتَّوْحِيدِ لِنَفْيِ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَقَائِدِهِمْ (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ(4/326)
حَيْثُ دُعُوا أَوَّلًا إِلَى الْإِيمَانِ فَقَطْ ثُمَّ دُعُوا إِلَى الْعَمَلِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ وَفِيهِ بَحْثٌ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ (صَدَقَةٌ) أَيْ زَكَاةٌ لِأَمْوَالِهِمْ (تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الزَّكَاةِ وَصَرْفَهَا إِمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ فَمَنِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ أُخِذَتْ مِنْهُ قَهْرًا (فِي فُقَرَائِهِمْ) أَيِ الْمُسْلِمِينَ
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي إِخْرَاجُ الزَّكَاةِ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى لِلْمَدْيُونِ زَكَاةً إِذَا لَمْ يَفْضُلْ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ قَدْرُ نِصَابٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ إِذَا خَرَجَ مَالُهُ مُسْتَحَقًّا لِغُرَمَائِهِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ تُدْفَعَ إِلَى جِيرَانِهَا وَأَنْ لَا تُنْقَلَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ انْتَهَى
وَجَوَّزَ الْبُخَارِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ نَقْلَ الزَّكَاةِ وَمَعَهُمْ أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ) مَنْصُوبٌ بِفِعْلِ مُضْمَرٍ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهُ
وَالْكَرَائِمُ جَمْعُ كَرِيمَةٍ أَيْ نَفِيسَةٍ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَخْذُ خِيَارِ الْمَالِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لِمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْإِجْحَافُ بِالْمَالِكِ إِلَّا بِرِضَاهُ
قَالَ الطِّيبِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَلَفَ الْمَالِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ مَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي الْأَدَاءِ وَقْتَ الْإِمْكَانِ أَيْ بَعْدَ الْوُجُوبِ (وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالنُّكْتَةِ فِي ذِكْرِهِ عَقِبَ الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَخْذَهَا ظُلْمٌ (حِجَابٌ) أَيْ لَيْسَ لَهَا صَارِفٌ يَصْرِفُهَا وَلَا مَانِعٌ
وَالْمُرَادُ مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ
وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ
وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْمَجْنُونِ وَالطِّفْلِ الْغَنِيِّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ قَالَهُ عِيَاضٌ وَفِيهِ بَحْثٌ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بَعْثِ السُّعَاةِ وَتَوْصِيَةِ الْإِمَامِ عَامِلَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ عَدَمُ ذِكْرِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ فِي الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّ بَعْثَ مُعَاذٍ كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ كَمَا تقدم وأجاب بن الصَّلَاحِ بِأَنَّ ذَلِكَ تَقْصِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَتَعَقَّبَ بِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى ارْتِفَاعِ الْوُثُوقِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ اهْتِمَامَ الشَّارِعِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَكْثَرُ ولهذا كرر في القرآن فمن لم لَمْ يَذْكُرِ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي مُلَخَّصًا مُحَرَّرًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه(4/327)
(الْمُعْتَدِي) هُوَ أَنْ يُعْطِيَ الزَّكَاةَ غَيْرَ مُسْتَحِقِّيهَا وَقِيلَ أَرَادَ أَنَّ السَّاعِيَ إِذَا أَخَذَ خِيَارَ الْمَالِ رُبَّمَا مَنَعَهَا فِي السَّنَةِ الْأُخْرَى فَيَكُونُ سَبَبًا فِي ذَلِكَ فَهُمَا فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ
قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ عَلَى الْمُعْتَدِي فِي الصَّدَقَةِ مِنَ الْإِثْمِ مَا عَلَى الْمَانِعِ فَلَا يَحِلُّ لِرَبِّ الْمَالِ كِتْمَانُ الْمَالِ وَإِنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ السَّاعِي
قَالَ الطِّيبِيُّ يُرِيدُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الِاسْتِمْرَارِ فِي الْمَنْعِ فَإِذَا فُقِدَ الْقَيْدُ فُقِدَ التَّشْبِيهُ انْتَهَى
قَالَ المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ أَنَسٍ حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
وَقَدْ تَكَلَّمَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ انْتَهَى
وَسَعْدُ بْنُ سِنَانٍ كِنْدِيٌّ مِصْرِيٌّ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ سَعْدُ بْنُ سِنَانٍ وَقِيلَ سِنَانُ بْنُ سَعْدٍ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَالصَّحِيحُ سِنَانُ بْنُ سَعْدٍ وَذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِ الْمِصْرِيِّينَ فِي بَابِ سِنَانٍ وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُ انْتَهَى كَلَامُهُ
(باب رضاء الْمُصَدِّقِ)
[1586] أَيِ السَّاعِي الَّذِي يَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ مِنَ النَّاسِ
(مِنْ بَنِي سَدُوسٍ) صِفَةُ رَجُلٍ (الْخَصَاصِيَّةُ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ
كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَقِيلَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُوَ بَشِيرُ بْنُ مَعْبَدٍ وَقِيلَ بَشِيرُ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَصَاصِيَّةِ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهِيَ أُمُّهُ وقيل منسوبة إلى خصاص وهو قَبِيلَةٌ مِنْ أَزْدٍ (إِنَّ أَهْلَ الصَّدَقَةِ) أَيْ أَهْلَ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْعُمَّالِ (يَعْتَدُونَ(4/328)
عَلَيْنَا) أَيْ يَظْلِمُونَ وَيَتَجَاوَزُونَ وَيَأْخُذُونَ أَكْثَرَ مِمَّا وجب علينا (فقال لا) قال بن الْمَلَكِ وَإِنَّمَا لَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ كِتْمَانَ بَعْضِ الْمَالِ خِيَانَةٌ وَمَكْرٌ وَلِأَنَّهُ لَوْ رَخَّصَ لَرُبَّمَا كَتَمَ بَعْضُهُمْ عَلَى عَامِلٍ غَيْرِ ظَالِمٍ
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ
وَفِي إِسْنَادِهِ ديسم السدوسي ذكره بن حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ
وَقَالَ فِي التَّقْرِيبِ
مَقْبُولٌ
وَفِي الْبَابِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالْحَدِيثُ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَتْمُ شَيْءٍ عَنِ المصدقين وإن ظلموا وتعدوا قال بن رَسْلَانَ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْعِ مِنَ الْكَتْمِ أَنَّ مَا أَخَذَهُ السَّاعِي ظُلْمًا يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ لِرَبِّ الْمَالِ
فَإِنَّ قَدَرَ الْمَالِكِ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ مِنْهُ اسْتَرْجَعَهُ وَإِلَّا اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ
[1587] (رَفَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ) مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ عَنْ أَيُّوبَ أَنَّ بشير بن الْخَصَاصِيَّةِ قَالَ قُلْنَا وَلَمْ يَذْكُرْ لِمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا أَوْ لِلْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا
وَأَمَّا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ فَصَرَّحَ فِي روايته أنه قال قلنا يارسول اللَّهِ فَمَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ رَفَعَهُ وَحَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ لَمْ يَرْفَعْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1588] (جَابِرُ بْنُ عَتِيكٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ (سَيَأْتِيكُمْ رَكْبٌ) وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لِلرَّاكِبِ أَيْ سُعَاةٌ وَعُمَّالٌ لِلزَّكَاةِ (مُبَغَّضُونَ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْغَيْنِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ يُبْغَضُونَ طَبْعًا لَا شَرْعًا لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مَحْبُوبَ قُلُوبِهِمْ
وَقِيلَ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ تَبْغُضُونَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ (فَإِذَا جاؤوكم فَرَحِّبُوا بِهِمْ) أَيْ قُولُوا لَهُمْ مَرْحَبًا وَأَهْلًا وَسَهْلًا وَأَظْهِرُوا الْفَرَحَ بِقُدُومِهِمْ وَعَظِّمُوهُمْ (وَخَلُّوا) أَيِ اتْرُكُوا (بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ) أَيْ مَا يطلبون من الزكاة
قال بن الملك يعني لا تمنعون وَإِنْ ظَلَمُوكُمْ لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ مُخَالَفَةُ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ مِنْ جِهَتِهِ(4/329)
وَمُخَالَفَةُ السُّلْطَانِ تُؤَدِّي إِلَى الْفِتْنَةِ وَهُوَ كَلَامُ الْمُظْهِرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَمَّ الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ العلة لو كانت هِيَ الْمُخَالَفَةُ لَجَازَ الْكِتْمَانُ لَكِنَّهُ لَمْ يَجُزْ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ قَالَ لَا (فَإِنْ عَدَلُوا) أَيْ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ (فَلِأَنْفُسِهِمْ) أَيْ فَلَهُمُ الثَّوَابُ (وَإِنْ ظَلَمُوا) بِأَخْذِ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْكُمْ أَوْ أَفْضَلَ مِمَّا وَجَبَ (فَعَلَيْهَا) أَيْ فَعَلَى أَنْفُسِهِمْ إِثْمُ ذَلِكَ الظُّلْمِ وَعَلَيْكُمُ الثَّوَابُ بِتَحَمُّلِ ظُلْمِهِمْ (وَأَرْضُوهُمْ) أَيِ اجْتَهَدُوا وَبَالِغُوا فِي إِرْضَائِهِمْ بِأَنْ تُعْطُوهُمُ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ مَطْلٍ ومكث وَلَا غِشٍّ وَلَا خِيَانَةٍ (فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ) أَيْ كَمَالَهَا كَمَا وَجَبَ (رِضَاهُمْ) بِالْقَصْرِ وَقَدْ يُمَدُّ أَيْ حُصُولُ رِضَائِهِمْ مَا أَمْكَنَ (وَلْيَدْعُوا) بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا (لَكُمْ) هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ لِقَابِضِ الزَّكَاةِ سَاعِيًا أَوْ مُسْتَحِقًّا أَنْ يَدْعُوا لِلْمُزَكِّي
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ مَفْتُوحَةً لِلتَّعْلِيلِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَرْضُوهُمْ لِتَتِمَّ زَكَاتُكُمْ وَلْيَدْعُوا
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاسْتِرْضَاءَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الدُّعَاءِ وَوُصُولِ الْقَبُولِ
قَالَ الطِّيبِيُّ فَالْمَعْنَى أَنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ عُمَّالٌ يَطْلُبُونَ مِنْكُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْمَالِ فَتُبْغِضُونَهُمْ وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلَيْسُوا بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ عَدَلُوا وَظَلَمُوا مَبْنِيٌّ على هذا الزعم ولو كانوا ظَالِمِينَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْوَاقِعِ كَيْفَ يَأْمُرُهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ وَيَدْعُوا لَكُمْ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ أَبُو الْغُصْنِ وَهُوَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ الْمَدَنِيُّ الْغِفَارِيُّ مَوْلَاهُمْ وَقِيلَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ثِقَةٌ
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَقَالَ مَرَّةً لَيْسَ بِذَاكَ صَالِحٌ وَقَالَ مَرَّةً لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي الرُّوَاةِ خَمْسَةٌ كُلٌّ مِنْهُمُ اسْمُهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لَا نَعْرِفُ فِيهِمْ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ غَيْرُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ
[1589] (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ) أَيْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ وَعَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ كِلَاهُمَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالَ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه وَفِي الرُّوَاة خَمْسَة كُلّ مِنْهُمْ اِسْمه ثَابِت بْن قَيْس لَا نَعْرِف فِيهِمْ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْره(4/330)
يَرْوِيَانِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ (فَقَالَ أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ) مَعْنَاهُ أَرْضُوهُمْ بِبَذْلِ الْوَاجِبِ وَمُلَاطَفَتِهِمْ وَتَرْكِ مُشَاقَّتِهِمْ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى ظُلْمٍ لَا يَفْسُقُ بِهِ السَّاعِي
إِذْ لَوْ فَسَقَ لَانْعَزَلَ ولم يجب الدفع إليه بل لا يجزئ (مَا صَدَرَ عَنِّي) مَا رَجَعَ عَنِّي
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(بَابُ دُعَاءِ الْمُصَدِّقِ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ)
[1590] (قَالَ كَانَ أَبِي) أَيْ أَبُو أَوْفَى (مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ) أَيِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ (قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى آلِ فُلَانٍ) وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَةِ عَلَى فُلَانٍ وَفِي أُخْرَى عَلَيْهِمْ (عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى) يُرِيدُ أَبَا أَوْفَى نَفْسَهُ لِأَنَّ الْآلَ يُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ أَبِي مُوسَى لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ
وَقِيلَ لَا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْجَلِيلِ الْقَدْرِ
وَاسْمُ أَبِي أَوْفَى عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيُّ شَهِدَ هُوَ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ على جواز الصلاة على غير الأنبياء وكراهه مالك وأكثر العلماء
قال بن التِّينِ وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَدْعُو آخِذُ الصَّدَقَةِ لِلْمُصْدِّقِ بِهَذَا الدُّعَاءِ لِهَذَا الْحَدِيثِ
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ إِلَّا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَدْعُوِّ لَهُ فَصَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ دُعَاءٌ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَصَلَاةُ أُمَّتِهِ دُعَاءٌ بِزِيَادَةِ الْقُرْبَةِ وَالزُّلْفَى وَلِذَلِكَ كَانَتْ لَا تَلِيقُ بِغَيْرِهِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ أَخْذِ الزَّكَاةِ لِمُعْطِيهَا وَأَوْجَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَجْهًا لِبَعْضِ الشافعية وأجيب(4/331)
بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ السُّعَاةَ وَلِأَنَّ سَائِرَ مَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَالدُّيُونِ وَغَيْرِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الدُّعَاءُ فَكَذَلِكَ الزَّكَاةُ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ خَاصًّا بِهِ لِكَوْنِ صَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَنًا لَهُمْ بِخِلَافِ غيره وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وبن ماجه
(باب تفسير أسنان الإبل)
جَمْعُ سِنٍّ بِمَعْنَى الْعُمُرِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ
قَالَ فِي اللِّسَانِ وَجَمْعُهَا أَسْنَانٌ لَا غَيْرُ
وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ وَجَاوَزْتُ أَسْنَانَ أَهْلِ بَيْتِي أَيْ أَعْمَارَهُمْ
وَالْمَعْنَى بَابُ أَعْمَارِ الْإِبِلِ وَأَمَّا السِّنُّ مِنَ الْفَمِ فَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ أَيْضًا وَجَمْعُهَا الْأَسْنَانُ أَيْضًا مِثْلُ حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(سَمِعْتُهُ مِنَ الرِّيَاشِيِّ) بِكَسْرِ الرَّاءِ ثُمَّ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ الْمُخَفَّفَةِ اسْمُهُ عَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الْبَصْرِيُّ النَّحْوِيُّ وثقه بن حِبَّانَ وَالْخَطِيبُ (وَأَبِي حَاتِمٍ) الرَّازِيِّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بن إدريس الحافظ الكبير روى عن بن مَعِينٍ وَأَحْمَدَ وَالْأَصْمَعِيِّ وَجَمَاعَةٍ
قَالَ النَّسَائِيُّ ثِقَةٌ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ كَانَ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ (مِنْ كِتَابِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ) الْكُوفِيِّ النَّحْوِيِّ وثقه بن مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ وَكِتَابُهُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ (وَمِنْ كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ) الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ الْبَغْدَادِيِّ صَاحِبِ التَّصَانِيفِ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ وَكِتَابُهُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ (وَرُبَّمَا ذَكَرَ أَحَدُهُمْ) ممن ذكر وأوهم الرياشي وأبو حاتم وَالنَّضْرُ وَأَبُو عُبَيْدٍ (الْكَلِمَةُ) مَفْعُولُ ذَكَرَ أَيْ ذَكَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ
وَالْحَاصِلُ أَنِّي أُحَرِّرُ الْأَلْفَاظَ فِي تَفْسِيرِ الْأَسْنَانِ آخِذًا مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ فَرُبَّمَا اتَّفَقُوا جَمِيعُهُمْ عَلَى تَفْسِيرِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَرُبَّمَا انْفَرَدَ بِهِ بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ وَلَكِنْ أَنَا لَا أَتْرُكُهُ بَلْ أُحَرِّرُهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيعَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (يُسَمَّى الْحُوَارَ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَقَدْ تُكْسَرُ وَلَدُ النَّاقَةِ سَاعَةَ تَضَعُهُ أَوْ إِلَى أَنْ يُفْصَلَ عَنْ أُمِّهِ
كَذَا فِي الْقَامُوسِ
وَفِي الصَّحَّاحِ الْحُوَارُ وَلَدُ النَّاقَةِ وَلَا يَزَالُ حُوَارًا حَتَّى يُفْصَلَ فَإِذَا فُصِلَ عَنْ أُمِّهِ فَهُوَ فَصِيلٌ (حِقٌّ وَحِقَّةٌ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْحِقُّ بِالْكَسْرِ ما كان من الإبل بن ثَلَاثِ سِنِينَ وَقَدْ دَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْأُنْثَى حِقَّةٌ وَحِقٌّ أَيْضًا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِحْقَاقِهِ أَنْ(4/332)
يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ (لِأَنَّهَا) أَيِ الْحِقَّةَ (الْفَحْلُ) لِلذَّكَرِ مِنَ الْإِبِلِ أَيْ يَضْرِبُهَا الْفَحْلُ وَيَقْضِي حَاجَتَهُ مِنْهَا (وَهِيَ تُلَقَّحُ) يُقَالُ لَقِحَتِ النَّاقَةُ تَلْقَحُ إِذَا حَمَلَتْ فَاسْتَبَانَ حَمْلُهَا
وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّاقَةَ إِلَى تَمَامِ أَرْبَعِ سِنِينَ تَكُونُ قَابِلَةً لِضَرْبِ الْفَحْلِ وَتَكُونُ حَامِلَةً (وَلَا يُلَقَّحُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (الذَّكَرُ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَشَرْحُهُ وَاللِّقَاحُ اسْمُ مَاءِ الْفَحْلِ مِنَ الْإِبِلِ أَوِ الْخَيْلِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الذَّكَرَ مِنَ الْإِبِلِ لَا يَصِيرُ قَابِلًا لِلضَّرْبِ وَصَبِّ مَاءِ الْفَحْلِ (حَتَّى يُثَنِّيَ) الْإِبِلُ أَيْ يَسْتَكْمِلَ سِتًّا مِنَ السِّنِينَ بِإِلْقَاءِ ثَنِيَّتِهِ
قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الثَّنِيَّةُ وَاحِدَةُ الثَّنَايَا مِنَ السِّنِّ وَثَنَايَا الْإِنْسَانِ فِي فَمِهِ الْأَرْبَعُ الَّتِي في مقدم فيه اثنتان من فوق وثنتان من أسفل
قال بن سِيدَهْ وَلِلْإِنْسَانِ وَالْخُفِّ وَالسَّبُعِ ثَنِيَّتَانِ مِنْ فَوْقُ وَثَنِيَّتَانِ مِنْ أَسْفَلُ وَالثَّنِيُّ مِنَ الْإِبِلِ الَّذِي يُلْقِي ثَنِيَّتَهُ وَذَلِكَ فِي السَّادِسَةِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْبَعِيرُ ثَنِيًّا لِأَنَّهُ أَلْقَى ثَنِيَّتَهُ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الثَّنِيُّ الَّذِي يُلْقِي ثَنِيَّتَهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الظِّلْفِ وَالْحَافِرِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَفِي الْخُفِّ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ (وَأَلْقَى السِّنَّ السَّدِيسُ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الدَّالِ هُوَ السِّنُّ الَّتِي بَعْدَ الرَّبَاعِيَةِ
وَالسَّدِيسُ وَالسَّدَسُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ الْمُلْقِي سَدِيسَهُ وَقَدْ أَسْدَسَ الْبَعِيرُ إِذَا أَلْقَى السِّنَّ بَعْدَ الرَّبَاعِيَةِ وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ (بَعْدَ الرَّبَاعِيَةِ) قَالَ فِي اللِّسَانِ وَالرَّبَاعِيَةُ مِثْلُ الثَّمَانِيَةِ إِحْدَى الْأَسْنَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَلِي الثَّنَايَا بَيْنَ الثَّنِيَّةِ وَالنَّابِ تَكُونُ لِلْإِنْسَانِ وَغَيْرُهُ وَالْجَمْعُ رَبَاعِيَاتٌ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ فَوْقُ ثَنِيَّتَانِ وَرَبَاعِيَتَانِ بَعْدَهُمَا وَنَابَانِ وَضَاحِكَانِ وَسِتَّةُ أَرْحَاءَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَنَاجِذَانِ وَكَذَلِكَ مِنْ أَسْفَلُ
قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَلِلْحَافِرِ بَعْدَ الثَّنَايَا أَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ وَأَرْبَعَةُ قَوَارِحَ وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ وَثَمَانِيَةُ أَضْرَاسٍ يُقَالُ لِلذَّكَرِ مِنَ الْإِبِلِ إِذَا طَلَعَتْ رَبَاعِيَتُهُ رَبَاعٌ وَلِلْأُنْثَى رَبَاعِيَةٌ بِالتَّخْفِيفِ وَذَلِكَ إِذَا دَخَلَا فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ (فَهُوَ سَدِيسٌ) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ الدَّالِ (وَسَدَسٌ) بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ
قَالَ فِي اللِّسَانِ السَّدِيسُ مِنَ الْإِبِلِ مَا دَخَلَ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ وَذَلِكَ إِذَا أَلْقَى السِّنَّ التي(4/333)
بَعْدَ الرَّبَاعِيَةِ
وَالسَّدَسُ بِالتَّحْرِيكِ السِّنُّ قَبْلَ الْبَازِلِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ لِأَنَّ الْإِنَاثَ فِي الْأَسْنَانِ كُلِّهَا بِالْهَاءِ إِلَّا السَّدَسَ وَالسَّدِيسُ وَالْبَازِلُ (طَلَعَ نَابُهُ) النَّابُ هِيَ السِّنُّ الَّتِي خَلْفَ الرَّبَاعِيَةِ (فَهُوَ بَازِلٌ أَيْ بَزَلَ نَابُهُ يَعْنِي طَلَعَ) قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ يُقَالُ لِلْبَعِيرِ إِذَا اسْتَكْمَلَ السَّنَةَ الثَّامِنَةَ وَطَعَنَ فِي التَّاسِعَةِ وَفَطَرْنَا بِهِ فَهُوَ حِينَئِذٍ بَازِلٌ وَكَذَلِكَ الْأُنْثَى بِغَيْرِ هَاءٍ جَمَلٌ بَازِلٌ وَنَاقَةٌ بَازِلٌ وَهُوَ أَقْصَى أَسْنَانِ الْبَعِيرِ سُمِّيَ بَازِلًا مِنَ الْبَزْلِ وَهُوَ الشِّقُّ وَذَلِكَ أَنَّ نَابَهُ إِذَا طَلَعَ يُقَالُ لَهُ بَازِلٌ لِشَقِّهِ اللَّحْمَ عَنْ مَنْبَتِهِ شَقًّا (مُخْلِفٌ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْخَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ
قَالَ فِي اللِّسَانِ وَالْإِخْلَافُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الْبَعِيرِ الْبَازِلِ سَنَةٌ بَعْدَ بُزولِهِ يُقَالُ بَعِيرٌ مُخْلِفٌ وَالْمُخْلِفُ مِنَ الْإِبِلِ الَّذِي جَازَ الْبَازِلَ
وَفِي الْمُحْكَمِ الْمُخْلِفُ بَعْدَ الْبَازِلِ وَلَيْسَ بَعْدَهُ سِنٌّ وَلَكِنْ يُقَالُ مُخْلِفُ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ وكذلك مازاد وَالْأُنْثَى بِالْهَاءِ وَقِيلَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ انْتَهَى (بَازِلُ عَامٍ) بِالْإِضَافَةِ (وَبَازِلُ عَامَيْنِ) قَالَ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ وَقَوْلُهُمْ بَازِلُ عَامٍ وَبَازِلُ عَامَيْنِ إِذَا مَضَى لَهُ بَعْدَ الْبُزُولِ عَامٌ أَوْ عَامَانِ انْتَهَى
وَكَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُخْلِفُ عَامٍ وَمُخْلِفُ عَامَيْنِ إِذَا مَضَى لَهُ بَعْدَ الْإِخْلَافِ عَامٌ أَوْ عَامَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ أَعْوَامٍ إِلَى خَمْسِ سِنِينَ (وَالْخَلِفَةُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ الْحَامِلُ مِنَ النُّوقِ وَتُجْمَعُ عَلَى خَلِفَاتٍ وَخَلَائِفَ (وَالْجَذُوعَةُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا وَاوٌ هَكَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ بَعْدَ الذَّالِ وَالَّذِي فِي الْقَامُوسِ مَا نَصُّهُ الْجَذَعُ مُحَرَّكَةٌ قَبْلَ الثَّنِيِّ وَهِيَ بِهَاءٍ اسْمٌ لَهُ فِي زَمَنٍ وَلَيْسَ بِسِنٍّ تَنْبُتُ أَوْ تَسْقُطُ انْتَهَى
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْجَذَعُ الصَّغِيرُ السِّنِّ وَالْجَذَعُ اسْمٌ لَهُ فِي زَمَنٍ لَيْسَ بِسِنٍّ تَنْبُتُ وَلَا تَسْقُطُ وَتُعَاقِبُهَا أُخْرَى فَأَمَّا الْبَعِيرُ فَإِنَّهُ يُجْذَعُ لِاسْتِكْمَالِهِ أَرْبَعَةَ أَعْوَامٍ وَدُخُولُهُ فِي السَّنَهِ الْخَامِسَةِ وَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ حِقٌّ وَالذَّكَرُ جَذَعٌ وَالْأُنْثَى جَذَعَةٌ وَهِيَ الَّتِي أَوْجَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدَقَةِ الْإِبِلِ إِذَا جاوزت ستين
وليس في صدقات الإبل سن فَوْقِ الْجَذَعَةِ وَلَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الْإِبِلِ فِي الْأَضَاحِيِّ (وَفُصُولُ الْأَسْنَانِ) أَيْ أَعْمَارُ الْإِبِلِ (عِنْدَ طُلُوعِ سُهَيْلٍ) بِضَمِّ السِّينِ قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ سُهَيْلٌ كَوْكَبُ يَمَانٍ
قَالَ الزُّهْرِيُّ سُهَيْلٌ كَوْكَبٌ لَا يُرَى بِخُرَاسَانَ وَيُرَى بِالْعِرَاقِ
قَالَ اللَّيْثُ بَلَغَنَا أَنَّ سُهَيْلًا كَانَ عَشَّارًا عَلَى طَرِيقِ الْيَمَنِ ظَلُومًا فَمَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى كوكبا
وقال بن كِنَاسَةَ سُهَيْلٌ يُرَى بِالْحِجَازِ وَفِي جَمِيعِ أَرْضِ الْعَرَبِ وَلَا يُرَى بِأَرْضِ أَرْمِينِيَّةِ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ أهل(4/334)
الْحِجَازِ سُهَيْلًا وَرُؤْيَةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِيَّاهُ عِشْرُونَ يَوْمًا وَيُقَالُ إِنَّهُ يَطْلُعُ عِنْدَ نِتَاجِ الْإِبِلِ فَإِذَا حَالَتِ السَّنَةُ تَحَوَّلَتْ أَسْنَانُ الْإِبِلِ
وَالْمَعْنَى أَنَّ حِسَابَ أَسْنَانِ الْإِبِلِ أَيْ أَعْمَارَهَا عِنْدَ طُلُوعِ سُهَيْلٍ لِأَنَّ سُهَيْلًا إِنَّمَا يَطْلُعُ فِي زَمَنِ نِتَاجِ الْإِبِلِ فَحِسَابُ عُمُرِهَا إِنَّمَا يَكُونُ من زمن طلوعه
فالإبل التي كانت بن لَبُونٍ تَصِيرُ عِنْدَ طُلُوعِ سُهَيْلٍ حِقًّا وَقَلَّمَا تُنْتِجُ الْإِبِلُ غَيْرَ زَمَنِ طُلُوعِ سُهَيْلٍ
فَالْإِبِلُ الَّتِي تَلِدُ فِي غَيْرِ زَمَنِهِ لَا يُحْسَبُ سِنُّهَا مِنْ طُلُوعِ سُهَيْلٍ بَلْ بِوِلَادَتِهَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّاعِرُ (إِذَا سُهَيْلٌ) كَوْكَبُ يَمَانٍ (أَوَّلَ اللَّيْلِ) فِي فَصْلِ طُلُوعِهِ (طَلَعَ) وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ إِذَا سُهَيْلٌ (مَطْلَعَ الشَّمْسِ طَلَعَ) أَيْ لَفْظُ مَطْلَعِ الشَّمْسِ بَدَلُ أَوَّلِ اللَّيْلِ لَكِنْ مَا نَقَلَهُ أَبُو دَاوُدَ أَحْسَنُ مِنْهُ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكَوَاكِبَ بِأَسْرِهَا تَطْلُعُ مَطْلَعَ الشَّمْسِ أَيْ جِهَةَ الْمَشْرِقِ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ مَعَ قَوْلِهِ طَلَعَ بِخِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ فَإِنَّ الْكَوَاكِبَ مُخْتَلِفَةُ الطُّلُوعِ فَبَعْضُهَا تَطْلُعُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَبَعْضُهَا وَسَطَهُ وَبَعْضُهَا آخِرَهُ فَذِكْرُهُ مُفِيدٌ
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ أَبُو داود رحمه الله ها هنا مما أنشده الرياشي ثلاث أَبْيَاتٍ أَحَدُهَا قَوْلُهُ إِذَا سُهَيْلٌ أَوَّلَ اللَّيْلِ طَلَعْ وَالثَّانِي فَابْنُ اللَّبُونِ الْحِقُّ وَالْحِقُّ جَذَعْ وَالثَّالِثُ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَسْنَانِهَا غَيْرُ الْهُبَعْ وكلها من مشطور الرجز والقافية متراكب وهذاعلى قَوْلِ غَيْرِ الْخَلِيلِ وَأَمَّا الْخَلِيلُ فَإِنَّهُ لَا يَعُدُّهُ شِعْرًا وَكَانَ الشِّعْرُ عِنْدَهُ مَا لَهُ مِصْرَاعَانِ وَعَرُوضٌ وَضَرْبٌ
أَصْلُ الرَّجَزِ مُسْتَفْعِلُنْ سِتُّ مَرَّاتٍ وَهُوَ فِي الِاسْتِعْمَالِ يُسَدَّسُ تَارَةً عَلَى الأصل ويربع مجزوا أُخْرَى وَيُثَلَّثُ مَشْطُورًا ثَالِثُةً وَسُمِّيَ الْمُثَلَّثُ مَشْطُورًا
وَالتَّفْصِيلُ فِي عِلْمَيِ الْعَرُوضِ وَالْقَوَافِي (فَابْنُ اللَّبُونِ) الَّتِي دَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ (الْحِقُّ) الَّتِي دَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ وَهُوَ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ جَوَابُ الشَّرْطِ (وَالْحِقُّ) مُبْتَدَأٌ (جَذَعٌ) الَّتِي دَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ خَبَرُهُ وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ الْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا طَلَعَ سُهَيْلٌ أول الليل صار بن اللَّبُونِ حِقًّا وَصَارَ الْحِقُّ جَذَعًا وَكَذَا صَارَ الْجَذَعُ ثَنِيًّا وَالثَّنِيُّ رَبَاعِيًا وَالرَّبَاعِيُّ سَدِيسًا وَهَكَذَا لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ سُهَيْلًا يَطْلُعُ أَوَّلَ اللَّيْلِ عِنْدَ نِتَاجِ الْإِبِلِ(4/335)
فَإِذَا حَالَتِ السَّنَةُ بِطُلُوعِ سُهَيْلٍ تَحَوَّلَتْ أَسْنَانُ الْإِبِلِ
ثُمَّ قَالَ الشَّاعِرُ (لَمْ يَبْقَ مِنْ أَسْنَانِهَا) الْإِبِلِ (غَيْرُ الْهُبَعْ) يَعْنِي أَنَّ الْإِبِلَ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْأَكْثَرُ مَا يُولَدُ زَمَنَ طُلُوعِ سُهَيْلٍ أَوِ اللَّيْلِ وَالثَّانِي مَا يُولَدُ فِي غَيْرِ زَمَنِهِ وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ أَسْنَانِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي الْبَيْتَيْنِ السَّابِقَيْنِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَسْنَانِ الْإِبِلِ غَيْرُ مَذْكُورٍ إِلَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْهُبَعُ عَلَى مَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ (وَالْهُبَعُ الَّذِي يُولَدُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فِي غَيْرِ حِينِهِ) أَيْ حِينَ طلوع سهيل أو اللَّيْلِ
قَالَ فِي اللِّسَانِ الْهُبَعُ الْفَصِيلُ الَّذِي يُنْتَجُ فِي الصَّيْفِ وَقِيلَ هُوَ الْفَصِيلُ الَّذِي فصل في آخر النتاج
قال بن السِّكِّيتِ الْعَرَبُ تَقُولُ مَالُهُ هُبَعْ وَلَا رُبَعْ فَالرُّبَعُ مَا نَتَجَ فِي أَوَّلِ الرَّبِيعِ وَالْهُبَعُ مَا نَتَجَ فِي الصَّيْفِ
هَذَا كُلُّهُ مِنْ غَايَةِ الْمَقْصُودِ شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ
(بَاب أَيْنَ تُصَدَّقُ الْأَمْوَالُ)
[1591] (قَالَ لَا جَلَبَ) أَيْ بِفَتْحَتَيْنِ بِمَعْنَى لَا يُقَرِّبُ الْعَامِلُ أَمْوَالَ النَّاسِ إِلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَنْزِلَ السَّاعِي مَحِلًّا بَعِيدًا عَنِ الْمَاشِيَةِ ثُمَّ يُحْضِرَهَا وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى مِيَاهِهِمْ أَوْ أَمْكِنَةِ مَوَاشِيهِمْ لِسُهُولَةِ الْأَخْذِ حِينَئِذٍ
وَيُطْلَقُ الْجَلَبُ أَيْضًا عَلَى حَثِّ فَرَسِ السِّبَاقِ عَلَى قُوَّةِ الْجَرْيِ بِمَزِيدِ الصِّيَاحِ عَلَيْهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ إِضْرَارِ الْفَرَسِ (وَلَا جَنَبَ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ لَا يُبْعِدُ صَاحِبُ الْمَالِ الْمَالَ بِحَيْثُ تَكُونُ مَشَقَّةً عَلَى الْعَامِلِ (وَلَا تُؤْخَذُ) بِالتَّأْنِيثِ وَتُذَكَّرُ (إِلَّا فِي دُورِهِمْ) أَيْ مَنَازِلِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ وَمِيَاهِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ لِأَنَّهُ كَنَّى بِهَا عَنْهُ فَإِنَّ أَخْذَ الصَّدَقَةِ فِي دُورِهِمْ لَازِمٌ لِعَدَمِ بُعْدِ السَّاعِي عَنْهَا فَيَجْلِبُ إِلَيْهِ وَلِعَدَمِ بُعْدِ الْمُزَكِّي فَإِنَّهُ إِذَا بَعُدَ عَنْهَا لَمْ يُؤْخَذْ فِيهَا
وَحَاصِلُهُ أَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ مُؤَكِّدٌ لِأَوَّلِهِ أَوْ إِجْمَالٌ لِتَفْصِيلِهِ كَذَا في المرقاة(4/336)
[1592] (وَالْجَنَبُ عَنْ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ) أَيْ فِي فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ وَلَا فِي السِّبَاقِ (أَيْضًا) يَجِيءُ بِمَعْنَى (لَا يُجْنَبُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (أَصْحَابُهَا) أَيْ أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ (وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ) السَّاعِي الْمُصَدِّقُ (أَصْحَابُ الصَّدَقَةِ) أَيْ مَالِكُ الْمَوَاشِي (فَتُجْنَبُ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ تُحْضَرُ الْمَوَاشِي إِلَيْهِ) إِلَى الْمُصَدِّقِ (لَكِنْ تُؤْخَذُ) الْمَوَاشِي (فِي مَوْضِعِهِ) أَيْ صَاحِبِ الْأَمْوَالِ
قال بن الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ الْجَلَبُ يَكُونُ فِي شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي الزَّكَاةِ وَهُوَ أَنْ يَقْدَمَ الْمُصَدِّقُ عَلَى أَهْلِ الزَّكَاةِ فَيَنْزِلَ مَوْضِعًا ثُمَّ يُرْسِلَ مَنْ يَجْلِبُ إِلَيْهِ الْأَمْوَالَ مِنْ أَمَاكِنِهَا لِيَأْخُذَ صَدَقَتَهَا فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَ أَنْ تُؤْخَذَ صَدَقَاتُهُمْ عَلَى مِيَاهِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ
الثَّانِي أَنْ يَكُونَ فِي السِّبَاقِ وَهُوَ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ فَرَسَهُ فَيَزْجُرُهُ وَيَجْلِبُ عَلَيْهِ وَيَصِيحَ حَثًّا لَهُ عَلَى الْجَرْيِ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ
وَالْجَنَبُ بِالتَّحْرِيكِ فِي السِّبَاقِ أَنْ يُجْنِبَ فَرَسًا إِلَى فَرَسِهِ الَّذِي يُسَابِقُ عَلَيْهِ فَإِذَا فَتَرَ الْمَرْكُوبُ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَجْنُوبِ وَهُوَ فِي الزَّكَاةِ أَنْ يَنْزِلَ الْعَامِلُ بِأَقْصَى مَوَاضِعِ أَصْحَابِ الصَّدَقَةِ ثُمَّ يَأْمُرَ بِالْأَمْوَالِ أَنْ تُجْنَبَ إِلَيْهِ أَيْ تُحْضَرَ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ
وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُجْنِبَ رَبُّ الْمَالِ بِمَالِهِ أَيْ يُبْعِدُهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ حَتَّى يَحْتَاجَ الْعَامِلُ إِلَى الْإِبْعَادِ فِي اتِّبَاعِهِ وَطَلَبِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْجِهَادِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَلَيْسَ فِيهِ وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ فِي دُورِهِمْ
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَدْ ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ انْتَهَى كَلَامُهُ
(بَاب الرَّجُلِ يَبْتَاعُ صَدَقَتَهُ)
[1593] (فَوَجَدَهُ يُبَاعُ) أَيْ أَصَابَهُ حَالَ كَوْنِهِ يُبَاعُ بِضَمِّ الْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَرَسَ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْوَقْفِ بَلْ مِلْكُهُ لَهُ لِيَغْزُوَ عَلَيْهِ إِذْ لَوْ وَقَفَهُ لَمَا صَحَّ أَنْ يَبْتَاعَهُ
قَالَهُ(4/337)
الْقَسْطَلَّانِيُّ (فَقَالَ لَا تَبْتَاعُهُ) فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَعَنْ شِرَاءِ الرَّجُلِ صَدَقَتَهُ
قال بن بَطَّالٍ كَرِهَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ شِرَاءَ الرَّجُلِ صَدَقَتَهُ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْكُوفِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّ سَوَاءٌ كَانَتِ الصَّدَقَةُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا فَإِنِ اشْتَرَى أَحَدٌ صَدَقَتَهُ لَمْ يُفْسَخْ بَيْعُهُ وَأَوْلَى بِهِ التَّنَزُّهُ عَنْهَا وَكَذَا قَوْلُهُمْ فِيمَا يُخْرِجُهُ الْمُكَفِّرُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ وَرِثَهَا فَإِنَّهَا حَلَالٌ لَهُ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ
وَقَالَ بن الْمُنْذِرِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَدَّقَ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا لِلنَّهْيِ الثَّابِتِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ فَسَادُ الْبَيْعِ إِلَّا إِنْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(بَابُ صَدَقَةِ الرقيق)
[1595] (ليس على المسلم) قال بن حَجَرٍ الْمَكِّيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْمَالِ بِأَنْوَاعِهَا الْإِسْلَامُ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الصِّدِّيقِ في كتابه
قال علي القارىء هَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْكَافِرَ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِقَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا أَفْهَمَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وقالوا لم نك نطعم المسكين وَعَلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ) أَيِ اللَّذَيْنِ لَمْ يُعَدَّا لِلتِّجَارَةِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَاثِيِّ الْخَيْلِ دِينَارًا فِي كُلِّ فَرَسٍ أَوْ يُقَوِّمُهَا صَاحِبُهَا وَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ(4/338)
دراهم
كذا ذكره بن حجر المكي قال بن الْمَلَكِ هَذَا حُجَّةٌ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْفَرَسِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا فِي الْخَيْلِ وَالْعَبِيدِ مُطْلَقًا فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِهَا فِي الْفَرَسِ وَالْعَبِيدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْخِدْمَةِ وَحَمَلَ الْعَبْدَ عَلَى الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ وَالْفَرَسَ عَلَى فرس الغازي وفي فتح الباري قال بن رَشِيدٍ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَبْدِ الْمُتَصَرِّفِ وَالْفَرَسِ الْمُعَدِّ لِلرُّكُوبِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنَ الرِّقَابِ وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ يُؤْخَذُ مِنْهَا بِالْقِيمَةِ
وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ أَشَارَ فِي تَرْجَمَةِ الْبَابِ إِلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا عَفَوْتُ عَنِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ
الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا كَانَتِ الْخَيْلُ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا نَظَرًا إِلَى النَّسْلِ فَإِذَا انْفَرَدَتْ فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ ثُمَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَالِكَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا أَوْ يُقَوِّمَ وَيُخْرِجَ رُبُعَ الْعُشْرِ
وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ
وَأُجِيبَ بِحَمْلِ النَّفْيِ فِيهِ عَلَى الرَّقَبَةِ لَا عَلَى الْقِيمَةِ
وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَا لِلتِّجَارَةِ وَأُجِيبُوا بِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ ثَابِتَةٌ بالإجماع كما نقله بن الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ فَيَخُصُّ بِهِ عُمُومَ هَذَا الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَحَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بِلَفْظِ لَيْسَ فِي الْخَيْلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ فِي الْعَبْدِ صَدَقَةٌ إِلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ انْتَهَى
1 - (بَاب صَدَقَةِ الزَّرْعِ)
[1596] (فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ) الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمَطَرُ أَوِ الثَّلْجُ أَوِ الْبَرَدُ أَوِ الطَّلُّ وَهُوَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ (الْعُشْرُ) مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ وَالْبَعْلُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَيُرْوَى بِضَمِّهَا
قَالَ فِي الْقَامُوسِ الْبَعْلُ الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ تُمْطَرُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَكُلُّ نَخْلٍ وَزَرْعٍ لَا يُسْقَى أَوْ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ انْتَهَى
وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ الْأَشْجَارُ الَّتِي تَشْرَبُ بِعُرُوقِهَا مِنَ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ سَقْيِ سَانِيَةٍ(4/339)
(وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي) جَمْعُ سَانِيَةٍ وَهِيَ بَعِيرٌ يُسْتَقَى عَلَيْهِ (أَوِ النَّضَحُ) بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ أَيْ بِالسَّانِيَةِ أَيِ الْبَعِيرِ أَوْ مَا سُقِيَ مِنَ الْآبَارِ بِالْغَرْبِ وَالْمُرَادُ سُقِيَ النَّخْلُ وَالزَّرْعُ بِالْبَعِيرِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[1597] (فِيمَا سَقَتِ الْأَنْهَارُ وَالْعُيُونُ) الْمُرَادُ بِالْعُيُونِ الْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا مِنْ دُونِ اعْتِرَافِ بِآلَةٍ بَلْ تُسَاحُ إِسَاحَةً (وَمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي) جَمْعُ سَانِيَةٍ هِيَ الْبَعِيرُ الَّذِي يُسْتَقَى بِهِ الْمَاءُ مِنَ الْبِئْرِ وَيُقَالُ لَهُ النَّاضِحُ يُقَالُ مِنْهُ سَنَا يَسْنُو سَنًا إِذَا اسْتُقِى بِهِ
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالْأَنْهَارِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ مُؤْنَةٌ كَثِيرَةٌ وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِالنَّوَاضِحِ وَنَحْوِهَا مِمَّا فِيهِ مُؤْنَةٌ كَثِيرَةٌ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَإِنْ وُجِدَ مِمَّا يُسْقَى بِالنَّضَحِ تَارَةً وَبِالْمَطَرِ أُخْرَى فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِوَاءِ وَجَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ بن قُدَامَةَ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ كَانَ حُكْمُ الْأَقَلِّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ
وَقِيلَ يُؤْخَذُ بِالتَّقْسِيطِ
قَالَ الْحَافِظُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنْ أَمْكَنَ فَصْلُ كُلِّ وَاحِدٍ منهما أخذ بحسابه
وعن بن الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ الْعِبْرَةُ بِمَا تَمَّ بِهِ الزَّرْعُ وَلَوْ كَانَ أَقَلَّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مسلم والنسائي وقال النسائي ورواه بن جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ
قَوْلُهُ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ غَيْرَ عَمْرِو بْنِ الحارث وحديث بن جُرَيْجٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ وَإِنْ كَانَ عَمْرٌو أَحْفَظَ مِنْهُ وَعَمْرٌو مِنَ الْحُفَّاظِ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ انتهى
وإذا كان عمرو أحفظ من بن جُرَيْجٍ وَقَدْ رَفَعَهُ فَالرَّفْعُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَكَأَنَّ حَدِيثَ عَمْرٍو أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1598] (الْكَبُوسُ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ كَبَسْتُ النَّهْرَ وَالْبِئْرَ كَبْسًا طَمَمْتُهُمَا بِالتُّرَابِ وَاسْمُ ذَلِكَ(4/340)
التُّرَابِ كِبْسٌ بِالْكَسْرِ
انْتَهَى
وَفِي اللِّسَانِ وَقَدْ كَبَسَ الْحُفْرَةَ يَكْبِسُهَا كَبْسًا طَوَاهَا بِالتُّرَابِ وَغَيْرِهِ
[1599] (وَالْبَعِيرُ مِنَ الْإِبِلِ) أَيْ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً وَإِلَّا فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ يُؤْخَذُ الشِّيَاهُ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تُؤْخَذَ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قال المنذري وأخرجه بن ماجه
2 - (بَابُ زَكَاةِ الْعَسَلِ)
[1600] (قَالَ جَاءَ هِلَالٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ) بَدَلٌ مِنْ هِلَالٍ مُتْعَانَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ (نَحْلٌ لَهُ) أَيْ لِهِلَالٍ وَالنَّحْلُ هُوَ ذُبَابُ الْعَسَلِ وَالْمُرَادُ الْعَسَلُ (يَحْمِي وَادِيًا) كَانَ فِيهِ النَّحْلُ وَمَعْنَى يَحْمِي أَيْ يَحْفَظُهُ حَتَّى لَا يَطْمَعَ فِيهِ أَحَدٌ (سَلَبَةٌ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ وَلَدٌ لِبَنِي مُتْعَانَ قَالَهُ الْبَكْرِيُّ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ (وَلِيَ) بِكَسْرِ لَامٍ مُخَفَّفَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ أَوْ مُشَدَّدَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (إن أدى) أي هلال (صح) أَيِ احْفَظْ (لَهُ) لِهِلَالٍ
وَاسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْعَسَلِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ(4/341)
أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَكَاهُ بَعْضٌ عَنْ عُمَرَ وبن عَبَّاسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشافعي
وقد حكى البخاري وبن أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْعَسَلِ شَيْءٌ مِنَ الزَّكَاةِ
وَرَوى عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا مِثْلُ مَا رَوَى عَنْهُ بَعْضٌ وَلَكِنَّهُ إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ
وذهب الشافعي ومالك وحكاه بن عبد البر عن الجمهور إلى عد وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ
وَأَشَارَ الْعِرَاقِيُّ فِي شرح الترمذي إلى أن الذي نقله بن الْمُنْذِرِ عَنِ الْجُمْهُورِ أَوْلَى مِنْ نَقْلِ التِّرْمِذِيِّ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ حَدِيثُ هِلَالٍ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَسَلِ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهَا وَحَمَى لَهُ بَدَلَ مَا أَخَذَ
وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ الْوُجُوبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ
وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ أُتِيَ بِوَقَصِ الْبَقَرِ وَالْعَسَلِ فَقَالَ مُعَاذٌ كِلَاهُمَا لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ انْتَهَى كَلَامُهُ مُخْتَصَرًا (وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُؤَدُّوا عُشُورَ النَّحْلِ فَالْعَسَلُ مَأْخُوذٌ مِنْ ذُبَابِ النَّحْلِ وَأَضَافَ الذُّبَابَ إِلَى الْغَيْثِ لِأَنَّ النَّحْلَ يَقْصِدُ مَوَاضِعَ الْقَطْرِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُشْبِ وَالْخِصْبِ (يَأْكُلُهُ مَنْ يَشَاءُ) يَعْنِي الْعَسَلَ فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعٌ إِلَى النَّحْلِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَسَلَ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ يَكُونُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ أَحَقَّ بِهِ قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ
قَالَ السِّنْدِيُّ وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ أَيْ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْكَ حِفْظُهُ لِأَنَّ الذُّبَابَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فَيَحِلُّ لِمَنْ يَأْخُذُهُ وَعُلِمَ أَنَّ الزَّكَاةَ فِيهِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى وَجْهٍ يُجْبَرُ صَاحِبُهُ عَلَى الدَّفْعِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ حِمَايَتُهُ إِلَّا بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه النسائي وأخرج بن مَاجَهْ طَرَفًا مِنْهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَلَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَلَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ كَبِيرُ شَيْءٍ
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ لَيْسَ فِي وُجُوبِ صَدَقَةِ الْعَسَلِ حَدِيثٌ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إِجْمَاعٌ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ انْتَهَى
[1601] (وَنَسَبَهُ) أَيْ نَسَبَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الْمُغِيرَةَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى الْمُغِيرَةِ هو بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ (حَدَّثَنِي أَبِي) هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ (أَنَّ شَبَابَةَ) بِفَتْحِ الشين المعجمة وببائين الْمُوَحَّدَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفُ بَطْنٍ مِنْ فَهْمٍ نَزَلُوا السَّرَاةَ أَوِ الطَّائِفَ
قَالَ فِي الْمُغْرِبِ بَنُو شَبَابَةَ قَوْمٌ بِالطَّائِفِ مِنْ خَثْعَمَ كَانُوا(4/342)
يَتَّخِذُونَ النَّحْلَ حَتَّى نُسِبَ إِلَيْهِمُ الْعَسَلُ فَقِيلَ عَسَلٌ شَبَابِيٌّ انْتَهَى (وَقَالَ) أَيْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ فِي رِوَايَتِهِ (سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ) مَكَانَ سُفْيَانَ بْنِ وَهْبٍ وَتَابَعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ كَمَا يَجِيءُ مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ
وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ الْمِصْرِيُّ فَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ وَالصَّحِيحُ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ وَهُوَ الطَّائِفِيُّ الصَّحَابِيُّ وَكَانَ عَامِلَ عُمَرَ عَلَى الطَّائِفِ (يَحْمِي) مِنَ التَّفْعِيلِ (وَادِيَيْنِ) بِالتَّثْنِيَةِ وَيَجِيءُ تَمَامُ الْحَدِيثِ (وَحَمَى) مِنَ التَّفْعِيلِ أَيْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ (وَادِيَيْهِمْ) بِالتَّثْنِيَةِ
[1602] (أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ حدثنا بن وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ بَنِي شَبَابَةَ بَطْنٌ مِنْ فَهْمٍ كَانُوا يُؤَدُّونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَحْلٍ كَانَ لَهُمُ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ وَكَانَ يَحْمِي وَادِيَيْنِ لَهُمْ فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَعْمَلَ عَلَى مَا هُنَاكَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوا أَنْ يُؤَدُّوا إِلَيْهِ شَيْئًا
وَقَالُوا إِنَّمَا كُنَّا نُؤَدِّيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ سُفْيَانُ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ إنما النحل ذباب غيث يسوقه الله عزوجل رِزْقًا إِلَى مَنْ يَشَاءُ فَإِنْ أَدُّوا إِلَيْكَ مَا كَانُوا يُؤَدُّونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمِ لَهُمْ أَوْدِيَتَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَأَدُّوا إِلَيْهِ مَا كَانُوا يُؤَدُّونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَى لَهُمْ أَوْدِيَتَهُمْ وَأَخْرَجَ أَيْضًا بن الْجَارُودِ فِي الْمُنْتَقَى أَخْبَرَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ أن بن وَهْبٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ مُخْتَصَرًا
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ
كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ شَرْحِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ
3 - (بَابٌ فِي خَرْصِ الْعِنَبِ)
[1603] (النَّاقِطُ) قَالَ فِي التْقَرِيبِ النَّاقِدُ وَيُقَالُ بِالطَّاءِ بَدَلُ الدَّالِ مَقْبُولٌ مِنَ الْعَاشِرَةِ
(عَتَّابٌ(4/343)
بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ آخِرُهُ موحدة (بن أَسِيدٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ (أَنْ يَخْرُصَ الْعِنَبَ كَمَا يَخْرُصُ النَّخْلَ) أَيْ يُحْرِزَ وَيُخَمِّنَ الْعِنَبَ (زَكَاتُهُ) أَيِ المخروص قال بن الْمَلَكِ أَيْ إِذَا ظَهَرَ فِي الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ حَلَاوَةٌ يُقَدِّرُ الْخَارِصُ أَنَّ هَذَا الْعِنَبَ إِذَا صَارَ زَبِيبًا كَمْ يَكُونُ فَهُوَ حَدُّ الزَّكَاةِ إِنْ بَلَغَ نِصَابًا انْتَهَى
وَقَالَ فِي السُّبُلِ وَصِفَةُ الْخَرْصِ أَنْ يَطُوفَ بِالشَّجَرِ وَيَرَى جَمِيعَ ثَمَرَتِهَا وَيَقُولَ خَرْصُهَا كَذَا وَكَذَا رَطْبًا وَيَجِيءُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا يَابِسًا
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِخَرْصِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ قِيلَ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ وَإِحَاطَةُ النَّظَرِ بِهِ وَقِيلَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَحَلِّ النَّصِّ وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِعَدَمِ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ وَيَكْفِي فِيهِ خَارِصٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَقْبَلُ خَبَرَهُ عَارِفٌ لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الاجتهاد فيه لأنه صلى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ وَحْدَهُ يَخْرُصُ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ وَلِأَنَّهُ كَالْحَاكِمِ يَجْتَهِدُ وَيَعْمَلُ فَإِنْ أَصَابَتِ الثَّمَرَةَ جَائِحَةٌ بَعْدَ الخرص فقال بن عَبْدِ الْبَرِّ أَجْمَعَ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ أَنَّ الْمَخْرُوصَ إِذَا أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ قَبْلَ الْجِدَادِ فَلَا ضَمَانَ
وَفَائِدَةُ الْخَرْصِ أَمْنُ الْخِيَانَةِ مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فِي دَعْوَى النَّقْصِ بَعْدَ الْخَرْصِ وَضَبْطُ حَقِّ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْمَالِكِ وَمُطَالَبَةُ الْمُصَدِّقِ بِقَدْرِ مَا خَرَصَهُ وَانْتِفَاعُ الْمَالِكِ بِالْأَكْلِ وَنَحْوِهِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
وقد روى بن جريج هذا الحديث عن بن شِهَابِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ
وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا يَعْنِي الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ حَدِيثُ بن جُرَيْجٍ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَصَحُّ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ وَمَا ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ جِدًّا فَإِنَّ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ تُوُفِّيَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَمَوْلِدُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ كَانَ مَوْلِدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى كلام المنذري(4/344)
14 - (بَاب فِي الْخَرْصِ)
[1605] بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَقَدْ تُكْسَرُ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا صَادٌ مُهْمَلَةٌ هُوَ حِرْزُ مَا عَلَى النَّخْلِ مِنْ تَمْرٍ لِيُحْصَى عَلَى مَالِهِ وَيُعْرَفَ مِقْدَارُ عُشْرِهِ فَيُثْبِتُ عَلَى مَالِكِهِ وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّمَرِ قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
وَالْبَابُ الْأَوَّلُ كَانَ خَاصًّا فِيِ خَرْصِ الْعِنَبِ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ التَّمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُكَالُ وَيُوزَنُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(إِذَا خَرَصْتُمْ) الْخَرْصُ تَقْدِيرُ مَا عَلَى النَّخْلِ مِنَ الرُّطَبِ ثَمَرًا وَمَا عَلَى الْكَرْمِ مِنَ الْعِنَبِ زَبِيبًا لِيُعْرَفَ مِقْدَارُ عُشْرِهِ ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِهِ وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ وَقْتَ قَطْعِ الثِّمَارِ وَفَائِدَةُ التَّوْسِعَةِ عَلَى أَرْبَابِ الثِّمَارِ فِي التَّنَاوُلِ مِنْهَا وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَرِدُ عَلَيْهِ قَالَ الطِّيبِيُّ وَجَوَازُ الْخَرْصِ هُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيِّ وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وعند أصحاب الرأي لاعبرة بِالْخَرْصِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الرِّبَا وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِيهِ كَانَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَيَرُدُّهُ حَدِيثُ عَتَّابٍ فَإِنَّهُ أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَتَحْرِيمُ الرِّبَا كَانَ مُقَدَّمًا انْتَهَى
(فَجُذُّوا) بِالْجِيمِ ثُمَّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ كَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْكِتَابِ هُوَ أَمْرٌ مِنَ الْجَذِّ وَهُوَ الْقَطْعُ وَالْكَسْرُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَحُذُّوا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ مِنْ رواية أبي داود
قال بن الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ الْجَذُّ التَّقْدِيرُ وَالْقَطْعُ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَجُدُّوا بِالْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى الْقَطْعَ
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَخُذُوا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْأَخْذِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ
فَالْمَعْنَى فَخُذُوا أَيْ زَكَاةَ الْمَخْرُوصِ إِنْ سَلِمَ الْمَخْرُوصُ مِنَ الْآفَةِ
قَالَ الطِّيبِيُّ فَخُذُوا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ وَدَعُوا عَطْفٌ عَلَيْهِ أَيْ إِذَا خَرَصْتُمْ فَبَيِّنُوا مِقْدَارَ الزَّكَاةِ ثُمَّ خُذُوا ثُلُثَيْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ وَاتْرُكُوا الثُّلُثَ لِصَاحِبِ الْمَالِ حَتَّى يَتَصَدَّقَ بِهِ (وَدَعُوا الثُّلُثَ) أَيْ مِنَ الْقَدْرِ الَّذِي قَرَّرْتُمْ بِالْخَرْصِ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَتْرُكَ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبْعَ مِنَ الْعُشْرِ وَثَانِيهِمَا أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُعَشَّرَ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ مَعْنَاهُ أَنْ يَدَعَ ثُلُثَ الزَّكَاةِ أَوْ رُبُعَهَا لِيُفَرِّقَهَا هُوَ بِنَفْسِهِ عَلَى أَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ
وَقَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي قَالَ بِظَاهِرِهِ اللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ وَفَهِمَ مِنْهُ(4/345)
أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ بِحَسَبِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ فَقَالَ يَتْرُكُ قَدْرَ احْتِيَاجِهِمْ
وَقَالَ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ لَا يُتْرَكُ لَهُمْ شَيْءٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
5 - (بَابُ مَتَى يُخْرَصُ التَّمْرُ)
[1606] (يَبْعَثُ) أَيْ يُرْسِلُ (إِلَى يَهُودٍ) أَيْ فِي خَيْبَرَ (فَيَخْرُصُ النَّخْلَ) بِضَمِّ الرَّاءِ أَيْ يُحْرِزُهَا (حِينَ يَطِيبُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ أَيْ يَظْهَرُ فِي الثِّمَارِ الْحَلَاوَةُ (قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ) هذا الحديث فيه واسطة بين بن جُرَيْجٍ وَالزُّهْرِيِّ وَلَمْ يُعْرَفْ وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِدُونِ الْوَاسِطَةِ المذكورة
وبن جُرَيْجٍ مُدَلِّسٌ وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلَافَ فِيهِ فَقَالَ رَوَاهُ صَالِحٌ عَنْ أَبِي الْأَخْضَرِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَرْسَلَهُ مَعْمَرٌ وَمَالِكٌ وَعُقَيْلٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَبَا هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ الْمُؤَلِّفُ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَكِنْ أَخْرَجَ هُوَ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ
6 - (بَاب مَا لَا يَجُوزُ مِنْ الثَّمَرَةِ فِي الصَّدَقَةِ)
[1607] (الْجُعْرُورُ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا قَالَ فِي الْقَامُوسِ هُوَ تَمْرٌ رَدِيءٌ (وَلَوْنُ الْحُبَيْقِ) بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَهَا قَافٌ كَزُبَيْرٍ تَمْرٌ دَقَلٌ وَنَوْعٌ رَدِيءٌ من التمر منسوب إلى بن أَبِي حُبَيْقٍ اسْمِ رَجُلٍ(4/346)
(لَوْنَيْنِ) أَيْ نَوْعَيْنِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَالِكٍ أَنْ يُخْرِجَ الرَّدِيءَ عَنِ الْجَيِّدِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ نَصًّا فِي التَّمْرِ وَقِيَاسًا فِي سَائِرِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُصَدِّقِ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ (أَسْنَدَهُ أَيْضًا أَبُو الْوَلِيدِ) كَمَا أَسْنَدَهُ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ
وَكَذَا أَسْنَدَهُ عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ حُمَيْدٍ الْيَحْصُبِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرِوَايَتَهُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَسْنَدُوا الحديث عن إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَّا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَجَعَلَهُ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ وَرِوَايَتِهِ فِي الْمُوَطَّأِ
[1608] (أَبِي عَرِيبٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ (وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ) وَكَانُوا يُعَلِّقُونَ فِي الْمَسْجِدِ لِيَأْكُلَ مِنْهُ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ (قَنَا حَشَفًا) الْقَنَا بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ مَقْصُورٌ وَهُوَ الْعِذْقُ بِمَا فِيهِ مِنَ الرُّطَبِ وَالْحَشَفُ بِفَتْحَتَيْنِ هُوَ الْيَابِسُ الْفَاسِدُ مِنَ التَّمْرِ وَالْقِنْوُ بِكَسْرِ الْقَافِ أَوْ ضَمِّهَا وَسُكُونِ النُّونِ مِثْلُهُ وَقِنْوَانٌ وَأَقْنَاءُ جَمْعُهُ وَبِالْفَارِسِيَّةِ خوشه خرما فَطَعَنَ فِي الْقَامُوسِ طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ كَمَنَعَ وَنَصَرَ ضَرَبَهُ (يَأْكُلُ الْحَشَفَ) أَيْ جَزَاءَ حَشَفٍ فَسَمَّى الْجَزَاءَ بِاسْمِ الْأَصْلِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجْعَلَ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ وَيَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الرَّجُلِ شِهَاءَ الْحَشَفِ فَيَأْكُلُهُ
قَالَهُ السندي قال المنذري وأخرجه النسائي وبن ماجه(4/347)
(بَاب زَكَاةِ الْفِطْرِ)
[1609] أَيْ صَدَقَةِ فِطْرٍ
(وَكَانَ) أَبُو يَزِيدَ (شَيْخَ صِدْقٍ) بِإِضَافَةِ الشَّيْخِ إِلَى صدق (وكان بن وَهْبٍ يَرْوِي عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي يَزِيدَ إلى ها هنا مَقُولَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهَذَا تَوْثِيقٌ مِنْهُ لِأَبِي يَزِيدَ (قَالَ مَحْمُودٌ) فِي رِوَايَتِهِ (الصَّدَفِيُّ) بِمُهْمَلَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ أَيْ قَالَ مَحْمُودٌ فِي رِوَايَتِهِ سَيَّارُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّدَفِيُّ وَلَمْ يَقُلِ الصَّدَفِيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (طُهْرَةً) أَيْ تَطْهِيرًا لِنَفْسِ مَنْ صَامَ رمضان (من اللغو) وهو مالا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ مِنَ الْقَوْلِ (وَالرَّفَثِ) قَالَ بن الْأَثِيرِ الرَّفَثُ هُنَا هُوَ الْفُحْشُ مِنْ كَلَامٍ (وَطُعْمَةً) بِضَمِّ الطَّاءِ وَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يُؤْكَلُ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَةَ تُصْرَفُ فِي الْمَسَاكِينِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ (مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ) أَيْ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ (فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ) الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ (صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ) يَعْنِي الَّتِي يُتَصَدَّقُ بِهَا فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَأَمْرُ الْقَبُولِ فِيهَا مَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ الْفِطْرَةَ بَعْدَ صَلَاةِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يُخْرِجْهَا بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي تَرْكِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ
وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ إِخْرَاجَهَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فقط وجزموا بأنها تجزىء إلى آخر(5/3)
يَوْمِ الْفِطْرِ وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَأَمّا تَأْخِيرُهَا عن يوم العيد
فقال بن رَسْلَانَ إِنَّهُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي تَأْخِيرِهَا إِثْمٌ كَمَا فِي إِخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ بن مَاجَهْ
8 - (بَاب مَتَى تُؤَدَّى)
[1610] (قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصلاة) قال بن التِّينِ أَيْ قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى صَلَاةِ العيد وبعد صلاة الفجر
قال بن عُيَيْنَةَ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ يُقَدِّمُ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ بَيْنَ يَدَيْ صَلَاتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ ربه فصلى وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ
وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ التَّقَيُّدَ بِقَبْلِ صَلَاةِ الْعِيدِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ لِصِدْقِ الْيَوْمِ عَلَى جَمِيعِ النَّهَارِ
وَقَدْ رواه أبو معشر عن نافع عن بن عُمَرَ بِلَفْظِ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَهَا قَبْلَ أَنْ نُصَلِّيَ فَإِذَا انْصَرَفَ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ وَقَالَ أَغْنُوهُمْ عَنِ الطَّلَبِ
أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ولكن أبو معشر ضعيف
وهم بن الْعَرَبِيِّ فِي عَزْوِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِمُسْلِمٍ
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى كَرَاهَةِ تَأْخِيرِهَا عَنِ الصَّلَاةِ وحمله بن حَزْمٍ عَلَى التَّحْرِيمِ (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ يَوْمَ الْفِطْرِ (بِالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الْفِطْرَةِ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ وَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَوَّلِ رَمَضَانَ وَمِثْلَهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَقَالَ أَحْمَدُ لَا تُقَدَّمُ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهَا إِلَّا كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَجُوزُ التَّعْجِيلُ مُطْلَقًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ فعل بن عُمَرَ
9 - (بَاب كَمْ يُؤَدَّى فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ)
[1611] (وَقَرَأَهُ عَلَى مَالِكٍ أَيْضًا) الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ مَالِكًا حَدَّثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْلَمَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى مَالِكٍ الْإِمَامِ كَمَا كَانَ دَأْبُ مَالِكٍ وَتَمَّ حَدِيثُهُ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ(5/4)
رسول الله فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ وَمَرَّةً قَرَأَ مَالِكٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ لَكِنْ زَادَ مَالِكٌ فِي مَرَّةٍ أُخْرَى عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى
فَلَفْظُ مالك في الموطأ عن نافع عن بن عمر أن رسول الله فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَى (فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مِنَ الفرائض
وقد نقل بن الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ بِالْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ
قَالُوا إِذْ لَا دَلِيلَ قَاطِعٌ تَثْبُتُ بِهِ الْفَرْضِيَّةُ
قَالَ الْحَافِظُ وفي نقل الإجماع نظر لأن إبراهيم بن عُلَيَّةَ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ كَيْسَانَ الْأَصَمَّ قَالَا إِنَّ وُجُوبَهَا نُسِخَ وَاسْتُدِلَّ لَهُمَا بِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَانَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ
قَالَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا مَجْهُولًا وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى النَّسْخِ لِاحْتِمَالِ الِاكْتِفَاءِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضِ الْوَاجِبِ سُقُوطُ فَرْضٍ آخَرَ
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى قَدْ أَفْلَحَ من تزكى نَزَلَتْ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ بن خُزَيْمَةَ (زَكَاةُ الْفِطْرِ) أُضِيفَتِ الزَّكَاةُ إِلَى الْفِطْرِ لِكَوْنِهَا تَجِبُ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ كَمَا فِي الْفَتْحِ
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِهَا غُرُوبُ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْفِطْرِ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَقِيلَ وَقْتُ وُجُوبِهَا طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحِلًّا لِلصَّوْمِ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْفِطْرُ الْحَقِيقِيُّ بِالْأَكْلِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَالثَّانِي قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاللَّيْثِ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ مَالِكٍ (صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ) الصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ كَافَّةً وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةِ
وَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ إِلَى أَنَّ الصَّاعَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ مَبْسُوطًا فِي بَابِ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يُجْزِئُ بِهِ الْغُسْلُ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ
(قَالَ الطِّيبِيُّ) دَلَّ عَلَى أَنَّ النِّصَابَ ليس بشرط
قال القارىء أَيْ لِلْإِطْلَاقِ وَإِلَّا فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا
فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ إِذَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ لِيَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ قَدْرُ صدقة الفطر(5/5)
أَقُولُ وَهَذَا تَقْدِيرُ نِصَابٍ كَمَا لَا يَخْفَى إِلَّا أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَيَّدُوا هَذَا الْإِطْلَاقَ بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ تُفِيدُ التَّقْيِيدَ بِالْغِنَى وَصَرَفُوهُ إِلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَالْعُرْفِيِّ وَهُوَ مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ انْتَهَى (عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ) ظَاهِرُهُ وُجُوبُهَا عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهُ يَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ ظَاهِرُهُ إِلْزَامُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فَيَلْزَمُ السَّيِّدَ إِخْرَاجُهُ عَنْهُ
وَقَالَ دَاوُدُ لَازِمٌ لِلْعَبْدِ وَعَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ الْكَسْبِ حَتَّى يَكْسَبَ فَيُؤَدِّيَهُ
(مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُزَكِّي عَنْ عَبِيدِهِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا لِلتِّجَارَةِ أَوِ الْخِدْمَةِ لِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ شَمَلَهُمْ كُلَّهُمْ وَفِيهِ وُجُوبُهَا عَلَى الصَّغِيرِ مِنْهُمْ وَالْكَبِيرِ وَالْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ وَكَذَلِكَ الْآبِقِ مِنْهُمْ وَالْمَرْهُونِ وَالْمَغْصُوبِ وَفِي كُلِّ مَنْ أُضِيفَ إِلَى مِلْكِهِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَكِّي عَنْ عَبِيدِهِ الْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَيَّدَهُ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَبْدَهُ الذِّمِّيَّ لَا يَلْزَمُهُ وَهُوَ قول مالك والشافعي وأحمد وبن حَنْبَلٍ
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يُؤَدِّي عَبْدُهُ الذِّمِّيُّ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِخْرَاجَ أَقَلِّ مِنْ صَاعٍ لَا يُجْزِئُ وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ وَهُمَا قُوتُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَقِيَاسُ مَا يَقْتَاتُونَهُ مِنَ الْبُرِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْوَاتٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا يجزيه مِنَ الْبُرِّ أَقَلُّ مِنْ صَاعٍ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وأصحابه والثوري يجزيه مِنَ الزَّبِيبِ نِصْفُ صَاعٍ كَالْقَمْحِ
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِخْرَاجُ نِصْفِ صَاعِ الْبُرِّ
كَذَا فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ لِلْخَطَّابِيِّ
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
[1612] (بِمَعْنَى) حَدِيثِ (مَالِكٍ) وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ نَافِعٍ عن بن عمر قال فرض رسول الله زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ(5/6)
وَالنَّسَائِيُّ (رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ) الْمُكَبَّرُ (الْعُمَرِيُّ) أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَفِيهِ ضَعْفٌ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ بلفظ فرض رسول الله صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ (رَوَاهُ سَعِيدُ) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (الْجُمَحِيُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْمِيمِ الْمُخَفَّفَةِ مَنْسُوبٌ إِلَى جُمَحَ بْنِ عُمَرَ (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) الْمُصَغَّرِ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي المستدرك بلفظ أن رسول الله فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَصَحَّحَهُ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ أَيِ الْمُصَغَّرُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَالْمَشْهُورُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) الْمُصَغَّرِ (لَيْسَ فِيهِ) فِي حَدِيثِ زَكَاةِ الْفِطْرِ لَفْظُ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي أُسَامَةَ كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُصَغَّرِ عَنْ نَافِعٍ عن بن عمر قال فرض رسول الله زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ حُرٍّ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ
وَالْمَعْنَى أَنَّ سَعِيدًا الْجُمَحِيَّ رَوَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ فِي حَدِيثِهِ لَفْظَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا غَيْرُ سَعِيدٍ مِثْلُ رُوَاةِ عُبَيْدِ اللَّهِ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي أُسَامَةَ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَبِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ وَأَبَانَ كَمَا سَيَجِيءُ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ فَلَمْ يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ لَفْظَ الْمُسْلِمِينَ
[1613] (صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أو تمر) انتصب صاعا على التميز أَوْ أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ (عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ) وُجُوبُ فِطْرَةِ الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ وَالْمُخَاطَبُ بِإِخْرَاجِهَا وليه إن كان للصغير مال ولا وَجَبَتْ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ هِيَ عَلَى الْأَبِ مُطْلَقًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى من صام
ونقل بن الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْجَنِينِ
وَكَانَ أَحْمَدُ يَسْتَحِبُّهُ وَلَا يُوجِبُهُ كَذَا في الفتح(5/7)
(زَادَ مُوسَى) بْنُ إِسْمَاعِيلَ فِي رِوَايَتِهِ (وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى) وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ مُسَدَّدٌ وَقَدْ ذَكَرَهَا أَيْضًا عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عن نافع عن بن عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ
قَالَ الْحَافِظُ ظَاهِرُهُ وُجُوبُهَا عَلَى الْمَرْأَةِ سَوَاءً كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَمْ لا وبه قال الثوري وأبو حنيفة وبن الْمُنْذِرِ
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا تَبَعًا لِلنَّفَقَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (قَالَ فِيهِ أَيُّوبُ) السَّخْتِيَانِيُّ (وَعَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي الْعُمَرِيُّ فِي حَدِيثِهِمَا) أَيْ كَمَا زَادَ عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ نَافِعٍ جُمْلَةَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَذَا زَادَهَا أَيُّوبُ وَعَبْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ أَيْضًا وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَرِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي سُنَنِهِ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو قلابة الرقاشي ومحمد بن وضاح وتبعهم بن الصَّلَاحِ وَمَنْ تَبِعَهُ إِنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دُونَ أَصْحَابِ نَافِعٍ وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ بن عَبْدِ الْبَرِّ فَقَالَ كُلُّ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ قَالُوا فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَحْدَهُ فَلَمْ يَقُلْهَا
قَالَ وَأَخْطَأَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ مَالِكًا تَفَرَّدَ بِهَا فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا جَمَاعَةٌ عَنْ نَافِعٍ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَكَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَاكِمِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَيْ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَاكِمِ وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ فِي مُشْكِلِ الْآثَارِ وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ عند الشيخين والدارقطني وبن خزيمة
زاد الحافظ بن حَجَرٍ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ وَعَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فِي زِيَادَتِهِمَا وَالضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ والمعلى بن إسماعيل عند بن حبان وبن أبي ليلى عند الدارقطني وبن الجارود قال الحافظ وذكر شيخنا بن الْمُلَقِّنِ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ بِالزِّيَادَةِ
وَقَدْ تَتَبَّعْتُ تَصَانِيفَ الْبَيْهَقِيِّ فَلَمْ أَجِدْ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ رِوَايَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ انْتَهَى
قال الشيخ بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَقَدِ اشْتُهِرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهَا
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ لَيْسَ أَحَدٌ يَقُولُ فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَالِكٍ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ لَهُ زَادَ فِيهِ مَالِكٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ نَافِعٍ فَلَمْ يَقُولُوا فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَى
قَالَ فَمِنْهُمُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَحَدِيثُهُ أَيْضًا عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ كلهم يرووه عن نافع عن بن عُمَرَ فَلَمْ يَقُولُوا فِيهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ وَتَبِعَهَا عَلَى هَذِهِ(5/8)
الْمَقَالَةِ جَمَاعَةٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ
فَقَدْ تَابَعَ مَالِكًا عَلَى هَذِهِ اللَّفْظَةِ مِنَ الثِّقَاتِ سَبْعَةٌ عُمَرُ بْنُ نَافِعٍ وَالضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ وَالْمُعَلَّى بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَعَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَكَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ انْتَهَى
هَذَا كُلُّهُ مِنْ غَايَةِ الْمَقْصُودِ
[1614] (أَوْ سُلْتٍ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ نَوْعٌ مِنَ الشَّعِيرِ يُشْبِهُ الْبُرَّ
قَالَهُ السِّنْدِيُّ وَفِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ نَوْعٌ مِنَ الشَّعِيرِ وَهُوَ كَالْحِنْطَةِ فِي مَلَاسَتِهِ وَكَالشَّعِيرِ فِي بُرُودَتِهِ وَطَبْعِهِ انْتَهَى
وَفِي الصِّرَاعِ جو برهنه يَعْنِي بي بوست (مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ) أَيْ عِوَضًا مِنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ دَاوُدَ وَهُوَ ضعيف انتهى
والحديث أعله بن الجوزي بعبد العزيز وقال قال بن حِبَّانَ كَانَ يُحَدِّثُ عَنِ التَّوَهُّمِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ
وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ إِنَّمَا عَدَّلَ الْقِيمَةَ فِي الصَّاعِ مُعَاوِيَةُ فَأَمَّا عُمَرُ فَإِنَّهُ كَانَ أَشَدَّ اتِّبَاعًا لِلْأَثَرِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ انْتَهَى
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ وَعَبْدُ العزيز هذا وإن كان بن حِبَّانَ تَكَلَّمَ فِيهِ فَقَدْ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُمْ فَالْمُوَثِّقُونَ لَهُ أَعْرَفُ مِنَ الْمُضَعِّفِينَ وقد أخرج له البخاري استشهادا انْتَهَى
[1615] (فَعَدَلَ النَّاسُ) أَيْ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ مَعَهُ (مِنْ بُرٍّ) فَجَعَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ سِوَى الْحِنْطَةِ صَاعًا وَفِي الْحِنْطَةِ نصف صاع ومثله عن طاووس وبن المسيب وبن الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ ثُمَّ قَالَ فَهَذَا كُلُّ مَا رُوِّينَا فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ وَعَنْ تَابِعِيهِمْ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مِنَ الْحِنْطَةِ نِصْفُ صَاعٍ وَمَا علمنا أحدا من أصحاب رسول الله وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ إِذْ قَدْ صَارَ إِجْمَاعًا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وعمر وعثمان وعلي انتهى مختصرا
قال بن الْمُنْذِرِ لَا نَعْلَمُ فِي الْقَمْحِ خَبَرًا ثَابِتًا عن النبي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنِ الْبُرُّ(5/9)
بِالْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ فَلَمَّا كَثُرَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ رَأَوْا أَنَّ نِصْفَ صَاعٍ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ صَاعٍ مِنَ الشَّعِيرِ وَهُمُ الْأَئِمَّةُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعْدَلَ عَنْ قَوْلِهِمْ إِلَّا إِلَى قَوْلِ مِثْلِهِمْ ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وبن عباس وبن الزُّبَيْرِ وَأُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ بِأَسَانِيدَ قَالَ الْحَافِظُ صَحِيحَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ انْتَهَى
قال الحافظ وهذا مصير من بن الْمُنْذِرِ إِلَى اخْتِيَارِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ لَكِنْ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لم يوافق على ذلك وكذلك بن عُمَرَ فَلَا إِجْمَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا لِلطَّحَاوِيِّ
وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَغَيْرِهِ
وَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ الْبُرَّ وَالزَّبِيبَ كَذَلِكَ يَجِبُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاعٌ
(فَأَعْوَزَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ أَيِ احْتَاجَ يُقَالُ أَعْوَزنِي الشَّيْءُ إِذَا احْتَجْتُ إِلَيْهِ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهِ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ أَفْضَلُ مَا يُخْرَجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَقَدْ رَوَى جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِجْلِزٍ قَالَ قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ قَدْ أَوْسَعَ اللَّهُ وَالْبُرُّ أَفْضَلُ مِنَ التَّمْرِ أَفَلَا تُعْطِي الْبُرَّ قَالَ لَا أُعْطِي إِلَّا كَمَا كَانَ يُعْطِي أَصْحَابِي
وَيُسْتَنْبَطُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْرِجُونَ مِنْ أَعْلَى الْأَصْنَافِ الَّتِي يُقْتَاتُ بِهَا لِأَنَّ التَّمْرَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ فِي حديث أبي سعيد وإن كان بن عُمَرَ فَهِمَ مِنْهُ خُصُوصِيَّةَ التَّمْرِ بِذَلِكَ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ [1616] (صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ) قَالَ الْحَافِظُ هَذَا يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الطَّعَامِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ وقد حكى الخطابي أن المراد بالطعام ها هنا الْحِنْطَةُ وَأَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ لَهُ
قَالَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ الشَّعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَاتِ وَالْحِنْطَةُ أَعْلَاهَا فَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَهَا بِذَلِكَ لَكَانَ ذِكْرُهَا عِنْدَ التَّفْصِيلِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَقْوَاتِ وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهَا بِحَرْفٍ أَوِ الْفَاصِلَةِ وَقَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ وَقَدْ كَانَتْ لَفْظَةُ الطَّعَامِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحِنْطَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَتَّى إِذَا قِيلَ اذْهَبْ إِلَى سُوقِ الطَّعَامِ فَهُوَ مِنْهُ سُوقُ الْقَمْحِ وَإِذَا غَلَبَ الْعُرْفُ نَزَلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا(5/10)
غَلَبَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ كَانَ خُطُورُهُ عِنْدَ الإطلاق أقرب انتهى
وقد رد ذلك بن الْمُنْذِرِ وَقَالَ ظَنَّ أَصْحَابُنَا أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ حِنْطَةً وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَجْمَلَ الطَّعَامَ ثُمَّ فَسَّرَهُ ثُمَّ أَوْرَدَ طَرِيقَ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ كُنَّا نُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرَ وَالزَّبِيبَ وَالْأَقِطَ وَالتَّمْرَ وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِيمَا قَالَ
وَأَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ نَحْوَهُ من طريق أخرى
وأخرج بن خزيمة والحاكم في صحيحهما أن أبا سعيد قال ما ذَكَرُوا عِنْدَهُ صَدَقَةَ رَمَضَانَ لَا أُخْرِجُ إِلَّا مَا كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَاعَ تَمْرٍ أَوْ صَاعَ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعَ شَعِيرٍ أَوْ صَاعَ أَقِطٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ فَقَالَ لَا تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أعمل بها
قال بن خُزَيْمَةَ ذِكْرُ الْحِنْطَةِ فِي خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَلَا أَدْرِي مِمَّنِ الْوَهْمُ (أَنَّ مُدَّيْنِ) الْمُدُّ رُبْعُ الصَّاعِ (مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ وَبِالْمَدِّ هِيَ الْقَمْحُ الشَّامِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه مطولا ومختصرا (رواه بن عُلَيَّةَ) هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعُلَيَّةُ هِيَ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ (وَعَبْدَةُ) بْنُ سُلَيْمَانَ الْكِلَابِيُّ (وَغَيْرُهُمَا) كَأَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ الْوَهْبِيِّ وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِمَعْنَاهُ) وَوَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ إِلَى بن عُلَيَّةَ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عن بن علية عن بن إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَذُكِرَ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَقَالَ لَا أُخْرِجُ إِلَّا مَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ فِي عَهْدِ رسول الله صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ فَقَالَ لَا تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أَعْمَلُ بِهَا وَصَحَّحَهُ (وَذَكَرَ رَجُلٌ وَاحِدٌ) وَهُوَ يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ وَرِوَايَتُهُ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ (فِيهِ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ (أَوْ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ) وَلَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَعَبْدُ الْمَلِكِ قَالَا أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ حدثنا بن عُلَيَّةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الله بن(5/11)
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَذَكَرُوا عِنْدهُ صَدَقَةَ رَمَضَانَ فَقَالَ لَا أُخْرِجُ إِلَّا مَا كُنْتُ أخرج على عهد رسول الله صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ قَالَ لَا تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أَعْمَلُ بِهَا (وَلَيْسَ بمحفوظ) قال الشيخ تقي الدين قال بن خُزَيْمَةَ وَذِكْرُ الْحِنْطَةِ فِي هَذَا الْخَبَرِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَلَا أَدْرِي مِمَّنِ الْوَهْمِ
وَقَوْلُ الرَّجُلِ أَوْ مُدَّيْنِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْحِنْطَةِ فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ خَطَأٌ وَوَهْمٌ إِذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ مَعْنًى انْتَهَى
[1617] (أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ) هُوَ بن عُلَيَّةَ الْمَذْكُورُ (لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْحِنْطَةِ) وَاعْلَمْ أن المؤلف أورد قبل ذلك رواية بن علية معلقا ثم أورد ها هنا متصلا بذكر مسدد عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ (قَدْ ذَكَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ) الْأَزْدِيُّ الْكُوفِيُّ هُوَ شَيْخُ شَيْخِ أَبِي دَاوُدَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ أَبُو دَاوُدَ رَوَى مُعَاوِيَةُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ وَرَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ (أَوْ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ) عَنْ مُعَاوِيَةَ وَالْمَحْفُوظُ مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن شبية حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنَّا نُعْطِي زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ
[1618] (أَخْبَرَنَا يحيى) أي بن سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَكِلَاهُمَا أَيْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ويحيى القطان يروي عن بن عَجْلَانَ (أَوْ أَقِطٍ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ لَبَنٌ يَابِسٌ غَيْرُ مَنْزُوعِ الزَّبَدِ
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ يُتَّخَذُ مِنَ اللَّبَنِ الْمَخِيضِ يُطْبَخُ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَتَّصِلَ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِجْزَائِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّهُ غَيْرَ مُقْتَاتٍ وَبِهِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَّا أَنَّهُ أَجَازَ إِخْرَاجَهُ بَدَلًا عَنِ الْقِيمَةِ عَلَى قَاعِدَتِهِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ يُجْزِئُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ الرَّاجِحُ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَلِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُ مَعَ عَدَمِ وِجْدَانِ غَيْرِهِ
وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ دُونَ أَهْلِ الْحَاضِرَةِ فَلَا يُجْزِئُ عَنْهُمْ بِلَا خِلَافٍ وَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ فَقَالَ قَطَعَ الجمهور بأن(5/12)
الْخِلَافَ فِي الْجَمِيعِ (هَذَا حَدِيثُ يَحْيَى) الْقَطَّانُ (زاد سفيان) بن عُيَيْنَةَ فِي رِوَايَتِهِ (أَوْ صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ) وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ يَزِيدَ حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا بن عَجِلَانَ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ مَا أَخْرَجْنَا على عهد رسول الله إِلَّا صَاعًا مِنْ دَقِيقٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ سُلْتٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ المديني وهو معنا ياأبا مُحَمَّدٍ أَحَدٌ لَا يَذْكُرُ فِي هَذَا الدَّقِيقَ قَالَ بَلَى هُوَ فِيهِ انْتَهَى
وَقَدْ جَاءَ ذكر الدقيق في حديث آخر أخرج بن خزيمة من حديث بن عباس قال أمر رسول الله أَنْ تُؤَدَّى زَكَاةُ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ مِنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ مَنْ أَدَّى سُلْتًا قُبِلَ مِنْهُ وَأَحْسَبُهُ قَالَ مَنْ أَدَّى دَقِيقًا قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ أَدَّى سَوِيقًا قُبِلَ منه ورواه الدارقطني ولكن قال بن أَبِي حَاتِمٍ سَأَلْتُ أَبِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فقال منكر لأن بن سيرين لم يسمع من بن عَبَّاسٍ وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ إِخْرَاجِ الدَّقِيقِ كَمَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ السَّوِيقِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ (قَالَ حَامِدُ) بْنُ يَحْيَى (فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ) أي على بن عُيَيْنَةَ (الدَّقِيقَ) أَيْ زِيَادَةَ لَفْظِ الدَّقِيقِ (فَتَرَكَهُ سُفْيَانُ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عن بن عَجْلَانَ مِنْهُمْ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ وَحَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ وَغَيْرُهُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ الدَّقِيقَ غَيْرَ سُفْيَانَ وَقَدْ أنكر عليه فتركه وروى عن بن سيرين عن بن عَبَّاسٍ مُرْسَلًا مَوْقُوفًا عَلَى طَرِيقِ التَّوَهُّمِ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ انْتَهَى
كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
0 - (بَاب مَنْ رَوَى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ)
[1619] بِفَتْحِ الْقَافِ الْحِنْطَةِ
(الْعَتَكِيُّ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ ثُمَّ التَّاءُ الْفَوْقَانِيَّةُ الْمَفْتُوحَةُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَتَكِ بْنِ أزد (ثعلبة بن أبي صعير) أو بن صُعَيْرٍ بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّرٌ الْعُذْرِيِّ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَيُقَالُ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُعَيْرٍ وَيُقَالُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صعير مختلف(5/13)
فِي صُحْبَتِهِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ
وَقَالَ فِي حَرْفِ الْعَيْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صعير ويقال بن أَبِي صُعَيْرٍ لَهُ رِوَايَةٌ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ سَمَاعٌ انْتَهَى (عَنْ أَبِيهِ) أَوْرَدَ الذَّهَبِيُّ فِي الْكَاشِفِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ بِلَا لَفْظِ أَبِي وَكَذَا أَوْرَدَهُ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِ الْكَمَالِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بن صعير ويقال بن أَبِي صُعَيْرٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ الشَّاعِرُ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ وَيُقَالُ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُعَيْرٍ وَأُمُّهُ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَهَ وَرَأَسَهُ زَمَنَ الْفَتْحِ وَدَعَا لَهُ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَبِيهِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ (صَاعٌ مِنْ بُرٍّ) أَيِ الْفِطْرَةُ صَاعٌ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مِنْ بُرٍّ (أَوْ قَمْحٍ) أَيِ الْحِنْطَةِ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (أَمَّا غَنِيُّكُمْ) أَيْ فَرْضُهَا عَلَيْهِ (فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ) التَّزْكِيَةُ بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ أَوِ التَّنْمِيَةِ أَيْ يُطَهِّرُ حَالَهُ وَيُنَمِّي مَالَهُ وَأَعْمَالَهُ بِسَبَبِهَا (وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ) أَيْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَكَابِرِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَمَنْ مَلَكَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ زِيَادَةً عَلَى قُوتِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ لِيَوْمِ الْعِيدِ وَلَيْلَتِهِ (مِمَّا أَعْطَاهُ) أَيْ هُوَ الْمَسَاكِينَ
وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِمَنْ يَكُونُ قَلِيلَ الْمَالِ بِوَعْدِ الْعِوَضِ وَالْخَلَفِ فِي الْمَالِ (فِي حَدِيثِهِ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ) أَيْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ انْتَهَى قُلْتُ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ قال معاوية عن بن مَعِينٍ ضَعِيفٌ وَقَالَ الْعَبَّاسُ عَنْهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ أَحْمَدُ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي حديثه وهم كثيرا وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صَدُوقٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ بِهِ مَرْفُوعًا أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ الْحَدِيثَ ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بن زيد عن النعمان بن راشد به مَرْفُوعًا بِلَفْظِ أَدُّوا عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ صَاعًا مِنْ بُرٍّ عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الْحَدِيثَ
ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَدُّوا صَاعًا مِنْ قَمْحٍ أَوْ قَالَ مِنْ بُرٍّ عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الْحَدِيثَ
ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ مُسَدَّدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ صَغِيرٍ أو كبير(5/14)
[1620] (الدَّارَبِجِرْدِيُّ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْجِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ نِسْبَةً إِلَى دَارِ أَبِجِرْدَ مَحَلَّةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالصَّحْرَاءِ فِي أَعْلَى نَيْسَابُورَ (هُوَ) أَيْ بَكْرٌ الْكُوفِيُّ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ المنذري وهذا مرسل (زاد علي) أي بن الْحَسَنِ (ثُمَّ اتَّفَقَا) أَيْ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَامَ خَطِيبًا فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ أَوْ صَاعَ قَمْحٍ
[1621] (أَنْبَأَنَا بن جريج قال) أي بن جريج (وقال بن شِهَابٍ) الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ) بِالْجَزْمِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي اسْمِهِ وَفِي رِوَايَةِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ وَبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ بِالشَّكِّ (قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ) شَيْخُ الْمُؤَلِّفِ (قَالَ) عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي نِسْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ إِنَّهُ (الْعَدَوِيُّ) نِسْبَةً إِلَى عَدِيٍّ (وَإِنَّمَا هُوَ) أَيْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ (الْعُذْرِيُّ) نِسْبَةً إِلَى عُذْرَةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الغساني في تقييد المهمل العذري بضم الذال الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَالْعَدَوِيُّ تَصْحِيفٌ انْتَهَى (خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَلَفْظُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي مصنفه أخبرنا بن جريج عن بن شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَقَالَ أَدُّوا صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ(5/15)
صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ عَنْ كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ (بِمَعْنَى حَدِيثِ الْمُقْرِئِ) الْمَكِّيِّ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سنة والمقرىء هَذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ شَيْخُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الدَّارَبِجِرْدِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ
قَالَ الْإِمَامُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ هَذَا حَدِيثٌ اخْتُلِفَ فِي إِسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ أَمَّا سَنَدُهُ فَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ فَرَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْهُ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ وَرَوَاهُ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أبي صعير وقيل عن بن عيينة عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقِيلَ عَنْ عُقَيْلٍ وَيُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَمَّا اخْتِلَافُ مَتْنِهِ فَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ صَاعٌ مِنْ قَمْحٍ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ صَاعٌ مِنْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ
وَفِي حَدِيثِ الْبَاقِينَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ قَالَ وَأَصَحُّهَا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا انْتَهَى
قَالَ بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَحَاصِلُ مَا يُعَلَّلُ بِهِ هَذَا الْحَدِيثُ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا الِاخْتِلَافُ فِي اسْمِ أَبِي صُعَيْرٍ وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ الِاخْتِلَافُ فِيُ اللَّفْظِ
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ إِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَإِنَّمَا هُوَ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ أَوْ كُلِّ إِنْسَانٍ هَكَذَا رِوَايَةُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ لَمْ يُقِمِ الْحَدِيثَ غَيْرُهُ قَدْ أصاب الإسناد والمتن
قال بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحَرَّفَ رَأْسٌ إِلَى اثْنَيْنِ وَلَكِنْ يُبْعِدُ هَذَا بَعْضُ الرِّوَايَاتِ كَالرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا صَاعُ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ بَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ انْتَهَى
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا حُجَّةٌ لِمَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ نِصْفَ صَاعٍ مِنَ الْبُرِّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الطِّفْلِ كَوُجُوبِهَا عَلَى الْبَالِغِ وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهَا تَلْزَمُ الْفَقِيرَ إِذَا وَجَدَ مَا يُؤَدِّيهِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهُ فَقَدْ أَوْجَبَ أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْ نَفْسِهِ مَعَ إِجَازَتِهِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ صَدَقَةَ غَيْرِهِ انْتَهَى
[1622] (قَالَ) أَيْ سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ (حُمَيْدٌ) هُوَ الطَّوِيلُ (أَخْبَرَنَا) بِصِيغَةِ الْمَعْرُوفِ وَفَاعِلُ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ وَحَقُّ الْعِبَارَةِ قَالَ سَهْلٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ مِثْلَهُ
وَفِي لَفْظٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنِ الْحَسَنِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ أَخْبَرَنَا بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ غَلَطٌ وَاضِحٌ لِأَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وهي عدم سماع الحسن عن بن عَبَّاسٍ وَعَلَى ضَبْطِ صِيغَةِ الْمَجْهُولِ تَزِيدُ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ جَهَالَةٌ لِلْخَبَرِ عَنِ الْحَسَنِ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ الْأُخْرَى الْمُنْذِرِيُّ وَلَا صاحب التنقيح(5/16)
كَمَا سَيَجِيءُ وَأَيْضًا رِوَايَةُ النَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ تَدْفَعُ هذه العلة (قال خطب بن عَبَّاسٍ) وَهَكَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ النسائي الحسن لم يسمع من بن عَبَّاسٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ النَّسَائِيُّ قَالَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَئِمَّةِ
وقال بن أَبِي حَاتِمٍ سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ الْحَسَنُ لَمْ يسمع من بن عباس وقوله خطبنا بن عَبَّاسٍ يَعْنِي خَطَبَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ
وَقَالَ عَلِيُّ بن المديني في حديث الحسن خطبنا بن عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ ثَابِتٍ قَدِمَ عَلَيْنَا عِمْرَانُ بْنُ حَصِينٍ وَمِثْلُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ خَرَجَ عَلَيْنَا عَلِيٌّ وَكَقَوْلِ الْحُسَيْنِ إِنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حَدَّثَهُمْ
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ أَيْضًا الْحَسَنُ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ بن عَبَّاسٍ وَمَا رَآهُ قَطُّ كَانَ بِالْمَدِينَةِ أَيَّامَ كان بن عَبَّاسٍ عَلَى الْبَصْرَةِ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
وَقَالَ الْحَاكِمُ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَائِينِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فقال الحسن لم يسمع من بن عَبَّاسٍ وَلَا رَآهُ قَطُّ كَانَ بِالْمَدِينَةِ أَيَّامَ كان بن عَبَّاسٍ عَلَى الْبَصْرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي توجيه قوله خطب كما ذكره بن أَبِي حَاتِمٍ سَوَاءً
وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ الْحَدِيثُ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ لَكِنْ فِيهِ إِرْسَالٌ فَإِنَّ الحسن لم يسمع من بن عَبَّاسٍ عَلَى مَا قِيلَ وَقَدْ جَاءَ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى الْمُوصِلِيِّ فِي حَدِيثٍ عَنِ الحسن قال أخبرني بن عَبَّاسٍ وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ دَلَّ عَلَى سَمَاعِهِ منه
وقال البزار في مسنده بعد أن رواه لا يعلم روى الحسن عن بن عباس غير هذا الحديث ولم يسمع الحسن من بن عَبَّاسٍ
وَقَوْلُهُ خَطَبَنَا أَيْ خَطَبَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ وَلَمْ يَكُنِ الْحَسَنُ شَاهَدَ الْخُطْبَةِ وَلَا دَخَلَ البصرة بعد لأن بن عَبَّاسٍ خَطَبَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَالْحَسَنُ دَخَلَ أَيَّامَ صِفِّينَ انْتَهَى
كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ (فَكَأَنَّ) الْحَرْفُ الْمُشَبَّهُ بِالْفِعْلِ (النَّاسَ) اسْمُ كَأَنَّ وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ فَجَعَلَ النَّاسُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ (قَمْحٍ) أَيْ حِنْطَةٍ (فَلَمَّا قَدِمَ عَلِيُّ) بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَيْ بِالْبَصْرَةِ (رَأَى رُخْصَ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ عَلَى وَزْنِ فُعْلَ ضِدُّ الْغَلَاءِ يُقَالُ رَخُصَ الشَّيْءُ رُخْصًا فَهُوَ رَخِيصٌ مِنْ بَابِ قَرُبَ (قَالَ) عَلِيٌّ (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) لَكَانَ حَسَنًا
وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ قَالَ الْحَسَنُ فقال(5/17)
عَلِيٌّ أَمَّا إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا أَعْطُوا صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ غَيْرِهِ (عَلَى مَنْ صَامَ) وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَرَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَصُومُ لَكِنْ قَوْلُهُ هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
1 - (بَاب فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ)
[1623] (عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) سَاعِيًا (عَلَى الصَّدَقَةِ) وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ لِأَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ لَا يُبْعَثُ عَلَيْهَا السُّعَاةُ (منع بن جَمِيلٍ) أَيْ مَنَعُوا الزَّكَاةَ وَلَمْ يُؤَدُّوهَا إِلَى عمر قال في الفتح بن جَمِيلٍ هَذَا لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ (مَا يَنْقِمُ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ مَا يُنْكِرُ نِعْمَةَ اللَّهِ أَوْ يَكْرَهُ (فَأَغْنَاهُ اللَّهُ) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِدُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ فَأَصْبَحَ غَنِيًّا بَعْدَ فَقْرِهِ بِمَا أَفَاءَ اللَّهُ وَأَبَاحَ لِأُمَّتِهِ مِنَ الْغَنَائِمِ
وَهَذَا السِّيَاقُ مِنْ بَابِ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ إِلَّا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَغْنَاهُ فَلَا عُذْرَ لَهُ
وَفِيهِ التَّعْرِيضُ بِكُفْرَانِ النِّعَمِ وَتَفْرِيعٌ بِسُوءِ الصَّنِيعِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِحْسَانِ (فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا) وَالْمَعْنَى إِنَّكُمْ تَظْلِمُونَهُ بِطَلَبِكُمُ الزَّكَاةَ مِنْهُ إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ لِأَنَّهُ (فَقَدِ احْتَبَسَ) أَيْ وَقَفَ قَبْلَ الْحَوْلِ (أَدْرَاعَهُ) جَمْعُ دِرْعِ الْحَدِيدِ (وَأَعْتُدَهُ) بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ جَمْعُ عَتَدٍ بِفَتْحَتَيْنِ هُوَ مَا يَعُدُّهُ الرَّجُلُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالسِّلَاحِ
وَقِيلَ الْخَيْلُ خَاصَّةً
قَالَ فِي النَّيْلِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ خَالِدٍ زَكَاةَ أَعْتَادِهِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا لِلتِّجَارَةِ وَأَنَّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَالَ التِّرْمِذِيّ سَأَلْت أَبَا عَبْد اللَّه البخاري عن حديث الحسن وخطبنا بن عَبَّاس فَقَالَ إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ صَدَقَة الْفِطْر فَقَالَ رَوَى غَيْر يَزِيد بْن هَارُون عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ الحسن خطب(5/18)
الزَّكَاةَ فِيهَا وَاجِبَةٌ فَقَالَ لَهُمْ لَا زَكَاةَ عَلَيَّ فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ خَالِدًا مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَالَ إِنَّكُمْ تَظْلِمُونَهُ لِأَنَّهُ حَبَسَهَا وَوَقَفِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَبْلَ الْحَوْلِ عَلَيْهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ لَأَعْطَاهَا وَلَمْ يَشُحَّ بِهَا لِأَنَّهُ قَدْ وَقَفَ أَمْوَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَبَرِّعًا فَكَيْفَ يَشِحُّ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ
وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا وُجُوبَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ خِلَافًا لِدَاوُدَ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ وَبِهِ قَالَتِ الْأُمَّةُ بِأَسْرِهَا إِلَّا أَبَا حَنِيفَةَ وَبَعْضَ الْكُوفِيِّينَ (فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا) مَعَهَا وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ تَعَجَّلَ مِنَ الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ إِنَّا كُنَّا تَعَجَّلْنَا صَدَقَةَ مَالِ الْعَبَّاسِ عَامَ الْأَوَّلِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي صَدَقَةِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا فَإِنَّهُ يُتَأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَسْلُفُ مِنْهُ صَدَقَةَ سَنَتَيْنِ فَصَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مَحِلِّهَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَأَجَازَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ تَعْجِيلَهَا قَبْلَ أَوَانِ مَحِلِّهَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا يَرَى تَعْجِيلَهَا عَنْ وَقْتِ مَحِلِّهَا
وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ لِلصَّلَاةِ وَقْتًا وَلِلزَّكَاةِ وَقْتًا فَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ أَعَادَ وَمَنْ زَكَّى قَبْلَ الْوَقْتِ أَعَادَ
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنْهُ صَدَقَةَ ذَلِكَ الْعَامِ الَّذِي شَكَاهُ فِيهَا الْعَامِلُ وَتَعَجَّلَ صَدَقَةَ الْعَامِ الثَّانِي فَقَالَ هِيَ وَمِثْلُهَا أَيِ الصَّدَقَةُ الَّتِي قَدْ حَلَّتْ وَأَنْتَ تُطَالِبُهُ بِهَا مَعَ مِثْلِهَا مِنْ صَدَقَةِ عَامٍ وَاحِدٍ (أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ الْأَبِ) أَيْ مِثْلُهُ تَفْضِيلًا لَهُ وَتَشْرِيفًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَحَمَّلِ عَنْهُ بِهَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
بن عَبَّاس فَكَأَنَّهُ رَأَى هَذَا أَصَحّ قَالَ التِّرْمِذِيّ وإنما قال البخاري هذا لأن بن عَبَّاس كَانَ بِالْبَصْرَةِ فِي أَيَّام عَلِيّ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ فِي أَيَّام عُثْمَان وَعَلِيّ رَضِيَ اللَّه عنهما كان بالمدينة
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله لفظ مسلم وأبي داود فهي علي ومثلها معها وفيه قولان أحدهما أنه كان تسلف منه صدقة عامين والثاني أنه تحملها عنه يؤديها عنه
ولفظ البخاري والنسائي فهي عليه صدقة ومثلها معها وفيه قولان أحدهما أنه جعله مصرفا لها وهذا قبل تحريمها على بني هاشم والثاني أنه أسقطها عنه عامين لمصلحة كما فعل عمر عام الرمادة
ولفظ بن إسحاق هي عليه ومثلها ومعها حكاه البخاري وفيه قولان أحدهما أنه أنظره بها ذلك العام إلى القابل فيأخذها ومثلها والثاني أن هذا مدح للعباس وأنه سمح بما طلب منه لا يمتنع من إخراج ما عليه بل يخرجه ومثله معه
وقال موسى بن عقبة فهي له ومثلها معها ذكره بن حبان وفيه قولان أحدهما أن له بمعنى عليه كقوله تعالى {وإن أسأتم فلها} والثاني إطلاقها له وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم عنه من عنده برا به ولهذا قَالَ أَمَا شَعَرْت أَنَّ عَمّ الرَّجُل صِنْو أبيه(5/19)
فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1624] (قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ تَجِبُ الزَّكَاةُ وَقِيلَ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ حَالًّا بِمُضِيِّ الْحَوْلِ (فَرَخَّصَ لَهُ) أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ (في ذلك) أي تعجيل الصدقة
قال بن الْمَلِكِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الصَّدَقَةِ بَعْدَ حُصُولِ النِّصَابِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَكَذَا عَلَى جَوَازِ تَعْجِيلِ الْفِطْرَةِ بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ
وَفِي سُبُلِ السَّلَامِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ جَوَازُهُ بِالْمَالِكِ وَلَا يَصِحُّ مِنَ الْمُتَصَرِّفِ بِالْوِصَايَةِ وَالْوِلَايَةِ
وَاسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ التَّعْجِيلَ مُطْلَقًا بِحَدِيثِ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا وُجُوبَ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَهَذَا لَا يَنْفِي جَوَازَ التَّعْجِيلِ وَبِأَنَّهُ كَالصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا قِيَاسَ مَعَ النَّصِّ
قَالَ المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ وَحُجَيَّةُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ شَيْخٌ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ شِبْهُ الْمَجْهُولِ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ مُعْضَلًا
قَالَ وَحَدِيثُ هُشَيْمٍ أَصَحُّ
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَأَنَّ الْمُرْسَلَ فِيهِ أَصَحُّ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فَرَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ دِينَارٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ حُجَيَّةَ بْنِ عَدِيٍّ كَمَا عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَمَرَّةً قَالَ الْحَجَّاجُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ حُجْرٍ الْعَدَوِيِّ كَمَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ طَلْحَةَ مَرْفُوعًا
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ اخْتَلَفُوا عَنِ الْحَكَمِ فِي إِسْنَادِهِ وَالصَّحِيحُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ مرسل انتهى(5/20)
22 - (باب في الزكاة تحمل من بلد إلى بلد)
[1625] (أي الْمَالُ) أَيْ مَالُ الصَّدَقَاتِ (أَخَذْنَاهَا) أَيِ الصَّدَقَاتِ (وَوَضَعْنَاهَا) أَيْ صَرَفْنَاهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَرْفِ زَكَاةِ كُلِّ بَلَدٍ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِهِ وَكَرَاهِيَةِ صَرْفِهَا فِي غَيْرِهِمْ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا فِي غَيْرِ فُقَرَاءِ الْبَلَدِ
وَقَالَ غَيْرُهُمْ إِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ كَرَاهَةِ لِمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَدْعِي الصَّدَقَاتِ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ كَمَا أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمَ فَقَالَ كِدْتُ أُقْتَلُ بَعْدَكَ فِي عَنَاقٍ أَوْ شَاةٍ مِنَ الصَّدَقَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا أَنَّهَا تُعْطَى فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ مَا أَخَذْتُهَا
قال المنذري وأخرجه
3 - (بَاب مَنْ يُعْطِي مِنْ الصَّدَقَةِ وَحَدُّ الْغِنَى)
[1626] (وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ) أَيْ عَنِ السُّؤَالِ وَيَكْفِيهِ بِقَدْرِ الْحَالِ (خُمُوشٌ) أَيْ جُرُوحٌ (أَوْ خُدُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ) بِضَمِّ أَوَائِلِهَا أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي جَمْعُ خَمْشٍ وَخَدْشٍ وَكَدْحٍ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْخُمُوشُ هِيَ الْخُدُوشُ يُقَالُ خَمَشَتِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا إِذَا خَدَشَتْهُ بِظُفْرٍ أَوْ حَدِيدَةٍ أَوْ نَحْوِهَا وَالْكُدُوحُ الْآثَارُ مِنَ الْخُدُوشِ وَالْعَضِّ وَنَحْوِهِ وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْحِمَارِ مُكَدَّحٌ لِمَا بِهِ مِنْ آثَارِ الْعِضَاضِ فَأَوْ هُنَا إِمَّا لِشَكِّ الرَّاوِي إِذِ الْكُلُّ يُعْرِبُ عَنْ أَثَرِ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ مِنْ مُلَاقَاةِ الْجَسَدِ مَا(5/21)
يُقَشِّرُ أَوْ يَجْرَحُ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَا آثَارٌ مُسْتَنْكَرَةٌ فِي وَجْهِهِ حَقِيقَةً أَوْ أَمَارَاتٌ لِيُعْرَفَ وَيُشْهَرَ بِذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ أَوْ لِتَقْسِيمِ مَنَازِلِ السَّائِلِ فَإِنَّهُ مُقِلٌّ أَوْ مُكْثِرٌ أَوْ مُفْرِطٌ فِي الْمَسْأَلَةِ فَذَكَرَ الْأَقْسَامَ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ وَالْخَمْشُ أَبْلَغُ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْخَدْشِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْكَدْحِ إِذِ الْخَمْشُ فِي الْوَجْهِ وَالْخَدْشُ فِي الْجِلْدِ وَالْكَدْحُ فَوْقَ الْجِلْدِ وَقِيلَ الْخَدْشُ قَشْرُ الْجِلْدِ بِعُودٍ وَالْخَمْشُ قَشْرُهُ بِالْأَظْفَارِ وَالْكَدْحُ الْعَضُّ وَهِيَ فِي أَصْلِهَا مَصَادِرُ لَكِنَّهَا لَمَّا جُعِلَتْ أَسْمَاءً لِلْآثَارِ جُمِعَتْ (حِفْظِي) أَيِ الَّذِي أَحْفَظُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَدْ تَكَلَّمَ شُعْبَةُ فِي حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ حِفْظِي أَنَّ شُعْبَةَ لَا يَرْوِي عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ سُفْيَانُ فَقَدْ حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَضَعَّفُوا الْحَدِيثَ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالُوا أَمَّا مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ فَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ أَسْنَدَهُ وَإِنَّمَا قَالَ فَقَدْ حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ وَحَسْبُ
وَحَكَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ أَنَّ الثَّوْرِيَّ قَالَ يَوْمًا قَالَ أَبُو بَسْطَامٍ يُحَدِّثُ يَعْنِي شُعْبَةَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ قِيلَ لَهُ قَالَ حَدَّثَنِي زُبَيْدٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ
قَالَ أَحْمَدُ كَأَنَّهُ أَرْسَلَهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ أَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ كَلَامًا نَحْوَ ذَا
وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ سُفْيَانَ صَرَّحَ بِإِسْنَادِهِ فَقَالَ سَمِعْتُ زُبَيْدًا يُحَدِّثُ بِهَذَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يزيد وحكاه بن عَدِيٍّ أَيْضًا وَحَكَى أَيْضًا أَنَّ الثَّوْرِيَّ قَالَ فَأَخْبَرَنَا بِهِ زُبَيْدٌ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوْرِيَّ حَدَّثَ بِهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لَا يُصَرِّحُ فِيهِ بِالْإِسْنَادِ وَمَرَّةً بِسَنَدِهِ فَتَجْتَمِعُ الرِّوَايَاتُ
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زُبَيْدٌ غَيْرَ يَحْيَى بْنِ آدَمَ وَلَا نَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَكِيمٌ ضَعِيفٌ
وَسُئِلَ شُعْبَةُ عَنْ حَدِيثِ حَكِيمٍ فَقَالَ أَخَافُ النَّارَ وَقَدْ كَانَ رَوَى عَنْهُ قَدِيمًا
وَسُئِلَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَرْوِيهِ أَحَدٌ غَيْرُ حَكِيمٍ فَقَالَ يَحْيَى نَعَمْ يَرْوِيهِ يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ زُبَيْدٍ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا يَرْوِيهِ إِلَّا يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَهَذَا وَهْمٌ لَوْ كَانَ كَذَا لَحَدَّثَ بِهِ النَّاسَ جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ وَلَكِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ
هَذَا الْكَلَامُ قَالَهُ يَحْيَى أَوْ نَحْوَهُ
وَقَالَ بِظَاهِرِهِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمَا وَرَأَوْهُ حَدًّا فِي غِنَى مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَأَبَى ذَلِكَ آخَرُونَ وَضَعَّفُوا الْحَدِيثَ بِمَا تَقَدَّمَ
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا حَدَّ لِلْغِنَى مَعْلُومًا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالُ الْإِنْسَانِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ بِالدِّرْهَمِ غَنِيًّا مَعَ الْكَسْبِ وَلَا يُغْنِيهِ الْأَلْفُ(5/22)
مَعَ ضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ بِحُرُوفِهِ
(عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ) إِبْهَامُ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلُّهُمْ عُدُولٌ (فَتَوَلَّى) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ أَدْبَرَ (وَهُوَ مُغْضَبٌ) بِفَتْحِ الضَّادِ أَيْ مُوقَعٌ فِي الْغَضَبِ (إِنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ) أَيْ لَا تُعْطِي فِي الْمَصَارِفِ وَإِنَّمَا تَتَّبِعُ فِيهِ مَشِيئَتَكَ (أَنْ لَا أَجِدَ) أَيْ لِأَجْلِ أَنْ لَا أَجِدَ (وَلَهُ أُوقِيَّةٌ) بِضَمِّ الْهَمْزَةَ وَتَشْدِيدَ الْيَاءَ أَيْ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا (أَوْ عِدْلُهَا) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَيُفْتَحُ أَيْ مَا يُسَاوِيهَا مِنْ ذَهَبٍ وَمَالٍ آخَرَ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَوْ عِدْلُهَا يُرِيدُ قِيمَتَهَا يُقَالُ هَذَا عِدْلُ الشَّيْءِ أَيْ مَا يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ وَهَذَا عِدْلُهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ نَظِيرُهُ وَمِثَالُهُ فِي الصُّورَةِ وَالْهَيْئَةِ
وَالْأُوقِيَّةُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا
وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فِي تَحْدِيدِ الْغِنَى إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَزَعَمَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى تَحْدِيدِ الْغِنَى الَّتِي تَحْرُمُ مَعَهُ الصَّدَقَةُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَرَأَوْهُ حَدًّا فِي غِنَى مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ مِنْهُمْ سُفْيَانُ الثوري وبن الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبَى الْقَوْلَ بِهِ آخَرُونَ وَضَعَّفُوا الْحَدِيثَ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالُوا وَلَيْسَ الْحَدِيثُ أَنَّ مَنْ مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ الصَّدَقَةُ إِنَّمَا فِيهِ كُرِهَ لَهُ الْمَسْأَلَةُ فَقَطْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ لِمَنْ يَجِدُ مَا يَكْفِيهِ فِي وَقْتِهِ إِلَى الْمَسْأَلَةِ
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا حَدَّ لِلْغَنِيِّ مَعْلُومٌ تَوْسِعَةً وَطَاقَةً فَإِذَا اكْتَفَى بِمَا عِنْدَهُ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَإِذَا احْتَاجَ حَلَّتْ لَهُ
قَالَ الشَّافِعِيُّ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ بِالدِّرْهَمِ غَنِيًّا مَعَ كَسْبٍ وَلَا يُغْنِيهِ الْأَلْفُ مَعَ ضَعْفٍ فِي نَفْسِهِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ
وَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ الْحَدَّ فِيهِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ النِّصَابُ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ انْتَهَى كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ
[1627] (فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا) أَيْ إِلْحَاحًا وَإِسْرَافًا مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ (لَلَقْحَةٌ) بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا لَامُ ابْتِدَاءٍ وَاللَّقْحَةُ بِفَتْحِ اللَّامِ أَوْ كَسْرِهَا النَّاقَةُ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالنَّتَاجِ أَوِ الَّتِي هِيَ ذَاتُ لَبَنٍ (وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا) هَذَا مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ كَمَا صَرَّحَ بذلك بن الْجَارُودِ فِي رِوَايَتِهِ فِي(5/23)
الْمُنْتَقَى (أَوْ كَمَا قَالَ) شَكَّ الرَّاوِي فِي قَوْلِ الْأَسَدِيِّ
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ (هَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ كَمَا قَالَ مَالِكٌ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْمَتْنَ أَيْ قَوْلَهُ مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ
وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ فَرَوَى هَذَا الْمَتْنَ بِسَنَدٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ كَمَا يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا الْمَتْنُ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ كَمَا يَجِيءُ فِي بَابِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ بِهَذَا السَّنَدِ أَيْ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عن النبي مُرْسَلًا وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مُرْسَلًا لَكِنْ قَالَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَدَّثَنِي الثَّبَتُ عن النبي وَأَمَّا مَعْمَرٌ فَرَوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عن النبي مَوْصُولًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1628] (فَقَدْ أَلْحَفَ) قَالَ الْوَاحِدِيُّ الْإِلْحَافُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ
قَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَى أَلْحَفَ شَمِلَ بِالْمَسْأَلَةِ وَالْإِلْحَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ بِالْمَسْأَلَةِ كَاشْتِمَالِ اللِّحَافِ فِي التَّغْطِيَةِ
وَقَالَ غَيْرُهُ مَعْنَى الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَلْحَفَ الرَّجُلُ إِذَا مَشَى فِي لَحَفِ الْجَبَلِ وَهُوَ أَصْلُهُ كَأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْخُشُونَةَ فِي الطَّلَبِ (نَاقَتِي الْيَاقُوتَةُ) اسْمُ نَاقَتِهِ (قَالَ هِشَامٌ) فِي حَدِيثِهِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1629] (سَهْلُ بن الْحَنْظَلِيَّةِ) هُوَ سَهْلُ بْنُ الرَّبِيعِ وَالْحَنْظَلِيَّةُ أُمُّهُ وَقِيلَ أُمُّ جَدِّهِ وَكَانَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَسَكَنَ دِمَشْقَ وَمَاتَ(5/24)
بِهَا (كَصَحِيفَةِ الْمُتَلَمِّسِ) لَهَا قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ وَهُوَ الْمُتَلَمِّسُ الشَّاعِرُ وَكَانَ هَجَا عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ الْمَلِكَ فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى عَامِلِهِ يُوهِمُهُ أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ فِيهِ عَطِيَّةً وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَارْتَابَ الْمُتَلَمِّسُ فَفَكَّهُ وَقَرَأَهُ فَلَمَّا عَلِمَ مَا فِيهِ رَمَى بِهِ وَنَجَا فَضَرَبَتِ الْعَرَبُ مَثَلًا بِصَحِيفَتِهِ (مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ) أَيْ مِنَ السُّؤَالِ وَهُوَ قُوتُهُ فِي الْحَالِ (فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنَ النَّارِ) يَعْنِي جَمْعُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالسُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَكَأَنَّهُ جَمَعَ لِنَفْسِهِ نَارَ جَهَنَّمَ (قَالَ النُّفَيْلِيُّ) بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ مَنْسُوبٌ إِلَى نُفَيْلٍ أَحَدِ آبَائِهِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ النُّفَيْلِيَّ حَدَّثَ أَبَا دَاوُدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرَّتَيْنِ فَمَرَّةً قَالَ مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فإنما يستكثر من النار فقالوا يارسول اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ قَالَ قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ وَمَرَّةً قَالَ النُّفَيْلِيُّ مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ فقالوا يارسول اللَّهِ وَمَا الْغِنَى الَّذِي لَا يَنْبَغِي مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ قَالَ قَدْرُ أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبَعُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ (مَعَهُ الْمَسْأَلَةُ قال) أي النبي (قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ) أَيْ قَدْرُ كِفَايَتِهِمَا بِمَالٍ أَوْ كَسْبٍ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنْ عِلْمٍ أَوْ حَالٍ
وَالتَّغْدِيَةُ إِطْعَامُ طَعَامِ الْغَدْوَةِ وَالتَّعْشِيَةُ إِطْعَامُ طَعَامِ الْعِشَاءِ
قَالَ الطِّيبِيُّ يَعْنِي مَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ وَأَمَّا فِي الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَيَجُوزُ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَسْأَلَهَا بِقَدْرِ مَا يُتِمُّ بِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ لَهُ وَلِعِيَالِهِ وَكِسْوَتُهُمَا لِأَنَّ تَفْرِيقَهَا فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً (أَنْ يَكُونَ لَهُ شِبَعُ يَوْمٍ) بِكَسْرِ الشِّينِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِهَا وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَيْ مَا يُشْبِعُهُ مِنَ الطَّعَامِ أَوَّلَ يَوْمِهِ وآخره
قال بن الْمَلِكِ بِسُكُونِ الْبَاءِ مَا يُشْبِعُ وَبِفَتْحِ الْبَاءِ الْمَصْدَرُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ وَجَدَ غَدَاءَ يَوْمِهِ وَعَشَاءَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ وَجَدَ غَدَاءً وَعَشَاءً عَلَى دَائِمِ الْأَوْقَاتِ فَإِذَا كَانَ مَا يَكْفِيهِ لِقُوتِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ فَقَدْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ
وَقَالَ آخَرُونَ هَذَا مَنْسُوخٌ بِالْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا (كَانَ حَدَّثَنَا) النُّفَيْلِيُّ (بِهِ) أَيْ بِهَذَا الْحَدِيثِ (مُخْتَصَرًا عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذُكِرَتْ) بِصِيغَةِ(5/25)
الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْرُوفِ أَوِ الْغَائِبِ الْمَجْهُولِ
وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَرَوَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُوليِّ عَنْ سَهْلٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَفِيهِ فَأَخْبَرَ مُعَاوِيَةُ رَسُولَ الله بقولهما وخرج رسول الله فِي حَاجَةٍ فَمَرَّ بِبَعِيرٍ مُنَاخٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ مَرَّ بِهِ آخِرَ النَّهَارِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَقَالَ أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ فَابْتُغِيَ فَلَمْ يُوجَدْ فَقَالَ رسول الله اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ ثُمَّ ارْكَبُوهَا صِحَاحًا وَارْكَبُوهَا سِمَانًا إِنَّهُ مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ قالوا يارسول اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ قَالَ مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعَشِّيهِ
أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ
[1630] (الصُّدَائِيَّ) بِضَمِّ الصَّادِ مَمْدُودٌ (وَذَكَرَ) أَيْ زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ (حَدِيثًا طَوِيلًا) وَفِي شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقُولُ أَمَرَنِي رَسُولُ الله على قومي فقلت يارسول اللَّهِ أَعْطِنِي مِنْ صَدَقَاتِهِمْ فَفَعَلَ وَكَتَبَ لِي بِذَلِكَ كِتَابًا فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مِثْلَهُ
فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الطَّحَاوِيُّ أَشَارَ إِلَيْهَا أَبُو دَاوُدَ بِقَوْلِهِ حَدِيثًا طَوِيلًا
كَذَا فِي غاية المقصود (فأتاه) أي أتى النبي (حَتَّى حَكَمَ فِيهَا) أَيْ إِلَى أَنْ حَكَمَ فِي الصَّدَقَاتِ (هُوَ) أَيِ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ (فَجَزَّأَهَا) بِتَشْدِيدِ الزَّايِ فَهَمْزَةٌ أَيْ فَقَسَّمَ أَصْحَابَهَا (ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ) أَيْ أَصْنَافٍ (فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ) أَيْ أَجْزَاءِ مُسْتَحِقِّيهَا أَوْ مِنْ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ (أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ فِي صِنْفِ وَاحِدٍ وَأَنَّ الْوَاجِبَ تَفَرُّقُهَا عَلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ بِحِصَصِهِمْ وَلَوْ كَانَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ الْمَحَلِّ دُونَ بَيَانِ الْحِصَصِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّجْزِئَةِ مَعْنًى وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ فَبَيَّنَ أَنَّ لِأَهْلِ كُلِّ جُزْءٍ عَلَى حِدَتِهِ حَقًّا
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
وَقَالَ النَّخَعِيُّ إِذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الْأَجْزَاءَ قَسَمَهُ عَلَى الْأَصْنَافِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَازَ أَنْ يُوضَعَ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ
وَقَالَ أَحْمَدُ بن حنبل تفريقه أولى ويجزيه أَنْ يَضَعَهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ إِنْ قَسَمَهُ الْإِمَامُ قَسَمَهُ عَلَى الْأَصْنَافِ وَإِنْ تَوَلَّى قَسْمَهُ رَبُّ الْمَالِ فَيَضَعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ رَجَوْتُ أَنْ يَسَعَهُ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَجْتَهِدُ(5/26)
وَيَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ وَيُقَدِّمُ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْخَلَّةِ وَالْفَاقَةِ فَإِنْ رَأَى الْخَلَّةَ فِي الْفُقَرَاءِ فِي عَامٍ أَكْثَرَ قَدَّمَهُمْ وَإِنْ رَأَى فِي أَبْنَاءِ السَّبِيلِ فِي عَامٍ آخَرَ أَخْرَجُوا لَهُمْ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ هُوَ مُخَيَّرٌ يَضَعُهُ فِي أَيِّ الْأَصْنَافِ شَاءَ وَكَذَلِكَ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ بن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيَانَ الشَّرِيعَةِ قَدْ يَقَعُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا تَوَلَّى اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَهُ فِي الْكِتَابِ وَأَحْكَمَ فَرْضَهُ فِيهِ فَلَيْسَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى زِيَادَةٍ مِنْ بَيَانِ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَبَيَانِ شَهَادَاتِ الْأُصُولِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مَا وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ مُجْمَلًا وَوُكِلَ بَيَانُهُ إلى النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَهُوَ تَفْسِيرُهُ قَوْلًا وَفِعْلًا أَوْ يَتْرُكُهُ عَلَى إِجْمَالِهِ لِيُبَيِّنَهُ فُقَهَاءُ الْأُمَّةِ وَيُدْرِكُوهُ اسْتِنْبَاطًا وَاعْتِبَارًا بِدَلِيلِ الْأُصُولِ
وَكُلُّ ذَلِكَ بَيَانُ مَصْدَرِهِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ السِّهَامَ السِّتَّةَ ثَابِتَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ لِأَهْلِهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ ثَابِتٌ يَجِبُ أَنْ يُعْطَوْهُ هَكَذَا
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُعْطَوْنَ إِنِ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى ذَلِكَ
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ انْقَطَعَتِ الْمُؤَلَّفَةُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
وَقَالَ مَالِكٌ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ يَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ السِّهَامِ الْبَاقِيَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ مُشْرِكٌ يُتَأَلَّفُ عَلَى الْإِسْلَامِ
فَأَمَّا الْعَامِلُونَ وَهُمُ السُّعَاةُ وَجُبَاةُ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ عُمَالَةً قَدْرَ أُجْرَةِ مِثْلِهِمْ فَأَمَّا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى إِخْرَاجَ الصَّدَقَةِ وَقَسْمِهَا بَيْنَ أَهْلِهَا فَلَيْسَ فِيهَا لِلْعَامِلِينَ فِيهِ حَقٌّ
انْتَهَى كَلَامُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الْإِفْرِيقِيُّ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
انْتَهَى
[1631] (لَيْسَ الْمِسْكِينُ) أَيِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إنما الصدقات للفقراء والمساكين وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْمِسْكِينُ شَرْعًا الْمِسْكِينُ عُرْفًا هُوَ (الَّذِي تَرُدُّهُ) عِنْدَ طَوَافِهِ عَلَى النَّاسِ (وَالْأُكْلَةُ وَالْأُكْلَتَانِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيِ اللُّقْمَةُ وَاللَّقْمَتَانِ وَالْمَعْنَى أَيْ لَيْسَ الْمِسْكِينُ مَنْ يَتَرَدَّدُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَيَأْخُذُ لُقْمَةً فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا لَيْسَ بِمِسْكِينٍ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ قُوتِهِ
وَالْمُرَادُ ذَمُّ مَنْ هَذَا فِعْلُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا
وَقَالَ الطِّيبِيُّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الزَّكَاةَ
وَقِيلَ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيُ اسْتِحْقَاقِهِ بَلْ إِثْبَاتُ الْمَسْكَنَةِ لِغَيْرِ هَذَا الْمُتَعَارَفِ بِالْمَسْكَنَةِ وَإِثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِهِ أَيْضًا كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ(5/27)
قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ الْمِسْكِينُ الْكَامِلُ الْمَسْكَنَةِ الَّذِي هُوَ أَحَقُّ بِالصَّدَقَةِ وَأَحْوَجُ إِلَيْهَا لَيْسَ هُوَ هَذَا الطَّوَّافُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيُ أَصْلِ الْمَسْكَنَةِ عَنْهُ بَلْ مَعْنَاهُ نَفْيُ كَمَالِ الْمَسْكَنَةِ (وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي) هُوَ أَحَقُّ بِالصَّدَقَةِ الَّذِي (وَلَا يَفْطُنُونَ بِهِ) مِنْ بَابِ نَصَرَ وَكَرُمَ وَفَرِحَ كَذَا فِي الْقَامُوسِ
أَيْ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ (فَيُعْطُونَهُ) وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ عَدَمِ الْغِنَى وَعَدَمِ تَفَطُّنِ النَّاسِ لَهُ لِمَا يُظَنُّ بِهِ لِأَجْلِ تَعَفُّفِهِ وَتَظَهُّرِهِ بِصُورَةِ الْغَنِيِّ مِنْ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مُسْتَعْفِفٌ عَنِ السُّؤَالِ
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ وَإِنَّ الْمَسْكَيْنَ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ لَكِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى أَمَّا السَّفِينَةُ فكانت لمساكين يعملون في البحر فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ مَعَ أَنَّ لَهُمْ سَفِينَةٌ يَعْمَلُونَ فِيهَا
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ كَمَا قَالَ فِي الْفَتْحِ
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ دُونَ الْفَقِيرِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى أو مسكينا ذا متربة قَالُوا لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَلْصَقُ بِالتُّرَابِ لِلْعُرْيِ
وقال بن الْقَاسِمِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ إِنَّهُمَا سَوَاءٌ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَرَجَّحَهُ الْجَلَالُ
قَالَ لِأَنَّ الْمَسْكَنَةَ لَازِمَةٌ لِلْفَقْرِ إِذْ لَيْسَ مَعْنَاهَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ بِغِنَى النَّفْسِ أَعَزَّ مِنَ الْمُلُوكِ الْأَكَابِرِ بَلْ مَعْنَاهَا الْعَجْزُ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَطَالِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْعَاجِزُ سَاكِنٌ عَنِ الِانْتِهَاضِ إِلَى مَطَالِبِهِ انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
[1632] (وَأَبُو كَامِلٍ) هُوَ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ الْبَصْرِيُّ شَيْخُ أَبِي دَاوُدَ وَأَمَّا أَبُو كَامِلٍ مُظَفَّرُ بْنُ مُدْرِكٍ فَهُوَ شَيْخُ شَيْخِ أَبِي دَاوُدَ (مِثْلَهُ) وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله قَالَ لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ الْأُكْلَةُ وَالْأُكْلَتَانِ والتمرة والتمرتان قالوا فما المسكين يارسول اللَّهِ قَالَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى وَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ حَاجَتَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ (فَذَاكَ الْمَحْرُومُ) الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ(5/28)
تعالى وفي أموالهم حق للسائل والمحروم
[1633] (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ آخِرُهُ رَاءٌ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَهُوَ قُرَشِيٌّ نَوْفَلِيٌّ يُقَالُ إِنَّهُ ولد في عهد رسول الله وَيُعَدُّ فِي التَّابِعِينَ وَرَوَى عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ (فَسَأَلَاهُ مِنْهَا) أَيْ فَطَالَبَاهُ أَنْ يُعْطِيَهُمَا شَيْئًا مِنَ الصَّدَقَةِ (فَرَآنَا جَلْدَيْنِ) بِسُكُونِ اللَّامِ أَوْ كَسْرِهَا أَيْ قَوِيَّيْنِ (لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ يَكْتَسِبُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ
وَالْحَدِيثُ قَوَّاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ لَا أُعْطِيكُمَا لِأَنَّ فِي أَخْذِ الصَّدَقَةِ ذِلَّةٌ فَإِنْ رَضِيتُمَا بِهَا أَعْطَيْتُكُمَا أَوْ أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَى الْجَلْدِ فَإِنْ شِئْتُمَا تَنَاوُلَ الْحَرَامِ أَعْطَيْتُكُمَا
قَالَهُ تَوْبِيخًا وَتَغْلِيظًا انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ مِنْ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الْآيَةِ
وَاخْتُلِفَ فِي تَحْقِيقِ الْغَنِيِّ كَمَا سَلَفَ وَعَلَى الْقَوِيِّ الْمُكْتَسِبِ لِأَنَّ حِرْفَتَهُ صَيَّرَتْهُ فِي حُكْمِ الْغَنِيِّ
وَمَنْ أَجَازَ لَهُ تَأَوَّلَ الْحَدِيثَ بِمَا لَا يُقْبَلُ
كَذَا فِي السُّبُلِ
وَقَالَ بن الْهُمَامِ الْحَدِيثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حُرْمَةُ سُؤَالِهِمَا لِقَوْلِهِ وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا فَلَوْ كَانَ الْأَخْذُ مُحَرَّمًا غَيْرَ مُسْقِطٍ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ لَمْ يَفْعَلْهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1634] (لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ) فِي الْمُحِيطِ مِنَ الْكُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ الْغِنَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ غِنًى يُوجِبُ الزَّكَاةَ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ حَوْلِيٍّ تَامٍّ وَغِنًى يُحَرِّمُ الصَّدَقَةَ وَيُوجِبُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةَ وَهُوَ مِلْكُ مَا يَبْلُغُ قِيمَةَ نِصَابٍ مِنَ الْأَمْوَالِ الْفَاضِلَةِ عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَغِنًى يُحَرِّمُ السُّؤَالَ دون(5/29)
الصَّدَقَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَمَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ (وَلَا لِذِي مِرَّةٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْقُوَّةِ أَيْ وَلَا لِقَوِيٍّ عَلَى الْكَسْبِ (سَوِيٍّ) أَيْ صَحِيحِ الْبَدَنِ تَامِّ الخلقة
قال علي القارىء فِيهِ نَفْيُ كَمَالِ الْحِلِّ لَا نَفْسَ الْحِلِّ أو لا تحل له بالسؤال
قال بن الْمَلِكِ أَيْ لَا تَحِلُّ الزَّكَاةُ لِمَنْ أَعْضَاؤُهُ صَحِيحَةٌ وَهُوَ قَوِيٌّ يَقْدِرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالِهِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَازِ الصَّدَقَةِ لِمَنْ يَجِدُ قُوَّةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْكَسْبِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا (رَوَاهُ سُفْيَانُ) هُوَ الثوري وحديثه أخرجه الترمذي والدارمي وبن الْجَارُودِ مِثْلَ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ سَنَدًا وَمَتْنًا (وَرَوَاهُ شُعْبَةُ) وَحَدِيثُهُ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طُرُقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعْتُ رَيْحَانَ بْنَ يَزِيدَ وكان أعرابيا صدوقا قالقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو لَا يَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ قَوِيٍّ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَرْفَعْهُ (وَالْأَحَادِيثُ الْأُخَرُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ جَمْعُ آخَرَ أَيْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَعَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبِي هريرة عند بن الْجَارُودِ وَجَابِرٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ (عَنِ النَّبِيِّ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّفْظَتَيْنِ أَيْ لِذِي مِرَّةٍ قَوِيٍّ وَلِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ كِلْتَيْهِمَا رُوِيَتَا عَنِ النَّبِيِّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ مُفَرَّقًا
وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ أَنَّهُ رَأَى اللَّفْظَتَيْنِ مَحْفُوظَتَيْنِ
وَأَمَّا عَطَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ فَرَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَجَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ
قَالَهُ فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَيْ لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَذَكَرَ أَنَّ شُعْبَةَ لَمْ يَرْفَعْهُ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ فِي إِسْنَادِهِ رَيْحَانُ بْنُ يَزِيدَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ ثِقَةٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ شَيْخٌ مَجْهُولٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يَصِحَّ إِسْنَادُهُ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو انْتَهَى كَلَامُهُ
4 - (بَاب مَنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَهُوَ غَنِيٌّ)
[1635] (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ مُرْسَلٌ وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ وبن مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ(5/30)
طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ كَمَا سَيَأْتِي (لِغَنِيٍّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والمساكين (إِلَّا لِخَمْسَةٍ) فَتَحِلُّ لَهُمْ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا بِوَصْفٍ آخَرَ (لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لقوله تعالى وفي سبيل الله أَيْ لِمُجَاهِدٍ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَوِ الْحَجِّ وَاخْتَارَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ (أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ نَحْوِ عَاشِرٍ وَحَاسِبٍ وَكَاتِبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا قِيلَ وَلَا مُطَّلِبِيًّا (أَوْ لِغَارِمٍ) أَيْ مَدِينٍ مِثْلَ مَنِ اسْتَدَانَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ فِي دِيَةٍ أَوْ دَيْنٍ تَسْكِينًا لِلْفِتْنَةِ وَإِنْ كان غنيا
قال الله تعالى والغارمين بِشُرُوطٍ فِي الْفُرُوعِ (أَوْ لِرَجُلٍ) غَنِيٍّ (اشْتَرَاهَا) أَيِ الصَّدَقَةَ (بِمَالِهِ) مِنَ الْفَقِيرِ الَّذِي أَخَذَهَا (أَوْ لِرَجُلٍ) غَنِيٍّ (جَارٌ مِسْكِينٌ) الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْفَقِيرَ (فَأَهْدَاهَا) الصَّدَقَةَ (لِلْغَنِيِّ) فَتَحِلُّ لَهُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ بَلَغَتْ مَحَلَّهَا فِيهِ
وَقَوْلُهُ وَلَهُ جَارٌ خَرَجَ عَلَى جِهَةِ التَّمْثِيلِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ فَالْمَدَارُ عَلَى إِهْدَاءِ الصَّدَقَةِ الَّتِي مَلَّكَهَا الْمِسْكِينُ لِجَارٍ أَوْ لِغَيْرِهِ وَفِي حديث إهداء بريرة كما تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا إِلَى عَائِشَةَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ كَمَا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ الْإِهْدَاءُ لَيْسَ بِقَيْدٍ فَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ كَمَا سَيَأْتِي أَوْ جَارٌ فَقِيرٌ يتصدق عليها فيهدي لك أو يدعوك قال بن عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا الْحَدِيثُ مُفَسِّرٌ لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الْمَفْرُوضَةَ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورِينَ
قَالَ الْبَاجِيُّ فَإِنْ دَفَعَهَا لِغَنِيٍّ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ عَالِمًا بِغِنَاهُ لَمْ تُجْزِهِ بِلَا خِلَافٍ فَإِنِ اعْتَقَدَ فَقْرَهُ فقال بن الْقَاسِمِ يَضْمَنُ إِنْ دَفَعَهَا لِغَنِيٍّ أَوْ كَافِرٍ وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْهَدِيَّةِ تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ
ذَكَرَهُ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْغَازِيَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ وَيَسْتَعِينُ بِهَا فِي غَزْوِهِ وَهُوَ مِنْ سَهْمِ السَّبِيلِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الْغَازِي مِنَ الصَّدَقَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا بِهِ وَسَهْمُ السَّبِيلِ غير سهم بن السَّبِيلِ وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْمِيَةِ وَعَطَفَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْوَاوِ الَّذِي هُوَ حَرْفُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَذْكُورَيْنِ الْمَسْبُوقِ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخر فقال (وفي سبيل الله وبن السبيل) والمنقطع به هو بن السَّبِيلِ وَكَمَا سَهْمُ السَّبِيلِ فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَظَاهِرِهِ فِي الْكِتَابِ
وَقَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا بَيَّنَهُ وَوَكَّدَ أَمْرَهُ فَلَا وَجْهَ لِلذَّهَابِ عَنْهُ
وَفِي قَوْلِهِ أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا(5/31)
بِمَالِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ إِذَا تَصَدَّقَ بِالشَّيْءِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ فَإِنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَكَرِهَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مَعَ تَجْوِيزِهِمُ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِنِ اشْتَرَاهُ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ
وَأَمَّا الْغَارِمُ الْغَنِيُّ فَهُوَ الرَّجُلُ يَتَحَمَّلُ الْحَمَالَةَ وَيُدَانُ فِي الْمَعْرُوفِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَلَهُ مَالٌ إِنْ يَقَعْ فِيهَا افْتَقَرَ فَيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ فَأَمَّا الْغَارِمُ الَّذِي يُدَانُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْغَنِيُّ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ
وَأَمَّا الْعَامِلُ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا عُمَالَةً عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ وَأُجْرَةِ مِثْلِهِ فَسَوَاءً كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُمَالَةَ إِذَا لَمْ يَفْعَلْهُ تَطَوُّعًا
فَأَمَّا الْمُهْدَى لَهُ الصَّدَقَةُ فَهُوَ إِذَا مَلَّكَهَا فَقَدْ خَرَجَتْ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً وَهِيَ مِلْكٌ لِمَالِكٍ تَامِّ الْمِلْكِ جَائِزُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ انْتَهَى كلامه
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ مُسْنَدًا
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ قَدْ وَصَلَ هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بن أسلم
[1636] (بمعناه) ولفظ بن مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا أَوْ لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ لِغَنِيٍّ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ أَوْ فَقِيرٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا لِغَنِيٍّ أَوْ غارم
وأخرجه أيضا الدارقطني (رواه بن عُيَيْنَةَ) سُفْيَانُ الْإِمَامُ (كَمَا قَالَ مَالِكٌ) مُرْسَلًا (وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ) سُفْيَانُ الْإِمَامُ (حَدَّثَنِي الثَّبْتُ) أَيِ الثِّقَةُ (عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مُرْسَلًا وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُسَمِّ الثَّبْتَ
(إِلَّا في سبيل الله أو بن السَّبِيلِ) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَصَحُّ طَرِيقًا ليس فيه ذكر بن السَّبِيلِ فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنَّمَا أَرَادَ وَاللَّهُ أعلم أن بن السَّبِيلِ غَنِيٌّ فِي بَلَدِهِ مُحْتَاجٌ فِي سَفَرِهِ انْتَهَى
[1637] (أَوْ جَارٍ فقِيرٍ) إِضَافَةُ جَارٍ إِلَى فَقِيرٍ (يُتَصَدَّقُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَلَيْهِ) أَيِ الْفَقِيرِ (فَيُهْدِي) مِنَ الْإِهْدَاءِ أَيِ الْفَقِيرُ (لَكَ) الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ (أَوْ يَدْعُوكَ) إِلَى أكل ذلك الطعام(5/32)
من الصدقة (فراس وبن أبي ليلى عن عطية) رواية بن أَبِي لَيْلَى أَخْرَجَهَا الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مَعَانِي الآثار قال المنذري وعطية هو بن سَعْدٍ أَبُو الْحَسَنِ الْعَوْفِيُّ الْكُوفِيُّ وَلَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ انْتَهَى
5 - (بَاب كَمْ يُعْطَى الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْ الزَّكَاةِ)
[1638] (عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ) مُصَغَّرًا (وَدَاهُ) مِنَ الدِّيَةِ (بِمِائَةٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُشْبِهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ عَلَى مَعْنَى الْحَمَالَةِ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ
لِأَنَّهُ شَجَرَ بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ أَهْلِ خَيْبَرَ فِي دَمِ الْقَتِيلِ الَّذِي وُجِدَ بِهَا مِنْهُمْ فَإِنَّهُ لَا مَصْرِفَ لِمَالِ الصَّدَقَاتِ فِي الدِّيَاتِ
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَدْرِ مَا يُعْطَى الْفَقِيرُ مِنَ الصَّدَقَةِ فَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ أَنْ يَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَهُ عِيَالٌ
وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ لَا يُدْفَعُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الزَّكَاةِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا
وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ فِيهِ فَإِذَا زَالَ اسْمُ الْفَقْرِ عَنْهُ لَمْ يُعْطَ
وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهَا مَنْ يَرَى جَمْعَ الصَّدَقَةِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السُّهْمَانِ الثَّمَانِيَةِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ انْتَهَى
6 - (بَاب مَا تَجُوزُ فِيهِ الْمَسْأَلَةُ)
[1639] (حَفْصُ بْنُ عُمَرَ النَّمَرِيُّ) بِفَتْحَتَيْنِ نِسْبَةً إِلَى نَمَرَ (قَالَ الْمَسَائِلُ) جَمْعُ الْمَسْأَلَةِ وَجُمِعَتْ(5/33)
لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَالْمُرَادُ هُنَا سُؤَالُ أَمْوَالِ النَّاسِ (كَدُوحٍ) مِثْلُ صَبُورٍ لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ الْكَدْحِ بِمَعْنَى الْجَرْحِ أَوْ هِيَ آثَارُ الْخُمُوشِ
قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ فَالْإِخْبَارُ بِهِ عَنِ الْمَسَائِلِ بِاعْتِبَارِ مَنْ قَامَتْ بِهِ أَيْ سَائِلُ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ جَارِحٌ لَهُمْ بِمَعْنَى مُؤْذِيهِمْ أَوْ جَارِحٌ وَجْهَهُ وَبِضَمِّ الْكَافِ جَمْعُ كَدْحٍ وَهُوَ أَثَرٌ مُسْتَنْكَرٌ مِنْ خَدْشٍ أَوْ عَضٍّ وَالْجَمْعُ هُنَا أَنْسَبُ لِيُنَاسِبَ الْمَسَائِلَ (يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ) أَيْ يَجْرَحُ وَيَشِينُ بِالسَّائِلِ (وَجْهَهُ) وَيَسْعَى فِي ذَهَابِ عِرْضِهِ بِالسُّؤَالِ يُرِيقُ مَاءَ وَجْهِهِ فَهِيَ كَالْجِرَاحَةِ
وَالْكَدْحُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْجَرْحِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (فَمَنْ شَاءَ) أَيِ الْإِبْقَاءَ (أَبْقَى عَلَى وَجْهِهِ) أَيْ مَاءَ وَجْهِهِ مِنَ الْحَيَاءِ بِتَرْكِ السُّؤَالِ وَالتَّعَفُّفِ (مَنْ شَاءَ) أَيْ عَدَمَ الْإِبْقَاءِ (تَرَكَ) أَيْ ذَلِكَ الْإِبْقَاءَ (إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ) أَيْ حَكَمٌ وَمَلِكٌ بِيَدِهِ بَيْتُ الْمَالِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ سُؤَالِ السُّلْطَانِ مِنَ الزَّكَاةِ أَوِ الْخُمُسِ أَوْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَخُصُّ بِهِ عُمُومَ أَدِلَّةِ تَحْرِيمِ السُّؤَالِ (أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا) أَيْ عِلَاجًا آخَرَ غَيْرَ السُّؤَالِ أَوْ لَا يُوجَدُ مِنَ السُّؤَالِ فِرَاقًا وَخَلَاصًا
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ عِنْدَهَا مِنَ السُّؤَالِ كَمَا فِي الْحَمَالَةِ وَالْجَائِحَةِ وَالْفَاقَةِ بَلْ يَجِبُ حال الاضطرار في العري والجوع
وفي سُبُلِ السَّلَامِ وَأَمَّا سُؤَالُهُ مِنَ السُّلْطَانِ فَإِنَّهُ لَا مَذَمَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْأَلُ مِمَّا هُوَ حَقٌّ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا مِنَّةٌ لِلسُّلْطَانِ عَلَى السَّائِلِ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ فَهُوَ كَسُؤَالِ الْإِنْسَانِ وَكِيلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ حَقِّهِ الَّذِي لَدَيْهِ
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ وَإِنْ سَأَلَ السُّلْطَانَ تَكَثُّرًا فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ فِيهِ وَلَا إِثْمَ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ قَيِّمًا لِلْأَمْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ
وَقَدْ فَسَّرَ الْأَمْرَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ حَدِيثُ قَبِيصَةَ وَفِيهِ لَا يَحِلُّ السُّؤَالُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ ذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ دَمٍ مُوجِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ الْحَدِيثَ
وَقَوْلُهُ أَوْ فِي أَمْرٍ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا أَيْ لَا يَتِمُّ لَهُ حُصُولُهُ مَعَ ضَرُورَةٍ إِلَّا بِالسُّؤَالِ وَيَأْتِي حَدِيثُ قَبِيصَةَ قَرِيبًا وَهُوَ مُبَيِّنٌ وَمُفَسِّرٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[1640] (عَنْ قَبِيصَةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ فَصَادٌ مُهْمَلَةٌ (بْنِ مُخَارِقٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ فَخَاءٌ مُعْجَمَةٌ فَرَاءٌ مَكْسُورَةٌ بَعْدَ الْأَلِفِ فَقَافٌ (الْهِلَالِيِّ) وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَادُهُ فِي أَهْلِ(5/34)
الْبَصْرَةِ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ قَطَنٌ وَغَيْرُهُ (قَالَ تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ مَا يَتَحَمَّلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ لدفع وقوع حرب بسفك الدماء بين الفريقين
ذكره بن الْمَلِكِ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَالِ أَيْ يَسْتَدِينُهُ وَيَدْفَعُهُ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَتَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْحَمَالَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ
وَفِي النَّيْلِ وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ أن الحمالة لابد أَنْ تَكُونَ لِتَسْكِينِ فِتْنَةٍ
وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ اقْتَضَتْ غَرَامَةً فِي دِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا قَامَ أَحَدُهُمْ فَتَبَرَّعَ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ وَالْقِيَامِ بِهِ حَتَّى تَرْتَفِعَ تِلْكَ الْفِتْنَةُ الثَّائِرَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَانُوا إِذَا عَلِمُوا أَنَّ أَحَدَهُمْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً بَادَرُوا إِلَى مَعُونَتِهِ وَأَعْطَوْهُ مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ وَإِذَا سَأَلَ لِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ نَقْصًا فِي قَدْرِهِ بَلْ فَخْرًا (فَقَالَ أَقِمْ) أمر من الإقامة بمعنى أثبت واصبروكن فِي الْمَدِينَةِ مُقِيمًا (حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ) أَيْ يَحْضُرُنَا مَالُهَا (فَنَأْمُرُ لَكَ بِهَا) أَيْ بِالصَّدَقَةِ أو بالحمالة (ثم قال ياقبيصة إِنَّ الْمَسْأَلَةَ) أَيِ السُّؤَالُ وَالشَّحْذَةُ (لَا تَحِلُّ إلا لأحد ثلاثة) في شرح بن الْمَلِكِ قَالُوا هَذَا بَحْثُ سُؤَالِ الزَّكَاةِ وَأَمَّا سُؤَالُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ فَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبٍ لِكَوْنِهِ زَمِنًا أَوْ ذَا عِلَّةٍ أُخْرَى جَازَ لَهُ السُّؤَالُ بِقَدْرِ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَا يَدَّخِرُ وَكَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فَتَرَكَهُ لِاشْتِغَالِ الْعِلْمِ جَازَ لَهُ الزَّكَاةُ وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَإِنْ تَرَكَهُ لِاشْتِغَالِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَصِيَامِهِ لَا تَجُوزُ لَهُ الزَّكَاةُ وَيُكْرَهُ لَهُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ
قَالَهُ فِي الْمِرْقَاةِ (رَجُلٍ) بِالْجَرِّ بَدَلٌ مِنْ أَحَدِ وَقَالَ بن الْمَلِكِ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَبِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ (تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ) أَيْ حَازَتْ بِشَرْطِ أَنْ يَتْرُكَ الْإِلْحَاحَ وَالتَّغْلِيطَ فِي الْخِطَابِ (حَتَّى يُصِيبَهَا) أَيْ إِلَى أَنْ يَجِدَ الْحَمَالَةَ أَوْ يَأْخُذَ الصَّدَقَةَ (ثُمَّ يُمْسِكُ) أَيْ عَنِ السُّؤَالِ يَعْنِي إِذَا أَخَذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ مَا يُؤَدِّي ذَلِكَ الدَّيْنَ لَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ آخر منها
ذكره بن الْمَلِكِ (أَصَابَتْهُ جَائِرَةٌ) أَيْ آفَةٌ وَحَادِثَةٌ مُسْتَأْصِلَةٌ مِنْ جَاحَهُ يَجُوحُهُ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ وَهُوَ الْآفَةُ الْمُهْلِكَةُ لِلثِّمَارِ وَالْأَمْوَالِ (فَاجْتَاحَتْ) أَيِ اسْتَأْصَلَتْ وَأَهْلَكَتْ (مَالَهُ) مِنْ ثِمَارِ بُسْتَانِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ (فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ) أَيْ سُؤَالُ الْمَالِ مِنَ النَّاسِ (حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ مَا تَقُومُ بِهِ حَاجَتُهُ الضَّرُورِيَّةُ (مِنْ عَيْشٍ) أَيْ مَعِيشَةٍ مِنْ قُوتٍ وَلِبَاسٍ (أَوْ قَالَ) شَكٌّ مِنَ(5/35)
الرَّاوِي (سِدَادًا) بِالْكَسْرِ مَا يُسَدُّ بِهِ الْفَقْرُ وَيُدْفَعُ وَيَكْفِي الْحَاجَةَ (وَرَجُلٌ) أَيْ غَنِيٌّ (أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ) أَيْ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ اشْتُهِرَ بِهَا بَيْنَ قومه (حتى يقول) أي على رؤوس الْأَشْهَادِ (ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مَقْصُورًا أَيِ الْعَقْلِ الْكَامِلِ (أَصَابَتْ فُلَانًا الْفَاقَةُ) أَيْ يَقُولُ ثَلَاثَةٌ مِنْ قَوْمِهِ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّهُمْ أَخَبَرُ بِحَالِهِ وَالْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي ثُبُوتِ الْفَاقَةِ (فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ) أَيْ فَبِسَبَبِ هَذِهِ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ صَارَتْ حَلَالًا لَهُ (وَمَا سِوَاهُنَّ) أَيْ هذه الأقسام الثلاثة (سحت) بضمتين وبسكن الثَّانِي وَهُوَ الْأَكْثَرُ هُوَ الْحَرَامُ لَا يَحِلُّ كسبه لأنه بسحت الْبَرَكَةَ أَيْ يُذْهِبُهَا (يَأْكُلُهَا) أَيْ يَأْكُلُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِالْمَسْأَلَةِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ
وَالْحَاصِلُ يَأْكُلُ حَاصِلَهَا
قَالَ فِي السُّبُلِ يَأْكُلُ أَيِ الصَّدَقَةَ أُنِّثَ لِأَنَّهُ جَعَلَ السُّحْتَ عِبَارَةً عَنْهَا وَإِلَّا فَالضَّمِيرُ لَهُ انْتَهَى
(صَاحِبُهَا سُحْتًا) نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ أَوْ بَدَلٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَأْكُلُهَا أو حالا قال بن الْمَلِكِ وَتَأْنِيثُ الضَّمِيرِ بِمَعْنَى الصَّدَقَةِ وَالْمَسْأَلَةِ
وَالْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ الْأَوَّلُ لِمَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً وَذَلِكَ أَنْ يَتَحَمَّلَ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا أَوْ دِيَةً أَوْ يُصَالِحُ بِمَالٍ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ
وَظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ مِنْ مَالِهِ وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْخَمْسَةِ الَّذِي يَحِلُّ لَهُمْ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ كَمَا سَلَفَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
وَالثَّانِي مَنْ أَصَابَ مَالَهُ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ أَوْ أَرْضِيَّةٌ كَالْبَرْدِ وَالْغَرَقِ وَنَحْوِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَقُومُ بِعَيْشِهِ حَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مَا يَقُومُ بِحَالِهِ وَيَسُدُّ خَلَّتَهُ وَالثَّالِثُ مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُ بِحَالِهِ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ لَا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْغَبَاوَةُ وَالتَّغْفِيلُ وَإِلَى كَوْنِهِمْ ثَلَاثَةً ذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ لِلنَّصِّ فَقَالُوا لَا يُقْبَلُ فِي الْإِعْسَارِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ
وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى كِفَايَةِ الِاثْنَيْنِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الشَّهَادَاتِ وحملوا على الْحَدِيثَ عَلَى النَّدْبِ ثُمَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْغِنَى ثُمَّ افْتَقَرَ أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ السُّؤَالُ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا لَهُ بِالْفَاقَةِ يُقْبَلُ قوله
وقد ذهب إلى تحريم السؤال بن أَبِي لَيْلَى وَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِهِ الْعَدَالَةُ
وَالظَّاهِرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ تَحْرِيمُ السُّؤَالِ إِلَّا لِلثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ أو أن لم يكن المسؤول السُّلْطَانَ كَمَا سَلَفَ كَذَا فِي السُّبُلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1641] (يَسْأَلُهُ) حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (فَقَالَ أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ) بِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامِ تَقْرِيرِيٍّ وَمَا نَافِيَةٌ(5/36)
(قَالَ بَلَى حِلْسٌ) أَيْ فِي بَيْتِيَّ حِلْسٌ بِكَسْرِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ لَامِ كِسَاءٌ غَلِيظٌ يَلِي ظَهْرَ الْبَعِيرِ تَحْتَ الْقَتَبِ (نَلْبَسُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ (بَعْضَهُ) أَيْ بِالتَّغْطِيَةِ لِدَفْعِ الْبَرْدِ (وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ) أَيْ بِالْفَرْشِ (وَقَعْبٌ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ قَدَحٌ (نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ) مِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَوْ زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ (قَالَ ائْتِنِي بِهِمَا) أَيْ بِالْحِلْسِ وَالْقَعْبِ (قَالَ) أَيْ أَنَسٌ (مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ) أَيِ الْمَتَاعَيْنِ فِيهِ غَايَةُ التَّوَاضُعِ وَإِظْهَارُ الْمَرْحَمَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ عَلَيْهِمَا رَغَّبَ فِيهِمَا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِمَا مَا فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الشَّدِيدِ (آخُذُهُمَا) بِضَمِّ الْخَاءِ وَيُحْتَمَلُ كَسْرُهَا (قَالَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ) ظَرْفٌ فَقَالَ (أَوْ ثَلَاثًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ (وَقَالَ اشْتَرِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفِي لُغَةٍ بِسُكُونِهَا (بِأَحَدِهِمَا) أَيْ أَحَدِ الدِّرْهَمَيْنِ طَعَامًا (فَأَنْبِذْهُ) بِكَسْرِ الْبَاءِ أَيِ اطْرَحْهُ (إِلَى أَهْلِكَ) أَيْ مِمَّنْ يَلْزَمُكَ مُؤْنَتُهُ (وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا) بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِ أَيْ فَأْسًا قِيلَ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَالتَّشْدِيدِ (فَأَتَاهُ به) أي بعد ما اشْتَرَاهُ (فَشَدَّ) مِنْ بَابِ ضَرَبَ يُقَالُ شَدَّ يَشِدُّ شِدَّةً أَيْ قَوِيَ فَهُوَ شَدِيدٌ (عُودًا) أَيْ مُمْسِكًا (بِيَدِهِ) الْكَرِيمَةِ
وَالْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْكَمَ فِي الْقَدُومِ مِقْبَضًا مِنَ الْعُودِ وَالْخَشَبِ لِيُمْسَكَ بِهِ الْقَدُومُ لِأَنَّ الْقَدُومَ بِغَيْرِ الْمِقْبَضِ لَا يَسْتَطِيعُ الرَّجُلُ بِهِ قَطْعَ الْحَطَبِ وَغَيْرِهِ بِلَا كُلْفَةٍ فَلِذَلِكَ فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَضُّلًا وَامْتِنَانًا عَلَيْهِ
وَفِي الْفَارِسِيَّةِ بمحكم كرد دران قدوم رسة رابدست خود (فَاحْتَطِبْ) أَيِ اطْلُبِ الْحَطَبَ وَاجْمَعْ (وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) أَيْ لَا تَكُنْ هُنَا هَذِهِ الْمُدَّةَ حَتَّى لَا أَرَاكَ
وَهَذَا مِمَّا أُقِيمَ فِيهِ الْمُسَبَّبُ مَقَامَ السَّبَبِ
وَالْمُرَادُ نَهْيُ الرَّجُلِ عَنْ تَرْكِ الِاكْتِسَابِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا نَهْيَ نَفْسِهِ عَنِ الرُّؤْيَةِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ قَالَ سِيبَوَيْهِ من كلامهم لا أرينك ها هنا وَالْإِنْسَانُ لَا يَنْهَى نَفْسَهُ وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لَا تكون ها هنا فإن من كان ها هنا رَأَيْتُهُ وَنَظِيرُهُ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ النَّهْيُ عَنِ الْمَوْتِ وَالْمَعْنَى عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الْمَوْتَ فَيَنْتَهُونَ عَنْهُ وإنما(5/37)
الْمَعْنَى وَلَا تَكُونُنَّ عَلَى حَالٍ سِوَى الْإِسْلَامِ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْمَوْتُ انْتَهَى (أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً) بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْكَافِ أَثَرٌ كَالنُّقْطَةِ أَيْ حَالَ كَوْنِهَا عَلَامَةً قَبِيحَةً أَوْ أَثَرًا مِنَ الْعَيْبِ لِأَنَّ السُّؤَالَ ذُلٌّ فِي التَّحْقِيقِ (إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ) أَيْ لَا تَحِلُّ وَلَا تَجُوزُ (فَقْرٍ مُدْقِعٍ) بِدَالٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قَافٌ أَيْ شَدِيدٍ يُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى الدَّقْعَاء وَهُوَ التُّرَابُ وَقِيلَ هُوَ سُوءُ احْتِمَالِ الْفَقْرِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (أَوْ لِذِي غُرْمٍ) أَيْ غَرَامَةٍ أَوْ دَيْنٍ (مُفْظِعٍ) أَيْ فَظِيعٍ وَثَقِيلٍ وَفَضِيحٍ (أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا أَيْ مُؤْلِمٍ وَالْمُرَادُ دَمٌ يُوجِعُ الْقَاتِلَ أَوْ أَوْلِيَاءَهُ بِأَنْ تَلْزَمَهُ الدِّيَةَ وَلَيْسَ لَهُمْ مَا يُؤَدِّي بِهِ الدِّيَةُ وَيَطْلُبُ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ مِنْهُمْ وَتَنْبَعِثُ الْفِتْنَةُ وَالْمُخَاصَمَةُ بَيْنَهُمْ وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَتَحَمَّلَ الدِّيَةَ فَيَسْعَى فِيهَا وَيَسْأَلُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ وَلَيْسَ لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ مَالٌ وَلَا يُؤَدِّي أَيْضًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهَا قَتَلُوا الْمُتَحَمِّلَ عَنْهُ وَهُوَ أَخُوهُ أَوْ حَمِيمُهُ فَيُوجِعُهُ قَتْلُهُ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَالْأَخْضَرُ بْنُ عَجْلَانَ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ صَالِحٌ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ
7 - (بَاب كَرَاهِيَةِ الْمَسْأَلَةِ)
[1642] (عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ) قَالَ النَّوَوِيُّ اسْمُ أَبِي إِدْرِيسَ عَائِذُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَاسْمُ أَبِي مُسْلِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثُوَبٍ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَبَعْدَهَا موحدة ويقال بن ثَوَابٍ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَيُقَالُ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالزُّهْدِ وَالْكَرَامَاتِ الظَّاهِرَاتِ وَالْمَحَاسِنِ الْبَاهِرَاتِ أَسْلَمَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَلْقَاهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ فِي النَّارِ فَلَمْ يَحْتَرِقْ فَتَرَكَهُ فَجَاءَ مُهَاجِرًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الطَّرِيقِ فَجَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَقِيَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وعمر وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا قَوْلُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْأَنْسَابِ إِنَّهُ أَسْلَمَ فِي زَمَنِ(5/38)
مُعَاوِيَةَ فَغَلَطٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَأَصْحَابِ التَّوَارِيخِ وَالْمَغَازِي وَالسِّيَرِ وَغَيْرِهِمْ (عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ) عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ مِنَ الْحَبِيبِ الأمين (فقال ألا تبايعون رسول الله) فِيهَا الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ (فَلَقَدْ كَانَ بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلَخْ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومِ لِأَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ السُّؤَالِ فَحَمَلُوهُ عَلَى عُمُومِهِ
وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى التَّنَزُّهِ عَنْ جَمِيعِ مَا يُسَمَّى سُؤَالًا وَإِنْ كَانَ حَقِيرًا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ (حَدِيثُ هِشَامِ) بْنِ عَمَّارٍ (لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا سَعِيدُ) بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْ هَذَا الْمَتْنُ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ لَمْ يَرْوِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ عَوْفٍ إِلَّا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَسَعِيدٌ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْمَتْنِ عَنْ رَبِيعَةَ وَرَوَى عَنْ سَعِيدٍ جَمَاعَةٌ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عند المؤلف وعند بن مَاجَهْ فِي الْجِهَادِ وَمَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي الزَّكَاةِ وَأَبُو مُسْهِرٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ فِي الصَّلَاةِ
[1643] (مَنْ تَكَفَّلَ) مَنِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيْ ضَمِنَ وَالْتَزَمَ (لِي) وَيَتَقَبَّلُ مِنِّي (أَنْ لَا يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا) أَيْ مِنَ السُّؤَالِ أَوْ مِنَ الْأَشْيَاءِ (فَأَتَكَفَّلَ) بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ أَيْ أَتَضَمَّنُ (لَهُ بِالْجَنَّةِ) أَيْ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ عُقُوبَةٍ
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ (فَقَالَ ثَوْبَانُ أَنَا) أَيْ تَضَمَّنْتُ أَوْ أَتَضَمَّنُ (فَكَانَ) ثَوْبَانُ بَعْدَ ذَلِكَ (لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا) أَيْ وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ
وَاسْتُثْنِيَ مِنْهُ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَوْتَ فَإِنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ بَلْ قِيلَ إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْأَلْ حَتَّى يَمُوتَ يَمُوتُ عَاصِيًا
8 - (باب في الاستعفاف)(5/39)
[1644] أَيْ فِي شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ
(أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ) لَمْ يَتَعَيَّنْ لِي أسماءهم إِلَّا أَنَّ النَّسَائِيَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ خُوطِبَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلُفِظَ فَفِي حَدِيثِهِ سَرَّحَتْنِي أُمِّي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي لِأَسْأَلَهُ مِنْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ فَأَتَيْتُهُ وَقَعَدْتُ فَقَالَ مَنِ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ الْحَدِيثَ وَزَادَ فِيهِ وَسَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَقَدْ أَلْحَفَ فَقُلْتُ نَاقَتِي خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ
ذَكَرَهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي (حتى إذا نفذ) بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ فَرَغَ وَفِي (مِنْ خَيْرٍ) أَيْ مَالٍ وَمِنْ بَيَانٌ لِمَا وَمَا خَبَرِيَّةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِلشَّرْطِ أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ مَوْجُودٌ عِنْدِي أُعْطِيكُمْ (فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ) أَيْ أحبسه وأخبؤه وَأَمْنَعَكُمْ إِيَّاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْكُمْ
وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ السَّخَاءِ وَإِنْفَاذِ أَمْرِ اللَّهِ
وَفِيهِ إِعْطَاءُ السَّائِلِ مَرَّتَيْنِ وَالِاعْتِذَارُ إِلَى السَّائِلِ وَالْحَضُّ عَلَى التَّعَفُّفِ
وَفِيهِ جَوَازُ السُّؤَالِ لِلْحَاجَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى تَرْكَهُ وَالصَّبْرَ حَتَّى يَأْتِيَهُ رِزْقُهُ بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ (وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ) أَيْ مَنْ يَطْلُبْ مِنْ نَفْسِهِ الْعِفَّةَ عَنِ السُّؤَالِ
قَالَ الطِّيبِيُّ أَوْ يَطْلُبِ الْعِفَّةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ السِّينُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ (يُعِفَّهُ اللَّهُ) يَجْعَلْهُ عَفِيفًا مِنَ الْإِعْفَافِ
وَهُوَ إِعْطَاءُ الْعِفَّةِ وَهِيَ الْحِفْظُ عَنِ الْمَنَاهِي يَعْنِي مَنْ قَنَعَ بِأَدْنَى قُوتٍ وَتَرَكَ السُّؤَالَ تَسْهُلُ عَلَيْهِ الْقَنَاعَةُ وَهِيَ كَنْزٌ لَا يَفْنَى (وَمَنْ يَسْتَغْنِ) أَيْ يُظْهِرِ الْغِنَى بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ أَمْوَالِ النَّاسِ وَالتَّعَفُّفُ عَنِ السُّؤَالُ حَتَّى يَحْسَبَهُ الْجَاهِلُ غَنِيًّا مِنَ التَّعَفُّفِ (يُغْنِهِ اللَّهُ) أَيْ يَجْعَلْهُ غَنِيًّا أَيْ بِالْقَلْبِ لِأَنَّ الْغِنَى لَيْسَ عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ إِنَّمَا غِنَى النَّفْسِ (وَمَنْ يَتَصَبَّرْ) أَيْ يَطْلُبْ تَوْفِيقَ الصَّبْرِ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى وَاصْبِرْ وما صبرك إلا بالله أَيْ يَأْمُرْ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ وَيَتَكَلَّفْ فِي التَّحَمُّلِ عَنْ مَشَاقِّهِ وَهُوَ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ لِأَنَّ الصَّبْرَ يَشْتَمِلُ عَلَى صَبْرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْبَلِيَّةِ أَوْ مَنْ يَتَصَبَّرْ عَنِ السُّؤَالِ وَالتَّطَلُّعِ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ بِأَنَّ يَتَجَرَّعَ مَرَارَةَ ذَلِكَ وَلَا يَشْكُو حَالَهُ لِغَيْرِ رَبِّهِ (يُصَبِّرْهُ اللَّهُ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ يُسَهِّلُ عَلَيْهِ الصَّبْرَ فَتَكُونُ الْجُمَلُ مُؤَكَّدَاتٍ
وَيُؤَيِّدُ إِرَادَةَ مَعْنَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ (وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ) أَيْ مُعْطًى أَوْ شَيْئًا (أَوْسَعَ) أَيْ أَشْرَحَ(5/40)
لِلصَّدْرِ (مِنَ الصَّبْرِ) وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقَامَ الصَّبْرِ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِمَكَارِمِ الصِّفَاتِ وَالْحَالَاتِ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1645] (وَهَذَا حَدِيثُهُ) أَيْ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ
وَالْمَعْنَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا يَرْوِيَانِ عَنْ بَشِيرِ بْنِ سَلْمَانَ وَهَذَا لفظ بن الْمُبَارَكِ دُونَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ (مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ) أَيْ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْفَقْرِ وَضِيقِ الْمَعِيشَةِ (فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ) أَيْ عَرَضَهَا عَلَيْهِمْ وَأَظْهَرَهَا بِطَرِيقِ الشِّكَايَةِ لَهُمْ وَطَلَبَ إِزَالَةَ فَاقَتِهِ مِنْهُمْ
قَالَ الطِّيبِيُّ يُقَالُ نَزَلَ بِالْمَكَانِ وَنَزَلَ مِنْ عُلُوٍّ وَمِنَ الْمَجَازِ نَزَلَ بِهِ مَكْرُوهٌ وَأَنْزَلْتُ حَاجَتِي عَلَى كَرِيمٍ وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ مَنِ اعْتَمَدَ فِي سَدِّهَا عَلَى سُؤَالِهِمْ (لَمْ تُسَدُّ فَاقَتُهُ) أَيْ لَمْ تُقْضَ حَاجَتُهُ وَلَمْ تَزَلْ فَاقَتُهُ وَكُلَّمَا تُسَدُّ حَاجَةٌ أَصَابَتْهُ أُخْرَى أَشَدُّ مِنْهَا (وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ) بِأَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَوْلَاهُ (أَوْشَكَ اللَّهُ) أَيْ أَسْرَعَ وَعَجَّلَ (بِالْغِنَى) بِالْكَسْرِ مَقْصُورًا أَيِ الْيَسَارِ وَفِي نُسْخَةِ الْمَصَابِيحِ لَهُ بِالْغَنَاءِ أَيْ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْمَدِّ أَيِ الْكِفَايَةِ
قَالَ شُرَّاحُ الْمَصَابِيحِ وَرِوَايَةُ بِالْغِنَى أَيْ بِالْكَسْرِ مَقْصُورًا عَلَى مَعْنَى الْيَسَارِ تَحْرِيفٌ لِلْمَعْنَى لِأَنَّهُ قَالَ يَأْتِيهِ الْكِفَايَةُ عَمَّا هُوَ فِيهِ انْتَهَى (إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ) قِيلَ بِمَوْتِ قَرِيبٍ لَهُ غَنِيٍّ فَيَرِثُهُ
وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (أَوْ غِنَى) بِكَسْرٍ وَقَصْرٍ أَيْ يَسَارٍ (عَاجِلٍ) أَيْ بِأَنْ يُعْطِيَهُ مَالًا وَيَجْعَلَهُ غَنِيًّا
قَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ هَكَذَا أَيْ عَاجِلٍ بِالْعَيْنِ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَجَامِعِ الْأُصُولِ
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ أَوْ غِنًى آجِلٍ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَهُوَ أَصَحُّ دِرَايَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله انْتَهَى
قُلْتُ نُسَخُ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي عِنْدِي فِي كُلِّهَا عَاجِلٍ بِالْعَيْنِ وَكَذَا فِي نُسَخِ الْمُنْذِرِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غريب
[1646] (عن بن الْفِرَاسِيِّ) بِكَسْرِ الْفَاءِ
قَالَ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ بن الْفِرَاسِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(5/41)
وَقِيلَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ
(أَنَّ الْفِرَاسِيَّ) هُوَ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ وَلَهُ صُحْبَةٌ
ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسأل) بحذف حرف الاستفهام (يارسول اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا) أَيْ لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالٍ (وإن كنت سائلا لابد) أَيْ لَكَ مِنْهُ وَلَا غِنَى لَكَ عَنْهُ (فَسَلِ الصَّالِحِينَ) أَيِ الْقَادِرِينَ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ أَخْيَارَ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَا يَحْرِمُونَ السَّائِلِينَ وَيُعْطُونَ مَا يُعْطُونَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لِأَنَّ الصَّالِحَ لَا يُعْطِي إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ وَلَا يَكُونُ إِلَّا كَرِيمًا وَرَحِيمًا وَلَا يَهْتِكُ الْعِرْضَ وَلِأَنَّهُ يَدْعُو لَكَ فَيُسْتَجَابُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
وَيُقَالُ فِيهِ عَنِ الْفِرَاسِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يقول عن بن الْفِرَاسِيِّ عَنْ أَبِيهِ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَهُوَ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ فِي الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ وَالْحِلُّ مَيْتَتُهُ كِلَاهُمَا يَرْوِيهِ اللَّيْثُ بن سعد
انتهى
[1647] (عن بن الساعدي) قال القاضي عياض الصواب بن السَّعْدِيِّ وَاسْمُهُ قُدَامَةُ وَقِيلَ عَمْرٌو وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ السَّعْدِيُّ لِأَنَّهُ اسْتَرْضَعَ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَأَمَّا السَّاعِدِيُّ فَلَا يُعْرَفُ لَهُ وَجْهٌ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ قُرَشِيٌّ عَامِرِيٌّ مَكِّيٌّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ مِنْ كَلَامِ الْمُنْذِرِيِّ بِعُمَالَةٍ) قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْعُمَالَةُ بِالضَّمِّ رِزْقُ الْعَامِلِ عَلَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِيمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بَعْد إِجْمَاعهمْ عَلَى أَنَّهُ أَمْر نَدْب وَإِرْشَاد فَقِيلَ هُوَ نَدْب مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُلِّ مَنْ أَعْطَى عَطِيَّة كَانَتْ مِنْ سُلْطَان أَوْ عَامِّيّ صَالِحًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا بَعْد أَنْ يَكُون مِمَّنْ تَجُوز عَطِيَّته حَكَى ذَلِكَ غَيْر وَاحِد وَقِيلَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدْب إِلَى قَبُول عَطِيَّة مِنْ غَيْر السُّلْطَان فَأَمَّا السُّلْطَان فَبَعْضهمْ مَنَعَهَا وَبَعْضهمْ كَرِهَهَا وَقَالَ آخَرُونَ ذَلِكَ نَدْب لِقَبُولِ هَدِيَّة السُّلْطَان دُون غَيْره وَرَجَّحَ بَعْضهمْ الْأَوَّل فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصّ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوه إِلَى هُنَا تَمَّ كَلَامه
وَسِيَاق الْحَدِيث إِنَّمَا يَدُلّ عَلَى عَطِيَّة الْعَامِل عَلَى الصَّدَقَة فَإِنَّهُ يَجُوز لَهُ أَخْذ عِمَالَته وَتَمَوُّلهَا(5/42)
عَمَلِهِ (فَعَمَّلَنِي) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ أَعْطَانِي أُجْرَةَ عَمَلٍ وَجَعَلَ لِيَ عُمَالَةً (مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُ مَا حُصِّلَ مِنَ الْمَالِ عَنْ مَسْأَلَةٍ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عَمَلَ السَّاعِي سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأُجْرَةَ كَمَا أَنَّ وَصْفَ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ هُوَ السَّبَبُ اقْتَضَى قِيَاسُ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ أَنَّ الْمَأْخُوذَ فِي مُقَابَلَتِهِ أُجْرَةٌ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ تَبَعًا لَهُ إِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ
وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى التَّبَرُّعَ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ (فَكُلْ وَتَصَدَّقْ) هَنِيئًا مَرِيئًا وَإِنْ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى أَكْلِهِ فَتَصَدَّقْ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ
وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ عَنْ عُمَرَ فَاجْتَمَعَ فِي إِسْنَادِهِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ كَذَلِكَ
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّعْدِيِّ وَلَمْ يَكُنْ سَعْدِيًّا فَإِنَّمَا قِيلَ لِأَبِيهِ السَّعْدِيُّ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَهُوَ قُرَشِيٌّ عَامِرِيٌّ مَالِكِيٌّ مِنْ مَالِكِ بْنِ حَنْبَلٍ
وَاسْمُ السَّعْدِيِّ عَمْرُو بْنُ وَقْدَانَ وَقِيلَ قُدَامَةُ بْنُ وَقْدَانَ وَأَمَّا السَّاعِدِيُّ فَنِسْبَةً إِلَى بَنِي سَاعِدَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْخَزْرَجِ وَلَا وجه له ها هنا إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نُزُولٌ أَوْ حِلْفٌ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
وَقَوْلُهُ فَعَمَّلَنِي بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا أَيْ جَعَلَ لَهُ الْعُمَالَةَ وَهِيَ أُجْرَةُ الْعَمَلِ وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ وَوِلَايَاتِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ
قِيلَ وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ فِي الصَّدَقَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يَقْسِمُهَا الْإِمَامُ عَلَى أَغْنِيَاءِ النَّاسِ وَفُقَرَائِهِمْ وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَتَمَوَّلْهُ وَقَالَ الْفَقِيرُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الصَّدَقَةِ مَا يَتَّخِذُهُ مَالًا كَانَ عَنْ مَسْأَلَةٍ أَوْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ وَإِرْشَادٍ فَقِيلَ هُوَ نَدْبٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكُلِّ مَنْ أُعْطِيَ عَطِيَّةً كَانَتْ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ عَامِلٍ صَالِحًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ عَطِيَّتُهُ حَكَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَقِيلَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدْبٌ إِلَى قَبُولِ عَطِيَّةِ غَيْرِ السُّلْطَانِ فَأَمَّا السُّلْطَانُ فَبَعْضُهُمْ مَنَعَهَا وَبَعْضُهُمْ كَرِهَهُ وقال اخرون
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَالْحَدِيث لِذَلِكَ وَعَلَيْهِ خَرَجَ جَوَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهِ الْعُمُوم فِي كُلّ عَطِيَّة مِنْ كل معط والله أعلم(5/43)
ذَلِكَ نَدْبٌ لِقَبُولِ هَدِيَّةِ السُّلْطَانِ دُونَ غَيْرِهِ وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَصِّصُ وَجْهًا مِنَ الْوُجُوهِ
انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
[1648] (مِنْهَا) أَيْ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ (وَالْمَسْأَلَةَ) عَطْفٌ عَلَى الصَّدَقَةِ أَيْ يَذْكُرُ السُّؤَالَ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ وَالْمَسْأَلَةَ بِالْوَاوِ قَبْلَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ مَالِكٍ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَحُضُّ الْغَنِيَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْفَقِيرَ عَلَى التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ أو يحضه على التعفف ويدم الْمَسْأَلَةَ (الْيَدُ الْعُلْيَا) أَيِ الْمُنْفِقَةُ أَوِ الْمُتَعَفِّفَةُ أَوِ الْعَطِيَّةُ الْجَزِيلَةُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ وَالْأَوْلَى مَا فَسَّرَ الْحَدِيثَ بِالْحَدِيثِ (خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى) أَيِ السَّائِلِ أَوِ الْعَطِيَّةِ الْقَلِيلَةِ
وَفِي فَتْحِ الْبَارِي وَأَمَّا يَدُ الْآدَمِيِّ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ يَدُ الْمُعْطِي وَقَدْ تَضَافَرَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهَا عُلْيَا ثَانِيهَا يَدُ السَّائِلِ وَقَدْ تَضَافَرَتْ بِأَنَّهَا سُفْلَى سَوَاءً أَخَذَتْ أَمْ لَا وَهَذَا مُوَافِقٌ لِكَيْفِيَّةِ الْإِعْطَاءِ وَالْأَخْذِ غَالِبًا وَلِلْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُمَا ثَالِثُهَا يَدُ الْمُتَعَفِّفِ عَنِ الْأَخْذِ وَلَوْ بَعْدَ أَنْ تُمَدَّ إِلَيْهِ يَدُ الْمُعْطِي مَثَلًا وَهَذِهِ تُوصَفُ بِكَوْنِهَا عُلْيَا عُلُوًّا مَعْنَوِيًّا رَابِعُهَا الْآخِذُ بِغَيْرِ سُؤَالِ وَهَذِهِ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا فَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى أَنَّهَا سُفْلَى وَهَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ فَلَا يَطَّرِدُ فَقَدْ تَكُونُ عُلْيَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ
انْتَهَى مُخْتَصَرًا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ الْمُتَعَفِّفَةُ أَشْبَهُ وَأَصَحُّ فِي الْمَعْنَى وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ ذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ وَهُوَ يَذْكُرُ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ مِنْهَا فَعَطْفُ الْكَلَامِ عَلَى سُنَنِهِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا يُطَابِقُهُ فِي مَعْنَاهُ أَوْلَى
وَقَدْ يَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ مَعْنَى الْعُلْيَا هُوَ أَنَّ يَدَ الْمُعْطِي مُسْتَعْلِيَةٌ فَوْقَ يَدِ الْآخِذِ يَجْعَلُونَهُ مِنْ عَلَوْتُ الشَّيْءَ إِلَى فَوْقِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدِي بِالْوَجْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عَلَى الْمَجْدُ وَالْكَرْمُ يُرِيدُ بِهِ التَّرَفُّعَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّعَفُّفَ عَنْهَا انْتَهَى (وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ) مِنَ الْإِنْفَاقِ (اخْتُلِفَ عَلَى أَيُّوبَ) السَّخْتِيَانِيِّ (قَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ) عَنْ أَيُّوبَ (الْيَدُ الْعُلْيَا الْمُتَعَفِّفَةُ) بِالْعَيْنِ وَالْفَاءَيْنِ مِنَ الْعِفَّةِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وتفسير من فسر اليد العليا بالآخذة باطل قطعا من وجوه(5/44)
وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ عَنْ أَيُّوبَ مِثْلَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَغَيْرِهِ رَوَى عَنْ أَيُّوبَ بِلَفْظِ الْيَدِ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ وأما عبد الوراث فَرَوَى عَنْ أَيُّوبَ بِلَفْظِ الْيَدُ الْعُلْيَا وَهَذَا الِاخْتِلَافُ عَلَى أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ ثُمَّ اخْتُلِفَ عَلَى حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ الرَّاوِي عَنْ أَيُّوبَ فَقَالَ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ الْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ (وَقَالَ وَاحِدٌ) هُوَ مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ كَمَا رَوَاهُ مُسَدَّدٌ فِي مسنده ومن طريقه أخرجه بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ كَذَا فِي الْفَتْحِ
وَقَالَ الْحَافِظُ زَيْنٌ الْعِرَاقِيُّ قُلْتُ بَلْ قَالَهُ عَنْ حَمَّادٍ اثْنَانِ أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ الزَّهْرَانِيُّ كَمَا رُوِّينَاهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ لِيُوسُفَ بْنِ يعقوب القاضي والآخر مسدد كما رواه بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْهُ الْمُتَعَفِّفَةُ وَقَالَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْهُ الْمُنْفِقَةُ رَوِّينَاهُمَا فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَرَجَّحَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ رِوَايَةَ الْمُتَعَفِّفَةِ فقال أنها أشبه وأصح ورجح بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ رِوَايَةَ الْمُنْفِقَةِ فَقَالَ إِنَّهَا أَوْلَى وَأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ الْمُتَعَفِّفَةُ وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ غَارِمٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إِنَّهُ الصَّحِيحُ قَالَ وَيُحْتَمَلُ صِحَّةُ الرِّوَايَتَيْنِ فَالْمُنْفِقَةُ أَعْلَى مِنَ السَّائِلَةِ وَالْمُتَعَفِّفَةُ أَوْلَى مِنَ السَّائِلَةِ انْتَهَى
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الْوَارِثِ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا مَوْصُولَةً
وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادٍ بِلَفْظِ وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُعْطِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ بِلَفْظِ الْمُتَعَفِّفَةِ فَقَدْ صَحَّفَ كَذَا فِي الْغَايَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ الْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ السُّفْلَى الْمُمْسِكَةُ الْمَانِعَةُ انتهى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
أحدها أن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم بالمنفقة يدل على بطلانه
الثاني أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنها خير من اليد السفلى ومعلوم بالضرورة أن العطاء خير وأفضل من الأخذ فكيف تكون يد الآخذ أفضل من يد المعطي
الثالث أن يد المعطي أعلى من يد السائل حسا ومعنى وهذا معلوم بالضرورة
الرابع أن العطاء صفة كمال دال على الغنى والكرم والإحسان والمجد والأخذ صفة نقص مصدره عن الفقر والحاجة فكيف تفضل يد المعطى هذا عكس الفطرة والحس والشريعة والله أعلم(5/45)
[1649] (مالك بن نضلة) ويقال بن عَوْفِ بْنِ نَضْلَةَ وَالِدِ أَبِي الْأَحْوَصِ صَحَابِيٌّ قَلِيلُ الْحَدِيثِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ) وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ قَالَ الْحَافِظُ صَحِيحٌ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ مَرْفُوعًا يَدُ اللَّهِ فَوْقَ يَدِ الْمُعْطِي وَيَدُ الْمُعْطِي فَوْقَ يَدِ الْمُعْطَى وَيَدُ الْمُعْطَى أَسْفَلُ الْأَيْدِي
وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ الْجُذَامِيِّ مَرْفُوعًا مِثْلُهُ
وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَحْوَصَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ مِثْلُ رِوَايَةِ الْمُؤَلِّفِ
وَلِأَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ هِيَ الْعُلْيَا وَالسَّائِلَةُ هِيَ السُّفْلَى
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْهَجَرِيِّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصَ عَنِ بن مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ يَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا وَيَدُ الْمُعْطِي الَّتِي تَلِيهَا وَيَدُ السَّائِلِ أَسْفَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَابَعَ عَلِيًّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنِ الْهَجَرِيِّ عَلَى رَفْعِهِ وَرَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عَنِ الْهَجَرِيِّ فَوَقَفَهُ وَقَالَ الْحَاكِمُ حَدِيثٌ مَحْفُوظٌ مَشْهُورٌ وَخَرَّجَهُ
قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ الصَّوَابُ أَنَّ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ كَمَا تَشْهَدُ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ (فَأَعْطِ الْفَضْلَ) هُوَ الْمَالُ لِلْمُسْتَحِقِّينَ (وَلَا تَعْجِزْ) بِلَا النَّهْيِ مِنْ بَابِ ضَرَبَ (عَنْ نَفْسِكَ) أَيْ عَنْ رَدِّ نَفْسِكَ إِذَا مَنَعَتْكَ عَنِ الْإِعْطَاءِ
وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ فَأَعْطِ الْفَضْلَ أَيِ الْفَاضِلَ عَنْ نَفْسِكَ وَعَنْ مَنْ تَلْزَمُكَ مُؤْنَتُهُ
وَقَوْلُهُ وَلَا تَعْجِزْ عَنْ نَفْسِكَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ لَا تَعْجِزْ بَعْدَ عَطِيَّتِكَ عَنْ مُؤْنَةِ نَفْسِكَ وَمَنْ عَلَيْكَ مُؤْنَتُهُ بِأَنْ تُعْطِيَ مَالَكَ كُلَّهُ ثُمَّ تُعَوِّلَ عَلَى السُّؤَالِ انْتَهَى
كَذَا فِي الْغَايَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ وَذَهَبَ الْمُتَصَوِّفَةُ إِلَى أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ الْآخِذَةُ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عَنْ يَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعَ مُهِمِّ الْقَصْدِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى الصَّدَقَةِ أَوْلَى
وَفِيهِ نَدْبٌ إِلَى التَّعَفُّفِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَحَضٌّ عَلَى مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَتَرْكِ دَنِيِّهَا
وَفِيهَا أَيْضًا حَثٌّ عَلَى الصَّدَقَةِ انْتَهَى
9 - (بَاب الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ)
[1650] وَبَنُو هَاشِمٍ هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَبَّاسٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ الْحَارِثِ بن(5/46)
عبد المطلب وهاشم هو بن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مرة (عن بن أَبِي رَافِعٍ) هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ كَاتِبُ عَلِيٍّ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِمٍ (عَنْ أَبِي رافع) مولى النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ (بَعَثَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ) أَيْ أَرْسَلَهُ سَاعِيًا لِيَجْمَعَ الزَّكَاةَ وَيَأْتِيَ بِهَا إِلَيْهِ فَلَمَّا أَتَى أَبَا رَافِعٍ فِي طَرِيقِهِ (فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ اصْحَبْنِي) أَيِ ائْتِ مَعِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهَا) أَيْ مِنَ الصَّدَقَةِ بِسَبَبِ ذَهَابِكَ مَعِي أَوْ بِأَنْ أَقُولَ لَهُ لِيُعْطِيَ نَصِيبَكَ مِنَ الزَّكَاةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْمُرَافَقَةَ وَالْمُصَاحَبَةَ وَالْمُعَاوَنَةَ عِنْدَ السَّفَرِ لَا بَعْدَ الرُّجُوعِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُهُ (قَالَ) أَبُو رَافِعٍ (فَأَسْأَلُهُ) أَيْ لَا أَصْحَبُكَ حَتَّى أَجِيءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْتَأَذِنَهُ أَوْ أَسْأَلَهُ هَلْ يَجُوزُ لِيَ أَمْ لَا (فَسَأَلَهُ) عَنْ ذَلِكَ (فَقَالَ مَوْلَى الْقَوْمِ) أَيْ عُتَقَاؤُهُمْ (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أَيْ فَحُكْمُهُمْ كَحُكْمِهِمْ (وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ) فَكَيْفَ تَحِلُّ لِمَوَالِيهِمْ
وَهَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي مَنْ تَحْرُمُ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ وَكَذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِبَنِي عَبْدِ الْمَطْلَبِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ مِنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى وَأَشْرَكَهُمْ فِيهِ مَعَ بَنِي هَاشِمٍ وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ غَيْرَهُمْ وَتِلْكَ الْعَطِيَّةُ عِوَضٌ عُوِّضُوهُ بَدَلًا عَمَّا حُرِمُوهُ مِنَ الصَّدَقَةِ فَأَمَّا موالي بني هاشم فإنه لاحظ لَهُمْ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرَمُوا الصَّدَقَةَ
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ تَنْزِيهًا لَهُ وَقَالَ مَوْلَى الْقَوْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّشَبُّهِ لِلِاسْتِنَانِ بِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِسِيرَتِهِمْ فِي اجْتِنَابِ مَالِ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ تَكْفِيهِ الْمُؤْنَةُ إِذْ كَانَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلًى لَهُ وَكَانَ يَتَصَرَّفُ لَهُ فِي الْحَاجَةِ وَالْخِدْمَةِ فَقَالَ لَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى إِذَا كُنْتَ تَسْتَغْنِي بِمَا أُعْطِيتَ فَلَا تَطْلُبْ أَوْسَاخَ النَّاسِ فَإِنَّكَ مَوْلَانَا وَمِنَّا انْتَهَى
وَقَالَ النَّوَوِيُّ تَحْرِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ
هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ آلَهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ
وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ خَاصَّةً
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا
وَقَالَ أَصْبُغُ الْمَالِكِيُّ هُمْ بَنُو قُصَيٍّ
دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَهَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَعَثَ(5/47)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَرْقَمُ بْنُ الْأَرْقَمِ بْنِ الْقُرَشِيِّ الْمَخْزُومِيِّ بَيَّنَ ذَلِكَ الْخَطِيبُ وَالنَّسَائِيُّ وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي اسْتَخْفَى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دَارِهِ بِمَكَّةَ فِي أَسْفَلِ الصَّفَا حَتَّى كَمَّلُوا الْأَرْبَعِينَ رَجُلًا آخِرُهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهِيَ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْخَيْزُرَانِ وَأَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ وَقِيلَ أَسْلَمُ وَقِيلَ ثَابِتٌ وَقِيلَ هُرْمُزُ انْتَهَى كَلَامُهُ
[1651] (بِالتَّمْرَةِ الْعَائِرَةِ) بِالْمُهْمَلَةِ أَيِ السَّاقِطَةِ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهَا مِنْ عَارَ يُعِيرُ يُقَالُ عَارَ الْفَرَسُ يَعِيرُ إِذَا أُطْلِقَ مِنْ مَرْبِطِهِ مَارًّا عَلَى وَجْهِهِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْعَائِرَةُ هِيَ السَّاقِطَةُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ صَاحِبُهَا وَمِنْ هَذَا قِيلَ قَدْ عَارَ الْفَرَسُ إِذَا انْفَلَتَ عَنْ صَاحِبِهِ وَذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يَرْتَعْ (أَنْ تَكُونَ) أَيِ التَّمْرَةُ (صَدَقَةً) مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْوَرَعِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ وَنَحْوَهَا مِنَ الطَّعَامِ إِذَا وَجَدَهَا الْإِنْسَانُ مُلْقَاةً فِي طَرِيقٍ وَنَحْوِهَا أَنَّ لَهُ أَخْذَهَا وَأَكْلَهَا إِنْ شَاءَ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ اللُّقَطَةِ الَّتِي حُكْمُهَا التَّعْرِيفُ لَهَا انْتَهَى
[1652] (وَجَدَ تَمْرَةً) فِي الطَّرِيقِ مُلْقَاةً (لَأَكَلْتُهَا) تَعْظِيمًا لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَا وُجِدَ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يُطَالِبُهُ مَالِكُهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ وَعَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالْمُتَّقِي أَنْ يَجْتَنِبَ عَمَّا فِيهِ تَرَدُّدٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (رَوَاهُ هِشَامٌ) الدَّسْتُوَائِيُّ (عَنْ قَتَادَةَ هَكَذَا) أَيْ كَمَا رَوَاهُ خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ قَتَادَةَ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ رِوَايَةِ هِشَامٍ وَخَالِدٍ وَرِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ حَمَّادًا لَمْ يَجْعَلِ الْحَدِيثَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما جَعَلَهُ مِنْ فَهْمِ أَنَسٍ وَأَمَّا خَالِدٌ وَهِشَامٌ فَجَعَلَاهُ مَرْفُوعًا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِوَايَةُ هِشَامٍ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ(5/48)
[1653] (فِي إِبِلٍ أَعْطَاهَا إِيَّاهُ) أَيْ عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (مِنَ الصَّدَقَةِ) قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ لَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ وَالَّذِي لَا أَشُكُّ فِيهِ أَنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْعَبَّاسِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى مِنَ الْفَيْءِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ إِنْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ قَضَاءً عَنْ سَلَفٍ كَانَ اسْتَلَفَهُ مِنْهُ لِأَهْلِ الصَّدَقَةِ فقد روي أنه شُكَا إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَنْعِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ هِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا كَأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَسَلَّفَ مِنْهُ صَدَقَةَ عَامَيْنِ فَرَدَّهَا أَوْ رَدَّ صَدَقَةَ أَحَدِ الْعَامَيْنِ عَلَيْهِ لَمَّا جَاءَتْهُ إِبِلُ الصَّدَقَةِ فَرَوَى مَنْ رَوَاهُ عَلَى الِاخْتِصَارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ السَّبَبِ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ فَصَارَ مَنْسُوخًا وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ اسْتَسْلَفَ مِنَ الْعَبَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ إِبِلًا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ انْتَهَى
وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحِلُّ لِآلِهِ وَالثَّانِي تَحْرُمُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَالثَّالِثُ تَحِلُّ لَهُ وَلَهُمْ
وَأَمَّا مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أَصَحُّهَا تَحْرُمُ وَالثَّانِي تَحِلُّ وَبِالتَّحْرِيمِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَبِالْإِبَاحَةِ قَالَ مَالِكٌ وادعى بن بَطَّالٍ الْمَالِكِيُّ أَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ وَأَمَّا مَوَالِي غَيْرِهِمْ فَتُبَاحُ لَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلِ الْأَصَحُّ تَحْرِيمُهَا عَلَى مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1654] (زَادَ) أَيْ أَبُو عُبَيْدَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ فِي رِوَايَتِهِ هَذِهِ الْجُمْلَةَ (أَبِي) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ بَيْنَ الْأَلِفِ وَالْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ أَيْ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (يُبْدِلُهَا) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ يَرْجِعُ إِلَى الْإِبِلِ هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَبِي يُبْدِلُهَا وَفِي بَعْضِهَا أَيْ يُبْدِلُهَا بِحَرْفِ التَّفْسِيرِ وَفِي بَعْضِهَا أَنْ يُبْدِلَهَا بِأَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ وَفِي بَعْضِهَا آتِي بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الاتيان ويبدلها بِحَرْفِ الْبَاءِ الْجَارَّةِ وَالْبَدَلُ مَصْدَرٌ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ النُّسَخُ الَّتِي وَقَفْتُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ ولم يترجح لي(5/49)
واحد مِنْهَا مِنَ الْأُخْرَى
وَالْمَعْنَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ يَقُولُ إِنَّ أَبِي الْعَبَّاسَ أَرْسَلَنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ أَنْ يُبْدِلَ الْإِبِلَ الَّتِي أَعْطَاهَا الْعَبَّاسَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَقَوْلُهُ مِنَ الصَّدَقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِأَنْ يُبْدِلَ لَا بِقَوْلِهِ أَعْطَاهَا بَلْ أَعْطَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الصَّدَقَةِ فَلَمَّا جَاءَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ عَبَّاسٌ أَنْ يُبْدِلَ تِلْكَ الْإِبِلَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامَيْنِ الْخَطَّابِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
0 - (بَاب الْفَقِيرِ يُهْدِي لِلْغَنِيِّ مِنْ الصَّدَقَةِ)
[1655] (أُتِيَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ (بِلَحْمٍ) أَيْ بِلَحْمِ الشَّاةِ (تُصُدِّقَ بِهِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَثَانِيهِ (عَلَى بَرِيرَةَ) مُوَلَّاةِ عَائِشَةَ (فَقَالَ هُوَ) أَيِ اللَّحْمُ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ (لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هدية) قال بن مَالِكٍ يَجُوزُ فِي صَدَقَةٍ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ هُوَ وَلَهَا صِفَةٌ قُدِّمَتْ فَصَارَتْ حَالًا وَيَجُوزُ النَّصْبُ فِيهَا عَلَى الْحَالِ وَالْخَبَرُ لَهَا انْتَهَى
وَالصَّدَقَةُ مِنْحَةٌ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالْهَدِيَّةُ تَمْلِيكُ الْغَيْرِ شَيْئًا تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَإِكْرَامًا لَهُ فَفِي الصَّدَقَةِ نَوْعُ ذُلٍّ لِلْآخِذِ فَلِذَلِكَ حُرِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ الْهَدِيَّةِ وَقِيلَ لِأَنَّ الْهَدِيَّةَ يُثَابُ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا فَتَزُولُ الْمِنَّةُ وَالصَّدَقَةُ يُرَادُ بِهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ فَتَبْقَى الْمِنَّةُ وَلَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ إِذَا تُصُدِّقَ عَلَى الْمُحْتَاجِ بِشَيْءٍ مَلَكَهُ وَصَارَ لَهُ كَسَائِرِ مَا يَمْلِكُهُ فَلَهُ أَنْ يُهْدِيَ بِهِ غَيْرَهُ كَمَا لَهُ أَنْ يُهْدِيَ سَائِرَ أَمْوَالِهِ بِلَا فَرْقٍ ذَكَرَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
1 - (بَاب مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ وَرِثَهَا)
[1656] (بِوَلِيدَةٍ) أَيِ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ (وَإِنَّهَا) أَيْ أُمِّي (تِلْكَ الْوَلِيدَةَ) فَهَلْ آخُذُهَا وَتَعُودُ في(5/50)
مِلْكِي أَمْ لَا (وَجَبَ أَجْرُكِ) أَيْ ثَبَتَ (وَرَجَعَتْ إِلَيْكِ فِي الْمِيرَاثِ) أَيْ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكِ بِالْمِيرَاثِ وَصَارَتِ الْجَارِيَةُ مِلْكًا لَكِ بِالْإِرْثِ وَعَادَتْ إِلَيْكِ بِالْوَجْهِ الْحَلَالِ
وَالْمَعْنَى أَنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْعَوْدِ فِي الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ ليس أمرا اختياريا
قال بن الْمَلِكِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ عَلَى قَرِيبَةٍ ثُمَّ وَرِثَهَا حَلَّتْ لَهُ وَقِيلَ يَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى فَقِيرٍ لِأَنَّهَا صَارَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مسلم والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
2 - (بَاب فِي حُقُوقِ الْمَالِ)
[1657] (قَالَ كُنَّا نَعُدُّ الْمَاعُونَ) أَيْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَيَمْنَعُونَ الماعون وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال هي الزكاة وهو قول بن عُمَرَ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَاعُونُ الْفَأْسُ وَالدَّلْوُ وَالْقِدْرُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَهِيَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ بن عَبَّاسٍ
قَالَ مُجَاهِدٌ الْمَاعُونُ الْعَارِيَةُ وَقَالَ عِكْرِمَةُ أَعْلَاهَا الزَّكَاةُ الْمَعْرُوفَةُ وَأَدْنَاهَا عَارِيَةُ الْمَتَاعِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْكَلْبِيُّ الْمَاعُونُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ
وَقِيلَ أَصْلُ الْمَاعُونِ مِنَ الْقِلَّةِ فَسَمَّى الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْمَعْرُوفَ مَاعُونًا لِأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ
وَقِيلُ الْمَاعُونُ مَا لَا يَحِلُّ الْمَنْعُ مِنْهُ مِثْلُ الْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالنَّارِ كَذَا فِي الْمَعَالِمِ
[1658] (قَالَ مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْمُرَادِ بِالْكَنْزِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي الْحَدِيثِ
فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ هُوَ كُلُّ مَالٍ وَجَبَتْ فِيهِ صَدَقَةُ الزَّكَاةِ فَلَمْ تُؤَدَّ فَأَمَّا مَالٌ خَرَجَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْفَتْوَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ وَفِي آخِرِهِ فَيَقُولُ أَنَا كَنْزُكَ
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ بَدَلَ قَوْلِهِ مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يؤيد مِنْهُمَا حَقَّهُمَا (يُحْمَى عَلَيْهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَالْجَارُّ والمجرور نائب(5/51)
الْفَاعِلِ أَيْ يُوقَدُ عَلَيْهَا ذَاتُ حُمَّى وَحَرٍّ شديد من قوله تعالى نار حامية فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لَيْسَتْ فِي أُحْمِيتْ فِي نَارٍ وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهَا رَاجَعٌ إِلَى الْكَنْزِ لِكَوْنِهِ عِبَارَةٌ عَنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (فِي نَارِ جَهَنَّمَ) يَشْتَدُّ حَرُّهَا (فَتُكْوَى بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ (جَبْهَتُهُ وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ) قِيلَ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ الَّتِي هِيَ الدِّمَاغُ وَالْقَلْبُ وَالْكَبِدُ (حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ) أَيْ يَحْكُمَ (فِي يَوْمٍ) هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (كَانَ مِقْدَارُهُ إِلَخْ) أَيْ عَلَى الْكَافِرِينَ وَيَطُولُ عَلَى بَقِيَّةِ الْعَاصِينَ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ فَلَا يَطُولُ عَلَيْهِمْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمٌ عسير على الكافرين غير يسير (ثُمَّ يُرَى) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الرُّؤْيَةِ أَوِ الْإِرَاءَةِ (سَبِيلُهُ) مَرْفُوعٌ عَلَى الْأَوَّلِ وَمَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي عَلَى الثَّانِي
قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَبَطْنَاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا وَبِرَفْعِ لَامِ سَبِيلِهِ وَنَصْبِهَا
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مَسْلُوبُ الِاخْتِيَارِ يَوْمَئِذٍ مَقْهُورٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرُوحَ إِلَى النَّارِ فَضْلًا عَنِ الجَنَّةِ حَتَّى يُعَيَّنَ لَهُ أَحَدُ السَّبِيلَيْنِ (إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ) إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَنْبٌ سِوَاهُ وَكَانَ الْعَذَابُ تَكْفِيرًا لَهُ (وَإِمَّا إِلَى النَّارِ) إِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ
وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى خُلُودِهِ فِي النَّارِ
وَقِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِأَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ تَرْكَ الزَّكَاةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ إِنْ كَانَ كَافِرًا بِأَنِ اسْتَحَلَّ تَرْكَهَا (أَوْفَرَ مَا كَانَتْ) أَيْ أَكْثَرَ عَدَدًا وَأَعْظَمَ سِمَنًا وَأَقْوَى قُوَّةً يُرِيدُ بِهِ كَمَالَ حَالِ الْغَنَمِ الَّتِي وَطِئَتْ صَاحِبَهَا فِي الْقُوَّةِ وَالسِّمَنِ لِيَكُونَ أَثْقَلَ لِوَطْئِهَا (فَيُبْطَحُ) أَيْ يُلْقَى ذَلِكَ الصَّاحِبُ عَلَى وَجْهِهِ (لَهَا) أَيْ لِتِلْكَ الْغَنَمِ (بِقَاعٍ قَرْقَرٍ) فِي النِّهَايَةِ الْقَاعُ الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي الْوَاسِعُ وَالْقَرْقَرُ الْمَكَانُ الْمُسْتَوِي فَيَكُونُ صِفَةً مُؤَكِّدَةً وَقِيلَ الْأَمْلَسُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ (فَتَنْطَحُهُ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتُكْسَرُ فِي الْقَامُوسِ نَطَحَهُ كَمَنَعَهُ وَضَرَبَهُ أَصَابَهُ بِقَرْنِهِ (بِقُرُونِهَا) إِمَّا تَأْكِيدٌ وَإِمَّا تَجْرِيدٌ (بِأَظْلَافِهَا) جَمْعُ ظِلْفٍ وَهُوَ لِلْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ لِلْفَرَسِ (عَقْصَاءُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ أَيِ الْمُلْتَوِيَةُ الْقُرُونِ (وَلَا جَلْحَاءُ) بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ لَامٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ نَفْيَ الْعَقْصِ وَالِالْتِوَاءِ في(5/52)
قُرُونِهَا لِيَكُونَ أَنْكَى لَهَا وَأَدْنَى أَنْ تَحُوزَ فِي النُّطُوحِ (بِأَخْفَافِهَا) أَيْ بِأَرْجُلِهَا
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ
وَقَدْ زَادَ مُسْلِمٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا صَاحِبِ بَقَرٍ إِلَخْ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ أَصَحُّ حَدِيثٍ وَرَدَ فِي زَكَاةِ الْبَقَرِ
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ لِمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عِنْدَ ذِكْرِ الْخَيْلِ ثُمَّ لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا وَلَا رِقَابِهَا
وَتَأَوَّلَ الْجُمْهُورُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ يُجَاهِدُ بِهَا وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَقِّ فِي رِقَابِهَا الْإِحْسَانُ إِلَيْهَا وَالْقِيَامُ بِعَلْفِهَا وَسَائِرِ مُؤَنِهَا وَالْمُرَادُ بِظُهُورِهَا إِطْرَاقُ فَحْلِهَا إِذَا طُلِبَتْ عَارِيَتُهُ وَقِيلَ الْمُرَادُ حَقُّ اللَّهِ مِمَّا يَكْسِبُهُ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ عَلَى ظُهُورِهَا وَهُوَ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ
[1659] (نَحْوَهُ) أَيْ نَحْوَ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ (قَالَ) أَيْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ (فِي قِصَّةِ الْإِبِلِ) وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ
ولفظه قيل يارسول اللَّهِ فَالْإِبِلُ قَالَ وَلَا صَاحِبَ الْإِبِلِ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا الْحَدِيثَ (حَلَبُهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ بِفَتْحِ اللَّامِ هِيَ اللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ وَحُكِيَ سُكُونُهَا وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسُ (يَوْمَ وِرْدِهَا) بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمَاءُ الَّذِي تَرِدُ عَلَيْهِ
قَالَ النَّوَوِيُّ قِيلَ الْوِرْدُ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ وَنَوْبَةُ الْإِتْيَانِ إِلَى الْمَاءِ فَإِنَّ الْإِبِلَ تَأْتِي الْمَاءَ فِي كُلِّ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَرُبَّمَا تَأْتِي فِي ثَمَانِيَةٍ
قَالَ الطِّيبِيُّ وَمَعْنَى حَلْبِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا أَنْ يُسْقَى أَلْبَانَهَا الْمَارَّةُ وَهَذَا مِثْلُ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْجُذَاذِ بِاللَّيْلِ أَرَادَ أَنْ يُصْرَمَ بِالنَّهَارِ لِيَحْضُرَهَا الْفُقَرَاءُ
وَقَالَ بن الْمَلِكِ وَحَصَرَ يَوْمَ الْوِرْدِ لِاجْتِمَاعِهِمْ غَالِبًا عَلَى الْمِيَاهِ وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ
وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ يَحْلُبَهَا فِي يَوْمِ شُرْبِهَا الْمَاءَ دُونَ غَيْرِهِ لِئَلَّا يَلْحَقَهَا مَشَقَّةُ الْعَطَشِ وَمَشَقَّةُ الْحَلْبِ
وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَهُ وَقَعَ اسْتِطْرَادًا وَبَيَانًا لِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ لَا لِكَوْنِ التَّعْذِيبِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَيْضًا لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى وَقْتِ الْقَحْطِ أَوْ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ
وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنَّ التَّعْذِيبَ عَلَيْهِمَا مَعًا تَغْلِيظٌ
قَالَهُ عَلِيٌّ القارىء في المرقاة(5/53)
[1660] (عَنْ أَبِي عُمَرَ الْغُدَانِيِّ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ أبو عمر ويقال أبو عمر والغداني بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ الْبَصْرِيِّ مَقْبُولٌ وَوَهَمَ مَنْ قَالَ اسْمُهُ يَحْيَى بْنُ عُبَيْدٍ انْتَهَى
وَالْغُدَانِيُّ نِسْبَةً إِلَى غُدَانَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ كَذَا فِي الْمُغْنِي قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مُخْتَصَرًا بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ تُعْطِي الْكَرِيمَةَ) أَيِ النَّفِيسَةَ (وَتَمْنَحُ الْغَزِيرَةَ) بِتَقْدِيمِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى الْمُهْمَلَةِ أَيِ الْكَثِيرَةَ اللَّبَنِ وَالْمَنِيحَةُ الشَّاةُ اللَّبُونُ أَوِ النَّاقَةُ ذَاتُ الدَّرِّ تُعَارُ لِدَرِّهَا فَإِذَا حُلِبَتْ رُدَّتْ إِلَى أَهْلِهَا (تُفْقِرُ الظَّهْرَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ تُعِيرُهُ لِلرُّكُوبِ يُقَالُ أَفْقَرْتُ الرَّجُلَ بَعِيرَهُ يُفْقِرُهُ إفقارا إذ أَعَرْتُهُ إِيَّاهُ لِيَرْكَبَهُ وَيَبْلُغَ عَلَيْهِ حَاجَتَهُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِفْقَارُ الظَّهْرِ إِعَارَتُهُ لِلرُّكُوبِ يُقَالُ (أَفْقَرْتُ) الرَّجُلِ بَعِيرِي إِذَا أَعَرْتُهُ ظَهْرَهُ لِيَرْكَبَهُ وَيَبْلُغَ حَاجَتَهُ (وَتَطْرِقُ الْفَحْلَ) أَيْ تُعِيرُهُ لِلضِّرَابِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَإِطْرَاقُ الْفَحْلِ عَارِيَتَهُ لِلضِّرَابِ لَا يَمْنَعُهُ إذْ طَلَبَهُ وَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا وَيُقَالُ طَرَقَ الْفَحْلُ النَّاقَةَ فَهِيَ مَطْرُوقَةٌ وَهِيَ طَرُوقَةُ الْفَحْلِ إِذَا حَانَ لَهَا أَنْ تُطْرَقَ انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
(وَإِعَارَةَ دَلْوِهَا) أَيْ ضرعها
والحديث أخرجه مسلم من طريق بن جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَهَذَا مُرْسَلٌ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وُلِدَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ مَعْدُودٌ فِي كِبَارِ التَّابِعِينَ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ(5/54)
[1662] (مِنْ كُلِّ جَادٍّ) بِالْجِيمِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ هَكَذَا فِي عَامَّةِ النُّسَخِ وَهُوَ الصَّحِيحُ
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ والسِّنْدِيُّ بِالْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ جَذَّ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ إِذَا قَطَعَ وَمِنْ زَائِدَةٌ وَقِيلَ الْمُرَادُ قَدْرٌ مِنَ النَّخْلِ يُجَذُّ مِنْهُ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ فَهُوَ فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ انْتَهَى كَلَامُهُمَا بِتَغَيُّرٍ
قُلْتُ جَادٌّ مُضَافٌ إِلَى عَشَرَةِ أَوَسْقٍ وَبِقِنْوٍ مُتَعَلِّقٍ بِأَمْرٍ وَالْجَادُّ بِمَعْنَى الْمَجْدُودِ أَيْ نَخْلٌ يُجَدُّ يَعْنِي يُقْطَعُ مِنْ ثَمَرَتِهِ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ يُقَالُ لِفُلَانٍ أَرْضٌ جَادُّ مِائَةِ وَسْقٍ أَيْ تُخْرِجُ مِائَةَ وَسْقٍ إِذَا زُرِعَتْ وَهُوَ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ كَذَا فِي اللِّسَانِ
وَقَالَ بن الْأَثِيرِ الْجِدَادُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ صِرَامُ النَّخْلِ وَهُوَ قَطْعُ ثَمَرَتِهَا يُقَالُ جَدَّ الثَّمَرَةَ يَجُدُّهَا جَدًّا وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَنَّهُ أَوْصَى بِجَادِّ مِائَةِ وَسْقٍ لِلْأَشْعَرِيِّينَ وَبِجَادٍّ مِائَةَ وَسْقٍ عَنْهَا لِلشَّيْبِيِّينَ الْجَادُّ بِمَعْنَى الْمَجْدُودِ أَيْ نَخْلٌ يُجَدُّ مِنْهُ مَا يَبْلُغُ مِائَةَ وَسْقٍ
وَمِنْهُ مَنْ رَبَطَ فَرَسًا فَلَهُ جَادُّ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَسْقًا
وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ لِعَائِشَةَ إِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا انْتَهَى
وَفِي جَامِعِ الْأُصُولِ تَعْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ وَهَبَهَا فِي صِحَّتِهِ نَخْلًا يُقْطَعُ مِنْهُ فِي كُلِّ صِرَامٍ عِشْرُونَ وَسْقًا (بِقِنْوٍ يُعَلَّقُ) مُتَعَلِّقٌ بِأَمَرَ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَرَادَ بِالْقِنْوِ الْعِذْقَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ يُعَلَّقُ لِلْمَسَاكِينِ يَأْكُلُونَهُ وَهَذَا مِنْ صَدَقَةِ الْمَعْرُوفِ دُونَ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ وَوَاجِبٌ انْتَهَى
وَقِنْوٌ بِالْفَارِسِيَّةِ خوشه خرما وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ مِنْ كُلِّ نَخْلٍ يُقْطَعُ مِنْ ثَمَرَتِهِ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ بِالْعِذْقِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ يُعَلَّقُ لِلْمَسَاكِينِ يَأْكُلُونَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
[1663] (فَجَعَلَ يُصَرِّفهَا) قَالَ السِّنْدِيُّ أَيْ مُتَعَرِّضًا لِشَيْءٍ يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ النَّاقَةَ أَعْجَزَهَا السَّيْرُ فَأَرَادَ أَنْ يَرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فَيُعْطِيَهُ غَيْرَهَا (فَلْيَعُدْ بِهِ) مِنَ الْعَوْدِ أَيْ فَلْيُقْبِلْ لَهُ(5/55)
وَلِيُحْسِنْ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ هَكَذَا فِي فَتْحِ الْوَدُودِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
[1664] والذين يكنزون الذهب والفضة أَيْ يَجْمَعُونَهَا أَوْ يَدْفِنُونَهَا (كَبُرَ) بِضَمِّ الْبَاءِ أَيْ شَقَّ وَأُشْكِلَ (ذَلِكَ) أَيْ ظَاهِرُ الْآيَةِ مِنَ الْعُمُومِ (عَلَى الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّهُمْ حَسِبُوا أَنَّهُ يُمْنَعُ جَمْعُ الْمَالِ مُطْلَقًا وأَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَثَّلَ مَالًا جَلَّ أَوْ قَلَّ فَالْوَعِيدُ لَاحِقٌ بِهِ (أَنَا أُفَرِّجُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ أُزِيلُ الْغَمَّ وَالْحُزْنَ (عَنْكُمْ) إِذْ لَيْسَ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (فَانْطَلَقَ) أَيْ فَذَهَبَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وفي بَعْضِ النُّسَخِ فَانْطَلَقُوا (إِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (كَبُرَ) أَيْ عَظُمَ (هَذِهِ الْآيَةُ) أَيْ حُكْمُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ عُمُومِ مَنْعِ الْجَمْعِ (إِلَّا لِيُطَيِّبَ) مِنَ التَّفْعِيلِ أَيْ لِيُحِلَّ اللَّهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ لَكُمْ (مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالكُمْ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بها وَمَعْنَى التَّطْيِيبِ أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ إِمَّا أَنْ يُحِلَّ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ الْمَخْلُوطِ بِحَقِّ الْفُقَرَاءِ وَإِمَّا أَنْ يُزَكِّيَهُ مِنْ تَبَعَةِ مَا لَحِقَ بِهِ مِنْ إِثْمِ مَنْعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَنْزِ مَنْعُ الزَّكَاةِ لَا الْجَمْعُ مُطْلَقًا (وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ كَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِكَذَا أَوْ لَمْ يَفْرِضِ الْمَوَارِيثَ إِلَّا لِيَكُونَ طَيِّبًا لِمَنْ يَكُونُ بَعْدَكُمْ
وَالْمَعْنَى لَوْ كَانَ الْجَمْعُ مَحْظُورًا مُطْلَقًا لَمَا افْتَرَضَ اللَّهُ الزَّكَاةَ وَلَا الْمِيرَاثَ (لِتَكُونَ) أَيْ وَإِنَّمَا فَرَضَ الْمَوَارِيثَ لِتَكُونَ الْمَوَارِيثُ لِمَنْ بَعْدَكُمْ (فَقَالَ) أي بن عَبَّاسٍ (فَكَبَّرَ عُمَرُ) أَيْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ فَرَحًا بِكَشْفِ الْحَالِ وَرَفْعِ الْإِشْكَالِ ثُمَّ (قَالَ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَهُ) أَيْ لِعُمَرَ (أَلَا أُخْبِرُكَ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَلَا لِلتَّنْبِيهِ وَأَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَلَا نَافِيَةٌ (بِخَيْرِ مَا يَكْنِزُ الْمَرْءُ) أَيْ بِأَفْضَلِ مَا يَقْتَنِيهِ وَيَتَّخِذُهُ لِعَاقِبَتِهِ (الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) أَيِ الْجَمِيلَةُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا قَالَ الطِّيبِيُّ الْمَرْأَةُ مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ خَبَرُهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بَيَانٌ
قِيلَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أَنْفَعُ مِنَ الْكَنْزِ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا يَدَّخِرُهَا الرَّجُلُ لِأَنَّ النَّفْعَ فِيهَا أَكْثَرُ لِأَنَّهُ (إِذَا نَظَرَ) أَيِ الرَّجُلُ (إِلَيْهَا سَرَّتْهُ) أَيْ جَعَلَتْهُ مَسْرُورًا لِجَمَالِ صُورَتِهَا وَحُسْنِ سِيرَتِهَا وَحُصُولِ حِفْظِ الدِّينِ بِهَا (وَإِذَا أَمَرَهَا) بِأَمْرٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عُرْفِيٍّ (أَطَاعَتْهُ) وَخَدَمَتْهُ (وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ) قَالَ الْقَاضِي لَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(5/56)
أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَكَنْزِهِ مَا دَامُوا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ وَرَأَى اسْتِبْشَارَهُمْ بِهِ رَغَّبَهُمْ عَنْهُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَهِيَ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الْجَمِيلَةُ فَإِنَّ الذَّهَبَ لَا يَنْفَعُكَ إِلَّا بَعْدَ ذَهَابٍ عَنْكَ وَهِيَ مَا دَامَتْ مَعَكَ تَكُونُ رَفِيقَتُكَ تَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَسُرُّكَ وَتَقْضِي عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَطَرَكَ وَتُشَاوِرُهَا فِيمَا يَعِنُّ لَكَ فَتَحْفَظُ عَلَيْكَ سِرَّكَ وَتَسْتَمِدُّ مِنْهَا فِي حَوَائِجِكَ فَتُطِيعُ أَمْرَكَ وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا تُحَامِي مَالَكَ وَتُرَاعِي عِيَالَكَ
ذَكَرَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
3 - (بَاب حَقِّ السَّائِلِ)
[1665] (لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ) فِيهِ الْأَمْرُ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي امْتَهَنَ نَفْسَهُ بِذُلِّ السُّؤَالِ فَلَا يُقَابِلُهُ بِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ وَاحْتِقَارِهِ بَلْ يُكْرِمُهُ بِإِظْهَارِ السُّرُورِ لَهُ وَيُقَدِّرُ أَنَّ الْفَرَسَ الَّتِي تَحْتَهُ عَارِيَةٌ أَوْ أَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ مَعَ الْغِنَى كَمَنْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً أَوْ غَرِمَ غُرْمًا لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أَوْ يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ سَهْمِ السَّبِيلِ فَيُبَاحُ لَهُ أَخْذُهَا مَعَ الْغِنَى عَنْهَا
قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي مِرْقَاةِ الصُّعُودِ وَقَدِ انْتَقَدَ الْحَافِظُ سِرَاجُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ عَلَى الْمَصَابِيحِ أَحَادِيثَ وَزَعَمَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْحَافِظُ الْعَلَائِيُّ فِي كُرَّاسَةٍ ثُمَّ أَبُو الْفَضْلُ بْنُ حَجَرٍ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ
قَالَ الْعَلَائِيُّ أَمَّا الطَّرِيقُ الْأُولَى فَإِنَّهَا حَسَنَةٌ مصعب وثقه بن مَعِينٍ وَغَيْرُهُ
قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ صَالِحٌ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ وَتَوْثِيقُ الْأَوَّلِينَ أَوْلَى بِالِاعْتِمَادِ وَيَعْلَى بْنُ أَبِي يَحْيَى قَالَ فِيهِ أَبُو حاتم مجهول ووثقه بن حِبَّانَ فَعِنْدَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُ وَقَدْ أَثْبَتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَذَّاءِ سَمَاعَ الْحُسَيْنِ عَنْ جَدِّهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ السَّكَنِ وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا كُلُّ رِوَايَاتِهِ مَرَاسِيلُ فَعَلَى هَذَا هِيَ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهَا
فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ بَيَّنَ فِيهَا أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ أَبِيهِ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مُتَّفَقٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَلَكِنَّ شَيْخَهُ لَمْ يُسَمِّهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعْلَى بْنُ أَبِي يَحْيَى الْمُتَقَدِّمُ
وَبِالْجُمْلَةِ الْحَدِيثُ حَسَنٌ وَلَا يَجُوزُ نِسْبَتُهُ إِلَى الْوَضْعِ انْتَهَى قُلْتُ وروينا هذا(5/57)
الْحَدِيثَ بِالسَّنَدِ الْمُسَلْسَلِ فِي أَرْبَعِينَ أَهْلِ الْبَيْتِ لِلشَّيْخِ وَلِيِّ اللَّهِ الدَّهْلَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ يَعْلَى بْنُ أَبِي يَحْيَى سُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ فَقَالَ مَجْهُولٌ
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ سَعِيدُ بْنُ السَّكَنِ
قَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ صِحَاحٍ حُضُورُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعِبُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَقْبِيلُهُ إِيَّاهُ فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي تَأْتِي عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّهَا مَرَاسِيلُ
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ الْحَذَّاءِ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ الْحَسَنِ الْأَطْهَرِ وَاحِدٌ
انْتَهَى
[1667] (أُمِّ بُجَيْدٍ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ اسْمُهَا حَوَّاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ (لَيَقُومَ عَلَى بَابِي) أَيْ يَسْأَلُ شَيْئًا مِنِّي وَيُكَرِّرُ سُؤَالَهُ عَنِّي حَتَّى اسْتَحْيِيَ (إِلَّا) ظِلْفًا بِالْكَسْرِ أَيْ وَلَوْ كَانَ مَا يُدْفَعُ بِهِ ظِلْفًا وَهُوَ لِلْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَالظَّبْيِ وَشِبْهِهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَدَمِ مِنَّا كَالْحَافِرِ لِلْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْخُفِّ لِلْبَعِيرِ يَعْنِي شَيْئًا يَسِيرًا (مُحْرَقًا) مِنَ الْإِحْرَاقِ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي رَدِّ السَّائِلِ بِأَدْنَى مَا تَيَسَّرَ وَلَمْ يُرِدْ صدور هذا الفعل من المسؤول مِنْهُ فَإِنَّ الظِّلْفَ الْمُحْرَقَ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْوَقْتُ زَمَنَ الْقَحْطِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
4 - (بَاب الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ)
[1668] (قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي رَاغِبَةً) بِالْبَاءِ طَامِعَةً طَالِبَةً صِلَتِي (فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ) وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قالت قلت يارسول اللَّهِ قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ(5/58)
فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ فَاسْتَفْتَيْتُ
الْحَدِيثَ (وَهِيَ رَاغِمَةٌ) بِالْمِيمِ مَعْنَاهُ كَارِهَةٌ لِلْإِسْلَامِ سَاخِطَةٌ عَلَيَّ وَفِيهِ جَوَازُ صِلَةِ الْقَرِيبِ الْمُشْرِكِ وَأُمُّ أَسْمَاءَ قَتَلَةُ وَقِيلَ قَتِيلَةُ بِالْقَافِ وَتَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّهَا أَسْلَمَتْ أَمْ مَاتَتْ عَلَى كُفْرِهَا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَوْتِهَا مُشْرِكَةً
قَالَهُ النَّوَوِيُّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهِيَ رَاغِمَةٌ مَعْنَاهُ كَارِهَةٌ لِلْإِسْلَامِ سَاخِطَةٌ عَلَيَّ تُرِيدُ أَنَّهَا لَمْ تَقْدَمْ مُهَاجِرَةً رَاغِبَةً فِي الدِّينِ كَمَا كَانَ يَقْدَمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مَكَّةَ لِلْهِجْرَةِ وَالْإِقَامَةِ بحضرة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا أَمَرَ بِصِلَتِهَا لِأَجْلِ الرَّحِمِ فَأَمَّا دَفْعُ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ إِلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ وَإِنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى غَيْرِهِمْ وَلَوْ كَانَتْ أُمُّهَا مُسْلِمَةً وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا يَجُوزُ لَهَا إِعْطَاؤُهَا الصَّدَقَةَ فَإِنَّ حِلَّتَهَا مَسْدُودَةٌ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا عَلَى وَلَدِهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ غَارِمَةً فَتُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَلَا وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْوَالِدُ غَازِيًا جَازَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ السَّبِيلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
5 - (بَاب مَا لَا يَجُوزُ مَنْعُهُ)
[1669] (بُهَيْسَةَ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْهَاءِ قَالَ فِي التَّقْرِيبِ هِيَ الْفَزَارِيَّةُ لَا تُعْرَفُ وَيُقَالُ إِنَّ لَهَا صُحْبَةٌ (لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ قَالَ الْمَاءُ) أَيْ عِنْدَ عَدَمِ احْتِيَاجِ صَاحِبِ الْمَاءِ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا أَطْلَقَ بِنَاءً عَلَى وُسْعِهِ عَادَةً (قَالَ الْمِلْحُ) لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَبَذْلِهِ عُرْفًا (قَالَ أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ) مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ فِعْلُ الْخَيْرِ جَمِيعُهُ (خَيْرٌ لَكَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَالْخَيْرُ لَا يَحِلُّ لَكَ مَنْعُهُ فَهَذَا تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَحِلُّ بِمَعْنَى لَا يَنْبَغِي
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النسائي(5/59)
36 - (بَاب الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَسَاجِدِ)
[1670] (فَإِذَا أَنَا بِسَائِلٍ يَسْأَلُ) قَالَ السُّيُوطِيُّ الْحَدِيثُ فِيهِ اسْتِحْبَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذِّبِ وَغَلِطَ مَنْ أَفْتَى بِخِلَافِهِ وَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي مُؤَلَّفٍ انْتَهَى كَلَامُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ مُرْسَلًا
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ سَلْمَانَ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ أَتَمَّ منه
7 - باب كراهية المسألة بوجه الله عزوجل [1671] (أَبُو الْعَبَّاسِ الْقِلَّوْرِيُّ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدهَا رَاءٌ اسْمُهُ أَحْمَدُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ
كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (لَا يسأل بوجه الله إلا الجنة) إذا كُلُّ شَيْءٍ أَحْقَرُ دُونَ عَظَمَتِهِ تَعَالَى وَالتَّوَسُّلُ بِالْعَظِيمِ فِي الْحَقِيرِ تَحْقِيرٌ لَهُ
نَعَمِ الْجَنَّةُ أَعْظَمُ مَطْلَبٍ لِلْإِنْسَانِ فَصَارَ التَّوَسُّلُ بِهِ تَعَالَى فِيهَا مُنَاسِبًا وَقَوْلُهُ إِلَّا الْجَنَّةُ بِالرَّفْعِ أَيْ لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ شَيْءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ مِثْلُ أَنْ يُقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الكريم أن تدخلنا جنة النعيم
قال القارىء وَلَا يُسْأَلُ رُوِيَ غَائِبًا نَفْيًا وَنَهْيًا مَجْهُولًا وَرُفْعُ الْجَنَّةِ وَنَهْيًا مُخَاطَبًا مَعْلُومًا مُفْرَدًا وَنَصْبُ الْجَنَّةِ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ لَا تَسْأَلُوا مِنَ النَّاسِ شَيْئًا بِوَجْهِ اللَّهِ مِثْلَ أَنْ تَقُولُوا أعطني(5/60)
شَيْئًا بِوَجْهِ اللَّهِ أَوْ بِاللَّهِ فَإِنَّ اسْمَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ بِهِ مَتَاعُ الدُّنْيَا بَلِ اسْأَلُوا بِهِ الْجَنَّةَ أَوْ لَا تَسْأَلُوا اللَّهَ مَتَاعَ الدُّنْيَا بَلْ رِضَاهُ وَالْجَنَّةَ
وَالْوَجْهُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الذَّاتِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ
وَذَكَرَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَرْمٍ وَقَالَ هَذَا الْحَدِيثُ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَرْمٍ وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ وَعَنْ يَعْقُوبَ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرٍو الْعُصْفُرِيِّ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَهَذَا الْإِسْنَادُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ
وَأَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْعُصْفُرِيُّ هُوَ الْعَبَّاسُ الْقِلَّوْرِيُّ الَّذِي رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ انْتَهَى
8 - (بَاب عَطِيَّةِ مَنْ سأل بالله عز وجل)
[1672] (مَنِ اسْتَعَاذَ) أَيْ مَنْ سَأَلَ مِنْكُمُ الْإِعَاذَةَ مُسْتَغِيثًا (بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ مَنِ اسْتَعَاذَ بِكُمْ وَطَلَبَ مِنْكُمْ دَفْعَ شَرِّكُمْ أَوْ شَرِّ غَيْرِكُمْ قَائِلًا بِاللَّهِ عَلَيْكَ أَنْ تَدْفَعَ عَنِّي شَرَّكَ فَأَجِيبُوهُ وَادْفَعُوا عَنْهُ الشَّرَّ تَعْظِيمًا لِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَالتَّقْدِيرُ مَنِ اسْتَعَاذَ مِنْكُمْ مُتَوَسِّلًا بِاللَّهِ مُسْتَعْطِفًا بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ صِلَةَ اسْتَعَاذَ أَيْ مَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهُ بَلْ أَعِيذُوهُ وَادْفَعُوا عَنْهُ الشَّرَّ فَوَضَعَ أَعِيذُوا مَوْضِعَ ادْفَعُوا وَلَا تَتَعَرَّضُوا مُبَالَغَةً (فَأَعْطُوهُ) أَيْ تَعْظِيمًا لِاسْمِ اللَّهِ وَشَفَقَةً عَلَى حَقِّ اللَّهِ (وَمَنْ دَعَاكُمْ) أَيْ إِلَى دَعْوَةٍ (فَأَجِيبُوهُ) أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ (وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا) أَيْ أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ إِحْسَانًا قَوْلِيًّا أَوْ فِعْلِيًّا (فَكَافِئُوهُ) مِنَ الْمُكَافَأَةِ أَيْ أَحْسِنُوا إِلَيْهِ مِثْلَ مَا أَحْسَنَ إِلَيْكُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الإحسان وأحسن كما أحسن الله إليك (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوا بِهِ) أَيْ بِالْمَالِ وَالْأَصْلُ تُكَافِئُونَ فَسَقَطَ النُّونَ بِلَا نَاصِبٍ وَجَازِمٍ إِمَّا تَخْفِيفًا أَوْ سَهْوًا مِنَ النَّاسِخِينَ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ(5/61)
الْحَدِيثَ عَلَى الْحِفْظِ مُعَوَّلٌ وَنَظِيرُهُ كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّ عَلَيْكُمْ عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ (فَادْعُوا لَهُ) أَيْ لِلْمُحْسِنِ يَعْنِي فَكَافِئُوهُ بِالدُّعَاءِ لَهُ (حَتَّى تَرَوْا) بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ تَظُنُّوا وَبِفَتْحِهَا أَيْ تَعْلَمُوا أَوْ تَحْسَبُوا (أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) أَيْ كَرِّرُوا الدُّعَاءَ حَتَّى تَظُنُّوا أَنْ قَدْ أَدَّيْتُمْ حَقَّهُ
وَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ مَرْفُوعًا مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ رَوَاهُ النسائي والترمذي وبن حِبَّانَ فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَحَدٍ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ أَدَّى الْعِوَضَ وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ كَثِيرًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
(بَاب الرَّجُلِ يُخْرِجُ [1673] مِنْ نَصَرَ يَنْصُرُ (مِنْ مَالِهِ) فَلَا يَبْقَى فِي يَدِهِ شَيْءٌ)
أَيْ مَنْ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَجْمَعَ كَيْفَ حُكْمُهُ
(فَحَذَفَهُ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ أَيْ رَمَاهُ (أَوْ لَعَقَرَتْهُ) أَيْ جَرَحَتْهُ (يَسْتَكِفُّ النَّاسَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ يَتَعَرَّضُ لِلصَّدَقَةِ وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِبَطْنِ كَفِّهِ يُقَالُ تَكَفَّفَ الرَّجُلُ وَاسْتَكَفَّ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَمِنْ هذا قوله صلى الله عليه وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ إِنَّكَ إِنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ انْتَهَى قَالَ السُّيُوطِيُّ بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ تَعَرَّضَ لِلصَّدَقَةِ وَمَدَّ كَفَّهُ إِلَيْهَا أَوْ سَأَلَ كَفًّا مِنَ الطَّعَامِ أَوْ مَا يَكُفُّ الْجُوعَ انْتَهَى (مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى) قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْ(5/62)
عَنْ غِنًى يَعْتَمِدُهُ وَيَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى النَّوَائِبِ الَّتِي تَنُوبُهُ كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَبْقَتْ غِنًى وَفِي الْحَدِيثِ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّ الِاخْتِيَارَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَسْتَبْقِيَ لِنَفْسِهِ قُوتًا وَأَنْ لَا يَنْخَلِعَ مِنْ مِلْكِهِ أَجْمَعَ مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ وَشِدَّةِ نِزَاعِ النَّفْسِ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ فَيَنْدَمَ فَيَذْهَبُ مَالُهُ وَيَبْطُلُ أَجْرُهُ وَيَصِيرُ كَلًّا عَلَى النَّاسِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ خُرُوجَهُ مِنْ مَالِهِ أَجْمَعَ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ صِحَّةِ نِيَّتِهِ وَقُوَّةِ يَقِينِهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ كَمَا خَافَهَا عَلَى الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ الذَّهَبَ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَقَالَ السِّنْدِيُّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى أَيْ مَا يَبْقَى خَلَفَهَا غِنًى لِصَاحِبِهِ قَلْبِيٌّ كَمَا كَانَ لِلصِّدِّيقِ أَوْ قَالَبِيٌّ فَيَصِيرُ الْغِنَى لِلصَّدَقَةِ كَالظَّهْرِ لِلْإِنْسَانِ وَرَاءَ الْإِنْسَانِ فَإِضَافَةُ الظَّهْرِ إِلَى الْغِنَى بَيَانِيَّةٌ لِبَيَانِ أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا كَانَتْ بِحَيْثُ يَبْقَى لِصَاحِبِهَا الْغِنَى بَعْدَهَا إِمَّا لِقُوَّةِ قَلْبِهِ أَوْ لِوُجُودِ شَيْءٍ بَعْدَهَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا تَصَدَّقَ فَهُوَ أَحْسَنُ وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ صَاحِبُهَا بَعْدَهَا إِلَى مَا أَعْطَى وَيُضْطَرُّ إِلَيْهِ فَلَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِهَا التَّصَدُّقُ بِهِ انْتَهَى
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ أَيْ مَا كَانَ عَفْوًا قَدْ فَضَلَ عَنْ غِنًى وَقِيلَ أَرَادَ مَا فَضَلَ عَنِ العِيَالِ وَالظَّهْرُ قَدْ يُزَادُ فِي مِثْلِ هَذَا إِشْبَاعًا لِلْكَلَامِ
وَتَمْكِينًا كَأَنَّ صَدَقَتَهُ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى ظَهْرٍ قَوِيٍّ مِنَ الْمَالِ انْتَهَى
[1675] (فَصَاحَ بِهِ) أَيْ زَجَرَهُ وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يخطب فقال صلي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَ الْجُمُعَةَ الثَّانِيَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ فَقَالَ صلي ركعتين ثم جاء الجمعة الثالثة فقال صلي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ تَصَدَّقُوا فَتَصَدَّقُوا فَأَعْطَاهُ ثَوْبَيْنِ ثُمَّ قَالَ تَصَدَّقُوا فَطَرَحَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَمْ تَرَوْا إِلَى هَذَا إِنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَرَجَوْتُ أَنْ تَفْطِنُوا لَهُ فَتَتَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَلَمْ تَفْعَلُوا فَقُلْتُ تَصَدَّقُوا فَتَصَدَّقْتُمْ فَأَعْطَيْتُهُ ثَوْبَيْنِ ثُمَّ قُلْتُ تَصَدَّقُوا فَطَرَحَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ خُذْ ثوبك وانتهزه
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَتَمَّ مِنْهُ وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ وَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ وَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِقِصَّةِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ الثَّوْبَيْنِ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ(5/63)
[1676] (إِنَّ خَيْرَ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُتَأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتْرُكَ غِنًى لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُجْزِلَ لَهُ الْعَطِيَّةَ وَالْآخَرُ أَنْ يَتْرُكَ غِنًى لِلْمُتَصَدِّقِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ (وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ) أَيْ لَا تُضَيِّعْ عِيَالَكَ وَتَتَفَضَّلْ عَلَى غَيْرِهِمْ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لِأَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ يَنْدَمُ غَالِبًا أَوْ قَدْ يَنْدَمُ إِذَا احْتَاجَ وَيَوَدُّ أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِخِلَافِ مَنْ بَقِيَ بَعْدَهَا مُسْتَغْنِيًا فَإِنَّهُ لَا يَنْدَمُ عَلَيْهَا بَلْ يُسَرُّ بِهَا
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَلَا لَهُ عِيَالٌ لَا يَصْبِرُونَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصْبِرُ عَلَى الْإِضَاقَةِ وَالْفَقْرِ فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعُ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ
قَالَ الْقَاضِي جَوَّزَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَقِيلَ يُرَدُّ جَمْعُهَا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقِيلَ يَنْفُذُ فِي الثُّلُثِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الشَّامِ وَقِيلَ إِنْ زَادَ عَلَى النِّصْفِ رُدَّتِ الزِّيَادَةُ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ مَكْحُولٍ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَمَعَ جَوَازِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ وَأَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الثُّلُثِ
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ فِيهِ تَقْدِيمُ نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ لِأَنَّهَا مُنْحَصِرَةٌ فِيهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ غَيْرِهِمْ وَفِيهِ الِابْتِدَاءُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ فِي الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
0 - (باب الرخصة في ذلك)
[1677] أي في جواز التصدق بجميع المال
(جُهْدُ الْمُقِلِّ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْجُهْدُ بِالضَّمِّ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ وَقِيلَ الْمُبَالَغَةُ وَالْغَايَةُ وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ فِي الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فَأَمَّا فِي الْمَشَقَّةِ وَالْغَايَةِ فَالْفَتْحُ لَا غَيْرَ
وَمِنَ الْمَضْمُومِ حَدِيثُ الصَّدَقَةِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ
قَالَ جهد(5/64)
الْمُقِلِّ أَيْ قَدْرُ مَا يَحْتَمِلُهُ حَالُ الْقَلِيلِ الْمَالِ انْتَهَى
وَالْمُقِلُّ أَيِ الْفَقِيرُ وَقَلِيلُ الْمَالِ (وَابْدَأْ) أَيُّهَا الْمُتَصَدِّقُ أَوِ الْمُقِلُّ (بِمِنْ تَعُولُ) أَيْ بِمَنْ تَلْزَمُكَ نَفَقَتُهُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْبَابِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْفَضِيلَةَ تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الْأَشْخَاصِ وَقُوَّةِ التَّوَكُّلِ وَضَعْفِ الْيَقِينِ
[1678] (فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي) أَيْ صَادَفَ أَمْرُهُ بِالتَّصَدُّقِ حُصُولَ مَالٍ عِنْدِي فَعِنْدِي حَالٌ مِنْ مَالٍ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِمَّا قَبْلَهُ يَعْنِي وَالْحَالُ أَنَّهُ كَانَ لِي مَالٌ كَثِيرٌ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ (أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ) أَيْ بِالْمُبَارَزَةِ أَوْ بِالْمُغَالَبَةِ (إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا) مِنَ الْأَيَّامِ وَإِنْ شَرْطِيَّةٌ دَلَّ عَلَى جَوَابِهَا مَا قَبْلَهَا أَوِ التَّقْدِيرُ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا فَهَذَا يَوْمُهُ وَقِيلَ إِنْ نَافِيَةٌ أَيْ مَا سَبَقْتُهُ يَوْمًا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (فَقُلْتُ مِثْلَهُ أَيْ) أَبْقَيْتُ مِثْلَهُ يَعْنِي نِصْفَ مَالِهِ (بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ) مِنَ الْمَالِ (اللَّهَ وَرَسُولَهُ) مَفْعُولُ أَبْقَيْتُ أَيْ رِضَاهُمَا (إِلَى شَيْءٍ) مِنَ الْفَضَائِلِ (أَبَدًا) لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُغَالَبَتِهِ حِينَ كَثْرَةِ مَالِهِ وَقِلَّةِ مَالِ أَبِي بَكْرٍ فَفِي غَيْرِ هَذَا الْحَالِ أَوْلَى أَنْ لَا يَسْبِقَهُ ذَكَرَهُ علي القارىء
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ
1 - (بَاب فِي فَضْلِ سَقْيِ الْمَاءِ)
(قَالَ الْمَاءُ) إِمَّا لِعِزَّتِهِ فِي الْمَدِينَةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ أَوْ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ الْأَشْيَاءِ عَادَةً
(إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ) أَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ (فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ) أَيْ لِرُوحِهَا (قَالَ الْمَاءُ) إِنَّمَا كَانَ الْمَاءُ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ أَعَمُّ نَفْعًا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ خُصُوصًا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَلِذَلِكَ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بقوله وأنزلنا من(5/65)
السماء ماءا طهورا كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ
وَفِي الْأَزْهَارِ الْأَفْضَلِيَّةِ مِنَ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ وَكَانَ هُنَاكَ أَفْضَلَ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَالْحَاجَةِ وَقِلَّةِ الْمَاءِ (فَحَفَرَ) أَيْ سَعْدٌ (وَقَالَ) أَيْ سَعْدٌ (هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ) أَيْ هَذِهِ الْبِئْرُ صَدَقَةٌ لَهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ وَمِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ البصري وأخرجه بن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ لَمْ يُدْرِكَا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فَإِنَّ مَوْلِدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمَوْلِدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَتُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِالشَّامِ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَقِيلَ سَنَةَ إِحْدَى وَعَشْرَةَ فَكَيْفَ انْتَهَى
[1682] (أَيُّمَا مُسْلِمٍ) مَا زَائِدَةٌ وأي مرفوع على الابتداء (كسا) أي أليس (عري) بضم السكون أَيْ عَلَى حَالِهِ عُرْيٌ أَوْ لِأَجْلِ عُرْيٍ أَوْ لِدَفْعِ عُرْيٍ وَهُوَ يَشْمَلُ عُرْيَ الْعَوْرَةِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ (مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ) أَيْ مِنْ ثِيَابِهَا الْخُضْرِ جَمْعُ أَخْضَرَ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الصِّفَةِ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تعالى يلبسون ثيابا خضرا وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ (مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ) وَلَا مُنَافَاةَ (مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ثِمَارَهَا أَفْضَلُ أَطْعِمَتِهَا (عَلَى ظَمَأٍ) بِفَتْحَتَيْنِ مَقْصُورًا وَقَدْ يُمَدُّ أَيْ عَطَشٍ (مِنْ رَحِيقِ الْمَخْتُومِ) أَيْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ أَوْ شَرَابِهَا وَالرَّحِيقُ صَفْوَةُ الْخَمْرِ وَالشَّرَابُ الْخَالِصُ الَّذِي لَا غِشَّ فِيهِ وَالْمَخْتُومُ هُوَ الْمَصُونُ الَّذِي لَمْ يُبْتَذَلْ لِأَجَلِ خَتَامَةٍ وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ غَيْرُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ نَفَاسَتِهِ
وَقِيلَ الَّذِي يُخْتَمُ بِالْمِسْكِ مَكَانَ الطِّينِ وَالشَّمْعِ وَنَحْوِهِ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ الَّذِي يُخْتَمُ أَوَانِيهِ لِنَفَاسَتِهِ وَكَرَامَتِهِ
وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْهُ آخِرُ مَا يَجِدُونَ مِنْهُ فِي الطَّعْمِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ مِنْ قَوْلِهِمْ خَتَمْتُ الْكِتَابَ أَيِ انْتَهَيْتُ إِلَى آخِرِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ أَبُو خَالِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفُ بِالدَّالَانِيِّ وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عليه(5/66)
42 - (بَاب فِي الْمَنِيحَةِ)
[1683] قَالَ النَّوَوِيُّ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَنِيحَةٌ وَبَعْضِهَا مِنْحَةٌ بِحَذْفِ الْيَاءِ
قال أهل العلم اللُّغَةِ الْمِنْحَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْمَنِيحَةُ بِفَتْحِهَا مَعَ زِيَادَةِ الْيَاءِ هِيَ الْعَطِيَّةُ وَتَكُونُ فِي الْحَيَوَانِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِهِمَا
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَحَ أُمَّ أَيْمَنَ عِذَاقًا أَيْ نَخِيلًا
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْمَنِيحَةُ عَطِيَّةً لِلرَّقَبَةِ بِمَنَافِعِهَا وَهِيَ الْهِبَةُ وَقَدْ تَكُونُ عَطِيَّةَ اللَّبَنِ أَوِ التَّمْرَةِ مُدَّةً وَتَكُونُ الرَّقَبَةُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا وَيَرُدُّهَا إِلَيْهِ إِذَا انْقَضَى اللَّبَنُ أَوِ التَّمْرُ الْمَأْذُونُ فِيهِ انْتَهَى
(وَهُوَ أَتَمُّ) أَيْ حَدِيثُ مُسَدَّدٍ أَتَمُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ (عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ) أَيْ إِسْرَائِيلُ وَعِيسَى كِلَاهُمَا يَرْوِيَانِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ (أَرْبَعُونَ خَصْلَةً) بِفَتْحِ الْخَاءِ مُبْتَدَأٌ (أَعْلَاهُنَّ) مُبْتَدَأٌ ثَانٍ (مَنِيحَةُ الْعَنْزِ) خَبَرُ الثَّانِي وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْأَوَّلِ وَالْعَنْزُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ النُّونِ الْأُنْثَى مِنَ الْمَعْزِ أَيْ عَطِيَّةُ شَاةٍ يُنْتَفَعُ بِلَبَنِهَا وَصُوفِهَا وَيُعِيدُهَا (رَجَاءَ ثَوَابِهَا) أَيْ عَلَى رَجَاءِ ثَوَابِهَا (وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا) بِالْإِضَافَةِ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ عَلَى تَصْدِيقِ مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْهَا لِلْعَامِلِينَ بِهَا (إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا) أَيْ بِسَبَبِ قَبُولِهِ لَهَا تَفْضِيلًا (الْجَنَّةَ) فَالدُّخُولُ بِالْفَضْلِ لَا بِالْعَمَلِ
وَنَبَّهَ بِالْأُولَى عَلَى الْأَعْلَى كَمِنْحَةِ الْبَقَرَةِ وَالْبَدَنَةِ كَذَلِكَ بل أفضل
قال حسان هو بن عَطِيَّةَ رَاوِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَوْصُولٌ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ قاله العلقمي
قال بن بَطَّالٍ لَيْسَ فِي قَوْلِ حَسَّانَ مَا يَمْنَعُ مِنْ وُجْدَانِ ذَلِكَ وَقَدْ حَضَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبْوَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ لَا تُحْصَى كَثْرَةً
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِالْأَرْبَعِينَ الْمَذْكُورَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا لِمَعْنًى هُوَ أَنْفَعُ لَنَا مِنْ ذِكْرِهَا وَذَلِكَ خَشْيَةً مِنِ اقْتِصَارِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَزُهْدِهِمْ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ
قَالَ الْحَافِظُ إِنَّ بَعْضَهُمْ تَطَلَّبَهَا فَوَجَدَهَا تَزِيدُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ
فَمَا زَادَهُ إِعَانَةُ الصَّانِعِ وَالصَّنْعَةُ لِلْأَخْرَقِ وَإِعْطَاءُ شِسْعِ النَّعْلِ وَالسَّتْرُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذَّبُّ عَنْ(5/67)
عِرْضِهِ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ وَالتَّفَسُّحُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْخَيْرِ وَالْكَلَامُ الطَّيِّبُ وَالْغَرْسُ والزرع والشفاعة وعياذة الْمَرِيضِ وَالْمُصَافَحَةُ وَالْمَحَبَّةُ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ لِأَجْلِهِ وَالْمُجَالَسَةُ لِلَّهِ وَالتَّزَاوُرُ وَالنُّصْحُ وَالرَّحْمَةُ وَكُلُّهَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَفِيهَا مَا قَدْ يُنَازَعُ فِي كَوْنِهِ دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ وَحَذَفْتُ مِمَّا ذَكَرَهُ أشياء قد تعقب بن الْمُنِيرِ بَعْضَهَا وَقَالَ إِنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُعْتَنَى بَعَدِّهَا لِمَا تَقَدَّمَ
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ ثُمَّ مِنْ أَيْنَ عَرَفَ أَنَّهَا أَدْنَى مِنَ الْمَنِيحَةِ
قَالَ الْحَافِظُ وَإِنَّمَا أَرَدْتُ بِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْهَا تَقْرِيبَ الْخَمْسَ عَشَرَ الَّتِي عَدَّهَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ وَهِيَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْتُهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَأَنَا مُوَافِقٌ لِابْنِ بَطَّالٍ فِي إِمْكَانِ تَتَبُّعِ أَرْبَعِينَ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ أَدْنَاهَا مَنِيحَةُ الْعَنْزِ وَمُوَافِقٌ لِابْنِ الْمُنِيرِ في رد كثير مما ذكره بن بَطَّالٍ بِمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنَّهُ فَوْقَ الْمَنِيحَةِ
انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ لِلْمُنَاوِيِّ وَتَطَلَّبَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْأَحَادِيثِ فَزَادَتْ عَنِ الْأَرْبَعِينَ مِنْهَا السَّعْيُ عَلَى ذِي رَحِمٍ قَاطِعٍ وَإِطْعَامُ جَائِعٍ وَسَقْيُ ظَمْآنٍ وَنَصْرُ مَظْلُومٍ
وَنُوزِعَ بِأَنَّ بَعْضَ هَذِهِ أَعْلَى مِنَ الْمِنْحَةِ وَبِأَنَّهُ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يُعَدَّ لِأَنَّ حِكْمَةَ الْإِبْهَامِ أَنْ لَا يُحْتَقَرَ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَإِنْ قَلَّ كَمَا أَبْهَمَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ وَسَاعَةَ الْإِجَابَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالْعَجَبُ مِنَ الْحَافِظِ الْمُنْذِرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الْبُخَارِيِّ وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ وَوَهَمَ الْحَاكِمُ فَاسْتَدْرَكَهُ انْتَهَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ (خَمْسَةَ عَشَرَ خَصْلَةً) هَكَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَفِي النُّسْخَتَيْنِ مِنَ الْمُنْذِرِيِّ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً وَهُوَ الصَّوَابُ
3 - (بَاب أَجْرِ الْخَازِنِ)
[1684] الْخَادِمُ الَّذِي يَكُونُ بِيَدِهِ حِفْظُ شَيْءٍ
(إِنَّ الْخَازِنَ) وَعِنْدَ الشَّيْخَيْنِ الْخَازِنَ الْمُسْلِم الْأَمِينَ (مَا أُمِرَ بِهِ) أَيْ مِنَ الصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا (كَامِلًا) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ (مُوَفَّرًا(5/68)
بِفَتْحِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ تَامًّا فَهُوَ كَيَدٍ وَبِكَسْرِهَا حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ مُكَمَّلًا عَطَاؤُهُ (طَيِّبَةً) أَيْ رَاضِيَةً غَيْرَ شَحِيحَةٍ (بِهِ) أَيْ بِالْعَطَاءِ (حَتَّى يَدْفَعَهُ) عَطْفٌ عَلَى يُعْطِي فَالْخَازِنُ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ صِفَاتٌ لَهُ وَخَبَرُهُ أَحَدُ المتصدقين وهذه الأوصاف لابد مِنِ اعْتِبَارِهَا فِي تَحْصِيلِ أَجْرِ الصَّدَقَةِ لِلْخَازِنِ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُ الْخِيَانَةِ فَكَيْفَ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ طَيِّبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَا يُؤْجَرُ (أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ لَمْ نَرْوِهِ إِلَّا بِالتَّثْنِيَةِ وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْخَازِنَ بِمَا فَعَلَ مُتَصَدِّقٌ وَصَاحِبُ الْمَالِ مُتَصَدِّقٌ آخَرُ فَهُمَا مُتَصَدِّقَانِ
قَالَ وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْجَمْعِ فَتُكْسَرُ الْقَافُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَصَدِّقٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَكَةَ فِي الطَّاعَةِ تُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْأَجْرِ وَمَعْنَى الْمُشَارَكَةِ أَنَّ لَهُ أَجْرًا كَمَا أَنَّ لِصَاحِبِهِ أَجْرًا وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُزَاحِمَهُ فِي أَجْرِهِ بَلِ الْمُرَادُ الْمُشَارَكَةُ فِي الطَّاعَةِ فِي أَصْلِ الثَّوَابِ فَيَكُونُ لِهَذَا ثَوَابٌ وَلِهَذَا ثَوَابٌ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ ثَوَابِهِمَا سَوَاءً بَلْ قَدْ يَكُونُ ثَوَابُ هَذَا أَكْثَرَ وَقَدْ يَكُونُ عَكْسُهُ فَإِذَا أَعْطَى الْمَالِكُ خَازِنَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ نَحْوَهَا لِيُوصِلَهَا إِلَى مُسْتَحِقٍّ لِلصَّدَقَةِ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَأَجْرُ الْمَالِكِ أَكْثَرُ وَإِنْ أَعْطَاهُ رُمَّانَةً أَوْ رَغِيفًا أَوْ نَحْوَهُمَا حَيْثُ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ قِيمَةٍ لِيَذْهَبَ بِهِ إِلَى مُحْتَاجٍ فِي مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ بِحَيْثُ يُقَابِلُ ذَهَابُ الْمَاشِي إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَنَحْوِهَا فَأَجْرُ الْخَازِنِ أَكْثَرُ وَقَدْ يَكُونُ الذَّهَابُ مِقْدَارَ الرمانة فيكون الأجر سواء
قال بن رَسْلَانَ وَيَدْخُلُ فِي الْخَازِنِ مَنْ يَتَّخِذُهُ الرَّجُلُ عَلَى عِيَالِهِ مِنْ وَكِيلٍ أَوْ عَبْدٍ وَامْرَأَةٍ وَغُلَامٍ وَمَنْ يَقُومُ عَلَى طَعَامِ الضِّيفَانِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
4 - (بَاب الْمَرْأَةِ)
الخ [1685] (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ) أَيْ تَصَدَّقَتْ كَمَا فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ (غَيْرَ مُفْسِدَةٍ) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ غَيْرَ مُسْرِفَةٍ فِي التَّصَدُّقِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى إِذْنِ الزَّوْجِ لَهَا بِذَلِكَ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً
وَقِيلَ هَذَا جَارٍ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ فَإِنَّ عَادَاتِهِمْ أَنْ يَأْذَنُوا لِزَوْجَاتِهِمْ وَخَدَمِهِمْ بِأَنْ يُضَيِّفُوا الْأَضْيَافَ وَيُطْعِمُوا السَّائِلَ وَالْمِسْكِينَ وَالْجِيرَانَ فَحَرَّضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ عَلَى هَذِهِ الْعَادَةِ الْحَسَنَةِ(5/69)
وَالْخَصْلَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ (لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ) أَيَّ شَيْئًا مِنَ النَّقْصِ أَوْ مِنَ الْأَجْرِ أَيْ مِنْ طَعَامٍ أُعِدَّ لِلْأَكْلِ وَجُعِلَتْ مُتَصَرِّفَةً وَجُعِلَتْ لَهُ خَازِنًا فَإِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْهُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ يَعُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَأَمَّا جَوَازُ التَّصَدُّقِ مِنْهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ صَرِيحًا نَعَمِ الْحَدِيثُ الْآتِي دَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّصَدُّقِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ
وَقَالَ مُحْيِ السُّنَّةَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا التَّصَدُّقُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَكَذَا الْخَادِمُ
وَالْحَدِيثُ الدَّالُ عَلَى الْجَوَازِ أُخْرِجَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ يُطْلِقُونَ الْأَمْرَ لِلْأَهْلِ وَالْخَادِمِ فِي التَّصَدُّقِ وَالْإِنْفَاقِ عِنْدَ حُضُورِ السَّائِلِ وَنُزُولِ الضَّيْفِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ لَا تُوعِي فَيُوعِي اللَّهُ عَلَيْكِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه
[1686] (جليلة) أي عظيمة القدر أن طَوِيلَةُ الْقَامَةِ (مِنْ نِسَاءِ مُضَرَ) وَهِيَ قَبِيلَةٌ (إِنَّا كَلٌّ) بِفَتْحِ الْكَافِ أَيْ ثِقَلٌ وَعَيَاكٌ (وَأَرَى) أَيْ أَظُنُّ (فِيهِ) أَيْ فِي الْحَدِيثِ (فَمَا يَحِلُّ لَنَا) أَيْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِمْ (قَالَ الرَّطْبُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ مِنَ الْمَرَقِ وَاللَّبَنِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْبُقُولِ وَمِثْلِ ذَلِكَ وَقَعَ فِيهَا لِلْمُسَامَحَةِ بِتَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ بِخِلَافِ الْيَابِسِ
ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (وَتُهْدِينَهُ) أَيْ تُرْسِلِينَهُ هَدِيَّةً (الرَّطْبُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ ضِدُّ الْيَابِسِ (وَالرُّطَبُ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ بِالْفَارِسِيَّةِ خرماتر وَهُوَ رُطَبُ التَّمْرِ وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ وَسَائِرُ الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ دُونَ الْيَابِسَةِ (وَكَذَا رَوَاهُ) الْحَدِيثَ (الثَّوْرِيُّ) سُفْيَانُ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ (عَنْ يُونُسَ) بْنِ عُبَيْدٍ فَتَابَعَ سُفْيَانُ عَبْدَ السَّلَامِ بْنَ حَرْبٍ وَهَذِهِ إِشَارَةٌ مِنَ الْمُؤَلِّفِ عَلَى أَنَّ يُونُسَ قَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فَالثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ السَّلَامِ قَدِ اتَّفَقَا فِي رِوَايَتِهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ(5/70)
[1687] (إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ) أَيْ تَصَدَّقَتْ (مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا) أَيْ مِنْ مَالِهِ (مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ) أي مع علمها برضى الزَّوْجِ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى النَّوْعِ الَّذِي سُومِحَتْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ (فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ) قِيلَ هَذَا مُفَسَّرٌ بِمَا إِذَا أَخَذَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهَا وَتَصَدَّقَتْ بِهِ فَعَلَيْهَا غُرْمُ مَا أَخَذَتْ أَكْثَرَ مِنْهَا فَإِذَا عَلِمَ الزَّوْجُ وَرَضِيَ بِذَلِكَ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ بِمَا تَصَدَّقَتْ مِنْ نَفَقَتِهَا وَنِصْفُ أَجْرِهِ لَهُ بِمَا تَصَدَّقَتْ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهَا لِأَنَّ الأكثر حق الزوج
قاله القارىء
قال النووي واعلم أنه لابد فِي الْعَامِلِ وَهُوَ الْخَازِنُ وَفِي الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ مِنْ إِذْنِ الْمَالِكِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ أَصْلًا فَلَا أَجْرَ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ بَلْ عَلَيْهِمْ وِزْرٌ بِتَصَرُّفِهِمْ فِي مَالِ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
وَالْإِذْنُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا الْإِذْنُ الصَّرِيحُ فِي النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالثَّانِي الْإِذْنِ الْمَفْهُومِ مِنِ اطِّرَادِ الْعُرْفِ كَإِعْطَاءِ السَّائِلِ كِسْرَةً وَنَحْوَهَا مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ وَاطِّرَادُ الْعُرْفِ فِيهِ وَعُلِمَ بِالْعُرْفِ رِضَاءُ الزَّوْجِ وَالْمَالِكِ بِهِ فَإِذْنُهُ فِي ذَلِكَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَهَذَا إِذَا عُلِمَ رِضَاهُ لِاطِّرَادِ الْعُرْفِ وَعُلِمَ أَنَّ نَفْسَهُ كَنُفُوسِ غَالِبِ النَّاسِ فِي السَّمَاحَةِ بِذَلِكَ وَالرِّضَاءِ بِهِ فَإِنِ اضْطَرَبَ الْعُرْفُ وَشُكَّ فِي رِضَاهُ أَوْ كَانَ شَحِيحًا يَشِحُّ بِذَلِكَ وَعُلِمَ مِنْ حَالِهِ ذَلِكَ أَوْ شُكَّ فِيهِ لَمْ يَجُزْ لِلْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا التَّصَدُّقُ فِي مَالِهِ إِلَّا بِصَرِيحِ إِذْنِهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهَا نِصْفُ أَجْرِهِ فَمَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ وَيَكُونُ مَعَهَا إِذْنٌ عَامٌّ سَابِقٌ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا الْقَدْرِ وَغَيْرِهِ وَذَلِكَ الْإِذْنُ الَّذِي قَدْ بَيَّنَاهُ سَابِقًا إما بالصريح وإما بالعرف لابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْأَجْرَ مُنَاصَفَةً
وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا إِذَا أَنْفَقَتْ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ صَرِيحٍ وَلَا مَعْرُوفٍ مِنَ الْعُرْفِ فَلَا أَجْرَ لَهَا بَلْ عَلَيْهَا وِزْرٌ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَفْرُوضٌ فِي قَدْرٍ يَسِيرٍ يُعْلَمُ رِضَاءُ الْمَالِكِ بِهِ فِي الْعَادَةِ فَإِنْ زَادَ عَلَى التَّعَارُفِ لَمْ يَجُزْ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامٍ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ فَأَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قدر يعلم رضى الزَّوْجِ بِهِ فِي الْعَادَةِ وَبَيَّنَهُ بِالطَّعَامِ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسْمَحُ بِهِ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي حَقِّ أَكْثَرِ النَّاسِ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْخَازِنِ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِ صَاحِبِ الْمَالِ وَغِلْمَانِهِ وَمَصَالِحِهِ وَقَاصِدِيهِ مِنْ ضَيْفٍ وبن سَبِيلٍ وَنَحْوِهِمَا وَكَذَلِكَ صَدَقَتُهُمُ الْمَأْذُونُ فِيهَا بِالصَّرِيحِ أَوِ الْعُرْفِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ انْتَهَى(5/71)
قُلْتُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ هَمَّامٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبُيُوعِ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ وَفِي النَّفَقَاتِ عَنْ يَحْيَى وَمُسْلِمٌ فِي الزَّكَاةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَالْمُؤَلِّفُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْخَلَّالِ كُلِّهِمْ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَصُمِ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ نِصْفَ أَجْرِهِ لَهُ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ قَوِيٌّ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ لَيْسَ فِيهِ عِلَّةٌ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1688] (قَالَ لَا) أَيْ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّصْدِيقُ (إِلَّا مِنْ قُوتِهَا) أَيْ مِنْ قُوتِ نَفْسِهَا وَهُوَ مَا أَعْطَاهَا الزَّوْجُ لِتَأْكُلَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ لَكِنْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَا تُنْفِقِ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا قيل يارسول اللَّهِ وَلَا الطَّعَامُ قَالَ ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ
فَإِنْ قُلْتَ أَحَادِيثُ هَذَا الْبَابِ جَاءَتْ مُخْتَلِفَةً فَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْمَرْأَةِ أَنْ تُنْفِقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الْمَذْكُورُ وَمِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِحُصُولِ الْأَجْرِ لَهَا فِي ذَلِكَ وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمَذْكُورُ وَمِنْهَا مَا قُيِّدَ فِيهِ التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ بِكَوْنِهِ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَبِكَوْنِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ وَهُوَ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَيْضًا وَمِنْهَا مَا هُوَ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمِنْهَا مَا قُيِّدَ الْحُكْمُ فِيهِ بِكَوْنِهِ رَطْبًا وَهُوَ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
قُلْتُ كَيْفِيَّةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ الْبِلَادِ وَبِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّوْجِ مِنْ مُسَامَحَتِهِ وَرِضَاهُ بِذَلِكَ أَوْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ وَبِاخْتِلَافِ الْحَالِ فِي الشَّيْءِ الْمُنْفَقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا يُتَسَامَحُ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَطَرٌ فِي نَفْسِ الزَّوْجِ يَبْخَلُ بِمِثْلِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَطْبًا يُخْشَى فَسَادُهُ إِنْ تَأَخَّرَ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ يُدَّخَرُ وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ الْفَسَادُ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ (وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ (قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا) أَيْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَوْقُوفُ (يُضَعِّفُ حَدِيثَ هَمَّامِ) بْنِ مُنَبِّهٍ
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ وُجِدَتْ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالْأَكْثَرُ عَنْهَا(5/72)
خَالِيَةً
قُلْتُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَوِيٌّ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى إِخْرَاجِهِ لَيْسَ فِيهِ عِلَّةٌ فَكَيْفَ يُضَعِّفُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الَّذِي هُوَ مَوْقُوفٌ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَهُوَ أَنَّهَا إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ من غير إذن صريح ولا معروف من الْعُرْفِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا وَلَا أَجْرَ لَهَا بَلْ عَلَيْهَا وِزْرٌ هَذَا مَعْنَى رِوَايَتِهِ الْمَوْقُوفَةِ وَيَحْصُلُ لَهَا نِصْفُ الْأَجْرِ إِنْ كَانَ التَّصَدُّقُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ وَلَا يَكُونُ مَعَهَا إِذْنٌ عَامٌّ سَابِقٌ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا الْقَدْرِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا مَعْنَى رِوَايَتِهِ الْمَرْفُوعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
5 - (بَاب فِي صِلَةِ الرَّحِمِ)
[1689] بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَذُو الرَّحِمِ هُوَ الْأَقَارِبُ وَيَقَعُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ وَيُطْلَقُ فِي الْفَرَائِضِ عَلَى الْأَقَارِبِ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ
وَصِلَةُ الرَّحِمِ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقْرَبِينَ مِنْ ذَوِي النَّسَبِ وَالْأَصْهَارِ وَالتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ وَالرِّعَايَةِ لِأَحْوَالِهِمْ وَكَذَلِكَ إِنْ بَعُدُوا أَوْ أساؤوا
وَقَطْعُ الرَّحِمِ ضِدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ يُقَالُ وَصَلَ رَحِمَهُ يَصِلُهَا وَصْلًا وَصِلَةً وَالْهَاءُ فِيهَا عِوَضٌ مِنَ الْوَاوِ الْمَحْذُوفَةِ فَكَأَنَّهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ قَدْ وَصَلَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ عَلَاقَةِ الْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ
(لَمَّا نَزَلَتْ) أَيْ هذه الآية (لن تنالوا البر) أي الجنة قاله بن مسعود وبن عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقِيلَ التَّقْوَى وَقِيلَ الطَّاعَةُ وَقِيلَ الْخَيْرُ
وَقَالَ الْحَسَنُ لَنْ تَكُونُوا أَبْرَارًا حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ أَيْ مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِكُمْ إِلَيْكُمْ (قَالَ أَبُو طَلْحَةَ) الْأَنْصَارِيُّ زَوْجُ أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (أَرَى) أَيْ أَظُنُّ (بِأَرِيحَاءَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ كَثِيرًا مَا تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُ الْمُحَدِّثِينَ فِيهَا فَيَقُولُونَ بَيْرُحَا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا وَالْمَدُّ فِيهِمَا وَبِفَتْحِهِمَا وَالْقَصْرُ وَهِيَ اسْمُ مَالٍ وَمَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْفَائِقِ إِنَّهَا فَيْعَلَى مِنَ البراح وهي الأرض الظاهرة انتهى كلام بن الْأَثِيرِ
وَقَالَ الْعَيْنِيُّ قَالَ التَّيْمِيُّ وَبَيْرُحَا بُسْتَانٌ وَكَانَتْ بَسَاتِينُ الْمَدِينَةِ تُدْعَى(5/73)
بِالْآبَارِ الَّتِي فِيهَا أَيِ الْبُسْتَانُ الَّتِي فِيهِ بِئْرُ حَا أُضِيفَ الْبِئْرُ إِلَى حَا
وَيُرْوَى بَيْرَحَا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ هُوَ اسْمٌ مَقْصُورٌ فَهُوَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ لَا مُضَافٌ وَلَا مُضَافٌ إِلَيْهِ
وَفِي مُعْجَمِ أَبِي عُبَيْدٍ حَا عَلَى لَفْظِ حَرْفِ الْهِجَاءِ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ وَحَا آخَرُ مَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِئْرُ حَا وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ أَرِيحَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَلَا أَعْلَمُ أَرِيحَا إِلَّا بِالشَّامِ انْتَهَى كَلَامُهُ مُخْتَصَرًا (لَهُ) أَيْ لِرَبِّنَا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّ الْحَبْسَ إِذَا وَقَعَ أَصْلُهُ مِنْهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُحْبَسَ حُصِرَ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ مَرْجِعَهَا يَكُونُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْ قَبِيلَتِهِ وَقِيَاسُ ذَلِكَ فِيمَنْ وَقَفَهَا عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ الْمُوقَفُ عَلَيْهِ وَبَقِيَ الشَّيْءُ مُحْبَسَ الْأَصْلِ غَيْرَ مُبَيَّنِ السَّبِيلِ أَنْ يُوضَعَ فِي أَقَارِبِهِ وَأَنْ يَتَوَخَّى فِي ذَلِكَ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَيَكُونُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّ الْوَاقِفَ قَدْ شَرَطَهُ لَهُ وَهَذَا يُشْبِهُ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِهِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا وَقِصَّةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كَانَ أَبِي يُعَدُّ مِنْ مَيَاسِيرِ الْأَنْصَارِ
وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ قَسْمِ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَأَنَّ لِلْقَسْمِ مَدْخَلًا فِيمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكِ الرَّقَبَةِ
وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهَذَا الْقَسَمِ قِسْمَةُ رَيْعِهَا دُونَ رَقَبَتِهَا وَقَدِ امْتَنَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ قِسْمَةِ أحباس النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لما جاءاه يلتسمان ذَلِكَ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا كَلَامُ الْأَنْصَارِيِّ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَتَمَّ مِنْهُ وَفِيهِ حُبُّ الرَّجُلِ الصَّالِحِ لِلْمَالِ وَإِبَاحَةُ دُخُولِ بَسَاتِينِ الْإِخْوَانِ وَالْأَكْلِ مِنْ ثِمَارِهَا وَالشُّرْبِ مِنْ مَائِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ وَفِيهِ مَدْحُ صَاحِبِ الصَّدَقَةِ الْجَزْلَةِ وَفِيهِ أَنَّ الْحَبْسَ الْمُطْلَقَ جَائِزٌ وَحَقُّهُ أَنْ يُصْرَفَ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْبِرِّ وَفِيهِ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ وَأُولِي الْأَرْحَامِ أَفْضَلُ انْتَهَى (فَقَسَمَهَا) أَيْ قَسَمَ أَبُو طَلْحَةَ أَرْضَهُ (عَنِ الْأَنْصَارِيِّ) هُوَ (مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) الْمُثَنَّى الْبَصْرِيُّ الْقَاضِي مِنَ التَّاسِعَةِ (قَالَ) مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ فِي بَيَانِ قَرَابَةِ أَبِي طَلْحَةَ بَيْنَ أَبِي وحسان فَذَكَرَ أَوَّلًا نَسَبَ أَبِي طَلْحَةَ (أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ) هُوَ اسْمُ أَبِي طَلْحَةَ (بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ) هَكَذَا فِي نُسَخِ الْكِتَابِ وَهَكَذَا فِي أُسْدِ الْغَابَةِ وَالَّذِي فِي الْإِصَابَةِ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ (وَحَسَّانُ بْنُ ثابت(5/74)
بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامِ) بْنِ عَمْرِو بْنِ زيد مناة (يجتمعان) أي أبو طلحة وحسان (إلى حرام وهو) أي حرام (الأب الثالث) لأبي طلحة وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ (وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَتِيكٍ إِلَخْ) هَكَذَا فِي نُسَخِ الْكِتَابِ وَالَّذِي فِي أُسْدِ الْغَابَةِ وَالْإِصَابَةِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ انْتَهَى (فَعَمْرُو) بْنُ مَالِكٍ (يَجْمَعُ حَسَّانَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيًّا) أَيْ كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ (بَيْنَ أُبَيٍّ وَأَبِي طَلْحَةَ سِتَّةُ آبَاءٍ) فَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ أَبٌ سَادِسٌ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبٌ سَابِعٌ لِأَبِي طَلْحَةَ وَكَلَامُ الْأَنْصَارِيِّ يُشِيرُ بِأَنَّ عَمْرًا أَبٌ سَادِسٌ لِأَبِي طَلْحَةَ أَيْضًا وَهَذِهِ مِنْهُ مُسَامَحَةٌ
نَعَمْ عَلَى مَا فِي الْإِصَابَةِ يَصِيرُ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ أَبًا سَادِسًا لِأَبِي طَلْحَةَ أَيْضًا فَيَسْتَقِيمُ كَلَامُ الْأَنْصَارِيِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَفِيهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ فِي صِلَةِ الْأَرْحَامِ كَمَا تُعْتَبَرُ وَتُلَاحَظُ الْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ كَذَا تُعْتَبَرُ الْقَرَابَةُ الْبَعِيدَةُ أَيْضًا كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
[1690] (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ) أَيْ مَوْلُودَةٌ مَمْلُوكَةٌ فِي مِلْكِي (آجَرَكَ اللَّهُ) بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ أَيْ أَعْطَاكَ اللَّهُ جَزَاءَ عَمَلِكَ (أَخْوَالَكِ) جَمْعُ الْخَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى خَادِمٍ مِنْ ضِيقِ الْحَالِ (كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكَ) لِأَنَّ فِي إِعْطَائِهَا صِلَةُ الرَّحِمِ وَالصَّدَقَةِ وَفِي الْإِعْتَاقِ الصَّدَقَةُ فَقَطْ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حديث كريب عن ميمونة رضي الله عنها
[1691] (عِنْدِي دِينَارٌ) أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ (أَوْ قَالَ زَوْجِكَ) يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ فِيهِ والشك(5/75)
مِنَ الرَّاوِي (قَالَ أَنْتَ أَبْصَرُ) أَيْ أَعْلَمُ
قَالَ الطِّيبِيُّ إِنَّمَا قَدَّمَ الْوَلَدَ عَلَى الزَّوْجَةِ لِشِدَّةِ افْتِقَارِهِ إِلَى النَّفَقَةِ بِخِلَافِهَا فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا لَأَمْكَنَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا التَّرْتِيبُ إِذَا تَأَمَّلْتَهُ عَلِمْتَ أَنَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ قَدَّمَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى وَالْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ وَهُوَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِوَلَدِهِ لِأَنَّ وَلَدَهُ كَبَعْضِهِ فَإِذَا ضَيَّعَهُ هَلَكَ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ثم ثلث بالزوجة وأخوها عَنِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ لَهَا مِنْ يَمُونُهَا مِنْ زَوْجٍ أَوْ ذِي رَحِمٍ تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْخَادِمَ لِأَنَّهُ يُبَاعُ عَلَيْهِ إِذَا عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهِ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى مَنْ يَبْتَاعُهُ وَيَمْلِكُهُ ثُمَّ قَالَ فِيمَا بَعْدُ أَنْتَ أَبْصَرُ أَيْ إِنْ شِئْتَ تَصَدَّقْتَ وَإِنْ شِئْتَ أَمْسَكْتَ وَقِيَاسُ هَذَا فِي قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَلْزَمُ الزَّوْجَ عن الزوجة ولمن يفضل من قوته أَكْثَرُ مِنْ صَاعٍ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْ وَلَدِهِ دُونَ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُقَدَّمُ الْحَقِّ عَلَى الزَّوْجَةِ وَنَفَقَةَ الْأَوْلَادِ إِنَّمَا تَجِبُ لِحَقِّ الْعَصَبِيَّةِ النِّسْبِيَّةِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ إِنَّمَا تَجِبُ لِحَقِّ الْمُتْعَةِ الْعِوَضِيَّةِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْقَطِعَ مَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِالطَّلَاقِ وَالنَّسَبُ لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا
وَمَعْنَى الصَّدَقَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ النَّفَقَةُ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
[1692] (الْخَيْوَانِيِّ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ الْهَمَدَانِيُّ الْكُوفِيُّ مَقْبُولٌ مِنَ الرَّابِعَةِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ) قَالَ السِّنْدِيُّ مَنْ يَقُوتُ مِنْ قَاتَهُ أَيْ أَعْطَاهُ قُوتَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنَ التَّفْعِيلِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ مَنْ يُقِيتُ مِنْ أَقَاتَ أَيْ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ وَعَبِيدِهِ انْتَهَى
قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ مَنْ يَلْزَمُهُ قُوتُهُ وَالْمَعْنَى كَأَنَّهُ قَالَ لِلْمُتَصَدِّقِ لَا يَتَصَدَّقُ بِمَا لَا فَضْلَ فِيهِ عَنْ قُوتِ أَهْلِهِ يَطْلُبُ بِهِ الْأَجْرَ فَيَنْقَلِبُ ذَلِكَ الْأَجْرُ إِثْمًا إِذَا أَنْتَ ضَيَّعْتَهُمْ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ(5/76)
[1693] (أَنْ يُبْسَطَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُوَسَّعَ (فِي رِزْقِهِ) أَيْ فِي دُنْيَاهُ (وَيُنْسَأَ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ فَفَتْحٍ فَنَصْبٍ فَهَمْزَةٍ أَيْ يُؤَخَّرَ لَهُ (فِي أَثَرِهِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ أَجَلِهِ (فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) وَتَقَدَّمَ مَعْنَى صِلَةِ الرَّحِمِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ
قَالَ بن الْأَثِيرِ النَّسَاءُ التَّأْخِيرُ يُقَالُ نَسَأْتُ الشَّيْءَ أَنْسَأُ وَأَنْسَأْتُهُ إِنْسَاءً إِذَا أَخَّرْتُهُ وَالنَّسَاءُ الِاسْمُ وَيَكُونُ فِي الْعُمُرِ وَالدَّيْنِ وَالْأَثَرِ وَالْأَجَلِ انْتَهَى
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ يُؤَخَّرَ فِي أَجَلِهِ يُقَالُ لِرَجُلٍ نَسَأَ الله في عمرك وأنسأ عمرك والأثر ها هنا آخِرُ الْعُمُرِ
قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ لَا يَنْتَهِي الْعُمُرُ حَتَّى يَنْتَهِي الْأَثَرُ انْتَهَى
وَتَأْخِيرُ الْأَجَلِ بِالصِّلَةِ إِمَّا بِمَعْنَى حُصُولِ الْبَرَكَةِ وَالتَّوْفِيقِ فِي الْعُمْرِ وَعَدَمِ ضَيَاعِ الْعُمُرِ فَكَأَنَّهُ زَادَ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ لِبَقَاءِ ذِكْرِهِ الْجَمِيلِ بَعْدَهُ وَلَا مَانِعَ أَنَّهَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْعُمُرِ كَسَائِرِ أسباب العالم ممن أَرَادَ اللَّهُ زِيَادَةَ عُمُرِهِ وَفَّقَهُ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ والزيادة إنما هو بِحَسَبِ الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ وَأَمَّا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا زِيَادَةَ وَلَا نُقْصَانَ وَهُوَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالْحَافِظُ فِي فَتْحِ الباري والعيني في عمدة القارىء وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1694] (أَنَا الرَّحْمَنُ) أَيِ الْمُتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ (وَهِيَ) أَيِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِوَصْلِهَا (الرَّحِمُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ (شَقَقْتُ) أَيْ أَخْرَجْتُ وَأَخَذْتُ (لَهَا) أَيْ لِلرَّحِمِ (اسْمًا مِنِ اسْمِي) أَيِ الرَّحْمَنِ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمُنَاسِبَةَ الِاسْمِيَّةَ وَاجِبَةُ الرِّعَايَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى على أنها أثر من آثار رحمة الرحمان وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ وَالتَّعَلُّقُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ (مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ) أَيْ إِلَى رَحْمَتِي وَمَحَلِّ كَرَامَتِي
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي هَذَا بَيَانُ صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالِاشْتِقَاقِ فِي الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ وَرَدٌّ عَلَى الَّذِينَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنَّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا مَوْضُوعَةٌ وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ فَسَادَ قولهم
وفيه دليل على أن اسم الرحمان عَرَبِيٌّ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّحْمَةِ
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِرَأْيِهِ عِبْرَانِيٌّ وَهَذَا يَرُدُّهُ (وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ) بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ الثَّانِيَةِ أَيْ قَطَعْتُهُ مِنْ رحمتي(5/77)
الْخَاصَّةِ وَالْبَتُّ الْقَطْعُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْقَطْعُ الْكُلِّيُّ وَمِنْهُ طَلَاقُ الْبَتِّ وَكَذَا قَوْلُهُمُ ألْبَتَّةُ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَفِي تَصْحِيحِهِ نَظَرٌ فَإِنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا وَذَكَرَ غير أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ وَأَخَاهُ حُمَيْدًا لَمْ يَصِحَّ لَهُمَا سَمَاعٌ مِنْ أَبِيهِمَا انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَيْضًا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالْحَاكِمُ عن عبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ وَالْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1695] (أَنَّ الرَّدَادَ) بِالدَّالَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَثَّقَهُ بن حِبَّانَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ وَحُكِيَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ وَحَدِيثُ مَعْمَرٍ خَطَأٌ
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَقَالَتْ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ قَالَ نَعَمْ الْحَدِيثَ
[1696] (قَالَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ) أَيْ قَاطِعُ الرَّحِمِ وَقَدْ تَعَارَفَ إِطْلَاقُ الْقَطْعِ فِي قَطْعِهَا كَالصِّلَةِ فِي وَصْلِهَا وَهَذَا تَشْدِيدٌ وَتَهْدِيدٌ أَوْ أَوَّلَ الْوَهْلَةِ أَوِ الْمُرَادُ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْقَطْعَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَعْنِي قَاطِعَ رَحِمٍ
[1697] (وَلَمْ يَرْفَعْهُ سُلَيْمَانُ) هُوَ الْأَعْمَشُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ سُفْيَانَ يَرْوِي عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْأَعْمَشِ وَالْحَسَنِ وَفِطْرٍ وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ عَنْ مُجَاهِدٍ لَكِنَّ فِطْرًا وَالْحَسَنَ رَفَعَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُلَيْمَانُ الْأَعْمَشُ جَعَلَهُ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (لَيْسَ الْوَاصِلُ) أَيْ وَاصِلُ الرحم (بالمكافىء) بكسر الفاء ثم الهمزة الذي يكافىء ويجزىء إِحْسَانًا فُعِلَ بِهِ (وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ (رَحِمُهُ) بِالرَّفْعِ عَلَى نِيَابَةِ الْفَاعِلِ (وَصَلَهَا) أَيْ(5/78)
قَرَابَتَهُ الَّتِي تُقْطَعُ عَنْهُ وَهَذَا مِنْ بَابِ الْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ كَمَا وَرَدَ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ
6 - (بَاب فِي الشُّحِّ)
[1698] (فَقَالَ إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ الشُّحُّ أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْبُخْلِ وَإِنَّمَا الشُّحُّ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ وَالْبُخْلُ بِمَنْزِلَةِ النَّوْعِ وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ الْبُخْلُ إِنَّمَا هُوَ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ وَخَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ وَالشُّحُّ عَامٌّ هُوَ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ لِلْإِنْسَانِ مِنْ قِبَلِ الطَّبْعِ وَالْجِبِلَّةِ وَقَالَ بَعْضُهُمُ الْبُخْلُ أَنْ يَضَنَّ بِمَالِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ وَالشُّحُّ أن يبخل بماله انتهى
وقال بن الْأَثِيرِ الشُّحُّ أَشَدُّ الْبُخْلِ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْبُخْلِ وَقِيلَ هُوَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ وَقِيلَ الْبُخْلُ فِي أَفْرَادِ الْأُمُورِ وَآحَادِهَا وَالشُّحُّ عَامٌّ وَقِيلَ الْبُخْلُ بِالْمَالِ وَالشُّحٌّ بِالْمَالِ وَالْمَعْرُوفِ وَالِاسْمُ الشُّحُّ انْتَهَى (قَبْلَكُمْ) مِنَ الْأُمَمِ (بِالشُّحِّ) كَيْفَ وَهُوَ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِاللَّهِ (أَمَرَهُمْ) فَاعِلُ أَمَرَ هُوَ الشُّحُّ (فَبَخِلُوا) بِكَسْرِ الْخَاءِ (وَأَمَرَهُمْ) أَيِ الشُّحُّ (بِالْقَطِيعَةِ) لِلرَّحِمِ (فَقَطَعُوا) أَيِ الرَّحِمَ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَ اللَّهُ عَنْهُ مَزِيدَ رَحْمَتِهِ (بِالْفُجُورِ) وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْقَصْدِ وَالسَّدَادِ وَقِيلَ هُوَ الِانْبِعَاثُ فِي الْمَعَاصِي أَوِ الزنى (ففجروا) قال بن رسلان ويشبه أن يراد أمرهم بالزنى فَزَنَوْا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ أَيْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَقَطَعُوهَا انْتَهَى
فَالشُّحُّ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ يُخَالِفُ الْإِيمَانَ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قال الخطابي والفجور ها هنا الْكَذِبُ وَأَصْلُ الْفُجُورِ الْمَيْلُ وَالِانْحِرَافُ عَنِ الصِّدْقِ وَيُقَالُ لِلْكَاذِبِ فَاجِرٌ وَقَدْ فَجَرَ أَيِ انْحَرَفَ عَنِ الصِّدْقِ انْتَهَى
وَالْحَدِيثُ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَأَقَرُّوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1699] (مَا لِي) مَا نَافِيَةٌ (إِلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ) اسْمُ زَوْجِهَا (وَلَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ) قال(5/79)
الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ وَأَعْطِي مِنْ نَصِيبِكِ مِنْهُ وَلَا تُوكِي أَيْ لَا تَدَّخِرِي وَالْإِيكَاءُ شَدُّ رَأْسِ الْوِعَاءِ بِالْوِكَاءِ وَهُوَ الرِّبَاطُ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ يَقُولُ لَا تَمْنَعِي مَا فِي يَدِكِ فَتَنْقَطِعُ مَادَّةُ الرِّزْقِ عَلَيْكِ
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ إِذَا أَدْخَلَ الشَّيْءَ بَيْتَهُ كَانَ ذَلِكَ فِي الْعُرْفِ مُفَوَّضًا إِلَى رَبَّةِ الْمَنْزِلِ فَهِيَ تُنْفِقُ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ فِي الْوَقْتِ وَرُبَّمَا تَدَّخِرُ مِنْهُ الشَّيْءَ لِغَابِرِ الزَّمَانِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مُفَوَّضًا إِلَيْكِ مَوْكُولًا إِلَى تَدْبِيرِكِ فَاقْتَصِرِي عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ لِلنَّفَقَةِ وَتَصَدَّقِي بِالْبَاقِي مِنْهُ وَلَا تَدَّخِرِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم من حديث بن أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَسْمَاءَ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا بِنَحْوِهِ
[1700] (أَنَّهَا) أَيْ عَائِشَةَ (ذَكَرَتْ) لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عِدَّةً) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ أي عددا (من مساكين) أي جاؤوا عِدَّةٌ مِنَ الْمَسَاكِينِ عَلَى بَابِي فَأَعْطَيْتُهُمْ وَتَصَدَّقْتُ عَلَيْهِمْ أَوِ الْمَعْنَى أَيْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ عَلَى بَابِي فَمَا نَفْعَلُ بِهِمْ (وَقَالَ غَيْرُهُ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَيْ قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ (عِدَّةً مِنْ صَدَقَةٍ) أَيْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ عِدَّةً مِنَ الصَّدَقَةِ الَّتِي تَصَدَّقَتْ بِهَا ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوِ الْمَعْنَى أَيْ كَمْ مِقْدَارٌ مِنَ الصَّدَقَةِ أعطيها للمساكين إن جاؤوا عَلَى بَابِي (لَا تُحْصِي) مِنَ الْإِحْصَاءِ وَهُوَ الْعَدُّ وَالْحِفْظُ (فَيُحْصَى عَلَيْكِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُمْحَقُ الْبَرَكَةُ حَتَّى يَصِيرَ كَالشَّيْءِ الْمَعْدُودِ أَوْ يُحَاسِبُكِ اللَّهُ تَعَالَى وَيُنَاقِشُكِ فِي الْآخِرَةِ قَالَهُ الطِّيبِيُّ
8 - (كِتَاب اللُّقَطَةِ)(5/80)
[1701] أَيْ شَيْءٌ يُلْتَقَطُ وَهُوَ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْمُحَدِّثِينَ
وَقَالَ عِيَاضٌ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي
وَقَالَ النَّوَوِيُّ هِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي قَالَهَا الْجُمْهُورُ وَاللَّغَةُ الثَّانِيَةُ لُقْطَةٌ بِإِسْكَانِهَا وَالثَّالِثَةُ لُقَاطٌ بِضَمِّ اللَّامِ وَالرَّابِعَةُ لَقَطٌ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْقَافِ
(إِنْ وَجَدْتُ صَاحِبَهُ) أَيْ فَأَعْطِيهِ (وَإِلَّا اسْتَمْتَعْتُ بِهِ) أَيِ انْتَفَعْتُ بِهِ (قَالَ) سُوَيْدٌ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ (عَرِّفْهَا) بِالتَّشْدِيدِ أَمْرٌ مِنَ التَّعْرِيفِ وَهُوَ أَنْ يُنَادِيَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَقَاهَا فِيهِ وَفِي الْأَسْوَاقِ وَالشَّوَارِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَيَقُولُ مَنْ ضَاعَ لَهُ شَيْءٌ فَلِيَطْلُبْهُ عِنْدِي (فَعَرَّفْتُهَا حَوْلًا) أَيْضًا بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّعْرِيفِ وَحَوْلًا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ (مَنْ يَعْرِفُهَا) بِالتَّخْفِيفِ مِنْ عَرَفَ يَعْرِفُ مَعْرِفَةً وَعِرْفَانًا
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ ثُمَّ أَتَيْتُهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ اعْرِفْ عِدَّتَهَا وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ أَتَيْتُهُ ثَلَاثًا أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَتَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَتَى بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَثَالِثَةٌ بِاعْتِبَارِ التَّعْرِيفِ ورابعة باعتبار مجيئه إلى النبي قَالَهُ الْعَيْنِيُّ (وَوِعَاءَهَا) الْوِعَاءُ بِالْمَدِّ وَبِكَسْرِ الْوَاوِ وَقَدْ تُضَمُّ وَقَرَأَ بِهَا الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ قبل وعاء أخيه وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِعَاءِ بِقَلْبِ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ هَمْزَةً وَالْوِعَاءُ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الشَّيْءُ سَوَاءً كَانَ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خَزَفٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (وَالْوِكَاءُ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ الْخَيْطُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الصُّرَّةُ وَغَيْرُهَا وَزَادَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْعَفَّاصِ كَمَا سَيَأْتِي (وَإِلَّا فَاسْتَمْتِعْ بِهَا) قَالَ(5/81)
الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَمْلِكَهَا بَعْدَ السَّنَةِ وَيَأْكُلَهَا إِنْ شَاءَ غَنِيًّا كَانَ الْمُلْتَقِطُ لَهَا أَوْ فَقِيرًا
وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ مِنْ مَيَاسِيرِ الْأَنْصَارِ وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بَعْدَ تَعْرِيفِ السَّنَةِ لَأَشْبَهَ أَنْ لَا يُبِيحَ لَهُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا إِلَّا بِالْقَدْرِ الَّذِي لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْفَقْرِ إِلَى حَدِّ الْغِنَى فَلَمَّا أَبَاحَ لَهُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا كُلِّهَا دَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِبَاحَةُ التَّمْلِيكِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بَعْدَ السَّنَةِ
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إِذَا عَرَّفَهَا سَنَةً وَلَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا تَصَدَّقَ بِهَا وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ علي وبن عباس رضي الله عنهما وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ (قَالَ وَلَا أَدْرَى أَثْلَاثًا قَالَ عَرِّفْهَا أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وإلا فاستمتع بها فاستمتعت بها فلقيت بعده بِمَكَّةَ فَقَالَ لَا أَدْرِي ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا انْتَهَى
وَالْقَائِلُ شُعْبَةُ وَالَّذِي قَالَ لَا أَدْرِي هُوَ شَيْخُهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ وَقَدْ بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ عَنْ شُعْبَةَ أَخْبَرَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ شُعْبَةُ فَسَمِعْتُهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ يَقُولُ عَرِّفْهَا عَامًا وَاحِدًا وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا فَقَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ شُعْبَةُ فَلَقِيتُ سَلَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا وَاحِدًا فَالْمَعْنَى أَيْ قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ لَا أَدْرِي أَقَالَ سُوَيْدُ بْنُ غَفْلَةَ عَرِّفْهَا ثَلَاثًا أَيْ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ أَوْ عَرِّفْهَا مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ حَوْلًا وَاحِدًا
قَالَ الْحَافِظُ وَأَغْرَبَ بن بَطَّالٍ فَقَالَ الَّذِي شَكَّ فِيهِ هُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَالْقَائِلُ هُوَ سُوَيْدُ بْنُ غَفْلَةَ انْتَهَى
وَلَمْ يُصِبْ فِي ذَلِكَ وَإِنْ تَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمُنْذِرِيُّ
بَلِ الشَّكُّ فِيهِ مِنْ أَحَدِ رُوَاتِهِ وَهُوَ سَلَمَةُ لَمَّا اسْتَثْبَتَهُ فِيهِ شُعْبَةُ وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ شُعْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ بِغَيْرِ شَكِّ جَمَاعَةٌ وَفِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَيْ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ
وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ حَدِيثِ أُبَيٍّ هَذَا وَحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْآتِي فَإِنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ يُحْمَلُ حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَلَى مَزِيدِ الْوَرَعِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي اللُّقَطَةِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّعَفُّفِ عنها وحديث زيد على ما لابد مِنْهُ أَوْ لِاحْتِيَاجِ الْأَعْرَابِيِّ وَاسْتِغْنَاءِ أُبَيٍّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى إِنَّ اللُّقَطَةَ تُعَرَّفُ ثَلَاثَةَ أَعْوَامٍ إِلَّا شَيْءٌ جَاءَ عَنْ عُمَرَ انْتَهَى
وَقَدْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن شواذ من الفقهاء وحكى بن الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ يُعَرِّفُهَا ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ عَامًا وَاحِدًا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى عِظَمِ اللُّقَطَةِ وَحَقَارَتِهَا وَزَادَ بن حَزْمٍ عَنْ عُمَرَ قَوْلًا خَامِسًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أشهر
وجزم بن حزم وبن الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ غَلَطٌ قَالَ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ سَلَمَةَ أَخْطَأَ فِيهَا ثُمَّ تَثَبَّتَ وَاسْتَذْكَرَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى عَامٍ وَاحِدٍ وَلَا يُؤَاخَذُ إِلَّا بِمَا لَمْ يَشُكَّ فِيهَا رَاوِيهِ
وَقَالَ بن(5/82)
الجوزي يحتمل أن يكون عَرَفَ أَنْ تَعْرِيفَهَا لَمْ يَقَعْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي فَأَمَرَ أُبَيًّا بِإِعَادَةِ التَّعْرِيفِ كَمَا قَالَ لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ انْتَهَى
وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا عَلَى مِثْلِ أُبَيٍّ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ وَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَةً عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي التَّعْرِيفِ مُفَوَّضٌ لِأَمْرِ الْمُلْتَقِطِ فَعْلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَهَا إِلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهُ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ
كَذَا فِي الْفَتْحِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا بِنَحْوِهِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فَعَرِّفْ عَدَدَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ فَإِذَا جَاءَ طَالِبُهَا فَأَخْبَرَكَ بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَفِي حَدِيثِ النَّسَائِيِّ فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُ بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
[1702] (بِمَعْنَاهُ) أَيْ بِمَعْنَى حَدِيثِ مُحَمَّدِ بن كثير (قال) النبي لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ (عَرِّفْهَا حَوْلًا) أَيْ سَنَةً وَاحِدَةً (قَالَ ثَلَاثَ مِرَارٍ) أَيْ قَالَ النَّبِيُّ ذَلِكَ الْكَلَامِ لِأُبَيٍّ ثَلَاثَ مِرَارٍ (قَالَ) سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ لَمَّا اشْتَبَهَ فِيهِ بَعْدَ إِلْقَائِهِ بمكة (فلا أدري قال) النبي (لَهُ) أَيْ لِأُبَيٍّ (ذَلِكَ الْكَلَامَ وَهُوَ عَرِّفْهَا حَوْلًا (فِي سَنَةٍ) وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مِرَارٍ (أَوْ) قال النبي لِأُبَيٍّ ذَلِكَ الْكَلَامَ مُفَرَّقًا (فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) أَيْ أَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ
[1703] (بِإِسْنَادِهِ) أَيْ بِإِسْنَادِ شُعْبَةَ (قَالَ عَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً) وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ وَالثَّوْرِيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ كُلِّهِمْ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ نَحْوَ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَفِي حَدِيثِهِمْ جَمِيعًا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ إِلَّا حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ فَإِنَّ فِي حَدِيثِهِ عَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي رِوَايَاتِ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ عَرِّفْهَا سَنَةً وَفِي حَدِيثِ أبي بن كعب أنه أَمَرَهُ بِتَعْرِيفِهَا ثَلَاثَ سِنِينَ وَفِي رِوَايَةٍ سَنَةً وَاحِدَةً وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الرَّاوِيَ شَكَّ قَالَ لَا أَدْرِي قَالَ حَوْلٌ أَوْ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ وَفِي رِوَايَةِ عَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَطْرَحَ الشَّكَّ وَالزِّيَادَةَ وَيَكُونُ الْمُرَادُ سنة في رِوَايَةِ الشَّكِّ وَتُرَدُّ الزِّيَادَةُ بِمُخَالَفَتِهَا بَاقِيَ الْأَحَادِيثِ وَالثَّانِي أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ فَرِوَايَةُ زَيْدٍ فِي التَّعْرِيفِ سنة محمولة على أقل ما يجزى وَرِوَايَةُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي(5/83)
التَّعْرِيفِ ثَلَاثَ سِنِينَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ وَزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ قَالَ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِتَعْرِيفِ سَنَةً وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ تَعْرِيفَ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ انْتَهَى كَلَامُهُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَّفَ عَدَدَهَا إِلَخْ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَصَفَ اللُّقَطَةَ وَعَرَّفَ عَدَدَهَا دُفِعَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفِ بَيِّنَةٍ سِوَاهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ وَقَدْ عَرَّفَ الرَّجُلُ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ وَالْعَدَدَ وَالْوَزْنَ دَفَعَهَا إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ الصِّفَةَ بِأَنْ يَسْمَعَ الْمُلْتَقِطُ يَصِفَهَا وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ
قُلْتُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ هَذَا يُوجِبُ دَفْعَهَا إِلَيْهِ إِذَا أَصَابَ الصِّفَةَ وَهُوَ فَائِدَةُ قَوْلِهِ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي رِوَايَةِ حَمَّادٍ وَهِيَ قَوْلُهُ فَعَرِّفْ عَدَدَهَا فَادْفَعْهَا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَالِاحْتِيَاطُ مَعَ مَنْ لم يرى الرد إلا ببينة لقوله الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَتَأَوَّلُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْلُهُ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ بِمَالِهِ فَلَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لِتَكُونَ الدَّعْوَى فِيهَا مَعْلُومَةٌ وَأَنَّ الدَّعْوَى الْمُبْهَمَةَ لَا تُقْبَلُ
قُلْتُ وَأَمْرُهُ بِإِمْسَاكِ اللُّقَطَةِ وَتَعْرِيفِهَا أَصْلٌ فِي أَبْوَابٍ مِنَ الْفِقْهِ إِذَا عَرَضَتِ الشُّبْهَةُ فَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْحُكْمُ فِيهَا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ مِثْلِ أَنْ يُطَلِّقَ أَحَدَ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَمَاتَ فَإِنَّ الْيَمِينَ تُوقَفُ حَتَّى تُبَيَّنَ الْمُطَلَّقَةُ مِنْهُنَّ أَوْ يَصْطَلِحْنَ عَلَى شَيْءٍ فِي نَظَائِرَ لَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ انْتَهَى
[1704] (عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا مُثَلَّثَةٌ (ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا) الْوِكَاءُ الْخَيْطُ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الصُّرَّةُ (وَعِفَاصَهَا) الَّذِي تَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ
وَأَصْلُ الْعِفَاصِ الْجِلْدُ الَّذِي يُلْبَسُ رَأْسَ الْقَارُورَةِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ
قَالَ الْعَيْنِيُّ الْعِفَاصُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ وَبِالصَّادِ وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ النَّفَقَةُ سَوَاءً كَانَ مِنْ جِلْدٍ أَوْ خِرْقَةٍ أَوْ حَرِيرٍ أَوْ غَيْرِهَا
فَإِنْ قُلْتَ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ كَمَا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ اعْرِفْ عِفَاصَهَا ووكاءها(5/84)
ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً وَفِي رِوَايَةِ الْمُؤَلِّفِ أَبِي دَاوُدَ وَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ وِكَاءَهَا فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِي أَنَّ مَعْرِفَةَ الْوِكَاءِ وَالْعِفَاصِ تَتَأَخَّرُ عَلَى تَعْرِيفِهَا سَنَةً وَرِوَايَةُ مَالِكٍ صَرِيحَةٌ فِي تَقْدِيمِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى التَّعْرِيفِ
قُلْتُ قَالَ النَّوَوِيُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْمَعْرِفَةِ فِي حَالَتَيْنِ فَيُعَرِّفُ الْعَلَامَاتِ أَوَّلَ مَا يَلْتَقِطُ حَتَّى يَعْلَمَ صِدْقَ وَاصِفِهَا إِذَا وَصَفَهَا ثُمَّ بَعْدَ تَعْرِيفِهَا سَنَةً إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَيُعَرِّفُهَا مَرَّةً أُخْرَى مَعْرِفَةً وَافِيَةً مُحَقَّقَةً لِيُعْلَمَ قَدْرُهَا وَصِفَتُهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَجِيءَ صَاحِبُهَا فَيَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا عَرَّفَهَا الملقط وَقْتَ التَّمَلُّكِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَاللَّقَطَةُ وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ (ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بَعْدَ التَّعْرِيفِ حَوْلًا فَاسْتَنْفِقْهَا مِنَ الِاسْتِنْفَاقِ وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ وَبَابُ الِاسْتِفْعَالِ لِلطَّلَبِ لَكِنِ الطَّلَبُ عَلَى قِسْمَيْنِ صَرِيحٌ وَتَقْدِيرِيٌّ وههنا لا يتأتى الصريح فيكون للطلب التقديري قاله العيني
(وقال النووي) ومعنى استنفق بها تَمْلِكُهَا ثُمَّ أَنْفِقْهَا عَلَى نَفْسِكَ انْتَهَى (فَقَالَ) أَيِ السَّائِلُ (فَضَالَّةُ الْغَنَمِ) أَيْ مَا حُكْمُهَا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الضَّالَّةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْحَيَوَانِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيُقَالُ فِيهِ لُقَطَةٌ
وَسَوَّى الطَّحَاوِيُّ بَيْنَ الضَّالَّةِ وَاللُّقَطَةِ (فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ) إِنْ أَخَذْتَهَا وَعَرَّفْتَهَا سَنَةً وَلَمْ تَجِدْ صَاحِبَهَا (أَوْ لِأَخِيكَ) أَيْ فِي الدِّينِ مُلْتَقِطٌ آخَرُ (أَوْ لِلذِّئْبِ إِنْ تَرَكْتَهَا وَلَمْ يَأْخُذْهَا غَيْرُكَ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِي نَفْسَهَا) وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيعِ وَالتَّقْسِيمِ وَأَشَارَ إِلَى إِبْطَالِ قِسْمَيْنِ فَتَعَيَّنَ الثَّالِثُ فَكَأَنَّهُ قَالَ يَنْحَصِرُ الْأَمْرُ فِي ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَنْ تَأْخُذَهَا لِنَفْسِكَ أَوْ تَتْرُكَهَا فَيَأْخُذَهَا مِثْلُكَ أَوْ يَأْكُلَهَا الذِّئْبُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِهَا لِلذِّئْبِ فَإِنَّهَا إِضَاعَةُ مَالٍ وَلَا مَعْنَى لِتَرْكِهَا لِمُلْتَقِطٍ آخَرَ مِثْلَ الْأَوَّلِ بِحَيْثُ يَكُونُ الثَّانِي أَحَقُّ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا وَسَبَقَ الْأَوَّلُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّرْكِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَسْبُوقِ وَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ تَعَيَّنَ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ لِهَذَا الْمُلْتَقِطِ
وَالتَّعْبِيرُ بِالذِّئْبِ لَيْسَ بِقَيْدٍ فَالْمُرَادُ جِنْسُ مَا يَأْكُلُ الشَّاةَ وَيَفْتَرِسُهَا مِنَ السِّبَاعِ قَالَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَقَوْلُهُ فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا جُعِلَ هَذَا حُكْمُهَا إِذَا وُجِدَتْ بِأَرْضِ فَلَاةٍ يُخَافُ عَلَيْهَا الذِّئَابُ فِيهَا فَإِذَا وُجِدَتْ فِي قَرْيَةٍ وَبَيْنَ ظَهْرَانَيْ عِمَارَةٍ فَسَبِيلُهَا سَبِيلُ اللُّقَطَةِ فِي التَّعْرِيفِ إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الذِّئَابَ لَا تَأْوِي إِلَى الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى فَأَمَّا ضَالَّةُ الْإِبِلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ لِوَاجِدِهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهَا لِأَنَّهَا قَدْ تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ وَتَعِيشُ بِلَا رَاعٍ وَتَمْتَنِعُ مِنْ أَكْثَرِ السِّبَاعِ فَيَجِبُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا حَتَّى يَأْتِيَ رَبُّهَا انْتَهَى (فَضَالَّةُ الْإِبِلِ) مَا حُكْمُهَا (وَجْنَتَاهُ) الْوَجْنَةُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْخَدَّيْنِ (أَوِ احمر(5/85)
وَجْهُهُ) شَكَّ الرَّاوِي (قَالَ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (مالك ولها) أي مالك وَأَخْذَهَا اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَيْ لَيْسَ لَكَ هَذَا وَتَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةٌ لِلْبُخَارِيِّ فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا (مَعَهَا حِذَاؤُهَا) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالذَّالِ المعجمة ممدود أَخْفَافُهَا فَتَقْوَى بِهَا عَلَى السَّيْرِ وَقَطْعِ الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ وَوُرُودِ الْمِيَاهِ النَّائِيَةِ (وَسِقَاؤُهَا) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدُّ جَوْفُهَا أَيْ حَيْثُ وَرَدَتِ الْمَاءَ شَرِبَتْ مَا يَكْفِيهَا حَتَّى تَرِدَ مَاءً آخَرَ لِأَنَّ الْإِبِلَ إِذَا شَرِبَتْ يَوْمًا تَصْبِرُ أَيَّامًا عَلَى الْعَطَشِ أَوِ السِّقَاءُ الْعُنُقُ لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْمَأْكُولَ بِغَيْرِ تَعَبٍ لِطُولِ عُنُقِهَا
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ بِهَذَا النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهَا لِأَنَّ الْأَخْذَ إِنَّمَا هُوَ الْحِفْظُ عَلَى صَاحِبِهَا إِمَّا بِحِفْظِ الْعَيْنِ أَوْ بِحِفْظِ الْقِيمَةِ وَهَذِهِ لَا تَحْتَاجُ إِلَى حِفْظٍ لِأَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ وَمَا يَسَّرَ لَهَا مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَذَا فِي إِرْشَادِ السَّارِي (حَتَّى يَأْتِيَهَا رَبُّهَا) أَيْ مَالِكُهَا وَآخِذُهَا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَثِيرَ اللُّقَطَةِ وَقَلِيلَهُ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ التَّعْرِيفِ إِذَا كَانَ مِمَّا يَبْقَى إِلَى الْحَوْلِ لِأَنَّهُ عَمَّ اللُّقَطَةَ وَلَمْ يَخُصَّ وَقَالَ قَوْمٌ يُنْتَفَعُ بِالْقَلِيلِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ كَالنَّعْلِ وَالسَّوْطِ وَالْجِرَابِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا يُرْتَفَقُ بِهِ وَلَا يُتَمَوَّلُ وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ مَا دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَلِيلٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا يُعَرَّفُ مِنَ اللُّقَطَةِ مَا كَانَ فَوْقَ الدِّينَارِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ الْآتِي قَالَ فَهَذَا لَمْ يُعَرِّفْهُ سَنَةً لَكِنِ اسْتَنْفَقَهُ حِينَ وَجَدَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَرْقِ مَا بَيْنَ الْقَلِيلِ مِنَ اللُّقَطَةِ وَالْكَثِيرِ مِنْهَا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ
(بِإِسْنَادِهِ وَمَعْنَاهُ) أَيْ بِإِسْنَادِ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ وَحَدِيثُ مَالِكٍ هَذَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِتَمَامِهِ
[1705] (تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ) قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ وَيَلْحَقُ بِالْإِبِلِ مَا يَمْتَنِعُ بِقُوَّتِهِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ كَالْبَقَرَةِ وَالْفَرَسِ
قَالَ الْعَيْنِيُّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ هَلْ تُؤْخَذُ عَلَى قولين أحدهما لا يأخذها ولا يعرفها قاله مالك والأوزاعي والشافعي لنهيه عن ضالة الإبل وَالثَّانِي أَخْذُهَا وَتَعْرِيفُهَا أَفْضَلُ قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ لِأَنَّ تركها سبب لضياعها
وقال بن الْمُنْذِرِ وَمِمَّنْ رَأَى ضَالَّةَ الْبَقَرِ كَضَالَّةِ الْإِبِلِ طاووس والأوزاعي والشافعي وبعض أصحاب مالك
وقال بن الْجَوْزِيِّ الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَالشَّاةُ وَالظِّبَاءُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا الْتِقَاطُهَا إِلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ لِلْحِفْظِ انْتَهَى
(وَلَمْ يَقُلْ) أَيْ مَالِكٌ فِي حَدِيثِهِ لَفْظَ (خُذْهَا فِي ضَالَّةِ الشَّاءِ) كَمَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ(5/86)
وَسَيَجِيءُ بَيَانُهُ (وَإِلَّا فَشَأْنَكَ) بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمْ شَأْنَكَ وَبِالرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَشَأْنُكَ مُبَاحٌ أَوْ جَائِزٌ أَوْ نَحْوُهُ وَالشَّأْنُ الْأَمْرُ وَالْحَالُ (بِهَا) أَيْ بِالْإِبِلِ (رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ) وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ (وَسُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) وَحَدِيثُهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْعَقَدِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ رَبِيعَةَ وَلَيْسَ فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ يَزِيدَ فَفِيهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَوْجُودَةٌ (وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ رَبِيعَةَ) وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْمُؤَلِّفِ (لَمْ يَقُولُوا خُذْهَا) وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَالِكًا وَالثَّوْرِيَّ وَسُلَيْمَانَ بْنَ بِلَالٍ وَحَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ كُلَّهُمْ رَوَوْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ رَبِيعَةَ جُمْلَةَ خُذْهَا فِي ضَالَّةِ الشَّاءِ
وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ فَذَكَرَ عَنْ رَبِيعَةَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَالزِّيَادَةُ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا رَبِيعَةُ فِي رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ بَلْ تَابَعَ رَبِيعَةَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ
فَقَوْلُهُ خُذْهَا صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِالْأَخْذِ
وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ يَتْرُكُ الْتِقَاطَ الشَّاةِ
وَتَمَسَّكَ بِهِ مَالِكٌ فِي أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالْأَخْذِ وَلَا يَلْزَمُهُ غَرَامَةٌ وَلَوْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَفِيهِ نَظَرٌ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَوْلُهُ هِيَ لَكَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْبَيْعَ فِيهَا إِذَا كَانَ قَدْ بَاعَهَا وَلَكِنْ يَغْرَمُ لَهُ الْقِيمَةَ لِأَنَّهُ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِي أَنْ يَسْتَنْفِقَهَا فَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِيمَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الِاسْتِنْفَاقِ بِهَا مِنْ بَيْعٍ وَنَحْوِهِ
[1706] (بَاغِيهَا) أَيْ طَالِبُهَا (ثُمَّ كُلْهَا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَهَذَا يُصَرِّحُ بِإِبَاحَتِهَا لَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُؤَدِّيَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَالسُّنَّة الصَّحِيحَة مُصَرِّحَة بِأَنَّ مُدَّة التَّعْرِيف سَنَة
وَوَقَعَ فِي حَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب الْمُتَقَدِّم أَنَّهَا تُعَرَّف ثَلَاثَة أَعْوَام وَوَقَعَ الشَّكّ فِي رِوَايَة حَدِيث أُبَيّ بْن كَعْب أَيْضًا هَلْ ذَلِكَ فِي سَنَة أَوْ فِي ثَلَاث سِنِينَ وَفِي الْأُخْرَى عَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَة فَلَمْ يَجْزِم وَالْجَازِم مُقَدَّم
وَقَدْ رَجَعَ أُبَيّ بْن كَعْب آخِرًا إِلَى عَام وَاحِد وَتَرَكَ مَا شَكَّ فِيهِ
وَحَكَى مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ شُعْبَة أَنَّهُ قَالَ سَمِعْته يَعْنِي سَلَمَة بْن كُهَيْل بَعْد عَشْر سِنِينَ يَقُول عَرِّفْهَا عَامًا وَاحِدًا
وَقِيلَ هِيَ قَضِيَّتَانِ فَأُولَى لِأَعْرَابِيٍّ أَفْتَاهُ بِمَا يَجُوز لَهُ(5/87)
ثَمَنَهَا إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا فَدَلَّ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِكَرَاهَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَقَالَ مَالِكٌ إِذَا أَكَلَ الشَّاةَ الَّذِي وَجَدَهَا بِأَرْضِ الْفَلَاةِ ثُمَّ جَاءَ رَبُّهَا لَمْ يَغْرَمْهَا وَقَالَ لِأَنَّ النَّبِيَّ جَعَلَهَا لَهُ مِلْكًا بِقَوْلِهِ هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ وَكَذَلِكَ قَالَ دَاوُدُ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَ إِبَاحَةِ الْأَكْلِ فَإِنْ جَاءَ بَاغِيهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَغْرَمُهَا كَمَا يَغْرَمُ اللُّقَطَةَ يَلْتَقِطُهَا فِي الْمِصْرِ سَوَاءً انْتَهَى كَلَامُهُ
[1707] (ثُمَّ أَفِضْهَا) بِالْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ هَكَذَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ وَفِي بَعْضِهَا اقْبِضْهَا مِنَ الْقَبْضِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ أَلْقِهَا فِي مَالِكٍ وَاخْلِطْهَا بِهِ مِنْ قَوْلِكَ أَفَاضَ الْأَمْرُ وَالْحَدِيثُ إِذَا شَاعَ وَانْتَشَرَ وَيُقَالُ مِلْكُ فُلَانٍ فَائِضٌ إِذَا كَانَ شَائِعًا مَعَ أَمْلَاكِ شُرَكَائِهِ غَيْرَ مَقْسُومٍ وَلَا مُتَمَيِّزٍ مِنْهَا وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا إِنَّمَا هو ليمكنه تميزها بعد خلطها بما له إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا لِأَنَّهُ جَعَلَهَا شَرْطًا لِوُجُوبِ دَفْعِهَا إِلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ يُقِيمُهَا لَكِنْ مَنْ ذَكَرَ عَدَدَهَا وَإِصَابَةَ الصِّفَةِ فِيهَا
[1708] (وَقَالَ حَمَّادٌ أَيْضًا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ) أَيْ مِثْلَ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِزِيَادَةِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
بَعْد عَام
وَالثَّانِيَة لِأُبَيّ بْن كَعْب أَفْتَاهُ بِالْكَفِّ عَنْهَا وَالتَّرَبُّص بِحُكْمِ الْوَرَع ثَلَاثَة أَعْوَام وَهُوَ مِنْ فُقَهَاء الصَّحَابَة وَفُضَلَائِهِمْ
وَقَدْ يَكُون ذَلِكَ لِحَاجَةِ الْأَوَّل إِلَيْهَا وَضَرُورَته وَاسْتِغْنَاء أُبَيّ فإن كَانَ مِنْ مَيَاسِير الصَّحَابَة
وَلَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْ أَئِمَّة الْفَتْوَى بِظَاهِرِهِ وَأَنَّ اللُّقَطَة تُعَرَّف ثَلَاثَة أَعْوَام إِلَّا رِوَايَة جَاءَتْ عَنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الَّذِي قَالَ لَهُ عُمَر ذَلِكَ مُوسِرًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَر أَنَّ اللقطة تُعَرَّف سَنَة مِثْل قَوْل الْجَمَاعَة
وَحَكَى فِي الْحَاوِي عَنْ شَوَاذّ مِنْ الْفُقَهَاء أَنَّهُ يَلْزَمهَا أَنْ يَعْرِفهَا ثَلَاثَة أَحْوَال(5/88)
الْجُمْلَةِ فَعَرِّفْ عِفَاصَهَا وَعَدَدَهَا (لَيْسَتْ بِمَحْفُوظَةٍ) قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ إِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ زَادَهَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَهِيَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فَتَمَسَّكَ بِهَا مَنْ حَاوَلَ تَضْعِيفَهَا فَلَمْ يُصِبْ بَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ وَلَيْسَتْ شَاذَّةٌ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بَلْ وَافَقَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ فَفِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ كُلُّهُمْ عَنْ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُكَ بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ وَقَدْ أَخَذَ بِظَاهِرِهَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ جَازَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ وَلَا يُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُصِيبُ الصِّفَةَ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهَا
قُلْتُ قَدْ صَحَّتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا انْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ (وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ سُوَيْدٍ) قال في الفتح أخرج الحميدي والبغوي وبن السَّكَنِ وَالْبَاوَرْدِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْنٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ سُوَيْدٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ رسول الله عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ أَوْثِقْ وِعَاءَهَا
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
وَمَقْصُودُ الْمُؤَلِّفِ مِنْ إِيرَادِ حَدِيثِ سُوَيْدٍ الْجُهَنِيِّ وَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْآتِيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الَّتِي رَوَاهَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ لَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سُوَيْدٌ الْجُهَنِيُّ أَيْضًا بَلْ إِنَّمَا زَادَهَا حَمَّادٌ فِي رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ وَلَمْ يُثْبِتْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ وَيَذْهَبُ الْمُؤَلِّفُ إِلَى تَقْوِيَةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَقَدْ عَرَفْتَ آنِفًا جَوَابَ هَذَا الْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(وَحَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمْرٍو وَعَاصِمٍ ابْنَيْ سُفْيَانَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ أَبَاهُمَا سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ كَانَ وَجَدَ عَتَبَةً فَأَتَى بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ عُرِفَتْ فَذَاكَ وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ قَالَ فَعَرِّفْهَا سَنَةً فَلَمْ تُعْرَفْ فَأَتَى بِهَا عُمَرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ أَوِ الْقَابِلَ فِي الْمَوْسِمِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ هِيَ لَكَ وَقَالَ إِنَّ رسول الله كان أمرنا(5/89)
بِذَلِكَ الْحَدِيثَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ سويد عن أبيه عن النبي أَيْضًا قَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً وَحَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الخطاب أيضا عن النبي قَالَ عَرِّفْهَا سَنَةً
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَحَدِيثُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ قَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُمَا
وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَزَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ ذَكَرُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وقد تابعه عليها من ذكرناه والله عزوجل أَعْلَمُ انْتَهَى
[1709] (عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَبَعْدَ الْأَلِفِ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ (فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَمْرُ تَأْدِيبٍ وَإِرْشَادٍ وَذَلِكَ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا لِمَا يَتَخَوَّفُهُ فِي الْعَاجِلِ مِنْ تَسْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَانْبِعَاثِ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَيَدْعُوهُ إِلَى الْخِيَانَةِ بَعْدَ الْأَمَانَةِ وَالْآخَرُ مَا يُؤْمَنُ حُدُوثُ الْمَنِيَّةِ بِهِ فَيَدَّعِيَهَا وَرَثَتُهُ وَيَحُوزُوهَا فِي تَرِكَتِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ
وَفِي السُّبُلِ وَأَفَادَ هَذَا الْحَدِيثُ زِيَادَةَ وُجُوبِ الْإِشْهَادِ بِعَدْلَيْنِ عَلَى الْتِقَاطِهَا وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فَقَالُوا يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى اللُّقَطَةِ وَعَلَى أَوْصَافِهَا وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ قَالُوا لِعَدَمِ ذِكْرِ الْإِشْهَادِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَيُحْمَلُ هَذَا عَلَى النَّدْبِ
وَقَالَ الْأَوَّلُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ بَعْدَ صِحَّتِهَا يَجِبُ الْعَمَلُ بها فيجب الْإِشْهَادُ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ عَدَمَ ذِكْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْحَقُّ وُجُوبُ الْإِشْهَادِ انْتَهَى (وَلَا يَكْتُمْ) بِأَنْ لَا يُعَرِّفَ أَيْ لَا يُخْفِيهِ (وَلَا يُغَيِّبْ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ لَا يَجْعَلْهُ غَائِبًا بِأَنْ يُرْسِلَهُ إِلَى مَكَانٍ آخر أو الكتمان مُتَعَلِّقٍ بِاللُّقَطَةِ وَالتَّغَيُّبِ بِالضَّالَّةِ
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ (فَهُوَ مَالُ اللَّهِ) فِيهِ دَلِيلٌ لِلظَّاهِرِيَّةِ فِي أَنَّهَا تَصِيرُ مِلْكًا لِلْمُلْتَقِطِ وَلَا يَضْمَنُهَا
وَقَدْ يُجَابُ أَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا سَلَفَ مِنْ إِيجَابِ الضَّمَانِ (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَحِلُّ انْتِفَاعُهُ بِهَا بَعْدَ مُرُورِ سَنَةِ التعريف
قال المنذري وأخرجه النسائي وبن ماجه(5/90)
[1710] (الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ) الْمُرَادُ بِالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ مَا كَانَ مُعَلَّقًا فِي النَّخْلِ قَبْلَ أَنْ يُجَذَّ وَيُجْرَنَ وَالثَّمَرُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلرَّطْبِ وَالْيَابِسِ مِنَ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ وَغَيْرِهِمَا (مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَخْذَ الْمُحْتَاجُ بِفِيهِ لِسَدِّ فَاقَتِهِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ (غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً) بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَنُونٍ وَهُوَ مِعْطَفُ الْإِزَارِ وَطَرْفُ الثَّوْبِ أَيْ لَا يَأْخُذْ مِنْهُ فِي ثَوْبِهِ يُقَالُ أَخْبَنَ الرَّجُلُ إِذَا خَبَّأَ شَيْئًا فِي خُبْنَةِ ثَوْبِهِ أَوْ سَرَاوِيلِهِ انْتَهَى مَا فِي النِّهَايَةِ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ الْخُبْنَةُ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ فِي ثَوْبِهِ فَيَرْفَعُهُ إِلَى فَوْقِ
وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا رَفَعَ ذَيْلَهُ فِي الْمَشْيِ قَدْ رَفَعَ خُبْنَتَهُ انْتَهَى (وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ) مِنَ الثَّمَرِ وَفِيهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَإِنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يُجَذَّ وَيَأْوِيهِ الْجَرِينُ أَوْ بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْجَذِّ فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ وَالْعُقُوبَةُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَطْعِ وَإِيوَاءِ الْجَرِينِ لَهُ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ مَعَ بُلُوغِ الْمَأْخُوذِ لِلنَّصَّابِ لِقَوْلِهِ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْجَرِينَ حِرْزٌ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ إِذْ لَا قَطْعَ إِلَّا مِنْ حِرْزٍ كَذَا فِي السُّبُلِ (فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مثليه) بالتثنية (والعقوبة) بالرفع أي التغرير وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ بِأَنَّ الْعُقُوبَةَ جَلَدَاتٌ نَكَالٌ
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ فَإِنَّ غَرَامَةَ مِثْلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ وَقَدْ أَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ لَا يُضَاعَفُ الْغَرَامَةُ عَلَى أَحَدٍ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا الْعُقُوبَةُ فِي الْأَبَدَانِ لَا فِي الْأَمْوَالِ وَقَالَ هَذَا مَنْسُوخٌ وَالنَّاسِخُ لَهُ قَضَى رسول الله عَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ مَا أَتْلَفَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ أَيْ مَضْمُونٌ عَلَى أَهْلِهَا قَالَ وَإِنَّمَا يَضْمَنُونَهُ بِالْقِيمَةِ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّوَعُّدِ فَيَنْتَهِي فَاعِلُ ذَلِكَ عَنْهُ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا وَاجِبَ عَلَى مُتْلِفِ الشَّيْءِ أَكْثَرَ مِنْ مِثْلِهِ
وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَقَعُ بَعْضُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الْأَفْعَالِ ثُمَّ نُسِخَ وَإِنَّمَا أُسْقِطَ الْقَطْعُ عَمَّنْ سَرَقَ الثَّمَرَ الْمُعَلَّقَ لِأَنَّ حَوَائِطَ الْمَدِينَةِ ليس عليها حيطان ولبس سُقُوطُهَا عَنْهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَا قَطْعَ فِي غَيْرِ الثَّمَرَةِ فَإِنَّهُ مَالٌ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ انْتَهَى (الْجَرِينُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ هُوَ مَوْضِعُ تَجْفِيفِ التَّمْرِ وَهُوَ لَهُ كَالْبَيْدَرِ لِلْحِنْطَةِ وَيُجْمَعُ عَلَى جُرُنٍ بِضَمَّتَيْنِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (ثَمَنَ الْمِجَنِّ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مِفْعَلٌ مِنَ الِاجْتِنَانِ وَهُوَ الِاسْتِتَارُ وَالِاخْتِفَاءُ وَكُسِرَتْ مِيمُهُ لِأَنَّهُ آلَةٌ فِي الِاسْتِتَارِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ هُوَ التُّرْسُ لِأَنَّهُ يُوَارِي حَامِلَهُ أَيْ يَسْتُرُهُ وَالْمِيمُ زَائِدةٌ انْتَهَى
وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ وَهُوَ نِصَابُ(5/91)
السَّرِقَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَيَجِيءُ بَيَانُهُ فِي الْحُدُودِ إن شاء الله تعالى (وذكر) بن عجلان عن عمرو بن شعيب (كما ذكر غيره) أي غير بن عَجْلَانَ كَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى أَيْ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَمَا ذكر غيره من الصحابة عن النبي والله أعلم قال أي بن عَجْلَانَ بِإِسْنَادِهِ أَوْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو (وسئل) أي النبي (فِي طَرِيقِ الْمِيتَاءِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ مِنَ الْإِتْيَانِ وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ وَبَابُهُ الْهَمْزَةُ أَيْ طَرِيقَةٌ مسلوكة يأتيها الناس
قال الخطابي وبن الْأَثِيرِ (أَوِ الْقَرْيَةُ الْجَامِعَةُ) لِلنَّاسِ مِنَ الْمُرُورِ وَالذَّهَابِ أَيْ قَرْيَةٌ عَامِرَةٌ يَسْكُنُهَا النَّاسُ (وَمَا كَانَ فِي الْخَرَابِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُرِيدُ الْخَرَابَ الْعَادِيَّ الَّذِي لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الرِّكَازِ وَفِيهِ الْخُمُسُ وَسَائِرُ الْمَالِ لِوَاجِدِهِ فَأَمَّا الْخَرَابُ الَّذِي كَانَ عَامِرًا مِلْكًا لِمَالِكٍ ثُمَّ خَرِبَ فَإِنَّ الْمَالَ الْمَوْجُودَ فِيهِ مِلْكٌ لصحاب الْخَرَابِ لَيْسَ لِوَاجِدِهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُ صَاحِبُهُ فَهُوَ لُقَطَةٌ انْتَهَى (فَفِيهَا) أَيْ فِي اللُّقَطَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْخَرَابِ (وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ) قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ فِي تَفْسِيرِ الرِّكَازِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ هُوَ الْمَعَادِنُ وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ هُوَ كُنُوزُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَكُلٌّ مُحْتَمَلٌ فِي اللُّغَةِ انْتَهَى
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ الرِّكَازُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ كُنُوزُ الْجَاهِلِيَّةِ الْمَدْفُونَةِ فِي الْأَرْضِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْمَعَادِنُ وَالْقَوْلَانِ تَحْتَمِلُهُمَا اللُّغَةُ
وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْكَنْزُ الْجَاهِلِيُّ وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ الْخُمُسُ لِكَثْرَةِ نَفْعِهِ وَسُهُولَةِ أَخْذِهِ انْتَهَى
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ فِي آخِرِ الْبُيُوعِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فِي كَنْزٍ وَجَدَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنْ كُنْتَ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ أَوْ سَبِيلٍ مِيتَاءَ فَعَرِّفْهُ وَإِنْ كُنْتَ وَجَدْتَهُ فِي خَرِبَةٍ جَاهِلِيَّةٍ أَوْ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ أَوْ غَيْرِ سَبِيلٍ مِيتَاءَ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ انْتَهَى وَسَكَتَ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ وَلَمْ أَزَلْ أَطْلُبُ الْحُجَّةَ فِي سَمَاعِ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَلَمْ أَصِلْ إِلَيْهَا إِلَى هَذَا الْوَقْتِ
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الحافظ بن عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ
قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَعَطْفُ الرِّكَازِ عَلَى الْكَنْزِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ غَيْرُ الْكَنْزِ وَأَنَّهُ الْمَعْدِنُ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَهُوَ حُجَّةٌ لِمُخَالِفِ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى
قُلْتُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِأَنَّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِيهِ حُكْمٌ لِلشَّيْئَيْنِ الْأَوَّلُ مَا وُجِدَ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الرِّكَازُ وَالثَّانِي مَا وُجِدَ عَلَى(5/92)
وَجْهِ الْأَرْضِ فِي خَرِبَةٍ جَاهِلِيَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ أَوْ غَيْرِ سَبِيلٍ مِيتَاءَ فَفِيهِمَا الخمس
فههنا عَطْفُ الرِّكَازِ وَهُوَ الْمَالُ الْمَدْفُونُ عَلَى الْمَالِ الَّذِي وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَمَّا عَنْ حُكْمِ الْمَعْدِنِ فَالْحَدِيثُ سَاكِتٌ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَهْلِ الْعِرَاقِ بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِأَهْلِ الْحِجَازِ الَّذِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَنْ جَدِّهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حسن انتهى
[1711] (بإسناد) إلى النبي (بِهَذَا) الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لَكِنْ (قَالَ) الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَتِهِ (فِي ضَالَّةِ الشَّاءِ) أَيْ فِي حُكْمِ ضَالَّةِ الشَّاءِ (قَالَ فَاجْمَعْهَا) أَيْ قَالَ الْوَلِيدُ مَكَانُ قَوْلِهِ خُذْهَا فَاجْمَعْهَا وَهُوَ أَمْرٌ مِنْ جَمَعَ يَجْمَعُ أَيِ اجْمَعِ الشَّاةَ الضَّالَّةَ مَعَ شَاتِكَ
فَمَعْنَى قَوْلِهِ خُذْهَا وَاجْمَعْهَا وَاحِدٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1712] (خُذْهَا قَطُّ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ بِسُكُونِ الطَّاءِ بِمَعْنَى حَسْبُ وَهُوَ الِاكْتِفَاءُ بالشيء تقول قطي أي حسبي ومن ها هنا يُقَالُ رَأَيْتُهُ مَرَّةً فَقَطْ وَالْمَعْنَى أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْأَخْنَسِ الرَّاوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مَا زَادَ عَلَى قَوْلِهِ خُذْهَا كَمَا زاد بن إِسْحَاقَ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ (وَكَذَا قَالَ فِيهِ أَيُّوبُ) السَّخْتِيَانِيُّ (وَيَعْقُوبُ بْنُ عَطَاءٍ) كِلَاهُمَا (فَخُذْهَا) وَمَا زَادَا عَلَى ذَلِكَ فَاتَّفَقَ الثَّلَاثَةُ أَيْ عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَيُّوبُ وَيَعْقُوبُ عَلَى عَدَمِ الزِّيَادَةِ
وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ سَابُورَ وَيَعْقُوبَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا لَكِنْ مَا ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ الشَّاةِ وَلَا قِصَّةَ الْإِبِلِ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْكَنْزِ(5/93)
[1714] (هُوَ رِزْقُ اللَّهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ تَعْرِيفَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى حَسَبِهِ قَالَهُ السِّنْدِيُّ أَوْ هُوَ لِصَاحِبِ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ التَّعْرِيفِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَرُدَّ إِذَا جَاءَ مَالِكُهُ
قَالَهُ الشَّيْخُ الْمُحَدِّثُ مَوْلَانَا مُحَمَّدٌ إِسْحَاقُ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَفِي اللُّمَعَاتِ شَرْحِ الْمِشْكَاةِ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْحَقِّ الدَّهْلَوِيِّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَعْضِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّعْرِيفُ فِي الْقَلِيلِ لِأَنَّ الدِّينَارَ قَلِيلٌ وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقَلِيلِ فَقِيلَ هُوَ مَا دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقِيلَ الدِّينَارُ وَمَا دُونَهُ قَلِيلٌ انْتَهَى
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مُفَصَّلًا مِنْ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ وَسَيَأْتِي قَوْلُ الْمُنْذِرِيِّ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْبَسْطِ (تَنْشُدُ الدِّينَارَ) أَيْ تَطْلُبُ الدِّينَارَ وَتَتَفَقَّدُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ انْتَهَى
[1715] (فَعَرَفَهُ) الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (صَاحِبُ الدَّقِيقِ) وَكَانَ يَهُودِيًّا (فَرَدَّ) الْيَهُودِيُّ (عَلَيْهِ) عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (الدِّينَارَ) لِأَجْلِ مَعْرِفَتِهِ بِهِ وَمَنْزِلَةِ عَلِيٍّ عِنْدَهُ (فَقَطَعَ) عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (مِنْهُ) أَيِ الدِّينَارِ (قِيرَاطَيْنِ) الْقِيرَاطُ نِصْفُ دَانَقٍ والدرهم عندهم اثنتا عشرة قِيرَاطًا وَالدِّرْهَمُ نِصْفُ دِينَارٍ وَخَمْسَةٌ (فَاشْتَرَى) عَلِيٌّ رضي الله عنه (بِهِ) أَيْ بِالْمَقْطُوعِ مِنْهُ وَهُوَ الْقِيرَاطَانِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ بِلَالُ بن يحيى العبسي روى عن النبي مُرْسَلٌ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالرِّوَايَةِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَقِيلَ فِيهِ بَلَغَنِي عَنْ حُذَيْفَةَ وَفِي سَمَاعِهِ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَظَرٌ انْتَهَى كَلَامُهُ
[1716] (التِّنِّيسُ) بِكِسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَالسِّينُ مُهْمَلَةٌ جَزِيرَةٌ فِي بَحْرِ مِصْرَ قَرِيبَةٌ مِنَ الْبَرِّ بَيْنَ الْفَرَمَا وَدِمْيَاطَ وَالْفَرَمَا فِي شَرْقِيِّهَا كَذَا فِي الْغَايَةِ (الزمعي) بفتح الراء والميم منسوب(5/94)
إِلَى زَمَعَةَ (خَتَنُ) بِفَتْحَتَيْنِ زَوْجُ ابْنَتِهِ (الْجَزَّارِ) الْقَصَّابِ (فَرَهَنَ) أَيْ دَفَعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدِّينَارَ إِلَى الْجَزَّارِ وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ بِعِوَضِ دِرْهَمٍ لِأَجْلِ اشْتِرَاءِ اللَّحْمِ فَاشْتَرَى عَلِيٌّ اللَّحْمَ مِنْ ذَلِكَ الْقَصَّابِ الَّذِي رَهَنَ الدِّينَارَ إِلَيْهِ وَوَضَعَهُ عِنْدَهُ (فَجَاءَ بِهِ) بِاللَّحْمِ (فَعَجَنَتْ) فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الدَّقِيقَ (وَنَصَبَتْ) الْقِدْرَ لِطَبْخِ اللَّحْمِ (وَأَرْسَلَتْ إِلَى أَبِيهَا) مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ تَطْلُبُهُ لِأَجْلِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهَا (مِنْ شَأْنِهِ) مِنْ شَأْنِ الطَّعَامِ كَذَا وَكَذَا وَقَصَّتِ الْقِصَّةَ (يَنْشُدُ اللَّهَ) بِضَمِّ الشِّينِ يُقَالُ نَشَدْتُكَ اللَّهَ وَبِاللَّهِ أَيْ سَأَلْتُكَ بِهِ مُقْسِمًا عَلَيْكَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْغُلَامَ يَنْشُدُ بِاللَّهِ وَبِالْإِسْلَامِ وَيَطْلُبُ الدِّينَارَ (فأمر رسول الله) بِإِحْضَارِ ذَلِكَ الْغُلَامِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمَعِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ
قال يحيى بن معين ثقة وقال بن عَدِيٍّ وَهُوَ عِنْدِي لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بِرِوَايَاتِهِ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ
وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فَلَمْ يُعَرِّفْ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِيهِمَا أَنَّ عَلِيًّا أَنْفَقَهُ فِي الْحَالِ وَلَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ وَقَالَ وَالْأَحَادِيثُ فِي اشْتِرَاطِ الْمُدَّةِ فِي التَّعْرِيفِ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ إِسْنَادًا مِنْ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا أَنْفَقَهُ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّعْرِيفِ لِلضَّرُورَةِ وَفِي حَدِيثِهِمَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَقَالَ غَيْرُهُ فِي حديث علي أن النبي لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَعْرِيفِهِ
قَالَ وَفِيهِ إِشْكَالٌ إِذْ مَا صَارَ أَحَدٌ إِلَى(5/95)
إِسْقَاطِ أَصْلِ التَّعْرِيفِ وَلَعَلَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّ التَّعْرِيفَ لَيْسَ لَهُ صِيغَةٌ تَعْتَدُّ بِهِ فَمُرَاجَعَتُهُ لِرَسُولِ الله عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْخَلْقِ إِعْلَانٌ بِهِ فَهَذَا يُؤَيِّدُ الِاكْتِفَاءَ بِالتَّعْرِيفِ مَرَّةً وَاحِدَةً انْتَهَى
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْقَلِيلَ فِي اللُّقَطَةِ مُقَدَّرٌ بِدِينَارٍ فَمَا دُونَهُ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يجب تعريف القليل لحديث علي رضي الله عنه انْتَهَى كَلَامُ الْمُنْذِرِيِّ
[1717] (فِي الْعَصَا) بِالْقَصْرِ (وَأَشْبَاهِهِ) مِمَّا يُعَدُّ قَلِيلًا (يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ) صِفَةٌ أَوْ حَالٌ (يَنْتَفِعُ بِهِ) أَيِ الْحُكْمُ فِيهَا أَنْ يَنْتَفِعَ الْمُلْتَقِطُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفِ سَنَةٍ
قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُعَرَّفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (عَنِ الْمُغِيرَةِ أَبِي سَلَمَةَ) هُوَ مُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ كُنْيَتُهُ أَبُو سَلَمَةَ (بِإِسْنَادِهِ) إِلَى أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ جَابِرٍ
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ اثْنَانِ الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ وَمُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو سَلَمَةَ فَمُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ رَوَى عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ بلفظ رخص رسول الله وَرَوَى النُّعْمَانُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَشَبَابَةُ كِلَاهُمَا عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ من غير ذكر النبي بِلَفْظِ كَانُوا أَيْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ بَأْسًا فِي الْعَصَا وَالْحَبْلِ وَالسَّوْطِ الْحَدِيثَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ إن بعضهم رواه ولم يذكر النبي وَفِي إِسْنَادِهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ انْتَهَى
[1718] (ضَالَّةُ الْإِبِلِ) أَيْ حُكْمُهَا (الْمَكْتُومَةِ) الَّتِي كَتَمَهَا الْوَاجِدُ وَلَمْ يُعَرِّفْهَا وَلَمْ يشهد عليها (غرامتها) فيه إيجاب الغرامة بمثل قِيمَتِهَا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ سَبِيلُ هَذَا سَبِيلُ مَا تقدم من ذكره من(5/96)
الْوَعِيدِ الَّذِي لَا يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا هُوَ زَجْرٌ وَرَدْعٌ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْكُمُ بِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَمَّا عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ فَعَلَى خِلَافِهِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ لَمْ يَجْزِمْ عِكْرِمَةُ بِسَمَاعِهِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَهُوَ مُرْسَلٌ انْتَهَى
[1719] (نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ) قَالَ فِي السُّبُلِ أَيْ مِنِ الْتِقَاطِ الرَّجُلِ مَا ضَاعَ لِلْحَاجِّ وَالْمُرَادُ مَا ضَاعَ فِي مَكَّةَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَلَا تَحِلُّ ساقطتها إلا لمنشد ولحديث بن عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا عِنْدَهُمَا أَيْضًا بِلَفْظِ وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ نَهَى عَنِ التِقَاطِهَا لِلتَّمَلُّكِ لَا لِلتَّعْرِيفِ بِهَا فَإِنَّهُ يَحِلُّ قَالُوا وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ لُقَطَةُ الْحَاجِّ بِذَلِكَ لِإِمْكَانِ إِيصَالِهَا إِلَى أَرْبَابِهَا إِنْ كَانَتْ لِمَكِّيٍّ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَتْ لِآفَاقِيٍّ فَلَا يَخْلُو فِي الْغَالِبِ مِنْ وَارِدٍ مِنْهُ إِلَيْهَا فَإِذْ عَرَّفَهَا وَاجِدُهَا فِي كُلِّ عَامٍّ سَهُلَ التوصل إلى معرفة صاحبها
قال بن بَطَّالٍ وَقَالَ جَمَاعَةٌ هِيَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ مَكَّةُ بِالْمُبَالَغَةِ بِالتَّعْرِيفِ لِأَنَّ الْحَاجَّ يَرْجِعُ إِلَى بَلَدِهِ وَقَدْ لَا يَعُودُ فَاحْتَاجَ الْمُلْتَقِطُ إِلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْرِيفِ بِهَا وَالظَّاهِرُ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ حَدِيثَ النَّهْيِ هَذَا مُقَيَّدٌ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْتِقَاطُهَا إلا لمنشد فالذي اختصت به لفظة مَكَّةَ أَنَّهَا لَا تُلْتَقَطُ إِلَّا لِلتَّعْرِيفِ بِهَا أَبَدًا فَلَا يَجُوزُ لِلتَّمَلُّكِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثِ فِي لُقَطَةِ الْحَاجِّ مُطْلَقًا فِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهُ هُنَا مُطْلَقٌ وَلَا دَلِيلَ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِكَوْنِهَا فِي مَكَّةَ انْتَهَى كَلَامُ السُّبُلِ
وقال بن الْمَلِكِ أَرَادَ لُقَطَةَ حَرَمِ مَكَّةَ أَيْ لَا محل لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أَنْ يَحْفَظَهَا أَبَدًا لِمَالِكِهَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ لُقَطَةِ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ انْتَهَى (قَالَ أَحْمَدُ) بْنُ صَالِحٍ (قال بن وَهْبٍ) فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ (يَعْنِي فِي لُقَطَةِ الْحَاجِّ يَتْرُكُهَا) الْوَاجِدُ وَلَا يَأْخُذُهَا (حَتَّى يَجِدَهَا) أَيِ اللُّقَطَةَ (صَاحِبُهَا) صَاحِبُ اللُّقَطَةِ
وَقَدْ تعقب على هذا التفسير بن الْهُمَامِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَلَا عَمَلَ عَلَى هَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ لِفَشْوِ السَّرِقَةِ بِمَكَّةَ مِنْ حَوَالَيِ الْكَعْبَةِ فَضْلًا عَنِ الْمَتْرُوكِ انْتَهَى قَالَ في الغاية وما قاله بن الهمام حسن جدا (قال بن مَوْهِبٍ عَنْ عَمْرٍو) بِصِيغَةِ الْعَنْعَنَةِ وَأَمَّا أَحْمَدُ بن صالح فقال أنبأنا بن وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ(5/97)
وأخرجه مسلم والنسائي وليس فيه كلام بن وهب وقد قال صلى الله علي وَسَلَّمَ وَلَا تَحِلُّ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ لُقَطَةً فِي الْحَرَمِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا إِلَّا لِلْحِفْظِ عَلَى صَاحِبِهَا وَلْيُعَرِّفْهَا بِخِلَافِ لُقَطَةِ سَائِرِ الْبِلَادِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْتِقَاطُهَا لِلتَّمْلِيكِ
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ حُكْمَ لُقَطَةِ مَكَّةَ حُكْمُ لُقَطَةِ سَائِرِ الْبِلَادِ انْتَهَى
[1720] (الْبَوازِيجِ) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ثُمَّ الزَّايِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَجِيمٌ بَلَدٌ قَرِيبٌ إِلَى دِجْلَةَ (لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ) أَيْ لَا يَضُمُّهَا إِلَى مَالِهِ وَلَا يَخْلِطُهَا مَعَهُ (إِلَّا ضَالٌّ) أَيْ غَيْرُ رَاشِدٍ طَرِيقَ الْحَقِّ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا
وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَخَذَهَا لِيَذْهَبَ بِهَا فَهُوَ ضَالٌّ وَأَمَّا مَنْ أَخَذَهَا لِيَرْدُدَهَا أَوْ لِيُعَرِّفَهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَيْسَ هَذَا بِمُخَالِفٍ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ فِي أَخْذِ اللُّقَطَةِ وَذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الضَّالَّةِ لَا يَقَعُ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَتَاعِ وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا الضَّالُّ اسْمُ الْحَيَوَانِ الَّتِي تَضِلُّ عَنْ أَهْلِهَا كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالطَّيْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فَإِذَا وَجَدَهَا الْمَرْءُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَعْرِضَ لَهَا مَا دَامَتْ بِحَالٍ تَمْنَعُ بِنَفْسِهَا وَتَسْتَقِلُّ بِقُوَّتِهَا حَتَّى يَأْخُذَهَا صَاحِبُهَا
قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ رَسُولِ الله قَالَ مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَلَفْظُهُ مَنْ أَخَذَ لُقَطَةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا آخِرُ كتاب اللقطة
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَالَ بَعْضهمْ الْفَرْق بَيْن لُقَطَة مَكَّة وَغَيْرهَا أَنَّ النَّاس يَتَفَرَّقُونَ مِنْ مَكَّة فَلَا يُمْكِن تَعْرِيف اللُّقَطَة فِي الْعَام فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَلْتَقِط لُقَطَتهَا إِلَّا مُبَادِرًا إِلَى تَعْرِيفهَا قَبْل تَفَرُّق النَّاس بِخِلَافِ غَيْرهَا مِنْ الْبِلَاد
وَاَللَّه أَعْلَم(5/98)
(كِتَاب الْمَنَاسِكِ)
(بَاب فَرْضِ الْحَجِّ)
[1721] النُّسُكُ بِضَمَّتَيْنِ العبادة وكل حق لله عزوجل وَالْمَنَاسِكُ جَمْعُ مَنْسَكٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ الْمُتَعَبَّدُ وَيَقَعُ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ أُمُورُ الْحَجِّ وَالْمَنْسَكُ الْمَذْبَحُ وَالنَّسِيكَةُ الذَّبِيحَةُ
وَأَصْلُ الْحَجِّ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ
وَقَالَ الْخَلِيلُ كَثْرَةُ الْقَصْدِ إِلَى مُعْظَّمٍ وَفِي الشَّرْعِ الْقَصْدُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِأَعْمَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَبِكَسْرِهَا لُغَتَانِ
وَوُجُوبُ الْحَجِّ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ إِلَّا بِعَارِضٍ كَالنَّذْرِ
وَاخْتُلِفَ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي وَفِي وَقْتِ ابْتِدَاءِ فَرْضِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا سَنَةَ سِتٍّ لِأَنَّهَا نَزَلَ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لله وَهَذَا يُبْتَنَى عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْمَامِ ابْتِدَاءُ الْفَرْضِ وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ عَلْقَمَةَ وَمَسْرُوقٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ بِلَفْظِ وَأَقِيمُوا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْهُمْ
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْإِتْمَامِ الْإِكْمَالُ بَعْدَ الشُّرُوعِ وَهَذَا يقتضي تقدم فرصه قَبْلَ ذَلِكَ
وَقَدْ وَقَعَ فِي قِصَّةِ ضِمَامٍ ذِكْرُ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ وَكَانَ قُدُومُهُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ سَنَةَ خَمْسٍ وَهَذَا يَدُلُّ إِنْ ثَبَتَ عَلَى تَقَدُّمِهِ عَلَى سَنَةِ خَمْسٍ لِوُقُوعِهِ فِيهَا وَأَمَّا فَضْلُهُ فَمَشْهُورٌ وَلَا سِيَّمَا فِي الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِ
(الْحَجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ) قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَالثَّانِي طَاعَةٌ مَالِيَّةٌ وَالْحَجُّ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا (قَالَ بَلْ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ(5/99)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْحَجَّ لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهُ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْهُمْ بِدَلِيلٍ فَأَمَّا نَفْسُ اللَّفْظِ فَقَدْ كَانَ مُوهِمًا لِلتَّكْرَارِ وَمِنْ أَجْلِهِ عَرَضَ هَذَا السُّؤَالُ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ قَصْدٌ فِيهِ تَكْرَارٌ وَمِنْ ذَلِكَ قول الشاعر يحجون بيت الزبرقان المزعفرا يزيد أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَهُ فِي أُمُورِهِمْ وَيَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ فِي حَاجَاتِهِمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَكَانَ سَيِّدًا لَهُمْ وَرَئِيسًا فِيهِمْ
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْمَعْنَى فِي إِيجَابِ الْعُمْرَةِ وَقَالُوا إِذَا كَانَ الْحَجُّ قَصْدًا فِيهِ تَكَرُّرٌ فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِي الْحَجِّ إِنَّمَا هُوَ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَتَكَرَّرُ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا حَجَّ مَرَّةً ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَمْرِ الْوَارِدِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ هَلْ يُوجِبُ التَّكْرَارَ أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَفْسُ الْأَمْرِ يُوجِبُ التَّكْرَارَ وَذَهَبُوا إِلَى مَعْنَى اقْتِضَاءِ الْعُمُومِ مِنْهُ وَقَالَ الْآخَرُونَ لَا يُوجِبُهُ وَيَقَعُ الْخَلَاصُ مِنْهُ وَالْخُرُوجُ مِنْ عُهْدَتِهِ بِاسْتِعْمَالِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ أَفَعَلْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَالَ نَعَمْ كَانَ صَادِقًا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ
قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
وَفِي إِسْنَادِهِ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ صَاحِبُ الزُّهْرِيِّ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ فَرَوَوْهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا رَوَاهُ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رجل لكل عام يارسول اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ الْحَدِيثَ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا انْتَهَى (عُقَيْلٌ عَنْ سِنَانَ) أَيْ بِغَيْرِ لَفْظِ أَبِي وَالْحَاصِلُ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ حُسَيْنٍ وَعَبْدَ الْجَلِيلِ بْنَ حُمَيْدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ كُلَّهُمْ قَالُوا عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سِنَانَ وَأَمَّا عُقَيْلٌ وَحْدَهُ فَقَالَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانَ
قُلْتُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبَا سِنَانَ كُنْيَتُهُ وَاسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ أُمَيَّةَ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّهُ فِي الصَّحَابَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(5/100)
[1722] (هَذِهِ) أَيْ هَذِهِ الْحَجَّةُ مَفْرُوضَةٌ عَلَيْكُنَّ (ثُمَّ) بَعْدَ ذَلِكَ (ظُهُورَ) جَمْعُ ظَهْرٍ (الْحُصُرِ بِضَمَّتَيْنِ وتسكن الصاد تخفيفا جمع الحصر الَّذِي يُبْسَطُ فِي الْبُيُوتِ أَيْ عَلَيْكُنَّ لُزُومَ الْبَيْتِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْكُنَّ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ الْحَجُّ
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ مَرَّةً وَلِذَا أَوْرَدَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي بَابِ فَرْضِ الْحَجِّ
وَالْحَدِيثُ اسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْحَجِّ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ
قَالَ الإمام بن الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ
وَفِي الْحَدِيثِ أَفْضَلُ الْجِهَادِ وَأَجْمَلُهُ حَجٌّ مَبْرُورٌ ثُمَّ لُزُومُ الْحُصُرِ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَزْوَاجِهِ هَذِهِ ثُمَّ لُزُومُ الْحُصُرِ أَيْ إِنَّكُنَّ لَا تَعُدْنَ تَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِكُنَّ وَتَلْزَمْنَ الْحُصُرَ انْتَهَى
وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي وَاقِدٍ مُحْتَمِلٌ لِمَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا وَاضِحٍ عَلَى الْمَنْعِ فَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ الْجَوَازُ وَذَلِكَ لِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنين قالت قلت يارسول الله ألا نغزوا وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ فَقَالَ لَكِنْ أَحْسَنُ الْجِهَادِ وَأَجْمَلُهُ الْحَجُّ حَجٌّ مَبْرُورٌ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَلَا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولفظ بن ماجه قلت يارسول اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ قَالَ نَعَمْ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَلَفْظُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ لَوْ جَاهَدْنَا مَعَكَ قَالَ لَا جِهَادَ وَلَكِنْ حَجٌّ مَبْرُورٌ فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا فِي جَوَابِ قَوْلِهِنَّ أَلَا نَخْرُجُ فَنُجَاهِدَ مَعَكَ أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْكُنَّ كَمَا وَجَبَ عَلَى الرِّجَالِ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِنَّ فَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّهُنَّ كُنَّ يَخْرُجْنَ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَفَهِمَتْ عَائِشَةُ وَمَنْ وَافَقَهَا مِنْ هَذَا التَّرْغِيبِ فِي الْحَجِّ إِبَاحَةَ تَكْرِيرِهِ لَهُنَّ كَمَا أُبِيحَ لِلرِّجَالِ تَكْرِيرُ الْجِهَادِ وَخُصَّ بِهِ عُمُومُ قَوْلِهِ هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورَ الْحُصُرِ وَقَوْلِهِ تعالى وقرن في بيوتكن وَكَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُتَوَقِّفًا فِي ذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ قُوَّةُ دَلِيلِهَا فَأَذِنَ لَهُنَّ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ ثُمَّ كَانَ عُثْمَانُ بَعْدَهُ يَحُجُّ بِهِنَّ فِي خِلَافَتِهِ أَيْضًا كَمَا سَيَجِيءُ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ وُجُوبُ الْحَجِّ مَرَّةً وَاحِدَةً كَالرِّجَالِ لَا الْمَنْعُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَارِي
وَالثَّانِي الْمُرَادُ بِحَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ جَوَازُ التَّرْكِ لَا النَّهْيِ مِنَ الْحَجِّ لَهُنَّ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَدْ ثَبَتَ حَجُّهُنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ عن أبيه عن جده إذن عمر رضي الله عنه لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخَرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا فَبَعَثَ مَعَهُنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفان وعبد الرحمن
وروى بن سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِإِسْنَادٍ صَحَّحَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ رَأَيْتُ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَجْنَ فِي هَوَادِجَ عَلَيْهَا الطَّيَالِسَةُ زَمَنَ الْمُغِيرَةِ أي(5/101)
بن شُعْبَةَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ زَمَنَ وِلَايَةِ الْمُغِيرَةِ عَلَى الْكُوفَةِ لِمُعَاوِيَةَ وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ خَمْسِينَ أَوْ قَبْلِهَا وَلِابْنِ سَعْدٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ قَالَتْ رَأَيْتُ عُثْمَانَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ حَجَّا بِنِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلْنَ بِقُدَيْدٍ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ وَهُنَّ ثَمَانٍ
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهُنَّ اسْتَأْذَنَّ عُثْمَانَ فِي الْحَجِّ فَقَالَ أَنَا أَحُجُّ بِكُنَّ فَحَجَّ بِنَا جَمِيعًا إِلَّا زَيْنَبَ كَانَتْ مَاتَتْ وَإِلَّا سَوْدَةَ فَإِنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهَا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وأخرج بن سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكُنَّ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْجُجْنَ إِلَّا سَوْدَةَ وَزَيْنَبَ فَقَالَا لَا تُحَرِّكُنَا دَابَّةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عُمَرُ مُتَوَقِّفًا فِي ذَلِكَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ الْجَوَازُ فَأَذِنَ لَهُنَّ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ فِي عَصْرِهِ مِنْ غير نكير
وروى بن سَعْدٍ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ قَالَ مَنَعَ عُمَرُ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
وَمِنْ طَرِيقِ أُمِّ دُرَّةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَنَعَنَا عُمَرُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ عَامٍ فَأَذِنَ لَنَا
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ عُمَرَ أَذِنَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَجَجْنَ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ الْحَدِيثَ قَالَهُ الْحَافِظُ
كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
قال المنذري وبن أَبِي وَاقِدٍ هَذَا اسْمُهُ وَاقِدٌ وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا وَوَاقِدٌ هَذَا شِبْهُ الْمَجْهُولِ انْتَهَى
وَقَالَ فِي الْفَتْحِ وَإِسْنَادُ حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ صَحِيحٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
(بَاب فِي الْمَرْأَةِ تَحُجُّ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ)
[1723] بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَذُو الْمَحْرَمِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا مِنَ الْأَقَارِبِ كَالْأَبِ وَالِابْنِ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ
(ذُو حُرْمَةٍ) بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بِمَعْنَى ذِي الْمَحْرَمِ فَذُو حُرْمَةٍ وَذُو الْمَحْرَمِ كِلَاهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ
قُلْتُ وَرَدَ حَدِيثُ نَهْيِ السَّفَرِ لِلْمَرْأَةِ بِغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فَفِي رِوَايَةٍ لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ ثَلَاثًا إِلَّا مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَوْقَ ثَلَاث وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثَةً وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ إِلَّا ومعها ذو محرم منها أَوْ زَوْجُهَا وَفِي رِوَايَةٍ نَهَى أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ لامرأة مسلمة تسافر(5/102)
مسيرة لَيْلَةً إِلَّا وَمَعَهَا ذُو حُرْمَةٍ مِنْهَا وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَفِي رِوَايَةٍ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ هَذِهِ رِوَايَاتُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ لَا تُسَافِرْ بَرِيدًا وَالْبَرِيدُ مَسِيرَةُ نِصْفِ يَوْمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ اخْتِلَافُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِاخْتِلَافِ السَّائِلِينَ وَاخْتِلَافِ الْمَوَاطِنِ وَلَيْسَ فِي النَّهْيِ عَنِ الثَّلَاثَةِ تَصْرِيحٌ بِإِبَاحَةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَوِ الْبَرِيدِ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ كَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنِ الْمَرْأَةِ تُسَافِرُ ثَلَاثًا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَقَالَ لَا وَسُئِلَ عَنْ سَفَرِهَا يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَقَالَ لَا وَسُئِلَ عَنْ سَفَرِهَا يَوْمًا فَقَالَ لَا وَكَذَلِكَ الْبَرِيدُ فَأَدَّى كُلٌّ مِنْهُمْ مَا سَمِعَهُ وَمَا جَاءَ مِنْهَا مُخْتَلِفًا عَنْ رَاوٍ وَاحِدٍ فَسَمِعَهُ فِي مَوَاطِنَ فَرَوَى تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا وَكُلُّهُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا كُلِّهِ تَحْدِيدٌ لِأَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّفَرِ وَلَمْ يُرِدْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْدِيدَ أَقَلِّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا
فالحاصل أن كل ما يسمى سفر انْتُهِيَ عَنْهُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ سَوَاءً كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ يَوْمًا أَوْ بَرِيدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لِرِوَايَةِ بن عَبَّاسٍ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ آخِرُ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ السَّابِقَةِ لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا يُسَمَّى سَفَرًا
وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يَلْزَمُهَا حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إِذَا اسْتَطَاعَتْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلِلَّهِ عَلَى الناس حج البيت وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ الْحَدِيثَ وَاسْتَطَاعَتُهَا كَاسْتِطَاعَةِ الرَّجُلِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْمَحْرَمِ لَهَا فَأَبُو حَنِيفَةَ يَشْتَرِطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ حُكِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ
وَقَالَ عطاء وسعيد بن جبير وبن سِيرِينَ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يُشْتَرَطُ الْمَحْرَمُ بَلْ يُشْتَرَطُ الْأَمْنُ عَلَى نَفْسِهَا
قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ يَحْصُلُ الْأَمْنُ بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ أَوْ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ
وَلَا يَلْزَمُهَا الْحَجُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إِلَّا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَوْ وُجِدَتِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ثِقَةٌ لَمْ يَلْزَمْهَا لَكِنْ يَجُوزُ لَهَا الْحَجُّ مَعَهَا هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ مُخَالَفَةُ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا لِأَنَّ ظَاهِرَهُ الِاسْتِطَاعَةُ بِالْبَدَنِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ قَادِرٍ عَلَيْهِ بِبَدَنِهِ وَمَنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا قَادِرَةً بِبَدَنِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهَا فَلَمَّا تَعَارَضَتْ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فَجَمَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنْ جَعَلَ الْحَدِيثَ مُبَيِّنًا الِاسْتِطَاعَةَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَرَأَى مَالِكٌ ومن وافقه أن للاستطاعة الْأَمْنِيَّةَ بِنَفْسِهَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلْأَسْفَارِ الْوَاجِبَةِ وَقَدْ أُجِيبَ أَيْضًا بِحَمْلِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا إِذَا لم(5/103)
تَكُنِ الطَّرِيقُ آمِنًا ذَكَرَهُ الزُّرْقَانِيُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
انْتَهَى كَلَامُهُ
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ تُسَافِرُ هَكَذَا الرِّوَايَةُ بِدُونِ أَنْ نَظِيرَ قَوْلِهِمْ تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ فَتَسْمَعُ مَوْضِعُهُ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَتُسَافِرُ مَوْضِعُهُ رَفْعٌ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ فَيَجُوزُ رَفَعُهُ وَنَصْبُهُ بِإِضْمَارِ أَنْ
قَالَهُ الْحَافِظُ وَلِيٌّ الْعِرَاقِيُّ
وَقَوْلُهُ مَسِيرَةَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى السَّيْرِ كَمَعِيشَةٍ بِمَعْنَى الْعَيْشِ وَلَيْسَتِ التَّاءُ فِيهِ لِلْمَرَّةِ
[1724] (قَالَ الْحَسَنُ) بْنُ عَلِيٍّ وَحْدَهُ فِي حَدِيثِهِ دُونَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيِّ وَالنُّفَيْلِيِّ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ أبي سعيد بن أبي هريرة وأما القعنبي والنفيلي فقال عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَذْفِ لَفْظِ عَنْ أَبِيهِ بَيْنَ سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ (ثُمَّ اتَّفَقُوا) أَيِ الْقَعْنَبِيُّ وَالنُّفَيْلِيُّ وَالْحَسَنُ كُلُّهُمْ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَيْ جَعَلَ كُلُّهُمْ مِنْ مُسْنَدَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي زِيَادَةِ لَفْظِ عَنْ أَبِيهِ (فَذَكَرَ مَعْنَاهُ) أَيْ ذَكَرَ مَالِكٌ مَعْنَى حَدِيثِ اللَّيْثِ
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا قَالَ المنذري وأخرجه مسلم وبن مَاجَهْ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مُتَابَعَةً انْتَهَى
(قَالَ النُّفَيْلِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكٌ) وَأَمَّا الْقَعْنَبِيُّ فَقَالَ عَنْ مَالِكٍ (وَالْقَعْنَبِيُّ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ لَفْظُ عَنْ أَبِيهِ بَيْنَ سَعِيدِ بن أبي سعيد وأبي هريرة (رواه بن وَهْبٍ) هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُسْلِمٍ (وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بْنِ فَارِسٍ كِلَاهُمَا (عَنْ مَالِكٍ) بِحَذْفِ عَنْ أَبِيهِ (كَمَا قَالَ الْقَعْنَبِيُّ) أَيْ كَمَا رَوَى الْقَعْنَبِيُّ مِنْ جِهَةِ مَالِكٍ بِحَذْفِ لَفْظِ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ تَحْتَ حَدِيثِ مَالِكٍ هَكَذَا أَيْ بِإِثْبَاتِ عَنْ أَبِيهِ وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ الْقَاضِي وَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ عَنِ الْجُلُودِيِّ وَأَبِي الْعَلَاءِ وَالْكِسَائِيِّ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أبيه وكذا رواه الشيخان من رواية بن أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ
وَاسْتَدْرَكَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَيْهِمَا وَقَالَ الصَّوَابُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَبِيهِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ مَالِكًا وَيَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ وَسُهَيْلًا قَالُوا عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَذْكُرُوا عَنْ أَبِيهِ وَكَذَا رَوَاهُ مُعْظَمُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ(5/104)
وَرَوَاهُ الزَّهْرَانِيُّ وَالْفَرَوِيُّ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَا عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي النِّكَاحِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ مَالِكٍ وَسُهَيْلٍ كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَصَلَ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْحُفَّاظِ فِي ذِكْرِ أَبِيهِ فَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَفْسِهِ فَرَوَاهُ تَارَةً كَذَا وَتَارَةً كَذَا وَسَمَاعُهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ انْتَهَى كَلَامُ النَّوَوِيِّ مُلَخَّصًا
وَقَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ لَا يَقْدَحُ فَإِنَّ سَمَاعَ سَعِيدٍ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ مَعْرُوفٌ فَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نفسه فحدث به على الوجهين وبهذا بن حِبَّانَ فَقَالَ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَمِعَهُ مِنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَالطَّرِيقَانِ جَمِيعًا مَحْفُوظَانِ انْتَهَى
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ سَعِيدًا لَيْسَ بِمُدَلِّسٍ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى
[1725] (وَذَكَرَ) أَيْ سُهَيْلٌ (نَحْوَهُ) أَيْ نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ (إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بَرِيدًا) أَيْ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ بَرِيدًا إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْبَرِيدُ مَسِيرَةُ نِصْفِ يَوْمٍ
وقال بن الْأَثِيرِ هُوَ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ والميل أربعة آلاف ذارع انْتَهَى
[1726] (لَا يَحِلُّ) نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ (فَصَاعِدًا) هو منصوب على الحال
قال بن مَالِكٍ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ هُوَ بِحَذْفِ عَامِلِهِ وُجُوبًا أَيْ فَارْتَقَى ذَلِكَ صَاعِدًا أَوْ فَذَهَبَ صَاعِدًا (ذُو مَحْرَمٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ حَرَامٍ (مِنْهَا) بِنَسَبٍ أَوْ صِهْرٍ أَوْ رَضَاعٍ إِلَّا أن مالكا كره تنزيها سفرها مع بن زَوْجِهَا لِفَسَادِ الزَّمَانِ وَحَدَاثَةِ الْحُرْمَةِ وَلِأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى النَّفْرَةِ عَنِ امْرَأَةِ الْأَبِ لَيْسَ كَالدَّاعِي إِلَى النَّفْرَةِ عَنْ سَائِرِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةُ فِتْنَةٌ إِلَّا فِيمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ النَّفْرَةِ عَنْ مَحَارِمِ النَّسَبِ
وَقَوْلُهُ أَوْ زَوْجُهَا وَفِي مَعْنَاهُ السَّيِّدُ وَلَوْ لَمْ يُرِدْ ذِكْرُ الزَّوْجِ لَقِيسَ عَلَى الْمَحْرَمِ قِيَاسًا جَلِيًّا
وَلَفْظُ امْرَأَةٍ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ وَنَقَلَ عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ فِي الشَّابَّةِ أَمَّا الْكَبِيرَةُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى فَتُسَافِرُ فِي كُلِّ الْأَسْفَارِ بِلَا زوج ولا محرم
قال بن دَقِيقِ الْعِيدِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِالنَّظَرِ إِلَى(5/105)
المعنى
قال المنذري وأخرجه مسلم والترمذي وبن مَاجَهْ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ قَزَعَةَ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِنَحْوِهِ انْتَهَى
[1727] (ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
(كَانَ يُرْدِفُ) الرَّدِيفُ الَّذِي تَحْمِلُهُ خَلْفَكَ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ [1728] (مُوَلَّاةً لَهُ) أَيْ أَمَةً لِابْنِ عُمَرَ وَالسَّيِّدُ فِي حُكْمِ الزَّوْجِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
(بَاب لا صرورة)
[1729] بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ قَطُّ وَهُوَ نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ أَوِ الَّذِي انْقَطَعَ عَنِ النِّكَاحِ عَلَى طَرِيقِ الرُّهْبَانِ
وَفِي الْمُوَطَّأِ قَالَ مَالِكٌ فِي الصَّرُورَةِ مِنَ النِّسَاءِ التي تَحُجَّ قَطُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذُو مَحْرَمٍ يَخْرُجُ مَعَهَا أَوْ كَانَ لَهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا أَنَّهَا لَا تَتْرُكُ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَيْهَا فِي الْحَجِّ وَلْتَخْرُجْ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ انْتَهَى
وَفِي النِّهَايَةِ لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ فِي الْحَدِيثِ التَّبَتُّلُ وَتَرْكُ النِّكَاحِ والصَّرُورَةُ أَيْضًا الَّذِي لَمْ يَحُجَّ قَطُّ وَأَصْلُهُ مِنَ الصَّرِّ الْحَبْسُ وَالْمَنْعُ وَقِيلَ أَرَادَ مَنْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ قُتِلَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ إِنِّي صَرُورَةٌ مَا حَجَجْتُ وَلَا عَرَفْتُ حُرْمَةَ الْحَرَمِ كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا أَحْدَثَ حَدَثًا فَلَجَأَ إِلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يُهْجَ فَكَانَ إِذَا لَقِيَهُ وَلِيُّ الدَّمِ فِي الْحَرَمِ قِيلَ لَهُ هُوَ صَرُورَةٌ فَلَا تَهْجُهُ انْتَهَى كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ
الصَّرُورَةُ تُفَسَّرُ تَفْسِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الصَّرُورَةَ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي قَدِ انْقَطَعَ عَنِ النِّكَاحِ وَتَبَتَّلَ عَلَى مَذْهَبِ رَهْبَانِيَّةِ النَّصَارَى وَالْآخَرَةُ أَنَّ الصَّرُورَةَ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ(5/106)
يَحُجَّ فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا أَنَّ سُنَّةَ الدِّينِ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ فَلَا يَحُجُّ حَتَّى يَكُونَ صَرُورَةً فِي الْإِسْلَامِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عُمَرُ بن عطاء وهو بن أَبِي الْخَوَّارِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
(بَابُ التَّزَوُّدِ فِي الْحَجِّ)
[1730] (يَحُجُّونَ) أَيْ يَقْصِدُونَ الْحَجَّ (وَلَا يَتَزَوَّدُونَ) أَيْ لَا يَأْخُذُونَ الزَّادَ مَعَهُمْ مُطْلَقًا أَوْ يَأْخُذُونَ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْبَرِّيَّةِ (نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ) وَالْحَالُ أَنَّهُمُ الْمُتَآكِلُونَ أَوِ الْمُعْتَمِدُونَ عَلَى النَّاسِ يَقُولُونَ نَحُجُّ بَيْتَ اللَّهِ وَلَا يُطْعِمُنَا وَسَأَلُوا فِي مَكَّةَ كَمَا سَأَلُوا فِي الطَّرِيقِ (وَتَزَوَّدُوا) أَيْ خُذُوا زَادَكُمْ مِنَ الطَّعَامِ وَاتَّقُوا الِاسْتِطْعَامَ وَالتَّثْقِيلَ على الأنام (فإن خير الزاد التقوى) أَيِ الَّذِي يَتَّقِي صَاحِبُهُ عَنِ السُّؤَالِ فَمِنَ التَّقْوَى الْكَفُّ عَنِ السُّؤَالِ وَالْإِبْرَامِ
وَمَفْعُولُ تَزَوَّدُوا مَحْذُوفٌ هُوَ التَّقْوَى وَلَمَّا حَذَفَ مَفْعُولَهُ أَتَى بِخَبَرِ إِنَّ ظَاهِرًا لِيَدُلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَلَوْلَا الْمَحْذُوفُ لَأَتَى مُضْمَرًا كَذَا فِي جَامِعِ الْبَيَانِ
قَالَ فِي الْمِرْقَاةِ فَفِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ارْتِكَابَ الْأَسْبَابِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ التَّوَكُّلَ الْمُجَرَّدَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُسْتَقِيمًا فِي حَالِهِ غَيْرَ مُضْطَرِبٍ حَيْثُ لَا يَخْطُرُ الْخَلْقُ بِبَالِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
(بَاب التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ)
[1731] (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) إِثْمٌ (أَنْ تَبْتَغُوا) أَيْ فِي أَنْ تَبْتَغُوا (فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) عَطَاءً وَرِزْقًا مِنْهُ(5/107)
بِالتِّجَارَةِ
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ كَرِهُوا التِّجَارَةَ فِي الْحَجِّ فَنَزَلَتْ (فَأُمِرُوا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَهَذَا أَمْرُ إِرْشَادٍ لَا أَمْرَ إِيجَابٍ (أَفَاضُوا) أَيْ رَجَعُوا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَأَخْرَجَهُ له مسلم في المتابعة انتهى
باب [1732] (مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلِيَتَعَجَّلْ) زَادَ الْبَيْهَقِيُّ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَاجَةٍ وَفِي لَفْظٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ وَإِلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ سَنَةَ عَشْرٍ وَفَرْضُ الْحَجِّ كَانَ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ خَمْسٍ
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي فُرِضَ فِيهِ الْحَجُّ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ فُرِضَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فَلَا تَأْخِيرَ وَلَوْ سَلِمَ أَنَّهُ فُرِضَ قَبْلَ الْعَاشِرَةِ فَتَرَاخِيهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ لِكَرَاهَةِ اخْتِلَاطٍ فِي الْحَجِّ بِأَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحُجُّونَ وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَلَمَّا طَهَّرَ اللَّهُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ مِنْهُمْ حج صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَتَرَاخِيهِ لِعُذْرٍ
وَمَحِلُّ النِّزَاعِ التَّرَاخِي مَعَ عَدَمِهِ ذَكَرَهُ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِيهِ مِهْرَانُ أَبُو صَفْوَانَ
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ لَا أَعْرِفُهُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ
(بَاب الْكَرِيِّ)
[1733] (أُكْرِي فِي هَذَا الْوَجْهِ) أَيْ سَفَرِ الْحَجِّ (لَيْسَ لَكَ حَجٌّ) أَيْ لَا يَصِحُّ حَجُّكَ مَعَ الْكِرَاءِ (قَالَ(5/108)
لَكَ حَجٌّ) أَيْ يَصِحُّ حَجُّكَ مَعَ الْكِرَاءِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَبُو أُمَامَةَ هَذَا لَا يُعْرَفُ اسْمُهُ رَوَى عَنْهُ الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ بْنِ عُمَرَ وَالْفُقَيْمِيُّ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ كُوفِيٌّ لَا بَأْسَ بِهِ
(وَسُوقِ ذِي الْمَجَازِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ والجيم المخففة وبعد الألف زاء وكانت بناحية عرفة إلى جانبها
وعند بن الْكَلْبِيِّ مِمَّا ذَكَرَهُ الْأَزْرَقِيُّ أَنَّهُ كَانَ لِهُذَيلٍ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ عَرَفَةَ
وَقَوْلُ الْبِرْمَاوِيِّ كَالْكِرْمَانِيِّ مَوْضِعٌ بِمِنًى كَانَ لَهُ سُوقٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مُخَالَفٌ بِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَبِيعُونَ وَلَا يَبْتَاعُونَ بِعَرَفَةَ وَلَا مِنًى لَكِنْ يُرَدُّ قَوْلُ مُجَاهِدٍ هَذَا بِمَا رَوَاهُ الْمُؤَلِّفُ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّاسَ فِي أَوَّلِ الْحَجِّ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِمِنًى وَعَرَفَةَ وَسُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَمَوَاسِمِ الْحَجِّ الْحَدِيثَ
[1734] (وَمَوَاسِمِ الْحَجِّ) جَمْعُ مَوْسِمٍ بِفَتْحِ الجيم وَسُكُونِ الْوَاوِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ مَوْسِمُ الْحَجِّ مُجْتَمَعُهُ (أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهَا فِي الْمُصْحَفِ) وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ ورواه بن أبي عمر في مسنده كان بن عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا فَهِيَ عَلَى هَذَا مِنَ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ حُكْمُهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ حُكْمُ التَّفْسِيرِ قَالَهُ الحافظ
وقال المنذري الحديث الأول رواه بن أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُبَيْدِ بن عمير عن بن عباس والثاني رواه بن أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عُبَيْدِ(5/109)
بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ كَلَامًا معناه أنه مولى بن عَبَّاسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيِّ الْمَحْفُوظُ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدٍ اللَّيْثِيِّ الْمَكِّيِّ فَأَمَّا عُبَيْدُ بْنُ عمير مولى بن عباس فغير مشهور ولم يذكر بن أبي ذؤيب عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ فَلَعَلَّهُمَا اثْنَانِ رَوَيَا الْحَدِيثَ إن صح قول بن صَالِحٍ انْتَهَى
(بَاب فِي الصَّبِيِّ يَحُجُّ)
[1736] (بِالرَّوْحَاءِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ مَوْضِعٌ مِنْ أَعْمَالِ الْفَرْعِ عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ
وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْهَا (فَلَقِيَ رَكْبًا) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ جَمْعُ رَاكِبٍ أَوِ اسْمُ جَمْعٍ كَصَاحِبٍ وَهُوَ الْعَشَرَةُ فَمَا فَوْقَهَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِبِلِ فِي السَّفَرِ دُونَ بَقِيَّةِ الدَّوَابِّ ثُمَّ اتَّسَعَ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ (فَقَالَ مَنِ الْقَوْمُ) بِالِاسْتِفْهَامِ (فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ مِحَفَّتِهَا) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ مَرْكَبٌ مِنْ مَرَاكِبِ النِّسَاءِ كَالْهَوْدَجِ إِلَّا أَنَّهَا لَا تُقَبَّبُ كَمَا تُقَبَّبُ الْهَوْدَجِ كَذَا فِي الصِّحَاحِ (قَالَ نَعَمْ وَلَكَ أَجْرٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا كَانَ لَهُ الْحَجُّ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَضِيلَةِ دُونَ أَنْ يَكُونَ مَحْسُوبًا عَنْ فَرْضِهِ لَوْ بَقِيَ حَتَّى بَلَغَ وَيُدْرِكَ مَدْرَكَ الرِّجَالِ وَهَذَا كَالصَّلَاةِ يُؤْمَرُ بِهَا إِذَا أَطَاقَهَا وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ وُجُوبَ فَرْضٍ وَلَكِنْ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُهَا تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُكْتَبُ لِمَنْ يَأْمُرُهُ بِهَا وَيُرْشِدُهُ إِلَيْهَا أَجْرٌ فَإِذَا كَانَ لَهُ حَجٌّ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مِنْ سُنَنِهِ أَنْ يُوقَفَ بِهِ الْمَوَاقِفَ وَيُطَافُ بِهِ حَوْلَ الْبَيْتِ مَحْمُولًا إِنْ لَمْ يُطِقِ الْمَشْيَ وَكَذَلِكَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَنَحْوَهَا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ
وَفِي مَعْنَاهُ الْمَجْنُونُ إِذَا كَانَ مَيْئُوسًا مِنْ إِفَاقَتِهِ
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَجِّهِ إِذَا فَسَدَ وَدَخَلَهُ نَقَصٌ فَإِنَّ جُبْرَانَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَالْكَبِيرِ وَإِنِ اصْطَادَ صَيْدًا لَزِمَهُ الْفِدَاءُ كَمَا يَلْزَمُ الكبير وفي(5/110)
وُجُوبِ هَذِهِ الْغَرَامَاتِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ كَمَا يَلْزَمُهُ لَوْ تَلَفَ مَالًا لِإِنْسَانٍ فَيَكُونُ غُرْمُهُ فِي مَالِهِ أَوْ وُجُوبُهَا عَلَى وَلِيِّهِ إِذَا كَانَ هُوَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْحَجِّ وَالنَّائِبُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَحُجُّ الصَّبِيُّ الصَّغِيرُ وَالسُّنَّةُ أَوْلَى مَا اتُّبِعَ انْتَهَى
قال المنذري
(باب في المواقيت)
[1737] (عن بن عمر قال وقت) أي اجعل مِيقَاتًا لِلْإِحْرَامِ وَالْمُرَادُ بِالتَّوْقِيتِ هُنَا التَّحْدِيدُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَعْلِيقُ الْإِحْرَامِ بِوَقْتِ الْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ بِالشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَّتَ أَيْ حَدَّدَ
قَالَ الْحَافِظُ وَأَصْلُ التَّوْقِيتِ أَنْ يُجْعَلَ لِلشَّيْءِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْمُدَّةِ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فأطلق على المكان أيضا
قال بن الْأَثِيرِ التَّأْقِيتُ أَنْ يُجْعَلَ لِلشَّيْءِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْمُدَّةِ يُقَالُ وَقَّتَ الشَّيْءَ بِالتَّشْدِيدِ يُؤَقِّتُهُ وَوَقَتَهُ بِالتَّخْفِيفِ يَقِتُهُ إِذَا بَيَّنَ مُدَّتَهُ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَقِيلَ لِلْمَوْضِعِ ميقات
وقال بن دَقِيقِ الْعِيدِ إِنَّ التَّأْقِيتَ فِي اللُّغَةِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْوَقْتِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ لِلتَّحْدِيدِ وَالتَّعْيِينِ وَعَلَى هَذَا فَالتَّحْدِيدُ مِنْ لَوَازِمِ الْوَقْتِ وَقَدْ يَكُونُ وَقَّتَ بِمَعْنَى أَوْجَبَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ مُصَغَّرًا
قَالَ فِي الْفَتْحِ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مِائَتَا مِيلٍ غَيْرَ مِيلَيْنِ قَالَهُ بن حَزْمٍ
وَقَالَ غَيْرُهُ بَيْنَهُمَا عَشْرُ مَرَاحِلَ
قَالَ النَّوَوِيُّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ وَوَهَمَ من قال بينهما ميل واحد وهو بن الصَّبَّاغِ وَبِهَا مَسْجِدٌ يُعْرَفُ بِمَسْجِدِ الشَّجَرَةِ خَرَابٌ وَفِيهَا بِئْرٌ يُقَالُ لَهَا بِئْرُ عَلِيٍّ انْتَهَى
(الْجُحْفَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ
قَالَ فِي الْفَتْحِ وَهِيَ قَرْيَةٌ خَرِبَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ خَمْسُ مَرَاحِلَ أَوْ سِتٌّ
وَفِي قَوْلِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ نَظَرٌ
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ هِيَ عَلَى اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ مِيلًا مِنْ مَكَّةَ وَبِهَا غَدِيرُ خُمٍّ كَمَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ (وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا نُونٌ وَضَبَطَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَغَلَّطَهُ الْقَامُوسُ وَحَكَى النَّوَوِيُّ الِاتِّفَاقَ(5/111)
عَلَى تَخْطِئَتِهِ وَقِيلَ إِنَّهُ بِالسُّكُونِ الْجَبَلُ وَبِالْفَتْحِ الطَّرِيقُ حَكَاهُ عِيَاضٌ عَنِ الْقَابِسِيِّ
قَالَ فِي الْفَتْحِ وَالْجَبَلُ الْمَذْكُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ مَرْحَلَتَانِ (يَلَمْلَمَ) بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَاللَّامِ وَسُكُونِ الْمِيمِ بَعْدَهَا لَامٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ مِيمٌ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ مِيقَاتُ أَهْلِ الْيَمَنِ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ
وَقَالَ فِي الْفَتْحِ كَذَلِكَ وَزَادَ بَيْنَهُمَا ثَلَاثُونَ مِيلًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ البخاري ومسلم والنسائي وبن ماجه
[1738] (عن بن طاووس) هو عبد الله بن طاووس (عن أبيه) طاووس عن بن عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ (قَالَا) أَيْ عمرو بن دينار وعبد الله بن طاووس بِإِسْنَادِهِمَا (بِمَعْنَاهُ) أَيْ بِمَعْنَى حَدِيثِ نَافِعٍ (وَقَالَ أحدهما) أي عمرو بن دينار أو بن طاووس (أَلَمْلَمَ) بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ الْأَصْلُ (فَهُنَّ) أَيِ الْمَوَاقِيتُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ وَأَصْلُهُ لِمَا يَعْقِلُ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا يَعْقِلُ لَكِنْ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ كَذَا فِي الْفَتْحِ (لَهُمْ) أَيْ لِأَهْلِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ (وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ) أَيْ عَلَى الْمَوَاقِيتِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ فَإِذَا أَرَادَ الشَّامِيُّ الْحَجَّ فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمِيقَاتُهُ ذُو الْحُلَيْفَةِ لِاجْتِيَازِهِ عَلَيْهَا وَلَا يُؤَخِّرْ حَتَّى يَأْتِيَ الْجُحْفَةَ الَّتِي هِيَ مِيقَاتُهُ الْأَصْلِيُّ فَإِنْ أَخَّرَ أَسَاءَ وَلَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَادَّعَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ خِلَافَهُ وَبِهِ قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وبن الْمُنْذِرِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَهَكَذَا مَا كَانَ مِنَ الْبُلْدَانِ خَارِجًا عَنِ الْبُلْدَانِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ مِيقَاتَ أَهْلِهَا الْمِيقَاتُ الَّذِي يَأْتُونَ عَلَيْهِ (وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ) مُبْتَدَأٌ أَيْ دَاخِلُ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ أَيْ بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَمَكَّةَ (مِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ) خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ أَيْ يُهِلُّ مِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ سَفَرَهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1739] (وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا قَافٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ(5/112)
مَكَّةَ مَرْحَلَتَانِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ عِرْقًا وَهُوَ الْجَبَلُ الصَّغِيرُ وَهِيَ وَالْعَقِيقُ مُتَقَارِبَانِ لَكِنِ الْعَقِيقُ قُبَيْلَ ذَاتِ عِرْقٍ وَفِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ مَقَالٌ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيَّنَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ميقاتا وإنما حد لهم عمر رضي الله عنه حِينَ فَتَحَ الْعِرَاقَ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَنْبَغِي أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْعَقِيقِ احْتِيَاطًا وَجَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ
قَالَهُ الطِّيبِيُّ
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ صَارَتْ بِتَوْقِيتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم أم باجتهاد عمر رضي الله عنه وَالْأَصَحُّ هُوَ الثَّانِي كَمَا هُوَ ظَاهِرُ لَفْظِ الصَّحِيحِ وَعَلَيْهِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ انْتَهَى
وَصَحَّحَ الْعَلَّامَةُ الْعَيْنِيُّ الْأَوَّلَ وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنِ الْمُهَلِّ فَقَالَ أَحْسَبُهُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ من ذات عرق وأخرجه بن مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْخَوْزِيِّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ جَازِمًا بِهِ غَيْرَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ هَذَا لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يُنْكِرُ هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ أَعْنِي حَدِيثَ عَائِشَةَ فِي ذَاتِ عِرْقٍ
[1740] (لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْحَدِيثُ فِي الْعَقِيقِ أَثْبَتُ مِنْهُ فِي ذَاتِ عِرْقٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَقَّتَهَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ بَعْدَ أَنْ فُتِحَتِ الْعِرَاقُ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرِ عَلَى مُوَازَاةِ قَرْنٍ لِأَهْلِ نَجْدٍ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُحْرِمَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنَ الْعَقِيقِ فَإِذَا أَحْرَمُوا مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ أَجْزَأَهُمْ وَقَدْ تَابَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أنه تفرد به
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقال بن الْقَطَّانِ عِلَّته الشَّكّ فِي اِتِّصَاله فَإِنَّ مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس يرويه عن بن عَبَّاس وَمُحَمَّد بْن عَلِيّ إِنَّمَا هُوَ مَعْرُوف في الرواية عن أبيه عن جده بن عَبَّاس
وَفِي صَحِيح مُسْلِم حَدَّثَنَا حَبِيب بْن أَبِي ثَابِت عَنْ مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس أَنَّهُ رَقَدَ عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيث وَحَدِيثه عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ كَتِفًا أَوْ لَحْمًا ثُمَّ(5/113)
[1741] (بن يُحَنَّسَ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ ثُمَّ مُهْمَلَةٌ (مَنْ أَهَلَّ) أَيْ أَحْرَمَ (بحجة أو عمرة) أو للتنويع (غفر مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ) أَيْ مِنَ الصَّغَائِرِ وَيُرْجَى الْكَبَائِرُ (أَوْ وَجَبَتْ) أَيْ ثَبَتَتْ (لَهُ الْجَنَّةُ) أَيِ ابْتِدَاءً وَأَوْ لِلشَّكِّ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ مَتَى كَانَ أَبْعَدَ كَانَ الثَّوَابُ أَكْثَرَ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ جَوَازُ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ مَعَ التَّرْغِيبِ فِيهِ وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
ذَكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ وَأَنْكَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ إِحْرَامَهُ مِنَ الْبَصْرَةِ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَجْهُ الْعَمَلِ الْمَوَاقِيتُ وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ قُلْتُ وَيُشْبِهُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
صَلَّى وَلَمْ يَمَسّ مَاء ذَكَرَهُ الْبَزَّار وَقَالَ وَلَا أَعْلَم رَوَى عَنْ جَدّه إِلَّا هَذَا الحديث يعني وقت لأهل السرق إِلَخْ وَأَخَاف أَنْ يَكُون مُنْقَطِعًا وَلَمْ يَذْكُر البخاري ولا بن أَبِي حَاتِم أَنَّهُ رَوَى عَنْ جَدّه وَقَالَ مُسْلِم فِي كِتَاب التَّمْيِيز
لَمْ يُعْلَم لَهُ سَمَاع مِنْ جَدّه وَلَا أَنَّهُ لَقِيَهُ
قَالَ الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله هَذَا الْحَدِيث حَدِيث أُمّ سَلَمَة قَالَ غَيْر وَاحِد مِنْ الْحُفَّاظ إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَقَدْ سُئِلَ عَبْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن يُحَنِّس هَلْ قَالَ وَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة أَوْ قَالَ أَوْ وَجَبَتْ بِالشَّكِّ بَدَل قَوْله غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه وَمَا تَأَخَّرَ هذا هو الصواب بأو
وفي كَثِير مِنْ النُّسَخ وَوَجَبَتْ بِالْوَاوِ وَهُوَ غَلَط والله أعلم(5/114)
أَنْ يَكُونَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ شَفَقًا أَنْ يَعْرِضَ لِلْمُحْرِمِ إِذَا بَعُدَتِ الْمَسَافَةُ آفَةٌ تُفْسِدُ إِحْرَامَهُ وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ فِي أَقْصَرِ الْمَسَافَةِ أَسْلَمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قال المنذري وأخرجه بن مَاجَهْ وَلَفْظُهُ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ غُفِرَ لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ ذُنُوبٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي مَتْنِهِ وَإِسْنَادِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا
(وَوَقَّتَ) حَكَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ فِي أَيِّ سَنَةٍ وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوَاقِيتَ فَقَالَ عَامَ حَجَّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ
(بَاب الْحَائِضِ تُهِلُّ بِالْحَجِّ)
[1743] (عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ نُفِسَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ (أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ) إِحْدَى زَوْجَاتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهَا نُفِسَتْ أَيْ وَلَدَتْ وَبِكَسْرِ الْفَاءِ لَا غَيْرَ وَفِي النُّونِ لُغَتَانِ الْمَشْهُورَةُ ضَمُّهَا وَالثَّانِيَةُ فَتْحُهَا سُمِّيَ نِفَاسًا لِخُرُوجِ النَّفْسِ وَهِيَ الْمَوْلُودُ وَالدَّمُ أَيْضًا وَفِيهِ صِحَّةُ إِحْرَامِ النُّفَسَاءِ وَالْحَائِضِ وَاسْتِحْبَابُ اغْتِسَالِهِمْ لِلْإِحْرَامِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى الْأَمْرِ بِهِ لَكِنْ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ
وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ هُوَ وَاجِبٌ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ يَصِحُّ مِنْهُمَا أَفْعَالُ الْحَجِّ إِلَّا الطَّوَافَ وَرَكْعَتَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي وَفِيهِ أَنَّ رَكْعَتَيِ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ لَيْسَتَا بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَجِّ لِأَنَّ أَسْمَاءَ لَمْ تُصَلِّهِمَا (بِالشَّجَرَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَفِي رِوَايَةٍ بِالْبَيْدَاءِ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ فَالشَّجَرَةُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَمَّا الْبَيْدَاءُ فَهِيَ طَرَفُ ذِي الْحُلَيْفَةِ
قَالَ الْقَاضِي يُحْتَمَلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِطَرَفِ الْبَيْدَاءِ لِتَبْعُدَ عَنِ النَّاسِ وَكَانَ مَنْزِلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَقِيقَةً وَهُنَاكَ بَاتَ وَأَحْرَمَ فَسُمِّيَ مَنْزِلُ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِاسْمِ مَنْزِلِ إِمَامِهِمْ (تُهِلَّ) أَيْ تحرم
قال(5/115)
المنذري وأخرجه مسلم وبن مَاجَهْ
[1744] (عَلَى الْوَقْتِ) أَيِ الْمِيقَاتِ (قَالَ أَبُو مَعْمَرٍ) هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ خُصَيْفٌ وَهُوَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ كُنْيَتُهُ أَبُو عَوْنٍ وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ
1 - (بَاب الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ)
[1745] (كُنْتُ أُطَيِّبُ) أَيْ أُعَطِّرُ (لِإِحْرَامِهِ) أَيْ لِأَجْلِ دُخُولِهِ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ لِأَجْلِ إِحْرَامِ حَجِّهِ (وَلِإِحْلَالِهِ) أَيْ لِخُرُوجِهِ مِنَ الْإِحْرَامِ وَهُوَ الْإِحْلَالُ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ كُلُّ مَحْظُورٍ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَيُقَالُ لَهُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَقَدْ كَانَ حَلَّ بَعْضَ الْإِحْلَالِ وَهُوَ بِالرَّمْيِ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ الطِّيبُ وَغَيْرُهُ وَلَا يُمْنَعُ بَعْدَهُ إِلَّا مِنَ النِّسَاءِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الْحَلْقَ وَالرَّمْيَ وَبَقِيَ الطَّوَافُ كَذَا فِي السُّبُلِ (قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) أَيْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحِلِّهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطِّيبَ يَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ خِلَافًا لِمَنْ أَلْحَقَهُ بِالْجِمَاعِ قَالَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّطَيُّبِ عِنْدَ إِرَادَةِ فِعْلِ الْإِحْرَامِ وَجَوَازُ اسْتِدَامَتِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ ابْتِدَاؤُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إِلَى خِلَافِهِ وَتَكَلَّفُوا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ وَنَحْوِهَا بِمَا لَا يَتِمُّ بِهِ مُدَّعَاهُمْ فَإِنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَهُ فَذَهَبَ الطِّيبُ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ الصَّوَابُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الطِّيبُ لِلْإِحْرَامِ لِقَوْلِهَا لِإِحْرَامِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ به صلى الله عليه وَسَلَّمَ وَلَا يَتِمُّ ثُبُوتُ الْخُصُوصِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَيْهَا بَلِ الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى خِلَافِهَا وَهُوَ مَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كُنَّا نَنْضَحُ وُجُوهَنَا بِالطِّيبِ الْمِسْكِ قَبْلَ أَنْ نُحْرِمَ فَنَعْرَقَ فَنَغْسِلَ وُجُوهَنَا وَنَحْنُ(5/116)
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَنْهَانَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ بِلَفْظِ كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّخُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا سَالَ عَلَى وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ فَلَا يَنْهَانَا وَلَا يُقَالُ هَذَا خَاصٌّ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فِي الطِّيبِ سَوَاءٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالطِّيبُ يَحْرُمُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَا قَبْلَهُ وَإِنْ دَامَ حَالُهُ فَإِنَّهُ كَالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ وَالنِّكَاحُ إِنَّمَا يَمْنَعُ الْمُحْرِمَ مِنِ ابْتِدَائِهِ لَا مِنِ اسْتِدَامَتِهِ فَكَذَلِكَ الطِّيبُ وَلِأَنَّ الطِّيبَ مِنَ النَّظَافَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُقْصَدُ بِهِ دفع الرائحة الكريهة كما يقصد بِالنَّظَافَةِ إِزَالَةُ مَا يَجْمَعُهُ الشَّعْرُ وَالظُّفْرُ مِنَ الْوَسَخِ وَلِذَا اسْتُحِبَّ أَنْ يَأْخُذَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَإِنْ بَقِيَ أَثَرُهُ بَعْدَهُ
أَمَّا حَدِيثُ مُسْلِمٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ يَسْأَلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كيف يصنع في عمرته وكان الرَّجُلُ قَدْ أَحْرَمَ وَهُوَ مُتَضَمِّخٌ بِالطِّيبِ فَقَالَ صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مرات الحديث فقد أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ كَانَا بِالْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَقَدْ حج صلى الله عليه وسلم سنة عشر واستدام الطيب وإنما يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ
[1746] (كَأَنِّي أَنْظُرُ) قَالَ الْحَافِظُ أَرَادَتْ بِذَلِكَ قُوَّةَ تَحَقُّقِهَا لِذَلِكَ بِحَيْثُ إِنَّهَا لِشِدَّةِ اسْتِحْضَارِهَا لَهُ كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ إِلَيْهِ (وَبِيصِ) بِالْمُوَحَّدَةِ الْمَكْسُورَةِ وَآخِرُهُ صَادٌ مُهْمَلَةٌ هُوَ الْبَرِيقُ
وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِنَّ الْوَبِيصَ زِيَادَةٌ عَلَى الْبَرِيقِ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّلَأْلُؤُ وَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ عَيْنٍ قَائِمَةٍ لَا الرِّيحُ فَقَطْ (فِي مَفْرِقِ) هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُفْرَقُ فِيهِ الشَّعْرُ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
2 - (بَاب التَّلْبِيدِ)
[1747] (يُهِلُّ مُلَبِّدًا) أَيْ يُحْرِمُ بِالتَّلْبِيدِ وَالتَّلْبِيدُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُحْرِمُ فِي رَأْسِهِ صَمْغًا أو غيره(5/117)
لِيَتَلَبَّدَ شَعْرُهُ أَيْ يَلْتَصِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَلَا يَتَخَلَّلُهُ الْغُبَارُ وَلَا يُصِيبُهُ الشَّعَثُ وَلَا الْقَمْلُ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَطُولُ مُكْثُهُ فِي الْإِحْرَامِ
قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وبن ماجه
[1748] (لبد رأسه بالعسل) قال بن عَبْدِ السَّلَامِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مَا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ خَطْمِيٍّ وَغَيْرِهِ قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي ضَبَطْنَاهُ فِي رِوَايَتِنَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ بِالْمُهْمَلَتَيْنِ
قَالَهُ السُّيُوطِيُّ
3 - (بَاب فِي الْهَدْيِ)
[1749] (أَهْدَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ) بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الْأَفْصَحِ وَهِيَ السَّنَةُ السَّادِسَةُ مِنَ الْهِجْرَةِ تَوَجَّهَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ فَأَحْصَرَهُ الْمُشْرِكُونَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مَوْضِعٌ مِنْ أَطْرَافِ الْحِلِّ وَقَضِيَّتُهُ مَشْهُورَةٌ (فِي هَدَايَا) أَيْ فِي جُمْلَةِ هَدَايَا (جَمَلًا) نُصِبَ بِأَهْدَى وَفِي هَدَايَا صِلَةٌ لَهُ وَكَأَنَّ حَقَّهُ أَنْ يَقُولَ فِي هَدَايَاهُ فَوَضَعَ الْمُظْهَرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ وَالْمَعْنَى جَمَلًا كَائِنًا فِي هَدَايَاهُ كَانَ لِأَبِي جَهْلٍ أَيْ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ اغْتَنَمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ (فِي رَأْسِهِ) أَيْ أَنْفِهِ (بُرَةُ فِضَّةٍ) بِضَمِّ الموحدة وفتح الراي الْمُخَفَّفَةِ أَيْ حَلْقَةٌ وَالْمَعْنَى أَيْ فِي أَنْفِهِ حَلْقَةُ فِضَّةٍ فَإِنَّ الْبُرَةَ حَلْقَةُ صُفْرٍ وَنَحْوِهِ تُجْعَلُ فِي لَحْمِ أَنْفِ الْبَعِيرِ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الْمَنْخِرَيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَنْفُ مِنَ الرَّأْسِ قَالَ فِي رَأْسِهِ عَلَى الاتساع (قال بن مِنْهَالٍ بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) وَيُمْكِنُ التَّعَدُّدُ بِاعْتِبَارِ الْمَنْخِرَيْنِ (يَغِيظُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ) بِفَتْحِ حَرْفِ الْمُضَارِعَةِ أَيْ يُوصِلُ الْغَيْظَ إِلَى قُلُوبِهِمْ فِي نَحْرِ ذَلِكَ الْجَمَلِ
قُلْتُ خَاتِمَةُ جَمَلِهِ أَجْمَلُ مِنْهُ فَإِنَّهَا نُحِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَكَلَ مِنْهَا رَسُولُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ ثُمَّ نَظِيرُ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ تَعَالَى ليغيظ بهم الكفار كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ(5/118)
14 - (بَاب فِي هَدْيِ الْبَقَرِ)
[1750] (عَنْ عَائِشَةَ) وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ وَفِي لَفْظٍ لَهُ قَالَ نَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً فِي حَجَّتِهِ (بَقَرَةً وَاحِدَةً) قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
[1751] (بَقَرَةً بَيْنَهُنَّ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
5 - (بَاب فِي الْإِشْعَارِ)
[1752] (قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ) فِي رِوَايَتِهِ (قَالَ) قَتَادَةُ (صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الحليفة) أي ركعتين لكونه مسافر (فَأَشْعَرَهَا) الْإِشْعَارُ هُوَ أَنْ يَكْشِطَ جِلْدَ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَسِيلَ دَمٌ ثُمَّ يَسْلِتَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ علامة
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث إِسْرَائِيل عَنْ عَمَّار عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة قَالَتْ ذَبَحَ عَنَّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم حَجَجْنَا بَقَرَة بَقَرَة وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمْرَة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ مَا ذُبِحَ عَنْ آل مُحَمَّد فِي الْوَدَاع إِلَّا بَقَرَة وَبِهِ عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ عَنْ آل مُحَمَّد فِي حَجَّة(5/119)
عَلَى كَوْنِهَا هَدْيًا وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ
وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حنيفة كراهته والأحاديث ترد عليه
وقد خالف النَّاسُ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَاحِبَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَاحْتَجَّ عَلَى الْكَرَاهَةِ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُثْلَةِ وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ بِمَنْعِ كَوْنِهِ مِنْهَا بَلْ هُوَ بَابٌ آخَرُ كَالْكَيِّ وَشَقِّ أُذُنِ الْحَيَوَانِ فَيَصِيرُ عَلَامَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسْمِ وَكَالْخِتَانِ وَالْحِجَامَةِ كَمَا سَيَجِيءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الْمُثْلَةِ لَكَانَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ مُخَصِّصًا لَهُ مِنْ عُمُومِ النَّهْيِ عَنْهَا (الدَّمَ عَنْهَا) أَيْ عَنْ صَفْحَةِ سَنَامِهَا (وَقَلَّدَهَا بِنَعْلَيْنِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَبِهِ قَالَ الجمهور
قال بن الْمُنْذِرِ أَنْكَرَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ التَّقْلِيدَ لِلْغَنَمِ زَادَ غَيْرُهُ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمُ الْحَدِيثُ وَسَيَجِيءُ (عَلَى الْبَيْدَاءِ) مَحَلٌّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَيْ عَلَتْ فَوْقَ الْبَيْدَاءِ وَصَعِدَتْ (أَهَلَّ) أَيْ لَبَّى (بِالْحَجِّ) وَكَذَا بِالْعُمْرَةِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَقُولُ لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الْوَدَاع بَقَرَة وَاحِدَة وَسَيَأْتِي قَوْل عَائِشَة ذَبَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَقَر يَوْم النَّحْر
وَلَا رَيْب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ بِنِسَائِهِ كُلّهنَّ وَهُنَّ يَوْمئِذٍ تِسْع وَكُلّهنَّ كُنَّ مُتَمَتِّعَات حَتَّى عَائِشَة فَإِنَّهَا قَرَنَتْ فَإِنْ كَانَ الْهَدْي مُتَعَدِّدًا فَلَا إِشْكَال وَإِنْ كَانَ بَقَرَة وَاحِدَة بَيْنهنَّ وَهُنَّ تِسْع فَهَذَا حُجَّة لِإِسْحَاق وَمَنْ قَالَ بقوله إن البدنة تجزىء عَنْ عَشَرَة وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد
وقد ذهب بن حَزْم إِلَى أَنَّ هَذَا الِاشْتِرَاك فِي الْبَقَرَة إِنَّمَا كَانَ بَيْن ثَمَان نِسْوَة قَالَ لِأَنَّ عَائِشَة لَمَّا قَرَنَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا هَدْي
وَاحْتَجَّ بِمَا فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْهَا مِنْ قَوْلهَا فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَة الْحَصْبَة وَقَدْ قَضَى اللَّه حَجّنَا أَرْسَلَ مَعِي عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي بَكْر فَأَرْدَفَنِي وَخَرَجَ بِي إِلَى التَّنْعِيم فَأَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ فَقَضَى اللَّه حَجّنَا وَعُمْرَتنَا وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْي وَلَا صَدَقَة وَلَا صَوْم وَجُعِلَ هَذَا أَصْلًا فِي إِسْقَاط الدَّم عَنْ الْقَارِن وَلَكِنْ هَذِهِ الزِّيَادَة وَهِيَ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْي مُدْرَجَة فِي الْحَدِيث مِنْ كَلَام هِشَام بْن عُرْوَة بَيَّنَهُ مُسْلِم فِي الصَّحِيح
قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو كُرَيْب أَنْبَأَنَا وَكِيع حَدَّثَنَا هشام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة فَذَكَرَ الْحَدِيث وَفِي آخِره قَالَ عُرْوَة فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَضَى اللَّه حَجّهَا وَعُمْرَتهَا قَالَ هشام وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْي وَلَا صِيَام وَلَا صَدَقَة فَجَعَلَ وَكِيع هذا اللفظ من قول هشام وبن نُمَيْر وَعَبَدَة لَمْ يَقُولَا قَالَتْ عَائِشَة بَلْ أَدْرَجَاهُ إِدْرَاجًا وَفَصَّلَهُ وَكِيع وَغَيْره(5/120)
[1753] (قَالَ ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ بِيَدِهِ) أَيْ مَسَحَ وَأَمَاطَ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ سَلَتَ بِيَدِهِ أَيْ أَمَاطَهُ بِإِصْبَعَيْهِ
وَأَصْلُ السَّلْتِ الْقَطْعُ وَيُقَالُ سَلَتَ اللَّهُ أَنْفَ فُلَانٍ أَيْ جَدَعَهُ (هَذَا مِنْ سُنَنِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) أَيْ حَدِيثُ التَّقْلِيدِ بِالنَّعْلَيْنِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ لِأَنَّ رُوَاةَ هَذَا الْحَدِيثِ كُلُّهُمْ بَصْرِيُّونَ أَبُو حَسَّانَ الْأَعْرَجُ مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي يَدُورُ الْإِسْنَادُ إِلَيْهِ بَصْرِيٌّ وَقَتَادَةُ الرَّاوِي عَنْ أَبِي حَسَّانَ ثُمَّ شُعْبَةُ الرَّاوِي عَنْ قَتَادَةَ كِلَاهُمَا بَصْرِيَّانِ
وَرَوَى أَيْضًا هِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ وَهُوَ أَيْضًا بَصْرِيٌّ وَحَدِيثُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى أَيْضًا رَوَى عَنْ قَتَادَةَ وَهُوَ بَصْرِيٌّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُؤَلِّفُ بِقَوْلِهِ قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ هَمَّامٌ
كَذَا فِي غَايَةِ الْمَقْصُودِ
[1754] (قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْإِشْعَارُ أَنْ يَطْعَنَ فِي سَنَامِهَا حَتَّى يَسِيلَ دَمُهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَمًا أَنَّهَا بَدَنَةٌ وَمِنْهَا الشِّعَارُ فِي الْحُرُوبِ هُوَ الْعَلَامَةُ الَّتِي يَعْرِفُ بِهَا الرَّجُلُ صَاحِبَهُ وَيُمَيِّزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ
وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْإِشْعَارَ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُثْلَةِ وَإِنَّمَا الْمُثْلَةُ أَنْ يَقْطَعَ عُضْوًا مِنَ الْبَهِيمَةِ يُرَادُ بِذَلِكَ التَّعْذِيبُ
وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ السُّنَّةِ التَّقْلِيدُ وَهُوَ فِي الْإِبِلِ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفِيهِ أَنَّ الْإِشْعَارَ مِنَ الشِّقِّ الْأَيْمَنِ وَهُوَ السُّنَّةُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[1755] (أَهْدَى غَنَمًا مُقَلَّدَةً) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ الْغَنَمَ قَدْ يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْهَدْيِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْغَنَمَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْهَدْيِ
وَفِيهِ أَنَّ الْغَنَمَ تُقَلَّدُ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ ثُمَّ قَلَّدَهُ فَلَا تُقَلَّدُ الْغَنَمُ وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم والنسائي وبن ماجه بنحوه(5/121)
16 - (باب تعديل الْهَدْيِ)
[1756] (قَالَ أَهْدَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بُخْتِيًّا) بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ثُمَّ التَّاءُ الْمُثَنَّاةُ الْفَوْقَانِيَّةُ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ هِيَ الْإِبِلُ الْخُرَاسَانِيَّةُ انْتَهَى
وَفِي النِّهَايَةِ الْبُخْتِيَّةُ الْأُنْثَى مِنَ الْجِمَالِ الْبُخْتِ وَالذَّكَرُ بُخْتِيٌّ وَهِيَ جِمَالٌ طِوَالُ الْأَعْنَاقِ انْتَهَى
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ نَجِيبًا بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْجِيمِ ثُمَّ الْيَاءُ وَالنَّجِيبُ وَالنَّجِيبَةُ النَّاقَةُ وَالْجَمْعُ النَّجَائِبُ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ النَّجِيبُ الْفَاضِلُ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ
ثُمَّ قَالَ وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ النَّجِيبِ مِنَ الْإِبِلِ مُفْرَدًا وَمَجْمُوعًا وَهُوَ الْقَوِيُّ مِنْهَا الْخَفِيفُ السَّرِيعُ انْتَهَى (بُدْنًا) جَمْعُ بَدَنَةٍ (قَالَ لَا) أَيْ لَا تَبِعْهَا بَلِ انْحَرْهَا (إِيَّاهَا) لِلتَّأْكِيدِ (قَالَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا) أَيْ مَنْعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِهَا
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْهَدْيِ لِإِبْدَالِ مِثْلِهِ أَوْ أَفْضَلَ
وَمِنْ قَوْلِهِ قَالَ أَبُو دَاوُدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهَذِهِ تَرْجَمَةٌ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ ذَكَرَهَا أَبُو دَاوُدَ فَأَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ هَذَا هُوَ خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ خَالُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ رَوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ وَمَكْحُولٍ وَجَهْمِ بْنِ الْجَارُودِ وَعَنْهُ حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سلمة وموسى بن أعين وثقه بن مَعِينٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يُعْرَفُ لِجَهْمٍ سَمَاعٌ مِنْ سَالِمٍ انْتَهَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه هُوَ الْجَهْم بْن الْجَارُود
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيث الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه الْكَبِير وَعَلَّلَهُ بهذه العلة وأعله بن الْقَطَّانِ بِأَنَّ جَهْم بْن الْجَارُود لَا يُعْرَف حَاله وَلَا يُعْرَف لَهُ رَاوٍ إِلَّا أَبُو عَبْد الرَّحِيم خَالِد بْن أَبِي يَزِيد
قَالَ وَبِذَلِكَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم(5/122)
قُلْتُ وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تاريخه وبن حبان وبن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحَيْهِمَا
7 - (بَاب مَنْ بَعَثَ بِهَدْيِهِ وَأَقَامَ [1757] بِبَلَدِهِ غَيْرَ مُحْرِمٍ)
(قَلَائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْقَلَائِدُ جَمْعُ قِلَادَةٍ وَهِيَ مَا تُعَلَّقُ بِالْعُنُقِ
وَالْبُدْنُ جَمْعُ الْبَدَنَةِ وَهِيَ نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ تُنْحَرُ بِمَكَّةَ (بِيَدَيَّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (ثُمَّ بَعَثَ بِهَا) مَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ (فَمَا حَرُمَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلًّا) أَرَادَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ وَلَا يُحْرِمُ فَلِهَذَا لَا يَجْتَنِبُ عَنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ بَعْثِ الْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِ يُسْتَحَبُّ لَهُ بَعْثُهُ مَعَ غَيْرِهِ وَفِيهِ أَنَّ مَنْ يَبْعَثُ هَدْيَهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شيء ما يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَهُوَ مَذْهَبُ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ إلا رواية حكيت عن بن عباس وبن عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اجْتَنَبَ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ وَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِحْرَامِ وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ
وَسَبَبُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ بَلَغَهَا فُتْيَا بَعْضِ الصَّحَابَةِ فِيمَنْ بَعَثَ هَدْيًا إِلَى مَكَّةَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ من لبس(5/123)
الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ بِمَكَّةَ فَقَالَتْ رَدًّا عَلَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه
[1759] (زعم) أي بن عَوْنٍ (سَمِعَهُ) أَيْ هَذَا الْحَدِيثَ (مِنْهُمَا) أَيِ الْقَاسِمُ وَإِبْرَاهِيمُ (وَلَمْ يَحْفَظْ) أَيْ لَمْ يُمَيِّزْ حَدِيثَ هَذَا مِنَ الْآخَرِ (أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ) وَهِيَ عَائِشَةُ (مِنْ عِهْنٍ) هُوَ الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ أَلْوَانًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
8 - (بَاب فِي رُكُوبِ الْبُدْنِ)
[1760] (يَسُوقُ بَدَنَةً) أَيْ نَاقَةً (قَالَ إِنَّهَا بَدَنَةٌ) أَيْ هَدْيٌ ظَنًّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رُكُوبُ الْهَدْيِ مُطْلَقًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1761] (ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ بِوَجْهٍ لَا يَلْحَقُهَا ضَرَرٌ (إِذَا أُلْجِئْتَ) أَيْ إِذَا اضْطُرِرْتَ (إِلَيْهَا) إِلَى رُكُوبِهَا (حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا) أَيْ مَرْكُوبًا آخَرَ
قَالَ النَّوَوِيُّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى رُكُوبِ الْبَدَنَةِ الْمُهْدَاةِ وَفِيهِ مَذَاهِبُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَرْكَبُهَا إِذَا احْتَاجَ وَلَا يَرْكَبُهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَإِنَّمَا يَرْكَبُهَا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ لَهُ رُكُوبُهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِحَيْثُ لا(5/124)
يَضُرُّهَا وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرْكَبُهَا إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مِنْهُ بُدًّا انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
9 - (بَابَ الْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ)
[1762] (فَقَالَ إِنْ عَطِبَ) بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ عَيِيَ وَعَجَزَ مِنَ السَّيْرِ وَوَقَفَ فِي الطَّرِيقِ وَقِيلَ أَيْ قَرُبَ مِنَ الْعَطَبِ وَهُوَ الْهَلَاكُ
فَفِي الْقَامُوسِ عَطَبَ كَنَصَرَ لَانَ وَكَفَرِحِ هَلَكَ وَالْمَعْنَى عَلَى الثَّانِي (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْهَدْيِ الْمُهْدَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ بَيَانٌ (ثُمَّ اصْبُغْ) أَيِ اغْمِسْ (نَعْلَهُ) أَيِ الْمُقَلَّدَةَ بِهِ (فِي دَمِهِ) أَيْ ثُمَّ اجْعَلْهَا عَلَى صَفْحَتِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ إِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَصْبُغَ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ لِيَعْلَمَ الْمَارُّ بِهِ أَنَّهُ هَدْيٌ فَيَجْتَنِبَهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا وَلَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إِلَى أَكْلِهِ (ثم خل بينه وبين الناس) في دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ قَالَ المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ نَاجِيَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
[1763] (عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) أَيْ حَمَّادٌ وَعَبْدُ الْوَارِثِ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ (إِنْ أُزْحِفَ) أَيْ أُعْيِيَ وَعَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ هَكَذَا ضَبَطَهُ الْخَطَّابِيُّ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَأَزْحَفَتْ عَلَيْهِ بفتح الهمزة وإسكان الزاء
قَالَ النَّوَوِيُّ كِلَاهُمَا صَحِيحَانِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ أُعْيِيَ وَكَلَّ يُقَالُ زَحَفَ الْبَعِيرُ إِذَا خَرَّ عَلَى اسْتِهِ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْإِعْيَاءِ وَأَزْحَفَهُ السَّيْرُ إِذَا جَهَدَ وَبَلَغَ بِهِ هَذَا الْحَالُ (ثُمَّ تَصْبُغُ نَعْلَهَا) أَيِ الَّتِي قَلَّدْتَهَا فِي عُنُقِهَا (فِي دَمِهَا) لِئَلَّا يَأْكُلَ مِنْهَا الْأَغْنِيَاءُ (ثُمَّ اضْرِبْهَا) أَيِ النَّعْلَ (عَلَى صَفْحَتِهَا) أَيْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ النَّعْلَيْنِ عَلَى(5/125)
صَفْحَةٍ مِنْ صَفْحَتَيْ سَنَامِهَا (وَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا أَنْتَ) لِلتَّأْكِيدِ (وَلَا أَحَدٌ) أَيْ لَا يَأْكُلْ أَحَدٌ (مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الفاء وفي القاموس الرفقة مثلته أَيْ رُفَقَائِكَ فَأَهْلٌ زَائِدٌ وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَاءً كَانَ فَقِيرًا أَوْ غَنِيًّا وَإِنَّمَا مَنَعُوا ذَلِكَ قَطْعًا لِأَطْمَاعِهِمْ لِئَلَّا يَنْحَرَهَا أَحَدٌ وَيَتَعَلَّلُ بِالْعَطَبِ هَذَا إِذَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمَّا إِذَا كَانَ تَطَوُّعًا فَلَهُ أَنْ يَنْحَرَهُ وَيَأْكُلَ مِنْهُ فَإِنَّ مُجَرَّدَ التَّقْلِيدِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مِلْكِهِ قَالَهُ فِي الْمِرْقَاةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
(الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ انْتَهَى) هَذِهِ الْعِبَارَةُ لَيْسَتْ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ وَلَا يَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِهَا فَإِنَّ التَّفَرُّدَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي طَبَقَةِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ بن عَبَّاسٍ رَوَاهَا عَنْ ذُؤَيْبٍ أَبِي قَبِيصَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عِنْدَ مسلم وأرسله بن عَبَّاسٍ مَرَّةً كَمَا عِنْدَ الْمُؤَلِّفِ وَهَكَذَا رَوَى عَمْرُو بْنُ خَارِجَةَ الثُّمَالِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عِنْدَ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ وَلَفْظُهُ وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَهْلُ رُفْقَتِكَ وَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ بَلْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي حَدِيثِ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَيْضًا عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ فِي الْمَغَازِي لَكِنَّ الْوَاقِدِيَّ ضَعِيفٌ جِدًّا
وَأَمَّا فِي طَبَقَةِ التَّابِعِينَ فَرَوَى مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِيُّ وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنِ بن عباس كما عند مسلم وشهر بن حوب عَنْ عَمُّورِ بْنِ خَارِجَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَفَرُّدًا لِأَبِي التَّيَّاحِ فَإِنَّ مَدَارَ الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَرْوِي عَنْ مُوسَى بْنِ سَلَمَةَ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَبَا التَّيَّاحِ قَدْ تُوبِعَ تَابَعَهُ قَتَادَةُ عَنْ سِنَانَ بْنِ سَلَمَةَ عن بن عَبَّاسٍ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ (سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ) هُوَ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَنْقَرِيُّ (إِذَا أَقَمْتَ الْإِسْنَادَ) فِي الْحَدِيثِ (وَالْمَعْنَى كَفَاكَ) وَلَا يَضُرُّكَ رِوَايَتُكَ الْحَدِيثِ إِنْ غَيَّرْتَ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى جَائِزٌ كَذَا فِي الشَّرْحِ
وَاعْلَمْ أَنَّ بَابَ الْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ أن يبلغ تم إلى حديث بن عَبَّاسٍ وَبِهِ تَمَّ الْجُزْءُ الْعَاشِرُ
وَفَرَّقَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْكِتَابِ بَيْنَ الْبَابِ الْمَذْكُورِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَيْ حَدِيثُ عَلِيٍّ إِلَى حَدِيثِ عَرَفَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِنْدِيِّ بِالْبَسْمَلَةِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(5/126)
حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي آخِرِ حَدِيثِ بن عَبَّاسٍ آخِرَ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ وَيَتْلُوهُ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ أَصْلِهِ انْتَهَى
وَالْأَشْبَهُ أَنَّ مِنْ قَوْلِهِ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بَابٌ آخَرُ فَسَقَطَ الْبَابُ وَأَمَّا إِدْخَالُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ أَيْ حَدِيثُ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ وَعَرَفَةَ الْكِنْدِيِّ فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَخْلُو مِنْ تَعَسُّفٍ وَتَكَلُّفٍ كَمَا لَا يَخْفَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1764] (فَنَحَرْتُ سَائِرَهَا) أَيْ بَاقِيَهَا
وَالْحَدِيثُ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ عَنْعَنَ وَبِهِ أَعَلَّهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1765] (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ) بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ ثُمَّ طَاءٌ مُهْمَلَةٌ (ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ) هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ لِأَنَّ النَّاسَ يَقِرُّونَ فِيهِ بِمِنًى بَعْدَ أَنْ فَرَغُوا مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالنَّحْرِ وَاسْتَرَاحُوا وَالْقَرُّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (وَقُرِّبَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ مَجْهُولًا (بَدَنَاتٌ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي أَوْ تَرْدِيدٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ تقريب الْأَمْرِ أَيْ بَدَنَاتٌ مِنْ بُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَطَفِقْنَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ الثَّانِيَةِ أَيْ شَرَعْنَ (يَزْدَلِفْنَ) أَيْ يَتَقَرَّبْنَ وَيَسْعَيْنَ يَعْنِي يَقْصِدُ كُلٌّ مِنَ الْبَدَنَةِ أَنْ يَبْدَأَ فِي النَّحْرِ بِهَا وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ المعجزة الباهرة
قال الطيبي أي منتظرات يأتيهن يَبْدَأُ لِلتَّبَرُّكِ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَحْرِهِنَّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ يَزْدَلِفْنَ مَعْنَاهُ يَقْرَبْنَ مِنْ قَوْلِكَ زَلَفَ الشَّيْءُ إِذَا قَرُبَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ الدُّنُوُّ وَالْقُرْبُ مِنَ الْهَلَاكِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْمُزْدَلِفَةُ لِاقْتِرَابِ النَّاسِ إِلَى مِنًى بَعْدَ الْإِفَاضَةِ عَنْ عَرَفَاتٍ (فَلَمَّا وَجَبَتْ جَنُوبُهَا) أَيْ سَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ مَعْنَاهُ ذَهَبَتْ أَنْفُسُهَا فَسَقَطَتْ عَلَى جَنُوبِهَا
وَأَصْلُ الْوُجُوبِ السقوط (من(5/127)
شَاءَ اقْتَطَعَ) أَيْ أَخَذَ قِطْعَةً مِنْهَا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1766] (قَالَ شَهِدْتُ) أَيْ حَضَرْتُ (أَبَا حَسَنٍ) أَرَادَ بِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (بِأَسْفَلِ الْحَرْبَةِ) هِيَ كَالرُّمْحِ وَإِنَّمَا أَخَذَ أَسْفَلَهَا لِيُمْسِكَهَا فَلَا تَسْقُطُ عَلَى الْأَرْضِ
0 - (بَاب كَيْفَ تُنْحَرُ الْبُدْنُ)
[1767] (وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ) وَالْمُخْبِرُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سابط هو بن جُرَيْجٍ فَالْحَدِيثُ مِنْ مُسْنَدِ جَابِرٍ كَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ وَكُتُبُ الْأَحْكَامِ وَغَيْرُهُمْ لَكِنْ رَوَاهُ بن أبي شيبة في مصنفه عن بن جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَفِيهِ أَيّ فِي الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ يَوْم النَّحْر أَفْضَل الْأَيَّام وَذَهَبَتْ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء إِلَى أَنَّ يَوْم الْجُمْعَة أَفْضَل الْأَيَّام وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْر يَوْم طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْس يَوْم الْجُمْعَة وهو حديث صحيح رواه بن حِبَّانَ وَغَيْره
وَفَصْل النِّزَاع أَنَّ يَوْم الْجُمْعَة أَفْضَل أَيَّام الْأُسْبُوع وَيَوْم النَّحْر أَفْضَل أَيَّام الْعَام فَيَوْم النَّحْر مُفَضَّل عَلَى الْأَيَّام كُلّهَا الَّتِي فِيهَا الْجُمْعَة وَغَيْرهَا وَيَوْم الْجُمْعَة مُفَضَّل عَلَى أَيَّام الْأُسْبُوع
فَإِنْ اِجْتَمَعَا فِي يَوْم تَظَاهَرَتْ الْفَضِيلَتَانِ وَإِنْ تَبَايَنَا فَيَوْم النَّحْر أَفْضَل وَأَعْظَم لِهَذَا الْحَدِيث
وَاَللَّه أَعْلَم(5/128)
قال بن الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ مِنْ جهة أبي داود القائل وأخبرني هو بن جريج فيكون بن جُرَيْجٍ رَوَاهُ عَنْ تَابِعِيَّيْنِ أَحَدُهُمَا أَسْنَدَهُ وَهُوَ أَبُو الزُّبَيْرِ وَالْآخَرُ أَرْسَلَهُ وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ كَذَا فِي الشَّرْحِ (مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى) أَيْ مَرْبُوطَةً قَائِمَتُهَا الْيُسْرَى
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1768] (بَارِكَةٌ) أَيْ جَالِسَةٌ (فَقَالَ ابْعَثْهَا) أَيْ أَقِمْهَا (قِيَامًا) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ أَيْ قَائِمَةً (مُقَيَّدَةً) حَالٌ ثَانِيَةٌ أَوْ صِفَةٌ لِقَائِمَةٍ مَعْنَاهُ مَعْقُولَةٌ بِرِجْلٍ وَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى الثَّلَاثِ (سُنَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) نُصِبَ بِعَامِلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ اتَّبِعْ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وبدل عَلَيْهِ رِوَايَةُ انْحَرْ قَائِمَةً فَإِنَّهَا سُنَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ والثوري ينحر باركة وقائمة واستحب عطاء أي يَنْحَرَهَا بَارِكَةً مَعْقُولَةً
وَأَمَّا الْبَقَرَةُ وَالْغَنَمُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُذْبَحَ مُضْطَجِعَةً عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1769] (وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْ لَا يُعْطَى عَلَى مَعْنَى الْأُجْرَةِ شَيْئًا فَأَمَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا أَيْ أَجْرَ عَمَلِهِ وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى الْجَزَّارُ الْجِلْدَ وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ لُحُومِ الْهَدْيِ فَمَا كَانَ مِنْهُ وَاجِبًا لَمْ يَحِلَّ أَكْلُ شَيْءٍ مِنْهُ وَهُوَ مِثْلُ الدَّمِ يَجِبُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَإِفْسَادِ الْحَجِّ وَدَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ نَذْرًا أَوْجَبَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا كَانَ تَطَوُّعًا كَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَيُهْدِيَ وَيَتَصَدَّقَ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَقَالَ مَالِكٌ يُؤْكَلُ مِنَ الْهَدْيِ الَّذِي سَاقَهُ لِفَسَادِ حَجِّهِ وَلِفَوَاتِ الْحَجِّ وَمِنْ هَدْيِ التمتع ومن(5/129)
الْهَدْيِ كُلِّهِ إِلَّا فَدِيَةَ الْأَذَى وَجَزَاءَ الصَّيْدِ وَمَا نُذِرَ لِلْمَسَاكِينِ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ لَا يُؤْكَلُ مِنَ الْبُدْنِ وَمِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَيُؤْكَلُ مَا سِوَى ذَلِكَ
وروي عن بن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَهَدْيِ الْقِرَانِ وَهَدْيِ التَّطَوُّعِ وَلَا يَأْكُلُ مِمَّا سِوَاهُمَا
قَالَ المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وبن ماجه
1 - (باب وَقْتِ الْإِحْرَامِ)
[1770] (فِي إِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ إِحْرَامِهِ (فَسَمِعَ ذَلِكَ) أَيْ إِهْلَالَهُ وَتَلْبِيَتَهُ (فَلَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ) أَيْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَاقَتُهُ) فَاعِلُ اسْتَقَلَّتْ
وَالْمَعْنَى ارْتَفَعَتْ وَتَعَالَتْ نَاقَتُهُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَأْتُونَ أَرْسَالًا) أَيْ أَفْوَاجًا وَفِرَقًا (فَقَالُوا) أَيْ زَعَمُوا (وَأَدْرَكَ ذَلِكَ) أَيْ إِهْلَالَهُ هُنَا الْبَيْدَاءُ الْمَفَازَةُ الَّتِي لَا شيء فيها وهي ها هنا اسْمُ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ بِقُرْبِ ذِي الْحُلَيْفَةِ
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالُ وَيَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ بِمَا فِيهِ فَيَكُونُ شُرُوعُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِهْلَالِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاتِهِ بِمَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ فِي مَجْلِسِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ فَنَقَلَ عَنْهُ مَنْ سَمِعَهُ يُهِلُّ هُنَالِكَ أَنَّهُ أَهَلَّ بِذَلِكَ(5/130)
الْمَكَانِ ثُمَّ أَهَلَّ لَمَّا اسْتَقَلَّتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَظَنَّ مَنْ سَمِعَ إِهْلَالَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ شَرَعَ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ إِهْلَالَهُ بِالْمَسْجِدِ فَقَالَ إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَ اسْتَقَلَّتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ ثُمَّ رَوَى كَذَلِكَ مَنْ سَمِعَهُ يُهِلُّ عَلَى شَرَفِ الْبَيْدَاءِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ لِمَنْ كَانَ مِيقَاتُهُ ذَا الْحُلَيْفَةِ أَنْ يُهِلَّ فِي مَسْجِدِهَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَيُكَرِّرَ الْإِهْلَالَ عِنْدَ أَنْ يَرْكَبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَعِنْدَ أَنْ يَمُرَّ بِشَرَفِ الْبَيْدَاءِ
قَالَ فِي الْفَتْحِ وَقَدِ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى جَوَازِ جَمِيعِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ حُصَيْفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ
[1771] (قَالَ بَيْدَاؤُكُمْ هَذِهِ إِلَخْ) يَعْنِي بِقَوْلِكُمْ إِنَّهُ أَهَلَّ فِيهَا وَإِنَّمَا أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَمِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ وسماهم بن عُمَرَ كَاذِبِينَ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ وَالْكَذِبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ سَوَاءً تَعَمَّدَهُ أَمْ غَلِطَ فِيهِ وَسَهَا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
[1772] (كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ) قَالَ النَّوَوِيُّ أَمَّا الْيَمَانِيَانِ فَهُوَ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ هَذِهِ اللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ وَالْمُرَادُ بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ وَالرُّكْنُ الَّذِي فِيهِ الْحَجْرُ الْأَسْوَدُ وَيُقَالُ لَهُ الْعِرَاقِيُّ لِكَوْنِهِ جِهَةَ الْعِرَاقِ وَقِيلَ لِلَّذِي قَبْلَهُ الْيَمَانِيُّ لِأَنَّهُ جِهَةُ الْيَمَنِ وَيُقَالُ لَهُمَا الْيَمَانِيَانِ تَغْلِيبًا لِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ
قَالَ الْعُلَمَاءُ وَيُقَالُ لِلرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ بِكَسْرِ الْحَاءِ الشَّامِيَّانِ لِجِهَةِ الشَّامِ قَالُوا فَالْيَمَانِيَانِ بَاقِيَانِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ الشَّامِيَّانِ فَلِهَذَا لَمْ يُسْتَلَمَا وَاسْتُلِمَ الْيَمَانِيَانِ لبقائهما عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّ الْعِرَاقِيَّ مِنَ الْيَمَانِيَيْنِ اخْتَصَّ بِفَضِيلَةٍ(5/131)
أُخْرَى وَهِيَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ فَاخْتَصَّ لِذَلِكَ مَعَ الِاسْتِلَامِ بِتَقْبِيلِهِ وَوَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْيَمَانِيِّ
قَالَ الْقَاضِي وَقَدِ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ وَالْفُقَهَاءِ الْيَوْمَ عَلَى أَنَّ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيِّينَ لَا يُسْتَلَمَانِ وَإِنَّمَا كَانَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَبَعْضِ التَّابِعِينَ ثُمَّ ذَهَبَ (وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ) قَالَ النَّوَوِيُّ فَبِكَسْرِ السِّينِ وإسكان الباء الموحدة وقد أشار بن عُمَرَ إِلَى تَفْسِيرِهَا بِقَوْلِهِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ وَهَكَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلُ الْعَرَبِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ إِنَّهَا الَّتِي لَا شَعْرَ فِيهَا وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السَّبْتِ بِفَتْحِ السِّينِ وَهُوَ الْحَلْقُ وَالْإِزَالَةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ سَبَتَ رَأْسَهُ أَيْ حَلَقَهُ (فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ
قَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ قِيلَ الْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ صَبْغُ الشَّعْرِ وَقِيلَ صَبْغُ الثَّوْبِ قَالَ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ صَبْغَ الثِّيَابِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبَغَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَبَغَ شَعْرَهُ
قَالَ النَّوَوِيُّ جَاءَتْ آثَارٌ عن بن عمر بين فيها تصفير بن عُمَرَ لِحْيَتَهُ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ
وَذُكِرَ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ احْتِجَاجُهُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ حَتَّى عِمَامَتَهُ (وَأَمَّا الْإِهْلَالُ) قَالَ المازري إجابة بن عُمَرَ بِضَرْبٍ مِنْ الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِنَفْسِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ بَيْنَهَا فَاسْتَدَلَّ فِي مَعْنَاهُ وَوَجْهُ قِيَاسِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَحْرَمَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالذَّهَابِ إِلَيْهِ فَأَخَّرَ بن عُمَرَ الْإِحْرَامَ إِلَى حَالِ شُرُوعِهِ فِي الْحَجِّ وَتَوَجُّهِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ حِينَئِذٍ يَخْرُجُونَ من مكة إلى منى ووافق بن عُمَرَ عَلَى هَذَا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ
وَقَالَ آخَرُونَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْخِلَافُ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَكُلٌّ مِنْهَا جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا(5/132)
[1773] (بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ) فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ قَصْرِ الصَّلَاةِ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ الْبَلَدِ وَبَاتَ خَارِجًا عَنْهَا وَلَوْ لَمْ يَسْتَمِرَّ سَفَرُهُ وَاحْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرَةِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ ابْتِدَاءً لَا الْمُنْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَبِيتِ
[1774] (جَبَلِ الْبَيْدَاءِ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1775] (إِذَا أَخَذَ طَرِيقَ الْفُرْعِ) بِضَمِّ الْفَاءِ اسْمُ مَوْضِعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ
2 - (بَاب الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ)
[1776] (أَنَّ ضُبَاعَةَ) بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ كُنْيَتُهَا أُمُّ حَكِيمٍ وَهِيَ بنت عم(5/133)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُوهَا الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ (آشْتَرِطُ) بِحَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ (وَمَحِلِّي) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مَكَانُ إِحْلَالِي
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَطَ هَذَا الِاشْتِرَاطَ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مَا يَحْبِسُهُ عَنِ الْحَجِّ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَلُّلُ مَعَ عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ وبن مَسْعُودٍ وَعُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ الْمُصَحَّحُ لِلشَّافِعِيِّ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ إِنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاشْتِرَاطُ وَهُوَ مروي عن بن عمر
قال البيهقي لو بلغ بن عُمَرَ حَدِيثُ ضُبَاعَةَ لَقَالَ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرِ الِاشْتِرَاطَ كَمَا لَمْ يُنْكِرْ أَبُوهُ انْتَهَى
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ يَحِلُّ حَيْثُ يُحْبَسُ وَيَنْحَرُ
هَدْيَهُ هُنَاكَ حَرَمًا كَانَ أَوْ حِلًّا وَكَذَلِكَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أُحْصِرَ نَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَّ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ دَمُ الْإِحْصَارِ لَا يُرَاقُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ يُقِيمُ الْمُحْصَرُ عَلَى إِحْرَامِهِ وَيَبْعَثُ بِالْهَدْيِ وَيُوَاعِدُهُمْ يَوْمَ يُقَدِّرُ فِيهِ بُلُوغَ الْهَدْيِ الْمَنْسَكَ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ حَلَّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ
3 - (بَاب فِي إِفْرَادِ الْحَجِّ)
[1777] (أَفْرَدَ الْحَجَّ) قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْإِفْرَادُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ وَيَفْرُغُ مِنْهُ ثُمَّ يَعْتَمِرُ وَالتَّمَتُّعُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ وَالْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا جَمِيعًا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَمْ تَخْتَلِفِ الْأُمَّةُ فِي أَنَّ الْإِفْرَادَ وَالْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ كُلَّهَا جَائِزَةٌ غَيْرَ أَنَّ طَوَائِفَ الْعُلَمَاءِ اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْهَا فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ الْقِرَانُ أَفْضَلُ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ هُوَ الْأَفْضَلُ
وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ ذَهَبَ إِلَى حَدِيثٍ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ وَتِلْكَ الْأَحَادِيثُ عَلَى اخْتِلَافِهَا مُجْمَلًا وَمُفَسَّرًا وَعَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ لَهُ فِي الرِّوَايَةِ وَسَيَأْتِي الْبَيَانُ عَلَى شَرْحِهَا وَكَشْفِ مَوَاضِعِ الْإِشْكَالِ مِنْهَا فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
غَيْرَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ(5/134)
الْمُلْحِدِينَ طَعَنُوا فِي أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَهْلِ الرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَقَالُوا لَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قِيَامِ الْإِسْلَامِ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تِلْكَ الْحَجَّةَ مُفْرِدًا وَقَارِنًا وَمُتَمَتِّعًا وَأَفْعَالُ نُسُكِهَا مُخْتَلِفَةٌ وَأَحْكَامُهَا غَيْرُ مُتَّفِقَةٍ وَأَسَانِيدُهَا كُلُّهَا عِنْدَ أَهْلِ الرِّوَايَةِ وَنَقَلَةِ الْأَخْبَارِ جِيَادٌ صِحَاحٌ ثُمَّ قَدْ وُجِدَ فِيهَا هَذَا التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ تَوْهِينَ الْحَدِيثِ وَتَصْغِيرَ شَأْنِهِ وَضَعْفَ أَمْرِ حَمَلَتِهِ وَرُوَاتِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ
[1778] (عَنْ هِشَامٍ) أَيْ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَوُهَيْبٌ كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ (مُوَافِينَ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ) أَيْ مُقَارِنِينَ لِاسْتِهْلَالِهِ وَكَانَ خُرُوجُهُمْ قَبْلَهُ بِخَمْسٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا صَرَّحْتُ بِهِ فِي رِوَايَةِ الْعُمْرَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ (لَوْلَا أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ) أَيْ خَالِصَةٍ لَكِنَّ الْهَدْيَ يَمْنَعُ الْإِحْلَالَ قَبْلَ الْحَجِّ كَالْقِرَانِ وَالْإِفْرَادِ
هَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِتَفْضِيلِ التَّمَتُّعِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَمَنَّى إِلَّا الْأَفْضَلَ وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا (ارْفِضِي عُمْرَتَكِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اتْرُكِيهَا وَأَخِّرِيهَا عَلَى الْقَضَاءِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِنَّمَا أَمَرَهَا أَنْ تَتْرُكَ الْعَمَلَ لِلْعُمْرَةِ مِنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِأَنَّهَا تَتْرُكُ الْعُمْرَةَ أَصْلًا وَإِنَّمَا أَمَرَهَا أَنْ تُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فَتَكُونَ قَارِنَةً
قُلْتُ وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ تَكُونُ عُمْرَتُهَا مِنَ التَّنْعِيمِ تَطَوُّعًا لَا عَنْ وَاجِبٍ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّ يُطَيِّبَ نَفْسَهَا فَأَعْمَرَهَا وَكَانَتْ قَدْ سَأَلَتْهُ ذَلِكَ
وَقَدْ رُوِيَ مَا يُشْبِهُ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَدِيثِ جَابِرٍ(5/135)
انْتَهَى كَلَامُهُ (لَيْلَةُ الصَّدَرِ) أَيْ لَيْلَةُ طَوَافِ الصَّدَرِ وَهُوَ بِفَتْحِ الصَّادِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَتَيْنِ بِمَعْنَى رُجُوعِ الْمُسَافِرِ مِنْ مَقْصِدِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُهَاجِرِ إِقَامَةُ ثَلَاثٍ بَعْدَ الصَّدَرِ يَعْنِي بِمَكَّةَ بَعْدَ أَنْ يَقْضِيَ نُسُكَهُ
قَالَ فِي اللِّسَانِ وَالصَّدَرُ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَنَّ النَّاسَ يَصْدُرُونَ فِيهِ عَنْ مَكَّةَ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ
وَفِي الْمَثَلِ تَرَكْتُهُ عَلَى مِثْلِ لَيْلَةِ الصَّدَرِ يَعْنِي حِينَ صَدَرَ النَّاسُ مِنْ حَجِّهِمْ (لَيْلَةُ الْبَطْحَاءِ) قَالَ فِي اللِّسَانِ الْبَطْحَاءُ مَسِيلٌ فِيهِ دِقَاقُ الْحَصَى
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْأَبْطَحُ مَسِيلٌ وَاسِعٌ فِيهِ دِقَاقُ الْحَصَى وَبَطْحَاءُ مَكَّةَ وَأَبْطُحُهَا مَعْرُوفَةٌ وَمِنًى مِنَ الْأَبْطَحِ انْتَهَى
وَالْمَعْنَى أَنَّ عَائِشَةَ طَهُرَتْ فِي لَيْلَةٍ مِنْ أَيَّامِ نُزُولِ الْبَطْحَاءِ وَهِيَ مِنًى فَكَانَتْ طَهَارَتُهَا فِي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي أَيَّامِ مِنًى وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة صَرِيحَة بِأَنَّهَا أَهَلَّتْ أَوَّلًا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَمَرَهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَاضَتْ أَنْ تُهِلّ بِالْحَجِّ فَصَارَتْ قَارِنَة
وَلِهَذَا قَالَ لَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْفِيك طَوَافك بِالْبَيْتِ وَبَيْن الصَّفَّا وَالْمَرْوَة لِحَجِّك وَعُمْرَتك مُتَّفَق عَلَيْهِ وَهُوَ صَرِيح فِي رَدّ قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّهَا رَفَضَتْ إِحْرَام الْعُمْرَة رَأْسًا وَانْتَقَلَتْ إِلَى الْإِفْرَاد وَإِنَّمَا أُمِرَتْ بِرَفْضِ أَعْمَال الْعُمْرَة مِنْ الطَّوَاف وَالسَّعْي حَتَّى تَطْهُر لَا بِرَفْضِ إِحْرَامهَا
وَأَمَّا قَوْله وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ هَدْي فَهُوَ مُدْرَج مِنْ كَلَام هِشَام كَمَا بَيَّنَهُ وَكِيع وَغَيْره عَنْهُ حَيْثُ فَصَلَ كَلَام عائشة من كلام هشام وأما بن نُمَيْر وَعَبَدَة فَأَدْرَجَاهُ فِي حَدِيثهمَا وَلَمْ يُمَيِّزَاهُ وَاَلَّذِي مَيَّزَهُ مَعَهُ زِيَادَة عِلْم وَلَمْ يُعَارِض غَيْره فَابْن نُمَيْر وَعَبَدَة لَمْ يَقُولَا قَالَتْ عَائِشَة وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْء مِنْ ذَلِكَ هَدْي بَلْ أَدْرَجَاهُ وَمَيَّزَهُ غَيْرهمَا
وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّهَا أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ ثُمَّ نَوَتْ فَسْخه بِعُمْرَةٍ ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى حَجّ مُفْرَد فَهُوَ خِلَاف مَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ نَفْسهَا وَخِلَاف مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا يَسَعك طَوَافك لِحَجِّك وعمرتك والنبي صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَمَرَهَا أَنْ تُهِلّ بِالْحَجِّ لَمَّا حَاضَتْ(5/136)
[1779] (فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ) الْمُحَقِّقُونَ قَالُوا فِي نُسُكِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ الْقِرَانُ فَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِحَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ التَّأْوِيلُ
وَقَدْ جَمَعَ أَحَادِيثَهُمُ بن حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَذَكَرَهَا حَدِيثًا حَدِيثًا
قَالُوا وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَحَادِيثِ الْبَابِ
أَمَّا أَحَادِيثُ الْإِفْرَادِ فَمَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ سَمِعَهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ فَزَعَمَ أَنَّهُ مُفْرِدٌ بِالْحَجِّ فَأَخْبَرَ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِفْرَادِ الْحَجِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الِافْتِرَاضِ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً
وَأَمَّا أَحَادِيثُ التَّمَتُّعِ فَمَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ يُلَبِّي بِالْعُمْرَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ وَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ مِنْ إِفْرَادِ نُسُكٍ بِالذِّكْرِ لِلْقَارِنِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَخْتَفِي الصَّوْتُ بِالثَّانِي وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمَتُّعِ الْقِرَانُ لِأَنَّهُ مِنْ إِطْلَاقَاتِ الْقَدِيمَةِ وَهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْقِرَانَ تَمَتُّعًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ كَذَا فِي فَتْحِ الْوَدُودِ قال المنذري وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
كَمَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَدَع الْعُمْرَة وَتُهِلّ بِالْحَجِّ
وَهَذَا كَانَ بِسَرِف قَبْل أَنْ يَأْمُر أَصْحَابه بِفَسْخِ حَجّهمْ إِلَى الْعُمْرَة فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمَرْوَة
وَقَوْله إِنَّهَا أَشَارَتْ بِقَوْلِهَا فَكُنْت فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ إِلَى الْوَقْت الَّذِي نَوَتْ فِيهِ الْفَسْخ فِي غَايَة الْفَسَاد فَإِنَّ صَرِيح الْحَدِيث يَشْهَد بِبُطْلَانِهِ فَإِنَّهَا قَالَتْ فَكُنْت فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْض الطَّرِيق حِضْت فَهَذَا صَرِيح فِي أَنَّهَا حَاضَتْ بَعْد إِهْلَالهَا بِعُمْرَةٍ
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحَادِيثهَا عَلِمَ أَنَّهَا أَحْرَمَتْ أَوَّلًا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَدْخَلَتْ عَلَيْهَا الْحَجّ فَصَارَتْ قَارِنَة ثُمَّ اِعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيم عُمْرَة مُسْتَقِلَّة تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا
وَقَدْ غَلِطَ فِي قِصَّة عَائِشَة مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ مُفْرِدَة فَإِنَّ عُمْرَتهَا مِنْ التَّنْعِيم هِيَ عُمْرَة الْإِسْلَام الْوَاجِبَة
وَغَلِطَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ مُتَمَتِّعَة ثُمَّ فَسَخَتْ الْمُتْعَة إِلَى إِفْرَاد وَكَانَتْ عُمْرَة التَّنْعِيم قَضَاء لِتَلِك الْعُمْرَة
وَغَلِطَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا كَانَتْ قَارِنَة وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا صَدَقَة وَلَا صَوْم وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجِب عَلَى الْمُتَمَتِّع
وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحَادِيثهَا عَلِمَ ذَلِكَ وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الصَّوَاب مَا ذَكَرْنَاهُ
وَاَللَّه أَعْلَم(5/137)
[1781] (فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ) اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي إِحْرَامِ عَائِشَةَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَبَسَطَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ (انْقُضِي رَأَسَكِ) بِضَمِّ الْقَافِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ حِلِّي ضَفْرَ شَعْرِكِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ بِلَفْظِ وَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ (وَامْتَشِطِي) أَيْ سَرِّحِي بِالْمُشْطِ
قَالَ الْحَافِظُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَمْرَهُ لَهَا بِنَقْضِ رَأْسِهَا ثُمَّ بِالِامْتِشَاطِ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَتَأَوَّلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَهَا أَنْ تَدَعَ الْعُمْرَةَ وَتُدْخِلَ عَلَيْهِ الْحَجَّ فَتَصِيرُ قَارِنَةً قَالَ وَهَذَا لَا يُشَاكِلُ الْقِصَّةَ وَقِيلَ إِنَّ مَذْهَبَهَا أَنَّ الْمُعْتَمِرَ إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ اسْتَبَاحَ مَا يَسْتَبِيحُهُ الْحَاجُّ إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ قال وهذا لا يعلم وجودها لَا يُعْلَمُ وَجْهُهُ وَقِيلَ كَانَتْ مُضْطَرَّةً إِلَى ذَلِكَ
قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَقْضُ رَأْسِهَا كَانَ لِأَجْلِ الْغُسْلِ لِتُهِلَّ بِالْحَجِّ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مُلَبِّدَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى نَقْضِ الضَّفْرِ وَأَمَّا الِامْتِشَاطُ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهِ تَسْرِيحُهَا شَعْرَهَا بِأَصَابِعِهَا بِرِفْقٍ حَتَّى لَا يَسْقُطَ مِنْهُ شَيْءٌ ثُمَّ تُضَفِّرُهُ كَمَا كَانَ انْتَهَى (بِالْبَيْتِ) مُتَعَلِّقُ طَافَ أَيْ طَوَافُ الْعُمْرَةِ (ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ) هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ (طَوَافًا وَاحِدًا) لِأَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ أفعال
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وقد احتج به بن حَزْم عَلَى أَنَّ الْمُحْرِم لَا يَحْرُم عَلَيْهِ الِامْتِشَاط وَلَمْ يَأْتِ بِتَحْرِيمِهِ نَصّ وَحَمَلَهُ الْأَكْثَرُونَ عَلَى اِمْتِشَاط رَفِيق لَا يَقْطَع الشَّعْر وَمَنْ قَالَ كَانَ بَعْد جَمْرَة الْعَقَبَة فَسِيَاق الْحَدِيث يبطل(5/138)
الْعُمْرَةِ تَنْدَرِجُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ وَهُوَ مَذْهَبُ عطاء والحسن وطاووس وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ قَالُوا لَا بُدَّ لِلْقَارِنِ مِنْ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ لِأَنَّ الْقِرَانَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ مَحْكِيٌّ عن أبي بكر وعمر وعلي وبن مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَلَا يَصِحُّ عَنْ واحد منهم واستدل العيني بحديث بن عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ بِلَفْظِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا وَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنَعَ
وَبِحَدِيثِ عَلِيٍّ عند الدارقطني أيضا وبحديث بن مَسْعُودٍ وَحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عِنْدَهُ أَيْضًا وَكُلُّهَا مَطْعُونٌ فِيهَا لِمَا فِي رُوَاتِهَا مِنَ الضَّعْفِ الْمَانِعِ لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1782] (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ) هُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ هُوَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَوْله وَمَنْ قَالَ هُوَ التَّمَشُّط بِالْأَصَابِعِ فَقَدْ أَبْعَدَ فِي التَّأْوِيل وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا أُمِرَتْ بِتَرْكِ الْعُمْرَة رَأْسًا فَقَوْله بَاطِل لِمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهَا لَوْ تَرَكَتْهَا رَأْسًا لَكَانَ قَضَاؤُهَا وَاجِبًا وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ لَا عُمْرَة عَلَيْهَا وَأَنَّ طَوَافهَا يَكْفِي عَنْهُمَا وَقَوْله أَهِلِّي بِالْحَجِّ صَرِيح فِي أَنَّ إِحْرَامهَا الْأَوَّل كَانَ بِعُمْرَةٍ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ نَفْسهَا وَهُوَ يُبْطِل قَوْل مَنْ قَالَ كَانَتْ مُفْرِدَة فَأُمِرَتْ بِاسْتِدَامَةِ الْإِفْرَاد
وَفِي الْحَدِيث دَلِيل عَلَى تَعَدُّد السَّعْي عَلَى الْمُتَمَتِّع فَإِنَّ قَوْلهَا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَر بَعْد أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ تُرِيد بِهِ الطَّوَاف بَيْن الصَّفَّا وَالْمَرْوَة وَلِهَذَا نَفَتْهُ عَنْ الْقَارِنِينَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد بِهِ الطَّوَاف بِالْبَيْتِ لَكَانَ الْجَمِيع فِيهِ سَوَاء فَإِنَّ طَوَاف الْإِفَاضَة لَا يَفْتَرِق فِيهِ الْقَارِن وَالْمُتَمَتِّع
وَقَدْ خَالَفَهَا جَابِر فِي ذَلِكَ فَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَطُفْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابه بَيْن الصَّفَّا وَالْمَرْوَة إِلَّا طَوَافًا وَاحِدًا طَوَافه الْأَوَّل وَأَخَذَ الْإِمَام أَحْمَد بِحَدِيثِ جَابِر هَذَا فِي رِوَايَة اِبْنه عَبْد الله والمشهور عنه أنه لابد مِنْ طَوَافَيْنِ عَلَى حَدِيث عَائِشَة وَلَكِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة وَهِيَ فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ إِلَى آخِره قَدْ قِيلَ إِنَّهَا مُدْرَجَة فِي الْحَدِيث مِنْ كَلَام عُرْوَة(5/139)
أَمْيَالٍ مِنْهَا قِيلَ سِتَّةٌ وَقِيلَ تِسْعَةٌ وَقِيلَ عَشَرَةٌ وَقِيلَ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا (إِنَّمَا ذَلِكَ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ) هَذَا تَسْلِيَةٌ لَهَا وَتَخْفِيفٌ لَهَا وَمَعْنَاهُ أَنَّكِ لَسْتِ مُخْتَصَّةً بِهِ بَلْ كُلُّ بَنَاتِ آدَمَ يَكُونُ مِنْهُنَّ هَذَا كَمَا يَكُونُ مِنْهُنَّ وَمِنَ الرِّجَالِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَغَيْرُهُمَا
وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ بِعُمُومِ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ كَانَ فِي جَمِيعِ بَنَاتِ آدَمَ وَأَنْكَرَ بِهِ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ الْحَيْضَ أَوَّلَ مَا أُرْسِلَ وَقَعَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ (غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ) فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ يَصِحُّ مِنْهُمْ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَأَحْوَالِهِ وَهَيْئَاتِهِ إِلَّا الطَّوَافَ وَرَكْعَتَيْهِ فَيَصِحُّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ وَغَيْرِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْحَائِضِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ (وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ) وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ فِي أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالْبَقَرِ أَفْضَلُ مِنْ بَدَنَةٍ وَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَفْضِيلِ الْبَقَرِ وَلَا عُمُومُ لَفْظٍ إِنَّمَا قَضِيَّةُ عَيْنٍ مُحْتَمَلَةُ الْأُمُورِ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا لِمَا قَالَهُ
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالْبَدَنَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْبَقَرَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً إِلَى آخِرِهِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ (لَيْلَةُ الْبَطْحَاءِ) قَالَ الْعَيْنِيُّ وَكَانَ ابْتِدَاءُ حَيْضِهَا يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِسَرِفَ وَطَهُرَتْ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
[1783] (لَا نَرَى إِلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ) وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ وَلَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ عَائِشَةَ مَعَ(5/140)
غَيْرِهَا مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا مُحْرِمِينَ بِالْحَجِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهَا فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَيُحْمَلُ أَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا كَانُوا يَعْتَادُونَهُ مِنْ تَرْكِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَخَرَجُوا لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْحَجَّ ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوهَ الْإِحْرَامِ وَجَوَّزَ لَهُمُ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1784] (لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) أَيْ لَوْ عَنَّ لِيَ هَذَا الرَّأْيُ الَّذِي رَأَيْتُهُ آخِرًا وَأَمَرْتُكُمْ بِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِي لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي وَقَلَّدْتُهُ وَأَشْعَرْتُهُ فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَهُ وَلَا يَنْحَرُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ فَلَا يَصِحُّ لَهُ فَسْخُ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَا يَلْتَزِمْ هَذَا وَيَجُوزُ لَهُ فَسْخُ الْحَجِّ
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ تَطْيِيبَ قُلُوبِ أَصْحَابِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَحِلُّوا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُمْ قَبُولُ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْلَا الْهَدْيُ لَفَعَلَهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ
قُلْتُ فَتَكُونُ دَلَالَةُ الْحَدِيثِ حِينَئِذٍ عَلَى مَعْنَى جَوَازِ التَّمَتُّعِ لَا عَلَى مَعْنَى الِاخْتِيَارِ (قَالَ مُحَمَّدُ) بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ (أَحْسَبُهُ) أَيْ عُثْمَانَ بْنَ عُمَرَ (قَالَ) فِي رِوَايَتِهِ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لَحَلَلْتُ إِلَخْ (قَالَ) أَيْ مُحَمَّدٌ الذُّهْلِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْكَلَامِ
[1785] (بِالْحَجِّ مُفْرَدًا) اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ إِنَّ حَجَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرَدًا وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ أفردوا الحج
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَالصَّوَاب أَنَّ مَا أَحْرَمَ بِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَفْضَل وَهُوَ الْقِرَان وَلَكِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ اِسْتَقْبَلَ مِنْ أَمْره مَا اِسْتَدْبَرَ لَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَكَانَ حِينَئِذٍ مُوَافِقًا لَهُمْ فِي الْمَفْضُول تَأْلِيفًا لَهُمْ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ كَمَا تَرَكَ بِنَاء الْكَعْبَة عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم وَإِدْخَال الْحَجَر فِيهَا وَإِلْصَاق بَابهَا بِالْأَرْضِ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِ الصَّحَابَة الْحَدِيثِي الْعَهْد بِالْإِسْلَامِ خَشْيَة أَنْ تَنْفِر قُلُوبهمْ
وَعَلَى هَذَا فَيَكُون اللَّه تَعَالَى قَدْ جَمَعَ لَهُ الْأَمْرَيْنِ النُّسُك الْأَفْضَل الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ وَمُوَافَقَته لِأَصْحَابِهِ بِقَوْلِهِ لَوْ اِسْتَقْبَلَتْ فَهَذَا بِفِعْلِهِ وَهَذَا بِنِيَّتِهِ وَقَوْله وَهَذَا الْأَلْيَق بِحَالِهِ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ(5/141)
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ (عَرَكَتْ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ أَيْ حَاضَتْ يُقَالُ عَرَكَتْ تَعْرُكُ عُرُوكًا كقعد تَقْعُدُ قُعُودًا (حِلَّ مَاذَا) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَحَذْفِ التَّنْوِينَ لِلْإِضَافَةِ وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ أَيِ الْحِلُّ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ذَا وَهَذَا السُّؤَالُ مِنْ جِهَةِ مَنْ جَوَّزَ أَنَّهُ حَلَّ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ (الْحِلُّ كُلُّهُ) أَيِ الْحِلُّ الَّذِي لَا يَبْقَى مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ مَمْنُوعَاتِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْمَأْمُورِ بِهِ (ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) هُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ (فَاغْتَسِلِي) هَذَا الْغُسْلُ قِيلَ هُوَ الْغُسْلُ لِلْإِحْرَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغُسْلُ مِنَ الْحَيْضِ (حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ) قَالَ النَّوَوِيُّ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ ثَلَاثُ مَسَائِلَ حَسَنَةٌ إِحْدَاهَا أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ قَارِنَةً وَلَمْ تَبْطُلْ عُمْرَتُهَا وَأَنَّ الرَّفْضَ الْمَذْكُورَ مُتَأَوَّلٌ
وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ وَالثَّالِثَةُ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةِ يُشْتَرَطُ وُقُوعُهُ بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيحٍ
وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَصْنَعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَمْ تَسْعَ كَمَا لَمْ تَطُفْ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ السَّعْيُ مُتَوَقِّفًا عَلَى تَقَدُّمِ الطَّوَافِ عَلَيْهِ لَمَا أَخَّرَتْهُ انْتَهَى
وَاعْلَمْ أَنَّ طُهْرَ عَائِشَةَ هَذَا الْمَذْكُورَ كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَانَ ابْتِدَاءُ حيضها هذا يوم السبت أيضا لثلاث خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ سَنَةَ عَشْرٍ
ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا (مِنَ التَّنْعِيمِ) هُوَ مَوْضِعٌ عَلَى نَحْوِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ (وَذَلِكَ) أَيْ إِحْرَامُ الْعُمْرَةِ (لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ) أَيِ اللَّيْلَةُ الَّتِي بَعْدَ لَيَالِي(5/142)
التَّشْرِيقِ الَّتِي يَنْزِلُ الْحُجَّاجُ فِيهَا فِي الْمُحَصَّبِ
وَالْمَشْهُورُ فِي الْحَصْبَةِ بِسُكُونِ الصَّادِ وَجَاءَ فَتْحُهَا وَكَسْرُهَا وَهِيَ أَرْضٌ ذَاتُ حَصًى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1787] (لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ) يَعْنِي مِنَ الْعُمْرَةِ وَلَا الْقِرَانِ وَلَا غَيْرِهِمَا (خَلَوْنَ) أَيْ مَضَيْنَ (مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ عَلَى الْأَفْصَحِ (أَرَأَيْتَ مُتْعَتَنَا هَذِهِ) أَيْ أَخْبِرْنِي عَنْ فَسْخِنَا الْحَجَّ إِلَى عُمْرَتِنَا هَذِهِ الَّتِي تَمَتَّعْنَا فِيهَا بِالْجِمَاعِ وَالطِّيبِ وَاللُّبْسِ (لِعَامِنَا هَذَا) أَيْ مَخْصُوصَةٌ بِهِ لَا تَجُوزُ فِي غَيْرِهِ (أَمْ لِلْأَبَدِ) أَيْ جَمِيعِ الْأَعْصَارِ
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَالَ إِنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَعِنْد النَّسَائِيِّ عَنْ سُرَاقَة تَمَتَّعَ رَسُول الله وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ فَقُلْنَا أَلَنَا خَاصَّة أَمْ لِلْأَبَدِ قَالَ بَلْ لِلْأَبَدِ وَهُوَ صَرِيح فِي أَنَّ الْعُمْرَة الَّتِي فَسَخُوا حَجّهمْ إِلَيْهَا لَمْ تَكُنْ مُخْتَصَّة بِهِمْ وَأَنَّهَا مَشْرُوعَة لِلْأُمَّةِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
وَقَوْل مَنْ قَالَ إِنَّ الْمُرَاد بِهِ السُّؤَال عَنْ الْمُتْعَة فِي أَشْهُر الْحَجّ لَا عَنْ عُمْرَة الْفَسْخ بَاطِل مِنْ وُجُوه أَحَدهَا أَنَّهُ لَمْ يَقَع السُّؤَال عَنْ ذَلِكَ وَلَا فِي اللَّفْظ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ تَلِك الْعُمْرَة الْمُعَيَّنَة الَّتِي أُمِرُوا بِالْفَسْخِ إِلَيْهَا وَلِهَذَا أَشَارَ إِلَيْهَا بِعَيْنِهَا فَقَالَ مُتْعَتنَا هَذِهِ وَلَمْ يَقُلْ الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ
الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ السَّائِل أَرَادَ ذلك فالنبي أَطْلَقَ الْجَوَاب بِأَنَّ تَلِك الْعُمْرَة مَشْرُوعَة إِلَى الْأَبَد وَمَعْلُوم أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى وَصْفَيْنِ كَوْنهَا عُمْرَة فُسِخَ الْحَجّ إِلَيْهَا وَكَوْنهَا فِي أَشْهُر الْحَجّ
فَلَوْ كَانَ الْمُرَاد أَحَد الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ كَوْنهَا فِي أَشْهُر الْحَجّ لَبَيَّنَهُ لِلسَّائِلِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْفَسْخ حَرَامًا بَاطِلًا(5/143)
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ إِنَّ فَسْخَ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالصَّحَابَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا يَجُوزُ بَعْدَهَا قَالُوا وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَحَدِيثِ الْحَرْثِ بْنِ بِلَالٍ عَنْ أَبِيهِ وَسَيَأْتِيَانِ عند المؤلف
قالوا ومعنى قوله للأبد جواز الاعتمار في أشهر الحج أو القران فهما جائزان إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَأَمَّا فَسْخُ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَمُخْتَصٌّ بِتِلْكَ السَّنَةِ
وَقَدْ عَارَضَ الْمُجَوِّزُونَ لِلْفَسْخِ مَا احْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ عَنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدْ ذَكَرَ بن تَيْمِيَةَ فِي الْمُنْتَقَى مِنْهَا أَحَادِيثَ عَشَرَةٍ مِنْهُمْ وَهُمْ جَابِرٌ وَسُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو سَعِيدٍ وأسماء وعائشة وبن عباس وأنس وبن عُمَرَ وَالرَّبِيعُ بْنُ سَبْرَةَ وَالْبَرَاءُ وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ هُمْ حَفْصَةُ وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو مُوسَى
قَالَ المنذري
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فَكَيْفَ يُطْلَق الْجَوَاب عَمَّا يَجُوز وَيُشْرَع
وَمَا لَا يَحِلّ وَلَا يَصِحّ إِطْلَاقًا وَاحِدًا هَذَا مما ينزه عنه آحاد أمته فضلا عنه وَمَعْلُوم أَنَّ مَنْ سُئِلَ عَنْ أَمْر يَشْتَمِل عَلَى جَائِز وَمُحَرَّم وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّن لِلسَّائِلِ جَائِزه مِنْ حَرَامه وَلَا يُطْلَق الْجَوَاز وَالْمَشْرُوعِيَّة عَلَيْهِ إِطْلَاقًا وَاحِدًا
الثَّالِث أَنَّ النَّبِيّ قَدْ اِعْتَمَرَ قَبْل ذَلِكَ ثَلَاث عُمَر كُلّهنَّ فِي أَشْهُر الْحَجّ وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ الْخَاصّ وَالْعَامّ أَفَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلّ عَلَى جَوَاز الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ الرَّابِع أن النبي قَالَ لَهُمْ عِنْد إِحْرَامهمْ مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلّ وَفِي هَذَا أَعْظَم الْبَيَان لِجَوَازِ الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ
الْخَامِس أَنَّهُ خَصَّ بِذَلِكَ الْفَسْخ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْي وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْي فَأَمَرَهُ بِالْبَقَاءِ عَلَى إِحْرَامه وَأَنْ لَا يَفْسَخ فَلَوْ كَانَ الْمُرَاد مَا ذَكَرُوهُ لَعَمَّ الْجَمِيع بِالْفَسْخِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْهَدْيِ أَثَر أَصْلًا فَإِنَّ سَبَب الْفَسْخ عِنْدهمْ الْإِعْلَام الْمُجَرَّد بِالْجَوَازِ وَهَذَا الْإِعْلَام لَا تَأْثِير لِلْهَدْيِ فِي الْمَنْع مِنْهُ
السَّادِس أَنَّ طُرُق الْإِعْلَام بِجَوَازِ الِاعْتِمَار فِي أَشْهُر الْحَجّ أَظْهَر وَأَبْيَن قَوْلًا وَفِعْلًا مِنْ الْفَسْخ فكيف يعدل عَنْ الْإِعْلَام بِأَقْرَب الطُّرُق وَأَبْيَنهَا وَأَسْهَلهَا وَأَدَلّهَا إِلَى الْفَسْخ الَّذِي لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِعْلَام وَالْخُرُوج مِنْ نُسُك إِلَى نُسُك وَتَعْوِيضهمْ بِسَعَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِمُجَرَّدِ الْإِعْلَام الْمُمْكِن الحصول بأقرب الطرق وقد بين ذَلِكَ غَايَة الْبَيَان بِقَوْلِهِ وَفِعْله فَلَمْ يُحِلّهُمْ بِالْإِعْلَامِ عَلَى الْفَسْخ
السَّابِع أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْفَسْخ لِلْإِعْلَامِ الْمَذْكُور لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا على داوم مَشْرُوعِيَّته إِلَى يَوْم(5/144)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الْقِيَامَة فَإِنَّ مَا شُرِعَ فِي الْمَنَاسِك لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ مَشْرُوع أَبَدًا كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَة لِقُرَيْشٍ وَغَيْرهمْ وَالدَّفْع مِنْ مُزْدَلِفَة قَبْل طُلُوع الشَّمْس
الثَّامِن أَنَّ هَذَا الْفَسْخ وَقَعَ فِي آخِر حَيَاة النبي ولم يجيء عَنْهُ كَلِمَة قَطّ تَدُلّ عَلَى نَسْخه وَإِبْطَاله وَلَمْ تُجْمِع الْأُمَّة بَعْده عَلَى ذَلِكَ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبهُ كَقَوْلِ حَبْر الْأُمَّة وَعَالِمهَا عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس وَمَنْ وَافَقَهُ وَقَوْل إِسْحَاق وَهُوَ قَوْل الظَّاهِرِيَّة وَغَيْرهمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يستحبه ويراه سنة رسول الله كَقَوْلِ إِمَام أَهْل السُّنَّة أَحْمَد بْن حَنْبَل وَقَدْ قَالَ لَهُ سَلَمَة بْن شَبِيب يَا أَبَا عَبْد اللَّه كُلّ شَيْء مِنْك حَسَن إِلَّا خَصْلَة وَاحِدَة تَقُول بِفَسْخِ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة فَقَالَ يَا سَلَمَة
كَانَ يَبْلُغنِي عَنْك أَنَّك أَحْمَق وَكُنْت أُدَافِع عَنْك وَالْآن عَلِمْت أَنَّك أَحْمَق عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِضْعَة عَشَر حديثا صحيحه عن رسول الله أَدَعهَا لِقَوْلِك وَهُوَ قَوْل الْحَسَن وَعَطَاء وَمُجَاهِد وَعُبَيْد اللَّه بْن الْحَسَن وَكَثِير مِنْ أَهْل الْحَدِيث أَوْ أَكْثَرهمْ
التَّاسِع أَنَّ هَذَا مُوَافِق لِحَجِّ خَيْر الْأُمَّة وَأَفْضَلهَا مَعَ خَيْر الْخَلْق وأفضلهم فإنه أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ إِلَى الْمُتْعَة وَهُوَ لَا يَخْتَار لَهُمْ إِلَّا الْأَفْضَل فَكَيْفَ يَكُون مَا اِخْتَارَهُ لَهُمْ هُوَ الْمَفْضُول الْمَنْقُوص بَلْ الْبَاطِل الَّذِي لَا يَسُوغ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْتَدِي بِهِمْ فِيهِ الْعَاشِر أَنَّ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ إِذَا لَمْ يَكْتَفُوا بِعَمَلِ الْعُمْرَة مَعَهُ ثَلَاثَة أَعْوَام فِي أَشْهُر الْحَجّ وَبِقَوْلِهِ لَهُمْ عِنْد الْإِحْرَام مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلّ عَلَى جَوَاز الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ فَهُمْ أَحْرَى أَنْ يَكْتَفُوا بِالْأَمْرِ بِالْفَسْخِ فِي الْعِلْم بِجَوَازِ الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُل لَهُمْ الْعِلْم بِالْجَوَازِ بِقَوْلِهِ وَفِعْله فَكَيْفَ يحصل بأمره لهم بالنسخ
الحادي عشر أن بن عَبَّاس الَّذِي رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ مِنْ أَفْجَر الْفُجُور وَأَنَّ النبي أَمَرَهُمْ لَمَّا قَدِمُوا بِالْفَسْخِ هُوَ كَانَ يَرَى وُجُوب الْفَسْخ وَلَا بُدّ بَلْ كَانَ يَقُول كُلّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ مِنْ إحرامه ما لم يكن معه هدي وبن عباس أعلم بذلك فلو كان النبي إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ لِلْإِعْلَامِ بِجَوَازِ الْعُمْرَة لَمْ يخف ذلك على بن عَبَّاس وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ كُلّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ قَارِن أَوْ حَاجّ لَا هَدْي مَعَهُ فَقَدْ حَلَّ
الثَّانِي عَشَر أَنَّهُ لَا يُظَنّ بِالصَّحَابَةِ الَّذِينَ هُمْ أَصَحّ النَّاس أَذْهَانًا وَأَفْهَامًا وَأَطْوَعهمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا جَوَاز الْعُمْرَة فِي أَشْهُر الْحَجّ وَقَدْ عَمِلُوهَا مع رسول الله ثَلَاثَة أَعْوَام وَأَذِنَ لَهُمْ فِيهَا ثُمَّ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ الْأَمْر بِالْفَسْخِ
الثَّالِث عَشَر أَنَّ النبي إِمَّا أَنْ يَكُون أَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ لِأَنَّ التَّمَتُّع أَفْضَل فَأَمَرَهُمْ بِالْفَسْخِ إِلَى أَفْضَل الْأَنْسَاك أَوْ يَكُون أَمَرَهُمْ بِهِ لِيَكُونَ نُسُكهمْ مُخَالِفًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي التَّمَتُّع فِي أَشْهُر الْحَجّ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مَشْرُوع غَيْر مَنْسُوخ إِلَى الْأَبَد(5/145)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
أَمَّا الْأَوَّل الظَّاهِر وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الشَّرِيعَة قَدْ اِسْتَقَرَّتْ وَلَا سِيَّمَا فِي الْمَنَاسِك عَلَى قَصْد مُخَالَفَة الْمُشْرِكِينَ فَالنُّسُك الْمُشْتَمِل عَلَى مُخَالَفَتهمْ أَفْضَل بِلَا رَيْب وَهَذَا وَاضِح
الرَّابِع عَشَر أَنَّ السَّائِل لِلنَّبِيِّ عُمْرَتنَا هَذِهِ لِعَامِنَا أَمْ للأبد لم يرد به أنها هل تجزىء عَنْ تَلِك السَّنَة فَقَطْ أَوْ عَنْ الْعُمْر كُلّه فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَاده ذَلِكَ لَسَأَلَ عَنْ الْحَجّ الَّذِي هُوَ فَرْض الْإِسْلَام وَمِنْ الْمَعْلُوم أَنَّ الْعُمْرَة إِنْ كَانَتْ وَاجِبَة لَمْ تَجِب فِي الْعُمْر إِلَّا مَرَّة وَاحِدَة وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُ النَّبِيّ بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَد فَإِنَّ أَبَد الْأَبَد إِنَّمَا يَكُون فِي حَقّ الْأُمَّة (قَوْمًا يَعْرِفُونَ) إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَإِنَّ الْأَبَد لَا يَكُون فِي حَقّ طَائِفَة مُعَيَّنَة بَلْ هُوَ لِجَمِيعِ الْأُمَّة وَلِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَة النَّسَائِيِّ أَلَنَا خَاصَّة أَمْ لِلْأَبَدِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا
هَلْ يَسُوغ فِعْلهَا بَعْدك عَلَى هَذَا الْوَجْه فَأَجَابَهُمْ بِأَنَّ فِعْلهَا كَذَلِكَ سَائِغ أَبَد الْأَبَد وَفِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ سُرَاقَة بْن مَالِك لقي النبي فَقَالَ أَلَكُمْ هَذِهِ خَاصَّة يَا رَسُول اللَّه قَالَ بَلْ لِلْأَبَدِ
الْخَامِس عَشَر أَنَّ النَّبِيّ أَخْبَرَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَجَّة أَنَّ كُلّ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْي فَفِي السُّنَن مِنْ حَدِيث الرَّبِيع بْن سَبْرَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رسول الله حَتَّى إِذَا كَانَ بِعُسْفَانَ قَالَ لَهُ سُرَاقَة بْن مَالِك الْمُدْلِجِيّ يَا رَسُول اللَّه اِقْضِ لَنَا قَضَاء قَوْم كَأَنَّمَا وُلِدُوا الْيَوْم فَقَالَ
إِنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْكُمْ فِي حَجّكُمْ هَذَا عُمْرَة فَإِذَا قَدِمْتُمْ فَمَنْ تَطَوَّفَ بِالْبَيْتِ وَبَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة فَقَدْ حَلَّ إِلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْي وَسَيَأْتِي الْحَدِيث
فَهَذَا نَصّ اِنْفِسَاخه شَاءَ أَمْ أَبَى كَمَا قال بن عَبَّاس وَإِسْحَاق وَمَنْ وَافَقَهُمَا وَقَوْله اِقْضِ لَنَا قَضَاء قَوْم كَأَنَّمَا وُلِدُوا الْيَوْم يُرِيد قَضَاء لَازِمًا لَا يَتَغَيَّر وَلَا يَتَبَدَّل بَلْ نَتَمَسَّك بِهِ مِنْ يَوْمنَا هَذَا إِلَى آخِر الْعُمْر
السادس عشر أن النبي لَمَّا سُئِلَ عَنْ تِلْكَ الْعُمْرَة الَّتِي فَسَخُوا إِلَيْهَا الْحَجّ وَتَمَتَّعُوا بِهَا اِبْتِدَاء فَقَالَ دَخَلَتْ الْعُمْرَة فِي الْحَجّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كَانَ هَذَا تَصْرِيحًا مِنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْم ثَابِت أَبَدًا لَا يُنْسَخ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمَنْ جَعَلَهُ مَنْسُوخًا فَهَذَا النَّصّ يَرُدّ قَوْله
وَحَمَلَهُ عَلَى الْعُمْرَة الْمُبْتَدَأَة الَّتِي لَمْ يُفْسَخ الْحَجّ إِلَيْهَا بَاطِل فَإِنَّ عُمْدَة الْفَسْخ سَبَب الْحَدِيث فَهِيَ مُرَادَة مِنْهُ نَصًّا وَمَا عَدَاهَا ظَاهِرًا وَإِخْرَاج مَحَلّ السَّبَب وَتَخْصِيصه مِنْ اللَّفْظ الْعَامّ لَا يَجُوز فَالتَّخْصِيص وَإِنْ تَطَرَّقَ إِلَى الْعُمُوم فَلَا يَتَطَرَّق إِلَى مَحَلّ السَّبَب
وَهَذَا بَاطِل
السَّابِع عَشَر أَنَّ مُتْعَة الْفَسْخ لَوْ كَانَتْ مَنْسُوخَة لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعْلُوم عِنْد الصَّحَابَة ضَرُورَة كَمَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُوم عِنْدهمْ نَسْخ الْكَلَام فِي الصَّلَاة وَنَسْخ الْقِبْلَة وَنَسْخ تَحْرِيم الطَّعَام وَالشَّرَاب عَلَى الصَّائِم بَعْد مَا يَنَام بَلْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوُقُوف بِعَرَفَة وَالدَّفْع مِنْ مُزْدَلِفَة قَبْل طُلُوع الشَّمْس فَإِنَّ هَذَا مِنْ أُمُور الْمَنَاسِك الظَّاهِرَة الْمُشْتَرِك فِيهَا أَهْل الْإِسْلَام فَكَانَ نَسْخه لَا يَخْفَى عَلَى أَحَد
وَقَدْ كان بن عَبَّاس إِذَا سَأَلُوهُ عَنْ فُتْيَاهُ بِهَا يَقُول سُنَّة نَبِيّكُمْ وَإِنْ رَغِمْتُمْ فَلَا يُرَاجِعُونَهُ فَكَيْفَ تكون منسوخة عندهم(5/146)
وَأَبُو مُوسَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وبن عَبَّاس يُخْبِر أَنَّهَا سُنَّة نَبِيّهمْ وَيُفْتِي بِهَا الْخَاصّ وَالْعَامّ وَهُمْ يُقِرُّونَهُ عَلَى ذَلِكَ هَذَا مِنْ أَبْطَل الْبَاطِل
الثَّامِن عَشَر أَنَّ الْفَسْخ قد رواه عن النبي أَرْبَعَة عَشَر مِنْ الصَّحَابَة وَهُمْ عَائِشَة وَحَفْصَة وعلي وفاطمة وأسماء بنت أبي بكر وجابر وأبو سعيد وأنس وأبو موسى والبراء وبن عَبَّاس وَسُرَاقَة وَسَبْرَة وَرَوَاهُ عَنْ عَائِشَة الْأَسْوَد بْن يَزِيد وَالْقَاسِم وَعُرْوَة وَعَمْرَة وَذَكْوَان مَوْلَاهَا
وَرَوَاهُ عَنْ جَابِر عَطَاء وَمُجَاهِد وَمُحَمَّد بْن عَلِيّ وَأَبُو الزُّبَيْر
وَرَوَاهُ عَنْ أَسْمَاء صَفِيَّة وَمُجَاهِد
وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيد أَبُو نَضْرَة
وَرَوَاهُ عَنْ الْبَرَاء أَبُو إِسْحَاق
وَرَوَاهُ عَنْ بن عُمَر سَالِم اِبْنه وَبَكْر بْن عَبْد اللَّه
ورواه عَنْ أَنَس أَبُو قِلَابَةَ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي موسى طارق بن شهاب ورواه عن بن عباس طاووس وعطاء وبن سِيرِينَ وَجَابِر بْن زَيْد وَمُجَاهِد وَكُرَيْب وَأَبُو الْعَالِيَة وَمُسْلِم الْقُرَشِيّ وَأَبُو حَسَّان الْأَعْرَج وَرَوَاهُ عَنْ سَبْرَة اِبْنه
فَصَارَ نَقْل كَافَّة عَنْ كَافَّة يُوجِب الْعِلْم وَمِثْل هَذَا لَا يَجُوز دَعْوَى نَسْخه إِلَّا بِمَا يَتَرَجَّح عَلَيْهِ أَوْ يُقَاوِمهُ
فَكَيْفَ يَسُوغ دَعْوَى نَسْخه بِأَحَادِيث لَا تُقَاوِمهُ وَلَا تُدَانِيه وَلَا تُقَارِبهُ وَإِنَّمَا هِيَ بين مجهول رواتها أو ضعفاء لا مقوم بِهِمْ حُجَّة
وَمَا صَحَّ فِيهَا فَهُوَ رَأْي صَاحِب قَالَهُ بِظَنِّهِ وَاجْتِهَاده وَهُوَ أَصَحّ مَا فِيهَا وَهُوَ قَوْل أَبِي ذَرّ كَانَتْ الْمُتْعَة لَنَا خَاصَّة وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَدْ كَفَانَا رُوَاته مُؤْنَته
فَلَوْ كَانَ مَا قَالَهُ أَبُو ذَرّ رِوَايَة صَحِيحَة ثَابِتَة مَرْفُوعَة لَكَانَ نَسْخ هَذِهِ الْأَحَادِيث الْمُتَوَاتِرَة بِهِ مُمْتَنِعًا فَكَيْفَ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْله وَمَعَ هَذَا فَقَدْ خَالَفَهُ فِيهِ عَشَرَة مِنْ الصَّحَابَة كَابْنِ عَبَّاس وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَغَيْرهمَا
التَّاسِع عَشَر أَنَّ الْفَسْخ مُوَافِق لِلنُّصُوصِ وَالْقِيَاس
أَمَّا مُوَافَقَته لِلنُّصُوصِ فَلَا رَيْب فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا مُوَافَقَته لِلْقِيَاسِ فَإِنَّ الْمُحْرِم إِذَا اِلْتَزَمَ أَكْثَر مِمَّا كَانَ اِلْتَزَمَهُ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجّ جَازَ اِتِّفَاقًا وَعَكْسه لَا يَجُوز عِنْد الْأَكْثَرِينَ وَأَبُو حَنِيفَة يُجَوِّزهُ عَلَى أَصْله فَإِنَّ الْقَارِن يَطُوف طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ فَإِذَا أَدْخَلَ الْعُمْرَة عَلَى الْحَجّ جَازَ عِنْده لِالْتِزَامِهِ طَوَافًا ثَانِيًا وَسَعْيًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُحْرِم بِالْحَجِّ لَمْ يَلْتَزِم إِلَّا الْحَجّ إِذَا صَارَ مُتَمَتِّعًا صَارَ مُلْتَزِمًا لِعُمْرَةٍ وَحَجّ فَكَانَ مَا اِلْتَزَمَهُ بِالْفَسْخِ أَكْثَر مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَجَازَ ذَلِكَ بَلْ اُسْتُحِبَّ لَهُ لِأَنَّهُ أَفْضَل وَأَكْثَر مِمَّا اِلْتَزَمَهُ أَوَّلًا
وَإِنَّمَا يَتَوَهَّم الْإِشْكَال مَنْ يَتَوَهَّم أَنَّهُ فَسْخ حَجّ إِلَى عُمْرَة وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخ الْحَجّ إِلَى عُمْرَة مُفْرَدَة لَمْ يَجُزْ عِنْد أَحَد وَإِنَّمَا يَجُوز الْفَسْخ لِمَنْ نِيَّته أَنْ يَحُجّ بَعْد مُتْعَته مِنْ عَامه وَالْمُتَمَتِّع مِنْ حِين يُحْرِم بِالْعُمْرَةِ دَخَلَ فِي الْحَجّ كَمَا قال النبي دَخَلَتْ الْعُمْرَة فِي الْحَجّ فَهَذِهِ الْمُتْعَة الَّتِي فَسَخَ إِلَيْهَا هِيَ جُزْء مِنْ الْحَجّ لَيْسَتْ عُمْرَة مُفْرَدَة وَهِيَ مِنْ الْحَجّ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوء مِنْ غُسْل الْجَنَابَة فَهِيَ عِبَادَة وَاحِدَة قَدْ تَخَلَّلَهَا الرُّخْصَة بِالْإِحْلَالِ وَهَذَا لَا يَمْنَع أَنْ تَكُون وَاحِدَة كَطَوَافِ الْإِفَاضَة فَإِنَّهُ مِنْ(5/147)
وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي وبن مَاجَهْ
[1788] (اجْعَلُوهَا عُمْرَةً) خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ أَيِ افْسَخُوهُ إِلَى الْعُمْرَةِ لِبَيَانِ مُخَالَفَةِ كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ والنسائي وبن مَاجَهْ مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
تَمَام الْحَجّ وَلَا يُفْعَل إِلَّا بَعْد التَّحَلُّل الْأَوَّل وَكَذَلِكَ رَمْي الْجِمَار أَيَّام مِنًى مِنْ تَمَام الْحَجّ وَهُوَ يُفْعَل بَعْد التَّحَلُّل التَّامّ
وقول النبي مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْت فَلَمْ يَرْفُث وَلَمْ يَفْسُق يَتَنَاوَل مَنْ حَجَّ حَجَّة تَمَتَّعَ فِيهَا بِالْعُمْرَةِ وَإِنْ تَحَلَّلَ مِنْ إِحْرَامه وَلَمْ تَكُنْ حجته مكية إذ لا ينقلهم الرؤوف الرَّحِيم بِهِمْ مِنْ الْفَاضِل الرَّاجِح إِلَى الْمَفْضُول النَّاقِص بَلْ إِنَّمَا نَقَلَهُمْ مِنْ الْمَفْضُول إِلَى الْفَاضِل الْكَامِل لَا يَجُوز غَيْر هَذَا الْبَتَّة
الْعِشْرُونَ أَنَّ الْقِيَاس أَنَّهُ إِذَا اِجْتَمَعَتْ عِبَادَتَانِ كُبْرَى وَصُغْرَى فَالسُّنَّة تَقْدِيم الصُّغْرَى عَلَى الْكُبْرَى منهما ولهذا كان النبي يَبْدَأ فِي غُسْل الْجَنَابَة الْوُضُوء أَوَّلًا ثُمَّ يُتْبِعهُ الْغُسْل وَقَالَ فِي غُسْل اِبْنَته اِبْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِع الْوُضُوء مِنْهَا فَنَسْخ الْحَجّ إِلَى الْعُمْرَة يَتَضَمَّن مُوَافَقَة هَذِهِ السُّنَّة
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُوَافِق لِلنُّصُوصِ وَالْقِيَاس وَلِحَجِّ خِيَار الْأُمَّة مع نبيها وَلَوْ لَمْ يُمْكِن فِيهِ نَصّ لَكَانَ الْقِيَاس يَدُلّ عَلَى جَوَازه مِنْ الْوُجُوه الَّتِي ذَكَرْنَا وَغَيْرهَا وَلَوْ تَتَبَّعْنَا أَدِلَّة جَوَازه لَطَالَتْ
وَفِي هَذَا كِفَايَة وَالْحَمْد لِلَّهِ
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدين بن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه وَفِيهِ اِكْتِفَاء الْمُتَمَتِّع بِسَعْيٍ وَاحِد كَمَا تَقَدَّمَ
وَاَللَّه أَعْلَم(5/148)
[1789] (ثُمَّ يُقَصِّرُوا) لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْحَلْقِ لِيَتَوَفَّرَ الشَّعْرُ يَوْمَ الْحَلْقِ لِأَنَّهُمْ يُحِلُّونَ بَعْدَ قَلِيلٍ بِالْحَجِّ لِأَنَّ بَيْنَ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ وَبَيْنَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فَقَطْ (أَنَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى) بِالْهَمْزَةِ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّعَجُّبِيِّ (وَذُكُورُنَا تَقْطُرُ) هُوَ بَابُ الْمُبَالَغَةِ أَيْ نُفْضِي إِلَى مُجَامَعَةِ النِّسَاءِ ثُمَّ نُحْرِمُ بِالْحَجِّ عَقِبَ ذَلِكَ فَنَخْرُجُ وَذَكَرُ أَحَدِنَا لِقُرْبِهِ بِالْجِمَاعِ يَقْطُرُ مَنِيًّا وَحَالَةُ الْحَجِّ تُنَافِي التَّرَفُّهَ وَتُنَاسِبُ الشَّعَثَ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ (فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَعْنِي بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُمْ هَذَا وَأَنَّهُمْ تَمَتَّعُوا بِهِ وَقُلُوبُهُمْ لَا تَطِيبُ بِهِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُتَمَتِّعٍ وَكَانُوا يُحِبُّونَ مُوَافَقَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ مُبْهَمًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ جَائِزٌ وَصَاحِبَهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ صَرَفَهُ إِلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَإِنْ شَاءَ إِلَى أَحَدِهِمَا
[1790] (هَذِهِ عَمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يَحْتَجُّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا وَتَأَوَّلَهُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى خِلَافِهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْ تَمَتَّعَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَدْ كَانَ فِيهِمُ الْمُتَمَتِّعُ وَالْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ الرَّئِيسُ مِنْ قَوْمِهِ فَعَلْنَا كَذَا وَصَنَعْنَا كَذَا وَلَوْ لَمْ تُبَاشِرْ نَفْسُهُ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ فِعْلِ أَصْحَابِهِ يُضِيفُهَا إِلَى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَفْعَالُهُمْ صَادِرَةٌ عَنْ رَأْيِهِ مُنْصَرِفَةٌ إِلَى إِذْنِهِ (وَقَدْ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَوْله دَخَلَتْ الْعُمْرَة فِي الْحَجّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا رَيْب فِي أَنَّهُ مِنْ كَلَام رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم(5/149)
مُخْتَلَفٌ فِي تَأْوِيلِهِ يَتَنَازَعُهُ الْفَرِيقَانِ مُوجِبُوهَا وَنَافُوهَا فَرْضًا فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ كَوُجُوبِ الْحَجِّ عمر وبن عباس وبه قال عطاء وطاووس ومجاهد والحسن وبن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير وإلى إيجابها ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ فِي الْعُمْرَةِ سَمِعْنَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ قُلْتُ فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ قَوْلِهِ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ لِمَنْ لَا يَرَاهَا وَاجِبَةً أَنَّ فَرْضَهَا سَاقِطٌ بِالْحَجِّ وَهُوَ مَعْنَى دُخُولِهَا فِيهِ وَمَنْ أَوْجَبَهَا يَتَأَوَّلُ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَمَلَ الْعُمْرَةِ قَدْ دَخَلَ فِي عَمَلِ الْحَجِّ فَلَا يُرَى عَلَى الْقَارِنِ أَكْثَرَ مِنْ طَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ كَمَا لَا يَرَى عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ إِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ وَشُهُورِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ (هَذَا مُنْكَرٌ) أَيْ رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مُنْكَرٌ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَفِيمَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ نَظَرٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ أَيْضًا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَمُعَاذٌ الْعَنْبَرِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَعُمَرُ بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ شُعْبَةَ مَرْفُوعًا وَتَقْصِيرُ مَنْ يَقْصُرُ بِهِ مِنَ الرُّوَاةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَا أَثْبَتَهُ الْحُفَّاظُ انْتَهَى
[1791] (عَنِ النَّهَّاسِ) بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الْهَاءِ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِ الْحَدِيثِ النَّهَّاسُ بْنُ قَهْمٍ أَبُو الْخَطَّابِ الْبَصْرِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ انْتَهَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
يقل أحد أنه من قول بن عَبَّاس وَكَذَلِكَ قَوْله هَذِهِ عُمْرَة تَمَتَّعْنَا بِهَا وَهَذَا لَا يَشُكّ فِيهِ مَنْ لَهُ أَدْنَى خِبْرَة بِالْحَدِيثِ
وَاَللَّه أَعْلَم
قَالَ الْحَافِظ شَمْس الدين بن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه وَالتَّعْلِيل الَّذِي تَقَدَّمَ لِأَبِي دَاوُدَ فِي قَوْله هَذَا حَدِيث مُنْكَر إِنَّمَا هو لحديث عطاء هذا عن بن عَبَّاس يَرْفَعهُ إِذَا أَهَلَّ الرَّجُل بِالْحَجِّ فَإِنَّ هذا قول بن عَبَّاس الثَّابِت عَنْهُ بِلَا رَيْب رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو الشَّعْثَاء وَعَطَاء وَأَنَس بْن سَلِيم وَغَيْرهمْ مِنْ كَلَامه فَانْقَلَبَ عَلَى النَّاسِخ فَنَقَلَهُ إِلَى حديث مجاهد عن بن عَبَّاس وَهُوَ إِلَى جَانِبه وَهُوَ حَدِيث صَحِيح لَا مَطْعَن فِيهِ وَلَا عِلَّة وَلَا يُعَلِّل أَبُو دَاوُدَ مِثْله وَلَا(5/150)
[1792] (وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ الْهَدْيِ) فِيهِ أَنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْ عَمَلِ الْعُمْرَةِ حَتَّى يُهِلَّ بِالْحَجِّ وَيَفْرُغَ مِنْهُ وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي الشَّوَاهِدِ
[1793] (يَنْهَى عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مَقَالٌ وَقَدِ اعْتَمَرَ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
مَنْ هُوَ دُون أَبِي دَاوُدَ وَقَدْ اِتَّفَقَ الْأَئِمَّة الْأَثْبَات عَلَى رَفْعه وَالْمُنْذِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه رَأَى ذَلِكَ فِي السُّنَن فَنَقَلَهُ كَمَا وَجَدَهُ وَالْأَمْر كَمَا ذَكَرْنَا
وَاَللَّه أَعْلَم
قَالَ الْحَافِظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وهذا الْحَدِيث بَاطِل وَلَا يَحْتَاج تَعْلِيله إِلَى عَدَم سماع بن المسيب من عمر فإن بن المسيب إذا قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حُجَّة
قَالَ الْإِمَام أَحْمَد إِذَا لَمْ يُقْبَل سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ عُمَر فَمَنْ يُقْبَل وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد بْن حَزْم هَذَا حَدِيث فِي غَايَة الْوَهْي وَالسُّقُوط لِأَنَّهُ مُرْسَل عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ وَفِيهِ أَيْضًا ثَلَاثَة مجهولون أبو عيسى الخرساني وَعَبْد اللَّه بْن الْقَاسِم وَأَبُوهُ فَفِيهِ خَمْسَة عُيُوب وَهُوَ سَاقِط لَا يَحْتَجّ بِهِ مَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْم وَقَالَ عَبْد الْحَقّ هَذَا مُنْقَطِع ضَعِيف الْإِسْنَاد(5/151)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَتَيْنِ قَبْلَ حَجِّهِ وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمَعْلُومُ لَا يُتْرَكُ بِالْأَمْرِ الْمَظْنُونِ وَجَوَازُ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يُذْكَرُ فِيهِ خِلَافٌ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْهُ اخْتِيَارًا وَاسْتِحْبَابًا وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْحَجِّ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْأَمْرَيْنِ وَأَهَمُّهُمَا وَوَقْتُهُ مَحْصُورٌ وَالْعُمْرَةُ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مُؤَقَّتٌ وَأَيَّامُ السَّنَةِ كُلُّهَا تَتَّسِعُ لِذَلِكَ وَقَدَّمَ اللَّهُ اسْمَ الْحَجِّ عَلَيْهَا فَقَالَ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ والعمرة لله انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
[1794] (خَيْوَانِ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُقَالُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْهُنَائِيُّ بِضَمِّ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ (مِمَّنْ قَرَأَ) الْقُرْآنَ وَغَيْرَ ذَلِكَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الصَّحَابِيِّ فَأَبُو شَيْخٍ يَرْوِي عَنْ أَبِي مُوسَى وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ (مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ) هَذِهِ صِفَةٌ لِأَبِي شَيْخٍ أَيْ هُوَ بَصْرِيٌّ (جُلُودِ النُّمُورِ) جَمْعُ نِمْرٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَهُوَ سَبُعٌ أَخْبَثُ وَأَجْرَأُ مِنَ الْأَسَدِ (أَمَّا هَذَا) أَيِ النَّهْيُ عَنِ الْقِرَانِ (فَقَالَ) مُعَاوِيَةُ (أَمَا) حَرْفُ التَّنْبِيهِ (إِنَّهَا) أَيِ الْعُمْرَةُ مَعَ الْحَجِّ وَهُوَ الْقِرَانُ (مَعَهُنَّ) أَيْ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّهْيِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ جَوَازُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِجْمَاعٌ من الأمة
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَالَ عَبْد الْحَقّ لَمْ يَسْمَع أَبُو شَيْخ مِنْ مُعَاوِيَة هَذَا الْحَدِيث وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْهُ النَّهْي عَنْ رُكُوب جُلُود النُّمُور فَأَمَّا النَّهْي عَنْ الْقِرَان فَسَمِعَهُ مِنْ أَبِي حَسَّان عَنْ مُعَاوِيَة بْن مُرَّة يَقُول عَنْ أَخِيهِ حِمَّان وَمَرَّة يَقُول جِمَّان وَهُمْ مَجْهُولُونَ وَقَالَ بن الْقَطَّانِ يَرْوِيه عَنْ أَبِي شَيْخ رَجُلَانِ قَتَادَة وَمُطَرِّف لَا يَجْعَلَانِ بَيْن أَبِي شَيْخ وَبَيْن مُعَاوِيَة أَحَدًا وَرَوَاهُ عَنْهُ بَيْهَس بْن فَهْدَان فَذَكَرَ سَمَاعه مِنْ مُعَاوِيَة لَفْظ النَّهْي عَنْ رُكُوب جُلُود النُّمُور خَاصَّة
قَالَ النَّسَائِيُّ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي شَيْخ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير فَأَدْخَلَ بَيْنه وَبَيْن مُعَاوِيَة رَجُلًا اِخْتَلَفُوا فِي ضَبْطه
فَقِيلَ أَبُو حَمَّاز وَقِيلَ حِمَّان وَهُوَ أَخُو أَبِي شَيْخ
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْقَوْل قَوْل مَنْ لَمْ يُدْخِل بَيْن أَبِي شَيْخ وَمُعَاوِيَة فِيهِ أَحَدًا يَعْنِي قَتَادَة وَمُطَرِّفًا وَبَيْهَس بْن فهدان(5/152)
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى جَوَازِ شَيْءٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَلَمْ يُوَافِقِ الصَّحَابَةُ مُعَاوِيَةَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يُسَاعِدُوهُ عَلَيْهَا وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ حِينَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي حَجَّتِهِ بِالْإِحْلَالِ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَكَانَ قَارِنًا فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ فَحَمَلَ مُعَاوِيَةُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ عَلَى الْهَدْيِ انْتَهَى
قَالَ السِّنْدِيُّ لَمْ يُوَافِقِ الصَّحَابَةُ مُعَاوِيَةَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَإِنْ ثَبَتَ يُحْمَلُ عَلَى الْأَفْضَلِ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَانِ أَيْ عَلَى بَعْضِ الْمَذَاهِبِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَرُوِيَ كَمَا ذَكَرْنَا وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِي شَيْخٍ عَنْ أَخِيهِ حِمَّانَ وَيُقَالُ أَبُو حِمَّانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَرُوِيَ عَنْ بَيْهَسِ بْنِ فَهْدَانَ عَنْ أَبِي شَيْخٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ بَيْهَسٍ عَنْ أَبِي
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَالَ غَيْره أَبُو شَيْخ هَذَا لَمْ نَعْلَم عَدَالَته وَحِفْظه وَلَوْ كَانَ حَافِظًا لَكَانَ حَدِيثه هَذَا مَعْلُوم الْبُطْلَان إِذْ هُوَ خِلَاف الْمُتَوَاتِر عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْله وَقَوْله فَإِنَّهُ أَحْرَمَ قَارِنًا رَوَاهُ عَنْهُ سِتَّة عَشَر نَفْسًا مِنْ أَصْحَابه وَخَيَّرَ أَصْحَابه بَيْن الْقِرَان وَالْإِفْرَاد وَالتَّمَتُّع وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَى جَوَازه
وَلَوْ فُرِضَ صِحَّة هَذَا عَنْ مُعَاوِيَة فَقَدْ أَنْكَرَ الصَّحَابَة عَلَيْهِ أَنْ يَكُون رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ فَلَعَلَّهُ وَهِمَ أَوْ اِشْتَبَهَ عَلَيْهِ نَهْيه عَنْ مُتْعَة النِّسَاء بِمُتْعَةِ الْحَجّ كَمَا اِشْتَبَهَ عَلَى غَيْره
وَالْقِرَان دَاخِل عِنْدهمْ فِي اِسْم الْمُتْعَة وَكَمَا اِشْتَبَهَ عَلَيْهِ تَقْصِيره عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض عُمَره بِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَجَّته وَكَمَا اِشْتَبَهَ على بن عَبَّاس نِكَاح رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَيْمُونَةَ فَظَنَّ أَنَّهُ نَكَحَهَا مُحْرِمًا وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ أَبَا رَافِع إِلَيْهَا وَنَكَحَهَا وَهُوَ حلال فاشتبه الأمر على بن عَبَّاس
وَهَذَا كَثِير
وَوَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ سُنَن أَبِي دَاوُدَ نَهَى أَنْ يُفَرَّق بَيْن الحج والعمرة بالفاء والقاف
قال بن حَزْم هَكَذَا رِوَايَتِي عَنْ عَبْد اللَّه بْن رَبِيع وَهَكَذَا فِي كِتَابه وَهُوَ وَاَللَّه أَعْلَم وَهْم وَالْمَحْفُوظ يُقْرَن فِي هَذَا الْحَدِيث
تَمَّ كَلَامه
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنه قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ أَخْبَرَنَا يَزِيد بْن هَارُون أَخْبَرَنَا شَرِيك بْن أَبِي فَرْوَة عَنْ الْحَسَن قَالَ خَطَبَ مُعَاوِيَة النَّاس فَقَالَ إِنِّي مُحَدِّثكُمْ بِحَدِيثٍ سَمِعْته مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عليه وسلم فصدقوني سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول لَا تَلْبَسُوا الذَّهَب إِلَّا مُقَطَّعًا قَالُوا سَمِعْنَا قَالَ وَسَمِعْته يَقُول مَنْ رَكِبَ جُلُود النُّمُور لَمْ تَصْحَبهُ الْمَلَائِكَة قَالُوا سَمِعْنَا قَالَ وَسَمِعْته يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَة قَالُوا لَمْ نَسْمَع
فَقَالَ بَلَى وَإِلَّا فَصَمْتًا فَهَذَا أَصَحّ مِنْ حَدِيث أَبِي شَيْخ
وَإِنَّمَا فِيهِ النَّهْي عَنْ الْمُتْعَة وَهِيَ وَاَللَّه أَعْلَم مُتْعَة النِّسَاء فَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا مُتْعَة الْحَجّ وَالْقِرَان مُتْعَة فَرَوَاهُ بِالْمَعْنَى فَأَخْطَأَ خَطَأ فَاحِشًا
وَعَلَى كُلّ حَال فَلَيْسَ أَبُو شَيْخ مِمَّنْ يُعَارَض بِهِ كِبَار الصَّحَابَة الَّذِينَ رَوَوْا الْقِرَان عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْبَاره أَنَّ الْعُمْرَة دَخَلَتْ فِي الْحَجّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّة عَلَيْهِ
وَاَللَّه أَعْلَم(5/153)
شَيْخٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ
وَاخْتَلَفُوا عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِيهِ فَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِي شَيْخٍ عَنْ أَخِيهِ وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حِمَّانَ وَرُوِيَ عَنْهُ حَدَّثَنِي حِمْرَانُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَسَمَّاهُ حِمْرَانَ انْتَهَى كَلَامُهُ
4 - (بَاب فِي الْإِقْرَانِ)
[1795] (يَقُولُ لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا) هُوَ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ حَجَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ كَانَ قِرَانًا وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو قِلَابَةَ وَحُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّوِيلُ وَقَتَادَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَثَابِتٌ الْبَنَانِيُّ وَبَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ وَسُلَيْمَانُ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَمُصْعَبُ بْنُ سُلَيْمٍ وَأَبُو قُدَامَةَ عَاصِمُ بْنُ حُسَيْنٍ وَسُوَيْدُ بْنُ حُجْرٍ الْبَاهِلِيُّ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ
وَالْحَدِيثُ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِالْقِرانِ وَقَدْ قَدَّمْنَا أن الصحيح المختار في حجة النبي أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ إِحْرَامِهِ مُفْرِدًا ثُمَّ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فَصَارَ قَارِنًا وَجَمَعْنَا بين الأحاديث أحسن جمع
فحديث بن عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَوَّلِ إحرامه وَحَدِيثُ أَنَسٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَوَاخِرِهِ وَأَثْنَائِهِ وَكَأَنَّهُ لم يسمعه أولا ولابد مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَوْ نَحْوِهِ لِيَكُونَ رِوَايَتُهُ مُوَافِقَةً لِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ والنسائي وبن مَاجَهْ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا
[1796] (بَاتَ بِهَا) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْمَبِيتِ بِمِيقَاتِ الْإِحْرَامِ (حَتَّى أَصْبَحَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ إِهْلَالَهُ كَانَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ لَكِنْ عِنْدَ مسلم من طريق أبي حسان عن بن عباس أن النبي صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ فَأَشْعَرَهَا ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَلَمَّا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ
وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ الحسن عن أنس أنه صلى الظهر بالبيداء ثم ركب ومجمع(5/154)
بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ صَلَّاهَا فِي آخِرِ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَوَّلِ الْبَيْدَاءِ
قَالَهُ الْحَافِظُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ) أَيْ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ لَا حَالَ وَضْعِ الرِّجْلِ مَثَلًا فِي الرِّكَابِ (ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالتَّسْبِيحِ وغيره عن التلبية ووجه ذلك أنه أَتَى بِالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِهِ حَتَّى لَبَّى (وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا) فِيهِ اسْتِحْبَابُ أَنْ تَكُونَ تَلْبِيَةُ النَّاسِ بَعْدَ تَلْبِيَةِ كَبِيرِ الْقَوْمِ (إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) بِضَمِّ يَوْمٍ لِأَنَّ كَانَ تَامَّةٌ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ كَذَا فِي الْفَتْحِ (قِيَامًا) فِيهِ اسْتِحْبَابُ نَحْرِ الْإِبِلِ قَائِمَةً (تَفَرَّدَ بِهِ يَعْنِي أَنَسًا) وَتَفَرُّدُ الصَّحَابَةِ لَا يَضُرُّ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ عُدُولٌ وَزِيَادَاتُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ مُعْتَبَرَةٌ
وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابُ التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الْإِهْلَالِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه البخاري بنحوه
[1797] (ثيابا صبيغا) فعيل ها هنا بِمَعْنَى مَفْعُولٌ أَيْ مَصْبُوغَاتٍ (وَقَدْ نَضَحَتْ) بِفَتْحِ النُّونِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ (بِنَضُوحٍ) بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمَّ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَ الْوَاوِ حَاءٌ مهملة وهي ضرب من الطيب تفوح رائحة (فقالت) ها هنا كَلَامٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا صَبْغَ ثِيَابِهَا وَنَضْحَ بَيْتِهَا بِالطِّيبِ فَقَالَتْ (قَدْ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَحَلُّوا) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَوَجَدَ فَاطِمَةَ مِمَّنْ حلت(5/155)
وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا قَالَتْ أَمَرَنِي أَبِي بِهَذَا (فَقَالَ لِي انْحَرْ مِنَ الْبُدْنِ) هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَلَا يَخْلُو مِنَ الْوَهْمِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَيِ انْحَرْ أَنْتَ عَنِّي وَعَنْ نَفْسِي مِنَ الْبُدْنِ سِتًّا وَسِتِّينَ وَانْحَرْ بَقِيَّةً مِنْ هَذَا الْعَدَدِ لِنَفْسِكَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّحْرُ لِكُلٍّ مِنَ الْبَدَنَةِ بِيَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه لكن قد ثبت أنه نَحَرَ غَالِبَ الْعَدَدِ لِنَفْسِهِ بِيَدِهِ كَمَا سَيَجِيءُ أو المراد هييء لِنَحْرِي وَأَحْضِرْنِي فِي الْمَنْحَرِ لِكَيْ أَنْحَرَ هَذَا الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ بِيَدِي وَانْحَرْ أَنْتَ هَذَا الْعَدَدَ بِيَدِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (أَوْ سِتًّا وَسِتِّينَ) وَكَانَ جُمْلَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ اليمين وَالَّذِي أَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
وَفِي لَفْظِ لِمُسْلِمٍ فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ
قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ جَمِيعِ الرُّوَاةِ إِنَّ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ لَا مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ (بَضْعَةً) بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ وَطُبِخَتْ فَأَكَلَ هُوَ وَعَلِيٌّ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا
وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ إِنَّ حَجَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قِرَانًا وَهُوَ وَاضِحٌ لِأَنَّهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ نَوَاهُ وَقَصَدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِحْرَامِ مُعَلَّقًا وَعَلَى جَوَازِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْهَدْيِ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ مِنْ لَحْمِ هَدْيِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مُسْلِمٌ وَأَخْرَجَهُ جَمَاعَةٌ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثُهُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى حَدِيثِ النَّاسِ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَقَرَنْتُ وَلَيْسَ ذلك فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَصْفُ قُدُومِ عَلِيٍّ وَإِهْلَالِهِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ سَنَدًا وَأَحْسَنُ سِيَاقًا وَمَعَ حَدِيثِ جَابِرٍ حَدِيثُ أَنَسٍ يُرِيدُ أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ ذُكِرَ فِيهِ قُدُومُ عَلِيٍّ ذَكَرَ إِهْلَالَهُ وَلَيْسَ فِيهِ قَرَنْتُ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهَذِهِ القصة مذكورة في حديث جابر الطويل
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَمَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب حَقّ التَّأَمُّل جَزَمَ جَزْمًا لَا رَيْب فيه إن النبي صلى الله عليه وسلم أَحْرَمَ فِي حَجَّته قَارِنًا وَلَا تَحْتَمِل الْأَحَادِيث غَيْر ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه أَصْلًا
قَالَ الْإِمَام أَحْمَد لَا أَشُكّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا
تَمَّ كَلَامه
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ذَلِكَ خَمْسَة عَشَر مِنْ أَصْحَابه وَهُمْ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَعَائِشَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ وَعَبْد اللَّه بْن عُمَر وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَعَبْد اللَّه بْن عَبَّاس وَعِمْرَان بْن حُصَيْنٍ وَالْبَرَاء بْن عَازِب وَحَفْصَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَس بن مالك(5/156)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وأبو قتادة وبن أَبِي أَوْفَى فَهَؤُلَاءِ صَحَّتْ عَنْهُمْ الرِّوَايَة بِغَايَةِ الْبَيَان وَالتَّصْرِيح
وَرَوَاهُ الْهِرْمَاس بْن زِيَاد وَسُرَاقَة بْن مَالِك وَأَبُو طَلْحَة وَأُمّ سَلَمَة لَكِنْ رَوَتْ أُمّ سَلَمَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَهْله بِالْقِرَانِ
وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ لَفْظه فِي إِهْلَاله بِنُسُكِهِ أَنَّهُ قَالَ لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَة كَأَنَسٍ
وَهُوَ مُتَّفَق عَلَى صِحَّته وَكَعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب فَإِنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِهِمَا جَمِيعًا وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالنَّسَائِيِّ وَسُنَن أَبِي دَاوُدَ وَلَفْظ أَصْحَاب الصَّحِيح أَنَّ عَلِيًّا أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَة وَقَالَ مَا كُنْت لِأَدَع سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ أَحَد
فَقَدْ أَخْبَرَ عَلِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا وَأَهَلَّ هُوَ بِهِمَا جَمِيعًا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا سُنَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَافَقَهُ عُثْمَان عَلَى ذَلِكَ
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ خَبَره صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسه بِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا وَهُمْ الْبَرَاء بْن عَازِب فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظه أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ إِنِّي سُقْت الْهَدْي وَقَرَنْت وَهُوَ حَدِيث صَحِيح رَوَاهُ أَهْل السُّنَن
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّفْظِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ رَبّه وَهُوَ أَنْ يَقُول عُمْرَة فِي حَجَّة كَعُمَر بْن الْخُطَّاب
وَحَمْل ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ بِتَعْلِيمِهِ كَلَام فِي غَايَة الْبُطْلَان
وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيَاق الْحَدِيث وَلَفْظه وَمَقْصُوده عَلِمَ بُطْلَان هَذَا التَّأْوِيل الْفَاسِد
وَقَوْلهمْ إِنَّ الرِّوَايَة الصَّحِيحَة قُلْ عُمْرَة وَحَجَّة وَأَنَّهُ فُصِلَ بَيْنهمَا بِالْوَاوِ
فَهُوَ صَرِيح فِي نَفْس الْقِرَان فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنهمَا فِي إِحْرَامه وَامْتَثَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْر رَبّه وَهُوَ أَحَقّ مَنْ اِمْتَثَلَهُ فَقَالَ لَبَّيْكَ عُمْرَة وَحَجًّا بِالْوَاوِ
وَقَوْلهمْ يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِهِ أَنَّهُ يُحْرِم بِعُمْرَةٍ إِذَا فَرَغَ مِنْ حَجَّته قَبْل أَنْ يَرْجِع إِلَى مَنْزِله فَعِيَاذًا بِاَللَّهِ مِنْ تَقْلِيد يُوقِع فِي مِثْل هَذِهِ الْخَيَالَات الْبَاطِلَة فَمِنْ الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِر بَعْد حَجَّته قَطّ هَذَا مَا لَا يَشُكّ فِيهِ مَنْ لَهُ أَدْنَى إِلْمَام بِالْعِلْمِ وَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقّ الْخَلْق بِامْتِثَالِ أَمْر رَبّه فَلَوْ كَانَ أَمَرَ أَنْ يَعْتَمِر بَعْد الْحَجّ كَانَ أَوْلَى الْخَلْق بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى ذَلِكَ وَلَا رَيْب أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتَمَرَ مَعَ حَجَّته فَكَانَتْ عُمْرَته مَعَ الْحَجّ لَا بَعْده قَطْعًا
وَنُصْرَة الْأَقْوَام إِذَا أَفْضَتْ بِالرَّجُلِ إِلَى هَذَا الْحَدّ ظَهَرَ قُبْحهَا وَفَسَادهَا
وَقَوْلهمْ مَحْمُول عَلَى تَحْصِيلهمَا مَعًا
قُلْنَا أَجَل وَقَدْ حَصَّلَهُمَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا بِالْقِرَانِ عَلَى الْوَجْه الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسه وَتَبِعَهُ أَصْحَابه مِنْ إِهْلَاله وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ فِعْله وَهُوَ عِمْرَان بْن حُصَيْنٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ جَمَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن حَجَّة وَعُمْرَة وَتَأْوِيل هَذَا بِأَنَّهُ أَمْر أَوْ إِذْن فِي غَايَة الْفَسَاد وَلِهَذَا قَالَ تَمَتَّعَ وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ فَأَخْبَرَ عَنْ فِعْله وَفِعْلهمْ
وَسُمِّيَ الْقِرَان تَمَتُّعًا وَهُوَ لُغَة الصَّحَابَة كَمَا سَيَأْتِي
وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ إِهْلَاله بِهِمَا أَحَدهمَا بَعْد الْآخَر وَهُمْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر وَعَائِشَة فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُمَا وَبَدَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَعَنْ عَائِشَة مِثْله
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِعْتَمَرَ أَرْبَع عُمَر الرَّابِعَة مَعَ حَجَّته وَمِنْ الْمَعْلُوم ضَرُورَة أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِر بَعْد الْحَجّ فَكَانَتْ عُمْرَته مَعَ حَجَّته قَطْعًا
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِثْله عَنْ أنس
واتفق ستة عشرة(5/157)
فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
نَفْسًا مِنْ الثِّقَات عَنْ أَنَس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا وَهُمْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَأَبُو قِلَابَةَ وَحُمَيْدُ بْن هِلَال وَحُمَيْدُ بْن عَبْد الرَّحْمَن الطَّوِيل وَقَتَادَة وَيَحْيَى بْن سَعِيد الْأَنْصَارِيّ وَثَابِت الْبُنَانِيُّ وَبَكْر بْن عَبْد اللَّه الْمُزَنِيُّ وَعَبْد الْعَزِيز بْن صُهَيْب وَسُلَيْمَان التَّيْمِيُّ وَيَحْيَى بْن أَبِي إِسْحَاق وَزَيْد بْن أَسْلَم وَمُصْعَب بْن سُلَيْمٍ وَأَبُو أَسْمَاء وَأَبُو قَدَامَة وَأَبُو قَزَعَة الْبَاهِلِيّ
وَرَوَى البزار من حديث بن أَبِي أَوْفَى قَالَ إِنَّمَا جَمَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَحُجّ بَعْد عَامه ذَلِكَ
وَرَوَى أَبُو الْقَاسِم الْبَغَوِيُّ مِنْ حَدِيث سفيان بن عيينة عن بن أَبِي خَالِد أَنَّهُ سَمِعَ عَبْد اللَّه بْن أَبِي قَتَادَة يَقُول إِنَّمَا جَمَعَ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم بن الْحَجّ وَالْعُمْرَة لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَحُجّ بَعْدهَا
وَرَوَى الْإِمَام أَحْمَد فِي مُسْنَده مِنْ حَدِيث الْهِرْمَاس بْن زِيَاد أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَة
وروى بن أَبِي شَيْبَة حَدَّثَنَا شَبَّابَة حَدَّثَنَا اللَّيْث بْن سَعْد عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب عَنْ أَبِي عِمْرَان قَالَ دَخَلْت عَلَى أُمّ سَلَمَة أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول أَهِلُّوا يَا آل مُحَمَّد بِعُمْرَةٍ وَحَجّ
وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَار لِآلِهِ إِلَّا أَفْضَل الْأَنْسَاك وَهُوَ الَّذِي اِخْتَارَهُ لِعَلِيٍّ وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسه أَنَّهُ فَعَلَهُ
فَهَذِهِ الْأَحَادِيث صَحِيحَة صَرِيحَة لَا تحتمل مطعنا في مسندها وَلَا تَأْوِيلًا يُخَالِف مَدْلُولهَا وَكُلّهَا دَالَّة عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم كان قَارِنًا
وَاَلَّذِينَ عَلَيْهِمْ مَدَار الْإِفْرَاد أَرْبَعَة عَائِشَة وبن عمر وجابر وبن عباس وكلهم قد روى القران
أما بن عمر وعائشة ففي الصحيحين عن بن عُمَر أَنَّهُ قَالَ بَدَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَة أَنَّ عَائِشَة أَخْبَرَتْهُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَتُّعه بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَة وَتَمَتَّعَ النَّاس مَعَهُ بِمِثْلِ هَذَا وَرَوَى عَبْد الرَّزَّاق حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ نَافِع أن بن عُمَر قَرَنَ بَيْن الْحَجّ وَالْعُمْرَة فَطَافَ بِالْبَيْتِ لَهُمَا وَبَيْن الصَّفَا وَالْمَرْوَة طَوَافًا وَاحِدًا وَقَالَ هَكَذَا صَنَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ مُسْلِم عَنْ قُتَيْبَة عَنْ اللَّيْث عن نافع عن بن عُمَر
وَقَالَتْ عَائِشَة اِعْتَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا سِوَى الَّتِي قَرَنَ بِحَجَّةِ الْوَدَاع
ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَيَأْتِي
وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ ثَلَاث حِجَج قَبْل أَنْ يُهَاجِر وَحَجَّة بَعْد مَا هَاجَرَ مَعَهَا عُمْرَة الحديث
وفي صحيح مسلم عن بن عَبَّاس أَهَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ أَصْحَابه بِحَجٍّ فَلَمْ يُحِلّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مَنْ سَاقَ الهدي من أصحابه وحل بقيتهم وَسَيَأْتِي فِي كِتَاب السُّنَن عَنْ عِكْرِمَة عَنْهُ قَالَ اِعْتَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَع عُمَر عُمْرَة الْحُدَيْبِيَة وَالثَّانِيَة حِين تواطؤوا عَلَى عُمْرَة قَابِل وَالثَّالِثَة مِنْ الْجِعِرَّانَة وَالرَّابِعَة الَّتِي قَرَنَ مَعَ حَجَّته وَهَذَا الْعُمْرَة الَّتِي قَرَنَهَا مَعَ حَجَّته هِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا أَهَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُمْرَةٍ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَد
وَلَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا مِنْ غيرهم(5/158)
[1798] (قَالَ الصُّبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ) هُوَ بِضَمِّ صَادٍ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ يَاءٍ
قَالَ المنذري وأخرجه النسائي وبن مَاجَهْ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقِرَانِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِضَلَالٍ كَمَا تَوَهَّمَهُ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ إِلَّا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ
[1799] (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قدامة) هذا الحديث في رواية بن دَاسَّةَ دُونَ اللُّؤْلُؤِيِّ (هُدَيْمُ) بِالْهَاءِ الْمَضْمُومَةِ وَفَتْحِ الدال المهملة قاله بن الْأَثِيرِ
وَقَالَ ابْنُ مَاكُولَا بِضَمِّ الْهَاءِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ هُذَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلْقَمَةَ وَقَدْ جَعَلَهُ أَبُو عُمَرَ هُرَيْمُ بِالرَّاءِ (بْنُ ثُرْمُلَةَ) بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ثُمَّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَطّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنِّي أَفْرَدْت الْحَجّ كَمَا قَالَ قرنت وَلَا قَالَ سَمِعْته يَقُول لَبَّيْكَ حَجًّا كَمَا قَالَ لَبَّيْكَ حَجًّا وَعُمْرَة وَلَا هُوَ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسه بِذَلِكَ وَلَا أَحَد مِنْ الصَّحَابَة أَخْبَرَ عَنْ لَفْظ إِهْلَاله بِهِ
فَأَمَّا إِخْبَاره عَنْ نَفْسه بِالْقِرَانِ وَإِخْبَار أَصْحَابه عَنْهُ بِلَفْظِهِ فَصَرِيح لَا مُعَارِض لَهُ
وَاَلَّذِينَ رَوَوْا الْإِفْرَاد قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ رَوَوْا الْقِرَان وَالتَّمَتُّع وَهُمْ لَا يَتَنَاقَضُونَ فِي رِوَايَاتهمْ بَلْ رِوَايَاتهمْ يُصَدِّق بَعْضهَا بَعْضًا وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِشْكَال حَيْثُ لَمْ تَقَع الْإِحَاطَة بِمَعْرِفَةِ مُرَاد الصَّحَابَة وَلُغَتهمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْقِرَان تَمَتُّعًا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حديث بن عُمَر وَقَدْ تَقَدَّمَ وَحَدِيث عَلِيّ أَنَّ عُثْمَان لَمَّا نَهَى عَنْ الْمُتْعَة قَالَ عَلِيّ لَبَّيْكَ بِهِمَا وَقَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَدَع سُنَّة رَسُول اللَّه لِقَوْلِ أَحَد
وَمَنْ قَالَ أَفْرَدَ الْحَجّ لَمْ يَقُلْ أَفْرَدَ إِهْلَال الْحَجّ وَإِنَّمَا مِنْ مُرَاده أَنَّهُ اِقْتَصَرَ عَلَى أَعْمَال الْحَجّ وَدَخَلَتْ عُمْرَته فِي حَجّه
فَلَمْ يُفْرِد كُلّ وَاحِد مِنْ النُّسُكَيْنِ بِعَمَلٍ وَلِهَذَا أَخْبَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَنَ فَعُلِمَ أَنَّ مُرَاده بِالْإِفْرَادِ مَا ذَكَرْنَا
وَمَنْ قَالَ تَمَتَّعَ أَرَادَ بِهِ التَّمَتُّع الْعَامّ الَّذِي يَدْخُل فِيهِ الْقِرَان بِنَصِّ الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْي} وَالْقَارِن دَاخِل فِي هَذَا النَّصّ فَتَمَتَّعَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرَفُّهِهِ بِسُقُوطِ أَحَد السَّفَرَيْنِ وَقَرَنَ بِجَمْعِهِ فِي إِهْلَاله بَيْن النُّسُكَيْنِ وَأَفْرَدَ فَلَمْ يَطُفْ طَوَافَيْنِ وَلَمْ يَسْعَ سَعْيَيْنِ
وَمَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي هَذَا الْبَاب جَزَمَ بِهَذَا وَهَذَا فَصْل النِّزَاع وَاَللَّه أَعْلَم(5/159)
الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الْمِيمِ هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنَّهُ هُدَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَكَذَا قَالَهُ بن ماكولا وبن الأثير والحافظ بن حجر وغيرهم (ياهناه) أي ياهذا وَأَصْلُهُ هَنُ أُلْحِقَتِ الْهَاءُ لِبَيَانِ الْحَرَكَةِ فَصَارَ ياهنه وأشبعت الحركة فصارت ألفا فقيل ياهناه بِسُكُونِ الْهَاءِ وَلَكَ ضَمُّ الْهَاءِ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ هذه اللفظة مختص بِالنِّدَاءِ كَذَا فِي زَهْرِ الرُّبَى (مَكْتُوبَيْنِ عَلَى) لَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ والعمرة لله أَنَّهُمَا مَفْرُوضَانِ عَلَى الْإِنْسَانِ (الْعُذَيْبَ) تَصْغِيرُ عَذْبٍ اسْمُ مَاءٍ لِبَنِي تَمِيمٍ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ كُوفَةَ (مَا هَذَا بِأَفْقَهَ مِنْ بَعِيرِهِ) أَيْ أَنَّ عُمَرَ مَنَعَ عَنِ الجَمْعِ وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ الْمَنْعُ وَهُوَ لَا يَدْرِي بِهِ فَهُوَ وَالْبَعِيرُ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْفَهْمِ وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ لَأَنْتَ أَضَلُّ مِنْ جَمَلِكَ مِنْ هَذَا (هُدِيتَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَتَاءِ الْخِطَابِ أَيْ هَدَاكَ اللَّهُ بِوَاسِطَةِ مَنْ أَفْتَاكَ أَوْ هَدَاكَ مَنْ أَفْتَاكَ
فَإِنْ قُلْتَ كَانَ عُمَرُ يَمْنَعُ عَنِ الجَمْعِ فَكَيْفَ قَرَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَحْسَنِ تَقْرِيرٍ قُلْتُ كَأَنَّهُ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ لِبَعْضِ الْمَصَالِحِ ويرى أنه جوز النبي لِذَلِكَ فَكَأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ مَصْلَحَةٌ اقْتَضَتِ الْجَمْعَ فِي حَقِّهِ فَالْجَمْعُ فِي حَقِّهِ سُنَّةٌ
قَالَهُ السِّنْدِيُّ وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1800] (أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ) هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا فِي الْفَتْحِ (فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ) هُوَ وَادِي(5/160)
الْعَقِيقِ وَبِقُرْبِ الْعَقِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ أَنَّ تُبَّعًا لَمَّا انْحَدَرَ فِي مَكَانٍ عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ هَذَا عَقِيقُ الْأَرْضِ فَسُمِّيَ الْعَقِيقُ (وَقَالَ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ) بِرَفْعِ عُمْرَةٍ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَبِنَصَبِهَا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ جَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أن حجه كَانَ قِرَانًا
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَعْتَمِرُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ بَعْدَ فَرَاغِ حَجِّهِ
وَظَاهِرُ حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا أن حجه صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْقِرَانَ كَانَ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ فَكَيْفَ يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَيُنْظَرُ فِي هَذَا فَإِنْ أُجِيبَ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تطيبا لِخَوَاطِرِ أَصْحَابِهِ فَهُوَ تَغْرِيرٌ لَا يَلِيقُ نِسْبَةُ مِثْلِهِ إِلَى الشَّارِعِ انْتَهَى كَلَامُ الشَّوْكَانِيِّ (رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَرَدَتْ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ فَقَالَ مِسْكِينٌ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ بِلَفْظِ قَالَ وَحَرْفُ فِي بَيْنَ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ بِلَفْظِ قُلْ صِيغَةُ أَمْرٍ وَكَذَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِلَفْظِ قُلْ وَحَرْفُ فِي فَهَذِهِ مُتَابَعَةٌ لِلْأَوْزَاعِيِّ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَقُلْ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ بِحَرْفِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ بَيْنَ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَالَ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ وَفِي رِوَايَةٍ وَقُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ وأخرجه البخاري وبن مَاجَهْ
وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ وَقُلْ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ قَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ قُلْ ذَلِكَ لِأَصْحَابِكَ أَيْ أَعْلِمْهُمْ أَنَّ الْقِرَانَ جَائِزٌ
وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ وَقَالَ لِأَنَّهُ هُوَ الذي أمر به النبي وَأَحَبَّ
فَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِالْوَاوِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ إِذَا فَرَغَ مِنْ حَجَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ كَأَنَّهُ قَالَ إِذَا حَجَجْتَ فَقُلْ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَتَكُونُ فِي حَجَّتِكَ الَّتِي حَجَجْتَ فِيهَا
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى تَحْصِيلِهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّ عُمْرَةَ التَّمَتُّعِ وَاقِعَةٌ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفِيهِ إِعْلَامٌ بِفَضِيلَةِ الْمَكَانِ وَالتَّبَرُّكِ بِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ انْتَهَى
وَقَالَ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْحَجِّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَبِشْرِ بْنِ بَكْرٍ
وَفِي الْمُزَارَعَةِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ ثَلَاثَتِهِمْ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ
وَفِي الِاعْتِصَامِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كثير عن عكرمة عن بن عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْحَجِّ عَنِ النُّفَيْلِيِّ عَنْ مِسْكِينٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ وبن مَاجَهْ فِيهِ عَنْ دُحَيْمٍ عَنِ(5/161)
الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ انْتَهَى
[1801] (اقْضِ لَنَا قَضَاءَ قَوْمٍ كَأَنَّمَا وُلِدُوا الْيَوْمَ) أَيْ بَيِّنْ لَنَا بَيَانًا وَافَيًا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ كَالْبَيَانِ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا قَبْلَ الْيَوْمِ (قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْكُمْ فِي حَجِّكُمْ هَذَا عُمْرَةً) مَعْنَاهُ أَوْجَبَ عَلَيْكُمْ عُمْرَةً بِشُرُوعِكُمْ فِي الْحَجِّ
قَالَ السِّنْدِيُّ
وقال الإمام بن الْأَثِيرِ قَوْلُهُ دَخَلْتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا سَقَطَ فَرْضُهَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ وَدَخَلَتْ فِيهِ وَهَذَا تَأْوِيلُ مَنْ لَمْ يَرَهَا وَاجِبَةً فَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَهَا فَقَالَ مَعْنَاهُ أَنَّ عَمَلَ الْعُمْرَةِ قَدْ دَخَلَ عَمَلَ الْحَجِّ فَلَا يُرَى عَلَى الْقَارِنِ أَكْثَرُ مِنْ إِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ وَشُهُورِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ وَأَجَازَهُ انْتَهَى (فَقَدْ حَلَّ) أَيْ فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحِلَّ أَوِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ
[1802] (بِمِشْقَصٍ) هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْقَافِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ هُوَ نَصْلُ السَّهْمِ إِذَا كَانَ طَوِيلًا لَيْسَ بِعَرِيضٍ وَقَالَ الْخَلِيلُ هو سهم فيه نصل عريض يرمى به الوحش
قال النووي وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي في عمرة الجعرانة لأن النبي فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ قَارِنًا كَمَا سَبَقَ إيضاحه
وثبت أنه حَلَقَ بمِنًى وَفَرَّقَ أَبُو طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَعْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ تَقْصِيرِ مُعَاوِيَةَ عَلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى عُمْرَةِ الْقَضَاءِ الْوَاقِعَةِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمًا إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ
وَلَا يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ(5/162)
وزعم أنه كَانَ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّ هَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ فَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أن النبي قِيلَ لَهُ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ فَقَالَ إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ الْهَدْيَ وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ (أَوْ رَأَيْتُهُ) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (يُقَصَّرُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التقصير (قال بن خَلَّادٍ) فِي حَدِيثِهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ وَلَمْ يذكر بن خلاد لفظ أخبره بل قال عن بن عَبَّاسٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ قَصَّرْتُ الْحَدِيثَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1803] (بِحَجَّتِهِ) قَالَ السِّنْدِيُّ لَعَلَّ مُعَاوِيَةَ عَنَى بِالْحَجَّةِ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ وَلَا يُسَوَّغُ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ أَوْ لَعَلَّهُ قَصَّرَ عَنْهُ بَقِيَّةَ شَعْرٍ لَمْ يَكُنِ اسْتَوْفَاهُ الْحَلَّاقُ بَعْدَهُ فَقَصَّرَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْمَرْوَةِ يَوْمَ النَّحْرِ انْتَهَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه بَعْد قَوْل الْمُنْذِرِيِّ وَقَدْ قَالَتْ حَفْصَة مَا بَال النَّاس حَلُّوا إِلَخْ وَاحْتَجَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ إِنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ فِي حَجَّة الْوَدَاع تَمَتُّعًا حَلَّ فِيهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْره
وَهَذَا غَلَط مِنْهُمْ فَإِنَّ الْمَعْلُوم مِنْ شَأْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُحِلّ بِعُمْرَةٍ فِي حَجَّته وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَقَالَ لَوْلَا أَنَّ مَعِي الْهَدْي لَأَحْلَلْت وَهَذَا لَا يَسْتَرِيب فِيهِ مَنْ لَهُ عِلْم بِالْحَدِيثِ فَهَذَا لَمْ يَقَع فِي حَجَّته بِلَا رَيْب إِنَّمَا وَقَعَ فِي بَعْض عُمَره وَيَتَعَيَّن أَنْ يَكُون فِي عُمْرَة الْجِعِرَّانَة وَاَللَّه أَعْلَم لِأَنَّ مُعَاوِيَة إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْم الْفَتْح مَعَ أَبِيهِ فَلَمْ يُقَصِّر عَنْهُ فِي عُمْرَة الْحُدَيْبِيَة وَلَا عُمْرَة الْقَضِيَّة وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا فِي الْفَتْح وَلَمْ يُحِلّ مِنْ إِحْرَامه فِي حَجَّة الْوَدَاع بِعُمْرَةٍ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي عُمْرَة الْجِعِرَّانَة هَذَا إِنْ كَانَ الْمَحْفُوظ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَصَّرَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ الْمَحْفُوظ هُوَ الرِّوَايَة الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْله رَأَيْته يُقَصِّر عَنْهُ عَلَى الْمَرْوَة فَيَجُوز أَنْ يَكُون فِي عُمْرَة الْقَضِيَّة أَوْ الْجِعِرَّانَة حَسْب وَلَا يَجُوز فِي غَيْرهمَا لِمَا تَقَدَّمَ
وَاَللَّه أَعْلَم(5/163)
(قَالَ الْإِمَامُ الْخَطَّابِيُّ) هَذَا صَنِيعُ مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفْرِدَ وَالْقَارِنَ لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا يُقَصِّرُ شَعْرَهُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَالْمُعْتَمِرُ يُقَصِّرُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ السَّعْيِ
وَفِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ وَهِيَ أَوْلَى
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا حَكَاهُ مُعَاوِيَةُ إِنَّمَا هُوَ فِي عُمْرَةٍ اعْتَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ دُونَ الْحَجَّةِ الْمَشْهُورَةِ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ لِحَجَّتِهِ وَقَوْلُهُ يَعْنِي لِعُمْرَتِهِ
وَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا وَفِيهِ فِي عُمْرَةٍ عَلَى الْمَرْوَةِ وَسَمَّى الْعُمْرَةَ حَجًّا لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا الْقَصْدُ وَقَدْ قَالَتْ حَفْصَةُ مَا بَالُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ
قِيلَ إِنَّهَا تَعْنِي مِنْ حَجَّتِكَ انْتَهَى
[1804] (عَنْ مُسْلِمٍ الْقُرِّيِّ) هُوَ بِقَافٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مُشَدَّدَةٍ
قَالَ السَّمْعَانِيُّ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي قُرَّةَ حي من عبد القيس قال وقال بن مَاكُولَا هَذَا ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ بَلْ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ قَنْطَرَةَ قُرَّةَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[1805] (تَمَتَّعَ) قَالَ الْقَاضِي هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّمَتُّعِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ الْقِرَانُ آخِرًا وَمَعْنَاهُ أنه أَحْرَمَ أَوَّلًا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فَصَارَ قَارِنًا فِي آخِرِ أَمْرِهِ وَالْقَارِنُ هُوَ مُتَمَتِّعٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ
وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ تَرَفَّهَ بِاتِّحَادِ الْمِيقَاتِ وَالْإِحْرَامِ وَالْفِعْلِ وَيَتَعَيَّنُ هَذَا التَّأْوِيلُ هُنَا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذلك (وبدأ رسول الله إِلَخْ) فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّلْبِيَةِ فِي أَثْنَاءِ الْإِحْرَامِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَحْرَمَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجٍّ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى مُخَالَفَةِ الْأَحَادِيثِ فَوَجَبَ تَأْوِيلُ هَذَا عَلَى مُوَافَقَتِهَا وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ (وَتَمَتَّعَ النَّاسُ إِلَخْ) وَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرَهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ أَوَّلًا مُفْرَدًا وَإِنَّمَا فَسَخُوهُ إِلَى الْعُمْرَةِ آخِرًا فَصَارُوا مُتَمَتِّعِينَ(5/164)
فَقَوْلُهُ وَتَمَتَّعَ النَّاسُ يَعْنِي فِي آخِرِ الْأَمْرِ (وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ إِلَخْ) مَعْنَاهُ يَفْعَلُ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ وَالتَّقْصِيرَ وَقَدْ صَارَ حَلَالًا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ أَوِ الْحَلْقَ نُسُكٌ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَقِيلَ إِنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ وَلَيْسَ بِنُسُكٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِالتَّقْصِيرِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْحَلْقِ مَعَ أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ لِيَبْقَى لَهُ شَعْرٌ يَحْلُقُهُ فِي الْحَجِّ فَإِنَّ الْحَلْقَ فِي تَحَلُّلِ الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْهُ في تحلل الْعُمْرَةِ (وَلْيَحْلِلْ) مَعْنَاهُ قَدْ صَارَ حَلَالًا فَلَهُ فِعْلُ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ فِي الْإِحْرَامِ مِنَ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّسَاءِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ (ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ) أَيْ وَيُحْرِمْ بِهِ فِي وَقْتِ الْخُرُوجِ إِلَى عَرَفَاتٍ لَا أَنَّهُ يُهِلُّ بِهِ عَقِبَ تَحَلُّلِ الْعُمْرَةِ
وَلِهَذَا قَالَ ثُمَّ لِيُهِلَّ فَأَتَى بِثُمَّ الَّتِي هِيَ لِلتَّرَاخِي وَالْمُهْلَةِ (وليهد) والمراد بِهِ هَدْيُ التَّمَتُّعِ فَهُوَ وَاجِبٌ بِشُرُوطٍ الْأَوَّلُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ الثَّانِي أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ أُفُقِيًّا لَا مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ وَحَاضِرُوهُ أَهْلُ الْحَرَمِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ الرَّابِعُ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الْمِيقَاتِ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ قَالَهُ النَّوَوِيُّ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا) فَالْمُرَادُ لَمْ يَجِدْهُ هُنَاكَ إِمَّا لِعَدَمِ الْهَدْيِ أَوْ لِعَدَمِ ثَمَنِهِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمِثْلِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَوْجُودًا لَكِنَّهُ لَا يَبِيعُهُ صَاحِبُهُ فَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ يَكُونُ عَادِمًا لِلْهَدْيِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الصَّوْمِ سَوَاءً كَانَ وَاجِدًا لِثَمَنِهِ فِي بَلَدِهِ أَمْ لَا (فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) هو موافق
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه بَعْد قَوْل الْمُنْذِرِيِّ وَفِي لَفْظ مُسْلِم لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْده إِلَخْ الَّذِينَ قَالُوا قَرَنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّته اِخْتَلَفَتْ طُرُقهمْ فِي كَيْفِيَّة قِرَانه فَطَائِفَة قَالَتْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجّ وهذا ظاهر حديث بن عُمَر وَعَائِشَة كَمَا تَقَدَّمَ وَهِيَ طَرِيقَة أَبِي حَاتِم بْن حِبَّانَ فِي صَحِيحه
قَالَ هَذِهِ الْأَخْبَار الَّتِي ذَكَرْنَا فِي إِفْرَاد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا تَنَازَعَ الْأَئِمَّة فِيهَا مِنْ زَمَان إِلَى زَمَاننَا هَذَا وَشَنَّعَ بِهَا الْمُعَطِّلَة وَأَهْل الْبِدَع عَلَى أَئِمَّتنَا وَقَالُوا رَوَيْتُمْ ثَلَاثَة أَحَادِيث مُتَضَادَّة فِي فِعْل وَاحِد وَرَجُل وَاحِد وَحَالَة وَاحِدَة وَزَعَمْتُمْ أَنَّهَا ثَلَاثَتهَا صِحَاح مِنْ جِهَة النَّقْل وَالْعَقْل يَدْفَع مَا قُلْتُمْ إِذْ مُحَال أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّة الْوَدَاع كَانَ مُفْرِدًا قَارِنًا مُتَمَتِّعًا إِلَى أَنْ قَالَ وَلَوْ تَوَجَّهَ قَائِل هَذَا فِي الْخَلْوَة إِلَى الْبَارِي وَسَأَلَهُ التَّوْفِيق لِإِصَابَةِ الْحَقّ وَالْهِدَايَة لِطَلَبِ الرُّشْد فِي الْجَمْع بَيْن الْأَخْبَار وَنَفْي التَّضَادّ عَنْ الْآثَار لَعَلِمَ بِتَوْفِيقِ الْوَاحِد الْقَهَّار أَنَّ أَخْبَار الْمُصْطَفَى لَا تَتَضَادّ وَلَا تَهَاتَر وَلَا يُكَذِّب بَعْضهَا بَعْضًا إِذَا صَحَّتْ مِنْ جِهَة النَّقْل(5/165)
لِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَجِبُ صَوْمُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَيَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْهَا لَكِنِ الْأَوْلَى أَنْ يَصُومَ الثَّلَاثَةَ قَبْلَهُ وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَصُومَهَا حَتَّى يُحْرِمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ فَإِنْ صَامَهَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَقَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ أَجْزَأَهُ وَإِنْ صَامَهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ وَقَبْلَ فَرَاغِهَا لَمْ يُجْزِئْهُ عَلَى الصَّحِيحِ فَإِنْ لَمْ يَصُمْهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَرَادَ صَوْمَهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلِ جَوَازُهُ
هَذَا تَفْضِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَوَافَقَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَجَوَّزَهُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَلَوْ تَرَكَ صِيَامَهَا حَتَّى مُضِيِّ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَفُوتُ صِيَامُهَا وَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ إِذَا اسْتَطَاعَهُ
وَأَمَّا صَوْمُ السَّبْعَةِ فَيَجِبُ إِذَا رَجَعَ وَفِي الْمُرَادِ بِالرُّجُوعِ خِلَافٌ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ وَالثَّانِي إِذَا فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ مِنًى وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَبِالثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَوْ لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ وَلَا السَّبْعَةَ حَتَّى عَادَ إِلَى وَطَنِهِ لَزِمَهُ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ قَالَهُ النَّوَوِيُّ (وَطَافَ رَسُولُ الله حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ إِلَخْ) فِيهِ إِثْبَاتُ طَوَافِ الْقُدُومِ وَاسْتِحْبَابُ الرَّمَلِ فِيهِ هُوَ الْخَبَبُ وَأَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَأَنَّهُمَا يُسْتَحَبَّانِ خَلْفَ الْمَقَامِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قَالَ وَالْفَصْل بَيْن الْجَمْع فِي هَذِهِ الْأَخْبَار أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ حَيْثُ أَحْرَمَ كَذَلِكَ قَالَهُ مَالِك عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة فَخَرَجَ وَهُوَ مُهِلّ بِالْعُمْرَةِ وَحْدهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَ سَرِف أَمَرَ أَصْحَابه بِمَا ذَكَرْنَا فِي خَبَر أَفْلَح بْن حُمَيْدٍ يَعْنِي بِالْفَسْخِ إِلَى الْعُمْرَة فَمِنْهُمْ مَنْ أَفْرَدَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَامَ عَلَى عُمْرَته وَأَمَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْي مِنْهُمْ فَأَدْخَلَ الْحَجّ عَلَى عُمْرَته وَلَمْ يُحِلّ فَأَهَلَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا مَعًا حِينَئِذٍ إِلَى أَنْ دَخَلَ مَكَّة
وَكَذَلِكَ أَصْحَابه الَّذِينَ سَاقُوا الْهَدْي
فَكُلّ خَبَر رُوِيَ فِي قِرَان النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حَيْثُ رَأَوْهُ يُهِلّ بِهِمَا بَعْد إِدْخَاله الْحَجّ عَلَى الْعُمْرَة إِلَى أَنْ دَخَلَ مَكَّة فَطَافَ وَسَعَى وَأَمَرَ ثَانِيًا مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْي وَكَانَ قَدْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ أَنْ يَتَمَتَّع وَيُحِلّ وَكَانَ يَتَلَهَّف عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْإِهْلَال حَيْثُ كَانَ سَاقَ الْهَدْي حَتَّى إِنَّ بَعْض الصَّحَابَة مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْي لَمْ يُحِلُّوا حَيْثُ رَأَوْهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحِلّ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْره مَا وَصَفْنَا مِنْ دُخُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَة وَهُوَ مُغْضَب فَلَمَّا كَانَ يَوْم التَّرَوِّيَة وَأَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُونَ خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مِنًى وَهُوَ يُهِلّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا إِذْ الْعُمْرَة الَّتِي قَدْ أَهَلَّ بِهَا فِي أَوَّل الْأَمْر قَدْ اِنْقَضَتْ عِنْد دُخُوله مَكَّة بِطَوَافِهِ بِالْبَيْتِ(5/166)
وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وسعيه بين الصفا والمروة
فحكى بن عُمَر وَعَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجّ أَرَادَا خُرُوجه إِلَى مِنَى مِنْ مَكَّة مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون بَيْن هَذِهِ الْأَخْبَار تَضَادّ أَوْ تَهَاتُر وَفَّقَنَا اللَّه لِمَا يُحِبّهُ مِنْ الْخُضُوع عِنْد وُرُود السُّنَن إِذَا صَحَّتْ وَالِانْقِيَاد لِقَبُولِهَا وَاتِّهَام الْأَنْفُس وَإِلْزَاق الْخَطَأ بِهَا إِذَا لَمْ يُوَفَّق لِإِدْرَاكِ حَقِيقَة الصَّوَاب دُون الْقَدْح فِي السُّنَن وَالتَّعْرِيج عَلَى الآراء المنكوسة والمقاييس المعكوسة إنه خير مسؤول تَمَّ كَلَامه
وَطَائِفَة قَالَتْ كَانَ مُفْرِدًا أَوَّلًا ثُمَّ أَدْخَلَ الْعُمْرَة عَلَى الْحَجّ فَصَارَ قَارِنًا فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصه وَأَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بِذَلِكَ بَيْن الْأَحَادِيث
وَهَذَا مَعَ أَنَّ الْأَكْثَر لَا يُجَوِّزُونَهُ فَلَمْ تَأْتِ لَفْظَة وَاحِدَة تَدُلّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَوَّل فَإِنَّهُ قَدْ قَالَهُ طَائِفَة وَفِيهِ أَحَادِيث صِحَاح
وَطَائِفَة قَالَتْ قَرَنَ اِبْتِدَاءً مِنْ حِين أَحْرَمَ وَهُوَ أَصَحّ الْأَقْوَال لِحَدِيثِ عُمَر وَأَنَس وَغَيْرهمَا وَقَدْ تَقَدَّمَا
وَاَلَّذِينَ قَالُوا أَفْرَدَ طَائِفَتَانِ طَائِفَة ظَنَّتْ أَنَّهُ أَفْرَدَ إِفْرَادًا اِعْتَمَرَ عَقِبه مِنْ التَّنْعِيم
وَهَذَا غَلَط بِلَا رَيْب لَمْ يُنْقَل قَطّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح وَلَا ضَعِيف وَلَا قَالَهُ أَحَد مِنْ الصَّحَابَة وَهُوَ خِلَاف الْمُتَوَاتِر الْمَعْلُوم مِنْ فِعْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَطَائِفَة قَالَتْ أَفْرَدَ إِفْرَادًا اِقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى الْحَجّ وَلَمْ يَعْتَمِر
وَالْأَحَادِيث الثَّابِتَة الَّتِي اِتَّفَقَ أَئِمَّة الْحَدِيث عَلَى صِحَّتهَا صَرِيحَة فِي أَنَّهُ اِعْتَمَرَ عَقِبه فَهُوَ بَاطِل قَطْعًا وَإِنْ كَانَ إِفْرَادًا مُجَرَّدًا عَنْ الْعُمْرَة فَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة تَدُلّ عَلَى خِلَافه
وَاَلَّذِينَ قَالُوا تَمَتَّعَ
طَائِفَتَانِ طَائِفَة قَالَتْ تَمَتَّعَ تَمَتُّعًا حَلَّ مِنْهُ
وَهَذَا بَاطِل قَطْعًا كَمَا تَقَدَّمَ
وَطَائِفَة قَالَتْ تَمَتَّعَ تَمَتُّعًا لَمْ يُحِلّ مِنْهُ لِأَجْلِ الْهَدْي
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقَلّ خَطَأ مِنْ الَّذِي قَبْله فَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ قَرَنَ إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا بِالتَّمَتُّعِ الْقِرَان فَهَذَا حَقّ
وَطَائِفَة قَالَتْ أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا ثُمَّ عَيَّنَهُ بِالْإِفْرَادِ وَهَذَا أَيْضًا يَكْفِي فِي رَدّه الْأَحَادِيث الثَّابِتَة الصَّرِيحَة
وَطَائِفَة قَالَتْ قَرَنَ وَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ
وَالْأَحَادِيث الثَّابِتَة الَّتِي لَا مَطْعَن فِيهَا تُبْطِل ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم(5/167)
[1806] (أنها قالت يارسول اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ) هَذَا دَلِيلٌ لِلْمَذْهَبِ الصحيح المختار أن النبي كَانَ قَارِنًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (مِنْ عُمْرَتِكَ) أَيِ الْعُمْرَةِ الْمَضْمُومَةِ إِلَى الْحَجِّ وَفِيهِ أَنَّ الْقَارِنَ لَا يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي تَحَلُّلِهِ مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ كَمَا فِي الْحَجِّ الْمُفْرَدِ (لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدَتُ هَدْيِي) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّلْبِيدِ وَتَقْلِيدِ الهدي
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَقَدْ تَأْتِي مِنْ بِمَعْنَى الْبَاء كَقَوْلِهِ {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْر اللَّه} أَيّ بِأَمْرِهِ تُرِيد وَلَمْ تُحِلّ أَنْتَ بِعُمْرَةٍ
وَقَالَتْ طَائِفَة مَعْنَاهُ لَمْ تُحِلّ مِنْ الْعُمْرَة الَّتِي أَمَرْت النَّاس بِهَا
وَقَالَتْ طَائِفَة هَذِهِ اللَّفْظَة غَيْر مَحْفُوظَة فَإِنَّ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر لَمْ يَذْكُرهَا في حديثه حكاهما بن حَزْم
وَقَالَتْ طَائِفَة هِيَ مَرْوِيَّة بِالْمَعْنَى وَالْحَدِيث وَلَمْ تُحِلّ أَنْتَ مِنْ حَجّك فَأَبْدَلَ لَفْظ الْحَجّ بِالْعُمْرَةِ
وَقَالَتْ طَائِفَة الْحَدِيث إِنَّمَا فِيهِ إِقْرَاره لَهَا عَلَى أَنَّهُ فِي عُمْرَة وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا عُمْرَة مُفْرَدَة لَا حَجَّة مَعَهَا
وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسه بِأَنَّهُ قَرَنَ فَهُوَ إِذَنْ فِي حَجّ وَعُمْرَة وَمَنْ كَانَ فِي حَجّ وَعُمْرَة فَهُوَ فِي عُمْرَة قَطْعًا
وَهَذِهِ الْوُجُوه بَعْضهَا وَاهٍ وَبَعْضهَا مُقَارِب
فَقَوْل مَنْ قَالَ الْمُرَاد بِهِ مِنْ حَجَّتك بَعِيد جِدًّا إِذْ لَا يُعَبَّر بِالْعُمْرَةِ عَنْ الْحَجّ وَلَيْسَ هَذَا عُرْف الشَّرْع وَلَا يُطْلَق ذَلِكَ إِلَّا إطلاقا مقيدا فيقال هِيَ الْحَجّ الْأَصْغَر
وَقَوْل مَنْ قَالَ إِنَّهَا ظَنَّتْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فَسَخَ الْعُمْرَة كَمَا أَمَرَ أَصْحَابه وَلَمْ يُحِلّ كَمَا أَحَلُّوا فَبَعِيد جِدًّا فَإِنَّ هَذَا الظَّنّ إنما كان يظهر بإحلاله فبه يَكُون مُعْتَمِرًا فَكَيْفَ تَظُنّ أَنَّهُ قَدْ فَسَخَ بِعُمْرَةٍ وَهِيَ تَرَاهُ لَمْ يَحِلّ وَأَمَّا قَوْل من قال معناه لم تحل بعمرة ومن بِمَعْنَى الْبَاء فَتَعَسُّف ظَاهِر وَإِضَافَة الْعُمْرَة إِلَيْهِ تَدُلّ عَلَى أَنَّهَا عُمْرَة مُخْتَصَّة بِهِ هُوَ فيها(5/168)
وَهُمَا سُنَّتَانِ بِالِاتِّفَاقِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا يُبَيِّنُ لك أن قَدْ كَانَتْ هُنَاكَ عُمْرَةٌ وَلَكِنَّهُ قَدْ أَدْخَلَ عَلَيْهَا حَجَّةً فَصَارَ بِذَلِكَ قَارِنًا انْتَهَى
وَلَمْ يختلف الناس في إِدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ جَائِزٌ مَا لَمْ يَفْسَخِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ لِلْعُمْرَةِ
وَاخْتَلَفُوا فِي إِدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم والنسائي وبن ماجه
5 - (باب الرجل يهل الخ)
[1807] (إِلَّا لِلرَّكْبِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ قَالَ بن الْأَثِيرِ رَكْبٌ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَمْعِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ لَمْ تُحْلِلْ مِنْ الْعُمْرَة الَّتِي أَمَرْت النَّاس بِهَا فَفَاسِد فَإِنَّهُ كَيْفَ يُحِلّ مِنْ عُمْرَة غَيْره وَحَفْصَة أَجَلّ مِنْ أَنْ تَسْأَل هَذَا السُّؤَال وَأَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ إِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة وَلَمْ يَذْكُرهَا عُبَيْد اللَّه فَخَطَأ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّ مَالِكًا قَدْ ذَكَرَهَا وَمَالِك مَالِك
وَالثَّانِي أَنَّ عُبَيْد اللَّه نَفْسه قَدْ ذَكَرَهَا أَيْضًا ذَكَرَهُ مُسْلِم فِي الصَّحِيح عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ عُبَيْد اللَّه فَذَكَرَ الْحَدِيث وَفِيهِ وَلَمْ تُحِلّ مِنْ عُمْرَتك
وَقَوْل مَنْ قَالَ مَرْوِيَّة بِالْمَعْنَى بَعِيد أَيْضًا
فَالْوَجْه الْأَخِير أَقْرَبهَا إِلَى الصَّوَاب وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْإِخْبَار عَنْ كَوْنه فِي عُمْرَة وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُون فِي حَجَّة
وَأَجْوَد مِنْهُ أَنْ يُقَال الْمُرَاد بِالْعُمْرَةِ الْمُتْعَة وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّمَتُّع يُرَاد بِهِ الْقِرَان وَالْعُمْرَة تُطْلَق عَلَى التَّمَتُّع فَيَكُون الْمُرَاد لَمْ تُحِلّ مِنْ قِرَانك وَسَمَّتْهُ عُمْرَة كَمَا يُسَمَّى تَمَتُّعًا وَهَذِهِ لُغَة الصَّحَابَة كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّه أَعْلَم
قَالَ الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله وَهَذَا الْحَدِيث قَدْ تَضَمَّنَ أَمْرَيْنِ أَحَدهمَا فِعْل الصَّحَابَة لَهَا وَهُوَ بِلَا رَيْب بِأَمْرِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ الرِّوَايَة
وَالثَّانِي اِخْتِصَاصهمْ بِهَا دُون غَيْرهمْ وَهَذَا رَأْي فَرِوَايَته حُجَّة وَرَأْيه غَيْر حُجَّة وَقَدْ خَالَفَهُ(5/169)
كَنَفَرٍ وَرَهْطٍ وَالرَّاكِبُ فِي الْأَصْلِ هُوَ رَاكِبُ الْإِبِلِ خَاصَّةً ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى كُلِّ مَنْ رَكِبَ دَابَّةً انْتَهَى
وَيَجِيءُ تَحْقِيقُ الْحَدِيثِ فِي آخِرِ الْبَابِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بن شريك التيمي وأخرجه النسائي وبن ماجه
[1808] (قلت يارسول اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا قَالَ بَلْ لَكُمْ خَاصَّةً)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدْ قِيلَ إِنَّ الْفَسْخَ إِنَّمَا وَقَعَ إِلَى الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَا يَسْتَبِيحُونَهَا فِيهَا فَفَسَخَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْحَجَّ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْعُمْرَةِ فِي زَمَانِ الْحَجِّ لِيَزُولُوا عَنْ شُبَهِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلِيَتَمَسَّكُوا بِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَنْ يَفْسَخَهُ
وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا فَسَدَ حَجُّهُ مَضَى فِيهِ مَعَ الْفَسَادِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِنْ حُجَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُضِيَّ فِيهَا لَا يَلْزَمُ وَأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَصِحَّ بِالْإِجْمَاعِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَرْفُضُ أَحَدَهُمَا إِلَى قَابِلٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ فَسْخَ الْحَجِّ كَانَ لَهُمْ خَاصًّا دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مِنْ عَامِهِ وَيُهْرِيقُ دَمًا وَيَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ يَصِيرُ قَارِنًا وَعَلَيْهِ دَمٌ وَلَا يَلْزَمُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ مِنْ عُمْرَةٍ وَلَا دَمٍ وَلَا قَضَاءٍ مِنْ قَابِلٍ انْتَهَى
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فِيهِ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ
وَقَدْ حَمَلَهُ طَائِفَة عَلَى أَنَّ الَّذِي اِخْتَصَّ بِهِ هُوَ وُجُوب الْفَسْخ عَلَيْهِمْ حَتْمًا وَأَمَّا غَيْرهمْ فَيُسْتَحَبّ لَهُ ذَلِكَ هَذَا إِنْ كَانَ مُرَاده مُتْعَة الْفَسْخ وَإِنْ كَانَ الْمُرَاد مُطْلَق الْمُتْعَة فَهُوَ خِلَاف الْإِجْمَاع وَالسُّنَّة الْمُتَوَاتِرَة
والله أعلم
قال الحافظ شمس الدين بن الْقَيِّم رَحِمَهُ اللَّه وَقَدْ قَالَ عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد سَأَلْت أَبِي عَنْ حَدِيث بِلَال بن الحرث الْمُزَنِيِّ فِي فَسْخ الْحَجّ فَقَالَ لَا أَقُول بِهِ وَلَيْسَ إِسْنَاده بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يَرْوِهِ إِلَّا الدَّرَاوَرْدِيّ وَحْده
وَقَالَ عَبْد الْحَقّ الصَّحِيح فِي هَذَا قَوْل أَبِي ذَرّ غَيْر الْمَرْفُوع إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم
وقال بن القطان فيه الحرث بن بلال عن أبيه بلال بن الحرث والحرث بْن بِلَال لَا يُعْرَف حَاله(5/170)
قُلْتُ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ
حَدِيثُ بِلَالٍ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وبن مَاجَهْ
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ وَتَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْهُ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَالْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ شِبْهُ الْمَجْهُولِ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ بِلَالٍ هَذَا إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ
انْتَهَى
وَفِي الْمُنْتَقَى قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ عِنْدِي لَيْسَ بِثَبَتٍ وَلَا أَقُولُ بِهِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الرَّجُلُ يَعْنِي الْحَارِثَ بْنَ بِلَالٍ
وَقَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ عُرِفَ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ إِلَّا أَنَّ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوُونَ مَا يَرْوُونَ مِنَ الْفَسْخِ فَأَيْنَ يَقَعُ الْحَارِثُ بْنُ بِلَالٍ مِنْهُمْ
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ لَيْسَ يَصِحُّ حَدِيثٌ فِي أَنَّ الْفَسْخَ كَانَ لَهُمْ خَاصَّةً وَهَذَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ يُفْتِي بِهِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ وَشَطْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بَلْ هِيَ لِلْأَبَدِ
وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ مَوْقُوفٌ وَقَدْ خَالَفَهُ أبو موسى وبن عباس وغيرهما انتهى
وقال بن الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ نَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ حَدِيثَ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِ قَالَ ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا ثَابِتًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبن عَبَّاسٍ يُفْتِي بِخِلَافِهِ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ طُولَ عُمُرِهِ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَأَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ وَلَا يَقُولُ لَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ هَذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِنَا لَيْسَ لِغَيْرِنَا انْتَهَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالصَّحَابَةِ وَلَكِنَّهُمَا جَمِيعًا مُخَالِفَانِ لِلْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لِلْأَبَدِ بِمَحْضِ الرَّأْيِ
قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ مِنْ أَنَّ الْمُتْعَةَ فِي الْحَجِّ كَانَتْ لَهُمْ خَاصَّةً فَيَرُدُّهُ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ مِنَ الْفَسْخِ أَنَّ مِثْلَ مَا قَالَهُ عُثْمَانُ وَأَبُو ذَرٍّ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الِاجْتِهَادِ وَمِمَّا لِلرَّأْيِ فِيهِ مَدْخَلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَ الْقِرَآنُ فَقَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ عِمْرَانَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ مَحْضِ الرَّأْيِ فَكَمَا أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّمَتُّعِ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ قَبِيلِ الرَّأْيِ كَذَلِكَ دَعْوَى اخْتِصَاصِ التَّمَتُّعِ الْخَاصِّ أَعْنِي بِهِ الْفَسْخَ بِجَمَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ
وَقَدْ أطال الكلام بن الْقَيِّمِ فِي ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ(5/171)
26 - (بَاب الرَّجُلِ يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ)
[1809] (امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مَفْتُوحَةً فَمُثَلَّثَةٍ سَاكِنَةٍ فَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ أَوِ التَّأْنِيثِ لِكَوْنِهِ اسْمَ قَبِيلَةٍ مَعْرُوفَةٍ (فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا) وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا (وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ) وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلًا جَمِيلًا (أَدْرَكَتْ أَبِي) حَالَ كَوْنِهِ (شَيْخًا) مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَقَوْلُهُ (كَبِيرًا) يَصِحُّ صِفَةً وَلَا يُنَافِي اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْحَالِ نَكِرَةً إذا لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْهَا (لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ) صِفَةٌ ثَانِيَةٌ وَيُحْتَمَلُ الْحَالُ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ وَإِنْ شَدَدْتُهُ خَشِيتُ عَلَيْهِ (أَفَأَحُجُّ) نِيَابَةً (عَنْهُ قَالَ نَعَمْ) أَيْ حُجِّي عَنْهُ (وَذَلِكَ) أَيْ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) قَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ فِي الْحَدِيثِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ فَفِي بَعْضِهَا أَنَّ السَّائِلَ رَجُلٌ وَأَنَّهُ سَأَلَ هَلْ يَحُجُّ عَنْ أُمِّهِ فَيَجُوزُ تَعَدُّدُ الْقَضِيَّةِ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ الْحَجُّ عَنِ الْمُكَلَّفِ إِذَا كَانَ مَيْئُوسًا مِنْهُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الشَّيْخُوخَةِ فَإِنَّهُ مَيْئُوسٌ زَوَالُهَا وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ لِأَجْلِ مَرَضٍ أَوْ جُنُونٍ يُرْجَى بُرْؤُهُمَا فَلَا يَصِحُّ
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مَعَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ التَّحْجِيجِ عَنْهُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَدَمُ ثَبَاتِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَالْخَشْيَةُ عَنِ الضَّرَرِ عَلَيْهِ مِنْ شَدِّهِ فَمَنْ لَا يَضُرُّهُ الشَّدُّ كَالَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْمِحَفَّةِ لَا يُجْزِئُهُ حَجُّ الْغَيْرِ عَنْهُ
وَيُؤْخَذُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا تَبَرَّعَ أَحَدٌ بِالْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ عَنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُبَيِّنْ أَنَّ أَبَاهَا مُسْتَطِيعٌ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا الْإِجْزَاءُ لَا الْوُجُوبُ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَبِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهَا قَدْ عَرَفَتْ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى أَبِيهَا كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهَا إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عِلْمِهَا بِشَرْطِ دليل الوجوب وهو الاستطاعة
واتفق القائلون فإجزاء الْحَجِّ عَنْ فَرِيضَةِ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إِلَّا عَنْ مَوْتٍ أَوْ عَدَمِ قُدْرَةٍ عَنْ عَجْزٍ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ النَّفْلِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ عَنِ الْغَيْرِ فيه(5/172)
مُطْلَقًا لِلتَّوْسِيعِ فِي النَّفْلِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْحَجَّ عَنْ فَرْضِ الْغَيْرِ لَا يُجْزِئُ أَحَدًا وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَخْتَصُّ بِصَاحِبَةِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِصَاصُ خِلَافَ الْأَصْلِ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِزِيَادَةِ رِوَايَةٍ فِي الْحَدِيثِ بِلَفْظِ حُجِّي عَنْهُ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَكِ وَرُدَّ بِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ رُوِيَتْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْوَلَدِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَقَدْ نَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عَلَى الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ
فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ فَجَعَلَهُ دَيْنًا وَالدَّيْنُ يَصِحُّ أَنْ يَقْضِيَهُ غَيْرُ الْوَلَدِ بِالِاتِّفَاقِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[1810] (عن بن رَزِينٍ) هُوَ لَقِيطٌ الْعُقَيْلِيُّ (وَلَا الظِّعَنَ) بِكَسْرِ الظَّاءِ وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا مَصْدَرُ ظَعَنَ يَظْعُنُ بِالضَّمِّ إِذَا سَارَ
قَالَهُ السُّيُوطِيُّ وَقَالَ السِّنْدِيُّ الظَّعَنُ بِفَتْحَتَيْنِ أَوْ سُكُونِ الثَّانِي وَفِي الْمَجْمَعِ الظَّعْنُ الرَّاحِلَةُ أَيْ لَا يَقْوَى عَلَى السَّيْرِ وَلَا عَلَى الرُّكُوبِ مِنْ كِبَرِ السِّنِّ (قَالَ احْجُجْ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ) الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ حَجِّ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ الْعَاجِزِ عَنِ الْمَشْيِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
وَقَدْ جَزَمَ بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَا خِلَافَ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا أَعْلَمُ فِي إِيجَابِ الْعُمْرَةِ حَدِيثًا أَجْوَدَ مِنْ هَذَا وَلَا أَصَحَّ مِنْهُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه قَوْل الْإِمَام أَحْمَد قَالَ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ مُسْلِم سَمِعْت أَحْمَد بْن حَنْبَل يَقُول فَذَكَرَهُ وفي سنن بن مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْط الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَة قالت يارسول اللَّه هَلْ عَلَى النِّسَاء جِهَاد قَالَ جِهَاد لَا قِتَال فِيهِ الْحَجّ وَالْعُمْرَة
وَاحْتَجَّ مَنْ نَفَى الْوُجُوب بِحَدِيثِ جَابِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْعُمْرَة أَوَاجِبَة هِيَ قَالَ لَا وَأَنْ(5/173)
[1811] (يَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ فَمُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ (أَوْ قَرِيبٌ لِي) شَكٌّ مِنَ الراوي والحديث أخرجه أيضا بن حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ قَالَ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا وَالرَّفْعُ زِيَادَةٌ يَتَعَيَّنُ قَبُولُهَا إِذَا جَاءَتْ من طريق ثقة وهي ها هنا كَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي رَفَعَهُ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ الْحَافِظُ وَهُوَ ثِقَةٌ مُحْتَجٌّ بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَتَابَعَهُ عَلَى رَفْعِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ وَكَذَا رَجَّحَ عبد الحق وبن الْقَطَّانِ رَفْعَهُ وَقَدْ رَجَّحَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وقال أحمد رفعه خطأ
وقال بن الْمُنْذِرِ لَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ
وَقَدْ أَطَالَ الْكَلَامَ الْحَافِظُ فِي التَّلْخِيصِ وَمَالَ إِلَى صِحَّتِهِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَسَوَاءً كَانَ مُسْتَطِيعًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَطِيعٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَفْصِلْ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي سَمِعَهُ يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ وَهُوَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إِنَّهُ يُجْزِئُ حَجُّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَتَضَيَّقْ عَلَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ بن مَاجَهْ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَيْسَ فِي الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
تَعْتَمِر خَيْر لَك رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث الْحَجَّاج بْن أَرْطَاة عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عن جابر وقال
حَسَن صَحِيح
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ كَذَا رَوَاهُ الْحَجَّاج مَرْفُوعًا وَالْمَحْفُوظ إِنَّمَا هُوَ عَنْ جَابِر مَوْقُوف عَلَيْهِ غَيْر مَرْفُوع
وَقَدْ نُوقِشَ التِّرْمِذِيّ فِي تصحيحه فإن مِنْ رِوَايَة الْحَجَّاج بْن أَرْطَاة وَقَدْ ضُعِّفَ وَلَوْ كَانَ ثِقَة فَهُوَ مُدَلِّس كَبِير وَقَدْ قَالَ عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر لَمْ يَذْكُر سَمَاعًا وَلَا رَيْب أَنَّ هَذَا قَادِح فِي صِحَّة الْحَدِيث
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيّ لَيْسَ فِي الْعُمْرَة شَيْء ثَابِت بِأَنَّهَا تَطَوُّع وَقَدْ رَوَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيف لَا تَقُوم بِمِثْلِهِ حُجَّة تَمَّ كَلَامه قال البيهقي وروى بن لَهِيعَة عَنْ عَطَاء عَنْ جَابِر مَرْفُوعًا الْحَجّ وَالْعُمْرَة فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيف لَا يَصِحّ
فَقَدْ سَقَطَ الِاحْتِجَاج بِرِوَايَةِ جابر من الطريقين
وفي سنن بن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث عُمَر بْن قَيْس
أَخْبَرَنِي طَلْحَة بْن يَحْيَى عَنْ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول الْحَجّ جِهَاد وَالْعُمْرَة تَطَوُّع رَوَاهُ عَنْ هِشَام عَمَّار عَنْ الْحَسَن بْن يَحْيَى الْخُشَنِيِّ(5/174)
27 - (بَاب كَيْفَ التَّلْبِيَةُ)
[1812] هِيَ مَصْدَرُ لَبَّى كَزَكَّى تَزْكِيَةً أَيْ كَيْفَ قَالَ لَبَّيْكَ وَهُوَ عِنْدَ بن سِيبَوَيْهِ وَالْأَكْثَرِينَ مُثَنَّى لِقَلْبِ أَلِفِهِ يَاءً مَعَ الْمُظْهَرِ وَلَيْسَتْ ثَنِيَّتُهُ حَقِيقَةً بَلْ مِنَ الْمُثَنَّاةِ لَفْظًا وَمَعْنَاهَا التَّكْثِيرُ وَالْمُبَالَغَةِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ أَيْ أَجَبْتُ إِجَابَةً بَعْدَ إجابة إلى مالا نهاية له
قال بن عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْنَى التَّلْبِيَةِ إِجَابَةُ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أَذَّنَ في الناس بالحج
(اللهم لبيك) أي ياالله أَجَبْنَاكَ فِيمَا دَعَوْتَنَا
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ في مسنده وبن أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظبيان عن أبيه عن بن عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قِيلَ لَهُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَالَ رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي قَالَ أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ قَالَ فَنَادَى إِبْرَاهِيمُ ياأيها النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَفَلَا تَرَوْنَ أَنَّ النَّاسَ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ
ومن طريق بن جريج عن عطاء عن بن عَبَّاسٍ وَفِيهِ فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ وَأَوَّلُ مَنْ أَجَابَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ فَلَيْسَ حَاجٌّ يَحُجُّ مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ إِلَّا مَنْ كَانَ أَجَابَ إِبْرَاهِيمُ يَوْمَئِذٍ (إِنَّ الْحَمْدَ) رُوِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافٍ كَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَبَّيْكَ اسْتَأْنَفَ كَلَامًا آخَرَ فَقَالَ إِنَّ الْحَمْدَ وَبِالْفَتْحِ عَلَى التَّعْلِيلِ كَأَنَّهُ قَالَ أَجَبْتُكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْكَسْرُ أَجْوَدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُ عَنْ أبي حنيفة وبن قدامة عن أحمد بن حنبل وبن عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ اخْتِيَارِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْإِجَابَةُ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ فَإِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ والفتح بدل عَلَى التَّعْلِيلِ لَكِنْ قَالَ فِي اللَّامِعِ وَالْعُدَّةِ إِنَّهُ إِذَا كُسِرَ صَارَ لِلتَّعْلِيلِ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ اسْتِئْنَافٌ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ عَنِ الْعِلَّةِ (وَالنِّعْمَةَ لَكَ) بِكَسْرِ النُّونِ الْإِحْسَانُ وَالْمِنَّةُ مُطْلَقًا وَهِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْأَشْهَرِ عَطْفًا عَلَى الْحَمْدِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ خَبَرِ إِنَّ تَقْدِيرُهُ إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ والنعمة مستقرة لك
وجوز بن الْأَنْبَارِيِّ أَنْ يَكُونَ الْمَوْجُودُ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرُ إن هو
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه فِي مَعْنَى التَّلْبِيَة ثَمَانِيهِ أَقْوَال أَحَدهمَا إِجَابَة لَك بَعْد إِجَابَة وَلِهَذَا الْمَعْنَى كُرِّرَتْ التَّلْبِيَة إِيذَانًا بِتَكْرِيرِ الْإِجَابَة(5/175)
الْمَحْذُوفُ (وَالْمُلْكَ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَالْمُلْكُ كَذَلِكَ (وَسَعْدَيْكَ) هُوَ مِنْ بَابِ لَبَّيْكَ فَيَأْتِي فِيهِ مَا سَبَقَ وَمَعْنَاهُ أَسْعِدْنِي إِسْعَادًا بَعْدَ إِسْعَادٍ فَالْمَصْدَرُ فِيهِ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي مَعْنَاهُ أُسْعِدكَ بِالْإِجَابَةِ إِسْعَادًا بَعْدَ إِسْعَادٍ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهِ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ
وَقِيلَ الْمَعْنَى مُسَاعَدَةٌ عَلَى طَاعَتِكَ بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ فَيَكُونُ مِنَ الْمُضَافِ الْمَنْصُوبِ (وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ وَبِضَمِّهَا مَعَ الْقَصْرِ كَالْعَلَاءِ وَالْعُلَا وَبِالْفَتْحِ مَعَ الْقَصْرِ وَمَعْنَاهُ الطَّلَبُ والمسألة يعني أنه تعالى هو المطلوب المسؤول مِنْهُ فَبِيَدِهِ جَمِيعُ الْأُمُورُ (وَالْعَمَلُ) لَهُ سُبْحَانَهُ لأنه المستحق للعبادة وحده
وفي حَذْفٌ يُحْتَمَلُ أَنَّ تَقْدِيرَهُ وَالْعَمَلُ إِلَيْكَ أَيْ إِلَيْكَ الْقَصْدُ بِهِ وَالِانْتِهَاءُ بِهِ إِلَيْكَ لِتُجَازِيَ عَلَيْهِ وَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بن عقبة عن نافع وغيره عن بن عُمَرَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ فَقَالَ لَبَّيْكَ الْحَدِيثَ
وَلِلْبُخَارِيِّ فِي اللِّبَاسِ مِنْ طَرِيقِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الثاني أنه انقياد من قولهم لببت الرَّجُل إِذَا قَبَضْت عَلَى تَلَابِيبه وَمِنْهُ لَبَّبْته بِرِدَائِهِ وَالْمَعْنَى اِنْقَدْت لَك وَسَعَتْ نَفْسِي لَك خَاضِعَة ذَلِيلَة كَمَا يُفْعَل بِمَنْ لُبِّبَ بِرِدَائِهِ وَقُبِضَ عَلَى تَلَابِيبه الثَّالِث أَنَّهُ مِنْ لَبَّ بِالْمَكَانِ إِذَا قَامَ بِهِ وَلَزِمَهُ
وَالْمَعْنَى أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك مُلَازِم لَهَا
اِخْتَارَهُ صَاحِب الصِّحَاح
الرَّابِع أَنَّهُ مِنْ قَوْلهمْ دَارِي تَلِبّ دَارك أَيْ تُوَاجِههَا وَتُقَابِلهَا أَيْ مُوَاجِهَتك بِمَا تُحِبّ مُتَوَجِّه إِلَيْك
حَكَاهُ فِي الصِّحَاح عَنْ الْخَلِيل
الْخَامِس مَعْنَاهُ حُبًّا لَك بَعْد حُبّ مِنْ قَوْلهمْ
اِمْرَأَة لَبَّة إِذَا كَانَتْ مُحِبَّة لِوَلَدِهَا
السَّادِس أَنَّهُ مَأْخُوذ مِنْ لَبَّ الشَّيْء وَهُوَ خَالِصه وَمِنْهُ لَبَّ الطَّعَام وَلَبَّ الرَّجُل عَقْله وَقَلْبه
وَمَعْنَاهُ أَخْلَصْت لُبِّي وَقَلْبِي لَك وَجَعَلْت لَك لُبِّي وَخَالِصَتِي
السَّابِع أَنَّهُ مِنْ قولهم فلان رخي اللبب وفي لب رَخِيّ أَيْ فِي حَال وَاسِعَة مُنْشَرِح الصَّدْر
وَمَعْنَاهُ إِنِّي مُنْشَرِح الصَّدْر مُتَّسِع الْقَلْب لِقَبُولِ دَعْوَتك وَإِجَابَتهَا مُتَوَجِّه إِلَيْك بِلَبَبٍ رَخِيّ يُوجِد الْمُحِبّ إِلَى مَحْبُوبه لَا بِكُرْهٍ وَلَا تَكَلُّف
الثَّامِن أَنَّهُ مِنْ الْإِلْبَاب وَهُوَ الِاقْتِرَاب أَيْ اِقْتِرَابًا إِلَيْك بَعْد اِقْتِرَاب كَمَا يَتَقَرَّب الْمُحِبّ من محبوبه(5/176)
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ مُلَبِّدًا يَقُولُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ الْحَدِيثَ
وَقَالَ فِي آخِرِهِ لَا يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ
زَادَ مسلم من هذا الوجه قال بن عُمَرَ كَانَ عُمَرُ يُهِلُّ بِهَذَا وَيَزِيدُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ وَهَذَا الْقَدْرُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ أَيْضًا عِنْدَهُ عن نافع عن بن عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِيهَا فَذَكَرَ نَحْوَهُ فعرف أن بن عُمَرَ اقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِأَبِيهِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ
قَالَ الطَّحَاوِيُّ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ بن عمر وبن مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى هَذِهِ التَّلْبِيَةِ غَيْرَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لَا بَأْسَ أَنْ يَزِيدَ مِنَ الذِّكْرِ لِلَّهِ مَا أَحَبَّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يعني الذي أخرجه النسائي وبن
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وسعديك مِنْ الْمُسَاعِدَة وَهِيَ الْمُطَاوَعَة
وَمَعْنَاهُ مُسَاعَدَة فِي طَاعَتك وَمَا تُحِبّ بَعْد مُسَاعِدَة
قَالَ الْحَرْبِيّ ولم يسمع سعديك مفردا
والرغباء إِلَيْك يُقَال بِفَتْحِ الرَّاء مَعَ الْمَدّ وَبِضَمِّهَا مَعَ الْقَصْر
وَمَعْنَاهَا الطَّلَب وَالْمَسْأَلَة وَالرَّغْبَة
وَاخْتَلَفَ النُّحَاة فِي الْيَاء فِي لَبَّيْكَ
فَقَالَ سِيبَوَيْهِ هِيَ يَاء التَّثْنِيَة
وَهُوَ مِنْ الْمُلْتَزَم نَصْبه عَلَى الْمَصْدَر كَقَوْلِهِمْ حَمْدًا وَشُكْرًا وَكَرَامَة وَمَسَرَّة
وَالْتَزَمُوا تَثْنِيَته إِيذَانًا بِتَكْرِيرِ مَعْنَاهُ وَاسْتِدَامَته
وَالْتَزَمُوا إِضَافَته إِلَى ضَمِير الْمُخَاطَب لَمَّا خَصُّوهُ بِإِجَابَةِ الداعي
وقد جاء إضافته إلى ضمير للغائب نَادِرًا كَقَوْلِ الشَّاعِر دَعَوْت لَمَّا نَابَنِي مُسَوَّرًا فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيَّ مُسَوَر وَالتَّثْنِيَة فِيهِ كَالتَّثْنِيَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ اِرْجِعْ الْبَصَر كَرَّتَيْنِ} وَلَيْسَ الْمُرَاد مِمَّا يَشْفَع الْوَاحِد فَقَطّ
وَكَذَلِكَ سَعْدِيّك وَدَوَالِيك
وَقَالَ يُونُس هُوَ مُفْرَد وَالْبَاء فِيهِ مِثْل عَلَيْك وَإِلَيْك وَلَدَيْك
وَمِنْ حَجَّة سيبويه على يونس أن على وإلى يَخْتَلِفَانِ بِحَسْب الْإِضَافَة فَإِنَّ جَرًّا مُضْمِرًا كَانَا بِالْيَاءِ وَإِنَّ جَرًّا ظَاهِرًا كَانَا بِالْأَلْفِ
فَلَوْ كَانَ لَبَّيْكَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ بِالْيَاءِ فِي جَمِيع أَحْوَاله سَوَاء أُضَيِّف إِلَى ظَاهِر أَوْ مُضْمِر كَمَا قَالَ فَلُبِّي يَدِيّ مُسَوَّر
وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ النُّحَاة أُصَلِّ الْكَلِمَة لُبًّا لُبًّا أَيّ إِجَابَة بَعْد إِجَابَة فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ تَكْرَار الْكَلِمَة فَجَمَعُوا بَيْن اللَّفْظَيْنِ لِيَكُونَ أَخَفْ عَلَيْهِمْ فَجَاءَتْ التَّثْنِيَة وَحَذَفَ التَّنْوِين لِأَجَلِ الْإِضَافَة
وَقَدْ اِشْتَمَلَتْ كَلِمَات التَّلْبِيَة عَلَى قَوَاعِد عَظِيمَة وَفَوَائِد جليلة(5/177)
ماجه وصححه بن حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ قَالَ مِنْ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّيْكَ إِلَهَ الْحَقِّ لبيك وبزيادة بن عُمَرَ الْمَذْكُورَةِ
وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ فَقَالُوا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَى مَا عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ ثُمَّ فَعَلَهُ هُوَ وَلَمْ يَقُلْ لَبُّوا بِمَا شِئْتُمْ مِمَّا مِنْ جِنْسِ هَذَا بَلْ عَلَّمَهُمْ كَمَا عَلَّمَهُمُ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ فَكَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَدَّى فِي ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا عَلَّمَهُ ثُمَّ أَخْرَجَ حَدِيثَ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
إِحْدَاهَا أَنَّ قَوْلك لَبَّيْكَ يَتَضَمَّن إِجَابَة دَاعٍ دَعَاك وَمُنَادٍ نَادَاك وَلَا يَصِحّ فِي لُغَة وَلَا عَقْل إِجَابَة مِنْ لَا يَتَكَلَّم وَلَا يَدْعُو مِنْ أَجَابَهُ
الثَّانِيَة أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْمَحَبَّة كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا يُقَال لَبَّيْكَ إِلَّا لِمِنْ تُحِبّهُ وَتُعَظِّمهُ وَلِهَذَا قِيلَ فِي مَعْنَاهَا أَنَا مُوَاجِه لَك بِمَا تُحِبّ وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلهمْ اِمْرَأَة لَبَّة أَيّ مَحَبَّة لِوَلَدِهَا
الثَّالِثَة أَنَّهَا تَتَضَمَّن اِلْتِزَام دَوَام الْعُبُودِيَّة وَلِهَذَا قِيلَ هِيَ مِنْ الْإِقَامَة أَيّ أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك
الرَّابِعَة أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْخُضُوع وَالذُّلّ أَيّ خُضُوعًا بَعْد خُضُوع مِنْ قَوْلهمْ
أَنَا مُلَبٍّ بَيْن يَدَيْك أَيّ خَاضِع ذَلِيل
الْخَامِسَة أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِخْلَاص وَلِهَذَا قِيلَ
إِنَّهَا مِنْ اللُّبّ وَهُوَ الْخَالِص
السَّادِسَة أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِقْرَار بِسَمْعِ الرَّبّ تَعَالَى إِذْ يَسْتَحِيل أَنَّ يَقُول الرَّجُل لَبَّيْكَ لِمِنْ لَا يَسْمَع دُعَاءَهُ
السَّابِعَة أَنَّهَا تَتَضَمَّن التَّقَرُّب مِنْ اللَّه وَلِهَذَا قِيلَ
إِنَّهَا مِنْ الْإِلْبَاب وَهُوَ التَّقَرُّب
الثَّامِنَة أَنَّهَا جَعَلَتْ فِي الْإِحْرَام شِعَارًا لِانْتِقَالِ مِنْ حَال إِلَى حَال وَمِنْ مَنْسَك إِلَى مَنْسَك كَمَا جَعَلَ التَّكْبِير فِي الصَّلَاة سَبْعًا لِلِانْتِقَالِ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّة أَنْ يُلَبِّي حَتَّى يَشْرَع فِي الطَّوَاف فَيَقْطَع التَّلْبِيَة ثُمَّ إِذَا سَارَ لَبَّى حَتَّى يَقِف بِعَرَفَة فَيَقْطَعهَا ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَقِف بِمُزْدِلَفَةَ فَيَقْطَعهَا ثُمَّ يُلَبِّي حتى يرمي جمرة العقبة
فيقطعها فَالتَّلْبِيَة شِعَار الْحَجّ وَالتَّنَقُّل فِي أَعْمَال الْمَنَاسِك فَالْحَاجّ كُلَّمَا اِنْتَقَلَ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن قَالَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّي يَقُول فِي اِنْتِقَاله مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن اللَّه أَكْبَر فَإِذَا حَلَّ مِنْ نُسُكه قَطَعَهَا كَمَا يَكُون سَلَام الْمُصَلِّي قَاطِعًا لِتَكْبِيرِهِ
التَّاسِعَة أَنَّهَا شِعَار لِتَوْحِيدِ مِلَّة إِبْرَاهِيم الَّذِي هُوَ رُوح الْحَجّ وَمَقْصِده بَلْ رُوح الْعِبَادَات كُلّهَا وَالْمَقْصُود مِنْهَا
وَلِهَذَا كَانَتْ التَّلْبِيَة مِفْتَاح هَذِهِ الْعِبَادَة الَّتِي يَدْخُل فِيهَا بِهَا
الْعَاشِرَة أَنَّهَا مُتَضَمِّنَة لِمِفْتَاحِ الْجَنَّة وَبَاب الْإِسْلَام الَّذِي يَدْخُل مِنْهُ إِلَيْهِ وَهُوَ كَلِمَة الْإِخْلَاص وَالشَّهَادَة لِلَّهِ بِأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ(5/178)
فَقَالَ إِنَّهُ لَذُو الْمَعَارِجِ وَمَا هَكَذَا كُنَّا نُلَبِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى
وَسَيَأْتِي بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهِ
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي حُكْمِ التَّلْبِيَةِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ الْأَوَّلُ أَنَّهَا سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهَا شَيْءٌ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ
وَالثَّانِي وَاجِبَةٌ وَيَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ
حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عن بعض الشافعية وحكاه بن قُدَامَةَ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْخَطَّابِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالثَّالِثُ وَاجِبَةٌ لَكِنْ يَقُومُ مَقَامَهَا فعل يتعلق بالحج
قال بن الْمُنْذِرِ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِنْ كَبَّرَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ سَبَّحَ يَنْوِي بِذَلِكَ الْإِحْرَامَ فَهُوَ مُحْرِمٌ
الرَّابِعُ أَنَّهَا رُكْنٌ فِي الْإِحْرَامِ لَا ينعقد
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
الْحَادِيَة عَشَرَة أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَحَبّ مَا يَتَقَرَّب بِهِ الْعَبْد إِلَى اللَّه وَأَوَّل مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّة أَهْله وَهُوَ فَاتِحَة الصَّلَاة وَخَاتِمَتهَا
الثَّانِيَة عَشْرَة أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف لِلَّهِ بِالنِّعْمَةِ كُلّهَا وَلِهَذَا عَرَّفَهَا بِاللَّامِ الْمُفِيدَة لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ النِّعَم كُلّهَا لَك وَأَنْتَ مُولِيهَا وَالْمُنْعِم بِهَا
الثَّالِثَة عَشْرَة أَنَّهَا مُشْتَمِلَة عَلَى الِاعْتِرَاف بِأَنَّ الْمِلْك كُلّه لِلَّهِ وَحْده فَلَا مِلْك عَلَى الْحَقِيقَة لِغَيْرِهِ
الرَّابِعَة عَشْرَة أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُؤَكَّد الثُّبُوت بِإِنَّ الْمُقْتَضِيَة تَحْقِيق الْخَبَر وَتَثْبِيته وَأَنَّهُ مِمَّا لَا يَدْخُلهُ رَيْب وَلَا شَكّ
الْخَامِسَة عَشْرَة فِي إِنَّ وَجْهَانِ فَتْحهَا وَكَسْرهَا فَمَنْ فَتَحَهَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى التَّعْلِيل أَيْ لَبَّيْكَ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَمَنْ كَسَرَهَا كَانَتْ جُمْلَة مُسْتَقِلَّة مُسْتَأْنَفَة تَتَضَمَّن اِبْتِدَاء الثَّنَاء عَلَى اللَّه وَالثَّنَاء إِذَا كَثُرَتْ جُمَله وَتَعَدَّدَتْ كَانَ أَحْسَن من قلتها وأما إذا فتحت فإنها تقدر بِلَامِ التَّعْلِيل الْمَحْذُوفَة مَعَهَا قِيَاسًا وَالْمَعْنَى لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْد لَك وَالْفَرْق بَيْن أَنْ تَكُون جُمَل الثَّنَاء عِلَّة لِغَيْرِهَا وَبَيْن أَنْ تَكُون مُسْتَقِلَّة مُرَادَة لِنَفْسِهَا وَلِهَذَا قَالَ ثَعْلَب مَنْ قَالَ إِنَّ بِالْكَسْرِ فَقَدْ عَمَّ وَمَنْ قَالَ أَنَّ بِالْفَتْحِ فَقَدْ خَصَّ
وَنَظِير هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَالتَّعْلِيلَيْنِ وَالتَّرْجِيح سَوَاء قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَنْ الْمُؤْمِنِينَ {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْل نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم} كَسْر إِنَّ وَفَتْحهَا
فَمَنْ فَتَحَ كَانَ الْمَعْنَى نَدْعُوهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم وَمَنْ كَسَرَ كَانَ الْكَلَام جُمْلَتَيْنِ إِحَدهمَا قَوْله نَدْعُوهُ ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ إِنَّهُ هُوَ الْبَرّ الرَّحِيم قَالَ أَبُو عُبَيْد وَالْكَسْر أَحْسَن وَرَجَّحَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ
السَّادِسَة عَشْرَة أَنَّهَا مُتَضَمِّنَة لِلْإِخْبَارِ عَنْ اِجْتِمَاع الْمُلْك وَالنِّعْمَة وَالْحَمْد لِلَّهِ عزوجل وَهَذَا نَوْع آخَر مِنْ الثَّنَاء عَلَيْهِ غَيْر الثَّنَاء بِمُفْرَدَاتِ تِلْكَ الْأَوْصَاف الْعَلِيَّة فَلَهُ سُبْحَانه مِنْ أَوْصَافه الْعُلَى نَوْعَا ثَنَاء نَوْع مُتَعَلِّق بِكُلِّ صِفَة عَلَى اِنْفِرَادهَا وَنَوْع مُتَعَلِّق بِاجْتِمَاعِهَا وَهُوَ كَمَال مَعَ كَمَال وَهُوَ عَامَّة الْكَمَال والله سبحانه(5/179)
بدونها حكاه بن عبد البر عن الثوري وأبي حنيفة وبن حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ قَالُوا هِيَ نَظِيرُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِلصَّلَاةِ
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
يُفَرَّق فِي صِفَاته بَيْن الْمُلْك وَالْحَمْد وَسَوَّغَ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اِقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ مِنْ أَعْظَم الْكَمَال وَالْمُلْك وَحْده كَمَال وَالْحَمْد كَمَال وَاقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ كَمَال فَإِذَا اِجْتَمَعَ الْمُلْك الْمُتَضَمِّن لِلْقُدْرَةِ مَعَ النِّعْمَة الْمُتَضَمِّنَة لِغَايَةِ النَّفْع وَالْإِحْسَان وَالرَّحْمَة مَعَ الْحَمْد الْمُتَضَمِّن لِعَامَّةِ الْجَلَال وَالْإِكْرَام الدَّاعِي إِلَى مَحَبَّته كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَظَمَة وَالْكَمَال وَالْجَلَال مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ وَهُوَ أَهْله وَكَانَ فِي ذِكْر الْحَمْد لَهُ وَمَعْرِفَته بِهِ مِنْ اِنْجِذَاب قَلْبه إِلَى اللَّه وَإِقْبَاله عَلَيْهِ وَالتَّوَجُّه بِدَوَاعِي الْمَحَبَّة كُلّهَا إِلَيْهِ مَا هُوَ مَقْصُود الْعُبُودِيَّة وَلُبّهَا وَذَلِكَ فَضْل اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء
وَنَظِير هَذَا اِقْتِرَان الْغِنَى بِالْكَرَمِ كَقَوْلِهِ {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيّ كَرِيم} فَلَهُ كَمَال مِنْ غِنَاهُ وَكَرَمه وَمِنْ اِقْتِرَان أَحَدهمَا بِالْآخَرِ
وَنَظِيره اِقْتِرَان الْعِزَّة بِالرَّحْمَةِ {وَإِنَّ رَبّك لَهُوَ الْعَزِيز الرَّحِيم}
وَنَظِيره اِقْتِرَان العفو بالقدرة {وكان الله عفوا غفورا}
وَنَظِيره اِقْتِرَان الْعِلْم بِالْحِلْمِ {وَاَللَّه عَلِيم حَلِيم}
وَنَظِيره اِقْتِرَان الرَّحْمَة بِالْقُدْرَةِ {وَاَللَّه قَدِير وَاَللَّه غَفُور رَحِيم}
وَهَذَا يُطْلِع ذَا اللُّبّ عَلَى رِيَاض مِنْ الْعِلْم أَنِيقَات وَيَفْتَح لَهُ بَاب مَحَبَّة اللَّه وَمَعْرِفَته وَاَللَّه الْمُسْتَعَان وَعَلَيْهِ التُّكْلَان
السابعة عشرة أن النبي قَالَ أَفْضَل مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير وَقَدْ اِشْتَمَلَتْ بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَات بِعَيْنِهَا وَتَضَمَّنَتْ مَعَانِيهَا وَقَوْله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير لَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت قَوْلك فِي التَّلْبِيَة لَا شَرِيك لَك
وَلَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت قَوْلك إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَلَك أَنْ تُدْخِلهَا تَحْت إِثْبَات الْمُلْك لَهُ تَعَالَى إِذْ لَوْ كَانَ بَعْض الْمَوْجُودَات خَارِجًا عَنْ قُدْرَته وَمُلْكه وَاقِعًا بِخَلْقِ غَيْره لَمْ يَكُنْ نَفْي الشَّرِيك عَامًّا وَلَمْ يَكُنْ إِثْبَات الْمُلْك وَالْحَمْد لَهُ عَامًّا وَهَذَا مِنْ أَعْظَم الْمُحَال وَالْمُلْك كُلّه لَهُ وَالْحَمْد كُلّه لَهُ وَلَيْسَ لَهُ شَرِيك بِوَجْهٍ من الوجوه
الثامنة عشر أَنَّ كَلِمَات التَّلْبِيَة مُتَضَمِّنَة لِلرَّدِّ عَلَى كُلّ مُبْطِل فِي صِفَات اللَّه وَتَوْحِيده فَإِنَّهَا مُبْطِلَة لِقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اِخْتِلَاف طَوَائِفهمْ وَمَقَالَاتهمْ
وَلِقَوْلِ الْفَلَاسِفَة وَإِخْوَانهمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ الْمُعَطِّلِينَ لِصِفَاتِ الْكَمَال الَّتِي هِيَ مُتَعَلَّق الْحَمْد فَهُوَ سُبْحَانه مَحْمُود لِذَاتِهِ وَلِصِفَاتِهِ وَلِأَفْعَالِهِ فَمَنْ(5/180)
قال التلبية فرض الحج
وحكاه بن المنذر عن بن عمر وطاووس وعكرمة وحكى النووي عن داود أنه لابد مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا وَهَذَا زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ كَوْنِهَا رُكْنًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ومسلم والنسائي والترمذي وبن مَاجَهْ
[1813] (ذَا الْمَعَارِجِ) مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَعَارِجُ الْمَصَاعِدُ وَالدَّرَجُ وَاحِدُهَا مَعْرَجٌ يُرِيدُ مَعَارِجَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى السَّمَاءِ وَقِيلَ الْمَعَارِجُ الْفَوَاضِلُ الْعَالِيَةُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ ذَا الْمَعَارِجِ وَذَا الْفَوَاضِلِ (فَلَا يَقُولُ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَهُمْ شَيْئًا) فَسُكُوتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِمْ يَدُلُّ على جواز الزيادة على التلبية المعنية ويدل
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
جَحَدَ صِفَاته وَأَفْعَاله فَقَدْ جَحَدَ حَمْده وَمُبْطِلَة لقول مجوس الأمة لقدرية الَّذِينَ أَخْرَجُوا مِنْ مِلْك الرَّبّ وَقُدْرَته أَفْعَال عِبَاده مِنْ الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ وَالْإِنْس فَلَمْ يُثْبِتُوا لَهُ عَلَيْهَا قُدْرَة وَلَا جَعَلُوهُ خَالِقًا لَهَا
فَعَلَى قَوْلهمْ لَا تَكُون دَاخِلَة تَحْت مُلْكه إِذْ مَنْ لَا قُدْرَة لَهُ عَلَى الشَّيْء كَيْفَ يَكُون هَذَا الشَّيْء دَاخِلًا تَحْت مُلْكه فَلَمْ يَجْعَلُوا الْمُلْك كُلّه لِلَّهِ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير وَأَمَّا الْفَلَاسِفَة فَعِنْدهمْ لَا قُدْرَة لَهُ عَلَى شَيْء الْبَتَّة فَمَنْ عَلِمَ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَات وَشَهِدَهَا وَأَيْقَنَ بِهَا بَايَنَ جَمِيع الطَّوَائِف الْمُعَطِّلَة
التَّاسِعَة عَشْرَة فِي عَطْف الْمُلْك عَلَى الْحَمْد وَالنِّعْمَة بَعْد كَمَالِ الْخَبَر وَهُوَ قَوْله إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَالْمُلْك وَلَمْ يَقُلْ إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك لَطِيفَة بَدِيعَة وَهِيَ أَنَّ الْكَلَام يَصِير بِذَلِكَ جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك لَك كَانَ عَطْف الْمُلْك عَلَى مَا قَبْله عَطْف مُفْرَد فَلَمَّا تَمَّتْ الْجُمْلَة الْأُولَى بِقَوْلِهِ لَك ثُمَّ عَطَفَ الْمُلْك كَانَ تَقْدِيره وَالْمُلْك لَك
فَيَكُون مُسَاوِيًا لِقَوْلِهِ لَهُ الْمُلْك وَلَهُ الْحَمْد وَلَمْ يَقُلْ لَهُ الْمُلْك وَالْحَمْد وَفَائِدَته تَكْرَار الْحَمْد فِي الثَّنَاء
الْعِشْرُونَ لَمَّا عَطَفَ النِّعْمَة عَلَى الْحَمْد وَلَمْ يَفْصِل بَيْنهمَا بِالْخَبَرِ كَانَ فِيهِ إِشْعَار بِاقْتِرَانِهِمَا وَتَلَازُمهمَا وَعَدَم مُفَارَقَة أَحَدهمَا لِلْآخَرِ فَالْإِنْعَام وَالْحَمْد قَرِينَانِ
الْحَادِيَة وَالْعِشْرُونَ فِي إِعَادَة الشَّهَادَة لَهُ بِأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ لَطِيفَة وَهِيَ أَنَّهُ أَخْبَرَ لَا شَرِيك لَهُ عَقِب إِجَابَته بِقَوْلِهِ لَبَّيْكَ ثُمَّ أَعَادَهَا عَقِب قَوْله إِنَّ الْحَمْد وَالنِّعْمَة لَك وَالْمُلْك لَا شَرِيك لَك
وَذَلِكَ يَتَضَمَّن أَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ فِي الْحَمْد وَالنِّعْمَة وَالْمُلْك وَالْأَوَّل يَتَضَمَّن أَنَّهُ لَا شَرِيك لَك فِي إِجَابَة هَذِهِ الدَّعْوَة وَهَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى {شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُو الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم}(5/181)
عَلَى جَوَازِ مَا وَقَعَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ عَنِ بن مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يُلَبِّي بِغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا تقدم عن عمر وبن عُمَرَ
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَبَّيْكَ غَفَّارَ الذُّنُوبِ
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ الْحَجِّ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ قَالَ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ وَلَزِمَ تَلْبِيَتَهُ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى التَّلْبِيَةِ الْمَرْفُوعَةِ أَفْضَلُ لِمُدَاوَمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ كَذَا فِي الْفَتْحِ
وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ فَإِنْ زَادَ فِي التَّلْبِيَةِ شَيْئًا مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أن بن عُمَرَ حَفِظَ التَّلْبِيَةَ عَنْهُ ثُمَّ زَادَ مِنْ قِبَلِهِ زِيَادَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ بن ماجه انْتَهَى
[1814] (أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي) وَالْحَدِيثُ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الصَّوْتِ لِلرَّجُلِ بِالتَّلْبِيَةِ بِحَيْثُ لا يضر نفسه وبه قال بن رَسْلَانَ وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ أَصْحَابِي النِّسَاءُ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لا تجهر بِهَا بَلْ تَقْتَصِرُ عَلَى إِسْمَاعِ نَفْسِهَا
وَذَهَبَ دَاوُدُ إِلَى أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ وَاجِبٌ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي لَا سِيَّمَا وَأَفْعَالُ الْحَجِّ وَأَقْوَالُهُ بَيَانٌ لِمُجْمَلٍ وَاجِبٍ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلِلَّهِ على الناس حج البيت وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى التَّلْبِيَةَ وَاجِبَةً وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَقَالَ مَنْ لَمْ يُلَبِّ لَزِمَهُ دَمٌ وَلَا شَيْءَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْ لَمْ يُلَبِّ
قال المنذري وأخرجه الترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
فَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فِي أَوَّل الْآيَة وَذَلِكَ دَاخِل تَحْت شَهَادَته وَشَهَادَة مَلَائِكَته وَأُولِي الْعِلْم وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُود بِهِ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قِيَامه بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْل فَأَعَادَ الشَّهَادَة بِأَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ مَعَ قِيَامه بِالْقِسْطِ(5/182)
28 - (باب متى يقطع الحاج التَّلْبِيَةَ)
[1815] (لَبَّى حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ ذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا إِلَى حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ دُونَ حَدِيثِ بن عُمَرَ وَقَالُوا لَا يَزَالُ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ جمرة العقبة إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَقْطَعُهَا مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ
وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يُلَبِّي حَتَّى يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ ثُمَّ يَقْطَعُهَا وَقَالَ يُلَبِّي حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَإِذَا رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ قَطَعَهَا
وَقَالَ الْحَسَنُ يُلَبِّي حَتَّى يُصَلِّيَ الْغَدَاةَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ أَمْسَكَ عَنْهَا
وَكَرِهَ مَالِكٌ التَّلْبِيَةَ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ وَلَمْ يَكْرَهْهَا غَيْرُهُ
انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي وبن مَاجَهْ
وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حِينَ بَلَغَ الْجَمْرَةَ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَرْمِيَ الْجَمْرَةَ بِأَسْرِهَا سَبْعَ حَصَيَاتٍ وَقَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَفِي حديث بن مَسْعُودٍ نَحْوُهُ وَذَلِكَ يُؤَيِّدُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ
[1816] (قَالَ غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ النَّوَوِيُّ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِمُسْلِمٍ يُهِلُّ الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا فِي الذَّهَابِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالتَّلْبِيَةُ أَفْضَلُ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بَعْدَ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ(5/183)
29 - (بَاب مَتَى يَقْطَعُ الْمُعْتَمِرُ التَّلْبِيَةَ)
[1817] (حَتَّى يَسْتَلِمَ الحجر) قال بن الْأَثِيرِ هُوَ افْتَعَلَ مِنَ السَّلَامِ التَّحِيَّةِ وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ الْمُحَيَّا أَيْ أَنَّ النَّاسَ يُحَيُّونَهُ بِالسَّلَامِ وَقِيلَ هُوَ افْتَعَلَ مِنَ السَّلَامِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ وَاحِدَتُهَا سَلِمَةٌ بِكَسْرِ اللَّامِ يُقَالُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ إِذَا لَمَسَهُ وَتَنَاوَلَهُ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ صَحِيحٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ
وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ
قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ بن عَبَّاسٍ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا لَا يَقْطَعُ الْمُعْتَمِرُ التَّلْبِيَةَ حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا انْتَهَى إِلَى بُيُوتِ مَكَّةَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ وَالْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى الَلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ انْتَهَى
قُلْتُ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ حَدَّثَنَا هَنَّادٌ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنِ بن أبي ليلى عن عطاء عن بن عَبَّاسٍ قَالَ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِنَّهُ كَانَ يُمْسِكُ عَنِ التَّلْبِيَةِ فِي الْعُمْرَةِ إِذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ انتهى
0 - (باب المحرم يؤدب غلامه)
[1818] وبوب بن مَاجَهْ فِي التَّوَقِّي فِي الْإِحْرَامِ
(إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَالْجِيمِ(5/184)
قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْفَرْعِ عَلَى أَيَّامٍ مِنَ الْمَدِينَةِ (وَكَانَتْ زِمَالَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَخْ) بِكَسْرِ الزَّايِ أَيْ مَرْكُوبُهُمَا وَمَا كَانَ مَعَهُمَا مِنْ أَدَاوَتِ السَّفَرِ وَاحِدًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ بن مَاجَهْ وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
1 - (بَاب الرَّجُلِ يُحْرِمُ فِي ثِيَابِهِ)
[1819] (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم) في فتح الْبَارِي لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِهِ لَكِنْ ذَكَرَ بن فَتْحُونَ أَنَّ اسْمَهُ عَطَاءُ بْنُ مُنْيَةَ
قَالَ بن فَتْحُونَ إِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَهُوَ أَخُو يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ رَاوِي الْخَبَرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَطَأٌ مِنِ اسْمِ الرَّاوِي فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ عَنْ أَبِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَ عَطَاءٍ وَيَعْلَى أَحَدًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَمْرَو بْنَ سَوَّادٍ إِذْ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ عَنْهُ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُتَخَلِّقٌ الْحَدِيثَ لَكِنْ عَمْرٌو هذا لا يدرك ذا فإنه صاحب بن وَهْبٍ (وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ عَلَى الصَّحِيحِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ
وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَهِيَ بَيْنَ الطَّائِفِ وَهِيَ إِلَى مَكَّةَ أَدْنَى فِي حُدُودِ الْحَرَمِ أحرم منه صلى الله عليه وسلم لِلْعُمْرَةِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّنْعِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَوْلِيَّ أَقْوَى عِنْدَهُ لِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ قَصْدِهِ وَالْفِعْلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اتِّفَاقِيًّا لَا قَصْدِيًّا وَقَدْ أَمَرَ صلى الله عليه وسلم عَائِشَةَ أَنْ تَعْتَمِرَ مِنَ التَّنْعِيمِ وَهُوَ أَقْرَبُ المواضع من الحرم
قاله علي القارىء (وَعَلَيْهِ أَثَرُ خَلُوقٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ(5/185)
الْمُعْجَمَةِ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ يُتَّخَذُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ حَتَّى كَادَ يَتَقَاطَرُ الطِّيبُ مِنْ بَدَنِهِ (وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ) ثَوْبٌ مَعْرُوفٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ جُبَّةُ الْبَرْدِ جَنَّةُ الْبَرْدِ (فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ) بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ كُشِفَ عَنْهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ (اغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الْخَلُوقِ) هُوَ أَعُمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ (وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ إِلَخْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَعْمَالَ الْحَجِّ
قَالَ بن الْعَرَبِيِّ كَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَخْلَعُونَ الثِّيَابَ وَيَجْتَنِبُونَ الطِّيبَ فِي الْإِحْرَامِ إِذَا حَجُّوا وَكَانُوا يَتَسَاهَلُونَ فِي ذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَجْرَاهُمَا واحد
وقال بن الْمُنِيرِ قَوْلُهُ وَاصْنَعْ مَعْنَاهُ اتْرُكْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ وَهِيَ أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ بن بَطَّالٍ أَرَادَ الْأَدْعِيَةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التُّرُوكَ مُشْتَرَكَةٌ بِخِلَافِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ فِي الْحَجِّ أَشْيَاءَ زَائِدَةٌ عَلَى الْعُمْرَةِ كَالْوُقُوفِ وَمَا بَعْدَهُ
قَالَهُ الْحَافِظُ
قال الخطابي فيه من الفقه أن أَحْرَمَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ مَخِيطٍ مِنْ قَمِيصٍ وَجُبَّةٍ وَنَحْوِهِمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ تَمْزِيقُهُ وَأَنَّهُ إِذَا نَزَعَهُ مِنْ رَأْسِهِ لَمْ يَلْزَمُهُ دَمٌ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَشُقُّهُ
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ يُمَزِّقُ ثِيَابَهُ قُلْتُ وَهَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِخَلْعِ الْجُبَّةِ وَخَلَعَهَا الرَّجُلُ مِنْ رَأْسِهِ فَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ غَرَامَةً وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وتَمْزِيقُ الثِّيَابِ تَضْيِيعٌ لَهُ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[1821] (عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ) يُقَالُ فِيهِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ وَيَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ وَأُمَيَّةُ أَبُوهُ وَمُنْيَةُ أُمُّهُ (وَيَغْتَسِلَ(5/186)
أَيْ مَحَلَّ الطِّيبِ مِنَ الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ (مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا) وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ اغْسِلِ الطيب الذي بك ثلاث مرات
قال بن جُرَيْجٍ أَحَدُ رُوَاتِهِ فَقُلْتُ لِعَطَاءٍ أَرَادَ الْإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ نَعَمْ
قَالَ الْحَافِظُ إِنَّ عَطَاءً فَهِمَ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أن يكون من كلام الصحابي وأنه صلى الله عليه وسلم أَعَادَ لَفْظَهُ اغْسِلْهُ مَرَّةً ثُمَّ مَرَّةً عَلَى عَادَتِهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ عَنْهُ
نَبَّهَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ انْتَهَى
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ اغْسِلْ عَنْكَ أَثَرَ الْخَلُوقِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِثَوْبِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَلَيْهِ قَمِيصٌ فِيهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ
وَالْخَلُوقُ فِي الْعَادَةِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الثَّوْبِ
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَطَاءٍ بِلَفْظِ رَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ جُبَّةٌ عَلَيْهَا أَثَرُ خَلُوقٍ
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ رَبَاحٍ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَمَنْصُورٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَطَاءٍ عن يعلى أن رجلا قال يارسول اللَّهِ إِنِّي أَحْرَمْتُ وَعَلَيَّ جُبَّتِي هَذِهِ وَعَلَى جُبَّتِهِ رَدْغٌ مِنْ خَلُوقٍ
الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَقَالَ اخْلَعْ هَذِهِ الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ هَذَا الزَّعْفَرَانَ
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا رَدٌّ عَلَى الْحَافِظِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ حَيْثُ قَالَ لَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْخَلُوقَ كَانَ عَلَى الثَّوْبِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ مُتَضَمِّخًا وَكَانَ مُصَفِّرًا لِحْيَتَهُ وَرَأَسَهُ
وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَهُوَ يُوَضِّحُ أَنَّ الطِّيبَ لَمْ يَكُنْ عَلَى ثَوْبِهِ وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى بَدَنِهِ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْجُبَّةِ لَكَانَ فِي نَزْعِهَا كِفَايَةٌ مِنْ جِهَةِ الْإِحْرَامِ
انْتَهَى كَلَامُهُ
وَاسْتُدِلَّ بِحَدِيثِ الْبَابِ عَلَى مَنْعِ اسْتِدَامَةِ الطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لِلْأَمْرِ بِغَسْلِ أَثَرِهِ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ بِأَنَّ قِصَّةَ يَعْلَى كَانَتْ بِالْجِعْرَانَةِ وَهِيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا طَيَّبَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا عِنْدَ إِحْرَامِهِمَا وَكَانَ ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ سَنَةُ عَشْرٍ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْأَمْرِ الْآخِرِ فَالْآخِرِ وَبِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِغَسْلِهِ فِي قِصَّةِ يَعْلَى إِنَّمَا هُوَ الْخَلُوقُ لَا مُطْلَقُ الطِّيبِ فَلَعَلَّ عِلَّةَ الْآمِرِ فِيهِ مَا خَالَطَهُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ تَزَعْفُرِ الرَّجُلِ مُطْلَقًا مُحْرِمًا وَغَيْرَ مُحْرِمٍ(5/187)
وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَنْ أَصَابَ طِيبًا فِي إِحْرَامِهِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا ثُمَّ عَلِمَ فَبَادَرَ إِلَى إِزَالَتِهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ
وَعَلَى أَنَّ اللُّبْسَ جَهْلًا لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ
وَقَالَ مَالِكٌ إِنْ طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ دَمٌ
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ يَجِبُ مُطْلَقًا
2 - (بَابُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ)
[1823] قَالَ الْحَافِظُ الْمُرَادُ بِالْمُحْرِمِ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أو قرن
وحكى بن دقيق العيد أن بن عَبْدِ السَّلَامِ كَانَ يَسْتَشْكِلُ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ الْإِحْرَامِ يَعْنِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ النِّيَّةُ لِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الْحَجِّ الَّذِي الْإِحْرَامُ رُكْنُهُ وَشَرْطُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ وَيَعْتَرِضُ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ التَّلْبِيَةُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ رُكْنًا وَكَأَنَّهُ يَحُومُ عَلَى تَعْيِينِ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ النِّيَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ انْتَهَى
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ مَجْمُوعُ الصِّفَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ تَجَرُّدٍ وتلبية ونحو ذلك
(وَلَا الْبُرْنُسَ) بِضَمِّ الْبَاءِ وَالنُّونِ هُوَ كُلُّ ثَوْبٍ رَأْسُهُ مِنْهُ مُلْتَزِقٌ بِهِ مِنْ دُرَّاعَةٍ أَوْ جُبَّةٍ أَوْ غَيْرِهِ
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ هُوَ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ كَانَ النُّسَّاكُ يَلْبَسُونَهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْبِرْسِ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْقُطْنِ كَذَا فِي مَجْمَعِ الْبِحَارِ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ غَطَّى رَأْسَهُ مِنْ مُعْتَادِ اللِّبَاسِ كَالْعَمَائِمِ وَالْقَلَانِسِ وَنَحْوِهَا وَكَالْبُرْنُسِ أَوِ الْحِمْلِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَالْمِكْتَلِ يَضَعُهُ فَوْقَهُ وَكُلُّ مَا دَخَلَ فِي مَعْنَاهُ فَإِنَّ فِيهِ الْفِدْيَةُ (وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ) الْوَرْسُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ نَبْتٌ أَصْفَرُ طيب الرائحة يصبغ به
قال بن الْعَرَبِيِّ لَيْسَ الْوَرْسُ مِنَ الطِّيبِ وَلَكِنَّهُ نَبَّهَ بِهِ عَلَى اجْتِنَابِ الطِّيبِ وَمَا يُشْبِهُهُ فِي مُلَاءَمَةِ الشَّمِّ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَحْرِيمُ أَنْوَاعِ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِيمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّطَيُّبُ
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ مَسَّهُ تَحْرِيمُ مَا صبغ كله أو بعضه ولكنه لابد عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمَصْبُوغِ رَائِحَةٌ فَإِنْ ذَهَبَتْ جَازَ لُبْسُهُ خِلَافًا لِمَالِكٍ (إِلَّا لِمَنْ لَا يَجِدِ النَّعْلَيْنِ) فِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ وَلْيُحْرِمْ أَحَدُكُمْ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ(5/188)
الْخُفَّيْنِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ وَاجِدَ النَّعْلَيْنِ لا يلبس الخفين المقطوعين
وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَعَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُهُ وَالْمُرَادُ بِالْوِجْدَانِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّحْصِيلِ (أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ) هُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مِفْصَلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ لَبِسَهُمَا إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ
وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ تَجِبُ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَاجَةِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ
وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقَطْعَ شَرْطٌ لجواز لبس الخفين خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ فَإِنَّهُ أَجَازَ لُبْسَهُمَا من غير قطع لإطلاق حديث بن عَبَّاسٍ الْآتِي وَأَجَابَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاجِبٌ وَهُوَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُخَالِفُ سُنَّةً تَبْلُغُهُ وَقَلَّتْ سُنَّةٌ لَمْ تَبْلُغْهُ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا وَفِيهِ أَنَّ الْمُحْرِمَ مَنْهِيٌّ عَنِ الطِّيبِ فِي بَدَنِهِ وَفِي لِبَاسِهِ وَفِي مَعْنَاهُ الطِّيبُ فِي طَعَامِهِ لِأَنَّ بُغْيَةَ النَّاسِ فِي تَطْيِيبِ الطَّعَامِ كَبُغْيَتِهِمْ فِي تَطْيِيبِ اللِّبَاسِ وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ وَوَجَدَ الْخُفَّيْنِ قَطَعَهُمَا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ تَضْيِيعِ الْمَالِ لَكِنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ وَكُلُّ إِتْلَافٍ مِنْ بَابِ الْمَصْلَحَةِ فَلَيْسَ بِتَضْيِيعٍ وَلَيْسَ فِي أَمْرِ الشَّرِيعَةِ إِلَّا الِاتِّبَاعُ وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَقَالَ عطاء لا يقطعهما لأن في قطعهما فساد وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَمِمَّنْ قَالَ يَقْطَعُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ بِنَحْوِهِ
[1825] (لَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ) أَيِ الْمُحْرِمَةُ وَالِانْتِقَابُ لُبْسُ غِطَاءٍ لِلْوَجْهِ فيه نقبان على العينين تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنْهُمَا
قَالَ فِي الْفَتْحِ النِّقَابُ الْخِمَارُ الَّذِي يُشَدُّ عَلَى الْأَنْفِ أَوْ تَحْتَ المحاجر
انتهى قاله الشوكاني
وقال بن الْمُنْذِرِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْبَسُ الْمَخِيطَ والخفاف وَلَهَا أَنْ تُغَطِّيَ رَأْسَهَا لَا وَجْهَهَا فَتَسْدُلُ الثَّوْبَ سَدْلًا خَفِيفًا تُسْتَرُ بِهِ عَنْ نَظَرِ الرِّجَالِ انْتَهَى (وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ) تَثْنِيَةُ الْقُفَّازِ بِوَزْنِ رُمَّانٍ
قَالَ فِي الْقَامُوسِ شَيْءٌ يُعْمَلُ لِلْيَدَيْنِ يُحْشَى بِقُطْنٍ تَلْبَسُهُمَا الْمَرْأَةُ لِلْبَرْدِ أَوْ ضَرْبٌ مِنَ الْحُلِيِّ لِلْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ
قَالَ فِي الْفَتْحِ وَالْقُفَّازُ بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ بَعْدَ الْأَلِفِ زَايٌ مَا تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ فِي يَدِهَا فَيُغَطِّي أَصَابِعَهَا وَكَفَّيْهَا عِنْدَ مُعَانَاةِ الشَّيْءِ كَغَزْلٍ وَنَحْوِهِ وَهُوَ لِلْيَدِ كَالْخُفِّ لِلرَّجُلِ
وَالنِّقَابُ الْخِمَارُ الذي يشد(5/189)
عَلَى الْأَنْفِ أَوْ تَحْتَ الْمَحَاجِرِ وَظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْمَرْأَةِ وَلَكِنِ الرَّجُلُ فِي الْقُفَّازِ مِثْلُهَا لكونه في معنى الخف فإن كلامنهما مُحِيطٌ بِجُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ
وَأَمَّا النِّقَابُ فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ جِهَةِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَغْطِيَةُ وَجْهِهِ عَلَى الرَّاجِحِ
وَمَعْنَى لَا تَنْتَقِبْ أَيْ لَا تَسْتُرْ وَجْهَهَا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ وَأَجَازَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي مَنْعِهَا مِنْ سَتْرِ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا بما سِوَى النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ والنسائي قال علي القارىء قَوْلُهُ لَا تَنْتَقِبْ نَفْيٌ أَوْ نَهْيٌ أَيْ لَا تَسْتُرْ وَجْهَهَا بِالْبُرْقُعِ وَالنِّقَابِ وَلَوْ سَدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا شَيْئًا مُجَافِيًا جَازَ وَتَغْطِيَةُ وَجْهِ الرجل حَرَامٌ كَالْمَرْأَةِ عِنْدَنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي رِوَايَةٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أَيْ مَرْفُوعًا بِذِكْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَلَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ كَمَا رَوَاهَا اللَّيْثُ لَكِنِ اخْتُلِفَ عَلَى مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَرَوَى حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْهُ عَنْ نَافِعٍ مَرْفُوعًا كَمَا قَالَ اللَّيْثُ وَرَوَى مُوسَى بْنُ طَارِقٍ عَنْهُ عَنْ نَافِعٍ مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرَ وَهَكَذَا رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ وَأَيُّوبُ كُلُّهُمْ عَنْ نافع عن بن عُمَرَ مَوْقُوفًا وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَدِينِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ مَرْفُوعًا لَكِنْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ هَذَا قَلِيلُ الْحَدِيثِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ
وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ مرفوعا بذكر هذا الزيادة ثم قال البخاري تابعه موسى بن عقد وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة وجويرية وبن إِسْحَاقَ فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ أَيْ هَؤُلَاءِ وَاللَّيْثُ بِذْكِرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَرْفُوعًا وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَمَالِكٌ وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ نَافِعٍ موقوفا
هذا معنى قول البخاري(5/190)
قالت أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ بن عُمَرَ لَا تَنْتَقِبِ الْمُحْرِمَةُ وَهُوَ اقْتَصَرَهُ عَلَى الْمَوْقُوفِ فَقَطْ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ لَا تَنْتَقِبِ الْمَرْأَةُ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ فَنَقَلَ الْحَاكِمُ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ بن عُمَرَ أُدْرِجَ فِي الْحَدِيثِ
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ ذِكْرَ الْقُفَّازَيْنِ إِنَّمَا هُوَ من قول بن عُمَرَ لَيْسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ إِنَّهُ رَوَاهُ اللَّيْثُ مُدْرَجًا وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ الْحُكْمَ بِالْإِدْرَاجِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ مُفْرَدًا مَرْفُوعًا كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الْمَدَنِيِّ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الْقُفَّازَيْنِ مُبْتَدَأً بِهِ فِي صدره الْحَدِيثِ مُسْنَدًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِقًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ غَيْرِهِ
قَالَ وَهَذَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِدْرَاجِ وَيُخَالِفُ الطَّرِيقَ الْمَشْهُورَةَ فروى أبو داود أيضا من طريق بن إِسْحَاقَ كَمَا سَيَأْتِي
وَقَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِدْرَاجِ لَكِنِ الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعِيدٍ الْمَدَنِيَّ مَجْهُولٌ وَقَدْ ذَكَرَهُ بن عَدِيٍّ مُقْتَصِرًا عَلَى ذِكْرِ النِّقَابِ
وَقَالَ لَا يُتَابَعُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ هَذَا عَلَى رَفْعِهِ
قَالَ وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ نَافِعٍ مِنْ قَوْلِ بن عُمَرَ
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعِيدٍ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي الْإِحْرَامِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مُقَارِبُ الحال
وفي الوجه الثاني بن إِسْحَاقَ وَهُوَ لَا شَكَّ دُونَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ وَقَدْ فَصَلَ الْمَوْقُوفَ مِنَ الْمَرْفُوعِ
وَقَوْلُ الشَّيْخِ إِنَّ هَذَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِدْرَاجِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِي الِاقْتِرَاحِ إِنَّهُ يُضَعِّفُ لَا يَمْنَعُهُ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ ظَنَّهُ مَرْفُوعًا قَدَّمَهُ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْحَدِيثِ سَائِغٌ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى قَالَهُ العيني رحمه الله
[1827] (أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ أَخْبَرَنَا أَبِي) هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سعد (عن بن إِسْحَاقَ قَالَ فَإِنَّ نَافِعًا) وَلَفْظُ(5/191)
أَحْمَدَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ (لَمْ يَذْكُرَا) أَيْ عَبَدَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ (مَا بَعْدَهُ) أَيْ مِنْ قَوْلِهِ وَلْتَلْبَسْ إِلَى آخِرِهِ إِنَّمَا تَفَرَّدَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
(وَجَدَ الْقُرَّ) بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْبَرْدُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ الْمُسْنَدَ مِنْهُ بِنَحْوِهِ أَتَمَّ مِنْهُ
[1829] (السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَا يَجِدُ الْإِزَارَ) قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي هَذَا الْحُكْمُ لِلْمُحْرِمِ لَا الْحَلَالِ فَلَا يَتَوَقَّفُ جَوَازُ لُبْسِهِ السَّرَاوِيلَ عَلَى فَقْدِ الْإِزَارِ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ أَحْمَدُ فَأَجَازَ لُبْسَ الْخُفِّ وَالسَّرَاوِيلِ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ وَالْإِزَارَ عَلَى حَالِهِمَا وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ قَطْعَ الْخُفِّ وَفَتْقِ السراويل فَلَوْ لَبِسَ شَيْئًا مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ لَزِمَتْهُ الفدية
والدليل لهم قوله في حديث بن عُمَرَ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَيُلْحَقُ النَّظِيرُ بِالنَّظِيرِ لاستوائهما في الحكم
وقال بن قُدَامَةَ الْأَوْلَى قَطْعُهُمَا عَمَلًا بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ انْتَهَى
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَكْثَرُ جَوَازُ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ بِغَيْرِ فَتْقٍ كَقَوْلِ أَحْمَدَ وَاشْتَرَطَ الْفَتْقَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَطَائِفَةٌ
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْعُ السَّرَاوِيلِ لِلْمُحْرِمِ مطلقا ومثله عن مالك وكأن حديث بن عَبَّاسٍ لَمْ يَبْلُغْهُ فَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ لَمْ أَسْمَعْ بِهَذَا الْحَدِيثِ
وَقَالَ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لُبْسُهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَمَا قَالَهُ أَصْحَابُهُمْ فِي الْخُفَّيْنِ وَمَنْ أَجَازَ لُبْسَ السَّرَاوِيلِ عَلَى حَالِهِ قَيَّدَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي حَالَةِ لَوْ فَتَقَهُ لَكَانَ إِزَارًا لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَكُونُ وَاجِدًا لِإِزَارٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ(5/192)
البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وبن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ أَتَمَّ مِنْهُ (هَذَا حَدِيثُ أَهْلِ مَكَّةَ) لِأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ مَكِّيٌّ وَرَوَى عَنْهُ الْمُصَنِّفُ وَإِسْنَادُ الْحَدِيثِ يَدُورُ عَلَى جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ وَهُوَ بَصْرِيٌّ
وَأَنَّ جَابِرًا لَمْ يَذْكُرِ الْقَطْعَ وَتَفَرَّدَ بِذِكْرِ السَّرَاوِيلِ
[1830] (فَنُضَمِّدُ) بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ نُلَطِّخُ (جِبَاهَنَا) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْجَبْهَةُ مِنَ الْإِنْسَانِ تُجْمَعُ عَلَى جِبَاهٍ مِثْلُ كَلْبَةٍ وَكِلَابٍ
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ هِيَ مَوْضِعُ السُّجُودِ (بِالسُّكِّ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ مَعْرُوفٌ (فَإِذَا عَرِقَتْ) بِكَسْرِ الرَّاءِ (فَلَا يَنْهَاهَا) وَسُكُوتُهُ صلى الله عليه وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لِأَنَّهُ لَا يَسْكُتُ عَلَى بَاطِلٍ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ من حديث بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّهَنَ بِزَيْتٍ غَيْرِ مُقَتَّتٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ
فِي الْقَامُوسِ زَيْتٌ مُقَتَّتٌ طُبِخَ فِيهِ الرَّيَاحِينُ أَوْ خُلِطَ بِأَدْهَانٍ طَيِّبَةٍ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِادِّهَانِ بِالزَّيْتِ الَّذِي لَمْ يُخْلَطُ بِشَيْءٍ مِنَ الطيب وقد قال بن الْمُنْذِرِ أَنَّهُ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَأْكُلَ الزَّيْتَ وَالشَّحْمَ وَالسَّمْنَ وَالشَّيْرَجَ وَأَنْ يَسْتَعْمِلَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ سِوَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ
قَالَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطِّيبَ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَدَنِهِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الطِّيبِ وَالزَّيْتِ فِي هَذَا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله حديث بن عُمَر هَذَا فِيهِ أَحْكَام عَدِيدَة الْحُكْم الْأَوَّل أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَس الْمُحْرِم وَهُوَ غَيْر مَحْصُور فَأَجَابَ بِمَا لَا يَلْبَس لِحَصْرِهِ
فَعُلِمَ أَنَّ غَيْره عَلَى الْإِبَاحَة وَنُبِّهَ بِالْقَمِيصِ عَلَى مَا فُصِّلَ لِلْبَدَنِ كُلّه مِنْ جُبَّة أَوْ دَلَق أَوْ دُرَّاعَة أَوْ عَرْقِشين وَنَحْوه
وَنَبَّهَ بِالْعِمَامَةِ عَلَى كُلّ ساتر للرأس معتاد كالقبع والطاقية والقلنسوة والكلتة(5/193)
وَاسْتَدَلَّ الْمُؤَلِّفُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ الطِّيبَ الْبَاقِيَ عَلَى الثَّوْبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لَا يَضُرُّ لُبْسُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ
[1831] (يَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ) لعموم حديث بن عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ شُمُولُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ (فَتَرَكَ ذَلِكَ) يَعْنِي رَجَعَ عَنْ فَتْوَاهُ
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ بِغَيْرِ قَطْعٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
انْتَهَى
قُلْتُ رِوَايَتُهُ لَيْسَتْ مُعَنْعَنَةً بَلْ شَافَهَ الزُّهْرِيَّ وروى عنه
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَنَحْوهَا وَنَبَّهَ بِالْبُرْنُسِ عَلَى الْمُحِيط بِالرَّأْسِ وَالْبَدَن جَمِيعًا كَالْغِفَارَةِ وَنَحْوهَا
وَنَبَّهَ بِالسَّرَاوِيلِ عَلَى الْمُفَصَّل عَلَى الْأَسَافِل كَالتُّبَّانِ وَنَحْوه
وَنَبَّهَ بِالْخُفَّيْنِ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ الْجُرْمُوق وَالْجَوْرَب وَالزُّرْبُول ذِي السَّاق وَنَحْوه
الْحُكْم الثَّانِي أَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ الثَّوْب الْمَصْبُوغ بِالْوَرْسِ أَوْ الزَّعْفَرَان وَلَيْسَ هَذَا لِكَوْنِهِ طِيبًا فَإِنَّ الطِّيب فِي غَيْر الْوَرْس وَالزَّعْفَرَان أَشَدّ وَلِأَنَّهُ خَصَّهُ بِالثَّوْبِ دُون الْبَدَن
وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ أَوْصَاف الثَّوْب الَّذِي يُحْرِم فِيهِ أَنْ لَا يَكُون مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ وَلَا زَعْفَرَان
وَقَدْ نُهِيَ أَنْ يَتَزَعْفَر الرَّجُل وَهَذَا مَنْهِيّ عَنْهُ خَارِج الْإِحْرَام وَفِي الْإِحْرَام أَشَدّ
وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَعَرَّض هُنَا إِلَّا لِأَوْصَافِ الْمَلْبُوس لَا لِبَيَانِ جَمِيع مَحْظُورَات الْإِحْرَام
الْحُكْم الثَّالِث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي لِبْس الْخُفَّيْنِ عِنْد عَدَم النَّعْلَيْنِ وَلَمْ يَذْكُر فَدِيَة وَرَخَّصَ فِي حَدِيث كَعْب بْن عُجْرَة فِي حَلْق رَأْسه مَعَ الْفِدْيَة وَكِلَاهُمَا مَحْظُور بِدُونِ الْعُذْر
وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ أَذَى الرَّأْس ضَرُورَة خَاصَّة لَا تَعُمّ فَهِيَ رَفَاهِيَة لِلْحَاجَةِ
وَأَمَّا لِبْس الْخُفَّيْنِ عِنْد عَدَم النَّعْلَيْنِ فَبَدَل يَقُوم مَقَام الْمُبْدَل وَالْمُبْدَل وَهُوَ النَّعْل لَا فَدِيَة فِيهِ فَلَا فَدِيَة فِي بَدَله وَأَمَّا حَلْق الرَّأْس فَلَيْسَ بِبَدَلٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَرَفُّه لِلْحَاجَةِ فَجُبِرَ بِالدَّمِ
الْحُكْم الرَّابِع أَنَّهُ أَمَرَ لَابِس الْخُفَّيْنِ بقطعهما أسفل من كعبيه في حديث بن عُمَر لِأَنَّهُ إِذَا قَطَعَهُمَا أَسْفَل مِنْ الْكَعْبَيْنِ صَارَا شَبِيهَيْنِ بِالنَّعْلِ
فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاء فِي هَذَا الْقَطْع هَلْ هُوَ وَاجِب أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّهُ وَاجِب وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وأبي حنيفة ومالك والثوري وإسحاق وبن الْمُنْذِر وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد لِأَمْرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِهِمَا وَتَعَجَّبَ الْخَطَّابِيّ مِنْ أَحْمَد فَقَالَ الْعَجَب(5/194)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
مِنْ أَحْمَد فِي هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَكَاد يُخَالِف سُنَّة تَبْلُغهُ وَقُلْت سُنَّة لَمْ تَبْلُغهُ
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَة إِذَا لَمْ يَقْطَعهُمَا تَلْزَمهُ الْفِدْيَة
وَالثَّانِي أَنَّ الْقَطْع لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ أَصَحّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَيُرْوَى عَنْ عَلِيّ بن أبي طالب وهو قول أصحاب بن عَبَّاس وَعَطَاء وَعِكْرِمَة
وَهَذِهِ الرِّوَايَة أَصَحّ لِمَا في الصحيحين عن بن عَبَّاس قَالَ سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُب بِعَرَفَاتٍ مَنْ لَمْ يَجِد إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيل وَمَنْ لَمْ يَجِد نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ
فَأَطْلَقَ الْإِذْن فِي لِبْس الْخُفَّيْنِ وَلَمْ يَشْتَرِط الْقَطْع وَهَذَا كَانَ بِعَرَفَاتٍ وَالْحَاضِرُونَ مَعَهُ إِذْ ذَاكَ أَكْثَرهمْ لَمْ يَشْهَدُوا خُطْبَته بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَهْل مَكَّة وَالْيَمَن وَالْبَوَادِي مَنْ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَتَأْخِير الْبَيَان عَنْ وَقْت الْحَاجَة مُمْتَنِع
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ جَابِر قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَجِد نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَمَنْ لَمْ يَجِد إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيل فَهَذَا كَلَام مُبْتَدَأ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ فِيهِ فِي عَرَفَات فِي أَعْظَم جَمْع كَانَ لَهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِد الْإِزَار فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيل وَمَنْ لَمْ يَجِد النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلَمْ يَأْمُر بِقَطْعِ وَلَا فَتْق وَأَكْثَر الْحَاضِرِينَ بِعَرَفَاتٍ لَمْ يَسْمَعُوا خُطْبَته بِالْمَدِينَةِ وَلَا سَمِعُوهُ يَأْمُر بِقَطْعِ الْخُفَّيْنِ وَتَأْخِير الْبَيَان عَنْ وَقْته مُمْتَنِع
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَوَاز لَمْ يَكُنْ شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّ الَّذِي شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ هُوَ لُبْس الْخُفّ الْمَقْطُوع ثُمَّ شُرِعَ بِعَرَفَاتٍ لُبْس الْخُفّ مِنْ غَيْر قَطْع
فَإِنْ قِيلَ فحديث بن عمر مقيد وحديث بن عَبَّاس مُطْلَق وَالْحُكْم وَالسَّبَب وَاحِد وَفِي مِثْل هَذَا يَتَعَيَّن حَمْل الْمُطْلَق عَلَى الْمُقَيَّد وَقَدْ أمر في حديث بن عُمَر بِالْقَطْعِ
فَالْجَوَاب مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدهمَا أَنَّ قوله في حديث بن عُمَر وَلْيَقْطَعْهُمَا قَدْ قِيلَ إِنَّهُ مُدْرَج مِنْ كَلَام نَافِع
قَالَ صَاحِب الْمُغْنِي كَذَلِكَ رُوِيَ فِي أَمَالِي أَبِي الْقَاسِم بْن بشران بِإِسْنَادٍ صَحِيح أَنَّ نَافِعًا قَالَ بَعْد رِوَايَته لِلْحَدِيثِ وَلْيَقْطَعْ الْخُفَّيْنِ أَسْفَل مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَالْإِدْرَاج فِيهِ مُحْتَمِل لِأَنَّ الْجُمْلَة الثَّانِيَة يَسْتَقِلّ الْكَلَام الْأَوَّل بِدُونِهَا فَالْإِدْرَاج فِيهِ مُمْكِن فَإِذَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ أَنَّ نَافِعًا قَالَهُ زَالَ الْإِشْكَال
وَيَدُلّ على صحة هذا أن بن عُمَر كَانَ يُفْتِي بِقَطْعِهِمَا لِلنِّسَاءِ فَأَخْبَرَتْهُ صَفِيَّة بِنْت أَبِي عُبَيْد عَنْ عَائِشَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَس الْخُفَّيْنِ وَلَا يَقْطَعهُمَا قَالَتْ صَفِيَّة فَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ بِهَذَا رَجَعَ
الْجَوَاب الثَّانِي أَنَّ الْأَمْر بِالْقَطْعِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُب عَلَى الْمِنْبَر فَنَادَاهُ رَجُل فَقَالَ مَا يَلْبَس الْمُحْرِم مِنْ الثِّيَاب فأجابه بذلك وفيه الأمر بالقطع وحديث بن عَبَّاس وَجَابِر بَعْده(5/195)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَعَمْرو بْن دِينَار رَوَى الْحَدِيثَيْنِ مَعًا ثُمَّ قَالَ اُنْظُرُوا أَيّهمَا كَانَ قَبْل وَهَذَا يَدُلّ على أنهم علموا نسخ الأمر بحديث بن عَبَّاس
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ أَبُو بَكْر النَّيْسَابُورِيّ حديث بن عُمَر قَبْل لِأَنَّهُ قَالَ نَادَى رَجُل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي المسجد فذكره وبن عَبَّاس يَقُول سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُب بِعَرَفَاتٍ
فَإِنْ قِيلَ حَدِيث بن عباس رواه أيوب والثوري وبن عيينة وبن زيد وبن جُرَيْجٍ وَهُشَيْم كُلّهمْ عَنْ عَمْرو بْن دِينَار عن جابر بن زيد عن بن عَبَّاس وَلَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْهُمْ بِعَرَفَاتٍ غَيْر شُعْبَة وَرِوَايَة الْجَمَاعَة أَوْلَى مِنْ رِوَايَة الْوَاحِد
قِيلَ هَذَا عَبَث فَإِنَّ هَذِهِ اللَّفْظَة مُتَّفَق عَلَيْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَنَاهِيك بِرِوَايَةِ شُعْبَة لَهَا وَشُعْبَة حَفِظَهَا وَغَيْره لَمْ يَنْفِهَا بَلْ هِيَ فِي حُكْم جُمْلَة أُخْرَى فِي الْحَدِيث مُسْتَقِلَّة وَلَيْسَتْ تَتَضَمَّن مُخَالَفَة لِلْآخَرِينَ وَمِثْل هَذَا يُقْبَل وَلَا يُرَدّ وَلِهَذَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
وَقَدْ قَالَ علي رضي الله عنه قَطْع الْخُفَّيْنِ فَسَاد يَلْبَسهُمَا كَمَا هُمَا وَهَذَا مُقْتَضَى الْقِيَاس فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَّى بَيْن السَّرَاوِيل وَبَيْن الْخُفّ فِي لِبْس كُلّ مِنْهُمَا عِنْد عَدَم الْإِزَار وَالنَّعْل وَلَمْ يَأْمُر بِفَتْقِ السَّرَاوِيل لَا فِي حَدِيث بن عمر ولا في حديث بن عَبَّاس وَلَا غَيْرهمَا
وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَب الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَلْبَس السَّرَاوِيل بِلَا فَتْق عِنْد عَدَم الْإِزَار فَكَذَلِكَ الْخُفّ يُلْبَس وَلَا يُقْطَع وَلَا فَرْق بَيْنهمَا وَأَبُو حَنِيفَة طَرَدَ الْقِيَاس وَقَالَ يَفْتَق السَّرَاوِيل حَتَّى يَصِير كَالْإِزَارِ وَالْجُمْهُور قَالُوا هَذَا خِلَاف النَّصّ لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ السَّرَاوِيل لِمَنْ لَمْ يَجِد الْإِزَار وَإِذَا فُتِقَ لَمْ يَبْقَ سَرَاوِيل وَمَنْ اِشْتَرَطَ قَطْع الْخُفّ خَالَفَ الْقِيَاس مَعَ مُخَالَفَته النَّصّ الْمُطْلَق بِالْجَوَازِ
وَلَا يَسْلَم مِنْ مُخَالَفَة النَّصّ وَالْقِيَاس إِلَّا مَنْ جَوَّزَ لِبْسهمَا بِلَا قَطْع أَمَّا الْقِيَاس فَظَاهِر وَأَمَّا النَّصّ فَمَا تَقَدَّمَ تَقْدِيره
وَالْعَجَب أَنَّ مَنْ يُوجِب الْقَطْع يوجب مالا فَائِدَة فِيهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ لِبْس الْمَقْطُوع كَالْمَدَاسِ وَالْجُمْجُم وَنَحْوهمَا
بَلْ عِنْدهمْ الْمَقْطُوع كَالصَّحِيحِ فِي عَدَم جَوَاز لِبْسه
فَأَيّ مَعْنًى لِلْقَطْعِ وَالْمَقْطُوع عِنْدكُمْ كَالصَّحِيحِ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَة فَيُجَوِّز لِبْس الْمَقْطُوع وَلَيْسَ عِنْده كَالصَّحِيحِ وَكَذَلِكَ الْمَدَاس وَالْجُمْجُم وَنَحْوهمَا
قَالَ شَيْخنَا وَأَفْتَى بِهِ جَدِّي أَبُو الْبَرَكَات فِي آخِر عُمْره لَمَّا حَجَّ قَالَ شَيْخنَا وَهُوَ الصَّحِيح لِأَنَّ الْمَقْطُوع لِبْسه أَصْل لَا بَدَل
قَالَ شَيْخنَا فَأَبُو حَنِيفَة فهم من حديث بن عُمَر أَنَّ الْمَقْطُوع لِبْسه أَصْل لَا بَدَل فَجَوَّزَ لِبْسه مُطْلَقًا وَهَذَا فَهْم صَحِيح وَقَوْله فِي هَذَا أَصَحّ مِنْ قَوْل الثَّلَاثَة وَالثَّلَاثَة فَهِمُوا مِنْهُ الرُّخْصَة فِي لِبْس السَّرَاوِيل عَنْهُ عَدَم الْإِزَار وَالْخُفّ عِنْد عَدَم النَّعْل وَهَذَا فَهْم صَحِيح وَقَوْلهمْ فِي(5/196)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
هَذَا أَصَحّ مِنْ قَوْله وَأَحْمَد فَهِمَ مِنْ النَّصّ الْمُتَأَخِّر لِبْس الْخُفّ صَحِيحًا بِلَا قَطْع عِنْد عَدَم النَّعْل وَأَنَّ ذَلِكَ نَاسِخ لِلْأَمْرِ بِالْقَطْعِ وَهَذَا فَهْم صَحِيح وَقَوْله فِي ذَلِكَ أَصَحّ الْأَقْوَال
فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ كَانَ الْمَقْطُوع أَصْلًا لَمْ يَكُنْ عَدَم النَّعْل شَرْطًا فِيهِ وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَعَلَهُ عِنْد عَدَم النَّعْل
قِيلَ بَلْ الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَالْخُفِّ إِذْ لَوْ كَانَ كَالْخُفِّ لَمَا أَمَرَ بِقَطْعِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ بِقَطْعِهِ يَخْرُج مِنْ شَبَه الْخُفّ وَيَلْتَحِق بِالنَّعْلِ
وَأَمَّا جَعْله عَدَم النَّعْل شَرْطًا فَلِأَجْلِ أَنَّ الْقَطْع إِفْسَاد لِصُورَتِهِ وَمَالِيَّته وَهَذَا لَا يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد عَدَم النَّعْل وَأَمَّا مَعَ وُجُود النَّعْل فَلَا يَفْسُد الْخُفّ وَيُعْدَم مَالِيَّته فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْطُوع مُلْحَق بِالنَّعْلِ لَا بِالْخُفِّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَنَّ عَلَى قَوْل الْمُوجِبِينَ لِلْقَطْعِ لَا فَائِدَة فِيهِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ لِبْس الْمَقْطُوع وَهُوَ عِنْدهمْ كَالْخُفِّ
فَإِنْ قِيلَ فَغَايَة مَا يَدُلّ عَلَيْهِ الْحَدِيث جَوَاز الِانْتِقَال إِلَى الْخُفّ وَالسَّرَاوِيل عِنْد عَدَم النَّعْل وَالْإِزَار وَهَذَا يُفِيد الْجَوَاز وَأَمَّا سُقُوط الْفِدْيَة فَلَا فَهَلَّا قُلْتُمْ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَة يَجُوز لَهُ ذَلِكَ مَعَ الْفِدْيَة فَاسْتَفَادَ الْجَوَاز مِنْ هَذَا الْحَدِيث وَاسْتَفَادَ الْفِدْيَة مِنْ حَدِيث كَعْب بْن عُجْرَة حَيْثُ جَوَّزَ لَهُ فِعْل الْمَحْظُور مَعَ الْفِدْيَة فَكَانَ أَسْعَد بِالنُّصُوصِ وَبِمُوَافَقَتِهَا مِنْكُمْ مَعَ مُوَافَقَته لِابْنِ عُمَر فِي ذَلِكَ
قِيلَ بَلْ إِيجَاب الْفِدْيَة ضَعِيف فِي النَّصّ وَالْقِيَاس فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْبَدَل فِي حَدِيث بن عمر وبن عَبَّاس وَجَابِر وَعَائِشَة وَلَمْ يَأْمُر فِي شَيْء مِنْهَا بِالْفِدْيَةِ مَعَ الْحَاجَة إِلَى بَيَانهَا وَتَأْخِير الْبَيَان عَنْ وَقْته مُمْتَنِع فَسُكُوته عَنْ إِيجَابهَا مَعَ شِدَّة الْحَاجَة إِلَى بَيَانه لَوْ كَانَ وَاجِبًا دَلِيل عَلَى عَدَم الْوُجُوب كَمَا أَنَّهُ جَوَّزَ لِبْس السَّرَاوِيل بِلَا فَتْق وَلَوْ كَانَ الْفَتْق وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ
وَأَمَّا الْقِيَاس فَضَعِيف جِدًّا
فَإِنْ قِيلَ هَذَا مِنْ بَاب الْأَبْدَال الَّتِي تَجُوز عِنْد عَدَم مُبْدَلَاتهَا كَالتُّرَابِ عِنْد عَدَم الْمَاء وَكَالصِّيَامِ عِنْد الْعَجْز عَنْ الْإِعْتَاق وَالْإِطْعَام وَكَالْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ عِنْد تَعَذُّر الْأَقْرَاء وَنَظَائِره وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَاب الْمَحْظُور الْمُسْتَبَاح بِالْفِدْيَةِ وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ النَّاس مُشْتَرِكُونَ فِي الْحَاجَة إِلَى لِبْس مَا يَسْتُرُونَ بِهِ عَوْرَاتهمْ وَيَقُونَ بِهِ أَرْجُلهمْ الْأَرْض وَالْحُرّ وَالشَّوْك وَنَحْوه فَالْحَاجَة إِلَى ذَلِكَ عَامَّة وَلَمَّا اِحْتَاجَ إِلَيْهِ الْعُمُوم لَمْ يُحْظَر عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَائِدَة بِخِلَافِ مَا يُحْتَاج إِلَيْهِ لِمَرَضٍ أَوْ بُرْد فَإِنَّ ذَلِكَ حَاجَة لِعَارِضٍ وَلِهَذَا رَخَّصَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ فِي اللِّبَاس مُطْلَقًا بِلَا فَدِيَة وَنَهَى عَنْ النِّقَاب وَالْقُفَّازَيْنِ فَإِنَّ الْمَرْأَة لَمَّا كَانَتْ كُلّهَا عَوْرَة وَهِيَ مُحْتَاجَة إِلَى سَتْر بَدَنهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِي سَتْر بَدَنهَا فِدْيَة وَكَذَلِكَ حَاجَة الرِّجَال إِلَى السَّرَاوِيلَات وَالْخِفَاف هِيَ عَامَّة إِذَا لَمْ يجدوا الإزار والنعال وبن عُمَر لَمَّا لَمْ يَبْلُغهُ حَدِيث الرُّخْصَة مُطْلَقًا أَخَذَ بِحَدِيثِ الْقَطْع وَكَانَ يَأْمُر النِّسَاء بِقَطْعِ الْخِفَاف حَتَّى أَخْبَرَتْهُ بَعْد هَذَا صَفِيَّة زَوْجَته عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِلنِّسَاءِ فِي ذَلِكَ فَرَجَعَ عَنْ قوله(5/197)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَمِمَّا يُبَيِّن أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي الْخُفَّيْنِ بِلَا قَطْع بَعْد أَنْ مَنَعَ مِنْهُمَا أَنَّ فِي حَدِيث بن عُمَر الْمَنْع مِنْ لِبْس السَّرَاوِيل مُطْلَقًا وَلَمْ يُبَيِّن فِيهِ حَالَةً مِنْ حَالَةٍ وَفِي حَدِيث بن عَبَّاس وَجَابِر الْمُتَأَخِّرِينَ تَرْخِيصه فِي لِبْس السَّرَاوِيل عِنْد عَدَم الْإِزَار فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رُخْصَة الْبَدَل لَمْ تَكُنْ شُرِعَتْ فِي لِبْس السَّرَاوِيل وَأَنَّهَا إِنَّمَا شُرِعَتْ وَقْت خَطَبَتْهُ بِهَا وَهِيَ مُتَأَخِّرَة فَكَانَ الْأَخْذ بِالْمُتَأَخِّرِ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤْخَذ بِالْآخِرِ فَالْآخِر مِنْ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَمَدَار الْمَسْأَلَة عَلَى ثَلَاث نُكَت إِحْدَاهَا أَنَّ رُخْصَة الْبَدَلِيَّة إِنَّمَا شُرِعَتْ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ تُشْرَع قَبْل
وَالثَّانِيَة أَنَّ تَأْخِير الْبَيَان عَنْ وَقْت الْحَاجَة مُمْتَنِع
وَالثَّالِثَة أَنَّ الْخُفّ الْمَقْطُوع كَالنَّعْلِ أَصْل لَا أَنَّهُ بدل
والله أعلم فصل
وأما نَهْيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث بن عُمَر الْمَرْأَة أَنْ تَنْتَقِب
وَأَنْ تَلْبَس الْقُفَّازَيْنِ فَهُوَ دَلِيل عَلَى أَنَّ وَجْه الْمَرْأَة كَبَدَنِ الرَّجُل لَا كَرَأْسِهِ فَيَحْرُم عَلَيْهَا فِيهِ مَا وُضِعَ وَفُصِّلَ عَلَى قَدْر الْوَجْه كَالنِّقَابِ وَالْبُرْقُع وَلَا يَحْرُم عَلَيْهَا سَتْره بِالْمِقْنَعَةِ وَالْجِلْبَاب وَنَحْوهمَا وَهَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ
فَإِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَّى بَيْن وَجْههَا وَيَدَيْهَا وَمَنَعَهَا مِنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَاب وَمَعْلُوم أَنَّهُ لَا يَحْرُم عَلَيْهَا سَتْر يَدَيْهَا وَأَنَّهُمَا كَبَدَنِ الْمُحْرِم يَحْرُم سَتْرهمَا بِالْمُفَصَّلِ عَلَى قَدْرهمَا وَهُمَا الْقُفَّازَانِ فَهَكَذَا الْوَجْه إِنَّمَا يَحْرُم سَتْره بِالنِّقَابِ وَنَحْوه وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْف وَاحِد فِي وُجُوب كَشْف الْمَرْأَة وَجْههَا عِنْد الْإِحْرَام إِلَّا النَّهْي عَنْ النِّقَاب وَهُوَ كَالنَّهْيِ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ فَنِسْبَة النِّقَاب إِلَى الْوَجْه كَنِسْبَةِ الْقُفَّازَيْنِ إِلَى الْيَد سَوَاء
وَهَذَا وَاضِح بِحَمْدِ اللَّه
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَسْمَاء أَنَّهَا كَانَتْ تُغَطِّي وَجْههَا وَهِيَ مُحْرِمَة وَقَالَتْ عَائِشَة كَانَتْ الرُّكْبَان يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مُحْرِمَات مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابهَا عَلَى وَجْههَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ
وَاشْتِرَاط الْمُجَافَاة عَنْ الْوَجْه كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْره ضَعِيف لا أصل له دليل وَلَا مَذْهَبًا
قَالَ صَاحِب الْمُغْنِي وَلَمْ أَرَ هَذَا الشَّرْط يَعْنِي الْمُجَافَاة عَنْ أَحْمَد وَلَا هُوَ فِي الْخَبَر مَعَ أَنَّ الظَّاهِر خِلَافه فَإِنَّ الثَّوْب الْمُسْدَل لَا يَكَاد يَسْلَم مِنْ إِصَابَة الْبَشَرَة فَلَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَبَيَّنَ وَإِنَّمَا مُنِعَتْ الْمَرْأَة مِنْ الْبُرْقُع وَالنِّقَاب وَنَحْوهمَا مِمَّا يُعَدّ لِسَتْرِ الْوَجْه قَالَ أَحْمَد لَهَا أَنْ تُسْدِل عَلَى وَجْههَا مِنْ فَوْق وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْفَع الثَّوْب مِنْ أَسْفَل كَأَنَّهُ يَقُول إِنَّ النِّقَاب مِنْ أَسْفَل عَلَى وَجْههَا
تَمَّ كَلَامه
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِحْرَام الرَّجُل فِي رَأْسه وَإِحْرَام الْمَرْأَة فِي وَجْههَا فَجَعَلَ وَجْه الْمَرْأَة كَرَأْسِ الرَّجُل وَهَذَا يَدُلّ عَلَى وُجُوب كَشْفه(5/198)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قِيلَ هَذَا الْحَدِيث لَا أَصْل لَهُ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَد مِنْ أَصْحَاب الْكُتُب الْمُعْتَمَد عَلَيْهَا وَلَا يُعْرَف لَهُ إِسْنَاد وَلَا تَقُوم بِهِ حُجَّة وَلَا يُتْرَك لَهُ الْحَدِيث الصَّحِيح الدَّالّ عَلَى أَنَّ وَجْههَا كَبَدَنِهَا وَأَنَّهُ يَحْرُم عَلَيْهَا فِيهِ مَا أُعِدّ لِلْعُضْوِ كَالنِّقَابِ وَالْبُرْقُع وَنَحْوه لَا مُطْلَق السَّتْر كَالْيَدَيْنِ
وَاَللَّه أَعْلَم
قَالَ الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه الله تَحْرِيم لِبْس الْقُفَّازَيْنِ قَوْل عَبْد اللَّه بْن عمر وعطاء وطاووس وَمُجَاهِد وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيُّ وَمَالِك وَالْإِمَام أَحْمَد وَالشَّافِعِيّ فِي أَحَد قَوْلَيْهِ وَإِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَتُذْكَر الرُّخْصَة عَنْ عَلِيّ وَعَائِشَة وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْقَوْل الْآخَر
وَنَهْي الْمَرْأَة عَنْ لِبْسهمَا ثَابِت فِي الصَّحِيح كَنَهْيِ الرَّجُل عَنْ لِبْس الْقَمِيص وَالْعَمَائِم وَكِلَاهُمَا فِي حَدِيث وَاحِد عَنْ رَاوٍ وَاحِد وَكَنَهْيِهِ الْمَرْأَة عَنْ النِّقَاب وَهُوَ فِي الْحَدِيث نَفْسه
وَسُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ وَهِيَ حُجَّة عَلَى مَنْ خَالَفَهَا وَلَيْسَ قَوْل مَنْ خَالَفَهَا حجة عليها
فأما تعليل حديث بن عُمَر فِي الْقُفَّازَيْنِ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْله فَإِنَّهُ تَعْلِيل بَاطِل وَقَدْ رَوَاهُ أَصْحَاب الصَّحِيح وَالسُّنَن والمسانيد عن بْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث نَهْيه عَنْ لِبْس الْقُمُص وَالْعَمَائِم وَالسَّرَاوِيلَات وَانْتِقَاب الْمَرْأَة وَلِبْسهَا الْقُفَّازَيْنِ وَلَا رَيْب عِنْد أَحَد مِنْ أَئِمَّة الْحَدِيث أَنَّ هَذَا كُلّه حَدِيث وَاحِد مِنْ أَصَحّ الْأَحَادِيث عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرفوعا إليه ليس من كلام بن عُمَر
وَمَوْضِع الشُّبْهَة فِي تَعْلِيله أَنَّ نَافِعًا اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ فَرَوَاهُ اللَّيْث بْن سَعْد عنه عن بْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ فِيهِ وَلَا تَلْبَس الْقُفَّازَيْنِ قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ حَاتِم بْن إِسْمَاعِيل وَيَحْيَى بْن أَيُّوب عَنْ مُوسَى بْن عُقْبَة عَنْ نَافِع عَلَى مَا قَالَ اللَّيْث وَرَوَاهُ مُوسَى بْن طَارِق عَنْ مُوسَى بْن عقبة مَوْقُوفًا على بن عُمَر وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عُبَيْد اللَّه بْن عُمَر وَمَالِك وَأَيُّوب مَوْقُوفًا وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمُوَطَّأ عَنْ نَافِع أَنَّ عَبْد اللَّه بْن عُمَر كَانَ يَقُول لَا تَنْتَقِب الْمَرْأَة وَلَا تَلْبَس الْقُفَّازَيْنِ وَلَكِنْ قَدْ رَفَعَهُ اللَّيْث بْن سَعْد وَمُوسَى بْن عقبة فِي الْأَكْثَر عَنْهُ وَإِبْرَاهِيم بْن سَعْد أَيْضًا رَفَعَهُ عَنْ نَافِع ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَاهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ نَافِع مَرْفُوعًا كَمَا تَقَدَّمَ
فَأَمَّا حَدِيث اللَّيْث بْن سَعْد فَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه وَالتِّرْمِذِيّ
وَقَالَ حَدِيث صَحِيح
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنه
وَلَمْ يَرَوْا وَقْف مَنْ وَقَفَهُ عِلَّة
وَأَمَّا حَدِيث مُوسَى بْن عقبة فَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنه عَنْ سُوَيْد بْن نَصْر أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّه بْن الْمُبَارَك عَنْ مُوسَى بْن عقبة فَذَكَرَ الْحَدِيث
وَقَالَ فِي آخِره وَلَا تَنْتَقِب الْمَرْأَة الْحَرَام
وَلَا تَلْبَس الْقُفَّازَيْنِ مَرْفُوعًا
قَالَ الْبُخَارِيّ تَابَعَهُ مُوسَى بْن عُقْبَة وَإِسْمَاعِيل بْن إبراهيم بن عقبة وجويرية وبن إِسْحَاق فِي النِّقَاب وَالْقُفَّازَيْنِ وَقَالَ عُبَيْد اللَّه وَكَانَ يَقُول لَا تَنْتَقِب الْمُحْرِمَة وَلَا تَلْبَس القفازين وقال مالك عن(5/199)
33 - (بَاب الْمُحْرِمِ يَحْمِلُ السِّلَاحَ)
[1832] (عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ (إِلَّا بِجُلْبَانِ السِّلَاحِ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ شِبْهُ الْجِرَابِ مِنَ الْأَدَمِ يُوضَعُ فِيهِ السَّيْفُ مغمورا ويطرح فيه الراكب سوطه وأدائه وَيُعَلِّقُهُ فِي آخِرَةِ الْكُورِ أَوْ وَسَطِهِ وَرَوَاهُ الْقُتَيْبِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَاللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَقَالَ هُوَ أَوْعِيَةُ السِّلَاحِ بِمَا فِيهَا
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَلَا يَدْخُلُهَا إِلَّا بِجُلْبَانِ السِّلَاحِ السَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ يُرِيدُ مَا يَحْتَاجُ فِي إِظْهَارِهِ وَالْقِتَالِ بِهِ إِلَى مُعَانَاةٍ لَا كَالرِّمَاحِ لِأَنَّهَا مُظْهَرَةٌ يُمْكِنُ تَعْجِيلِ الْأَذَى بِهَا وَإِنَّمَا اشْتَرَطُوا ذَلِكَ لِيَكُونَ عَلَمًا وَأَمَارَةً لِلسِّلْمِ إِذَا كَانَ دخولهم صلحا
كذا في النهاية
وقال بن بَطَّالٍ أَجَازَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ حَمْلَ السِّلَاحِ لِلْمُحْرِمِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ (قَالَ الْقِرَابُ بِمَا فِيهِ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ الْقِرَابُ جِرَابٌ قُلْتُ لَيْسَ بِجِرَابٍ وَلَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْجِرَابَ يَطْرَحُ فِيهِ الرَّاكِبُ سَيْفَهُ بِغِمْدِهِ وَسَوْطَهُ وَيُطْرَحُ فِيهِ زَادٌ مِنْ تَمْرٍ وَغَيْرِهِ قَالَهُ الْعَيْنِيُّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَكَذَا جَاءَ تَفْسِيرُ الْجُلْبَانِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَسْمَعْ فِيهِ مِنْ ثِقَةٍ شَيْئًا وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ جُلْبَانًا لِجَفَائِهِ وَارْتِفَاعِ شَخْصِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ جُلْبَانٌ وَامْرَأَةٌ جُلْبَانَةٌ إِذَا كَانَتْ جَسِيمَةٌ جَافِيَةُ الْخُلُقِ قُلْتُ قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي مُصَالَحَتِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا بِالسُّيُوفِ فِي الْقُرُبِ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْمَنُوا أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يَخْفِرُوا الذِّمَّةَ فَاشْتَرَطَ حَمَلَ السِّلَاحِ فِي الْقُرُبِ مَعَهُمْ وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَهْرَ السِّلَاحِ لِيَكُونَ سِمَةً وَأَمَارَةً لَهُ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَتَمَّ مِنْهُ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
نافع عن بن عُمَر لَا تَنْتَقِب الْمَرْأَة وَتَابَعَهُ لَيْث بْن أَبِي سُلَيْمٍ
فَالْبُخَارِيّ رَحِمه اللَّه ذَكَرَ تَعْلِيله
وَلَمْ يَرَهَا عِلَّة مُؤَثِّرَة فَأَخْرَجَهُ فِي صَحِيحه عَنْ عَبْد اللَّه بْنِ يَزِيد حَدَّثَنَا اللَّيْث حدثنا نافع عن بن عمر فذكره(5/200)
34 - (بَاب فِي الْمُحْرِمَةِ تُغَطِّي وَجْهَهَا)
[1833] (كَانَ الرُّكْبَانُ) بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ الرَّاكِبِ (يَمُرُّونَ) أَيْ مَارِّينَ (بِنَا) أَيْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ (مُحْرِمَاتٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ أَيْ مَكْشُوفَاتُ الْوُجُوهِ (فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا) وَهُوَ بِفَتْحِ الذَّالِ مِنَ الْمُحَاذَاةِ بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ أَيْ قَابَلُوا (سَدَلَتْ) أَيْ أَرْسَلَتْ (جِلْبَابَهَا) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ بُرْقُعَهَا أَوْ طَرَفَ ثَوْبِهَا (مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا) بِحَيْثُ لَمْ يَمَسَّ الْجِلْبَابُ بَشَرَةً
كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَقَالَ مُحَدِّثُ الْعَصْرِ مَوْلَانَا مُحَمَّدٌ إِسْحَاقُ الدَّهْلَوِيُّ أَيْ سَدَلَتْ مُنْفَصِلًا عَنِ الْوَجْهِ لِئَلَّا يَتَعَارَضَ حَدِيثُ لَا تَنْتَقِبِ الْمُحْرِمَةُ (فَإِذَا جَاوَزُونَا) أَيْ تَعَدَّوْا عَنَّا وتقدموا علينا (كشفناه) أزلنا الجلباب ورفعناه النِّقَابَ وَتَرَكْنَا الْحِجَابَ
وَلَوْ جُعِلَ الضَّمِيرُ إِلَى الْوَجْهِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ فَلَهُ وَجْهٌ كَذَا فِي الْمِرْقَاةِ
وَفِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ إِذَا احْتَاجَتْ إِلَى سَتْرِ وَجْهِهَا لِمُرُورِ الرِّجَالِ قَرِيبًا مِنْهَا تَسْدُلُ الثوب من فوق رأسها على وجهها لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إِلَى سَتْرِ وَجْهِهَا فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا سَتْرُهُ مُطْلَقًا كَالْعَوْرَةِ لَكِنْ إِذَا سَدَلَتْ يَكُونُ الثَّوْبُ مُتَجَافِيًا عَنْ وَجْهِهَا بِحَيْثُ لَا يُصِيبُ الْبَشَرَةَ
هَكَذَا قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُمْ
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ خِلَافُهُ لِأَنَّ الْمَسْدُولَ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ إِصَابَةِ الْبَشَرَةِ فَلَوْ كَانَ التجافي شرطا لبينه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه بن مَاجَهْ
وَذَكَرَ سَعْدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَنَّ مُجَاهِدًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ مُجَاهِدٌ عَنْ عَائِشَةَ مُرْسَلٌ وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَحَادِيثَ مِنْهَا مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي سَمَاعِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ أَيْضًا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ فِي جَمَاعَةٍ غَيْرَ مُحْتَجٍّ بِهِ انْتَهَى(5/201)
35 - (بَاب فِي الْمُحْرِمِ يُظَلَّلُ)
[1834] (وَأَحَدَهُمَا) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ أَحَدَهُمَا (آخِذٌ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (بِخِطَامِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ بِمَعْنَى الزِّمَامِ وَالْمِهَارِ كَكِتَابٍ (رَافِعٌ) بِالتَّنْوِينِ (ثَوْبَهُ) ثَوْبًا فِي يَدِهِ (يَسْتُرُهُ) أَيْ يُظَلِّلُهُ بِثَوْبٍ مُرْتَفِعٍ عَلَى رَأْسِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَصِلِ الثَّوْبُ إِلَى رَأْسِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَفْظُ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُهُ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَانْصَرَفَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَمَعَهُ بِلَالٌ وَأُسَامَةُ أَحَدُهُمَا يَقُودُ بِهِ رَاحِلَتَهُ وَالْآخَرُ رَافِعٌ ثَوْبَهُ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُظَلِّلُهُ مِنَ الشَّمْسِ (مِنَ الْحَرِّ) وَفِيهِ جَوَازُ تَظْلِيلِ الْمُحْرِمِ عَلَى رَأْسِهِ بِثَوْبٍ وَغَيْرِهِ مِنْ مَحْمَلٍ وَغَيْرِهِ وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ لَا يَجُوزُ وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِمَا
وَأَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ بِأَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ لَا يَكَادُ يَدُومُ فَهُوَ كَمَا أَجَازَ مَالِكٌ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِيَدِهِ فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ تَحْتَ خَيْمَةٍ أَوْ سَقْفٍ جَازَ
وَقَدِ احْتُجَّ لِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ عَلَى مَنْعِ التَّظَلُّلِ بما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن بن عُمَرَ أَنَّهُ أَبْصَرَ رَجُلًا عَلَى بَعِيرِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ قَدِ اسْتَظَلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ فَقَالَ اضْحَ لِمَنْ أَحْرَمْتَ لَهُ وَبِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مَا مِنْ مُحْرِمٍ يَضْحَى لِلشَّمْسِ حَتَّى تَغْرُبَ إِلَّا غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ وقوله اضح بالضاد المعجمة وكذا يضحي الشمس وَالْمُرَادُ ابْرُزْ لِلضُّحَى
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّكَ لا تظمأ فيها ولا تضحى ويجاب عن قول بن عُمَرَ بِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَبِأَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ مَعَ كَوْنِهِ ضَعِيفًا لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَهُوَ المنع من التظلل ووجوب الكشف لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ عَلَى أنه يبعد منه صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ الْمَفْضُولَ وَيَدَعَ الْأَفْضَلَ فِي مَقَامِ التَّبْلِيغِ قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ(5/202)
36 - (بَاب الْمُحْرِمِ يَحْتَجِمُ)
[1835] (احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَمْ يَكُنْ أَكْثَرُ مَنْ كَرِهَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْحِجَامَةَ لِلْمُحْرِمِ إِلَّا مِنْ أَجْلِ قَطْعِ الشَّعْرِ وَإِنِ احْتَجَمَ فِي مَوْضِعٍ لَا شَعْرَ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ قَطَعَ شَعْرًا افْتَدَى
وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَحْتَجِمُ الْمُحْرِمُ إِلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا
وَكَانَ الْحَسَنُ يَرَى فِي الْحِجَامَةِ دَمًا يُهْرِيقُهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ انْتَهَى
[1836] (مِنْ دَاءٍ كَانَ بِهِ) أَيْ مِنْ مَرَضٍ
وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ مِنْ رِوَايَةِ بن بُحَيْنَةَ
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ الْحِجَامَةِ لِلْمُحْرِمِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِهَا لَهُ فِي الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي ذَلِكَ وَقَطْعِ الشَّعْرِ حِينَئِذٍ لَكِنْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِقَطْعِ الشَّعْرِ فَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ
وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تعالى فمن كان مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ الْآيَةَ
وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي الْحِجَامَةِ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ قَطْعِ شَعْرٍ أَمَّا إِذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ الْحِجَامَةَ بِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ قَلْعَ شَعْرٍ فَهِيَ حَرَامٌ لِتَحْرِيمِ قَطْعِ الشَّعْرِ فَإِنْ لَمْ تَضَمَّنْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا شَعْرَ فِيهِ فَهِيَ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الجمهور ولا فدية فيها
وعن بن عُمَرَ وَمَالِكٍ كَرَاهَتُهَا وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِيهَا الْفِدْيَةُ
دَلِيلُنَا أَنَّ إِخْرَاجَ الدَّمِ لَيْسَ حَرَامًا فِي الْإِحْرَامِ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ قَاعِدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِحْرَامِ وَهِيَ أَنَّ الْحَلْقَ وَاللِّبَاسَ وَقَتْلَ الصَّيْدِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَمَنِ احْتَاجَ إِلَى حَلْقٍ أَوْ لِبَاسٍ لِمَرَضٍ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أو قتل صيد للمجاعة وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا(5/203)
[1837] (عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ) أَيْ أَعْلَى الْقَدَمِ (مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ) وَلَفْظُ النَّسَائِيِّ
احْتَجَمَ وَهُوَ محرم على ظهر القدم من وثأكان بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وهو محرم من وثاكان بِهِ وَمَعْنَاهُ مِنْ وَجَعٍ يُصِيبُ اللَّحْمَ لَا يَبْلُغُ الْعَظْمَ أَوْ وَجَعٍ يُصِيبُ الْعَظْمَ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ قَالَهُ السِّنْدِيُّ
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ إِطْلَاقَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى كَرَاهَتِهَا وَكَذَا إِطْلَاقَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ فِيهَا الْفِدْيَةُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وأخرجه الترمذي ولفظ النسائي من وثأكان به (بن أَبِي عَرُوبَةَ) هُوَ سَعِيدٌ أَيْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَنَسٍ
7 - (بَاب يَكْتَحِلُ الْمُحْرِمُ)
[1838] (أَمِيرُ الْمَوْسِمِ) قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ السِّمَةُ هِيَ الْعَلَامَةُ وَمِنْهُ الْمَوْسِمُ لِأَنَّهُ مُعَلَّمٌ يُجْتَمَعُ إِلَيْهِ انْتَهَى
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ أَمِيرَ الْحُجَّاجِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ (قَالَ أُضَمِّدُهُمَا بِالصَّبِرِ) بِفَتْحٍ ثُمَّ كَسْرٍ دَوَاءٌ مَعْرُوفٌ مُرٌّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ الصَّبِرُ لَيْسَ بِطِيبٍ وَلِذَلِكَ رَخَّصَ لَهُ أَنْ يَتَعَالَجَ بِهِ
فَأَمَّا الْكُحْلُ الَّذِي لَا طيب فيه فَلَا بَأْسَ بِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَنَا لَهُ فِي النِّسَاءِ أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنِّي لَهُ فِي الرِّجَالِ وَلَا أَعْلَمُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفِدْيَةَ
وَرَخَّصَ فِي الْكُحْلِ لِلْمُحْرِمِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ
وَكَرِهَ الْإِثْمِدَ لِلْمُحْرِمِ سُفْيَانُ وَإِسْحَاقُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ(5/204)
(باب المحرم يغتسل)
[1840] أَيِ الِاغْتِسَالُ لِلْمُحْرِمِ تَرَفُّهًا وَتَنَظُّفًا وَتَطَهُّرًا مِنَ الجنابة
قال بن الْمُنْذِرِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ فِي الْمَاءِ
وَرُوِيَ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نافع أن بن عُمَرَ كَانَ لَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ إلا من احتلام
(بِالْأَبْوَاءِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ وَهُمَا نَازِلَانِ بِهَا (بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ) هُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ تَثْنِيَةُ قَرْنٍ وَهُمَا الْخَشَبَتَانِ الْقَائِمَتَانِ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ وَشِبْهُهُمَا مِنَ الْبِنَاءِ وَتُمَدُّ بَيْنَهُمَا خَشَبَةٌ يُجَرُّ عَلَيْهَا الْحَبْلُ الْمُسْتَقَى بِهِ وَيُعَلَّقُ عَلَيْهَا الْبَكَرَةُ قَالَهُ النَّوَوِيُّ (عَلَى الثَّوْبِ) السَّاتِرِ (فَطَأْطَأَهُ) أَيْ أَزَالَهُ عَنْ رَأْسِهِ
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ جَمَعَ ثِيَابَهُ إِلَى صَدْرِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ وَحَتَّى رَأَيْتُ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا اغْتِسَالُ الْمُحْرِمِ وَغَسْلُهُ رَأْسَهُ وَإِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى شَعْرِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْتِفُ شَعْرًا وَمِنْهَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّ قَبُولَهُ كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَمِنْهَا الرُّجُوعُ إِلَى النَّصِّ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ وَتَرْكُ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عِنْدَ وُجُودِ النَّصِّ
وَمِنْهَا السَّلَامُ عَلَى الْمُتَطَهِّرِ فِي وُضُوءٍ وَغُسْلٍ بِخِلَافِ الْجَالِسِ عَلَى الْحَدَثِ وَمِنْهَا جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ فِي الطَّهَارَةِ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ غَسْلِ الْمُحْرِمِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ عَنِ الجَنَابَةِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا غَسْلُهُ لِتَبَرُّدٍ فَمَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ جَوَازُهُ بِلَا كَرَاهَةٍ وَيَجُوزُ عِنْدَنَا غَسْلُ رَأْسِهِ بِالسِّدْرِ وَالْخَطْمِيِّ بِحَيْثُ لَا يَنْتِفُ شَعْرًا
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ هُوَ حَرَامٌ مُوجِبٌ لِلْفِدْيَةِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وبن ماجه(5/205)
39 - (بَاب الْمُحْرِمِ يَتَزَوَّجُ)
[1841] (عَنْ نُبَيْهٍ) بِضَمِّ النُّونِ مُصَغَّرًا (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ مُصَغَّرًا (أَرْسَلَ) نُبَيْهًا الرَّاوِيَ الْمَذْكُورَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلَمٍ (إِلَى أَبَانَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ (أَمِيرُ الْحَاجِّ) مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ (أَرَدْتُ أَنْ أُنْكِحَ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أُزَوِّجَ ابْنِي (فَأَرَدْتُ أَنْ تَحْضُرَ) فيه ندب الاستئذان لحضور العقد (فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبَانُ) فَقَالَ لَا أَرَاهُ إِلَّا أَعْرَابِيًّا أَيْ جَاهِلًا بِالسُّنَّةِ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ (قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي عُثْمَانَ) عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْ أَبِي وَفِي تَصْرِيحِهِ بِسَمِعْتُ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَبَاهُ فَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ (لَا يَنْكِحُ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ (الْمُحْرِمُ) بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا (وَلَا يُنْكِحُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ لَا يَعْقِدُ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَةٍ وَلَا وَكَالَةٍ وَهُوَ بِالْجَزْمِ فِيهِمَا عَلَى النَّهْيِ كَمَا ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ قَالَهُ الزُّرْقَانِيُّ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قَدْ ذَهَبَ إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَرَأَيَا النِّكَاحَ إِذَا عُقِدَ فِي الْإِحْرَامِ مَفْسُوخًا عَقَدَهُ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ أَوْ كَانَ وَلِيًّا يَعْقِدُهُ لِغَيْرِهِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ لِنَفْسِهِ وَإِنْكَاحُهُ لِغَيْرِهِ جَائِزٌ
وَاجْتَمَعُوا في ذلك بخبر بن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ
وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ خَبَرَ عُثْمَانَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ الْمُحْرِمِ وَأَنَّهُ بِاشْتِغَالِهِ بِنُسُكِهِ لَا يَتَّسِعُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَا يَفْرُغُ لَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى يَنْكِحُ أَيْ إِنَّهُ لَا يَطَأُ لَيْسَ أَنَّهُ لَا يَعْقِدُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ قُلْتُ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ بِكَسْرِ الْحَاءِ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ لَا عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ وَقِصَّةُ أَبَانَ فِي مَنْعِهِ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ مِنَ الْعَقْدِ وَإِنْكَارِهِ ذَلِكَ وَهُوَ رَاوِي الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ الْعَقْدُ فَأَمَّا إِنَّ الْمُحْرِمَ مَشْغُولٌ بِنُسُكِهِ مَمْنُوعٌ مِنَ الْوَطْءِ فَهَذَا مِنَ الْعِلْمِ الْعَامِّ الْمَفْرُوغِ مِنْ بَيَانِهِ اتِّفَاقُ الْجَمَاعَةِ وَالْعَامَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وبن ماجه(5/206)
[1842] (زَادَ وَلَا يَخْطُبُ) بِضَمِّ الطَّاءِ مِنَ الْخِطْبَةِ بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ لَا يُطَالِبِ امْرَأَةً لِنِكَاحٍ قال علي القارىء رُوِيَ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ بِالنَّفْيِ وَالنَّهْيِ
وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهَا عَلَى صِيغَةِ النَّهْيِ أَصَحُّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْضًا بَلْ أَبْلَغُ وَالْأَوَّلَانِ لِلتَّحْرِيمِ وَالثَّالِثُ لِلتَّنْزِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ وَلَا إِنْكَاحُهُ عِنْدَهُ وَالْكُلُّ لِلتَّنْزِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَأَبُو عِيسَى وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي كُتُبِهِمْ وَالَّذِي وَجَدْنَاهُ الْأَكْثَرَ فِيمَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْإِثْبَاتُ وَهُوَ الرَّفْعُ فِي تِلْكَ الْكَلِمَاتِ
[1843] (وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفَ) وَمِنْ غَرِيبِ التَّارِيخِ أَنَّهَا دُفِنَتْ بِسَرِفَ أَيْضًا وَهُوَ بَيْنَ الْحَرَمَيْنِ قَرِيبَ مَكَّةَ دُونَ الْوَادِي الْمَشْهُورَةِ بِوَادِي فَاطِمَةَ
قَالَ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وبن مَاجَهْ بِنَحْوِهِ
[1844] (تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ) قَالَ الْعَيْنِيُّ وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَعِكْرِمَةُ وَمَسْرُوقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ وَقَالُوا لا
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَعَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ وَهِمَ بن عَبَّاس فِي تَزْوِيج مَيْمُونَة وَهُوَ مُحْرِم وَقَدْ رَوَى مَالِك فِي الْمُوَطَّأ عَنْ رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن عَنْ سُلَيْمَان بْن يَسَار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا رَافِع مَوْلَاهُ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَة بِنْت الْحَارِث وَرَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ قَبْل أَنْ يَخْرُج وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِره الْإِرْسَال فَهُوَ مُتَّصِل لِأَنَّ سُلَيْمَان بْن يَسَار رَوَاهُ عَنْ أَبِي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَة وَهُوَ حَلَال وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَال وَكُنْت الرَّسُول بَيْنهمَا وَسُلَيْمَان بْن يَسَار مَوْلَى مَيْمُونَة وَهَذَا صَرِيح فِي تَزَوُّجهَا بِالْوَكَالَةِ قبل الإحرام(5/207)
بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَنْكِحَ وَلَكِنَّهُ لَا يَدْخُلُ بها حتى يحل وهو قول بن عباس وبن مَسْعُودٍ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَنْكِحَ وَلَا يُنْكِحَ غَيْرَهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ
انْتَهَى
قُلْتُ لا حجة لهم برواية بن عباس هذه لأنها مخالف لِرِوَايَةِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرْوِهِ كَذَلِكَ إِلَّا بن عَبَّاسٍ وَحْدَهُ وَانْفَرَدَ بِهِ قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَلِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَغَيْرَهُ وَهَّمُوهُ فِي ذَلِكَ وَخَالَفَتْهُ مَيْمُونَةُ وَأَبُو رَافِعٍ فَرَوَيَا أَنَّهُ نَكَحَهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ لِأَنَّ مَيْمُونَةَ هِيَ الزَّوْجَةُ وَأَبُو رَافِعٍ هُوَ السَّفِيرُ بينهما فهما أعرف بالواقعة من بن عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ التَّعَلُّقِ بِالْقِصَّةِ مالهما وَلِصِغَرِهِ حِينَئِذٍ عَنْهُمَا إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي سِنِّهِمَا وَلَا يَقْرَبُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَهْمًا فَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي أرض الحرم وهو حلال فأطلق بن عَبَّاسٍ عَلَى مَنْ فِي الْحَرَمِ أَنَّهُ مُحْرِمٌ لَكِنْ هُوَ بَعِيدٌ وَأُجِيبَ عَنِ التَّفَرُّدِ بِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ كَمَا قَالَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَسَكَتَ عَنْهُ هُوَ ثُمَّ الْمُنْذِرِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ فَالْقَوْلُ الْمُحَقَّقُ فِي جَوَابِهِ بِأَنَّ رِوَايَةَ صَاحِبِ الْقِصَّةِ وَالسَّفِيرِ فِيهَا أَوْلَى لِأَنَّهُ أَخْبَرُ وَأَعْرَفُ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِأَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي الْوَاقِعَةِ كَيْفَ كَانَتْ وَلَا تَقُومُ بِهَا الْحُجَّةُ وَلِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّةَ فَكَانَ الْحَدِيثُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى بِأَنْ يُؤْخَذَ بِهِ
وَقَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الجارية للوطء وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُعَارَضَةِ السُّنَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ بِهِ
وَأَمَّا تَأْوِيلُهُمْ حَدِيثَ عُثْمَانَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ فَمُتَعَقَّبٌ بِالتَّصْرِيحِ فِيهِ بِقَوْلِهِ وَلَا يُنْكِحُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَبِقَوْلِهِ فِيهِ وَلَا يَخْطُبُ انْتَهَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بنحوه
[1845] (وهم بن عَبَّاسٍ إِلَخْ) هَذَا هُوَ أَحَدُ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي أجاب بها الجمهور عن حديث بن عباس(5/208)
40 - (بَاب مَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنْ الدَّوَابِّ)
[1846] بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ دَابَّةٍ وَهِيَ مَا دَبَّ مِنَ الْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الطَّيْرِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ أَخْرَجَ الطَّيْرَ مِنَ الدَّوَابِّ فَحَدِيثُ الْبَابِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِ
(خَمْسٌ) أَيْ مِنَ الدَّوَابِّ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ (لَا جُنَاحَ) أَيْ لَا إِثْمَ وَلَا جَزَاءَ وَالْمَعْنَى لَا حَرَجَ (فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ) أَيْ فِي أَرْضِهِ
وَوَرَدَ فِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ الْحَدِيثَ
وَعِنْدَ أَبِي عَوَانَةَ لِيَقْتُلِ الْمُحْرِمُ وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ وَيُحْتَمَلُ النَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ
وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْحَيَّةِ وَالْحِدَأَةِ وَهَذَا الْأَمْرُ وَرَدَ بَعْدَ نَهْيِ الْمُحْرِمِ عَنِ الْقَتْلِ وَفِي الْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ النَّهْيِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ هَلْ يُفِيدُ الْوُجُوبَ أَوْ لَا قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ (الْعَقْرَبُ) قَالَ فِي الْفَتْحِ هذا اللفظ للذكر والأنثى
قال بن الْمُنْذِرِ لَا نَعْلَمُهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ قَتْلِ العقرب (وَالْغُرَابِ) هَذَا الْإِطْلَاقُ مُقَيَّدٌ بِمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ الْأَبْقَعِ وَهُوَ الَّذِي فِي ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ بَيَاضٌ وَقَدِ اعْتَذَرَ بن بطال وبن عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِأَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ لِأَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ شُعْبَةَ لَا يَرْوِي عَنْ شُيُوخِهِ الْمُدَلِّسِينَ إِلَّا مَا هُوَ مَسْمُوعٌ لَهُمْ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ بَلْ صَرَّحَ النَّسَائِيُّ بِسَمَاعِ قَتَادَةَ قَالَ فِي الْفَتْحِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى إِخْرَاجِ الْغُرَابِ الصَّغِيرِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ مِنْ ذَلِكَ وَيُقَالُ لَهُ غُرَابُ الزَّرْعِ وَأَفْتَوْا بِجَوَازِ أَكْلِهِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ من الغربان ملحقا بالأبقع انتهى
قال بن الْمُنْذِرِ أَبَاحَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ الْعِلْمُ قَتْلَ الْغُرَابِ فِي الْإِحْرَامِ إِلَّا عَطَاءً قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَمْ يُتَابِعْ أَحَدٌ عَطَاءً عَلَى هَذَا (وَالْفَأْرَةُ) بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَيَجُوزُ فِيهَا التَّسْهِيلُ
قَالَ فِي الْفَتْحِ وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ قَتْلِهَا لِلْمُحْرِمِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا جَزَاءٌ إِذَا قَتَلَهَا المحرم أخرجه عنه بن الْمُنْذِرِ
وَقَالَ هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ وَخِلَافُ قَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ (وَالْحِدَأَةُ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ بِغَيْرِ مَدٍّ عَلَى وزن عنبة(5/209)
وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ فِيهِ الْمَدَّ (وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ) اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ إِنَّهُ الْأَسَدُ
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ وَأَيُّ كَلْبٍ أَعْقَرُ مِنَ الْحَيَّةِ
وَقَالَ زُفَرُ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الذِّئْبُ خَاصَّةً وَقَالَ فِي الْمُوَطَّأِ كُلُّ مَا عَقَرَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ وَأَخَافَهُمْ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ فَهُوَ عَقُورٌ
وَكَذَا نَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْكَلْبُ خَاصَّةً وَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ سِوَى الذِّئْبِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ
[1847] (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ
[1848] (وَالْفُوَيْسِقَةُ) تَصْغِيرُ فَاسِقَةٍ لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا عَلَى النَّاسِ وَإِفْسَادِهَا
وَأَصْلُ الْفِسْقِ هُوَ الْخُرُوجُ وَمِنْ هَذَا سُمِّيَ الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ فَاسِقًا وَيُقَالُ فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عَنْ قِشْرِهَا إِذَا خَرَجَتْ عَنْهُ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ (وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادَ بِهِ الْغُرَابُ الصَّغِيرُ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ وَهُوَ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ مَالِكٌ مِنْ جُمْلَةِ الْغِرْبَانِ وَأَيْضًا قَالَ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ مِنَ الدَّوَابِّ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَاسَ عَلَيْهَا كُلَّ سَبْعٍ ضَارٍ وَكُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَوَانِ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِأَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَعْيَانِ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ وَبَعْضُهَا هَوَامٌّ قَاتِلَةٌ وَبَعْضُهَا طَيْرٌ لَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَى السِّبَاعِ وَلَا هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْهَوَامِّ وَإِنَّمَا هُوَ حَيَوَانٌ مُسْتَخْبَثُ اللَّحْمِ غَيْرُ مُسْتَطَابِ الْأَكْلِ وَتَحْرِيمُ الْأَكْلِ يَجْمَعُهُنَّ كُلَّهنَّ فَاعْتَبَرَهُ وَجَعَلَهُ دَلِيلَ الْحُكْمِ وَقَالَ مَالِكٌ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْغُرَابَ الصَّغِيرَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ يَقْتُلُ الْكَلْبَ وَسَائِرَ مَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ وَقَاسُوا عَلَيْهِ الذِّئْبَ وَلَمْ يَجْعَلُوا عَلَى قَاتِلِهِ فِدْيَةً وَقَالُوا فِي السَّبُعِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالْخِنْزِيرِ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ إِنْ قَتَلَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدِ ابْتَدَأَهُ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من دم(5/210)
فَعَلَيْهِ دَمٌ وَلَا يُجَاوِزُهُ انْتَهَى كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ مُخْتَصَرًا (وَالسَّبُعُ الْعَادِي) أَيِ الظَّالِمُ الَّذِي يَفْتَرِسُ النَّاسَ وَيَعْقِرُ فَكُلُّ مَا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ نَعْتًا لَهُ مِنْ أَسَدٍ وَنَمِرٍ وَفَهْدٍ وَنَحْوِهَا فَحُكْمُهُ هَذَا الْحُكْمُ وَلَيْسَ عَلَى قَاتِلِهَا فِدْيَةٌ والله أعلم
قال المنذري وأخرجه الترمذي وبن مَاجَهْ
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ
هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَفِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ
1 - (بَاب لَحْمِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ)
[1849] (فَصَنَعَ) أَيِ الْحَارِثُ (مِنَ الْحَجَلِ) بِتَقْدِيمِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الْجِيمِ جَمْعُ حَجَلَةٍ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ بِالْفَارِسِيَّةِ كبك (وَالْيَعَاقِيبِ) جَمْعُ يَعْقُوبَ طَائِرٌ مَعْرُوفٌ
قَالَ فِي مُنْتَهَى الْأَرَبِ بِالْفَارِسِيَّةِ كبك نر
قَالَ الْعَلَّامَةُ الدَّمِيرِيُّ الْحَجَلُ طَائِرٌ عَلَى قَدْرِ الْحَمَامِ أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ وَيُسَمَّى دَجَاجُ الْبَرِّ وَهُوَ صِنْفَانِ نَجْدِيٌّ وَتِهَامِيٌّ فَالنَّجْدِيُّ أَخْضَرُ اللَّوْنِ أَحْمَرُ الرِّجْلَيْنِ وَالتِّهَامِيُّ فِيهِ بَيَاضٌ وَخُضْرَةٌ
وَالْيَعْقُوبُ هُوَ ذَكَرُ الْحَجَلِ
انْتَهَى كَلَامُهُ (فَبَعَثَ) أَيِ الْحَارِثُ أَوْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَهُوَ) أَيْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (يَخْبِطُ) مِنَ الْخَبْطِ وَهُوَ ضَرْبُ الشَّجَرَةِ بِالْعَصَا لِيَتَنَاثَرَ وَرَقُهَا لِعَلَفِ الْإِبِلِ وَالْخَبَطُ بِفَتْحَتَيْنِ الْوَرَقُ بِمَعْنَى مَخْبُوطٌ (لِأَبَاعِرَ) جَمْعُ بَعِيرٍ (يَنْفُضُ الْخَبَطَ) أَيْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُزِيلُهُ وَيَدْفَعُهُ (حُرُمٌ) بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حَرَامٍ بِمَعْنَى مُحْرِمٍ (مِنْ أَشْجَعَ) هِيَ قَبِيلَةٌ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحَارِثَ إِنَّمَا اتَّخَذَ هَذَا الطَّعَامَ مِنْ أَجْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرَ أَنْ يَأْكُلَهُ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ بِحَضْرَتِهِ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يُصَدِ الطَّيْرُ وَالْوَحْشُ مِنْ أَجْلِ الْمُحْرِمِ فَقَدْ رَخَّصَ كَثِيرٌ مِنَ(5/211)
الْعُلَمَاءِ فِي تَنَاوُلِهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ عَلَى أَثَرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ انْتَهَى كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ
[1850] (فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَقَالَ أَنَا حُرُمٌ) وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ مُحْرِمًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبُ الامتناع خاصة وهو قول علي وبن عباس وبن عُمَرَ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِعُمُومِ قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر وَلَكِنَّهُ يُعَارِضُ ذَلِكَ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ وَسَيَأْتِي
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَكْلُ لَحْمِ الصَّيْدِ مُطْلَقًا وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ يَسْتَلْزِمُ إِطْرَاحَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِلَا مُوجِبٍ فَالْحَقُّ مَعَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ فَقَالَ أَحَادِيثُ الْقَبُولِ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا يَصِيدُهُ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يُهْدِي مِنْهُ لِلْمُحْرِمِ
وَأَحَادِيثُ الرَّدِّ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا صَادَهُ الْحَلَالُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْجَمْعَ حَدِيثُ جَابِرٍ الْآتِي
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ
[1851] (يَقُولُ صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ) هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَنْ يَصِيدَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ يَصِيدَهُ غَيْرُهُ لَهُ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَصِيدَهُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُصَادَ لَهُ بَلْ يَصِيدُهُ الْحَلَالُ لنفسه ويطعمه المحرم وَمُقَيِّدٌ لِبَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ كَحَدِيثِ الصَّعْبِ وَطَلْحَةَ وَأَبِي قَتَادَةَ وَمُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالْمُطَّلِبُ لَا نَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَابِرٍ وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ جَابِرٍ وَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَهُ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ تَحْتَ حَدِيثِ جَابِرٍ وَمِمَّنْ هَذَا مَذْهَبُهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَأْكُلُ الْمُحْرِمُ مَا لَمْ يَصِدْ إِذَا كَانَ قَدْ ذَبَحَهُ حَلَالٌ وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ قَالُوا لِأَنَّهُ الآن ليس بصيد
وكان بن(5/212)
عباس رضي الله عنهما يُحَرِّمُ لَحْمَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِينَ فِي عَامَّةِ الْأَحْوَالِ وَيَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر ما دمتم حرما وَيَقُولُ الْآيَةُ مُبْهَمَةٌ
وَإِلَى نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ ذهب طاووس وَعِكْرِمَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ (أَوْ يُصَادُ لَكُمْ) هَكَذَا فِي النُّسَخِ وَالْجَارِي عَلَى قَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ يُصَدْ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَجْزُومِ قَالَهُ السِّنْدِيُّ
[1852] (تَخَلَّفَ) أَيْ تَأَخَّرَ أَبُو قَتَادَةَ (مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ) أَيْ لِأَبِي قَتَادَةَ (وَهُوَ) أَيْ أَبُو قَتَادَةَ (أَنْ يُنَاوِلُوهُ) أَيْ يُعْطُوهُ (فَأَبَوْا) أَنْ يُعَاوِنُوهُ (ثُمَّ شَدَّ) أَيْ حَمَلَ عَلَيْهِ (فَلَمَّا أَدْرَكُوا) أَيْ لَحِقُوا (سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ) هَلْ يَجُوزُ أَكْلُهُ أَمْ لَا وَالْحَدِيثُ فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا أَنَّهُ يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ لَحْمُ مَا يَصِيدُهُ الْحَلَالُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَادَهُ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ إِعَانَةٌ لَهُ وَمِنْهَا أَنَّ مُجَرَّدَ مَحَبَّةِ الْمُحْرِمِ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْحَلَالِ الصَّيْدُ فَيَأْكُلَ مِنْهُ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي إِحْرَامِهِ وَلَا فِي حِلِّ الْأَكْلِ مِنْهُ ومنها أَنَّ عَقْرَ الصَّيْدِ ذَكَاتُهُ وَمِنْهَا جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْبِ مِنْهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَوَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْهُ وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ وَفِيهِ وَإِنِّي إِنَّمَا اصْطَدْتُهُ لَكَ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ حِينَ أَخْبَرْتُهُ أَنِّي اصْطَدْتُهُ لَهُ
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ أَبُو بكر يعني النيسابوري قوله اصطدته لك
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
قال الحافظ شمس الدين بن القيم رحمه اللَّه وَرَوَى مُسْلِم فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّحْمَن بْن عُثْمَان التَّيْمِيِّ قَالَ كُنَّا مَعَ طَلْحَة بْنِ عُبَيْد اللَّه فِي طَرِيق مَكَّة وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ فَأَهْدَوْا لَنَا لَحْم صَيْد وَطَلْحَة رَاقِد فَمِنَّا مَنْ أَكَلَ وَمِنَّا مَنْ تورع فلم(5/213)
النيسابوري قوله اصطدته لك
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
يَأْكُل فَلَمَّا اِسْتَيْقَظَ قَالَ لِلَّذِينَ أَكَلُوا أَصَبْتُمْ وقال الذين لَمْ يَأْكُلُوا أَخْطَأْتُمْ فَإِنَّا قَدْ أَكَلْنَا مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ حُرُم
وَرَوَى مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد أَخْبَرَنِي مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيُّ عَنْ عِيسَى بْن طَلْحَة عَنْ عَمْرو بْن سَلَمَة الضَّمْرِيّ عَنْ الْبَهْزِيّ يَزِيد بْن كَعْب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يُرِيد مَكَّة وَهُوَ مُحْرِم حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالرَّوْحَاءِ إذا حِمَار وَحْشِيّ عَقِير فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ دَعُوهُ فَإِنَّهُ يُوشِك أَنْ يَأْتِي صَاحِبُهُ فَجَاءَ الْبَهْزِيّ وَهُوَ صَاحِبه إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُول اللَّه شَأْنكُمْ بِهَذَا الْحِمَار فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْأَثَايَةِ بَيْن الرُّوَيْثَة وَالْعَرْج إِذَا ظَبْي حَاقِفٌ فِي ظِلّ وَفِيهِ سَهْم فَزَعَمَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ رَجُلًا يَقِف عِنْده لَا يَرِيبهُ أَحَد مِنْ النَّاس حَتَّى جَاوَزُوهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الصَّعْب بْن جَثَّامَة أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ إِنَّا لَمْ نَرُدّهُ عَلَيْك إِلَّا أَنَا حُرُم
وَرَوَاهُ مُسْلِم عَنْ سُفْيَان وَقَالَ لَحْم حِمَار وَحْش
قَالَ الْحُمَيْدِيّ كَانَ سُفْيَان يَقُول فِي الْحَدِيث أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَحْم حِمَار وَحْش وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَان يَقْطُر دَمًا وَكَانَ فِيمَا خَلًّا رُبَّمَا قَالَ حِمَار وَحْش ثُمَّ صَارَ إِلَى لَحْم حَتَّى مَاتَ
وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ شَقَّ حِمَار وَحْش فَرَدَّهُ وَفِي رِوَايَة لَهُ عَجُز حِمَار فَرَدَّهُ وَفِي رِوَايَة لَهُ رِجْل حِمَار قَالَ الشَّافِعِيّ فَإِنْ كَانَ الصَّعْب أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِمَار حَيًّا فَلَيْسَ لِمُحْرِمٍ ذَبْح حِمَار وَحْش وَإِنْ كَانَ أَهْدَى لَهُ لَحْمًا فَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلِمَ أَنَّهُ صَيْد لَهُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَإِيضَاحه فِي حَدِيث جَابِر قَالَ وَحَدِيث مَالِك أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم حِمَارًا أَثْبَت مِنْ حَدِيث أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهُ مِنْ لَحْم حِمَار تَمَّ كَلَامه
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرَوَى يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ جَعْفَر بْن عَمْرو بْن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الصَّعْب بْن جَثَّامَة أَهْدَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجُز حِمَار وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ الْقَوْم قَالَ وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَكَأَنَّهُ رَدَّ الْحَيّ وَقَبِلَ اللَّحْم تَمَّ كَلَامه
وَقَدْ اِخْتَلَفَ النَّاس قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَأَشْكَلَتْ عَلَيْهِمْ الْأَحَادِيث فِيهَا فَكَأَنَّ عَطَاء وَمُجَاهِد وَسَعِيد بْن جُبَيْر يَرَوْنَ لِلْمُحْرِمِ أَكْل مَا صَادَهُ الْحَلَال مِنْ الصَّيْد وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة وَأَصْحَابه وَهُوَ قَوْل عُمَر بْن الْخَطَّاب وَعُثْمَان بْن عَفَّان وَالزُّبَيْر بْن الْعَوَّام وَأَبِي هُرَيْرَة ذَكَرَ ذَلِكَ بن عَبْد الْبَرّ عَنْهُمْ
وَحُجَّتهمْ حَدِيث أَبِي قَتَادَة الْمُتَقَدِّم وَحَدِيث طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه وَحَدِيث الْبَهْزِيّ
وَقَالَتْ طَائِفَة لَحْم الصَّيْد حَرَام عَلَى المحرم بكل حال وهذا قول علي وبن عباس وبن عمر
قال بن عَبَّاس (وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ صَيْد الْبَرّ) هِيَ مُبْهَمَة
وروى عن طاووس وَجَابِر بْن زَيْد وَسُفْيَان الثَّوْرِيِّ الْمَنْع مِنْهُ
وحجة هذا المذهب حديث بن عَبَّاس عَنْ الصَّعْب بْن جَثَّامَة وَحَدِيث عَلِيّ فِي أَوَّل الْبَاب وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ الْآيَة وَقَالُوا تَحْرِيم الصَّيْد يَعُمّ اِصْطِيَاده وَأَكْله(5/214)
وقوله لم يَأْكُلْ مِنْهُ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ مَعْمَرٍ
وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ لَفْظَةٌ غَرِيبَةٌ لَمْ نَكْتُبْهَا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الصحيحين أنه أكل صلى الله عليه وسلم منه
2 - (باب الجراد للمحرم)
[1853] (حماد) هو بن زَيْدٍ قَالَهُ الْمِزِّيُّ (عَنْ مَيْمُونِ بْنِ جَابَانَ) بِجِيمٍ مُوَحَّدَةٍ وَنُونٍ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ مَيْمُونُ بْنُ جَابَانَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ (عَنْ أَبِي رَافِعٍ) اسْمُهُ نُفَيْعٌ (قَالَ الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ
ــــــــــــ
[حاشية ابن القيم، تهذيب السنن]
وَقَالَتْ طَائِفَة مَا صَادَهُ الْحَلَال لِلْمُحْرِمِ وَمِنْ أَجْله فَلَا يَجُوز لَهُ أَكْله فَأَمَّا مَا لَمْ يَصِدْهُ مِنْ أَجْله بَلْ صَادَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَلَالٍ لَمْ يَحْرُم عَلَى الْمُحْرِم أَكْله وَهَذَا قَوْل مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد بْن حَنْبَل وأصحابهم وقول إسحاق وأبي ثور قال بن عَبْد الْبَرّ وَهُوَ الصَّحِيح عَنْ عُثْمَان فِي هَذَا الْبَاب
قَالَ وَحُجَّة مَنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَب أَنَّهُ عَلَيْهِ تَصِحّ الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب وَإِذَا حُمِلَتْ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَتَضَادّ وَلَمْ تَخْتَلِف وَلَمْ تَتَدَافَع وَعَلَى هَذَا يَجِب أَنْ تُحْمَل السُّنَن وَلَا يُعَارَض بَعْضهَا بِبَعْضٍ مَا وُجِدَ إِلَى اِسْتِعْمَالهَا سَبِيل
تَمَّ كَلَامه
وَآثَار الصَّحَابَة كُلّهَا فِي هَذَا الْبَاب إِنَّمَا تَدُلّ عَلَى هَذَا التَّفْصِيل
فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن عَامِر بْن رَبِيعَة قَالَ رَأَيْت عُثْمَان بْن عَفَّان بِالْعَرْجِ فِي يَوْم صَائِف وَهُوَ مُحْرِم وَقَدْ غَطَّى وَجْهه بِقَطِيفَةٍ أُرْجُوَان ثُمَّ أُتِيَ بِلَحْمِ صَيْد فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا قَالُوا أَلَا تَأْكُل أَنْتَ قَالَ إِنِّي لَسْت كَهَيْئَتِكُمْ إِنَّمَا صِيدَ مِنْ أَجْلِي
وَحَدِيث أَبِي قَتَادَة وَالْبَهْزِيّ وَطَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه قَضَايَا أَعْيَان لَا عُمُوم لَهَا وَهِيَ تَدُلّ عَلَى جَوَاز أَكْل الْمُحْرِم مِنْ صَيْد الْحَلَال وَحَدِيث الصَّعْب بْن جَثَّامَة يَدُلّ عَلَى مَنْعه مِنْهُ وَحَدِيث جَابِر صَرِيح فِي التَّفْرِيق
فَحَيْثُ أَكَلَ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُصَدْ لِأَجْلِهِ وَحَيْثُ اِمْتَنَعَ عُلِمَ أَنَّهُ صِيدَ لِأَجْلِهِ فَهَذَا فِعْله وَقَوْله فِي حَدِيث جَابِر يَدُلّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ فَلَا تَعَارُض بَيْن أَحَادِيثه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالٍ
وَكَذَلِكَ اِمْتِنَاع عَلِيّ مِنْ أَكْله لَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ صِيدَ لِأَجْلِهِ وَإِبَاحَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ حِمَار الْبَهْزِيّ وَمَنْعهمْ مِنْ التَّعَرُّض لِلظَّبْيِ الْحَاقِف لِأَنَّ الْحِمَار كَانَ عَقِيرًا فِي حَدّ الْمَوْت وَأَمَّا الظَّبْي فَكَانَ سَالِمًا وَلَمْ يَسْقُط إِلَى الْأَرْض فَلَمْ يَتَعَرَّض لَهُ لِأَنَّهُ حَيَوَان حَيّ
وَاَللَّه أعلم(5/215)
قال علي القارىء قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا عَدَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ صَيْدَ الْبَحْرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَحِلُّ مَيْتَتُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الْجَرَادِ وَلَزِمَهُ بِقَتْلِهِ قِيمَتُهُ
وَفِي الْهِدَايَةِ أَنَّ الْجَرَادَ من صيد البر
قال بن الْهُمَامِ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَيُشْكِلُ عَلَيْهِ ما فيه أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةٍ أَوْ غَزْوَةٍ فَاسْتَقْبَلَنَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فَجَعَلْنَا نَضْرِبُهُ بِسِيَاطِنَا وَقِسِيِّنَا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم كُلُوهُ فَإِنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ أَصْلًا لَكِنْ تَظَاهَرَ عَنْ عُمَرَ إِلْزَامُ الْجَزَاءِ فِيهَا فِي الْمُوَطَّأِ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ عَنْ جَرَادَةٍ قَتَلَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ تَعَالَ حَتَّى تَحْكُمَ فَقَالَ كَعْبٌ دِرْهَمٌ
فَقَالَ عُمَرُ إِنَّكَ لَتَجِدُ الدَّرَاهِمَ لِتَمْرَةٍ خير من جرادة
ورواه بن أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِقِصَّتِهِ وَتَبِعَ عُمَرَ أَصْحَابُ المذاهب انتهى كلام بن الهمام
قال ملا على القارىء لَوْ صَحَّ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ الْمَذْكُورُ سَابِقًا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْجَرَادَ عَلَى نَوْعَيْنِ بَحْرِيٌّ وَبَرِّيٌّ فَيُعْمَلُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِحُكْمِهِ
[1854] (صِرْمًا مِنْ جَرَادٍ) بِكَسْرِ الصَّادِ وَسُكُونِ الرَّاءِ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَمَاعَةِ الْكَبِيرَةِ (فَقِيلَ لَهُ) لِلرَّجُلِ (لَا يَصْلُحُ) لِأَنَّهُ صَيْدٌ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ أَبُو الْمُهَزِّمِ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ سُفْيَانَ بَصْرِيٌّ مَتْرُوكٌ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِهَا بَعْدَهَا مِيمٌ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَعَافِرِيُّ لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
[1855] (عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ كَعْبٍ) قَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ حَدِيثُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاسَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو الْقَاسِمِ(5/216)
43 - (بَاب فِي الْفِدْيَةِ)
[1856] (عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ) بضم العين وإسكان الجيم (هو أم رأسك) قال في المصباح والهامة ماله سُمٌّ يَقْتُلُ كَالْحَيَّةِ
قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْجَمْعُ الْهَوَامُّ مِثْلُ دَابَّةٍ وَدَوَابِّ وَقَدْ تُطْلَقُ الْهَوَامُّ عَلَى مالا يَقْتُلُ كَالْحَشَرَاتِ وَمِنْهُ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ أيؤذيك هو أم رَأْسِكَ وَالْمُرَادُ الْقَمْلُ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ بِجَامِعِ الْأَذَى انْتَهَى (اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا) بِضَمِّ النُّونِ وَالسِّينِ
قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالنَّسِيكَةُ الذَّبِيحَةُ وَجَمْعُهَا نُسُكٌ وَالنُّسُكُ أَيْضًا الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ وَكُلُّ مَا تُقُرِّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى
وَهَذَا دَمُ تَخْيِيرٍ اسْتُفِيدَ بِأَوْ فِي قَوْلِهِ أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (أَوْ أَطْعِمْ) أَوْ لِلتَّخْيِيرِ (آصُعٍ) جَمْعُ صَاعٍ وَفِي الصَّاعِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَهُوَ مِكْيَالٌ يَسَعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثَ بِالْبَغْدَادِيِّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَسَعُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصَّاعَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ وَهَذَا الَّذِي قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْآصُعَ جَمْعُ صَاعٍ صَحِيحٌ
وَقَدْ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ الْآصُعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ هُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ
قَالَ النَّوَوِيُّ الْمَعْنَى أَنَّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى حَلْقِ الرَّأْسِ لِضَرَرٍ مِنْ قَمْلٍ أَوْ مرض أو نحوهما فَلَهُ حَلْقُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أو صدقة أو نسك وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصِّيَامَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالصَّدَقَةَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَالنُّسُكُ شَاةٌ وَهِيَ شَاةٌ تَجْزِي فِي الْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ إِنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ وَالْأَحَادِيثَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَهَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّ نِصْفَ الصَّاعِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحِنْطَةِ فَأَمَّا التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَغَيْرُهُمَا فَيَجِبُ صَاعٌ لِكُلِّ مسكين وهذا خلاف نصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثَلَاثَةُ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ
وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةً أَنَّهُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ وَعَنِ(5/217)
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَبَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ يَجِبُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَهَذَا ضعيف منابذا للسنة مردود
وقوله صلى الله عليه وسلم أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ مَعْنَاهُ مَقْسُومَةٌ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ تَمَّ كَلَامُهُ مُخْتَصَرًا
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
[1857] (إِنْ شِئْتَ فَانْسُكْ نَسِيكَةً) أَيِ اذْبَحْ ذَبِيحَةً
وَفِي الْمُوَطَّأِ أَيَّ ذَلِكَ فَعَلْتَ أَجْزَأَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا وَلِذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي أَوَّلِ بَابِ الْكَفَّارَاتِ خَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كعبا في الفدية انْتَهَى وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1858] عَنْ عَامِرٍ) هُوَ الشَّعْبِيُّ (قَالَ أَمَعَكَ دَمٌ) أَيْ شَاةٌ أَوْ نَحْوُهُ (قَالَ لَا) أَيْ لَيْسَ مَعِي دَمٌ (قَالَ فَصُمْ) قَالَ النَّوَوِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُجْزِئُ إِلَّا لِعَادِمِ الْهَدْيِ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ النُّسُكِ فَإِنْ وَجَدَهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وبين الصيام والإطعام وَإِنْ عَدِمَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ
وَالْحَدِيثُ سَكَتَ عَنْهُ الْمُنْذِرِيُّ
[1859] (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ) قَالَ فِي التَّقْرِيبِ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى (فَحَلَقَ) أَيْ شَعْرَ(5/218)
رَأْسِهِ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ
[1860] (هَوَامُّ) جَمْعُ هَامَّةٍ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ (حَتَّى تَخَوَّفْتُ) مِنْ كَثْرَةِ الْقَمْلِ وَالْأَذَى بِأَنَّهُ يُضْعِفُ الدِّمَاغَ وَيُزِيلُ قُوَّتَهُ (عَلَى بَصَرِي) مُتَعَلِّقٌ بِتَخَوَّفْتُ أَيْ عَلَى ذَهَابِ بَصَرِي (فِي) أَيْ فِي شَأْنِي (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رأسه الْآيَةَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نسك (فَرَقًا مِنْ زَبِيبٍ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْفَرَقُ سِتَّةُ عَشَرَ رَطْلًا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَصْوَاعٍ أَمَرَهُ أَنْ يُقَسِّمَهُ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ فَهَذَا فِي الزَّبِيبِ نَصٌّ كَمَا نُصَّ فِي التَّمْرِ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِذَا تَصَدَّقَ بِالْبُرِّ أَطْعَمَ ثَلَاثَةَ أَصْوَاعٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ صَاعٍ فَإِنْ أَطْعَمَ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَطْعَمَ صَاعًا صَاعًا
قَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ التَّمْرِ مِقْدَارَ نِصْفِ صَاعٍ فَلَا مَعْنَى لِخِلَافِهِ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ سُفْيَانَ
وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ نَصُّ الْحَدِيثِ
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فَإِنْ حَلَقَهُ نَاسِيًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ كَالْعَمْدِ سَوَاءً وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عَمْدِهِ وَخَطَئِهِ لِأَنَّهُ إِتْلَافُ شَيْءٍ لَهُ حُرْمَةٌ كَالصَّيْدِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إن تطيب ناسيا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
وَسَوَّى أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فِي الطِّيبِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عَمْدِهِ وَخَطَئِهِ وَرَأَوْا فِيهِ الْفِدْيَةَ كَالْحَلْقِ وَالصَّيْدِ
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ حَلَقَ رأسه ناسيا (أَوِ انْسُكْ) أَيِ اذْبَحْ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
قُلْتُ صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ
(فَعَلْتَ أَجْزَأَ عَنْكَ) هَذَا الْحَدِيثُ وُجِدَ فِي النُّسْخَتَيْنِ وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ وَعَزَاهُ إِلَى أَبِي دَاوُدَ ثُمَّ قَالَ حَدِيثُ الْقَعْنَبِيِّ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْعَبْدِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاسَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو الْقَاسِمِ انْتَهَى
كَذَا فِي الْغَايَةِ(5/219)